قرار رقم (48) وتاريخ 20 \ 8 \ 1396هـ
الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
ففي الدورة التاسعة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في مدينة الطائف في شهر شعبان 1396هـ جرى من المجلس الاطلاع على خطاب سمو وزير الشؤون البلدية والقروية رقم "987 \ 3 \ ق" وتاريخ 17 \ 2 \ 1396هـ بخصوص المواشي السائبة على جوانب الطرق العامة. كما جرى الاطلاع على الفتوى الصادرة في ذلك من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. برقم "1075" وتاريخ 2 \ 9 \ 1395هـ وعلى الفتوى الصادرة من عضو المجلس سماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد بموجب خطابه رقم "305 \ 1" وتاريخ 12 \ 1 \ 1396هـ الموجه إلى سمو وزير الشؤون البلدية والقروية بخصوص ما ذكر وعلى البحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
وبعد دراسة ما ذكر وتداول الرأي والمناقشة قرر بالأكثرية ما يلي:
إن سائبة المواشي لا تخلو إما أن تكون مما يؤكل لحمها أو لا، فإن كانت مما يؤكل لحمها فإن لولي الأمر أن يأمر باحتجازها وبيع ما يمكن بيعه منها في المزاد العلني بعد التعرف على صفاتها فإن جاء صاحبها أعطي ما يبقى من قيمتها بعد خصم مصاريف الاحتجاز والعلف والنقل والبيع وإن كانت مما لا يمكن بيعه لمرضه أو كبره أو نحو ذلك فلولي الأمر أن ينظر في شأنها بما يراه محققا للمصلحة العامة ودافعا للضرر. وهذا كله بعد إعلام المواطنين بضرورة حماية جوانب الطرق العامة من مواشيهم وإخطارهم بعواقب المخالفة وذلك بوسائل الإعلام المختلفة من إذاعة وصحافة وتلفزة. وإن كانت مما لا يؤكل لحمه كالحمير فنظرا إلى ثبوت(27/25)
الضرر من توافرها على جوانب الطرق العامة وحيث تبين أنه ليس لها ملاك ولا سوق نافقة لبيعها فإن إزالة ضررها متعينة بأي طريق يضمن ذلك فإن وجد من يأخذها للتملك على شرط إبعادها عن جوانب الطرق العامة بحيث يؤمن شرها ويتفادى خطرها أعطيها، وبذلك ينتهي إشكالها وإن أمكن نقلها إلى جهات أهلها بحاجة إليها فكذلك وإن لم يتيسر شيء من ذلك وبقي إشكالها على حالة مهددة أمن الطريق موفرة أسباب الدهس والصدم والحوادث وما يتبع ذلك في الغالب من إتلاف الأنفس والأموال وبذل جهات الاختصاص جهودا كبيرة في الإسعاف والتحقيق وفصل الخصومات فإن لولي الأمر أن يتخذ ما يراه مناسبا للقضاء على ما توافر وجوده في الطرق العامة وعلى جوانبها بذبحها والإحسان إليها في ذلك وإطعامها حيوانات أخرى وذلك لأمور:
الأول: انتفاء ماليتها بانتفاء الانتفاع بها وحرمة أكلها على الناس.
الثاني: ثبوت أذيتها والضرر اللاحق من توفرها في الطرق وعلى جوانبها بما تسببه من الصدم والدهس والحوادث وتلف ما يتلف من ذلك من الأموال والأنفس وقد جاءت الشريعة الإسلامية بتحصيل المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها وارتكاب أدنى المفسدتين لتفادي أشدهما، ولا شك أن مفسدة ذبحها إن وجدت فهي قليلة مغمورة في جنب مصالح الخلاص منها ودرء مفاسدها.
الثالث: أن جمعها والإبقاء عليها والحال ما ذكر، فيه تحميل لبيت المال للإنفاق عليها وتوظيف عمال يقومون بذلك وفي ذلك مضرة حيث إن النفقة عليها من بيت المال أو غيره خسارة محضة وجهود ضائعة ليس لها مقابل في تحقيق أي مصلحة حاضرة ولا منتظرة ومما لا شك فيه أن بيت المال مرصود لمصالح(27/26)
المسلمين في الحاضر والمستقبل وأنه لا يجوز الصرف منه فيما لا فائدة للمسلمين منه.
الرابع: جواز ذبح المأكول مما تعافه الأنفس في الغالب لمرضه أو كبره أو نحو ذلك لإراحته أو الخلاص من مشقة النفقة عليه ورعايته فإذا جاز ذبح ذلك لغير الأكل فقد لا يكون فارق مؤثر بينه وبين ما لا يؤكل لحمه مما لا فائدة في بقائه إذا كان في ذبحه جلب مصلحة أو دفع مضرة.
الخامس: ما جاءت به النصوص وقال به أهل العلم من جواز قتل ما منه الأذى كالفواسق الخمس والهر المؤذي وغير ذلك من الحيوانات والحشرات المؤذية ومن ذلك ما ذكره العلامة ابن مفلح في كتابه "الآداب الشرعية" حول حكم قتل الكلاب المؤذية حيث قال: على قولنا يمنع قتلها أنها إذا آذت بكثرة نجاستها وأكلها ما غفل عنه الناس جاز قتلها. اهـ. وما ورد من النهي عن قتل الكلاب والثناء على من يسقيها إذا عطشت وذم من يحبسها أو يؤذيها فذلك فيما لا يؤذي من الحيوانات. وما ورد أيضا من النهي عن اتخاذ الحيوانات غرضا فذلك من أجل قتلها صبرا وهو في غير الحيوانات المؤذية بدليل الأمر بقتل ما يؤذي منها كالخمس الفواسق وغيرها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة التاسعة
محمد بن علي بن حركان
الأعضاء
عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد الله خياط ... عبد الرزاق عفيفي
عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد
محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين
... صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع(27/27)
وجهة رأي بشأن المواشي السائبة
على جوانب الطرق العامة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإن مجلس هيئة كبار العلماء المنعقد في الطائف اتخذ في دورته التاسعة بالأكثرية القرار رقم (48) في يوم 20 \ 8 \ 1396هـ بشأن المواشي السائبة على جوانب الطرق العامة. . أجاز فيه في بعض الصور ذبح هذه المواشي بحجة أن هذا هو الطريق الوحيد للتخلص مما تسببه من أضرار من جراء تسييبها على جوانب هذه الطرق. . إلى آخر ما جاء في القرار المشار إليه. وحيث إنني عضو في هذا المجلس ولم أوافق على الحكم الذي أصدره، فإنني أسجل رأيي في الموضوع موضحا وجهة نظري في ذلك فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد العون وأستلهم الصواب:
جاءت النصوص الكثيرة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تدل على تحريم تعذيب الحيوان أو قتله بغير وجه مشروع كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن المغفل قال: «أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب ثم قال: ما بالهم وبال الكلاب: ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم (1) » ولا شك أن المنهي عن قتله في هذا الحديث جميع أنواع الكلاب سواء كانت مما ينتفع به ككلب الصيد والماشية أو لا ينتفع به، وقد ورد النهي عن قتلها مع ورود النهي عن اقتنائها وأنه ينتقص من أجر مقتنيها كل يوم قيراط إضافة إلى أنها تسبب أضرارا محققة كتنجيسها للشوارع والإزعاج بأصواتها في الأوقات التي يسكن فيها الناس. كما ورد النهي عن قتل الحيوان أو تعذيبه بصيغة اللعن. فقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اتخذ شيئا فيها الروح غرضا ولعن - صلى الله عليه وسلم - من وسم الحمار في وجهه والقتل أشد من الوسم. كما نهى عليه الصلاة والسلام: أن تصبر بهيمة أو غيرها للقتل. قال النووي: قال
__________
(1) صحيح مسلم الطهارة (280) ، سنن النسائي الطهارة (67) ، سنن أبو داود الطهارة (74) ، سنن ابن ماجه الصيد (3201) ، مسند أحمد بن حنبل (4/86) .(27/28)
العلماء: صبر البهائم أن تحبس وهي حية لتقتل بالرمي ونحوه وهو معنى: «لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا (1) » .
وقد صرح الشيخ تقي الدين: (بتحريم قتل ما لا يؤكل لحمه حتى لقصد راحتها أو كانت في النزع مثلا. ويقول الشيخ الشبراملي الشافعي: ويحرم ذبح الحيوان غير المأكول ولو لإراحته كالحمار الزمن مثلا. وأصرح من ذلك ما ذكره الإمام النووي من تحريم قتل الحمار والبغل لدبغ جلده أو لاصطياد النسور والعقبان على لحمه وسواء في هذا الحمار الزمن والبغل المكسر. فهذه النصوص الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقوال العلماء كلها صريحة في النهي عن قتل الحيوان ولم تفرق بين مأكول اللحم وغير مأكول اللحم ولا بين المنتفع به وغير المنتفع به، إذا كان الأمر كذلك فإن ما وجهت به الأكثرية قرارها بجواز الذبح لانتفاء مالية تلك الحيوانات. . بانتفاء الانتفاع بها وحرمة أكلها على الناس غير ظاهر لما هو واضح من هذه النصوص وأقوال العلماء، وقد صرح العلماء كذلك بوجوب نفقة الحيوان على مالكه سواء كان مأكولا أو غير مأكول، وسواء كان منتفعا به أو غير منتفع به، يقول الشيخ الصاوي المالكي على حاشية الشرح الصغير: ودخل في الدابة الواجبة نففقتها هرة عمياء فتجب نفقتها على من انقطعت عنده حيث لم تقدر على الانصراف، فإن قدرت عليه لم تجب لأن له طردها. وذكر الإمام النووي ما معناه: إذا كان مع الإنسان دابة من حمار وغيره لزمه أن يحصل لها الماء لعطشها حتى لو لم يجد ماء إلا مع شخص آخر لا حاجة له به وامتنع من سقي الحمار أو الكلب جاز لصاحب الدابة أن يكابره عليه إذا امتنع من بيعه فيأخذه منه قهرا لكلبه ودابته كما يأخذه لنفسه فإن كابره فأتى الدفع على نفس صاحب الماء كان دمه هدرا وإن أتى على صاحب الكلب كان مضمونا ولم يفصل النووي في هذا بين ما إذا كان الحمار أو الكلب
__________
(1) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1957) ، سنن الترمذي الأطعمة (1475) ، سنن النسائي الضحايا (4443) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3187) ، مسند أحمد بن حنبل (1/297) .(27/29)
ميئوسا منه أو غير ميؤوس أو يمكن الانتفاع به أو لا كما صرح به من قبل. وجاء في مغني المحتاج: وعليه علف دوابه وسقيها فإن امتنع أجبر في الحيوان المأكول على بيع أو علف أو ذبح وفي غيره على بيع أو علف ويحرم ذبحه للنهي عن ذبح الحيوان إلا لأكله.
وأما ما قيل من أن جمع هذه الحيوانات والإبقاء عليها فيه تحميل لبيت المال للإنفاق عليها وفي ذلك مضرة حيث إن النفقة عليها من بيت المال أو غيره خسارة محضة وجهود ضائعة ليس لها مقابل في تحقيق أي مصلحة حاضرة ولا منتظرة وأن بيت المال مرصود لصالح المسلمين في الحاضر والمستقبل وأنه لا يجوز الصرف منه فيما لا فائدة للمسلمين منه إلى غير ذلك مما أوردوه، من تعليلات فهي غير مسلمة لأمور:
الأول: إن الشريعة الإسلامية رتبت الأجر العظيم على رعاية تلك الحيوانات والقيام عليها حتى التي لا تدرك لها فائدة ولا منفعة في ظاهر الأمر، فامرأة بغي غفر لها بسبب سقيها لكلب كان يأكل الثرى من العطش. فالكلب ليس مملوكا لها ولا هو مما يؤكل لحمه ولم ينتفع به بصيد أو ماشية والحرمة ثابتة لكل حيوان حتى ولو كان زمنا كبيرا أو مكسرا إذا كان الأمر كذلك، فكيف يقال إن سقيها والإنفاق عليها خسارة محضة وجهود ضائعة ليس لها مقابل في تحقيق مصلحة حاضرة ولا منتظرة كيف وقد ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «في كل كبد رطبة أجر (1) » وإذا كانت هناك دول غير إسلامية تنشئ جمعيات للرفق بالحيوان استبشاعا لقتلها أو إيذائها وينفقون في ذلك الأموال الطائلة لرعايتها وعلاجها من المرض والعجز يستوي في ذلك لديهم المأكول وغير المأكول والميئوس منها من عدمه فما بال المسلمين ينزعون إلى تعمد مخالفة النصوص التي
__________
(1) صحيح البخاري المساقاة (2363) ، صحيح مسلم السلام (2244) ، سنن أبو داود الجهاد (2550) ، مسند أحمد بن حنبل (2/375) ، موطأ مالك الجامع (1729) .(27/30)
تحترم الحيوان وتؤكد الأجر العظيم لمن قام بذلك.
الثاني: بالإمكان التعرف على أصحاب هذه الحيوانات السائبة وإلزامهم شرعا بالإنفاق عليها وإبعادها عن جانبي الطريق ومن لم يلتزم بذلك يعاقب بما يكون مناسبا.
الثالث: في حالة تخلي أربابها عنها يمكن نقلها إلى قرى نائية كالتي تقع في شعوف الجبال وبطون الصحاري التي لا تصل إليها السيارات وأهل تلك المناطق بحاجة إليها.
الرابع: ما يبقى من الحيوانات بعد ذلك مما لا يدخل فيما تقدم إذا وجد. ففي بيت المال متسع للإنفاق عليه ورعايته ولله الحمد، وقد قامت الدولة بالإنفاق على السباع الضارية والوحوش الكاسرة (في حدائق الحيوانات) وإذا عجز بيت المال وتزاحمت عليه الحقوق فقد يرد تعليلهم بأن في المسألة تحميلا لبيت المال للإنفاق عليها. . إلخ.
الخامس: يؤكد القرار على أن في ترك المواشي سائبة على جانبي الطرق أضرارا وتهديدا لأمن الطريق وخطرا على الأموال والأنفس. . إلخ.
ولكن الواقع الملموس ليس على الصورة التي رسمها القرار للأمرين التاليين:
الأول: أن الحوادث في هذه الطرق ناتجة عن عوامل كثيرة منها سرعة السائقين وتهورهم ومنها خلل في محركات السيارات وآلاتها ومنها وعورة الطريق وكثرة منحنياته ومنعطفاته وما شابه ذلك ونسبة حدوث ذلك من المواشي بجانب ما ذكرنا قليل جدا.
الثاني: السبب الحقيقي لاصطدام السيارة بالحيوان سرعة(27/31)
السائق وتهوره وعدم أخذ الحيطة الكافية أثناء سيره إذ من المعلوم أن الذي يسير سيرا معتدلا يكون متمكنا من سيارته تمكنا يقيه بإذن الله مما يظهر على الطريق من مفاجآت كمنحنى خطر أو إصلاحات في الطريق أو سيارة أخرى تقابله أو حيوان وما شابه ذلك.
السادس: القول بذبحها يؤدي إلى تجرؤ رجال الإمارات التي على الطرق في أخذها وبيعها بأي ثمن أو أكلها ولو كانت بعيدة عن الطريق لأن ضبط مثل ذلك وتحديده أمر متعذر والنفوس لا حدود لطمعها لا سيما إذا وجدت متنفسا من نظام أو حكم: ويؤدي ذلك بالتالي إلى حصول المشاغبات والمنازعات بين هؤلاء وأرباب البوادي والقرى بسبب التعرض لمواشيهم بحجة هذا الحكم.
يتضح مما تقدم أنه من الممكن دفع الأضرار الناجمة من هذه المواشي - على التسليم بوجودها - إما بالتزام أصحابها بحفظها وإبعادها عن الطريق أو نقلها إلى أمكنة بعيدة يتوفر فيها الماء والكلأ كالصمان والدهناء وأمثالها، أو نقلها إلى بعض القرى النائية في شعوف الجبال مما لا تصل إليها السيارات فينتفعون بها ركوبا وحملا كالمناطق الجنوبية من المملكة، هذا ما ظهر لنا. . وبالله التوفيق وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
عبد الله بن محمد بن حميد
عضو هيئة كبار العلماء(27/32)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شئونهم الدينية والاجتماعية.(27/33)
صفحة فارغة(27/34)
فتوى برقم 3201 وتاريخ 1 \ 9 \ 1400 هـ
السؤال الأول: هل نكاح اليد من السبعة الذين ذكرهم الحديث وحكم عليهم باللعنة، علما إني فعلت ما يسمى بالعمل السري وأنا الآن خجلان، أفيدوني ماذا أفعل وقد استغفرت الله تعالى، وأنا حائر، وأخشى أن أكون من السبعة المذكورين في الحديث الذين لعنهم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الجواب: نكاح اليد وما في حكمه المسمى بالعادة السرية حرام، ولم يثبت فيما نعلم الحكم على من يفعل ذلك بأنه ملعون. والحديث الذي أشرت إليه ضعيف.
السؤال الثاني: سائل يقول: هل يجوز العلاج بالأفيون وغيره من المشروبات التي توجد بها نسبة من الخمر كالخل؟
الجواب: لا يجوز التداوي بما حرم الله من أفيون أو حشيشة أو خمر أو نحو ذلك من مخدر أو مسكر، ووضع نسبة من ذلك في الدواء لا يجوز، لكن إن وضعت فيه ولم تصل بالدواء إلى درجة أن يسكر كثيره جاز التداوي به، لعدم تأثير ما أضيف إليه منها، فكأنه كالعدم.
أما الخل إذا لم يكن أصله خمرا، أو كان أصله خمرا وتخلل بنفسه، فليس بمخدر ولا مسكر فيجوز التداوي به، وتناوله إداما أو مع الطعام وإن كان أصله خمرا وتخلل بصناعة فلا يجوز إحداث ذلك فيه، ولا الانتفاع به دواء ولا إداما.
السؤال الثالث: هل يجوز أن أشتري لوالدي - التبغ - الدخان - وقد أمرني بشرائه له؟
الجواب: لا يجوز أن تشتري لوالدك شيئا استعماله محرم سواء كان دخانا أم أفيونا أم حشيشة أم خمرا، ولو أمرك بذلك، لما ثبت من قول(27/35)
النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الطاعة في المعروف، (1) » وعليك أن تنصحه وتعتذر له بأسلوب حسن عن شرائه.
السؤال الرابع: هل يجوز لي أن أخرب الزوايا التي فيها أضرحة مشايخ يسمون الأولياء؟
الجواب: بناء الزوايا والمساجد على قبر أو قبور حرام، لما ثبت من نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ولعنه من فعل ذلك، فإن بنيت عليها فعلى ولاة المسلمين وأعوانهم هدمها، إزالة للمنكر، فإنها أسست على غير تقوى، وكذا لو كان لجماعة من المسلمين منعة وفيهم قوة فعليهم أن يزيلوها، كل ذلك إذا لم يخش من هدمها إثارة فتن لا يستطاع إطفاؤها والقضاء عليها، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزل الأصنام التي كانت على الكعبة والتي بداخلها أول الأمر مع دعوته إلى التوحيد وتسفيه أحلام المشركين لعبادتهم الأصنام فلما قوي المسلمون أزالها عام فتح مكة.
السؤال الخامس: هل يجوز لي أن آخذ من هذه الزوايا بعد أن أدمرها السقف والغطاء لأنتفع بها؟
الجواب: إذا هدمت جاز لك أن تأخذ من أجزائها ما تنتفع به إذا أمنت الفتنة ولم تخش الضرر.
السؤال السادس: لقد سمعت في الإذاعة من بعض العلماء يقرأ حديثا وهو «لعن الله زائرات القبور (2) » ثم قرأ حديثا آخر: «كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة (3) » ، أو كما قال - صلى الله عليه وسلم -، وقد بقيت حائرا" فأفيدوني كيف أجمع بينهما؟
الجواب: زيارة النساء القبور لا تجوز، وحديث «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها (4) » . . إلى آخره، ليس ناسخا لحديث: «لعن رسول الله زائرات القبور (5) » . . إلى آخره، بل عموم حديث: «كنت نهيتكم (6) » . . إلى
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7145) ، صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/82) .
(2) سنن الترمذي الصلاة (320) ، سنن النسائي الجنائز (2043) ، سنن أبو داود الجنائز (3236) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1575) ، مسند أحمد بن حنبل (1/337) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (1/145) .
(4) سنن الترمذي الصلاة (320) ، سنن النسائي الجنائز (2043) ، سنن أبو داود الجنائز (3236) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1575) ، مسند أحمد بن حنبل (1/337) .
(5) سنن الترمذي الصلاة (320) ، سنن النسائي الجنائز (2043) ، سنن أبو داود الجنائز (3236) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1575) ، مسند أحمد بن حنبل (1/337) .
(6) صحيح مسلم الأشربة (977) ، سنن أبو داود الأشربة (3698) ، مسند أحمد بن حنبل (5/359) .(27/36)
آخره مخصص بحديث «لعن الله زائرات القبور (1) » وبذلك يجمع بين الحديثين، وعليه تشرع زيارة القبور للذكور من الناس دون النساء، وهذا هو الصحيح من قولي العلماء.
السؤال السابع: هل يجوز للرجل أن يأخذ زوجته إلى طبيب مسلم أو كافر ليعالجها ويكشف عنها حتى يرى فرجها، مع العلم أن بعض الناس يذهبون ببناتهم إلى الأطباء ليكشف عنهن كذلك ويعطي لهن شهادة العزوبة ويفعلون ذلك إذا قرب موعد الزواج؟
الجواب: إذا تيسر الكشف على المرأة وعلاجها عند طبيبة مسلمة لم يجز أن يكشف عليها ويعالجها طبيب ولو كان مسلما، وإذا لم يتيسر ذلك واضطرت للعلاج جاز أن يكشف عليها طبيب مسلم بحضور زوجها أو محرم لها، خشية الفتنة أو وقوع ما لا تحمد عقباه. فإن لم يتيسر المسلم فطبيب كافر بالشرط المتقدم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (320) ، سنن النسائي الجنائز (2043) ، سنن أبو داود الجنائز (3236) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1575) ، مسند أحمد بن حنبل (1/337) .(27/37)
فتوى برقم 3315 وتاريخ 19 \ 12 \ 1400 هـ
السؤال الأول: ما حكم الصلاة في المساجد التي يوجد بها قبور ومقامات؟
الجواب: لا يجوز للمسلم أن يصلي في المساجد التي بنيت على القبور والأصل في ذلك الأدلة الدالة على النهي عن بناء المساجد على القبور ومنها ما ثبت في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - أن أم سلمة ذكرت(27/37)
لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله (1) » ، ومنها ما رواه أهل السنن عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج (2) » وثبت في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (3) » .
السؤال الثاني: من هن أمهات المؤمنين؟ وما عددهن؟
الجواب: عددهن تسع وهن: عائشة، وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة بنت أبي سفيان وجويرية بنت الحارث وسودة بنت زمعة، وزينب بنت جحش وصفية بنت حيي وميمونة بنت الحارث.
وهؤلاء أزواجه التي مات عليه الصلاة والسلام وهن في عصمته ومن أزواجه أمهات المؤمنين خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - وهي أم أكثر أولاده وتوفيت في حياته قبل الهجرة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (434) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (528) ، سنن النسائي المساجد (704) ، مسند أحمد بن حنبل (6/51) .
(2) سنن الترمذي الصلاة (320) ، سنن النسائي الجنائز (2043) ، سنن أبو داود الجنائز (3236) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1575) ، مسند أحمد بن حنبل (1/337) .
(3) صحيح البخاري الصلاة (436) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .(27/38)
فتوى برقم 4306 وتاريخ 14 \ 1 \ 1402 هـ
السؤال: يمرض الإنسان فيصبح يتكلم بكلام غير عادي فيقول الناس إنه ممسوس بجن. . هل هذا صحيح أم لا؟ ويأتون بحافظ القرآن فيقرأ عليه حتى يرجع إلى حالته العادية وكذلك في الزفاف يربطون العريس(27/38)
بقراءة خاصة لا يستطيع أن يجامع زوجته أثناء دخوله هل هذا صحيح أم لا؟
الجواب: أولا: الجن صنف من مخلوقات الله ورد ذكرهم في القرآن والسنة وهم مكلفون مؤمنهم في الجنة وكافرهم في النار. ومس الجن للإنس أمر معلوم من الواقع وتستعمل للعلاج من مسه الأدوية الشرعية من الدعاء ونحوه.
ثانيا: أما قراءة شيء في ليلة الزفاف بحيث يكون العريس مربوطا عن زوجته ليلة الزواج أو عند العقد فلا يجامعها فهذا نوع من السحر. . والسحر محرم لا يجوز تعاطيه وقد ثبت النهي عن تعاطيه في القرآن والسنة وإن حد الساحر القتل.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(27/39)
فتوى برقم 8693 وتاريخ 8 \ 8 \ 1405 هـ
السؤال الأول: من سها أو نسي سجدة من سجدات صلاة في أول الصلاة ولم يتذكرها إلا قرب نهاية الصلاة. . فما حكم ذلك؟ وهل تبطل الصلاة؟ أم يجبر ذلك سجدتا السهو؟
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكر ألغى الركعة التي نسي منها سجدة، وجعل الثانية أولى، والثالثة ثانية، والرابعة ثالثة ويأتي بركعة رابعة، ويسجد للسهو، ولا يجزئه عن الركعة التي سها فيها عن سجدة سجود السهو فقط.(27/39)
السؤال الثاني: من سها عن سجدة من سجدتي ركعة، ثم قام واقفا ورده المأمومون. . فهل يستجيب ويسجد للثانية؟ أم ماذا يفعل؟
الجواب: يجب عليه أن يستجيب لهم فيرجع ويسجد الثانية، ثم يسجد للسهو آخر الصلاة.
السؤال الثالث: ما العلاج الشرعي للذي مسه الجن؟
الجواب: يرقى بقراءة القرآن، وما صح من الأذكار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، واقرأ كتاب الكلم الطيب لابن تيمية، وكتاب الأذكار للنووي وكتاب الوابل الصيب لابن القيم تجد فيها ما ترقي به نفسك.
السؤال الرابع: هل يستوجب تشريح الجثث لطلاب الطب الوضوء أو الغسل؟
الجواب: لا يوجب التشريح وضوءا ولا غسلا. وقد صدر قرار من مجلس هيئة كبار العلماء في حكم التشريح.
السؤال الخامس: ما حكم من رأى الفاحشة بمفرده وكان في موضع لا يسمح بأمر بمعروف أو نهي عن منكر فماذا عليه؟
الجواب: إن لم يستطع أن ينكر المنكر أو يأمر بمعروف بيده أو بلسانه فعليه أن ينكره بقلبه، وذلك أضعف الإيمان. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(27/40)
فتوى برقم 11419 وتاريخ 14 \ 10 \ 1408 هـ
السؤال: سائل يقول: أحد المنصرين يذكر أن القرآن يشير بكل صراحة إلى الإنجيل والنصارى، القرآن يذكر أن الإنجيل فيه الهداية والنور "5 \ 46" "المائدة". القرآن يقول إن الإنجيل هداية للبشرية جمعاء "3 \ 34" "آل عمران". القرآن يقول إن اليهود والنصارى يقرءون الكتب السماوية "2 \ 112" "البقرة". ويقول القرآن إن النصارى يقضى لهم بموجب الإنجيل "5 \ 47" "المائدة". إذا كان محمد لديه شك حول القرآن، فالقرآن يقول إنه ينبغي له أن يرجع إلى أهل الكتاب " اليهود والنصارى " "10 \ 95" "يونس". لم يذكر القرآن قط أن الإنجيل حرف أو أنه غير جدير بالثقة فيه. لو كان الإنجيل محرفا كما يزعم كثير من المسلمين لما قال القرآن: إن النصارى أهل الكتاب وإنهم يقرءون الكتاب السماوي. ولو كان الإنجيل محرفا أو مرفوعا إلى السماء كما يقول كثير من المسلمين لما نصح القرآن وأشار على النصارى بأن يحكموا الإنجيل لأنه لا يعقل أن يشير القرآن على النصارى بتحكيم إنجيل محرف أو إنجيل رفع إلى السماء. لو كان كتاب أهل الكتاب محرفا لما أشار القرآن على محمد أن يرجع إلى أهل الكتاب. وهل كان محمد في شك من القرآن. . أرجو الإجابة على ما سبق؟
الجواب: فقرة (1) : القرآن يشير بكل صراحة إلى الإنجيل والنصارى، ويذكر أن الإنجيل فيه الهداية والنور "5 \ 46" وأنه هداية للبشرية جمعاء "3 \ 34".
ج (1) : ذكر الله تعالى الإنجيل في القرآن وأمر أهله أن يحكموا بما أنزل الله فيه ومما أنزل الله فيه البشارة ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - ووجوب الإيمان به. بل أخذ الله الميثاق على كل نبي أن يؤمن بكل رسول أرسله الله(27/41)
تعالى بعده فوجب على عيسى - عليه السلام - وأمته أن يؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - حين مبعثه وبما جاء به لعموم رسالته قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (1) .
فأخبر سبحانه أنه أنزل القرآن مصدقا لما قبله من الكتب السماوية ومهيمنا عليها يثبت منها ما شاء الله إثباته وينسخ منها ما شاء سبحانه، وأثنى سبحانه على من آمن به من أهل الكتاب - اليهود والنصارى - وذم منهم من لم يؤمن به ونقض ما أخذ عليه من العهد والميثاق وفسق عن أمر ربه. قال الله تعالى: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (2) {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} (3) .
إلى أن قال سبحانه: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (4) {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} (5) {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (6) .
وقال تعالى:
{وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (7) {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (8) {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} (9) {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} (10) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 48
(2) سورة آل عمران الآية 110
(3) سورة آل عمران الآية 111
(4) سورة آل عمران الآية 113
(5) سورة آل عمران الآية 114
(6) سورة آل عمران الآية 115
(7) سورة المائدة الآية 82
(8) سورة المائدة الآية 83
(9) سورة المائدة الآية 84
(10) سورة المائدة الآية 85(27/42)
وقال تعالى:
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (1)
إلى أن قال:
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) .
إلى غير ذلك من الآيات التي نزلت في الثناء على من آمن منهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وذم من كفر به.
ثم الإنجيل الذي أنزله الله تعالى على عيسى - عليه الصلاة والسلام - هو الذي بشر برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - فلم يؤمنوا برسالته ومع ذلك احتججتم بالقرآن الذي أنزله الله عليه وآمنتم بصلب اليهود عيسى ابن مريم وقتلهم إياه وزعمتم أن ذلك في الإنجيل فكذبكم الله كما كذب اليهود في ذلك بقوله سبحانه في محكم كتابه:
{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} (3) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 29
(2) سورة التوبة الآية 31
(3) سورة النساء الآية 157(27/43)
وزعمتم أن المسيح عيسى ابن مريم ابن لله تعالى الله أن يكون له ولد فكذبكم في ذلك بل كفركم بقوله سبحانه:
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (1) الآية.
وزعمتم أنه إله مع الله فكفركم سبحانه في ذلك بقوله:
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) الآيات.
وزعمتم أن الخنزير حلال أكله وتعبدتم بالرهبانية وكل ذلك ليس في الإنجيل بل هو دين لم يأذن به الله ولا شرعه، فبعد هذا وأمثاله من افترائكم تدعون أن الإنجيل لم يحرف ولم تخفوا منه شيئا ولم تزيدوا فيه شيئا. ثم بعد تحاولون أن تحتجوا بالقرآن لإثبات مزاعمكم وبدعكم فتتبعون ما تشابه من القرآن وتتركون محكمه ابتغاء الفتنة وليا بألسنتهم وطعنا في الدين قال الله تعالى:
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (3) الآيات.
إلى آخر آية: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} (4) .
وقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (5) إلى قوله سبحانه: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} (6) الآية.
__________
(1) سورة المائدة الآية 17
(2) سورة المائدة الآية 73
(3) سورة المائدة الآية 15
(4) سورة المائدة الآية 19
(5) سورة النساء الآية 171
(6) سورة النساء الآية 172(27/44)
فإن لم تفعلوا كنتم ممن قال الله فيهم:
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (1) {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (2) .
فقرة (2) : القرآن يقول إن اليهود والنصارى يقرءون الكتب السماوية (2 \ 113) .
ج: يشير بذلك إلى قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (3) .
وبخ الله تعالى في هذه الآية الكريمة كلا من الفريقين اليهود والنصارى على إنكاره على الآخر ما بيده تصديقه عنادا منهم وبغيا وعدوانا فوبخ اليهود على كفرهم برسالة عيسى عليه السلام وما جاء به من التشريع وهم يتلون الكتاب أي التوراة وفيها ما أخذ الله عليهم من الميثاق أن يؤمنوا به وبما جاء به من تشريع الله. ووبخ النصارى على كفرهم بموسى عليه السلام وهم يتلون الكتاب أي الإنجيل وفيه تصديق ما بين يديه من التوراة التي جاء بها موسى إلا قليلا مما أمره الله أن يحله لهم. وليس معنى ذلك تقرير ما طرأ على التوراة والإنجيل من التحريف ولا ما أخفاه كل من اليهود والنصارى من كتاب نبيه بدليل ذكره سبحانه ما جناه كل منهما على كتاب نبيه في آيات أخرى من القرآن الذي يحتجون بما تشابه منه على مزاعمهم تمويها وتلبيسا على الناس، بل يجب ضم سائر المآخذ التي أخذت عليهم بعضها إلى بعض من تحريف بعض النصوص وإخفاء
__________
(1) سورة النساء الآية 150
(2) سورة النساء الآية 151
(3) سورة البقرة الآية 113(27/45)
بعضها والإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض آخر منه، فإن أصل الكتابين من عند الله كما أن القرآن نزل من عند الله وكل منها يصدق بعضه بعضا وكل الأنبياء يبشر سابقهم بلاحقهم ويصدق لاحقهم السابق منهم، فبجب الإيمان بهم جميعا وبجميع ما جاءوا به من عند الله تعالى. فمن آمن ببعض ذلك وكفر ببعض فهو كافر بالجميع وإليك ما يؤيد ما تقدم من القرآن. قال الله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (1) {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (2) {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (3) .
وهذه الآيات عامة يدخل فيها اليهود والنصارى وغيرهم. . وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (4) {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (5) الآيات. إلى قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ} (6) .
وهذه الآيات عامة في اليهود والنصارى. . وقال تعالى:
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (7) الآيات.
__________
(1) سورة النساء الآية 150
(2) سورة النساء الآية 151
(3) سورة النساء الآية 152
(4) سورة المائدة الآية 15
(5) سورة المائدة الآية 16
(6) سورة المائدة الآية 20
(7) سورة التوبة الآية 29(27/46)
إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ} (1) .
وهذه الآيات عامة في اليهود والنصارى أيضا. وقال تعالى:
{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (2) .
وهذه الآيات وكثير مما بعدها وما قبلها نزلت في بيان فضائح اليهود كما نزل فيهم قوله تعالى:
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} (3) .
ولها نظائر في النصارى كإخفائهم البشارة برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقال تعالى في إنكاره على النصارى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (4) . الآيات إلى قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (5) .
وقال تعالى في اليهود والنصارى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} (6) الآية. إلى قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} (7) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 34
(2) سورة البقرة الآية 75
(3) سورة الأنعام الآية 91
(4) سورة المائدة الآية 72
(5) سورة المائدة الآية 78
(6) سورة البينة الآية 4
(7) سورة البينة الآية 6(27/47)
أفبعد هذا يصح أن يقال إن القرآن أثنى على اليهود أوالنصارى الذين لم يؤمنوا به بعد نزوله أو أنه أثنى على ما لعب به اليهود من التوراة أو على ما حرف من الإنجيل أو زيد فيه كبنوة عيسى لله أو إلهيته مع الله، أو صلب اليهود إياه أو قتلهم له أو كتمان وإخفاء صفة محمد ورسالته، إن لم يكن ما ذكر تحريفا وكتمانا وزيادة ونقصا، فماذا يسمى فعل كل من الفريقين بكتاب نبيه.
فقرة (3) : يقول القرآن إن النصارى يقضى لهم بموجب الإنجيل "5 \ 47" من سورة المائدة.
ج (3) : يشير بذلك إلى آية: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) .
وهذه الآية لا حجة فيها للنصارى على ما زعموا، لأن المراد هنا الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى ابن مريم - عليه السلام -، لا الإنجيل المحرف الذي ذكر فيه بنوة عيسى لله أو إلهيته مع الله أو ذكر فيه صلب عيسى أو قتله أو موته قبل أن يرفع إلى السماء أو حذف منه البشارة بمجيء محمد رسولا من عند الله، ثم إذا ضم إلى هذه الآية ما بعدها من قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (2) .
دل ذلك على أن لا يقضى بموجب الكتب المتقدمة من صحف إبراهيم وموسى وزبور داود والتوراة والإنجيل إلا بما صدقه القرآن منها ولم ينسخه من أحكامها لقوله في هذه الآية:
{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا} (3)
__________
(1) سورة المائدة الآية 47
(2) سورة المائدة الآية 48
(3) سورة المائدة الآية 48(27/48)
وقد ثبت في فقرة (1 -4) أن كلا من اليهود والنصارى حرف كتاب نبيه فالواجب في فهم الآيات النظر إليها مجموعة ليستقيم المعنى ويتبين الصواب لا الوقوف عند المجمل منها ابتغاء الفتنة والتلبيس شأن من في قلوبهم زيغ ولا هم لهم إلا الجدال بالباطل.
{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (1) .
فقرة (4) : إذا كان محمد لديه شك من القرآن. فالقرآن يقول إنه ينبغي أن يرجع إلى أهل الكتاب اليهود والنصارى (10 \ 94) من سورة يونس.
ج (4) : يشير بذلك إلى قوله تعالى:
{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} (2) .
وهذه الآية لا حجة لهم فيها، لأن تعليق الحكم بالشرط لا يستلزم تحقق الشرط ووجوده، إذ قد يتعلق الحكم بشرط ممتنع كما في قوله تعالى:
{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (3) الآيات. إلى قوله سبحانه: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4) .
فأخبر سبحانه بأن هؤلاء الأنبياء لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون مع انتفاء الشرك عنهم، بل مع امتناعه منهم لأنهم قد ماتوا على
__________
(1) سورة التوبة الآية 32
(2) سورة يونس الآية 94
(3) سورة الأنعام الآية 83
(4) سورة الأنعام الآية 88(27/49)
التوحيد، ولأنهم معصومون من الشرك، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (2) .
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشك ولم يسأل أحدا من أهل الكتاب لأنه لم يفهم من ذلك الخطاب طلب السؤال لإزالة شك بل فهم أن المقصود بيان أن أهل الكتاب عندهم ما يصدقك فيما كذبك فيه الكافرون كما في قوله تعالى:
{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} (3) (43) من سورة الرعد. وقوله سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (4) (10) من سورة الأحقاف. وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (5) (197) من سورة الشعراء.
إلى أمثال ذلك من الآيات التي تدل على أن المقصود بيان أن أهل الكتاب عندهم ما يصدق محمدا - صلى الله عليه وسلم - فيما كذبه فيه المشركون من الدعوة إلى التوحيد وهي أن الرسل إلى البشر من البشر كما هي سنة الله تعالى الحكيمة وقد أشار الله إلى ذلك في أول هذه السورة سورة يونس قال تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (6) .
مما تقدم من تفسير الآيات القرآنية وبيان المقصود منها على ضوء ما
__________
(1) سورة الزمر الآية 65
(2) سورة الزمر الآية 66
(3) سورة الرعد الآية 43
(4) سورة الأحقاف الآية 10
(5) سورة الشعراء الآية 197
(6) سورة يونس الآية 2(27/50)
جاء من نظائرها في القرآن مفصلا لها ومحكما يعين المراد من متشابهها يعرف الجواب عما ذكره صاحبك الأمريكي المبشر بالنصرانية إلى آخر كلامه فإنه إجمال لما فصله من الشبهات في صدر كلامه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(27/51)
من الفتوى رقم (143)
السؤال: إذا طلب رجل به ألم رقى وكتب له بعض آيات قرآنية وقال الراقي ضعها في ماء واشربها فهل يجوز أم لا؟
الجواب: سبق أن صدر من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء جواب عن سؤال مماثل لهذا السؤال هذا نصه: كتابة شيء من القرآن في جام أو ورقة وغسله وشربه يجوز لعموم قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (1) .
فالقرآن شفاء للقلوب والأبدان ولما رواه الحاكم في المستدرك وابن ماجه في السنن عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن (2) » وما رواه ابن ماجه عن علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «خير الدواء القرآن (3) » . وروى ابن السني عن ابن عباس - رضي الله عنهما - إذا عسر على المرأة ولادتها خذ إناء نظيفا فاكتب عليه {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} (4) الآية 35 الأحقاف.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 82
(2) الحاكم في المستدرك 4 \ 403 وابن ماجه 2 \ 1142.
(3) ابن ماجه 2 \ 1158 و1169.
(4) سورة الأحقاف الآية 35(27/51)
و {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا} (1) الآية 46 النازعات. و {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (2) الآية 111يوسف. ثم يغسله وتسقى المرأة منه وتنضح على بطنها وفي وجهها. وقال ابن القيم في زاد المعاد جـ3 ص381 قال الخلال حدثني عبد الله بن أحمد قال: رأيت أبي يكتب للمرأة إذا عسر عليها ولادتها في جام أبيض أو شيء نظيف يكتب حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ} (3) {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} (4) قال الخلال: أنبأنا أبو بكر المروذي أن أبا عبد الله جاءه رجل فقال يا أبا عبد الله تكتب لامرأة عسرت عليها ولادتها منذ يومين فقال: قل له يجيء بجام واسع وزعفران، ورأيته يكتب لغير واحد، وقال ابن القيم أيضا ورأى جماعة من السلف أن يكتب له الآيات من القرآن ثم يشربها قال مجاهد لا بأس أن يكتب القرآن ويغسله ويسقيه المريض ومثله عن أبي قلابة انتهى كلام ابن القيم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن المنيع ... عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) سورة النازعات الآية 46
(2) سورة يوسف الآية 111
(3) سورة الأحقاف الآية 35
(4) سورة النازعات الآية 46(27/52)
من الفتوى رقم " 446 "
السؤال: هل تلاوة سورة الإخلاص والمعوذتين والفاتحة للاستشفاء حرام أو حلال؟ وهل فعل ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام أو أحد من السلف الصالح. . أفيدونا؟
الجواب: إن تلاوة سورة الإخلاص والمعوذتين والفاتحة وغير هذه السور(27/52)
من القرآن على المريض من الرقية الجائزة التي شرعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفعله وبإقراره لأصحابه روى البخاري ومسلم في صحيحهما من طريق معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة - رضي الله عنها - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات (سورة الإخلاص والمعوذتين) فلما ثقل كنت أنفث عليه بهن وأمسح بيده نفسه لبركتها (1) » قال معمر فسألت الزهري كيف ينفث؟ قال: كان ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه وروى البخاري عن طريق أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: «أن أناسا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أتوا على حي من أحياء العرب فلم يقروهم فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك، فقال هل معكم من دواء أو راق، فقالوا: إنكم لم تقرونا، ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلا، فجعلوا لهم قطيعا من الشاء فجعل يقرأ بأم القرآن ويجمع بزاقه ويتفل فبرأ فأتوا بالشاء، فقالوا لا نأخذه حتى نسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه فضحك، وقال: وما أدراك أنها رقية، خذوها واضربوا لي بسهم (2) » . ففي الحديث الأول قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفسه بالمعوذات في مرضه وفي الثاني إقراره للصحابة على الرقية بالفاتحة. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن المنيع ... عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) البخاري 7 \ 22 ومسلم 14 \ 182 وأبو داود 4 \ 224 والترمذي 5 \ 473 وابن ماجه 2 \ 1166.
(2) البخاري 7 \ 23 ومسلم 14 \ 187 وأبو داود 4 \ 222 والترمذي 4 \ 399 وابن ماجه 2 \ 729.(27/53)
من الفتوى رقم " 1257 "
السؤال: بعض العلماء يكتبون آيات من القرآن على لوح أسود ويغسلون الكتابة بالماء ويشربون وذلك رجاء استفادة علم أو كسب مال أو صحة وعافية ونحو ذلك وأيضا يكتبون على القرطاس ويعلقونه في عنقهم للحفظ فهل هذا حلال للمسلم أم حرام؟
الجواب: أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرقية بالقرآن والأذكار والأدعية ما لم تكن شركا أو كلاما لا يفهم معناه لما روى مسلم في صحيحه عن عوف بن مالك قال: «كنا نرقي في الجاهلية فقلنا يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا على رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيها شرك (1) » وقد أجمع العلماء على جواز الرقى إذا كانت على الوجه المذكور آنفا مع اعتقاد أنها سبب لا تأثير له إلا بتقدير الله تعالى. أما تعليق شيء بالعنق أو ربطه بأي عضو من أعضاء الشخص، فإن كان من غير القرآن فهو محرم بل شرك لما رواه الإمام أحمد في مسنده عن عمران بن حصين - رضي الله عنه -: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا في يده حلقة من صفر فقال ما هذا؟ قال من الواهنة فقال: انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا (2) » وما رواه عن عقبة بن عامر عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له (3) » . وفي رواية لأحمد أيضا: «من تعلق تميمة فقد أشرك (4) » وما رواه أحمد وأبو داود عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الرقى
__________
(1) مسلم 14 \ 187 أبو داود 4 \ 214
(2) الإمام أحمد 4 \ 445 وابن ماجه 2 \ 1167.
(3) الإمام أحمد 4 \ 154 والحاكم في المستدرك 4 \ 417.
(4) الإمام أحمد 4 \ 156(27/54)
والتمائم والتولة شرك (1) » وإن كان ما علقه من آيات القرآن فالصحيح أنه ممنوع أيضا لثلاثة أمور. . الأولى: عموم أحاديث النهي عن تعليق التمائم ولا مخصص لها، الثاني: سد الذريعة فإنه يفضي إلى تعليق ما ليس كذلك، الثالث: إن ما علق من ذلك يكون عرضة للامتهان بحمله معه في حال قضاء الحاجة والاستنجاء والجماع ونحو ذلك. وأما كتابة سورة أو آيات من القرآن في لوح أو طبق أو قرطاس وغسله بماء أو زعفران أو غيرهما وشرب تلك الغسلة رجاء البركة أو استفادة علم أو كسب مال أو صحة وعافية ونحو ذلك فلم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله لنفسه أو غيره ولا أنه أذن فيه لأحد من أصحابه أو رخص فيه لأمته مع وجود الدواعي التي تدعو إلى ذلك ولم يثبت في أثر صحيح فيما علمنا عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - أنه فعل ذلك أو رخص فيه وعلى هذا فالأولى تركه وأن يستغني عنه بما ثبت في الشريعة من الرقية بالقرآن وأسماء الله الحسنى وما صح من الأذكار والأدعية النبوية ونحوها مما يعرف معناه ولا شائبة للشرك فيه وليتقرب إلى الله بما شرع رجاء التوبة وأن يفرج الله كربته ويكشف غمته ويرزقه العلم النافع. ففي ذلك الكفاية ومن استغنى بما شرع الله أغناه الله عما سواه والله الموفق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) الإمام أحمد 1 \ 381 وأبو داود 4 \ 212 وابن ماجه 2 \ 1167 والحاكم في المستدرك 4 \ 418(27/55)
من الفتوى رقم " 2392 "
السؤال: ما حكم التداوي من القرآن والتراقي به واتخاذ المعوذات والتمائم منه؟
الجواب: أولا: يجوز التداوي بالقرآن لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري قال: «انطلق نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم فلدغ سيد ذلك الحي فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء فقال بعضهم لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعلهم أن يكون عندهم بعض شيء فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شيء لا ينفعه شيء فهل عند أحد منكم من شيء فقال بعضهم نعم، والله إني لأرقي، ولكن استضفناكم فلم تضيفونا فما أنا براق حتى تجعلوا لنا جعلا فصالحوهم على قطيع من الغنم فانطلق يتفل عليه ويقرأ الحمد لله رب العالمين فكأنما نشط من عقال فانطلق يمشي وما به قلبه. قال فوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم اقتسموا، فقال الذي رقى لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنذكر له الذي كان فننظر ما يأمرنا فقدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له ذلك فقال وما يدريك أنها رقية، ثم قال لقد أصبتم اقتسموا واضربوا لي معكم سهما (1) » . فهذا الحديث يدل على مشروعية التداوي بالقرآن.
ثانيا: أما اتخاذ التمائم منه فذلك لا يجوز في أصح قولي العلماء لعموم الأحاديث الدالة على تحريم تعليق التمائم سدا للذريعة. والله ولي التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الإجارة (2276) ، صحيح مسلم السلام (2201) ، سنن الترمذي الطب (2063) ، سنن أبو داود البيوع (3418) ، سنن ابن ماجه التجارات (2156) ، مسند أحمد بن حنبل (3/50) .(27/56)
من الفتوى رقم " 2734 "
السؤال: إنني أقوم بالوعظ والإرشاد وأقوم بالإمامة جمعة جماعة في أحد الجوامع وأسست مكتبة فيها كمية من الكتب القيمة من كتب السنة وأدرس بنفس المسجد في الحديث والفقه والتوحيد والتفسير وأعالج المرضى بالرقية الشرعية الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الصحيحة كرقيته لأهله وأصحابه وكرقية جبريل - عليه السلام - ولا أخرج عن الأحاديث وأنت تعلم أن الرقية ثابتة في كتب السنة وأكثر ما أرقي به ما ورد في كتب شيخ الإسلام كإيضاح الدلالة في عموم الرسالة وغيرها من كتبه المعروفة وكتب ابن القيم منها زاد المعاد ولا يخفاك أنني آخذ أجرة على ذلك مستدلا بما ورد في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري الدال على جواز الرقية وأخذ الأجرة عليها والحديث معروف لدى سماحتكم والذي يحملني على أخذ الأجرة هو الاستغناء عما في أيدي الناس وحيث إنني مكفوف البصر ولي ظروف عائلية ولم يحالفني الحظ بوظيفة ولعلمي أن ذلك جائز وحلال وقد اعترض علي بعض الجهال بدون دليل. لذا أرجو من الله ثم من سماحتكم إصدار فتوى من قبل سماحتكم لبيان ما ينبغي أن يبين لأكون على بصيرة، وإقناعا لمن يعترض جهلا منه وإن كنت ترى أنني على باطل في عملي هذا؛ فأرجو الإفتاء بما يقنعني وأنا لا أخالف لكم رأيا؟
الجواب: إذا كان الواقع منك كما ذكرت من أنك تعالج المرضى بالرقية الشرعية وأنك لم ترق أحدا إلا بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنك تتحرى الرجوع في ذلك إلى ما ذكره العلامة ابن تيمية - رحمه الله - في كتبه المعروفة وما كتبه العلامة ابن قيم الجوزية - رحمه الله - في زاد المعاد وأمثالهما من كتب أهل السنة والجماعة فعملك جائز، وسعيك مشكور ومأجور عليه(27/57)
إن شاء الله، ولا بأس بأخذك أجرا عليه، لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - الذي أشرت إليه في سؤالك. . ونسأل الله أن يثيبك على ما ذكرت من أنك قمت بوعظ الناس وإرشادهم والتدريس لهم والصلاة بهم في المسجد وعلى إنشائك مكتبة فيها كتب قيمة من تأليف أهل السنة والجماعة وأن يجزيك عن إخوانك خير الجزاء، ونرجو الله أن يزيدك توفيقا إلى الخير وعمل المعروف وأن يغنيك من فضله عما في أيدي الناس، إنه سبحانه قريب مجيب الدعاء وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(27/58)
من الفتوى رقم " 4086 "
السؤال: هل تجوز قراءة القرآن لمريض لوجه الله تعالى أو بأجرة؟
الجواب: إذا كان المقصود أن يرقى المريض بالقرآن فذلك جائز بل مستحب لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه (1) » ولفعله ذلك وأصحابه - رضي الله عنهم - والأولى أن يكون بغير أجرة وإن كان بأجرة جاز لثبوت السنة بجواز ذلك وإن كان المقصود أن يجعل ثوابه للمريض فذلك لا ينبغي فعله لعدم وروده في الشرع المطهر، وقد قال عليه الصلاة والسلام «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » . متفق على صحته. وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) الإمام أحمد 3 \ 382 ومسلم 14 \ 186 - 187 شرح النووي
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(27/58)
من الفتوى رقم " 6773 "
السؤال: إن في بلادي التي أنا فيها مشايخ كثير وهم يفعلون الأشياء التالية: هم يضربون الدفوف ويذهبون إلى القبور ويذبحون عليها الأغنام والإبل والبقر ويطبخون الطعام. . هل هذا شيء حرام أم لا؟ هم يبنون قبة خارج المدينة ويضربون فيها الدفوف والطبل وهناك ترتفع أصواتهم وهم قائلون: أغثنا يا شيخنا جيلاني وغيره من المشايخ الآخرين. ويمشون بين الناس ويأخذون المال ويقولون: زيارة شيخ بن فلان إلى آخره. وإذا مرض أحد من الناس يأخذونه إليهم ويقرءون عليه الآيات ويقولون: تأتي بكبش أو ثور أو ناقة وغيره من المواشي، وفي السنة يدفع الناس مالا كثيرا ويذهبون إليهم فهل هذا شيء محرم في ديننا؟
الجواب: أولا: لا يجوز ذبحهم الإبل والبقر والغنم ونحوها على القبور بل هو شرك يخرج من ملة الإسلام إذا قصدوا التقرب إليها رجاء بركتها لأن التقرب بذلك لا يكون إلا لله قال تعالى:
{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2) .
وكذا لا يجوز الضرب بالدفوف للرجال مطلقا ويجوز الضرب عليها للنساء في النكاح لإعلانه.
ثانيا: الاستغاثة بالأموات والغائبين من الأحياء من جن وملائكة وإنس ودعائهم لجلب نفع أو دفع ضر شرك أكبر يخرج من الملة. . قال الله تعالى:
{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (3) {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (4) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163
(3) سورة يونس الآية 106
(4) سورة يونس الآية 107(27/59)
أما الضرب على الطبول فلا يجوز لا للرجال ولا للنساء.
ثالثا: زيارة مشايخ الطرق الصوفية لمريديهم لأخذ أموال منهم تسول وأكل للمال بالباطل وينبغي لمن يقدر على نصحهم والأخذ على أيديهم أن يقوم بذلك وأن يقوم بنصح المريدين حتى لا يدفعوا لهم الموال إلا بحقها الشرعي.
رابعا: رقية المريض بقراءة القرآن والأذكار والدعوات النبوية الثابتة عنه عليه الصلاة والسلام مشروعة أما الذهاب إلى من ذكرت ليقرأ عليه أبياتا ويأمره بذبح كبش أو ثور مثلا. فهذا لا يجوز لأن ذلك رقية بدعية وأكل للمال بالباطل وقد يكون شركا إذا ذبح ما ذكر للجن أو للأموات ونحو ذلك لدفع شر أو جلب نفع منهم. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(27/60)
من الفتوى رقم" 6779 "
السؤال: ما حكم كتابة شيء من آيات القرآن الكريم وشربها فإني رأيت أناسا يفعلون ذلك؟
الجواب: لم يثبت شيء من ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن خلفائه الراشدين ولا سائر صحابته - رضي الله عنهم - فتركها أولى والله أعلم.(27/60)
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(27/61)
من الفتوى رقم " 7804 "
السؤال: ما حكم الدين في الذين يقرءون على الناس بآيات الله الكريمة وبعضهم يحضرون ويشهدون الجن ويتعهدونهم بعدم التعرض للشخص الذي يقرأ عليه هؤلاء؟
الجواب: رقية المسلم أخاه بقراءة القرآن عليه مشروعة. وقد أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرقية ما لم تكن شركا. أما من يستخدم الجن ويشهدهم ويأخذ عليهم العهد ألا يمسوا هذا الشخص الذي قرئ عليه القرآن ولا يتعرضوا له بسوء فلا يجوز.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(27/61)
من الفتوى رقم " 7919 "
السؤال: يوجد أدعية يقال إنها ضد العقرب ولقد جربت فأصابت ونصه: "اللهم إن هذه عزيمة العقرب والداب مرت على اليهود والنصارى قال وش (ماذا) بكاك يا رسول الله. قال: دابة من دواب أهل النار ذنيبه كالمنشار نحيره كالدينار نزل جبريل على دمها نزل جبرائيل على سمها شهق الله ثلاث شهقات قال: اسكني في عزة الله وكتبك في لوح محفوظ. فما حكمها جزاكم الله خيرا؟
الجواب: الرقية المذكورة ليست صحيحة والصحيح هو ما كان بالقرآن والأدعية الثابتة في الأحاديث الصحيحة كرقية أبي سعيد الخدري للكافر بسورة الفاتحة ولا يجوز استعمال هذه الرقية بل يجب تركها والتحذير منها. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(27/62)
من الفتوى رقم " 8016 "
السؤال: ما حكم الرقية بالقرآن وبالأذكار والدعوات الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
الجواب: تجوز الرقية بالقرآن وبالأذكار والدعوات الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - للحفظ والوقاية ولدفع ما أصيب به الإنسان من الأمراض مثل تلاوة(27/62)
آية الكرسي وسورة الفاتحة وقل هو الله أحد والمعوذتين ومثل: «أذهب الباس رب الناس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما (1) » ومثل: «أعيذك بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة (2) » . . ونحو ذلك. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري المرضى (5675) ، صحيح مسلم السلام (2191) ، سنن ابن ماجه الطب (3520) ، مسند أحمد بن حنبل (6/45) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3371) ، سنن الترمذي الطب (2060) ، سنن أبو داود السنة (4737) ، سنن ابن ماجه الطب (3525) ، مسند أحمد بن حنبل (1/270) .(27/63)
من الفتوى رقم " 8693 "
السؤال: ما العلاج الشرعي للذي مسه الجن؟
الجواب: يرقى بقراءة القرآن، وما صح من الأذكار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، واقرأ كتاب الكلم الطيب لابن تيمية، وكتاب الأذكار للنووي وكتاب الوابل الصيب لابن القيم تجد فيها ما ترقي به نفسك. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(27/63)
من الفتوى رقم " 9120 "
السؤال الأول: هل يجوز للمسلم أن يرقي بأي نوع من الرقى؟
الجواب: تجوز الرقية بما ليس فيه شرك كسور القرآن وآياته، وكالأذكار الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتحرم بما فيه شرك كتعويذ المريض بذكر أسماء الجن والصالحين. وبما لا يفهم معناه، خشية أن يكون شركا، لما ثبت من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا (1) » رواه مسلم.
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2200) ، سنن أبو داود الطب (3886) .(27/63)
السؤال الثاني: هل يجوز للمسلم أن يدعو بأسماء الله تعالى لشفاء الأمراض؟
الجواب: يجوز ذلك لعموم قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1) ولثبوت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما رقى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض الناس بقوله: «أذهب الباس رب الناس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك (2) » . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180
(2) صحيح البخاري المرضى (5675) ، صحيح مسلم السلام (2191) ، سنن ابن ماجه الطب (3520) ، مسند أحمد بن حنبل (6/45) .(27/64)
من الفتوى رقم " 9440 "
السؤال: ما حكم الذهاب إلى السيد في حالات المرض القصوى مع أنه لا يوجد علاج للمريض ولكن السيد عالج كثيرين من نفس المرض وشفوا بأمر الله مع اعتقادنا أن الله هو الشافي، وقد اعترض البعض على ذلك، ونحن نقول: إن السيد وسيلة مثله مثل الطبيب. فما رأي فضيلتكم في ذلك؟
الجواب: يباح للمريض أن يتعالج من مرضه بالأدوية المباحة وبالرقية الشرعية وبالأدعية المشروعة ويحرم الذهاب إلى الكهان والمشعوذين الذين يدعون علم المغيبات ويعملون الطلاسم والرقى الشركية ولو كانوا ممن يسمى سيدا. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(27/64)
فتوى رقم " 7324 "
السؤال: مرض رجل مرضا شديدا واشتد به المرض وذهب إلى كل الأطباء فلم يكتب الله الشفاء لهذا الرجل على أيدي هؤلاء الأطباء وذهب إلى رجل يتوسل ويستغيث ويتبرك بأصحاب القبور فكتب الله له الشفاء على يد هذا المتوثن المتوسل فهل الذهاب إلى هذا الرجل يجوز وهذه الفعلة تكررت عدة مرات واتخذها الناس عبرة واستقر في أذهانهم أنه يشفي الناس بما يفعل من أفعال الإشراك بالله والعياذ بالله. فما حكم الدين في ذلك؟
الجواب: يحرم الذهاب إلى من يفعل أعمال الشرك من دعاء أصحاب القبور والاستغاثة بهم لطلب الشفاء بدعائه ورقيته ونحو ذلك. ولو انتفع بعض الناس بذلك لأن ذلك قد يوافق القدر فيظن أنه بسبب هذا الشخص. وقد يكون مرضه من أعمال الشياطين فيغروه بسؤال هؤلاء المشركين والذهاب إليهم فإذا سألهم تركوا إيذائه. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(27/65)
من الفتوى رقم " 9645 "
السؤال: يقوم بعض الإخوة عندنا باستخراج الجن من المريض عن طريق تلاوة آيات من القرآن وزعم هؤلاء الإخوة أثناء تعرضهم لمعالجة حالة أن جبريل عليه السلام قد نزل من السماء وساعدهم على استخراج الجن(27/65)
مما أحدث الشقاق والخلاف بسبب ذلك بين الناس. فنرجو أن تبسطوا لنا الأمر في المسألة والرد. وهل ينزل جبريل عليه السلام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواء لمعاونة أحد - كما زعموا أم لغير ذلك؟
الجواب: يجوز علاج المريض بمس الجن بقراءة آيات من القرآن عليه أو سورة أو سور منه عليه لثبوت الرقية بالقرآن شرعا. أما نزول جبريل لذلك فلا نعلم له أصلا. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(27/66)
من الفتوى رقم " 3624 "
السؤال: شخص يسأل عن تأثير الجن على الإنس أو الإنس على الجن وعن تأثير عين الحاسد في المحسود؟
الجواب: تأثير الجن على الإنس (1) والإنس على الجن وتأثير عين الحاسد في المحسود كل ذلك واقع ومعروف لكن ذلك كله بإذن الله سبحانه وتعالى الكوني القدري لا إذنه الشرعي. أما ما يتعلق بتأثير عين الحاسد في المحسود فهو ثابت فعلا وواقع في الناس وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «العين حق ولو أن شيئا سبق القدر سبقته العين (2) » وقال - صلى الله عليه وسلم - «لا رقية إلا من عين أو حمة (3) » والأحاديث في هذا كثيرة نسأل الله
__________
(1) انظر مس الجن وعلاجه
(2) مسلم 14 \ 171 بشرح النووي
(3) الإمام أحمد 3 \ 486 والبخاري 7 \ 16، أبو داود 4 \ 216، الترمذي 4 \ 394، ابن ماجه 2 \ 1161(27/66)
العافية والثبات على الحق. وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(27/67)
من الفتوى رقم " 6387 "
السؤال: ما حقيقة العين (النضل) قال تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (1) وهل حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - صحيح والذي ما معناه قوله: «ثلث ما في القبور من العين» وإذا شك الإنسان في حسد أحدهم فماذا يجب على المسلم فعله وقوله وهل في أخذ غسال الناضل للمنضول ما يشفي وهل يشربه أو يغتسل به؟
الجواب: العين مأخوذة من عان يعين إذا أصابه بعينه وأصلها من إعجاب العائن بالشيء ثم تتبعه كيفية نفسه الخبيثة ثم تستعين على تنفيذ سمها بنظرها إلى المعين وقد أمر الله نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالاستعاذة من الحاسد فقال تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (2) فكل عائن حاسد وليس كل حاسد عائنا فلما كان الحاسد أعم من العائن كانت الاستعاذة منه استعاذة من العائن وهي سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحو المحسود والمعين تصيبه تارة وتخطئه تارة فإن صادفته مكشوفا لا وقاية عليه أثرت فيه وإن صادفته حذرا شاكي السلاح لا منفذ فيه للسهام لم تؤثر فيه وربما ردت السهام على صاحبها (من زاد المعاد بتصرف) (3) .
وقد ثبتت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإصابة بالعين فمن ذلك ما في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) سورة الفلق الآية 5
(2) سورة الفلق الآية 5
(3) زاد المعاد 3 \ 248(27/67)
يأمرني أن أسترقي من العين (1) » وأخرج مسلم وأحمد والترمذي وصححه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين وإذا استغسلتم فاغسلوا (2) » وأخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه عن أسماء بنت عميس أنها قال «يا رسول الله إن بني جعفر تصيبهم العين أفنسترقي لهم؟ قال: نعم فلو كان شيء سابق القدر لسبقته العين (3) » وروى أبو داود عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان يؤمر العائن فيتوضأ ثم يغسل منه المعين (4) » وأخرج الإمام أحمد ومالك والنسائي وابن حبان وصححه عن سهل بن حنيف «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج وسار معه نحو مكة حتى إذا كانوا بشعب الخرار من الجحفة اغتسل سهل بن حنيف وكان رجلا أبيضا حسن الجسم والجلد فنظر إليه عامر بن ربيعة أحد بني عدي بن كعب وهو يغتسل فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخباة فلبط سهل فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل يا رسول الله هل لك في سهل والله ما يرفع رأسه قال: هل تتهمون فيه من أحد قالوا: نظر إليه عامر بن ربيعه فدعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عامرا فتغيظ عليه وقال: على ما يقتل أحدكم أخاه هلا إذا رأيت ما يعجبك بركت ثم قال له اغتسل له فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح ثم صب ذلك الماء عليه يصبه رجل على رأسه وظهره من خلفه ثم يكفأ القدح وراءه ففعل به ذلك فراح سهل مع الناس ليس به بأس (5) » .
__________
(1) البخاري 7 \ 23، مسلم 14 \ 184 (بشرح النووي) ابن ماجه 2 \ 1161.
(2) مسلم 14 \ 171 (بشرح النووي) الترمذي 4 \ 397، أحمد 1 \ 274 و294، 2 \ 222 و289 و319 و420 و439 و487 و4 \ 67، 5 \ 70 و379.
(3) الترمذي 4 \ 395، ابن ماجه 2 \ 1160، أحمد 6 \ 438، الموطأ 2 \ 939 - 940.
(4) أبو داود 4 \ 210.
(5) ابن ماجه 2 \ 1160، أحمد 3 \ 486، الموطأ 2 \ 938، 939، الحاكم 4 \ 215، ابن حبان (موارد الظمآن) ص344.(27/68)
فالجمهور من العلماء على إثبات الإصابة بالعين للأحاديث المذكورة وغيرها ولما هو مشاهد وواقع. وأما الحديث الذي ذكرته «ثلث ما في القبور من العين» فلا نعلم صحته ولكن ذكر صاحب نيل الأوطار أن البزار أخرج بسند حسن عن جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالأنفس (1) » يعني بالعين ويجب على المسلم أن يحصن نفسه من الشياطين من مردة الجن والإنس بقوة الإيمان بالله واعتماده وتوكله عليه ولجائه وضراعته إليه، والتعوذات النبوية وكثرة قراءة المعوذتين وسورة الإخلاص وفاتحة الكتاب وآية الكرسي ومن التعوذات: «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق (2) » «وأعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون (3) » . وقوله تعالى: {حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (4) ونحو ذلك من الأدعية الشرعية وهذا هو معنى كلام ابن القيم المذكور في أول الجواب.
وإذا علم أن إنسانا أصابه بعينه أو شك في إصابته بعين أحد فإنه يؤمر العائن أن يغتسل لأخيه فيحضر له إناء به ماء فيدخل كفه فيه فيتمضمض ثم يمجه في القدح ويغسل وجهه في القدح ثم يدخل يده اليسرى فيصب على ركبته اليمنى في القدح ثم يدخل يده اليمنى فيصب على ركبته اليسرى ثم يغسل داخل إزاره ثم يصب على رأس الذي تصيبه العين من خلفه صبة واحدة فيبرأ بإذن الله. وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) السنة لابن أبي عاصم 1 \ 136 والبزاز بواسطة تفسير ابن كثير 4 \ 411 وانظر المقاصد الحسنة ص137 - 138 (بتحقيق الخشت)
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) ، سنن الترمذي الدعوات (3437) ، سنن ابن ماجه الطب (3547) ، مسند أحمد بن حنبل (6/409) ، سنن الدارمي الاستئذان (2680) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (4/57) .
(4) سورة التوبة الآية 129(27/69)
من الفتوى رقم " 4393 "
السؤال: هل يجوز التبخر بالشب أو الأعشاب أو الأوراق وذلك من إصابة بالعين؟
الجواب: لا يجوز علاج الإصابة بالعين بما ذكر لأنها ليست من الأسباب العادية لعلاجها وقد يكون المقصود بهذا التبخر استرضاء شياطين الجن والاستعانة بهم على الشفاء وإنما يعالج ذلك بالرقى الشرعية ونحوها مما ثبت في الأحاديث الصحيحة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(27/70)
من الفتوى رقم " 11308 "
السؤال: إذا كنت في بعض الأحيان أشعر بقسوة في قلبي وأحيانا أحس بداء مثل الشرك الخفي أو الغيرة من بعض الناس فما هو العلاج خصوصا وأني أكثر من دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - «اللهم أعوذ بك من أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم» ومن الدعاء لهؤلاء الذين أغير منهم أكفر عن خطئي تجاههم فهل هناك علاج آخر يشفيني من هذا الداء الخطير؟
الجواب: ينبغي لك الإكثار من ذكر الله تعالى وتلاوة القرآن الكريم وعمل ما تستطيعين من نوافل العبادات ومجالسة أهل الدين والصلاح مع إخلاص العمل لله جل وعلا والابتعاد بالعبادات عن مواطن الرياء ودفعه عند حصوله بابتغاء مرضات الله والدار الآخرة وأما دفع الغيرة فيكون باعتقاد أن النعم جميعا هبة من الله جل وعلا وأنه هو الذي قسمها(27/70)
على عباده قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (1)
وأن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه (2) » وأن يشغل نفسه عن الغيرة والحسد بما ينفعه من الأقوال والأعمال الصالحة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الزخرف الآية 32
(2) البخاري 1 \ 9، مسلم 2 \ 16-17 (بشرح النووي) ، النسائي 8 \ 115، 125، الترمذي 4 \ 667، ابن ماجه 1 \ 26، الدارمي 2 \ 307، أحمد 3 \ 176، 206 و251 و272 و278 و289.(27/71)
من الفتوى رقم " 3512 "
السؤال: هل الحديث التالي ليس بحجة على تمليك الجن سلطانا على البشر؟ عن أبي السائب قال: «دخلنا على أبي سعيد الخدري فبينما نحن جلوس إذ سمعنا تحت سريره حركة فنظرنا فإذا فيه حية فوثبت لأقتلها وأبو سعيد يصلي فأشار إلي أن أجلس فجلست فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال: أترى هذا البيت فقلت نعم. فقال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس قال: فخرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الخندق فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله فاستأذنه يوما فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خذ عليك سلاحك فإني(27/71)
أخشى عليك قريظة، فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع فإذا امرأته بين البابين قائمة فأهوى إليها بالرمح ليطعنها وأصابته غيرة فقالت له اكفف عليك رمحك وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به ثم خرج فركزه في الدار فاضطربت عليه فما يدري أيهما كان أسرع موتا الحية أم الفتى (1) » . . . إلخ رواه مسلم في الصحيح مشكاة المصابيح باب ما يحل أكله وما يحرم.
الجواب: أولا: الحديث صحيح من جهة سنده ومتنه.
ثانيا: الناس خلق أبوهم آدم من طين ثم صار بشرا سويا وتناسل منه أولاده والجن خلقوا من نار، ثم صاروا أحياء منهم الذكور ومنهم الإناث وكل من الجن والإنس قد أرسل إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فمنهم من آمن ومنهم من كفر والإنسي قد يؤذي الجني وهو يعلم أو لا يعلم والجني قد يؤذي الإنسي ويصرعه أو يقتله كما أن الإنسي قد يؤذي الإنسي ويضره والجني قد يؤذي الجني ومن نفى ذلك عن الجن وهو لم يحط علما بأحوالهم فقد نفا ما ليس له به علم وخالف ما ورد فيهم من آيات القرآن فقد قال تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} (2) {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} (3) . وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} (4) الآيات.
وخاطبهم الله تعالى كالإنس في قوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (5) . وبقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ} (6) .
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2236) ، سنن الترمذي الأحكام والفوائد (1484) ، سنن أبو داود الأدب (5257) ، مسند أحمد بن حنبل (3/41) ، موطأ مالك الجامع (1828) .
(2) سورة الرحمن الآية 14
(3) سورة الرحمن الآية 15
(4) سورة المؤمنون الآية 12
(5) سورة الرحمن الآية 13
(6) سورة الرحمن الآية 33(27/72)
وسخر الله سبحانه الجن على اختلاف حالهم لنبيه سليمان - عليه السلام -. قال تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} (1) {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} (2) {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} (3) .
وقال تعالى: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} (4) الآيات.
وقال: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ} (5) .
وقال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} (6) {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} (7) {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (8) {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (9) . وقال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ} (10) {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (11) .
واقرأ الآيات من سورة الجن في تفصيل أحوالهم وأعمالهم وجزاء من آمن منهم ومن كفر فلا عجب أن يتمكن جني من إنسي وأن يصيبه
__________
(1) سورة ص الآية 36
(2) سورة ص الآية 37
(3) سورة ص الآية 38
(4) سورة سبأ الآية 12
(5) سورة الأنبياء الآية 82
(6) سورة الأحقاف الآية 29
(7) سورة الأحقاف الآية 30
(8) سورة الأحقاف الآية 31
(9) سورة الأحقاف الآية 32
(10) سورة الأنعام الآية 128
(11) سورة الأنعام الآية 129(27/73)
بأذى كما يتمكن الإنسي من الجني ويصيبه بما يضره إذا تمثل الجني بصورة حيوان مثلا كما في الحديث المذكور في السؤال وكما في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة ليقطع علي الصلاة فأمكنني الله منه فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان: فرده خائبا (2) » .
وبالجملة فكل من الجن والإنس إما مؤمن وإما كافر وطيب أو خبيث ونافع لغيره أو مؤذ له ضار به كل بإذن الله عز وجل كما تقدم.
وأخيرا فعالم الجن وأحوالهم غيبي للإنس لا يعلمون منها إلا ما جاء في كتاب الله تعالى أو صح من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيجب الإيمان بما ثبت في ذلك بالكتاب والسنة دون استغراب أو استنكار والسكوت عما عداه لأن الخوض نفيا أو إثباتا قول بغير علم وقد نهى الله تعالى عن ذلك بقوله سبحانه: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (3) .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) البخاري 1 \ 118، 4 \ 136، 6 \ 31، أحمد 2 \ 298
(2) سورة ص الآية 35 (1) {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}
(3) سورة الإسراء الآية 36(27/74)
من الفتوى رقم " 5802 "
السؤال: من الناس من تلبس بهم الجن فيقال عليه أسياد أو عليه شيخ ويكون من الجان وقد يكون كافرا أو نصرانيا فيأمر المتلبس بأشياء مخالفة للشرع مثل عدم الصلاة أو بعمل أشياء لا يطيقها وإن لم يفعل فإنهم يعذبوه. ما هي الطريقة الشرعية للتخلص من هؤلاء؟
الجواب: مس الجن الإنسان أمر واقع وإذا أمر الجني من مسه بمحرم وجب على المصاب أن يتمسك بشرع الله وأن يعصي الجني في أمره بمعصيته الله وإن آذاه الجني وعليه أن يتعوذ بالله من شره ويحصن نفسه بقراءة القرآن وبالتعوذات الشرعية وبالأذكار الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - منها الرقية بقراءة سورة الفاتحة ومنها قراءة سورة "قل هو الله أحد" والمعوذتين، ثم ينفث في يديه ويمسح بهما وجهه وما استطاع من بدنه ثم يقرأ هذه السور الثلاث مرة ثانية وينفث في يديه ويمسح بهما وجهه وما استطاع من بدنه ثم يقرؤها مرة ثالثة وينفث في يديه ويمسح بهما وجهه وما استطاع من بدنه إلى غير ذلك من الرقية بسور القرآن وآياته وبالأذكار الثابتة مع اللجوء إلى الله في طلب الشفاء والحفظ من شياطين الجن والإنس وارجع إلى كتاب الكلم الطيب لابن تيمية وكتاب الوابل الصيب لابن القيم والأذكار للنووي ففيها بيان كثير من أنواع الرقية. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(27/75)
من الفتوى رقم " 6618 "
السؤال: سائل يقول إنه يسكن في منزل في البادية ورثه من آبائه وأجداده السالفين والآن في المدة الأخيرة وبالذات في (2 رمضان) حدثت له فيه كارثة ومن هذه الليلة وأنا أرمى بالحجارة من داخل المنزل ومن خارجه ويطفأ علي المصباح بدون أن أرى من يفعل بي هذا ومكثت على ذلك مدة 4 أيام وأنا أعاني من هذه المصيبة فجئت إلى عشيرتي لعلهم يدلوني على شيء فأخبرتهم بهذا الخبر المفجع لكنهم ردوا علي بقولهم: إن أعدائك هم الذين يفعلون بك هذه الصنيعة الشنعاء، وراحوا معي، فلما جاء الليل وأظلم شاهدوا الذي قلت لهم وصدقوني على ما قلت لهم. بعد هذا كله ألح علي أهلي بالخروج من هذا المسكن ومبارحته.
كيف يكون تفسيركم لهذه الكارثة والمصيبة. ثم ما علاجها وما هو حكم الشريعة في ذلك؟
الجواب: قد يكون هؤلاء نفرا من شياطين الجن اعتدوا عليك وعبثوا بك لتخرج من البيت أو لمجرد العبث بك واللعب عليك وقد يكون منهم انتقاما منك لإيذائك إياهم من حيث لا تعلم. وعلى كل حال الجأ إلى الله وتحصن بتلاوة كتاب الله في البيت وقراءة آية الكرسي عندما تضطجع في فراشك للنوم أو الراحة، وتستعيذ بالله من شر ما خلق وتقول: «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق (1) » ثلاث مرات. وتقول كلما دخلت البيت: «اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج بسم الله ولجنا وبسم الله
__________
(1) مسلم في الصحيح 17 \ 31 (بشرح النووي) وأحمد في المسند 6 \ 377، 409 من حديث خولة بنت حكيم. وأخرجه مسلم في الصحيح 17 \ 32 (نووي) وأبو داود رقم 3898، 3899، وابن ماجه رقم 3518 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -(27/76)
خرجنا وعلى الله ربنا توكلنا (1) » . وتقول عند كل صباح ومساء ثلاث مرات: «بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم (2) » .
وبالجملة تحافظ على تلاوة القرآن في البيت وغيره، وعلى الأذكار النبوية الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فتذكر الله بها في أوقاتها ليلا ونهارا في البيت وغيره وتجدها في كتاب الكلم الطيب لابن تيمية، وكتاب الوابل الصيب لابن القيم وكتاب الأذكار للنووي وغير ذلك من كتب الحديث. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أخرجه أبو داود رقم 5096 من حديث أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - والطبراني في الكبير رقم 3452 ومسند الشاميين برقم 1674.
(2) أخرجه أحمد 1 \ 63، 66، 72 وأبو داود رقم 5088، 5079 والترمذي في السنن رقم 3385 وقال حديث حسن صحيح غريب، وابن ماجه رقم 3869 من حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه -(27/77)
من الفتوى رقم " 6913 "
السؤال: سائل يقول: في ليلة من الليالي ذهب أخي البالغ من العمر (15 سنة) يمشي على أقدامه في واد من بوادي الجنوب فقال إنه وجد جسما تمثل له بأنه قطة ويقول إن هذا الجسم مشى معه مسافة ما يقارب كيلو. وقد حصل له اشتداد في الأعصاب وتلاصقت فكاه قال وسار هذا الحيوان يمشي معي مرة عن يميني وتارة عن شمالي ومرة(27/77)
خلفي وأخرى أمامي وقال إنه حاول مرات كثيرة أن يذكر الله ولم يستطع ثم قال إنه حاول أن يتحرك بعمل يبعد هذا الجسم عنه ولكنه كذلك لم يستطع ثم اختفت فجأة حسب قوله ثم واصل سيره حتى وصل البيت وبقي مدة تقدر بأسبوعين مصابا باضطراب في الأعصاب والفكر. ثم جاء له بعدها صرعة وقد نقلته إلى الدمام وذهبت به إلى المستشفى ولكن بعض الأصدقاء قالوا لي أن أخاك مصاب بمرض جنون وهو فعلا قد رأى الجن. هذا كلامهم لي ولا ينفع فيه علاج المستشفى وإنما يلزمك الذهاب إلى طبيب عربي. وعلى أثر ذلك أجبرت من مرض أخي وذهبت به إلى شخص في الدمام قال إنه يعالج أمراض الجن. وعندما وصلنا إليه أجلس الولد أمامه وصار يهلل ويصلي على النبي بصوت مرتفع، ثم يقول كلمات بصوت منخفض لا ندري ماذا يقول ثم وضع ماء في فنجان وقرأ على الماء الفاتحة وبعض الكلمات لم أسمعها وأسقاه الولد ثم أعطانا "لبان" وقال - يقصد الولد - تبخر بهذا اللبان، بإشرافنا ثم عدنا له مرة أخرى وقرأ على الولد مثل ما قرأ المرة السابقة وقال مثل ما قال ثم قال: استمروا عندي ست جلسات كل أسبوع جلسة وبعدها نكتب اسمه لدينا ونشوف هل له علاج عندنا أم لا؟ ثم قال: إننا نطالع الولد وهو يتبخر ثم إننا نطالع الذي في نجران وأبها وعدد مناطق كثيرة وقال إنه يعلم المريض الذي في الكويت. هذا ومن جهة أخرى فهو لا يأخذ فلوسا سوى الذي يعطيه الفرد دون أن يطلب. هذا ومن ناحية صحة الولد فقد تحسنت بإذن الله سبحانه وتعالى. كذلك أنا ولله الحمد عقيدتي راسخة بإذن الله رسوخ الجبال وليس لدي أدنى شك بأن النافع والضار هو الله وحده دون سواه وإنما ذهابي إلى هذا الشخص ليس اعتقادا مني في أنه سيشفي أخي؛ بل اعتقادي في ذلك الوقت وفي كل وقت بأنه لن يشفي أخي إلا الله سبحانه وتعالى. آمل من سماحتكم إرشادي أولا: ماذا أعمل هل أداوم بمراجعة أخي لهذا الشخص أم تنصحونني بغير(27/78)
ذلك؟ ثانيا: ما صحة علاج هذا الشخص للناس بهذه الطريقة من الناحية الشرعية؟
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكر فالذي بأخيك مس من الجن، وعلاجه بالرقى الشرعية من تلاوة القرآن كسورة الفاتحة و"قل هو اله أحد" و "قل أعوذ برب الفلق" و "قل أعوذ برب الناس" وآية الكرسي، وغيرها من سور القرآن وآياته، والأذكار والأدعية النبوية الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل: «أعيذك بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة (1) » مثل: «أذهب الباس، رب الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما (2) » وارجع إلى كتاب الكلم الطيب لابن تيمية، والوابل الصيب لابن القيم، والأذكار النووية للنووي لتعلم منها الأذكار والأدعية التي تناسب مرض أخيك لتقرأ بها عليه أو يقرأها على نفسه، وننصحك ألا تعود إلى ذلك الرجل أو مثله لعلاج أخيك أو غيره، فإنه وإن أصاب في قراءة الفاتحة إلا أنه تكلم معها بكلمات أسرها، إخفاء لها على ماء في الفنجان وسقاه الماء فقد يكون ما تكلم به سرا تعويذات شيطانية واستعانة بالجن وهذا من الكهانة وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإتيان إلى الكهان، وفي الرقية الشرعية غنى عن الإتيان إلى الكهان، شفى الله أخاك وثبتنا وإياكم على الحق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) الإمام أحمد 1 \ 236 و270 بلفظ (كان يعوذ حسنا وحسينا بقوله أعيذكما) وأبو داود برقم 4737 والترمذي برقم 2060 وابن ماجه رقم 3525 والحاكم في المستدرك 3 \ 167 وأخرجه البخاري رقم 3371 بلفظ (أعوذ بكلمات الله..) .
(2) البخاري 7 \ 171 ومسلم 14 \ 180 و181 بشرح النووي وأبو داود رقم 3883 ورقم 3885 بلفظ (اكشف الباس رب الناس) من حديث ثابت بن قيس وبرقم 3890 من حديث أنس بلفظ (اللهم رب الناس مذهب الباس اشف) والترمذي برقم973 وابن ماجه برقم3530 والبيهقي 3 \ 381 و9 \ 350 في السنن.(27/79)
من الفتوى " 7501 "
السؤال: يوجد امرأة مصروعة وعليها امرأة من الجن وعندما تضرب امرأة الجن لا تستجيب للخروج من المرأة المسلمة. فهل يجوز في هذه الحالة حرقها بالنار حتى تخرج من المرأة المسلمة؟
الجواب: يحرم إحراقها بالنار مطلقا لأن النار لا يعذب بها إلا الله. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(27/80)
من الفتوى رقم" 8122 "
السؤال: علاج الصرع هو الذهاب إلى الكنيسة خاصة كنيسة ماري جرجس أو الذهاب إلى السحرة والدجالين الذين ينتشرون في القرى وأحيانا يأتي بفائدة. فهل هذا يجوز فعله مع العلم بأن الشخص المصروع إذا لم يسرعوا بعلاجه فإنه يهلك ويموت.
الجواب: لا يجوز الذهاب إلى الكنيسة لعلاج الصرع ولا إلى السحرة ولا إلى الدجالين.
أما طرق العلاج المباح فيعالج بالرقى المشروعة مثل قراءة القرآن كسورة الفاتحة وقل هو الله أحد والمعوذتين وآية الكرسي وما ورد من الأذكار والأدعية الثابتة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(27/80)
من الفتوى رقم" 3828 "
السؤال: تقول سائلة: إنني فتاة في العشرين من العمر مسلمة وملتزمة ومتزوجة من حوالي عام ونصف وبحمد الله رزقت من حوالي ستة أشهر بمولود وكانت الولادة طبيعية بحمد الله. وبعد الولادة بحوالي أسبوع أصبت بحال ضيق شديد ولم يحدث لي هذه الحالة من قبل ولم يبق لي قابلية الاهتمام بأي شيء حتى المولود. وقد عرضت على أخصائي نفساني وأخذت العلاج إلى فترة قريبة ولم يحدث من هذا العلاج عودتي إلى طبيعتي كما كنت قبل الولادة وقد زهقت من طول فترة العلاج. وأسأل الله أن توفقوا في معرفة علاج شرعي لهذا الضيق والاكتئاب النفسي أو العلاج الأمثل لكي أعود إلى طبيعتي ورعاية زوجي وابني وخدمة البيت وإني قد سمعت من فترة ماضية من الحديث الذي يقول: «ماء زمزم لما شرب له (1) » فإني أرجو من الله توضيح هذا الحديث وهل هو ينطبق على حالتي النفسية أم هو للحالات العضوية. وإذا كان ماء زمزم يفيد بإذن الله في شفاء حالتي هذه. . فكيف يمكن نقله إلي؟
الجواب: ثقي بالله تعالى وحسني الظن به وفوضي أمرك إليه ولا تيأسي من رحمته وفضله وإحسانه فإنه سبحانه ما أنزل داء إلا أنزل له شفاء، وعليك الأخذ بالأسباب فاستمري في مراجعة الأطباء المتخصصين في معرفة الأمراض وعلاجها، واقرئي على نفسك سورة الإخلاص وسورة الفلق وسورة الناس ثلاث مرات وانفثي في يدك عقب كل مرة، وامسحي بهما وجهك وما استطعت من جسمك وكرري ذلك مرات ليلا ونهارا وعند النوم واقرئي على نفسك أيضا سورة الفاتحة في أي ساعة من ليل أو نهار واقرئي آية الكرسي عندما تضطجعين في فراشك للنوم
__________
(1) سنن ابن ماجه المناسك (3062) ، مسند أحمد بن حنبل (3/357) .(27/81)
فذلك من خير ما يرقي الإنسان به نفسه ويحصنها من الشر وادع الله تعالى بدعاء الكرب فقولي: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم (1) » وارقي نفسك أيضا برقيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولي: «اللهم رب الناس، مذهب الباس، اشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت شفاء لا يغادر سقما (2) » إلى غير ذلك من الأذكار والرقى والأدعية التي ذكرت في دواوين الحديث وذكرها النووي في كتاب رياض الصالحين وكتاب الأذكار.
أما ما ذكرت عن ماء زمزم من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ماء زمزم لما شرب له (3) » فقد رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو حديث حسن وهو أيضا عام وأصح منه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في ماء زمزم «إنها مباركة وإنها طعام طعم وشفاء سقم (4) » رواه مسلم وأبو داود وهذا لفظ أبي داود. فإذا أردت منه شيئا أمكنك أن توصي من يحج من بلدك ليأتي بشيء منه في عودته من حجه. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أخرجه البخاري الأرقام \ 6345، 6346، 7421، 7431 ومسلم 17 \ 47 (نووي) وأحمد 1 \ 228، 259، 280، 284، 339، 356 من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -
(2) صحيح البخاري الطب (5742) ، سنن الترمذي الجنائز (973) ، سنن أبو داود الطب (3890) ، مسند أحمد بن حنبل (3/151) .
(3) أخرجه أحمد 3 \ 357 وابن ماجه رقم 3062 والبيهقي في السنن 5 \ 148 من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، وأخرجه من طريق آخر البيهقي في شعب الإيمان كما في تلخيص الجيد 2 \ 268، والفوائد لابن المقري كما في فتح الباري 3 \ 493 والتلخيص 2 \ 268 والخطيب في تاريخ بغداد 10 \ 116 وحسنه ابن القيم في زاد المعاد 3 \ 406 (طبعة الفقي) .
(4) أخرجه الطيالسي في المسند برقم457 وأخرجه مسلم في الصحيح 16 \ 30 (نووي) وأحمد في المسند 5 \ 175 بلفظ (إنها مباركة وإنها طعام طعم) من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -، والطبراني في الصغير رقم295.(27/82)
من فتاوى
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
وجوب العدل بين العامل المسلم وغيره
السؤال: يوجد لدي عاملان أحدهما مسلم والثاني كافر، وهما متكافئان في العمل، ومطلوب مني أن أقوم عملهما، فهل يجوز أن أغمط الكافر حقه بسبب ديانته؟
الجواب: الواجب العدل بينهما، ولكن يجب إبعاد الكافر ولو كان أنشط لأن المسلم أبرك، ولو كان أقل كفاءة، فما بالك إذا كان مساويا له. وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أوصى بإخراج الكفار من هذه الجزيرة وألا يبقى فيها دينان والله ولي التوفيق.(27/83)
حكم السكن مع العوائل في الخارج
السؤال: ما حكم السكن مع العوائل لمن سافر إلى الخارج للدراسة لأجل الاستفادة من اللغة أكثر؟
الجواب: لا يجوز السكن مع العوائل لما في ذلك من تعرض الطالب للفتنة بأخلاق الكفرة ونسائهم، والواجب أن يكون سكن الطالب بعيدا عن أسباب الفتنة، وهذا كله على القول بجواز سفر الطالب إلى بلاد الكفرة للتعلم، والصواب أنه لا يجوز السفر إلى بلاد الكفار للتعلم إلا عند(27/83)
الضرورة القصوى بشرط أن يكون ذا علم وبصيرة، وأن يكون بعيدا عن أسباب الفتنة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقبل الله من مشرك عملا بعد ما أسلم أو يزايل المشركين (1) » أخرجه النسائي بإسناد جيد، ومعناه حتى يزايل المشركين. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين (2) » رواه أبو داود والترمذي والنسائي بإسناد صحيح.
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. فالواجب على المسلمين الحذر من السفر إلى بلاد أهل الشرك إلا عند الضرورة القصوى إلا إذا كان المسافر ذا علم وبصيرة ويريد الدعوة إلى الله والتوجيه إليه فهذا أمر مستثنى، وهذا فيه خير عظيم لأنه يدعو المشركين إلى توحيد الله ويعلمهم شريعة الله فهو محسن بعيد عن الخطر لما عنده من العلم والبصيرة.
__________
(1) سنن النسائي الزكاة (2568) .
(2) سنن الترمذي السير (1604) ، سنن النسائي القسامة (4780) ، سنن أبو داود الجهاد (2645) .(27/84)
حكم تغيير الاسم بعد الإسلام
السؤال: هل يلزم من أعلن إسلامه أن يغير اسمه السابق مثل جورج جوزيف وغيرهما؟
الجواب: لا يلزمه تغيير اسمه إلا إن كان معبدا لغير الله، ولكن تحسينه مشروع فكونه يحسن اسمه من أسماء أعجمية إلى أسماء إسلامية فهذا مناسب وطيب، أما الوجوب فلا. أو إن كان اسمه عبد المسيح وأشباهه من الأسماء المعبدة لغير الله فالواجب تغييره لأن التعبيد لغير الله بإجماع أهل العلم كما نقل ذلك أبو محمد بن حزم - رحمه الله -. . وبالله التوفيق.(27/84)
هل يجوز الاحتيال لأخذ قرض أو مساعدة
السؤال: أنا مواطن من هذا البلد أخذت قرضا خاصا من صندوق التنمية العقارية بمبلغ ثلاثمائة ألف ريال وكذلك قرض استثمار بمبلغ يزيد على المليون ريال. وحيث إن لدي قطعة أرض أملكها بموجب صك(27/84)
شرعي فقد حولتها باسم زوجتي (بيع صوري) رغبة في الحصول على قرض استثمار باسمها حيث إن الشخص لا يأخذ أكثر من قرض استثمار واحد وفعلا تم ذلك. . أرجو من سماحتكم الإفادة هل في ما فعلت إثم علي وهل يصح ذلك شرعا وإذا كان لا يصح فما هو الحل للتخلص من هذا القرض. . جزاكم الله خيرا؟
الجواب: هذا التصرف لا يجوز لما فيه من الكذب والتحيل على مخالفة نظم الدولة الموضوعة لتحقيق المصلحة العامة والواجب رد المبلغ إلى الصندوق مع التوبة إلى الله سبحانه من هذا العمل السيئ، أصلح الله حال الجميع.(27/85)
ما هو المثل الأعلى
السؤال: يرد سؤال يتكرر دائما في المقابلات الصحفية وخلافها وهو: من هو مثلك الأعلى؟ وتختلف الإجابة باختلاف الأشخاص، هناك من يقول محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهناك من يقول والدي وهكذا. ما رأي سماحتكم حفظكم الله في هذا السؤال وما علاقته بآية سورة النحل رقم (60) وهي قوله تعالى: {لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1)
وكذا سورة الروم رقم (27) وهي قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2)
أفيدونا أثابكم الله؟
الجواب: المعنى يختلف فيما أشرت إليه فإذا أريد بيان من هو الأحق بالوصف الأعلى فالجواب هو الله وحده لأنه سبحانه هو الذي له المثل
__________
(1) سورة النحل الآية 60
(2) سورة الروم الآية 27(27/85)
الأعلى في كل شيء ومعناه الوصف الأعلى، وهو سبحانه الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله لا شبيه له ولا كفو له ولا ند له، وهذا المعنى هو المراد في الآيتين الكريمتين المذكورتين في سؤالك وقد قال الله عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (2) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (3) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (4) .
وقال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (5) .
أما إن أريد من هو المثل الأعلى في المنهج والسيرة فإنه يفسر بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه أكمل الناس هديا وسيرة وقولا وعملا وهو المثل الأعلى للمؤمنين في سيرتهم وأعمالهم وجهادهم وصبرهم وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة كما قال الله سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (6) .
وقال عز وجل في وصف نبيه - صلى الله عليه وسلم - {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (7) .
قالت عائشة - رضي الله عنها -: «كان خلقه القرآن (8) » والمعنى أنه كان عليه الصلاة والسلام يعمل بأوامر القرآن وينتهي عن نواهيه ويتخلق بالأخلاق التي أثنى القرآن على أهلها ويبتعد عن الأخلاق التي ذم القرآن أهلها والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2) سورة الإخلاص الآية 2
(3) سورة الإخلاص الآية 3
(4) سورة الإخلاص الآية 4
(5) سورة الشورى الآية 11
(6) سورة الأحزاب الآية 21
(7) سورة القلم الآية 4
(8) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (746) ، سنن أبو داود الصلاة (1342) ، مسند أحمد بن حنبل (6/54) ، سنن الدارمي الصلاة (1475) .(27/86)
حكم الطواف وختم القرآن للأموات
السؤال: أقوم أحيانا بالطواف لأحد أقاربي أو والدي أو أجدادي المتوفين، ما حكم ذلك، وأيضا ما حكم ختم القرآن لهم. . جزاكم الله خيرا؟(27/86)
الجواب: الأفضل ترك ذلك لعدم الدليل عليه، لكن يشرع لك الصدقة عن من أحببت من أقاربك وغيرهم إذا كانوا مسلمين والدعاء لهم، والحج والعمرة عنهم، أما الصلاة عنهم والطواف عنهم والقراءة لهم فالأفضل تركه لعدم الدليل عليه، وقد أجاز ذلك بعض أهل العلم قياسا على الصدقة والدعاء والأحوط ترك ذلك؛ لأن الأصل في العبادات التوقيف وعدم القياس، وبالله التوفيق.(27/87)
مم خلق الله الملائكة وإبليس
السؤال: لقد خلق الله آدم من طين وخلق قبله الملائكة وكان ضمن الملائكة إبليس وخلقه من النار، فلماذا خلقه من النار ومن أي شيء خلق الله الملائكة؟
الجواب: ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خلقت الملائكة من النور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم (يعني من الطين) (1) » خرجه مسلم في صحيحه. أما الحكمة في ذلك فالله سبحانه وتعالى أعلم بها وهو الحكيم العليم في كل ما يخلق ويشرع لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، وهو على كل شيء قدير.
__________
(1) صحيح مسلم الزهد والرقائق (2996) ، مسند أحمد بن حنبل (6/153) .(27/87)
حكم النكت في الإسلام
السؤال: ما حكم (النكت) في ديننا الإسلامي وهل هي من لهو الحديث، علما أنها ليست استهزاء بالدين. . أفتونا مأجورين؟
الجواب: التفكه بالكلام والتنكيت إذا كان بحق وصدق فلا بأس به ولا سيما مع عدم الإكثار من ذلك، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمزح ولا يقول إلا حقا - صلى الله عليه وسلم -، أما ما كان بالكذب فلا يجوز لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «ويل(27/87)
للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ثم ويل له (1) » أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي بإسناد جيد، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (4990) ، مسند أحمد بن حنبل (5/7) ، سنن الدارمي الاستئذان (2702) .(27/88)
حكم مصافحة الطالب لزميلته
السؤال: ما حكم مصافحة الطالب لزميلته في الدراسة؟ وماذا يفعل لو مدت يدها للسلام عليه؟
الجواب: لا تجوز الدراسة المختلطة مع الفتيات في محل واحد أو في مدرسة واحدة، أو في كراس واحدة بل هذا من أعظم أسباب الفتنة. فلا يجوز للطالب ولا للطالبة هذا الاشتراك لما فيه من الفتن.
وليس للمسلم أن يصافح المرأة الأجنبية عنه ولو مدت يدها إليه، ويخبرها أن المصافحة لا تجوز للرجال الأجانب لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال حين بيعته للنساء: «إني لا أصافح النساء (1) » وثبت عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: «والله ما مست يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يد امرأة قط، ما كان يبايعهن إلا بالكلام (2) » وقد قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (3) .
ولأن المصافحة للنساء من غير محارمهن من وسائل الفتنة للطرفين فوجب تركها.
أما السلام الشرعي الذي ليس فيه فتنة ومن دون مصافحة ولا ريبة ولا خضوع بالقول، ومع الحجاب وعدم الخلوة فلا بأس به لقول الله عز وجل: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا} (4) .
__________
(1) سنن الترمذي السير (1597) ، سنن النسائي البيعة (4181) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2874) ، مسند أحمد بن حنبل (6/357) ، موطأ مالك الجامع (1842) .
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4891) ، صحيح مسلم الإمارة (1866) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2941) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2875) ، مسند أحمد بن حنبل (6/270) .
(3) سورة الأحزاب الآية 21
(4) سورة الأحزاب الآية 32(27/88)
ولأن النساء في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كن يسلمن عليه ويستفتينه فيما يشكل عليهن وهكذا كانت النساء يستفتين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يشكل عليهن.
أما مصافحة المرأة للنساء ولمحارمها من الرجال كأبيها وأخيها وعمها وغيرهم من المحارم فليس في ذلك بأس والله ولي التوفيق.(27/89)
حكم التهرب من العمل في القضاء
السؤال: يقول: نرى كبار الأئمة يتهربون من القضاء، وما ذاك إلا لإدراكهم الخطورة فكيف نقدم عليه وحالنا لا تقارن بحالهم؟
الجواب: هذا صحيح ولكن من تأمل حال الناس وشدة حاجتهم إلى القضاء الشرعي والصبر عليه إذا كان من أهله وجب عليه أن يجتهد فيه وأن يبذل في ذلك ما يستطيع من أسباب التخلص من خطره والعافية من تبعاته براءة للذمة ونصحا للأمة ورحمة لإخوانه المسلمين وإحسانا إليهم في حل مشاكلهم والحكم بينهم بالحق. وسيعينه الله ويسدده على حسب إخلاصه وصدقه. وليس زماننا هذا كزمان السلف الصالح لأن العلماء في ذلك الزمان كانوا كثيرين إذا اعتذر بعضهم وجد من يقوم مقامه من إخوانه العلماء. أما في زماننا فقد قل العلماء وفشا الجهل. . فإذا اعتذر عن القضاء من هو أهل له صعب وجود غيره وتعطل الكثير من البلاد من القضاء الشرعي وفي ذلك من المضرة العظيمة ما لا يخفى على أحد، والله المستعان.(27/89)
حكم المقارنة بين الشريعة والقانون
السؤال: هل المقارنة بين الشريعة والقانون يعد انتقاصا للشريعة؟
الجواب: إذا كانت المقارنة لقصد صالح كقصد بيان شمول الشريعة(27/89)
وارتفاع شأنها وتفوقها على القوانين الوضعية واحتوائها على المصالح العامة فلا بأس بذلك لما فيه من إظهار الحق وإقناع دعاة الباطل وبيان زيف ما يقولون في الدعوة إلى القوانين أو الدعوة إلى أن هذا الزمن لا يصلح للشريعة أو قد مضى زمانها لهذا القصد الصالح الطيب ولبيان ما يردع أولئك ويبين بطلان ما هم عليه ولتطمين قلوب المؤمنين وتثبيتها على الحق لهذا كله لا مانع من المقارنة بين الشريعة والقوانين الوضعية إذا كان ذلك بواسطة أهل العلم والبصيرة المعروفين بالعقيدة الصالحة وحسن السيرة وسعة العلم بعلوم الشريعة ومقاصدها العظيمة.(27/90)
حكم صبغ اللحية بالسواد
السؤال: ما مدى صحة الأحاديث التي وردت في صبغ اللحية بالسواد؟ فقد انتشر صبغ اللحية بالسواد عند كثير ممن ينتسبون إلى العلم؟
الجواب: في هذا الباب أحاديث صحيحة كثيرة من أشهرها حديث جاء في قصة والد الصديق - رضي الله عنه - رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه قال لما رأى رأس والد الصديق ولحيته كالثغامة بياضا غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد (1) » وفي رواية «وجنبوه السواد (2) » . وحديث ابن عباس رواه أحمد وأبو داود والنسائي بسند صحيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سيكون في آخر الزمان قوم يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة (3) » وهذا وعيد شديد. وفي ذلك أحاديث أخرى كلها تدل على تحريم الخضاب بالسواد وعلى شرعية الخضاب بغيره.
__________
(1) صحيح مسلم اللباس والزينة (2102) ، سنن النسائي الزينة (5076) ، سنن أبو داود الترجل (4204) ، سنن ابن ماجه اللباس (3624) ، مسند أحمد بن حنبل (3/316) .
(2) سنن النسائي الزينة (5076) ، سنن أبو داود الترجل (4204) ، سنن ابن ماجه اللباس (3624) ، مسند أحمد بن حنبل (3/316) .
(3) سنن النسائي الزينة (5075) ، سنن أبو داود الترجل (4212) ، مسند أحمد بن حنبل (1/273) .(27/90)
الأحكام المتعلقة
بالهلال
الشيخ \ صالح بن محمد اللحيدان (1)
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وقائد الغر المحجلين وإمام المتقين أنصح الخلق وأبرهم وأزكاهم وأتقاهم وأعلمهم بمراد الله سبحانه وتعالى وأشدهم في أمر ربه جل وعلا اختاره الله للرسالة الخالدة والشريعة الخاتم المهيمنة وأعطاه من كمال البيان ما لم يعط غيره من الناس، وبعد: فقد كانت صحفنا المحلية وبعض مجلاتنا قد نشرت لي مقالا عن الهلال متى تثبت رؤيته وماذا يجب على الناس في عباداتهم المنوطة بالهلال صياما وحجا وبماذا يكون دخوله واعتمادهم أعلى الرؤية أم على الحساب وأقوال العارفين به؟
وقد كثر الحديث عن ذلك وتعدد القائلون فيه من منتسب لطلب العلم الشرعي ومدع علم الفلك وكثر الخوض في ذلك وتعمد بعض الكتاب إثارة المشاعر في كل وقت يكون الناس في استقبال عبادة تتعلق بالهلال. وقد أثر على هؤلاء الكتاب ما رأوه من تقدم العلم الفلكي في هذه العصور ومعرفة كواكب قد لا يكون الناس في السابق عرفوها وتأثر بعض هؤلاء بمقولة بعض العلماء المتقدمين التي خالفوا فيها الإجماع وربما كانت جرأة بعضهم - رحمهم الله - أن قرر إبطال الشهادة من العدول إذا
__________
(1) رئيس مجلس القضاء الأعلى بهيئته الدائمة وعضو هيئة كبار العلماء(27/91)
خالفها الحساب ظنا منهم - رحمهم الله - أن الحساب قطعي الدلالة وأن الشهادة ظنية الدلالة وأن الظني لا يقاوم القطعي فراح بعض من اطلع على مثل هذا القول المردود من قبل أهل العلم ينادي به ويتعلق به ويجعله حجة ترد بها البينة التي اعتبرها الشارع وبنى عليها الحكم الشرعي دون أن يرد ذلك إلى كلام الله - عز وجل- أو كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو يعرضه على كلام من هم أقعد في العلم من صاحب ذلك القول وأدق فهما ومعهم إجماع الأمة كما تأثر بعض الكتاب ببعض نشرات ندوات فلكية لم يرجع أصحابها في كلامهم إلى أدلة الشريعة وقواعدها ولم يتأملوا ما في أدلة الكتاب والسنة من اليسر والتيسير ولا عرضوا أفكارهم على أهل العلم بأدلة الكتاب والسنة.
وصار أولئك الكتاب عن حسن نية فيما نظن يشككون الناس في عباداتهم وصيامهم وفطرهم وفي حجهم فدعاني ذلك وما ذكرته في مقالي المنشور في آخر رمضان عام 1409هـ إلى الكتابة التي أسوق الآن نصها مع قليل من التصرف والزيادة في بعض المواضع معتمدا في ذلك الأدلة الشرعية وكلام خيار الأمة بعد نبيها، فهم أعرف الناس بمراد الله ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما فعلته الآن من التعديل القليل والزيادة اليسيرة. فبقدر ما تدعو الحاجة إليه، وقد رأيت إعادة نشر المقال استجابة لأمر شيخنا ووالدنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد وتلبية لرغبة زميلنا العزيز الدكتور محمد بن سعد الشويعر رئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية لينشره في مجلة البحوث ولا شك أن ما ينشر في مجلة هي بمنزلة كتاب يقتنى ويرجع إليه يحتاج لإجراء تعديل عما كان ينشر في صحف سيارة. .، ومحافطة مني على أصل المقال أسوق نصه مع التعديل الذي أشرت إليه وإضافة للزيادة التي نوهت عنها إما في صلب المقال أو على(27/92)
شكل تعليقات على المقال وأن لا أشك أن كتابات من كتبوا إنما كان باعثها حب جمع المسلمين ولم شتاتهم ظنا منهم أن ذلك يجمعهم ومثل ذلك لا يجمع في الحقيقة وإنما يجمع الأمة اتحاد المسيرة في ظل القرآن الكريم والسنة المطهرة وما قامت عليه الدولة الإسلامية الأولى من صفاء العقيدة وصدق الانقياد لأمر الله وأمر رسوله والرجوع إلى ما قال الله ورسوله في كل الأحوال والرغبات والمقاصد وإليك أيها القارئ الكريم نص الكلمة السابقة مدخلا فيها ما ذكرته من التصرف الذي لا يخرجها عن مبناها ولا يخل بمعناها إن شاء الله:
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا، وبعث إلينا رسوله محمدا هاديا ومعلما. فأقام الحجة وأوضح المحجة وبين للناس ما نزل إليهم من ربهم أكمل بيان وأتمه، ولم يمت - عليه الصلاة والسلام - حتى بين لنا فروع الدين وأصوله فلا يضل عن هديه بعد ذلك إلا هالك، وربنا سبحانه وتعالى لم يجعل علينا في ديننا أي حرج بل جعل أموره سهلة مبسطة ميسرة، وأقام لأوقات العبادة دلائل واضحة لا يختص بمعرفتها فئة خاصة من الناس وإنما يشترك في معرفتها الخاصة والعامة ولم يقيدها بعلم دقيق غامض، بل أناط معرفتها بأمور محسوسة وكواكب سيارة يعرفها المتعلم والعامي ويهتدي بطلوعها وغروبها المكلفون جميعا وهذا من رحمة الله بعباده وإحسانه إليهم وجميل لطفه بهم فله الحمد والشكر على نعمه التي لا تعد ولا تحصى؛ إذ لم يجعل أمور عباداتنا معلقة على علوم دقيقة تفتقر إلى حساب وحدس وتخمين لما في ذلك من الحرج والعناء وحدوث الغلط والاضطراب وحصول الشك والقلق. .
وبعد. . فيا أخي المسلم. . إن الباعث لي على كتابة هذا الحديث هو ما تكرر من كتابات صحفية عند قرب مواسم العبادة الدورية أو قرب(27/93)
خروجها كالصيام والعيد والحج مما أوجد بلبلة وتساؤلات كثيرة وما كنت أرغب الكتابة في ذلك قبل الآن لعلمي أن ما حوته الكتب من علوم القرآن والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة فيه مقنع لطالب الحق، وأن العبرة بما جاء عن المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، ولكن الأمر في الآونة الأخيرة بدأ يتسع خرقه ويتفاقم خطبه. وصار الناس يجدون كتابات جازمة بأحكام صادرة عن غير ذوي الشأن المعنيين بالأمر وفيها تحد سافر وتشكيك في العبادة، وإعطاء الحساب المبني على الظن حكم القرآن ومتواتر السنة من قطعية الدلالة ووجوب رد الشهادة إذا خالفته رغم أن حذاق الحساب يجزمون بأنه لا يمكن أن يتوصل بالحساب إلى أمر قاطع ولا إلى دليل حاسم ومن يطالع أكثر ما كتب باعتناء وتجرد يجد ذلك ظاهرا لا لبس فيه، وقد كثر القول والتذمر من العامة والخاصة كما كثر ترديد عبارات قوية مثل: أما يوضع لهذا الاندفاع حد؟ أما يوقف الخوض فيما يربك العامة ويؤثر على نفوسهم؟ وقد يوجد بسبب أمثال هذه الكتابات من الاختلاف والفرقة ما يعم ضرره ويعظم خطره، مما أوجب الكتابة فيه مع أن أهل العلم قد تكرر منهم البيان وإيضاح الحكم الشرعي.
وتوالت كتابات شيخنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وغيره ثم إنه قد اتصل بي بعض من أرى رأيهم محل تقدير واهتمام ورغب إلي أن أقول شيئا في هذا الأمر وأكتب كتابة موسعة لعل الله أن ينفع بها، وكنت مترددا في ذلك وأخيرا انشرح صدري للكتابة وفضلت الاستجابة لرأيه وعزمه، وبما أن الأمر يتعلق بركن من أركان الإسلام بل بركنين هما: الصيام والحج فلا بد من الاهتداء بقول المبلغ عن الله رسالاته الذي لا ينطق عن الهوى، بل الكلام هو وحي يوحى وهو - عليه الصلاة والسلام - قد أوتي الكتاب ومثله معه، وكان أنصح الخلق وأبرهم فلم يتركنا(27/94)
نتخبط في ظلم الجهل ونتقارع بحجج الهوى بل أعطانا مصابيح كاشفة وهاجة لا يبقى معها شك أو ريبة لمنصف ينشد الحق ويسعى في طلبه.
وإليك أيها القارئ جملة منها وسأقتصر على ما في الصحيح؛ إذ القصد إعطاء القارئ الذي قد تكون أثرت عليه بعض تلك المقالات ما يبدد عنه غيومها ويزيل عنه آثارها لا سيما وقد اقترنت بذكر بعض أقطاب العلم ممن لهم في النفوس منزلة عالية، ولكن على فرض أن في بعض كلام أهل العلم ما يؤيد ما نشر فإن مما لا شك فيه أن العبرة والعمدة على ما قاله الله ورسوله وما عدا ذلك فيرد إليهما ويعرض على دلالتهما. قال الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (1) .
والمراد بالشهود رؤية الهلال كما هو المتبادر، وبه فسره أهل العلم العارفون بمدلول لغة القرآن وهم القدوة في ذلك لا من خالف إجماع السلف كما سوف يمر بك إن شاء الله.
ثم تأمل كلام الصادق المصدوق تجده فصلا في الموضوع واقعا على المحز ينجلي به عن القلب كل غمة وهاك ما وعدتك به:
قال الإمام البخاري (2) في صحيحه باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا (3) » حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن عبد الله - رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر رمضان فقال: «لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له (4) » .
حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين (5) » .
حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا محمد بن زياد قال سمعت أبا هريرة
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) صحيح البخاري (الفتح جـ4 ص119) .
(3) صحيح البخاري الصوم (1909) ، صحيح مسلم الصيام (1081) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2119) ، سنن ابن ماجه الصيام (1655) ، مسند أحمد بن حنبل (2/259) ، سنن الدارمي الصوم (1685) .
(4) صحيح البخاري الصوم (1906) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2121) ، سنن أبو داود الصوم (2319) ، مسند أحمد بن حنبل (2/63) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .
(5) صحيح البخاري الصوم (1907) ، موطأ مالك الصيام (634) .(27/95)
- رضي الله عنه - يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غبي عليكم فأكلموا عدة شعبان ثلاثين (1) » . حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا الأسود بن قيس حدثنا سعيد بن عمرو أنه سمع ابن عمر - رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين (2) » أهـ.
قال الحافظ في الفتح بعد كلام له على معنى الحديث. فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك - يعني الحساب- بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلا يوضحه قوله في الحديث الماضي فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين ولم يقل فاسألوا أهل الحساب. والحكمة في كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلفون فيرتفع الخلاف والنزاع. وقال (3) : ونقل ابن العربي عن ابن سريج أن قوله: فاقدروا له خطاب لمن خصه الله بهذا العلم وأن قوله فأكملوا العدة خطاب للعامة قال ابن العربي: فصار وجوب رمضان عنده مختلف الحال يجب على قوم بحساب الشمس والقمر وعلى آخرين بحساب العدد قال: وهذا بعيد عن النبلاء، يعني فكيف برسول رب العالمين. وقال ابن الصلاح: معرفة منازل القمر هي معرفة سير الأهلة، وأما معرفة الحساب فأمر دقيق يختص بمعرفته الآحاد قال فمعرفة منازل القمر تدرك بأمر محسوس يدركه من يراقب النجوم وهذا هو الذي أراده ابن سريج وقال به في حق العارف بها في خاصة نفسه ونقل الروياني عنه أنه لم يقل بوجوب ذلك عليه وإنما قال بجوازه. . الخ.
وقال (4) عن اعتبار الحساب: وقال ابن بزيزة: وهو مذهب باطل
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1909) .
(2) صحيح البخاري الصوم (1913) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2140) ، سنن أبو داود الصوم (2319) ، مسند أحمد بن حنبل (2/43) .
(3) صحيح البخاري (الفتح جـ4 ص122) .
(4) صحيح البخاري (الفتح جـ4 ص127) .(27/96)
فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم لأنها حدس وتخمين ليس فيها قطع ولا ظن غالب وقال - رحمه الله -: وقال ابن بطال: في الحديث يعني حديث إنا أمة أمية- رفع لمراعاة النجوم بقوانين التعديل وإنما المعول الرؤية وقد نهينا عن التكلف ولا شك أن في مراعاة ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون غاية التكلف أهـ. (بعض روايات الحديث في صحيح مسلم) .
وقال الإمام مسلم (1) : حدثني يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر رمضان فقال: «لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن أغمي عليكم فاقدروا له (2) » . حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ذكر رمضان فضرب بيديه فقال: الشهر هكذا وهكذا ثم عقد إبهامه في الثالثة، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن أغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين (3) » وساق أحاديث في هذا المعنى إلى أن قال- رحمه الله -: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا غندر عن شعبة وساق السند إلى ابن عمر - رضي الله عنهما- أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا (4) » وعقد الإبهام في الثالثة، "والشهر هكذا وهكذا وهكذا" يعني تمام الثلاثين.
وقال- رحمه الله- حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا إبراهيم بن سعد عن سعد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوما (5) » وساق- رحمه الله- روايات عدة في هذا المعنى.
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي جـ2 ص73، ط1283هـ
(2) صحيح البخاري الصوم (1906) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2121) ، سنن أبو داود الصوم (2319) ، مسند أحمد بن حنبل (2/63) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .
(3) سنن النسائي الصيام (2124) .
(4) صحيح البخاري الصوم (1913) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن أبو داود الصوم (2319) ، مسند أحمد بن حنبل (2/43) .
(5) صحيح البخاري الصوم (1909) ، صحيح مسلم الصيام (1081) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2119) ، سنن ابن ماجه الصيام (1655) ، مسند أحمد بن حنبل (2/259) ، سنن الدارمي الصوم (1685) .(27/97)
قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم: باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال وأنه إذا غم في أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوما.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن أغمي عليكم فاقدروا له (1) » وفي رواية: «فاقدروا له ثلاثين (2) » وفي رواية: «إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له (3) » وفي رواية: «فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوما (4) » وفي رواية: «فإن غمي عليكم فأكملوا العدد (5) » وفي رواية: «فإن غمي عليكم الشهر فعدوا ثلاثين (6) » وفي رواية: «فإن أغمي عليكم فعدوا ثلاثين (7) » . هذه الروايات كلها في الكتاب على هذا الترتيب. وفي رواية للبخاري: «فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين (8) » . واختلف العلماء في معنى «فاقدروا له (9) » فقالت طائفة من العلماء: معناه ضيقوا له وقدروه تحت السحاب وممن قال بهذا أحمد بن حنبل وغيره ممن يجوز صوم يوم ليلة الغيم عن رمضان كما سنذكره إن شاء الله تعالى. وقال ابن سريج وجماعة منهم مطرف بن عبد الله وابن قتيبة وآخرون معناه قدروه بحساب المنازل وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور السلف والخلف إلى أن معناه قدروا له تمام العدد ثلاثين يوما؟
قال أهل اللغة يقال قدرت الشيء أقدره وقدرته وأقدرته بمعنى واحد وهو من التقدير. قال الخطابي ومنه قوله تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} (10) .
واحتج الجمهور بالروايات المذكورة: فأكملوا العدة ثلاثين وهو تفسير لقوله قدروا له ولهذا لم يجتمعا في رواية بل تارة يذكر هذا، وتارة يذكر هذا ويؤكده الرواية السابقة فاقدروا له ثلاثين. قال المازري: حمل
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1906) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2121) ، سنن أبو داود الصوم (2319) ، مسند أحمد بن حنبل (2/63) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .
(2) صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن ابن ماجه الصيام (1654) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .
(3) صحيح البخاري الصوم (1909) ، صحيح مسلم الصيام (1081) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2119) ، سنن ابن ماجه الصيام (1655) ، مسند أحمد بن حنبل (2/259) ، سنن الدارمي الصوم (1685) .
(4) صحيح البخاري الصوم (1900) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2121) ، سنن أبو داود الصوم (2320) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .
(5) صحيح مسلم الصيام (1081) .
(6) صحيح مسلم الصيام (1081) ، سنن الدارمي الصوم (1685) .
(7) صحيح البخاري الصوم (1909) ، صحيح مسلم الصيام (1081) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2119) ، سنن ابن ماجه الصيام (1655) ، مسند أحمد بن حنبل (2/497) ، سنن الدارمي الصوم (1685) .
(8) صحيح البخاري الصوم (1909) .
(9) صحيح البخاري الصوم (1900) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2121) ، سنن أبو داود الصوم (2320) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .
(10) سورة المرسلات الآية 23(27/98)
جمهور الفقهاء قوله - صلى الله عليه وسلم - «فاقدروا له (1) » على أن المراد كمال العدة ثلاثين كما فسره في حديث آخر. قالوا ولا يجوز أن يكون المرالصحابةد به كلام المنجمين لأن الناس لو كلفوا به ضاق عليهم لأنه لا يعرفه إلا أفراد، والشرع إنما يعرف الناس بما يعرفه جماهيرهم والله أعلم.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - «فإن غم عليكم (2) » فمعناه حال بينكم وبينه غيم يقال غم وأغمي وغمي بتشديد الميم وتخفيفها والغين مضمومة فيهما ويقال غبي. . إلخ، انتهى من شرح النووي على صحيح مسلم وبهذا اكتفى بالنقل من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلاصته من شرح الحافظ في الفتح على البخاري وما أتبعته من أحاديث مسلم ومن شرح الإمام النووي الذي قال فيه السبكي صاحب المقولة الشاذة في رد الشهادة إذا خالفها الحساب أنه أي النووي محرر المذهب الشافعي وحسبه أنه صاحب المجموع والروضة وشرح صحيح مسلم وتهذيب الأسماء وغيرها.
وقال الحافظ (3) أيضا بعد نقل الخلاف في خصوص النظر في الحساب والمنازل فقال: وقال ابن الصباغ: أما بالحساب فلا يلزمه يعني الحاسب بلا خلاف بين أصحابنا قلت: ونقل ابن المنذر قبله الإجماع على ذلك فقال في الإشراف: صوم يوم الثلاثين من شعبان إذ لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة وقد صح عن أكثر الصحابة والتابعين كراهته هكذا أطلق ولم يفرق بين حاسب وغيره فمن فرق بينهما كان محجوجا بالإجماع قبله. أهـ.
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1900) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2121) ، سنن أبو داود الصوم (2320) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .
(2) صحيح البخاري الصوم (1900) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2121) ، سنن أبو داود الصوم (2320) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .
(3) صحيح البخاري (الفتح جـ4 ص123) .(27/99)
أخي القارئ. .
بعد هذه المقدمة النفيسة من كلام المعصوم - صلى الله عليه وسلم - يحسن بنا أن نفكر متجردين عن الهوى: ما الذي نجنيه من الكتابة عن الصيام وتكذيب شهود رؤية الهلال لأن الحساب قد دلنا على أن الشهر لن يهل أو أنه(27/99)
لم يولد؟ هل عندنا ذلك أثارة من علم ممن لا يرد قوله؟ أو أننا صدقنا نتيجة حسابنا إن كنا نحسن الحساب أو أننا وثقنا بخبر حاسب قال لنا ذلك مع افتقار خبره إلى مقومات قبول الخبر من الثقة والأمانة والخبرة الطويلة وتجربة صوابه دائما. . الخ. وعدم الاستغناء عنه بخبر من أمرنا الله بتصديقه وقبول أمره والوقوف عند نهيه والرضى بحكمه بدون أي تردد لأن الله عصمه وأيده. أما غيره من أهل الحساب فإن قدماءهم ومحدثيهم لا يدعون لأنفسهم العصمة ولم يسجلوا هذا في كتبهم ولو سجلوه لرد العلماء عليهم فكيف نسبغها عليهم بكل بساطة ودون مراعاة لما كان عليه سلفنا الصالح الذين هم أحرص على جمع الكلمة وتوحيد الأمة وكانوا أتقى لله وأبر وأفقه في العلم من غيرهم؛ والاقتداء بهم خير وفلاح وبر، وإن ترك قولهم لقول أهل الحساب ضلال وعقوق وإزراء بهم وما كانوا لذلك أهلا.
أخي القارئ:
إننا قد كفينا الأمر وإن هدي نبينا - صلى الله عليه وسلم - أمامنا فعلينا أن نوليه ما يستحقه من الاحترام والتقدير على كل قول أو رأي، إن علماء الأمة يقولون إن تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز فهل يليق بنا أن ننسب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إخفاء شيء من شرع الله أو أنه جهل بالرد إلى أمر نحن اهتدينا له، إن أمرا وسع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يجب أن يسعنا وسوف ترى أيها القارئ الكريم تفصيل القول في معنى وصف أمتنا بالأمية إن شاء الله تعالى.
إنني أعلم أن من كتب في صحفنا عن الرؤية وعدم صحتها لا ينسب لنفسه أنه اهتدى لما لم يهتد إليه محمد - صلى الله عليه وسلم - لأني أحسن الظن بهم من عرفته منهم ومن لم أعرفه. لكني أرى أنهم كلفوا أنفسهم تحمل حمل ثقيل ووقفوا بما كتبوه رادين لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدون قصد إذ(27/100)
لا يعقل أن مسلما يدين بالإسلام حقا يرضى أن يرد سنة رسول الله بحساب سوف نقرأ قول أصحابه عنه فيما يأتي إن شاء الله ونعرف بذلك ما تجشمه هؤلاء الكتاب هداهم الله وإيانا وبصرنا وإياهم بديننا إذ أن البصيرة في الدين من هدي سيد المرسلين.
إن أمة الإسلام مضى لها أكثر من أربعة عشر قرنا وأجمعت على عدم اعتبار الحساب في إثبات عبادة الصوم والحج وإذا وجد فرد قد شذ ردوا قوله ولم تقل بالحساب إلا طائفة الإسماعيلية الطائفة المعروفة ومن كان قريبا منها من الطوائف كما ذكر ذلك حفاظ الإسلام من القرون الأولى إلى من جاء بعدهم من الحفاظ وللفائدة وإزاحة لما قد يكون قد علق بالأذهان من جراء النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم في بعض كتابات من كتبوا مدعين في كتاباتهم بلا دليل شرعي خطأ الشهود الذين شهدوا بالرؤية وعن الكسوف ونعذر ظهور الهلال إذا وجد كسوف أقول: لقد أرشدنا سيد الرسل وخاتمهم إلى ما نعتبره من الكسوف فقال إذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة وقد رواه وغيره من أحاديث الكسوف عامة مخرجي السنة في كتاب الكسوف. وسكت عن الاقتران والافتراق، وسبب الكسوف والتجلي فلم يرتب على ذلك حكما سوى الصلاة حتى يكشف عنا. أيليق بنا أن نزيد ونقول ترد بذلك الشهادة ويحكم بكذب الشهود العدول الذين لا غرض لهم في ظاهر الأمر بل عليهم من المشقة والتعرض للمتاعب ما يعلمه من يتولى أخذ شهادتهم ومطالبتهم بإحضار من يشهد بعدالتهم وأمانتهم. ألم يقل ربنا جل وعلا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} (1) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 3(27/101)
ومع ذلك أيترك الله أمرا في منتهى الخطورة فلا يرشدنا إليه بكتاب ولا سنة إن هذا الظن بالله وبرسوله غير لائق ومن كتب عن الهلال لا شك أنه لم يرد لذهنه هذا الظن لكن كتابته تؤدي إليه فهل يرضى لنفسه ذلك؟ ثم تعال معي لنقرأ بعض كلام أهل العلم حول هذا الموضوع لتزداد طمأنينة بأن علماءنا الأجلاء بحثوا هذا الأمر بعلم وتقعيد وأرسوا لنا فيه قواعد متينة وليس ذلك قول طائفة واحدة منهم بل هو قول عامة علماء الأمة خلفا عن سلف.(27/102)
بعض أقوال أهل العلم:
ونبدأ بشيخ الإسلام ابن تيمية لأن بعض من كتب عن الهلال ورد الشهادة لمخالفة الحساب قد شوش على الناس بالنقل عنه فأحببت البدء به ولو كان من سبقه من أئمة الإسلام ردوا على من قال بالحساب وسفهوا رأيه وعدوه خالف الإجماع، قال- رحمه الله- بعد مقدمة عظيمة في كمال الدين ووجوب اتباع صراط الله المستقيم وأن الله أمرنا أن لا نكون كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات وأن الله أمرنا بالاعتصام بالدين وأنه يقع المتنازع في تفصيله، فتارة يكون بين العلماء المعتبرين في مسائل الاجتهاد، وتارة يتنازع فيه قوم جهال بالدين أو منافقون أو سماعون للمنافقين يقبلون منهم. . إلخ. وبسط الكلام في ذلك بمعان رائعة وألفاظ شائقة. ثم قال وكان مقتضى تقدم هذه المقدمة أني رأيت الناس في صومهم وفي غيره أيضا منهم من يصغي إلى ما يقوله بعض جهال أهل الحساب من أن الهلال يرى أو لا يرى ويبني على ذلك إما في باطنه وإما في باطنه وظاهره حتى بلغني أن من القضاة من كان يرد شهادة العدد من العدول لقول الحاسب الجاهل الكاذب أنه يرى(27/102)
أو لا يرى فيكون ممن كذب بالحق لما جاءه. ثم قال وفيهم يعني القضاة من لا يقبل قول المنجم لا في الباطن ولا في الظاهر لكن في قلبه حسيكة من ذلك وشبهة قوية من جهة أن الشريعة لم تلتفت إلى ذلك لا سيما إن كان قد عرف شيئا من حساب النيرين واجتماع القرصين ومفارقة أحدهما الآخر بعدد درجات وسبب الإهلال والإبدار والاستسرار والكسوف والخسوف.
ثم قال: فإنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يرى أو لا يرى لا يجوز والنصوص المستفيضة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك كثيرة وقد أجمع المسلمون عليه ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلا ولا خلاف حديث إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب. . وهذا القول وإن كان مقيدا بالإغمام ومختصا بالحاسب فهو شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه، فأما اتباع ذلك في الصحو أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم وقد يقارب هذا قول من يقول من الإسماعيلية بالعدد دون الهلال وبعضهم يروي عن جعفر الصادق جدولا يعمل عليه وهو الذي افتراه عليه عبد الله بن معاوية وهذه الأقوال خارجة عن دين الإسلام وقد برأ الله جعفرا منها ثم قال: وأنا إن شاء الله أبين ذلك وأوضح ما جاءت به الشريعة دليلا وتعليلا شرعا وعقلا. ثم سرد- رحمه الله- أحاديث كثيرة وقال: فهذه الأحاديث المستفيضة المتلقاة بالقبول دلت على أمور: أحدها أن قوله - صلى الله عليه وسلم - «إنا أمة(27/103)
أمية لا نكتب ولا نحسب (1) » هو خبر تضمن نهيا فإنه أخبر أن الأمة التي اتبعته هي الأمة الوسط أمة لا تكتب ولا تحسب فمن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم هذه الأمة فيكون قد فعل ما ليس من دينها والخروج عنها محرم منهي عنه فيكون الكتاب والحساب المذكوران منهيا عنهما.
وقال - رحمه الله -: فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا أيتها الأمة الأمية لا نكتب هذا الكتاب ولا نحسب هذا الحساب فعاد كلامه عليه السلام إلى نفي الحساب والكتاب فيما يتعلق بأيام الشهر الذي يستدل به على استسرار الهلال أو طلوعه ثم قال: لا نحتاج في أمر الهلال إلى كتاب ولا حساب إذ هو تارة كذلك وتارة كذلك - يعني تسعة وعشرين وثلاثين- والفارق بينهما الرؤية فقط ليس بينهما فرق آخر من كتاب ولا حساب كما سنبينه فإن أرباب الكتاب والحساب لا يقدرون على أن يضبطوا الرؤية بضبط مستمر وإنما يقربون ذلك فيصيبون تارة ويخطئون أخرى. وظهر بذلك أن الأمية المذكورة صفة مدح وكمال من وجوه: فمن جهة الاستغناء عن الكتاب والحساب بما هو أبين منه وأظهر وهو الهلال ومن جهة أن الكتاب والحساب هنا يدخلهما الغلط، وبعد كلام حول الحساب والجداول والتقويم والتعديل قال: ولهذا ما زال العلماء يعدون من خرج إلى ذلك قد أدخل في دين الإسلام ما ليس منه، إلى أن قال وما جاءت به الشريعة هو أكمل الأمور وأحسنها وأبينها وأصحها وأبعدها عن الاضطراب وذلك أن الهلال أمر مشهود مرئي بالإبصار. . ومن أصح المعلومات ما شوهد بالإبصار. . ثم ذكر أن الطريق لمعرفة الهلال الذي تتعلق به الأحكام مثل صيام رمضان الرؤية فقط بالسمع والعقل وسرد الأدلة على ذلك. أما أهل الحساب فقال عنهم- رحمه الله- بأن العقل يؤكد عدم انضباط حسابهم فذكر ما نصه: وأما العقل فاعلم أن المحققين من
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1913) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2140) ، سنن أبو داود الصوم (2319) ، مسند أحمد بن حنبل (2/43) .(27/104)
أهل الحساب كلهم متفقون على أنه لا يمكن ضبط الرؤية بحساب بحيث يحكم بأنه يرى لا محالة أو لا يرى البتة على وجه مطرد وإنما قد يتفق ذلك. قال ولهذا كان المعنيون بهذا الفن من الأمم الروم والهند والفرس إلى أن قال: ومثل بطليموس الذي هو مقدم هؤلاء ومن بعدهم قبل الإسلام وبعده لم ينسبوا إليه في الرؤية حرفا واحدا.
ثم قال فتبين أن قولهم في رؤية الهلال وفي الأحكام من باب واحد ويعلم بأدلة العقل امتناع ضبط ذلك. ويعلم بأدلة الشريعة تحريم ذلك والاستغناء عما نظن منفعته بما بعث الله به محمدا - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والحكمة وقال: والمعتمد على الحساب في الهلال كما أنه ضال في الشريعة مبتدع في الدين، فهو مخطئ في العقل وعلم الحساب، إلى أن قال عن الهلال: وقد يراه بعض الناس لثمان درجات وآخر لا يراه لاثنتي عشرة درجة. ولهذا تنازع أهل الحساب في قوس الرؤية تنازعا مضطربا وأئمتهم كبطليموس لم يتكلموا بذلك بحرف لأن ذلك لا يقوم عليه دليل حسابي. أ. هـ.(27/105)
أخي القارئ الكريم. .
لقد لخصت لك ونقلت من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ما بسطه في أكثر من مائة صفحة من كتاب الصيام (1) لنفاسته وليكف اندفاع بعض الكتاب الذين ذكروا أنهم اعتمدوا على بعض كلام شيخ الإسلام - رحمه الله- ومع تكريري إحسان الظن بهم إلا أني أقول لهم "ما هكذا يا سعد تورد الإبل" احرصوا على الانكفاف عما يثير ويشوش على الناس في عباداتهم وحسبكم سنة نبيكم المعصوم وهبوا أن شيخ الإسلام أو تلميذه ابن القيم أو خلافهما قال: إذا أكد الحساب عدم الرؤية
__________
(1) فتاوى ابن تيمية، جـ25، كتاب الصيام، ط حكومة المملكة العربية السعودية(27/105)
أو حصل كسوف ترد الشهادة لذلك فهل قال ذلك من لا يرد قوله المسدد بالوحي النازل عليه من السماء صباح مساء ومع ذلك فإن الشيخين- رحمهما الله- لم يقولا ترد الشهادة لذلك وقد برأهما الله من الإقدام على رد الشهادة الصحيحة لمجرد الحساب الذي حكى عنه الإمام شيخ الإسلام ما قربت لك بعضه ونقلت لك خلاصته وقد بين أن القول بالحساب قول الطائفة الإسماعيلية ومن نحا نحوها من الفرق التي هي على شاكلتها وإليك بعض كلام الأئمة الأعلام من سائر المذاهب وسوف ألحق ذلك ببعض كلام علماء الفلك المعاصرين إن شاء الله ليعلم أن قدماء الفلكيين ومتأخريهم لم يدعوا قطعية حسابهم فكانوا بذلك منصفين.
قال الحافظ العراقي (1) على حديث فإن غم عليكم فاقدروا له وذهبت فرقة ثالثة إلى أن معنى الحديث قدروه بحساب المنازل ونسب ذلك لمطرف بن عبد الله بن الشخير وابن سريج ورد ذلك الحافظ بن عبد البر وأنه لا يصح عن مطرف وأن من حكاه عن الشافعي فقد غلط، ونفى نسبته إليه وقال البغوي (2) على قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإن غم عليكم فاقدروا له (3) » معناه التقدير بإكمال العدد ثلاثين يقال قدرت الشيء أقدره قدرا بمعنى قدرته تقديرا ومنه قوله تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} (4) .
وذكر قول أهل الحساب ورده ثم قال وذهب عامة أهل العلم إلى أنه لا يصوم ولا يفطر إلا برؤية الهلال أو إكمال العدة ثلاثين. . ا. هـ.
ومثل (5) ذلك أي استنكار العمل بالحساب في عامة كتب فقه الشافعية والمالكية والأحناف والحنابلة قال ابن عابدين: لا عبرة بقول المؤقتين في وجوب الصوم ولا يعتبر قولهم بالإجماع ولا يجوز للمنجم
__________
(1) الحافظ العراقي، طرح التثريب، جـ4 ص112
(2) البغوي في شرح السنة، جـ6 ص231
(3) صحيح البخاري الصوم (1900) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2121) ، سنن أبو داود الصوم (2320) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .
(4) سورة المرسلات الآية 23
(5) البغوي في شرح السنة، جـ6 ص233(27/106)
أن يعمل بحساب نفسه ثم ذكر كلام السبكي في الحساب وهجنه وأن متأخري أصحابه ردوه عليه كابن حجر والرملي وغيرهم ونقل عن ابن دقيق العيد أن الحساب لا يجوز الاعتماد عليه. وفي شرح مسلم للأبي، والسنوسي على قوله - صلى الله عليه وسلم - «فاقدروا له (1) » قال لا يصح أن يكون المراد حساب المنجمين لأنه حدس وتخمين.
وروى (2) ابن نافع عن مالك في الإمام الذي يعتمد الحساب أنه لا يقتدى به ولا يتابع ونقل في شرح المرشد عن القرافي أنه لو كان إمام يرى الحساب فأثبت به الهلال لم يتبع لإجماع السلف على خلافه ونقل عن ابن عرفة إنكاره وعن ابن العربي أيضا.
وفي شرح رسالة ابن أبي زيد (3) على قوله فإن غم الهلال فيعد ثلاثون يوما من غرة الشهر الذي قبله ثم يصام وكذلك في الفطر. ظاهر كلامه أنه لا يلتفت إلى كلام المنجمين وهو كذلك ثم قال: وقال ابن الحاجب ولا يلتفت إلى قول المنجمين اتفاقا وسئل عليش عن رجل في زمانه اعتمد على حسابه في ثبوت رمضان وشوال ولم يعتبر رؤية الهلال بالبصر أهو ضلال فقال- رحمه الله- نعم هو ضلال تحرم موافقتهم فيه ويجب إنكاره والنهي عنه حسب الإمكان إذ هو هدم للدين ومصادم لحديث سيد المرسلين ثم نقل الإجماع على أنه لا يجوز لأحد أن يعول في صومه وفطره على الحساب ونقل عن ابن رشد الجد الإجماع على ذلك. . اهـ (4) .
وفي شرح الزرقاني والشرح الصغير أيضا أنه لا يثبت دخول الشهر بقول الحاسب وأن نفيه من باب أولى لا بحق نفسه ولا بحق غيره وقال قبله الأبي في شرح مسلم (5) على قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنا أمة أمية (6) » . . إلخ.
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1900) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2121) ، سنن أبو داود الصوم (2320) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .
(2) حاشية الرهوني، جـ2 ص342.
(3) شرح رسالة ابن أبي زيد، جـ1 ص291
(4) من فتح العلي المالك، كتاب الصيام
(5) شرح مسلم، جـ3 ص222
(6) صحيح البخاري الصوم (1913) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2140) ، سنن أبو داود الصوم (2319) ، مسند أحمد بن حنبل (2/43) .(27/107)
لم يصنع ذلك لأجل أنهم لا يكتبون ولا يحسبون لأنهم لا يجهلون الثلاثين والتسع والعشرين وإنما وصفهم بذلك سدا لباب الاعتداد بحساب المنجمين الذي تعتمده العجم في صومها وفطرها وفصولها ومثل ذلك قال السنوسي في شرح مسلم أيضا. . ا. هـ.
وقال العلامة سليمان الجمل (1) الشافعي عند قول زكريا: يجب صوم رمضان بإكمال شعبان ثلاثين يوما، فهم من كلامه عدم وجوبه بقول المنجم بل لا يجوز. قال ولو دل الحساب القطعي على عدم الرؤية ففيه اضطراب للمتأخرين، والراجح العمل بشهادة البينة، وقال لو دل الحساب على عدم الرؤية وانضم إلى ذلك أن القمر غاب الليلة الثالثة على مقتضى تلك الرؤية قبل دخول وقت العشاء- يعني لم يعمل بالحساب- لأن الشارع لم يعتمد الحساب بل ألغاه بالكلية وهو كذلك. . أ. هـ. وقال أيضا لأن الشارع إنما أوجب علينا الصيام بوجود الرؤية لا بوجود الشهر وقال (2) على قول زكريا أو ثبوتها في حق من لم يره. . الخ. شمل كلامه ما لو دل الحساب على عدم إمكان الرؤية وانضم إلى ذلك أن القمر غاب الليلة الثالثة على مقتضى تلك الرؤية قبل دخول وقت العشاء لأن الشارع لم يعتمد الحساب بل ألغاه بالكلية وهو كذلك كما أفتى به الوالد - رحمه الله -.
وقال أيضا: ولا يجوز اعتماد قول منجم وهو من يرى أن أول الشهر طلوع النجم الفلاني ولا قول حاسب وهو من يعتمد منازل القمر وتقدير سيره وفي فتاوى الرملي قريب من ذلك.
وقال ابن مفلح الحنبلي في الفروع في كتاب الصوم ومن صام بنجوم أو حساب لم يجزئه وإن أصاب ولا يحكم بطلوع الهلال بهما ولو كثرت
__________
(1) سليمان الجمل في حاشيته على شرح منهج الطلاب لزكريا الأنصاري، جـ2 ص304
(2) سليمان الجمل في حاشيته على شرح منهج الطلاب لزكريا الأنصاري، جـ2 ص306(27/108)
إصابتهما ومثله في غير هذا الكتاب من كتب المذهب وما بسطه شيخ الإسلام ابن تيمية فيه كفاية عن بقية كتب المذهب الحنبلي.
ومن المتأخرين الإمام الصنعاني قال رحمه الله (1) : أما حديث: «الفطر يوم يفطر الناس (2) » فما هو إلا إخبار بأنه يتحزب الناس أحزابا ويخالفون الهدي النبوي فطائفة تعمل بالحساب- يعني الباطنية - حتى دخل عالم من العلماء في ذلك. . إلخ.
وقال (3) : إن النص اشترط في لزوم الصوم أحد أمرين: إما الرؤية أو إكمال العدة إلى أن قال على قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنا أمة أمية (4) » . . إلخ. إنما وصفهم بذلك طرحا للاعتداد بالمنازل وطرق الحساب الذي تعول عليه الأعاجم في صومها وفطرها وفصلها. انتهى نقلا عن القاضي عياض ثم قال وأغرب ابن السبكي ثم نقل كلامه في الاعتداد بالحساب وأنه قطعي ورد عليه بقوله:
قلت هذه القطعية المدعاة إن أراد أنها قطعية عند الحاسب وسلمنا له ذلك فهو رجوع إلى قول بعض أكابر الشافعية أنه يختص بالحاسب وإن أراد أنه قطعي عند الحاسب وغيره فهذا باطل: ثم قال وما هذا وأشباهه إلا من شؤم علم الهيئة والنجوم الذي لم يأت عن الشارع حرف بصحته.
والشارع قد أوضح أوقات العبادة وأناطها بأظهر الواضحات أفترد الشهادة التي أمر الشارع بقبولها بقول الحاسب. . إلخ. أ. هـ.
وقال أبو الطيب صديق خان (5) على قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين (6) » قال: ولم يقل فاسألوا أهل الحساب، والحكمة كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلفون وقد ذهب قوم إلى الرجوع
__________
(1) الصنعاني، منحة الغفار على ضوء النهار، جـ1 ص423
(2) سنن الترمذي الصوم (802) .
(3) حاشية العدة على شرح عمدة الأحكام، جـ3 ص328 وما بعدها
(4) صحيح البخاري الصوم (1913) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2140) ، سنن أبو داود الصوم (2319) ، مسند أحمد بن حنبل (2/43) .
(5) أبو الطيب صديق خان، عون الباري شرح صحيح البخاري، كتاب الصوم
(6) صحيح البخاري الصوم (1907) .(27/109)
إلى أهل التسيير وهم من الفرق الضالة. . إلخ. . أ. هـ.
وقال صاحب مرعات المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1) بعد أن ذكر أن المعول على الرؤية: وذهب قوم إلى الرجوع إلى أهل التسيير في ذلك. . الخ. فرد كلامهم قال: وقال الباجي وإجماع السلف الصالح حجة عليهم وقال ابن بزيزة: هو مذهب باطل فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم لأنه حدس وتخمين ليس فيه قطع ولا ظن غالب. . أ. هـ. أقول: لقد أوضحت بما فيه الكفاية إن شاء الله.
ولو ذهبنا ننقل كلام فقهاء مذاهب علماء الأمصار في القديم لوجدنا أن القول برد الشهادة لقول الحاسب قول مردود كفانا السلف الصالح مؤنة معاناة رده وحكوا لنا الإجماع على ذلك وما وجد من شذوذ بعد الإجماع فهو مردود لا يعول عليه ويكفي أنه قول طائفة باطنية عدوة للإسلام والمسلمين وتسعى لهدم الملة الحنيفية فلا يليق بطالب علم أن يغتر بها أو بقول من انخدع بالحساب لمصادمة ذلك للسنة الصحيحة وإجماع السلف الصالح- رضي الله عنهم- والواجب أن يسعنا ما وسعهم وأن لا نبتدع في ديننا ما لم يأذن به الله سبحانه ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولم يؤثر عن الصحابة الكرام- رضي الله عنهم -.
__________
(1) مرقات المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، جـ2 ص209.(27/110)
أخي القارئ الكريم. .
هذه جمل من النقول أحببت تقريبها لك لتزداد اطمئنانا بهدي سلفك الصالح وأنهم ما كانوا غافلين ولكن منزلة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت عالية لا يمكن أن تزاحم في نفوسهم أو تعارض بأقوال أهل الحساب والتسيير والتعديل وثقتهم بها وبقائلها الذي لا يرد قوله ولا يزاحم بآراء الآخرين جعلت لهم ذلك الفهم وتلك المنزلة عند الله وعند عباده المؤمنين وقد حرصت أن أنقل لك خلاصة الموضوع وإلا فإن بسط ذلك(27/110)
يستدعي مني ومنك وقتا كثيرا ولكن حسبك من النور ما يضيء لك الطريق ويقيك العثار إن شاء الله. وإليك باختصار قول بعض الفلكيين المعاصرين وقد ألقيت نظرة على أكثر من عشرة مباحث في أكثر من عشرة كتب منها المترجم ومنها من ألفه عرب مسلمون ونحن بحمد الله مكتفون بما اكتفى به سلفنا الصالح من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عهدنا الحاضر وفي ظل دولتنا السعودية الباقية ولله الحمد على منهج السلف ولكن ننقل لك من كلام المختصين بعلم الفلك المعاصرين ما يبين أن دعوى القطعية في الحساب كما لم تكن مسلما بها عند حساب الأولين. فكذلك الحال عند المتأخرين. يقول الأمين محمد أحمد كعورة (1) : بعض العوامل المؤثرة في حركة القمر:
1 - التغيير في المدار الإهليجي للقمر دوريا أي حوالي 31. 8 يوما.
2 - التفاوت وهو تأثير يعجل بظهور الهلال والبدر قبل ميعادهم ويؤخر نصف القمر.
3 - التغير في بعد الأرض عن الشمس وبالتالي في بعد القمر عن الشمس ولذا تتأثر قوة جاذبية الشمس المؤثرة على القمر.
4 - التغير في تلاقي مدار القمر مع مدار الشمس.
5 - التغير في زاوية ميل القمر.
ونتيجة لهذه العوامل والتأثيرات تصبح حركة القمر والأرض والشمس معقدة للغاية لدرجة أن مواقع هذه الأجرام بالنسبة لبعضها البعض لا تتكرر أبدا. ولذا كان من المستحيل وضع تقويم مضبوط للسنة القمرية لأن الشهور القمرية تختلف من سنة لأخرى.
إن متوسط مدة الشهر القمري هي تسعة وعشرون يوما ونصف اليوم ولكن نتيجة لما ذكرنا عن عوامل التأثيرات فإن زمن الدورة قد يزيد
__________
(1) الأمين محمد أحمد كعورة، مبادئ الكونيات(27/111)
أو ينقص 13 ساعة. وبناء عليه يختلف مولد الأهلة من شهر لآخر فقد يظهر الهلال بعد 29 يوما أو بعد 30 يوما. وكما ذكرت فلا أعتقد أن هناك قاعدة يرتكز أو يعتمد عليها في معرفة عدد أيام الشهور القمرية وإن الاعتماد الأساسي لهو على الرؤية.
إن الشهور القمرية تلعب دورا كبيرا في حياة المسلمين. فشهر رمضان المكرم والحج والأعياد تعتمد على مولد القمر وأعتقد أنه من واجب المسلمين أن يهتموا أكثر بدراسة حركة القمر ورصد الأهلة بالطرق الحديثة أي رؤيتها بالمنظار أو المجهر الحديث.
رؤية الهلال: كثيرا ما اختلفت الدول الإسلامية في بداية ونهاية شهر رمضان بل إن رؤية هلال شهر رمضان أصبحت من المشاكل المزمنة التي لم يجد لها العالم الإسلامي حلا بعد، والسبب الأساسي في ذلك هو ما سبق أن ذكرت من أن حركة القمر معقدة للغاية ويكاد يكون في حكم المستحيل وضع تقويم مضبوط للشهور العربية لأن موقع الأرض والقمر والشمس لا يتكرر في فترات منتظمة. ثم قال:
إن الحل في رأيي لهذه المشكلة التي أساء الاختلاف فيها إلى سمعة العالم الإسلامي هو كالآتي:
أن يعتمد المسلمون على الرؤية وذلك يتمشى مع الدين كما جاء في الحديث الشريف. . إلخ. وهذا بعض كلام الكاتبين عن القمر وحالة إبداره وإسراره وإهلاله في العصر الحديث بعد تطور هذا العلم واختراع المراصد الدقيقة والأجهزة الفائقة والكواكب الدوارة في محيط الأرض أو خارج محيطها وهو يتوافق مع كلام حذاق الحساب المتقدمين. كما مر بك في ثنايا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره وبهذا وأمثاله من مواقف علماء الشريعة وعلماء الحساب تعلم أيها القارئ المصنف عظيم لطف الله بنا(27/112)
وسابغ فضله علينا إذ لم يجعل أمر ركنين من أركان ديننا مربوطا بحساب فيه لدى أهله من الاضطراب ما مر بك مع الجزم باستحالة وضع تقويم دقيق ثابت لحصول التغيرات الفلكية في أماكن القمر مما سبقت الإشارة إليه وما لم أذكره أكثر من ذلك.(27/113)
أخي القارئ الكريم
إن الكتابات باستحالة الرؤية أو بحتميتها أو احتمالها للقطع بوجود القمر في الأفق بناء على نتائج الحساب أو عدم وجوده قد ظهر أنه أمر تخرص تخميني. وأما الوجود القطعي فهو ما أخبر به الشارع في كتابه أو على لسان رسوله أو شاهده الناس مشاهدة تنفي الشك. ولقد مررت على كلام كثيرين من أهل العلم فوجدته لا يشير إلى القطعية بحال إلا من شذ وقد رد عليه علماء مذهبه وغيرهم قديما وحديثا والله يعفو عنا وعنه ولقد اطلعت أيضا على نتائج مجالس فقهية في مؤتمرات وجامعات وكنت شاركت في بعضها ولم يكن لدي أحد من هذه المجالس أي اعتبار لقطعية الحساب وأن الشهادة ترد لأجله. وقد مر بك أسماء علماء وتركت كثيرين جدا وحسبك أن أعدادا من فحول أهل العلم كابن المنذر وابن عبد البر وابن رشد الجد والباجي وابن تيمية وسواهم حكوا الإجماع على عدم اعتبار الحساب في إثبات الأهلة وحكموا بشذوذ من خالف في ذلك. إن محاولة حمل السنة على الحساب محاولة تعسفية وجور في الشريعة وخروج عن هدي المسلمين كما أن العزم على عدم الأخذ بالشهادة إذا خالفها الحساب أمر له خطورته على دين الشخص فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاعتماد على الرؤية ونهى عن الاعتماد على غيرها بقوله: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته (1) » . وقوله عليه السلام: «لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه (2) » أيليق بنا أن نقول بلسان الحال أو المقال "لا" وقد قال ربنا محذرا من مخالفة أوامر رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) .
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1909) ، صحيح مسلم الصيام (1081) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2117) ، مسند أحمد بن حنبل (2/497) ، سنن الدارمي الصوم (1685) .
(2) صحيح البخاري الصوم (1906) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2121) ، سنن أبو داود الصوم (2320) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .
(3) سورة النور الآية 63(27/114)
أليس الله أعلم بمصالح عباده؟ أليس رسوله عليه السلام بين للناس ما نزل إليهم من ربهم أكمل بيان ولم يترك أمرا دون ذلك إلا وأعطى عنه علما حتى جعل الناس في جلية من أمرهم فكيف يعقل أن يترك أمرا يتعلق بركنين من أركان الدين ويجعله في حال غير ثابتة: تارة بالهلال، وتارة بالحساب إذا علموا. ثم إن قل علمهم عادوا لأمر الرؤية لأن هذا لازم هذا القول فيكون المسلمون في تخبط مستمر في دينهم. وشرع الله يتنزه عن مثل ذلك ويجب على حملته تنزيهه وأخيرا أوجه القول لمن كتبوا معترضين على إثبات الرؤية وقد بلغني ولم أتحقق أن بعضهم كان في عام مضى صائما يوم أفطرنا ومفطرا يوم صمنا بناء على ظنه أن القمر لن يطلع في الأفق والله أعلم بذلك لكنها إن صحت زلته وأي زلة لما فيها من المشاقة التي قال الله عنها: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} (1) .
إذ أن رفض الأخذ بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشاقة ولو كان الشخص يرى أنه على حق إذ لو كان يشاق مع علمه بأنه على خطأ لكان ذلك كفرا والعياذ بالله وحاشاهم أن يكونوا فيما كتبوا كذلك. لكنها الثقة بأهل الحساب والاغترار بهم والانخداع ببعض ما يدركه أحدهم من علم الحساب وعدم الخبرة بمسالك البحث ومقاصد الشريعة أو لأمر آخر والله أعلم بالنيات ولكن سرعان ما تنكشف الأمور وتتجلي الحقائق ليبدو الشخص على حقيقته. ثم إني أقول عاتبا على الكاتبين والصحافة والمسؤولين عنها هلا إذا كان الحديث يتعلق بعامة المسلمين في الداخل والخارج هلا تفاهمتم مع أهل الشأن؟ هل صددتم عن ذلك؟ أو رفض طلبكم أو امتنع طالب العلم المسؤول عن الإيضاح عما كان أشكل؟
__________
(1) سورة النساء الآية 115(27/115)
أم تصورتم بعلمائكم أو بنا يا إخوانكم تبلدا وعدم غيرة على شعائر الدين؟ أظننتم أنكم بمثل هذه الكتابات أو بإفساح الصدور لها في صحفكم قد ساعدتم على التمسك بالشريعة والعقيدة وجمعتم قلوب الناس على أمر واحد وموالاة حميدة تدفع عن بلادكم كل دخيل وتجمع القلوب على التعاون على البر والتقوى وتجعل العمل في حدود منهج السلف. لقد كان الجدير بكم وبالمسؤولين عن الصحافة التروي قبل الولوج من باب فيه ضيق وحرج وبلبلة، وصراطه مزلة قدم، وكان من حق إخوانكم عليكم أن لا تنسبوهم إلى الجهل أو الاستهتار بشعائر الدين لأن هذا من لازم تلك الكتابات سواء منها ما كان هذا العام وما كان منها في أعوام مضت. إن طلبة العلم ما سكتوا عن الرد لعدم وجوده عندهم ولا لأن الموضوع ليس من الأهمية بمكان ولكن كان الظن أن يستدرك الكاتب على نفسه ويتراجع عن النزول إلى هوة سحيقة فيعدل إلى الاكتفاء بمن لهم في هذا الأمر مجال الاختصاص وإن رأى أن عنده ما ليس عندهم أرشدهم إليه وتعاون معهم على البر والإصلاح أو أن تتراجع الصحيفة نفسها وتمتنع من فتح صفحاتها للتشكيك وزرع الريبة في نفوس العامة. لأن لذلك آثاره الضارة على المجتمع كما كان الظن أن يتنبه لذلك من لهم النظر في أمر الصحافة. . أقول:
إني أعتب على أولئك وهؤلاء قديما قيل- ويبقى الود ما بقي العتاب- إن الدخول في أمر عام يتعلق بالعبادة التي يخاطب بها عموم الأمة في كل مكان وعلى مختلف مستوياتهم في العلم بمثل ذلك التشكيك والإقدام على الجزم بخطأ الناس في عملهم يثير استفهامات كثيرة ويبدي في الأذهان ويعيد ويحمل على البحث عن المقاصد وما وراء هذه الكتابات ورحم الله امرأ أعان على خير أو كف نفسه عما لا يعنيها. إن الإثارة والتعلق ببعض العلوم والفرح بها يرتب أخطارا كبيرة وبلاء عظيما وربما(27/116)
أثر على نفس الإنسان وعلى موقفه من عبادته فلا بد من اتهام الرأي أو مراجعته والتشاور وسؤال من له علم أو عليه مسؤولية قبل تجشم الموضوع بما يثير توجسات نحو من أثار تلك الزوبعات وهل وراءه من يدفعه؟ إذ إن تلك المواقف تدعو لذلك وتحمل على التساؤل عن الكاتب وأفكاره والصحيفة ومنهجها ودوافعها. ومع ذلك فإننا نحسن بهم الظن ونتمنى لهم التبصر والبصيرة ولنا كذلك، إذ الفقه في الدين والبصيرة فيه أعظم حصيلة يدركها المرء في هذه الحياة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الحديث المتفق عليه: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » ، ومن أراد الله به الخير فماذا يفوته بعد ذلك إذ الفقه في الدين كنز عظيم ونور يهتدي به المرء عند اختلاط الآراء واختلاف الأفهام نسأل الله أن يجعلنا وإخواننا من هؤلاء.
بقي أن أشير إلى أن العلماء لا يرون أي مانع من الأخذ بالرؤية عن طريق المرصد أو بالآلات الخاصة مع الأفراد أو الجماعات وبأي طريقة وإنما المهم أن تتحقق هذه الرؤية البصرية ومع ذلك فلا يجب التكلف والتمحل مادام أن رسولنا - صلى الله عليه وسلم - ندبنا إلى التيسير وحذرنا من التعسير والتنفير فقال في الحديث الصحيح: «إنما بعثتم ميسرين (2) » وقال لمعاذ وأبي موسى - رضي الله عنهما-: «يسرا ولا تعسرا (3) » وحذر من الاختلاف وبين أن الفطر يوم يفطر الناس والصوم يوم يصومون والأضحى يوم يضحون ومن هذا التوجيه العظيم أخذ أهل العلم- رحمهم الله- كثيرا من أحكام التيسر وفرعوا على ذلك صورا عديدة ليس المقام مقام ذكرها ولاشك أنه قد لا يرضى هذا الموقف من أهل العلم- رضي الله عنهم- بعض المتعالين ولكن عذرهم قائم كما قال الخليل:
جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذرتك
أو ما في معناه.
__________
(1) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(2) صحيح البخاري الوضوء (220) ، سنن الترمذي الطهارة (147) ، سنن النسائي الطهارة (56) ، سنن أبو داود الطهارة (380) ، مسند أحمد بن حنبل (2/239) .
(3) صحيح البخاري المغازي (4342) ، صحيح مسلم الأشربة (1733) ، مسند أحمد بن حنبل (4/417) .(27/117)
وأخيرا. . أرجو أن أكون قدمت للقارئ الكريم نبذا مفيدة ونصبت له منارا وعلامات يهتدي بها وأرجو من الله أن نكون جميعا من أهل الحق والإنصاف الذين يفرحون إذا أرشدوا لطريق الصواب:
{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} (1) .
وفي الختام. . فإن اتخاذ نتائج الحاسبين وحصول الكسوف والخسوف مفيدا علما قطعيا في إثبات الأهلة أو نفيها وبناء الأحكام الشرعية عليها تقول على الله وعلى رسوله والمؤمنين بغير علم وما هو إلا محاولة الظهور بمظهر التنور وعدم الجمود على ما قاله الأسلاف فهلا كان الظهور بما يقدم للأمة من حلول المشاكل الاقتصادية أو التقدم في ميادين طبية أو في مخترعات ترفع من شأن الأمة علميا كالذي فعل الغرب والشرق المتقدمان في هذا المجال مما يعود على أمتنا بالعز والسؤدد ويغنيها في مجال التصنيع عن الأمم الغربية والشرقية فهذا أجدى. . والله المستعان وهو الهادي إلى سواء السبيل. . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) سورة الحج الآية 24(27/118)
مصادر
النظم الإسلامية
إعداد الدكتور \ حسين مطاوع الترتوري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الهادي الأمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فهذا بحث في التعريف بمصادر النظم الإسلامية: الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدولية والقضائية والإدارية. وهذه المصادر هي القرآن الكريم والسنة النبوية والاجتهاد.
أولا: القرآن الكريم وفيه المباحث التالية:
الأول: تعريفه وجمعه.
الثاني: أنواع الأحكام التي اشتمل عليها.
الثالث: دلالة آياته.
الرابع: خصائص أحكامه.
تعريف القرآن وجمعه:
القرآن مصدر للفعل (قرأ) بمعنى جمع (1) . ويأتي القرآن بمعنى القراءة
__________
(1) انظر لسان العرب مادة (قرأ)(27/119)
ومن ذلك قوله تعالى:
{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (1) {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (2) {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (3) .
ويمكن أن نعرف القرآن بما يمتاز به ويبين خصائصه فنقول هو: كلام الله المعجز المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - بلسان عربي مبين، المتعبد بتلاوته، المكتوب في المصاحف من سورة الفاتحة إلى سورة الناس، المنقول إلينا بالتواتر.
وقد نزل القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منجما في ثلاث وعشرين سنة، ثلاث عشرة سنة بمكة وعشر سنين بالمدينة، قال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} (4) .
وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه القرآن حفظه وعلمه أصحابه ليحفظوه في صدورهم وليكتبوه بحسب طرق الكتابة المعروفة لديهم. فكان القرآن محفوظا في الصدور وفي السطور معا والأساس في حفظه في ذلك الوقت حفظه في الصدور لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته أميون قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} (5) .
ولعدم تيسر أدوات الكتابة في زمانهم، وهذه من مزايا أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - (6) .
ومن هنا كثر الصحابة الذين كانوا يحفظون القرآن ولا أدل على ذلك من أن قتلى معركة اليمامة من حفظة القرآن كانوا سبعين وقتلى بئر معونة كانوا مثلهم (7) .
واتخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - كتبة للوحي يكتبونه فيما تيسر لديهم من العسب
__________
(1) سورة القيامة الآية 16
(2) سورة القيامة الآية 17
(3) سورة القيامة الآية 18
(4) سورة الإسراء الآية 106
(5) سورة الجمعة الآية 2
(6) انظر دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة لموريس بوكاي ص 17 وما بعدها
(7) مناهل العرفان للزرقاني 1 \ 242(27/120)
واللخاف والرقاع وقطع الأديم وعظام الأكتاف والأضلاع، ويضعون ما يكتبون عند النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتبا في موضعه كما يأمرهم بذلك - صلى الله عليه وسلم -.
وفي الحديث عن ابن عباس أنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزلت عليه سورة دعا بعض من يكتب فقال: ضعوا هذه السورة في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا (1) » .
وكان ممن اتخذهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكتابة القرآن أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبان بن سعيد، وخالد بن الوليد، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت (2) .
وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقرآن محفوظ في صدور عدد كبير من الصحابة ومكتوب عند بعضهم.
وفي خلافة أبي بكر الصديق حصلت معركة اليمامة سنة اثنتي عشرة للهجرة بين المسلمين والمرتدين من أتباع مسيلمة الكذاب، واستشهد في هذه المعركة كثير من قراء الصحابة وحفظة القرآن، فهال ذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- وأقنع أبا بكر بضرورة جمع القرآن، وعهد أبو بكر بهذه المهمة لزيد بن ثابت - رضي الله عنهم أجمعين (3) .
وما فعله أبو بكر ليس استحداثا في الدين بل عمل بمصلحة وهي
__________
(1) مناهل العرفان للزرقاني 1 \ 247، إعجاز القرآن للرافعي ص32
(2) مناهل العرفان للزرقاني 1 \ 246
(3) انظر هذه القصة في صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن 6 \ 98(27/121)
حفظ الدين، وجمع القرآن وإن لم يرد به دليل جزئي يشهد له إلا أن هناك جملة نصوص وعدة أدلة شهدت لجنس هذه المصلحة، وهي حفظ الدين.
وحفظ القرآن الذي جمعه زيد بن ثابت في بيت أبي بكر الصديق إلى أن توفي سنة 13هجرية، وصارت الصحف بعده إلى أمير المؤمنين عمر إلى أن توفي سنة 23هجرية، ثم انتقلت الصحف إلى بيت حفصة بنت عمر أم المؤمنين ثم إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه.
وفي زمن عثمان - رضي الله عنه- انتشر الصحابة - رضوان الله عليهم - في الأمصار ينشرون دعوة الله ويعلمون الناس القرآن وأحكام الدين الإسلامي. وتأثر كل بلد بالصحابي أو الصحابة الذين وصلوه. فأهل العراق مثلا تأثروا بابن مسعود وعلي بن أبي طالب فأكثروا من الرأي والقياس عند عدم وجود النص. وكذا في قراءة القرآن تعلم كل أهل بلد القرآن من الصحابة الذين كانوا بينهم فأخذ أهل دمشق وحمص عن المقداد بن الأسود وأهل الكوفة عن ابن مسعود، وأهل البصرة عن أبي موسى الأشعري، وقرأ كثير من أهل الشام بقراءة أبي بن كعب.
وكان الصحابة الذين ذكروا أخذوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه كان بينهم اختلاف في حروف الأداء ووجوه القراءة وكلهم يقرأ ما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن اختلافهم هذا كان ضمن الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن. لكن أهل البلاد المفتوحة ما كانوا يعرفون هذه الأحرف السبعة حتى يتحاكموا إليها.
وكان يتجمع في بعض الغزوات كثير من المسلمين بعضهم يقرأ قراءة لم يتعلمها الآخر وظهر هذا جليا في غزوة أرمينية وخشي حذيفة بن اليمان أن يختلف المسلمون ففزع إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه- واقترح عليه جمع القرآن وشرح الله صدر عثمان لاقتراح(27/122)
حذيفة (1) .
وعهد أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه- في نسخ المصاحف وجمعها إلى زيد بن ثابت من الأنصار وإلى عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام (2) من قريش، وكان الأربعة من خيرة الصحابة وثقات الحفاظ وكان زيد أيضا ممن شهد عرضة القرآن الأخيرة. وما كان هؤلاء الصحابة الأربعة رضوان الله عليهم يكتبون شيئا حتى يعرضوه على الصحابة فيقروه على أنه أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وهكذا جمع القرآن في زمن عثمان وأرسل- رضي الله عنه- منه نسخا للأمصار وبقي القرآن محفوظا في السطور وفي الصدور إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وصدق الله القائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (3) .
__________
(1) انظر قصة حذيفة مع أمير المؤمنين عثمان في صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن 6 \ 99
(2) انظر صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن 6 \ 99
(3) سورة الحجر الآية 9(27/123)
أنواع الأحكام التي اشتمل عليها القرآن:
اشتمل القرآن على جملة من الأحكام التشريعية تنظم كافة مناحي الحياة، فهي تنظم علاقة الإنسان مع ربه ومع نفسه ومع الآخرين وتبين سر الوجود وحقيقة الكون ووظيفة الإنسان في الحياة.
والأحكام التي اشتمل عليها القرآن الكريم ثلاثة أنواع:
1 - الأحكام العقدية: وهي الإلهيات (1) والنبوات (2) والسمعيات.
2 - الأحكام الخلقية: وهي الأحكام التي تتعلق بما يجب على المكلف
__________
(1) وهي الأمور التي يبحث فيها إثبات وجود الله وأسمائه وصفاته وما يتصل بذلك
(2) وهي الأمور التي يبحث فيها عن الوحي والنبوة والرسالة وما يتصل بها من مباحث(27/123)
التحلي به من الفضائل والإحسان وما يجب أن يتخلى عنه من الرذائل والشرور.
3 - الأحكام العملية: وتتعلق بما يصدر من المكلف من أقوال أو أفعال بحيث يكون لكل قول أو فعل يقوم به المكلف حكم شرعي.
والهدف من دراسة علم الفقه هو الوصول إلى تلك الأحكام الشرعية العملية وهي التي اصطلح عليها مؤخرا بالأحكام الفقهية:
وهذه الأحكام الفقهية تنقسم إلى سبع (1) زمر:
1 - أحكام العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج ونحوها من العبادات التي بها تنظيم علاقة الإنسان بربه.
2 - أحكام الأحوال الشخصية وهي التي تتعلق بالأسرة من خطبة ونكاح وحقوق زوجين ونسب ونفقة وطلاق وعدة.
3 - أحكام المعاملات وهي الأحكام التي تتعلق بالبيع والشراء والرهن والإجارة والوكالة والشفعة وما يترتب عليها من حقوق مالية.
4 - أحكام العقوبات وتتعلق بما يصدر عن المكلف من جرائم وما يستحق عليها من عقوبة وهي التي تقصد ضبط النظام الداخلي وحفظ حياة الناس وأموالهم وأعراضهم.
5 - أحكام السير- بكسر السين وفتح الياء- وهي الأحكام التي تنظم علاقة الدول الإسلامية بغيرها من الدول ومعاملة غير المسلمين في الدولة الإسلامية وتسمى هذه الأحكام في الاصطلاح القانوني: الأحكام الدولية.
__________
(1) المدخل الفقهي للأستاذ مصطفى الزرقا 1 \ 55- 56، علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف ص 22- 33.(27/124)
6 - الأحكام السلطانية أو أحكام السياسة الشرعية وهي التي تتعلق بنظام الحكم وأصوله وسلطان الحاكم على الرعية وحقوق وواجبات كل فريق، وتسمى هذه الأحكام في الاصطلاح القانوني: الأحكام الدستورية.
7 - الأحكام التي تتعلق بالقضاء والدعوى والبينة وتسمى في الاصطلاح القانوني: أحكام المرافعات.
وأود أن أشير هنا إلى أن هذه القسمة لم تظهر إلا متأخرة ولم يكن الهدف منها إلا التنظيم وتسهيل الدراسة على الباحثين وإلا فإنه ليس في التصور الإسلامي نشاط إنساني لا ينطبق عليه معنى العبادة بل إن غاية الوجود الإنساني في الحياة هي تحقيق العبودية لله سبحانه امتثالا لقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) .
كما أن الأحكام الخلقية تتداخل مع الأحكام العملية فإن الأمانة والوفاء بالوعد والصدق أخلاق يجب على المسلم التحلي بها والخيانة والغدر والكذب أخلاق يجب على المسلم الإقلاع عنها.
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56(27/125)
دلالة آيات القرآن:
قد تكون آيات القرآن الكريم قطعية الدلالة وقد تكون ظنية الدلالة. فإذا كانت الآية تدل على معنى ولا تحتمل غيره كانت قطعية الدلالة وإذا كانت تدل على معنيين أو أكثر كانت ظنية الدلالة.
ففي قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} (1) .
لفظ (اثنا عشر) قطعي الدلالة لا يفهم منه أقل أو أكثر من ذلك، وكذلك لفظ (أربعة) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 36(27/125)
وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (1) . ظني الدلالة من وجهين:
الأول: يحتمل أن يراد بها سارق القليل أو الكثير وهذا ما ذهب إليه ابن حزم الظاهري (2) .
ويحتمل أن يراد بها سارق النصاب فلا تقطع يد من سرق دون النصاب وهذا مذهب الأئمة الأربعة وهو الصحيح لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا (3) » .
الثاني: الآية تحتمل أن يراد بها قطع يد السارق من الكتف أو المرفق أو مفصل الكف، والصحيح الاحتمال الأخير لدلالة فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - (4) .
وقد تكون الآية الواحدة قطعية الدلالة من وجه وظنية الدلالة من وجه آخر مثال ذلك قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (5) .
فالآية قطعية في دلالتها على عدد الجلدات (المائة) وظنية الدلالة من جهة أخرى فإن لفظ (الزانية) عام يشمل المحصنة وغير المحصنة وكذا لفظ (الزاني) عام يشمل المحصن وغير المحصن وثبت بالدليل أن الآية خاصة بغير المحصنين. أما من أحصن أو أحصنت فعقوبتهما الرجم لقول الرسول - عليه الصلاة والسلام -: «والثيب بالثيب جلد مائة والرجم (6) » .
__________
(1) سورة المائدة الآية 38
(2) المحلى لابن حزم 13 \ 350
(3) رواه البخاري في كتاب الحدود باب قوله تعالى: (والسارق والسارقة) 8 \ 16 - 17
(4) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6 \ 171
(5) سورة النور الآية 2
(6) رواه مسلم في كتاب الحدود باب حد الزنى 3 \ 1316(27/126)
خصائص أحكام القرآن الكريم:
لأحكام القرآن خصائص كثيرة سأقتصر على ذكر خاصيتين منها:
الأولى: المرونة والصلاحية لكل زمان ومكان.
الثانية: اليسر ورفع الحرج.
المرونة والصلاحية لكل زمان ومكان:
وأعني بالمرونة هنا المقدرة على إعطاء الحلول لكل مشكلة تطرأ في حياة الناس في كل بيئة وعصر وبيان حكم الشرع في كل نازلة تستجد.
والسر في مرونة الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان أن الإسلام جاء بقواعد كلية وقيم ومبادئ ثابتة لا تتغير ولا تتبدل ثم وجه العلماء للنظر والاجتهاد في المسائل والحوادث الجزئية التي تستجد في إطار هذه القواعد والمبادئ ومن هنا لا تستجد مسألة إلا ولها حكم في الشريعة (1) .
وقد يظن إنسان أن أحكام الإسلام تتغير وتتبدل بتبدل الأزمان والبيئات ويؤيد ظنه هذا بالقاعدة الفقهية: (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان) (2) .
وهذه القاعدة ليست على عمومها وإطلاقها فالأحكام التي تتغير بتغير الأزمان هي الأحكام الاجتهادية التي لا نص فيها بل دليلها القياس أو المصلحة. أما القواعد الكلية والمبادئ العامة والأحكام الجزئية التي ورد فيها نص فإنها لا تتغير ولا تتبدل كوجوب أداء الأمانات إلى أهلها ووجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووجوب رد المظالم إلى أهلها وحرمة السرقة والغش والربا وحرمة بيع المسلم على بيع أخيه فإن هذا كله لا يدخله التغيير أو التبديل لكن قد تتغير الوسائل وأساليب التطبيق.
__________
(1) وأعني بذلك: الوجوب أو الندب أو الإباحة أو الكراهة أو الحرمة
(2) انظر درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر 1 \ 43(27/127)
فوسيلة حماية الحقوق هي القضاء وهذا لا يتغير ولا يتبدل لكن هل يتولى الأمر قاض واحد أو أكثر فهذا مما يمكن أن يندرج تحت القاعدة المذكورة فيتغير بتغير الأزمان فيجعل ثلاثة قضاة بدلا من واحد لفساد ذمم الناس.
ومن أمثلة ذلك أيضا أن الإسلام جاء بمبدأ عام في الشورى فقال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (1) . وقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (2) .
فهاتان الآيتان قررتا حكما وهو مشروعية الشورى ووجوبها، لكن جاءت بأسلوب مرن بحيث يمكن أن يتغير أسلوب الشورى من عصر إلى عصر فلم يكن في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - أناس متفرغون لهذا الأمر ويمكن في عصرنا أن يخصص ولي الأمر عددا من العلماء ويفرغهم للمشورة وهذا لا يعني تغيير الحكم وإنما الذي تغير وسيلة التطبيق وهذا كله انطلاقا من اختيار الوسيلة التي تحقق المقصد الشرعي للحكم وهو جلب مصلحة أو تكميلها أو دفع مفسدة أو تقليلها (3) .
ومن أمثلة الأحكام التي يمكن أن تتغير تبعا لتغير عرف الناس لاختلاف الأزمان والبيئات: (4) :
1 - تقسيم مهر المرأة إلى معجل ومؤجل في الزواج ومقدار كل قسم إذا لم ينص عليه في عقد الزواج يحكم فيه العرف. وهذا قد يتغير من زمان لآخر ومن مكان لآخر.
2 - تضمين الوديع الوديعة بالتعدي أو التقصير وهذا الحكم لا يتغير ولا يتبدل. لكن يرجع إلى العرف لتحديد معنى التعدي أو
__________
(1) سورة الشورى الآية 38
(2) سورة آل عمران الآية 159
(3) انظر المدخل الفقهي للزرقا 2 \ 925
(4) انظر المدخل الفقهي للزرقا 1 \ 136، وانظر درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1 \ 43(27/128)
التقصير في الحفظ وهذا يختلف باختلاف الأزمان والأماكن.
3 - إعطاء البائع والمشتري خيار الرد للعيب وهذا حكم ثابت لا يتبدل أما ما يعد عيبا وما لا يعد فهذا يتغير بتغير الأزمان والأماكن.(27/129)
اليسر ورفع الحرج:
وهذا مبدأ عظيم في الشريعة شامل لجميع الأحكام الشرعية لا يقتصر على باب دون باب وهو وسيلة تعين على تحقيق الهدف الذي من أجله خلق الله الإنسان ألا وهو عبادة الله وذلك بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
وقد وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم قررت مبدأ اليسر ورفع الحرج منها:
1 - قال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1) .
2 - قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) .
3 - قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} (3) .
4 - قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} (4) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) سورة التوبة الآية 91
(3) سورة الحج الآية 78
(4) سورة النور الآية 61(27/129)
5 - قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} (1) {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} (2) .
واليسر ورفع الحرج في الشريعة الإسلامية راجع إلى الوسطية والاعتدال في الدين الإسلامي الثابت بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (3)
وكلما كان العمل بعيدا عن الإفراط والتفريط وافق أحكام الشرع.
والحرج الذي نصت الآيات المذكورة على رفعه هو كل أمر أدى إلى مشقة زائدة في البدن أو النفس أو المال حالا أو مآلا (4) . أما ما كان فيه مشقة معتادة فإنه لا حرج فيه لأنه لا يخلو حكم تكليفي من نوع مشقة لكنها محتملة ومن هنا سمي الحكم تكليفيا بل حتى المتع الدنيوية المحضة لا بد فيها من نوع مشقة فمن أراد أن يذهب في رحلة هو أولاده يلزمه إعداد الطعام والشراب ووسيلة النقل وتهيئة مكان مناسب. . إلى غير ذلك. إلا أنه يجب أن نلاحظ أن المشقة غير مقصودة في الفعل لذاتها بل المقصود امتثال ما أمرنا الله به واجتناب ما نهانا عنه ولعل الحكمة من اشتمال الفعل على نوع مشقة لتحقق الابتلاء ليتميز المطيع من العاصي والمحسن من المسئ كما أن في ذلك نوع تربية للنفس والبدن.
وإذا رافق الفعل مشقة زائدة فإن هذه المشقة تدفع بعد النظر في سببها. فإن كانت من الفعل ذاته سقط وجوب الفعل أو حرمته إلى حين زوال المشقة. فلا يجب الصيام على المسافر ولا يجب الجهاد على الأعمى
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 37
(2) سورة الأحزاب الآية 38
(3) سورة البقرة الآية 143
(4) رفع الحرج، د. صالح بن حميد، ص48.(27/130)
والمريض والأعرج وتسقط حرمة الكفر عن المكره على النطق بها وتسقط حرمة أكل الميتة للمضطر.
وأما إذا لحق الفعل مشقة بفعل المكلف واختياره فقد نهاه الشارع عن ذلك كالنهي عن صوم الوصال وعن الرهبنة.
والخصائص التشريعية التي جاء بها القرآن وأكدها رسول الله - عليه الصلاة والسلام - هي التي جعلت العلماء من غير المسلمين يقفون في مؤتمراتهم الحقوقية وفي مجتمعاتهم الدولية يقرون بعظمة الإسلام وقيمة أحكامه التشريعية. ففي المؤتمر الذي عقدته شعبة الحقوق الشرقية في المجمع الدولي للحقوق المقارنة في كلية الحقوق في جامعة باريس للبحث في الفقه الإسلامي سنة 1951م: يقرر المؤتمرون في نهاية المؤتمر بالإجماع أن مبادئ الفقه الإسلامي لها قيمة حقوقية تشريعية لا يمارى فيها (1) .
__________
(1) انظر من روائع القرن. د. البوطي ص159، المدخل الفقهي العام للأستاذ الزرقا 1 \ 7- 8.(27/131)
ثانيا:
السنة النبوية وفيها المباحث التالية:
الأول: تعريف السنة في اللغة والاصطلاح.
الثاني: تدوين السنة وثبوتها.
الثالث: حجية السنة.
الرابع: منزلة السنة من القرآن من جهة ما ورد بها من أحكام.
تعريف السنة في اللغة والاصطلاح:
السنة في اللغة: الطريقة والسيرة حميدة كانت أو ذميمة، والجمع سنن ومن ذلك حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله(27/131)
أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء (1) » .
وتطلق السنة في الاصطلاح على عدة معان: (2) :
1 - تطلق على ما يقابل القرآن، ومن ذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة (3) » .
2 - وتطلق على ما يقابل البدعة فيقال: أهل السنة وأهل البدعة.
3 - وتطلق عند المحدثين على ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خلقية وما يتصل بالرسالة من أحواله الشريفة قبل البعثة ونحو ذلك.
4 - وهي عند الفقهاء من الأحكام الخمسة: الفرض، السنة، الحرام، المكروه، المباح.
وربما لا يراد بها إلا ما يقابل الفرض، كقولنا: فروض الوضوء وسننه فإنه لا يقابل بها الحرام والمكروه في هذا الموطن.
5 - وتطلق عند الأصوليين على ما صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير (4) .
6 - وتطلق السنة على ما عمل به الصحابة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (5) ومن ذلك قول النبي «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ (6) » .
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة 2 \ 705.
(2) شرح الكوكب المنير، لابن النجار 2 \ 159، وما بعدها. الموافقات للشاطبي 4 \ 4- 5.
(3) جزء من حديث رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة 1 \ 465.
(4) مسلم الثبوت، لمحب الله بن عبد الشكور 2 \ 97.
(5) الموافقات للشاطبي 4 \ 4 - 5.
(6) جزء من حديث رواه أبو داود في كتاب السنة، باب في لزوم السنة 4 \ 200- 201.(27/132)
- السنة القولية كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه (1) » .
- وأما السنة الفعلية فهي ما صدر عنه - صلى الله عليه وسلم - من أفعال. . . مثال ذلك: صلاته وحجه المبينة لمجمل القرآن، ومثاله: قضاؤه - صلى الله عليه وسلم - بشاهد ويمين في الأموال.
- وأما السنة التقريرية فهي: ما صدر عن صحابي أو أكثر من أقوال أو أفعال علم بها - عليه الصلاة والسلام - فسكت عنها ولم ينكرها، أو وافقها وأظهر استحسانه لها.
مثالها: أكل الصحابة الضب على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر عليهم ذلك (2) .
- وأما مثال الوصف الخلقي: فما رواه البخاري عن أنس بن مالك قال: «لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - سبابا ولا فحاشا ولا لعانا وكان يقول لأحدنا عند المعتبة: ما له ترب جبينه (3) » .
- ومثال الوصف الخلقي: ما رواه البخاري عن أنس قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس بالطويل البائن ولا بالقصير (4) » .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي 1 \ 2.
(2) رواه البخاري في كتاب الأطعمة، باب الأقط 6 \ 202.
(3) رواه البخاري في كتاب الأدب باب لم يكن النبي فاحشا ولا متفحشا 7 \ 80.
(4) رواه البخاري في اللباس باب الجعد 7 \ 58.(27/133)
تدوين السنة وثبوتها:
كما حفظ الله سبحانه لهذه الأمة قرآنها حفظ الله لها سنة نبيها يقول الله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) .
والذكر في الآية يشتمل القرآن والسنة قال ابن حزم (فصح أن كلام
__________
(1) سورة الحجر الآية 9(27/133)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كله في الدين وحي من عند الله عز وجل ولا شك في ذلك، ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله تعالى فهو ذكر منزل، فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين. . لا سبيل البتة إلى ضياع شيء قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدين ولا سبيل البتة أن يختلط به باطل موضوع اختلاطا لا يتميز عن أحد من الناس بيقين إذ لو جاز ذلك لكان الذكر غير محفوظ) (1) .
وقد حفظ الصحابة - رضي الله عنهم - سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدورهم وكان بعضهم يكتب بعض الأحاديث وكانوا يتمتعون بقوة ذاكرة مكنتهم من حفظ الكتاب والسنة. وما قيل إن الصحابة لم يدونوا السنة وقد نهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي- قال همام: أحسبه قال- متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (2) » يتعارض مع ما ثبت عن الصحابة - رضي الله عنهم - من كتابة السنة كما يتعارض مع أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابة السنة في بعض الأحيان فمن ذلك:
1 - «أن رجلا من اليمن طلب من الصحابة يوم فتح مكة أن يكتبوا له خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - فوافق - صلى الله عليه وسلم - على ذلك وقال: اكتبوا لأبي شاه (3) » .
2 - عن أبي هريرة قال: (ما من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد أكثر حديثا
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 1 \ 114- 115.
(2) رواه مسلم في كتاب الزهد باب التثبت في الحديث 4 \ 2298- 2299. ولم يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن كتابة السنة إلا حديث أبي سعيد في إحدى طريقيه ثم إن العلماء اختلفوا في رفع هذا الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو وقفه على أبي سعيد. أما الطريق الآخر عن أبي سعيد فإنها منكرة. وأما حديث أبي هريرة وزيد بن ثابت في النهي عن كتابة السنة فإنها لم تصح. انظر دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه د. الأعظمي ص76- 87.
(3) رواه البخاري في كتاب العلم باب كتابة العلم 1 \ 36 وفي رواية البخاري '' اكتبوا لأبي فلان ''(27/134)
عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب) (1) .
3 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في مرض موته: «ائتوني أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي (2) » وغير ذلك كثير.
ونحن أمام تعارض ظاهري بين حديث أبي سعيد الذي ينهى عن تدوين السنة وبين الأحاديث الأخرى التي تأمر أو تأذن بكتابة السنة وقد دفع العلماء هذا التعارض من عدة وجوه:
الأول: قالوا: إن أحاديث الأمر بكتابة السنة ناسخة لحديث أبي سعيد المانع من كتابة السنة لأن حديث أبي شاه كان في آخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - فحتى لا يختلط القرآن بالسنة في أول الأمر نهاهم عليه السلام عن تدوين السنة.
الثاني: يحمل حديث أبي سعيد على حالة معينة وهي كتابة السنة مع القرآن على ورق واحد حتى لا يختلط القرآن بالسنة.
الثالث: يحمل حديث أبي سعيد على من هو ضابط وموثوق الحفظ فهذا يغنيه ضبطه وحفظه عن تدوين السنة
__________
(1) رواه البخاري في كتاب العلم باب كتابة العلم 1 \ 36.
(2) جزء من حديث رواه مسلم في كتاب الوصية باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه 3 \ 1257- 1258.(27/136)
وتحمل أحاديث الإذن أو الأمر بكتابة السنة على من لا يوثق بحفظه.
الرابع: يحمل حديث أبي سعيد على النهي عن تدوين كل السنة لما في ذلك من مشقة، وأما الأحاديث المجيزة فتحمل على جواز تدوين بعض السنة وبشكل فردي.
وخلاصة القول أن السنة حفظت زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته في الصدور ودون بعضها في السطور.
وبعد عصر الصحابة بذل العلماء جهودا كبيرة في التثبت من صحة الأحاديث عن طريق دراسة سند الحديث ومتنه دراسة دقيقة. ودراسة السند من العلوم التي اختصت بها الأمة الإسلامية وهو علم هام يتوقف عليه قبول الحديث أو رده قال علي بن المديني (معرفة الرجال نصف العلم) (1) .
وقد بدأ الاهتمام بدراسة سند الحديث في أعقاب الفتنة التي بدأت زمن عثمان - رضي الله عنه -. ومع بداية القرن الثاني الهجري التزم المحدثون بالسند - قال ابن سيرين -[توفي سنة 110هـ] : (لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم) (2) .
وقد ظهر اهتمام علماء الحديث بسند الحديث من خلال التزامهم بإسناد الأحاديث التي جمعوها في كتبهم وكان هذا في النصف الأول من القرن الثاني الهجري وقد أطلق على هذه الكتب اسم المسانيد التي وصل إلينا بعضها مثل مسند معمر بن راشد - توفي سنة 152هـ - ومسند الطيالسي - توفي سنة 204 - وقد كونت هذه المسانيد مادة
__________
(1) رواه مسلم في المقدمة باب بيان أن الإسناد من الدين. 1 \ 15.
(2) رواه مسلم في المقدمة باب بيان أن الإسناد من الدين. 1 \ 15.(27/136)
أساسية اعتمد عليها أصحاب الكتب الستة التي ظهرت خلال القرن الثالث الهجري والتي التزم أصحابها بذكر الأسانيد (1) . وهذه الكتب الستة هي (2) :
1 - صحيح البخاري - توفي سنة 256هـ- جمع فيه ألفين وستمائة وحديثين موصولة بلا تكرار انتقاها من ستمائة ألف حديث (3) . ويعتبر أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل عند جمهور العلماء.
2 - صحيح مسلم - توفي سنة 261هـ- يعتبر في المرتبة الثانية بعد صحيح البخاري جمع فيه أربعة آلاف حديث سوى المكرر (4) .
3 - سنن أبي داود - توفي سنة 275هـ- جمع فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث انتقاها من خمسمائة ألف حديث. خرج أبو داود في سننه الصحيح والحسن والضعيف والمحتمل وإن كان في الحديث وهن شديد نبه عليه (5) .
4 - جامع الترمذي - توفي سنة 279هـ- جمع فيه ثلاثة آلاف وتسعمائة وستة وخمسين حديثا فيها الصحيح والحسن والضعيف والغريب والمعلل وأبان علته (6) .
5 - سنن النسائي - توفي سنة 303هـ- وقد ألف النسائي السنن الكبرى والسنن الصغرى ويسمى الأخير المجتبي وهو المطبوع كاملا من الكتابين. جمع النسائي في السنن الصغرى خمسة آلاف وسبعمائة وواحدا وستين حديثا منها الصحيح والحسن والضعيف لكن الضعيف فيه قليل بالنسبة لبقية كتب السنن (7) .
__________
(1) انظر بحوث في تاريخ السنة المشرفة د. أكرم العمري ص56
(2) انظر بحوث في تاريخ السنة المشرفة د. أكرم العمري ص242- 252.
(3) هدي الساري مقدمة فتح الباري لابن حجر ص7
(4) علوم الحديث لابن الصلاح ص17 هامش (1) .
(5) علوم الحديث لابن الصلاح ص33، تاريخ بغداد 9 \ 57.
(6) بحوث في تاريخ السنة المشرفة د. أكرم العمري ص249.
(7) بحوث في تاريخ السنة المشرفة د. أكرم العمري ص250- 251(27/137)
6 - سنن ابن ماجه - توفي سنة 273هـ- جمع فيه أربعة آلاف وثلاثمائة وإحدى وأربعين حديثا منها الصحيح والحسن والضعيف وبعض المناكير والموضوعات وإن كانت قليلة (1) .
وقد رتبت الكتب الستة والموطأ على الكتب الفقهية بخلاف المسانيد التي رتبت على أسماء الصحابة.
وقبل هذه الكتب الستة ظهر كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس - توفي سنة 179هـ- سمي بالموطأ لأنه وطأ به الحديث أي يسره للناس أو لمواطأة علماء المدينة له فيه وموافقتهم عليه (2) . وقد انتقى الإمام مالك أحاديث الموطأ من مائة ألف حديث كان يرويها وجملة ما في الموطأ من الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة والتابعين ألف وسبعمائة وعشرون حديثا المسند منها ستمائة حديث والمرسل مائتان واثنان وعشرون حديثا والموقوف ستمائة وثلاثة عشر ومن أقوال التابعين مائتان وخمسة وثمانون (3) .
ويعتبر المالكية أن الأصل الأول في كتب الحديث: الموطأ ويليه صحيح البخاري (4) .
وكتاب المسند للإمام أحمد بن حنبل - توفي سنة 241هـ- جمع فيه ما يقرب من أربعين ألف حديث منها عشرة آلاف حديث مكررة انتقاها من سبعمائة وخمسين ألف حديث (5) .
ولا يقبل الحكم على الحديث بالصحة أو الحسن أو الضعف إلا من المختصين بهذا العلم بناء على قواعد وضعوها لتمييز الصحيح من السقيم.
__________
(1) انظر ما قاله محمد فؤاد عبد الباقي في آخر طبعة سنن ابن ماجه 2 \ 1519- 1520.
(2) هناك قول آخر وهو أن الموطأ هو الخبر المتبع الثابت المعمول به. انظر العلل للإمام أحمد 1 \ 193.
(3) تنوير الحوالك للسيوطي ص8.
(4) تنوير الحوالك ص7.
(5) خصائص المسند لأبي موسى المديني ص22- 23. - مطبوع في مقدمة المسند بتحقيق أحمد شاكر(27/138)
والمكتبة الإسلامية زاخرة بالكتب التي تكلمت عن الرجال وحالهم ومن ينظر في هذه الكتب يدرك شدة اهتمام العلماء وتحريهم في معرفة الرواة.(27/139)
حجية السنة:
اتفق علماء الأمة على أن السنة بمجموعها حجة ومصدر من مصادر الأحكام واستدلوا على ذلك بثلاثة أدلة: الكتاب، وإجماع الصحابة، والمعقول.
أما الكتاب فقد وردت آيات في القرآن الكريم تدل على حجية السنة ومن ذلك: (1) :
1 - قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (2) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (3) .
2 - قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (4) .
3 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} (5) .
4 - قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (6) .
5 - قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (7) .
__________
(1) الرسالة للشافعي ص73- 75، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 1 \ 108- 110.
(2) سورة النجم الآية 3
(3) سورة النجم الآية 4
(4) سورة الحشر الآية 7
(5) سورة النساء الآية 59
(6) سورة النحل الآية 44
(7) سورة النور الآية 63(27/139)
6 - قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (1) .
7 - قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (2) .
8 - قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (3) .
9 - قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (4) .
10 - قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (5) .
فهذه الآيات جميعها تدل على وجوب اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهي تثبت حجية السنة قطعا.
وأما الصحابة فإنهم لم يفرقوا بين حكم ثبت بالقرآن وبين حكم ثبت بالسنة فهم يعملون بهما جميعا، «فهذا أبو بكر يقول للجدة التي جاءت تسأله نصيبها في الميراث: "مالك في كتاب الله من شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شيء، ولكن أسأل الناس، فسألهم، فقام المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة فشهدا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس (6) » .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 36
(2) سورة آل عمران الآية 31
(3) سورة النساء الآية 80
(4) سورة النساء الآية 65
(5) سورة الجمعة الآية 2
(6) رواه أبو داود في كتاب الفرائض باب ميراث الجدة 2 \ 109 - 110، ورواه الترمذي في كتاب الفرائض، باب ميراث الجدة 4 \ 420 وقال: حديث حسن صحيح.(27/140)
وقد أخطأ بعض الباحثين فزعم أن السنة لا تعتبر مصدرا من مصادر الأحكام سواء أحكام النظام الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي وهذا القول غير صحيح فإن السنة كالقرآن مصدر من مصادر الأحكام سواء أكانت عبادات أم جنايات أم أحكاما اجتماعية أم اقتصادية للأدلة التي سبق ذكرها ولقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه (1) » . . . .
والحكم الثابت بالسنة هو في الحقيقة ثابت بالقرآن لأن القرآن هو الذي أمرنا وأرشدنا إلى اتباع السنة لما سبق ذكره من آيات.
وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الحكم الثابت بالسنة ثابت بالقرآن. ففي حديث العسيف الزاني: «أن رجلا من الأعراب أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله. فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه: نعم فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قل. قال: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده لأقضين بينكم بكتاب الله، الوليدة والغنم رد وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، قال: فغدا عليها فاعترفت فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت (2) » .
فانظر كيف حكم - عليه الصلاة والسلام - على المرأة بالرجم واعتبر ذلك ثابتا في الكتاب مع أن رجم المحصن أو المحصنة ثابت بالسنة لكن لما دلنا
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب السنة باب في لزوم السنة 4 \ 200.
(2) رواه مسلم في كتاب الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنا 3 \ 1324- 1325 والعسيف: الأجير، والوليدة: الجارية.(27/141)
الكتاب على اتباع السنة كان كل ما ثبت بالسنة ثابتا بالكتاب.
ووعى الصحابة - رضي الله عنهم - ما بينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم بأن الحكم الثابت بالسنة ثابت بالقرآن، فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله. قال فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله. فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله، فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته. فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، قال الله عز وجل:
(2) » .
واعتبار الحكم الثابت بالسنة ثابتا بالقرآن معلوم عند المجتهدين من سلف هذه الأمة فقد كان الشافعي جالسا في المسجد الحرام فقال: لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى. فقال رجل: ما تقول في المحرم إذا قتل الزنبور؟ فقال: لا شيء عليه. فقال: أين هذا في كتاب الله؟ فقال: قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (3)
ثم ذكر إسنادا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي (4) » . ثم ذكر إسنادا إلى عمر - رضي الله عنه- أنه قال:
__________
(1) رواه مسلم في كتاب اللباس والزينة باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة 3 \ 1678. والواشمة: اسم فاعل من الوشم وهو غرز الإبرة ونحوها في الجلد حتى يسيل الدم ثم حشوه بالكحل أو النيل فيخضر. والمستوشمة: التي تطلب هذا الفعل من غيرها. والنامصة: هي التي تنتف الشعر بالمنماص من الوجه. والمتنمصة: التي تأمر من يفعل بها ذلك. المتفلجات: النساء اللاتي يباعدن بين الثنايا والرباعيات للحسن.
(2) سورة الحشر الآية 7 (1) {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}
(3) سورة الحشر الآية 7
(4) جزء من حديث رواه أبو داود في كتاب السنة باب في لزوم السنة 4 \ 200- 201.(27/142)
للمحرم قتل الزنبور (1) .
متى يكون قول النبي أو فعله - صلى الله عليه وسلم - مصدرا من مصادر الأحكام؟ .
1 - الأصل أن أقوال وأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - مصدر من مصادر الأحكام سواء عبادات أو معاملات ويدخل في ذلك أحكام النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والقضائي وأن كل ما قاله - صلى الله عليه وسلم - يعتبر تبليغا عن الله سبحانه يجب الالتزام به.
2 - ما قاله - صلى الله عليه وسلم - أو فعله بوصفه إماما فلا يجوز فعله إلا بإذن إمام ذلك العصر كبعث الجيوش وصرف الأموال لذلك وقسمة الغنائم وعقد العهود واختيار مكان معين لنزول الجيش.
فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قتل قتيلا فله سلبه (2) » صادر عنه بوصفه إماما عند الحنفية والمالكية فلا يستحق القاتل سلب المقتول إلا بإذن إمام ذلك العصر خلافا للشافعية والحنابلة.
3 - ما قاله - صلى الله عليه وسلم - أو فعله بمقتضى الخبرة الإنسانية فهو على الإباحة ولا يجب علينا شرعا امتثاله.
فقوله - صلى الله عليه وسلم - لمن رآهم يؤبرون النخل «لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا (3) » صدر عنه بمقتضى خبرته الإنسانية بدليل أنه قال لهم عندما ذكروا له أن ثمر النخل قد سقط «إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء
__________
(1) انظر تفسير الفخر الرازي 12 \ 216- 217.
(2) أخرجه الجماعة إلا النسائي انظر نصب الراية 3 \ 428، وفي رواية مسلم في كتاب الجهاد والسير باب استحقاق القاتل سلب القتيل 3 \ 1370 '' من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه ''. والسلب: ملابس القتيل وسلاحه وما معه من نقود أو أي مال.
(3) صحيح مسلم الفضائل (2362) .(27/143)
من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر (1) » . وفي رواية أخرى في صحيح مسلم أيضا «أنتم أعلم بأمر دنياكم (2) » .
وبيعه وشراؤه مما فعله بمقتضى الخبرة الإنسانية - عليه الصلاة والسلام -.
4 - ما صدر عنه - عليه الصلاة والسلام - بوصفه قاضيا كالفصل بين المتخاصمين في المال أو الأبدان لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا إذا حكم به القاضي. فقوله - صلى الله عليه وسلم - «لهند عندما شكت له أن زوجها أبا سفيان رجل شحيح خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك وبنيك (3) » صادر عنه بوصفه قاضيا عند الحنفية (4) والمشهور في مذهب المالكية (5) وعند الشافعية (6) فلا يحل لامرأة زوجها شحيح أن تأخذ من ماله ما يكفيها وولدها إلا بقضاء القاضي خلافا للحنابلة (7) الذين قالوا لا تحتاج المرأة إلى قضاء القاضي في هذه المسألة.
5 - ما فعله - صلى الله عليه وسلم - بمقتضى الطبيعة الجبلية كالأكل أو الشرب أو النوم فهذا حكمه الإباحة.
6 - ما فعله - صلى الله عليه وسلم - وثبتت خصوصيته له. فهو خاص به من دون أمته
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الفضائل باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي 4 \ 1835-1836 ومعنى قوله (من رأي) أي في أمر الدنيا ومعاشها لا على سبيل التشريع. فأما ما قاله باجتهاده - عليه الصلاة والسلام - ورآه شرعا فيجب العمل به. انظر تعليق محمد فؤاد عبد الباقي 4 \ 1836.
(2) صحيح مسلم الفضائل (2363) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2471) ، مسند أحمد بن حنبل (6/123) .
(3) رواه مسلم في كتاب الأقضية باب قضية هند 3 \ 1338.
(4) انظر الهداية مع شرح فتح القدير 3 \ 378.
(5) الفروق للقرافي 1 \ 208.
(6) المهذب للشيرازي 2 \ 164.
(7) كشاف القناع للبهوتي 5 \ 478- 479.(27/144)
فيجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - قيام الليل لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} (1) {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} (2) .
ولا يجب على أمته ذلك. ويجوز في حقه - صلى الله عليه وسلم - الوصال في الصوم لقوله: «وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني (3) » ولا يجوز ذلك في حق أمته.
__________
(1) سورة المزمل الآية 1
(2) سورة المزمل الآية 2
(3) رواه البخاري في كتاب الصوم باب التنكيل لمن أكثر الوصال 2 \ 242- 243.(27/145)
منزلة السنة من القرآن من جهة ما ورد فيها من أحكام:
جميع الأحكام التي ثبتت بالسنة لا تعدو صورة من الصور التالية:
الأولى: أن تكون السنة مؤكدة ومقررة لحكم ثبت في القرآن، ومن ذلك:
1 - وجوب الصلاة والزكاة والحج والصوم. قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (1) .
وقال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (2) .
وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (3) .
وقال - عليه الصلاة والسلام -: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان (4) » .
__________
(1) سورة البقرة الآية 43
(2) سورة آل عمران الآية 97
(3) سورة البقرة الآية 183
(4) رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بني الإسلام على خمس 1 \ 8.(27/145)
2 - حرمة قتل النفس إلا بحق، قال تعالى:
{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} (1) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس والثيب الزاني والمارق من الدين التارك للجماعة (2) » إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة.
الثانية: أن تكون السنة مبينة للقرآن، وأهم صور بيان السنة للقرآن:
1 - تفصيل السنة لمجمل القرآن، كبيان النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله لعدد ركعات الصلاة وكيفيتها وبيانه بقوله لمقدار نصاب الزكاة وبفعله لأفعال الحج.
2 - تخصيص السنة لعام القرآن، ومن أمثلة تخصيص السنة للقرآن عند الجمهور (3) قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (4) فهذه الآية عامة في جميع الأولاد ويدخل في هذا العموم الولد الذي يقتل أباه وخصصها حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - «لا يرث القاتل (5) » فأخرج من عموم الآية قاتل أبيه فإنه لا يرث.
3 - تقييد السنة لمطلق القرآن: ومن أمثلة ذلك: قال تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (6) .
فاليد في الآية مطلقة يجوز قطعها من مفصل الكف أو من المرفق أو من الكتف، فجاءت سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الفعلية، وبينت أن
__________
(1) سورة الأنعام الآية 151
(2) رواه البخاري في كتاب الديات، باب قول الله تعالى إن النفس بالنفس 8 \ 38.
(3) المالكية والشافعية والحنابلة
(4) سورة النساء الآية 11
(5) رواه ابن ماجه في كتاب الديات، باب القاتل لا يرث 2 \ 883- 884. وقال في الزوائد: إسناده حسن.
(6) سورة المائدة الآية 38(27/146)
اليد تقطع من مفصل الكف (الرسغ) فقيدت بذلك مطلق اليد.
4 - توضيح السنة لمشكل القرآن: ومن أمثلة ذلك: قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (1) .
أشكل على عدي بن حاتم فهم الآية وقد كان نصرانيا قبل الإسلام فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما عبدوهم يا رسول الله" فقال - صلى الله عليه وسلم - موضحا ما أشكل على عدي ومبينا معنى العبادة في الآية: أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه (2) » .
الثالثة: أن تزيد السنة على الحكم الذي ثبت بالقرآن. . ومن أمثلة ذلك:
قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (3) .
جعلت الآية عقوبة الزاني الأعزب مائة جلدة، ثم جاءت السنة وزادت على هذه العقوبة تغريب عام «فقال - صلى الله عليه وسلم -: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة (4) » .
الرابعة: أن تكون السنة مثبتة ومنشئة حكما سكت عنه القرآن. . من أمثلة ذلك:
1 - القضاء بشاهد ويمين في الأموال. . عن ابن عباس- رضي الله عنهما- «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بيمين وشاهد (5) » . وفي رواية لأحمد:
__________
(1) سورة التوبة الآية 31
(2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8 \ 120. والحديث رواه الترمذي في كتاب تفسير القرآن 5 \ 278، وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث.
(3) سورة النور الآية 2
(4) رواه مسلم في كتاب الحدود باب حد الزنى 3 \ 1316.
(5) رواه مسلم في كتاب الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد 3 \ 1337.(27/147)
«إنما كان ذلك في الأموال (1) » .
2 - تحريم لبس الذهب والحرير على الرجال:
عن أبي موسى الأشعري «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم (2) » .
__________
(1) مسند أحمد 1 \ 323.
(2) رواه الترمذي في كتاب اللباس الباب الأول وقال حديث أبي موسى حسن صحيح، انظر عارضة الأحوذي بشرح الترمذي 7 \ 219، 223. وفي الباب أحاديث صحيحة في كتاب اللباس في صحيح البخاري.(27/148)
ثالثا:
الاجتهاد
الاجتهاد لغة: مأخوذ من الجهد- بفتح الجيم وضمها- وهو المشقة والطاقة (1) . وأما الاجتهاد في الاصطلاح فهو: استفراغ الوسع في درك الأحكام الشرعية ممن هو أهله.
وهذا التعريف للاجتهاد باعتباره فعلا للمجتهد وهو ما عليه جمهور علماء الأصول على خلاف بينهم في زيادة بعض القيود أو تغيير بعض الكلمات.
ولا يصح لإنسان أن يجتهد إلا إذا توافرت فيه شروط الاجتهاد: كالإسلام والبلوغ والعقل والعدالة، ومعرفة آيات وأحاديث الأحكام على الأقل وحال الرواة واللغة العربية وعلم أصول الفقه بما في ذلك مواضع الإجماع ومقاصد الشريعة ودلالة الألفاظ على الأحكام والناسخ والمنسوخ.
__________
(1) لسان العرب مادة (جهد) .(27/148)
وقد كان باب الاجتهاد مفتوحا زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - واتفق العلماء على وقوع الاجتهاد منه - صلى الله عليه وسلم - في الأقضية وفصل الخصومات وفي أمور الحرب وفي شئون الدنيا (1) واختلفوا في وقوع الاجتهاد منه فيما عدا ذلك. والراجح أنه وقع الاجتهاد منه مطلقا حتى في العبادات وهو ما عليه جمهور العلماء ومنهم الأئمة الأربعة.
مثال اجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الأقضية وفصل الخصومات أنه قضى لهند بنت عتبة زوجة أبي سفيان بالنفقة لها ولأولادها وأنه يجوز لها أن تأخذ من ماله ما يكفيها وولدها بالمعروف (2) .
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤكد للمتخاصمين أنه بشر وأنه يحكم بالظاهر بناء على اجتهاده، فعن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار (3) » .
ومثال اجتهاده - صلى الله عليه وسلم - في أمور الحرب اجتهاده في أسرى بدر، فقد شاور الصحابة فيما يصنع بهم فأشار عليه أبو بكر بأخذ الفدية منهم وأشار عليه عمر بضرب رقابهم، ومال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في اجتهاده إلى اجتهاد أبي بكر (4) فنزل قول الله سبحانه معاتبا الرسول - صلى الله عليه وسلم -: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (5) .
__________
(1) انظر نهاية السول للإسنوي ومعه سلم الوصول للمطيعي 4 \ 533- 534، وإرشاد الفحول للشوكاني ص255.
(2) رواه مسلم في كتاب الأقضية ''باب قضية هند'' 3 \ 1338.
(3) رواه البخاري في كتاب الأحكام باب موعظة الإمام للخصوم 8 \ 112- 113.
(4) انظر هذه القصة في صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير باب الإمداد بالملائكة 3 \ 1385
(5) سورة الأنفال الآية 67(27/149)
ومثال اجتهاده - صلى الله عليه وسلم - في شئون الدنيا قوله للصحابة لما رآهم يؤبرون النخل «لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا (1) » فلما ذكروا له فيما بعد أن ثمر النخل قد سقط قال لهم: «أنتم أعلم بأمر دنياكم (2) » .
ومثال اجتهاده - صلى الله عليه وسلم - في العبادات أنه ساق الهدي في حجه ونوى القران بدليل أنه قال للصحابة: «لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي (3) » ولو كان سوق الهدي بالوحي لما قال: «لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت (4) » .
ومثال اجتهاده - صلى الله عليه وسلم - في العبادات أيضا استغفاره لبعض المنافقين وصلاته على بعضهم كما ثبت أنه صلى على عبد الله بن أبي واستغفر لعمه أبي طالب (5) فنزل قول الله سبحانه في شأن استغفاره للمنافقين: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} (6) .
ونزل قوله تعالى في شأن صلاته - عليه الصلاة والسلام - على عبد الله بن أبي: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (7) .
ونزل قوله تعالى في شأن استغفاره - صلى الله عليه وسلم - لعمه أبي طالب: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (8) .
__________
(1) صحيح مسلم الفضائل (2362) .
(2) رواه مسلم في كتاب الفضائل باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي 4 \ 1385- 1836
(3) جزء من حديث رواه مسلم في كتاب الحج باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - 2 \ 888.
(4) صحيح البخاري التمني (7229) ، صحيح مسلم الحج (1211) .
(5) ثبت هذا في صحيح البخاري كتاب التفسير باب قوله تعالى: '' استغفر لهم ''.. 5 \ 206.
(6) سورة التوبة الآية 80
(7) سورة التوبة الآية 84
(8) سورة التوبة الآية 113(27/150)
وإذا أخطأ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقر على ذلك ونزل عليه الوحي لبيان الصواب كما حصل منه - عليه الصلاة والسلام - في أخذ الفداء من أسرى بدر وفي استغفاره لعمه أبي طالب ولبعض المنافقين وصلاته على بعضهم.
ووقع الاجتهاد من الصحابة - رضي الله عنهم - في حضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي غيبته، فإن أصابوا أقرهم على اجتهادهم وإن أخطأوا بين لهم الحق.
مثال اجتهاد الصحابة في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن سعد بن معاذ - رضي الله عنه - اجتهد فحكم على يهود بني قريظة لما نزلوا على حكمه أن تقتل المقاتلة وأن تسبى الذرية فقال - صلى الله عليه وسلم -: «لقد حكمت فيهم بحكم الملك (1) » وفي رواية مسلم: «لقد حكم فيهم بحكم الله (2) » .
ومثال اجتهاد الصحابة في غيبة النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن عليا - رضي الله عنه - قضى في أهل اليمن الذين حفروا زبية لأسد فوقع فيها رجل فتعلق بآخر ثم تعلق هذا بآخر وهكذا حتى صاروا فيها أربعة فجرحهم الأسد وماتوا من جراحتهم، قضى فيهم - رضي الله عنه - باجتهاده فقال: اجمعوا من قبائل الذين حفروا الزبية ربع الدية وثلث الدية ونصف الدية والدية كاملة. فللأول الربع لأنه هلك من فوق وللثاني الثلث وللثالث النصف وللرابع الدية كاملة. ولم يرض أهل اليمن بذلك الحكم حتى أتوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وذكروا له القصة فأجاز - عليه الصلاة والسلام - اجتهاد علي (3) » .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير باب إذا نزل العدو على حكم رجل 4 \ 28.
(2) رواه مسلم في كتاب الجهاد والسير باب جواز قتال من نقض العهد 3 \ 1389.
(3) انظر هذه القصة في أعلام الموقعين 2 \ 58. والحديث رواه أحمد في مسنده وإسناده صحيح كما قال أحمد شاكر. انظر المسند بتحقيق أحمد شاكر 2 \ 24 والزبية: بئر أو حفرة تحفر للأسد في موضع عال مرتفع من المسيل. انظر لسان العرب مادة (زبي) .(27/151)
وإذا أخطأ الصحابي في اجتهاده بين له النبي - صلى الله عليه وسلم - الصواب. فعندما أجنب عمار - رضي الله عنه- ولم يجد الماء وتمرغ في التراب كما تتمرغ الدابة ثم صلى. قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما كان يكفيك هكذا. فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيها ثم مسح بها وجهه وكفيه (1) » .
وإذا اختلف الصحابة في اجتهادهم وكان النص يحتمل ذلك أقرهم - صلى الله عليه وسلم - على ما فعلوا ولم يعنف أحدا. وهذا مبدأ عظيم يجب أن يتنبه المسلمون إليه فإن القرآن نزل بلغة العرب وعلى عادة العرب في أساليبهم وقد يحتمل اللفظ أكثر من معنى فلا يجوز أن نعيب أو نعادي من خالفنا في الرأي في هذه الحالة إذا كان الرأي صادرا ممن يجوز له الاجتهاد. كما لا يجوز لنا أن نحجر على الناس ونمنعهم من تقليد من يثقون بعلمه ودينه وإن كان رأيهم يخالف آراءنا. وقد اختلف الصحابة في كثير من المسائل ومع هذا الاختلاف بقي الود والتقدير بينهم ولا غرابة في ذلك. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - علمهم هذا المبدأ. فعندما قال لهم يوم الأحزاب: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة (3) » .
ومن رحمة الله بالأمة أن جعل لكل مجتهد أجرا إن أخطأ وأجرين إن أصاب قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر (4) » هذا بشرط أن يكون المجتهد ممن يجوز له الاجتهاد. أما من يجتهد في دين الله وليس أهلا لذلك فهو في النار كما أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «القضاة ثلاثة: اثنان في النار،
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الحيض باب التيمم 1 \ 280- 281.
(2) رواه البخاري في كتاب المغازي باب مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحزاب 5 \ 50. وانظر أعلام الموقعين لابن القيم 1 \ 203.
(3) (2) أدركوا العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها وقال بعضهم بل نصلي لم يرد منا ذك. فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعنف أحدا
(4) رواه مسلم في كتاب الأقضية باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ 3 \ 1342.(27/152)
وواحد في الجنة، رجل علم الحق فقضى به فهو الجنة ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار. ورجل جار في الحكم فهو في النار (1) » .
والأصل أن يبقى باب الاجتهاد مفتوحا حتى يجيب المجتهدون على كل ما يستجد من مسائل. فإن كل مسألة تعرض للمسلم لها حكم في كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو بالاجتهاد. يقول الشافعي (كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم، أو على سبيل الحق فيه دلالة موجودة، وعليه إذا كان فيه بعينه حكم اتباعه وإذا لم يكن فيه بعينه طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد) (2) .
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الأقضية باب في القاضي يخطئ 3 \ 299 ورواه ابن ماجه في كتاب الأحكام باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق 2 \ 776. واللفظ لابن ماجه.
(2) الرسالة للشافعي ص477.(27/153)
أقسام الاجتهاد
يقسم الاجتهاد إلى قسمين:
القسم الأول: الاجتهاد في تفسير النصوص الشرعية وبيانها لفهمها ومعرفة دلالتها على الأحكام وترجيح ما تعارض منها في الظاهر. ويدخل في هذا القسم بيان الألفاظ بأقسامه الخمسة وتأويل الألفاظ إذا توافرت شروطه. وطرق دلالة الألفاظ على الأحكام والوضوح والإبهام في الدليل الشرعي والعام والخاص ودلالتهما(27/153)
وتخصيص العام والإطلاق والتقييد وحمل المطلق على المقيد (1) والزيادة على النص القرآني ودلالة اللفظ المشترك (2) على الحكم والأمر والنهي (3) ودلالتهما على الأحكام.
وهذا النوع من الاجتهاد واسع جدا تفصيله في مباحث أصول الفقه وسأقتصر على ذكر مسألتين اختلف العلماء فيهما لاختلافهم في تفسير النص وبيان دلالته على الحكم.
المسألة الأولى: عقوبة من يسعى في الأرض فسادا (عقوبة قطع الطريق) :
اختلف المجتهدون في عقوبة من يسعى في الأرض فسادا إذا أخاف أو سرق من غير أن يقتل هل يجوز قتله أم لا؟
فذهب جمهور العلماء إلى أن الذي يسعى في الأرض فسادا لا يقتل إلا إذا قتل. أما إذا سرق فإنها تقطع يده ورجله من خلاف. وإذا أخاف الناس نفي من الأرض.
وذهب المالكية (4) إلى أن الإمام مخير في عقوبة من يسعى في الأرض
__________
(1) المطلق: ما دل على شائع في جنسه. المقيد: ما لا يدل على شائع في جنسه.
(2) المشترك: هو اللفظ الموضوع لكل واحد من معنيين فأكثر بوضع متعدد.
(3) الأمر: هو طلب الفعل على جهة الاستعلاء. النهي: لفظ طلب به الكف عن الفعل جزما على جهة الاستعلاء.
(4) انظر الخرشي على مختصر خليل 8 \ 105 -106.(27/154)
فسادا فيجوز أن يقتله وإن لم يقتل الناس حسب ما يرى من المصلحة العامة.
وسبب اختلاف المجتهدين في هذه المسألة اختلافهم في تفسير معنى كلمة (أو) في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1) .
فقال الجمهور (أو) في الآية للتقسيم وقال المالكية للتخيير.
المسألة الثانية: خيار المجلس:
اختلف العلماء المجتهدون في ثبوت خيار المجلس للمتبايعين، وذلك لاختلافهم في تفسير معنى (التفرق) (2) المذكور في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا (3) » فمن قال المراد بالتفرق في الحديث تفرق الاقوال لم يثبت خيار المجلس ومن قال المراد بالتفرق في الحديث تفرق الأجسام أثبت خيار المجلس (4) .
القسم الثاني: الاجتهاد في الكشف عن حكم الله في المسائل التي لم ينص على حكمها في الكتاب أو في السنة.
ويدخل في هذا القسم من أقسام الاجتهاد:
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) كشف الأسرار عن أصول البزودي 3 \ 65، تيسير التحرير 3 \ 71.
(3) رواه البخاري في كتاب البيوع باب البيعان بالخيار ما لم يتفرقا 3 \ 18.
(4) وهم الشافعية والحنابلة انظر مغني المحتاج 2 \ 43، كشف القناع 3 \ 198.(27/155)
(1) القياس:
وهو إعطاء مسألة لا نص فيها حكم مسألة نص على حكمها لاشتراك المسألتين في علة الحكم.
وقد شرع الله سبحانه للمجتهدين من هذه الأمة الكشف عن حكم الله في المسائل التي لم ينص على حكمها أو المسائل التي تستجد بإلحاقها بما يشبهها مما نص الشارع على حكمه إذا اشتركت في العلة. فقد ثبت أن بيع الحنطة (القمح) بالحنطة مع التفاضل ربا قال - صلى الله عليه وسلم - «التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى (1) » وقد ثبتت حرمة الربا في أكثر من آية وحديث قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) .
ولم يذكر في هذا الحديث ولا في غيره حكم بيع الحمص بالحمص مع التفاضل فاجتهد العلماء وقالوا يحرم بيع الحمص بالحمص مع التفاضل قياسا على حرمة بيع القمح بالقمح مع التفاضل لاشتراكهما في العلة وهي: اتحاد الجنس والطعم (3) .
وقد استعمل القياس في القرآن وكذلك في السنة وهذا دليل على حجيته ووقوعه قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} (4) {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} (5) .
رد الله سبحانه على منكري البعث بالقياس من باب أولى فقال لهم قيسوا إحياءكم في المرة الثانية على خلقكم في المرة الأولى.
وقال - صلى الله عليه وسلم - للمرأة من جهينة التي جاءت فقالت: «إن أمي نذرت أن
__________
(1) رواه مسلم في كتاب المساقاة باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا 3 \ 1211.
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) هذه علة تحريم البيع مع التفاضل في الأصناف الأربعة المذكورة في الحديث عند الشافعية.
(4) سورة يس الآية 78
(5) سورة يس الآية 79(27/156)
تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته - أي ذلك الدين عنها - اقضوا الله فالله أحق بالوفاء (1) » . فقاس - عليه الصلاة والسلام - دين الله على دين العبد فكما يجب قضاء الثاني يجب قضاء الأول والعلة أن كلا منهما حق ثبت في ذمة المكلف.
والأئمة الأربعة قالوا بحجية القياس. ولا يصح القياس إلا مع عدم النص أما مع وجود النص سواء أكان قرآنا أم سنة صحت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فالقياس مردود. فلو قال مجتهد أقيس البنت على الابن فأعطيها مثل ما أعطي الابن من الميراث والعلة في ذلك تساوي الابن والبنت في القرابة، قلنا له هذا قياس باطل لأن القياس لا يكون إلا إذا فقد النص وقد نص القرآن أن للذكر مثل حظ الأنثيين، قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (2) .
(2) الاستحسان:
هو العدول بالمسألة عن حكم نظائرها إلى حكم مخالف لدليل أقوى اقتضى هذا العدول.
وقد يكون الدليل الأقوى الذي لأجله عدل بالمسألة عن حكم نظائرها نصا أو إجماعا أو قياسا خفيا أو عرفا صحيحا أو مصلحة.
فمثلا قال الحنفية الأصل في الوصية عدم الجواز، لأنها تصرف مضاف إلى ما بعد الموت والإنسان لا يملك التصرف بأمواله بعد موته لأن المال أصبح ملكا للورثة وأجازوا الوصية استحسانا (3) لدليل من القرآن اقتضى ذلك، قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (4) .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب جزاء الصيد باب الحج والنذور عن الميت والرجل عن المرأة 2 \ 217-218.
(2) سورة النساء الآية 11
(3) انظر بدائع الصنائع للكاساني 10 \ 4837.
(4) سورة النساء الآية 11(27/157)
ومثال استحسان العرف ما قاله العلماء بأنه لو حلف رجل أن لا يأكل اللحم وأكل سمكا فإنه لا يحنث استحسانا لأن السمك وإن كان يسمى لحما في اللغة إلا أن عرف الناس في كثير من البلدان إطلاق اللحم على لحم الضأن والماعز والإبل والبقر دون السمك.
وأكثر من ذهب إلى العمل بالاستحسان الحنفية والمالكية وقال به الحنابلة ولم يتوسعوا فيه، ومنعه الشافعية مطلقا.
والصحيح أن الاستحسان راجع إلى غيره من الأدلة فاستحسان الأثر راجع إلى القرآن أو السنة واستحسان الإجماع راجع إلى الإجماع واستحسان القياس راجع إلى القياس واستحسان العرف راجع إلى العرف واستحسان المصلحة راجع إلى المصلحة.
(3) المصلحة المرسلة:
سميت مصلحة لأن فيها محافظة على مقصود الشارع من جلب منفعة أو دفع مضرة، ويدخل في ذلك تحقيق الضروريات للناس - وهي حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ المال - ومراعاة الحاجيات والتحسينيات.
وسميت مرسلة أي مطلقة عن دليل يخصها بعينها، لكن شهد لجنسها جملة أدلة (1) .
وقد اجتهد العلماء فقالوا بقتل الجماعة إذا قتلوا واحدا واستنادا للمصلحة المرسلة (2) وذلك لعدم وجود دليل يخص هذه المسألة بعينها.
__________
(1) انظر الموافقات للشاطبي 1 \ 38-39.
(2) انظر الاعتصام للشاطبي 2 \ 125-126.(27/158)
لكن الحكم على الجماعة بالقتل إذا قتلوا واحدا يحفظ النفس وإلا اتخذ المجرمون الاشتراك في القتل ذريعة إلى قتل أعدائهم (1) . وقد شهد لحفظ النفس جملة نصوص وعدة أدلة تفيد القطع.
(4) الاستصحاب:
وهو إبقاء الأمر على البراءة أو على ما هو عليه حتى يقوم دليل بغيره والاستصحاب حجة شرعية عند جمهور المجتهدين.
فإذا ادعى شخص أن له على آخر دينا، فالأصل أن ذمة المدعى عليه غير مشغولة بهذا الدين ما لم يقم المدعي البينة على دعواه لأن الأصل براءة الذمة.
وإذا دخل وقت الظهر وشك المسلم هل صلى أم لا؟ وجب عليه أن يصلي لأن الأصل شرعا وجوب الصلاة عند دخول وقتها وأن المكلف مطالب بهذا حتى يتيقن من الأداء.
وإذا اختلطت الأخت بأجنبيات ولم تعرف، حرم الزواج من أي واحدة منهن لأن الأصل في الأبضاع الحرمة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه (2) » .
ولو اشترط البائع أو المشتري شرطا في عقد البيع لا يتنافى مع مقتضى العقد ولم ينه عنه أبيح له ذلك لأن الأصل في المنافع الإباحة لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (3) .
__________
(1) انظر بدائع الصنائع للكاساني 10 \ 4628.
(2) جزء من حديث رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب تحريم ظلم المسلم.. 4 \ 1986.
(3) سورة البقرة الآية 29(27/159)
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (1) .
وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (2) .
إلى غير ذلك من الأدلة (3) .
(5) سد الذرائع:
ومعناه المنع من الشيء الجائز إذا كان يؤدي إلى مفسدة غالبا. وقد اشتهر القول بسد الذرائع عن الإمام مالك ثم الإمام أحمد.
وأشار القرآن الكريم إلى مبدأ سد الذرائع فنهانا عن سب آلهة المشركين مع ما في ذلك من المصلحة؛ لأن هذا ذريعة لهم لسب الله سبحانه، قال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (4) .
وقال الإمام مالك في الرجل يكون له على الرجل مائة دينار إلى أجل فإذا حلت قال له الذي عليه الدين: بعني سلعة يكون ثمنها مائة دينار نقدا بمائة وخمسين إلى أجل: هذا بيع لا يصلح ولم يزل أهل العلم ينهون عنه. وإنما لا يصلح هذا البيع عند مالك - رحمه الله - لأنه ذريعة إلى الربا (5) .
__________
(1) سورة لقمان الآية 20
(2) سورة الأعراف الآية 32
(3) انظر نيل الأوطار للشوكاني 8 \ 106 وما بعدها، رفع الحرج للدكتور \ صالح بن حميد ص108-113.
(4) سورة الأنعام الآية 108
(5) انظر موطأ الإمام مالك كتاب البيوع باب ما جاء في الربا في الدين ص468.(27/160)
ولا بد للمجتهد وهو يبحث عن حكم الله في المسائل التي لم ينص على حكمها من مراعاة المقصد العام من تشريع الأحكام - وهو جلب منفعة أو تكميلها أو دفع مفسدة أو تقليلها - وتحقيق ضروريات الناس ومراعاة حاجاتهم وتحسينياتهم ومراعاة اليسر ورفع الحرج واعتبار أعرافهم الصحيحة في إطار ما أقرته الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.(27/161)
مراجع البحث
- الأصبحي، مالك بن أنس بن مالك توفي سنة 179هـ: الموطأ، شرح وتعليق: أحمد راتب عرموش، (بيروت، دار النفائس للطباعة والنشر، ط 1، سنة 1390هـ) .
- الأعظمي، محمد مصطفى: دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه، (الرياض، مطابع جامعة الملك سعود، سنة 1396هـ) .
- الآمدي، أبو الحسن علي بن علي بن محمد، توفي سنة 631هـ: الإحكام في أصول الأحكام، تعليق: الشيخ عبد الرزاق عفيفي، (الرياض، مؤسسة النور، ط 1 سنة 1387هـ) .
- الأنصاري، عبد العلي محمد بن نظام الدين، توفي سنة 1225هـ: فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت - مطبوع مع المستصفى - (بغداد، مكتبة المثنى، 1970م) .
- البخاري، عبد العزيز بن أحمد بن محمد، توفي سنة 730هـ: كشف الأسرار عن أصول البزدوي، (بيروت، دار الكتاب العربي، سنة 1974م) .
- البخاري: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة، توفي سنة 256 هـ: الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته وأيامه، (إستانبول، المكتب الإسلامي، سنة 1979م) .
- البغا، مصطفى ديب: أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي، (دمشق، دار الإمام البخاري، د. ت) .
- البغدادي، أبو بكر أحمد بن علي الخطيب، توفي سنة 463هـ: تاريخ بغداد، (بيروت، دار الكتاب العربي، د. ت) : تقييد العلم، حققه: يوسف العش، (القاهرة، دار إحياء السنة النبوية، ط 2، سنة 1974م) .
- البهوتي، منصور بن يونس بن إدريس، توفي سنة 1051 هـ: كشاف القناع عن متن الإقناع، (الرياض، مكتبة النصر الحديثة، د. ت) .
- البوطي، محمد سعيد رمضان: من روائع القرآن (دمشق، مكتبة الفارابي، ط 4، سنة 1975 م) .
- بوكاي، موريس: دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، (بيروت، دار المعارف، د. ت) .
- الترتوري، حسين مطاوع: حروف المعاني وأثرها في اختلاف الفقهاء، (رسالة دكتوراة مطبوعة على الآلة الكاتبة، سنة 1982 م) .
مباحث السنة عند الأصوليين، (بحث منشور في مجلة البحوث الإسلامية الصادرة عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالرياض سنة 1408 هـ) .
- الترمذي، أبو عيسى، محمد بن عيسى بن سورة، توفي سنة 297 هـ: سنن الترمذي، تحقيق: أحمد شاكر، محمد فؤاد عبد الباقي، إبراهيم عطوة، (القاهرة، مطبعة مصطفى الحلبي، ط 2، سنة 1388 هـ) .
- ابن حجر، أحمد بن علي العسقلاني، توفي سنة 852 هـ: فتح الباري شرح صحيح البخاري، (القاهرة، المطبعة السلفية، سنة 1380 هـ) .
هدي الساري مقدمة فتح الباري، تحقيق محب الدين الخطيب، (القاهرة، المطبعة السلفية، د. ت) .
- ابن حزم، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد، توفي سنة 456 هـ: الإحكام في أصول الأحكام، (بيروت، دار الجيل، ط 2، سنة 1987 م) .
المحلى، تحقيق: أحمد شاكر، (القاهرة، إدارة المطبعة المنيرية، سنة 1347 هـ) .
- ابن حميد، صالح: رفع الحرج في الشريعة الإسلامية، (مكة المكرمة، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى، ط 1، سنة 1403 هـ) .
- حيدر، علي: درر الحكام شرح مجلة الأحكام، تعريب: فهمي الحسيني، (بيروت، بغداد، مكتبة النهضة، د. ت) .(27/162)
- خلاف، عبد الوهاب، توفي سنة 1956 م: علم أصول الفقه، (القاهرة، مكتبة الدعوة الإسلامية، سنة 1956م) .
- الدسوقي، شمس الدين عرفة: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، (د. ت) .
- الرافعي، مصطفى صادق: إعجاز القرآن، (القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، ط 8، سنة 1965 م) .
- الربيعة، عبد العزيز بن عبد الرحمن بن علي: أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها، (بيروت، مؤسسة الرسالة، ط 3، سنة 1402 هـ) .
- الزرقا، مصطفى أحمد: المدخل الفقهي العام، (دمشق، مطبعة الحياة، ط 8، سنة 1965 م) .
- الزرقاني، محمد عبد العظيم: مناهل العرفان في علوم القرآن، (القاهرة، مطبعة عيسى البابي الحلبي، د. ت) .
- الزيلعي، أبو محمد عبد الله بن يوسف، توفي سنة 762 هـ: نصب الراية لأحاديث الهداية، (جوهانسبرغ، المجلس العلمي، ط 2، د. ت) .
- السبكي، علي بن عبد الكافي، توفي سنة 756 هـ، وولده تاج الدين عبد الوهاب بن علي توفي سنة 771هـ: الإبهاج في شرح المنهاج، (بيروت، دار الكتب العلمية، ط 1، سنة 1984م) .
- السجستاني: أبو داود سليمان بن الأشعث الأزدي، توفي سنة 275 هـ: سنن أبي داود، (القاهرة، مطبعة مصطفى الحلبي، ط 1، سنة 1371 هـ) .
- السرخسي، أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل، توفي سنة 490 هـ: أصول السرخسي، تحقيق: أبو الوفاء الأفغاني، (بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر، سنة 1393 هـ) .
- السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، توفي سنة 911 هـ: تدريب الراوي شرح تقريب النووي، حققه: عبد الوهاب عبد اللطيف، (القاهرة، دار الكتب الحديثة، ط 2، سنة 1966 م) .
تنوير الحوالك شرح موطأ الإمام مالك - مطبوع معه كتاب إسعاف المبطأ برجال الموطأ -، (دمشق، دار الفكر، د. ت) .
- الشاطبي: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي، وفي سنة 790 هـ: الاعتصام (القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، د. ت) .
الموافقات، تعليق: عبد الله دراز (بيروت، دار المعرفة، د. ت) .
- الشافعي، محمد بن إدريس بن العباس القرشي المطلبي، توفي سنة 204 هـ: الرسالة، تحقيق: أحمد شاكر، (القاهرة، مطبعة مصطفى الحلبي، ط 1، سنة 1940 م) .
- شاه، محمد أمين بن محمود البخاري المعروف بأمير باد شاه، توفي حوالي 987 هـ: تيسير التحرير، (بيروت دار الكتب العلمية، د. ت) .
- الشربيني، محمد بن أحمد، توفي سنة 977 هـ: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، (بيروت، دار إحياء التراث العربي، د. ت) .
- الشوكاني، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله، توفي سنة 1250 هـ: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، (بيروت، دار المعرفة، د. ت) .
نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأبرار، (القاهرة، مطبعة مصطفى الحلبي، الطبعة الأخيرة) .
- الشيرازي، أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي، توفي سنة 476 هـ: المهذب في فقه الإمام الشافعي، (بيروت، دار المعرفة، ط 2، سنة 1959) .
- صالح، محمد أديب: تفسير النصوص في الفقه الإسلامي، (دمشق، المكتب الإسلامي، ط 3، سنة 1404 هـ) .(27/163)
- ابن الصلاح، أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن، توفي سنة 643 هـ: علوم الحديث، حققه: د. نور الدين عتر، (المدينة المنورة، المكتبة العلمية، حلب، مطبعة الأصيل، سنة 1966 م) .
- عبد المطلب، رفعت فوزي: توثيق السنة في القرن الثاني الهجري أسسه واتجاهاته، (القاهرة، مكتبة الخانجي، سنة 1400 هـ) .
- ابن العربي، أبو بكر بن محمد بن عبد الله بن أحمد، توفي سنة 543 هـ: أحكام القرآن، تحقيق: محمد علي البجاوي، (القاهرة، مطبعة عيسى الحلبي، د. ت) .
- عليش، محمد: شرح منح الجليل على مختصر العلامة خليل - وبهامشه حاشية منح الجليل - (طرابلس ليبيا، مكتبة النجاح، د. ت) .
- العمري، أكرم ضياء: بحوث في تاريخ السنة المشرفة، (بيروت، ط 4، سنة 1405 هـ) .
- العمري، نادية شريف: اجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، (بيروت مؤسسة الرسالة، ط 3، سنة 1405 هـ) .
- الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد، توفي سنة 505 هـ: المستصفى في علم الأصول - مطبوع بهامشه فواتح الرحموت -، (بيروت دار الكتب العلمية، ط 2، 1983 م) .
- ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم، توفي سنة 276 هـ: تأويل مختلف الحديث، صححه وضبطه: محمد زهري النجار، (القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية، سنة 1966 م) .
- القرافي، أبو العباس أحمد بن إدريس، توفي سنة 684 هـ: الفروق، وضع فهارسه: د. محمد رواسي قلعة جي - مطبوع معه إدرار الشروق وتهذيب الفروق -، (بيروت، دار المعرفة، د. ت) .
- القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري، توفي سنة 671 هـ: الجامع لأحكام القرآن، (القاهرة، دار الكتاب العربي، سنة 1387 هـ) .
- القزويني، أبو عبد الله محمد بن يزيد، توفي سنة 275 هـ: سنن ابن ماجه، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، سنة 1372 هـ) .
- ابن القيم، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر، توفي سنة 751 هـ: أعلام الموقعين عن رب العالمين، راجعه: طه عبد الرؤوف سعد، (القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية، سنة 1968 م) .
- الكاساني، أبو بكر بن مسعود بن أحمد، توفي سنة 587 هـ: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (الناشر زكريا علي يوسف، القاهرة، مطبعة الإمام، د. ت) .
- المرغناني، علي بن أبي بكر بن عبد الجليل، توفي سنة 593 هـ: الهداية شرح بداية المبتدي - مطبوع معه شرح فتح القدير والعناية - (بيروت دار إحياء التراث العربي، ط 1، سنة 1970 م) .
- المطيعي، محمد بخيت، توفي سنة 1935 م: سلم الوصول لشرح نهاية السول - مطبوع مع نهاية السول في شرح منهاج الأصول -، (بيروت، عالم الكتب، د. ت) .
- ابن منظور، أبو الفضل محمد بن مكرم بن علي، توفي سنة 711 هـ: لسان العرب، (بيروت، دار صادر، سنة 1956 م) .
- ابن النجار، محمد بن أحمد بن عبد العزيز توفي سنة 972 هـ: شرح الكوكب المنير، تحقيق د. محمد الرحيلي، د. نزيه حماد، (دمشق، دار الفكر، سنة 1400 هـ، منشورات مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بمكة المكرمة) .
- النيسابوري، أبو الحسين مسلم بن الحجاج القرشي توفي سنة 261 هـ: صحيح مسلم، ترتيب وتعليق: محمد فؤاد عبد الباقي، (بيروت، دار إحياء التراث العربي، د. ت) .
- ابن الهمام، محمد بن عبد الواحد بن مسعود، توفي سنة 861 هـ: شرح فتح القدير للهداية - مطبوع معه الهداية للمرغناني والعناية شرح الهداية للبابرتي -، (بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط 1، سنة 1970 م) .(27/164)
الوجوه والنظائر
في القرآن الكريم
بقلم
الدكتور \ سلمان بن صالح القرعاوي
الحمد لله حمدا طيبا مباركا فيه، والصلاة والسلام على أشرف خلقه، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. . أما بعد: فلقد كان القرآن الكريم، وسيظل بإذن الله المصدر الثري للأمة الإسلامية في رجوعها إليه في شئونها واحتكامها إليه في قضاياها.
وهو معينها الذي لا ينضب في إرواء ظمئها العلمي والفكري، وهو كنزها الذي لا يفنى في إغنائها من خزائنه لبناء تاريخها وحضارتها مهما(27/165)
تطاول الزمن وتعاقبت الدهور، ولقد أودع الله سبحانه معاني كتابه الكريم في قوالب لفظية عربية، وزينه بروعة الفصاحة والبيان، وكساه حلة البلاغة وجلال الإعجاز، فدهشت به العرب جميعا، إذ سمعته حتى قال قائلهم: (إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه) .
وخر بعضهم ساجدا تعظيما عندما سمعه يتلى، وانجذبت إليه عقول صناديد الكفر والعناد فكانوا يستمعون إليه تلذذا وإعجابا.
بل انقادت إليه قلوب العرب والعجم عندما كشف الستار عن جماله، وحاكى العقول، لذلك خالطت محبته بشاشة القلوب حتى أن الجن انقادت إليه عندما رأت إعجازه وأيقنت بسلطانه: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} (1) {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} (2) .
لذلك أدلى الصحابة (رضي الله عنهم) بدلوهم في كشف الستار عن معانيه، ثم جاء التابعون فشاركوا في تفسيره، وما زالت ألسنة العلماء وأقلامهم تخط في تفسيره، وبيان مسالكه حتى هذا العصر، من مختلف مستوياتهم، وتنوع تخصصاتهم سواء في ذلك العلوم الدينية أو الاجتماعية أو الأخلاقية والسلوكية، وكذا الاقتصادية والسياسية والعسكرية والكونية.
وما زالت معاني القرآن الكريم بكرا تتجدد في كل عصر لأنه القاعدة العريضة للشريعة الإسلامية الصالحة لكل زمان ومكان. ولما كانت معاني
__________
(1) سورة الجن الآية 1
(2) سورة الجن الآية 2(27/166)
هذا القرآن مكنونة في ألفاظه العربية المعجزة تنوعت مسالك العلماء في استخراج معانيه من هذه الألفاظ، وقامت دراسات حول ألفاظه العربية كي يتسنى للفقيه، والمفتي، والحاكم، وطالب الفائدة معرفة أحكامه ومعانيه، وقد نتج عن بعض هذه الدراسات ما يسمى بالوجوه والنظائر في القرآن الكريم التي كشفت النقاب عن المعاني المتعددة والمتجددة التي يصلح أن يدل عليها اللفظ الواحد، وكذلك المعنى الواحد الذي يصلح أن تدل عليه ألفاظ متعددة. وهذا يدل على اتساع قاعدة الشريعة الإسلامية كي تصلح لعلاج الحياة البشرية في كل مكان وزمان.
هذا ولما انقطع عقد المسلمين في هذه الأيام بسبب بعدهم عن كتاب ربهم تعذر عليهم فهم علومه، كما تعذر عليهم فهم معانيه، وبالتالي كان هذا العلم (الوجوه والنظائر في القرآن الكريم) بعيدا عن أفكار المسلمين وأذهانهم، لهذا أحببت أن أدلو بدلوي من الباحثين في هذا المجال كي أقرب هذا العلم إلى أذهان المسلمين حسب المستطاع، فلعل في ذلك سبيل هداية وإنارة للطريق، والله الهادي إلى سواء السبيل.(27/167)
الوجوه والنظائر لغة:
الوجوه: قال ابن دريد "وجه الكلام: السبيل التي تقصدها به، وصرفت الشيء عن وجهه أي عن سننه. وكساء موجه: له وجهان، ويجمع وجه على أوجه ووجوه وأجوه" (1) .
وفي لسان العرب لابن منظور (. . . وفي الحديث «أنه ذكر فتنا
__________
(1) انظر جمهرة اللغة، مادة (وجه) .(27/167)
كوجوه البقر (1) » أي يشبه بعضها بعضا لأن وجوه البقر تتشابه كثيرا. . وفي حديث أبي الدرداء "لا تفقه حتى ترى للقرآن وجوها" أي ترى له معاني يحتملها فتهاب الإقدام عليه. . ورجل ذو وجهين إذا لقي بخلاف ما في قلبه) (2) .
وقال ابن فارس: (وجه: الواو والجيم والهاء: أصل واحد يدل على مقابلة لشيء، والوجه مستقبل لكل شيء. يقال: وجه الرجل وغيره. وربما عبر عن الذات بالوجه. وتقول: وجهي إليك، وتقول: واجهت فلانا أواجهه إذا جعلت وجهك تلقاء وجهه) (3) .
والنظائر: جمع نظير، وهو المماثل والشبيه، يقال: فلان نظير فلان إذا كان مثله وشبيهه والجمع نظراء (4) ، ومن ذلك قول ابن مسعود: "لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم بها عشرين سورة من المفصل" (5) . "يريد السور المتماثلة في المعاني كالموعظة أو الحكم أو
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند 5 \ 391.
(2) انظر: 13 \ 555، مادة (وجه) .
(3) انظر: معجم مقاييس اللغة 6 \ 88
(4) انظر: جمهرة اللغة لابن دريد، مادة (نظر) 2 \ 379.
(5) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر 2 \ 259، باب الجمع بين السورتين في الركعة، (ح 775) .(27/168)
القصص، لا المتماثلة في عدد الآي، لما سيظهر عند تعيينها"، قال المحب الطبري: "كنت أظن أن المراد أنها متساوية في العد، حتى اعتبرتها فلم أجد فيها شيئا متساويا" (1) ، وفي تاج العروس للزبيدي: "النظائر: الأفاضل والأماثل لاشتباه بعضهم ببعض في الأخلاق والأفعال والأقوال" (2) ، ونظائر القرآن: سور المفصل سميت لاشتباه بعضها بعضا في الطول" (3) .
وقد استعمل المفسرون النظائر للدلالة على الألفاظ المختلفة لفظا والمتفقة معنى، فقالوا: الابتلاء، والاختبار، والامتحان: نظائر، كما استعمل الأصمعي. في العدد، فقال: عددت إبل فلان نظائر أي مثنى مثنى" (4) .
__________
(1) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر 2 \ 259، باب الجمع بين السورتين في الركعة (ح 775) .
(2) انظر: ج 14 \ 249، 252، 255.
(3) انظر: ج 14 \ 249، 252، 255.
(4) انظر: لسان العرب لابن منظور، مادة (نظر) 5 \ 219.(27/169)
الوجوه والنظائر اصطلاحا:
حينما تعرضنا للمدلول اللغوي وجدنا أن علماء من تكلم في الوجوه والنظائر قد جعلوا لهذه الألفاظ معاني اصطلاحية فيما بينهم وجعلوها(27/169)
أسماء لكتبهم. وكان أول من عرف الوجوه والنظائر ابن الجوزي في كتابه "نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر في القرآن الكريم" حيث قال: (واعلم أن معنى الوجوه والنظائر: أن تكون الكلمة الواحدة قد ذكرت في مواضع من القرآن الكريم على لفظ واحد وحركة واحدة، وأريد بكل مكان معنى للكلمة غير معناها في المكان الآخر، وتفسير كل كلمة بمعنى يناسبها غير معنى الكلمة الأخرى، هذا ما يسمى "الوجوه"، أما النظائر: "فهو اسم للألفاظ، وعلى هذا تكون الوجوه اسما للمعاني، ومن هنا كان الأصل في وضع كتب الوجوه والنظائر" (1) وهذا التعريف لم يسلم من نقد " الزركشي " و " السيوطي "، وهما من أبرز من كتب في الدراسات القرآنية، أما الزركشي فبعد أن عرف الوجوه والنظائر بقوله: (فالوجوه: اللفظ المشترك الذي يستعمل في عدة معان كلفظ "الأمة"، والنظائر كالألفاظ المتواطئة) ، قال: (وقيل: النظائر في اللفظ والوجوه في المعاني وضعف لأنه لو أريد هذا لكان الجمع في الألفاظ المشتركة، وهم يذكرون في تلك الكتب اللفظ الذي معناه واحد
__________
(1) انظر: 1 \ 2.(27/170)
في مواضع كثيرة، فيجعلون الوجوه نوعا لأقسام والنظائر نوعا آخر كالأمثال) (1) .
وكذلك السيوطي اقتفى أثر صاحب "البرهان" في نقده لتعريف " ابن الجوزي " وانتهى إلى تعريفه بقوله: (فالوجوه: اللفظ المشترك الذي يستعمل في عدة معان كلفظ "الأمة" (2) . .) .
أما صاحب "كشف الظنون" فلم يتقبل نقد " الزركشي " و " السيوطي " بل أيد ابن الجوزي فيما ذهب إليه، فقال: (. . ومعناه أن تكون الكلمة واحدة ذكرت في مواضع من القرآن على لفظ واحد وحركة واحدة، وأريد بها في كل مكان معنى غير الآخر، فلفظ كل كلمة ذكرت في موضع نظير للفظ الكلمة المذكورة في الموضع الآخر هو النظائر، وتفسير كل كلمة بمعنى غير معنى الأخرى هو الوجوه، فإذا النظائر اسم للألفاظ، والوجوه اسم للمعاني) (3) .
وأقول: إن العلماء في هذا المجال يذكرون الكلمة الواحدة، ثم يذكرون معانيها المتعددة، ويستدلون على كل معنى بالآيات القرآنية، مما يدل على أن الوجوه للمعاني، إذ يشيرون إلى الكلمة، ويقولون. . وفيها سبعة عشر وجها. . وفيها أربعة وجوه. . وهكذا نجد أنهم يريدون بهذا الوجه معنى يختلف قربا وبعدا عن معنى آخر مرادا من آية أخرى. . والله أعلم.
__________
(1) انظر: البرهان في علوم القرآن 1 \ 102
(2) انظر: الإتقان في علوم القرآن 2 \ 121
(3) انظر: كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة 2 \ 2001.(27/171)
الفرق بين الوجوه والنظائر في القرآن الكريم وبين تفسير المفردات:
إذا أردنا أن نوضح الفرق بين التفسير بالوجوه والنظائر، والتفسير المألوف للمفردات يمكن أن نقول:(27/171)
أولا: أن التفسير بالوجوه والنظائر يختص بنوع واحد من المفردات، فيذكر عدد الوجوه التي دل عليها اللفظ في جميع ما ذكر من آيات، مستعينا على ذلك بما يرشده إليه موضعها في الآية، ثم يذكر لكل وجه جميع الآيات أو بعضها مما ورد بها اللفظ ودل عليه.
ثانيا: التفسير للمفردات يأتي باللفظ الوارد في القرآن الكريم، فيذكر معناه أو معانيه في اللفظ على طريقة أصحاب المعاجم مستعينا باللغة أو ما فسره المفسرون دون أن يذكر لفظ "الوجوه".
إذا فالتفسير بالوجوه والنظائر نوع من علوم القرآن الكريم، إذ يبحث في ألفاظ القرآن، ويوضح ما ورد في أكثر من آية، وكانت دلالته على معناه في واحدة منها غير معناه في الآيات الأخرى التي ورد فيها - أي أن التفسير الذي يختص به هذا النوع يقوم بالنظر في معنى كل لفظ ورد متكررا في آيات القرآن، وكانت دلالته في آية أو بعض الآيات التي ورد فيها مباينا لدلالته على معناه في الآية أو الآيات الأخرى، ثم يقوم بحصر تلك المعاني المتعددة، ويجعلها وجوها للفظ الواحد.
ولتوضيح ذلك نذكر مثالا لكل منهما:
لقد ورد في القرآن الكريم مادة لبس في آيات متعددة منها قوله تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} (1) وقوله {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ} (2) وقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} (3) وقوله {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ} (4) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 42
(2) سورة آل عمران الآية 71
(3) سورة الأنعام الآية 82
(4) سورة البقرة الآية 187(27/172)
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} (1) وقوله: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} (2) وقوله {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} (3) وقوله: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} (4) . وغيرها.
فلو تأملنا اشتقاقات هذا اللفظ في هذه الآيات لوجدنا أن معناه ليس واحدا فيها، إذ إننا نجد معناه في الآيات الثلاث الأولى "الخلط"، ومعناه في الرابعة والخامسة (السكن) ومعناه في السادسة والسابعة (الثياب) ومعناه في الثامنة (العمل الصالح) فنعلم أن للفظ (اللباس) أربعة وجوه (5) .
أما مثال التفسير للمفردات، فلنأخذ لفظ: "بيع".
قال الراغب الأصفهاني في المفردات (6) "البيع" إعطاء المثمن وأخذ الثمن، والشراء إعطاء الثمن وأخذ المثمن، ويقال للبيع الشراء، وللشراء البيع وذلك بحسب ما يتصور من الثمن والمثمن، وعلى ذلك قوله عز وجل: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} (7) .
وقال عليه السلام: «لا يبيعن أحدكم على بيع أخيه (8) » أي
__________
(1) سورة النبأ الآية 10
(2) سورة الأعراف الآية 26
(3) سورة الدخان الآية 53
(4) سورة الأعراف الآية 26
(5) انظر: الأشباه والنظائر لمقاتل ص 105 تحقيق عبد الله محمود شحاتة.
(6) هو كتاب المفردات في غريب القرآن تحقيق وضبط محمد سيد كيلاني.
(7) سورة يوسف الآية 20
(8) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه ج 3 ص 24 (34 - كتاب البيوع) باب لا يبيع على بيع أخيه، ج 1082 ولفظه: (لا يبيع بعضكم على بيع أخيه) ، وأخرجه مسلم في صحيحه ج 2 ص 1154 (21 - كتاب البيوع، ج 8) بمثله.(27/173)
لا يشتري على شراه، وأبعت الشيء عرضته للبيع نحو قول الشاعر:
. . . . . . . . . . . . . . . ... فرسا فليس جواده بمباع
والمبايعة والمشاراة تقالان فيهما، قال الله تعالى:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) . وقال {وَذَرُوا الْبَيْعَ} (2) . وقال: {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ} (3) . وقال: {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ} (4) .
وبايع السلطان إذا تضمن بذل الطاعة له بما رضخ له ويقال لذلك بيعة ومبايعة، وقوله عز وجل {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} (5) . إشارة إلى بيعة الرضوان المذكورة في قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (6) .
وإلى ما ذكر في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} (7) الآية.
وأما الباع فمن الواو بدلالة قولهم: "باع في السر يبوع إذا مد باعه" (8) .
فلو تأملنا هذين المثالين لوجدنا الفرق واضحا بين العلمين: "علم الوجوه والنظائر، وعلم التفسير بالمفردات"، إذ أن الأول يذكر اللفظ،
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة الجمعة الآية 9
(3) سورة إبراهيم الآية 31
(4) سورة البقرة الآية 254
(5) سورة التوبة الآية 111
(6) سورة الفتح الآية 18
(7) سورة التوبة الآية 111
(8) انظر: ص 67(27/174)
وعدد وجوهه، ثم يضع كل وجه مع اللفظ الدال عليه في الآيات القرآنية، بخلاف التفسير بالمفردات، فهو يأتي ابتداء بالكلمة المفردة، ثم يذكر معناها لغة الاستشهاد عليها بكلام العرب المحتج بقولهم، أو كلام الرسول - عليه الصلاة والسلام -، ثم يذكر بعض الآيات التي ورد بها اللفظ في مورد الآية كذا.(27/175)
أهمية هذا العلم والتدوين فيه:
لم تكن لغة العرب ضيقة التعبير عن المعنى المراد، وإنما كانت واسعة الدائرة في ذلك، إذ لدى العرب القدرة على التعبير عن المعنى الواحد بأساليب متعددة، وألفاظ مختلفة حسب ما يقتضيه حال المخاطب والسامع، وبذلك يمكن فهم المعنى المراد عند المخاطبين بصورة كاملة، مهما اختلفت ظروفهم، وأصنافهم، وتعددت مستوياتهم الفكرية.
هذا وإن القرآن قد نزل بلغة العرب الذين اشتهروا بقوة الفصاحة والبلاغة، فأعجزهم فصاحته وبيانه المعجز، وبلاغته التي تقاصرت دونها بلاغتهم فأدهشهم فصاحته وبيانه وأعجزهم بلاغته التي لم تطاول إليها بلاغتهم إذ كان أوسع دائرة في أسلوبه، وأدق معنى في تعبيره، وأكثر استعمالا للألفاظ الدالة على المعنى الواحد، وأفضل صياغة للفظ الواحد الدال على المعاني المتعددة بما أصبح يعرف بالوجوه والنظائر في القرآن الكريم.
لذلك اعتنى العلماء المتخصصون بعلوم القرآن الكريم بهذا الجانب بعناية خاصة، وذلك لأهميته وخطره، إذ به تتسع قاعدة المفاهيم الإسلامية، وتصل إلى البعيد والقريب والعالي والداني.
فكان منهم من جمع آيات القرآن الكريم التي اشتملت جميعها على لفظ معين يدل كل مجموعة منها على معنى واحد من المعاني يختلف فيه عن المجموعة الأخرى.(27/175)
ومنهم من اعتنى بشرح الألفاظ القرآنية التي روعي فيها السياق القرآني، وكان الاهتمام بهذا الجانب قد أدى إلى الحفاظ على السياق القرآني، والصياغة القرآنية التي حوت المعاني المتعددة.
فعندما كثرت الفتوحات الإسلامية، ودخل العجم في دين الإسلام، واختلطوا بالعرب فربما قد يتسبب ذلك في نسيان العرب لسياق اللفظ القرآني.
لذا نال هذا العلم تلك الأهمية، فكتب فيه العلماء منذ بداية القرن الثاني الهجري، فمن أول من صنف فيه:
(1) عكرمة مولى ابن عباس ت 105 هـ (1) .
(2) علي بن أبي طلحة ت 143 هـ (2) .
(3) مقاتل بن سليمان البلخي ت 150 هـ، وكتابه (الأشباه والنظائر في القرآن الكريم) (3) .
(4) هارون بن موسى الأعور ت 170 هـ، وكتابه (الوجوه والنظائر في القرآن الكريم) (4) .
(5) العباس بن الفضل الأنصاري الموصلي المقرئ ت 186 هـ (5) .
(6) يحيى بن سلام ت 200 هـ، وكتابه (التصاريف) (6) .
(7) علي بن وافد (7) .
(8) الحكيم الترمذي ت 255 هـ، وكتابه (تحصيل نظائر القرآن) (8) .
(9) محمد بن يزيد أبو العباس المبرد ت 286 هـ، وكتابه (ما اتفق لفظه واختلف معناه من القرآن المجيد) (9) .
__________
(1) انظر: نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر في القرآن الكريم لابن الجوزي 1 \ 2.
(2) انظر: نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر في القرآن الكريم لابن الجوزي.
(3) طبع بتحقيق د. عبد الله محمود شحاته، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
(4) انظر: نزهة الأعين النواظر 1 \ 2
(5) انظر: نزهة الأعين النواظر 1 \ 2.
(6) طبع بتحقيق د \ هند شلبي، الشركة التونسية للتوزيع.
(7) انظر: عيون المناظرات للسكوني، مناظرة رقم 178.
(8) منه نسخة مخطوطة بمكتبة جامعة الدول العربية تحت رقم (البلدية 3585 \ 2 خ)
(9) مطبوع بالقاهرة سنة 1350 هـ، بعناية عبد العزيز الميمني الراجكوني.(27/176)
(10) محمد النقاش ت 351 هـ (1) .
(11) أبو الحسين أحمد بن فارس القزويني ت 395 هـ، وكتابه (الأفراد) (2) .
(12) الثعالبي ت 429 هـ، وكتابه (الأشباه والنظائر) (3) .
(13) إسماعيل الحيري النيسابوري ت 430 هـ، وكتابه وجوه القرآن) (4) .
(14) الحسن بن أحمد بن البناء البغدادي الحنبلي (أبو علي) ت 471 هـ (5) .
(15) الحسين الدامغاني ت 478 هـ، وكتابه (الوجوه والنظائر) (6) .
(16) علي بن عبيد الله الزاغوني الحنبلي ت 597 هـ، (7) .
(17) عبد الرحمن بن الجوزي ت 597 هـ، وكتابه (نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر في القرآن الكريم) .
(18) الفيروزآبادي ت 817.
(19) محمد بن محمد بن علي البلبيسي القاهري ت 887 هـ، وكتابه (كشف السرائر في معنى الوجوه والأشباه والنظائر في القرآن الكريم (8) .
(20) جلال الدين عبد الرحمن السيوطي ت 911 هـ.
__________
(1) انظر: كشف الظنون 1 \ 2001، ومعجم المؤلفين 9 \ 214.
(2) انظر: البرهان للزركشي 1 \ 102
(3) منه نسخة مخطوطة بمكتبة جامعة الدول العربية تحت رقم (ولي الدين 51052 ق) .
(4) منه نسخة مخطوطة بجامعة الدول العربية تحت رقم جامعة كمبريدج 1282.
(5) انظر نزهة الأعين النواظر 1 \ 2.
(6) حققه ورتبه وأكمله وأصلحه عبد العزيز سيد الأهل، دار العلم للملايين بيروت.
(7) انظر نزهة الأعين النواظر 1 \ 2.
(8) طبع بمؤسسة شباب الجامعة بالإسكندرية بتحقيق الدكتور فؤاد عبد المنعم أحمد.(27/177)
منزلة علم الوجوه والنظائر بين العلوم الشرعية بعامة وعلوم القرآن بخاصة:
أولا: منزلته بين العلوم الشرعية بعامة:
لا يشتبه على الباحثين أن هذا العلم يشرف بقدر ما لغايته من الفضل والشرف، وهذا العلم عظيم الأثر لما في معرفته من إدراك لألفاظ القرآن الكريم الذي هو لب الشريعة، وأصلها الأول، فمتعلق هذا العلم هو القرآن الكريم الذي فيه العلوم الشرعية، وهو عمادها ورأس سنامها، ولا يستقيم لعالم في العقائد ولا لمجتهد في الفقه إلا إذا علم، وفقه كل لفظ ومعناه، وبخاصة إذا ورد بمعان متعددة يعسر على الناظر إليها إدراكها من النظرة الأولى، بل لا بد من النظر الثابت والفهم السديد لهذه المعاني المتباينة لما يترتب عليه من اختلاف في فهم العقائد والأحكام، فلا يستغني عالم العقائد مثلا عن معاني الظن التي وردت في قوله تعالى:
{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} (1) . ثم تأتي في قوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} (2) .
بمعنى اليقين، والمجتهد في الفقه كذلك ينظر في هذا العلم فيتبين له أحكام كثيرة.
وهكذا فإن المتخصص في علوم القرآن يجد بغيته فيما ينظر فيه ويطلبه.
__________
(1) سورة النجم الآية 28
(2) سورة الحاقة الآية 20(27/178)
ثانيا: في علوم القرآن بخاصة:
كانت العناية بعلم الوجوه والنظائر في القرآن الكريم منذ بدأت العناية بتدوين علوم القرآن، فنجد أن العلماء يبحثون في علوم القرآن ثم يفردون أبوابا للوجوه والنظائر من بين أبواب كتبهم، كما صنع الزركشي في كتابه(27/178)
"البرهان في علوم القرآن"، والسيوطي في كتابه "الإتقان" و "معترك الأقران في إعجاز القرآن"، بيد أن أهمية هذا العلم قد جعلت بعضهم يفردونه في مؤلفات مستقلة، فهذا ابن الجوزي قد كتب كتابه "فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن" (1) ، ولكنه أفرد الوجوه والنظائر القرآنية في كتاب مستقل أسماه "نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر" اهتماما بشأنه، وسعة مادته، ثم اختصره في كتاب "منتخب قرة العيون النواظر في الوجوه والنظائر في القرآن الكريم".
وهذا السيوطي يفرد له بابا في كتاب "الإتقان"، ثم أفرده في كتاب مستقل أسماه "معترك الأقران في مشترك القرآن"، وكذلك غيرهما من العلماء.
ومن العلماء من لم يكتب كتابا شاملا في علوم القرآن، ولكنه اعتنى بهذا العلم على وجه الخصوص - أعني الوجوه والنظائر في القرآن الكريم - وأفرد له كتابا " كمقاتل بن سليمان " في كتابه "الأشباه والنظائر في القرآن الكريم"، وهارون بن موسى، أبو عبد الله الأزدي في كتابه "الوجوه والنظائر في القرآن الكريم". ومن هنا يتضح ما لهذا العلم من منزلة بين العلوم الشرعية بعامة، وعلوم القرآن بخاصة.
__________
(1) انظر: كشف الظنون 2 \ 1292.(27/179)
نشأته:
إن هذا العلم ليس من العلوم المستحدثة، وإنما وجد منذ عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: «لا يكون الرجل فقيها كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة» .
وهذا الحديث روي مرفوعا وموقوفا، وقد أخرج المرفوع مقاتل بن(27/179)
سليمان البلخي - وهو متهم بالكذب - في كتابه الاشباه والنظائر في القرآن الكريم بإسناده بلفظ «لا يكون الرجل فقيها كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة (1) » وأخرجه ابن عبد البر بإسناده من حديث شداد بن أوس (رضي الله عنه) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يفقه العبد كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله، ولا يفقه العبد كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة (2) » .
وهذا الطريق ضعيف جدا، وذلك لضعف صدقة بن عبد الله السمين، وكذا فيه أبان بن عياش وهو متروك الحديث.
أما الطريق الموقوف فقد جاء موقوفا على أبي الدرداء - رضي الله عنه - فقد أخرجه عبد الرزاق من حديث معمر بن راشد عن أيوب
__________
(1) انظر: الإتقان 2 \ 121.
(2) انظر: جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله 2 \ 45.(27/180)
السختياني عن أبي قلابة عن أبي الدرداء بلفظ "لا تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوها كثيرة" (1) ورجال هذا الإسناد كلهم أئمة جبال.
وأخرجه ابن عبد البر من طريق عبد الرزاق السابق به.
وأخرجه أبو نعيم من حديث أبي بكر القطيعي - وهو ثقة - عن عبد الله بن أحمد بن حنبل - وهو ثقة - عن أبيه - الإمام أحمد - عن إسماعيل بن عليه - وهو ثقة - عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أبي الدرداء به (2) .
__________
(1) انظر: المصنف 11 \ 255، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي.
(2) انظر: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء 1 \ 281.(27/181)
ومما تقدم يظهر أن الحديث يدور على أيوب السختياني - وهو ثقة حجة - عن أبي قلابة - وهو ثقة فاضل لكنه يرسل - وقد أرسل هذا الحديث عن أبي الدرداء، والدليل على إرساله بهذا الحديث: أنه روى عن حذيفة بن اليمان ولم يلحقه - قاله الذهبي -، وحذيفة مات سنة 36، وأبو الدرداء مات سنة 32 هـ في الراجح، وقيل سنة 31 هـ (1) ، فيكون على هذا لم يلحق أبا الدرداء من باب أولى.
علما أنني لم أجد - فيما لدي - من نص على سماعه من أبي الدرداء، وبهذا يكون الحديث موقوفا مرسلا، غير أنه صحيح إلى أبي قلابة. وقد صحح ابن عبد البر هذا الحديث بقوله: هذا حديث لا يصح مرفوعا، وإنما الصحيح فيه أنه من قول أبي الدرداء. . أ. هـ (2) .
وقد اعتنى الصحابة بتفسير القرآن الكريم، وبيان معانيه، فحكي عنهم وجوه متعددة في تفسير الآية الواحدة، أو اللفظة القرآنية الواحدة.
ويشهد له ما أخرجه ابن سعد. من طريق عكرمة عن ابن
__________
(1) انظر: أسد الغابة 6 \ 97، وتذكرة الحفاظ 1 \ 24.
(2) انظر: جامع بيان العلم وفضله 2 \ 45.(27/182)
عباس أن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أرسله إلى الخوارج فقال: "اذهب إليهم فخاصمهم ولا تحاجهم في القرآن فإنه ذو وجوه، ولكن خاصمهم بالسنة".
وأخرج من طريق آخر أن ابن عباس قال له: "يا أمير المؤمنين فأنا أعلم بكتاب الله منهم في بيوتنا نزل، قال: صدقت، ولكن القرآن حمال ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن خاصمهم بالسنن، فإنهم لن يجدوا عنها محيصا. فخرج إليهم فخاصمهم بالسنن، فلم تبق بأيديهم حجة".
وقد نقل عن الصحابة والتابعين ومن أتى بعدهم من العلماء في تفسير الآية الواحدة معان متعددة: فمن ذلك ما نقل عن أبي العالية. قوله: كل آية نزلت في القرآن يذكر فيها حفظ الفروج فهو من الزنى، إلا هذه الآية: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (1) .
__________
(1) سورة النور الآية 31(27/183)
أن لا يراها أحد" (1) .
وأخرج عن سعيد بن جبير، قال: "العفو" في القرآن على ثلاثة أنحاء: نحو تجاوز عن الذنب، ونحو في القصد في النفقة: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} (2) .
ونحو في الإحسان فيما بين الناس: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ} (3) .
وأخرج عكرمة، قال: "ما صنع الله فهو "السد"، ما صنع الناس فهو "السد" (4) .
وذكر أبو عمرو الداني في قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} (5) .
أن المراد بالحضور هنا المشاهدة. قال: وهو بالظاء بمعنى المنع والتحويط، قال: ولم يأت بهذا المعنى إلا في موضع واحد، وهو قوله تعالى: {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} (6) .
__________
(1) انظر الإتقان 2 \ 137.
(2) سورة البقرة الآية 219
(3) سورة البقرة الآية 237
(4) انظر: الإتقان 2 \ 137.
(5) سورة الأعراف الآية 163
(6) سورة القمر الآية 31(27/184)
وقال أحمد بن فارس: "كل ما في القرآن من ذكر الأسف"، فمعناه الحزن إلا: {فَلَمَّا آسَفُونَا} (1) فمعناه أغضبونا.
وكل ما فيه من ذكر البروج فهي الكواكب إلا: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} (2) . فهي القصور الطوال الحصينة.
وكل ما فيه من "سخر" فالاستهزاء إلا {سُخْرِيًّا} (3) . في الزخرف فهو من التسخير والاستخدام" (4) .
وهذا القدر فيه الكفاية للدلالة على وجود هذا النوع من التفسير في عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والصحابة من بعده، 3 والتابعين ومن جاء بعدهم إلا أنه لم تظهر دواعي تدوينه في زمن الرسول وأصحابه وتابعيهم وذلك للأسباب الآتية:
أولا: أن القرآن نزل بألسنتهم وهم أهل الفصاحة والبلاغة فهم من القدرة على إدراك ألفاظ القرآن ووجوه ألفاظه على حال لا تحوجهم إلى تدوينه، ولم يكن المجتمع العربي قد اختلط بعد باللسان الأعجمي الذي يحتاج إلى مثل هذه العلوم.
ثانيا: مشاهدتهم للتنزيل ومعرفة مناسبة النزول تساعدهم على فهم المراد من اللفظ في كل آية، وإن تعدد وروده في أماكن كثيرة من الآيات، ولكن ما إن جاء عصر أتباع التابعين حتى بعدت شقة الزمن بينهم وبين التنزيل فخفي عليهم بعض أسباب النزول، كما أن العجم قد دخلوا أفواجا في الإسلام وهم لا علم لهم باللغة العربية وأساليبها، بالإضافة إلى ذلك ظهور الأحزاب السياسية
__________
(1) سورة الزخرف الآية 55
(2) سورة النساء الآية 78
(3) سورة الزخرف الآية 32
(4) انظر: الإتقان 2 \ 132 - 133.(27/185)
الإسلامية التي حاولت أن تدعم مزاعمها بحمل الألفاظ على المعنى الذي يؤيد عقيدتها. كذلك انتشار تدوين العلوم، كل هذه الأمور كانت من أسباب تدوين هذا النوع من التفسير حفاظا على هذا العلم من الضياع.
فمن هذا كله وما تقدم نجد أن هذا العلم كان موجودا في عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة، والتابعين من بعدهم، وأن الدواعي الآنفة الذكر كانت من أسباب توسع هذا العلم وتدوينه في كتب وكراريس، ثم تتابع التأليف في القرون التالية.
وبالجملة فإن الاهتمام بالدراسات التي تتعلق بالقرآن الكريم إنما تعكس مدى العناية بهذا الكتاب الكريم، وقد ظهرت هذه العناية منذ عصر الصحابة كما أشرنا إلى ذلك في كثير من المواطن. ونرجو الله ألا تتوقف هذه الدراسات التي تكشف عن مكنونات القرآن وصلاحيته لكل زمن وكل جيل.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. .(27/186)
قائمة المراجع والمصادر
- الإتقان في علوم القرآن للحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي _ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم _ ط. الثالثة 1405 هـ _ دار التراث للنشر والتوزيع _ القاهرة.
- أسد الغابة في معرفة الصحابة _ لعز الدين بن الأثير الجزري - ط. الشعب.
- الأشباه والنظائر للثعالبي، منه نسخة محفوظة بمعهد المخطوطات لجامعة الدول العربية (سابقا) مدون عليها (ولي الدين 52) عن النسخة الأصلية بمكتبة بايزيد بتركيا
- الأشباه والنظائر لمقاتل بن سليمان البلخي - تحقيق الدكتور عبد الله محمود شحاته - الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة.
- الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني - حقق أصوله وضبط أعلامه، ووضع فهارسه علي محمد البجاوي - ط. دار الثقافة العربية للطباعة - القاهرة.
- الأعلام لخير الدين الزركلي - ط. السادسة 1984 م - دار العلم للملايين - بيروت.
- البداية والنهاية للحافظ ابن كثير - ط. الأولى 1351 هـ - دار الفكر العربي - القاهرة.
- البرهان في علوم القرآن للإمام بدر الدين الزركشي - تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - ط. الأولى 1376 هـ - دار إحياء الكتب العربية - القاهرة.
- بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي - تحقيق الأستاذ محمد علي النجار - المكتبة العلمية - بيروت.
- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة للسيوطي - تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - ط. الثانية 1399 هـ - دار الفكر - القاهرة.
- تاج العروس من جواهر القاموس للسيد محمد مرتضى الحسيني الزبيدي - تحقيق عبد العليم الطحاوي، راجعه عبد الكريم العزباوي وعبد الستار أحمد فراج - طبعة حكومة الكويت 1394 هـ
- تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام (عهد الخلفاء الراشدين) لشمس الدين محمد بن عثمان الذهبي - تحقيق الدكتور عمر عبد السلام تدمري - ط. الأولى 1407 هـ - دار الكتاب العربي - بيروت.
- تاريخ الطبري (تاريخ الأمم والملوك) لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري - تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - ط. دار سويدان - بيروت.
- تاريخ بغداد للحافظ أبي بكر أحمد الخطيب البغدادي - المكتبة السلفية - المدينة المنورة.
- تاريخ الثقافات للحافظ أحمد بن صالح العجلي - ترتيب نور الدين الهيثمي، وتضمينات ابن حجر العسقلاني - وثق أصوله، وخرج أحاديثه، وعلق عليه د. عبد المعطي قلعجي - ط. الأولى 1405 هـ - دار الكتب العلمية - بيروت.
- تاريخ خليفة بن خياط - تحقيق الدكتور أكرم ضياء العمري - ط. 1405 هـ - دار طيبة - الرياض.
- تحصيل نظائر القرآن للترمذي - مخطوطة بمكتبة جامعة الدول العربية (سابقا) تحت رقم (البلدية 3585 \ 2 خ) .
- تذكر الحفاظ للإمام شمس الدين محمد الذهبي - ط. دار الفكر العربي
- التصاريف ليحيى بن سلام - تحقيق الدكتورة هند شلبي - الشركة التونسية للتوزيع(27/187)
- تقريب التهذيب لابن حجر العسقلاني - حققه، وعلق حواشيه، وقدم له عبد الوهاب عبد اللطيف - ط. الثانية 1395 هـ - دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت.
- تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني - ط. الأولى 1325 هـ - دائرة المعارف العثمانية حيدر آباد الدكن الهند.
- تهذيب الكمال في أسماء الرجال للحافظ جمال الدين أبي الحجاج يوسف المزي - حققه، وضبط نصه، وعلق عليه الدكتور بشار عواد معروف - ط. الأولى 1400هـ، مؤسسة الرسالة - بيروت
- جامع بيان العلم وفضله، وما ينبغي في روايته وحمله لأبي عمر يوسف بن عبد البر النمري القرطبي - ط. إدارة الطباعة المنيرية - القاهرة
- جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس لأبي عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي الأزدي - ط. الدار المصرية للتأليف والترجمة 1966 م - القاهرة
- جمهرة اللغة لابن دريد - ط. دائرة المعارف العثمانية - الهند
- حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة لجلال الدين السيوطي - تحقيق أبو الفضل إبراهيم - ط. الأولى 1387 هـ دار إحياء الكتب العربية - القاهرة.
- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصبهاني - ط. الثالثة 1400 هـ - دار الكتاب العربي - بيروت.
- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني - مراقبة الدكتور محمد عبد المعيد خان ط. الثانية 1392 هـ - دائرة المعارف العثمانية حيدر آباد الدكن الهند.
- دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي - وثق أصوله، وخرج حديثه، وعلق عليه الدكتور عبد المعطي قلعجي - ط. الأولى 1405 هـ - دار الكتب العلمية - بيروت.
- سير أعلام النبلاء لشمس الدين محمد الذهبي - أشرف على تحقيق الكتاب، وخرج أحاديثه شعيب الأرنؤوط - ط. الثانية 1402 هـ - مؤسسة الرسالة - بيروت.
- السيرة النبوية لابن هشام، حققها، وضبتها، وشرحها، ووضع فهارسها مصطفى السقا وآخرون - مؤسسة علوم القرآن - بيروت.
- شذرات الذهب في أخبار من ذهب لأبي الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي - ط. دار إحياء التراث العربي بيروت.
- صحيح البخاري لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري - إشراف بدر الدين جتين أرـ دار الدعوة.
- صحيح مسلم للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري - وقف على طبعه، وتحقيق نصوصه، وتصحيحه وترقيمه محمد فؤاد عبد الباقي - دار الدعوة.
- الصلة لأبي القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال - ط. الدار المصرية للتأليف والترجمة 1966 م.
- طبقات الحفاظ للسيوطي - ط. الأولى 1403 هـ - دار الكتب العلمية - بيروت.
- الطبقات الكبرى لابن سعد - دار صادر - بيروت.
- طبقات النحويين واللغويين للزبيدي - تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - ط. الثانية - دار المعارف - مصر.
- العبر في خبر من غبر لشمس الدين محمد الذهبي - تحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد - ط. الثانية مصورة 1984 م - مطبعة حكومة الكويت.
- غاية النهاية في طبقات القراء للجزري - عني بنشره ج. برجستراسر - ط. الثانية 1400 هـ -(27/188)
- دار الكتب العلمية - بيروت
- فتح الباري بشرح الإمام البخاري لابن حجر العسقلاني - قرأ أصله تصحيحا وتحقيقا، وأشرف على مقابلة نسخه المطبوعة والمخطوطة عبد العزيز بن عبد الله بن باز - نشر وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية.
- فوات الوفيات والذيل عليها لمحمد بن شاكر الكتبي - تحقيق الدكتور إحسان عباس - دار صادر - بيروت.
- الكامل في التاريخ لعز الدين أبي الحسن علي بن عبد الواحد الشيباني المعروف بابن الأثير - دار صادر - بيروت 1402 هـ.
- كشف السرائر في معنى الوجوه والأشباه والنظائر لابن العماد - تحقيق الدكتور فؤاد عبد المنعم - مؤسسة شباب الجامعة - الإسكندرية.
- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة - دار الفكر - 1402 هـ.
- لسان العرب لابن منظور - تصوير دار صادر - بيروت.
- ما اتفق لفظه واختلف معناه من القرآن المجيد للمبرد - إشراف الأستاذ الميمني - المطبعة السلفية - الهند 1350 هـ.
- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ نور الدين الهيثمي - بتحرير الحافظين العراقي وابن حجر - ط. الثالثة 1402 هـ - دار الكتاب العربي - بيروت.
- مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان لعفيف الدين عبد الله بن أسعد اليافعي اليمني - تحقيق عبد الله الجبوري - ط. الأولى 1405 هـ - مؤسسة الرسالة - بيروت.
- المستدرك على الصحيحين في الحديث لأبي عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بالحاكم دار الكتب العلمية - بيروت.
- مسند الإمام أحمد - دار الدعوة.
- المصنف لعبد الرزاق بن همام الصنعاني - عني بتحقيق نصوصه، وتخريج أحاديثه، والتعليق عليه: حبيب الرحمن الأعظمي - ط. الثانية 1403 هـ - المكتب الإسلامي - بيروت.
- معترك الأقران في إعجاز القرآن للسيوطي - تحقيق علي محمد البجاوي - دار الفكر العربي - القاهرة.
- معجم مقاييس اللغة لأحمد بن فارس - تحقيق عبد السلام هارون - دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1399 هـ.
- معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة - دار إحياء التراث العربي - بيروت.
- المغني في الضعفاء لشمس الدين محمد الذهبي - تحقيق الدكتور محمد نور الدين عتر - سوريا.
- المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني - تحقيق وضبط محمد سيد كيلاني - دار المعارف - بيروت
- منتخب قرة العيون النواظر في الوجوه والنظائر في القرآن الكريم لابن الجوزي - تحقيق ودراسة محمد السيد الصفطاوي، والدكتور فؤاد عبد المنعم أحمد - ط. منشأة المعارف - الإسكندرية.
- ميزان الاعتدال في نقد الرجال لشمس الدين محمد الذهبي - تحقيق علي محمد البجاوي - ط. الأولى 1382 هـ - دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت.
- نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر في القرآن الكريم لابن الجوزي - عني بتصحيحه والتعليق(27/189)
عليه السيدة \ مهر النساء، آيم. آى. ط. الأولى 1394 هـ، دائرة المعارف العثمانية حيدر أباد الدكن الهند.
- هدية العارفين لإسماعيل باشا البغدادي - دار الفكر - بيروت 1402 هـ.
- وجوه القرآن لإسماعيل الحيري - منه نسخة مخطوطة بجامعة الدول العربية تحت رقم (جامعة كمبريدج 1282 QR) .
- الوجوه والنظائر للدامغاني - حققه، ورتبه، وأكمله، وأصلحه عبد العزيز سيد الأهل - دار العلم للملايين - بيروت.
- الوجوه والنظائر في القرآن الكريم لهارون بن موسى الحجازي - منه نسخة مخطوطة بمكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض برقم 3334 \ ف.
- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لأبي العباس أحمد بن خلكان - تحقيق الدكتور إحسان عباس - دار صادر - بيروت.
- الوافي بالوفيات لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي - ط. الثانية 1985 م، بيروت.(27/190)
جعفر بن أبي طالب
أول سفير في الإسلام
اللواء الركن: محمود شيت خطاب (1)
نسبه وأيامه الأولى
هو جعفر بن أبي طالب واسم أبي طالب: عبد مناف، بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي القرشي الهاشمي، وهو ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لأبويه، يكنى: أبا عبد الله بابنه عبد الله (2) .
أمه: فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي (3) ، وكان جعفر الثالث من أولاد أبيه أبي طالب، وكان طالب أكبرهم سنا، ويليه عقيل، ويلي عقيلا جعفر، ويلي جعفرا علي، وكل واحد منهم أكبر من شقيقه بعشر سنين، وعلي أصغرهم سنا،، وأمهم جميعا فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي (4) ، وفاطمة أمهم أول هاشمية تزوجها هاشمي، وقد أسلمت وهاجرت إلى المدينة، وتوفيت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونزل - عليه الصلاة والسلام - في قبرها، وكان يكرمها (5) .
__________
(1) ورد للباحث ترجمة في العدد العاشر ص 233.
(2) الاستيعاب (1 \ 242) والإصابة (1 \ 248) ، طبقات ابن سعد (4 \ 34) .
(3) طبقات ابن سعد (4 \ 34) مقاتل الطالبيين (5) .
(4) مقاتل الطالبيين (5) ، وانظر: أسد الغابة (1 \ 287) .
(5) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 149) .(27/191)
أسلم جعفر قبل أن يدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم بن أبي الأرقم يدعو إلى الإسلام فيها (1) ، وقد أسلم بعد إسلام شقيقه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بقليل، وروي أن أبا طالب رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليا - رضي الله عنه - يصليان، وعلي على يمينه، فقال لجعفر: "صل جناح ابن عمك، وصل على يساره"، وقيل: أسلم بعد واحد وثلاثين إنسانا، وكان هو الثاني والثلاثين.
لقد كان جعفر من السابقين الأولين إلى الإسلام (2) .
__________
(1) طبقات ابن سعد (4 \ 34) .
(2) الإصابة (1 \ 248) .(27/192)
المهاجر السفير:
1 - لما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه (1) » ، وكان بالحبشة ملك صالح يقال له النجاشي، لا يظلم أحد بأرضه، وكان يثنى عليه وفيه صلاح (2) ، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أرض الحبشة (3) ، وكان ذلك في السنة الخامسة من النبوة (4) ، أي في السنة الثامنة قبل الهجرة، مخافة الفتنة، وفرارا إلى الله بدينهم، فكانت هذه الهجرة أول هجرة في الإسلام (5) ، وهي الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة (6) .
__________
(1) سيرة ابن هشام (1 \ 328) وانظر جوامع السيرة (55) والدرر (50) .
(2) الطبري (2 \ 328) .
(3) سيرة ابن هشام (1 \ 343)
(4) الطبري (2 \ 329) .
(5) سيرة ابن هشام (1 \ 343) .
(6) سيرة ابن هشام (1 \ 343) .(27/192)
وكما كان جعفر أحد السابقين الأولين إلى الإسلام (1) ، كان أحد المهاجرين الأولين إلى الحبشة (2) ، فقد هاجر إليها ومعه امرأته أسماء بنت عميس بن النعمان بن كعب بن مالك بن قحافة بن خثعم الخثعمية (3) ، فولدت له هناك: عبد الله، وعونا، ومحمدا (4) .
وبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - كتابا إلى النجاشي مع جعفر هذا نصه.
«بسم الله الرحمن الرحيم
من: محمد رسول الله.
إلى: النجاشي الأصحم ملك الحبشة.
سلم أنت، فإني أحمد إليك الذي لا إله إلا هو، الملك القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته، ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، فخلقه الله من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده ونفخه.
وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة له على طاعتهن وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني، فإني رسول الله.
وقد بعثت إليك ابن عمي جعفرا، ونفرا معه من المسلمين، فإذا جاءك، فأقرهم، ودع التجبر، فإني أدعوك وجنودك إلى الله، فقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصحي. والسلام على من اتبع الهدى (6) » .
وقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عمه جعفرا هذا الكتاب إلى النجاشي وقت
__________
(1) الإصابة (1 \ 248)
(2) أسد الغابة (1 \ 287) والإصابة (1 \ 248) والاستيعاب (1 \ 242) .
(3) سيرة ابن هشام (1 \ 345) .
(4) جوامع السيرة (57) والدرر (51) .
(5) الطبري (2 \ 652) وصبح الأعشى (6 \ 379) ، وانظر: تفاصيل المراجع والمصادر في: مجموعة الوثائق السياسية (43- 44) في الوثيقة رقم (21)
(6) اسم النجاشي: أصحمة وليس الأصحم، انظر: البداية والنهاية (3 \ 77) . (5)(27/193)
هجرة جعفر إلى الحبشة، طالبا من النجاشي العادل الاعتناء بحال اللاجئين الغرباء في بلاده (1) من المسلمين، وهم المهاجرون الأولون من المسلمين إلى أرض الحبشة، كما دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام.
وذكر العبارة: ". . . «وقد بعثت إليك ابن عمي جعفرا، ونفرا معه من المسلمين، فإذا جاءك، فأقرهم» . . . "، لا يمكن أن تتعلق بالكتاب المرسل في السنة السادسة الهجرية مع عمرو بن أمية الضمري، حيث كان قد مضى خمس عشرة سنة على هجرة جعفر إلى الحبشة، وكان على وشك الرجوع إلى دار الإسلام.
والمصادر التي لم تذكر هذه العبارة في متن الكتاب النبوي متأخرة عن الطبري الذي ذكرها، فليس ذكرها سهوا من الطبري، بل عدم ذكرها سهو من المتأخرين.
2 - ولما رأت قريش أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة، وأنهم قد اصابوا بها دارا وقرارا، ائتمروا أن يبعثوا فيهم منهم رجلين من قريش جليدين إلى النجاشي فيردهم عليهم، ليفتنوهم في دينهم، ويخرجوهم من دارهم التي اطمأنوا بها وأمنوا فيها، فبعثوا عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص بن وائل، وجمعوا لهما الهدايا للنجاشي وبطارقته (2) ، ثم بعثوهما إليه فيهم، وأمروهما أن يدفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن يكلما النجاشي في المسلمين المهاجرين إلى أرض الحبشة.
وخرجا حتى قدما على النجاشي، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، وقالا لكل بطريق منهم: "إنه قد ضوى (3) إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا
__________
(1) مجموعة الوثائق السياسية (3) .
(2) البطارقة: فسره أبو ذر بالوزراء.
(3) ضوى: أوى، ولجأ ولصق.(27/194)
في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا، ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم" فقالوا لهما: "نعم" (1) .
وكان أمير المؤمنين على المهاجرين إلى الحبشة جعفر بن أبي طالب (2) وقدم عمرو بن العاص وصاحبه هداياهما إلى النجاشي، فقبلها منهما، فكلماه في المسلمين الذين هاجروا إلى بلاده ليردهم إلى قريش، فأرسل النجاشي إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما جاءوا، وقد دعا النجاشي أساقفته (3) فنشروا مصاحفهم حوله، فسألهم وقال لهم: "ما هذا الدين الذي فارقتم به قومكم، ولم تدخلوا ديني ولا دين أحد من هذه الملل؟ فأجابه جعفر عن المسلمين المهاجرين فقال له: "أيها الملك! كنا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش وقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - وعدد عليه أمور الإسلام - فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى
__________
(1) سيرة ابن هشام (1 \ 356 - 358) .
(2) طبقات ابن سعد (4 \ 34) .
(3) الأساقفة: جمع أسقف، وهو العالم في النصرانية.(27/195)
عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك، فقال له النجاشي: "هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ " فقرأ عليه صدرا من (كهيعص) (1) ، فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم (2) ثم قال النجاشي: "إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة (3) واحدة، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون".
ولما خرجا من عنده، قال عمرو بن العاص: "والله لآتينه غدا عنهم، أستأصل به خضراءهم (4) فقال عبد الله بن أبي ربيعة، وكان أتقى الرجلين: "لا تفعل، فإن لهم أرحاما، وإن كانوا قد خالفونا" فقال: "والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد ".
وغدا على النجاشي من الغد، فقال: "أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه".
وأرسل النجاشي إلى المسلمين المهاجرين ليسألهم عن عيسى، فلما دخلوا عليه قال لهم: "ماذا تقولون في عيسى ابن مريم؟ " فقال جعفر: "نقول فيه الذي جاءنا به نبينا - صلى الله عليه وسلم - هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول"، فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ
__________
(1) هي سورة مريم - مكية إلا آيتي 58 و 71 فمدنيتان، وآياتها 98، نزلت بعد سورة فاطر - 19.
(2) سيرة ابن هشام (1 \ 358 - 359) .
(3) المشكاة: الثقب الذي يوضع فيه الفتيل والمصباح، وهي الكوة غير النافذة.
(4) أستأصل به خضراءهم: يعني جماعتهم ومعظمهم.(27/196)
منها عودا، ثم قال: "والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود (1) اذهبوا فأنتم الآمنون، من سبكم غرم، ما أحب أن لي جبلا من ذهب وأني آذيت رجلا منكم. . . ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها" فخرجا - عمرو بن العاص وصاحبه - من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به، وأقام المسلمون في أرض الحبشة عند النجاشي في خير دار مع خير جار (2) .
وهكذا أدى جعفر واجبه في الدفاع عن المسلمين المهاجرين إلى أرض الحبشة وفي شرح تعاليم الإسلام للنجاشي ورجاله، فنجح في إخفاق عمرو بن العاص وصاحبه في مهمته إلى أرض الحبشة، فعادا أدراجهما خائبين.
3 - ولما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وأذن للمسلمين بالهجرة إليها، وبدأ بوضع أسس المجتمع الإسلامي بالمؤاخاة، آخى بين جعفر ومعاذ بن جبل، من بني سلمة الأنصار وكان جعفر غائبا بالحبشة (3) .
وأكثر الذين أرخوا لجعفر لم يذكروا هذه المؤاخاة بينه وبين معاذ بن جبل، فقد كانت المؤاخاة بعد قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وقبل غزوة بدر الكبرى، فلما كان يوم بدر نزلت آية الميراث وانقطعت المؤاخاة، وجعفر غائب يومئذ بأرض الحبشة (4) .
وأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن أمية الضمري سفيرا إلى النجاشي (5) يدعوه
__________
(1) قال أبو ذر: تقديره: ما جاوز مقدار هذا العود أو قدر هذا العود.
(2) سيرة ابن هشام (1 \ 360) وحلية الأولياء (1 \ 114- 116) وانظر: عيون الأثر (1 \ 118- 119) .
(3) سيرة ابن هشام (2 \ 124) والدرر (99) وجوامع السيرة (96) والإصابة (1 \ 248) .
(4) طبقات ابن سعد (4 \ 35)
(5) سيرة ابن هشام (4 \ 279) وجوامع السيرة (29)(27/197)
إلى الإسلام سنة ست الهجرية، وكتب إلى النجاشي، فأسلم النجاشي، وأمره أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب ويرسلها ويرسل من عنده من المسلمين (1) .
فقد آمن النجاشي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واتبعه، وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب، وأرسل إليه ابنه في ستين من الحبشة، فغرقوا في البحر (2) . وبعث النجاشي بكسوة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3) . وأرسل النجاشي إلى النواتي (4) فقال: "انظروا ما يحتاج فيه هؤلاء القوم من السفن؟ "، فقالوا: يحتاجون إلى سفينتين، فجهزهم.
وكلم قوم النجاشي من الحبشة أسلموا، في أن يبعث بهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلموا عليه، وقالوا: نصاحب هؤلاء، فنجذف بهم في البحر، ونغنيهم، فأذن لهم، فشخصوا مع عمرو بن أمية، وأمر عليهم جعفر بن أبي طالب (5) .
ويبدو أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أرسل عمرو بن أمية إلى النجاشي في أواخر سنة ست الهجرية، فعاد من سفارته في أوائل سنة سبع الهجرية، لأن مهاجري الحبشة وعلى رأسهم جعفر، عادوا من أرض الحبشة إلى المدينة المنورة، في أعقاب غزوة خيبر التي كانت في شهر محرم من سنة سبع الهجرية (6) .
وقدم جعفر في جماعة من المسلمين من أرض الحبشة بإثر فتح خيبر (7) فالتزمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقبل «ما بين عينيه واعتنقه، وقال: والله ما
__________
(1) أسد الغابة (4 \ 86) .
(2) ابن الأثير (2 \ 113) .
(3) المحبر (76)
(4) النواتي: مفردها نوتي، وهو الملاح الذي يدير السفينة في البحر.
(5) أنساب الأشراف (1 \ 229) .
(6) جوامع السيرة (211) والدرر (217) .
(7) الدرر (218) .
(8) الاستيعاب (1 \ 242) .(27/198)
أدري بأيهما أنا أسر! بقدوم جعفر، أم بفتح خيبر. أو قال: والله ما أدري، أبقدوم جعفر أنا أسر وأفرح، أم بفتح خيبر وأنزله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنب المسجد. وقسم له من غنائم خيبر، واختط له إلى جنب المسجد (5) » .
وهكذا كانت لجعفر هجرتان: هجرة إلى الحبشة، وهجرة إلى المدينة المنورة (6) ، وقد استقر في المدينة المنورة قاعدة المسلمين الرئيسة، بعد أن طال غيابه عن وطنه ردحا طويلا من الزمن، استمر أكثر من أربع عشرة سنة في بلاد الحبشة، من السنة الثامنة قبل الهجرة إلى أوائل السنة السابعة الهجرية، كان خلالها المسئول الأول عن المسلمين المهاجرين إلى أرض الحبشة، فأسلم على يده النجاشي وغيره من الحبشة، كما أسلم غير النجاشي وغير الذين أسلموا على يد جعفر من الأحباش على أيدي غيره من المسلمين المهاجرين.
ولا مجال للشك في إسلام النجاشي، ولا مجال للتشكيك في إسلامه، ولا يقبل الشك في إسلامه ولا التشكيك فيه مسلم حق، لأن إسلام النجاشي ثابت، «فقد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الغائب حين بلغه موته، (7) » كما ثبت ذلك في صحيح البخاري ومسلم (8) والنسائي (9) وفي جميع مصادر الحديث الشريف والفقه الإسلامي (10) ، ولا تصلى صلاة الغائب إلا
__________
(1) طبقات ابن سعد (4 \ 35) (8)
(2) سيرة ابن هشام (3 \ 414) . (1)
(3) الدرر (218) ، وفي طبقات ابن سعد (4 \ 35) : ما أدري بأيها أنا أفرح، بقدوم جعفر أم بفتح خيبر. (2)
(4) أسد الغاية (1 \ 287) (3)
(5) طبقات ابن سعد (4 \ 35) (4)
(6) أسد الغاية (1 \ 287) .
(7) مسند أحمد بن حنبل (1/461) .
(8) صحيح مسلم (3 \ 54) في باب التكبير على الجنازة
(9) النسائي (2 \ 337) في باب التكبير على الجنازة
(10) انظر: التفاصيل في بحث: إسلام النجاشي في هذا الكتاب.(27/199)
على المسلمين فحسب، وكان اسم النجاشي الذي أسلم وصلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الغائب: أصحمة (1) .
__________
(1) المحبر (76) والبداية والنهاية (3 \ 77) .(27/200)
في سرية مؤتة:
بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - سرية مؤتة في جمادى الأولى من سنة ثمان الهجرية، وكان سبب بعث هذه السرية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث الحارث بن عمير الأزدي أحد أبناء بني لهب إلى ملك بصرى (1) بكتاب يدعوه فيه إلى الإسلام، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فقتله، ولم يقتل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رسول غيره، فاشتد ذلك عليه، وندب الناس، فأسرعوا، وعسكروا خارج المدينة المنورة بالجرف (2) ، وهم ثلاثة آلاف، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمير الناس زيد بن حارثة، فإن قتل فجعفر بن أبي طالب فإن قتل فعبد الله بن رواحة، فإن قتل فليرتض المسلمون بينهم رجلا، فيجعلوه عليهم (3) » .
وعقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لواء أبيض دفعه إلى زيد بن حارثة، وأوصاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا عليهم الله وقاتلوهم. وخرج - عليه الصلاة والسلام - مشيعا لهم حتى بلغ (ثنية الوداع) (4) ، فوقف وودعهم، فلما ساروا من معسكرهم نادى المسلمون: دفع الله عنكم، وردكم صالحين غانمين! فقال عبد الله بن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرع تقذف الزبدا (5)
__________
(1) بصرى: مدينة من أعمال دمشق، وهي قصبة حوران، انظر: التفاصيل في معجم البلدان (2 \ 208) .
(2) الجرف: موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام، انظر معجم البلدان (3 \ 87) .
(3) صحيح البخاري المغازي (4261) .
(4) ثنية الوداع: ثنية مشرفة على المدينة، سميت لتوديع المسافرين منها، انظر معجم البلدان (3 \ 25) .
(5) ذات فرع: أي ذات سعة.(27/200)
ولما فصل المسلمون من المدينة، سمع العدو بمسيرهم فجمعوا لهم، وقام فيهم شرحبيل بن عمرو، فجمع أكثر من مائة ألف، وقدم الطلائع أمامه.
ونزل المسلمون (معان) (1) من أرض الشام، وبلغ الناس أن هرقل قد نزل (مآب) (2) من أرض البلقاء في مائة ألف من بهراء ووائل وبكر ولخم وجذام.
وأقام المسلمون في معان ليلتين لينظروا في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنخبره الخبر. . . . . ولكن عبد الله بن رواحة شجع المسلمين على المضي قدما إلى هدفهم تنفيذا لأوامر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمضوا إلى مؤتة.
ولما وصل المسلمون إلى (مؤتة) ، وافاهم المشركون هناك، فجاءهم ما لا قبل لأحد به من العدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب، فالتقى المسلمون بالمشركين، وقاتل الأمراء يومئذ على أرجلهم.
وأخذ اللواء زيد بن حارثة، فقاتل وقاتل المسلمون معه على صفوفهم، حتى قتل طعنا بالرماح رحمه الله.
وأخذ اللواء جعفر بن أبي طالب، فترجل عن فرس له شقراء، فعرقبها (3) ، فكانت أول فرس عرقبت في الإسلام، وقاتل حتى استشهد - رضي الله عنه -، ضربه رجل من الروم، فقطعه بنصفين، فوجد في أحد نصفيه بضعة وثلاثون جرحا، ووجد فيما أقبل من بدن جعفر ما بين منكبيه تسعون ضربة بين طعنة برمح وضربة بسيف، وفي رواية أخرى اثنتان وسبعون ضربة بسيف وطعنة برمح (4) .
__________
(1) معان: مدينة بطرف بادية الشام تلقاء الحجاز، انظر: معجم البلدان (8 \ 93)
(2) مآب: مدينة في طرف الشام بنواحي البلقاء انظر: معجم البلدان (7 \ 249) .
(3) عرقبها: قطع عرقوبها، وعرقوب الدابة في رجلها.
(4) انظر: التفاصيل في طبقات ابن سعد (4 \ 38 - 39) .(27/201)
وأخذ اللواء عبد الله بن رواحة، فقاتل حتى قتل - رضي الله عنه -، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فسحب قوات المسلمين من ساحة المعركة وحمى بالشاقة انسحابهم، وعاد بهم إلى المدينة.
وهكذا مضى جعفر إلى ربه شهيدا، مقبلا غير مدبر، يقاتل الروم وحلفاءهم من الغساسنة وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وباردا شرابها
والروم روم قد دنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها
علي إذ لاقيتها ضرابها ... .........
فأخذ جعفر اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه (1) بعضديه حتى قتل (2) فسقط مضرجا بدمائه دون أن يسقط اللواء، فقد رفعه أحد المسلمين عاليا، وتلك شجاعة فذة، وبطولة نادرة، وإقدام لا يتكرر إلا قليلا.
الإنسان:
كانت سن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يوم أسلم إحدى عشر سنة على أصح ما ورد من الأخبار في إسلامه، وقيل ثلاث عشرة، وقيل: سبع سنين، والثابت إحدى عشرة سنة لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث وهذه سنوه، فأقام معه بمكة ثلاث عشرة سنة (3) ، أي أن عليا كان في الرابعة والعشرين من عمره حين هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة.
__________
(1) احتضنه: أخذه في حضنه، وحضن الرجل: ما تحت العضد إلى أسفل.
(2) سيرة ابن هشام (3 \ 434) .
(3) مقاتل الطالبيين (17)(27/202)
وكان جعفر أكبر من علي بن أبي طالب بعشر سنين (1) أي أن جعفرا كان في الرابعة والثلاثين من عمره حين هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة.
وقد استشهد جعفر بمؤتة من أرض الشام مقبلا غير مدبر مجاهدا للروم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - في شهر جمادى الأولى من سنة ثمان الهجرية (2) (629 م) ، أي أنه استشهد وكان له من العمر اثنتان وأربعون سنة.
وولد جعفر: عبد الله، ومحمدا، وعونا، أمهم: أسماء بنت عميس، الخثعمية (3) ولما هاجر جعفر إلى أرض الحبشة، حمل امرأته أسماء بنت عميس فولدت له هناك: عبد الله ومحمدا وعونا، ثم ولد للنجاشي بعدما ولدت أسماء بنت عميس ابنها عبد الله، فأرسل إلى جعفر: "ما سميت ابنك؟ " قال: " عبد الله " فسمى النجاشي ابنه عبد الله، فأخذته أسماء وأرضعته حتى فطمته بلبن عبد الله بن جعفر، ونزلت بذلك عندهم منزلة، فكان من أسلم بالحبشة يأتي أسماء بعد، يخبر خبرهم فلما ركب جعفر بن أبي طالب مع أصحاب السفينتين منصرفهم من عند النجاشي، حمل معه أسماء بنت عميس وولده الذين ولدوا هناك: عبد الله، ومحمدا وعونا، حتى قدم بهم المدينة، فلم يزالوا بها حتى وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - جعفرا إلى مؤتة، فمات بها شهيدا (4) .
ولجعفر ثلاثة أبناء من أسماء بنت عميس، انقرض عقب محمد من قبل ابنه القاسم، ولم يكن له غيره، ولعون عقب غير مشهور، وولد عبد الله
__________
(1) أسد الغابة (1 \ 287) والاستيعاب (1 \ 242) والإصابة (1 \ 248) .
(2) الإصابة (1 \ 248) وانظر تاريخ خليفة بن خياط (1 \ 49) والعبر (1 \ 9) وتهذيب التهذيب (2 \ 98) .
(3) انظر: نسبها في نسب قريش (80 - 81) وجمهرة أنساب العرب (390 - 391) .
(4) نسب قريش (81) .(27/203)
بن جعفر وأولهم علي بن عبد الله بن جعفر، وفيه الكثرة والعدد، وأمه زينب بنت علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - من فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولما استشهد حمزة بن عبد المطلب، خلف ابنة واحدة، فرآها علي بن أبي طالب تطوف حول الكعبة بين الرجال، فأخذ بيدها وألقاها إلى فاطمة في هودجها. واختصم فيها علي بن أبي طالب، وجعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة حتى ارتفعت أصواتهم، فأيقظوا النبي - صلى الله عليه وسلم - من نومه، فقال: "هلموا أقض بينكم فيها وفي غيرها" فقال علي: "ابنة عمي، وأنا أخرجتها، وأنا أحق بها" وقال جعفر: "ابنة عمي، وخالتها عندي"، وقال زيد: "ابنة أخي "، فقال في كل واحد قولا رضيه، فقضى بها لجعفر، وقال: "الخالة والدة"، فقام جعفر فحجل (1) حول النبي - صلى الله عليه وسلم -، دار عليه، فقال النبي - عليه الصلاة والسلام -: "ما هذا؟ "، قال: "شيء رأيت الحبشة يصنعون بملوكهم" وخالة بنت حمزة أسماء بنت عميس، وأمها سلمى بنت عميس (2) .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لجعفر حين تنازع هو وعلي وزيد في ابنة حمزة: «أشبه خلقك خلقي، وخلقك خلقي (3) » ، وفي رواية أخرى: «أشبهت خلقي وخلقي (4) » ، وفي رواية ثالثة: «إنك شبيه خلقي وخلقي (5) » ، فهو أحد المعدودين من المشبهين بالنبي - صلى الله عليه وسلم - (6) .
__________
(1) حجل - حجلا وحجلانا: مشى على رجل، رافعا الأخرى. ويقال: مر يحجل في مشيته: إذا تبختر.
(2) طبقات ابن سعد (4 \ 35 - 36) وانظر جمهرة أنساب العرب (390) خول نسب أسماء وسلمى ابنتي عميس.
(3) صحيح البخاري المغازي (4251) ، سنن الترمذي المناقب (3765) .
(4) صحيح البخاري الصلح (2700) ، سنن الترمذي المناقب (3765) .
(5) طبقات ابن سعد (4 \ 36)
(6) انظر أسماءهم في المحبر (46 - 47) .(27/204)
وكان اسم ابنة حمزة - رضي الله عنه -: أمامة، زوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلمة بن أبي سلمة، وكان يقول: «هل جزيت سلمة؟» ، يعني حين زوجه بنت حمزة بتزويجه إياه أمه أم سلمة (1) .
وقد تزوج أسماء بنت عميس بعد جعفر أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، ثم تزوجها علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (2) .
فقالت ولما أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل جعفر كما روت عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -، قالت: «عرفنا في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحزن " ثم أمهل - عليه الصلاة والسلام - آل جعفر ثلاثا أن يأتيهم، ثم أتاهم فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ثم قال: ائتوني ببني أخي، فجيء بنا كأننا أفراخ، فقال: ادعو إلى الحلاق، فدعي، فحلق رءوسنا، ثم قال: اللهم اخلف جعفرا في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه ثلاث مرات، فجاءت أسماء وذكرت يتم أولادها، فقال: آلعيله تخافين عليهم، وأنا وليهم في الدنيا والآخرة؟ (4) » .
«وصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على جعفر، ودعا له ثم قال: استغفروا لأخيكم جعفر، فإنه شهيد، وقد دخل الجنة، وهو يطير فيها بجناحين من ياقوت حيث شاء من الجنة (5) » .
وذكر عن عبد الله بن جعفر أنه قال: «"أنا أحفظ حين دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمي فنعى لها أبي، فأنظر إليه، يمسح على رأسي، وعيناه تهرقان بالدموع، حتى تقطر لحيته، ثم قال: اللهم إن جعفرا قدم إلي أحسن
__________
(1) المحبر (107) .
(2) المحبر (442 - 443) .
(3) طبقات ابن سعد (4 \ 37) .
(4) الإصابة (1 \ 249) . (3)
(5) طبقات ابن سعد (4 \ 38) .(27/205)
الثواب، فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحدا من عبادك في ذريته، ثم قال: يا أسماء! ألا أسرك؟ ، "قالت: "بلى، بأبي أنت وأمي"، قال: إن الله جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة، قالت: " بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فأعلم الناس ذلك"، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخذ بيدي حتى رقى المنبر، وأجلسني أمامه على الدرجة السفلى، والحزن يعرف عليه، فتكلم، فقال: إن المرء كثير بأخيه وابن عمه، ألا إن جعفرا قد استشهد، وقد جعل الله له جناحين يطير بهما في الجنة، ثم نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدخل بيته، وأدخلني معه، وأمر بطعام فصنع لأهلي وأرسل إلى أخي، فتغذينا عنده والله غداء طيبا مباركا: عمدت سلمى خادمه إلى شعير فطحنته، ثم نسفته، فأنضجته، وأدمته بزيت، وجعلت عليه فلفلا، فتغديت أنا وأخي معه، فأقمنا ثلاثة أيام في بيته، ندور معه كلما صار في بيت إحدى نسائه، ثم رجعنا إلى بيتنا (1) » .
وفي صحيح البخاري أن عبد الله بن عمر بن الخطاب كان إذا سلم على ابن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين" (2) لأنه قاتل في مؤتة فقطعت يداه والراية معه لم يلقها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أبدله الله جناحين يطير بهما في الجنة (3) » .
«ولما نعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعفرا إلى زوجه أسماء بنت عميس، قامت وصاحت وجمعت النساء، فدخلت عليها فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي تبكي وتقول: "واعماه! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: على مثل جعفر فلتبك البواكي ودخله من ذلك هم شديد ولما رجع - عليه الصلاة والسلام - إلى أهله قال: لا تغفلوا آل جعفر، فإنهم قد شغلوا فأعدوا لآل جعفر
__________
(1) نسب قريش (81 - 82) .
(2) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 149) والإصابة (1 \ 249) .
(3) أسد الغابة (1 \ 288) .
(4) أنساب الأشراف (1 \ 380) .(27/206)
طعاما، وأوصى أسماء زوج جعفر بقوله: لا تقولي هجرا ولا تضربي صدرا (1) » .
وكان مما بكي به شهداء مؤتة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قول حسان بن ثابت:
تأوبني ليل بيثرب أعسر ... وهم إذا ما نوم الناس مسهر
لذكرى حبيب هيجت لي عبرة ... سفوحا وأسباب البكاء التذكر (2)
بلى إن فقدان الحبيب بلية ... وكم من كريم يبتلى ثم يصبر
رأيت خيار المؤمنين تواردوا ... شعوبا وخلفا بعدهم يتأخر
فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا ... بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر
وزيد وعبد الله حين تتابعوا ... جميعا وأسباب المنية تخطر (3)
غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم ... إلى الموت ميمون النقيبة أزهر (4)
أغر كضوء البدر من آل هاشم ... أبي إذا سيم الظلامة مجسر (5)
فطاعن حتى مال غير موسد ... بمعترك فيه قنا متكسر (6)
فصار مع المستشهدين ثوابه ... جنان وملتف الحدائق أخضر (7)
وكنا نرى في جعفر من محمد ... وفاء وأمرا حازما حين يأمر
وما زال في الإسلام من آل هاشم ... دعائم عز لا يزلن ومفخر
__________
(1) أسد الغابة (1 \ 289) (4)
(2) العبرة: الدمعة. والسفوح السائلة أو شديدة السيلان.
(3) تخطر: تقول: خطر فلان في مشيته: إذا اختال فيها وتبختر وتحرك واهتز.
(4) ميمون النقيبة: يريد أنه مسعود منجح فيما يطلبه. وأزهر: أبيض.
(5) الأبي: العزيز الذي يأبى الضيم، أي يمتنع من قبوله. سيم: كلف. المجسر: الشديد الجسارة.
(6) المعترك: موضع الحرب.
(7) الحدائق: جمع حديقة وهي الجنة.(27/207)
هم جبل الإسلام والناس حولهم ... رضام إلى طود يروق ويبهر (1)
بهاليل منهم جعفر وابن أمه ... علي ومنهم أحمد المتخير (2)
وحمزة والعباس منهم ومنهم ... عقيل وماء العود من حيث يعصر
بهم تفرج اللأواء في كل مأزق ... عماس إذا ما ضاق بالناس مصدر (3)
هم أولياء الله أنزل حكمه ... عليهم وفيهم ذا الكتاب المطهر
وقال كعب بن مالك يرثي جعفر بن أبي طالب:
هدت العيون ودمع عينك يهمل ... سحا كما وكف الطباب المخضل
في ليلة وردت علي همومها ... طورا أخن وتارة أتململ
واعتادني حزن فبت كأنني ... ببنات نعش والسماك موكل (4)
وكأنما بين الجوانح والحشا ... مما تأوبني شهاب مدخل (5)
وجدا على النفر الذين تتابعوا ... يوما بمؤتة أسندوا لم ينقلوا
صلى الإله عليهم من فتية ... وسقى عظامهم الغمام المسبل (6)
صبروا بمؤتة للإله نفوسهم ... حذر الردى ومخافة أن ينكلوا (7)
فمضوا أمام المسلمين كأنهم ... فنق عليهن الحديد المرفل (8)
إذ يهتدون بجعفر ولوائه ... قدام أولهم فنعم الأول
حتى تفرجت الصفوف وجعفر ... حيث التقى وعث الصفوف مجدل (9)
__________
(1) الرضام: جمع رضم، وهو الحجارة يجعل بعضها فوق بعض. والطود: الجبل. ويروق: يعجب.
(2) البهاليل: جمع بهلول، وهو السيد.
(3) اللأواء: الشدة. والمأزق: المكان الضيق. والعماس: المظلم، يريد عند ارتفاع الغبار فيه.
(4) بنات نعش: من النجوم المعروفة.
(5) الجوانح: عظام أسفل الصدر. والشهاب: القطعة من النار. ومدخل: اسم مفعول من أدخل.
(6) المسبل: الممطر، ويقال للمطر: سبل.
(7) ينكلوا: يرجعوا عن عدوهم هائبين له.
(8) فنق: جمع فنيق، وهو الفحل على الإبل. والمرفل: الذي تجر أطرافه على الأرض.
(9) الوعث: الرمل الذي تغيب فيه الأرجل. ومجدل: مطروح على الجدالة وهي الأرض.(27/208)
فتغير القمر المنير لفقده ... والشمس قد كسفت وكادت تأفل (1)
قرم علا بنيانه من هاشم ... فرعا أشم وسؤددا ما ينقل
قوم بهم عضم الإله عباده ... وعليهم نزل الكتاب المنزل
فضلوا المعاشر عزة وتكرما ... وتغمدت أحلامهم من يجهل (2)
لا يطلقون إلى السفاه حباهم ... وترى خطيبهم بحق يفصل
بيض الوجوه ترى بطون أكفهم ... تندى إذا اعتذر الزمان الممحل (3)
وبهديهم رضي الإله لخلقه ... وبحدهم يصر النبي المرسل
وقال حسان بن ثابت يبكي جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه -:
ولقد بكيت وعز مهلك جعفر ... حب النبي على البرية كلها
ولقد جزعت وقلت حين نعيت لي ... من للجلاد لدى العقاب وظلها (4)
بالبيض حين تسل من أغمادها ... ضربا وإنهال الرماح وعلها
بعد ابن فاطمة المبارك جعفر ... خير البرية كلها وأجلها (5)
رزءا وأكرمها جميعا محتدا ... وأعزها متظلما وأذلها
للحق حين ينوب غير تنحل ... كذبا وأنداها يدا وأقلها (6)
__________
(1) تأفل: تغيب.
(2) تغمدت أحلامهم من يجهل: أي سترت أهل الجهل.
(3) الممحل: هو من المحل، وهو الشدة والقحط وكلب الزمان والجدب.
(4) العقاب في هذا المكان الراية.
(5) فاطمة هاهنا: هي أم جعفر وعلي وعقيل أبناء أبي طالب، هي أول هاشمية ولدت لهاشمي.
(6) التنحل: الانتحال، والتنحل: الكذب أيضا.(27/209)
فحشا وأكثرها إذا ما يجتدى ... فضلا وأنداها يدا وأبلها (1)
بالعرف غير محمد لا مثله ... حي من أحياء البرية كلها
والشعر في رثائه كثير، اكتفينا بجزء منه
لقد كانت لجعفر مواقف مشهورة، ومقامات محمودة، وأجوبة سديدة، وأحوال رشيدة، وقال فيه أبو هريرة: "ما احتذى النعال ولا انتعل، ولا ركب المطايا، ولا لبس الثياب من رجل بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل من جعفر بن أبي طالب " وكأنه إنما يفضله في الكرم، فأما في الفضيلة الدينية، فمعلوم أن الصديق والفاروق بل وعثمان بن عفان أفضل منه. وأما أخوه علي بن أبي طالب فالظاهر أنهما متكافئان أو علي أفضل منه، وإنما أراد أبو هريرة تفضيله بالكرم، بدليل ما رواه البخاري عن أبي هريرة: كان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، وكان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إن كان ليخرج إلينا العكة (2) التي ليس فيها شيء فنشقها، فنعلق ما فيها" تفرد به البخاري (3) ، فهو الجواد أبو الجواد (4) بحق، وكان أبو هريرة كما روى البغوي يقول: "كان جعفر يحب المساكين ويجلس إليهم ويخدمهم ويخدمونه (يحدثهم ويحدثونه) ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكنيه: أبا المساكين" (5) .
ولما عاد جعفر من أرض الحبشة مهاجرا إلى المدينة، وقدم مع المسلمين في السفينتين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خيبر، أسهم لهم من
__________
(1) يجتدى: تطلب جدواه، والجدوى بفتح الجيم: المنحة والعطية.
(2) العكة: زق صغير للسمن، جمعها: عكك، وعكاك.
(3) البداية والنهاية (4 \ 256- 257) .
(4) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 148) وتهذيب التهذيب (2 \ 91) .
(5) الإصابة (1 \ 248) .(27/210)
غنائم خيبر ولم يسهم لمن لم يحضرها غير أهل السفينتين (1) ، فكانت حصة جعفر خمسين وسقا من تمر في كل سنة (2) .
وقد ورد ذكر جعفر في (المختصر) وفي مواضع من (المهذب) ، منها: باب التكبير في العيد، والتعزية، والشرط في الطلاق، والحضانة (3) . روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنه ابنه عبد الله وبعض أهله وأم سلمة وعمرو بن العاص وابن مسعود، وروى له النسائي في اليوم والليلة حديثا واحدا من رواية ابنه عبد الله عنه في كلمات الفرح والمحفوظ عن عبد الله بن جعفر عن علي بن أبي طالب (4) .
وكان علي بن أبي طالب يقول: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لم يكن قبلي نبي إلا قد أعطى سبعة رفقاء نجباء وزراء، وإني أعطيت أربعة عشرة (5) » ، وعدد أسماءهم ومنهم جعفر (6) .
وكان أحد حواري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم أبو بكر، وعمر، وعلي، وحمزة، وجعفر، وأبو عبيدة بن الجراح، وعثمان بن عفان، وعثمان بن مظعون، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام - رضي الله عنهم -، وقيل الزبير بن العوام وحده (7) حواري رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 148) .
(2) طبقات ابن سعد (4 \ 41) .
(3) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 148) .
(4) تهذيب التهذيب (2 \ 98) وانظر خلاصة تهذيب التهذيب الكمال (63) .
(5) سنن الترمذي المناقب (3785) ، مسند أحمد بن حنبل (1/148) .
(6) أسد الغابة (1 \ 287 - 288) .
(7) المحبر (474) .(27/211)
وصدقت زوجه أسماء بنت عميس حيث وصفته بعد موته قائلة: "ما رأيت شابا من العرب كان خيرا من جعفر، ولا رأيت كهلا خيرا من أبي بكر " (1) .
وصدقت في رثائه حين قالت:
فآليت لا تنفك نفسي حزينة ... عليك ولا ينفك جلدي أغبرا
فلله عينا من رأى مثله فتى ... أكر وأحمى في الهياج وأصبرا (2)
ومناقب جعفر كثيرة مشهورة (3) .
القائد
عاد جعفر إلى المدينة المنورة مهاجرا إليها من هجرته إلى أرض الحبشة في أعقاب غزوة خيبر التي كانت في شهر محرم من سنة سبع الهجرية، كما ذكرنا من قبل.
وكانت غزوة مؤتة في شهر جمادى الأولى من السنة الثامنة الهجرية، فمكث مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة وثلاثة أشهر، لم يكن فيها من الأحداث المهمة غير عمرة القضاء التي كانت في شهر ذي القعدة من السنة السابعة الهجرية التي شهدها النبي - صلى الله عليه وسلم - وغير بعض السرايا التي قادها أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ثم جاءت سرية مؤتة، وهي من أهم سرايا النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنها كانت على الروم في أرض الشام وحلفائهم من العرب الغساسنة النصارى وحلفاء الغساسنة من العرب النصارى والمشركين، فكانت أول سرية تتعرض بالدولة البيزنطية وهي أكبر دولتين في العالم حينذاك: الروم والفرس، كما كانت أول سرية تنهض بتعرض خارجي على نطاق دولي لأعلى نطاق محلي
__________
(1) طبقات ابن سعد (4 \ 41) .
(2) البداية والنهاية (4 \ 253) .
(3) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 149) .(27/212)
قبلي، لذلك احتفل النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الغزوة، وحشد لها ثلاثة آلاف مجاهد من المسلمين وولى قيادتها أكفأ قادته: زيد بن حارثة الكلبي، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحه.
وبالرغم من قصر المدة التي بقي فيها جعفر إلى جانب النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا أنه شارك في سرية مؤتة قائدا، فخاض معركة مهمة جدا من معارك المسلمين على الروم وحلفائهم وهي المعركة التمهيدية الحقيقية لفتح بلاد الشام التي حملت المسلمين على تأسيس أول ركن لدولة الإسلام خارج شبه الجزيرة العربية، على شواطئ البحر الأبيض المتوسط الشرقية، ذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى جانب تبليغه الدعوة الإسلامية إلى قادة العالم في وقته، كان قائدا ماهرا يقظا لا يغض الطرف عن أي مظهر عدواني قد يحط من شأن دعوته أو يعمل على النيل منها، فلم يقف ساكنا إزاء استشهاد رسوله الذي بعثه إلى أمير الغساسنة في بصرى، فأرسل سرية مؤتة للأخذ بثأر رسوله الشهيد. وهناك عند مؤتة على حدود البلقاء إلى الشرق من الطرف الجنوبي للبحر الميت، التقى المسلمون بقوات الروم.
ومهما كانت الخاتمة التي لقيتها سرية مؤتة، فإن نتائجها وآثارها كانت بعيدة المدى، فبينما رأى الروم تلك السرية (غارة) من الغارات التي اعتاد البدو شنها للنهب والسلب كانت تلك السرية في الواقع ومعركتها من نوع جديد لم تقدر دولة الروم أهميتها، فهي حرب منظمة كانت لها مهمة خاصة، جعلت المسلمين يتطلعون جديا لفتح أرض الشام.
وفي العام التالي، أي في السنة التاسعة الهجرية (630 م) ، قاد النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه غزوة (تبوك) ، فأظهر قوة المسلمين، وعاد إلى المدينة منتصرا.
لقد قدر الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام بعمق ودقة أهمية سرية مؤتة وأهمية المعركة التي تخوضها، وخطورتها على حاضر(27/213)
المسلمين ومستقبلهم، لذلك جعل على تلك السرية ثلاثة قادة من أبرز قادته وألمعهم، إذا سقط الأول شهيدا، تولى القيادة الثاني وإذا استشهد الثاني تولاها الثالث فإذا استشهد اصطلح المسلمون على قائد يختارونه، وما ولى النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل سرية مؤتة ولا ولى بعدها ثلاثة قادة أو قائدين على سرية واحدة، ولكن بعد نظره - عليه الصلاة والسلام - وتقديره لأهمية هذه السرية وخطورتها هو الذي جعله يولي ثلاثة قادة على سرية واحدة، مرة واحدة فقط في حياته العسكرية كلها، وقد صدقت الأحداث ما توقعه، فانهزمت السرية ظاهريا ولكنها انتصرت معنويا حيث رجعوا وأثرت في معنويات الروم تأثيرا عظيما.
وتولية جعفر القيادة في سرية مؤتة على أهميتها وخطورتها، دليل على كفايته القيادية وأنه قائد من طراز فريد.
وليس من الصعب اكتشاف سمات جعفر القيادية، فقد كان من أولئك القادة ذوي العقيدة الراسخة، الذين يضحون أرواحهم من أجل عقيدتهم، ويعتبرون الشهادة فوزا عظيما.
وحين رفع اللواء جعفر بعد استشهاد سلفه زيد بن حارثة، كان يعلم بالتأكيد أنه يسلك طريق الشهادة، فأقبل على مصيره المرتقب مقبلا غير مدبر بإصرار وعناد واستقتال، وهو دليل على شجاعته النادرة التي لا تتكرر إلا في المجاهدين الصادقين المحتسبين من ذوي العقيدة الراسخة والإيمان العميق.
وكان يتمتع بعقل سديد ومنطق صائب وذكاء وقاد، مما يؤدي إلى أن تكون قراراته سريعة صحيحة.
وكان ذا إرادة قوية ثابتة يتحمل المسئولية ويحبها ولا يتهرب منها أو يلقيها على عواتق الآخرين.(27/214)
وكان ذا نفسية لا تتبدل في حالتي النصر والاندحار ثابتة على الخطوب والأحداث، والإيمان بالقضاء والقدر يقوي هذا الاتجاه.
وكان يعرف نفسيات رجاله وقابليتهم، ويكلف كل فرد منهم ما يستطيع أن يؤديه بكفاية وإتقان.
وكان يثق برجاله ويثقون به، وكان موضع ثقة النبي - صلى الله عليه وسلم - وثقة أصحابه الكاملة، وكان يحب رجاله ويحبونه، ويعتمد عليهم ويعتمدون عليه.
وكان ذا شخصية قوية نافذة، ويضبط رجاله ويسيطر عليهم، ويتحلى بالطاعة التي هي الضبط المتين في أجلى مظاهره.
وكان ذا ماض ناصع مجيد نسبا وفي خدمة الدين الحنيف.
وكان عارفا بمبادئ الحرب: يختار مقصده ويديمه، ويتخذ مبدأ التعرض سبيلا لمعركته يحشد قوته، ويقتصد بمجهوده، ويطبق مبدأ الأمن على قوته، ويديم معنوياتها، ويرعى قضاياها الإدارية.
ولم يطبق مبدأ المباغتة في هذه السرية، فقد كان من الصعب إخفاء حركتها في تلك الظروف التي كان العدو يتوقع أن يهاجمهم المسلمون بعد مقتل رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أمير الغساسنة، إذ من الصعب السكوت عن قتله أو إهماله، وهو رسول من رسل الدعوة والرسل لا تقتل أبدا، بل تكرم بموجب العرف السائد حينذاك حتى بين القبائل العربية التي تسكن الصحراء البعيدة عن معالم الحضارة.
لقد كان قائدا متميزا، وحسبه أن يكون من خريجي مدرسة الرسول القائد العظيمة - عليه الصلاة والسلام - في القيادة. . . والعقيدة.(27/215)
السفير
كانت مزايا جعفر سفيرا واضحة المعالم، أهلته للنهوض بواجبه في تبليغ رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - للنجاشي ملك الحبشة على أحسن وجه، وأهلته(27/215)
للنهوض بواجب الدعوة إلى الله في أرض الحبشة، فآمن على يديه النجاشي وكثير من بني قومه، وأهلته للدفاع عن المسلمين المهاجرين إلى أرض الحبشة تجاه مكايد سفيري مشركي قريش الذين كانا أثيرين لدى النجاشي ولدى المقربين إليه من رجال الدين والسلطة، ولديهما الهدايا والمال الذي يغرون به النجاشي ورجاله المقربين، بينما لم يكن لدى جعفر ما يتقرب به من الهدايا والمال للنجاشي وغيره من أصحاب السلطان، وكان يعاني الفقر والعوز والحرمان.
كما أهلته تلك المزايا لقيادة المسلمين المهاجرين الذين قدموا معه أرض الحبشة من مكة، وقيادة المسلمين الجدد من الأحباش الذين اعتنقوا الإسلام على يديه وعلى أيدي إخوانه المهاجرين الآخرين، فقد كان جعفر أمير المؤمنين على المسلمين المهاجرين إلى الحبشة وعلى المسلمين في أرض الحبشة كافة، ما دام مهاجرا في أرض الحبشة حتى التحق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة المنورة، فكان جعفر نعم السفير القوي الأمين، ونعم الداعية الحصيف الحكيم، ونعم المدافع الجريء البليغ، ونعم القائد الحازم المقتدر.
أول هذه المزايا الانتماء والإيمان، فقد كان انتماؤه للإسلام حاسما جازما، وكان من الذين سارعوا إلى اعتناق هذا الدين، فكان من السابقين الأولين، ولعل الدليل القاطع على إيمانه العميق هجرته إلى أرض الحبشة، مخلفا أهله وماله وبلده من أجل عقيدته، وصبره الجميل على الغربة سنين طويلة في ظروف معاشية قاسية أو غير مريحة على أقل تقدير، وانتماؤه وإيمانه، هو الذي حفزه لرعاية إخوانه في الدين، فكانت رعايته لهم لا تقل في حال من الأحوال عن رعاية أهله وزوجه وبنيه، وأدى إلى الانسجام معهم في حياتهم الجديدة انسجاما خفف عليهم معضلات الغربة في ديار الغربة، ذلك لأن الثقة الكاملة كانت متبادلة بين جعفر والمسلمين(27/216)
المهاجرين، وبين المسلمين المهاجرين وجعفر، فكان بحق الأب والأخ والقائد والأمير للمسلمين / المهاجرين وللمسلمين غير المهاجرين من الأحباش أيضا.
كما أن الانتماء المطلق للإسلام والعقيدة الراسخة بتعاليمه، أشاع الانسجام الفكري بين المجتمع أفرادا وجماعات، وهذا يؤدي إلى التعاون المثمر بغير حدود.
وكان جعفر يتميز بالفصاحة، فهو رجل من قريش أفصح العرب، ومن بني هاشم أفصح قريش، وعرضه قضية المسلمين المهاجرين أمام النجاشي وبحضور عمرو بن العاص وصاحبه، خير دليل على فصاحته المتميزة ومنطقه الواضح السليم.
لقد كان أسلوبه البياني من ذلك السهل الممتنع، الذي لا يشق فهمه على أحد، ولكن يشق الإتيان بمثله على كل أحد إلا نادرا.
وكان عالما في الدين، يحفظ ما نزل من القرآن الكريم، ويتلوه على أسماع الآخرين دليلا على شرح الإسلام، وجوابا على اعتراض المعترضين وتساؤل المتسائلين.
وكان على جانب عظيم من حسن الخلق، فقد كان أخير الناس للمسكين (1) ، وما احتذى النعال ولا ركب المطايا ولا ركب الكور (2) بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل من جعفر (3) ، وقال - عليه الصلاة والسلام -، «أما أنت يا جعفر، فأشبهت خلقي وخلقي (4) » ، وحسبه بذلك دليلا على أنه كان على خلق عظيم.
__________
(1) أسد الغابة (1 \ 288) .
(2) الكور: الجماعة الكثيرة من الإبل.
(3) وأسد الغابة (1 \ 287) .
(4) مقاتل الطالبيين (12) وأسد الغابة (1 \ 287)(27/217)
ولا شيء كالخلق الكريم يؤدي إلى نجاح السفير في سفارته، لأنه يستقطب القلوب حوله، ويشد الناس إليه، ويجعله موضع ثقتهم، فيحقق ما يصبو إليه من أهداف دون عناء.
لقد كان جعفر ومن معه من المسلمين المهاجرين إلى أرض الحبشة لاجئين، فلما تأكد النجاشي أنهم على حق، وأنهم أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، بسط حمايته عليهم ومنعهم من أعدائهم مشركي قريش، وبالتدريج تطور حال جعفر من حال إلى حال، حتى أصبح النجاشي رجلا من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، وانتهى الأمر بالمسلمين المهاجرين أن عادوا إلى وطنهم مكرمين معززين برعاية النجاشي الكاملة وحمايته، ولم يكن هذا التطور من حسن إلى أحسن إلا ثمرة من ثمرات الخلق الكريم لجعفر خاصة وللمسلمين المهاجرين عامة.
وكان جعفر يتميز بالصبر والحكمة، وقد برز صبره الجميل في تحمل أخطار الهجرة من مكة إلى أرض الحبشة، والتسلل من مجتمع مشركي قريش الذين كانوا يناصبون أشد العداء للإسلام والمسلمين، ويحرصون على بقاء المسلمين في مكة، ليتصرف كل مشرك بما يشاء حين يشاء في إلحاق الأذى بالمسلمين القادرين على إلحاق الأذى بهم والذين لا يقدرون على الدفاع عن أنفسهم، وحتى لا ينجوا المسلمون من أذى مشركي قريش ورقابتهم. وكان مشركوا قريش يطاردون المسلمين المهاجرين، ويمنعونهم بشتى الوسائل من الهجرة، والذين يلقون القبض عليهم من المسلمين المهاجرين، لا يفلتون من العقاب الصارم.
وبرز صبره الجميل في غربته الطويلة التي امتدت أكثر من أربع عشرة سنة، بعيدا عن أهله وقومه ووطنه.
كما برز صبره الجميل في مصاولة سفيري المشركين من قريش: عمرو(27/218)
بن العاص وصاحبه، ومصاولة أشياعها الأحباش المقربين من النجاشي، والذين كان هواهم مع المشركين على المسلمين.
لقد كان في محنة طاحنة متصلة، تغلب عليها بالصبر الجميل، واجتازها بنجاح يدعو إلى الإعجاب، ولكن بعناء شديد.
أما حكمته فتتجلى في مناقشة عمرو بن العاص وصاحبه بحضور النجاشي ورجالاته، وعمرو من دهاة العرب المعدودين، وقد ضمن بهداياه وأمواله حاشية النجاشي إلى جانبه، ولكن الله سبحانه ثم حكمة جعفر ومنطقه السديد، فوت الفرصة على عمرو وصاحبه، وجعل كيدهما ومن معهما من حاشية النجاشي هباء تذروه الرياح، فحاق المكر السيء بأهله، وانتصر الحق على الباطل، وجاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا.
ولم يكن موقف جعفر في مناقشته الرائعة سهلا على كل حال.
وكان جعفر ألمعي الذكاء لذلك كان واسع الحيلة، وطالما صادفته المشاكل والعراقيل، منذ هاجر إلى الحبشة إلى أن هاجر إلى المدينة، ولكنه كان يجد لمشاكله ومعضلاته حلا مناسبا ومخرجا ملائما.
وكان يتحلى برواء المظهر، فكان يملأ الأعين قدرا وجلالا، وقد قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أشبه خلقك خلقي، وخلقك خلقي (1) » وفي رواية أخرى: «أشبهت خلقي وخلقي (2) » وفي رواية ثالثة «إنك شبيه خلقي وخلقي (3) » ، فهو أحد المعدودين من المشبهين بالنبي - صلى الله عليه وسلم - (4) .
ومن المعروف أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان متميزا برواء مظهره، لا اختلاف في ذلك.
وما أصدق وصف زوجه أسماء بنت عميس له حين قالت: "ما رأيت شابا من العرب كان خيرا من جعفر (5) "، وقد قالت ما قالت بعد
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4251) ، سنن الترمذي المناقب (3765) .
(2) صحيح البخاري الصلح (2700) ، سنن الترمذي المناقب (3765) .
(3) طبقات ابن سعد (4 \ 36) .
(4) انظر: أسماءهم في: المحبر (46 - 47) .
(5) طبقات ابن سعد (4 \ 41) .(27/219)
استشهاده وبعد أن تزوجت غيره وكانت في عصمة زوجها الجديد.
لقد كان جعفر يتحلى بمزايا السفير النبوي: الانتماء المطلق والإيمان العميق، والفصاحة العالية والعلم المتين وحسن الخلق، والصبر الجميل والحكمة النادرة، وسعة الحيلة التي تستسهل الصعب وتحل المعضلات، ورواء المظهر الذي يخلب العقول والقلوب معا.
لذلك نجح في مهمته سفيرا نجاحا باهرا، كما نجح في مهماته الأخرى التي لا تقل أهمية عن سفارته.(27/220)
جعفر في التاريخ
يذكر التاريخ لجعفر، أنه كان من السابقين الأولين إلى الإسلام، وأنه أسلم قبل أن يدخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم بن أبي الأرقم.
ويذكر له، أنه هاجر الهجرتين: إلى أرض الحبشة من مكة في الهجرة الأولى، وإلى المدينة من أرض الحبشة.
ويذكر له، أنه كان من أوائل المهاجرين إلى أرض الحبشة، ومن أواخر من عاد منها إلى المدينة من المهاجرين.
ويذكر له أنه كان أمير المؤمنين لمهاجري الحبشة منذ هجرته إليها من مكة، إلى عودته منها إلى المدينة.
ويذكر له، أنه كان أول سفير نبوي في الإسلام، وأنه أول من حمل رسالة من رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك العصر وحكامه.
ويذكر له، أن النجاشي ملك الحبشة، أسلم على يديه، كما أسلم على يديه قسم من الأحباش.
ويذكر له، أنه دافع عن الإسلام والمسلمين أمام النجاشي دفاعا منطقيا مقنعا، فجعل النجاشي مع المسلمين على أعدائهم المشركين.(27/220)
ويذكر له، أنه كان أشبه الناس خلقا وخلقا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن أحب الناس إليه وأقربهم إلى قلبه.
ويذكر له، أنه كان جوادا من أجواد العرب المشهورين، وأنه كان خير الناس للمساكين من فقراء المسلمين.
ويذكر له، أنه كان من قادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه قاد سرية مؤتة في موقف حرج عصيب، فاستقبل السيوف والرماح مقبلا غير مدبر، يتقدم باللواء الذي يحمله إلى الإمام.
ويذكر له، أنه سقط شهيدا في ساحة المعركة، دون أن يسقط لواء النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي رفعه بأسنانه بعد أن قطعت يداه.
رضي الله عن السفير، الصحابي الجليل، القائد الشهيد، جعفر الطيار ابن أبي طالب الهاشمي القرشي.(27/221)
مشكلات التعليم في أفريقيا غير العربية
د \ عبد الحليم عويس (1)
المسلمون في إفريقيا غير العربية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
تتميز إفريقيا - ولا سيما إفريقيا جنوب الصحراء - بقلة في السكان نسبيا بالمقابلة مع مناطق أخرى كثيرة في العالم - بينما يقابل هذه القلة السكانية كثافة في اللغات والعقائد والتقاليد المنتشرة في الشرق والغرب والوسط والجنوب والدول غير العربية ذات الأغلبية الإسلامية في إفريقيا هي:
تشاد (85 %) ، وداهومي (60 %) ، وأثيوبيا (65 %) ، وجامبيا (85 %) ، وغينيا (95 %) ، وغينيا بيساو (70 %) ، وساحل العاج (55 %) ، ومالي (90 %) ، والنيجر (91 %) ، ونيجيريا (75 %) ، والسنغال (95 %) ، وسيراليون (65 %) ، والصومال (100 %) ، وتنزانيا (65 %) ، وتوجو (55 %) ، وفولتا العليا (56 %) ، وأريتريا (85 %) ، وجزر القمر (95 %) وتصل نسبة المسلمين في القارة بعامة نحو 60 %، ويقترب عدد سكان القارة من ثلاثمائة مليون، من بينهم نحو (190 مليون مسلم) ! !
والأقليات الأفريقية الإسلامية تصل في بعض البلدان الأفريقية إلى أكثر من (30 %) من السكان، كما هو الحال في كينيا وأوغندة ومالاوي والجابون وغانا وغينيا الاستوائية وليبيريا! !
__________
(1) ورد لكاتب البحث ترجمة في العدد (15) ص (237) .(27/223)
بينما تبلغ النسبة أكثر من (25 %) في موزمبيق وملاغاش وبورندي. . مع ملاحظة أن عدد الدول الإفريقية ذات الأقليات الإسلامية هي (29) دولة.
وتعد الأقليات المسلمة في الشرق الإفريقي أكبر الأقليات، ويبلغ عددها أكثر من 18 مليونا ونسبتها حوالي (60 %) من الأقليات الإسلامية في إفريقية، وهي موزعة على خمس دول: (كينيا، أوغندا، موزمبيق، ملاوي، مالاغاش) .
أما في وسط إفريقيا فيبلغ عدد المسلمين نحو 4. 5 مليون مسلم وهو يعادل (12. 5 %) من مجموع الأقليات المسلمة في إفريقيا، وهي موزعة على أربع دول وهي: (الكونغو، رواندا، بورندي، زائير) .
وفي غرب إفريقيا يبلغ عدد المسلمين نحو 5. 6 مليون مسلم وهو يعادل نحو (20 %) من مجموع أقليات إفريقيا المسلمة، وهم موزعون في (غانا، ليبريا، الجابون، غينيا الاستوائية) .
أما في جنوب إفريقيا فيعتبر عدد المسلمين قليلا جدا، ونسبتهم إلى السكان لا تزيد عن (5 %) وهم في حدود 1. 8 مليون مسلم.(27/224)
الواقع اللغوي والثقافي في إفريقيا جنوب الصحراء:
لا نستطيع أن نفصل بين الجامعات الإسلامية الإفريقية والواقع اللغوي والثقافي في القارة الإفريقية. . ويكون من العبث أن نتكلم عن رسالة هذه الجامعات، أو مشكلاتها، دون أن نقف على أرضية واضحة تصور هذا الواقع تصوريرا حيا.
إن السكان في إفريقية جنوب خط الاستواء تنتشر بينهم (350 لغة) يطلق عليها البانتو تشكل أسرة لغوية واحدة.(27/224)
وكلمة "البانتو" معناها الناس، ومن أشهر لغات البانتو (ليناجالا) وهي اللغة الرئيسة في زائير الآن، وبدأت زائير في اعتبارها لغة رسمية، ويتكلمها أصلا عدة ملايين من السكان.
وفي غرب إفريقية تتعدد اللغات ومن أشهرها "اليوروبا" لغة سكان جنوب غرب نيجيريا ويتكلمها نحو 15 مليون نسمة، ولغة "الإيبو" في جنوب شرقي نيجيريا ويتكلمها نحو 9 ملايين نسمة، وهناك "الماندي" بلهجاتها المختلفة من البمباويا والديولا المعروفة في غينيا وما جاورها والولوف في السنغال، والفولاني التي تنتشر من السنغال إلى شمال نيجيريا، غير أن أكثر اللغات انتشارا في غرب إفريقية بحيث أصبحت لغة تفاهم مشترك هي لغة الهوسا.
و"الهوسا" اسم لغة قبل أن تكون اسم قبيلة أو جماعة معينة، ثم أصبحت بعد ذلك علما على معظم سكان شمال نيجيريا وما جاورها من النيجر.
و"الهوسا" من أهم لغات غرب إفريقيا بعامة، فهي اللغة الأم لما يتراوح بين 15، 20 مليون نسمة بالإضافة إلى 15 مليونا آخرين ليسوا من الهوسا، ومع ذلك يتكلمونها رغبة من الإدارة الاستعمارية في تنميتها كلغة تفاهم مشترك لكل الإقليم الشمالي من نيجيريا.
ولا يمكن لأي لغة من لغات جنوب نيجيريا أن تحتل نفس المكانة التي للهوسا في الشمال، ويرجع هذا إلى أن الشمال كان يعتنق الإسلام قبل ظهور الأوروبيين، وبطبيعة الحال لم يكن هناك مجال أمام البعثات التبشيرية لتعمل في الشمال (1) .
__________
(1) د \ محمد سعودي: مرجع سابق ص 148، 149.(27/225)
أما في شرق إفريقيا فهناك العديد من اللغات كالأنكولي والسوكوما والبمبا والتونجا غير أن السواحلية هي لغة التفاهم المشترك.
وتعتبر اللغة السواحلية إحدى اللغات المليونية، واللفظ السواحيلي مشتق من اللفظ العربي السواحل جمع ساحل، ومعناها هنا سكان السواحل، ويقصد هنا السواحل الشرقية لإفريقيا، ويستخدم اللفظ عامة لكل سكان هذه السواحل، وهم خليط من الإفريقيين والعرب والإيرانيين (1) .
وتعتبر اللغة العربية هي اللغة الإفريقية الأكبر حيث تغطي كل إفريقية الشمالية وشمال شرق، ومساحة ضخمة من الصحراء الكبرى حتى إقليم السافانا، وتصل إلى منحنى نهر النيجر وإلى نهر السنغال، ويتكلمها ما يزيد على مائة وعشرين مليون نسمة، أو نحو ثلث سكان القارة الإفريقية (2) .
ومن البديهي أن أوروبا التي استعمرت معظم القارة الإفريقية طيلة قرن من الزمان، واستمرت حتى بعد خروجها تواصل وجودها الثقافي والاجتماعي بأشكال مختلفة. . ولا تزال تصارع لمنع تقريب إفريقيا أو أسلمتها أو أفرقتها.
وقد نجحت أوروبا في نشر لغاتها وتعميق ثقافاتها ولا سيما الإنجليزية والفرنسية، لدرجة أن أحد أعضاء البرلمان في غانا لم يتورع أن يقول في البرلمان أثناء مناقشة لغة عامة لغانا:
"إني أريد القول بأن الإنجليز قد تركوا لنا أشياء قد لا تناسبنا اليوم. ولكن لغتهم التي تركوها ربطت كل القبائل بعضها ببعض، وكذلك
__________
(1) د \ محمد عبد الغني سعودي: المرجع السابق ص 143.
(2) د \ محمد سعودي: مرجع سابق ص 150.(27/226)
ربطت الثقافات المتعددة لسكان غانا بحيث جعلت من غانا أمة واحدة، وأظن أنه آن الآوان لأن ننمي الإنجليزية ونضيف إليها ونجعلها لغتنا لأنها الشيء الوحيد الذي يجمعنا معا كشعب واحد" (1) .
وفي دراسة مسحية خاصة بموضوع اللغة - أيضا - أجريت على طلبة جامعة كيب كوست في غانا، فضل 72% منهم اللغة الإنجليزية على أية لغة غانية كأداة للتعليم. ويقول أجيمان الأستاذ الذي قام بهذا المسح: "ما زالت روح القبلية متأصلة فيهم، فهم يريدون أن تكون لغة قبيلتهم هي اللغة المختارة" (2) .
والواقع الذي لا يمكن إنكاره أن اللغات الأوروبية استعملت وسيلة عامة للتفاهم، ولا سيما في أوساط الإفريقيين المتعلمين الذين ينتمون إلى أسس قبلية مختلفة، كما استعملت لغات لتدريس المواضيع المختلفة، ولا سيما في مراحل الدراسة العليا. ومع ذلك؛ فإن هذه اللغات الأوروبية التي استخدمت وسيلة لتحقيق اتصال واسع، فإنها في الوقت نفسه كانت إلى حد ما حاجزا أعاق التفاهم بين الإفريقيين أنفسهم. فالإفريقيين الذين تعلموا اللغة الإنجليزية اكتسبوا قيما ثقافية تختلف عن تلك التي اكتسبها أولئك الذين تعلموا اللغة الفرنسية.
وإلى جانب هذا، فقد كان من الآثار الرئيسة للنشاط الثقافي الأوروبي قيام نظم تربوية وإدارية حديثة، وبالتالي نشوء الحاجة إلى وحدة ثقافية تنسجم مع متطلبات الحركات القومية الحديثة، وهذه كلها عوامل تتطلب حظا من الوحدة اللغوية أوفر مما وجد في العهود التي سبقت اشتداد الاحتكاك بالأوروبيين الذي كان يحول دون انتشار اللغات الأوروبية،
__________
(1) د \ محمد عبد الغني سعودي: قضايا إفريقية (سلسلة عالم المعرفة) الكويت ص175.
(2) د \ محمد عبد الغني سعودي: قضايا إفريقية (سلسلة عالم المعرفة) الكويت ص174.(27/227)
وقد انعكست الاستجابة لهذه الأوضاع المتغيرة في تطوير استخدام بعض اللغات الحديثة لتكون وسائل عامة للتفاهم، كما ذكرنا. وفي ازدياد انتشار بعض اللغات القديمة وكذلك في الاضمحلال التدريجي لبعض اللغات التي تتكلمها جاليات صغيرة.
وإن الصراع الآن على أشده بين اللغات الإفريقية الأصلية وعلى رأسها السواحلية والهوسا واللغة العربية، وبين اللغتين الأوروبيتين الإنجليزية والفرنسية.
ومهما يكن الأمر فإن إفريقية تعتبر من الناحية اللغوية من أشد المناطق صعوبة وتعقيدا في العالم. ويقدر عدد اللغات في إفريقية عادة بثمانمائة لغة، بينما تقدرها خريطة مدرسة اللغات الشرقية بجامعة لندن بنحو 1500 لغة، فضلا عن اللغات الأوروبية. غير أننا إذا ذكرنا أن هناك ألف لغة أو أكثر جنوب الصحراء فليس معنى هذا أن هناك ألف جزيرة لغوية كل منها منعزل عن الآخر، وأن أفراد هذه الجزر لا يستطيعون الاتصال ببعضهم، ذلك أن ثنائية اللسان، بل وتعدده كان منتشرا إبان الفترة الاستعمارية، وربما زاد الآن (1) .
ومع ذلك فنحن مضطرون لأن نقرر بأن اللغة هي نقطة الضعف الكبرى في بناء الوحدة الثقافية والحضارية للقارة، ذلك أن القارة تضم عددا لا حصر له من اللغات واللهجات، وأيا ما كان الرقم الدقيق لعدد اللغات في إفريقية، فهذا في جملته معناه أن إفريقية وحدها تضم نحو نصف لغات العالم قاطبة.
ولو نسبنا هذا إلى عدد السكان في القارة، لكان متوسط قوة اللغة الواحدة في إفريقية لا يزيد عن ثلث المليون، إن لم يقل، وهذا وحده
__________
(1) محمد عبد الغني سعودي: قضايا إفريقية ص 138، 139.(27/228)
كفيل بأن يكون عقبة في سبيل تماسك إفريقية وترابطها (1) .
__________
(1) كامل الشريف: المغامرة الإسرائيلية في إفريقيا ص90.(27/229)
إفريقية والصراع العقائدي:
كما تتميز إفريقية بكثافة في اللغات (واللهجات) تتميز كذلك بصراع عقائدي كبير يحاول القضاء على الإسلام الذي يعتبر المرشح الأول لتوحيد إفريقية! !
وتبذل القوى الصليبية كل جهدها لمنع الإسلام من الانتشار، بل إنها لتحاول اختراق المسلمين الأفارقة! ! والحقيقة أن هناك خطرا كبيرا يواجه مسلمي إفريقيا جميعا. . إنه خطر القوافل التنصيرية التي تدعمها الفاتيكان وأمريكا وأوروبا وغيرها.
وفي إفريقية تصدر وترد عشرات من الصحف التبشيرية تباع بثمن رمزي، وتهدى في أغلب الأحايين لمن يظن فيهم ضعف الإيمان من المسلمين، بغية تنصيرهم أو تشكيكهم في الإسلام.
وقد نشرت المجلة التبشيرية الألمانية أن عدد جيش المبشرين البروتستانت وحدهم هو (104) آلاف مبشر في العالم.
ويبلغ عدد النساء والرجال من موزعي التوراة والإنجيل المشتركين في التبشير عددا يقترب من (93000) ، وعدد المعاهد الكنسية (17671) معهدا ابتدائيا ومتوسطا وثانويا.
ويخضع لسلطة التبشير أكثر من خمسمائة جامعة وكلية ومعهد عال موزعة في أنحاء العالم، وتفوز إفريقيا منها بقدر لا بأس به (! !) ، كما يخضع لسلطتهم (489) مدرسة لاهوتية متخصصة في تخريج المبشرين (1) . والغريب في وضع التبشير في إفريقيا أنه قد لجأ في آخر تطوراته إلى أسلوبين:
__________
(1) كامل الشريف: المغامرة الإسرائيلية في إفريقيا ص90.(27/229)
- أسلوب التعاون مع الوثنيات الموجودة في القارة. . حتى يتمكن في المرحلة الأولى من التخلص من الإسلام وهو المنافس القوي.
- والأسلوب الثاني هو أسلوب التعاون مع اليهود. . وهو تعاون سعى إليه الطرفان معا. . سعت إليه إسرائيل، وسعى إليه التبشير. . انطلاقا من وحدة الهدف.
ومع أن بين النصرانية واليهودية حربا تاريخية، لم تهدأ إلا أخيرا فإن المبشرين واليهود يتحدون - مرحليا واستراتيجيا - ضد الإسلام الذي يوشك أن ينتظم القارة الإفريقية كلها ولئن كان التبشير النصراني في إفريقيا يشكل جزءا من ملامح الصورة القائمة التي تعكر صفو "الإسلام في إفريقيا اليوم". . فإن اليهود يشكلون بعدا آخر من أبعاد الجزء القاتم في الصورة. فبعد استقلال كثير من الدول الإفريقية، ذهبت إسرائيل تعرض خيرة اليهود في العالم وأموالهم لمساعدة هذه الدول.
واليهود عن طريق العلاقات السياسية والتجارية واستغلال الإعلام والدبلوماسية المرنة، يحققون أغراضهم في كسب بعض الحكام الأفارقة، لدرجة أن جريدة نيجيرية كتبت بتاريخ 13 \ 10 \ 1962م تقول بأن أية دولة في الشرق أو إفريقية لا تستطيع مساعدة نيجيريا ما عدا إسرائيل.
وثمة تعاون قائم بين إسرائيل وبعض الحكام الأفارقة - إن لم يكن بشكل سافر: سياسي أو إعلامي أو عسكري أو ثقافي - فهو بشكل سري، وخاصة في المجالات التجارية والثقافية، ولئن كانت بعض الدول الإفريقية قد غيرت موقفها من إسرائيل بعد ظهور طابعها الاستعماري وهزيمتها في حرب رمضان 1393هـ. فإن دولا أخرى لا تزال تربط نفسها بإسرائيل، ومنها أثيوبيا وغانا وروديسيا وتنزانيا. . وإسرائيل تستغل الوضع الاقتصادي الإفريقي المتخلف، وتقوم بتعليب كثير من اللحوم(27/230)
والفواكه وغيرها من المواد الإفريقية الخام كما تستورد الخشب والماس ومواد السماد. "ولقد اهتم الإسرائيليون اهتماما خاصا بإقامة الفنادق وأماكن اللهو وسيطروا عليها إداريا، وسخروها لأغراضهم السياسية والاقتصادية، وكان يختفي وراء مظهرهم البريء شر وأنواع النشاط السري المخرب". إن إسرائيل لن تترك إفريقيا للعرب والإسلام بسهولة. كما أن المد الحضاري لا ينتشر بالعواطف والمجاملات، وبالتالي فيجب أن نخطط بجدية وسخاء لضمان إنقاذ إفريقيا من اليهود والصهيونية، وسيرها في ركاب حضارة الإسلام (1) .
وتمثل الشيوعية خطرا داهما بالنسبة للإسلام في إفريقيا يسيء إلى ملامح صورة الإسلام في إفريقيا اليوم.
وإنه لمدعاة للتساؤل أن يكون أكثر الزعماء الشيوعيين الذين ظهروا في إفريقيا ذوي علاقة طيبة بإسرائيل، وكان أكثرهم ينظر إلى إسرائيل على أنها تجربة تقدمية يجب أن يحتذى بها، والنظر إلى انتصارها على العرب على أنه انتصار للتقدمية على الرجعية (2) .
فالشيوعية عائق عن المد الإسلامي في إفريقيا، وهي عنصر من ملامح الجزء القاتم الذي يعكر صفو إفريقية اليوم، وإن كانت التطورات الأخيرة في المعسكر الاشتراكي وعلى رأسه الاتحاد السوفيتي، والصين الشعبية، قد وصلت بالفكر الشيوعي إلى مرحلة الإفلاس. . وبالتالي يكاد الفكر الشيوعي ينحسر تأثيره في العالم، اللهم إلا من بعض الذين ارتبطت مصالحهم بهذا الفكر في العالم الثالث فلا يستطيعون منه فكاكا! !
__________
(1) كامل الشريف: المغامرة الإسرائيلية في إفريقيا 116، 117.
(2) كامل الشريف: المغامرة الإسرائيلية في إفريقيا ص 94 وما بعدها.(27/231)
لقد كانت الفكرة الاشتراكية ذات وجود قوي في إفريقيا مع بزوغ فجر الاستقلال السياسي. . وفي إطارها، ومع تطويرها أيضا، ظهر (سنجور) فيلسوف الزنوجة. . الذي حاول إقامة مزج عقائدي (كوكتيل) يمزج فيه الإسلام أو المسيحية، والفكرة الماركسية، والزنوجة أي الخصائص الإفريقية. . بل وبعض الأفكار الوجودية التي استلهمها من علاقته الشخصية إبان وجوده بباريس من سارتر وإمي سيخار. . ويقول سنجور:
"منحنا الإسلام والمسيحية قيما روحية بديلة عن النزعة الحياتية الزنجية، وهما عقيدتان أكثر إحكاما وعقلانية أو إن شئت أكثر اتساقا مع العصر الحديث. أما وقد اخترناهما فقد أضحت مهمتنا أن نلائم بينهما وبين ظروفنا التاريخية والاجتماعية. إن مهمتنا هي أن نصبغهما بالصبغة الزنجية".
أما نكروما (غانا) فكان أكثر ميلا إلى الماركسية من صديقه وأستاذه سنجور (السنغال) ففي مراحل زعامته الأولى وشهرته الذائعة مع أيديلوجيته (النكرومية) كان الأثر الماركسي أظهر الآثار، بينما جاء ترتيب "الزنوجة الإفريقية" تاليا. . وحين تحدث نكروما عن الذين أثروا في أفكاره ونشاطاته الثورية ذكر أنهم: هيجل وماركس وانجلز ولينين ومازيني والزعماء الأمريكيون الزنوج وناركوزجارفي والاشتراكي دي بوا. . ثم يصف نفسه - بعد ذلك - بأنه مسيحي غير طائفي واشتراكي ماركسي.
على أن نكروما وتزمته الماركسي - مع الزنوجة - لم يصمدا أمام تطور التاريخ، وفي أوائل الستينات أظهر نكروما تطورا في فكره(27/232)
الاشتراكي ليستطيع مواءمته مع الزنوجة والوحدة الإفريقية ونظرته لنفسه على أنه الفيلسوف المنقذ لكل القارة.
ومن أقواله في تحديد الأيديلوجية النكرومية:
" النكرومية أيديلوجيا لإفريقية الجديدة المستقلة والمتحررة تماما من الاستعمار، المنظمة على القارة كلها، والمؤسسة على مفهوم إفريقيا واحدة ومتحدة، مستمدة قوتها من العلم والتكنولوجيا الحديثة ومن الإيمان الإفريقي التقليدي بأن التقدم الحر لكل دولة رهن بالتقدم الحر للجميع".
والحقيقة أنه لا دعوة سنجود، ولا نكروما، حول (الزنوجة الممزوجة بالاشتراكية والوحدة الإفريقية والأديان) قد لقيت نجاحا وهما تماما مثل الناصرية في مصر، مجرد شعار هائج لا تأثير له في الضمير أو السلوك، فضلا عن أن رصيده الإصلاحي كان هزيلا جدا! !
وإن قصارى ما انتهت إليه هذه الأيديلوجيات (الوثنية) المتدثرة برداء "الزنوجة والأفرقة" أنها عطلت دولاب الانسجام والإنتاج والتفكير العقلي الهادئ. . وفي غانا نفسها "كان الشاب الغاني ينظر ساخرا إلى النكرومية".
كذلك فإن مصطلح الزنوجة "لا يعني شيئا على الإطلاق بالنسبة للجماهير كما وأنهم لا يستطيعون تقديم الجهد في محاولة تقديم تفسير جديد للنظريات الأوروبية عن الاشتراكية في السياق الإفريقي. وتبدو البيانات الأيديلوجية للقارة السياسيين أمرا عويصا حتى أن قلة من بين النخبة ذاتها هي القادرة على فهمها بوضوح. وبقدر ما يمكن اختصارها إلى شعارات مثل شعار (الشخصية الإفريقية) بقدر ما تبدو مبهمة(27/233)
المعنى؛ بحيث تقصر دون حشد الجماهير وكسب التأييد الشعبي، وبخاصة في العقد الأخير الذي شهد سقوط الوثنيات البشرية من نكرومية وناصرية وماركسية! !(27/234)
المعاهد العليا والجامعات الإسلامية في إفريقية جنوب الصحراء:
لم يكن حديثنا عن ملامح الوضعية الحالية لإفريقيا من جوانبها الإسلامية واللغوية "والأيديلوجية" مجرد تمهيد للحديث عن المشكلات التي تواجه الجامعات الإسلامية في إفريقية. . بل هو - في رأينا - جزء أساسي يتصل بقضية التعليم في إفريقية غير العربية بعامة، وبالتعليم الإسلامي في مستوى الجامعات بخاصة! !
وإذا كان التعليم في المستوى السابق للجامعة يتجه لبناء الأساسيات العقدية واللغوية والعلمية والسلوكية للفرد، فإن التعليم الجامعي هو الأوثق بمشكلات المجتمع، وهو الذي ينتظر منه أن يواجه التحديات، وأن يقود المجتمع إلى تحقيق ذاته ورفاهيته وتقدمه المادي والمعنوي! !
لقد بلغ عدد الجامعات الإفريقية المشتركة في اتحاد الجامعات الإفريقية (91 جامعة) تنتمي إلى ثمان وثلاثين دولة، وهناك أكثر من عشر دول إفريقية غير مشتركة في الاتحاد حتى الآن أو ليس بها جامعات. ولقد تزايد عدد الجامعات وما في مستواها إلى ثمانية أضعاف ما كان عليه في سنة 1960 م.
ونحن نستطيع أن نستنتج أن عدد الجامعات وما في مستواها في إفريقيا يزيد عن مائة جامعة. . بيد أن نحو نصف هذا العدد يوجد في مصر والسودان والشمال الإفريقي.(27/234)
ومن أهم الجامعات في إفريقية جنوب الصحراء (1) الجامعات التالية:
جامعة لواندا (أنجولا) ، جامعة بنين الوطنية (بنين) ، جامعة ياوندي (الكاميرون) ، جامعة مارين نجوابي (الكنغو) ، جامعة أديس أبابا (أثيوبيا) ، جامعة غانا (غانا) ، جامعة العلوم والتكنولوجيا (غانا) ، جامعة كيت كوست (غانا) ، جامعة ساحل العاج القومية (ساحل العاج) ، جامعة نيروبي (كينيا) ، جامعة ليبيريا (ليبيريا) ، جامعة مالاوي (مالاوي) ، جامعة أدواوردو موندلين (موزمبيق) ، جامعة أحمد وبيلو (نيجيريا) ، جامعة بايرو (نيجيريا) ، جامعة بنين (نيجيريا) ، جامعة إبادان (نيجيريا) ، جامعة إيف (نيجيريا) ، جامعة لاغوس (نيجيريا) ، جامعة نيجيريا (الرسمية) ، جامعة داكار (السنغال) ، جامعة سيراليون (سيراليون) ، جامعة الصومال الوطنية، جامعة مدينة الكاب (جنوب إفريقيا) ، جامعة ديربان وبست فيل، جامعة ناتال، جامعة الشمال، جامعة ولاية الأورنج الحرة، جامعة ميناء اليزابث، جامعة بوتشغستروم للتربية النصرانية المتقدمة، جامعة بريتوريا، جامعة الراند أفريكانز، جامعة رودس، جامعة جنوب أفريقيا، جامعة استلنبوسن (استلنبوسن) ، وجامعة الكاب الغربي (بيل فيل) ، وفي جوهانز برج (جامعة الوتر ترزراند) ، جامعة الزواسو في (ناتال) ، جامعة دار السلام (تنزانيا) ، جامعة بنين (توجو) ، جامعة ماكرري (يوغندا) ، جامعة زائيري الوطنية (زائيري) ، جامعة زامبيا (زامبيا) ، جامعة روديسيا (زيمبابوي) .
وقد نضطر إلى القول: إن بعض هذه المؤسسات قد يكون موجها لخدمة مصالح معادية لإفريقية، وذلك مثل الكليات الموجهة من التنصير أو الخاضعة للشيوعية، والتي تهدف إلى نشر اللغات الأوروبية ونمط الحياة
__________
(1) انظر: دائرة المعارف الأمريكية مجلد (1) ط 1981، ص 176 - 177.(27/235)
الغربية. . ومثل هذه المؤسسات ليست ممن نتجه إليه بهذا البحث لأنها تعمل في الطريق المعاكس.
أما الجامعات والمؤسسات التعليمية الأخرى المناظرة لها، والتي تنتمي لإفريقية، وتعبر عن الشعب الإفريقي الذي يريد الإسلام والعروبة. . فهي التي نتوجه إليها بهذا الحديث، وهي مهما قل عددها أو قلت إمكاناتها مناط الأمل في أن تقوم بالدور الحضاري في قيادة القارة الإفريقية في الطريق الصحيح للتحرر والعودة إلى الذات، بل والسعي للوصول بإفريقية، ولا سيما جنوب الصحراء إلى وحدة حضارية قائمة على الإسلام واللغة العربية.
ومن الجدير بالذكر أن إفريقية - كادت تصل إلى ما قبل الهجمة الاستعمارية بقليل إلى هذا التوحد الحضاري - بجهود جامعاتها الإسلامية الإفريقية العريقة.
فعلى امتداد النيل، وفي شمال إفريقية، وفي السودان الغربي، وعلى طول الساحل الإفريقي الشرقي وجدت أقلية متعلمة من الإفريقيين. . وكان التعليم في البلدان الإسلامية قرآنيا. . وكان واسع الانتشار في المستوى الأولي، وكان متاحا أيضا في مستوى المرحلة الثانوية والجامعية، فقد وجدت جامعة الأزهر في مصر، وجامعة فاس في مراكش، وجامعة الزيتونة في تونس، وجامعة كامكتو في مالي، وجميعها يشهد على مستوى التعليم الذي تحقق في إفريقيا قبل الغزو الاستعماري؛ إذ كانت هذه الجامعات تفتح ذراعيها لكل الراغبين في العلم من شتى أنحاء إفريقية! !
وأما عن التعليم العالي الإسلامي المتخصص في إفريقية (بجنوب الصحراء) ، والذي يمشي على درب الأزهر والجامعات الإسلامية الأخرى(27/236)
العريقة التي ألمحنا إليها، فبكل المقاييس تعتبر إفريقية جنوب الصحراء فقيرة جدا في التعليم العالي الإسلامي المتخصص بمعناه الأكاديمي والعصري الذي نعرفه في الأزهر أو جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أو جامعة الزيتونة بتونس أو غيرها.
ومما يؤسف له أنه لا توجد في الأقطار الإفريقية غير العربية إلا نادرا معاهد عليا أو جامعات إسلامية، ولذلك فإن طلابها الذين يرغبون في مواصلة الدراسة بالمعاهد العليا يضطرون إلى الرحيل إلى إحدى الجامعات الإسلامية في الدول العربية، وأقدمها الأزهر الشريف بمصر وجامعة القرويين بفاس وجامعة الزيتونة بتونس وجامعة أم درمان الإسلامية في السودان، فضلا عن جامعات المملكة العربية السعودية.
ولقد شعرت الدول الإسلامية بهذا النقص، ولذلك فإن صندوق التضامن الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي قرر أن يساهم في إنشاء جامعتين إسلاميتين إفريقيتين، إحداهما بالنيجر في غرب إفريقيا، والثانية في يوغندة لوسط إفريقيا وشرقيها، وللآن تتعثر الأمور في هاتين الجامعتين لأن الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي لم تسارع حتى الآن للمساهمة في تمويل هاتين الجامعتين فيما عدا المملكة العربية السعودية التي أعلنت في مؤتمر طرابلس تبرعها بخمسة ملايين لكل منهما.
ومما يؤسف له أن صندوق التضامن الإسلامي والدول الإسلامية التي تساهم في هذه الجامعات لم تعن أغلبها للآن بتوقيع اتفاقيات مع الدول التي تنشأ فيها هذه الجامعات (1) للدراسات العربية الإسلامية بأن تكون اللغة العربية هي اللغة المستعملة.
__________
(1) نشرة دورة تدريب المعلمين في جامبيا (الاتحاد العالمي للمدارس الإسلامية) ص 170.(27/237)
ومع هذا الفقر الشديد في الجامعات المتخصصة في الدراسات الإسلامية واللغة العربية في البلاد الإفريقية جنوب الصحراء، فإنه بالإمكان رصد بعض هذه الجامعات والمؤسسات التي في المستوى الجامعي.
ففي نيجيريا يوجد أكبر عدد من الجامعات في الدول الإفريقية جنوب الصحراء، ولا غرو في ذلك فإنها أكبر بلد إفريقي، وأكبر بلد إسلامي في إفريقيا، ومن أهم الجامعات النيجيرية المهتمة بالدراسات الإسلامية والعربية: جامعة أحمد وبيلسو (نيجيريا) ، وجامعة بايرو (وبها معهد للدراسات العربية والإسلامية) ، وجامعة سكتو (وبها مركز للدراسات الإسلامية) ، وجامعة مايدغري، وجامعة آبادان، وجامعة الورى، ويوجد في السنغال (جامعة داكار) ، وبها معهد إسلامي، وفي النيجر توجد الجامعة الإسلامية الحديثة، وجامعة نيامي وغيرهما، وتوجد في تشاد (جامعة تشاد) وبها قسم اللغة العربية والعلوم الإنسانية، وتوجد في الصومال (جامعة الصومال) التي تضم كلية للشريعة الإسلامية، كما توجد مدرسة الدراسات الإسلامية بجامعة الصومال أيضا، وفي أوغندا توجد (الجامعة الإسلامية) بكمبالا، وفي غينيا يوجد المعهد التكميلي للدراسات العربية والإسلامية بكوناكري (معهد التكنولوجيا) وجامعة كمسكتو في مالي.
وفي جنوب إفريقية يوجد المعهد الإسلامي الشرقي، وهو أقدم معهد تعليمي في (دربن) ويرأس دائرة الدراسات الإسلامية في جامعة دربن - " ويستفيل " الدكتور سلمان نادخي، وهذه الدائرة إضافة إلى برنامجها الدراسي فإنها تستقبل عددا من السياح من الشرق الأوسط والهند والباكستان والولايات المتحدة، وهناك قسم مستقل للغة العربية(27/238)
والأردية والفارسية.
ويرأس مركز الدراسات الإسلامية في جامعة راند الإفريقية، في " جوهانسبرغ " الدكتور " نودني "، ويقوم المركز بتدريس اللغة العربية واللغة الأردية، إلى جانب محاضرات في اللغات السواحلية! !
ولا تكاد توجد - حسب علمنا - جامعات أو كليات إسلامية أخرى في البلاد الإفريقية جنوب الصحراء! !(27/239)
مشكلات الجامعات الإسلامية في البلاد الإفريقية جنوب الصحراء:
بينما كانت الجامعات الإسلامية الإفريقية العريقة تقوم بدور حضاري، وتبني قيما وأخلاقا وعقولا منتمية لإفريقية وللإسلام والعروبة، جاء نظام التعليم الاستعماري يحاول اقتلاع كل القيم والأخلاقيات الإيجابية والاتجاهات الفكرية الإفريقية المتكئة على الإسلام. . ويسعى إلى غرس الشعور بالإذعان في وجه كل من كان أوروبيا ورأسماليا.
كما أن تضمين عملية التعليم الاستعماري للعنصرية والتبجح الثقافي اللتين تضمرهما الرأسمالية قد زاد الوضع سوءا، فقد كانت الثقافة المدرسية عبارة عن تعليم من أجل الإخضاع، والاستغلال، وخلق التشوش الذهني، وتنمية التخلف (1) ، لقد أفسد نظام التعليم الأوروبي تفكير الإفريقي وحساسيته وملأه بعقد شاذة (2) .
ويعتبر (التعليم الاستعماري) وما أفرزه من أفكار وسلوكيات هو - بحق - أول مظهر من مظاهر أزمة التعليم في إفريقية، وهو واحد من أبرز المشكلات التي تواجه الجامعات الإسلامية الإفريقية.
__________
(1) والتر رودني: أوروبا والتخلف في إفريقيا ص 352.
(2) والتر رودني: أوروبا والتخلف في إفريقيا ص 364.(27/239)
والمشكلة الثانية التي تواجه التعليم الجامعي في إفريقية هي مشكلة (اللغة) وقد بسطنا فيها القول من قبل، لكن الجدير بالذكر هنا أن مشكلة اللغة تفرض ظلالها على الجامعات الإفريقية في داخل العملية التعليمية نفسها، وتحول دون أن تؤدي الجامعات الإفريقية دورها الحضاري السليم في خدمة البيئة والتنمية الاجتماعية والاقتصادية والاستقلال الثقافي. . ففضلا عن تعدد اللغات الوطنية في الإقليم الواحد، هناك التناقض بين هذه اللغات واللغة الرسمية الذي يؤدي إلى ثنائية في الثقافة، وهناك الصراع المصيري مع لغة الاحتلال الأجنبي.
وبإيجاز شديد تعتبر "اللغة" مظهرا كبيرا من مظاهر أزمة التعليم الجامعي في إفريقية، وهي - بحق - مشكلة لا يمكن تجاهلها عند البحث في مشكلات الجامعات الإسلامية والحلول المقترحة لها.
ومن المشكلات كذلك (عدم كفاية الموارد المالية) التي تكفي التعليم الجامعي وتحقق له النهضة المنشودة وتمكنه من ملاحقة التطورات التعليمية الحديثة، فإن الموارد المالية المخصصة للتعليم في إفريقية تعد زهيدة جدا إذا قورنت بعدد السكان من ناحية، وبزيادة تطلع الإفريقيين للالتحاق بالتعليم الجامعي من ناحية ثانية، وأيضا إذا قورنت بمتوسط الإنفاق على التعليم في الدول المتقدمة من ناحية ثالثة، هذا بخلاف ما تتعرض له الدول الإفريقية من هزات اقتصادية من الكوارث الطبيعية كالسيول وموجات الجفاف، مما يؤدي إلى تقليص ميزانية التعليم وخفض أعداد المقبولين.
وإلى جانب هذه المشكلات تواجه الجامعات الإفريقية مشكلة (إعداد هيئة التدريس) وتدريبهم ليكونوا على المستوى العلمي المطلوب، وقد لا تتوافر الكوادر الأكاديمية المحلية اللازمة لهذا الإعداد إضافة إلى العجز(27/240)
في الموارد المالية المخصصة لإعدادهم وتدريبهم في التخصصات الحديثة والدقيقة.
ومن المشكلات أيضا (تخلف المناهج الدراسية) عن نظيراتها في الدول المتقدمة، وتبعيتها للنظم الأجنبية من ناحية أخرى، وقد أسفر هذا الأمر عن ضرورة أن تتحمل الدول الإفريقية عبء تطوير البنية الأساسية في مجال التعليم بحيث تتفق مع الأهداف الوطنية (1) .
وتعتبر مشكلة (الغزو العقائدي) الممثل في مؤسسات التنصير من أكبر مشكلات البلاد الإفريقية جنوب الصحراء، فهذه المؤسسات تسعى بقوة لتنصير القارة مباشرة أو على الأقل إبعادها عن الإسلام وصياغة حياتها على النمط الأوروبي في جوانبه الاستهلاكية والمادية والانحلالية فضلا عن الجوانب الثقافية السلبية.
ويقف (تخلف القارة التعليمي) بعامة، وفي التعليم الإسلامي بخاصة، عقبة من أكبر العقبات التي تحول دون تقدم البلاد الإفريقية جنوب الصحراء، كما يجعل من هذه البلاد أرضا قابلة للغزو الحضاري، ويحول بينها وبين الحفاظ على شخصيتها الحضارية. . وكمجرد نموذج تشير البيانات الإحصائية عن التعليم في سيراليون إلى:
أن نسبة الملتحقين بالتعليم الثانوي بأنواعه حوالي 25% من عدد الحاصلين على شهادة إتمام الدراسة الابتدائية.
أن نسبة الملتحقين بالتعليم ما فوق الثانوي والكليات الجامعية نحو "5%" من عدد الحاصلين على شهادة إتمام الدراسة الثانوية. . فالنسبة هزيلة جدا كما ترى.
ومن المعلوم أن نسبة تعليم البنات، هي أقل من نسبة تعليم البنين،
__________
(1) د \ محمود نجيب حسني في كلمته في دورة اتحاد الجامعات الإفريقية 28 \ 2 \ 1989 م.(27/241)
وأنها تتناقص كلما ارتفعنا بالسلم التعليمي (1) .
وتوجد في سيراليون المعاهد الإسلامية العربية، وهي معاهد تعد المعلمين المسلمين للعمل بالمدارس الابتدائية، حيث يقومون بتدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية، وطلابها كثيرون، من البنين والبنات.
وقد قامت جمهورية مصر العربية بإنشاء هذه المعاهد، وإمدادها بالمناهج والكتب الدراسية، وانتدبت لها أساتذة مصريين من وزارة التربية والتعليم وإدراة المعاهد الدينية بالأزهر، وذلك بعد حصول سيراليون على استقلالها سنة 1961 م، حيث عقد اتفاق ثقافي فني من البلدين، شمل كثيرا من النواحي التعليمية والثقافية. . ونعتقد أن هذه المعاهد تفتقر إلى الكثير من الخدمات وأساليب التطور.
كما أن هذه المعاهد لا تزيد عن أربعة معاهد إسلامية عربية، موزعة على أربع مدن كبرى، هي (ماجبورا كار، بو، كنما، صفدو) . (وهي غير كافية لحاجة البلاد) .
ومدة الدراسة بالمعهد الإسلامي العربي خمس سنوات دراسية.
أما الشهادة التي يمنحها المعهد، فهي "الشهادة المتوسطة للمعاهد الإسلامية العربية".
وتعقد امتحانات هذه الشهادة، عن طريق إدارة كل معهد وهيئة التدريس به. . وقد اعتمدت حكومة سيراليون شهادة المعاهد الإسلامية العربية منذ وقت قريب، إذ يعين الحاصلون عليها، مدرسين للغة العربية والتربية الإسلامية بالمدارس الابتدائية الرسمية، بالإضافة إلى تعيينهم بالمدارس الإسلامية الخاصة. . وفي حدود الإمكانات المتاحة فإن هذه
__________
(1) نظم التعليم في العالم الإسلامي - د \ عرفات عبد العزيز سليمان ص 397 - 1403 هـ \ 1983 م نشر مصر.(27/242)
المعاهد تتمتع بسمعة علمية ودينية طيبة، تزايد معها الإقبال عليها (1) وأما المدارس الثانوية الإسلامية بسيراليون فهي قليلة ولكنها أكثر تنظيما من المدارس الابتدائية، وتشرف على إدارتها وزارة التعليم، وينطبق عليها ما ينطبق على المدارس الابتدائية من حيث الإدارة، ومناهجها تماثل بقية المدارس الثانوية الرسمية، ويقوم بالتدريس بها مدرسون سيراليون وغيرهم، وغالبيتهم من المسلمين، مع وجود بعض المسيحيين (2) .
وبالنسبة إلى أن نسبة المسلمين في سيراليون تصل إلى 65% فإن هذه الخدمات تعتبر قليلة ولا سيما في مواجهة جهود المؤسسات النصرانية.
فإذا تركنا نموذج سيراليون واتجهنا إلى نموذج (جامبيا) - وحكومتها مخلصة للإسلام - عرفنا أن المدارس توجد في غامبيا على أربعة أنواع:
1 - مدارس عربية أهلية لا تهتم بالعلوم الحديثة ويدخل فيها المجالس والمدارس القرآنية والمدارس العربية للجمعيات الإسلامية.
2 - مدارس إسلامية حديثة (يوجد مدرسة ابتدائية ومدرسة ثانوية واحدة في العاصمة) وهو عدد محدود جدا بالنسبة لنصف مليون مسلم في جامبيا.
3 - مدارس مسيحية.
4 - مدارس حكومية (3) .
وإذا كانت اللغة العربية تدرس الآن في جميع المدارس الثانوية في جامبيا كلغة أجنبية ثانية، فإن هناك - إمكانيات كبيرة في أن تصبح العربية اللغة الأولى، بل اللغة المحلية أيضا، والذي يدعو إلى ذلك عوامل كثيرة أهمها:
1 - العربية لغة القرآن الكريم.
__________
(1) نظم التعليم في العالم الإسلامي - د \ عرفات عبد العزيز سليمان ص 419 - 1403 هـ \ 1983 م نشر مصر.
(2) نظم التعليم في العالم الإسلامي - د \ عرفات عبد العزيز سليمان ص 440 - 1403 هـ \ 1983 م نشر مصر.
(3) دورة تدريب المعلمين في جامبيا (الاتحاد العالمي) ص 130.(27/243)
2 - الإنجليزية (أو الفرنسية) هي لغة المستعمر القديم، وتمثل شخصية غريبة.
3 - العربية تحقق الإفريقية شخصيتها التاريخية.
4 - والعربية تنقذ جامبيا خاصة من تعدد اللغات التي تصل إلى سبع لغات فيها، لدرجة أنه في أحيان كثيرة يصعب التفاهم بين السكان (! !) والمهم أن يجد المسلمون في هذا المجال! !
وفي جنوب إفريقيا أسس المسلمون أكثر من ثلاثمائة مسجد وثلاثمائة مدرسة إسلامية، وعددا من المؤسسات الإسلامية.
ومن المراكز والمؤسسات الإسلامية: جمعية المسلمين البيض، والمجلس الإسلامي، والمحكمة الشرعية الإسلامية، والمعهد الإسلامي الشرقي، ودائرة الدراسات العربية وحركة الشباب المسلمين، ومركز الدراسات الإسلامية. . أما المجلس الإسلامي فالمقر الرئيسي له في دربن، ويأخذ مجلس الإدارة على عاتقه دعوة العلماء والفقهاء لزيارة جنوب إفريقيا، ويقوم بمراسلة العالم الإسلامي والجامعات الإسلامية. والمجلس يشتمل على أكثر من مائة وخمسين جمعية إسلامية. . أما حركة الشباب المسلمين، فقد تأسست في دربن عام 1970 م، وبلغت فروعها خمسة وعشرين فرعا في مختلف أنحاء البلد، تعمل إلى جانب المنظمات الإسلامية في بعض البلاد المجاورة.
وكل هذه المؤسسات الشعبية تلقى عنتا حكوميا ومقاومة نصرانية شرسة، وفقرا ماليا وإمكانات محدودة، وصورا من ظلم التفرقة العنصرية. . وقد ذكر الأستاذ الداعية المعروف [أحمد ديدات] كثيرا منها في أحاديثه ومحاضراته.(27/244)
وهكذا تتعدد وتتنوع - للأسف - المشكلات التي تواجه التعليم الإسلامي والجامعي منه بخاصة في البلاد الإفريقية جنوب الصحراء. . فمن مشكلات عقدية، إلى مشكلات لغوية، إلى مشكلات اقتصادية ومالية، إلى مشكلات تتصل بالتخلف العلمي والحضاري. . إلى صور أخرى من الاستلاب والغزو التي يبوء بإثمها الغزو التنصيري والإلحادي والعنصري.
وعلى الجامعات الإسلامية أن تقف في وجه هذا كله، وأن تقدم البديل للإنسان الإفريقي المتخلف، وأن تكون لها برامج في التنمية البشرية، وفي حفظ الذات المسلمة للإنسان الإفريقي في إطار الحضارة الإسلامية واللغة العربية.
إن إفريقية بحاجة إلى جامعات إسلامية شمولية. . تشمل الجوانب النظرية والتطبيقية في إطار من التنظير الإسلامي للمعرفة، والتصور الإسلامي للحياة. . والمعاصرة الإيجابية. . وكل هذا في نسيج متناغم متكامل.(27/245)
الجامعات الإسلامية الإفريقية. . الحلول والطريق:
إن مستقبل إفريقية جنوب الصحراء - في عصر التحديات العلمية والفكرية الذي نعيشه - رهن بالتصدي للمشكلات التي تعيش في داخلها، وتلك التي تسلط عليها من خارجها.
وهذا التصدي هو الذي من شأنه أن يحقق لها التحول السياسي والاجتماعي والاقتصادي المنشود.
وفي هذا المجال فإن مؤسسات التعليم العالي والجامعات هي المرشحة لوضع السياسة القادرة على صناعة هذا التحول، وفق سنن الله الكونية والاجتماعية، ووفق خطة تنمية تعتمد على أقصى قدر من الاعتماد على(27/245)
الذات، وعلى الإنتاج والعمل واكتشاف الثروات الإفريقية، وإحياء الأرض الموات، وتحقيق التكامل الإفريقي والعربي.
وإنه لمن الضروري اتباع استراتيجيات وتدابير لمعاونة واضعي السياسات في تنفيذها، قد تحقق الغايات سالفة الذكر وتؤدي إلى تحويل الاقتصاد الإفريقي من (اقتصاد تبادل) إلى (اقتصاد إنتاج) بحيث يعتمد كل قطاع إنتاجي على الآخر، ومن ثم تتكامل كافة القطاعات في كتلة اقتصادية شاملة. كما ينبغي أن تتمشى مع هذا الاتجاه نحو التحول الاقتصادي، صياغة استراتيجيات فعالة تجعل محاولات التنمية أكثر ارتكازا على الإنسان، بإشراك الشعب في اتخاذ قرارت التنمية ولضمان أن كل تحول نحو التغير الاقتصادي الاجتماعي يأتي بمكاسب أكثر من التكاليف.
ويتساءل البروفيسور " أديبايا أديرجي " مساعد الأمين العام للأمم المتحدة والأمين العام للجنة الاقتصادية الإفريقية:
إنه لمن المعروف أن التعليم المتوافر لشعب من الشعوب هو الذي يحدد آماله في أن يكون قابلا للنمو يعتمد على ذاته ويتحلى بالثقة في النفس، فهل نقول إن افتقار الشعب الإفريقي إلى الثقة في النفس يقوده من التبعية إلى الهامشية الكاملة مما يتعذر معه إلقاء اللوم على النظم التعليمية في إفريقيا، وخاصة التعليم العالي؟
هل يمكن القول إن مؤسسات التعليم العالي تعمل بمثابة أدوات لتعميق تخلف القارة الإفريقية؟ ربما كان الأمر كذلك. . إننا مقتنعون بأن حل محنة إفريقية التنموية يمكن عن طريق بعض الجهود أن يوجد (بين جدرانها) وينبغي أن تبدأ (مؤسسات التعليم العالي) فورا بخوض مجالات التدريس(27/246)
والتعليم والبحوث الحيوية لإيجاد العمالة الماهرة التي تصبح إفريقيا بدونها غير قادرة على تمويل زراعتها وربط صناعتها بعملية نموها وتنميتها الداخلية الذاتية.
وينبغي على الأكاديميين والمفكرين في إفريقيا إيجاد طريقة للتأثير على وضع السياسة الخاصة باستراتيجيات التنمية في بلدانهم كما ينبغي عليهم أيضا محاولة أن يكونوا أكثر وضوحا وإقناعا للحكومة والشعب عندما يرفضون قبول تطبيق السياسات التي تعمل ضد تحقيق غاياتنا الخاصة بالتنمية طويلة المدى.
وينبغي على مؤسسات التعليم العالي إيجاد بدائل للسياسات الفاشلة، ومن ثم إيجاد طريقة لتعريف واضعي السياسات بتلك البدائل بطريقة تضمن قبولهم لها؛ لأن الوقت ليس في صالحنا. فلنعبئ الكفاءات المختلفة داخل مؤسسات التعليم العالي من أجل وضع برنامج مقنع للتنمية يكون من شأنه أن يساعد زعماءنا على وضع هذه القارة على الطريق السليم، ونضمن لأولادنا وأحفادنا مستقبلا مفعما بالأمل والخير.
وينبغي - أيضا - على كافة الأكاديميين والمفكرين في مؤسسات التعليم العالي في إفريقيا تنظيم أنفسهم في (أفرقة) البحوث والدراسات، والتعاون في كشف الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية لما يجب أن يفعل في إفريقيا اليوم، وكيف يمكن أن يحكم ذلك آفاق تنميتها في القرن الحادي والعشرين.
وإذا كانت هذه هي المسئولية العامة والمشتركة للجامعات في إفريقية، فهي - من باب أولى - مسئولية خاصة بالجامعات الإسلامية، سواء تلك التي تحمل كلمة (الإسلامية) لانتمائها إلى بلد إسلامي، أو تلك التي(27/247)
تحمل كلمة الإسلامية لوجود التخصصات الإسلامية والعربية فيها، أو لأن أهدافها تتصل بخدمة الدعوة الإسلامية.
وحتى التعليم الحر فوق الثانوي، والذي يطلق عليه أحيانا معاهد إسلامية أو كليات إسلامية أو مراكز ثقافية إسلامية أو دعوة إسلامية.
كل هذا - في تصوري - يدخل في نطاق هذه المسئولية، ويجب أن يطور فعاليته؛ بحيث يقدم إسهاما في حل المعضلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في القارة.
وغني عن البيان أن مراكز التنصير، ومؤسساته التعليمية إنما تجد إقبالا ونجاحا ليس - فقط - لتحديثها والاعتراف بها، وإنما تجد هذا الإقبال - بالدرجة الأولى - لأنها تصور للأفارقة - أنها تساعدهم على الارتقاء الاقتصادي والاجتماعي والثقافي - وهي قد تفعل ذلك - في حالات فردية من أجل الوصول إلى مكاسب عامة.
وقد ألمحنا سلفا إلى الآثار المدمرة للتعليم الاستعماري والتنصيري! ! وبالتالي، فمن الضروري بمكان أن تخرج الجامعات الإسلامية التقليدية من إطارها النظري والتجريدي لتأخذ بيد الأفارقة إلى العمل، واحترام الوقت، وتحسين الإنتاج، واكتساب مهارة عملية، وتحقيق الثقة بالنفس. . بالإضافة إلى القيام بوظيفتها الأساسية، وهي بناء الشخصية الإسلامية الإيجابية المؤثرة، وتعميم اللغة العربية (لغة القرآن) من فوق ركام اللهجات واللغات المنتشرة، ونبذ القبلية التي يرتفع بها بعضهم على حساب الأساسيات الإسلامية، وتأكيد (الأفرقة) المتعانقة مع الأخوة الإسلامية العامة، والتقاليد الشرقية الأصلية، والرافضة للروح الوثنية، والأيديلوجيات الإلحادية الوافدة! !
ولئن كان التعليم الاستعماري قد حرص على ربط الأجيال بمفاهيم خاطئة وقيم فاسدة تشيد بقوة المستعمر وحضارته وتهدف لتعميق الولاء(27/248)
له، والتقليل من قيمة الحضارات والثقافات والتقاليد الوطنية. . أو كما عبر الرئيس أحمد سيكوتوري في قوله:
"كان التعليم الذي قدم لنا يسعى أساسا لاستيعابنا والقضاء على شخصيتنا، وصبغنا بالصبغة الغربية. . ذلك التعليم قدم لنا حضارتنا وثقافتنا ومفاهيمنا الاجتماعية والفلسفية باعتبارها مظاهر لحياة همجية وبدائية لا تعي كثيرا، وذلك لكي يخلقوا فينا كثيرا من العقد التي تؤدي بنا إلى أن نصبح فرنسيين أكثر من الفرنسيين".
لئن كان التعليم الاستعماري قد سعى إلى هذه النتيجة، فإن على التعليم العالي الإسلامي الإفريقي أن يعيد الثقة في الذات الإفريقية المسلمة من خلال تقديم (محور حضاري) متميز قادر على الحوار والتفاعل مع الحضارات المعاصرة. . يجمع بين الإسلامية والإفريقية في نسيج متناغم.
ولا ضير - بل إنه لمطلوب - أن توجد داخل إطار الحضارات الإسلامية أطروحات حضارية ذات تعبيرات إقليمية، لكنها وثيقة الصلة بالوشائج الإسلامية العامة، وتنتظمها الأصول والملامح المشتركة للحضارة الإسلامية.
وفي مواجهة السياسة الاستعمارية التعليمية التي حرصت على أن تقوم بتخريج فئة قليلة تعمل في الوظائف الصغيرة في الإدارات الاستعمارية، يجب على التعليم العالي الإسلامي في إفريقيا (جنوب الصحراء) أن يجمع بين التعليم النظري الفكري والفني التطبيقي، وأن يرسم خطة لتخريج كفايات تملك روح البحث والتحليل والابتكار في العلوم الإنسانية والتطبيقية.
كما أنه في مواجهة هذا الكم. . من اللغات واللهجات. . ولكي يؤدي(27/249)
التعليم الإسلامي دوره في حقل الدعوة والمعرفة الإسلامية الذين هما جماع رسالة - فإن الجامعات الإسلامية ملزمة ببذل أقصى الجهد في نشر اللغة العربية - من جانب - حتى تكون - بعد فترة طالت أو قصرت، بإذن الله - لغة الثقافة الإفريقية. . ومن جانب آخر يجب أن تتضمن مقرراتها إتقان لغة أجنبية - (في هذه المرحلة من التحديات على الأقل) . . ولا ضير كذلك (في ميدان مقاومتها للغات الأجنبية) من الاهتمام باللغتين السواحلية والهوسا. لكن في حدود مرحلية كذلك. .
وبالإضافة إلى هذا فإن مناهج التعليم في الجامعات الإسلامية يجب أن يتم وضعها في إطار الأصول الإسلامية والمقاصد ومعالم تأصيل الإسلام للمعرفة، وتحقيق الثقة في الذات، والتمايز الحضاري الشرقي والأفريقي، ويجب أن تكون هذه المناهج نظرية وتطبيقية، وأن تستخدم كل الوسائل المساعدة والنشاطات اللامنهجية، وتقنيات العلم الحديث. .
ومن الضروري أن يتم التعاون بين الجامعات الإسلامية على مستوى القارة الإفريقية شمال الصحراء، وجنوبها، وأن نؤكد بقوة الدور الإسلامي الإفريقي للجامعات الإسلامية العربية الكبرى كالأزهر والزيتونة والقرويين وجامعة الأمير عبد القادر الجزائري بقسنطنية وجامعة أم درمان بالسودان، بالإضافة إلى الجامعات الإسلامية في المملكة العربية السعودية وعلى رأسها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية والجامعة الإسلامية بالمدينة، وجامعة أم القرى بمكة المكرمة. .
وحبذا أن تتولى رابطة الجامعات الإسلامية توثيق الصلات بين الجامعات الإفريقية بعضها البعض، وبينها وبين منظمة الوحدة الإفريقية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ورابطة العالم الإسلامي مع دعمها الدائم لشتى(27/250)
صور الالتقاء والتعاون والتكامل بين هذه الجامعات! !
وإنه لمن الأهمية بمكان تحقيق " التنسيق بين مفاهيم التعليم في البلاد الإفريقية" وتبادل الأساتذة والطلبة والباحثين بين الدول الإفريقية، وبينها وبين الدول الآسيوية"، و "تبادل البحوث والخبرات والتجارب" (1) ، و "تقوية التعاون بين أجهزة التعليم العالي في كل دولة وصانعي القرار فيها، وكافة القطاعات المعنية بتطبيقات البحوث".
لقد تعرض مؤتمر التضامن للشعوب الإفريقية الآسيوية الذي عقد في كوناكري في الفترة ما بين 11، 15 إبريل 1960 م للمشكلات الثقافية في إفريقيا وآسيا، وأوضح أنه، وإن كانت الأسبقية في الكفاح ضد الاستعمار هي للأهداف السياسية. . بيد أن الكفاح الوطني السياسي ذاته يجب أن يتلقى العون الصادق من جانب النشاط الثقافي على يد المفكرين؛ لأن الثقافة هي التي تنير البصائر وتوقظ وعي الجميع (2) .
ونحن، وإن كنا نقدر رؤية المؤتمرين، إلا أننا نرى أن الجهاد الثقافي - ولا سيما الأكاديمي - يجب أن يقف في درجة موازية على الأقل للكفاح الوطني السياسي، بل نحن نميل - منطلقين من فقهنا بقوانين الحضارة - إلى أن الجهاد الثقافي والفكري يجب أن تكون له الأسبقية بالنسبة لشتى صور الجهاد السياسي والاقتصادي. .
فالاستقلال السياسي، والاقتصادي، لن يتحققا إلا إذا وجد الإنسان
__________
(1) من توصيات مؤتمر التضامن الإفريقي الآسيوي في كوناكري إبريل 1960 م.
(2) نقلا عن د \ شوقي عطا الله. . المرجع السابق 245.(27/251)
المثقف والمتخصص، والمحصن فكريا، والواعي بذاته، والقادر على الفعل الحضاري الإيجابي! !
إن بناء الإنسان هو الأساس في أي تحول حضاري. . وإن الجامعات الإسلامية - بالمعنى الحضاري الشامل لمصطلح (الإسلامية) - هي المحضن الطبيعي لبناء الإنسان. . صانع التحول الحضاري. . والله من وراء القصد. .(27/252)
مخطوطة
تفسير سورة الفلق
تأليف
شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب "رحمه الله"
تحقيق
د. فهد بن عبد الرحمن الرومي(27/253)
صفحة فارغة(27/254)
صفحة فارغة(27/256)
تفسير سورة الفلق
تأليف
شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى
تحقيق د. فهد بن عبد الرحمن الرومي
مقدمة:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 102(27/257)
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} (2) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (3) .
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم إن قصار السور في القرآن الكريم مما يكثر المسلمون قراءته في صلواتهم وفي أورادهم وفي أذكارهم.
وفي الناس حاجة لمن يشرح لهم معناها ويوضح لهم أحكامها حتى يفقهوا ما يتلون ويرددون.
وعند الناس رغبة فيما قل ودل، أو أوجز وأفاد، وكثير منهم يزهد في المطولات من التفاسير. سيما في هذا العصر الذي يميل فيه الناس إلى ما يسمى (كتب الجيب) التي تقرأ في مجلس أو في مجلسين.
وبين حاجة الناس هذه، ورغبتهم تلك، بحثت عن تفاسير لقصار السور توقفهم على فقه ما يقرأون، وتجلو لهم معاني ما يتلون، مع إيجاز لفظ، ودقة عبارة، ووفاء معنى.
وبينما أنا كذلك إذ هديت إلى مخطوطة في تفسير سورة {الفلق} لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى. وعند اطلاعي عليها
__________
(1) سورة النساء الآية 1
(2) سورة الأحزاب الآية 70
(3) سورة الأحزاب الآية 71(27/258)
تبين لي أنها تلخيص لتفسير لها ألفه ابن القيم رحمه الله تعالى، فما زادني هذا إلا حرصا عليها فحسبك بتفسير ابن القيم رحمه الله تعالى لهذه السورة وهو الخبير بموضوعها الذي بز فيه أقرانه. فأكرم به وأنعم من تفسير، لولا أن فيه طولا عما سبرت، وتوسعا أكثر مما قصدت فهو كتاب يفيد طائفة من أولى العلم، وتقتصر عن دركه طائفة من طلبة العلم.
فإن تصدى عالم لاختيار جواهر من جواهره، ودررا من درره، فإن تفسيره سيصبح من أنفس النفائس، وأغلى الذخائر. إذا عرف كيف يختار وينتقي.
وحسبك بالإمام العلامة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب الذي تصدى لهذا الأمر، وقام به خير قيام.
ويظهر جليا حرصي على وحدة المشرب، وأن لا تكثر الدلاء، فيتكدر المعين ويتشتت الذهن فحصرت على الاقتصار على أقوال ابن القيم رحمه الله تعالى صاحب أصل التفسير سواء كان النقل من تفسيره أو من غيره، ولذا يدرك الناظر كثرة النقول عنه رحمه الله تعالى وذلك لأمرين:
(أولهما) أنه صاحب التفسير المطول وصلته بالمختصر جلية، أرجح من غيرها.
(ثانيهما) أن ابن القيم هو فارس هذا الميدان أعني الحديث عما اشتملت عليه سورة الفلق من الاستعاذة وما يتعلق بها، والنفاثات، والحسد ونحو ذلك من الروحانيات. وقل أن يكتب أحد في هذا الميدان لا يجد بدا من الرجوع إلى مؤلفاته رحمه الله تعالى.
فإن قيل: ما زدت على أن عمدت إلى تفسير مختصر، فعدت إلى الأصل ونقلت منه ما حذف فأعدت التفسير إلى أصله فلم تأت بجديد.
(قلت) هذا حق لو كان الأمر كما تقول. ولكن الأمر يختلف فالمختصر(27/259)
لم أمس منه شيئا، ولم أزد فيه كلمة ولم أنقص منه أخرى. إلا تصويب كلمة أجزم بتصحيفها أو تحريفها من النساخ.
أما الهوامش والتعليقات فقد أوردت فيها من العلوم والمعارف ما أحسب أن التفسير الأصل بحاجة إلى احتوائها تعليقا وتوضيحا، وأوردت فيها أيضا ما ليس في التفسير الأصل مما أحسبه يزيد جلاء المعنى ويوضحه وما نقلته - بعد ذلك - من الأصل فإنما ليرتقي بمستوى التفسير درجة لمن يرى في نفسه استعدادا أكثر، وليناسب درجات الباحثين فيتلقى كل باحث منه ما يناسب درجته، وقديما جرى العلماء على تأليف البسيط والوسيط والوجيز أو الكبير والأوسط والصغير.
فمن ضاق وقته عن الزيادة ففي المتن خير وزيادة، ومن اتسع وقته وتاقت نفسه إلى المزيد ففي الهوامش ما أحسب فيه فائدة، ومن أراد أكثر من ذلك فدونه الأصول والأمهات.(27/260)
التعريف بالمؤلف:
الحق أني ترددت كثيرا في الترجمة للمؤلف هنا، فقد سبقت مني ترجمة له موجزة في تحقيقي لتفسيره للفاتحة، ثم بدا لي أن وجود الترجمة هناك لا يغني عن إيرادها هنا. فقد يقع هذا التفسير في يد من لا يعرف شيئا عن الشيخ ولم يطلع على تفسير الفاتحة. وبعد تردد رأيت أن أنقل تلكم الترجمة هنا، فمن قرأها هناك فليعذرني هنا. قلت هناك:
هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان آل مشرف التميمي، ولد سنة 1115 هـ في بيت علم وخلق وشرف، فقد كان أبوه قاضيا للعيينة، حفظ القرآن قبل أن يكمل اثنتي عشرة سنة من عمره وقرأ الفقه والتفسير والحديث، ورحل في طلب العلم فبدأ رحلته بالحج، ثم ذهب إلى المدينة المنورة وأخذ عن علمائها حينذاك، وفي المدينة رأى ما يقع فيه بعض(27/260)
أهلها من البدع والمنكرات عن قبر الرسول وفي البقيع، وقد أنكر ذلك وحذر منه.
ثم عاد إلى نجد وسافر منها إلى البصرة وأخذ عن علمائها كذلك ورأى في البصرة ما هو أشد مما رأى في المدينة المنورة، رأى القبور المسرجة والطائفين يتمسحون بالقبور والبدع والمنكرات ولم يطق - رحمه الله - صبرا على ذلك فأنكر عليهم الباطل وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فأخرجه أهلها وطردوه من البصرة في حمارة القيظ حافي القدمين عاري الرأس. ليس عليه سوى ثوبه وقميصه. . وكاد الشيخ أن يهلك عطشا لولا أن هيأ الله له من حمله إلى الزبير وسقاه، وعاد منها إلى نجد عن طريق الأحساء وعاد إلى حريملاء حيث نقل أبوه من قضاء العيينة إلى قضائها. ثم توفي والده سنة 1153 هـ، فواجه وحده كيد خصوم الدعوة ولكن بعد أن ذاع صيته وانتشر خبر دعوته، وألف في تلك الفترة كتابه (التوحيد الذي هو حق الله على العبيد) ثم ضاق أهل حريملاء بدعوته فطردوه وهمت طائفة من عبيدهم بقتله وتسوروا عليه بيته ولكن الله نجاه فذهب إلى العيينة واستقبله أميرها ابن معمر وأحسن وفادته وهدم ما كان في العيينة وما حولها من قباب ومشاهد على القبور وقطع الأشجار التي يتبرك بها بعض الناس.
وما زال أعداء الدعوة يتربصون به حتى أخرج الشيخ من العيينة وتوجه إلى الدرعية ووجد من أميرها محمد بن سعود العون والمساعدة فتبايعا على نصرة دين الله وإحياء سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإماتة البدعة.
وانطلقت الدعوة بعد أن اتخذت الدرعية قاعدة لها فكاتب الشيخ رؤساء البلدان وأهلها وعلماءها يدعوهم إلى الانضمام إلى دعوته فاستجاب كثير منهم.
فأقيمت الفرائض والنوافل ومحقت البدع والمحرمات وأزيلت المنكرات(27/261)
والشركيات وارتفعت كلمة التوحيد صافية نقية بعد أن شابها في تلك الفترة عبادة غير الله ودعوته.
وتفرغ الشيخ للعبادة والتعليم وتوافد عليه العديد من طالبي العلم الصحيح وألف عددا كبيرا من المؤلفات منها:
1 - كتاب التوحيد.
2 - كتاب الإيمان.
2 - كتاب أصول الإيمان.
4 - فضائل الإسلام.
5 - فضائل القرآن.
6 - كشف الشبهات.
7 - آداب المشي إلى الصلاة.
8 - استنباط القرآن.
9 - مسائل الجاهلية.
10 - الكبائر.
11 - مفيد المستفيد بكفر تارك التوحيد.
12 - الرد على الرافضة.
وعددا من المختصرات مثل:
1 - مختصر الصواعق.
2 - مختصر العقل والنقل.
3 - مختصر منهاج السنة.
4 - مختصر فتح الباري.
5 - مختصر زاد المعاد.
6 - مختصر الشرح الكبير والإنصاف وغير ذلك
وتوفي الشيخ رحمه الله تعالى سنة 1206 هـ رحمه الله رحمة واسعة، وأجزل له الأجر والمثوبة وجزاه خير ما يجزي به عباده الداعين إلى سبيله. . إنه سميع مجيب.(27/262)
التعريف بالتفسير:
قلت إن هذا التفسير مختصر لتفسير ابن القيم، وينبغي أن أؤكد هنا أن الشيخ لم يكن في تلخيصه آلة صماء، يبتر النص بترا، ويرقع الجمل ترقيعا، بل ظهرت شخصيته العلمية، وبرزت معالم فكره، وما يؤيده، وما لا يؤيده.(27/262)
وقد يكون القصد في بعض المواضع الاختصار فحسب، وقد يظهر للمتمعن أن القصد ليس الاختصار في مواضع أخرى. وذلك حين يحذف كلمة أو كلمتين بين جمل متصلة، في هذه الكلمة أو الكلمتين اعترك العلماء، وتعددت الأقوال، فإيرادها أخذ بقول وحذفها وحدها قد يكون رفضا لهذا القول، وبهذا يظهر جانب من شخصية الشيخ العلمية.
هذا فضلا عن زيادة في جملة، أو تغيير في العبارة، أو ربط بين جملة وأخرى.
ولم يكن مرادي في هذا التفسير المقارنة بين الأصل والمختصر، وإنما هو إخراج هذا التفسير وتوضيح بعض العبارات، وزيادة البيان، مع الالتزام بأن لا يخرج عن الحد الذي رسمته، ولا يقصر عن الوفاء الذي أردته، حسب جهدي وطاقتي وأجزم بوقوع التقصير فأسأل الله الغفران.
وينبغي أن أوضح أيضا أن الشيخ رحمه الله تعالى قد اختصر هذا المختصر وطبع عدة مرات.(27/263)
أصول الكتاب:
بحثت في مكتبات كثيرة عن نسخ مخطوطة لهذا التفسير، وبعد بحث وتنقيب لم أعثر على نسخة واحدة، أما بقية النسخ الواردة في فهارس بعض المكتبات فهي للتفسير المختصر لسورة الفلق، وليست لهذا التفسير، وقد طبع هذا المختصر عدة مرات كما أشرت آنفا، أما هذا التفسير فلم أجده مطبوعا من قبل.
ولأجل التحقق من صحة النسخة المخطوطة وسلامتها من التصحيف(27/263)
أو التحريف قمت بمقابلتها على النسخ المطبوعة لتفسير سورة الفلق لابن القيم رحمه الله تعالى ضمن (تفسير المعوذتين) وقد طبع عدة مرات وقابلتها على أربع طبعات لهذا التفسير هي:
1 - طبع (تفسير المعوذتين) لابن القيم ضمن كتابه (بدائع الفوائد) في إدارة الطباعة المنيرية وذلك في الجزء الثاني من ص 198 إلى ص 276.
2 - طبع أيضا ضمن التفسير القيم جمعه محمد أويس الندوي، حققه محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية بيروت 1398 هـ.
3 - تفسير المعوذتين لابن القيم تحقيق وتعليق مصطفى بن العدوي مكتبة الصديق الطائف الطبعة الأولى 1408 هـ.
4 - تفسير المعوذتين لابن القيم تصحيح عبد الصمد شرف الدين الطبعة الثالثة 1375 هـ الدار القيمة - الهند.
ومعلوم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى اختصر هذا التفسير من تفسير ابن القيم رحمه الله تعالى والتزم في أغلب المواضع بعبارة ابن القيم رحمه الله تعالى ولا يخالف هذا ما قلته في التعريف بالتفسير بظهور الشخصية العلمية للشيخ في اختصاره فهو مع احتفاظه رحمه الله تعالى بالعبارة إلا أنه يحذف من العبارة ما لا يراه ويثبت ما يؤيده وقد يزيد كلمة أو يغير في عبارة كما أشرت مما يكفل إبراز رأيه في التفسير.
وبهذا يظهر أن مقابلة المخطوطة على هذه الطبعات لتفسير ابن القيم مفيد جدا وهذا ما حصل.
بل فوق هذا فقد استفدت من المخطوطة في مواضع من المطبوع إذ يظهر أن الشيخ رحمه الله تعالى قد لخص تفسيره من مخطوطة لم يطلع عليها أحد ممن قام بطبع تفسير ابن القيم وفيها اختلاف في بعض المواضع يفيد في تحقيق تفسير المعوذتين لابن القيم.(27/264)
أما النسخة المخطوطة لهذا التفسير فقد صورتها من مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وهي برقم "2320" وهي مصورة عن المتحف العراقي كما كتب بخط اليد وتقع في صفحتين وسبعة أسطر من الثالثة، عدد الأسطر في الصفحة الأولى "29" وفي الثانية "33" سطرا. كما أنه يوجد نسخة لتفسير سورة (الإخلاص) ومعها تفسير المعوذتين في مكتبة الآثار العامة - ببغداد رقم "35179". ونسحة أخرى في خزائن مكتبة الأوقاف ببغداد رقم "3279" بعنوان (تفسير سورة الإخلاص، والفلق، والناس) .
وقد طلبت تصويرهما عن طريق مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية. وقد بادر المركز بإرسال طلب التصوير، ولم يتيسر ذلك حتى الساعة، علما أني لا أعرف أي التفسيرين فيها التفسير المختصر أو التفسير المطول للشيخ محمد بن عبد الوهاب.
ولذا فقد اكتفيت بما عثرت عليه وقابلته على المطبوع ورأيت فيه الكفاية فلم تلتبس علي كلمة ولم تشكل علي عبارة بحمد الله وفضله وله المنة والحمد. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(27/265)
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (1) .
__________
(1) سورة الفلق الآية 1(27/265)
معنى (أعوذ) (1) ألتجئ وأعتصم وأتحرز و (الفلق) هو نور الفجر الذي يطرد الظلام.
وتضمنت هذه السورة:
المستعاذ به.
والمستعاذ منه.
والمستعيذ.
والمستعاذ به: هو الله رب الفلق، ورب الناس، الذي لا ينبغي الاستعاذة إلا به، ولا يستعاذ بأحد من خلقه، وقد قال في كتابه
__________
(1) للمؤلف رحمه الله تعالى كلام نفيس في تفسير الاستعاذة أورده في تفسيره للفاتحة ص 37 - 38.(27/266)
عمن استعاذ بخلقه أن استعاذته رهقا وهو الطغيان فقال:
{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (1) .
واحتج أهل السنة على المعتزلة في أن كلمات الله غير مخلوقة بأن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بقوله:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (2) و «أعوذ بكلمات الله التامات (3) » وهو لا يستعيذ بمخلوق أبدا.
والمستعيذ: هو رسول الله وكل من اتبعه إلى يوم القيامة.
__________
(1) سورة الجن الآية 6
(2) سورة الفلق الآية 1
(3) رواه البخاري جـ 4، ص 119 ونصه: ''عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوذ الحسن والحسين ويقول: إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ''. وقال ابن حجر رحمه الله تعالى: ''وقوله (بكلمات الله) قيل المراد بها كلامه على الإطلاق وقيل أقضيته وقيل ما وعد به، كما قال تعالى: {وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل} والمراد بها قوله تعالى: ''ونريد أن نمن على الذين استضعفوا الأرض'' المراد بالتامة الكاملة وقيل النافعة وقيل الشافية وقيل المباركة وقيل القاضية التي تمضي وتستمر ولا يردها شيء ولا يدخلها نقص ولا عيب. قال الخطابي كان أحمد يستدل بهذا الحديث على أن كلام الله غير مخلوق، ويحتج بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يستعيذ بمخلوق''. أ. هـ فتح الباري: ابن حجر جـ. 6 ص 410.(27/267)
وأما المستعاذ منه فهو أربعة أقسام:
(الأول) الشر العام:
في قوله {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} (1) وهذا يعم كل شر في الدنيا والآخرة وشر الشياطين من الناس والجن، وشر السباع والهوام، وشر النار، وشر الذنوب والهوى، وشر النفس وشر العمل.
وقوله {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} (2) أي: من شر كل مخلوق فيه شر. وليس المراد الاستعاذة من كل ما خلقه الله. فإن الجنة وما فيها ليس فيها شر. وكذاك الملائكة والأنبياء فإنهم خير محض.
(الشر الثاني) شر الغاسق إذا وقب:
وهذا خاص بعد عام. و (الغاسق) : الليل (3) إذا أقبل ودخل في كل شئ، والغسق: الظلمة، والوقوب: الدخول.
والسبب الذي لأجله أمر الله بالاستعاذة من شر الليل هو أن الليل محل سلطان الأرواح الشريرة، وفيه تنتشر الشياطين، والشياطين إنما
__________
(1) سورة الفلق الآية 2
(2) سورة الفلق الآية 2
(3) ومنه قوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} (الإسراء: 78) .(27/268)
سلطانهم في الظلمات والمواضع المظلمة. ولهذا كانت القلوب المظلمة هي محل الشياطين وبيوتهم.
وذكر سبحانه في هاتين الكلمتين (1) الليل والنهار، والنور والظلمة فأمر الله عباده أن يستعيذوا برب النور الذي يقهر الظلمة ويزيلها، وهو سبحانه يدعى بأسمائه الحسنى، فيسأل لكل مطلوب باسم يناسبه.
(الشر الثالث) شر النفاثات في العقد:
وهذا الشر هو شر السحر. فإن (النفاثات) هن السواحر. اللاتي
__________
(1) يعني: {الفلق} و {غاسق}(27/269)
يعقدن الخيوط وينفثن على كل عقدة حتى ينعقد ما يردن من السحر.
والنفث: هو النفخ مع ريق وهو دون التفل، وهو مرتبة بينهما (1) .
والنفث: فعل الساحر. فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور واستعان بالأرواح الخبيثة نفث في تلك العقد نفخا معه ريق فيخرج من نفسه الخبيثة نفس ممازج للشر مقترن بالريق الممازج. وقد تساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور فيقع فيه السحر بإذن الله الكوني القدري.
ولما كان تأثير السحر من جهة الأنفس الخبيثة والأرواح الشريرة قال سبحانه: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ} (2) بالتأنيث دون التذكير.
وقد دل قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} (3) على تأثير السحر، وأن له حقيقة. وقد أنكر ذلك طائفة من أهل الكلام وقالوا: "إنه لا تأثير للسحر لا في مرض ولا في قتل ولا حل ولا عقد. قالوا: وإنما
__________
(1) ولخروج الهواء من الفم درجات أولها النفخ ثم النفث ثم التفل ثم البزق
(2) سورة الفلق الآية 4
(3) سورة الفلق الآية 4(27/270)
ذلك تخييل لأعين الناظرين لا حقيقة له سوى ذلك".
وهذا خلاف ما تواترت به الآثار عن الصحابة والسلف واتفق عليه الفقهاء.
والسحر يؤثر مرضا وقتلا وحلا وقتلا وحبا وبعضا وغير ذلك من الآثار موجودة (1) يعرفه الناس وكثير منهم قد علمه ذوقا (2) بما
__________
(1) صحة الكلمة (موجود) بدائع الفوائد جـ 2 ص 227.
(2) قال ابن منظور في لسان العرب ''ما نزل بالإنسان من مكروه فقد ذاقه'' جـ 10 ص 111 مادة (ذوق)(27/271)
أصيب به (1) .
وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} (2) دليل على أن النفث يضر المسحور في حال غيبته (3) عنه ولو كان الضرر لا يحصل إلا بمباشرة البدن ظاهرا كما يقوله هؤلاء لم يكن للنفاثات شر يستعاذ منه (4) ، وأيضا فإذا جاز على الساحر أن يسحر أعين جميع الناظرين مع كثرتهم حتى يروا الشيء بخلاف ما هو به مع أن هذا تغير (5) في إحساسهم فما الذي يحيل تأثيره في تغير بعض أعراضهم وطباعهم وقواهم. فإذا غير إحساسه حتى صار يرى الساكن متحركا، والمتصل منفصلا، فما المحيل لأن يغير صفات نفسه حتى يحصل (6) المحبوب إليه بغيضا والبغيض محبوبا، وغير ذلك من التأثيرات. وقد قال تعالى عن سحرة فرعون إنهم: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} (7) الآية.
فبين سبحانه أن أعينهم سحرت (8) وذلك إما:
أن يكون لتغير حصل في المرئي، وهو الحبال والعصي، مثل أن يكون السحرة استعانت بأرواح حركاتها وهي الشياطين فظنوا أنها
__________
(1) كذا في المخطوطة وهي عند ابن القيم (بما أصيب به منه) بدائع الفوائد جـ 2 ص 227.
(2) سورة الفلق الآية 4
(3) أي أن السحر يقع ولو لم يكن المسحور حاضرا عند الساحر.
(4) لأن النفاثات ينفثن في العقد وليس في جسد المسحور.
(5) في المخطوطة (تغيرا) وهو لحن فصححته.
(6) عند ابن القيم رحمه الله تعالى (حتى يجعل) بدائع الفوائد جـ 2 ص 227.
(7) سورة الأعراف الآية 116
(8) الحاصل أن الذي يستطيع أن يسحر القوى الجسدية قادر على أن يسحر القوى النفسية(27/272)
تحركت بأنفسها، وهذا كما إذا جر من لا تراه (1) حصيرا أو بساطا فترى الحصير والبساط ينجر ولا ترى (2) الجار له، مع أنه هو الذي يجره، فهكذا حال الحبال والعصي قلبتها الشياطين فظن الرائي أنها انقلبت بأنفسها والشياطين هم الذين يقلبونها.
وإما أن يكون التغيير حدث في الرائي حتى رأى الحبال والعصي تتحرك وهي ساكنة في أنفسها، ولا ريب أن الساحر يفعل هذا وهذا.
وأما ما يقوله المنكرون (3) من أنهم فعلوا في الحبال والعصي ما أوجب حركتها ومشيتها مثل الزيبق وغيره حتى سعت فهذا باطل من وجوه كثيرة.
__________
(1) في المخطوطة (لا يراه) والصواب ما أثبته لقوله بعد (فترى) .
(2) في المخطوطة (ولا يرى) والصواب ما أثبته انظر: بدائع الفوائد جـ 2 ص 228.
(3) أي الذين يزعمون أن السحر كله تخييل ولا حقيقة له. وهم المعتزلة وغيرهم كما مر.(27/273)
(الشر الرابع) : شر الحاسد إذا حسد:
وقد دل القرآن والسنة على أن نفس حسد الحاسد يؤذي المحسود، فنفس حسده شر متصل بالمحسود من نفسه وعينه وإن لم يؤذه بيده ولا لسانه، فإن الله تعالى قال {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (1) فحقق الشر منه عند صدور الحسد، والقرآن ليس فيه لفظة مهملة، لكن قد يكون الرجل في طبعه الحسد وهو غافل عن المحسود ولاه عنه فإذا خطر على قلبه انبعث نار الحسد من قلبه فيتأذى المحسود بمجرد ذلك، فإن لم يستعذ بالله ويتحصن به، ويكون له أوراد من الأذكار والدعوات والتوجه إلى الله، والإقبال عليه، بحيث يدفع عنه من شره بمقدار توجهه
__________
(1) سورة الفلق الآية 5(27/274)
وإقباله على الله، وإلا ناله شر الحاسد ولا بد.
وفي الحديث الصحيح رقية جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيها «باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك (1) » فذكر شر عين الحاسد. ومعلوم أنها لا تؤثر بمجردها إذ لو نظر إليه نظر لاه ساه كما ينظر إلى الأرض والجبل وغيره لم يؤثر فيه شيئا، وأما إذا نظر إليه نظر من قد تكيفت نفسه الخبيثة وانسمت، فصارت نفسا غضبية حاسدة، أثرت بها تلك النظرة فأثرت في المحسود بحسب ضعفه وقوة نفس الحاسد، فربما أمرضه، وربما قتله، والتجارب بها عند الخاصة والعامة أكثر من أن تذكر.
وهذه العين إنما تؤثر بواسطة النفس الخبيثة، وهي بمنزلة الحية إنما
__________
(1) صحيح مسلم كتاب السلام باب الطب والمرض والرقى جـ 4 ص 1718 - 1719. تمام الحديث ''أن جبريل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد اشتكيت؟ فقال: ''نعم'' قال: بسم الله أرقيك. . '' الحديث.(27/275)
يؤثر سمها إذا عضت فإنها تتكيف بكيفية الغضب، فتحدث فيها تلك الكيفية السم، فتؤثر في الملسوع، وربما قويت حتى تؤثر بمجرد النظر، وذلك في نوع منها حتى يؤثر بمجرد النظر، فتطمس البصر وتسقط الحبل، كما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأبتر وذي الطفيتين منها.
وقال: " اقتلوهما ". وهذا علم لا يعرفه إلا خواص الناس.
وهل الانفعال والتأثير وحدوث ما يحدث من الاجسام إلا للأرواح؟
والأجسام آلتها بمنزلة الصانع، فالصنعة في الحقيقة له، والآلات(27/276)
وسائط. ومن له فطنة وتأمل أحوال الأرواح وتأثيراتها وتحريكها الأجسام رأى عجائب وآيات دالة على وحدانية الله وعظم ربوبيته، وأن ثم عالما (1) آخر تجري عليه أحكام أخر، يشهد آثارها، وأسبابها غيب عن الأبصار فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين.
والعاين والحاسد يشتركان في شيء ويفترقان في شيء. فيشتركان في أن كلا منهما تتكيف نفسه وتتوجه نحو من تقصد أذاه، والعاين تتكيف نفسه عند مقابلة المعين ومعاينته، والحاسد يحصل حسده في الغيبة والحضور.
ويفترقان في أن العاين قد يعين من لا يحسده من حيوان أو زرع، وإن كان لا ينفك من حسد صاحبه (2) بل ربما أصاب نفسه.
__________
(1) في المخطوطة (عالم) والصواب (عالما) لأنها اسم أن مؤخر.
(2) أي صاحب الحيوان أو الزرع، فلا يخلو العاين من الحسد.(27/277)
وسببه الإعجاب بالشيء واستعظامه، فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديق مع تكيف نفسه بتلك الكيفية تؤثر في المعين.
وقوله: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (1) يعم الحاسد من الجن والإنس (2) ، فإن الشيطان وحزبه يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله.
ولكن الوسواس أخص بشياطين الجن، والحسد أخص (3) بشياطين الإنس، والوسواس يعمهما أيضا، فكلا الشيطانين حاسد موسوس فالاستعاذة من شر الحاسد يعمهما جميعا.
فقد اشتملت السورة على الاستعاذة من كل شر في العالم. وتضمنت شرورا أربعة منها:
شرا عاما وهو:
شر ما خلق.
وشر الغاسق إذا وقب، فهذان نوعان. ثم ذكر:
شر الساحر، والحاسد.
وهما نوعان أيضا لأنهما من شر النفس الشريرة، وأحدهما يستعين
__________
(1) سورة الفلق الآية 5
(2) وكذا العين عينان: عين إنسية وعين جنية (زاد المعاد جـ 4 ص 164) .
(3) في المخطوطة (أعم) والصواب الذي يستقيم به المعنى، ويوافق الأصل عند ابن القيم (أخص) فأثبتها.(27/278)
بالشيطان ويعبده، وهو الساحر، وقل ما يتأتى السحر بدون نوع عبادة الشيطان وتقرب إليه، إما يذبح (1) باسمه، أو يذبح يقصد به هو، فيكون ذبحا لغير الله، وبغير ذلك من أنواع الشرك.
والساحر وإن لم يسم هذا عبادة للشيطان فهو عبادة له، وإن سماه بما سماه به، فإن الشرك والكفر هو شرك وكفر لحقيقته ومعناه، لا لاسمه ولفظه، فمن سجد لمخلوق، وقال: ليس هذا بسجود له، هذا خضوع ويقبل الأرض بالجبهة، كما أقبلها بالنعم، وهذا إكرام. لم
__________
(1) كذا وهي عند ابن القيم (بذبح باسمه أو بذبح. . . الخ) بدائع الفوائد جـ 2 ص 235(27/279)
يخرج بهذه الألفاظ عن كونه سجودا لغير الله، فليسمه بما شاء.
وكذلك من ذبح للشيطان ودعاه، واستعاذ به، وتقرب إليه، فقد عبده، وإن لم يسم ذلك عبادة، بل يسميه استخداما.
وصدق. هو من استخدام الشيطان له، فيصير من خدم الشيطان وعابديه، وبذلك يخدمه الشيطان.
لكن خدمة الشيطان ليست خدمة عبادة، فإن الشيطان لا يخضع له، ويعبده كما يفعل هو به.
والمقصود أن هذا عبادة منه للشيطان وإن سماه استخداما.
وتأمل تقييده سبحانه شر الحاسد بقوله {إِذَا حَسَدَ} (1) لأن الرجل قد يكون عنده حسد ولكن يخفيه ولا يرتب عليه أذى لا بقلبه ولا بلسانه ولا بيده، بل يجد في قلبه شيئا من ذلك ولا يعامل أخاه إلا بما يحب الله فهذا لا يكاد يخلو منه أحد إلا من عصمه الله.
__________
(1) سورة الفلق الآية 5(27/280)
وقيل للحسن البصري: أيحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك إخوة يوسف. فالرجل إذا كان في قلبه حسد لكن يخفيه، ولا يرتب عليه أذى بوجه ما، لا بقلبه ولا بلسانه ولا بيده، بل لا يعامل أخاه إلا بما يحب الله فهو لا يطيع نفسه بل يعصيها خوفا من الله، وحياء منه أن يكره نعمه على عباده، فيرى ذلك مخالفة لله وبغضا لما يحب الله، فهو يجاهد نفسه على دفع ذلك، ويلزمها الدعاء للمحسود وتمني زيادة الخير له. فإن هذا الحسد الذي في قلبه لا يضره، ولا يضر المحسود.(27/281)
بخلاف ما إذا حقق ذلك وحسده، ورتب على حسده مقتضاه من الأذى بالقلب واللسان والجوارح، فهذا الحسد المذموم، هذا كله حسد تمني الزوال.
وللحسد ثلاث مراتب:
(أحدها) : هذه. وهي (1) : تمني زوال النعمة.
(الثانية) : تمني استصحاب عدم النعمة، فهو يكره أن يحدث الله لعبده نعمة، بل أن يبقى على حاله من جهله، أو فقره، أو قلة دينه، فهو يتمنى دوام ما هو فيه من نقص أو عيب.
فهذا حسد على شيء معدوم (2) ، والأول حسد على شيء محقق (3) ، وكلاهما حاسد، عدو نعمة الله، وعدو عباده، ممقوت عند الله وعند عباده.
(الثالثة) : حسد الغبطة: وهو: تمني أن تكون له مثل حال المحسود من غير أن تزول النعمة عنه، فهذا لا بأس به، ولا يعاب
__________
(1) في المخطوطة (وهو) والصواب ما أثبته.
(2) عند ابن القيم (حسد على شيء مقدر) بدائع الفوائد جـ 2 ص 237.
(3) أي حسد على شيء معدوم لا يريد تحققه للمحمود، والأول حسد على شيء محقق يريد عدمه وزواله عن المحسود.(27/282)
صاحبه، بل هذا قريب من المنافسة، وقد قال تعالى:
{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (1) .
وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس (3) » .
فهذا حسد غبطة، الحامل لصاحبه عليه حب خصال الخير، والتشبه بأهلها، والدخول في جملتهم، فيحدث له المنافسة والمسارعة مع محبته لمن يغبطه، وتمني دوام نعمة الله عليه، فهذا لا يدخل في الآية (4) بوجه ما.
وهذه السورة من أكبر أدوية المحسود فإنها تتضمن التوكل على الله
__________
(1) سورة المطففين الآية 26
(2) رواه البخاري جـ 1 ص 26 ورواه مسلم جـ 1 ص 559 ومسند الإمام أحمد جـ 1 ص 385.
(3) في المخطوطة (وسلطه) . (2)
(4) يعني قوله تعالى: {ومن شر حاسد إذا حسد} .(27/283)
والالتجاء إليه، والاستعاذة به من شر حاسد النعمة.
والله تعالى أعلم،،(27/284)
المراجع
1 - آثار الشيخ محمد بن عبد الوهاب: د. أحمد الضبيب، الرياض، 1397 هـ.
2 - آكام المرجان في أحكام الجان: بدر الدين الشبلي، دار الباز، مكة المكرمة.
3 - أحكام القرآن: أبو بكر الرازي الجصاص، دار الفكر، بيروت.
4 - إحياء علوم الدين: أبو حامد الغزالي، مطبعة مصطفى الحلبي بمصر 1358 هـ.
5 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: محمد الأمين الشنقيطي، مطبعة المدني.
6 - الإفصاح: ابن هبيرة، المؤسسة السعيدية بالرياض 1398 هـ.
7 - الاقتصاد في الاعتقاد: أبو حامد الغزالي، تقديم د. عادل العوا، دار الأمانة، بيروت، الطبعة الأولى، 1388 هـ.
8 - اقتضاء الصراط المستقيم: ابن تيمية تحقيق وتعليق د. ناصر العقل، الطبعة الأولى، 1404 هـ.
9 - بدائع الفوائد: ابن القيم الجوزية، دار الكتاب العربي، بيروت، مصورة عن طبعة إدارة الطباعة المنيرية، القاهرة.
10 - تفسير الفاتحة: شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، تحقيق فهد بن عبد الرحمن الرومي، الطبعة الخامسة، شوال 1409 هـ.
11 - تفسير ابن كثير: مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1384 هـ.
12 - تفسير المعوذتين: ابن تيمية خرج أحاديثه موفق العوض، الطبعة الأولى، 1407 هـ، دار طيبة، الرياض.
13 - تفسير المعوذتين: ابن القيم صححه وعلق عليه عبد الصمد شرف الدين 1375 هـ، الطبعة الثالثة، الدار القيمة، بمباي، الهند.
14 - تهذيب التهذيب: ابن حجر العسقلاني، دار الفكر، بيروت، مصورة عن الطبعة الأولى بمطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية بالهند.
15 - تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الرابعة، 1400 هـ.
16 - الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي) ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1965 م.
17 - جامع البيان في تفسير القرآن (تفسير الطبري) ، دار المعرفة، بيروت، مصورة عن طبعة بولاق سنة 1329 هـ.
18 - الجامع الصحيح (سنن الترمذي) تحقيق وشرح أحمد شاكر، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
19 - الروح: ابن القيم، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح بمصر، الطبعة الثالثة، 1386 هـ.
20 - زاد المعاد: ابن القيم تحقيق شعيب وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، الطبعة السابعة، 1405 هـ.
21 - سنن المصطفى، ابن ماجه، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية.
22 - شرح صحيح مسلم: النووي، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، 1392 هـ.
23 - شرح العقيدة الطحاوية: ابن أبي العز الحنفي، المكتب الإسلامي، بيروت الطبعة الرابعة، 1391 هـ، تحقيق جماعة من العلماء.
24 - صحيح البخاري: المكتبة الإسلامية، استانبول، تركيا، 1979 م.
25 - صحيح مسلم: الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، بالمملكة العربية السعودية، الرياض، 1400 هـ.(27/285)
26 - فتح الباري: ابن حجر العسقلاني، تصحيح عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ترقيم محمد عبد الباقي، دار الفكر، تصوير عن الطبعة السلفية.
27 - القول الشافي في تفسير المعوذتين: محمد الخضري، الطبعة الأولى 1367 هـ، مطبعة التوكل، مصر.
28 - لسان العرب: ابن منظور، دار صادر، بيروت.
29 - مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، تصوير الطبعة الأولى، 1398هـ.
30 - المحلى: ابن حزم، دار الآفاق الجديدة، بيروت.
31 - مسند الإمام أحمد: المكتب الإسلامي، دار صادر، بيروت، مصورة عن الطبعة الميمنية 1313هـ.
32 - الموسوعة العلمية الحديثة: موريس برتون، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت، 1985م.(27/286)
مناهج العلماء
في إثبات الأحكام بخبر الواحد
زيادة على ما ثبت منها بالقرآن
إعداد دكتور \ عبد الرؤوف مفضي خرابشة
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، القائل في محكم كتابه:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1) .
والقائل أيضا: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (2) .
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد القائل: «تركت فيكم أمرين، لن تضلوا ما تمسكتم بهما، كتاب الله وسنة نبيه (3) » وبعد:
__________
(1) سورة النحل الآية 44
(2) سورة محمد الآية 24
(3) أخرجه مالك في القدر من الموطأ، باب النهي عن القول بالقدر بلاغا، ص502 دار الكتب العلمية - بيروت، وأخرجه الحاكم في المستدرك ط1 جـ1 ص93، ووافقه الذهبي في التلخيص دون نقد، وانظر جامع الأصول في أحاديث الرسول ط1 جـ1 ص277.(27/287)
فالسنة المطهرة لا تنفصم عن القرآن الكريم؛ إذ هي تنبع من بحر جوده، بل هي متضمنة في آية من آياته، ألا وهي قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) .
كما أن العمل بالسنة الشريفة من الواجبات التي نص عليها القرآن الكريم في آيات متعددة منها، قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} (2) .
وقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (3) .
وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُُولِ} (4) .
والذي عليه العلماء أن السنة شارحة للقرآن مبينة المراد منه، قال الأوزاعي: الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن، وقال ابن عبد البر: إنها تقضي عليه، وتبين المراد منه، وقال يحيى بن أبي كثير: السنة قاضية على الكتاب (5) . إلى غير ذلك مما يدل على تعاضد القرآن والسنة، في إثبات الأحكام الشرعية واستظهارها، وقد ذكر السيوطي عن بعض العلماء قوله: السنة شرح للقرآن، وقد ألف ابن برجان كتابا في معاضدة السنة للقرآن (6) . فالسنة لها مهمة البيان لما أجمل، والتخصيص لما هو عام، والتقييد لما هو مطلق، والتوضيح لما هو مبهم، كتفصيل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وغيرها، فلم يفصل القرآن الكريم عدد ركعات الصلاة، ولا مقادير الزكاة، نصابا واستحقاقا، ولا مناسك الحج. فجاءت
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) سورة آل عمران الآية 32
(3) سورة النساء الآية 80
(4) سورة النساء الآية 59
(5) الشوكاني: إرشاد الفحول ص33.
(6) السيوطي: مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة ص42.(27/288)
السنة القولية والعملية مبينة ذلك بيانا شافيا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «صلوا كما رأيتموني أصلي (1) » . وقال أيضا: «لتأخذوا عني مناسككم (2) » . وقال: «ليس فيما دون خمسة أو سق صدقة (3) » .
كما أن السنة قد تكون مقررة، ومؤكدة لما جاء في القرآن الكريم، فيكون الحكم في هذه الحالة مستندا إلى دليلين، ومستمدا من مصدرين رئيسيين. وذلك جملة الأحكام الثابتة في القرآن، فجاءت السنة مؤكدة لها، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «قد فرض الله عليكم الحج (4) » حيث جاء مؤكدا لوجوب الحج، في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (5) .
إضافة إلى أنها قد تثبت أحكاما جديدة، لم تثبت في القرآن الكريم، ولا أدل على ذلك من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يوشك الرجل متكئا على أريكته، يحدث بحديثي فيقول: "بيننا وبينكم كتاب الله عز وجل فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه" ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله (6) » .
قال الأمام الشافعي في رسالته الأصولية، مبينا نسبة السنة إلي القرآن:
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة، جـ1 ص162-163، وانظر فتح الباري جـ2 ص111.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه، باب لتأخذوا مناسككم جـ2 ص943، وأخرجه أبو داود في المناسك، باب رمي الجمار، جـ1 ص456، وأخرجه أحمد في مسنده جـ3 ص337-338، وانظر الفتح الرباني جـ12 ص183.
(3) أخرجه البخاري في الزكاة، باب ما أدى زكاته فليس بكنز جـ2 ص133، وباب زكاة الورق جـ2 ص144، وباب ليس فيما دون خمس ذو صدقة جـ2 ص147، وباب ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة جـ2 ص156، وأخرجه مسلم في أول كتاب الزكاة جـ2 ص674-675.
(4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، انظر الفتح الرباني، جـ11 ص15، والنسائي في سننه، باب وجوب الحج، جـ5 ص111، والحاكم جـ2 ص293 وصحح إسناده، وأقره الذهبي.
(5) سورة آل عمران الآية 97
(6) أخرجه ابن ماجه في باب تعظيم حديث رسول الله، والتغليظ على من عارضه جـ1 ص6 ونقل الألباني تصحيحه، في كتاب صحيح سنن ابن ماجه، جـ1 ص6 مكتب التربية العربي.(27/289)
فلم أعلم من أهل العلماء مخالفا، في أن سنن النبي من ثلاثة وجوه، فاجتمعوا على وجهين، والوجهان يجتمعان ويتفرعان.
أحدهما ما أنزل الله فيه جملة كتاب، فبين رسول الله مثل ما نص الكتاب. والآخر: ما أنزل الله فيه جملة كتاب، فبين عن الله معنى ما أراد، وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما.
والوجه الثالث: ما سن رسول الله فيما ليس فيه نص كتاب. . فمنهم من قال: جعل الله بما افترض من طاعته، وسبق في علمه من توفيقه لرضاه، أن يسن فيما ليس سنه فيه نص كتاب.
ومنهم من قال: لم يسن سنة قط، إلا ولها أصل في الكتاب، كما كانت سنته لتبيين عدد الصلاة، وفرضها على أصل جملة الصلاة. وكذلك ما سن في البيوع وغيرها من الشرائع، لأن الله قال: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (1) .
وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) .
فما أحل الله وحرم، فإنما بين فيه عن الله، كما بين الصلاة.
ومنهم من قال: بل جاءته به رسالة الله، فأثبت سنته بفرض الله. ومنهم من قال: ألقي في روعه كل ما سن، وسنته الحكمة الذي ألقي في روعه عن الله، فكان ما ألقي في روعه سنته (3) .
ومادام القرآن والسنة هما محور البحث في الأحكام الشرعية، فإن العلماء قد سبروا غورهما، وفهموا ما فيهما، فكانت الأحكام على ضوئهما، مدرجة تحت قواعد قعدوها، وبالاستقراء أثبتوها.
وبناء على اختلاف عقول البشر، اختلفت أفهامهم، مما تمخض عنه
__________
(1) سورة البقرة الآية 188
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) الإمام الشافعي: الرسالة ص91-93.(27/290)
قواعد معينة لكل فريق من العلماء، يستند إليها في استنباط الأحكام.
وبالرجوع إلى تلك القواعد، حصل الخلاف عند التطبيق على بعضها، فكان الخلاف على منهجين رئيسين:
منهج علماء الحنفية.
ومنهج جمهور علماء الأمة.
حيث هما دولاب الحركة، والقطب الذي يبث إشعاعاته، لتنشيط حركة البحث العلمي، وبيان أحكام الله، وذلك للسعي الحثيث. من علماء الأمة لإحقاق الحق، وإن كانت بعض حقب التاريخ قد نقلت لنا جوانب من الجدل المذهبي لإثبات كل لرأيه، ورد رأي خصمه، إلا أن الذي يشفع لنا في هذا المقام ما روي عن علمائنا من توجيه، بأن المراد إحقاق الحق، على يد من كان ظهوره، كما ورد عن الإمام الشافعي من قوله: (ما ناظرت أحدا على الغلبة، إلا على الحق عندي) (1) .
فعبارة الشافعي هذه لا تنم إلا عن الحق، ولا تشي إلا بالبحث عن الحق، فالحق رائدهم، والحق مطلبهم، وقد قرروا ذلك جميعا حين أشاروا إلى تلامذتهم بأنه إذا صح الحديث فهو مذهبهم.
وإذا ما بدأ الإنسان البحث في موضوع خلافي، وترجح لديه جانب إمام معين، ومذهب من مذاهب علماء الأمة، فذلك لا يعني الانتقاص من جانب الآخرين؛ إذ قد كفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأجر للطرفين، المخطئ والمصيب، وذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر (2) » .
وإن من القواعد التي دخلت في إطار الخلاف بين أصحاب المنهجين،
__________
(1) الذهبي: سير أعلام النبلاء، جـ10 ص92.
(2) أخرجه البخاري في الاعتصام، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ جـ9 ص132-133. ومسلم في الأقضية باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ جـ3 ص1342، وأبو داود في الأقضية باب القاضي يخطئ جـ2 ص286 وأخرجه أحمد جـ4 ص198، 204.(27/291)
هذا البحث المترجم له عند علماء الأصول بالزيادة على النص بخبر الواحد.
ولما كانت هذه المسألة من المسائل المهمة التي تحتاج إلى عناية خاصة، وذلك لأن السنة صنو القرآن، في إثبات الأحكام الشرعية، بل هي المصدر الثاني بعد القرآن الكريم. كان البحث فيها لزاما: للوصول إلى رأي ثابت. ينبني على أرض صلبة، فأحببت أن أدلي بدلوي في هذه المسألة، رجاء أن تكون مفتاحا لما هو أهم، من مسائل البحث العلمي، فائدة لي، وإيضاحا لغيري. . والله الهادي إلى سواء السبيل.(27/292)
المشكلة المراد حلها وخطة البحث:
والمشكلة تكمن في أن السنة تثبت الحكم حال انفرادها، ما لم تتعارض مع كتاب الله، فهل تثبته زائدا على ما أثبته القرآن حال اجتماعهما واتفاقهما في الحديث عنه، أم لا؟
هذا ما سأحاول إيضاحه، من خلال خطة البحث، المكونة من الفقرات التالية:
(1) مبنى الخلاف بين العلماء في هذه المسألة.
(2) مذاهب العلماء في هذه المسألة.
(3) تحرير محل النزاع وموطن الخلاف فيها.
(4) فائدة الخلاف وثمرته.
(5) استدلال كل فريق على رأيه.
أولا: دليل القائلين بأن الزيادة على النص ليست نسخا، وعليه فالحكم الزائد يثبت بخبر الواحد.
ثانيا: دليل القائلين بأن الزيادة على النص نسخ، وعليه فالحكم الزائد بخبر الواحد، لا يثبت كثبوته بالقرآن.
(6) بيان ابن القيم لمقصود الحنفية ورده عليهم.(27/292)
(7) بعض الآثار المترتبة على الخلاف في هذه المسألة:
(أ) فرضية النية للوضوء والغسل.
(ب) تعيين قراءة الفاتحة في الصلاة.
(ج) الطمأنينة في الركوع والسجود
(د) اشتراط الطهارة في الطواف.
(هـ) تغريب الزاني البكر.
(و) القضاء بشاهد ويمين.
(8) اصطدام عند التطبيق.
وتتضمن هذه الفقرة خروج الحنفية على قاعدتهم في بعض المسائل منها:
(أ) انهدام ما دون الطلقات الثلاث بالزوج الثاني.
(ب) اجتماع القطع والضمان على السارق.
(9) أهم النتائج التي تمخض عنها البحث.
أحمد ربي فالق الإصباح، طالبا الزيادة من فضله، كما أرجو أن يكون بحث الزيادة هذا زيادة لي في الخير دنيا وأخرى، نافعا لمن يقع عليه من طلاب العلم، وأن يكون خالصا لوجه الله الكريم إنه سميع مجيب.(27/293)
(1) مبنى الخلاف في هذه المسألة:
من الأمور التي اختلفت فيها المناهج، وتشعبت فيها المسالك، مسألة الزيادة على النص القرآني بخبر الواحد، بحيث يثبت فيه حكم زائد على الحكم الثابت بالنص القرآني.
ولقد اختلف العلماء في هذه المسألة، فالجمهور نهجوا نهجا خاصا، والحنفية نهجوا نهجا آخر غير نهج الجمهور.
ومبنى الخلاف في المسألة هو النسخ، فمن خلال نظرة كل من أصحاب المنهجين للنسخ يبرز حكم الزائد على النص بخبر الواحد.(27/293)
فالنسخ لغة: هو الإزالة والإبطال والتغيير، والنقل والتحويل، ونسخه كمنعه: أزاله وغيره وأبطله، وأقام شيئا مقامه، ونسخ الكتاب، أي نقله عن معارضه، ونسخ النحل عن الخلية حوله إلى غيرها. ونسخت الشمس الظل بمعنى أزالته.
أما في الاصطلاح فقد عرفه الأصوليون بعدة تعريفات منها:
ما عرفه صاحب المنار "بأنه بيان لمدة الحكم المطلق" وفسره ابن ملك بأنه بيان انتهاء مدة الحكم الشرعي (1) .
وعرفه ابن الحاجب من الجمهور بأنه رفع الحكم الشرعي بدليل متأخر (2) .
فبإمعان النظر بين التعريفين السابقين يتضح أن هناك تغايرا بين الأمرين؛ إذ بيان مدة انتهاء الحكم، غير رفع الحكم، وقد أوضح ذلك التلمساني في مفتاح الوصول بمثال أورده، فقال: والفرق بينهما في المثال: أن من استأجر دارا سنة فتمت السنة، فيقال: قد انتهى عقد الإجارة ولا يقال: ارتفع، ولو تهدمت الدار في أثناء السنة لقيل: ارتفع العقد، ولا يقال: انتهى، والرفع يقتضي كون الرافع أقوى من المرفوع لاستحالة أن يرفع الأضعف، ما هو أقوى منه، وأما الانتهاء فلا يلزم منه ذلك؛ لأن المنتهي ينتهي بنفسه ولا يلزم أن يكون ما ينتهي إليه أقوى منه (3) .
وقد دفع هذا الزنجاني إلى اعتبار هذا الفارق سببا للخلاف بين المنهجين، فقال: واعلم أن هذه المسألة من المسائل اللفظية في الأصول، فإن الخلاف مبني على الخلاف في حقيقة النسخ، وماهيته، فحقيقة النسخ عندنا: رفع الحكم الثابت، وعندهم بيان لمدة الحكم، فإن صح تفسير
__________
(1) النسفي: المنار مع شرحه لابن مالك وحواشيه ص708-709.
(2) ابن الحاجب: مختصر المنتهى مع شرح العضد عليه جـ2 ص185.
(3) الشريف التلمساني: مفتاح الوصول في علم الأصول ص133.(27/294)
النسخ بالبيان، صح قولهم، إن الزيادة على النص نسخ، من حيث إنها بيان لكمية العبادة أو كيفيتها، وإن صح تفسيره بالرفع، لم تكن الزيادة نسخا (1) .
إضافة إلى أمر آخر، وهو إمكانية رفع الزيادة لحكم شرعي من عدمها، قال تاج الدين السبكي في رفع الحاجب مبينا ذلك: وإنما حصل النزاع بينهم في أن الزيادة هل ترفع حكما شرعيا فتكون نسخا أم لا فلا.
فلو وقع الاتفاق على أنها ترفع حكما شرعيا لوقع على أنها نسخ، أو على أنها لا ترفع لوقع أنها ليست بنسخ، فالنزاع في الحقيقة في أنها هل هي رافع أم لا؟ (2) .
__________
(1) الزنجاني: تخريج الفروع على الأصول ص50.
(2) ابن السبكي: رفع الحاجب عن ابن الحاجب جـ2 لوحة 164ب مخطوط.(27/295)
(2) مذاهب العلماء في هذه المسألة:
اختلف العلماء في هذه المسألة على مذهبين رئيسيين:
الأول: مذهب المالكية والشافعية والحنابلة الذين يقولون إن الزيادة على النص ليست بنسخ.
الثاني: مذهب الحنفية الذين يقولون: إن الزيادة على النص نسخ.
(3) تحرير محل النزاع:
اتفق العلماء على أن الزيادة على النص إذا تتعلق بحكم النص فإنها ليست نسخا، كما في إيجاب الصوم بعد إيجاب الصلاة حيث الصلاة واجبة إجماعا.(27/295)
ولكن الخلاف حاصل فيما إذا تعلقت الزيادة بحكم النص وذلك:
(أ) بأن كانت الزيادة جزءا لذلك النص، كأن يزيد الشارع ركعة في الصبح، أو عشرين سوطا في حد القذف، فتصير الصبح ثلاث ركعات، والثالثة جزء منها وحد القذف مائة سوط، والعشرون الزائدة جزء منها.
(ب) أو كانت الزيادة شرطا لذلك النص كنية الطهارة، إذ هي شرط لها وقد زيدت في حديث: «إنما الأعمال بالنيات (1) » وغيره على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (2) .
بناء على أن النية ليست مستفادة من الآية.
(ج) أو لم تكن جزءا للنص ولا شرطا له، كزيادة التغريب على الجلد في زنا البكر؛ إذ الجلد لا يتوقف على التغريب، توقف الكل على جزئه ولا توقف المشروط على شرطه (3) . فليس شئ من ذلك يسمى نسخا عند المالكية والشافعية والحنابلة خلافا للحنفية فإنه عندهم نسخ.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي جـ1 ص2، ومسلم في الإمارة، باب إنما الأعمال بالنية، حديث رقم 1907، جـ3 ص1515.
(2) سورة المائدة الآية 6
(3) ابن قدامة: روضة الناظر ص41، ابن بدران: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد ص218.(27/296)
(4) فائدة الخلاف وثمرته:
الخلاف في المسائل الاجتهادية أمر طبيعي، ولكن لا بد في حال الخلاف في موضوع معين، من أن تكون له ثمرة أو لا تكون، فإن لم تكن له ثمرة، فلا يؤبه به، ولا ينظر إليه، لأنه يكون من باب قيل وقال، وكثرة الجدال، وهما أمران مذمومان.
وإن كانت له ثمرة فلا بد من البحث عنها واستيضاحها، وذلك ما قرره العلماء - عند الحديث عن موضوع الزيادة على النص بخبر الواحد - وهل هي نسخ أم لا - من أن فائدة الخلاف وثمرته في هذه المسألة، هي جواز إثبات الأحكام الزائدة عن القرآن بخبر الواحد أو القياس أو عدم جوازه.
فمن قرر أن الزيادة على النص نسخ منع ذلك، ومن قرر أن الزيادة ليست بنسخ أجاز إثبات الزيادة بخبر الواحد أو القياس.
قال الإسنوى فإن قيل: فما الفائدة في كونه نسخا أم لا؟ قلنا: فائدته في إثبات الزيادة بخبر الواحد، إذا كان الأصل متواترا. . أ. هـ (1) وسبقه أبو الخطاب الكلوذاني في توضيح هذا الأمر فقال: وفائدة الخلاف في هذه المسألة، أن من لم يجعل الزيادة نسخا فإنه يجيز إثباتها بالقياس، وخبر الواحد، ومن جعلها نسخا لم يجز ذلك، إلا أن يكون طريق ثبوت الزيادة، مثل طريق المزيد عليه في القوة والمعنى (2) .
وعليه فثمرة الخلاف تتضمن أمرين:
(أ) جواز إثبات الزيادة بالقياس أو خبر الواحد عند من لم يجعلها نسخا.
__________
(1) الإسنوي: نهاية السول جـ2 ص191.
(2) أبو الخطاب: التمهيد في أصول الفقه جـ2 ص400، أبو يعلى الفراء: العدة في أصول الفقه جـ3 ص814.(27/297)
(ب) عدم جواز إثبات تلك الزيادة عند من جعلها نسخا، إلا في حال كون طريق ثبوت تلك الزيادة مثل طريق المزيد عليه في القوة والمعنى.
وقد نقل الشوكاني عن الزركشي في البحر المحيط قوله:
واعلم أن فائدة هذه المسألة أن ما ثبت أنه من باب النسخ، وكان مقطوعا به، فلا ينسخ إلا بقاطع، كالتغريب، فإن أبا حنيفة لما كان عنده نسخا نفاه، لأنه نسخ للقرآن بخبر الواحد.
ولما لم يكن عند الجمهور نسخا قبلوه؛ إذ لا معارضة، وقد ردوا - يعني الحنفية - أخبارا صحيحة لما اقتضت زيادة على القرآن، والزيادة نسخ، ولا يجوز نسخ القرآن بخبر الواحد. . . أ. هـ (1) .
__________
(1) الشوكاني: إرشاد الفحول ص196.(27/298)
(4) استدلال كل فريق على رأيه:
أولا: استدل من ذهب إلى أن الزيادة على النص ليست نسخا بأمور منها:
1 - إن النسخ هو رفع الحكم وإزالته، والزيادة لا توجب رفع المزيد عليه، ألا ترى أنه إذا كان في الكيس مائة درهم، فزدت فوقها درهما، أن ذلك لا يوجب رفع شيء مما كان الكيس، فكذلك ها هنا (1) .
إذن فحقيقة النسخ غير موجودة في الزيادة، لأن حقيقته تبديل ورفع للحكم الشرعي. بخلاف الزيادة فهي تقرير للحكم الشرعي، وضم حكم آخر إليه، والتقرير ضد الرفع، فلا يكون نسخا، ألا ترى أن إلحاق صفة الإيمان بالرقبة، لا يخرجها عن أن تكون مستحقه للإعتاق في الكفارة، وكذلك إلحاق النفي بالجلد في زنا البكر، لا يخرج الجلد عن كونه واجبا، بل هو واجب بعده، كما كان واجبا قبله، فوجوب التغريب
__________
(1) أبو يعلى: العدة في أصول الفقه جـ3 ص816، الشيرازي: التبصرة في أصول الفقه ص277.(27/298)
بعد الجلد هو ضم حكم إلى حكم، وذلك ليس بنسخ. وهو بمنزلة من ادعى على آخر ألفا وخمسمائة، وشهد له شاهدان بألف، وآخران بألف وخمسمائة، حتى قضى له بالمال كله، كان مقدار الألف مقضيا به بشهادتهم جميعا، وإلحاق الزيادة بالأف بشهادة الآخرين يوجب تقرير الأصل في كونه مشهودا به، لا رفعه فتبين بهذا أن الزيادة لا تعرض فيها لأصل الحكم المشروع، حتى تكون نسخا (1) .
2 - كذلك إذا فرض الله تعالى على عباده خمس صلوات في اليوم والليلة، ثم فرض صوم شهر رمضان، فلا يكون فرض الصوم نسخا للصلوات، فكذلك ها هنا، وتوضيح هذا بما سبق، من أن النسخ هو الرفع والإزالة، ومنه قولهم: نسخت الشمس الظل إذا أزالته، ونسخت الريح الأثر إذا ذهبت به وأزالته.
ونوقش هذا الدليل: بأن النسخ على رأينا الإزالة والرفع، وعند مخالفينا هو تغيير الحكم، وكلا المعنيين غير موجود في قولهم: نسخت الكتاب، فدل على التجوز في إطلاق النسخ على الكتاب (2) .
3 - إن النسخ إنما يثبت بدليل متأخر، مناف للأول، بحيث لو وردا معا لا يمكن الجمع بينهما لتنافيهما، وههنا إن وردت الزيادة مقارنة للمزيد عليه، وجب الجميع، ولا تكون منافية له، فكيف يثبت بها النسخ إذا وردت متأخرة؟ بل تكون بيانا (3) .
4 - ومن الحجة أيضا أن الله تعالى إذا أوجب الصلاة ركعتين ركعتين، ثم جعلها أربعا، فإن هذه الزيادة لم تبطل وجوب الركعتين
__________
(1) عبد العزيز البخاري: كشف الأسرار على أصول البزدوي جـ3 ص193، محمد المحلاوي، تسهيل الوصول ص137.
(2) أبو يعلى: العدة جـ3 ص816، الشيرازي: التبصرة ص277.
(3) عبد العزيز البخاري: كشف الأسرار جـ3 ص192-193.(27/299)
الأوليين ولا تنافيهما وما لا يتنافى لا يكون ناسخا
ونوقش هذا الدليل: بأن التشهد كان يجب عقيب الركعتين، والسلام بآخر ذلك فبطل ذلك، وصار في موضع آخر، وهو بعد الأربع فقد بطل حكم شرعي، فيكون نسخا.
والجواب على ذلك: بأنا لا نسلم أن الله أوجب السلام عقيب الركعتين: لكونهما ركعتين، بل أوجبه آخر الصلاة كيف كانت، ثنائية، أو ثلاثية أو رباعية، ولا مدخل للعدد في إيجاب السلام، بل كونه آخر الصلاة فقط، وكون السلام آخر الصلاة لم يبطل. بل هو على حاله فلا نسخ (1) .
5 - إن الزيادة على النص لو كانت نسخا لكان القياس باطلا، لأن القياس إلحاق غير المنصوص، وزيادة حكم لم يوجبه النص بصيغته، وحين كان القياس جائزا أو دليلا شرعيا، علم أن الزيادة ليست بنسخ (2) .
6 - إن النسخ أمر ضروري، لأن الأصل في أحكام الشرع هو البقاء، والقول بالتخصيص والتقييد يوجب تغيير الكلام من الحقيقية إلى المجاز ومن الظاهر إلى خلافه، ولكنه متعارف في اللغة، فكان حمل الكلام عليه أولى من الحمل على النسخ (3) .
ثانيا: أما أصحاب المذهب الثاني: وهم القائلون بأن الزيادة على النص نسخ، فقد استدلوا بما يلى:
(أ) إن النسخ بيان انتهاء حكم، وهذا المعنى موجود في حال الزيادة على النص.
__________
(1) القرافي: شرح تنقيح الفصول ص318.
(2) عبد العزيز البخاري: كشف الأسرار جـ3 ص193.
(3) عبد العزيز البخاري: كشف الأسرار جـ3 ص193.(27/300)
وذلك أن الإطلاق معنى مقصود من الكلام، وله معنى معلوم، وهو الخروج عن العهدة، بالإتيان بما يطلق عليه الاسم، من غير نظر إلى قيد، والتقييد معنى آخر مقصود على مضادة المعنى الأول المقصود من الإطلاق، لأن التقييد إثبات القيد، والإطلاق رفعه، وللمقيد حكم معلوم، وهو الخروج عن العهدة بمباشرة ما وجد فيه القيد، دون ما لم يوجد فيه ذلك، فإذا صار المطلق مقيدا، فلا بد من انتهاء حكم الإطلاق، بثبوت حكم التقييد، لعدم إمكان الجمع بينهما للتنافي، فإن الأول يستلزم الجواز بدون القيد والثاني يستلزم عدم الجواز بدونه، وإذا انتهى الحكم الأول بالثاني، كان الثاني ناسخا له ضرورة.
ونوقش هذا الدليل بعدم تسليم انتهاء حكم الأول، بل هو باق، ولكن ضم إليه شئ آخر، يحتاج إليه ليقع موقعه، فكأن المائة جلدة قد وقعت موقعها، مع الحاجة إلي زيادة التغريب (1) .
وأجيب عن ذلك بأن القول بانتهاء الأول بالثاني لأن المطلق متى صار مقيدا، صار المطلق بعضه، وذلك بأن ما كان مطلقا قبل التقييد أصبح بعض المقيد، لاشتمال المقيد على معنيين: أحدهما: ما دل عليه المطلق، والثاني: ما دل عليه المقيد.
وبالبعض لا يثبت حكمه بدون انضمام الباقي إليه، فإن الركعة من صلاة الفجر لا تكون فجرا، ولا بعض الفجر بدون انضمام الركعة الأخرى إليها. والركعتان من صلاة الظهر في حق المقيم كذلك، وكذا المظاهر إذا صام شهرا ثم عجز، فأطعم ثلاثين مسكينا، لا يكون مكفرا بالإطعام، ولا بالصوم (2) .
__________
(1) عبد العزيز البخاري: كشف الأسرار جـ3 ص193 السرخسي: أصول السرخسي جـ2 ص83.
(2) عبد العزيز البخاري: كشف الأسرار جـ3 ص193، السرخسي: أصول السرخسي جـ2 ص82.(27/301)
ولكن هذا الاستدلال يبطل به إذا أمر بالصلاة ثم أمر بالصوم، فإن الصلاة كانت جميع الشرع، ثم صارت بعضه، ومعلوم أن ذلك ليس نسخا.
وكذلك يبطل بالنقصان، فإذا سقط من المائة خمسون لم يكن نسخا للباقي، وقد صارت كل الحد، بعد أن كانت بعضه (1) .
ب- إن النقصان نسخ فوجب أن تكون الزيادة نسخا.
ونوقش هذا الاستدلال: بأن النقصان يسقط حكما ثابتا فأوجب دخوله في اللفظ في وقت مستقبل، وليس كذلك الزيادة، لأنها لا تسقط حكما، وهذا كما نقول: إنه إذا نسخ صوما أو صلاة كان نسخا، وإن زاد صوما بعد الصلاة لم يكن نسخا، فدل على الفرق بين النقصان والزيادة (2) .
جـ- إن الزيادة إذا ثبتت صارت جزأ من المزيد عليه، وحكمها حكمه، فيجب ألا تثبت إلا بما ثبت به المزيد عليه.
ويجاب عن ذلك: بأن كونها جزأ من المزيد عليه عبارة عن ضمها إليه، ولكن لا يجب ثبوتها بالطريق الذي ثبت به المزيد عليه.
وبيان ذلك، أن كونها جزأ منه ليس بأكثر من إثبات صفه المزيد عليه، ويجوز مخالفة الصفة للموصوف في طريقه، فيثبت الشيء بطريق مقطوع، وصفته من الإيجاب وغيره تثبت بطريق غير مقطوع به (3) .
والذي يترجح لي بعد استعراض أدلة الفريقين هو المذهب الأول القائل بأن الزيادة على النص ليست نسخا، وذلك لقوة أدلتهم، وسلامتها من المعارض، ولأن منهج الحنفية هذا يقتضي رد عدد من الأخبار
__________
(1) أبو يعلى: العدة جـ3 ص817-818، الشيرازي: التبصرة ص278-279.
(2) أبو يعلى: العدة جـ3 ص818.
(3) الشيرازي: التبصرة ص279.(27/302)
الصحيحة، التي تثبت أحكاما زائدة عن القرآن، حيث الزيادة على النص عندهم نسخ، بخلاف غيرهم، فإنهم لا يعتبرون الزيادة على النص نسخا - كما علمنا - فيأخذون بما رده الحنفية ويعملون بمقتضاه (1) .
__________
(1) انظر الشوكاني: إرشاد الفحول ص196.(27/303)
(5) بيان ابن القيم لمقصود الحنفية ورده عليهم:
هذا وقد بين ابن القيم مقصود الحنفية من اتجاههم هذا: بأن هذه الزيادة لو كانت ثابتة مع النص لذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - عقيب ذكره للنص، ولنقلها إلينا من نقل المزيد عليه، إذ غير جائز عليهم العلم بأن الحد مجموع الأمرين ثمن ينقلون بعضه دون بعض، وقد سمعوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - يذكر الأمرين، فامتنع حينئذ العمل بالزيادة إلا من الجهة التي ورد منها الأصل، فإذا وردت من جهة الآحاد، فإن كانت قبل النص، فقد نسخها المطلق، عاريا من ذكرها، وإن كانت بعده فهذا يوجب نسخ الآية بخبر الواحد، وهو ممتنع، فإن كان المزيد عليه ثابتا بخبر الواحد، جاز إلحاق الزيادة بخبر الواحد على الوجه الذي يجوز نسخه به، فإن كانت واردة مع النص في خطاب واحد، لم تكن نسخا وكانت بيانا.
وقد رد ابن القيم مقصودهم هذا باثنين وخمسين وجها، بدأها بقوله: إنكم أول من نقض هذا الأصل الذي أصلتموه، فإنكم قبلتم خبر الوضوء بنبيذ التمر، وهو زائد على ما في كتاب الله مغير لحكمه، فإن الله سبحانه جعل حكم عادم الماء التيمم، والخبر يقتضي أن يكون حكمه الوضوء بالنبيذ، فهذه الزيادة بهذا الخبر - الذي لا يثبت - رافعة لحكم شرعي، غير مقارنة له ولا مقاومة بوجه، وقبلتم خبر الأمر بالوتر مع رفعه لحكم.(27/303)
شرعي، وهو اعتقاد كون الصلوات الخمس هي جميع الواجب، ورفع التأثيم بالاقتصار عليها، وإجزاء الإتيان في التعبد بفريضة الصلاة، والذي قال هذه الزيادة هو الذي قال سائر الأحاديث الزائدة على ما في القرآن، والذي نقلها هو الذي نقل تلك بعينه أو أوثق منه أو نظيره، والذي فرض علينا طاعة رسوله، وقبول قوله في تلك الزيادة، هو الذي فرض علينا طاعته وقبول قوله في هذه (1) .
ثم ذكر الأوجه كلها وختم ذلك بقوله: إنكم تجيزون الزيادة على القرآن بالقياس، الذي أحسن أحواله أن يكون للأمة فيه قولان - أحدهما: إنه باطل مناف للدين، والثاني: إنه صحيح مؤخر عن الكتاب والسنة، فهو في المرتبة الأخيرة، ولا تختلفوا في جواز إثبات حكم زائد على القرآن به، فهلا قلتم: إن ذلك يتضمن نسخ الكتاب بالقياس. فإن قيل: قد دل القرآن على صحة القياس، واعتباره، وإثبات الأحكام به، فما خرجنا عن موجب القرآن، ولا زدنا على ما في القرآن إلا بما دلنا عليه القرآن.
قيل: فهلا قلتم مثل هذا سواء في السنة الزائدة على القرآن، وكان قولكم ذلك في السنة أسعد وأصلح من القياس الذي هو محل آراء المجتهدين وعرضة للخطأ، بخلاف قول من ضمنت له العصمة في أقواله، وفرض الله علينا اتباعه وطاعته. فإن قيل القياس بيان لمراد الله ورسوله من النصوص، وأنه أريد به إثبات الحكم المذكور في نظيره، وليس ذلك زائدا على القرآن، بل تفسير له وتبيين. قيل: فهلا قلتم إن السنة بيان لمراد الله من القرآن، تفصيلا لما أجمله، وتبيينا لما سكت عنه، وتفسيرا لما أبهمه، فإن الله سبحانه أمر بالعدل والإحسان، والبر والتقوى، ونهى
__________
(1) ابن القيم: أعلام الموقعين جـ2 ص312-313.(27/304)
عن الظلم والفواحش والعدوان والإثم، وأباح لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، فكل ما جاءت به السنة فإنها تفصيل لهذا المأمور به، والمنهي عنه، والذي أحل لنا هو الذي حرم علينا (1) .
هذا وإن قاعدة الزيادة على النص، واختلاف المناهج فيها قد أحدث أثرا في عدد من الفروع الفقهية كما سنلاحظه فيما يأتي إن شاء الله.
__________
(1) ابن القيم: أعلام الموقعين جـ2 ص328-329.(27/305)
(6) بعض الآثار التي ترتبت على الاختلاف في قاعدة الزيادة على النص ما يلي:
(أ) فرضية النية للوضوء والغسل:
يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (1) .
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (2) » الحديث.
من المسائل التي تخرجت على قاعدة الزيادة على النص، مسألة النية في الوضوء والغسل، فقد ذكرت الآية أفعال الوضوء، وأمرت الجنب بالاغتسال، ولم تتعرض للنية من قريب ولا من بعيد، ولكن الحديث في هذا المقام سبب خلافا بين العلماء، فهل جاء مبينا للآية ومقيدا لها، فيجمع بينهما، أو أن الحديث جاء زائدا على الآية الكرمية فلا داعي للأخذ به، ويكتفى للعمل بما جاء به القرآن؟ خلاف فقهي:
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي جـ1 ص2. ومسلم في كتاب الإمارة باب إنما الأعمال بالنية، رقم الحديث 1907، جـ3، ص1515.(27/305)
فذهب الشافعي إلى القول بفرضية النية في الوضوء والغسل، وكونها شرطا لا يصح وضوء ولا غسل بلا نية، وهو مذهب الإمام مالك، وبه أخذ أحمد وإسحاق وأبو ثور وداود الزهري وربيعة شيخ مالك.
وقال صاحب الحاوي هو قال جمهور أهل الحجاز.
وذهب أبو حنيفة إلى عدم فرضية النية، فيصح الوضوء والغسل بدونها، ولكنها مستحبة لتحصيل الثواب (1) .
هذا وقد استدل الشافعي ومن معه بأدلة منها:
(أ) قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى (2) » . ووجه دلالة الحديث أن لفظ إنما للحصر، وليس المراد صورة العمل، حيث إن الصورة توجد بلا نية، وإنما المراد أن حكم العمل لا يثبت بلا نية.
(ب) وفوق ذلك كله قوله عز وجل:
{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (3) .
والإخلاص عمل القلب وهو النية، والأمر يقتضي الوجوب. وعليه فنحن مأمورون بالطهارة، ولا تتحقق العبادة والإخلاص فيها إلا بقصد ونية، وهذا هو المطلوب (4) .
أما الحنفية فقد استدلوا بقوله تعالى:
{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} (5) الآية.
حيث هي عددت الأعمال المطلوبة حال القيام إلى الصلاة وليس منها النية، فما ذكر في الآية هو فرائض الوضوء ليس غير، وإذا أثبتنا.
__________
(1) عبد الله الموصلي الحنفي: الاختيار لتعليل المختار جـ1 ص7.
(2) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(3) سورة البينة الآية 5
(4) النووي: المجموع، جـ1 ص363، ابن قدامة: المغني جـ1 ص110-111.
(5) سورة المائدة الآية 6(27/306)
النية نكون قد أثبتناها بما زاد على النص والزيادة على النص نسخ، وخبر الواحد لا يقوى على نسح القرآن الكريم، قال السرخسي مستدلا لمذهبه: ولنا آية الوضوء ففيها تنصيص على الغسل والمسح، وذلك يتحقق بدون النية، فاشتراط النية يكون زيادة على النص، إذ ليس يوجد في اللفظ المنصوص ما يدل على النية، والزيادة لا تثبت بخبر الواحد ولا بالقياس (1) . هذا والذي يظهر أن الراجع هو رأي الجمهور، وذلك لأن القرآن يفسر بعضه بعضا، والسنة مبينة للقرآن، وما دام معنا دليلان فإعمالهما معا أولى من إهمال أحدهما، وذلك بطريق الجميع بينهما (2) أضف إلى ذلك أن القول بأن الزيادة على النص نسخ، يقضي على كثير من الأحاديث، ويعطل كثيرا من سنن المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) السرخسي: المبسوط جـ1 ص72.
(2) الشريف التلمساني: مفتاح الوصول ص104.(27/307)
(ب) تعيين قراءة الفاتحة في الصلاة:
يقول الله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (1) .
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب (2) » .
هذه المسألة مخرجة على قاعدة الزيادة على النص، وذلك لورود القراءة في القرآن مطلقة عن التعيين، وإنما المنصوص عليه هو ما تيسر من القرآن، فهل هو الفاتحة أو غيرها، وهل يعتبر الفاتحة الوارد في الحديث زيادة على النص، أو بيانا له؟ خلاف بين العلماء بعد اتفاقهم على عدم جواز صلاة بغير قراءة.
__________
(1) سورة المزمل الآية 20
(2) أخرجه البخاري في الصلاة، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم، جـ1 ص192، ومسلم في الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة جـ1 ص295، والترمذي في الصلاة، باب ما جاء لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب جـ1 ص156، وقال حسن صحيح والنسائي في الافتتاح، باب إيجاب قراءة فاتحة الكتاب جـ2 ص137.(27/307)
فذهب الإمام الشافعي إلى أن قراءة الفاتحة فرض من فروض الصلاة، وهو مذهب الإمام مالك، والصحيح من مذهب أحمد وبه أخذ الأوزاعي (1) .
وذهب الحنفية إلى أن قراءة سورة من القرآن، أو ثلاث آيات من أي سورة، أو آية طويلة، أو الفاتحة، فرض. ولا تتعين الفاتحة بالفرضية، بحيث لا تصح الصلاة إلا بها، وإنما تتعين القراءة مطلقا، والفاتحة عندهم واجبة من واجبات الصلاة (2) .
أما الفريق الأول فقد استدلوا بما يلي:
أ- قوله - صلى الله عليه وسلم - «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب (3) » .
وتوجيه الاستدلال بهذا الحديث أنه نفى حقيقة الصلاة بانتفاء القراءة للفاتحة، زد على ذلك أنه لا يمتنع أن يقال: إن قوله (لا صلاة) نفي بمعنى النهي: أي لا تصلوا إلا بقراءة فاتحة الكتاب، ونظيره ما رواه مسلم من طريق عائشة مرفوعا «لا صلاة بحضرة الطعام (4) » . "فإنه في صحيح ابن حبان بلفظ «لا يصلي صلاة بحضرة الطعام (5) » .
وقد يكون النفي نفي الأجزاء والصحة، لا نفي كمال، بدليل رواية الإسماعيلي من طريق العباس بن الوليد النرسي بلفظ «لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب (6) » وهناك شاهد يؤيده بلفظ «لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها فاتحة الكتاب (7) » .
ب- قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي
__________
(1) ابن قدامة: المغني جـ1 ص485، النووي: المجموع جـ3 ص285، ابن رشد: بداية المجتهد جـ1 ص109.
(2) المرغيناني: الهداية جـ1 ص48، الكاساني: بدائع الصنائع جـ1 ص433 المجموع جـ3 ص286.
(3) صحيح البخاري الأذان (756) ، صحيح مسلم الصلاة (394) ، سنن الترمذي الصلاة (247) ، سنن النسائي الافتتاح (911) ، سنن أبو داود الصلاة (822) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (837) ، سنن الدارمي الصلاة (1242) .
(4) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (560) ، سنن أبو داود الطهارة (89) ، مسند أحمد بن حنبل (6/73) .
(5) انظر فتح الباري جـ2 ص283، والحديث الأول أخرجه مسلم في المساجد جـ1 ص393 باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام، والحديث الأول أخرجه مسلم في المساجد جـ1 ص393 باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام، والحديث الثاني أخرجه ابن خزيمة، باب الزجر عن مدافعة البول والغائط في الصلاة برقم 933 جـ2 ص66.
(6) صحيح البخاري الأذان (756) ، صحيح مسلم الصلاة (394) ، سنن الترمذي الصلاة (247) ، سنن النسائي الافتتاح (911) ، سنن أبو داود الصلاة (822) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (837) ، مسند أحمد بن حنبل (5/313) ، سنن الدارمي الصلاة (1242) .
(7) انظر فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ2 ص282.(27/308)
خداج ثلاثا غير تمام (1) » فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام، فقال اقرأ بها في نفسك. . . الحديث (2) .
وأما الحنفية فقد احتجوا على عدم تعيين الفاتحة بالفرضية بأدلة:
الأول: إن تعيين الفاتحة زيادة على النص القرآني:
{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (3) .
بخبر الواحد. والزيادة على النص نسخ، وخبر الواحد لا ينسخ القرآن. قال السرخسي: ولنا قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (4)
فتعيين الفاتحة يكون زيادة على هذا النص، وهو يعدل النسخ عندنا، فلا يثبت بخبر الواحد (5) .
وقد ناقش الجمهور هذا الاستدلال، بأن الآية قد وردت في قيام الليل لا في قدر القراءة (6) .
هذا وإن سباق الآية يؤيد ذلك، حيث الحديث في السورة كلها حول قيام الليل وكذا فإن القرآن يطلق ويراد به الصلاة، لاشتمال الصلاة على القرآن، ودليل ذلك قوله عز وجل: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (7) .
قال مجاهد: يعني صلاة الفجر.
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: (9) » .
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (395) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2953) ، سنن النسائي الافتتاح (909) ، سنن أبو داود الصلاة (821) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (838) ، مسند أحمد بن حنبل (2/286) ، موطأ مالك النداء للصلاة (189) .
(2) أخرجه مسلم في الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة برقم 395 جـ1 ص296.
(3) سورة المزمل الآية 20
(4) سورة المزمل الآية 20
(5) السرخسي: المبسوط جـ1 ص19.
(6) النووي: المجموع جـ3 ص287.
(7) سورة الإسراء الآية 78
(8) أخرجه البخاري في الأذان باب فضل صلاة الفجر جماعة جـ1 ص166.
(9) سورة الإسراء الآية 78 (8) {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}(27/309)
قال القرطبي: وعبر عنها بالقرآن خاصة دون غيرها من الصلوات، لأن القرآن هو أعظمها، إذ قراءتها طويلة مجهور بها، حسبما هو مشهور مسطور عن الزجاج أيضا (1) .
الدليل الثاني: ما ورد في حديث المسيء صلاته من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن (2) » ولم يذكر الفاتحة، فلو كانت ركنا لعلمه إياها ولقال: اقرأ الفاتحة، وهو محتاج إلى تعلم الأحكام.
ونوقش هذا الدليل بأن ما تيسر من القرآن محمول على الفاتحة، لأنها مما تيسر، بدليل ما ورد في حديث المسيء صلاته من قوله: «وإذا قمت فتوجهت فكبر ثم اقرأ بأم القرآن، وبما شاء الله أن تقرأ (3) » .
فقوله في الآية: ما تيسر، مجمل بينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو مطلق قيده، وربما يكون محمولا على العاجز، جمعا بين الأدلة، وربما يكون الأمر بقراءة ما تيسر بعد الفاتحة، بدليل قول أبي سعيد: «أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر (4) » .
الدليل الثالث: إن سور القرآن سواء في الحرمة (الفاتحة وغيرها) وهذا يدل على استوائها في الأجزاء بالقراءة في الصلاة بدليل تحريم قراءة الجميع على الجنب، وتحريم مس المحدث له (5) .
ونوقش هذا الدليل: بأنه لا يلزم من استواء سور القرآن في الحرمة استواؤها في الإجزاء في الصلاة، لا سيما وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة في نفس الفاتحة، فوجب المصير إليها (6) .
هذا وقد ذكر ابن كثير جانبا من استدلال الحنفية ورده عند تفسير
__________
(1) أبو عبد الله القرطبي: تفسير القرطبي جـ10 ص305-306.
(2) صحيح البخاري الأذان (757) ، صحيح مسلم الصلاة (397) ، سنن الترمذي الصلاة (303) ، سنن النسائي الافتتاح (884) ، سنن أبو داود الصلاة (856) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1060) ، مسند أحمد بن حنبل (2/437) .
(3) أخرجه أبو داود في افتتاح الصلاة باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود جـ1 ص197.
(4) أخرجه أبوداود في افتتاح الصلاة باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب، جـ1 ص188.
(5) النووي: المجموع جـ3 ص287.
(6) النووي: المجموع جـ3 ص287.(27/310)
قوله عز وجل: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (1)
وعبر بالقراءة عن الصلاة كما قال تعالى في سورة الإسراء:
{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} (2) أي بقراءتك، وقد استدل أصحاب أبي حنيفة - رحمه الله - بهذه الآية وهي قوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (3)
على أنه لا يجب تعيين قراءة الفاتحة في الصلاة، بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن ولو بآية أجزأه واعتضدوا بحديث المسيء صلاته في الصحيحين «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن (4) » وقد أجابهم الجمهور بحديث عبادة بن الصامت، وهو في الصحيحين أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب (5) » وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج (6) » «لا تجزئ صلاة من لم يقرأ بأم القرآن (7) »
__________
(1) سورة المزمل الآية 20
(2) سورة الإسراء الآية 110
(3) سورة المزمل الآية 20
(4) صحيح البخاري الأذان (757) ، صحيح مسلم الصلاة (397) ، سنن الترمذي الصلاة (303) ، سنن النسائي الافتتاح (884) ، سنن أبو داود الصلاة (856) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1060) ، مسند أحمد بن حنبل (2/437) .
(5) صحيح البخاري الأذان (756) ، صحيح مسلم الصلاة (394) ، سنن الترمذي الصلاة (247) ، سنن النسائي الافتتاح (911) ، سنن أبو داود الصلاة (822) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (837) ، سنن الدارمي الصلاة (1242) .
(6) أخرجه مسلم في الصلاة باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة رقم 395 جـ1 ص297. وفي صحيح ابن خزيمة عن أبي هريرة مرفوعا
(7) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم جـ4 ص439 نشر مكتبة الدعوة الإسلامية شباب الأزهر.(27/311)
(ج) الطمأنينة في الركوع والسجود:
جاء في الصحيحين: «أن أعرابيا دخل المسجد فصلى ركعتين، ثم جاء فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع فصلى كما صلى، ثم جاء فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: ارجع فصل فإنك لم تصل فقال له في الثالثة: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم(27/311)
افعل ذلك في صلاتك كلها (1) » .
فقد وقع الخلاف بين العلماء في هذه المسألة، بناء على الاختلاف في قاعدة الزيادة على النص على مذهبين:
المذهب الأول: مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، فعندهم أن الطمأنينة فرض في الصلاة، تبطل الصلاة بتركها، وبقولهم أخذ أبو يوسف من الحنفية.
المذهب الثاني: وهو ما ذهب إليه أبو حنيفة ومحمد بن الحسن - رحمهما الله -، من أنها ليست بفرض في الصلاة، بل هي واجب على تخريج الكرخي وسنة على تخريج الجرجاني وإنما الفرض هو الركوع والسجود (2) .
دليل المذهب الأول: لقد استدل أصحاب هذا المذهب بما يلي:
(أ) قوله - صلى الله عليه وسلم - آمرا الأعرابي في الحديث السابق الذكر: «ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا (3) » .
__________
(1) أخرجه البخاري في الصلاة، باب وجود القراءة للإمام والمأموم جـ1 ص192 ومسلم في الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة جـ1 ص298. والترمذي باب ما جاء في وصف الصلاة جـ1 ص185-186، وأحمد جـ2 ص437. وابن ماجه باب إتمام الصلاة جـ1 ص336، والبيهقي باب ما يدخل به في الصلاة من التكبير، والنسائي في الافتتاح باب فرض التكبيرة الأولى، جـ2 ص124.
(2) ابن الهمام: شرح فتح القدير جـ1 ص300، الكاساني: بدائع الصنائع جـ1 ص439.
(3) صحيح البخاري الأذان (793) ، صحيح مسلم الصلاة (397) ، سنن الترمذي الصلاة (303) ، سنن النسائي الافتتاح (884) ، سنن أبو داود الصلاة (856) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1060) ، مسند أحمد بن حنبل (2/437) .(27/312)
فمن هذا الحديث يظهر أن الطمأنينة هي أقل ما هو مطلوب بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ارجع فصل فإنك لم تصل (1) » والأمر بالإعادة دليل على فساد الصلاة بفساد ركن منها.
ثمة إنه نفى كون المؤدى صلاة، وكذا فقد أمره بالطمأنينة، والأمر المطلق للوجوب الذي هو الفرضية (2) .
(ب) قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل صلبه فيها في الركوع والسجود (3) » .
(ج) قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (4) .
مطلق بينه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفسره فيجب الرجوع إلى بيانه - صلى الله عليه وسلم - (5) .
أما دليل المذهب الثاني القائل بأن الطمأنينة ليست فرضا، فأمور منها:
(أ) إن المأمور في قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (6) .
هو مطلق الركوع والسجود فقط، والركوع هو الانحناء والميل، يقال ركعت النخلة إذا مالت إلى الأرض، والسجود هو التطأطؤ والخفض، وذلك يحصل دون الإتيان بالطمأنينة، فتتعلق الركنية بالأدنى فيهما.
ثم في جعل الطمأنينة فرضا، زيادة على النص القرآن بخبر الواحد، والزيادة عندهم نسخ، وخبر الواحد لا يصلح ناسخا للقرآن.
(ب) إن نفي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون قد صلى، ليس نفيا لأصل الصلاة
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (757) ، صحيح مسلم الصلاة (397) ، سنن الترمذي الصلاة (303) ، سنن النسائي الافتتاح (884) ، سنن أبو داود الصلاة (856) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1060) ، مسند أحمد بن حنبل (2/437) .
(2) الكاساني: بدائع الصنائع جـ1 ص438.
(3) أخرجه أبو داود بلفظ ''ظهره'' بدل صلبه في الصلاة، باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود جـ1 ص197. والترمذي في الصلاة، باب ما جاء فيمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، جـ1 ص165 وقال: حديث حسن صحيح، وأخرجه أحمد جـ4 ص119.
(4) سورة الحج الآية 77
(5) ابن قدامة: المغني جـ1 ص500، النووي: المجموع جـ3 ص378، 407.
(6) سورة الحج الآية 77(27/313)
وإنما هو نفي للكمال، ودفع للنقص، بدليل أنه ورد في إحدى روايات حديث المسيء صلاته «فإذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك، وما انتقصت من هذا فقد انتقصت من صلاتك (1) »
ووجه الدلالة في هذه الرواية من جهتين:
الأولى: لقد سمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الأعرابي صلاة، فلو كان ترك الطمأنينة مفسدا للصلاة لما سماها صلاة، كما لو ترك الركوع أو السجود.
الثانية: ترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسيء صلاته حتى أتمها، ولو كان عدم الاطمئنان مفسدا، لفسدت الصلاة من أول ركعة، ولما حل له الاستمرار فيها بعد الفساد. فإقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - له على ذلك دليل على عدم البطلان، وإقراره من السنة ثاني الأدلة الشرعية (2) .
بعد ذكر آراء العلماء في هذه المسألة، واستدلالاتهم، فالذي أميل إليه وأدين الله به هو ما عليه جمهور العلماء، من أن الطمأنينة فرض في الصلاة لا تصح الصلاة بدونها، وذلك لأن أدلة الجمهور أقوى من أدلة الفريق الآخر، حيث إن حديث المسيء صلاته نص في هذا المقام، والآية مطلقة في الركوع والسجود، وأمر بيانها موكول إلى رسول الله بقوله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (3) .
ثم إن حديث المسيء صلاته أصح من الحديث الذي وردت به زيادة وما انتقصت من هذا فقد انتقصت صلاتك.
أضف إلى ذلك أنه قد أخرج الحاكم حديثا على شرط الشيخين وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أسوأ الناس سرقة، الذي يسرق من صلاته، قيل: وكيف
__________
(1) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب صلاة من لا يقيم صلبه وسكت عنه، جـ1 ص197.
(2) الكاساني: بدائع الصنائع جـ1 ص438-439.
(3) سورة النحل الآية 44(27/314)
يسرق من صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها (1) » ووجه الدلالة أن السرقة من الكبائر، فإذا كانت السرقة من الصلاة أسوأ من كبيرة، فذلك دليل بطلانها.
ثم هناك حديث آخر وهو «أن حذيفة رأى رجلا لا يتم الركوع والسجود، قال: منذ كم صليت؟ قال: منذ أربعين سنة، قال: ما صليت، ولو مت مت على غير الفطرة (2) » .
ومما يحسن ذكره في ختام هذه المسألة ما ذكره في فتح الباري، نقدا للتعصب وتوجيها للنظر العلمي المجرد، وطمعا في إظهار الحق، فقال رحمه الله:
لا ينقضي عجبي ممن يتعمد ترك قراءة الفاتحة منهم، وترك الطمأنينة، فيصلي صلاة يريد أن يتقرب بها إلى الله تعالى، وهو يتعمد ارتكاب الإثم فيها، مبالغة في تحقيق مخالفته لمذهب غيره (3)
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده جـ5 ص310 والحاكم وقال هو على شرط الشيخين ووافقه الذهبي جـ1 ص229.
(2) رواه البخاري في الصلاة، باب إذا لم يتم السجود جـ1 ص108 وفي الأذان باب إذا لم يتم الركوع جـ1 ص200 وباب إذا لم يتم السجود جـ1 ص206.
(3) ابن حجر العسقلاني: فتح الباري جـ2 ص283.(27/315)
(د) اشتراط الطهارة في الطواف:
قال تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «خذوا عني مناسككم (2) » .
لقد بينت الآية أمر الله تعالى بمطلق الطواف، دون تقييد بشيء من القيود، سواء أكان على طهارة، أم سترا، مرة واحدة أم عددا من المرات، ثم جاء قوله - صلى الله عليه وسلم - وبين أن المناسك تؤخذ عنه - صلى الله عليه وسلم -، بعد أن يطبق أمر
__________
(1) سورة الحج الآية 29
(2) أخرجه مسلم بلفظ لتأخذوا مناسككم، باب لتأخذوا مناسككم في الحج جـ2 ص943، وأخرجه أبو داود في المناسك، باب رمي الجمار جـ1 ص456، وأحمد جـ3 ص337، 338.(27/315)
الله عز وجل في هذه المناسك، وبهذا تكون السنة قد جاءت بزيادة لم ترد في القرآن، مما أحدث خلافا فقهيا بين العلماء، حول اشتراط الطهارة للطواف، أو عدم اشتراطها.
فذهب الحنفية إلى عدم اشتراط الطهارة لصحة الطواف، وعدوها واجبة في الأصح، حتى يصح الطواف بدونها (1) .
وذهب الشافعية والمالكية وأحمد في المشهور عنه إلى أن الطهارة من الحدث الأكبر أو الأصغر شرط لصحة الطواف، فلا يصح إلا بها.
وحجة الحنفية أن الله قد أمر بالطواف مجردا من القيود بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (2)
والطواف هو: الدوران حول الكعبة من غير قيد الطهارة، واشتراط الطهارة زيادة على النص القرآني بخبر الواحد، فلا يصلح ناسخا (3) .
وذلك ما ذكره في المبسوط حيث قال: " وحجتنا في ذلك، أن المأمور به بالنص هو الطواف"، قال تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا} (4) وهو اسم للدوران حول البيت، وذلك يتحقق من المحدث والطاهر، واشتراط الطهارة فيه زيادة على النص، ومثل هذه الزيادة لا تثبت بخبر الواحد، ولا بالقياس، لأن الركنية لا تثبت إلا بالنص، فأما الوجوب فيثبت بخبر الواحد لأنه يوجب العمل ولا يوجب علم اليقين. (5) .
أما حجة الجمهور فهي:
أولا: قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «خذوا عني مناسككم (6) » وقد فسره - صلى الله عليه وسلم - بفعله الذي ورد في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها -: «إن أول شيء
__________
(1) الكاساني: بدائع الصنائع جـ3 ص1102.
(2) سورة الحج الآية 29
(3) الكاساني: بدائع الصنائع جـ3 ص1102.
(4) سورة الحج الآية 29
(5) السرخسي: المبسوط جـ4 ص38.
(6) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .(27/316)
بدأ به - صلى الله عليه وسلم - حين قدم، أنه توضأ ثم طاف بالبيت (1) » فكان فعله - صلى الله عليه وسلم - بيانا لقوله.
ثانيا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الطواف بالبيت صلاة، إلا أنكم تتكلمون فيه (2) » ، وتوجيه ذلك أن الطواف إذا كان كالصلاة فالصلاة لا تجوز بدون الطهارة (3) .
ثالثا: قوله - صلى الله عليه وسلم - عائشة - رضي الله عنها - حينما طمثت في الحج: «افعلي كما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري (4) » فكان المانع لها من الطواف عدم الطهارة، فانبنى الحكم على سببه.
هذا والذي يظهر أن رأي الجمهور هو الراجح في هذا المقام؛ وذلك لأن أدلتهم من السنة الصحيحة التي تبين القرآن وتفسره، وهذه الأحاديث نص في بيان القرآن، بخلاف دليل الحنفية فإنه استدلال بعموم الآية، وقد وكل بيانه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج، باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة جـ2 ص186-187، وباب الطواف على وضوء جـ2 ص192، وأخرجه مسلم في الحج باب ما يلزم من طاف بالبيت وسعى جـ2 ص907 حديث رقم 1235، والبيهقي جـ5 ص86.
(2) أخرجه الحاكم وسكت عنه، وصححه الذهبي في التلخيص جـ1 ص459، والبيهقي جـ5 ص87.
(3) الكاساني: بدائع الصنائع جـ3 ص1102.
(4) أخرجه البخاري في الحيض، باب كيف كان بدء الحيض جـ1 ص81، وفي باب تقضي الحائض المناسك كلها جـ1 ص83، وفي الحج، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت جـ2 ص195، وأخرجه مسلم في الحج باب بيان وجوه الإحرام جـ2 ص873، 874، باب مذاهب العلماء في تحلل المعتمر المتمتع، وأبو داود في المناسك، باب في إفراد الحج جـ1 ص413، والنسائي في الطهارة، باب ما تفعل المحرمة إذا حاضت جـ1 ص153، وفي الحج باب ترك التسمية عند الإهلال جـ5 ص156، وابن ماجه في المناسك، باب الحائض تقضي المناسك إلا الطواف جـ2 ص1988.(27/317)
(هـ) تغريب الزاني البكر:
يقول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (1) .
__________
(1) سورة النور الآية 2(27/317)
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة (1) »
فالآية قد أثبتت حد الجلد على الزاني مطلقا، سواء كان بكرا أم ثيبا، ولم تشر إلى شيء آخر. لكن الحديث جاء فخص الجلد بالزاني البكر، وزاد عليه التغريب، ولكن هل يعتبر التغريب (النفي) الوارد في الحديث زيادة على النص القرآني، أو بيانا له وتخصيصا؟ ذلك ما سنراه في هذه المسألة وتخريجها على قاعدة الزيادة على النص.
فالمتفق عليه بين المسملين أن حد البكر في الزنا جلد مائة، لقوله تعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (2)
ولكنهم اختلفوا في التغريب مع الجلد، هل هو من الحد أو ليس من الحد؟ فذهب الإمام الشافعي وأحمد إلى أن التغريب من الحد، ولا بد منه، سواء في الرجل والمرأة البكرين، وهو مذهب الإمام مالك، إلا أنه اختص الرجل بالتغريب دون المرأة.
وذهب الحنفية على عدم التغريب، وأن الجلد مائة هو الحد فحسب، واعتبروا التغريب من التعزير، إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك (3) .
حجة الجمهور في كون التغريب من الحد ما يلي:
أولا: ما روي عن أبي هريرة وزيد بن خالد أنهما قالا: «إن رجلا من الأعراب أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، وقال الخصم الآخر - وهو أفقه منه - نعم فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قل: قال: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته وإني أخبرت أن على ابني
__________
(1) أخرجه مسلم في الحدود، باب حد الزنى جـ3 ص1316 وأبو داود في الحدود، باب في الرجم جـ2 ص455 والترمذي في الحدود، باب ما جاء في الرجم على الثيب جـ2 ص445 وابن ماجه، باب حد الزنى جـ2 ص853.
(2) سورة النور الآية 2
(3) الكاساني: جـ9 ص4163، ابن دقيق العيد: إحكام الأحكام ج4 ص342.
(4) أخرجه البخاري في الإيمان باب كيف كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم - جـ8 ص161 وفي الشروط، باب الشروط التي لا تحل جـ3 ص250، وفي الأحكام باب هل يجوز للحاكم أن يبعث رجلا وحده للنظر جـ9 ص94، وفي الصلح، باب إذا اصطلحوا على جور جـ3 ص241.(27/318)
الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم، فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم رد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، قال: فغدا عليها فاعترفت فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت (1) » .
ثانيا ما رواه عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة (2) » .
ثالثا: إن النبي والخلفاء الراشدين قد غربوا ولم نعلم لهم مخالفا فكان إجماعا (3) . أما الإمام مالك فقد استدل على رأيه بعدم تغريب المرأة، بحديث نهي المرأة عن السفر بغير محرم: «لا تسافرن امرأة إلا ومعها ذو محرم (4) » . وكذا بالمصلحة حيث إن المرأة تتعرض بالغربة لأكثر من الزنا، فهي تحتاج إلى حفظ وصيانة، لأنها لا تخلو من التغريب بمحرم أو بغير محرم، فالتغريب بغير محرم غير جائز، للحديث آنف الذكر، ثم
__________
(1) عسيفا: أجيرا. (4)
(2) ابن قدامة: المغني ج8 ص167 العقبى: تكملة مجموع النووي ج18 ص252، ابن رشد: بداية المجتهد ج2 ص398 -399.
(3) الترمذي في سننه في الحدود، باب ما جاء في النفي جـ2 ص446، والمغني جـ2 ص168.
(4) أخرجه البخاري في التقصير، باب في كم يقصر الصلاة جـ2 ص54، ومسلم في الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج أو غيره جـ2، ص975-978. والترمذي في الرضاع، باب ما جاء في كراهية أن تسافر المرأة وحدها، جـ2 ص318 وابن ماجه في المناسك، باب المرأة تحج بغير ولي جـ2 ص968.(27/319)
فيه إغراء لها وتضييع، وإن كان بمحرم أفضى إلى تغريب من ليس بزان، ونفي من لا ذنب له، وتكليف الزانية أجرة المحرم زيادة على عقوبتها بما لم يرد به الشرع، كما لو زاد ذلك على الرجل، والخبر الخاص في التغريب إنما هو في حق الرجل، وكذلك فعل الصحابة - رضي الله عنهم - (1) .
واحتج من نفى التغريب بما يلي:
(أ) قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (2) .
فالمذكور في الآية الجلد فقط دون التغريب، فزيادة التغريب الوارد في الحديث زيادة على النص القرآني بخبر الواحد، فلا تثبت تلك الزيادة (3) .
(ب) قول عمر - رضي الله عنه -: "لا أغرب بعده مسلما" بعد أن نفى ربيعة بن أمية في الشراب إلى خيبر، فلحق بهرقل فتنصر، فقال: لا أغرب بعده.
ولو كان التغريب من الحد لم يحق لعمر أن يرجع عنه.
ونوقش بأنه ربما لا يغرب أحدا في الخمر، الذي أصابت ربيعة الفتنة فيه (4) .
(ج) ما نقله صاحب البدائع عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: "كفى بالنفي فتنة، فدل على أن فعلهم كان على طريق التعزير" (5) .
ونوقش بأنه لا يثبت لضعف رواته وإرساله (6) .
__________
(1) ابن قدامة: المغني جـ8 ص167.
(2) سورة النور الآية 2
(3) الكاساني: بدائع الصنائع جـ9، ص4163، ابن دقيق العيد إحكام الأحكام جـ4 ص342.
(4) ابن قدامة: المغني جـ8 ص168.
(5) بدائع الصنائع جـ9 ص4163، المغني: جـ8 ص167.
(6) ابن قدامة: المغني: جـ8 ص168.(27/320)
(د) إن حديث عبادة محتمل للنسخ، وذلك ما ذكره السرخسي أثناء ذكره لتدرج حد الزنا، قال رحمه الله:
"وقد كان الحكم في الابتداء الحبس في البيوت والتعيير والأذى باللسان، كما قال تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} (1) وقال: {فَآذُوهُمَا} (2) .
ثم انتسخ بحديث عبادة بن الصامت، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة (3) » .
وقد كان هذا قبل نزول سورة "النور"، بدليل قوله: «خذوا عني (4) » ، ولو كان بعد نزولها لقال: "خذوا عن الله تعالى"، ثم انتسخ ذلك بقوله تعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (5) واستقر الحكم على الجلد في حق غير المحصن، والرجم في حق المحصن (6) ولكن ابن حجر قد رد هذه الدعوى بقوله:
واحتج بعضهم بأن حديث عبادة الذي فيه النفي منسوخ بآية النور، لأن فيها الجلد بغير نفي، وتعقب بأنه يحتاج إلى ثبوت التاريخ، وبأن العكس أقرب، فإن آية الجلد مطلقة في حق كل زان، فخص منها في حديث عبادة، الثيب، ولا يلزم من خلو آية النور عن النفي، عدم مشروعيته، كما لم يلزم من خلوها من الرجم ذلك.
ومن الحجج القوية أن قصة العسيف كانت بعد آية النور، لأنها كانت في قصة الإفك، وهي متقدمة على قصة العسيف؛ لأن أبا هريرة حضرها، وإنما هاجر بعد قصة الإفك بزمان (7) .
__________
(1) سورة النساء الآية 15
(2) سورة النساء الآية 16
(3) صحيح مسلم الحدود (1690) ، سنن الترمذي الحدود (1434) ، سنن أبو داود الحدود (4415) ، سنن ابن ماجه الحدود (2550) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) ، سنن الدارمي الحدود (2327) .
(4) صحيح مسلم الحدود (1690) ، سنن الترمذي الحدود (1434) ، سنن أبو داود الحدود (4415) ، سنن ابن ماجه الحدود (2550) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) ، سنن الدارمي الحدود (2327) .
(5) سورة النور الآية 2
(6) السرخسي: المبسوط جـ9 ص36.
(7) ابن حجر: فتح الباري جـ12 ص159.(27/321)
هذا وقد رد الشوكاني رأي الحنفية في هذه المسألة فقال:
إن أحاديث التغريب قد جاوزت حد الشهرة المعتبرة عند الحنفية، فيما ورد من السنة زائدا على القرآن، فليس لهم معذرة عنها بذلك، وقد عملوا بما هو دونها بمراحل، كحديث نقض الوضوء بالقهقهة، وحديث جواز الوضوء بالنبيذ، وهما زيادة على ما في القرآن وليست هذه الزيادة مما يخرج بها المزيد عليه عن أن يكون مجزيا، حتى تتجه دعوى النسخ (1) . والذي أميل إليه هو ما رجحه ابن قدامة فقال: وقول مالك فيما يقع لي أصح الأقوال وأعدلها، وعموم الخبر مخصوص بخبر النهي عن سفر المرأة بغير محرم (2) والله أعلم.
__________
(1) الشوكاني: نيل الأوطار جـ7 ص100، ابن حجر: فتح الباري جـ2 ص157.
(2) ابن قدامة المغني: جـ8 ص168.(27/322)
(و) القضاء بشاهد ويمين:
يقول الله عز وجل: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} (1) .
وروى ابن عباس: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بيمين وشاهد (2) » .
فالآية الكريمة قد أثبتت لإحقاق الحق طريقين اثنين لا ثالث لهما وهما: إما رجلان وإما رجل وامرأتان، ولم تعرض للقضاء بشاهد ويمين من قريب ولا بعيد.
والحديث الشريف أثبت القضاء بالشاهد واليمين. فهل نثبت القضاء بالشاهد واليمين بالحديث، فيكون بيانا للآية، أو نرفض ذلك، لأنه زائد على النص القرآني؟ خلاف فقهي. من المتفق عليه بين العلماء أن اليمين
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) أخرجه مسلم في الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد جـ3 ص1337، وأبو داود في الأقضية ج2 ص277، الترمذي في الأحكام ج2 ص399 -400، وابن ماجه في الأحكام ج2 ص393، كلهم في باب القضاء بالشاهد واليمين أو معناه.(27/322)
تبطل به الدعوى عن المدعى عليه، إذا لم تكن للمدعي بينة، واختلفوا هل يثبت بها حق للمدعي؟ واتفقوا على القضاء برجلين أو برجل وامرأتين، واختلفوا في ثبوت الحقوق بشاهد ويمين.
فذهب الحنفية إلى أنه لا يقضى بشاهد ويمين الطالب في شيء من الحقوق كائنا ما كان ذلك الحق (1) .
وذهب الشافعي ومالك وأحمد إلى أنه يقبل الشاهد ويمين الطالب في القضاء بالحقوق (2) وحجة الحنفية في ذلك ما يلي:
(أ) قوله عز وجل: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (3) الآية.
فالآية بينت أن الحقوق تثبت إما بطريق رجلين أو رجل وامرأتين لا غير، وإثباتها بشاهد ويمين زيادة على النص، والزيادة على النص نسخ، ولا يثبت نسخ القرآن بخبر الواحد (4) .
(ب) قوله - صلى الله عليه وسلم -: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر (5) » ووجه الاستدلال أنه - صلى الله عليه وسلم - حصر البينة بجانب المدعي، وحصر اليمين بجانب المدعى عليه.
ونوقش هذا الدليل بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في هذا الحديث بدعاوى، وقضى بحديث الشاهد واليمين بدعاوى أخرى (6) .
ثم إن هذا الاستدلال أخذ بالمفهوم المخالف، وهم لا يأخذون به بل ينكرونه أصلا (7) .
__________
(1) أبو القاسم السمناني: روضة القضاة وطريق النجاة جـ1 ص214 مطبعة أسعد بغداد 1970.
(2) نفس المصدر، ونفس الجزء والصفحة، هامش، نقلا عن أحمد إبراهيم: طرق القضاء.
(3) سورة البقرة الآية 282
(4) السرخسي: أصول السرخسي جـ1 ص366.
(5) أخرجه البخاري في الرهن، باب إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحوه جـ3 ص187، والترمذي في الأحكام، باب ما جاء أن البينة على المدعي واليمن على المدعى عليه، جـ2 ص399، وابن ماجه في الأحكام باب البينة على المدعي جـ2 ص778.
(6) ابن تيمية: مجموعة فتاوى ابن تيمية جـ35 ص391.
(7) الشوكاني: نيل الأوطار جـ8 ص322- 323، الصنعاني: العدة على إحكام الأحكام جـ4 ص402.(27/323)
(ج) حديث الأشعث بن قيس قال: «كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: شاهداك أو يمينه، قلت إذا يحلف ولا يبالي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر، لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان (2) » .
فقد ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طريقين للحكم، ولو كان ثمة طريق ثالث إلى الحكم لبينها - صلى الله عليه وسلم - ولقال: أو يمينك وشاهد.
وأجاب ابن حجر عن ذلك بقوله: قلت: والجواب - بعد ثبوت العمل بالشاهد واليمين - أنها زيادة صحيحة، ويتعين المصير إليها، لثبوت ذلك بالمنطوق، وإنما يستفاد نفيه من حديث الباب بالمفهوم (3) . وهذا ما تقرر في الحديث السابق، وهو عين ما قاله الشافعي: القضاء بشاهد ويمين، ولا يخالف نص القرآن، لأنه لم يمنع أن يجوز أقل مما نص عليه، يعني والمخالف لذلك لا يقول بالمفهوم، فضلا عن مفهوم العدد (4) .
(د) الأصل أن مال الغير لا يجوز أن يقبل فيه قول غيره، ويسلم إلى المدعي، إلا في موضع اتفق الناس عليه، ولم يتفق على الشاهد الواحد واليمين، فإن اليمين قول المدعي فلا يقضى له (5) .
أما حجة الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة على جواز القضاء بشاهد ويمين فهي:
أولا: ما روي عن ابن عباس: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بيمين
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة آل عمران، باب إن الذين يشترون بعهد الله. بلفظ شاهداك أو يمينه جـ6 ص43. وأخرجه الإمام أحمد جـ4 ص317.
(2) يمين الصبر: هي التي يمسكك الحكم عليها حتى تحلف، أو التي تلزم ويجبر عليها حالفها. (1)
(3) الصنعاني: العدة على إحكام الأحكام جـ4 ص402.
(4) الصنعاني: العدة على إحكام الأحكام جـ4 ص403.
(5) أبو القاسم السمناني: روضة القضاة وطريق النجاة جـ1 ص215.(27/324)
وشاهد (1) » وفي رواية لأحمد: «إنما كان ذلك في الأموال (2) » .
ثانيا: ما رواه أبو هريرة قال: «قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باليمين مع الشاهد الواحد (3) » .
ثالثا: ما رواه جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «قضى باليمين مع الشاهد (4) » .
هذا وقد رد الحنفية هذه الأحاديث؛ لمخالفتها القرآن الكريم من وجوه متعددة - ذكرها في كشف الأسرار - ولكنها استدلال بالمفهوم، والحنفية لا يقولون به أصلا (5) .
على أن الآية إنما جاءت في التحمل لا في الأداء، وقد نقل عن ابن تيمية قوله: إن القرآن لم يذكر الشاهدين، والرجل والمرأتين في طرق الحكم التي يحكم بها الحاكم، وإنما ذكر هذين النوعين من البينات، في الطرق التي يحفظ بها الإنسان حقه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (6) {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} (7) .
فأمرهم سبحانه بحفظ حقوقهم ثم أمر من له الحق أن يستشهد. . وما تحفظ به الحقوق شيء وما يحكم به الحاكم شيء آخر (8) .
وقال الشافعي في الأم: " لما لم يكن في التنزيل أن لا يجوز أقل من
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1712) ، سنن أبو داود الأقضية (3608) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2370) ، مسند أحمد بن حنبل (1/323) .
(2) أحاديث القضاء بشاهد ويمين بمعانيها قد أخرجها مسلم في الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد جـ3 ص1337، وأبو داود، باب القضاء باليمين مع الشاهد جـ2 ص277، والترمذي باب ما جاء في اليمين مع الشاهد جـ2 ص399، وابن ماجه في الأحكام، باب القضاء بالشاهد واليمين جـ2 ص393. وأحمد جـ3 ص305، جـ5 ص215.
(3) أحاديث القضاء بشاهد ويمين بمعانيها قد أخرجها مسلم في الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد جـ3 ص1337، وأبو داود، باب القضاء باليمين مع الشاهد جـ2 ص277، والترمذي باب ما جاء في اليمين مع الشاهد جـ2 ص399، وابن ماجه في الأحكام، باب القضاء بالشاهد واليمين جـ2 ص393. وأحمد جـ3 ص305، جـ5 ص215.
(4) أحاديث القضاء بشاهد ويمين بمعانيها قد أخرجها مسلم في الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد جـ3 ص1337، وأبو داود، باب القضاء باليمين مع الشاهد جـ2 ص277، والترمذي باب ما جاء في اليمين مع الشاهد جـ2 ص399، وابن ماجه في الأحكام، باب القضاء بالشاهد واليمين جـ2 ص393. وأحمد جـ3 ص305، جـ5 ص215.
(5) الشوكاني: نيل الأوطار جـ8 ص322-323، ابن رشد: بداية المجتهد جـ2 ص426، الصنعاني: العدة جـ4 ص402.
(6) سورة البقرة الآية 282
(7) سورة البقرة الآية 282
(8) أبو القاسم السمناني: روضة القضاة جـ1 ص215 هامش.(27/325)
شاهدين، وكان التنزيل محتملا أن يكون الشاهدان تامين في غير الزنا، ويؤخذ بهما الحق لطالبه، ولا يمين عليه، ثم وجدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجيز اليمين مع الشاهد لصاحب الحق، ويأخذ حقه، ووجدت المسلمين يجيزون شهادة أقل من شاهدين، ويعطون بها، دلت السنة وعمل المسلمين على أن قول الله عز وجل: {شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (1) (2) ، ليس محرما أن يجوز أقل منه والله تعالى أعلم (3) .
وقد ناقش الشافعي - رحمه الله - أولئك الذين لا يجيزون الحكم في الأموال بالشاهد واليمين فقال: " فخالفنا في اليمين مع الشاهد مع ثبوتها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض الناس، خلافا أسرف فيه على نفسه، فقال: لو حكمتم بما لا نراه حقا من رأيكم لم نرده، وإن حكمتم باليمين مع الشاهد رددناها، فقلت لبعضهم: رددت الذي يلزمك أن تقول به، ولا يحل لأحد من أهل العلم عندنا خلافه: لأنه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأجزت آراءنا التي لو رددتها كانت أخف عليك في المأثم (4) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) الإمام الشافعي: الأم جـ7 ص16.
(3) الإمام الشافعي: الأم جـ7 ص7.
(4) الإمام الشافعي: الأم جـ7 ص7.(27/326)
(7) اصطدام عند التطبيق:
ولقد خرج الحنفية على قاعدتهم، وخالفوا أصلهم، في الزيادة على النص في بعض الفروع، منها:
(أ) انهدام ما دون الطلقات الثلاث بالزوج الثاني:
قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (1) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 229(27/326)
وقوله عز وجل: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (1) .
فمن المتفق عليه على ضوء هاتين الآيتين الكريمتين بين علماء الأمة، أن الزوجة إذا طلقها زوجها ثلاثا، ثم تزوجت غيره، ثم طلقها أو مات عنها، ثم أراد الأول أن يتزوجها، فإنها ترجع إليه على طلاق الثلاث، بخلاف ما إذا بانت - بعد طلاق رجعي - بانتهاء العدة، فإنهم اختلفوا، هل ترجع إليه على طلاق ثلاث، أو ترجع إليه على ما بقي من طلاقها؟
فذهب مالك والشافعي وأحمد في الأصح والمعتمد، إلى أنها ترجع على ما بقي من طلاقها، فإن كان قد طلقها واحدة فترجع إليه على اثنتين، وإن كان قد طلقها اثنتين، فترجع إليه على طلقة واحدة، وهو قول الأكابر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عمر وعلي وأبي ومعاذ وعمران بن حصين، وأبي هريرة، وروي ذلك عن زيد وعبد الله بن عمرو بن العاص، وبه قال سعيد بن المسيب، وعبيدة، والحسن والثوري وابن أبي ليلى وإسحاق وأبو عبيدة وأبو ثور ومحمد بن الحسن - صاحب أبي حنيفة - وابن المنذر (2) .
وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنها ترجع إليه على طلاق ثلاث، وهو قول ابن عمر وابن عباس وعطاء والنخعي وسريج (3) .
قال ابن الهمام: فأخذ المشايخ من الفقهاء بقول مشايخ الصحابة (4) .
استدل الفريق الأول بأن الزوج الثاني ليس شرطا ولا يحتاج إليه
__________
(1) سورة البقرة الآية 230
(2) ابن قدامة: المغني، جـ7 ص261، ابن الهمام: فتح القدير جـ4 ص184، ابن رشد: بداية المجتهد جـ2 ص74.
(3) ابن قدامة: المغني، جـ7 ص261، ابن الهمام: فتح القدير، جـ4 ص184، ابن رشد: بداية المجتهد، جـ2 ص74.
(4) ابن الهمام: فتح القدير جـ4 ص184.(27/327)
في الإحلال للزوج الأول، فلا يغير حكم الطلاق (1) .
وبيان ذلك أن قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (2) قد جعل الزوج الثاني غاية للحرمة بقوله (حتى) التي هي للغاية، والحرمة لم توجد أصلا حتى تنهى، فلا إنهاء للحرمة قبل ثبوتها، إذ لا ثبوت إلا بعد الثلاث، فلا يكون منهيا قبلها، فصار كما لو أرجعها قبل التزوج، أو قبل إصابة الزوج الثاني، حيث تعود بما بقي من التطليقات (3) ولا يلزم من كون الشيء غاية لشيء أن يكون غاية لما دونه (4) .
وأما حجة الفريق الثاني فهي أن الزوج الثاني مثبت للحل، فيثبت حلا يتسع لثلاث تطليقات، كما بعد الثلاث، لأن الوطء الثاني يهدم الطلقات الثلاث، فأولى أن يهدم ما دونها (5) .
ولقد رد ابن قدامة ذلك من وجهين:
أحدهما: منع كونه مثبتا للحل أصلا، وإنما هو في الطلاق الثلاث غاية للتحريم، بدليل قوله تعالى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (6) وحتى للغاية، وإنما سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الزوج الذي قصد الحلية محللا تجوزا، بدليل أنه لعنه، ومن أثبت حلا لا يستحق لعنا.
والثاني: إن الحل إنما يثبت في محل التحريم، وهي الملطقة ثلاثا وها هنا هي حلال له، فلا يثبت فيها حل، وقولهم: إنه يهدم الطلاق، قلنا بل هو غاية لتحريمه، وما دون الثلاث لا تحريم فيها، فلا يكون غاية له (7) .
ونوقش كون هذا الحكم غاية للتحريم، بأنهم قد عملوا بالنص،
__________
(1) ابن قدامة: المغني جـ7 ص261، النووي: المجموع جـ16 ص287.
(2) سورة البقرة الآية 230
(3) ابن الهمام: فتح القدير جـ4 ص184.
(4) الشريف التلمساني: مفتاح الوصول ص133.
(5) ابن الهمام: فتح القدير جـ4 ص185، ابن نجيم: فتح الغفار جـ1 ص22.
(6) سورة البقرة الآية 230
(7) ابن قدامة: المغني جـ7 ص261.(27/328)
وجعلوه منهيا للحرمة في صورة الحرمة الغليظة، لكنهم أثبتوا له وصفا آخر - بنص آخر - وهو إثبات الحل مطلقا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لعن الله المحلل والمحلل له (1) » فقد قلنا به وتركتم أنتم العمل به، ووجه الاستدلال أنه سماه محللا، وحقيقته مثبت الحل (2) . والجواب عن هذا بأن استدلالكم بالحديث ترك للعمل بالخاص، وزيادة على النص القرآني، وأنتم تجعلون الزيادة على النص نسخا، ولا يكون بخبر الواحد، فضلا عن حديث ضعفه العلماء فخالفتم أصلكم.
زد على ذلك أن غاية ما تحقق من الشارع في هذا الحديث تسميته محللا، ولا يزيد عن كونه مثبتا لمجرد الحل، وهو حاصل في المتنازع فيه، فتبقى قضية هدم ما دون الثلاث طلقات قائمة. وقد رجح عدم الهدم صاحب التحرير وابن نجيم وقال: فالحق عدم الهدم، وكذا قال في الدر المختار، وعند محمد وباقي الأئمة بما بقي، وهو الحق، وقال ابن عابدين تعليقا على عبارة صاحب الدر المختار: "وأقره المصنف كغيره: أي كصاحب البحر (3) والنهر والمقدسي والشرنبلالي والرملي والحموي وكذا شارح التحرير المحقق ابن أمير حاج، لكن المتون على قول الإمام، وأشار في متن المتلقى إلى ترجيحه، ونقل ترجيحه العلامة قاسم عن جماعة من أصحاب الترجيح (4) .
بعد ذكر آراء الأئمة واستدلال كل لمذهبه أراني أميل مع الجمهور في رأيهم بأن الزوج الثاني لا يهدم ما دون الطلقات الثلاث، ولكن التحفظ مطلوب في مثل هذا المقام، كما فعل ابن الهمام حين رجح رأي
__________
(1) أخرجه أبو داود في النكاح، باب التحليل جـ1 ص479، والترمذي في النكاح، باب ما جاء في المحلل والمحلل له جـ2 ص294 وأخرجه النسائي في الطلاق، باب إحلال المطلق ثلاثا جـ5 ص149 وابن ماجه في النكاح، باب المحلل والمحلل له جـ1 ص622.
(2) ابن الهمام: فتح القدير جـ4 ص184.
(3) صاحب البحر هو ابن نجيم السابق، انظر هامش رقم (3) .
(4) ابن عابدين: رد المحتار على الدر المختار جـ3 ص418.(27/329)
الأئمة فقال: فظهر أن القول ما قاله محمد وباقي الأئمة الثلاثة، ولقد صدق قول صاحب الأسرار: ومسألة يخالف فيها كبار الصحابة يعوز فقهها، ويصعب الخروج منها (1) ، والله أعلم.
__________
(1) ابن الهمام: فتح القدير جـ4 ص185.(27/330)
(ب) اجتماع القطع والضمان على السارق:
يقول الله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) .
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «لا يغرم صاحب سرقة إذا أقيم عليه الحد (2) » . فالآية الكريمة أظهرت جزاء السارق، وأنه القطع، دون التعرض للمسروق، هل يرد إلى المسروق منه أو لا يرد؟ ولكن الحديث بين أن السارق غير ضامن، بعد إقامة الحد عليه، فما هو موقف العلماء من هذه المسألة، على ضوء الآية الكريمة والحديث الشريف؟
من المتفق عليه بين العلماء أن الواجب في حق السارق القطع، من حيث هو جناية، والغرم إذا لم يجب القطع، واتفقوا أيضا على رد المسروق بعد إقامة الحد، إذا كان باقيا غير مستهلك.
ولكنهم اختلفوا في حكم اجتماع القطع والضمان إذا كان المسروق تالفا، بهلاك أو استهلاك.
فذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يجتمع قطع وغرم، في حد السرقة إذا لم تكن العين المسروقة قائمة عنده، وهو قول الثوري وابن أبي ليلى وعطاء
__________
(1) سورة المائدة الآية 38
(2) أخرجه النسائي في كتاب قطع السارق، باب تعليق يد السارق في عنقه، جـ8 ص93، وقال: هذا مرسل وليس بثابت. والبيهقي في الحدود جـ8 ص277 وقال: هذا حديث مختلف فيه، وقال: فهو منقطع.(27/330)
والشعبي ومكحول وابن شبرمة وابن سيرين.
وذهب الشافعي وأحمد إلى أنه يجب على السارق القطع والغرم، وهو قول الحسن والنخعي والليث والبتي وإسحاق وحماد.
أما مالك فقد فرق بين الموسر والمعسر، فأخذ بقول أبي حنيفة في المعسر، فلم يضمنه بعد القطع، بخلاف الموسر فقد ضمنه، ووافق قوله قول الشافعي وأحمد في ذلك.
احتج من جمع بين الأمرين بما يلي:
(أ) عموم قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (1) .
(ب) قوله - صلى الله عليه وسلم -: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه (2) » وجه الدلالة أن السارق قد أخذ المسروق، فيلزمه ضمانه حتى يرده إلى صاحبه.
(ج) إن المسروق عين يجب ضمانها وردها إجماعا إن كانت باقية، فيجب ضمانها إذا كانت تالفة، كما لو لم يقطع، قياسا على سائر الأموال الواجبة (3) .
(د) إن جريمة السرقة قد اجتمع فيها حقان: حق لله، وحق للآدمي، فاقتضى كل حق موجبه، وذلك كاستهلاك صيد مملوك في الحرم، يجب الجزاء حقا لله تعالى، ويضمنه حقا للعبد، ومثله السرقة
__________
(1) سورة البقرة الآية 194
(2) أخرجه أبو داود في الإجارة، باب تضمين العارية جـ2 ص265، والترمذي، باب ما جاء في العارية مؤداة، وصححه جـ2 ص369، وابن ماجه في الصدقات، باب العارية، جـ2 ص802، والدارمي، باب العارية مؤداة، وأحمد جـ5 ص8، 13.
(3) ابن رشد: بداية المجتهد جـ2 ص413، العقبي: تكملة مجموع النووي جـ18 ص339.(27/331)
فيقطع لحق الله، ويضمن لحق العبد (1) .
وعمدة من منع وقال: لا يغرم السارق بعد القطع ما يلي:
ما ورد عن المفضل بن فضالة عن يونس بن يزيد قال: سمعت سعد بن إبراهيم يحدث عن المسور بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يغرم صاحب سرقة إذا أقيم عليه الحد (2) » .
ونوقش هذا الدليل بما يلي:
(أ) إن هذا الحديث مختلف فيه من حيث الرواة، إذ أن سعد بن إبراهيم - الراوي عن المسور بن إبراهيم - مجهول، قاله ابن المنذر، ونقل عن ابن عبد البر قوله: الحديث ليس بالقوي، وقال البيهقي: لا يثبت للمسور الذي ينسب إليه سعد بن محمد بن إبراهيم سماع من جده عبد الرحمن بن عوف، فهو منقطع، وقال ابن أبي حاتم نقلا عن أبيه قوله: هذا حديث منكر، ومسور لم يلق عبد الرحمن، هو مرسل أيضا.
وأجاب في فتح القدير: بأن الإرسال غير قادح بعد ثقة الراوي وأمانته، وذلك الساقط إن كان قد ظهر أنه الزهري فقد عرف، وبطل القدح (3) .
وذلك مردود، لأنه قيل: إن سعد بن إبراهيم هو الزهري، وقيل: إن الذي روى عن سعد بن إبراهيم هو الزهري، حسب رواية إسحاق بن الفرات عن المفضل بن فضالة.
على أنه تبقى الجهالة تحيط بسعد بن إبراهيم، زيادة على الانقطاع بين
__________
(1) ابن قدامة: المغني جـ 8 ص 271، ابن الهمام: فتح القدير جـ 6 ص 413.
(2) أخرجه النسائي في باب تعليق يد السارق في عنقه وقال: مرسل وليس بثابت جـ 8 ص 93 والبيهقي في الحدود جـ 8 ص 277 وقال: هذا حديث مختلف فيه وقال: فهو منقطع.
(3) ابن الهمام: شرح فتح القدير جـ 6 ص 414.(27/332)
سعد بن إبراهيم ويزيد بن يونس، علما بأن الشبهة تبقى مكتنفة الاستدلال بهذا الحديث، فلا يكون الاحتجاج به سليما.
ومما يقتضي النظر، ما قاله الرهاوي في حاشيته على شرح المنار، مقررا تمسكه بمذهبه، دون التفات إلى آراء الخصوم، ولا إلى آراء علماء الحديث، فقال:
ويجاب بأن أئمتنا قد عملوا بهذا الحديث، واستدلوا به، فدل ذلك على صحته، لأن القاعدة عندنا، أن المجتهد إذا عمل بدليل من السنة، وطعن الخصم، لا يلتفت إلى قوله؛ لأن المجتهد بذل وسعه في ذلك، وكذا لا يلتفت إلى قول المحدثين من أنه ضعيف، أو غير صحيح؛ لأن ذلك اصطلاح حادث، نشأ من طول الطريق (1) .
(ب) الاستدلال بهذا الحديث خروج عن القاعدة التي تقولون بها، من أن الزيادة على النص نسخ، وخبر الواحد لا يقوى على النسخ كما هو مقرر، فخرجتم عن قاعدتكم بالاستدلال بهذا الحديث.
وأجابوا عن هذه المناقشة:
بأن حكم عدم الضمان ثابت بإشارة قوله تعالى: جزاء المقرونة بالقطع، وهو قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} (2) .
وتوجيه ذلك أن فعل السرقة قد حصل من العبد، والله قد قرر القطع جزاء كاملا للفاعل، وكمال الجزاء يستدعي كمال الجناية، وإنما تكتمل الجناية إذا كانت حقا لله تعالى، إذ الجزاء مأخوذ من مصدر جزى بمعنى كفى، فلو وجب غرم لم يكف الجزاء، لذا فإن فعل السارق تمحض حقا لله تعالى، وبناء عليه فالجزاء الذي هو القطع يكفي لحق الله (3) .
__________
(1) الرهاوي: حاشية الرهاوي على ابن ملك ص 91.
(2) سورة المائدة الآية 38
(3) ابن ملك: شرح المنار وحواشيه ص 90 فما بعد، ابن نجيم: فتح الغفار جـ 1 ص 23.(27/333)
وهذا مردود بأن تمحض الحق في فعل السرقة لله تعالى يعرض عبدا من عباده للظلم، وذلك بأكل ماله بالباطل، والله يقول: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (1) .
والسرقة من الباطل فما ذنب المسروق منه أن يذهب ماله، وما فائدته بتمحض الحق لله تعالى، وذهاب متاعه هو؟
فالذي يظهر أن الجزاء المقرر للردع، والضمان حفاظا على أموال الناس، وذلك غير ممنوع، كما في استهلاك الصيد المملوك في الحرم؛ إذ فيه حقان: لله وللعبد، والله أعلم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 188(27/334)
خاتمة توضح بعض نتائج البحث
بعد الانتهاء من هذا البحث، أحببت أن أدون بعض النتائج التي تمخضت عنه فكانت كما يلي:
(1) إن خلاف العلماء كان مبنيا على اختلاف وجهات نظرهم إلى حقيقة النسخ وماهيته، بين كونه رفعا للحكم الثابت بخطاب متأخر، وبين كونه بيانا لانتهاء مدة الحكم.
وعلى كون الزيادة ترفع حكما شرعيا أو لا ترفع، فلو كانت ترفع حكما شرعيا، لكانت الزيادة نسخا، وإن لم ترفع حكما شرعيا لم تكن نسخا.
(2) إن الخلاف كان على مذهبين رئيسين هما: مذهب الحنفية، ومذهب الجمهور، وإن كانت هناك أقوال أخرى، ولكنها لا حاصل لها، لأنها ليست في محل النزاع (1) .
(3) إن الأخذ بمذهب الحنفية في موضوع الزيادة على النص، يقتضي
__________
(1) انظر الشوكاني: إرشاد الفحول ص 196.(27/334)
رد عدد من الأخبار الصحيحة، التي تثبت أحكاما زائدة عن القرآن؛ حيث الزيادة عندهم نسخ (1) والأخذ بمذهب الجمهور يقتضي الأخذ بما رده الحنفية من الأحاديث الصحيحة.
(4) تم تحقيق عدد من الأحكام الفقهية، التي تفرعت عن الخلاف وبيان أثر ذلك الخلاف في تلك الأحكام.
(5) إيضاح مخالفة الحنفية لأصلهم الذي أصلوه في موضوع الزيادة على النص، من خلال إيراد فرعين فقهيين، يتخرجان على مسألة الزيادة على النص وتحقيقهما.
(6) كانت ثمرة الخلاف في هذه المسألة أن الحنفية قد منعوا إثبات الأحكام بخبر الواحد، زيادة على ما ثبت منها بالقرآن، بخلاف الجمهور، فقد أثبتوا الأحكام بها.
هذا فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان. . مع دعائي لله أن أكون قد وفقت فيما كتبت.
والحمد لله رب العالمين. .
__________
(1) انظر الشوكاني: إرشاد الفحول ص 196.(27/334)
المراجع
(1) القرآن الكريم. . مرجع المراجع.
(2) آل تيمية: ثلاثة أئمة من آل تيمية (شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية ووالده شهاب الدين أبو المحاسن عبد الحليم بن تيمية، وجده مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن تيمية) .
المسودة في أصول الفقه، مطبعة المدني. . القاهرة.
(3) أبادي: محمد شمس الحق العظيم، التعليق المغني على الدارقطني بهامش الدارقطني ط. عالم الكتب، بيروت.
(4) ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم أبو العباس الحراني.
مجموعة الفتاوى، مكتبة ابن تيمية. . القاهرة. . الطبعة الثانية 1400 هـ.
(5) ابن الحاجب: أبو عمر عثمان بن عمر بن أبي بكر جمال العرب.
مختصر المنتهى، مع شرح العضد عليه، وحواشي أخرى، مطبعة الفجالة الجديدة - القاهرة.
(6) ابن خزيمة: أبو بكر محمد بن خزيمة السلمي النيسابوري.
صحيح ابن خزيمة - المكتب الإسلامي - الطبعة الأولى 1399 هـ بيروت - دمشق.
(7) ابن خلكان: أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر.
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، دار صادر - بيروت.
(8) ابن دقيق العيد: تقي الدين محمد بن علي بن وهب القشيري.
إحكام الأحكام، شرح عمدة الأحكام، المطبعة السلفية - القاهرة 1379 هـ.
(9) ابن رشد: محمد بن أحمد بن محمد القرطبي.
بداية المجتهد ونهاية المقتصد، المكتبة التجارية الكبرى بمصر - القاهرة.
(10) ابن عابدين: محمد أمين.
حاشية رد المحتار، على الدر المختار، مطبعة مصطفى الحلبي، ط 2 القاهرة 1386 هـ.
(11) ابن عبد البر: أبو عمر يوسف بن عبد الله النمري القرطبي.
الكافي في فقه أهل المدينة المالكي، مكتبة الرياض الحديثة، الطبعة الأولى - الرياض.
(12) ابن العماد: أبو الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي.
شذرات الذهب في أخبار من ذهب، دار إحياء التراث العربي - بيروت.
(13) ابن قدامة: موفق الدين أبو محمد عبد الله المقدسي.
روضة الناظر وجنة المناظر، المطبعة السلفية 1391 هـ القاهرة.
المغني، مكتبة ابن تيمية القاهرة.
(14) ابن القيم: شمس الدين أبو عبد الله.
أعلام الموقعين، شركة الطباعة الفنية المتحدة - القاهرة.
(15) ابن كثير: عماد الدين أبو الفداء.
تفسير القرآن العظيم، مكتبة الدعوة الإسلامية، شباب الأزهر 1400 هـ القاهرة.
(16) ابن ماجه: أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني.
سنن ابن ماجه، دار إحياء الكتب العربية القاهرة.
(17) ابن ملك: عز الدين عبد اللطيف بن عبد العزيز.(27/336)
شرح المنار وحواشيه، طبعة المطبعة العثمانية 1315 هـ.
(18) ابن نجيم: زين الدين بن إبراهيم.
فتح الغفار بشرح المنار، المعروف بمشكاة الأنوار، مطبعة الحلبي 1355 هـ القاهرة.
(19) ابن الهمام: كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي.
شرح فتح القدير على الهداية، مطبعة مصطفى الحلبي القاهرة.
(20) أبو داود: سليمان بن الأشعث السجستاني.
سنن أبي داود طبعة مصطفى الحلبي الثانية 1403 هـ القاهرة.
(21) أبو يعلى: محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلي.
العدة في أصول الفقه، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1400 هـ بيروت.
(22) أحمد: أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني. مسند الإمام أحمد.
(23) الإسنوي: عبد الرحيم بن الحسن بن علي أبو محمد جمال الدين.
نهاية السول، مطبعة محمد علي صبيح القاهرة.
(24) الباجي: أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي الأندلسي.
إحكام الفصول في أحكام الأصول، ط دار العرب الإسلامي بيروت.
(25) البخاري: علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري.
كشف الأسرار على أصول فخر الإسلام البزدوي، مصورة عن طبعة شركة الصحافة العثمانية 1394 هـ.
(26) البخاري: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي.
صحيح البخاري، مطابع الشعب، القاهرة.
27) البيهقي: أحمد بن الحسين بن علي.
السنن الكبرى، مطبعة حيدر آبادي الركن، الطبعة الأولى 1344 هـ.
(28) الترمذي: أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي.
سنن الترمذي، طبعة مصطفى الحلبي الأولى 1356 هـ، القاهرة.
سنن الترمذي، طبعة دار الفكر، بيروت.
(29) التلمساني: أبو عبد الله محمد بن أحمد الشريف التلمساني.
مفتاح الوصول، دار الكتاب العربي بمصر، الطبعة الأولى 1382 هـ.
(30) التنبكتي: أبو العباس أحمد المعروف ببابا التنبكتي.
نيل الابتهاج تطريز الديباج، بهامش الديباج، دار الكتب العلمية، بيروت.
(31) حاجي خليفة: كشف الظنون عن أسماء الكتب والفنون، طبعة دار الفكر 1402 هـ بيروت.
(32) الحاكم: أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري.
المستدرك على الصحيحين، دار الفكر، 1398 هـ بيروت.
(33) الدارقطني: أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد.
ذكر أسماء التابعين ومن بعدهم، الطبعة الأولى 1406 هـ، دار الكتب الثقافية بيروت.
سنن الدارقطني طبعة عالم الكتب، بيروت.
(34) الدارمي: أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي.
سنن الدارمي، شركة الطباعة الفنية 1386 هـ القاهرة.
(35) الدسوقي: شمس الدين محمد بن أحمد بن عرفه.(27/337)
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، دار إحياء الكتب العربية القاهرة.
(36) الذهبي: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهبي.
تلخيص المستدرك، بهامش المستدرك، دار الفكر 1398 هـ بيروت.
سير أعلام النبلاء، مؤسسة الرسالة 1404 هـ ط 2 بيروت.
العبر في خبر من غبر، طبعة دار الكتب العلمية بيروت.
ميزان الاعتدال في نقد الرجال الطبعة الأولى 1382 هـ، دار المعرفة بيروت.
(37) الرحيباني: مصطفى السيوطي الرحيباني.
مطالب أولي النهي، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى 1380 هـ بيروت.
(38) الرملي: شمس الدين محمد بن أبي العباس.
نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، مصطفى الحلبي الطبعة الأخيرة 1386 هـ القاهرة.
(39) الرهاوي: يحيى الرهاوي المصري.
حاشية الرهاوي على شرح ابن ملك على المنار، المطابع العثمانية 1315 هـ.
(40) الزاوي: الطاهر أحمد الزاوي.
ترتيب القاموس المحيط، الطبعة الثانية، مطبعة عيسى الحلبي القاهرة.
(41) الزركلي: خير الدين الزركلي.
الأعلام، دار العلم للملايين، الطبعة السابعة، 1986 م بيروت.
(42) الزنجاني: أبو المناقب شهاب الدين محمود بن أحمد.
تخريج الفروع على الأصول، مؤسسة الرسالة، الطبعة الخامسة بيروت.
(43) الساعاتي: أحمد عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي.
الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
(44) السبكي: تاج الدين عبد الوهاب بن علي.
رفع الحاجب عن ابن الحاجب، مخطوط مكتبة الأزهر برقم 455، أصول.
(45) السرخسي: أبو بكر محمد بن أبي سهل.
أصول السرخسي، مطابع دار الكتاب العربي 1372 هـ القاهرة.
المبسوط \ دار المعرفة للطباعة والنشر، الطبعة الثانية بيروت.
(46) السمناني: أبو القاسم علي بن محمد بن أحمد.
روضة القضاة وطريق النجاة، مطبعة أسعد 1390 هـ بغداد.
(47) السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي.
بغية الوعاة في طبقات النحاة، الطبعة الثانية 1399 هـ، دار الفكر بيروت. في طبقات النحاة.
مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة، الطبعة الأولى 1407 هـ دار الكتب العلمية بيروت.
(48) الشافعي: أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي.
الأم، الطبعة الثانية 1393 هـ، دار المعرفة بيروت.
الرسالة، مطابع دار المختار الإسلامي (دار السلام) الطبعة الثانية. . القاهرة.
(49) الشربيني: شمس الدين محمد بن أحمد.
مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج، مصطفى البابي الحلبي، القاهرة.
(50) الشوكاني: محمد بن علي بن محمد.
نيل الأوطار، الطبعة الأخيرة، مصطفى الحلبي وأولاده، القاهرة.(27/338)
إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، الطبعة الأولى 1356 هـ، مصطفى الحلبي، القاهرة.
(51) الشيرازي: أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي.
التبصرة في أصول الفقه، تحقيق محمد حسن هيتو، دار الفكر، دمشق.
المهذب، طبعة عيسى الحلبي، القاهرة.
(52) الصفدي: صلاح الدين الصفدي.
الوافي بالوفيات. . طبعة ألمانيا.
(53) الصنعاني: محمد بن إسماعيل بن صلاح.
العدة على إحكام الأحكام، المطبعة السلفية، القاهرة.
(54) العسقلاني: شهاب الدين بن حجر.
الإصابة في تمييز الصحابة، طبعة دار صادر، بيروت.
تهذيب التهذيب، الطبعة الأولى 1325 هـ، حيدر آباد، الهند.
الدار الكامنة في أعيان المائة الثامنة، طبعة حيدر آباد 1392 هـ الهند.
فتح الباري شرح صحيح البخاري، المطبعة السلفية 1380 هـ القاهرة.
(55) الغزالي: حجة الإسلام أبو حامد.
المنخول من تعليقات الأصول، الطبعة الأولى، تحقيق محمد حسن هيتو.
(56) القرافي: شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس.
شرح تنقيح الفصول، شركة الطباعة الفنية المتحدة، الطبعة الأولى 1393 هـ القاهرة.
(57) القرطبي: أبو عبد الله محمد أحمد الأنصاري.
الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي) مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية، القاهرة.
(58) الكاساني: علاء الدين أبو بكر بن مسعود.
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، مطبعة الإمام، الطبعة الأولى، القاهرة.
(59) الكفوي: أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني.
الكليات.
(60) الكلوذاني: أبو الخطاب محفوظ بن أحمد بن الحسين.
التمهيد في أصول الفقه طبعة جامعة أم القرى.
(61) الإمام مالك: أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك.
موطأ الإمام مالك، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة.
نسخة ثانية من الموطأ دار الكتب العلمية، بيروت.
(62) المحلاوي: محمد عبد الرحمن عيد المحلاوي.
تسهيل الوصول إلى علم الأصول، طبعة مصطفى الحلبي، القاهرة.
(63) المرغيناني: برهان الدين أبو الحسن علي بن أبي بكر.
الهداية شرح بداية المبتدئ، الطبعة الأخيرة، مطبعة مصطفى الحلبي، القاهرة.
المراغي: عبد الله مصطفى المراغي.
الفتح المبين في طبقات الأصوليين، الطبعة الثانية 1394 هـ، محمد أمين دمج وشركاه بيروت.
(64) مسلم: الإمام مسلم بن الحجاج القشيري.
صحيح مسلم، دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الأولى 1374 هـ القاهرة.
(65) الموصلي: أبو الفضل مجد الدين عبد الله بن محمود.(27/339)
الاختيار لتعليل المختار، مطابع الشعب، القاهرة.
(66) النسائي: أبو عبد الرحمن بن شعيب.
سنن النسائي مع شرح السيوطي وحاشية السندي، دار الكتب العلمية، بيروت.
(67) النسفي: حافظ الدين أبو البركات عبد الله بن أحمد.
كشف الأسرار شرح المصنف على المنار الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت.
المنار مع شرحه لابن ملك وحواشيه، طبعة المطبعة العثمانية 1315 هـ.
(68) النفراوي: أحمد بن غنيم بن سالم بن مهنا.
الفواكه الدواني شرح رسالة أبي زيد القيرواني، مطبعة مصطفى الحلبي، القاهرة.
(69) النووي: أبو زكريا يحيى بن شرف.
المجموع شرح المهذب، مطبعة العاصمة، الطبعة الأولى، القاهرة.(27/340)
من
قرارات المجمع الفقهي
القرار الأول
حول (الوجودية)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وبعد:
فقد درس مجلس المجمع الفقهي البحث الذي قدمه الدكتور محمد رشيدي عن (الوجودية) بعنوان "كيف يفهم المسلم فكرة الوجودية" وما جاء فيه من شرح لفكرتها ولمراحلها الثلاث التي تطور فيها هذا المذهب الأجنبي إلى ثلاثة فروع تميز كل منها عن الآخر تميزا أساسيا جذريا حتى يكاد لا يبقى بين كل فرع منها والآخر صلة أو جذور مشتركة.
وتبين أن المرحلة الوسطى منها كانت تطورا للفكرة من أساس المادية المحض التي تقوم على الإلحاد وإنكار الخالق إلى قفزة نحو الإيمان بما لا يقبله العقل.
وتبين أيضا أن المرحلة الثالثة رجعت بفكرة الوجودية إلى إلحاد انحلالي يستباح فيه تحت شعار الحرية كل ما ينكره الإسلام والعقول السليمة.
وفي ضوء ما تقدم بيانه يتبين أنه حتى فيما يتعلق بالمرحلة الثانية المتوسطة من هذه الفكرة وهي التي يتسم أصحابها بالإيمان بوجود الخالق والغيبيات الدينية وإن كان يقال إنها رد فعل للمادية والتكنولوجيا والعقلانية المطلقة.(27/341)
وكل ما يمكن أن يقوله المسلم عنها في ضوء الإسلام: هو أن هذه المرحلة الثانية منها أو عقيدة الفرع الثاني من الوجودية رأي أصحابها في الدين على أساس العاطفة دون العقل لا يتفق مع الأسس الإسلامية في العقيدة الصحيحة المبنية على النقل الصحيح والعقل السليم في إثبات وجود الله تعالى وما له من الأسماء والصفات وفي إثبات الرسالات على ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وبناء على ذلك يقرر مجلس المجمع بالإجماع:
إن فكرة الوجودية في جميع مراحلها وتطوراتها وفروعها لا تتفق مع الإسلام، لأن الإسلام إيمان يعتمد النقل الصحيح والعقل السليم معا في وقت واحد.
فلذا لا يجوز للمسلم بحال من الأحوال أن ينتمي إلى هذا المذهب متوهما أنه لا يتنافى مع الإسلام، كما أنه لا يجوز بطريق الأولوية أن يدعو إليه أو ينشر أفكاره الضالة.
نائب الرئيس ... رئيس مجلس المجمع الفقهي
محمد علي الحركان ... عبد الله بن حميد
الأعضاء
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... محمد بن عبد الله السبيل ... محمد بن صالح بن عثيمين
محمد سالم بن عبد الودود ... حسنين محمد مخلوف ... عبد المحسن العباد
مصطفى الزرقاء ... محمد رشيد قباني ... اللواء محمود شيت خطاب
محمد رشيدي ... محمد الشاذلي النيفر ... محمد محمود الصواف
عبد القدوس الهاشمي(27/342)
القرار الرابع
حكم البهائية والانتماء إليها
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد:
فقد استعرض مجلس المجمع الفقهي نحلة البهائية التي ظهرت في بلاد فارس (إيران) في النصف الثاني من القرن الماضي ويدين بها فئة من الناس منتشرون في البلاد الإسلامية والأجنبية إلى اليوم.
ونظر المجلس فيما كتبه ونشره كثير من العلماء والكتاب وغيرهم من المطلعين على حقيقة هذه النحلة ونشأتها ودعوتها وكتبها وسيرة مؤسسها المدعو ميرزا حسين علي المازندراني المولود في 20 من المحرم 1233هـ - 12 من تشرين الثاني / نوفمبر 1817م وسلوك أتباعه ثم خليفته ابنه عباس أفندي المسمى عبد البهاء وتشكيلاتهم الدينية التي تنظم أعمال هذه الفئة ونشاطها.
وبعد المداولة واطلاع المجلس على الكثير من المصادر الثابتة والتي يعرضها بعض كتب البهائيين أنفسهم تبين لمجلس المجمع ما يلي:
1 - أن البهائية دين جديد مخترع قام على أساس البابية التي هي أيضا دين جديد مخترع ابتداعه المسمى باسم (علي محمد) المولود في أول المحرم 1235هـ - من تشرين الأول \ أكتوبر 1819م في مدينة شيراز. وقد اتجه في أول أمره اتجاها صوفيا فلسفيا على طريقة الشيخية التي ابتدعها شيخه الضال كاظم الرشتي خليفة المدعو أحمد زين الدين الأحسائي زعيم طريقة الشيخية الذي زعم أن جسمه كجسم الملائكة نوراني وانتحل سفسطات وخرافات أخرى باطلة.
وقد قال علي محمد بقولة شيخه هذه، ثم انقطع عنه، وبعد فترة ظهر(27/343)
للناس بمظهر جديد أنه هو علي بن أبي طالب الذي يروي فيه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أنا مدينة العلم وعلي بابها (1) » ومن ثم سمى نفسه "الباب" ثم ادعى أنه الباب للمهدي المنتظر، ثم قال إنه المهدي نفسه) ثم في أخريات أيامه ادعى الألوهية وسمى نفسه الأعلى فلما نشأ ميرزا حسين علي المازندراني (المسمى بالبهاء) المذكور وهو معاصر للباب اتبع الباب في دعوته وبعد أن حوكم وقتل لكفره وفتنته أعلن ميرزا حسين علي أنه موصى له في الباب برئاسة البابيين. وهكذا صار رئيسا عليهم وسمى نفسه (بهاء الدين)
ثم تطورت به الحال حتى أعلن (أن جميع الديانات جاءت مقدمات لظهوره وأنها ناقصة لا يكملها إلا دينه، وأنه هو المتصف بصفات الله، وهو مصدر أفعال الله وأن اسم الله الأعظم هو اسم له، وأنه هو المعني برب العالمين، وكما نسخ الإسلام الأديان التي سبقته تنسخ البهائية الإسلام) .
وقد قام الباب وأتباعه بتأويلات لآيات القرآن العظيم غاية في الغرابة والباطنية بتنزيلها على ما يوافق دعوته الخبيثة. وأن له السلطة في تغيير أحكام الشرائع الإلهية وأتى بعبادات مبتدعة يعبده بها أتباعه.
وقد تبين للمجمع الفقهي بشهادة النصوص الثابتة عن عقيدة البهائيين التهديمية للإسلام ولا سيما قيامها على أساس الوثنية البشرية في دعوى ألوهية البهائية وسلطته في تغيير شريعة الإسلام. يقرر المجمع الفقهي بإجماع الآراء خروج البهائية والبابية عن شريعة الإسلام واعتبارها حربا عليه وكفر أتباعهما كفرا بواحا سافرا لا تأويل فيه.
وإن المجمع ليحذر المسلمين في جميع بقاع الأرض من هذه الفئة المجرمة الكافرة ويهيب بهم أن يقاوموها ويأخذوا حذرهم منها لا سيما أنها قد
__________
(1) سنن الترمذي المناقب (3723) .(27/344)
ثبت مساندة الدول الاستعمارية لها لتمزيق الإسلام والمسلمين. . والله الموفق.
نائب الرئيس ... الرئيس
محمد علي الحركان ... عبد الله بن حميد
الأمين العالم لرابطة العالم الإسلامي ... رئيس مجلس القضاء الأعلى في المملكة العربية السعودية
الأعضاء
عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية ... محمد محمود الصواف ... محمد بن صاالح بن عثيمين
مصطفى الزرقاء ... محمد بن عبد الله السبيل ... محمد رشيد قباني
محمد رشيدي ... عبد القدوس الهاشمي الندوي ... أبو بكر جومي(27/345)
صفحة فارغة(27/346)
مجلس هيئة كبار العلماء
يؤيد حكم الإعدام في الذين حاربوا الله ورسوله
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. أما بعد: فلقد سرنا جميعا نحن رئيس وأعضاء مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، وسوف يسر كل مسلم في أنحاء المعمورة تنفيذ حكم الإعدام في الجماعة الذين حاربوا الله ورسوله، وأخلوا بالأمن في بيت الله الحرام، والشهر الحرام، وروعوا الحجاج المسلمين والقاطنين في بلده الأمين، بما قاموا به من تفجيرات في موسم حج عام 1409هـ بجوار المسجد الحرام، ولا شك أن ذلك جريمة كبرى، وفساد في الأرض، وظلم لعباد الله في بلده الحرام فجزى الله خادم الحرمين الشريفين وولي عهده، وحكومته الرشيدة عن ذلك خير الجزاء. وإن المجلس يؤيد خادم الحرمين الشريفين في تنفيذ الحكم الشرعي فيهم، ويسأل الله أن يحمي به الحرمين الشريفين وجميع أنحاء المملكة العربية السعودية من عبث العابثين، وفساد المفسدين، وجزى الله القضاة عن حكمهم خيرا، فلقد حكموا بما دل عليه كتاب الله في قوله سبحانه: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1)
وقوله عز شأنه: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (2)
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) سورة الحج الآية 25(27/347)
وبما دل عليه حكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - في العرنيين الذين اعتدوا على إبل المسلمين وراعيها فسمروا عيني الراعي وقتلوه، وأخذوا الإبل، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - في آثارهم فجيء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمر أعينهم، وتركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون، حتى ماتوا. وإننا نشكر الله - عز وجل - على ما من به من فضيحة هؤلاء المجرمين، وتمكين سلطات الأمن من القبض عليهم، ثم نشكر خادم الحرمين الشريفين على تنفيذ حكم الله فيهم الذي تقر به عين كل مسلم، فلله الحمد على ذلك، ونسأله سبحانه أن يخذل أعداء الإسلام أينما كانوا، وأن يبطل كيدهم، ويحفظ بلده الأمين، وحرم رسوله الكريم، وسائر بلاد المسلمين من كل سوء، وأن يوفق خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده الأمين، وسائر المسئولين في حكومته، لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه، وكل من سار على نهجه، إنه سميع قريب.
هيئة كبار العلماء
عبد الرزاق عفيفي ... سليمان بن عبيد ... عبد العزيز بن صالح
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد المجيد حسن ... صالح بن غصون
صالح بن محمد اللحيدان ... راشد بن خنين ... محمد بن جبير
إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... عبد العزيز بن عبد الله آل شيخ ... محمد بن صالح العثيمين
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الله بن سليمان المنيع ... حسن بن جعفر العتمي
عبد الله بن عبد الرحمن البسام ... صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان(27/348)
قرار رقم "164"
وتاريخ 26 \ 2 \ 1410هـ
في حكم جمعيات الموظفين وغيرهم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير الخلق أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد:
فقد نظر مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الرابعة والثلاثين المنعقدة في مدينة الطائف ابتداء من 16 \ 2 \ 1410هـ إلى 26 \ 2 \ 1410هـ في الاستفتاءات المقدمة من بعض الموظفين مدرسين وغيرهم إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد والمحالة من سماحته إلى المجلس عن حكم ما يسمى بجمعيات الموظفين وصورتها: "أن يتفق عدد من الموظفين يعملون في الغالب في جهة واحدة مدرسة أو دائرة أو غيرهما على أن يدفع كل واحد منهم مبلغا من المال مساويا في العدد لما يدفعه الآخرون وذلك عند نهاية كل شهر ثم يدفع المبلغ كله لواحد منهم وفي الشهر الثاني يدفع لآخر وهكذا حتى يتسلم كل واحد منهم مثل ما تسلمه من قبله سواء بسواء دون زيادة أو نقص".(27/349)
كما اطلع على البحث الذي أعده فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان المنيع في حكم القرض الذي يجر نفعا. ثم جرت مداولات ومناقشات لم يظهر للمجلس بعدها بالأكثرية ما يمنع هذا النوع من التعامل لأن المنفعة التي تحصل للمقرض لا تنقص المقترض شيئا من ماله وإنما يحصل المقترض على منفعة مساوية لها ولأن فيه مصلحة لهم جميعا من غير ضرر على واحد منهم أو زيادة نفع لآخر. والشرع المطهر لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها على أحد بل ورد بمشروعيتها. . . وبالله التوفيق. . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
هيئة كبار العلماء(27/350)
حديث شريف
عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر على مسلم ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (1) »
رواه مسلم وأبو داود واللفظ لأبي داود
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي البر والصلة (1930) ، سنن أبو داود الأدب (4946) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) .(27/351)
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (1)
(سورة النساء الآية 93)
__________
(1) سورة النساء الآية 93(28/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(28/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ـ الرياض
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(28/3)
المحتويات
الافتتاحية
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
موضوع العدد:
قتل الغيلة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 23
الفتاوى:
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 51
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 107(28/4)
البحوث:
أبو موسى الأشعري الصحابي السفير القائد اللواء محمود شيت خطاب 125
مخطوطة "فصل الجواب عن استحقاق المتأخر فضل الصحاب" تأليف الشيخ حسن بن حسين بن محمد بن عبد الوهاب
تحقيق / الوليد بن عبد الرحمن الفريان 213
الخلوة وما يترتب عليها من أحكام فقهية د. / عبد الله بن عبد المحسن الطريقي 239
الدفاع عن السنة النبوية وطرق الاستدلال د. / الطبلاوي محمود سعد 285
من قرارات المجمع الفقهي 319
قرار هيئة كبار العلماء في مسألة اعتبار اختلاف مطالع الأهلة من عدمه 321
نداء وتذكير لمساعدة المجاهدين الأفغان والمجاهدين في فلسطين سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 324(28/5)
صفحة فارغة(28/6)
الافتتاحية
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فإن من أهم المهمات وأفضل القربات، التناصح والتوجيه إلى الخير، والتواصي بالحق والصبر عليه، والتحذير مما يخالفه ويغضب الله عز وجل، ويباعد من رحمته، وأسأله عز وجل أن يصلح قلوبنا وأعمالنا وسائر المسلمين، وأن يمنحنا الفقه في دينه، والثبات عليه، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح جميع ولاة أمور المسلمين ويوفقهم لكل خير، ويصلح لهم البطانة، ويعينهم على كل ما فيه صلاح العباد والبلاد، ويمنحهم الفقه في الدين، ويشرح صدورهم لتحكيم شريعته، والاستقامة عليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها المسلمون؛ إن موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موضوع عظيم، جدير بالعناية؛ لأن في تحقيقه مصلحة الأمة ونجاتها، وفي إهماله الخطر العظيم والفساد الكبير واختفاء الفضائل وظهور الرذائل. وقد أوضح الله جل وعلا في كتابه العظيم منزلته من الإسلام، وبين سبحانه أن منزلته عظيمة، حتى إنه سبحانه في بعض الآيات قدمه على الإيمان الذي هو أصل الدين وأساس الإسلام، كما في قوله تعالى(28/7)
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) ولا نعلم السر في هذا التقديم إلا عظم شأن هذا الواجب وما يترتب عليه من المصالح العظيمة العامة، ولا سيما في هذا العصر، فإن حاجة المسلمين وضرورتهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شديدة؛ لظهور المعاصي وانتشار الشرك والبدع في غالب المعمورة، وقد كان المسلمون في عهده -صلى الله عليه وسلم- وعهد أصحابه وفي عهد السلف الصالح يعظمون هذا الواجب ويقومون به خير قيام، فالضرورة إليه بعد ذلك أشد وأعظم؛ لكثرة الجهل وقلة العلم وغفلة الكثير من الناس عن هذا الواجب العظيم.
وفي عصرنا هذا صار الأمر أشد والخطر أعظم؛ لانتشار الشرور والفساد، وكثرة دعاة الباطل وقلة دعاة الخير في غالب البلاد كما تقدم، ومن أجل هذا أمر الله سبحانه وتعالى به ورغب فيه، وقدمه في آية آل عمران على الإيمان، وهي قوله سبحانه وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (2) الآية - يعني أمة محمد - عليه الصلاة والسلام - فهي خير الأمم وأفضلها عند الله، كما في الحديث الصحيح، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل (3) » .
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موجود في الأمم السابقة، بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب. وأصل المعروف توحيد الله والإخلاص له، وأصل المنكر الشرك بالله وعبادة غيره.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2) سورة آل عمران الآية 110
(3) مسند أحمد بن حنبل (5/3) .(28/8)
وجميع الرسل بعثوا يدعون الناس إلى توحيد الله، الذي هو أعظم المعروف، وينهون الناس عن الشرك بالله، الذي هو أعظم المنكر. ولما فرط بنو إسرائيل في ذلك وأضاعوه، قال الله جل وعلا في حقهم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (1) ثم فسر هذا العصيان فقال سبحانه: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (2) ، فجعل هذا من أكبر عصيانهم واعتدائهم، وجعله التفسير لهذه الآية: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (3) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} (4) .
وما ذلك إلا لعظم الخطر في ترك هذا الواجب، وأثنى الله جل وعلا على أمة في ذلك منهم فقال سبحانه في سورة آل عمران: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (5) {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} (6) {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (7) هذه طائفة من أهل الكتاب لم يصبها ما أصاب الذين ضيعوه، فأثنى الله عليهم سبحانه وتعالى في ذلك، وفي آية أخرى من كتاب الله عز وجل في سورة التوبة قدم سبحانه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وما ذلك إلا لعظم شأنه. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، ومع ذلك قدمه في هذه الآية على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (8)
__________
(1) سورة المائدة الآية 78
(2) سورة المائدة الآية 79
(3) سورة المائدة الآية 78
(4) سورة المائدة الآية 79
(5) سورة آل عمران الآية 113
(6) سورة آل عمران الآية 114
(7) سورة آل عمران الآية 115
(8) سورة التوبة الآية 71(28/9)
فقدم هنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إقام الصلاة، مع أن الصلاة عمود الإسلام، وهي أعظم الأركان بعد الشهادتين، فلأي معنى قدم هذا الواجب؟
لا شك أنه قدم لعظم الحاجة إليه وشدة الضرورة إلى القيام به، ولأن بتحقيقه تصلح الأمة ويكثر فيها الخير وتظهر فيها الفضائل وتختفي منها الرذائل، ويتعاون أفرادها على الخير، ويتناصحون ويجاهدون في سبيل الله، ويأتون كل خير ويذرون كل شر، وبإضاعته والقضاء عليه تكون الكوارث العظيمة والشرور الكثيرة، وتفترق الأمة وتقسو القلوب أو تموت، وتظهر الرذائل وتنتشر وتختفي الفضائل ويهضم الحق، ويظهر صوت الباطل، وهذا أمر واقع، ولا ينهى فيها عن المنكر، فإنه تنتشر فيها الرذائل وتظهر فيها المنكرات، ويسود فيها الفساد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وبين سبحانه أن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والمقيمين للصلاة والمؤتين للزكاة والمطيعين لله ولرسوله هم أهل الرحمة، فقال سبحانه وتعالى: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} (1) فدل ذلك على أن الرحمة إنما تنال بطاعة واتباع شريعته، ومن أخص ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تنال الرحمة بالأماني ولا بالأنساب ككونه من قريش، أو من بني هاشم أو من بني فلان، ولا بالوظائف، ككونه ملكا أو رئيس جمهورية أو وزيرا أو غير ذلك من الوظائف، ولا تنال أيضا بالأموال والتجارات، ولا بوجود كثرة المصانع، ولا بغير هذا من شئون الناس، وإنما تنال الرحمة بطاعة الله ورسوله، واتباع شريعته.
__________
(1) سورة التوبة الآية 71(28/10)
ومن أعظم ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله في كل شيء، فهؤلاء هم أهل الرحمة، وهم الذين في الحقيقة يرجون رحمة الله، وهم الذين في الحقيقة يخافون الله ويعظمونه، فما أظلم من أضاع أمره، وارتكب نهيه، وإن زعم أنه يخافه ويرجوه، وإنما الذي يعظم الله حقا، ويخافه ويرجوه حقا، من أقام أمره واتبع شريعته، وجاهد في سبيله، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، قال سبحانه في سورة البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) فجعلهم سبحانه راجين رحمة الله لما آمنوا وجاهدوا وهاجروا لإيمانهم هجرتهم وجهادهم، ما قال: إن الذين بنوا القصور أو الذين عظمت تجارتهم أو تنوعت أعمالهم، أو الذين ارتفعت أنسابهم هم الذين يرجون رحمة الله، بل قال سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) فأبان سبحانه أن هؤلاء الذين هذه صفاتهم وهي: الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هم المفلحون، والمعنى أنهم هم المفلحون على الكمال والتمام، وإن كان غيرهم من المؤمنين مفلحا إذا تخلى عن بعض هذه الصفات لعذر شرعي، لكن المفلحون على الكمال والتمام هم هؤلاء الذين دعوا إلى الخير وأمروا بالمعروف وبادروا إليه ونهوا عن المنكر وابتعدوا عنه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 218
(2) سورة آل عمران الآية 104(28/11)
أما الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لأغراض أخرى كرياء وسمعة أو خطر عاجل أو أسباب أخرى، أو يتخلفون عن فعل المعروف ويرتكبون المنكر، فهؤلاء من أخبث الناس ومن أسوئهم عاقبة.
وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه- أي: أمعاؤه - فيدور في النار كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع عليه أهل النار، فيقولون: ما لك يا فلان؟! ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! قال: فيقول لهم: بلى ولكني كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه (1) » .
هذه حال من خالف قوله فعله - نعوذ بالله - تسعر به النار، ويفضح على رءوس الأشهاد، يتفرج عليه أهل النار، ويتعجبون كيف يلقى في النار.
هذا ويدور في النار كما يدور الحمار بالرحى، وتندلق أقتاب بطنه، يسحبها، لماذا؟! لأنه كان يأمر بالمعروف ولا يأتيه، وينهى عن المنكر ويأتيه، فعلم بذلك أن المقصود الأمر بالمعروف مع فعله، والنهي عن المنكر مع تركه.
وهذا هو الواجب على كل مسلم، وهذا الواجب العظيم أوضح الله شأنه في كتابه الكريم ورغب فيه، وحذر من تركه، ولعن من تركه.
فالواجب على أهل الإسلام أن يعظموه وأن يبادروا إليه وأن يلتزموا به طاعة لربهم عز وجل وامتثالا لأمره، وحذرا من عقابه سبحانه وتعالى.
وقد جاءت سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تؤيد هذا الأمر وتبين ذلك أعظم بيان وتشرحه، فيقول المصطفى عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (2) » . خرجه الإمام مسلم في صحيحه.
__________
(1) صحيح البخاري كتاب بدء الخلق (3267) ، صحيح مسلم الزهد والرقائق (2989) ، مسند أحمد بن حنبل (5/207) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .(28/12)
فبين -صلى الله عليه وسلم- مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الثلاث:
المرتبة الأولى: الإنكار باليد مع القدرة، وذلك بإراقة أواني الخمر، وكسر(28/12)
آلات اللهو ومنع من أراد الشر بالناس وظلمهم من تنفيذ مراده إن استطاع ذلك كالسلطان ونحوه من أهل القدرة، وكإلزام الناس بالصلاة، وبحكم الله الواجب اتباعه ممن يقدر على ذلك، إلى غير هذا مما أوجب الله.
وهكذا المؤمن من أهله وولده، يلزمهم بأمر الله، ويمنعهم مما حرم الله، باليد إذا لم ينفع فيهم الكلام. وهكذا من له ولاية من أمير أو محتسب، أو شيخ قبيلة أو غيرهم ممن له ولاية من جهة ولي الأمر، أو من جهة جماعته، حيث ولوه عليهم، عند فقد الولاية العامة يقوم بهذا الواجب حسب طاقته، فإن عجز انتقل إلى: المرتبة الثانية: وهي اللسان، يأمرهم باللسان وينهاهم، كأن يقول: يا قوم، اتقوا الله يا إخواني، اتقوا الله، صلوا وأدوا الزكاة، اتركوا هذا المنكر، افعلوا كذا، دعوا ما حرم الله، بروا والديكم، صلوا أرحامكم، إلى غير هذا، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر باللسان، ويعظهم ويذكرهم ويتحرى الأشياء التي يفعلونها حتى ينبههم عليها، ويعاملهم بالأسلوب الحسن، مع الرفق، يقول -عليه الصلاة والسلام-: «إن الله يحب الرفق في الأمر كله (1) » . ويقول -صلى الله عليه وسلم-: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه (2) » .
وجاء جماعة من اليهود فدخلوا عليه -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: السام عليك يا محمد. يعنون الموت، وليس مرادهم السلام،. . فسمعتهم عائشة -رضي الله عنها- فقالت: عليكم السام واللعنة. وفي لفظ آخر: " ولعنكم الله، وغضب عليكم". فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مهلا يا عائشة، إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله". قالت: " ألم تسمع ما قالوا؟! قال: ألم تسمعي ما قلت لهم؟ قلت لهم: " وعليكم، فإنه يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا (3) » . هذا وهم يهود رفق بهم -صلى الله عليه وسلم- لعلهم يهتدون ولعلهم ينقادون للحق، ولعلهم يستجيبون لداعي الإيمان.
فهكذا الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الموفق، يتحرى الرفق والعبارات
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6024) ، صحيح مسلم السلام (2165) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2701) ، سنن الدارمي الرقاق (2794) .
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/125) .
(3) صحيح البخاري استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6927) ، صحيح مسلم السلام (2165) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2701) ، سنن الدارمي الرقاق (2794) .(28/13)
المناسبة، والألفاظ الطيبة عندما يمر على من قصر في ذلك في المجلس أو في الطريق أو في أي مكان يدعوهم بالرفق والكلام الطيب، حتى ولو جادلوه في شيء خفي عليهم أو كابروا فيه يجادلهم بالتي هي أحسن، كما قال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) وقال سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) .
من هم أهل الكتاب؟ هم اليهود والنصارى وهم كفار، ومع ذلك يقول الله عنهم: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (3) والمعنى أن من ظلم منهم وتعدى وأساء الكلام فإنه ينتقل معه إلى علاج آخر غير الجدال بالتي هي أحسن، كما قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (4) وقال سبحانه: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (5) لكن ما دام المقام مقام تعليم ودعوة وإيضاح للحق، فإنه يكون بالتي هي أحسن؛ لأن هذا أقرب إلى الخير، قال سفيان الثوري رحمه الله: " ينبغي للآمر والناهي أن يكون رفيقا فيما يأمر به، رفيقا فيما ينهى عنه، عدلا فيما يأمر به، عدلا فيما ينهى عنه، عالما بما يأمر به، عالما بما ينهى عنه ".
وهذا معنى كلام السلف رحمهم الله، تحري الرفق مع العلم والحلم والبصيرة، لا يأمر ولا ينهى إلا عن علم، لا عن جهل، ويكون مع ذلك رفيقا عاملا بما يدعو إليه، تاركا ما ينهى عنه، حتى يقتدى به.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة العنكبوت الآية 46
(3) سورة العنكبوت الآية 46
(4) سورة الشورى الآية 40
(5) سورة البقرة الآية 194(28/14)
من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل (1) » .
وهذا الحديث مثل حديث أبي سعيد السابق المتضمن الإنكار باليد، ثم اللسان ثم القلب. فالخلوف التي تخلف بعد الأنبياء هذا حكمهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويعلمون أحكام الله، ويجاهدون في ذلك باليد، ثم اللسان ثم القلب.
وهكذا في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- يجب على علمائهم وأمرائهم وأعيانهم وفقهائهم أن يتعهدوا بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهل وإرشاد الضال، وإقامة الحدود والتعزيرات الشرعية؛ حتى يستقيم الناس ويلزموا الحق، ويقيموا عليهم الحدود الشرعية ويمنعوهم من ارتكاب ما حرم الله؛ حتى لا يتعدى بعضهم على بعض أو ينتهكوا محارم الله.
وقد ثبت عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- الخليفة الراشد أنه قال: " إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". ويروى عن عمر -رضي الله عنه- أيضا.
وهذا صحيح، فكثير من الناس لو جئته بكل آية، لم يمتثل، لكن إذا جاءه وازع السلطان بالضرب والسجن ونحو ذلك أذعن، وترك باطله. لماذا؟ لأن قلبه مريض، ولأنه ضعيف الإيمان أو معدوم الإيمان. . فلهذا لا يتأثر بالآيات والأحاديث. . لكن إذا خاف من السلطان ارتدع ووقف عند حده، ووازع السلطان له شأن عظيم، ولهذا شرع الله لعباده القصاص والحدود والتعزيزات؛ لأنها تردع عن الباطل وأنواع الظلم، ولأن الله يقيم بها الحق، فوجب على ولاة الأمور أن يقيموها، وأن يعينوا من يقيمها، وأن يلاحظوا الناس ويلزموهم بالحق، ويوقفوهم عند حدهم حتى لا يهلكوا، وينقادوا مع
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (50) ، مسند أحمد بن حنبل (1/458) .(28/15)
تيار الباطل، ويكونوا عونا للشيطان وجنده علينا.
المرتبة الثالثة: إذا عجز المؤمن عن الإنكار باليد واللسان انتهى إلى القلب، يكره المنكر بقلبه ويبغضه، ولا يكون جليسا لأهله. وروي عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال له بعض الناس: هلكت إن لم آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر. فقال له -رضي الله عنه-: هلكت إن لم يعرف قلبك المعروف وينكر المنكر.
فلا بد يا أخي أن تعرف المعروف بالتعلم والتفقه في الدين، ولا بد أن تعرف المنكر بذلك، ثم تقوم بالواجب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالتبصر والتفقه في الدين من علامات السعادة ودلائل أن الله أراد بالعبد خيرا، كما في الصحيحين عن معاوية -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » . فإذا رأيت الرجل يتبع حلقات العلم، ويسأل عن العلم، ويتفقه ويتبصر فيه، فذلك من علامات أن الله أراد به خيرا، فليلزم ذلك، وليجتهد ولا يمل ولا يضعف. يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (2) » رواه الإمام مسلم في صحيحه.
فطلب العلم له شأن عظيم، ومن الجهاد في سبيل الله، ومن أسباب النجاة والدلائل على الخير، ويكون بحضور حلقات العلم، ويكون بمراجعة الكتب المفيدة، إذا كان ممن يفهمها، ويكون بسماع الخطب والمواعظ، ويكون بسؤال أهل العلم. . كل ذلك من الطرق المفيدة، ويكون أيضا بحفظ القرآن الكريم، وهو الأصل في العلم، فالقرآن رأس كل علم، وهو الأساس العظيم، وهو حبل الله المتين، وهو أعظم كتاب وأشرف كتاب، وهو أعظم قائد إلى الخير، وأعظم ناه عن الشر.
فوصيتي لكل مؤمن، ولكل مؤمنة، العناية بالقرآن، والإكثار من تلاوته، والحرص على حفظه، أو ما تيسر منه، مع التدبر والتعقل، ففيه الهدى
__________
(1) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .(28/16)
والنور، كما قال سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1) وقال عز من قائل: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) ويقول تبارك وتعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (3) .
فعلينا أن نعنى بكتاب الله تلاوة وحفظا، وتدبرا وتفقها، وعملا وسؤالا عما أشكل، وهكذا سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي الوحي الثاني، وهي الأصل الثاني، وهي المفسرة لكتاب الله والدالة عليه، فعلى طالب العلم وعلى كل مسلم أن يعنى بذلك حسب طاقته وحسب علمه بالحفظ والمراجعة، كحفظ الأربعين النووية، وتكملتها لابن رجب خمسين حديثا، وهي من أجمع الأحاديث وأنفعها، وهي من جوامع الكلم، فينبغي حفظها للرجل والمرأة.
ومثل ذلك عمدة الحديث للحافظ عبد الغني المقدسي، كتاب جمع أربعمائة حديث وزيادة يسيرة من أصح الأحاديث في أبواب العلم. . فإذا تيسر حفظها فذلك من نعم الله العظيمة.
وهكذا بلوغ المرام للحافظ ابن حجر، كتاب عظيم مختصر، ومفيد محرر، فإذا تيسر لطالب العلم حفظه فذلك خير عظيم. ومما يتعلق بكتب العقيدة: كتابان جليلان للشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، هما: كتاب التوحيد، وكتاب كشف الشبهات. ومن كتب العقيدة المهمة كتاب العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، فهو كتاب جليل مختصر عظيم الفائدة في مجمل عقيدة أهل السنة والجماعة، وكتاب الإيمان لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب كتاب عظيم جمع فيه جملة من الأحاديث المتعلقة بالإيمان. فينبغي لطالب العلم وطالبة العلم أن
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) سورة ص الآية 29
(3) سورة محمد الآية 24(28/17)
يحفظا ما تيسر من هذه الكتب المفيدة وأشباهها، مع العناية بالقرآن الكريم والإكثار من تلاوته وحفظه، أو ما تيسر منه كما تقدم، ومع العناية بالمذاكرة مع الزملاء وسؤال المدرسين والعلماء الذين يعتقد فيهم الخير والعلم عما أشكل عليه، وسأل ربه التوفيق والإعانة، ولا يضعف ولا يكسل ويحفظ وقته ويجعله أجزاء: جزء من يومه وليله لتلاوة القرآن الكريم وتدبره، وجزء لطلب العلم والتفقه في الدين، وحفظ المتون ومراجعة ما أشكل عليه، وجزء لحاجته مع أهله، وجزء لصلاته وعبادته وأنواع الذكر والدعاء.
ومما يفيد طالب العلم وطالبة العلم فائدة عظيمة الاستماع لبرنامج نور على الدرب، فهو برنامج مفيد لطالب العلم، وعامة المسلمين وغيرهم؛ لأن فيه أسئلة وأجوبة مهمة لجماعة من المشايخ المعروفين بالخير والعلم، فينبغي العناية بهذا البرنامج واستماع ما فيه من فائدة، وهو يذاع مرتين في كل ليلة بين المغرب والعشاء من نداء الإسلام، والساعة التاسعة والنصف من إذاعة القرآن الكريم.
ومما يتعلق بموضوعنا: موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما ورد في الحديث أيضا عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: يقول الله عز وجل: «مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أستجيب لكم، وقبل أن تسألوني فلا أعطيكم، وقبل أن تستنصروني فلا أنصركم (1) » . وفي لفظ آخر من حديث حذيفة يقول -عليه الصلاة والسلام-: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعونه فلا يستجيب لكم (2) » . رواه الإمام أحمد.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المهمات العظيمة كما سبق، وفي حديث ابن مسعود عند أحمد وأبي داود والترمذي يقول -عليه الصلاة والسلام-: «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم، فلم ينتهوا، فجالسوهم وآكلوهم وشاربوهم، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب
__________
(1) سنن ابن ماجه الفتن (4004) ، مسند أحمد بن حنبل (6/159) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (5/389) .(28/18)
بعضهم ببعض، ثم لعنهم الله على لسان أنبيائهم داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (1) » . وفي لفظ آخر: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تفعل من المعاصي، ثم يلقاه في الغد فلا يمنعه ما رآه منه أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض ثم لعنهم (2) » .
فعلينا أن نحذر من أن يصيبنا ما أصاب أولئك، وقد جاء في بعض الأحاديث أن إهمال هذا الواجب، وعدم العناية به، أعني واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب رد الدعاء وعدم النصر كما تقدم.
ولا شك أن هذه مصيبة عظيمة من عقوبات ترك هذا الواجب أن يخذل المسلمون وأن يتفرقوا وأن يسلط عليهم أعداؤهم، وأن لا يستجاب دعاؤهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقد يكون هذا الواجب فرض عين على بعض الناس، إذا رأى المنكر وليس عنده من يزيله غيره، فإنه يجب أن يزيله مع القدرة، لما سبق من قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (3) » خرجه مسلم في الصحيح.
أما إن كانوا جماعة، فإنه يكون في حقهم فرض كفاية في البلد أو القرية أو القبيلة، كسائر فروض الكفايات، وإذا لم يكن في البلد أو القبيلة إلا عالم واحد وجب عليه عينا أن يعلم الناس، ويدعوهم إلى الله، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر حسب طاقته، لما تقدم من الأحاديث، ولقوله سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (4)
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3047) ، سنن أبو داود الملاحم (4336) ، سنن ابن ماجه الفتن (4006) .
(2) سنن الترمذي تفسير القرآن (3047) ، سنن أبو داود الملاحم (4336) ، سنن ابن ماجه الفتن (4006) .
(3) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .
(4) سورة التغابن الآية 16(28/19)
ومن وفقه الله للصبر والاحتساب من العلماء والدعاة، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والإخلاص لله، نجح ووفق وهدي ونفع الله به كما قال سبحانه وتعالى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (2) وقال تبارك وتعالى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (3) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (4) وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ} (5) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (6) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (7) .
فالرابحون الناجون في الدنيا والآخرة هم أهل الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر. ومعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق والتواصي بالصبر من جملة التقوى، ولكن الله سبحانه خصها بالذكر لمزيد من الإيضاح والترغيب.
والمقصود أن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ودعا إلى الله وصبر على ذلك، فهو من أهل هذه الصفات العظيمة، الفائزين بالربح الكامل والسعادة الأبدية إذا مات على ذلك. ومما يؤكد الالتزام بهذه الصفات العظيمة قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (8) وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا وجميع المسلمين للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يمنحنا الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يرزقنا جميعا القيام بهذا الواجب حسب الطاقة والإمكان، وأن يوفق ولاة أمور
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 3
(3) سورة الطلاق الآية 4
(4) سورة محمد الآية 7
(5) سورة العصر الآية 1
(6) سورة العصر الآية 2
(7) سورة العصر الآية 3
(8) سورة المائدة الآية 2(28/20)
المسلمين للقيام بهذا الواجب، والصبر عليه، وأن يوفق من أسند إليه هذا الواجب أن يقوم به على خير ما يرام، وأن يعين الجميع على أداء حقه والنصح له ولعباده، إنه تعالى جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(28/21)
صفحة فارغة(28/22)
قتل الغيلة
إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد،
فبناء على ما رآه مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة السادسة المنعقدة في شهر صفر عام 1395هـ من إعداد بحث في قتل الغيلة ليدرج في جدول أعماله بالدورة السابعة، أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك ضمنته بيان معنى قتل الغيلة في اللغة، وخلاف الفقهاء في ضابطه شرعا، وخلافهم فيما يوجبه من القتل حدا أو قودا، وبيان ما يترتب على هذا الخلاف من قبول العفو عن القاتل وعدم قبوله، مع ذكر أدلة القولين ومناقشتها، وختمت البحث بخلاصة عن ذلك. والله الموفق.
معنى قتل الغيلة في اللغة وضابطه عند الفقهاء:
أ- قتل الغيلة لغة:
قال الإمام اللغوي إسماعيل بن حمد الجوهري: (غاله الشيء واغتاله إذا(28/23)
أخذه من حيث لم يدر) (1) قال: (واغتاله قتله غيلة، والأصل الواو) (2) هكذا ذكر الجوهري في مادة (غول) المعتلة العين بالواو، وقال في مادة: (غيل) المعتلة بالياء (والغيلة بالكسر الاغتيال، يقال: قتله غيلة، وهو أن يخدعه فيذهب به إلى موضع، فإذا صار إليه قتله) (3) وقال أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا في مادة (غول) : (الغين والواو واللام أصل صحيح يدل على ختل وأخذ من حيث لا يدري، يقال: غاله يغوله؛ أخذه من حيث لم يدر. قالوا: والغول بعد المفازة. لأنه يغتال من مر به. قال: به تمطت غول كل ميل.
والغول من السعالي، سميت لأنها تغتال. والغيلة الاغتيال، والياء واو في الأصل، والمغول سيف دقيق له قفا، وأظنه سمي مغولا لأنه ستر بقراب حتى لا يدرى ما فيه (4) .
وقال الزمخشري في (الغيلة) (هي فعلة من الاغتيال، وياؤها عن واو؛ لأن الاغتيال من " غالته الغول" وتغوله غولا، وأورد هناك أثرا (أن صبيا قتل بصنعاء غيلة، فقتل به عمر سبعة، وقال: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم) (5) وقال المجد الفيروز آبادي (والغول الهلاك والإهلاك خفية، غاله واغتاله بمعنى) (6) وقال المجد الفيروز آبادي في معاني الغيلة بكسر الغين: والخديعة والاغتيال، وقتله غيلة خدعه فذهب به إلى موضع فقتله. وعلق الزبيدي على هذه العبارة بقوله: (نقله الجوهري، وقد اغتيل. وقال أبو بكر: الغيلة في كلام
__________
(1) الصحاح جـ 5 ص 1785 طبعة دار الكتاب العربي مصر.
(2) الصحاح جـ 5 ص 1786.
(3) الصحاح جـ 5 ص 1787.
(4) معجم مقاييس اللغة جـ 4 ص 402 طبعة دار إحياء الكتاب العربي الأولى.
(5) الفائق في غريب الحديث جـ 2 ص 118 طبعة حيدر أباد.
(6) بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز جـ 4 ص 154.(28/24)
العرب إيصال الشر أو القتل إليه من حيث لا يعلم ولا يشعر. وقال أبو العباس: قتله غيلة إذا قتله من حيث لا يعلم. وفتك به إذا قتله من حيث تراه وهو غار غافل غير مستعد) (1)
__________
(1) القاموس وشرحه تاج العروس جـ 8 ص 53.(28/25)
ب- قتل الغيلة شرعا
اختلف العلماء في ضابط قتل الغيلة، هل يخص القتل عمدا عدوانا على مال ونحوه، أو يعم كل قتل عمد عدوان على غرة أو مع خداع بحيث يتعذر معه الخلاص، وفيما يأتي أقوال الفقهاء في ذلك:
قال العلامة علي بن سلطان القاري في قتل الغيلة: (هو أن يخدع ويقتل في موضع لا يراه فيه أحد، والغيلة فعلة من الاغتيال، وفي المغرب الغيلة القتل خفية، وفي القاموس: الغيلة بالكسر الذريعة والاغتيال، وقتله غيلة أي خدعه فذهب به إلى موضع فقتله) (1) وقال القاضي أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي الأندلسي (أصحابنا -أي المالكية - يوردونه - أي: قتل الغيلة - على وجهين: أحدهما القتل على وجه التحيل والخديعة، والثاني على وجه القصد الذي لا يجوز عليه الخطأ) (2) وقال العلامة قاسم بن عيسى بن ناجي التنوخي القروي (قال الفاكهاني عن أهل اللغة: قتل الغيلة هو أن يخدعه فيذهب به إلى موضع خفي، فإذا صار فيه قتله) ومر إلى أن قال: (ونقل عن بعض أصحابنا، وأظنه البوني رحمه الله تعالى أنه اشترط في ذلك أن يكون القتل على مال، وأما الثائرة، وهي العداوة بينهما، فيجوز العفو فيه. قلت: ما ظنه عن البوني مثله نقل الباجي عن العتبية والموازية، قال: قتل الغيلة حرابة، وهو قتل الرجل خفية لأخذ ماله. قال: (ومن أصحابنا من يقول: هو القتل على وجه القصد الذي لا يجوز عليه الخطأ، وقبله ابن زرقون) (3) .
__________
(1) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 4 ص 19 طبعة بمبي.
(2) المنتقى شرح الموطأ للباجي جـ 7 ص 116 طبعة مطبعة العادق الأولى.
(3) شرح الرسالة لابن ناجي بهامش شرح زروق جـ 2 ص228-229.(28/25)
و [قال الشيخ أحمد بن أحمد بن عيسى البرنس الفاسي المعروف بزورق: (قال أهل اللغة: قتل الغيلة أن يخدعه بالقول حتى يأمن فيمشي به إلى موضع فيقتله، يريد لأخذ ماله، لا لثأرة بينهما، وإلا فليس بغيلة، وفي النوادر عن الموازية: قتل الغيلة من الحرابة، أن يغتال رجلا أو صبيا فيخدعه حتى يدخل موضعا فيقتله ويأخذ ما معه. وقال اللخمي: من أخذ مال رجل بالقهر ثم قتله خوفا من أن يطلبه بما أخذ لم يكن محاربا، وإنما هو مغتال، ثم هذا إذا فعل ذلك خفية وإلا فليس بغيلة. اهـ (1) .
وقال الحطاب: (قال - أي خليل - في التواضيح في باب الحرابة: الغيلة أن يخدع غيره ليدخله موضعا ويأخذ ماله. وقال أيضا: قال ابن رشد في رجل مرض وله أم ولد من سماع ابن القاسم من كتاب المحاربين: إن قتل الغيلة هو القتل على مال.
وقال القاضي علي بن عبد السلام التسولي (فأما الغيلة فهي من أنواع الحرابة وهي أن يقتله لأخذ ماله أو زوجته أو ابنته وكذا لو خدع كبيرا أو صغيرا فيدخله موضعا خاليا ليقلته ويأخذ ماله أو يخادع الصبي أو غيره ليأخذ ما معه) (2) وقال الشيخ محمد عرفة الدسوقي في شرح قول خليل في باب الحرابة من مختصره: (ومخادع أو غيره ليأخذ ما معه) . قال الدسوقي بعد أن ذكر أن هذا القتل قتل غيلة: (وقتل الغيلة من الحرابة، ونص الجواهر قتل الغيلة من الحرابة، وهي أن يغتال رجلا أو صبيا فيخدعه حتى يدخله موضعا فيأخذ ما معه، فهو كالحرابة اهـ.
__________
(1) شرح الرسالة لزروق جـ 2 ص 228-229 طبعة الطبعة الجمالية.
(2) البهجة في شرح التحفة جـ2 ص 342.(28/26)
قال طغى: تفسيرها بما ذكر يدل على أن القتل ليس شرطا فيها، وأن قتل الغيلة من الحرابة اهـ وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: (قوله: " قتل غيلة" بكسر أوله أي: خديعة. والاغتيال: الأخذ على غفلة) (1) وقال الفقيه الشيخ مصطفى السيوطي الرحيباني: (وقتل الغيلة بكسر الغين المعجمة وهو القتل على غرة، كالذي يخدع إنسانا فيدخله بيتا أو نحوه أو غيره) (2) وقال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية: (أما إذا كان يقتل النفوس سرا لأخذ المال مثل الذي يجلس في خان يكريه لأبناء السبيل، فإذا انفرد بقوم منهم قتلهم وأخذ أموالهم، أو يدعو إلى منزله من يستأجره لخياطة أو طب أو نحو ذلك فيقتله ويأخذ ماله، فهذا يسمى القتل غيلة) (3) 2 - خلاف الفقهاء فيما يوجبه من القتل حدا أو قودا وبيان ما يترتب على الخلاف من قبول العفو عن القاتل وعدمه:
اختلف أهل العلم فيما يوجبه قتل الغيلة ولمن الأمر فيه على قولين، أحدهما: القصاص أو الدية على حسب اختيار أولياء المقتول. والثاني: القتل، ويرجع فيه إلى السلطان. وفيما يلي ذكر نقول عن بعض من قال بكل واحد منهما، وأثر الخلاف مع الأدلة والمناقشة.
المذهب الأول: أن من قتل رجلا عمدا غيلة أو غير غيلة، فذلك إلى أولياء القتيل، فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا عفوا، وبهذا قال أبو حنيفة (4)
__________
(1) هدي الساري جـ 1 ص 123 طبعة المنار.
(2) مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهي جـ 6 ص 39.
(3) السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ص 84 طبعة دار الكتاب العربي بمصر ط الثالثة.
(4) الأم جـ 7 ص 299.(28/27)
والشافعي (1) وابن قدامة (2) وابن حزم ومن وافقهم من أهل العلم. واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والأثر والمعنى.
__________
(1) الأم جـ 7 ص 29.
(2) المغني جـ 7 ص 648 وما بعدها.(28/28)
أما الكتاب فقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} (1) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (2) قال محمد بن الحسن الشيباني في توجيه الاستدلال بالآيتين قال: فلم يسم في ذلك قتل الغيلة ولا غيرها.
وقال ابن حزم بعد ذكره للآيتين وحديث من قتل له قتيل: بعد مقالتي هذه فأهله بين خيرتين، قال: إن الله تعالى لو أراد أن يختص من ذلك قتل الغيلة أو الحرابة لما أغفله ولا أهمله ولبينه صلى الله عليه وسلم (3) أما السنة فما أخرجه الترمذي بسنده إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «لما فتح الله على رسوله مكة، قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يعفو، وإما أن يقتل (4) » . وقال الترمذي: وفي الباب عن وائل بن حجر وأنس وأبي شريح خويلد بن عمرو. ثم ساق بسنده إلى أبي شريح الكعبي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسفكن فيها دما - إلى أن قال: - ثم إنكم يا معشر خزاعة قتلتم هذا الرجل من هذيل وإني عاقله، فمن قتل له قتيل بعد اليوم فأهله بين خيرتين
__________
(1) سورة الإسراء الآية 33
(2) سورة البقرة الآية 178
(3) المحلى جـ 7 ص 521.
(4) سنن الترمذي الديات (1405) .(28/28)
إما أن يقتلوا أو يأخذوا العقل (1) » قال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح.
وقال السهيلي في حديث أبي شريح: حديث صحيح، وإن اختلف الرواة (2) وممن استدل بحديث أبي شريح ابن حزم وابن قدامة. قال ابن حزم في توجيه الاستدلال: فذكر الدية أو القود أو المفاداة والدية لا تكون إلا بالعفو عن القود بلا شك، فعمم -عليه الصلاة والسلام- ولم يخص -وذكر أيضا - أن قتل الغيلة لو كان مخصوصا من ذلك لبينه -صلى الله عليه وسلم (3) وما أخرجه البخاري وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وغيرهم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: " كان في بني إسرائيل القصاص، ولم يكن فيهم الدية، فقال الله لهذه الأمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (4) إلى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} (5) فالعفو أن تقبل الدية في العمد {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (6) يتبع الطالب بالمعروف ويؤدي إليه المطلوب بإحسان {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} (7) مما كتب على من كان قبلكم {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} (8) قتل بعد قبوله الدية {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (9)
وجه الدلالة: قال ابن حجر العسقلاني في كلامه على رواية البخاري لهذا الحديث: استدل به الجمهور على جواز أخذ الدية في قتل العمد، ولو كان غيلة. . . (10) ويمكن أن الجمهور استدلوا بالحديث لما ذكره ابن حجر أخذا من عمومه في قتل الغيلة وغيره، وأنهم لم يطلعوا على مخصص يخرج قتل الغيلة من هذا العموم، فبقي العموم على أصله.
__________
(1) صحيح البخاري العلم (104) ، صحيح مسلم الحج (1354) ، سنن الترمذي الديات (1406) ، سنن النسائي مناسك الحج (2876) ، مسند أحمد بن حنبل (4/32) .
(2) الروض الأنف جـ 2 ص 278.
(3) المحلى جـ 10 ص 520.
(4) سورة البقرة الآية 178
(5) سورة البقرة الآية 178
(6) سورة البقرة الآية 178
(7) سورة البقرة الآية 178
(8) سورة البقرة الآية 178
(9) سورة البقرة الآية 178
(10) فتح الباري جـ 12 ص 176 وما بعدها.(28/29)
وأما الأثر فما رواه الإمام الشافعي عن محمد عن محمد بن الحسن قال: أخبرنا أبو حنيفة رحمه الله عن حماد عن إبراهيم، أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أتي برجل قد قتل عمدا، فأمر بقتله، فعفا بعض الأولياء، فأمر بقتله، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: كانت لهم النفس، فلما عفا هذا أحيا النفس، فلا يستطيع أن يأخذ حقه حتى يأخذ غيره. قال: فما ترى؟ قال: أرى أن تجعل الدية عليه في ماله وترفع حصة الذي عفا. فقال عمر: وأنا أرى ذلك (1) أخبرنا أبو حنيفة عن حماد عن النخعي قال: من عفا من ذي سهم فعفوه عفو.
وجه الدلالة ما قاله الشافعي عن محمد بن الحسن: فقد أجاز عمر وابن مسعود العفو من أحد الأولياء، ولم يسألوا: أقتل غيلة كان ذلك أو غيره (2) وقال الشافعي بعد سياقه لهذين الأثرين ولكلام محمد بن الحسن: كل من قتل في حرابة أو صحراء أو مصر أو مكابرة أو قتل غيلة على مال أو غيره، أو قتل ثائرة فالقصاص والعفو إلى الأولياء وليس إلى السلطان من ذلك شيء إلا الأدب إذا عفا الولي (3) .
وأما المعنى فقال ابن قدامة: إنه قتيل في غير المحاربة، فكان أمره إلى وليه كسائر القتل (4) .
المذهب الثاني أنه لا يجوز العفو في قتل الغيلة، وإذا عفا الأولياء قتله السلطان، وممن قال بهذا القول مالك ومن وافقه على ذلك، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد أخذ سماحة مفتي الديار السعودي - رحمه الله- بهذا القول، وفيما يلي ذكر طائفة من النقول في ذلك عن بعض أهل العلم نذكر بعدها الأدلة.
__________
(1) الرد على محمد بن الحسن للشافعي ضمن كتاب الأم جـ 7 ص 299.
(2) الرد على محمد بن الحسن للشافعي ضمن كتاب الأم جـ 7 ص 299.
(3) الرد على محمد بن الحسن للشافعي ضمن كتاب الأم جـ 7 ص 299.
(4) المغني جـ 7 ص649.(28/30)
قال الشافعي: وقال أهل المدينة: إذا قتله غيلة من غير ثائرة ولا عداوة فإنه يقتل، وليس لولاة المقتول أن يعفوا عنه، وذلك إلى السلطان يقتل فيه القاتل (1) وقال ابن حجر: وألحقه مالك بالمحارب؛ فإنه الأمر فيه إلى السلطان، وليس للأولياء العفو عنه، وهذا على أصله في أن حد المحارب القتل إذا رآه الإمام (2) وقال ابن القاسم: (قتل الغيلة أيضا من الحرابة، مثل أن يغتال رجل صبيا فيخدعه حتى يدخله موضعا فيأخذ ما معه فهو كالحرابة) وقال سحنون: (قلت - أي لابن القاسم -: أرأيت إن قتل رجل وليا لي قتل غيلة فصالحته على الدية، أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: لا، إنما ذلك إلى السلطان، ليس لك هاهنا شيء، وترد ما أخذت منه، ويحكم عليه السلطان بحكم المحارب. قلت: وهذا قول مالك. قال: أما في القتل فكذلك قال لي مالك وفي الصلب. وأما في الصلح فإنه لا يجوز، وهو رأي؛ لأن مالكا قال: ليس لولاة الدم فيه قيام بالدم مثل العمد، وإنما ذلك إلى الإمام يرى فيه رأيه، يقتله على ما يرى من أشنع ذلك) .
__________
(1) الرد على محمد بن الحسن للشافعي ضمن كتاب الأم جـ 7 ص 299.
(2) فتح الباري جـ 12 ص 210.(28/31)
وقال أحمد بن غنيم بن سالم بن مهنا النغراوي المالكي على قول ابن أبي زيد: " لا عفو فيه " قال: لا للأولياء ولا للسلطان ولا للمقتول أيضا، ولو بعد إنفاذ مقاتله، ولو كان المقتول كافرا والقاتل حرا مسلما (1) .
وقال الشيخ علي الصعيدي العدوي في شرح الرسالة على قوله: (وقتل الغيلة لا عفو فيه) قال: لا للمقتول ولا للأولياء ولا للسلطان، ظاهر كلامه، ولو كان المقتول كافرا، وهو كذلك في المدونة (2) .
وقال به أحمد بن جزي (3) وأحمد الدردير (4) وأحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البرنسي الفاسي المعروف بزروق (5) ونقل ابن مفلح عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لا يصح العفو في قتل الغيلة لتعذر الاحتراز كالقتل (6) .
وقال ابن القيم: قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدا، فلا يسقطه العفو ولا تعتبر فيه المكافأة - قال أيضا: - وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد، اختاره شيخنا وأفتى به (7) وأما سماحة مفتي الديار السعودية - رحمه الله - فقد كتب في قضية امرأة قتلت زوجها غيلة خطابا إلى إمارة منطقة الرياض بعدد 365 وتاريخ 21 \ 6 \ 79 جاء فيه ما نصه: إنه بناء على اعترافها وكون قتلها للرجل، فإنه يتحتم قتلها، وحيث الحال ما ذكره فإنه لا يلتفت إلى ما أبداه الأولياء ووكيل الأم، بل لا بد من قتلها شرعا لأجل حق الله - ثم ساق كلام شيخ الإسلام وابن القيم السابق. واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والأثر والمعنى.
__________
(1) كفاية الطالب شرح رسالة بن أبي زيد جـ 2.
(2) شرح الرسالة ابن أبي زيد لزروق ج 2 ص 299.
(3) قوانين الأحكام ص 375.
(4) شرح مختصر خليل جـ 4 ص 211 ومعه حاشية الدسوقي.
(5) شرح رسالة ابن أبي زيد جـ 2 ص 299.
(6) الفروع جـ 5 ص 69.
(7) زاد المعاد جـ 3 ص 79.(28/32)
أما الكتاب فقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} (1) الآية. قال ابن القاسم: وقتل الغيلة من الحرابة (2) وهو قول مالك.
وقد أجاب ابن حزم عن ذلك فقال: وجدنا أن الله تعالى قد حد الحرابة أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض. فلا تخلو هذه الآية أن تكون على الترتيب أو التخيير، فإن كانت على الترتيب فالمالكيون لا يقولون بهذا، وإن كانت على التخيير وهو قولهم فليس في الآية ما يدعونه من أن قاتل الحرابة والغيلة لا خيار فيه لولي القتيل، فخرج قولهم أن يكون له متعلق أو سبب يصح، فبطل ما قالوه (3)
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) تبصرة الحكام جـ 2 ص 243.
(3) المحلى جـ 10 ص 520.(28/33)
وأما السنة فمن ذلك ما يلي:
أ- ما أخرجه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال «لما قدم رهط من عرينة وعكل على النبي -صلى الله عليه وسلم- اجتووا المدينة، فشكوا ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: لو خرجتم إلى إبل الصدقة فشربتم من أبوالها وألبانها. ففعلوا، فلما صحوا عمدوا إلى الرعاة فقتلوهم واستاقوا الإبل وحاربوا الله ورسوله، فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في آثارهم فأخذوا، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وألقاهم في الشمس حتى ماتوا (1) » .
قال ابن القيم: وهذا الحديث - أيضا - يدل على أن قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدا، فلا يسقطه العفو ولا تعتبر فيه المكافأة (2) .
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6802) ، صحيح مسلم كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الطهارة (72) ، سنن النسائي تحريم الدم (4025) ، سنن أبو داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الحدود (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/198) .
(2) زاد المعاد جـ 3 ص 79.(28/33)
وقد أجاب ابن حزم عن الاستدلال بهذا الحديث بعد جوابه عن حديث اليهودي الذي رض رأس الجارية بين حجرين فقال: وأما حديث العرنيين فلا حجة لهم فيه أيضا؛ لما ذكرنا في هذا الخبر سواء بسواء من أنه ليس فيه أنه ليس فيه أنه -عليه الصلاة والسلام- لم يشاور أولياء الرعاء إن كان لهم أولياء، ولا أنه قال: لا خيار في هذا لولي المقتول، فإذا ليس فيه شيء من هذا، فلا حجة لهم ولا لنا بهذا الخبر في هذا المسألة خاصة، فوجب علينا طلب حكمها بموضع آخر.
ثم هذا الخبر حجة عليهم لما روينا من طريق مسلم، نا يحيى بن يحيى التميمي، نا هشيم، عن عبد العزيز بن صهيب، وحميد عن أنس، أن أناسا من عرينة قدموا. وذكر الحديث، وفيه أنهم «قتلوا الرعاء وارتدوا عن الإسلام - وساقوا ذود رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبعث في آثارهم، فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا (1) » .
قال أبو محمد: فهؤلاء ارتدوا عن الإسلام، والمالكيون هم على خلاف هذا الحكم من وجوه ثلاثة: أحدها أنه لا يقتل المرتد عندهم ولا عندنا هذه القتلة أصلا. والثاني: لا يقتص عندهم من المرتد وإنما هو عندهم القتل أو الترك إن تاب. والثالث: أنهم يقولون باستتابة المرتد، وليس في هذا الحديث ذكر استتابته ألبتة، فعاد حجة عليهم ومخالفا لقولهم في هذه المسألة وغيرها (2) وذكر جوابا آخر بقوله: قد يمكن أن يكونوا غرباء لا ولي لهم (3) ب - ما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك «أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين على أوضاح لها أو حلي، فأخذ واعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم- أن يرض رأسه بين حجرين (4) » .
قال ابن القيم في أثناء الكلام على فقه هذا الحديث قال: وإن قتل الغيلة لا يشترط فيه إذن الولي؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يدفعه إلى
__________
(1) صحيح البخاري الديات (6899) ، صحيح مسلم كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الطهارة (72) ، سنن النسائي الطهارة (305) ، سنن أبو داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الحدود (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/163) .
(2) المحلى جـ 10 ص 520.
(3) المحلى جـ 10 ص 521.
(4) صحيح البخاري الخصومات (2413) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1672) ، سنن الترمذي كتاب الديات (1394) ، سنن النسائي القسامة (4779) ، سنن أبو داود الديات (4529) ، سنن ابن ماجه الديات (2666) ، مسند أحمد بن حنبل (3/203) ، سنن الدارمي الديات (2355) .(28/34)
أوليائها، ولم يقل: إن شئتم فاقتلوه، وإن شئتم فاعفوا عنه، بل قتله حتما. وأورد رحمه الله اعتراضا وأجاب عنه فقال: ومن قال: إنه فعل ذلك لنقض العهد لم يصح؛ فإن ناقض العهد لا يرض رأسه بالحجارة، بل يقتل بالسيف (1) وقد يقال: إن هذا الحديث يدل على قتل الرجل بالمرأة قصاصا.
وأجاب عن ذلك الأبي فقال: في الاحتجاج به على ذلك ضعف؛ لأن قتله لها إنما كان غيلة، وقتل الغيلة حرابة (2) .
وقد أجاب ابن حزم أيضا عن الاحتجاج بهذا الحديث فقال: أما حديث اليهودي الذي رضخ رأس الجارية على أوضاحها فليس فيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يشاور وليها ولا أنه شاوره ولا أنه قال اختار لولي المقتول في الغيلة أو الحرابة، فإذا لم يقل ذلك -عليه الصلاة والسلام- فلا يحل لمسلم أن ينسب ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيكذب عليه ويقول عليه ما لم يقل، فكيف وهذا الخبر حجة عليهم، فإنهم لا يختلفون في أن قاتل الغيلة أو الحرابة لا يجوز ألبتة أن يقتل رضخا بالحجارة وحدها، وهذا لا يقوله أحد من الناس، فصح يقينا إذ قتله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رضخا بالحجارة أنه إنما قتله قودا بالحجارة وإذا قتله قودا بها فحكم قتل القود أن يكون بالخيار في ذلك أو العفو للولي. وإذ ذلك كذلك بلا شك فقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين (3) » . إلى آخره، فنحن على يقين من أن فرضا على كل أحد أن يضم هذا الحكم إلى هذا الخبر، وليس سكوت الرواة عن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير وليه يسقط ما أوجبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في القتل من تخيير وليه، بل بلا شك في أنه -عليه الصلاة والسلام- لم يخالف ما أمر به. ولا يخلو هذا مما ذكرنا من قبول الزيادة المروية في سائر النصوص أصلا. ولو كان هذا الفعل تخصيصا أو فسخا لبينه عليه الصلاة والسلام،
__________
(1) زاد المعاد جـ 3 ص200.
(2) إكمال أكمل المعلم شرح صحيح مسلم جـ 4 ص 413 - 414.
(3) سنن الترمذي الديات (1406) ، مسند أحمد بن حنبل (4/32) .(28/35)
فبطل تعلقهم به (1) . وذكر جوابا آخر بقوله: قد يكون للأنصارية ولي صغير لا خيار له فاختار النبي -صلى الله عليه وسلم- القود، لو صح أنه -عليه الصلاة والسلام- لم يخير الولي فكيف وهو لا يصح أبدا (2) .
جـ - ما رواه البيهقي بسنده إلى الواقدي، وسنده عند الواقدي: حدثني اليمان بن معن، عن أبي وجزة في ذكر من قتل بأحد من المسلمين، قال: مجذر بن زياد قتله الحارث بن سويد غيلة، «وكان من قصة مجذر بن زياد أنه قتل سويد بن الصامت في الجاهلية، فلما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة أسلم الحارث بن سويد بن الصامت فشهدا بدرا، فجعل الحارث يطلب مجذرا ليقتله بأبيه، فلم يقدر عليه يومئذ، فلما كان يوم أحد وجال المسلمون تلك الجولة، أتاه الحارث من خلفه فضرب عنقه، فرجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، ثم خرج إلى حمراء الأسد، فلما رجع أتاه جبريل عليه السلام فأخبره أن الحارث بن سويد قتل مجذر بن زياد غيلة، وأمره بقتله، فركب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى قباء، فلما رآه دعا عويم بن ساعدة فقال: قدم الحارث بن سويد إلى باب المسجد فاضرب عنقه بالمجذر بن زياد؛ فإنه قتله يوم أحد غيلة. فأخذه عويم، فقال الحارث: دعني أكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأبى عليه عويم فجابده يريد كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونهض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يركب - إلى أن قال -: حتى إذا استوعب كلامه قال: قدمه يا عويم فاضرب عنقه. فضرب عنقه (3) » .
وقد اعترض على الاستدلال بهذا الحديث بقول الشافعي: ولو كان حديثه
__________
(1) المحلى جـ 10 ص 520
(2) المحلى جـ 10 ص 521
(3) السنن الكبرى جـ 8 ص 57 وقد بسطت القصة في مغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للواقدي ص 234-236(28/36)
- أي حديث مجذر هذا - مما يثبت قلنا به، فإن ثبت فهو كما قال، ولا أعرفه إلى يومي هذا (1) وقول البيهقي: إنما بلغنا قصة مجذر بن زياد من حديث الواقدي منقطعا وهو ضعيف (2) .
وأما الآثار فمن ذلك ما يلي: أ- ما روى مالك عن يحيى بن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب قتل نفرا خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه غيلة، وقال عمر: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا (3) . وقد ذكره البخاري من طريق آخر فقال: قال لي ابن بشار: حدثنا يحيى بن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن غلاما قتل غيلة، فقال عمر: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم به.
ب - ما رواه ابن حزم قال: وذكروا ما حدثناه أحمد بن عمر نا الحسين بن يعقوب نا سعيد بن فلحون نا يوسف بن يحيى المعافري نا عبد الملك بن حبيب عن مطرف عن ابن أبي ذئب عن مسلم بن جندب الهذلي أن عبد الله بن عامر كتب إلى عثمان بن عفان أن رجلا من المسلمين عدا على دهقان فقتله على ماله، فكتب إليه عثمان أن اقتله به؛ فإن هذا قتل غيلة على الحرابة. جـ - وبه - أي بالسند السابق - إلى عبد الملك بن حبيب عن مطرف عن خاله الحارث بن عبد الرحمن أن رجلا مسلما في زمان أبان بن عثمان بن عفان قتل نبطيا بذي حميت على مال معه، فرأيت أبان بن عثمان أمر بالمسلم فقتل بالنبطي لقتله إياه غيلة، فرأيته حتى ضرب عنقه.
__________
(1) السنن الكبرى جـ 8 ص 56.
(2) السنن الكبرى جـ 8 ص 57.
(3) الموطأ رواية يحيى بن يحيى الليثي بشرح الباجي جـ 7 ص 115(28/37)
د- وعن عبد الملك بن حبيب، عن مطرف بن أبي الزناد، عن أبيه أنه شهد أبان بن عثمان إذ قتل مسلما بنصراني قتله غيلة.
وقد أجاب ابن حزم عن أثر عثمان بقوله: وأما الرواية عن عثمان فضعيفة جدا؛ لأنها عن عبد الملك بن حبيب، وهو ساقط الرواية جدا، ثم عن مسلم بن جندب، ولم يدرك عثمان، وأيضا فلا حجة في قول أحد دون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكم قصة خالفوا فيها عثمان -رضي الله عنه- بأصح من هذا السند كقضائه في ثلث الدية فيمن ضرب آخر حتى سلح، ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة -رضي الله عنهم- ومن المحال أن يكون ما لم يصح عنه حجة في إباحة الدماء ولا يكون ما صح عنه حجة في غير ذلك (1) .
وأما المعنى فإن قتل الغيلة حق لله، وكل حق تعلق به حق الله تعالى فلا عفو فيه كالزكاة وغيرها (2) . ولأنه يتعذر الاحتراز منه كالقتل مكابرة (3) . وقد تبين مما تقدم أن أثر الخلاف بين الفريقين قبول العفو من أولياء الدم بناء على القول بأنه يقتل قصاصا، وعدم قبول العفو بناء على القول بأنه يقتل حدا.
__________
(1) المحلى جـ 10 ص 521
(2) شرح الرسالة لابن أبي زيد القيراوني لزروق جـ 2 ص 229
(3) الفروع جـ 5 ص 669(28/38)
الخلاصة
قتل الغيلة
تطلق الغيلة على أخذ الشيء من حيث لا يدري، فهي متضمنة معنى الختل والغرة والخداع والخفاء، وهي اسم هيئة من الغول بمعنى الاغتيال والإهلاك، يقال: غال يغول إذا أخذه من حيث لم يدر، ومن ذلك سمي السيف الدقيق مغولا؛ لأنه يستتر بقراب حتى لا يدرى ما فيه، وسميت المفازة المتباعدة الأطراف غولة لأنها تغتال من مر بها، وتطلق لغة أيضا على رضاع الولد المرأة الحامل أو التي جامعها زوجها مثلا.
والقتل غيلة في اللغة هو القتل على غرة أو مع ختل وخداع، يقال: قتله غيلة إذا ختله وخدعه فقتله من حيث لا يعلم. أما عند الفقهاء فقد اختلف رأيهم فيه، فمنهم من خصه بالقتل خفية لأخذ المال، ومنهم من قال: هو قتل شخص لأخذ ما معه من مال أو زوجة أو أخت ونحو ذلك، ومنهم من توسع فيه، فقال: إنه القتل على وجه التحيل والخديعة، أو على وجه القصد الذي لا يحتمل معه الخطأ. ويمكن أن يقال: إن هذا الأخير هو مذهب مالك وأصحابه، وما نقل عنهم من التعبير بالقتل على مال محمول على التمثيل لا الحصر، بدليل تعميمهم في كثير من عباراتهم، وتصريح ابن القاسم لجعل القتل على مال مثالا للقتل غيلة (1) وإدخالهم القتل على وجه القصد الذي لا يحتمل معه الخطأ في قتل الغيلة كقتل المدلجي ولده، ولذا أوجب فيه مالك قتل الوالدين لولدهما لكونه قتل غيلة عندهم، وإن لم يكن على مال. وأما ما اشترط من المالكية في قتل
__________
(1) السطر الأول من ص 25 من الإعداد(28/39)
الغيلة أن يكون على مال فهو بعض المتأخرين (1) ومقتضى استدلال ابن تيمية التعميم، حيث علل ذلك بقوله: لتعذر الاحتراز كالقتل مكابرة، فيمكن أن يحمل ما نقل عنه من ذكر المال ونحوه على التمثيل. وكذا تسمية العلماء ما جاء في أثر عمر من قتل الجماعة للغلام خشية أن يفضحهم قتل غيلة. ولم يكن ذلك على مال ولا لأخذ شيء من الغلام، وقد استدل المالكية بهذا الأثر على مطلوبهم من أن من قتل غيره غيلة يقتل حدا، ولم ينكر من خالفهم أنه غيلة وإنما تأولوا الأثر بما يتفق مع ما ذهبوا إليه من أن قتلهم كان قصاصا.
هذا ومهما يكن من الاختلاف في ضابط قتل الغيلة، فلا أثر له بالنسبة لمن لم يفرق بين نوع القتل العمد العدوان في إيجابها القصاص دون الحد، وقبول عفو أولياء الدم في ذلك، إنما يظهر أثر الاختلاف في ضابط قتل الغيلة لمن فرق بين جزاء من قتل غيلة ومن قتل عمدا غير غيلة، فقط يكون قتل غيلة تترتب عليه آثاره عند بعضهم ما لا يكون غيلة عند آخرين فلا تترتب عليه آثاره.
__________
(1) ص17 من الإعداد(28/40)
الخلاف بين الفقهاء فيما يوجبه قتل الغيلة: اختلف الفقهاء فيما يوجبه قتل الغيلة، فقال الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية: إنه يوجب القتل قصاصا كسائر أنواع القتل عمدا عدوانا، وعليه يكون الحق في قتل الجاني لأولياء الدم من ورثة القتيل أو عصبته، فيجب تنفيذه إن اتفقوا على ذلك، ويسقط بعفوهم أو عفو بعضهم. وقال أبو الزناد ومالك وابن تيمية وابن القيم ومن وافقهم: إنه يوجب قتل الجاني حدا لا قودا، فيتولى تنفيذه السلطان أو نائبه، ولا يسقط بعفو أحد، لا السلطان ولا غيره.
استدل من قال: إنه يقتل قصاصا بالكتاب والسنة والإجماع والقياس.(28/40)
أما الكتاب فعموم قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} (1) قالوا: جعل الله سبحانه الحق في الدم لأولياء القتيل من ورثة أو عصبة دون غيرهم، وعمم في ذلك فلم يخص قتلا دون قتل، والأصل بقاء النص على عمومه حتى يرد ما يصلح لتخصيصه.
وأيضا عموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسََانٍ} (2) فحكم تعالى في عموم القتلى بوجوب القصاص إلا ما خصه الدليل، فأوجب فيه الدية أو لم يوجب فيه شيئا، كما عمم تعالى في العفو بقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (3) فلم يخص به قتلا دون قتل، فوجب تعميمه في كل قتل عمد عدوان غيلة كان أم غير غيلة.
ونوقش الاستدلال بالآيتين بأنهما وإن كان ظاهرهما العموم، إلا أنه قد ورد ما يصلح لتخصيص عمومهما، وسيأتي مناقشة المخصص عند الاستدلال به للقول الثاني. ونوقش الاستدلال بالآية الثانية بأنها نزلت في مقاصة بين قتلى بالفعل في حرب فتنة بين المسلمين، فمن بقي له قتلى بعد المقاصة أخذ ديتهم، وليست في القصاص من جان معين لقتيله، ممن اختار تفسيرها بذلك ابن تيمية رحمه الله.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 33
(2) سورة البقرة الآية 178
(3) سورة البقرة الآية 178(28/41)
وأما السنة فعموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين، إما أن يأخذوا العقل أو أن يقتلوا (1) » . فجعل -عليه الصلاة والسلام- الخيرة لأهل القتيل بين العقل والقصاص في كل قتل غيلة كان أم غير غيلة.
ونوقش بما تقدم من وجود مخصص لعمومه، وسيأتي مناقشة المخصص إن شاء الله.
وأما الإجماع فما رواه أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أتي برجل قد قتل عمدا فأمر بقتله بعد عفو فقال ابن مسعود رضي الله عنه: كانت لهم النفس فلما عفا هذا أحيا النفس، فلا يستطيع أن يأخذ حقه حتى يأخذ غيره. قال: فما ترى؟ قال: أرى أن تجعل الدية عليه في ماله، وترفع حصة الذي عفا. فقال عمر: وأنا أرى ذلك. فأجاز عمر وابن مسعود العفو من أحد الأولياء، ولم يسألا أقتل غيلة كان ذلك أم غيره، ولم يعرف لهما في ذلك مخالف فكان إجماعا.
ونوقش بأنه منقطع، لأن إبراهيم- هو ابن يزيد النخعي ولد سنة 50 هـ وعمر مات سنة 23 هـ، وعليه فما ادعى من الإجماع غير صحيح، لأنه سكوتي لا قولي ولا عملي، والسكوتي هنا فرع ثبوت القضية وهي لم تثبت.
ويمكن أن يناقش أيضا بأن عدم الاستفسار بناء على أن الأصل عموم القصاص في كل قتل عمد عدوان.
وأيضا ما روى عبد الرزاق عن سماك بن الفضل أن عروة كتب إلى عمر بن عبد العزيز في رجل خنق صبيا على أوضاح له حتى قتله، فوجدوه والحبل في يده، فاعترف بذلك، فكتب أن ادفعوه لأولياء الصبي فإن شاءوا قتلوه. ولم يسأل عمر عن صفة القتل أهو غيلة أم لا، ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعا.
ونوقش بأن فيه عنعنة عبد الرزاق بن همام، وهو مدلس. ونوقش الأثران بأن كل منهما واقعة عين لا عموم لها، ودعوى ترك السؤال مجرد احتمال
__________
(1) سنن الترمذي الديات (1406) ، سنن أبو داود الديات (4504) .(28/42)
لا دليل عليه، إذ ليس في كل من الأثرين ثبوت السؤال ولا نفيه، ومع تساوي الاحتمالين يسقط الاستدلال.
أما القياس فقالوا فيه: إنه قتل في غير حرابة، فكان كسائر أنواع القتل في إيجاب القصاص وقبول العفو، لعدم الفارق. ونوقش بوجود الفارق، بأنه من الحرابة أو كالحرابة، ويتبين ذلك مما يأتي في الاستدلال للقول الثاني إن شاء الله.
واستدل من قال: إن قتل الغيلة يقتل فيه الجاني حدا لا قودا، فلا يسقط بالعفو من السلطان أو غيره بالكتاب والسنة والإجماع والقياس.
أما الكتاب فإن قتل الغيلة نوع من الحرابة، فوجب به القتل حدا لا قودا لقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} (1) الآية.
ونوقش بمنع كونه نوعا من الحرابة. وأما السنة (أ) ما ثبت «أن جارية وجدت قد رض رأسها بين حجرين، فسألوها: من صنع هذا بك؟ فلان؟ فلان؟ حتى ذكروا يهوديا، فأومات برأسها، فأخذ اليهودي فأقر، فأمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرضوا رأسه بالحجارة (2) » .
قالوا: قد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتل اليهودي ولم يجعل ذلك إلى أولياء الجارية، ولو كان القتل قصاصا لكان الحق لأوليائها، ولم يضرب عنهم صفحا، فدل ذلك على أنه قتله حدا لا قودا.
ب- ما ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قتل العرنيين الذين قتلوا الرعاء قتل حرابة وغيلة، ولم ينقل أنه جعل لأولياء الرعاء الخيار، ولو كان قتله إياهم قصاصا لشاورهم وطلب رأيهم، فدل على أنه قتلهم حدا لا قودا.
وبذلك يتبين أن قتل الغيلة له حكم خاص يختلف عن حكم سائر القتل العمد العدوان، ونوقش الاستدلال بالحديثين بأن عدم نقل مشورة النبي
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) صحيح البخاري الديات (6877) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1672) ، سنن الترمذي كتاب الديات (1394) ، سنن النسائي القسامة (4742) ، سنن أبو داود الديات (4535) ، سنن ابن ماجه الديات (2666) ، مسند أحمد بن حنبل (3/203) ، سنن الدارمي الديات (2355) .(28/43)
-صلى الله عليه وسلم- أولياء الجارية والرعاة لا يدل على عدم المشاورة ولا على ثبوتها، فلا يصح أن يخصص هذان الحديثان أدلة عموم القصاص بالقتل العمد العدوان، ثم إن العرنيين جمعوا بين جريمة القتل والسرقة والتمثيل أو الردة فقتلوا حدا، ولا يلزم منه أن يقتل حدا كل من لم يحصل منه إلا القتل وحده، وإن كان غيلة. ثم مراعاة المماثلة في تنفيذ العقوبة دليل على أن قتل اليهودي بالجارية كان قصاصا.
جـ - ما رواه الواقدي قال: حدثني اليمان بن معن عن أبي وجزة قال: دفن ثلاثة نفر يوم أحد في قبر، النعمان بن مالك ومجذر بن زياد وعبدة بن الحسحاس، ثم ذكر قصة قتل مجذر بن زياد، وفيها «أن الحارث بن سويد قتل مجذر بن زياد يوم أحد غيلة بأبيه سويد بن الصامت الذي قتله مجذر بن زياد في الجاهلية غدرا، وكان ذلك مما هيج وقعة بعاث، فأخبر جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن الحارث قتل مجذرا غيلة وأمره بقتله، فلما جاء الحارث بن سويد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ابن عويم ساعدة أن يضرب عنقه بقتله مجذرا غيلة» ، وبنو مجذر حضور عند النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يستشر أحدا منهم، قال المستدلون بالقصة: دل ذلك على أن القاتل غيلة يقتل حدا لا قودا ولا عفو فيه لأولياء الدم والسلطان.
ونوقش بأن الواقدي مختلف فيه فوثقه جماعة، وضعفه آخرون، بل رماه جماعة بالكذب في الحديث، ووضعه منهم أحمد بن حنبل والنسائي، وأيضا في سنده اليمان بن معن، وهو مجهول، وأيضا في سنده انقطاع (1) وعلى ذلك لا تقوم به حجة ولا يصلح لتخصيص عموم أدلة القول الأول.
وأما الآثار فمنها أولا: ما ثبت أن عمر -رضي الله عنه- أمر بقتل جماعة اشتركوا في قتل غلام غيلة بصنعاء، وقال: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم به، وفي رواية: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا) فهذا حكم الخليفة الراشد في قتل الغيلة، ولم ينقل أنه استشار أحدا من أولياء الدم ولو كان
__________
(1) يرجع إلى الصفحة 31 من الأعداد.(28/44)
لهم حق العفو لرد الأمر إليهم وطلب رأيهم، ولم ينقل أن أحدا من الصحابة أنكر عليه، فكان إجماعا.
ونوقش بأنه لا يلزم من عدم النقل عدم الاستشارة، ولا عدم وجود من ينكر، فلا يتم الاستدلال بالأثر على إسقاط حق أولياء الدم في العفو، ولا على ثبوت الإجماع. وتأول ابن قدامة قول عمر: (لأقدتهم به) على معنى لأمكنت الولي من استيفاء القود منهم.
ثانيا- ما روي أن عبد الله بن عامر كتب إلى عثمان بن عفان أن رجلا من المسلمين عدا على دهقان فقتله على ماله، فكتب إليه عثمان أن اقتله به. فإن هذا قتل غيلة.
ورد بأن في سنده عبد الملك بن حبيب الأندلسي، وهو ضعيف، وفي سنده أيضا مسلم بن جندب الهذلي، ولم يدرك عثمان، فكان الأثر منقطعا.
ثالثا- ما روي أن رجلا مسلما في زمن أبان بن عثمان أمر بالمسلم فقتل بالنبطي، لقتله إياه غيلة، فرأيته حتى ضربت عنقه، ولم ينقل أنه استشار أولياء الدم، ولا أن أحدا أنكر عليه فكان إجماعا.
ورد بأن في سنده عبد الملك بن حبيب، وهو ضعيف، كما أن فيه ما تقدم من مناقشة الاستدلال بأمر عمر.
وأما القياس فإن القتل غيلة لما كان في الغالب عن ختل وخداع وأخذ على غرة تعذر التحفظ منه، فكان كالقتل حرابة ومكابرة في أن عقوبة كل منهما من الحدود لا القود والقصاص، وأيضا في ذلك سد لذريعة الفساد والفوضى في الدماء والقضاء على الاحتيال والخديعة وسائر طرق الاغتيال، وبذلك يخصص عموم النص في وجوب القتل قصاصا، فيحمل على ما عدا قتل الغيلة.
وهنا إيراد على كلا الفريقين، وهو أن ما ادعاه كل منهما من الإجماع على ما أورده من القضايا في الآثار مردود بأنه مجرد سكوت ممن بلغه ذلك عند المعارضة في حكم صدر من ولي الأمر العام أو نائبه في قضايا أعيان المسائل الاجتهادية، ومثل ذلك يتعين حمله على الموافقة، فقد يكون من(28/45)
سمع ذلك أو بلغه من العلماء مخالفا فيه لكنه لم ينكر، لما تقرر عند العلماء من أن حكم الحاكم في واقعة عين اجتهادية يرفع الخلاف ويجب إمضاؤه، وعلى هذا لا تصح دعاوى الإجماع فيما تقدم ذكره في الآثار من الأحكام، ولهذا أمثلة كثيرة، منها قضاء عمر في المشركة أولا بحرمان الأشقاء، لاستغراق الفروض كل التركة، وقضاؤه في مثلها ثانيا بتشريك الأشقاء مع الإخوة من الأم في سهمهم، ولم يكن سكوت الصحابة عن حكمه الأول إجماعا، وكذا لم يكن سكوتهم عن حكمه الثاني إجماعا، ولذا استمر الخلاف بين العلماء حتى اليوم في حكم هذه المسألة، فمنهم من رأى الصواب في حكمه الأول، ومنهم من رأى الصواب في حكمه الثاني.
ومن ذلك ما ورد في المدونة مسألة الغيلة من أن سحنونا قال لابن القاسم: أرأيت من قتل قتل غيلة ورفع إلى قاض من القضاة فرأى ألا يقتله، وأن يمكن أولياء المقتول منه. ففعل فعفوا عنه، ثم استقضى غيره فرفع إليه، أفترى أن يقتله القاضي الثاني أم لا يقتله؛ لأنه قد حكم به قاض قبله؟ في قول مالك، قال: (لا أرى أن يقتله؛ لأنه مما اختلف الناس فيه) 1هـ (1) .
فهذا ابن القاسم مع كونه يرى أن عقوبة القتل غيلة من باب الحدود لا القصاص منع أن يحكم قاض بحد من قتل غيلة بعد أن حكم قبله قاض يخالفه في الرأي بقبول العفو. فكيف يصح مع ذلك وأمثاله دعوى الإجماع بمجرد السكوت على حكم في قضايا الأعيان.
هذا ما تيسر، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
__________
(1) المدونة جـ 16 ص 104 تحت عنوان: الذين يسقون السيكران.(28/46)
قرار رقم (38) وتاريخ11 \ 8 \ 1395 هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد،
فبناء على ما تقرر في الدورة (السادسة) لهيئة كبار العلماء، بأن تعد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الغيلة، وقد أعدته وأدرج في جدول أعمال الهيئة في الدورة السابعة المنعقدة في الطائف من 2 \ 8 \ 1395 هـ إلى 11 \ 8 \ 1395هـ، وقد عرض البحث على الهيئة، وبعد قراءته في المجلس ومناقشة المجلس لكلام أهل العلم في تعريف الغيلة وعند الفقهاء، وما ذكر من المذاهب والأدلة والمناقشة في عقوبة القاتل قتل غيلة هل هو القصاص أو الحد، وتداول الرأي، وحيث إن أهل العلم ذكروا أن قتل الغيلة ما كان عمدا عدوانا على وجه الحيلة والخداع أو على وجه يأمن معه المقتول من غائله القاتل سواء كان على مال أو لانتهاك عرض أو خوف فضيحة وإفشاء سرها أو نحو ذلك، كأن يخدع إنسان شخصا حتى يأمن منه ويأخذه إلى مكان لا يراه فيه أحد، ثم يقتله، وكأن يأخذ مال رجل بالقهر ثم يقتله خوفا من أن يطالبه بما أخذ، وكأن يقتله لأخذ زوجته أو ابنته، وكأن تقتل الزوجة زوجها في مخدعه أو منامه - مثلا - للتخلص منه أو العكس ونحو ذلك.
لذا قرر المجلس بالإجماع ما عدا الشيخ صالح بن غصون أن القاتل قتل غيلة يقتل حدا لا قصاصا، فلا يقبل ولا يصح فيه العفو من أحد، والأصل في(28/47)
ذلك الكتاب والسنة والأثر والمعنى.
أما الكتاب فقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا} (1) الآية، وقتل الغيلة نوع من الحرابة، فوجب قتله حدا لا قودا، وأما السنة فما ثبت في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- «أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين على أوضاح لها أو حلي فأخذ واعترف، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يرض رأسه بين حجرين (2) » .
فأمر -صلى الله عليه وسلم- بقتل اليهودي ولم يرد الأمر إلى أولياء الجارية، ولو كان القتل قصاصا لرد الأمر إليهم لأنهم أهل الحق، فدل أن قتله حدا لا قودا.
وأما الأثر فما ثبت عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قتل نفرا خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه غيلة، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا. فهذا حكم الخليفة الراشد في قتل الغيلة، ولا نعلم نقلا يدل على أنه رد الأمر إلى الأولياء، ولو كان الحق لهم لرد الأمر إليهم على أنه يقتل حدا لا قودا. وأما المعنى، فإن قتل الغيلة حق لله، وكل حق يتعلق به حق الله تعالى فلا عفو فيه لأحد كالزكاة وغيرها، ولأنه يتعذر الاحتراز منه كالقتل مكابرة.
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. . .
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) صحيح البخاري الخصومات (2413) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1672) ، سنن الترمذي كتاب الديات (1394) ، سنن النسائي القسامة (4779) ، سنن أبو داود الديات (4529) ، سنن ابن ماجه الديات (2666) ، مسند أحمد بن حنبل (3/203) ، سنن الدارمي الديات (2355) .(28/48)
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة السابعة
عبد الله بن محمد بن حميد
عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله خياط ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح ... محمد الحركان
إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد ... صالح بن غصون (له وجهة نظر)
عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين ... محمد بن جبير
صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع ... -(28/49)
وجهة نظر
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد، فبناء على إدراج موضوع قتل الغيلة في جدول أعمال الدورة السابعة لهيئة كبار العلماء، وبعد الاطلاع على البحث المعد من قبل اللجنة الدائمة ومناقشة المجلس للموضوع، أرى أن قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدا، وأنه لا يجوز العفو فيه، غير أنه لم يظهر لي أن ما يحدث من قتل بسبب خصومة أو عداوة أو ثائرة يعتبر قتل غيلة، وقد نص على ذلك غير واحد من علماء المالكية في كتبهم. كما وأن شيخ الإسلام ابن تيمية لما ذكر قتل الغيلة قال بعده ما نصه: (بخلاف من يقتل شخصا لغرض خاص مثل خصومة بينهما، فإن هذا حق لأولياء المقتول؛ إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا عفوا باتفاق المسلمين) . اهـ. ص: 310-311جـ 28 من المجموع. وله كلام في هذا الموضوع ص 316، 317 من المجلد المذكور جاء في آخره: (واختلف الفقهاء أيضا فيمن يقتل السلطان، كقتلة عثمان وقاتل علي -رضي الله عنهما- هل هم كالمحاربين فيقتلوا حدا، أو يكون أمرهم إلى أولياء الدم؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره؛ لأن في قتله فسادا عاما) . اهـ. وهذا واضح أنه رحمه(28/49)
الله لم يعتبر قتل الإمام علي -رضي الله عنه- غيلة، رغم أنه قتل عمدا على سبيل الخفية كما هو معلوم. هذا ما تبين لي وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. . .
صالح بن علي بن غصون
عضو هيئة كبار العلماء(28/50)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شئونهم الدينية والاجتماعية(28/51)
صفحة فارغة(28/52)
فتوى برقم 2017
السؤال: ما قولكم في مبتدع بدعا شركية يستغيث بالأولياء ويصلي في أضرحتهم راجيا أن يمدوه ببركتهم، وتزوج بامرأة ثيب بعد أن طلقها زوجها الأخير وكان يجامعها مرة بعد أخرى خفية حتى حملت منه فبادر بكتابة العقد عليها بعدما ظهر حملها، وتم هذا الزواج على غير هدى من الله ووضعت طفلة عمرها سنتان الآن، ثم تاب إلى الله من البدع والتزم سنة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وقرأ كتاب (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد) وغيره من كتب أهل السنة، وتاب من الزنى وفعل المنكرات، وزوجته حامل الآن، ويسأل: ماذا يفعل؟ هل عليه كفارة من أجل الزنا؟ وماذا يفعل مع أقاربه الذين لا يزالون على بدعهم الشركية؟ أفتوني.
الجواب: أولا: لا شك أن الشرك أكبر الكبائر، وأن البدع المحدثة في الدين من أقبح الجرائم، وأن الزنى من الفواحش وكبائر الذنوب، وأنه يجب على من ابتلي بشيء من ذلك أن يتخلص منه ويجتنبه، وأن يستغفر، فنرجو الله أن يتقبل توبته ويغفر ذنبه، وأن يحفظه في مستقبل أمره، وأن يبدل سيئاته حسنات، وعليه أن يكثر الندم والتوبة والاستغفار والأعمال الصالحات؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات، وألا يتبع خطوات الشيطان؛ فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (1) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (2) {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (3) {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} (4) وقال تعالى
__________
(1) سورة الفرقان الآية 68
(2) سورة الفرقان الآية 69
(3) سورة الفرقان الآية 70
(4) سورة الفرقان الآية 71(28/53)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} (1) وعليه أن يحمد الله ويشكره على التوفيق إلى الرشد بعد الغي، والهدى بعد الضلال.
ثانيا: عليه أن يجتهد مع عشيرته وسائر قومه بدعوتهم إلى التوحيد الخالص ونبذ البدع والخرافات، وترغيبهم في التمسك بالكتاب والسنة والعمل بهما؛ عسى أن تجدي فيهم الدعوى فيستجيبوا لها ويتوبوا إلى الله من شركهم وسائر بدعهم ويكونوا قوة معه في نصر الدعوة إلى الحق. والله المستعان.
ثالثا: إذا كان الواقع من حاله الأولى ما ذكر من سلوكه طريق الجاهلية الأولى قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- وارتكابه مثل ما ارتكبه من الشرك الأكبر، وأنه عقد الزواج على المرأة المذكورة أيام جاهليته اعتبرت توبته من ذلك رجوعا من الشرك والفجور وبدء حياة إسلامية جديدة، فيقر على عقد النكاح الذي جرى منه على هذه المرأة أيام جاهليتها إن كانت مثله حين عقد عليها ثم تابت مما كان منها من الشرك والفاحشة؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقر من أسلم من الكافرين على ما مضى من عقود زواجهم في الجاهلية، ولا يسألهم عن تفاصيل ما جرى عليه العقد، ولا يحدد لهم عقد زواج، ويعتبر ما كان بينهم من النسل سابقا أولادا لهم. فليس عليهما أكثر من أن يتبعا السيئة الحسنة ويكثرا من فعل الخيرات وتجنب ما حرم الله من المنكرات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة النور الآية 21(28/54)
فتوى برقم 9336
السؤال: إذا كان إنسان إمام مسجد ويستغيث بالقبور، ويقول: هذه قبور أولياء ونستغيث بهم من أجل الواسطة بيننا وبين الله، هل يجوز لي أن أصلي خلفه وأنا إنسان أدعو إلى التوحيد؟
الجواب: من ثبت لديك أنه يستغيث بأصحاب القبور أو ينذر لهم، فلا يصح أن تصلي خلفه؛ لأنه مشرك، والمشرك لا تصح إمامته ولا صلاته، ولا يجوز للمسلم أن يصلي خلفه؛ لقول الله سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) وقوله عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (3) وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأنعام الآية 88
(2) سورة الزمر الآية 65
(3) سورة الزمر الآية 66(28/55)
فتوى برقم 7267
السؤال: ما حكم الله فيمن يستغيث بالأولياء عند نزول حادث به؟
الجواب: من استغاث بالأولياء بعد موتهم أو في حال غيبتهم عنه فهو مشرك شركا أكبر لقوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (1) {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (2) .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة يونس الآية 106
(2) سورة يونس الآية 107(28/56)
فتوى برقم 3321
السؤال الأول: هل يجوز لمسلم أن يقول في دعائه: " أجيبوا وتوكلوا يا خدام هذه الأسماء الحسنى بقضاء حاجتي "؟
الجواب: نداء خدام الأسماء الحسنى لقضاء الحاجات شرك؛ لأنه نداء لغير الله من خدم غائبين موهومين لا نعلم له أصلا، قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} (1) {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (2) .
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 5
(2) سورة الأحقاف الآية 6(28/56)
وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (1) وقال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (2) {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} (3) الآية. وقال عز وجل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (4) وقال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (5) .
وثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله (6) » الحديث. إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على أن الدعاء لجلب النفع أو دفع الضرر إنما هو لله، فصرفه لغير الله شرك لأنه عبادة.
السؤال الثاني: هل يجوز لمسلم أن يكتب الأسماء الروحانية " الجن أو الملائكة " أو أسماء الله الحسنى أو غير ذلك من الحرز والعزيمة المشهورة عند العلماء الروحانيين بإرادة حفظ البدن من شر الجن والشيطان والسحر.
الجواب: الاستعانة بالجن أو الملائكة والاستغاثة بهم لدفع ضر أو جلب نفع أو للتحصن من شر الجن شرك أكبر يخرج عن ملة الإسلام والعياذ بالله - سواء كان ذلك بطريق ندائهم أو كتابة أسمائهم وتعليقها تميمة أو غسلها وشرب الغسول أو نحو ذلك. إذا كان يعتقد أن التميمة أو الغسل تجلب له النفع أو تدفع عنه الضرر دون الله.
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 117
(2) سورة يونس الآية 106
(3) سورة يونس الآية 107
(4) سورة الجن الآية 18
(5) سورة الجن الآية 6
(6) الإمام أحمد 1 \ 293 و303 و307 والترمذي 4 \ 667.(28/57)
وأما كتابة أسماء الله تعالى وتعليقها تميمة فقد أجازه بعض السلف وكرهه بعضهم لعموم النهي عن التمائم واعتبار تعليقها ذريعة إلى تعليق غيرها من التمائم الشركية، ولأن تعليقها يعرضها للأوساخ والأقذار، وفي ذلك امتهان لها، وهذا هو الصواب. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(28/58)
فتوى برقم 4144
السؤال: شخص عبد غير الله أو دعا غير الله أو ذبح لشيخ، هل يعذر بجهله أم لا يعذر؟ وإذا كان لا يعذر بالجهل فما الرد على قصة ذات أنواط؟ أفتونا مأجورين.
الجواب: لا يعذر المكلف بعبادته غير الله أو تقربه بالذبائح لغير الله أو نذره لغير الله ونحو ذلك من العبادات التي هي من اختصاص الله، إلا إذا كان في بلاد غير إسلامية ولم تبلغه الدعوة، فيعذر لعدم البلاغ، لا لمجرد الجهل؛ لما رواه مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار (1) » فلم يعذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من سمع به، ومن يعيش في بلاد إسلامية قد سمع بالرسول -صلى الله عليه وسلم- فلا يعذر في أصول الإيمان بجهله.
__________
(1) الإمام أحمد 4 \ 396 والإمام مسلم في صحيحه 2 \ 186 واللفظ له.(28/58)
أما من طلبوا من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يجعل لهم ذات أنواط يعلقون أسلحتهم، فهؤلاء كانوا حديثي عهد بكفر، وقد طلبوا فقط ولم يفعلوا، فكان ما حصل منهم مخالفا للشرع، وقد أنكره عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يفعلوه. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(28/59)
فتوى برقم 5034
السؤال: أرجو أن تفتونا في جماعة يتحلقون في المساجد ويذكرون الله ويذكرون رسوله، ويأتون في أذكارهم ببعض الأشياء المنافية للتوحيد، مثل قولهم: بصوت واحد: وخذ بيدي يا رسول الله. يرددون ذلك، ويقودهم أحدهم قائلا: يا مفتاحا لكنوز الله- يا كعبة لتجلي الله- يا عرشا لاستواء الله- يا كرسيا لتدلي الله. فاغننا يا رسول الله، أنت المقصود يا حبيب الله- أنت أنت يا رسول الله. إلى غير ذلك من هذا النوع المملوء بالشركيات.
الجواب: أولا: إن ذكر الله جماعة بصوت واحد على طريقة الصوفية بدعة، وقد ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » .
__________
(1) الإمام أحمد 6 \ 270. البخاري 3 \ 167. مسلم 12 \ 16. شرح النووي. أبو داود 5 \ 12 ابن ماجه 1 \ 7.(28/59)
ثانيا: إن دعاء غير الله والاستغاثة به لتفريج كربة أو كشف غمة شرك أكبر، لا يجوز فعله؛ لأن الدعاء والاستغاثة عبادة وقربة لله وحده، فصرفها لغيره شرك أكبر يخرج من الإسلام والعياذ بالله، قال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (1) {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (2) . وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (3) وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (4) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وجوب صرف العبادة لله وحده. وثبت في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله (5) » الحديث، وقال عليه السلام: «الدعاء هو العبادة (6) »
__________
(1) سورة يونس الآية 106
(2) سورة يونس الآية 107
(3) سورة الجن الآية 18
(4) سورة المؤمنون الآية 117
(5) الإمام أحمد 1 \ 293 و303 \ 307 والترمذي 4 \ 667.
(6) الإمام أحمد 4 \ 267 و271و279. وأبو داود 2 \ 161.الترمذي 5 \ 374.ابن ماجه 2 \ 1258.(28/60)
فتوى برقم 5476
السؤال: رجل يدعى صالحا أو من الصالحين، وهو حي على وجه الأرض، والناس يكرمونه غاية الإكرام، وكل سنة أو على الحول يعملون له الوليمة خاصة من كل رجال القبائل، فيأتيه الرجل ويقول له: أنت يا سيدي فلان عشاك عندي، على سبيل التبرك، والآخر يقول له: يا سيدي فلان غداك عندي، وأما الوليمة فهي تكون من ذبيحة أو ذبيحتين، ويجمع على الوليمة من الرجال حوالي 50 أو 610 رجلا في نفس الليلة أو اليوم، ويلقي الذكر إذا كانت الوليمة في الليل، والحاصل يبلغ تكاليف الوليمة عند الرجل صاحب الوليمة حوالي 100 جنيه، وبعد انصراف الرجل الولي يلحق به الرجل صاحب الوليمة ويعطيه ما لا يقل عن 50أو 20 جنيه، هذا كل سنة عند الناس الأغنياء، وهو يعلم من يطلب بخاطره أو جاهه عند الله في المغيب، وإليك هذا المثل عندما يمشي الرجل الذي في قلبه عقيدة أنه رجل صالح ويأتي في ظروف كربة فيقول: يا سيدي فلان خاطر بركتك وجاهك عند الله أن تفك لي كربة من كروب الدنيا، كمثل مرض أو خوف من طريق أو في ظلام من الليل وهكذا. ويقول له بعد الدعاء: لك مني يا سيدي فلان خمسة جنيهات إذا شفيت مرضي أو فك عني خوفي من أي نوع كان، وهذا كله في المغيب، وبعد أن لقي الرجل الصالح قال له: خذ جنيها، فيقول الرجل الصالح: هات الخمسة الذي قلتها لي في ساعة كربك، فيتعجب الرجل المكروب من هذا الأمر، وهذا كله في المغيب، فهل هذا الأمر يدل على بشرى عمل الصالح في الرجل المذكور، أم هو من عمل العرافين من الغيب والمنهي عنه، ونريد منك أيضا تفسيرا على هذا الأمر الدال على الصلاح أو المنهي عنه.
الجواب: أولا: دعاء غير الله من الأولياء والصالحين لكشف ضر أو شفاء مريض أو تأمين طريق مخوف؛ شرك أكبر يخرج من الإسلام، قال تعالى:(28/61)
{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (1) . وقال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (2) . ثانيا: ادعاء علم الغيب كفر، قال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (3) . أما الذبح لغير الله لقصد بركة هذا الولي فهذا لا يجوز، وفاعله ملعون؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لعن الله من ذبح لغير الله (4) » وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (5) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (6) ، وأما إن كان الذبح لقصد تكريم الإخوان وإطعامهم وفعل المعروف، فهذا لا شيء فيه. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الجن الآية 18
(2) سورة يونس الآية 106
(3) سورة النمل الآية 65
(4) الإمام أحمد 1 \ 108 و118 و152 و309 و317 ومسلم في صحيحه 13 \ 141 و142 والنسائي جـ 7 ص 232.
(5) سورة الأنعام الآية 162
(6) سورة الأنعام الآية 163(28/62)
فتوى برقم 6009
السؤال: أبي يعتقد في الشيخ المتوفى، ويعرف عندنا بالولي، فيتوسل به ويشركه في الدعاء مع الله، فيقول مثلا: (يا رب، يا سيدي عبد السلام) . ما حكم الإسلام في ذلك، مع أنه يصلي ويصوم ويزكي؟
الجواب: دعاء الأموات والغائبين من الأنبياء والأولياء وغيرهم وحدهم أو مع الله شرك أكبر، ولو صام وصلى وزكى؛ لقول الله سبحانه: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (1) وقوله سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (2) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (3) والآيات في هذا المعنى كثيرة. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة يونس الآية 106
(2) سورة فاطر الآية 13
(3) سورة فاطر الآية 14(28/63)
فتوى برقم 6310
السؤال: رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب ويقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكن يتوسل بغير الله ويقول: المدد يا بدوي(28/63)
ويا حسين، أو ينذر لغير الله عز وجل ويتمسح بالقبور، ووقع في الشرك الأكبر وليس الأصغر، فهل يجوز أن نقول عنه: إنه مشرك أو نقول: إنه جاهل بالتوحيد ولا نحكم عليه بالكفر؟ وهل تجوز الصلاة خلفه ومناكحته وأكل ذبيحته لأنه يسمي ويذكر اسم الله عليها؟ نرجو من فضيلتكم الإجابة، وفقكم الله.
الجواب: دعاء غير الله شرك أكبر، قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (1) وقال جل شأنه: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (2) والتوسل منه ما هو شرك ومنه ما محرم وبدعة وكلها ممنوعة، وأما التمسح بالقبور فمحرم وشرك، ومن وقع في شيء من الشرك فإنه يبين له الحكم ويقرن بالدليل، فإن تاب ورجع فالحمد لله، وإن أصر على ما هو عليه من الشرك فإنه يحكم بكفره، ولا تجوز الصلاة خلف المشرك ولا مناكحته ولا أكل ذبيحته، وإن سمى وذكر اسم الله. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 117
(2) سورة يونس الآية 106(28/64)
فتوى برقم 7366
السؤال: هل هناك أحد غير الله يستطيع تفريج الهم والغم ودفع المصائب؟
هذا السؤال تحته عشرة أسئلة، نجد في أكثر المذاهب سؤالا وهو: هل هناك أحد غير الله يفرج الكرب أم لا؟(28/64)
يتكلمون بكل قوة في هذا السؤال، إلا إننا لم نجد أحدا يجيب بالإثبات، فيأتي في ذهن إنسان شعور يبحث فيه عن أساليب مختلفة بأنه كيف يستطيع أحد تفريج الكرب دون الله، هذا السؤال له صور مختلفة، فطلب من العلماء جوابه الرجاء منهم إفادتنا بالجواب الشافي. مثلا عندنا زيد يريد تفريج همه وغمه، فيطلب من غير الله أن يحل مشكلته.
1 - إن كان أحد غير الله يفرج كربه، فمن هو الذي يسمع ويجيب على مسافة لا يعلم حدها إلا الله بينه وبين سائله في حياته وبعد مماته في قبره؟
2 - ولو فرضنا أنه يسمع بهذه المسافة البعيدة، فهناك سؤال آخر: هل هو يفهم لغات أهل الدنيا كلها حين ينادونه باللغات المختلفة، مثل الألمانية والإنجليزية وغيرها من اللغات؟
3 - ولو أجبتم بالإثبات بأنه يفهم لغات أهل الدنيا كلها، فينشأ منه سؤال آخر، وهو إن تقدم إليه في آن واحد ملايين من أهل الحاجة بحاجاتهم في لغاتهم المختلفة، فهل باستطاعته أن يسمع شكواهم ويجيبهم لطلباتهم في آن واحد، أم يحتاج إلى تعيين أوقات لحل مشكلة كل واحد بالنوبة، أي واحدا بعد واحد؟
4 - هل الذي يطلبون منه حاجاتهم ينام أم لا تأخذه سنة ولا نوم؟ وإن كان هو يتصف بالنوم فينبغي أن يكون عندنا جدول يبين أوقات راحته بين نوم ويقظة أو يسمع وهو نائم؟
5 - وهناك صاحب حاجات لا يستطيع أن يتكلم ويبين مراده باللسان، فهو يسأل حاجته بقلبه، فهل هو يجيبه على سؤاله القلبي أم لا؟
6 - الإنسان من المهد إلى اللحد يتعرض لمشاكل صغيرة وكبيرة، فإن كان الله هو الذي يتولى حل جميع مشكلاته، فلا حاجة للجوء إلى غير الله. وإن كان غير الله ينجي من هذه الكرب الكثيرة، فما هي فائدة الرجوع إلى الله؟
7 - فإن كان غير الله غير قادر على حل جميع المشكلات، فيقال: إن بعض المسائل يحلها رب العالمين، وبعض منها عند الله، فينبغي عند أهل(28/65)
الحاجة قائمة بما هو لله، وما هي لغير الله، حتى لا يقدم لله ما هو لغيره وما هو لغير الله لله.
8 - هل الذي يرفع ويكشف الضر عن الناس هو يستطيع جلب الضر إلى الناس، أو هو يكشف الضر دون جلبه فقط، فإذا كان يتولى كشف الضر فقط، فمن الذي يوقع الضرر؟
9 - فالحاصل لو فرضنا إن كان الله هو الذي يأتي بالضرر وغيره يكشف الضر، فإذا أراد الله أن يأتي بضر وأراد غيره أن يدفعه، وكل مصر على ما يريد، فمن المنتصر؟
10 - إذا أراد أن يصلي على محسن أو مسيء، فمن تطلب منه المغفرة؟
الجواب: إن الله تعالى وحده هو الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وهو وحده الذي يسمع دعاء الداعين أينما كانوا، وبأي لغة تكلموا، بل يجيب دعاءهم بلسان الحال، عقلاء أم غير عقلاء، وهو وحده الذي يضر وينفع حقيقة، أما ما يحصل ممن سواه فهو من الأسباب العادية التي مكن الله منها لعباده وأقدرهم عليها ففعلوها بتوفيق من الله تعالى، ورتب عليها مسبباتها، فللطبيب مثلا تشخيص الأمراض ووصف الدواء بتوفيق من الله، وإلى الله وحده الشفاء، وللحراث حرث الأرض وبذر الحب والسقي بهداية وتوفيق من الله، وإلى الله وحده ترتيب النتائج، وإيجاد المسببات بإنبات المزروع والأشجار، وإيجاد الحبوب والثمار، إلى أمثال هذا من الحوادث.
1 - وعلى هذا فليس هناك أحد غير الله يفرج الكربة حقيقة، ولكن قد يكون هناك من جعله الله سببا في ذلك، كالطبيب والحراث فيما تقدم، فيكون تفريج الكربة من الله بسبب المخلوق بتوفيق من الله، وليس هناك أحد غير الله يسمع الداعي من مسافة بعيدة ويجيبه، ولا ميت يسمع دعاء من يدعوه ويضرع إليه، ولو سمعه ما استجاب له، قال الله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (1)
__________
(1) سورة فاطر الآية 13(28/66)
{إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (1) .
2 - وليس هناك من يعلم جميع لغات المخلوقات سوى الله، فلا يتمكن أي مخلوق من سماع كل سائل ويفهم ما يقوله حتى يجيبه إلى مسألته. 3- وعلى فرض معرفة أحد سوى الله بلغات العالم- وهو مستحيل- فهو لا يستطيع أن يسمع نداء الكثرة منهم إذا سألوه في وقت واحد، وأن يحقق مطالبهم في وقت واحد، مع تباين حاجاتهم وتباعد أماكنهم. 4- ولا يتمكن الإنسان ونحوه من الاستماع للسائلين وإجابتهم في كل وقت، فإن من شأنه النسيان والغفلة والضعف والنوم، والحاجات والأسئلة والأدعية مستمرة، فلا يقوى على تحقيق ذلك إلا الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم.
5 - وليس هناك من يعلم ما في ضمير غيره من الطالب والحاجات إلا الله، فكيف يتيسر لغيره تعالى تحقيق حاجتهم إذا لم يسألوا بلسان المقال؟ 6، 7، 8، 9، 10 - ومما تقدم يتبين أيضا أنه لا يكشف الضر حقيقة إلا الله، ولا يعطي الخير حقيقة إلا هو، كما قال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (2) {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (3) . وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة فاطر الآية 14
(2) سورة يونس الآية 106
(3) سورة يونس الآية 107(28/67)
فتوى برقم 9027
السؤال الأول: يقول الناس عند النوازل والشدائد: يا رسول الله، وغيره من الأولياء، ويذهبون إلى مقابر الصالحين في حالة المرض، ويستغيثون بهم ويقولون: إن الله يدفع البلاء بهم، نحن نستمدهم، لكن نيتنا إلى الله؛ لأن المؤثر هو الله، هل هذا شرك أم لا؟ وهل يقال لهم: إنهم مشركون؟ والحال أنهم يصلون ويقرءون القرآن وغيره من العمل الصالح؟
الجواب: ما يفعله هؤلاء هو الشرك الذي كان عليه أهل الجاهلية الأولى، فإنهم كانوا يدعون اللات والعزى ومناة وغيرهم ويستغيثون بهم؛ تعظيما لهم ورجاء أن يقربوهم إلى الله، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (1) . ويقولون أيضا: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (2) . وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الدعاء عبادة وأنها لا تكون إلا لله، ونهى الله تعالى عن دعاء غيره، فقال: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (3) {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (4) . وعلى المسلمين أن يقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (5) في كل ركعة من صلواتهم، إرشادا لهم إلى أن العبادة لا تكون إلا له، وأن الاستعانة لا تكون إلا به دون الأموات من الأنبياء وسائر الصالحين، ولا يغرنك مع ذلك كثرة صلاة هؤلاء وصيامهم وقراءتهم؛ فإنهم ممن ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا؛ وذلك أنها لم تبن على أساس التوحيد الخالص، فكانت هباء منثورا، والأدلة من الكتاب والسنة على شركهم وإحباط عملهم كثيرة.
__________
(1) سورة الزمر الآية 3
(2) سورة يونس الآية 18
(3) سورة يونس الآية 106
(4) سورة يونس الآية 107
(5) سورة الفاتحة الآية 5(28/68)
فراجع في ذلك آيات القرآن والسنة الصحيحة وكتب أهل السنة. نسأل الله لنا ولك الهداية.
السؤال الثاني: هل للأولياء الصالحين أن يسمعوا نداء من دعاهم، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «والله إن موتاكم لتسمع قرع نعالكم (1) » ؟ أفيدوني.
الجواب: الأصل أن الأموات صالحين كانوا أو غير صالحين لا يسمعون كلام البشر؛ لقوله تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (2) وقوله سبحانه: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (3) .
ولكن قد يسمع الله الموتى صوت رسول من رسله؛ لحكمة من الحكم كما أسمع سبحانه قتلى بدر من الكفار صوت رسوله صلى الله عليه وسلم؛ إهانة وتبكيتا لهم، وتكريما لرسوله صلى الله عليه وسلم، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه حينما استنكر بعضهم ذلك: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا (4) » وارجع في الموضع إلى كتاب " النبوات "، وكتاب " التوسل والوسيلة "، وكتاب " الفرقان "، وكلها لشيخ الإسلام ابن تيمية، ففيها الكفاية في الموضوع، وأما سماع الميت حينما يوضع في قبره قرع نعال المشيعين فهو إسماع خاص ثبت في النص، فلا يزاد عليه لاستثنائه من الأدلة العامة الدالة على عدم سماع الموتى كما تقدم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1338) ، صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2870) ، سنن النسائي الجنائز (2051) ، سنن أبو داود الجنائز (3231) ، مسند أحمد بن حنبل (3/126) .
(2) سورة فاطر الآية 14
(3) سورة فاطر الآية 22
(4) الإمام أحمد، واللفظ له 1 \ 27 و3 \ 104و182 و263 و287 والبخاري 2 \ 101 والنسائي 4 \ 110.(28/69)
فتوى برقم 8818
السؤال: في شهر رمضان يدعون بعد كل ركعتين بواحد من الصحابة، فيقولون: بحياة فلان الصحابي الجليل أن يتقبل الله منا صلاتنا وصيامنا. وقد نصحتهم ولكن بلا فائدة، وبعد هذا أصلي لحالي في زاوية المسجد، هل لي الصلاة معهم أم أكون لحالي حسب ما أنا عليه؟ أفتوني جزاكم الله خير جزاء.
الجواب: أولا: الدعاء بجاه رسول الله أو بجاه فلان من الصحابة أو غيرهم أو بحياته لا يجوز؛ لأن العبادات توقيفية، ولم يشرع الله ذلك، وإنما شرع لعباده التوسل إليه سبحانه بأسمائه وصفاته وبتوحيده والإيمان به وبالأعمال الصالحات، وليس جاه فلان وفلان وحياته من ذلك، فوجب على المكلفين الاقتصار على ما شرع الله سبحانه، وبذلك يعلم أن التوسل بجاه فلان وحياته وحقه من البدع المحدثة في الدين، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » متفق على صحته، وقال عليه الصلاة والسلام: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه، والله ولي التوفيق
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) البخاري 3 \ 167ومسلم 12 \ 16 وأحمد 6 \ 270 وأبو داود 5 \ 12 وابن ماجه 1 \ 7.
(2) الإمام أحمد 6 \ 146و180و 256 والبخاري 3 \ 24 ومسلم 12 \ 16.(28/70)
فتوى برقم 9610
السؤال: أن شخصا أقر بكلمة لا إله إلا الله ومحمد رسول الله، ويؤدي الصلاة في الأوقات الخمسة، ولكنه يدعو شيئا مع الله تعالى، هل إذا توفي ذلك الشخص يجب عليك أن تشيعه أم لا؟
الجواب: الدعاء نوع من أنواع العبادة، وصرف شيء منه إلى غير الله شرك أكبر يخرج من الإسلام، قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (1) .
وقال:
{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (2) . وبذلك تعرف أنه لا يجوز لك الصلاة على من يفعل ذلك، ولا تشيع جنازته إذا مات ولم يتب.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 117
(2) سورة يونس الآية 106(28/71)
فتوى برقم 5318
السؤال: يقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1) . . ما حق من دعا الله بأسمائه الحسنى؟ أيتوسل بعشرة أسماء من أسمائه أو أكثرها أو يتوسل بالاسم المقتضي لذلك المطلوب المناسب لحصوله؟
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180(28/71)
الجواب: دعاء الله بأسمائه الحسنى والتوسل إليه بها مشروع؛ لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1) ولما رواه الإمام أحمد من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحدا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجا. قال: فقيل: يا رسول الله، ألا نتعلمها؟ فقال: بلى، ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها (2) » .
وللداعي أن يتوسل إلى الله بأي اسم من أسمائه الحسنى التي سمى بها نفسه أو سماه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو اختار منها ما يناسب مطلوبه كان أحسن، مثل: يا مغيث أغثني، ويا رحمن ارحمني، رب اغفر لي وارحمني إنك أنت التواب الرحيم (3) . . وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180
(2) رواه الإمام أحمد في مسنده 1 \ 391 و452
(3) انظر تفسير ابن كثير جـ2 ص 268 وما بعدها(28/72)
فتوى برقم 8946
السؤال: هل الدعاء يرد القضاء؟
الجواب: شرع الله سبحانه الدعاء وأمر به فقال:
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (1) .
وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (2) . فإذا فعل العبد السبب المشروع ودعا، فإن ذلك من القضاء، فهو رد القضاء بقضاء إذا أراد الله ذلك، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، ولا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر (3) » .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة غافر الآية 60
(2) سورة البقرة الآية 186
(3) رواه الإمام أحمد واللفظ له 5 \ 277 و280 و282 والترمذي 4 \ 448 وابن ماجه 1 \ 35(28/73)
فتوى برقم 9766
السؤال: هل يجوز قول الإنسان عند الاستغاثة مثلا بالله عز وجل: يا معين يا رب، أو عند طلب التيسير في أمر: يا مسهل، أو يا ميسر يا رب، وما الضابط في ذلك؟ وما حكم من يقول ذلك ناسيا أو جاهلا أو متعمدا؟(28/73)
الجواب: يجوز لك أن تقول ما ذكرت؛ لأن المقصود من المعين والمسهل والميسر في ندائك هو الله سبحانه وتعالى؛ لتصريحك بقولك: يا رب آخر النداء، سواء قلت ذلك ناسيا أو جاهلا أو متعمدا. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(28/74)
فتوى برقم 433
السؤال: ما حكم المناذير، وهو دعاء الجن والشياطين على شخص ما ليعملا به عملا مكروها، كأن يقال: خذوه اذهبوا به، انفروا به بقصد أو بغير قصد، وما حكم من دعا بهذا القول، حيث سمعت قول أحدهم أنه من دعا الجن لم تقبل له صلاة ولا صيام ولا يقبر في مقابر المسلمين، ولا تتبع جنازته ولا يصلى عليه إذا مات؟
الجواب: الاستعانة بالجن واللجوء إليهم في قضاء الحاجات من الإضرار بأحد أو نفعه: شرك في العبادة؛ لأنه نوع من الاستمتاع بالجني بإجابته سؤاله وقضائه حوائجه، في نظير استمتاع الجني بتعظيم الإنسي له ولجوئه إليه، واستعانته به في تحقيق رغبته، قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (1) {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (2) وقال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (3) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 128
(2) سورة الأنعام الآية 129
(3) سورة الجن الآية 6(28/74)
فاستعانة الإنسي بالجني في إنزال ضرر بغيره واستعاذته به في حفظه من شر من يخاف شره كله شرك.
ومن كان هذا شأنه فلا صلاة له ولا صيام؛ لقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) . ومن عرف عنه ذلك لا يصلى عليه إذا مات، ولا تتبع جنازته، ولا يدفن في مقابر المسلمين. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) سورة الزمر الآية 65(28/75)
فتوى برقم 6799
السؤال: امرأة استعاذت بالله من زوجها أو العكس، فما الحكم؟
الجواب: تجب إعاذة من استعاذ بالله تعظيما له جل شأنه، فقد أخرج أبو داود والنسائي بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل بالله فأعطوه، ومن استعاذ بالله فأعيذوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه (1) » . وهذا إذا كان المستعيذ لا يلزمه ما استعاذ منه كالدين وحق الزوج والقصاص ونحو ذلك لم تجب إعاذته، والواجب عليه أداء الحق عليه إلا
__________
(1) أبو داود جـ2 ص 310 والنسائي جـ5ص82(28/75)
أن يسمح خصمه عن حقه جمعا بين الأدلة. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(28/76)
فتوى برقم 2251
السؤال: في النذر لغير الله تعالى، فطائفة تقول: لا نذر إلا لله تعالى، وهو لغير الله تعالى كفر وشرك؛ لأنه عبادة، وهي لغيره تعالى كفر، وطائفة أخرى تقول: النذر لهم عمل صالح يوجب الأجر والمثوبة لفاعله - فما هو الحق في ذلك؟
الجواب: النذر نوع من أنواع العبادة التي هي حق لله وحده؛ لا يجوز صرف شيء منها لغيره، فمن نذر لغيره فقد صرف نوعا من العبادة التي هي حق الله تعالى لمن نذر له، ومن صرف نوعا من أنواع العبادة نذرا أو ذبحا أو غير ذلك لغير الله يعتبر مشركا مع الله غيره، داخلا تحت عموم قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (1) . وكل من اعتقد من المكلفين المسلمين جواز النذر والذبح للمقبورين؛ فاعتقاده هذا شرك أكبر مخرج من الملة، يستتاب صاحبه ثلاثة أيام، ويضيق عليه، فإن تاب وإلا قتل. أما أخذ ابنه من ماله ما يبني به مستقبله وكونه يرثه بعد موته في نفس المسألة المسؤول عنها، فإن هذا مبني على معرفة حقيقة واقع الأب ومعرفة الحال التي يموت عليها
__________
(1) سورة المائدة الآية 72(28/76)
فإذا كان أبوه مات على هذه العقيدة لا يعلم أنه تاب فإنه لا يرثه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم (1) » . ويجوز لابنه أن يأخذ من ماله في حياته ما طابت به نفسه له، وهكذا يجوز له أن يأخذ ما يحتاجه من مال ابنه بالمعروف بغير علمه إذا كان فقيرا عاجزا عن الأسباب التي تغنيه عن ذلك؛ لحديث عائشة في قصة هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان لما اشتكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا سفيان لا يعطيها ما يكفيها ويكفي بنيها، فقال: «خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك (2) » . وبهذا يتبين أن الحق مع الفرقة الأولى التي قالت: لا نذر إلا لله تعالى، وهو لغير الله تعالى كفر وشرك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الفرائض (6764) ، صحيح مسلم الفرائض (1614) ، سنن الترمذي الفرائض (2107) ، سنن أبو داود الفرائض (2909) ، سنن ابن ماجه الفرائض (2730) ، مسند أحمد بن حنبل (5/208) ، موطأ مالك الفرائض (1104) ، سنن الدارمي الفرائض (2998) .
(2) البخاري 09 / 6 \ 193 ومسلم 12 \ 7 شرح النووي، وأبو داود 3 \ 804 وابن ماجه 2 \ 769.(28/77)
فتوى برقم 3863
السؤال: ما حكم النذر لغير الله؟
الجواب: النذر لغير الله شرك؛ لكونه متضمنا التعظيم للمنذور له والتقرب إليه بذلك، ولكون الوفاء به له عبادة إذا كان المنذور طاعة، والعبادة يجب أن تكون لله وحده بأدلة كثيرة، ومنها قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (1) . فصرفها لغير الله شرك.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 25(28/77)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(28/78)
فتوى برقم 4042
السؤال: عندنا أناس كثيرون ينذرون الذبائح لغير الله من الأموات، وفي نفس الوقت يقولون: يا رب - مثلا - يا رب لو نجح ربنا ابني أو ابنتي سأذبح لك يا شيخ فلان خروفا؟
الجواب: النذر لغير الله شرك، والذبح لغير الله شرك؛ لقوله سبحانه: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} (1) . وقال تعالى {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (3) . الآية.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من ذبح لغير الله (4) » . والنذر داخل في قوله تعالى: (ونسكي) . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 270
(2) سورة الأنعام الآية 162
(3) سورة الأنعام الآية 163
(4) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .(28/78)
فتوى برقم 7113
السؤال: هل من الإسلام إذا سلم أحد على أخيه أن ينحني له تعظيما، أو يخلع نعليه وينحني له تعظيما؛ لأن هذا كله من عادة آبائنا، أرجو منكم بيانا شافيا من فضلكم؟
الجواب: لا يجوز الانحناء عند السلام ولا خلع النعلين له. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(28/79)
فتوى برقم 2378
السؤال: يروى «أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم على جماعة من أصحابه يتوكأ على عصا، فقاموا له، فقال لهم: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا (1) » .
(أ) ما حكم الإسلام في وقوف الطلبة لمدرسيهم أثناء دخولهم الفصول هل هو جائز أم لا؟
(ب) هل وقوف الناس بعضهم لبعض في المجالس حين التحية والمصافحة منهي عنه؟
الجواب: خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وخير القرون القرن الذي فيه الرسول صلى الله عليه وسلم والقرون المفضلة بعده، كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم، وكان هديه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في هذا المقام أنه إذا جاء إليهم لا يقومون له؛ لما يعلمون من كراهيته لذلك، فلا ينبغي لهذا المدرس أن يأمر طلبته بأن
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (5230) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3836) ، مسند أحمد بن حنبل (5/253) .(28/79)
يقوموا له، ولا ينبغي لهم أن يمتثلوا إذا أمرهم؛ فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(28/80)
فتوى برقم 4770
السؤال: ما حكم الذبح للميت الذي يدعى أنه ولي لله ويبنى عليه الجدران؟
الجواب: الذبح لمن ذكرت من الميت الذي يدعى أنه ولي لله نوع من أنواع الشرك، وذابحها للولي مشرك ملعون، وهي ميتة يحرم على المسلم الأكل منها؛ لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} (1) . ولما ثبت عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله من ذبح لغير الله (2) » . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .(28/80)
فتوى برقم 5276
السؤال: يقول صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من ذبح لغير الله (1) » ما هو المقصود من ذلك، ونحن في الجنوب إذا ذبح شخص لضيف أو لأهل بيته يقول: باسم الله وعلى ملة رسول الله، صدقة لوجه الله، اللهم اجعل ثوابها لي ولأهل بيتي؟
الجواب: المقصود من الحديث تحريم الذبح لمن مات من الأنبياء والأولياء رجاء بركتهم، والذبح للجن إرضاء لهم ورجاء قضائهم للحاجات أو دفعا لشرهم، فإن هذا شرك أكبر يستحق فاعله لعنة الله وغضبه، أما الذبح للضيوف إكراما لهم أو للأهل توسعة عليهم، والذبح تقربا إلى الله من أجل أن تجعل صدقة على الأموات يرجى ثوابها من الله للحي والميت، فهذا جائز، بل هو إحسان يرجى ثوابه من الله، وهكذا الضحايا يوم النحر عن الأموات والأحياء. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .(28/81)
فتوى برقم 5921
السؤال: بعض الناس من أهل الميت يسوقون ما يسمونه بالجدف على الميت إلى المقابر ليذبح ويقسم على حاضري القبر ويذبح على بعد 100 متر عن المقبرة، وهذا الجدف قد يكون من الغنم أو الإبل أو البقر، أرجو الإفادة من فضيلتكم وفقكم الله؟
الجواب: يحرم الله الذبح عند القبر والمسمى بالجدف؛ لما فيه من قصد(28/81)
التقرب والعبادة، وقد «لعن النبي صلى الله عليه وسلم من ذبح لغير الله (1) » رواه مسلم. وأما صناعة أهل الميت الطعام للحاضرين فليس من السنة، وإنما السنة أن يصنع لهم الطعام؛ لما ثبت من أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصنع الطعام لآل جعفر لما أتى نعيه حين قتل رضي الله عنه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .(28/82)
فتوى برقم 6208
السؤال: هناك أضرحة للأولياء تذبح فيها كل سنة في عاشوراء أكثر من 40 رأسا من الغنم تقريبا، وأكثر من 10 أبقار تقريبا. يجتمع فيها بعض المسلمين المخرفين يقرءون القرآن باسم الدعاء للأموات، ثم يأكلون هذه الذبائح، المطلوب من فضيلتكم أن تفتونا في هذه المشكلة مع الدليل؟
الجواب: أولا: ما ذكرت من ذبح الذبائح عند أضرحة الأولياء شرك، وفاعله ملعون؛ لأنه ذبح لغير الله، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله من ذبح لغير الله (1) » . وعلى هذا لا يجوز الأكل من الغنم والأبقار التي ذبحت عند قبور الأولياء.
ثانيا: قراءة القرآن على الأموات بدعة محدثة، وقد ثبت أن النبي صلى الله على وسلم قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » متفق على صحته.
السؤال الثاني: يوجد قبر ولي يذبح فيه كل سنة بقصد الدعاء والصدقة للأموات، ثم التوسل إلى أصحاب القبور لإنزال المطر، وهؤلاء من
__________
(1) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(28/82)
المسلمين الجهلاء لا يعرفون حكمها أو يتجاهلونها، فالرجاء أن تفتونا في هذه أيضا؟
الجواب: ما ذكرت من الذبح عند قبر الولي شرك، والتوسل به فيه تفصيل؛ فإن كان بدعائهم والاستغاثة بهم وسؤالهم إنزال المطر ونحو ذلك فهذا شرك أكبر، أما سؤال الله بهم أو بجاههم وحقهم وهو الذي يسميه بعض الناس توسلا فهو بدعة لا يجوز، ومن وسائل الشرك، والمشروع للمؤمن أن يسأل الله سبحانه بأسمائه وصفاته الحسنى أو بتوحيده أو بالأعمال الصالحة. ويجب على ولي الأمر أن يستتيب من عرف بالشرك الأكبر، فإن تاب وإلا قتل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه (1) » . رواه البخاري في صحيحه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3017) ، سنن الترمذي الحدود (1458) ، سنن النسائي تحريم الدم (4060) ، سنن أبو داود الحدود (4351) ، سنن ابن ماجه الحدود (2535) ، مسند أحمد بن حنبل (1/282) .(28/83)
فتوى برقم 7125
السؤال: ما الحكم في من يتعلقون بزيارة بعض الأولياء الأموات ويذهبون لهم، وإذا وقع لهم شيء كالجفاف والأمراض أو ما أشبه ذلك يذبحون عندهم شاة أو دجاجة لأجل أن يعطيهم الله ماء المطر أو يشفي لهم المريض.
الجواب: لا يجوز ذلك، بل هو شرك؛ لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2) . وقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (3) . ولما ثبت عن
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163
(3) سورة الكوثر الآية 2(28/83)
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله من ذبح لغير الله (1) » .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .(28/84)
فتوى برقم 7267
السؤال: ما حكم الله فيمن يذبح على الأضرحة، ويطلب منها الغوث والعون في النفع والضر؟
الجواب: الذبح على الأضرحة شرك أكبر، ومن فعل ذلك فهو ملعون؛ لما ثبت عن علي رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من ذبح لغير الله (1) » . . الحديث.
السؤال الثاني (4) : ما حكم الله فيمن يأكل من هذه الذبيحة؟
الجواب: من أكل هذه الذبيحة فهو آثم؛ لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} (2) . الآية.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .
(2) سورة المائدة الآية 3(28/84)
فتوى برقم 8071
السؤال: أشخاص من ضمن أدويتهم التي يعالجون بها الناس هو ذبح شيء من الغنم أو الدجاج على صدر الإنسان أو رأسه، أو بعض حلق الفضة التي توضع في يد المريض أو قطعة قماش صغيرة أو حفنة من تراب أظنهم يقولون: إنها من ثوب وتراب قبر قريب لهم صالح، فما حكم التداوي بهذا كله، وهل يجوز تصديقهم إذا أخبروا عن شيء؟
الجواب: يحرم الذبح لغير الله، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من ذبح لغير الله، وهو من أنواع الشرك، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2) . وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله من ذبح لغير الله (3) » ، أما التداوي بالطريقة المذكورة في السؤال فهو منكر ولا يجوز، ولو كان الذبح لله سبحانه وتعالى، ولا يجوز التصديق فيما يخبرونه به؛ لكونهم من المشعوذين والدجالين، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة (4) » . وقال صلى الله عليه وسلم: «من أتى كاهنا فصدقه بما يقول كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (5) » .
وبالله التوفيق- وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163
(3) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .
(4) رواه مسلم جـ14 ص 227 شرح النووي واللفظ له ورواه الإمام أحمد جـ4 ص 68
(5) رواه الإمام أحمد جـ 2ص429 وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في تيسير العزيز الحميد: صحيح الإسناد على شرط البخاري. ورواه الإمام أحمد بغير هذا اللفظ من حديث أبي هريرة جـ 2 \ 408 و476 ورواه أبو داود جـ4 ص 225(28/85)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(28/86)
فتوى برقم 9258
السؤال: زوجتي مريضة بمرض يقال له: الزار، وهو نوع من الصرع، وهو نتيجة مصادقتنا لأناس موجود لديهم هذا المرض، وإذا أحبوا شخصا أو صادقوه أعطوه معهم، فإذا أتاها فلا تشفى حتى تقوم إحدى هؤلاء الصديقات بعلاجه، والسؤال هو أن زوجتي تريدني أن أذبح لها خروفا لله تعالى من هذا المرض، ولا أعلم هل هو لله تعالى أم لهذا الشخص، وهي إحدى الصديقات، فرفضت ذلك، وقد رهنت بعض حليها حتى تقوم بعملية الذبح، فهل هذا جائز أم ماذا علي أن أعمله، أفيدونا جزاكم الله خيرا؟
الجواب: الذبح لغير الله تعالى شرك أكبر، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من ذبح لغير الله، فلا يجوز لك الذبح المذكور لعلاج مرض زوجتك، والعلاج المشروع يكون بالأدوية المباحة والرقية الشرعية وقراءة القرآن والأدعية المشروعة. وعليك مناصحة زوجتك ودعوتها إلى ترك الذبح لغير الله، وأن تسلك في علاجها من مرضها ما هو مشروع، يسر الله لها الشفاء والهداية. وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(28/86)
فتوى برقم 9879
السؤال: ما حكم الطواف حول أضرحة الأولياء؟ والذبح لهم أو النذر، ومن هو الولي في حكم الإسلام، وهل يجوز طلب الدعاء من الأولياء أحياء كانوا أو أمواتا؟
الجواب: الذبح للأموات أو النذر لهم شرك أكبر، والولي هو من والى الله بالطاعة، ففعل ما أمر به وترك ما نهى عنه شرعا، ولو لم تظهر على يده كرامات، ولا يجوز طلب الدعاء من الأولياء أو غيرهم بعد الموت، ويجوز طلبه من الأحياء الصالحين، ولا يجوز الطواف بالقبور، بل هو مختص بالكعبة المشرفة، ومن طاف بها يقصد بذلك التقرب إلى أهلها، كان ذلك شركا أكبر، وإن قصد بذلك التقرب إلى الله فهو بدعة منكرة؛ فإن القبور لا يطاف حولها، ولا يصلى عندها، ولو قصد وجه الله. والله ولي التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(28/87)
فتوى برقم 6949
السؤال: يقول بعض الناس بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يذبح ويتصدق عن خديجة، وجعلوه حجة للذبح على الأضرحة، ويقولون بأننا نتصدق عليهم، فهل يجوز؟
الجواب: ليس عمل النبي صلى الله عليه وسلم مثل العمل المذكور في السؤال؛ لأنه لم يذبح على الأضرحة ولا تبركا بالصالحين، إنما ذبحها تقربا إلى الله، ووزعها في صدائق خديجة رضي الله عنها صلة وصدقة.(28/87)
أما المبتدعة فيذبحون على القبور تقربا إلى من قبر فيها رجاء البركة من صاحب الضريح، وهذا شرك، ولو تصدقوا بلحم الذبيحة. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(28/88)
فتوى برقم 2527
السؤال: يأتينا بعض الوعاظ في البادية، ويقولون: إن الذي يذبح للجن ما له صلاة ولا حج، وأنا عندما سمعت هذا الكلام تبت إلى الله، إني ما أذبح للجن، وقد حججت، ويقولون: إن حجك باطل، فهل حجي باطل أم صحيح؟ فإذا كان باطلا فسأحج من جديد.
الجواب: الذبح للجن شرك بالله سبحانه وتعالى، لو مات فاعله عليه دون توبة منه لكان خالدا مخلدا في النار، والشرك لا يصح معه عمل؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) . .
فاحمد الله تعالى أن وفقك للتوبة من هذا الذنب العظيم الذي لا يقبل معه عمل، وحج من جديد، وإن صدقت توبتك فقد وعد الله التائب بالمغفرة وإبدال سيئاتك حسنات؛ لقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (2) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (3) {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (4) .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 88
(2) سورة الفرقان الآية 68
(3) سورة الفرقان الآية 69
(4) سورة الفرقان الآية 70(28/88)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(28/89)
فتوى برقم 4246
السؤال: ما حكم من نشأ في بلده ولم يدرك شيئا إلا الصلاة، بل أركان الإسلام الخمسة، ويعمل بكل؛ ولكنه يذبح للجن ويدعوهم عند حاجته، ولكنه لا يعرف أن الشريعة تمنع ذلك، هل هو معذور لجهله أم لا؟ وهل يقال له: أنت مشرك قبل البيان؟
الجواب: يجب على من عرف منه ذلك من أهل العلم بالتوحيد أن يبين له أن الذبح لغير الله من الجن أو غيرهم كالأنبياء والملائكة والأصنام شرك أكبر يخرج من الإسلام، وكذا دعاؤهم لقضاء الحاجات شرك أكبر يخرج من الإسلام؛ لأن كلا منهما عبادة يجب الإخلاص فيها لله وحده، فصرفها لغير الله شرك أكبر، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2) {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} (3) الآية، وقال {مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (4) {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} (5) الآية. وقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (6) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من ذبح لغير الله (7) » .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163
(3) سورة الأنعام الآية 164
(4) سورة يونس الآية 106
(5) سورة يونس الآية 107
(6) سورة الكوثر الآية 2
(7) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .(28/89)
الحديث، وإن أصر على الذبح للجن ودعائهم لقضاء الحاجة فهو مشرك شركا أكبر، ولا عذر له؛ لقيام الحجة عليه بالكتاب والسنة، ويقال له: كافر مشرك شركا أكبر.
السؤال: من أحل ذبيحة المشرك وهو يحتج بقول الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} (1) ويقول: إن هذه الآية لا تحتاج إلى تفسير وداوم على هذا، ولم يسمع قول أحد بعد، هل يكون كافرا؟
الجواب: من أحل ذبيحة مشرك الشرك الأكبر لذكره اسم الله عليها فهو مخطئ، لكنه ليس بكافر؛ لوجود الشبهة، ولا حجة له في الآية؛ لأن عمومها مخصص بالإجماع على تحريم ذبيحة المشرك. وعلى من قوي على البيان وعلم ذلك منه إرشاده. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأنعام الآية 118(28/90)
فتوى برقم 5728
السؤال: فيه جماعة عندهم واد اسمه أم الصفاء، وفي أول الصيف يشترون ثورا أو بقرة ويذبحونها على الصفاء، وهذه تحدث عندهم كل عام في أول الصيف، وأنا أشوف أنها شرك، والسبب في ذلك أنهم يذبحونها بقصد من في هذا الوادي من الجن والشياطين والخرافات. . . إلخ؛ لأنها في رأس السنة في مكان واحد، ولو كان في أي مكان لا بأس؛ لأنها بقصد الله، فما حكم ذلك؟ وهل هو شرك أم لا؟ ولماذا؟(28/90)
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكر من الذبح في هذا الوادي للجن فهو شرك أكبر يخرج من الإسلام؛ لقوله تعالى:
{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (3) الكوثر 2. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من ذبح لغير الله (4) » رواه مسلم في صحيحه. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163
(3) سورة الكوثر الآية 2
(4) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .(28/91)
فتوى برقم 5898
السؤال: يقال لبعض الناس: طبيب عربي، وقد يؤتى بالمريض إليه مثل مريض من جان أو غيره، فيأمرهم الطبيب بذبح نوع من الدجاج، كأن يقول: لون الديك أسود أو أبيض، ويوضع دمه على الإنسان، وقد لا يذكر اسم الله عليه، فما حكم الإسلام فيه؟
الجواب: الذبح لغير الله شرك أكبر، قال تعالى:
{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2) . وقد «لعن النبي صلى الله عليه وسلم من ذبح لغير الله، (3) » ويحرم إتيان مثل هذا من المشعوذين والكهنة ونحوهم ممن يفعل الشركيات. كما يحرم سؤالهم وتصديقهم. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163
(3) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .(28/91)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(28/92)
فتوى برقم 9228
السؤال: الذبح لغير الله حرام وشرك، ما حكم الشريعة في الذبح للضيوف أو للقريب، أرجو الإفادة؟
الجواب: الذبح للتقرب للمذبوح له لجلب نفع أو دفع ضر؛ شرك، وقد لعن «النبي صلى الله عليه وسلم من ذبح لغير الله (1) » .
وأما الذبح على اسم الله تعالى لإطعام الضيف أو القريب، فلا حرج في ذلك. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .(28/92)
فتوى برقم 9867
السؤال: طالعتنا صحيفة الرياض في عددها رقم6411 بتاريخ 1 \ 5 \ 1406هـ والمرفق صورة منه تحت عنوان (الذبح على عتبة المنزل الجديد) التي تتساءل المحررة فيه عن مدى صحة هذا الاعتقاد؛ حيث إنها عادة تبعها البعض، لذا وددت أن أرسل لسماحتكم صورة من هذا الخبر للاطلاع - الذبح على عتبة الباب: (عادة أخرى من العادات التي لم أستطع التوصل إلى معرفة جذورها، غير أنه من المتعارف عليه بين الناس أن الذبح(28/92)
على عتبة المنزل الجديد وقبل دخوله من أهم الأسباب لدفع العين ولجعل البيت مباركا، ولتجنب المآسي والحوادث غير المستحبة، ولأننا نؤمن بأنه لا ينفع حذر من قدر، لذا لا ندري بالضبط صحة هذا الاعتقاد؟
الجواب: إذا كانت هذه العادة من أجل إرضاء الجن وتجنب المآسي والأحداث الكريهة، فهي عادة محرمة، بل شرك، وهذا هو الظاهر من تقديم الذبح على النزول بالبيت وجعله على العتبة على الخصوص.
وإن كان القصد من الذبح إكرام الجيران الجدد والتعرف عليهم وشكر الله على ما أنعم به من السكن الجديد، وإكرام الأقارب والأصدقاء بهذه المناسبة وتعريفهم بهذا المسكن، فهذا خير يحمد عليه فاعله، لكن ذلك إنما يكون عادة بعد نزول أهل البيت فيه، لا قبل نزولهم، ولا يكون ذبح الذبيحة أو الذبائح عند عتبة البيت أو مدخل البيت على الخصوص. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(28/93)
فتوى برقم 4461
السؤال: قال بعض العلماء: إن مشرك هذه الأمة بمنزلة أهل الكتاب في تحليل ذبائحهم وتزويج نسائهم؛ لأن اليهود كتابهم التوراة، ونبيهم موسى عليه السلام، ولو كانوا كاذبين، وكذلك النصارى كتابهم الإنجيل ونبيهم عيسى، ولو كانوا كاذبين؛ لأن هؤلاء كلهم زعموا ذلك ثم تركوا دينهم، وكذلك مشركو هذه الأمة يزعمون أن كتابهم القرآن ونبيهم محمد صلى الله عله وسلم، ولذلك يحل تزويج نسائهم وتحل ذبائحهم مثل أهل الكتاب؟
الجواب: ليس من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ثم أشرك مع الله(28/93)
غيره بالسجود لغير الله، أو النذر أو الذبح لغير الله مثل أهل الكتاب، بل هو مرتد يستتاب ثلاثا بعد بيان الحق بدليله وإرشاده إليه، فإن تاب وإلا قتل، وماله لبيت المسلمين، لا يرثه أقاربه المسلمون، ولا تحل ذبيحته، ولا يزوج مسلمة، بل ينفسخ عقد نكاحه بمن كانت معه من المسلمات، بخلاف الكافرين أهل الكتاب فإنهم يقرون على أنكحتهم، ويكون بينهم التوارث، وتحل ذبائحهم، ويدعون إلى الإسلام، فإن تابوا وأسلموا فالحمد لله، وإلا أخذ منهم الجزية ولا يقتلون لكفرهم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(28/94)
فتوى برقم 8659
السؤال: يوجد لدينا ناس يزورون الأولياء في قبورهم، وينذرون لهم بذبائح، ويذكونها على نية نذورهم للولي ويوزعونها بين جيران المقابر أو جيران القبة التي يزورنها، هل لحم الذبيحة التي هي باسم الولي أكلها حلال أم أن هذا من الذي ذكر الله فيه قوله العزيز: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (1) ؟
الجواب: إذا كان الواقع ما ذكر فلا يجوز الأكل من هذه الذبائح؛ لأنها مما أهل لغير الله به، وهذا العمل من الشرك الأكبر؛ لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (3) وقال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من ذبح لغير الله (4) » .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة الأنعام الآية 162
(3) سورة الأنعام الآية 163
(4) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .(28/94)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(28/95)
فتوى برقم 10685
السؤال: هل يجوز أكل اللحم الذي يذبح لمولد النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الموالد؟
الجواب: ما ذبح في مولد نبي أو ولي تعظيما له فهو مما ذبح لغير الله، وذلك شرك، فلا يجوز الأكل منه، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله من ذبح لغير الله (1) » .
السؤال الثاني: ما حكم من يقول: إنه مسلم بالقول فقط، وهو مع أهل البدع والشرك بفعله، وهل يكون مسلما حقيقة، وهل يجوز أكل ذبحه؟
الجواب: من نطق بالشهادتين مصدقا بما دلتا عليه، وعمل بمقتضاهما فهو مسلم مؤمن، ومن أتى بما يناقضهما من الأقوال أو الأعمال الشركية فهو كافر، وإن نطق بهما، وصلى وصام، مثل أن يستغيث بالأموات أو يذبح لهم توقيرا وتعظيما، ولا يجوز الأكل من ذبيحته.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .(28/95)
فتوى برقم 8264
السؤال: إن الكفار يقطعون آذان بعض الدواب، ويسيبونها لغير الله أينما شاءت، لا يتعرضون لها بشيء بعد ذلك؛ فهل يجوز للمسلم ذبحها والأكل من لحومها؟
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكرت، وكان لا يترتب على أخذ هذه السوائب ضرر فلا حرج عليك في أخذها، وذبح ما يؤكل لحمه منها على اسم الله ذبحا شرعيا، والأكل منها، وقد يكون أخذها واجبا للقادر على ذلك؛ لما فيه من إنكار المنكر، والعمل على القضاء على الشرك.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(28/96)
فتوى برقم 200
السؤال: في حالة وقوع خصام أو مشاجرة بين اثنين أو أكثر على أي شيء يكون، فإن كبار القرية أو شيخ القبيلة يحضر للنظر فيما بين المتخاصمين، وبعد استكمال جوانب القضية ومعرفة محور النزاع والمخطئ من خلافه، فإنهم يفرضون على صاحب الخطأ الأكبر ذبيحتين أو ثلاثا أو أكثر في بعض الأحيان، وعلى الآخر صاحب الخطأ الأقل ذبيحة واحدة، بالإضافة إلى بعض الأشياء التي قد يحصلون عليها من المتخاصمين، ويقوم كل واحد منهم بذبح الذبائح التي توجبت عليه، ويحضر أكلها الجماعة والعدول الذين حكموا في القضية، وسواء كان المتخاصمون فقراء أو أغنياء فلا مناص لهم(28/96)
من هذه الأحكام، وتسمى هذه العادة البرهة أو العتامة كما يقولون، وهم في معظم القضايا لا يتصلون بالدوائر الحكومية هناك لفض نزاعاتهم، والأمر الذي يهمني معرفته هو الحكم في مثل هذه العادات من ناحية الجواز من عدمه، وهل فاعل مثل هذه الأفعال يدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من ذبح لغير الله (1) » أم لا، مع العلم أنه يذبح ويسفك الدم في رضا شخص أو أشخاص، وفي رضا رئيس أو رؤساء القبيلة. أرجو توجيهي بذلك؟
الجواب: التحكيم في الخصومات لإظهار خطأ المخطئ والانتصار للمعتدى عليه وإصلاح ذات البين، والفصل في المنازعات بالحق الذي جاءت به شريعة الإسلام حق مشروع بالكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (2) وقال: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (3) .
أما الذبائح التي يذبحها الطرفان المختصمان قليلة أو كثيرة عقب الانتهاء من الخصومة بالصلح فإن كانت تبرعا ممن ذبحها شكرا لله على الخلاص من الخصومة بسلام وعلى الرجوع إلى ما كان قبل من الصفاء والإخاء فهو حسن، رغب فيه الشرع وشمله عموم نصوص الحث على فعل الخير وشكر النعم، وعمل به الصحابة مثل كعب بن مالك؛ ما لم يتخذ بها عادة ويلتزم به التزام الواجبات المؤقتة بأوقاتها وأساليبها، أو يتجاوز بها الإنسان طاقته المادية ويشق بها على نفسه، وإلا كانت ممنوعة، وإن ألزم بها من قام بالتحقيق والصلح كلا من الطرفين إلزاما لا مناص لهم منه بحيث إذا تخلف من ألزم بها عن تنفيذها عد ذلك عيبا وعارا وربما فشل الصلح
__________
(1) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .
(2) سورة الحجرات الآية 9
(3) سورة النساء الآية 114(28/97)
وانتقض الحكم وعادت الخصومة كما كانت أو أشد؛ فهذا تشريع لم يأذن به الله، اللهم إلا أن يكون ذلك تعزيرا للمعتدي أو المخطئ فقط بقدر ما ارتكبه من الاعتداء أو الخطأ تأديبا له وتطييبا لخاطر المعتدى عليهم، فيجوز على قول من يجوز التعزيز بالمال من الفقهاء، ويوضع مال التعزيز حيث يرى الحكمان شرعا في بيت المال أو في وجه من وجوه البر والمعروف، دون التزام ذبحها للحكمين ومن حضر مجلس الصلح، وليس حكم هذه الذبائح حكم القرابين التي تذبح لغير الله من الأصنام وعند مقابر الصالحين أو تذبح للجن تقربا إليهم أو رجاء قضاء حاجة أو دفع ضر أو جلب نفع، وإنما هي في حالة المنع من الابتداع في الدين والعمل بتشريع لم يأذن به الله، فهي إلى الدخول في معنى قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (1) أقرب منها إلى الدخول في معنى حديث «لعن الله من ذبح لغير الله (2) » ، وإن كان كل من العملين ضلالا وزورا. وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) سورة التوبة الآية 31
(2) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .(28/98)
فتوى برقم 480
السؤال: إذا حصل بين قبيلتين تشاجر وخيف عليهم أن يذبح بعضهم بعضا، فإنها تدخل بينهم قبيلة أخرى وتذبح عند أحدهم ذبيحة يجتمعون عليها للإصلاح بين المتخاصمين، ما حكم هذه الذبيحة؟(28/98)
الجواب: إذا لزم يكون هناك غرض لذبح الذبيحة عند أحد المتخاصمين إلا الحضور لإجراء الصلح بينهما ثم الاجتماع على أكلها، فهي عون على إجراء الصلح الذي أمر الله تعالى به في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} (1) وعلى جمع الكلمة وإزالة ما في النفوس وإكراما لمن حضر الصلح، وعليه فلا يظهر لنا بأس في ذلك، وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) سورة الحجرات الآية 10(28/99)
فتوى برقم 4160
السؤال: ما حكم ذبح الذبيحة للضيف مع أن الله يقول: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (1) ؟
الجواب: يجوز ذبح الذبيحة للضيف ويذكر اسم الله عليها عند الذبح، وليس ذلك داخلا في عموم قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (2) بل المقصود في الآية ما ذبح لغير الله كالذبح للأموات ونحوهم تقربا إليهم، أما الذبح للضيف فالمقصود به إكرامه لا عبادته؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بإكرام الضيف. وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 173
(2) سورة المائدة الآية 3(28/99)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(28/100)
فتوى برقم 9573
السؤال: ما حكم الصدقة التي أذبحها وأقول في نفسي أو على من عندي: هذه لله تعالى بمناسبة نجاح ولدي أو بمناسبة سلامته من حادث سيارة أو بمناسبة أي فرح كان؟ فضيلة الشيخ: هل يجوز لي أن آكل من هذه الصدقة أم لا؟ علما بأني لا أحلف بالله ولا أنذر أني أفعل كذا وكذا. ولكن عندما يحصل هذا الفرح أقول: هذه صدقة لله تعالى، أرشدونا أثابكم الله حول ما ذكرت، وما هي الطريق السليم التي نسلكها؟
الجواب: الأصل في الأعمال أن تبنى على النية، النية شرط للإثابة على العمل، فينبغي للمسلم في كل نفقة أن ينوي بها التقرب إلى الله عز وجل، فإذا حصل مناسبة مشروعة كقدوم ضيف أو تشجيع ابن ونحو ذلك، ونوى بذلك التقرب إلى الله، فلا حرج أن يأكل منها. وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(28/100)
فتوى برقم 3535
السؤال: ما حكم الصلاة خلف رجل يأكل ما ذبح لغير الله، ويحتج بأنه حين الذبح ذكر اسم الله على الذبيحة؟(28/100)
الجواب: الذبح لغير الله شرك، وحكم الذبيحة حكم الميتة، ولا يجوز أكلها ولو ذكر عليها اسم الله إذا تحقق أنها ذبحت لغير الله، ومن أكل منها اجتهادا منه بين له الحكم، ومن أكل منها بعد العلم فلا ينبغي أن يكون إماما، بل تلتمس الصلاة خلف غيره.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(28/101)
فتوى برقم 9913
السؤال: هناك بعض الأشخاص ينذر بجزء من المال أو فدية ذبيحة إلى تحصيل الطلب الذي يريده، ومنهم من يطلب الشفاء، ومنهم من يطلب حقا ضائعا أو غير ذلك، وأحد ينذر بها لله، وفي حب الله ينذر بها لفلان أو بنت فلان، أفيدونا عن النذر، وماذا يجب جزاكم الله خير الدنيا ونعيم الآخرة؟
الجواب: أولا: لا يشرع النذر للمسلم؛ لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل (1) » لكن إذا نذر طاعة وجب عليه الوفاء بالنذر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (2) » رواه البخاري ومسلم.
ثانيا: النذر لغير الله شرك أكبر؛ لأنه عبادة، وصرفها لغير الله شرك. وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) البخاري 7 \ 232 النسائي 7 \ 16.
(2) البخاري 7 \ 233 أبو داود 3 \ 593 الترمذي 4 \ 104 النسائي 7 \ 17 ابن ماجة 1 \ 687.(28/101)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(28/102)
فتوى برقم 9412
السؤال: أنا شاب في المرحلة الثانوية (طالب) ، منذ نعومة أظافري وجل أهلي في بلدنا يتوافدون على أماكن أضرحة المشايخ للتمسح والتبرك بها والنذر لهم، فأبت نفسي هذه المشاهد، ولكني لا أستطيع الإفصاح؛ لأني أعتبر في نظرهم كافرا، وأنهم سيسمونني وقطعا سيصيبونني بمكروه، وأنهم أصحاب كرامات؛ لأنهم أولياء، فأغلبهم يدعي أنه رأى الله، فكنت أغبط ذلك في نفسي، إلى أن تعرفت بطريقة ما بجماعة أنصار السنة المحمدية الذين وضحوا لي بأن ما يدعيه هؤلاء ما هي إلا أوهام وشرك وأنهم أصحاب بدعة، وكل بدعة في النار، ووجدت عندهم بعض كتب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولكنني لا أستطيع أن أقتنيه لضيق ذات اليد، إنما أعتمد على استلاف كتبهم وإرجاعها لهم بعد مدة قصيرة. فأرجو منكم بيان الحكم في هذا العمل؟
الجواب: إن النذر لأضرحة المشائخ شرك؛ لأن النذر عبادة من العبادات، وصرف شيء منها لغير الله شرك أكبر، وهكذا دعاؤهم والاستعانة بهم؛ لأن القصد من ذلك طلب البركة منهم، وقد صح من حديث أبي واقد الليثي ما يدل على ذلك كما ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد في باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوها، وهكذا التمسح بالأضرحة بطلب البركة من أهلها.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(28/102)
فتوى برقم 1727
السؤال الأول: هل يمكن أن يعين ولي من أولياء الله أحدا من بعيد، مثلا رجل في الهند ويسكن ولي في السعودية، فهل يمكن أن يعين السعودي الهندي إعانة بدنية، مع أن السعودي موجود في السعودية، والهندي موجود في الهند؟
الجواب: يمكن أن يعين الأحياء من الأولياء وغير الأولياء من استعان بهم في حدود الأسباب العادية؛ ببذل مال، أو شفاعة عند ذي سلطان، أو إنقاذ من مكروه ونحو ذلك من الوسائل التي هي في طاقة البشر حسب ما هو معتاد ومعروف بينهم. أما ما كان فوق قوى البشر من الأسباب غير العادية كالمثال الذي ذكره السائل، فليس ذلك إلى العباد، بل هو إلى الله وحده لا شريك له، فهو القادر على كل شيء، وهو الذي إليه السنن الكونية، يمضي منها ما شاء ويبعد أو يخرق منها ما شاء، ولهذا كانت له دعوة الحق، وإليه الملجأ وحده، ومنه العون دون سواه؛ فإنه وحده الذي أحاط بكل شيء علما، ووسع كل شيء حكمة ورحمة، وهيمن على كل شيء بقوته وقهره، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا راد لما قاله، وهو على كل شيء قدير، قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} (1) {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (2) وقال: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (3) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (4) وعلمنا في سورة الفاتحة
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 5
(2) سورة الأحقاف الآية 6
(3) سورة فاطر الآية 13
(4) سورة فاطر الآية 14(28/103)
أن نقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) . كما أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم ألا نسأل إلا الله، ولا نستعين إلا به، بقوله: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله (2) » . . الحديث.
السؤال الثانى: هل يعين علي رضي الله عنه أحدا عند المصائب؟
الجواب: قتل علي رضي الله عنه ولم يعلم بتدبير قاتله، ولم يستطع أن يدفع عن نفسه، فكيف يدعى أنه يدفع المصائب عن غيره بعد موته وهو لم يستطع أن يدفعها عن نفسه في حياته، فمن اعتقد أنه أو غيره من الأموات يجلب نفعا أو يعين عليه، أو يكشف ضرا فهو مشرك؛ لأن ذلك من اختصاص الله سبحانه، فمن صرفه إلى غيره عقيدة أو استعانة به، فقد اتخذه إلها، قال الله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (3) .
السؤال الثالث: هل الخضر عليه السلام حارس في الأنهار والصحاري، وهل يعين كل من يضل عن الطريق إذا ناداه؟
الجواب: الصحيح من أقوال العلماء أن الخضر عليه السلام توفي قبل إرسال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (4) وعلى تقدير أنه بقي حيا حتى لقي نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم فقد دلت السنة على وفاته بعد وفاة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بمدة محدودة، بينها صلى الله عليه وسلم بقوله فيما ثبت عنه: «أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها اليوم أحد (5) » وعلى هذا
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 5
(2) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2516) ، مسند أحمد بن حنبل (1/308) .
(3) سورة الأنعام الآية 17
(4) سورة الأنبياء الآية 34
(5) البخاري 1 \ 37و141و149ومسلم 16 \ 89 وأبو داود 4 \ 516 والترمذي 4 \ 520.(28/104)
يكون شأنه شأن الأموات لا يسمع نداء من ناداه، ولا يجيب من دعاه، ولا يهدي من ضل عن الطريق إذا استهداه، وعلى تقدير أنه حي إلى اليوم فهو غائب، شأنه شأن غيره من الغائبين، لا يجوز دعاؤه ولا الاستنجاد به في شدة أو رخاء.
السؤال الرابع: توفي رجل صالح في الهند وقبره في بلد اسمه اجميز، فهل تجوز الاستعانة به؟ وهل يعين من استعان به ولا يرد أحدا؟
الجواب: إن الاستعانة بالأموات شرك، وإنهم لا يملكون أن يستجيبوا لدعائهم، بل لا يسمعونه وسيتبرءون منهم ومن عبادتهم، والأدلة على هذا من الكتاب والسنة كثيرة، فمنها قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (1) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (2) ، وقوله سبحانه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} (3) {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (4) .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة فاطر الآية 13
(2) سورة فاطر الآية 14
(3) سورة الأحقاف الآية 5
(4) سورة الأحقاف الآية 6(28/105)
صفحة فارغة(28/106)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
حكم قراءة القرآن للميت في داره
السؤال: هل قراءة القرآن للميت بأن نضع في منزل الميت أو داره مصاحف، ويأتي بعض الجيران والمعارف من المسلمين فيقرأ كل واحد منهم جزءا مثلا، ثم ينطلق إلى عمله ولا يعطى في ذلك أي أجر من المال. . وبعد انتهائه من القراءة يدعو للميت ويهدي له ثواب القرآن. . فهل تصل هذه القراءة والدعاء إلى الميت ويثاب عليها أم لا؟ أرجو الإفادة وشكرا لكم. . . علما بأني سمعت بعض العلماء يقول بالحرمة مطلقا، والبعض بالكراهة والبعض بالجواز.
الجواب: هذا العمل وأمثاله لا أصل له، ولم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم أنهم كانوا يقرءون للموتى، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » أخرجه مسلم في صحيحه وعلقه البخاري في الصحيح جازما به، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » . وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته يوم الجمعة: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (3) » . زاد النسائي بإسناد صحيح «وكل ضلالة في النار (4) » . أما الصدقة للموتى والدعاء لهم فهو ينفعهم ويصل إليهم بإجماع المسلمين، وبالله التوفيق، والله المستعان.
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(3) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2954) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/371) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(4) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .(28/107)
حكم إقامة الولائم عند موت الميت
السؤال: يقيم بعض الناس ولائم وذبائح عند موت أقاربهم، وتصرف قيمة هذه الولائم من مال المتوفى، ما حكم ذلك؟ وإذا وصى الميت بإقامة مثل هذه الولائم بعد موته، هل يلزم الشرع الورثة بإنفاذ هذه الوصية؟
الجواب: الوصية بإقامة الولائم بعد الموت بدعة، ومن عمل الجاهلية، وهكذا عمل أهل الميت للولائم المذكورة- ولو بدون وصية - منكر لا يجوز؛ لما ثبت عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: " كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد الدفن من النياحة". خرجه الإمام أحمد بإسناد حسن، ولأن ذلك خلاف ما شرعه الله من إسعاف أهل الميت بصنعة الطعام لهم؛ لكونهم مشغولين بالمصيبة؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما بلغه استشهاد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في غزوة مؤتة قال لأهله: «اصنعوا لآل جعفر طعاما؛ فقد أتاهم ما يشغلهم (1) » .
__________
(1) سنن الترمذي الجنائز (998) ، سنن أبو داود الجنائز (3132) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1610) .(28/108)
حكم قراءة الفاتحة للميت
السؤال: ما حكم قراءة الفاتحة للميت وذبح المواشي ودفع الفلوس إلى أهل الميت؟
الجواب: التقرب إلى الأموات بالذبائح أو بالفلوس أو بالنذور وغير ذلك من العبادات؛ كطلب الشفاء منهم أو الغوث أو المدد شرك أكبر، لا يجوز لأحد فعله؛ لأن الشرك أعظم الذنوب وأكبر الجرائم؛ لقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) ولقوله
__________
(1) سورة النساء الآية 48(28/108)
سبحانه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (1) الآية، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة، فالواجب إخلاص العبادة لله وحده، سواء كانت ذبحا أو نذرا أو دعاء أو صلاة أو صوما أو غير ذلك من العبادات، ومن التقرب إلى أصحاب القبور بالنذور أو بالطعام، للآيات السابقة، ولقوله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (3) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (4) أما إهداء الفاتحة أو غيرها من القرآن إلى الأموات فليس عليه دليل، فالواجب تركه؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم ما يدل على ذلك، لكن يشرع الدعاء للأموات المسلمين والصدقة عنهم، وذلك بالإحسان إلى الفقراء والمساكين، يتقرب العبد بذلك إلى الله سبحانه، ويسأله أن يجعل ثواب ذلك لأبيه أو أمه أو غيرهما من الأموات أو الأحياء؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (5) » ، ولأنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم «أن رجلا قال له: يا رسول الله، إن أمي ماتت ولم توص، وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم (6) » . متفق على صحته.
وهكذا الحج عن الميت والعمرة عنه وقضاء دينه، كل ذلك ينفعه حسب ما ورد في الأدلة الشرعية، أما إذا كان السائل يقصد الإحسان إلى أهل الميت والصدقة بالنقود والذبائح، فهذا لا بأس به إذا كانوا فقراء، والأفضل أن يصنع الجيران والأقارب الطعام في بيوتهم ثم يهدوه إلى أهل الميت؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «لما بلغه موت ابن عمه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في غزوة مؤتة أمر أهله أن يصنعوا لأهل جعفر طعاما، وقال: لأنه قد
__________
(1) سورة المائدة الآية 72
(2) سورة الأنعام الآية 88
(3) سورة الأنعام الآية 162
(4) سورة الأنعام الآية 163
(5) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .
(6) صحيح البخاري الجنائز (1388) ، صحيح مسلم الزكاة (1004) ، سنن النسائي الوصايا (3649) ، سنن أبو داود الوصايا (2881) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2717) ، مسند أحمد بن حنبل (6/51) ، موطأ مالك الأقضية (1490) .(28/109)
أتاهم ما يشغلهم (1) » ، وأما كون أهل الميت يصنعون طعاما للناس من أجل الميت فهذا لا يجوز، وهو من عمل الجاهلية، سواء كان ذلك يوم الموت أو في اليوم الرابع أو العاشر، أو على رأس السنة، كل ذلك لا يجوز؛ لما ثبت عن جرير بن عبد الله البجلي أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصناعة الطعام بعد الدفن من النياحة.
أما إن نزل بأهل الميت ضيوف زمن العزاء، فلا بأس أن يصنعوا لهم الطعام من أجل الضيافة، كما أنه لا حرج على أهل الميت أن يدعوا من شاءوا من الجيران والأقارب ليتناولوا معهم ما أهدي لهم من الطعام، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سنن الترمذي الجنائز (998) ، سنن أبو داود الجنائز (3132) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1610) .(28/110)
حكم أخذ أجرة قراءة القرآن على الأموات
السؤال: أناس عندنا يقرءون القرآن على الأموات، ويأخذون عليه أجرة، فهل يستفيد منه الأموات شيئا، وإذا مات واحد منهم يقرءون القرآن ثلاثة أيام، ويعملون ذبائح وولائم، فهل هذا من الشرع؟
الجواب: القراءة على الأموات بدعة، وأخذ الأجرة على ذلك لا يجوز؛ لأنه لم يرد في الشرع المطهر ما يدل على ذلك، والعبادات توقيفية لا يجوز منها إلا ما شرعه الله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » . متفق على صحته. وهكذا ذبح الذبائح وإعداد الطعام من أجل الميت كله بدعة منكرة، لا يجوز، سواء كان ذلك في يوم أو أيام؛ لأن الشرع المطهر لم يرد بذلك، بل هو من عمل الجاهلية؛ لما ثبت في مسند الإمام أحمد رحمه الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة (2) » . وقال: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب (3) » . رواه مسلم في صحيحه.
وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا نعد الاجتماع إلى
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الجنائز (934) ، مسند أحمد بن حنبل (5/343) .
(3) صحيح مسلم الجنائز (934) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1581) ، مسند أحمد بن حنبل (5/344) .(28/110)
أهل الميت وصنعة الطعام بعد الدفن من النياحة. رواه الإمام أحمد بإسناد حسن، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن (1) » . . . الحديث. ولم يكن من عمل النبي صلى الله عليه وسلم، ولا من عمل الصحابة رضي الله عنهم أنه إذا مات الميت يقرءون له القرآن أو يقرءون عليه القرآن، أو يذبحون الذبائح، أو يقيمون المآتم والأطعمة والحفلات، كل هذا بدعة، فالواجب الحذر من ذلك، وتحذير الناس منه، وعلى العلماء بوجه أخص أن ينهوا الناس عن ما حرم الله عليهم، وأن يأخذوا على أيدي الجهلة والسفهاء حتى يستقيموا على الطريق السوي الذي شرعه الله لعباده، وبذلك تصلح الأحوال والمجتمعات ويظهر حكم الإسلام، وتختفي أمور الجاهلية. نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (934) ، مسند أحمد بن حنبل (5/343) .(28/111)
حكم الصلاة خلف المتمسك بالبدعة، وحكم صلاة
الجمعة لاثني عشر رجلا
السؤال: ما حكم المقيم في بلد أهله متمسكون بالبدعة، هل يصح له أن يصلي معهم صلاة الجمعة أو الجماعة، أو يصلي وحده، أو تسقط عنه الجمعة؟ وإذا كان أهل السنة ببلد أقل من اثني عشر، فهل تصح لهم الجمعة أم لا؟
الجواب عن السؤال الأول: إن إقامة الجمعة واجبة مع كل مسلم أو فاجر، فإذا كان الإمام في الجمعة لا تخرجه بدعته عن الإسلام فإنه يصلى خلفه، قال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في عقيدته المشهورة: (ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم) انتهى. قال الشارح لهذه العقيدة، وهو من العلماء المحققين في شرح هذه الجملة: قال صلى الله عليه وسلم: «صلوا خلف كل بر وفاجر» رواه مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه الدارقطني وقال: مكحول لم يلق أبا هريرة، وفي إسناده معاوية بن صالح متكلم فيه، وقد احتج به مسلم في صحيحه، وخرجه له الدارقطني أيضا وأبو داود عن مكحول عن أبي هريرة رضي الله(28/111)
عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلاة واجبة عليكم مع كل مسلم برا كان أو فاجرا، وإن عمل بالكبائر، والجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجرا، وإن عمل بالكبائر» . وفي صحيح البخاري أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف الثقفي، وكذا أنس بن مالك، وكان الحجاج فاسقا ظالما، وفي صحيحه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم (1) » . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلوا خلف من قال: لا إله إلا الله، وصلوا على من مات من أهل لا إله إلا الله» أخرجه الدارقطني من طرق وضعفها.
اعلم رحمك الله وإيانا أنه يجوز للرجل أن يصلي خلف من لم يعلم منه بدعة ولا فسقا باتفاق الأئمة، وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه، ولا أن يمتحنه فيقول ماذا تعتقد؟ بل يصلي خلف المستور الحال، ولو صلى خلف مبتدع يدعو إلى بدعته أو فاسق ظاهر الفسق وهو الإمام الراتب الذي لا يمكنه الصلاة إلا خلفه كإمام الجمعة والعيدين، والإمام في صلاة الحج بعرفة، ونحو ذلك، فإن المأموم يصلي خلفه عند عامة السلف والخلف، ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار فهو مبتدع عند أكثر العلماء، والصحيح أنه يصليها ولا يعيدها؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار ولا يعيدون، كما كان عبد الله بن عمر يصلي خلف الحجاج بن يوسف، وكذلك أنس بن مالك رضي الله عنه كما تقدم، وكذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيره يصلون خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان يشرب الخمر، حتى إنه صلى بهم الصبح مرة أربعا ثم قال: أزيدكم؟ فقال ابن مسعود: ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة. وفي الصحيح أن عثمان رضي الله عنه لما حصر صلى بالناس شخص، فسأل سائل عثمان: إنك إمام عامة وهذا الذي صلى بالناس إمام فتنة؟ فقال: يا ابن أخي، إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذ أساءوا فاجتنب إساءتهم.
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (694) ، مسند أحمد بن حنبل (2/355) .(28/112)
والفاسق والمبتدع صلاته في نفسها صحيحة، فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته، لكن إنما كره من كره الصلاة خلفه؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب.
ومن ذلك أن من أظهر بدعة وفجورا لا يرتب إماما للمسلمين؛ فإنه يستحق التعزيز حتى يتوب، فإن أمكن هجره حتى يتوب كان حسنا، وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره أثر ذلك في إنكار المنكر حتى يتوب أو يعزل أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه، فمثل هذا إذا ترك الصلاة خلفه كان في ذلك مصلحة شرعية ولم تفت المأموم جمعة ولا جماعة.
وأما إذا كان ترك الصلاة خلفه يفوت المأموم الجمعة والجماعة، فهنا لا يترك الصلاة خلفه إلا مبتدع مخالف للصحابة رضي الله عنه، وكذلك إذا كان الإمام قد رتبه ولاة الأمور وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية، فهنا لا يترك الصلاة خلفه، بل الصلاة خلفه أفضل.
فإذا أمكن للإنسان أن لا يقدم مظهرا للمنكر في الإمامة، وجب عليه ذلك، لكن إذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الإمامة، أو كان لا يتمكن من صرفه عن الإمامة إلا بشر أعظم ضررا من ضرر ما أظهر من المنكر، فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بحصول أعظمهما؛ فإن الشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، بحسب الإمكان، فتفويت الجمع والجماعات أعظم فسادا من الاقتداء فيهما بالإمام الفاجر، لا سيما إذا كان التخلف عنها لا يدفع فجورا، فيبقى تعطيل المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة.
وأما إذا أمكن فعل الجمعة والجماعة خلف البر فهذا أولى من فعلها خلف الفاجر، وحينئذ فإذا صلى خلف الفاجر من غير عذر هو موضع اجتهاد العلماء: منهم من قال: يعيد، ومنهم من قال: لا يعيد. وموضع بسط ذلك في كتب الفروع. انتهى كلام الشارح.
والأقرب في هذه المسألة الأخيرة عدم الإعادة للأدلة السابقة، ولأن الأصل عدم وجوب الإعادة، فلا يجوز الإلزام بها إلا بدليل خاص يقتضي ذلك، ولا نعلم وجوده، والله الموفق.(28/113)
وأما السؤال الثاني: فجوابه أن يقال: هذه المسألة فيها خلاف مشهور بين أهل العلم، والصواب في ذلك جواز إقامة الجمعة بثلاثة فأكثر إذا كانوا مستوطنين في قرية لا تقام فيها الجمعة، أما اشتراط أربعين أو اثني عشر أو أقل أو أكثر لإقامة الجمعة، فليس عليه دليل يعتمد عليه فيما نعلم، وإنما الواجب أن تقام في جماعة، وأقلها ثلاثة، وهو قول جماعة من أهل العلم، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو الصواب كما تقدم.(28/114)
حكم الكتابة على القبور
السؤال: هل يجوز وضع قطعة من الحديد أو "لافتة" على قبر الميت مكتوب عليها آيات قرآنية بالإضافة إلى اسم الميت وتاريخ وفاته. . . إلخ؟
الجواب: لا يجوز أن يكتب على قبر الميت لا آيات قرآنية ولا غيرها، لا في حديدة ولا في لوح ولا في غيرهما؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم «نهى أن يجصص القبر وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه (1) » . رواه الإمام مسلم في صحيحه، زاد الترمذي والنسائي بإسناد صحيح: وأن يكتب عليه.
الحكمة من إدخال قبر الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد
السؤال: من المعلوم أنه لا يجوز دفن الأموات في المساجد، وأيما مسجد فيه قبر لا تجوز الصلاة فيه، فما الحكمة من إدخال قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وبعض صحابته في المسجد النبوي؟
الجواب: قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (2) » متفق على صحته، وثبت عنه أيضا عن عائشة رضي الله عنها «أن أم سلمة وأم حبيبة ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتاها بأرض الحبشة وما فيها من الصور
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .
(2) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .(28/114)
فقال صلى الله عليه وسلم: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله (1) » . متفق عليه. وروى مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله البجلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك (2) » .
وروى مسلم أيضا عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «نهى أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه (3) » . فهذه الأحاديث صحيحة، وما جاء في معناها كلها تدل على تحريم اتخاذ المساجد على القبور، ولعن من فعل ذلك، كما تدل على تحريم البناء على القبور، واتخاذ القباب عليها وتجصيصها؛ لأن ذلك من أسباب الشرك بها وعبادة سكانها من دون الله، كما قد وقع ذلك قديما وحديثا، فالواجب على المسلمين أينما كانوا أن يحذروا مما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، وألا يغتروا بما فعله كثير من الناس؛ فإن الحق هو ضالة المؤمن متى وجدها أخذها، والحق يعرف بالدليل من الكتاب والسنة، لا بآراء الناس وأعمالهم، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم وصاحباه رضي الله عنهما لم يدفنوا في المسجد، وإنما دفنوا في بيت عائشة، ولكن لما وسع المسجد في عهد الوليد بن عبد الملك أدخل الحجرة في المسجد في آخر القرن الأول، ولا يعتبر عمله هنا في حكم الدفن في المسجد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه لم ينقلوا إلى أرض المسجد، وإنما أدخلت الحجرة التي هم بها في المسجد من أجل التوسعة؛ فلا يكون في ذلك حجة لأحد على جواز البناء على القبور أو اتخاذ المساجد عليها أو الدفن فيها؛ لما ذكرته آنفا من الأحاديث الصحيحة المانعة من ذلك، وعمل الوليد ليس فيه حجة على ما يخالف السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (434) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (528) ، سنن النسائي المساجد (704) ، مسند أحمد بن حنبل (6/51) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .
(3) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .(28/115)
زيارة القبور والتوسل بالأضرحة وأخذ أموال التوسل
السؤال: سائل يقول: ما حكم الدين الإسلامي في زيارة القبور والتوسل بالأضرحة، وأخذ خروف وأموال للتوسل بها؛ كزيارة السيد البدوي والحسين والسيدة زينب، أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب: زيارة القبور نوعان: أحدهما مشروع ومطلوب لأجل الدعاء للأموات والترحم عليهم؛ ولأجل تذكر الموت والإعداد للآخرة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور؛ فإنها تذكركم الآخرة (1) » . وكان يزورها صلى الله عليه وسلم، وهكذا أصحابه رضي الله عنهم، وهذا الفرع للرجال خاصة لا للنساء، أما النساء فلا يشرع لهن زيارة القبور، بل يجب نهيهن عن ذلك؛ لأنه قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعن زائرات القبور من النساء (2) » ، ولأن زيارتهن للقبور قد يحصل بها فتنة لهن أو بهن، مع قلة الصبر وكثرة الجزع الذي يغلب عليهن، وهكذا لا يشرع لهن اتباع الجنائز إلى المقبرة؛ لما ثبت في الصحيح عن أم عطية رضي الله عنها قالت: «نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا (3) » . فدل ذلك على أنهن ممنوعات من اتباع الجنائز إلى المقبرة؛ لما يخشى في ذلك من الفتن لهن أو بهن وقلة الصبر، والأصل في النهي التحريم في ذلك؛ لقول الله سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (4) .
أما الصلاة على الميت فمشروعة للرجال والنساء، كما صحت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة رضي الله عنهم في ذلك، أما قول أم عطية رضي الله عنها: «لم يعزم علينا (5) » ؛ فهذا لا يدل على جواز اتباع الجنائز للنساء؛ لأن صدور النهي عنه صلى الله عليه وسلم كاف في المنع. وأما قولها: «لم يعزم علينا (6) » فهو مبني على اجتهادها وظنها، واجتهادها لا يعارض بها السنة.
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (976) ، سنن النسائي الجنائز (2034) ، سنن أبو داود الجنائز (3234) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/441) .
(2) سنن الترمذي الصلاة (320) ، سنن النسائي الجنائز (2043) ، سنن أبو داود الجنائز (3236) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1575) ، مسند أحمد بن حنبل (1/337) .
(3) صحيح البخاري الجنائز (1278) ، صحيح مسلم الجنائز (938) .
(4) سورة الحشر الآية 7
(5) صحيح البخاري الجنائز (1278) .
(6) صحيح البخاري الجنائز (1278) .(28/116)
النوع الثاني بدعي، وهو زيارة القبور لدعاء أهلها، والاستغاثة بهم أو للذبح لهم أو للنذر لهم، وهذا منكر وشرك أكبر، نسأل الله العافية، ويلتحق بذلك أن يزوروها للدعاء عندها والصلاة عندها والقراءة عندها، وهذا بدعة غير مشروع، ومن وسائل الشرك، فصارت في الحقيقة ثلاثة أنواع:
النوع الأول: مشروع، وهو أن يزوروها للدعاء لأهلها أو لتذكر الآخرة.
الثاني: أن تزار للقراءة عندها أو للصلاة عندها أو للذبح عندها، فهذه بدعة ومن وسائل الشرك.
الثالث: أن يزوروها للذبح للميت والتقرب إليه بذلك، أو لدعاء الميت من دون الله، أو لطلب المدد منه أو الغوث أو النصر، فهذا شرك أكبر، نسأل الله العافية، فيجب الحذر من هذه الزيارات المبتدعة، ولا فرق بين كون المدعو نبيا أو صالحا أو غيرهما، ويدخل في ذلك ما يفعله بعض الجهال عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم من دعائه والاستغاثة به، أو عند قبر الحسين أو البدوي أو الشيخ عبد القادر الجيلاني أو غيرهم. والله المستعان.(28/117)
حكم الصلاة خلف من يستغيث بغير الله
السؤال: هل يصح أن أصلي خلف من يستغيث بغير الله ويتلفظ بمثل هذه الكلمات: " أغثنا يا غوث، مدد يا جيلاني ". وإذا لم أجد غيره فهل لي أن أصلي في بيتي؟
الجواب:
لا تجوز الصلاة خلف جميع المشركين، ومنهم من يستغيث بغير الله ويطلب منه المدد؛ لأن الاستغاثة بغير الله من الأموات والأصنام والجن وغير ذلك من الشرك بالله سبحانه، أما الاستغاثة بالمخلوق الحي الحاضر الذي يقدر على إغاثتك فلا بأس بها؛ لقول الله عز وجل في قصة موسى:(28/117)
{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (1) . . وإذا لم تجد إماما مسلما تصلي خلفه جاز لك أن تصلي في بيتك، وإن وجدت جماعة مسلمين يستطيعون الصلاة في المسجد قبل الإمام المشرك أو بعده فصل معهم، وإن استطاع المسلمون عزل الإمام المشرك وتعيين إمام مسلم يصلي بالناس وجب عليهم ذلك؛ لأن ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة شرع الله في أرضه إذا أمكن ذلك بدون فتنة؛ لقول الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) . وقوله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (3) . وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (4) » . رواه مسلم في صحيحه.
__________
(1) سورة القصص الآية 15
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة التغابن الآية 16
(4) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .(28/118)
هل في القرآن مجاز. . .؟
السؤال: كثيرا ما أقرأ في كتب التفاسير وغيرها بأن هذا الحرف زائد؛ كما في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) فيقولون بأن (الكاف) في " كمثله " زائدة، وقد قال لي أحد المدرسين بأنه ليس في القرآن شيء اسمه زائد أو ناقص أو مجاز.
فإذا كان الأمر كذلك فما القول في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (2) وقوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} (3) .
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة يوسف الآية 82
(3) سورة البقرة الآية 93(28/118)
الجواب:
الصحيح الذي عليه المحققون أنه ليس في القرآن مجاز على الحد الذي يعرفه أصحاب فن البلاغة، وكل ما فيه فهو حقيقة في محله.
ومعنى قول بعض المفسرين أن هذا الحرف زائد يعني من جهة قواعد الإعراب، وليس زائدا من جهة المعنى، بل له معناه المعروف عند المتخاطبين باللغة العربية؛ لأن القرآن الكريم نزل بلغتهم؛ كقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (1) يفيد المبالغة في نفي المثل، وهو أبلغ من قولك: ليس مثله شيء، وهكذا قوله سبحانه {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} (2) فإن المراد بذلك سكان القرية وأصحاب العير، وعادة العرب تطلق القرية على أهلها والعير على أصحابها، وذلك من سعة اللغة العربية وكثرة تصرفها في الكلام، وليس من باب المجاز المعروف في اصطلاح أهل البلاغة، ولكن ذلك من مجاز اللغة، أي: مما يجوز فيها ولا يمتنع، فهو مصدر ميمي كالمقام والمقال.
وكذا قوله سبحانه: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} (3) يعني حبه، وأطلق ذلك لأن هذا اللفظ يفيد هذا المعنى عند أهل اللغة المتخاطبين بها، وهو من باب الإيجاز والاختصار لظهور المعنى، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة يوسف الآية 82
(3) سورة البقرة الآية 93(28/119)
عدم جواز الطلب إلى الميت
السؤال: يقول بعض الناس: إن الطلب إلى الميت في القبر جائز، بدليل (إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا بأهل القبور) . فهل هذا الحديث صحيح أم لا؟(28/119)
الجواب:
هذا الحديث من الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نبه على ذلك غير واحد من أهل العلم، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه؛ حيث قال رحمه الله في مجموع الفتاوى الجزء الأول صفحة 356 بعدما ذكره، ما نصه: (هذا الحديث كذب مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه، لم يروه أحد من العلماء بذلك، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة) . انتهى كلامه رحمه الله.
وهذا المكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم مضاد لما جاء به الكتاب والسنة من وجوب إخلاص العبادة لله وحده وتحريم الإشراك به، ولا ريب أن دعاء الأموات والاستغاثة بهم والفزع إليهم في النائبات والكروب من أعظم الشرك بالله عز وجل، كما أن دعاءهم في الرخاء شرك بالله سبحانه.
وقد كان المشركون الأولون إذا اشتدت بهم الكروب أخلصوا لله العبادة، وإذا زالت الشدائد أشركوا بالله؛ كما قال الله عز وجل: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (1) والآيات في هذا المعنى كثيرة، أما المشركون المتأخرون فشركهم دائم في الرخاء والشدة، بل يزداد شركهم في الشدة والعياذ بالله، وذلك يبين أن كفرهم أعظم وأشد من كفر الأولين من هذه الناحية، وقد قال الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (2) وقال سبحانه: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (3) وقال عز وجل: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (4) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (5) .
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 65
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة غافر الآية 14
(4) سورة الزمر الآية 2
(5) سورة الزمر الآية 3(28/120)
وقال سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (1) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (2) وهذه الآية تعم جميع من يعبد من دون الله من الأنبياء والصالحين وغيرهم، وقد أوضح سبحانه أن دعاء المشركين لهم شرك به سبحانه، كما بين أن ذلك كفر به سبحانه في قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (3) .
والآيات الدالة على وجوب إخلاص العبادة لله وحده وتوجيه الدعاء إليه دون كل ما سواه وعلى تحريم عبادة غيره سبحانه من الأموات والأصنام والأشجار والأحجار ونحو ذلك؛ كثيرة جدا، يعلمها من تدبر كتاب الله وقصد الاهتداء به، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) سورة فاطر الآية 13
(2) سورة فاطر الآية 14
(3) سورة المؤمنون الآية 117(28/121)
جهاد الفلسطينين
السؤال: ما تقول الشريعة الإسلامية في جهاد الفلسطينين الحالي؟ هل هو جهاد في سبيل الله أم جهاد في سبيل الأرض والحرية؟ وهل يعتبر الجهاد من أجل تخليص الأرض جهادا في سبيل الله؟
الجواب: لقد ثبت لدينا بشهادة العدول الثقات أن الانتفاضة الفلسطينية والقائمين بها من خواص المسلمين هناك، وأن جهادهم إسلامي؛ لأنهم مظلومون من اليهود؛ ولأن الواجب عليهم الدفاع عن دينهم وأنفسهم وأهليهم وأولادهم وإخراج عدوهم من أرضهم بكل ما استطاعوا من قوة.
وقد أخبرنا الثقات الذين خالطوهم في جهادهم وشاركوهم في ذلك عن حماسهم الإسلامي وحرصهم على تطبيق الشريعة الإسلامية فيما بينهم(28/121)
فالواجب على الدول الإسلامية وعلى بقية المسلمين تأييدهم ودعمهم؛ ليتخلصوا من عدوهم وليرجعوا إلى بلادهم؛ عملا بقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (1) .
وقوله سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) . . الآيات.
وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (3) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4) {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (5) {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (6) .
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم (7) » .
ولأنهم مظلومون، فالواجب على إخوانهم المسلمين نصرهم على من ظلمهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه (8) » . متفق على صحته، وقوله صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما. قالوا: يا رسول الله، نصرته مظلوما، فكيف أنصره ظالما؟ قال: تحجزه عن الظلم، فذلك نصرك إياه (9) » .
والأحاديث في وجوب الجهاد في سبيل الله ونصر المظلوم وردع الظالم كثيرة جدا.
فنسأل الله أن ينصر إخواننا المجاهدين في سبيل الله في فلسطين وفى غيرها على عدوهم، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن يوفق المسلمين جميعا
__________
(1) سورة التوبة الآية 123
(2) سورة التوبة الآية 41
(3) سورة الصف الآية 10
(4) سورة الصف الآية 11
(5) سورة الصف الآية 12
(6) سورة الصف الآية 13
(7) سنن النسائي الجهاد (3096) ، سنن أبو داود الجهاد (2504) ، مسند أحمد بن حنبل (3/153) ، سنن الدارمي الجهاد (2431) .
(8) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) ، مسند أحمد بن حنبل (2/91) .
(9) صحيح البخاري الإكراه (6952) ، سنن الترمذي الفتن (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (3/99) .(28/122)
لمساعدتهم والوقوف في صفهم ضد عدوهم، وأن يخذل أعداء الإسلام أينما كانوا وينزل بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، إنه سميع قريب.(28/123)
لا يجوز التبرك بالأموات
السؤال: مات عندنا في البلد رجل، وجاء خبر وفاته في النهار، ورأينا نساء مسنات من البلد يذهبن إلى بيته وهو مسجى بعد تكفينه وسط النساء وهن حوله، فسألناهن: لم تذهبن عنده؟ قلن: نتبارك به. فما حكم عملهن هذا؟ وهل هو سنة؟
الجواب: هذا العمل لا يجوز، بل هو منكر؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يتبرك بالأموات أو قبورهن ولا أن يدعوهم من دون الله أو يسألهم قضاء حاجة أو شفاء مريض أو نحو ذلك؛ لأن العبادة حق الله وحده، ومنه تطلب البركة، وهو سبحانه الموصوف بالتبارك، كما قال عز وجل في سورة الفرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (1) .
وقال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (2) ومعنى ذلك أنه سبحانه بلغ النهاية في العظمة والبركة، أما العبد فهو مبارك - بفتح الراء- إذا هداه الله وأصلحه ونفع به العباد، كما قال الله عز وجل عن عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} (3) {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} (4) .
والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الفرقان الآية 1
(2) سورة الملك الآية 1
(3) سورة مريم الآية 30
(4) سورة مريم الآية 31(28/123)
صفحة فارغة(28/124)
أبو موسى الأشعري
الصحابي السفير القائد
بقلم: اللواء الركن محمود شيت خطاب (1) .
" سيد الفوارس أبو موسى " (2) .
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
نسبه:
أبو موسى الأشعري هو: عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار (3) بن حرب بن عامر بن غنم بن بكر بن عامر بن عدي (4) بن وائل بن ناجية بن الجماهر بن الأشعر، وهو نبت بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان (5) .
__________
(1) ورد لكاتب البحث ترجمة في العدد العاشر صفحة 233.
(2) خرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى عن نعيم بن يحيى مرسلا.
(3) طبقات ابن سعد (4 \ 105) والاستيعاب (3 \ 979) ، أما في: جمهرة أنساب العرب (397) فورد: هصار.
(4) جمهرة أنساب العرب (197) ، أما في: طبقات ابن سعد (7 \ 105) ، فورد: عذر.
(5) طبقات ابن سعد (4 \ 105) ، وانظر أنساب الأشراف (1 \ 201) وجمهرة أنساب العرب (397) .(28/125)
أمه: ظبية بنت وهب، من عك (1) ، وقد كانت أسلمت وماتت بالمدينة. وكان لأبي موسى إخوة، منهم أبو عامر بن قيس، وأبو بردة بن قيس، وأبو رهم بن قيس (2) ، وإبراهيم بن قيس، ومجري، ونعود إلى ذكر لمحات من سيرتهم في الحديث على: " أبي موسى إنسانا " في هذا البحث بعد قليل.
وأبو موسى من الأشعريين، من اليمن (3) ، ولد بـ (زبيد) باليمن.
ولا نعرف شيئا عن أيامه الأولى، ولا علم لنا بتفاصيل حياته قبل إسلامه، وقد بدأت تلك التفاصيل في الظهور بعد إسلامه لا قبل ذلك، فسجل له المؤرخون والمحدثون والفقهاء وكتاب السيرة كثيرا من الأحداث والحوادث قاضيا وسفيرا وواليا وقائدا، ومحدثا وفقيها، وفاتحا ومجاهدا، فهو بحق ابن الإسلام، عرف بالإسلام، ولم يعرف قبل اعتناقه.
__________
(1) بنو عك بن الديث بن عدنان، انظر: جمهرة أنساب العرب (328) .
(2) المعارف (266) .
(3) المعارف (266) .(28/126)
مع النبي صلى الله عليه وسلم المهاجر المجاهد:
قدم أبو موسى الأشعري مكة مع إخوته في جماعة من الأشعريين، فحالف سعيد بن العاص بن أمية أبا أحيحة، ثم أسلم بمكة (1) وأسلم إخوته معه (2) ، وهاجر إلى أرض الحبشة (3) ، وقيل: بل رجع إلى بلاده وقومه ولم يهاجر إلى أرض الحبشة (4) . والصحيح أن أبا موسى انصرف إلى قومه بعد إسلامه فأقام بها، ثم قدم مع إخوته وبعض الأشعريين من قومه في نحو خمسين رجلا في سفينة، فألقتهم الريح إلى أرض النجاشي بأرض الحبشة، فوافقوا خروج جعفر بن أبي طالب منها عائدين إلى المدينة المنورة، فأتوا معهم. وقدمت السفينتان معا: سفينة جعفر وأصحابه، وسفينة أبي موسى وأصحابه الأشعريين، على النبي صلى الله عليه وسلم، حين فتح خيبر (5) ، ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم أبي موسى وجماعته من الأشعريين، بشر أصحابه بمقدمهم قائلا: «يقدم عليكم أقوام هم أرق منكم قلوبا (6) » فقدم الأشعريون فيهم أبو موسى. ولما دنوا من المدينة المنورة جعلوا يرتجزون:
اليوم نلقى الأحبه ... محمدا وصحبه (7)
__________
(1) طبقات ابن سعد (6 \ 16) وأسد الغابة (2 \ 245) والإصابة (4 \ 119) والاستيعاب (3 \ 979) .
(2) المعارف (266) .
(3) سيرة ابن هشام (3 \ 416) وجوامع السيرة (58) .
(4) أسد الغابة (3 \ 245) والإصابة (4 \ 119) والاستيعاب (3 \ 980) .
(5) طبقات ابن سعد (4 \ 106) وأسد الغابة (3 \ 245) والإصابة (4 \ 119) والاستيعاب (3 \ 980) .
(6) مسند أحمد بن حنبل (3/105) .
(7) طبقات ابن سعد (4 \ 106) .(28/127)
ولما نزلت الآية الكريمة: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (1) ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «هم قوم هذا» ، يعني أبا موسى الأشعري (2) ، وكانت خيبر أول مشاهد أبي موسى (3) وكانت غزوة خيبر في شهر محرم من السنة السابعة الهجرية، ولما فتح المسلمون خيبر كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشركوا جعفرا وأصحابه بالغنيمة، ففعلوا (4) نستطيع أن نتبين مما سبق أن إسلام أبي موسى الأشعري وإخوته كان قديما، فقد قدموا مكة للتكسب، وكانت مكة مركزا دينيا ومركزا تجاريا، يجد فيها من لا يجد في بلده وسيلة للعيش وعملا يعينه على كسب قوته وقوت من يعول، وكان أهل اليمن منذ القدم حتى اليوم يقصدون مكة للتكسب بوسيلة أو بأخرى. وكان لا بد لمن يلجأ إلى مكة من موطنه، أن يحالف أحد سادات قريش ليعيش في كنفه آمنا مطمئنا، فحالف أبو موسى سعيد بن العاص أبا أحيحة، فلما علم بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم التي شاعت بين الناس في مكة وما حولها ومن حولها، أسلم وأسلم إخوته الذين كانوا معه، ولم تقف قريش مكتوفة الأيدي تجاه الإسلام والمسلمين بعد تفشي الإسلام في مكة، فقاومت الإسلام والمسلمين مقاومة لا هوادة فيها ولا رحمة، فهاجر من هاجر من المسلمين إلى الحبشة، وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب، وعاد أبو موسى أدراجه إلى بلده اليمن وإلى قومه، ليعيش بين
__________
(1) سورة المائدة الآية 54
(2) طبقات ابن سعد (4 \ 107) .
(3) طبقات ابن سعد (6 \ 16) .
(4) طبقات ابن سعد (2 \ 108) .(28/128)
ظهرانيهم آمنا مطمئنا، بعد أن انكشف اعتناقه للإسلام، وتعرضه للأذى والتعذيب والإهانة بسبب إسلامه، فكان أمام مسلكين لا ثالث لهما: إما الهجرة إلى أرض الحبشة مع المسلمين الآخرين الذين اختاروها دارا لهم؛ لأنهم طوردوا في دارهم مكة وطردوا منها، فأصبحوا بلا دار، وإما العودة إلى بلده وقومه، حيث داره وأهله، فاختار الدار والأهل على الغربة والتغريب، وعاد إلى مستقره الأول ولو إلى حين.
ولما علم أبو موسى بهجرة المسلمين إلى المدينة المنورة، واستدعاء المسلمين إليها لإكمال حشدهم في قاعدتهم الرئيسة، توجه أبو موسى وإخوته الأشعريون وهم خمسون رجلا ومعهم رجلان من بني عك إلى المدينة المنورة، وقدموا في سفن في البحر، حيث عاد أبو موسى وصحبه مع جعفر بن أبي طالب وصاحبه. ولما وصلوا إلى المدينة وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره بخيبر. ثم لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعوا وأسلموا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأشعرون في الناس، كصرة فيها مسك (1) » .
وقد ذكر ذلك أبو بردة الأشعري أخو أبي موسى الأشعري، فقال: "خرجنا من اليمن في بضع وخمسين رجلا من قومنا، ونحن ثلاثة إخوة: أبو موسى وأبو رهم، وأبو بردة، فأخرجتنا سفينتنا إلى النجاشي بأرض الحبشة وعنده جعفر بن أبي طالب وأصحابه، فأقبلنا جميعنا في سفينتنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر (2) .
__________
(1) طبقات ابن سعد (1 \ 98 - 49) ''.
(2) أسد الغابة (5 \ 145 - 146) .(28/129)
«وقال أبو موسى: بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين أنا وأخوان لي أنا أصغرهما، أحدهما أبو بردة، والآخر أبو رهم، وثلاثة وخمسون من قومي، فركبنا السفينة فألقتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده، فقال جعفر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا ههنا، وأمرنا بالإقامة فأقيموا. فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا، فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، فأسهم لنا، وما قسم لأحد غاب عن خيبر منها شيئا إلا لمن شهد معه، إلا أصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه". وهذا حديث صحيح، وقال: هاجرتم مرتين: هاجرتم إلى النجاشي، وهاجرتم إلي (2) » .
لقد أسلم أبو موسى وإخوته قديما بمكة، ثم رجعوا إلى بلاد قومهم، فلم يزالوا بها حتى قدموا هم وناس من الأشعريين على رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) ، فإسلام أبي موسى وإخوته قديم، والذين قدموا معهم مسلمون أيضا، وإلا لما رافقوهم في رحلتهم إلى الإسلام، لذلك كان إسلامهم من جديد في خيبر تجديدا للإسلام الذي اعتنقوه من قبل، ولم يكن إسلاما جديدا، بل كانت تجديدا للإسلام.
وبعد فتح مكة الذي كان في شهر رمضان من السنة الثامنة الهجرية (4) ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في شهر شوال إلى غزوة (حنين) (5) ، وبعد انهزام المشركين أرسل النبي صلى الله عليه وسلم السرايا لمطاردة المشركين المنهزمين، وكان ممن أرسلهم أبو عامر الأشعري
__________
(1) طبقات ابن سعد (4 \ 106) .
(2) أسد الغابة (5 \ 309) وانظر طبقات ابن سعد (4 \ 105-106) . (1)
(3) أسد الغابة (5 \ 308) .
(4) طبقات ابن سعد (2 \ 134) وجوامع السيرة (226) .
(5) طبقات ابن سعد (2 \ 149) .(28/130)
في آثار من توجه إلى وادي أوطاس - بين مكة والطائف - وعقد له لواء، فكان معه في سريته سلمة بن الأكوع، فكان يحدث قائلا: " لما انهزمت هوازن عسكروا بأوطاس عسكرا عظيما، تفرق منهم من تفرق، وقتل من قتل، وأسر من أسر، فانتهينا إلى عسكرهم فإذا هم ممتنعون، فبرز رجل فقال: من يبارز؟ فبرز له أبو عامر فقال: اللهم اشهد! فقتله أبو عامر، حتى قتل تسعة كذلك. فلما كان التاسع، برز له فارس معلم، ينحب (1) للقتال، فبرز له أبو عامر وقتله.
فلما كان العاشر، برز رجل معلم بعمامة صفراء، فقال أبو عامر: اللهم اشهد! فقال صاحب العمامة الصفراء: اللهم لا تشهد! فضرب أبا عامر فأثبته، فاحتملناه وبه رمق، واستخلف أبا موسى الأشعري، وأخبر أبو عامر أبا موسى أن قاتله صاحب العمامة الصفراء، وأوصى أبو عامر إلى أبي موسى، ودفع إليه الراية وقال: " ادفع فرسي وسلاحي للنبي صلى الله عليه وسلم. وقاتلهم أبو موسى، حتى فتح الله عليه، وقتل قاتل أبي عامر وجاء بفرسه وتركته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إن أبا عامر أمرني بذلك، وقال: قل لرسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لي. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين، ثم قال: «اللهم اغفر لأبي عامر، واجعله من أعلى أمتي في الجنة (2) » ، وأمر بتركة أبي عامر، فدفعت إلى ابنه. فقال أبو موسى: إني أعلم أن الله قد غفر لأبي عامر يا رسول الله، قتل شهيدا، فادع الله لي. فقال: «اللهم اغفر لأبي موسى، واجعله في
__________
(1) نحب أجهد السير، انظر الصحاح (222) .
(2) صحيح البخاري المغازي (4323) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2498) ، مسند أحمد بن حنبل (4/399) .(28/131)
أعلى أمتي (1) » . وقيل: إن أبا موسى قتل يومئذ تسعة إخوة من المشركين، يدعو كل واحد إلى الإسلام، ثم يحمل عليه فيقتله (2) ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم له قائلا: «اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما (3) » .
ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم العودة إلى المدينة المنورة، استعمل عتاب بن أسيد على مكة، وخلف معاذ بن جبل (4) وأبا موسى الأشعري يعلمان الناس القرآن والفقه في الدين. وقال عليه الصلاة والسلام لعتاب: أتدري على من استعملتك؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: استعلملتك على أهل الله، بلغ عني أربعا: لا يصلح شرطان في بيع، ولا بيع وسلف، ولا بيع ما لم يضمن، ولا تأكل ربح ما ليس عندك (5) .
__________
(1) مغازي الواقدي (3 \ 915-916) وانظر فتح الباري بشرح البخاري (8 \ 35) حول دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى.
(2) جوامع السيرة (241) .
(3) فتح الباري بشرح البخاري (8 \ 35) .
(4) انظر سيرته المفصلة في كتاب: سفراء النبي صلى الله عليه وسلم.
(5) مغازي الواقدي (3 \ 959) .(28/132)
السفير النبوي
كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك اليمن من أبناء عبد كلال من حمير، يدعوهم إلى الإسلام، وكان نص الكتاب النبوي إليهم:
" بسم الله الرحمن الرحيم"
إلى: الحارث ومسروح (الصواب شرحبيل) ونعيم بن عبد كلال، سلم أنتم ما آمنتم بالله ورسوله، وأن الله وحده لا شريك له، بعث موسى(28/132)
بآياته، وخلق عيسى بكلماته، وقالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: الله ثالث ثلاثة، عيسى ابن الله (1) "
علامة الختم:
محمد رسول الله
وقد حمل هذا الكتاب النبوي إلى هؤلاء الملوك اليمنيين من أبناء عبد كلال المهاجرين أمية المخزومي (2) ، وقد أرسل الكتاب بعد فتح مكة لا قبل الفتح؛ لأن مكة كانت قبل فتحها بيد المشركين، وكانت الحاجز بين المنطقة الإسلامية التي مقرها المدينة، وبين المنطقة غير الإسلامية التي مقرها مكة، وتمتد إلى الجنوب عمقها لتشمل اليمن وجنوبي الجزيرة العربية.
وقد كاتب النبي صلى الله عليه وسلم أهل اليمن سنة تسع من الهجرة (3) ، لا قبلها. وفي شهر رمضان من السنة التاسعة الهجرية، قدم على رسول الله صلى عليه وسلم كتاب ملوك حمير مقدمه من غزوة تبوك، وحمل كتاب ملوك حمير بإسلامهم: مالك بن مرارة الرهاوي، وهؤلاء الملوك هم: الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، والنعمان قيل ذي رعين وهمدان، ومعافر. كما بعث زرعة ذو يزن إلى
__________
(1) طبقات ابن سعد (1 \ 282 - 283) .
(2) انظر سيرته المفصلة في كتاب: سفراء النبي صلى الله عليه وسلم.
(3) أسد الغابة (3 \ 368) .(28/133)
النبي صلى الله عليه وسلم مع مالك بن مرارة الرهاوي أيضا بإسلامه وإسلام ملوك اليمن من أبناء عبد كلال ومفارقتهم الشرك وأهله.
وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن كتابا يخبرهم فيه بشرائع الإسلام وفرائض الصدقة والمواشي والأموال، ويوصيهم بأصحابه ورسله خيرا، وكان رسوله إليهم معاذ بن جبل ومالك بن مرارة.
وقد حمل معاذ ومالك هذا الكتاب النبوي إلى اليمن بعد شهر رمضان من السنة التاسعة الهجرية: في شهر شوال أو شهر ذي القعدة من السنة التاسعة الهجرية، فهذا هو الوقت المناسب لإرسال هذا الكتاب النبوي الجوابي على رسالة ملوك اليمن التي حملت نبأ إسلامهم.(28/134)
وفي سنة عشر الهجرية، أسلم باذان عامل كسرى على اليمن وبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه (1) ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جمع لباذان الفارسي حين أسلم وأسلمت اليمن عمل اليمن كلها، وأمره على جميع مخاليفها، فلم يزل عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام حياته، فلم يعزله عنها ولا عن شيء منها، ولا أشرك معه شريكا حتى مات باذان، فلما مات فرق عمل اليمن بين جماعة من أصحابه، وكان ذلك سنة عشر الهجرية بعد حجة الوداع، فكان من عماله عليه الصلاة والسلام أبو موسى الأشعري (2) ، وبهذا أصبح أبو موسى عاملا من عمال النبي صلى الله عليه وسلم (3) .
ولكن أبا موسى الأشعري، قبل أن يصبح عاملا من عمال النبي صلى الله عليه وسلم، كان رسولا من رسله إلى ملوك زمانه، أو ما نطلق عليه في المصطلحات السياسية الحديثة: سفيرا من سفراء النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أرسل أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى جملة اليمن داعين إلى الإسلام، فأسلم عامة أهل اليمن: ملوكهم، وسوقتهم (4) ". نستدل من ذلك، أن أبا موسى كان في اليمن حين توفي باذان الفارسي، ففرق النبي صلى الله عليه وسلم عماله على مخاليف اليمن، فالتحق أبو موسى بمنصبه الجديد عاملا بالإضافة إلى واجبه الأصلي سفيرا وقاضيا ومرشدا وداعيا إلى الإسلام، يعلم الناس القرآن وشرائع الإسلام، ويقبض الصدقة، ويوزعها على مستحقيها من أهل مخاليفه، ويرسل تبقي منها إلى عامل العمال معاذ بن جبل (5)
__________
(1) الطبري (3 \ 158) ، وباذان = باذام، وانظر ما جاء على باذان في: أسد الغابة (1 \ 163) .
(2) الطبري (3 \ 227- 228) .
(3) انظر أسماء عماله عليه الصلاة والسلام في: أنساب الأشراف (1 \ 529) .
(4) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 30) .
(5) أنساب الأشراف (1 \ 529) .(28/135)
فمتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى سفيرا إلى اليمن؟ لا نص لدينا يشير إلى ذلك، وأرجح أنه بعثه مع معاذ بن جبل، الذي قصد اليمن في شهر شوال أو شهر ذو القعدة من السنة التاسعة الهجرية، فقد رأينا أن أبا موسى كان مع معاذ في مكة بعد فتحها يعلمان الناس القرآن والفقه في الدين (1) ، وأنه أرسلهما معا إلى جملة اليمن داعين إلى الإسلام كما ذكرنا قبل قليل، فمن المرجح أنهما قصدا اليمن في وقت واحد، ليتعاونا في تأدية واجبهما في الدعوة إلى الله.
وكان الكتاب النبوي الذي حمله معاذ بن جبل إلى أهل اليمن يخبرهم فيه بشرائع الإسلام وفرائض الصدقة والمواشي والأموال، ويوصيهم بأصحابه ورسله خيرا (2) ، وهو الذي طبق في اليمن كلها لا في منطقة من مناطقها حسب، وهو الذي أصبح سنة نبوية لا تزال تطبق حتى اليوم، وقد نفذ ما جاء فيه نصا وروحا جميع سفراء النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقتصر على معاذ ومن جاء ذكرهم في ذلك الكتاب.
ولعل الدليل العملي على نجاح أبي موسى سفيرا في اليمن، هو إقراره على واجبه، وتكليفه بواجب إضافي جديد، هو أن يصبح عاملا من عمال النبي صلى الله عليه وسلم على منطقة شاسعة من مناطق اليمن، ولو لم ينجح في مهمته سفيرا لما أقر على عمله، وأضيف إليه عمل جديد.
__________
(1) مغازي الواقدي (3 \ 959) .
(2) انظر نص الكتاب في الطبري (3 \ 121-122) وسيرة ابن هشام (4 \ 259-260) واليعقوبي (2 \ 87-89) .(28/136)
الثقة
كان أبو موسى موضع ثقة النبي صلى الله عليه وسلم به، فقد كان أحد اثنين أذنا عليه (1) : الأول رباح الأسود مولاه (2) ، والثاني أبو موسى الأشعري، وهذا دليل على مبلغ ثقة النبي صلى الله عليه وسلم به وبعقله وحسن تصرفه وأمانته وصدقه.
ولما ولد لأبي موسى غلام، أتي النبي صلى الله عليه وسلم، فسماه: إبراهيم، وحنكه بتمرة (3) ، وهذا دليل على مبلغ حب النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى، ومبلغ تقديره له.
ولما توفي باذان سنة عشر الهجرية وزع النبي صلى الله عليه وسلم عمل اليمن على قسم من أصحابه، وكان ذلك بعد حجة الوداع، فكان أبو موسى أحد عماله، فولاه زبيد وعدن ورمع (4) والساحل، فكان
__________
(1) جوامع السيرة (27) .
(2) رباح الأسود: انظر سيرته في أسد الغابة (2 \ 190) والإصابة (2 \ 193) والاستيعاب (2 \ 487) .
(3) طبقات ابن سعد (4 \ 107) .
(4) رمع: قرية أبي موسى ببلاد الأشعريين قرب غسان وزبيد، انظر التفاصيل في معجم البلدان (4 \ 285) .(28/137)
في هذه المنطقة الواسعة واليا وقاضيا ومرشدا وداعيا، وهي موطنه الأصلي وبين قومه الذين استجابوا له وعاونوه على تحمل أعباء واجباته وتعاونوا معه في معالجة ما صادفه من معضلات ومشاكل، وأعانوه على حلها بسهولة ويسر.
ولم يزل أبو موسى عن عمله في اليمن، كما لم يعزل غيره من عمالها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم (1) ، حتى ظهر الأسود العنسى في اليمن، وارتد من ارتد معه، فانحاز أبو موسى مقتحما حضرموت (2) حتى نزل السكاسك حيث بدأ العمل مع إخوانه للقضاء على المرتدين (3) .
كل ذلك يدل دلالة واضحة على أن أبا موسى كان موضع ثقة النبي صلى الله عليه وسلم الكاملة به، فقربه واعتمد عليه في كثير من الأعمال.
لقد نال أبو موسى، شرف الصحبة، وشرف الجهاد تحت لواء النبي صلى الله عليه وسلم وتحت ألوية الإسلام، وشرف العمل في الإدارة والقضاء والدعوة والإرشاد لخدمة الإسلام والمسلمين.
__________
(1) الطبري (3 \ 229) .
(2) حضر موت: بلاد واسعة شرقي عدن بقرب البحر، انظر التفاصيل في معجم البلدان (3 \ 292-295) .
(3) انظر التفاصيل في الطبري (3 \ 227-230) .(28/138)
جهاده
1 - في حرب الردة:
أ- اسم الأسود العنسي: عيهلة بن كعب بن عوف العنسي، وعنس بطن من مذحج، وكان يلقب: ذا الخمار، لأنه كان معتما متخمرا أبدا.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع لباذان حين أسلم وأسلم أهل اليمن عمل اليمن جميعه، وأمره على جميع مخاليفه، فلم يزل عاملا عليه حتى مات، فلما مات باذان فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراءه في اليمن، ومنهم -كما ذكرنا- أبو موسى، وكان معاذ بن جبل يتنقل في عمالة كل عامل باليمن وحضرموت.
ولما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع، وتمرض من السفر غير مرضه الأخير، بلغ الأسود ذلك، فادعى النبوة، وكان مشعبذا يريهم الأعاجيب، فاتبعته مذحج، وكانت ردة الأسود أول ردة في الإسلام، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزا الأسود نجران، فأخرج عنها من قاومه من المسلمين، وسار عن نجران إلى صنعاء، فانحاز معاذ بن جبل إلى أبي موسى، فلحقا بحضرموت.
واستتب الأمر للأسود في اليمن، ولحق أمراء اليمن بجبال عك وجبال صنعاء، وغلب الأسود على ما بين مفازة حضرموت إلى الطائف إلى البحرين والإحساء وعدن، واستطار أمره كالحريق واستغلظ.
وكان الأسود قد تزوج امرأة شهر بن باذان بعد قتله، وخاف من بحضرموت من المسلمين أن يبعث إليهم جيشا أو يظهر بها كذاب آخر، فتزوج معاذ إلى السكون، فعطفوا عليه.(28/139)
وجاء إليهم وإلى من باليمن من المسلمين، كتب النبي صلى الله عليه وسلم، يأمرهم بقتال الأسود، فقام معاذ بن جبل في ذلك، وقويت نفوس المسلمين، وعاونه أمراء النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في اليمن، فقتل فيروز (1) الأسود في بيت زوجته التي كانت امرأة شهر بن باذان وتزوجها الأسود من بعده، وهي ابنة عم فيروز وتراجع المسلمون إلى أعمالهم، وعاد أبو موسى إلى عمله، وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبره، وذلك في حياته الكريمة، ولكن رسل أهل اليمن قدمت المدينة، وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أول أمر العنسي إلى آخره ثلاثة أشهر، وقيل قريب من أربعة أشهر، وكان قدوم البشير بقتله في آخر ربيع الأول من سنة إحدى عشرة الهجرية بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أول بشارة أتت أبا بكر الصديق رضي الله عنه وهو في المدينة (2) .
وهكذا انتهت فتنة الأسود العنسي بالإخفاق الذريع، وعادت الأمور في اليمن إلى مجراها الطبيعي.
ب - ولما هلك الأسود العنسي، بقي طائفة من أصحابه يترددون بين صنعاء ونجران، لا يأوون إلى أحد. ومات النبي صلى الله عليه وسلم، فارتد الناس. وكان العك أول منتقض، ثم تجمع عك والأشعريون، فصاولهم من ثبت على الإسلام من عك وانتصروا عليهم.
وأما أهل نجران فلما بلغهم موت النبي صلى الله عليه وسلم، أرسلوا وفدا ليجددوا عهدهم مع أبي بكر، فكتب بذلك كتابا.
__________
(1) انظر سيرته في أسد الغابة (4 \ 186) .
(2) انظر التفاصيل في: الطبري (3 \ 227-240) وابن الأثير (2 \ 336-341) .(28/140)
وأما بجيلة، فإن أبا بكر رد جرير بن عبد الله البجلي، وأمره أن يستنفر من قومه من ثبت على الإسلام، ويقاتل بهم من ارتد عن الإسلام فخرج جرير وفعل ما أمره به أبو بكر، فلم يقم له أحد إلا نفر يسير، فقتلهم وتتبعهم.
وكان مصير من ارتد من أهل اليمن مصير من ارتد من بجيلة وعك والأشعريين، فعاد المرتدون إلى الإسلام بعد أن تكبدوا خسائر فادحة بالأرواح والأموال (1) ، وكان ذلك سنة إحدى عشرة الهجرية وكان لثبات أبي موسى وأمراء النبي صلى الله عليه وسلم الآخرين مع من ثبت على الإسلام أثر كبير في انتصار المسلمين على أهل الردة من أهل اليمن وعودتهم إلى الإسلام.
وبقي أبو موسى على زبيد ورمع وعدن والساحل طيلة أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه (2) .
2 - في الفتوح:
أ- آثر أبو موسى بعد وفاة أبي بكر الصديق، أن يصبح غازيا على أن يبقي واليا. فحقق له عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما أراد.
وكان ميدان جهاد أبي موسى، هو ميدان العراق، بقيادة سعد بن أبي وقاص، وفي سنة سبع عشرة الهجرية، كتب عمر إلى سعد: "إذا فتح الله الشام والعراق، فابعث جندا إلى الجزيرة، وأمر عليه خالد بن عرفطة أو هاشم بن عتبة أو عياض بن غنم (3) "فقال سعد: ما أخر أمير المؤمنين عياضا إلا لأن له فيه هوى، وأنا موليه"، فبعثه وبعث معه جيش فيه أبو موسى الأشعري.
__________
(1) انظر التفاصيل في: الطبري (3 \ 318-342) وابن الأثير (2 \ 374-383) .
(2) الطبري (3 \ 427) وابن الأثير (2 \ 421) .
(3) انظر سيرة خالد بن عرفطة وهاشم بن عتبة وعياض بن غنم في: قادة فتح العراق والجزيرة.(28/141)
وصار عياض ونزل بجنده على الرهاء (1) ، فصالحه أهله على مثل صلح حران، وبعث أبا موسى إلى نصيبين فافتتحها (2) .
ولا تعلم بالضبط متى سمح عمر بن الخطاب لأبي موسى بالتخلي عن ولايته في اليمن والإقبال على الجهاد في ساحاته، فقد توفي أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأبو موسى أحد عماله باليمن، وكانت وفاة أبي بكر في شهر ذي القعدة من سنة ثلاث عشرة الهجرية، (3) ولم يذكر أبو موسى في سوح الجهاد إلا في سنة سبع عشرة، فهل بقي في اليمن هذه المدة أم غادرها دون أن يذكر المؤرخون عن تاريخ مغادرته شيئا؟
كما أن أبا موسى لم يفتح نصيبين، ولم يكن مع عياض بن غنم فاتح الجزيرة، وقد ذكرنا ذلك لإحقاق الحق، وفتح الجزيرة مبسوط في كتاب: قادة فتح العراق والجزيرة.
ولم يلتحق أبو موسى بأبي عبيدة بن الجراح بأرض الشام بعد فتح الجزيرة، فشهد بعض فتوحات الشام تحت لواء أبي عبيدة (4) ، كما لم يكن مع أبي عبيدة حين مات بالطاعون (5) لأنه كان سنة سبع عشرة الهجرية وثماني عشرة الهجرية واليا على البصرة وفي الفتوح في مناطق شرق العراق كما سنذكر ذلك وشيكا، إذ كان أبو موسى حينذاك في
__________
(1) الرهاء: مدينة تقع على أحد روافد نهر البليخ، وكانت مدينة محصنة.
(2) ابن الأثير (2 \ 533) ، وانظر الطبري (4 \ 53) .
(3) العبر (1 \ 16)
(4) الإصابة (4 \ 120) .
(5) الطبرى (4 \ 61) وأسد الغابة (3 \ 246) .(28/142)
البصرة ولم يكن في الشام، ولقد ذكرنا ما ذكرنا لننبه عليه (1) .
ب - ولما عزل عمر بن الخطاب المغيرة بن شعبة (2) عن البصرة، استعمل أبا موسى الأشعري عليها، وذلك سنة سبع عشرة الهجرية (3) ، وكانت البصرة حين ذاك من أكبر القواعد الإسلامية في المشرق الإسلامي، منها تسير الجيوش لفتوح المشرق.
وكتب كسرى يزدجرد إلى أهل فارس، وهو يومئذ بـ (مرو) يذكرهم الأحقاد ويؤنبهم، "أن قد رضيتم يا أهل فارس، أن قد غلبتكم العرب على السواد وما والاه، والأهواز، ثم لم يرضوا بذلك حتى توردوكم في بلادكم وعقر داركم!! "، فتحركوا وتعاهدوا وتواثقوا على النصر.
وجاءت الأخبار إلى عمر بن الخطاب والمسلمين في كل مكان، فكتب عمر إلى سعد بن أبي وقاص في الكوفة: "أن ابعث إلى الأهواز بعثا كثيفا مع النعمان بن مقرن (4) ، وعجل. وابعث سويد بن مقرن (5) ، وعبد الرحمن بن ذي السهمين، وجرير بن عبد الله الحميري (6) ،
__________
(1) ابن الأثير (2 \ 560) .
(2) انظر سيرته المفصلة في كتاب: قادة فتح العراق والجزيرة (431 - 455) .
(3) الطبري (4 \ 69) وابن الأثير (2 \ 540) ، وانظر طبقات ابن سعد (4 \ 109) والإصابة (4 \ 119) .
(4) انظر سيرته المفصلة في: قادة فتح بلاد فارس (97 - 107) .
(5) انظر سيرته المفصلة في: قادة فتح بلاد فارس (195- 201) .
(6) جرير بن عبد الله الحميري: انظر سيرته في أسد الغابة (1 \ 279) والإصابة (1 \ 243) .(28/143)
وجرير بن عبد الله البجلي (1) ، فلينزلوا بإزاء الهرمزان حتى يتبينوا أمره".
وكتب إلى أبي موسى في البصرة: أن ابعث إلى الأهواز جندا كثيفا، وأمر عليهم سهل بن عدي (2) - أخا سهيل بن عدي (3) - وابعث معه البراء بن مالك (4) ، وعاصم بن عمرو (5) ، ومجزأة بن ثور (6) ، وكعب بن سور (7) ، وعرفجة بن هرثمة (8) ، وحذيفة بن محصن (9) ، وعبد الرحمن بن سهل (10) ، والحصين بن معبد، وعلى أهل الكوفة وأهل البصرة جميعا سبرة بن أبي رهم (11) ، وكل من أتاه فمدد له " (12) .
__________
(1) جرير بن عبد الله البجلي: انظر سيرته في: قادة فتح العراق والجزيرة (356 - 371) .
(2) سهل بن عدي: انظر سيرته في أسد الغابة (2 \ 368) والإصابة (3 \ 141) .
(3) سهيل بن عدي الأنصاري الخزرجي: انظر سيرته المفصلة في: قادة فتح العراق والجزيرة.
(4) البراء بن مالك: انظر سيرته في أسد الغابة (1 \ 172) والإصابة (1 \ 147) والاستيعاب (1 \ 153) .
(5) عاصم بن عمرو التميمي: انظر سيرته المفصلة في: قادة فتح فارس (279-289) .
(6) مجزأة بن ثور السدوسي: انظر سيرته في أسد الغابة (4 \ 302) والإصابة (6 \ 44) .
(7) كعب بن سور الأزدي: انظر سيرته في أسد الغابة (4 \ 343) والإصابة (5 \ 322) .
(8) عرفجة بن هرثمة البارقي: انظر سيرته المفصلة في قادة فتح العراق والجزيرة (387- 394) .
(9) حذيفة بن محصن البارقي: انظر سيرته في أسد الغابة (1 \ 389) .
(10) عبد الرحمن بن سهل الأنصاري: انظر سيرته في أسد الغابة (3 \ 299) والإصابة (3 \ 162 - 163) .
(11) أبو سبرة بن أبي رهم القرشي العامري. انظر سيرته المفصلة في: قادة فتح بلاد الفرس (155 - 160) .
(12) الطبري (4 \ 83- 84) .(28/144)
وخرج النعمان بن مقرن في أهل الكوفة، فأخذ وسط السواد حتى قطع دجلة بحبال ميسان، ثم أخذ البر إلى الأهواز على البغال يجنبون (1) الخيل، وسار قدما نحو الهرمزان - والهرمزان يومئذ برامهرمز - فلما سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه، بادره بالهجوم عليه، ورجا أن يهزمه، وطمع في نصر أهل فارس، وقد أقبلوا نحوه، ونزلت أوائل إمداداتهم قريبا منه، والتقى النعمان والهرمزان، بـ: أربك (2) ، فانتصر النعمان على الهرمزان، وأخلى رامهرمز وتركها، ولحق بـ (تستر) (3) . وسار النعمان من أربك حتى نزل برامهرمز، ثم صعد لأيذج، فصالحه قائدها عليها، فقبل منه وتركه ورجع إلى رامهرمز وأقام بها.
ولما سار النعمان في أهل الكوفة وسبق سهل بن عدي في أهل البصرة، قصد سهل ومن معه تستر للقضاء على قوات الهرمزان فيها، ومال النعمان إلى تستر أيضا، ونزلوا جميعا: أهل البصرة، وأهل الكوفة، على تستر، وقصدها معهم المسلمون الذين كانوا في الأهواز، وبها الهرمزان وجنوده من أهل فارس وأهل الجبال والأهواز في الخنادق. وكتب المسلمون بذلك إلى عمر بن الخطاب واستمده أبو سبرة، فأمدهم بأبي موسى.
__________
(1) يقال: جنب الدابة، إذا قادها إلى جنبه.
(2) أربك: بلد وناحية ذات قرى ومزارع من نواحي الأهواز، انظر التفاصيل في معجم البلدان (1 \ 172) .
(3) تستر: أعظم مدينة في الأهواز، وهي شوشتر، انظر التفاصيل في معجم البلدان (2 \ 286) .(28/145)
وكان على أهل الكوفة النعمان، وعلى أهل البصرة أبو موسى، وعلى الفريقين أبو سبرة، فحاصروهم أشهرا، وأكثروا فيهم القتل. وزاحفهم الفرس في أيام تستر ثمانين زحفا في حصارهم: يكون عليهم مرة، ولهم أخرى.
وأخيرا هزمهم المسلمون حتى أدخلوهم خنادقهم، ثم اقتحموها عليهم، وطوقوا مدينتهم تطويقا كاملا، حتى فتحوا المدينة وأسروا الهرمزان.
وخرج أبو سبرة في أثر المنهزمين من الفرس من تستر يطاردهم، وكانت فلول الفرس قد قصدت السوس، وخرج بالنعمان وأبى موسى ومعهما الهرمزان، حتى طوقوا السوس، وكتبوا بذلك إلى عمر، فكتب عمر إلى أبي موسى فرده إلى البصرة، فانصرف أبو موسى إلى البصرة (1) .
وقبل فتح تستر، كان قد قدم وفد من وجوه أهل فارس إلى أبي موسى لمفاوضته، فقال رئيس الوفد لأبى موسى: "إنا قد رغبنا في دينكم فنسلم على أن نقاتل معكم العجم، ولا نقاتل معكم العرب، وإن قاتلنا أحد من العرب منعتمونا منه، وننزل حيث شئنا، ونكون فيمن شئنا منك، وتلحقونا بأشراف العطاء، ويعقد لنا الأمير الذي فوقك بذلك"، فقال أبو موسى: "بل لكم ما لنا، وعليكم ما علينا! "، قالوا: "لا نرضى! ". وكتب أبو موسى بذلك إلى عمر، فكتب عمر إلى أبي موسى: "أعطهم ما سألوك"، فكتب أبو موسى لهم، فأسلموا وشهدوا معه ومع المسلمين الآخرين حصار تستر، فألحقهم أبو موسى على قدر البلاء في أفضل العطاء، وأكثر شيء أخذه أحد من العرب، ففرض لمائة منهم في ألفين ألفين، وستة
__________
(1) انظر التفاصيل في الطبري (4 \ 83-89) وابن الأثير (2 \ 545-550) .(28/146)
منهم في ألفين، وخمسمائة لقسم منهم، فقال الشاعر:
ولما رأى الفاروق حسن بلائهم ... وكان بما يأتي من الأمر أبصرا
فسن لهم ألفين فرضا وقد رأى ... ثلاث مئين فرض عك وحميرا (1)
وهذا يدل على أن الذين يسلمون من العجم، ويقاتلون مع المسلمين يمكن أن ينالوا أوفر العطاء، وأن يحتلوا أرفع المراكز.
وكان ذلك سنة سبع عشرة الهجرية.
جـ - وفي سنة إحدى وعشرين الهجرية شهد أبو موسى معركة نهاوند الحاسمة تحت لواء النعمان بن مقرن المزني، فلما انتصر المسلمون وفتحوا نهاوند، بدأ أبو موسى مسيرته الظافرة الموفقة بالفتوح.
وكان المسلمون يسمون فتح نهاوند: فتح الفتوح، لأنه لم يكن للفرس بعده اجتماع، وملك المسلمون بلادهم.
وهذه المعركة الحاسمة التي حشد لها الفرس خير جيوشهم وأبرز قادتهم، قوبلت من المسلمين بحملة شديدة قادها النعمان بن مقرن من الأمام، فكان في مقدمة المهاجرين على الفرس، وانقضت رايته انقضاض العقاب عليهم فاقتلوا قتالا شديدا لم يسمع السامعون بوقعة كانت أشد منها، فما كان يسمع إلا وقع الحديد. وصبر لهم المسلمون صبرا عظيما، وانهزم الأعاجم وقتل منهم ما بين الزوال والإعتام ما طبق أرض المعركة دما يزلق الناس والدواب.
__________
(1) الطبري (4 \ 90 - 91) .(28/147)
وزلق بالنعمان فرسه، فصرع، وقيل: بل رمي بسهم في خاصرته فقتله.
وسجاه أخوه نعيم بثوب، وأخذ الراية وناولها حذيفة بن اليمان (1) .
وقتل من العجم ثمانون ألفا بالمطاردة وثلاثون ألفا بالمعركة، وتكبدوا خسائر فادحة بالأموال، وانهارت معنوياتهم وارتفعت معنويات المسلمين، وكان فتح نهاوند فتحا مبينا حقا (2) .
د - ولما انصرف أبو موسى من نهاوند، مر بالدينور، فأقام عليها خمسة أيام، فصالحه أهلها على الجزية.
ومضى في طريقه، فصالحه أهل سيروان على مثل صلح الدينور.
وبعث السائب بن الأقرع الثقفي (3) ، إلى الصيمرة مدينة مهرجان قذق ففتحها صلحا. وقيل: إنه وجه السائب من الأهواز، ففتح ولاية مهرجان قذق (4) .
__________
(1) انظر سيرته المفصلة في: قادة فتح بلاد فارس (108-117) .
(2) انظر التفاصيل في: الطبري (4 \ 114-137) وابن الأثير (3 \ 5-16) .
(3) السائب بن الأقرع الثقفي: انظر سيرته المفصلة في: قادة فتح بلاد فارس (118 - 122) .
(4) ابن الأثير (3 \ 16) والبلاذري (430 - 431) .(28/148)
وأرجح الرواية الأولى، لأن ولاية مهرجان قذق في طريق عودته من نهاوند إلى البصرة.
وكان ذلك سنة إحدى وعشرين الهجرية.
هـ - وفي هذه السنة أيضا، أي سنة إحدى وعشرين الهجرية بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عبد الله بن عبد الله بن عتبان الأنصاري (1) ، وكان شجاعا من أشراف الصحابة ومن وجوه الأنصار، وأمده بأبي موسى، فساروا إلى نهاوند، ثم سار منها عبد الله فيمن معه ومن تبعه من جند النعمان بن مقرن المزني بنهاوند نحو أصبهان وكانت مقدمة أهل فارس برستاق لأصبهان، فهاجمها المسلمون وأجبروها على الهزيمة، وفتحوا الرستاق الذي كانت فيه مقدمة قوات الفرس، فكان أول رستاق أخذ من أصبهان.
وسار المسلمون إلى أصبهان، وحاصروها وقاتلوا المدافعين عنها، فصالحهم قائدهم على أصبهان، وأن على من أقام فيها الجزية، وأن يجري من أخذت أرضه عنوة مجرى من يدفع الجزية، ومن أبي وذهب كان للمسلمين أرضه.
وقدم أبو موسى على عبد الله بن عبد الله من ناحية الأهواز وقد صالح، فدخل عبد الله وأبو موسى أصبهان فاتحين، وكتبوا بذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه (2)
__________
(1) انظر سيرته المفصلة في: قادة فتح العراق والجزيرة (486 - 492) .
(2) انظر التفاصيل في: الطبري (4 \ 139 - 143) وابن الأثير (3 \ 18-20) .(28/149)
وبعد فتح أصبهان، فتح أبو موسى قم وقاشان قبل عودته إلى البصرة (1) ، وفي سنة اثنتين وعشرين عاد أبو موسى إلى البصرة بأمر عمر بن الخطاب (2) ، ولكن عمر بن الخطاب أمره على الكوفة بطلب من أهلها بعد عمار بن ياسر (3) ، فأقام على الكوفة سنة واحدة، ثم عزله عمر وصرفه إلى البصرة (4) من جديد في سنة اثنتين وعشرين الهجرية (5) ، مما يدل على أنه بقي على الكوفة أقل من سنة كاملة، وليس سنة كاملة كما ذكروا.
وفي سنة ثلاث وعشرين الهجرية، فتح أبو موسى وعثمان بن أبي العاص الثقفي (6) مدينة شيراز (7) وأرجان وفتحا سينيز (8) على الجزية والخراج (9) .
__________
(1) ابن الأثير (3 \ 20) والبلاذري (436) .
(2) ابن الأثير (3 \ 28) .
(3) عمار بن ياسر: انظر سيرته في: طبقات ابن سعد (3 \ 246) وأسد الغابة (4 \ 43) والإصابة (4 \ 273) .
(4) ابن الأثير (3 \ 32) .
(5) ابن الأثير (3 \ 38) .
(6) عثمان بن أبي العاص الثقفي: انظر سيرته المفصلة في: قادة فتح بلاد فارس (262 - 269) .
(7) شيراز: مدينة في وسط بلاد فارس، انظر التفاصيل في معجم البلدان (5 \ 320) .
(8) سينيز: بلد على ساحل الخليج العربي أقرب إلى البصرة من سيراف، انظر معجم البلدان (5 \ 201) .
(9) ابن الأثير (3 \ 40) والبلاذري (546 - 547) .(28/150)
وكان عثمان بن أبي العاص الثقفي قد فتح مدينة سابور سنة ثلاث وعشرين الهجرية، إلا أنها انتقضت وغدرت، فاستعاد أبو موسى فتحها عنوة سنة ست وعشرين الهجرية، وكان على مقدمته عثمان بن أبي العاص الثقفي (1) .
لقد أبلى أبو موسى بلاء حسنا في جهاده جنديا وقائدا، وكانت غايته الجهاد، ولا يعتبر المنصب إلا وسيلة لتحقيق غايته، فلم يكن يكترث أن يجاهد جنديا أو قائدا، ورئيسا أو مرءوسا، ما دام يحقق غايته في الجهاد من موقعة قائدا أو مقودا، لذلك أثمر جهاده ثمرات يانعة في ساحة بلاد فارس بخاصة، وحسبنا أن نذكر له، أنه فاتح الأهواز والسوس وأصبهان والدينور وماسبذان وقم وقاشان، واستعاد فتح سابور من جديد، هذا بالإضافة إلى المعارك الكثيرة التي شهدها بقيادة غيره، مثل معركة فتح الفتوح في نهاوند، وبالإضافة إلى المناطق الشاسعة الكثيرة التي وجه إليها قادته لفتحها أو وجه إليها رجاله من أهل البصرة لفتحها. أو المعاونة على فتحها. لقد كان جهاد أبي موسى بحق عظيما.
__________
(1) البلاذري (547) .(28/151)
الإنسان
1 - العالم:
أ- كان أبو موسى يفتي بالمدينة، ويقتدى به، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد ذلك، وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة أبي موسى فقال: «لقد أوتي هذا من مزامير آل داود (1) » .
وقام أبو موسى ليلة يصلي، فسمع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم صوته، وكان حلو الصوت، فقمن يستمعن، فلما أصبح قيل له، "إن النساء كن يستمعن"، فقال: "لو علمت لحبرتكن تحبيرا ولشوقتكن تشويقا" (2) .
ووصف أحد الصحابة صوت أبي موسى بالقرآن، فقال: "لم أسمع صوت صنج قط، ولا بربط (3) قط، كان أحسن منه"، يصف صوته بقراءة القرآن الجهرية في الصلاة (4) .
وبالطبع فإن استقطاب الآراء وإجماعها على الإعجاب بصوت أبي موسى بالقرآن، لا لأنه جميل الصوت فحسب، بل لإتقانه تجويد القرآن وحفظه والتأثير به في النفوس والعقول معا. لذلك خلف النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذ بن جبل في مكة بعد فتحها وانقضاء غزوتي حنين والطائف
__________
(1) طبقات ابن سعد (2 \ 344) ، انظر تفاصيل روايته في طبقات ابن سعد (4 \ 107-108) .
(2) طبقات ابن سعد (2 \ 345) و (104) .
(3) بربط: العود (من الآلات الموسيقية) ، ومعناه: صدر البط (ج) : برابط.
(4) طبقات ابن سعد (4 \ 108) .(28/152)
يعلمان الناس القرآن والفقه في الدين (1) ، وأرسلهما إلى جملة اليمن داعين إلى الإسلام، فأسلم عامة أهل اليمن: ملوكهم، وسوقتهم (2) .
وكان عمر بن الخطاب إذا رأى أبا موسى قال: "ذكرنا يا أبا موسى "، فيقرأ عنده (3) القرآن، وقال عمر لأبي موسى: "شوقنا إلى ربنا "، فقرأ القرآن، فقالوا: الصلاة! فقال عمر: "أولسنا في صلاة! " (4) ، وقال عمر لأبي موسى: "ذكرنا ربنا"، فقرأ عليه أبو موسى، وكان حسن الصوت بالقرآن (5) .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "بعثني الأشعري إلى عمر حين كان على البصرة، فقال: كيف تركت الأشعري؟ فقلت له: تركته يعلم الناس القرآن. فقال: أما أنه كيس، ولا تسمعها إياه " (6) .
__________
(1) مغازي الواقدي (3 \ 959) .
(2) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 30) .
(3) طبقات ابن سعد (4 \ 109) .
(4) طبقات ابن سعد (4 \ 109) .
(5) طبقات ابن سعد (4 \ 109) .
(6) طبقات ابن سعد (2 \ 345) .(28/153)
وقال الإمام الشعبي: "انتهى العلم إلى ستة "، وذكر أبا موسى فيهم. وقال الحسن البصري: "ما أتاها - يريد البصرة - راكب خير منه" يعني أبا موسى (1) .
وكان دقيقا غاية في تحري العلم: في نقله بصدق، وفي تعليمه بأمانة، وهو القائل: "من علمه الله علما، فليعلمه، ولا يقولن ما ليس له به علم، فيكون من المتكلفين ويمرق من الدين" (2) .
وحين ولاه عمر بن الخطاب البصرة، قال لأهل البصرة: "إن أمير المؤمنين عمر بعثني إليكم أعلمكم كتاب ربكم عز وجل، وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، وأنظف لكم طرقكم (3) "، وكان أبو موسى هو الذي فقه أهل البصرة وأقرأهم (4) القرآن الكريم، وسكن الكوفة وتفقه به أهلها (5) .
وجمع أبو موسى القرآن في البصرة يوما، وقال: "لا تدخلوا علي إلا من جمع القرآن" فدخل عليه زهاء ثلاثمائة، فعظم القرآن وقال: "إن هذا القرآن كائن لكم أجرا، وكائن عليكم وزرا، فاتبعوا القرآن ولا يتبعنكم القرآن، فإنه من اتبع القرآن هبط به على رياض الجنة، ومن تبعه القرآن زج في قفاه فقذفه في النار" (6) .
__________
(1) الإصابة (4 \ 120) .
(2) طبقات ابن سعد (4 \ 109) .
(3) حلية الأولياء (1 \ 257) .
(4) الإصابة (4 \ 120) .
(5) الإصابة (4 \ 120) .
(6) صفوة الصفوة (1 \ 226) وانظر حلية الأولياء (1 \ 257) .(28/154)
وكان أبو رجاء العطاردي يقول: "كان أبو موسى الأشعري يطوف علينا في هذا المسجد، مسجد البصرة، يقعد حلقا، فكأني أنظر إليه بين بردين أبيضين يقرئنني القرآن، ومنه أخذت هذه السورة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (1) ، فكانت أول سورة أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم (2) .
ووصفوا حديثه الحاسم الجازم في العلم، فقالوا: "ما كنا نشبه كلام أبي موسى إلا بالجزار الذي لا يخطئ المفصل (3) ".
وكان عبد الله بن مسعود يقرأ القرآن، فجاء حذيفة بن اليمان فقال: "قراءة ابن أم عبد، وقراءة أبي موسى الأشعري، والله إن بقيت حتى آتي أمير المؤمنين - يعني عثمان - لأمرته بجعلها قراءة واحدة". وقال حذيفة: "يقول أهل الكوفة: قراءة عبد الله - يعني عبد الله بن مسعود - ويقول أهل البصرة: قراءة أبي موسى، والله لئن قدمت على أمير المؤمنين لأمرته أن يغرقها" (4) ، يريد: أن يضع حدا للاختلاف في القراءات، وذلك بجمع القرآن، وفعل حذيفة ما وعد به، وجمع عثمان القرآن (5) .
__________
(1) سورة العلق الآية 1
(2) حلية الأولياء (1 \ 256-257) وانظر أنساب الأشراف (1 \ 110) .
(3) طبقات ابن سعد (4 \ 111) .
(4) كتاب المصاحف (13) .
(5) كتاب المصاحف (14-16) والرياض النضرة (2 \ 135-136) .(28/155)
لقد بلغ أبو موسى في القرآن وفي علومه مبلغا جعله موضع ثقة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده في تولي واجب الداعية المختار والمعلم الأول في ركب تعليم القرآن وعلومه، حتى أصبحت له مدرسة تعرف باسمه في البصرة والكوفة بخاصة والمشرق الإسلامى كله بعامة.
ب - حفظ أبو موسى كثيرا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روى ابنه أبو بردة قال: "كان لأبي موسى تابع، فقال لي: يوشك أبو موسى أن يذهب ولا يحفظ حديثه فاكتب عنه، قلت: نعم ما رأيت، فجعلت أكتب حديثه، فحدث حديثا فذهبت أكتبه كما كنت أكتب، فارتاب بي، وقال: لعلك تكتب حديثي؟ قلت: نعم: قال: فائتني بكل شيء كتبته! فأتيته به، فمحاه ثم قال: احفظ كما حفظت (1) "، فقد كان ألمعي الذكاء، يحفظ ما يسمعه بسرعة ويسر وإتقان.
ولأبي موسى ثلاثمائة وستون حديثا (2) ، اتفق البخاري ومسلم على خمسين وانفرد البخاري بأربعة أحاديث، ومسلم بخمسة وعشرين حديثا وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن عبد الله بن عباس وأبي بن كعب وعمار بن ياسر ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم، وروى عنه أولاده: إبراهيم وأبو بكر وأبو بردة وموسى، وامرأته أم عبد الله، وأنس بن مالك وأبو سعيد الخدري وطارق بن شهاب. ومن كبار التابعين فمن بعدهم زيد بن وهب وأبو عبد الرحمن السلمي وعبيد بن عمير وقيس بن أبي حازم وأبو الأسود الدؤلي وسعيد بن المسيب
__________
(1) طبقات ابن سعد (4 \ 112) .
(2) أسماء الصحابة الرواة لابن حزم- ملحق بجوامع السيرة (76) وخلاصة تذهيب تهذيب الكمال (310) .(28/156)
وزر بن حبيش وأبو عثمان النهدي وأبو رافع الصائغ وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود ومسروق بن أوس الحنظلي وغيرهم كثيرون (1) .
هكذا كان أبو موسى، يسر الله له، أن يصبح عالما بالكتاب وعلومه، محدثا يروي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أبرز أصحابه، ويروي عنه الصحابة والتابعون ومن تبعهم بإحسان حتى لحق بالله، فقضى أيامه معلما ومتعلما، ومسترشدا ومرشدا، ولم يبخل على أحد بعلمه، وكان يعتبر العلم عبادة من أجل العبادات، يسهر على تعلمه كما يسهر على تعليمه، لذلك تخرج في مدرسته طلاب كثيرون، لا ينفكون يفخرون بعلمه، الذي لم يرد به إلا وجه الله، ولم يرد به سمعة ولا مالا، فبقي علمه ينتفع به الناس ويمكث في الأرض، ومضى محبو السمعة والمال وما حرصوا عليه من سمعة ومال، فإذا بالعلم وحده هو الباقي، وإذا بالسمعة والمال سراب.
__________
(1) الإصابة (4 \ 120) وتهذيب التهذيب (5 \ 362) .(28/157)
2 - القاضي
قضاة الأمة أربعة: عمر، وعلي، وأبو موسى، وزيد بن ثابت (1) ، رضي الله عنهم، ومن أقواله في القضاء: " لا ينبغي للقاضي أن يقضي حتى يتبين الليل من النهار "، فبلغ قوله عمر بن الخطاب فقال: " صدق أبو موسى " (2) .
وقال يوما وهو يخطب في البصرة: "إن باهلة كانت كراعا فجعلناها ذراعا "، فقام رجل فقال: "ألا أنبئك بألأم منهم؟ "، قال: "من؟! "، قال: " عك والأشعريون "، قال: "أولئك وأبيك آبائي! يا ساب أميره تعال"، فضرب عليه فسطاطا، فراحت عليه قصعة، وغدت عليه أخرى،
__________
(1) الإصابة (4 \ 120) .
(2) طبقات ابن سعد (2 \ 345) و (4 \ 113) .(28/157)
فكان سجنه (1) . وكان آباؤه من الأشعريين، وكانت أمه من عك، وكان أميرا على البصرة، ولكنه لم يظلم الذي سبه علنا، فعامله بالحسنى لتأديبه لا للانتقام به، معاملة القاضي العادل لا الحاكم المستبد الغاشم.
وهذا هو كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى، وهو الكتاب المشهور بكتاب سياسة القضاء وتدبير الحكم:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله عمر أمير المؤمنين
إلى عبد الله بن قيس
(يعني أبا موسى الأشعري)
سلام عليك، أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له. آس بين الناس في مجلسك ووجهك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك. البينة على من ادعي، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين الناس، إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا. ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس، فراجعت فيه نفسك، وهديت لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق لا يبطله شيء، واعلم أن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
الفهم الفهم فيما يتلجلج في صدرك مما ليس فيه قرآن ولا سنة، واعرف الأشباه والأمثال، ثم قس الأمور بعد ذلك، ثم اعمد لأحبها إلى الله وأشبهها بالحق فيما ترى. اجعل لمن ادعى حقا غائبا أمدا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة أخذ بحقه، وإلا استحللت عليه القضاء. والمسلمون عدول في الشهادة، إلا مجلودا بحد، أو مجربا عليه شهادة زور، أو ظنينا في ولاء أو قرابة. إن الله تولى منكم السرائر، ودرأ عنك بالبينات. وإياك والقلق
__________
(1) طبقات ابن سعد (4 \ 113) .(28/158)
والضجر والتأذي بالخصوم في مواطن الحق التي يوجب الله بها الأجر ويحسن الذخر، فإنه من صلحت سريرته فيما بينه وبين الله، أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين للدنيا بغير ما يعلم الله منه شانه الله، والسلام.
وهذا الكتاب العمري يفيد كل قاض وكل إداري في كل زمان ومكان وهو واضح لا يحتاج إلى شرح.
وهذا نص كتاب عمري آخر، إلى أبي موسى، يفيد كل قاض، وكل إداري أيضا: " أما بعد: فإن للناس نفرة من سلطانهم، فالله الله أن تدركني وإياك عمياء مجهولة وضغائن محمولة، أقم الحدود ولو ساعة من نهار.
وإذا عرض لك أمران، أحدهما لله، والآخر للدنيا، فآثر نصيبك من الله، فإن الدنيا تنفد، والآخرة تبقى.
وأخيفوا الفساق واجعلوهم يدا يدا ورجلا رجلا، وعد مرضى المسلمين، واشهد جنائزهم، وافتح لهم بابك، وباشر أمورك بنفسك، فإنما أنت رجل منهم، غير أن الله جعلك أثقلهم عملا.
وقد بلغني أنه قد فشا لك ولأهل بيتك هيئة في لباسك ومطعمك ومركبك، ليس للمسلمين مثلها، فإياك يا عبد الله أن تكون بمنزلة البهيمة، مرت بواد خصيب، فلم يكن لها هم إلا السمن، وإنما حتفها في السمن.
واعلم أن العامل إذا زاغ زاغت رعيته، وأشقى الناس من شقي الناس به، والسلام (1) .
__________
(1) عيون الأخبار (1 \ 11) ، وانظر: مجموعة الوثائق السياسية (319 - 320) ، الوثيقة رقم (328) .(28/159)
وما ذكره عمر بن الخطاب في كتابه إلى أبي موسى حول ما طرأ عليه وعلى أهل بيته من بوادر النعمة التي لم تكن لديهم من قبل، يذكره عمر في كتبه لكل عماله بدون استثناء، حتى لو علم أن تلك النعمة الطارئة لا وجود لها، فقد كان أسلوب عمر أن يخوف من الانحراف قبل وقوعه، خوفا من وقوع العامل فيه فلا ينفع التخويف والتحذير، فقد كان أبو موسى أسوة حسنة لأهله ومن حوله ومن يحكم باستقامته المطلقة وتقشفه وأمانته، ومع ذلك فالتحذير العمري في كتابه لا يخلو من فائدة خاصة وعامة، إذا لم تقتصر على أبي موسى، فقد تشمل غيره ممن معه في السلطة والرعية.
لقد كان أبو موسى من قضاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد وجهه إلى اليمن أميرا وقاضيا كما وجه معاذ بن جبل أميرا وقاضيا (1) ، وكان من واجب الأمير في حينه أن يقضي بين الناس أيضا إضافة إلى واجباته الأخرى، وقد روى الإمام أحمد بن حنبل أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا وأبا موسى إلى اليمن، فقال: «"بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا، وتطاوعا ولا تختلفا (2) » . ".
وقد بقي على القضاء في اليمن إلى عمر بن الخطاب (3) ، ثم نقل في منصب القضاء لعمر (4) بالمدينة. ولما تولى أبو موسى البصرة من قبل عمر بن الخطاب، كان معه قاض في البصرة، فلما تولى عثمان بن عفان أقر أبا موسى على صلاة البصرة وأحداثها وعزل قاضيها عن القضاء وولى أبا موسى القضاء (5) أيضا.
__________
(1) أخبار القضاة (1 \ 100) .
(2) أخبار القضاة (1 \ 101)
(3) أخبار القضاة (1 \ 102) .
(4) المعارف (590) .
(5) أخبار القضاة (1 \ 283) .(28/160)
لقد كان أبو موسى من قضاة المسلمين الأولين الذين أصبحت أقضيتهم أسوة حسنة لقضاء المسلمين والقضاء المثالي العادل، وحسبه أن يعمل في القضاء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه: أبي بكر وعمر وعثمان، فلما تولى علي تولى في عهده أعظم مهمة قضائية في حينه، هي مهمة: التحكيم، وهي مهمة قضائية في جوهرها بلا مراء.(28/161)
3 - الحكم
بدأت معركة صفين بين قوات علي بن أبي طالب من جهة وقوات معاوية بن أبي سفيان من جهة ثانية في اليوم الأول من شهر صفر من سنة سبع وثلاثين الهجرية (1) ، واستمر القتال بين الطرفين عنيفا تساقط خلاله القتلى والجرحى من الطرفين، فقتل في الحرب بينهما سبعون ألفا، منهم من أصحاب علي خمسة وعشرون ألفا، ومن أصحاب معاوية خمسة وأربعون ألفا، وقتل مع علي خمسة وعشرون صحابيا بدريا، وكان مدة المقام بصفين مائة يوم وعشرة أيام، وكانت الوقائع تسعين وقعة (2) .
ولما رأى عمرو بن العاص أن أمر العراق قد اشتد، وأن كفة أصحاب علي في القتال هي الراجحة، قال لمعاوية: "هل لك في أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلا اجتماعا ولا يزيدهم إلا فرقة؟ "، قال: "نعم"، قال: نرفع المصاحف ثم نقول لما فيها: هذا حكم بيننا وبينكم، فإن أبي بعضهم أن يقبلها وجدت فيهم من يقول: ينبغي لنا أن نقبل، فتكون فرقة بينهم، وإن قبلوا ما فيها رفعنا القتال عنا إلى أجل (3) .
__________
(1) الطبري (5 \ 12) وابن الأثير (3 \ 294) .
(2) معجم البلدان (5 \ 370) والتنبيه والأشراف للمسعودي (256) ومروج الذهب (2 \ 352) .
(3) انظر التفاصيل في الطبري (5 \ 48 - 63) وابن الأثير (3 \ 316 - 326) .(28/161)
وحين وافق أصحاب علي على التحكيم، اختلفوا على الحكم الذي يمثلهم، وكان أبو موسى مرشح الأكثرية، فنزل علي على رأيهم واختار أبا موسى حكما (1) ، كما اختار معاوية عمرو بن العاص عن أهل الشام حكما (2) .
وكان نص وثيقة التحكيم
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، قاضي علي على أهل الكوفة ومن معهم، وقاضي معاوية مع أهل الشام ومن معهم، إننا ننزل عند حكم الله وكتابه، وأن لا يجمع بيننا غيره، وأن كتاب الله بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيا ونميت ما أمات، فما وجد الحكمان في كتاب الله، وهما أبو موسى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص، عملا به، وما لم يجداه في كتاب الله فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة. وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين من العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهليهما، والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه. وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمة لا يرداها في حرب ولا فرقة حتى يعصيا، وأجل القضاء إلى رمضان، وإن أحبا أن يؤخرا ذلك أخراه، وإن مكان قضيتهما مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام (3) ".
ولما جاء وقت اجتماع الحكمين: أرسل علي مع أبي موسى أربعمائة رجل، وأرسل معهم عبد الله بن عباس ليصلي بالناس ويلي أمورهم.
__________
(1) الطبري (5 \ 51) وابن الأثير (3 \ 319) .
(2) الطبري (5 \ 52) وابن الأثير (7 \ 318) .
(3) الطبري (5 \ 53 - 54) وابن الأثير (3 \ 320) ، وانظر الأخبار الطوال للدينوري (196 - 199) .(28/162)
وأرسل معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشام، حتى توافوا من دومة الجندل (1) بأذرح.
واجتمع الحكمان، فقال عمرو لأبي موسى: "ألست تعلم أن معاوية وآل معاوية أولياء عثمان؟ "، فقال: "بلى"، فما يمنعك منه، وبيته في قريش كما قد علمت؟ فإن خفت أن يقول الناس: ليست له سابقة، فقل: وجدته ولي عثمان الخليفة المظلوم والطالب بدمه، الحسن السياسة والتدبير، وهو أخو أم حبيبة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكاتبة، وقد صحبه"، وعرض لأبي موسى بسلطان.
وقال أبو موسى: " يا عمرو! اتق الله! فأما ما ذكرت من شرف معاوية، فإن هذا ليس على الشرف تولاه أهله، ولو كان على الشرف لكان لآل أبرهة بن الصباح (2) ، وإنما هو لابن الدين والفضل، مع أني لو كنت معطيه أفضل قريش شرفا أعطيته علي بن أبي طالب. وأما قولك: إن معاوية ولي دم عثمان فوله هذا الأمر، فلم أكن لأوليه وأدع المهاجرين الأولين. وأما تعريضك لي بالسلطان، فوالله لو خرج لي معاوية من سلطانه كله لما وليته، وما كنت لأرتشي في حكم الله! ولكنك إن شئت أحيينا اسم عمر بن الخطاب رحمه الله ".
فقال له عمرو: "فما يمنعك من ابني، وأنت تعلم فضله وصلاحه؟ "، فقال: "إن ابنك رجل صدق، ولكنك قد غمسته في هذه الفتنة".
وجرت المناقشة على هذا المنوال، مما لا مجال لذكره هنا، وقد ذكرت ما ذكرت لأبرز اتجاه موسى في حرصه على المصلحة العليا للمسلمين، وخلوه من كل اتجاه آخر.
__________
(1) دومة الجندل: حصن وقرى بين الشام والمدينة، انظر التفاصيل في معجم البلدان (4 \ 106 - 109) .
(2) انظر نسبه في جمهرة أنساب العرب (435) ، وهو من حمير بن سبأ.(28/163)
وكان عمرو قد عود أبا موسى أن يقدمه في الكلام، يقول له: "أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسن مني، فتكلم "، وتعود ذلك أبو موسى، وأراد عمرو بذلك كله أن يقدمه في خلع علي.
ولما أراده عمرو على ابنه وعلى معاوية، فأبى، وأراد أبو موسى ابن عمر، فأبى عمرو، قال له عمرو: "خبرني ما رأيك؟ "، قال: "أرى أن نخلع هذين الرجلين، ونجعل الأمر شورى، فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا". فقال عمرو: "الرأي ما رأيت ".
وأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون، فقال عمرو: "يا أبا موسى! أعلمهم أن رأينا قد اتفق".
وتكلم أبو موسى فقال: "إن رأينا قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله به أمر هذه الأمة"، فقال عمرو: "صدق وبر، تقدم يا أبا موسى فتكلم ".
وتقدم أبو موسى، فقال: "أيها الناس! إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة، فلم نر أصلح لأمرهم ولا ألم لشعثها من أمر قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع عليا ومعاوية ويولي الناس أمرهم من أحبوا، وإني قد خلعت عليا ومعاوية، فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من رأيتموه أهلا"، ثم تنحى.
وأقبل عمرو، فقام وقال: "إن هذا قد قال ما سمعتموه وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية، فإنه ولي ابن عفان، والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه ".
والتمس أهل الشام أبا موسى، فهرب إلى مكة، ثم انصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية، فسلموا عليه بالخلافة.
ورجع ابن عباس ومن معه من أهل العراق إلى علي في الكوفة انظر التفاصيل في الطبري (5 \ 67 - 71) (1)
__________
(1) وابن الأثير (3 \ 329 - 334) . .(28/164)
وقد غمز أبا موسى كثيرون، ولكي ننصفه بالحكم له أو عليه، لا بد من معرفة ظروفه التي أحاطت به، وموقفه منها.
لقد بقي أبو موسى واليا على البصرة حتى مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأقره عثمان عليها ثم صرفه (1) ثم عاد فولاه الكوفة نزولا عند رغبة أهلها (2) .
وعندما أثار الشغب على عثمان قسم من أهل الكوفة، قام أبو موسى فيهم خطيبا فقال: "لا تنفروا في مثل هذا، ولا تعودوا لمثله، الزموا جماعتكم والطاعة، وإياكم والعجلة"، فقال الذين شغبوا على عثمان: "فصل بنا "، فقال: "لا! إلا على السمع والطاعة لعثمان بن عفان "، فقالوا: "السمع والطاعة لعثمان " (3) .
وهكذا ضرب أبو موسى مثلا رائعا رفيعا في العمل للمصلحة العامة الإسلامية ونكران الذات، إذ لم يفكر لحظة واحدة في الشغب على عثمان انتقاما منه على عزله عن البصرة دون مسوغ لهذا العزل، وبذل غاية جهده لعدم إشعال نيران الفتنة بين المسلمين. ولما علم بتجمع الحاقدين على عثمان من الأمصار في المدينة المنورة، أرسل القعقاع بن عمرو التميمي (4) على رأس جيش من أهل الكوفة لإنقاذ عثمان مما حاق به من أخطار (5) .
ولكن عثمان قتل قبل أن يدركه جيش القعقاع أو تدركه جيوش الأمصار الأخرى (6) ، فسبق السيف العذل (7) .
__________
(1) أسد الغابة (3 \ 246) والإصابة (4 \ 120) والاستيعاب (3 \ 930) ، وانظر ابن الأثير (3 \ 99) .
(2) الطبري (4 \ 336) وابن الأثير (3 \ 148) .
(3) الطبرى (4 \ 332) وابن الأثير (3 \ 149) .
(4) انظر سيرته المفصلة في: قادة فتح العراق والجزيرة (331-355) .
(5) الطبري (4 \ 352) و (4 \ 385) .
(6) الطبرى (4 \ 385) .
(7) مثل عربي يضرب لما قد فات ولا يستدرك.(28/165)
وكان أبو موسى على الكوفة حين قتل عثمان (1) ، فكتب إلى علي بن أبي طالب بطاعة أهل الكوفة وبيعتهم له، وبين الكاره منهم للذي كان والراضي ومن بين ذلك، حتى كأن علي بن أبي طالب يشاهدهم (2) .
ومع ذلك، كان من رأي أبي موسى القعود عن الفتنة الكبرى، وقد سأل علي رجلا قدم من الكوفة عن أبي موسى، فقال الرجل: إن أردت الصلح فأبو موسى صاحبه، وإن أردت القتال فليس بصاحبه (3) .
وسأل أهل الكوفة أبا موسى عن رأيه في الاقتتال، فقالوا: "ما ترى في الخروج؟ "فأجابهم: "القعود سبيل الآخرة، والخروج سبيل الدنيا، فاختاروا " (4) .
وخطب بالكوفة، فكان مما قاله: "هذه فتنة صماء، النائم فيها خير من اليقظان واليقظان خير من القاعد، والقاعد خير من القائم والقائم خير من الراكب، والراكب خير من الساعي، فكونوا جرثومة من جراثيم العرب، فاغمدوا السيوف، وانصلوا الأسنة، واقطعوا الأوتار،، وآووا المظلوم والمضطهد حتى يلتئم هذا الأمر، وتنجلي هذه الفتنة " (5) وأرسل علي بن أبي طالب ابنه الحسن وعمار بن ياسر إلى أبي موسى، فخرج أبو موسى ولقي الحسن فضمه إليه، فقال الحسن لأبي موسى: "لم تثبط عنا؟ ! فوالله ما أردنا إلا الإصلاح، ولا مثل أمير المؤمنين يخاف على شيء "، فقال أبو موسى: "صدقت بأبي أنت وأمي، ولكن المستشار مؤتمن، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من
__________
(1) الطبري (4 \ 422) وابن الأثير (3 \ 186) .
(2) الطبري (4 \ 443) وابن الأثير (3 \ 202) .
(3) الطبري (4 \ 480) وابن الأثير (3 \ 225) .
(4) الطبري (4 \ 481) وابن الأثير (3 \ 227) .
(5) الطبري (4 \ 482) وابن الأثير (3 \ 227) . .(28/166)
الراكب (1) » . وقد جعلنا الله عز وجل إخوانا، وحرم علينا أموالنا ودماءنا، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًًا} (2) وقال عز وجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (3) ، فعزل علي بن أبي طالب أبا موسى عن الكوفة (4) ، وكان قد أقره قبل ذلك، بينما عزل غيره من عمال عثمان (5) . .
واعتزل أبو موسى الفتنة الكبرى، ولكنه لم يفارق عليا، ولم يغادر الكوفة إلى مكان آخر، بل بقي مع علي وفي ظله وسلطته، مقرا له بالخلافة، ولكنه لا يقاتل مسلما ولا يرضى بقتل مسلم، فاعتزل الفتنة كما اعتزلها غيره من كبار الصحابة مثل سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب وأسامة بن زيد حب رسول الله وابن حبه ومحمد بن مسلمة، وهذا هو سر اعتزال أبي موسى: لا يقتل مسلما، ولا يرضى بقتل مسلم.
لقد كان أبو موسى، يحرص أشد الحرص، على إخماد نيران الفتنة بين المسلمين، فدم المسلم على المسلم حرام، وهو يريد أن تكون سيوف المسلمين على أعدائهم لا عليهم، وأن يكون المسلمون إخوة في الله، يحب الأخ لأخيه ما يحبه لنفسه. ولست أشك في أنه كان يعمل لآخرته أكثر مما كان يعمل لدنياه، وكان راغبا عن الفتنة كارها لقتال المسلمين، وكانت حجته الواضحة لتسويغ موقفه الجازم الحازم الصلب الذي لا يتزعزع عنه قيد أنملة، هو أنه لا يمكن أن يقاتل قوما يؤمنون بالله ورسوله، وأن السبيل
__________
(1) سنن الترمذي الفتن (2194) ، مسند أحمد بن حنبل (1/169) .
(2) سورة النساء الآية 29
(3) سورة النساء الآية 93
(4) ابن الأثير (3 \ 231) وأسد الغابة (3 \ 246) .
(5) اليعقوبي (2 \ 155)(28/167)
لوضع حد للاختلاف، هو التفاوض بين الأطراف المختلفة وليس أن يقتل الأخ أخاه.
ولا مجال أبدا، لزعم قسم من المؤرخين، أن أبا موسى كان مغفلا لا علم له بالسياسة، لذلك غدر به عمرو بن العاص، فقد كانت القضية مكشوفة للغاية وليست معقدة، كما أنه كان يعرف عمرو بن العاص ويعرف دهاءه، ولم يكن يجهل مكانه ومكانته، ولكن أبا موسى كان يريد الله بكل أعماله، وكان يرى أن إيقاف الاقتتال بين المسلمين ووضع حد لنزيف دماء المسلمين بأيديهم لا بأيدي أعدائهم، أهم بكثير من مصير رجلين من المسلمين، هما: علي ومعاوية. لقد كان يعتقد أن مصير الإسلام والمسلمين، أهم بكثير من مصير شخصين، وأن المصلحة العامة للإسلام والمسلمين، أهم بكثير من المصلحة الشخصية، ولو كان غير عمرو بن العاص معه في التحكيم، لما تبدل موقفه، فهذا هو موقفه الذي لم يفرضه عليه عمرو ولا غيره، بل فرضه عليه إيمانه الراسخ بتعاليم الإسلام، وحرصه الشديد على اتباع التعاليم نصا وروحا، حتى ولو لحق الضرر بمصالحه الشخصية، فخسر منصبه، وخسر مكانته، وخسر حتى متاعه الذي نهبه الناس (1) ، ولكنه ربح نفسه، ولا يمكن أن تعتبر الخسارة المادية إلى جانب الخسارة المعنوية عند أصحاب المبادئ والمثل العليا شيئا مذكورا. إن دراسة حياة هذا الصحابي الجليل بإمعان، تؤكد أنه لم يكن مغفلا وتنفي عنه الغفلة نفيا قاطعا، وإلا لما ولاه الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان، ولولا موقفه من الفتنة لما تخلى عن الاستعانة بكفايته علي أيضا، ولما اختاره أهل الكوفة لولاية مصرهم في عهد عثمان حين بدأت بوادر الفتنة، ولكنه كان رجلا ورعا تقيا سمح النفس رضي الخلق، لا يبيع دينه بدنياه، ولا يفرط بمصلحة المسلمين من أجل مصلحته.
__________
(1) الطبري (4 \ 487) وابن الأثير (3 \ 231) .(28/168)
لقد كان يطبق مبدأ: السمع والطاعة، للخليفة القائم، ولا يرضى بالفتنة ولا يشارك بها بقلبه ولا بلسانه ولا بسيفه، ولا يسكت عن الذين يثيرونها عن حسن نية أو عن سوء نية ويقاومهم ولا يخشى في الحق لومة لائم، فإذا استنفد كل طاقاته في إطفاء نيران الفتنة دون جدوى، اعتزل الفتنة وأصحابها ولو خلف وراءه كل ما يملك من منصب ومال ومتاع، فأصبح فجأة رجلا بلا غد، فذلك أهون عليه من أن يقتل مسلما أو يقاتل مسلما مهما تكن الأسباب الداعية لهذا الاقتتال.
وقد اجتهد أبو موسى لنفسه ولمن حوله، فصدع بالرأي الذي استقر عليه اجتهاده ولم يخفه عن أحد مسئولا أو غير مسئول، وللمجتهد إذا أصاب أجران، فإذا أخطأ فله أجر واحد، فهو مأجور على كل حال.
وما كان أبو موسى يشك لحظة واحدة في أفضلية علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولا بأحقيته بالخلافة، ولكن كان في نفسه شيء من قضية الاقتتال بين المسلمين.
ولا يمكن لمسلم أن يشك في إخلاص علي للإسلام والمسلمين ولا أن يشكك به، ولكنه كان مجتهدا، فساقه اجتهاده إلى ما ساقه إليه، وللمجتهد أجره في كل حال.
لقد كان أبو موسى على درجة عالية من الذكاء والفطنة، فما غلبه على أمره عمرو بن العاص، ولكنه انصاع لاجتهاده، فكان ما كان.(28/169)
الإداري
أ- كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن كتابا يخبرهم فيه بشرائع الإسلام وفرائض الصدقة والمواشي والأموال، ويوصيهم بأصحابه(28/169)
ورسله خيرا، وكان رسوله إليهم معاذ بن جبل ومالك بن مرارة الرهاوي.
وقد حمل معاذ ومالك هذا الكتاب النبوي إلى اليمن في شهر شوال أو شهر ذي القعدة من السنة التاسعة الهجرية.
وبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى مع معاذ أميرا وقاضيا (1) ، وقال لهما: «بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا، وتطاوعا ولا تختلفا (2) » . وفي السنة العاشرة الهجرية، أسلم باذان الذي كان عامل كسرى على اليمن، وبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه (3) ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جمع لباذان الفارسي حين أسلم وأسلمت اليمن، عمل اليمن كلها، وأمره على جميع مخاليفها، فلم يزل عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن أيام حياته، ولم يعزله عنها ولا عن شيء منها، ولا أشرك معه شريكا حتى مات باذان، فلما مات فرق عمل اليمن بين جماعة من أصحابه، وكان ذلك بعد حجة الوداع سنة عشر الهجرية، فكان من عماله عليه الصلاة والسلام أبو موسى الأشعري (4) ، وبهذا أصبح أبو موسى عاملا من عمال النبي صلى الله عليه وسلم (5) ، بالإضافة إلى واجباته الأخرى فولاه عليه الصلاة والسلام:
__________
(1) أخبار القضاة (1 \ 100) .
(2) أخبار القضاة (1 \ 101) .
(3) الطبري (3 \ 158) .
(4) الطبري (3 \ 227-228) .
(5) أنساب الأشراف (1 \ 529) وجوامع السيرة (23) .(28/170)
زبيد وعدن ورمع (1) والساحل.
ولم يعزل عن عمله في اليمن، كما لم يعزل غيره من عمالها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم (2) .
وبقي أبو موسى على زبيد وعدن ورمع والساحل طيلة أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه (3) .
وآثر أبو موسى بعد وفاة أبي بكر الصديق أن يصبح غازيا على أن يبقى واليا، ولكن لا ندري بالضبط متى ترك ولايته في اليمن، وأول ما ورد اسمه في الولاية، هو توليته البصرة بعد عزل المغيرة بن شعبة عنها، وكان ذلك سنة سبع عشرة الهجرية. فقد بعث عمر بن الخطاب إلى أبي موسى، فقال: " يا أبا موسى! إني مستعملك، إني أبعثك إلى أرض قد باض بها الشيطان وفرخ، فالزم ما تعرف، ولا تستبدل فيستبدل الله بك"، فقال: "يا أمير المؤمنين! أعني بعدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، فإني وجدتهم في هذه الأمة وهذه الأعمال كالملح لا يصلح الطعام إلا به"، فقال له: "خذ من أحببت "، فاستعان بتسعة وعشرين رجلا، منهم أنس بن مالك وعمران بن حصين وهشام بن عامر.
__________
(1) رمع: قرية أبي موسى ببلاد الأشعريين قرب غسان وزبيد، انظر التفاصيل في معجم البلدان (4 \ 285) .
(2) الطبري (3 \ 229) .
(3) الطبري (3 \ 437) وابن الأثير (2 \ 421) .(28/171)
وخرج أبو موسى، حتى أناخ بالمربد (1) ، فبلغ المغيرة أن أبا موسى قد أناخ بالمربد فقال: "ولله ما جاء أبو موسى زائرا، ولا تاجرا، ولكنه جاء أميرا". وجاء أبو موسى إلى المغيرة بن شعبة ودفع إليه كتابا من عمر، وإنه لأوجز كتاب كتب به أحد من الناس: أربع كلم، عزل فيها، وعاتب، واستحث، وأمر، وهذا نص الكتاب: "أما بعد فإنه بلغني نبأ عظيم فبعثت أبا موسى أميرا، فسلم إليه ما في يدك، والعجل ".
وكتب عمر مع أبي موسى كتابا هذا نصه موجه إلى أهل البصرة: "أما بعد فإني قد بعثت أبا موسى أميرا عليكم، ليأخذ لضعيفكم من قويكم، وليقاتل بكم عدوكم، وليدفع عن ذمتكم، وليحصي لكم فيئكم ثم ليقسمه بينكم، ولينقي لكم طرقكم " (2) .
وفي أيام أبي موسى على البصرة، خرج رجل من أهل البصرة، يقال له: أبو عبد الله، وهو نافع أبو عبد الله بن كلدة الثقفي، إلى المدينة المنورة، فقال لعمر بن الخطاب: "إن قبلنا أرضا بالبصرة ليست من أرض الخراج، ولا تضر بأحد من المسلمين، فإن رأيت أن تقطعنيها، واتخذ فيها قضبا (3) لخيلي، فافعل"، وكان أبو عبد الله أول من افتلى الفلا (4) ، فكتب عمر إلى أبي موسى: "إن كان كما يقول، فاقطعها له". وفي رواية أن كتاب عمر كان: "إن عبد الله سألني أرضا على شاطئ دجلة، فإن لم تكن أرض جزية ولا أرضا يجري إليها ماء جزية فأعطها إياه".
__________
(1) المربد: موضع سوق الإبل بالبصرة، ثم أصبح سوقا وشارعا، انظر التفاصيل في معجم البلدان (8 \ 11-13) .
(2) الطبري (4 \ 70-71 م) وابن الأثير (2 \ 540-541) ، وانظر طبقات ابن سعد (4 \ 109) والإصابة (4 \ 119) .
(3) القضب: شجرة ترعاه الإبل والخيل.
(4) افتلى المكان: رعاه. والفلا: جمع فلاة، وهي الأرض الواسعة المقفرة.(28/172)
وكان أبو موسى قد فتح أصبهان سنة إحدى وعشرين الهجرية برفقة عبد الله بن عبد الله بن عتبان، فعقدا مع أهلها هذه المعاهدة:
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب من عبد الله للفاذوسفان وأهل أصبهان وحواليها:
إنكم آمنون ما أديتم الجزية بقدر طاقتكم في كل سنة، تؤدونها إلى الذي يلي بلادكم عن كل حالم، ودلالة المسلم، وإصلاح طريقه، وقراه يوما وليلة، وحملان الراجل إلى مرحلة، لا تسلطوا على مسلم، وللمسلمين نصحكم وأداء ما عليكم، ولكم الأمان ما فعلتم، فإذا غيرتم شيئا أو غيره مغير منكم ولم تسلموه، فلا أمان لكم، ومن سب مسلما بلغ منه، فإن ضربه قتلناه، وكتب عبد الله بن قيس وشهد، وعبد الله بن ورقاء، وعصمة بن عبد الله (1) .
وفي سنة اثنتين وعشرين الهجرية أمره عمر بن الخطاب على الكوفة بطلب من أهلها بعد عمار بن ياسر، فأقام على الكوفة عاما أو بعض عام، ثم عزله وصرفه إلى البصرة (2) من جديد، في سنة اثنتين وعشرين الهجرية (3) ، مما يدل على بقائه في الكوفة أقل من عام.
وبقي أبو موسى على البصرة إلى وفاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة ثلاث وعشرين الهجرية، وقد كتب عمر في وصيته لمن يتولى الخلافة من بعده: "لا يقر لي عامل أكثر من سنة، وأقروا الأشعري أربع سنين (4) "، وهذا دليل على أن عمر كان يثق به ثقة مطبقة، وأن ثقته به أعظم من ثقته بعماله الآخرين.
__________
(1) الطبري (4 \ 141) .
(2) ابن الأثير (3 \ 32) .
(3) ابن الأثير (3 \ 38) .
(4) الإصابة (4 \ 120) .(28/173)
وفي سنة تسع وعشرين الهجرية، عزل عثمان بن عفان رضي الله عنه أبا موسى عن البصرة بعبد الله بن عامر بن كريز القرشي العبشمي (1) وقيل كان ذلك لثلاث سنين مضت من خلافة عثمان، وأرجح الرواية الأولى، فقد عمل على البصرة ست سنين، وما كان عثمان ليعزله بعد ثلاث سنين خلافا لوصية عمر.
فلما خرج من البصرة حين نزع عنها، لم يكن معه إلا ستمائة درهم عطاء عياله (2) ، ولكن كان معه ما هو أثمن من كل مادة في الدنيا، هي قولة الحسن البصري فيه: "ما أتاها - يعني البصرة - راكب خير لأهلها منه (3) "، فقد ذهبت المادة، وبقي هذا الثناء المستطاب.
ولما عزل عن البصرة سار منها إلى الكوفة، فلم يزل بها حتى أخرج أهل الكوفة سعيد بن العاص، وطلبوا من عثمان أن يستعمله عليهم، فاستعمله (4) ، وكان قد سكن الكوفة بعد خروجه من البصرة، فتفقه أهل الكوفة به (5) ، وقد استعمله عثمان على الكوفة بعد سعيد بن العاص نزولا عند رغبة أهل الكوفة، وكتب إليهم:
__________
(1) انظر سيرته في: المعارف (320-322) .
(2) طبقات ابن سعد (4 \ 111) .
(3) الإصابة (4 \ 120) .
(4) أسد الغابة (3 \ 247) و (5 \ 309) والإصابة (4 \ 120) .
(5) الإصابة (4 \ 120) .(28/174)
"بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد، فقد أمرت عليكم من اخترتم، وأعفيتكم من سعيد، والله لأفرشنكم (1) عرضي، ولأبذلن لكم صبري ولأستصلحنكم بجهدي، فلا تدعوا شيئا أحببتموه لا يعصى الله فيه إلا سألتموه، ولا شيئا كرهتموه لا يعصى الله فيه إلا استعفيتم منه، أنزل فيه عندما أحببتم، حتى لا يكون لكم علي حجة" (2) ، وكان ذلك سنة أربع وثلاثين الهجرية (3) ومعنى ذلك أن أبا موسى، بقي بلا عمل للخليفة عثمان نحو أربع سنوات، قضاها في تعليم القرآن وتحفيظه وفي تفقيه أهل الكوفة.
وكان أبو موسى، حين أعاد أهل الكوفة سعيد بن العاص من الطريق قبل دخول الكوفة إلى عثمان، قد جمع أهل الكوفة الحانقين على سعيد وغير الحانقين عليه، وخطبهم، وأمرهم بالجماعة وبلزوم الجماعة وبطاعة عثمان، فأجابوا إلى ذلك، وقالوا: "صل بنا "، فقال: "لا! إلا على السمع والطاعة لعثمان "، قالوا: "نعم"، فصلى بهم، وأتاه ولايتهم من عثمان، فوليهم (4) .
ولم يزل أبو موسى على الكوفة، حتى استخلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه سنة خمس وثلاثين الهجرية (5) فأقره علي بن أبي طالب عليها.
فلما سار علي إلى البصرة ليمنع طلحة والزبير عنها، أرسل إلى أهل الكوفة يدعوهم لينصروه، فمنعهم أبو موسى وأمرهم بالقعود في الفتنة، فعزله علي
__________
(1) في ابن الأثير والنويري: ''لأقرضنكم ''.
(2) الطبري (4 \ 336) وابن الأثير (3 \ 148-149) .
(3) الطبري (4 \ 336) وابن الأثير (3 \ 148) .
(4) ابن الأثير (3 \ 149) .
(5) الطبري (4 \ 427) وابن الأثير (3 \ 190) .(28/175)
عنها (1) وكان قد أقره عليها قبل ذلك، بينما عزل غيره من عمال عثمان (2) .
ب - فما هي إنجازات أبي موسى، كما يعبر عن ذلك المحدثون؟ كتب أبو موسى إلى عمر: "إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ "، فجمع عمر الناس لمشورة، فقال بعضهم: "أرخ لمبعث النبي ("، وقال بعضهم: "لمهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فقال عمر: " نؤرخ لمهاجرة رسول الله (فإن مهاجرته فرق بين الحق والباطل (3) ".
لقد كان لأبي موسى فضل المطالبة بوضع التأريخ للمسلمين، فكان التأريخ الهجري الذي بدأ العمل به على عهد عمر بن الخطاب، ولا يزال معمولا به حتى الآن.
وكان عمر بن الخطاب أول من سمي بأمير المؤمنين، وكان أبو موسى أول من دعا له بهذا الاسم على المنبر، وأول من كتب إليه: لعبد الله عمر أمير المؤمنين، من أبي موسى الأشعري، فلما قرئ ذلك على عمر قال: "إني لعبد الله، وإني لأمير المؤمنين، والحمد لله رب العالمين (4) ".
وأصبحت السنة التي سنها أبو موسى متبعة في الدعاء وفي الأسلوب الكتابي أيضا.
وفي سنة ثماني عشرة الهجرية، أصاب الناس مجاعة شديدة وجدب وقحط، وهو عام الرمادة، وكانت الريح تسفي ترابا كالرماد، فسمي: عام الرمادة، واشتد الجوع حتى جعلت الوحش تأوي إلى الإنس، وحتى جعل الرجل يذبح الشاه فيعافها من قبحها، وإنه لمقفر (5) .
__________
(1) ابن الأثير (3 \ 231) وأسد الغابة (3 \ 246) و (5 \ 309) ، انظر مروج الذهب (2 \ 359) .
(2) اليعقوبي (2 \ 155) .
(3) ابن الأثير (1 \ 10) .
(4) مروج الذهب للمسعودي (2 \ 305) ط2، بيروت - 1393هـ.
(5) الطبري (4 \ 98) ابن الأثير (2 \ 555) .(28/176)
وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى وهو على البصرة: "إن العرب هلكت، فابعث إلي بطعام " فبعث إليه بطعام، وكتب إليه: "إني قد بعثت إليك بكذا وكذا من الطعام، فإن رأيت يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الأمصار، فيجتمعون في يوم، فيخرجون فيه، فيستسقون "، فكتب عمر إلى أهل الأمصار، فخرج أبو موسى فاستسقي ولم يصل (1) . وهذا دليل على أن الزراعة والإنتاج الزراعي كان بازدهار بحيث يغطي حاجة المنطقة ويفيض على ما تحتاج إليه، فتصدر إلى المناطق الأخرى.
ولا عجب في ازدهار الزراعة والمحاصيل الزراعية في ولاية البصرة على عهد أبي موسى، فقد كان يهتم بالري الذي هو العمود الفقري للزراعة، وبخاصة في الأرض السيحية التي تسقى بمياه النهر ولا تزدهر بدونه، فقد قاد أبو موسى نهر الأبلة من موضع الإجانة إلى البصرة وكان شرب الناس قبل ذلك من مكان يقال له: دير قاووس (2) ، فوهته في دجلة فوق الأبلة بأربعة فراسخ، يجري في سباخ لا عمارة على حافته، وكانت الأرواح (3) تدفنه (4) .
ولم يقتصر نشاط أبي موسى في الري على حفر نهر الأبلة، بل امتد إلى حفر نهرين آخرين سجلهما له البلدانيون العرب، ولا ندرى عدد الأنهار التي حفرها ولم يسجلها البلدانيون له.
__________
(1) طبقات ابن سعد (4 \ 110) .
(2) لم أجد له ذكرا في المصادر التي تتحدث على الأديرة.
(3) الأرواح: جمع ريح، وهو الهواء إذا تحرك.
(4) البلاذري (498) .(28/177)
فقد قدم الأحنف بن قيس التميمي (1) على عمر بن الخطاب في أهل البصرة فجعل عمر يسألهم رجلا رجلا، والأحنف لا يتكلم، فقال له عمر: "ألك حاجة؟ " فقال: "بلى يا أمير المؤمنين! إن مفاتيح الخير بيد الله، وإن إخواننا من أهل الأمصار نزلوا منازل الأمم الخالية بين المياه العذبة والجنان الملتفة، وإنا نزلنا أرضا نشاشة (2) لا يجف مرعاها، ناحيتها من قبل المشرق البحر الأجاج، ومن ناحية المغرب الفلاة العجاج، فليس لنا زرع ولا ضرع، تأتينا منافعنا وميرتنا في مثل مري النعامة، يخرج الرجل الضعيف منا فيستعذب الماء من فرسخين، والمرأة كذلك فتربق (3) ولدها ربق العنز تخاف بادرة العدو وأكل السبع؛ فإلا ترفع خسيستنا وتجبر فاقتنا، نكن كقوم هلكوا"، فألحق عمر ذراري أهل البصرة في العطاء، وكتب إلى أبي موسى يأمره أن يحفر لهم نهرا، فذكر جماعة من أهل العلم أن دجلة العوراء، وهي دجلة البصرة، كانت خورا (4) ، والخور طريق للماء لم يحفره أحد، تجري إليه الأمطار ويتراجع ماؤها فيه عند المد وينضب في الجزر، وكان يحده مما يلى البصرة خور واسع كان يسمي في الجاهلية: الإجانة، وتسميه العرب في الإسلام: خزاز، وهو على مقدار ثلاثة فراسخ من البصرة، ومنه يبتدئ النهر الذي يعرف اليوم بنهر الإجانة.
فلما أمر عمر أبا موسى بحفر نهر، ابتدأ بحفر نهر الإجانة، ففأره (5) ثلاثة فراسخ، حتى بلغ به البصرة (6) . وكان أهل البصرة قبل حفر هذا
__________
(1) انظر سيرته في: قادة بلاد فارس (217-246) .
(2) نش الشيء: جف وذهب ماؤه. ونشاش هو، وهي نشاشة. ويقال سبخة نشاشة: لا يجف ثراها ولا ينبت مرعاها.
(3) ربقه: ربط بالربق. والربق: حبل ذو عرى، والحبل، والخيط.
(4) الخور: مصب الماء في البحر، والمنخفض من الأرض بين مرتفعين، والخليج.
(5) فأر فلان: حفر حفر الفأر.
(6) معجم البلدان (8 \ 334) .(28/178)
النهر يستقون ماءهم من الأبلة، وكان يذهب رسولهم إذا قام المتهجدون من الليل، فيأتي بالماء بعد صلاة العصر (1) .
وهكذا يسر أبو موسى ماء الشرب لأهل البصرة من جهة، ويسر لهم ماء السقي من جهة أخرى.
أما النهر الثالث الذي حفره أبو موسى بالبصرة، فهو نهر معقل، نسبة إلى الصحابي الجليل معقل بن يسار بن عبد الله المزني، وهو نهر معروف بالبصرة، فمه عند نهر الإجانة الذي ذكرناه قبل قليل. فقد أمر عمر بن الخطاب أبا موسى أن يحفر نهرا بالبصرة، وأن يجريه على يد معقل بن يسار المزني، فنسب إليه. وفي رواية أخرى أن زياد بن أبي سفيان (2) هو الذي حفره (3) ، ولا تناقض بين الروايتين، فأبو موسى حفره، وزياد جدد حفره، لأن الأنهار في تلك المناطق تحتاج إلى إدامة حفرها باستمرار، وإلا طمرت واندرست، فخلط الذين كتبوا على هذا النهر بين الجهدين: جهد أبي موسى، وجهد زياد.
تلك ثلاثة أنهار للبصرة عرفت لأبي موسى، حفرها على عهد الفاروق عمر وحده، وقد كان على البصرة في عهد عمر خمس سنوات امتدت من سنة سبع عشرة الهجرية إلى سنة ثلاث وعشرين الهجرية، أمضى منها سنة على الكوفة بعيدا عن البصرة، وقد بقي على البصرة ست سنوات في عهد عثمان بن عفان، ولا بد أنه بذل نشاطا باهرا في حفر أنهار جديدة وفي تطهير أنهار قديمة، ولا عبرة بسكوت الذين سجلوا نشاط أبي موسى في حفر الأنهار عن تسجيل ما حفره من أنهار، فما كل شيء جرى سجل
__________
(1) معجم البلدان (8 \ 335) .
(2) زياد بن أبي سفيان: انظر سيرته في تهذيب ابن عساكر (5 \ 409) .
(3) معجم البلدان (8 \ 345-346) .(28/179)
ولكن إذا افترضنا أن هذه الأنهار الثلاثة هي كل ما حفره أبو موسى في سني ولايته على عهد عمر، وأنه لم يحفر أنهارا إضافية بعد عمر لسبب أو لآخر، فإن حفر ثلاثة أنهار ليس قليلا، وبخاصة إذا تذكرنا الوسائل البدائية المستعملة أيام أبي موسى بالحفر، وأن القادرين على الحفر في شغل شاغل عن الحفر بالجهاد والفتوح.
وكان من ثمرات نشاط أبي موسى في حفر الأنهار، أن البصرة أصبحت مصدرة للطعام إلى المسلمين المحتاجين إليه، واكتفى المسلمون ذاتيا بما لديهم، ولم يبقوا محتاجين إلى استيراد الطعام من الأجانب، فلا شيء بلا ثمن، وثمنه الضغط السياسي كما هو معلوم، كما كان يمارسه الأجانب على العرب في الجاهلية، وبخاصة في سنوات القحط والجفاف.
ولم يكن أبو موسى متفرغا للقضايا الإدارية في البصرة، بل كان مسئولا مسئولية مباشرة عن الجهاد والفتوح بما فيه حشد الرجال وقيادتهم فالأمير يومها إداري قائد.
فقد تولى البصرة سنة سبع عشرة الهجرية لعمر، فحشد الرجال بأمر عمر لفتوح المشرق، فشاركوا في فتح رامهرمز، بقيادة أحد قادته المرءوسين، ثم شهد فتح تستر قائدا لمجاهدي البصرة، فلما فتحت المدينة انصرف أبو موسى إلى البصرة.
وبقي سنة ثماني عشرة الهجرية وتسع عشرة الهجرية وعشرين الهجرية يحشد الرجال لفتوح أرض فارس في المشرق، وفي سنة إحدي وعشرين شهد معركة نهاوند وهي معركة فتح الفتوح، على أهل البصرة، فلما فتح المسلمون نهاوند، انصرف أبو موسى ففتح الدينور صلحا وسيروان صلحا أيضا، ووجه أحد رجاله ففتح الصميرة مدينة مهرجان قذق صلحا. كما شارك أبو موسى في هذه السنة، أي سنة إحدى وعشرين الهجرية في فتح أصبهان، كما فتح قم وقاشان قبل عودته إلى البصرة.
ونقل أبو موسى إلى الكوفة سنة اثنتين وعشرين الهجرية، فبقي فيها عاما أو بعض عام، ثم أعيد سنة اثنتين وعشرين الهجرية أيضا إلى البصرة.(28/180)
وفي سنة ثلاث وعشرين الهجرية، شارك أبو موسى في فتح شيراز وأرجان وسينيز، واستعاد فتح مدينة سابور سنة ست وعشرين الهجرية على عهد عثمان.
لقد فتح أبو موسى الأهواز والسوس وأصبهان والدينور وماسبذان وسيروان وقم وقاشان، وشارك في فتح تستر ونهاوند، واستعاد فتح سابور.
ويتضاعف إعجابنا بأبي موسى وتقديرنا لنشاطه في خدمة الإسلام والمسلمين، إذا ذكرنا فتوحه الواسعة إلى جانب أعماله الإدارية، فنحير بأيهما نكون أكثر إعجابا: بأعماله العسكرية، أم بأعماله الإدارية.
وما يخطر على البال هو: كيف تيسر له الوقت الكافي للنهوض بكل هذه الأعمال الكبيرة؟ ! لقد كان أبو موسى حصيفا في إدارته وقيادته، ويتمتع بعقلية متزنة وفكر صائب ورأي سديد، يدلنا على ذلك ما رواه عنه طارق بن شهاب البجلي قال: "أتينا أبا موسى، وهو بداره بالكوفة لنتحدث عنده، فلما جلسنا قال: لا عليكم أن تخفوا، فقد أصيب في الدار إنسان بهذا السقم، ولا عليكم أن تنزهوا عن هذه القرية، فتخرجوا في فسيح بلادكم ونزهها حتى يرفع هذا الوباء. سأخبركم بما يكره مما يتقى، من ذلك أن يظن من خرج أنه لو أقام مات، ويظن من أقام فأصابه ذلك لو أنه خرج لم يصبه فإذا لم يظن هذا المرء المسلم فلا عليه أن يخرج، وأن يتنزه عنه (1) "، فهو يفسح المجال للابتعاد عن المرض والأخذ بالوسائل، مع الثقة المطلقة بقضاء الله عز وجل وقدره.
ومما يدل على عقليته المتزنة الراجحة، بقاؤه في البصرة والكوفة بدون مشاكل خطيرة مع أهل هذين البلدين، وقد كان لهما مشاكل - وبخاصة الكوفة - مع من سبق أبا موسى في ولايتهما ومع من لحقه أيضا كما هو معروف.
__________
(1) الطبري (4 \ 60) وابن الأثير (2 \ 558) .(28/181)
ولم تخل إمارته على البصرة والكوفة من مشاكل فحسب، بل العكس هو الذي حدث، فقد كان أهل البلدين يطالبون الخليفة بعودته إليهما كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
فقد سأل عمر أهل الكوفة: "من تريدون؟ "، فقالا: "أبا موسى "، فأمره عليهم بعد عمار بن ياسر، وكان ذلك في سنة اثنتين وعشرين الهجرية (1) .
وقد اختاره أهل الكوفة واليا عليهم في عهد عثمان، فنزل عثمان على إرادة أهل الكوفة، وولى على الكوفة أبا موسى (2) ، وكان ذلك سنة أربع وثلاثين الهجرية (3) ، ومن النادر أن يرضى أهل الكوفة عن أمير! ! ولما بعث علي بن أبي طالب عمارة بن شهاب (4) وكانت له هجرة، واليا على الكوفة خلفا لأبي موسى، علم وهو في طريقه إليها، أن أهلها لا يريدون بأميرهم أبي موسى بديلا، فرجع عمارة إلى علي بن أبي طالب بالخبر (5) ، كما اختير من الناس ليمثل أهل العراق في التحكيم، ولم يكن اختياره من علي كما ذكرنا، كل ذلك يدل على مبلغ ثقة الناس بأبي موسى ومقدار شعبيته القوية، فهو أمير وقائد شعبي بحق، كما نعبر عن أمثاله اليوم، إن كان له أمثال! تلك هي مجمل إنجازات أبي موسى إداريا: تعليم للقرآن والحديث النبوي والفقه، وتحفيظ للقرآن الكريم حتى بلغ الحفاظ عشرات المئات، فهو قائد مدرسة علمية فذة، وإصلاح زراعي، وتعمير، وإرواء، وبناء: بنى أبو موسى مسجد البصرة ودار الإمارة بلبن وطين (6) ، وعدل، واستقرار، فهو
__________
(1) الطبري (4 \ 164) وابن الأثير (3 \ 32) .
(2) الطبري (4 \ 336) وابن الأثير (3 \ 148) وانظر أسد الغابة (3 \ 247) و (5 \ 309) والإصابة (4 \ 120) .
(3) العبر (1 \ 34-35) .
(4) عمارة بن شهاب: انظر سيرته في الإصابة (6 \ 276) .
(5) الطبري (4 \ 442-443) وابن الأثير (3 \ 202) .
(6) البلاذري (488) .(28/182)
إدارى حازم حصيف. وجهاد، وفتوح عشر مناطق شاسعة، إحداها الأهواز فهو قائد لامع قدير.
لا عجب أن يقول عمر عن أبي موسى: "إنه كيس (1) "، ويقول عنه الحسن البصري: "ما أتاها راكب -يعني البصرة - خير لأهلها منه (2) ".
ومضت القرون الطويلة، والكلمات التي قيلت في أبي موسى باقية، لأنها كلمات صادقة، ولأن الذي قيلت فيه يستحقها.
إن في ذلك لعبرة، فهل من معتبر! !
__________
(1) طبقات ابن سعد (2 \ 745) .
(2) الإصابة (4 \ 120) .(28/183)
الورع
صنفان من الناس يصعب الكتابة عنهم: الذين لهم ثروة عظيمة من الأعمال العظيمة، والذين لم يصنعوا شيئا في حياتهم له قيمة مادية أو معنوية. والصعوبة في الصنف الأول الحيرة في انتقاء الأعمال التي يمكن أن توصف، والصعوبة في الصنف الثاني الحيرة في إخفاء الخواء الذي لا يمكن أن يعرف.
وأبو موسى من الصنف الأول الذي تتسم كل حياته بالورع، فما يدري الذي يكتب سيرته ما يأخذ وما يدع، وقد حسبت أن أبسط فقرة من فقرات سيرته هي الحديث عن ورعه، ولكنني احترت حين وصلت هذه الفقرة لتزاحم أعماله التي كانت نتيجة من نتائج ورعه، فما أدري ما أغفل ولا أدري ما أسجل.
لقد كان أبو موسى بعد إسلامه وإقباله على تعلم القرآن الكريم، معلما للقرآن الكريم وللفقه الإسلامي، وظل معلما وهو أمير ومجاهد وقائد، لم(28/183)
تشغله واجبات الإمارة والجهاد والقيادة عن واجبه الأصلي وهو التعليم، فكان معلما في بيته، معلما في ديوانه، معلما مع رفاقه في السلاح، معلما في قيادته. وكما كان يعلم القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والفقه الإسلامي، كان يعلم الورع في بيته وفي ديوانه، ومع المجاهدين، وفي مقر قيادته.
والورع لا يمكن أن يعلم بالأفكار النظرية، بل يعلم بالسلوك العلمي، فهو مما لا يمكن تعليمه بالكتب، بل بالقدوة الحسنة، فتنتقل سمات الورع من نفس إلى نفس بالعدوى التي تنبعث عن القدوة الحسنة، كما ينتقل العلم من عقل إلى عقل بالتلقي الذي يصدر عن الكتب، فكان أبو موسى معلم كتاب يصقل العقول بالعلم، ومعلم تقوى يصقل النفوس بالورع.
ومضى أبو موسى إلى ربه، وبقي منه ورعه المسجل في الكتب، ولا تفيد كتب الورع كما يفيد شيوخ الورع، لأن الكتب تخاطب العقول والشيوخ يناغون القلوب، وليس من رأى كمن سمع، ولكن عسى أن ينتفع بورع أبي موسى المكتوب أهل القلوب، وما لا يدرك كله لا بأس بالانتفاع ببعضه، فشيء مهما يقل أفضل من لا شيء.
فقد جعل أبو موسى من نفسه أسوة حسنة لأهله، قال أنس بن مالك: "قال الأشعري وهو على البصرة: جهزني فإني خارج يوم كذا وكذا، وجعلت أجهزه، فجاء ذلك اليوم وقد بقي من جهازه شيء لم أفرغ منه، فقال: يا أنس! إني خارج. فقلت: لو أقمت حتى أفرغ من بقية جهازك.
فقال: إني قد قلت لأهلي: إني خارج يوم كذا وكذا، وإني إن كذبت أهلي كذبوني، وإن خنتهم خانوني، وإن أخلفتهم أخلفوني، فخرج وقد بقي من حوائجه بعض شيء لم يفرغ منه (1) ".
وفي الصحيحين: البخاري ومسلم، من حديث أبي موسى قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة، ونخن ستة نفر على بعير
__________
(1) طبقات ابن سعد (4 \ 111) وحلية الأولياء (1 \ 259) .(28/184)
نعتقبه، فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماي وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت: غزوة ذات الرقاع؛ لما كنا نعصب على أرجلنا من الخرق ". قال أبو بردة بن أبي موسى: "فحدث أبو موسى بهذا الحديث، ثم كره ذلك وقال: ما كنت أصنع بأن أذكره، (4) » كأنه كره أن يكون شيئا من عمله أفشاه، وما أفشى أبو موسى شيئا من عمله ليفاخر به أو لينال سمعة وشرفا، فقد كان ذلك معروفا مشهورا، لكنه أراد أن يعلم أهله والمسلمين كيف أصبح حال النبي صلى الله عليه وسلم وحال أصحابه من فقر وتقشف، وكيف أصبح عليه حال المسلمين بعد الفتوح من غنى وترف، فهو يريد لهم التقشف ويحذرهم الترف الذي يؤدي بهم إلى التفسخ والانحلال.
وعن القدوة الحسنة في الجليس الصالح، خطب أبو موسى يوما فقال: إن الجليس الصالح خير من الوحدة، والوحدة خير من الجليس السوء، ومثل الجليس الصالح كمثل صاحب العطر إلا يحذك يعبق بك من ريحه، ألا وإن مثل الجليس السوء كصاحب الكير إلا يحرق ثيابك يعبق من ريحه، ألا وإنما سمي القلب من تقلبه، وإن مثل القلب كمثل ريشة بأرض فضاء تضربها الريح ظهرا لبطن، ألا وإن من ورائكم فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا والقاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الراكب"، قالوا: فما تأمرنا؟ قال:
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4128) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1816) .
(2) نعتقبه: أي نركبه عقبة بأن يركب هذا قليلا ثم ينزل، فيركب الآخر بالنوبة، حتى يأتي على آخرهم. (1)
(3) نقبت أقدامنا: أي رقت، يقال: نقب البعير: إذا رق خفه، وذلك من الخفاء. (2)
(4) صفة الصفوة (1 \ 225-226) واللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (474) . (3)(28/185)
"كونوا أحلاس (1) البيوت (2) "، فكل قرين بقرينه يقتدي، منه يقتبس، وبه يتأثر.
وعن أبي بردة بن أبي موسى قال: "حدثتني أمي قالت: خرج أبو موسى حين نزع عن البصرة، وما معه إلا ستمائة درهم عطاء عياله (3) "، وهذا مثال رفيع للنزاهة، ينبغي أن يقتضي به أهله والمسلمون كافة حكاما ومحكومين، وبخاصة وأنه كان أمير البصرة وقائدا لجيوشها في أيام مد الفتح الإسلامي، حيث أصبح المجاهدون في يسر وغنى، بعد أن كان آباؤهم في عسر وفقر.
وكان أبو موسى يقول: "إنما أهلك من كان قبلكم هذا الدينار والدرهم، وهما مهلكاكم " (4) فما خرب ضمائر كثير من الناس غير المال الحرام.
وبلغ أبا موسى أن ناسا يمنعهم من صلاة الجمعة أن لا ثياب لهم، فلبس عباءة ثم خرج فصلى بالناس (5) ، وهو أمير.
وعن أنس بن مالك أنه قال: "كنا مع أبي موسى في مسير له، فسمع الناس يتحدثون، فسمع فصاحة، فقال: ما لي يا أنس! هلم فلنذكر ربنا، فإن هؤلاء يكاد أحدهم أن يفري الأديم (6) بلسانه. ثم قال: يا أنس! ما أبطأ بالناس عن الآخرة، وما ثبرهم عنها (7) ؟ قلت: الشهوات والشيطان. قال: لا والله! ولكن عجلت لهم الدنيا وأخرت الآخرة، ولو عاينوا ما عدلوا وما ميلوا (8) وصدق أبو موسى، فالناس أو أكثرهم
__________
(1) أحلاس: جميع حلس، يقال: حلس بيته: لا يبرحه.
(2) صفة الصفوة (1 \ 266) .
(3) طبقات ابن سعد (1 \ 111) .
(4) حلية الأولياء (1 \ 261) .
(5) طبقات ابن سعد (4 \ 112-113) وحلية الأولياء (1 \ 259) .
(6) يفري الشيء: شقه، فتته. الأديم: الجلد. ويفرى الأديم: يشقه، يفتته.
(7) ثبرهم عنها: صدهم عنها ومنعهم من طاعة الله، والثبر: الحبس.
(8) حلية الأولياء (1 \ 259) .(28/186)
يحبون العاجلة، وقديما قالوا: "عصفور في اليد، خير من عشرة على الشجرة "، والمؤمن كأبي موسى يؤثر الآخرة على الدنيا، وما عند الله على ما عند الناس.
وذكر أحد الثقاة الذين صاحبوا أبا موسى في سفره، فقال: "كنا مع أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه في سفر، فآوانا الليل إلى بستان حرث فنزلنا فيه، فقام أبو موسى من الليل يصلى- وذكر من حسن صوته ومن حسن قراءته- ثم قال: وجعل لا يمر بشيء إلا قاله ثم قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام، وأنت المؤمن تحب المؤمن، وأنت المهيمن تحب المهيمن، وأنت الصادق تحب الصادق (1) "، وقد كان أبو موسى مؤمنا صادقا حقا.
وكان أبو موسى يتوخى اليوم الحار الشديد الذي يكاد ينسلخ فيه الإنسان، فيصومه (2) ، تقربا إلى الله.
وصام أبو موسى حتى عاد كأنه خلال (3) ، فقيل له: "لو أجممت (4) نفسك "، فقال: "أيهات (5) ، إنما يسبق من الخيل المضمرة (6) "، وربما خرج من منزله فيقول لامرأته: "شدي رحلك فليس على جسر جهنم معبر " (7) ، يريد: أن العمل الصالح هو السبيل للنجاة من جهنم، ولا يكون إلا بالتعب والدأب والإيمان.
وكان إذا نام، لبس ثيابا عند النوم مخافة أن تنكشف عورته (8) ، وكان
__________
(1) حلية الأولياء (1 \ 259) ، وقد ذكر ذلك مسروق.
(2) حلية الأولياء (1 \ 260) وصفة الصفوة (1 \ 227) .
(3) الخلال: العود الذي يتخلل به، أي أنه أصبح ضعيفا كالخلال.
(4) أجممت نفسك: أراح نفسه فذهب إعياؤه.
(5) أيهات: هيهات.
(6) ضمر: هزل وقل لحمه. وأضمر: جعله يضمر.
(7) صفة الصفوة (1 \ 227) . والمعبر: الشط المهيأ للعبور. والمعبر: ما يعبر به النهر من قنطرة أو سفينة.
(8) طبقات ابن سعد (4 \ 111) .(28/187)
يقول: "إني لأغتسل في البيت المظلم، فأحني ظهري حياء من ربي "، وكان إذا صلى في بيت مظلم، تجاذب وحنى ظهره حتى يأخذ ثوبه ولا ينتصب قائما، وكان يقول: "إني لأغتسل في البيت الخالي، فيمنعني الحياء من ربى أن أقيم صلبي". ورأى قوما يقفون في الماء بغير أزر، فقال: "لأن أموت ثم أنشر، أحب إلى من أن أفعل مثل هذا" (1) ، وهذا دليل على شدة حيائه.
وكان أبو موسى ممن يتقنون قراءة القرآن من الصحابة، ويتميز بحسن صوته في القراءة، وقد «مر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عائشة رضي الله عنها ذات ليلة، وأبو موسى يقرأ القرآن في بيته، فقاما فاستمعا لقراءته، ثم إنهما مضيا فلما أصبح لقي أبو موسى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: "يا أبا موسى! مررت بك البارحة ومعي عائشة وأنت تقرأ في بيتك، فقمنا فاستمعنا لقراءتك "، فقال أبو موسى: "يا نبي الله! أما إني لو علمت بمكانك، لحبرت لك القرآن تحبيرا (3) » ، وقد أصبح معلما للقرآن الكريم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده، وأصبحت له مدرسة في القراءة القرآنية في البصرة، يتمسكون بها، ويدافعون عنها، ويتحيزون لها.
وكان لشدة ورعه يقول: "لئن يمتلئ منخري من ريح جيفة، أحب إلى من أن يمتلئ من ريح امرأة (4) "، بالحرام طبعا، أما بالحلال فالأمر مختلف جدا. وقال أبو موسى لرجل: "ما لي أرى عينك نافرة؟ ! "، فقال: "إني التفت التفاتة، فرأيت جارية لبعض الجيش، فلحظتها لحظة فصككتها (5)
__________
(1) طبقات ابن سعد (4 \ 113-114) .
(2) حلية الأولياء (1 \ 258) .
(3) حبر الشيء: زينه ونقمه. (2)
(4) طبقات ابن سعد (4 \ 114) .
(5) صكه: دفعه بقوة، ويريد: نظرت إليها بقوة. وفي التنزيل العزيز: فصكت وجهها لطمته تعجبا.(28/188)
صكة، فنفرت، فصارت إلى ما ترى"، فقال: "استغفر ربك، ظلمت عينك، إن لها أول نظرة، وعليك ما بعدها (1) "، يريد الابتعاد عن إمعان النظر في أعراض الناس خوف الفتنة، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
وقال أبو بردة بن قيس أخو أبي موسى: "قلت لأبي موسى الأشعري في طاعون وقع: اخرج بنا إلى وابق (2) نبدو (3) بها، فقال أبو موسى: "إلى الله آبق (4) ، لا إلى وابق (5) "، فهو متوكل على الله وهو حسبه، والتوكل مزية من مزايا الورع، والورع حال من أحواله.
وطالما أتحف الناس من حوله بوعظه ومواعظه في دروسه وخطبه، فمن خطبه في البصرة قوله: "أيها الناس، ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون الدموع حتى تنقطع، ثم يبكون الدماء حتى لو أجري فيها السفن لسارت" (6) ، يريد أن يخوفهم من أهوال النار ليشجعهم على العمل الصالح الذي يدخلهم الجنة.
وجمع أبو موسى القراء يوما، فقال: "لا تدخلوا علي إلا من جمع القرآن "، فدخل عليه زهاء ثلاثمائة من القراء، فوعظهم قائلا: "أنتم قراء أهل البلدة فلا يطولن عليكم الأمد، فتقسو قلوبكم كما قست قلوب أهل الكتاب " (7) ، فقد نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم، لما تطاول عليهم الأمد، بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم واشتروا به ثمنا قليلا، ونبذوه وراء ظهورهم، وأقبلوا على الآراء
__________
(1) حلية الأولياء (1 \ 261) .
(2) وابق: لم أجد لها ذكرا في معجم البلدان، ويبدو أنها اسم موضع في البادية القريبة.
(3) نبدو: نخرج إلى البادية.
(4) أبق: هرب، فهو آبق وأبوق.
(5) طبقات ابن سعد (4 \ 111) .
(6) طبقات ابن سعد (4 \ 110) .
(7) حلية الأولياء (1 \ 257) .(28/189)
المختلفة والأقوال المؤتفكة، وقلدوا الرجال في دين الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، فعند ذلك قست قلوبهم، فلا يقبلون موعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد (1) ، فهو يشير بموعظته إلى الآية الكريمة: {كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (2) .
ومن مواعظه قوله: "تخرج نفس المؤمن وهي أطيب ريحا من المسك، فتصعد بها الملائكة الذين يتوفونها، فتلقاهم ملائكة دون السماء، فيقولون: من هذا معكم؟ فيقولون: فلان، ويذكرونه بأحسن عمله، فيقولون: حياكم الله وحيا من معكم، فتنفتح له أبواب السماء، فيشرق وجهه، فيأتي الرب عز وجل ولوجهه برهان مثل الشمس. وأما الآخر، فتخرج روحه وهي أنتن من الجيفة، فتصعد بها الملائكة الذين يتوفونها، فتلقاهم ملائكة دون السماء، فيقولون: من هذا معكم؟! فيقولون: فلان، ويذكرونه بأسوأ عمله، فيقولون: ردوه فما ظلمه الله شيئا " (3) ، وقرأ أبو موسى: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} (4) .
وصلى أبو موسى يوما، ثم خرج إلى الناس، فقال: "يا أيها الناس! إنكم اليوم في زمان للعامل فيه لله تعالى أجر، وسيكون بعدكم زمان يكون للعامل فيه لله تعالى أجران (5) "، يريد: أنكم من التابعين قريبون من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ورأيتم قسما من أصحابه، فأنتم متأثرون بذلك فلكم أجر واحد، لأن ظروفكم أفضل من زمان يدب إليه الفساد، فيكون للعامل فيه أجران، لقلة العاملين، وسوء ظروفهم، وفساد الناس.
__________
(1) تفسير ابن كثير (8 \ 232-233) .
(2) سورة الحديد الآية 16
(3) حلية الأولياء (1 \ 262) .
(4) سورة الأعراف الآية 40
(5) حلية الأولياء (1 \ 264) .(28/190)
وكثيرا ما كان يعتمد الأسلوب القصصي في مواعظه، ليعمق تأثيرها في العقول والنفوس معا، فلما حضرته الوفاة قال: "يا بني! اذكروا صاحب الرغيف! كان رجل يتعبد في صومعة إزاء سبعين سنة، لا ينزل إلا في يوم واحد فشبه الشيطان في عينه امرأة، فكان معها سبعة أيام أو سبع ليال، ثم كشف عن الرجل غطاؤه فخرج تائبا، فكان كلما خطا خطوة صلى وسجد. فآواه الليل إلى دكان كان عليه اثنا عشر مسكينا، فأدركه العياء، فرمى بنفسه بين رجلين منهم، وكان ثم راهب يبعث إليهم كل ليلة بأرغفة، فيعطي كل إنسان رغيفا، فجاء صاحب الرغيف فأعطي كل إنسان رغيفا، ومر على ذلك الرجل الذي خرج تائبا، فظن أنه مسكين، فأعطاه فقال المتروك لصاحب الرغيف: ما لك لم تعطني رغيفي ما كان بك عنه غنى؟ فقال: أتراني أمسكته عنك، والله لا أعطيك شيئا، فعمد التائب إلى الرغيف الذي دفعه إليه، فدفعه إلى الرجل الذي ترك، فأصبح التائب ميتا، فوزنت السبعون سنة. . بالسبع الليالي، فرجحت السبع الليالي، ثم وزنت السبع الليالي بالرغيف، فرجح الرغيف! فيا بني! اذكروا صاحب الرغيف! " (1) .
ومن أقواله: "ومن ينتظر من الدنيا، إلا كلا محزنا، أو فتنة تنتظر (2) "، في وصف الدنيا التي لا تأتي إلا بالمصائب والأحزان، ولا يجدي معها إلا الصبر الجميل.
ولا يمكن التخلي عن فقرة ورعه، دون تذكر موقفه من الفتنة الكبرى واعتزاله القتال دون أن يتخلى عن علي بن أبي طالب لأنه الخليفة، ولا عن الكوفة لأنها مقر الخلافة، فكان ولاؤه لعلي في كل شيء إلا القتال، لأن الاقتتال كان بين المسلمين، وورعه يحول دون أن يقاتل مسلما أو يقتل
__________
(1) حلية الأولياء (1 \ 263) وصفة الصفوة (1 \ 227-228) .
(2) حلية الأولياء (1 \ 260) .(28/191)
مسلما، أو يشجع على الاقتتال بين المسلمين، أو يسكت عن هذا الاقتتال ولا يأمر بأعلى صوته وبأصرح عبارته بالكف عن الاقتتال.
وقد ضحى بسبب اعتزاله الفتنة، وأمره بالابتعاد عنها ومقاومتها، بمنصبه وحظوته وبكل المظاهر الدنيوية، لأن التزامه بالورع كان أغلى عليه من كل ما في الدنيا من مناصب ومظاهر ومتاع.
كما أن موقفه في التحكيم، أملاه عليه ورعه، وما غلبه عمرو بن العاص، بل غلبه ورعه، فخسر كل ما يملك، وهام على وجهه هاربا، حتى استقر في مكة مبتعدا عن العدو والصديق، إن كان قد أبقى له قول الحق صديقا.
ولم يحقد معاوية على أبي موسى، أنه كان متيقنا أنه كان يتصرف بوحي ورعه، فحفظ له حرمته في حياته وبعد موته. قال أبو بردة (1) : "دخلت على معاوية بن أبي سفيان حين أصابته قرحته، فقال: هلم يا ابن أخي، تحول فانظر، فتحولت فنظرت فإذا هي قد سبرت (2) -يعنى قرحته- فقلت: ليس عليك بأس يا أمير المؤمنين، فدخل يزيد بن معاوية، فقال له معاوية: إن وليت من أمر الناس شيئا، فاستوص بهذا، فإن أباه كان أخا لي، غير أني قد رأيت من القتال ما لم ير" (3) .
وهذا هو منتهى الاستقامة والثبات على المبدأ، لا يميل مع الريح حيث تميل، ولكن يبقى مع الحق وحده، مهما يتحمل في سبيل الحق من أهوال.
هذا هو مبلغ ورع أبي موسى، لذلك كان موضع ثقة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده، وقد كتب عمر في وصيته: "أن لا يقر لي عامل
__________
(1) أبو بردة بن أبي موسى الأشعري.
(2) سبرت: غارت.
(3) طبقات ابن سعد (4 \ 112) .(28/192)
أكثر من سنة، إلا أبا موسى فليقر أربع سنين (1) ". كما كان موضع ثقة الناس به. وقد يكون أول عامل اختاره الناس عاملا على بلدهم بعد أن رفضوا استقبال عاملهم السابق، وحملوا الخليفة على توليته عليهم وإعفاء عاملهم الذي كان قبله.
والقول بأن المناصب تولى لذوي الكفايات العالية، بحيث يكون الرجل المناسب في المنصب المناسب، قول لا غبار عليه، يتفق اتفاقا كاملا مع ما كان عليه الأمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده.
ولكن هذا القول لا يغني عن كل قول، فالواقع أن الذي يولى لا بد أن يتيسر فيه شرطان: الكفاية العالية، والورع المطلق، فلا بد من أن يكون الوالي ذا كفاية وورعا.
وهذان الشرطان في أبي موسى، هما اللذان جعلاه موضع ثقة رؤسائه ومرءوسيه في وقت واحد، ولم ييسرا له النجاح في واجباته الكثيرة المتشابكة فحسب، بل يسرا له التميز في النجاح.
وقد ذكرنا ما فيه الكفاية عن كفاية أبي موسى في الحديث عن أبي موسى: الإدراي، وبقي أن نتحدث عن ورع أبي موسى بإيجاز شديد، بعد أن تحدثنا على أدلة ذلك الورع الأصيل.
إن الورع درجات، أعلاها هو أن يطبق الورع على نفسه أولا أحوال الورع، وأن يأمر به غيره من الناس ويكون مثالا شخصيا يقتدى به في اقتباس أحوال الورع، وأن يكون مستعدا أن يضحي بكل ما يملك من غال ونفيس من أجل ورعه، ولا يضحي بورعه من أجل ما يملك من غال ونفيس.
ذلك هو الورع في أعلى درجاته، وهذا هو ما طبقه أبو موسى على نفسه حاكما ومحكوما، ورئيسا ومرءوسا، وقائدا وجنديا، ومرشدا وقاضيا،
__________
(1) البداية والنهاية (8 \ 60) .(28/193)
فكان بحق كما وصفوه: العامل المعلم صاحب القراءة والمزمار، الرايض نفسه بالسياحة في المضمار.
لقد أتعب أبو موسى نفسه في حياته، وأتعب من جعله أسوة حسنة له في حياته وبعد رحيله، وخسر كل شيء مادي يملكه، ولكنه ربح نفسه، وقد مات كثير من أصحاب السلطان والأموال وهم أحياء، فلا ذكر لهم بالخير والثناء، لأنهم ربحوا السلطة والمال، وخسروا أنفسهم، وبقي ذكر أبي موسى عطرا في التاريخ وبين الناس، وتلك هي عبرته لأصحاب القلوب العامرة بالإيمان ولأصحاب الجيوب المتخمة نفوسهم بالظلام.
وهل يستوى أصحاب القلوب وأصحاب الجيوب؟(28/194)
الرجل
نزل أبو موسى الكوفة، وابتنى بها دارا، وله بها عقب (1) ، وقد نزل الكوفة بعد أن عزله عثمان بن عفان عن البصرة سنة تسع وعشرين الهجرية كما ذكرنا.
وبعد التحكيم الذي كان فيه ممثلا لعلي بن أبي طالب وأهل العراق، وعمرو بن العاص ممثلا لمعاوية بن أبي سفيان وأهل الشام، هرب أبو موسى من مثابة التحكيم مباشرة إلى مكة المكرمة خوفا من أنصار علي المتحمسين له ولكنه عاد إلى الكوفة بعد استشهاد علي بن أبي طالب ومبايعة معاوية بن أبي سفيان بالخلافة ودخوله الكوفة سنة إحدى وأربعين الهجرية (2) ، فاستقبل معاوية أبا موسى بالنخيلة، وعلى أبي موسى عمامة سوداء وجبة سوداء ومعه عصا سوداء (3) . كما ذكرنا ذلك قبل قليل.
__________
(1) طبقات ابن سعد (6 \ 16) .
(2) العبر (1 \ 48-49) .
(3) طبقات ابن سعد (4 \ 113) .(28/194)
ولما حضر أبا موسى الموت، جمع بنيه فقال: "انظروا إذا أنا مت، فلا تؤذنن بي أحدا ولا يتبعني صوت ولا نار، وليكن ممسى أحدكم بحذاء ركبتي من السرير". ولما أغمي عليه بكت ابنة الدومي أم أبي بردة، فقال: "أبرأ إليكم ممن حلق وسلق وخرق (1) وأغمي عليه، فبكوا عليه، فقال: "أما علمتم ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ "، فذكروا ذلك لامرأته، فسألته، فقال: "من حلق وخرق وسلق". وأغمي على أبي موسى، فبكوا عليه، فأفاق فقال: "إني أبرأ إليكم مما برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلق وخرق وسلق "، وأغمي عليه في مرضه، فصاحت عليه أم بردة، فأفاق، فقال: إني بريء ممن حلق وسلق وشق "، يقول ذلك للخامشة وجهها. وقال: "إذا حفرتم لي، فأعمقوا لي قعره"، وقال: "أعمقوا لي قبري (2) ".
ومات أبو موسى سنة ثنتين وخمسين الهجرية في خلافة معاوية بن أبي سفيان، وقال بعض أهل العلم: "إنه مات قبل هذا الوقت بعشر سنين، سنة ثنتين وأربعين الهجرية (3) . وقيل: مات سنة أربع وأربعين الهجرية (4) ، وقيل: سنة خمسين الهجرية أو سنة اثنتين وخمسين الهجرية (5) ، وأكثر المصادر تتفق على أن وفاته كانت سنة ثنتين وأربعين الهجرية أو سنة أربع وأربعين الهجرية، وهي المصادر القديمة ومصادر المحدثين: القديمة منها قريبة العهد من الذين سجلت سيرهم، والمحدثون الموثوق بهم معروفون بصدقهم ودقتهم.
__________
(1) حلق الرأس: أزال الشعر عنه. سلق: صاح ورفع صوته. خرق: خرق الشيء: شقه ومزقه.
(2) طبقات ابن سعد (4 \ 115-116) .
(3) طبقات ابن سعد (4 \ 116) و (6 \ 16) .
(4) العبر (1 \ 52) وصفة الصفوة (1 \ 228) .
(5) الطبري (5 \ 240) وابن الأثير (3 \ 471) وانظر البداية والنهاية (8 \ 60) .(28/195)
يؤيد ذلك ما جاء في مصادر المحدثين، أنه مات وهو ابن ثلاث وستين سنة (1) ، ولو مات في الخمسينات، لكان مولده سنة ثلاث عشرة قبل الهجرة، فمتى أسلم في مكة، والمعروف أنه أسلم قديما، فإذا قدرنا أنه أسلم في السنة الخامسة من الرسالة، أو السنة الثامنة قبل الهجرة، فمعنى ذلك أنه أسلم وهو في الخامسة من عمره، وهذا غير منطقي ولا معقول. فلا بد أنه توفي في سنة اثنتين وأربعين الهجرية أو سنة أربع وأربعين الهجرية (2) ، وأرجح ما اقتنع به البخاري من أن وفاته سنة أربع وأربعين الهجرية، لأن البخاري شيخ المحدثين وأكثرهم دقة وتوثيقا، فيكون مولد أبي موسى سنة تسع عشرة قبل الهجرة، أي قبل البعثة النبوية بست سنوات، فإذا أسلم في الخامسة من البعثة، فمعنى ذلك أنه أسلم في الحادية عشرة من عمره، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن في السنة التاسعة الهجرية وهو ابن ثمان وعشرين سنة وأنه عاش ثلاثا وستين سنة قمرية، وعاش إحدى وستين سنة شمسية (603م-664م) .
ويبدو أنه كان ميسور الحال في مكة، فقد كان يمتلك بئرا فيها بالمعلاة، ولم يكن في حينه يمتلك بئرا من الآبار المعدودة غير الميسورين.
تزوج أم كلثوم بنت الفضل بن العباس بن عبد المطلب (3) ، كما تزوج ابنة الدومي (4) ، ولا نعرف عن زوجاته الأخريات شيئا.
وأكبر أولاده: إبراهيم، «قال أبو موسى: "ولد لي غلام، فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسماه: إبراهيم، وحنكه بتمرة (5) » .
__________
(1) تهذيب التهذيب (5 \ 363) وتهذيب الأسماء واللغات (2 \ 269) .
(2) تهذيب الأسماء واللغات (2 \ 269) .
(3) المعارف (121) والمحبر (439) .
(4) طبقات ابن سعد (4 \ 115) .
(5) طبقات ابن سعد (4 \ 107) .(28/196)
وأبو بكر بن أبي موسى، واسمه كنيته، وكان أسن من أبي بردة. وأبو بردة بن أبي موسى، وأمه ابنة الدومي. وموسى بن أبي موسى، وأمه أم كلثوم بنت الفضل بن العباس بن عبد المطلب (1) ، وكان أبو بكر أحول، فهو معدود من الحولان الأشراف (2) ، وكان أبو بردة بن أبي موسى قاضيا للحجاج بن يوسف الثقفي، ولاه بعد شريح (3) ، واسم أبي بردة عامر. ومحمد بن أبي موسى، وعبد الله بن أبي موسى، ولأولاد أبي موسى في البصرة والكوفة عدد، ومنهم بالأندلس (4) .
وأبو موسى رجل خفيف الجسم، قصير، أثط.
وقد مات أبو موسى بالكوفة، وقيل: إنه مات بمكة (5) ، والأول أصح، لأنه لقي معاوية بالنخيلة قبل موته بقليل، والنخيلة قريبة من الكوفة كما ذكرنا، وقد مات بداره في الكوفة (6) ، ودفن بـ (الثوية) بالكوفة.
وكان قد نزل الكوفة، وابتنى بها دارا (7) ، ليأوي إليها أهله وولده، ولا نعلم أنه خلف غير هذه الدار في الكوفة، ويبدو أنه كان ميسورا قبل إسلامه، فقد كان من أصحاب الآبار المعروفة في حينه، وكانت في تلك الأيام غالية الثمن، تدر على صاحبها المال الوفير، مما يدل على أنه لم يزدد بعد إسلامه غنى، بل أنفق ما كان يملك قبل إسلامه بعد إسلامه في
__________
(1) المعارف (267) .
(2) المحبر (303) .
(3) المحبر (378) .
(4) جمهرة أنساب العرب (397-398) .
(5) أسد الغابة (5 \ 309) والاستيعاب (3 \ 981) .
(6) الاستيعاب (3 \ 980) .
(7) طبقات ابن سعد (6 \ 16) .(28/197)
سبيل الله، وقد رأينا كيف خرج من البصرة حين نزع عنها وما معه إلا ستمائة درهم عطاء عياله، مما يدل على نزاهته المثالية المطلقة، وكان بمقدوره أن يصبح غنيا من عطائه أميرا ومن الغنائم في الفتوح، ولكنه كان كما يبدو لا يبقي لديه شيئا (1) .
ومناقب أبي موسى كثيرة (2) ، ذكرنا بعضها في سيرته إنسانا، فإذا لم يخلف شيئا من متاع الدنيا، فقد خلف الذكر المستطاب ومضى الذين خلفوا المتاع، ومضى متاعهم، وبقي الذين خلفوا الذكر الحسن بما خلفوه، وشتان بين الذكر الباقي والمتاع الفاني، وتلك هي عبرة العمل الصالح في هذه الحياة للذين يريدون أن يعملوا قبل الرحيل.
__________
(1) طبقات ابن سعد (4 \ 111) .
(2) تهذيب التهذيب (5 \ 363) .(28/198)
القائد.
«سيد الفوارس أبو موسى (1) » ، تلك هي قولة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبي موسى الأشعري، وهي شهادة تقلد أبا موسى أرفع وسام معروف من أوسمة الشجاعة الخارقة.
وكانت هذه الشهادة النبوية نتيجة من نتائج المواقف البطولية لأبي موسى، فقد ولى النبي صلى الله عليه وسلم أبا عامر الأشعري عم أبي موسى سرية لمطاردة المنهزمين من المشركين في غزوة حنين، فقتل تسعة من أبطال المشركين في المبارزة، ثم قتله العاشر، لأنه كان بطل أبطالهم، ولكن أبا موسى قتل قاتل عمه (2) ، وقاد رجال السرية إلى نصر حاسم كان يمكن أن يؤدي قتل قائدها أبي عامر الأشعري إلى هزيمة شنعاء، كما
__________
(1) طبقات ابن سعد (4 \ 107) .
(2) مغازي الواقدي (3 \ 915-916) .(28/198)
كان يحدث في الحروب القديمة عند قتل القائد، إذ تنهار معنويات رجاله، ويهربون من ساحة القتال.
كما أنه قتل في معركة واحدة تسعة من المشركين (1) ، فكان يضرب لرجاله بشجاعته في القتال أروع الأمثال.
لقد كانت الحروب القديمة بحاجة إلى قائد يتميز بالشجاعة والإقدام؛ لأنه كان عليه أن يتقدم الصفوف، ويبارز أعداءه إذا ما دعي للمبارزة، فإذا لم يدع إليها واقتضت ظروف المعركة أن يرفع معنويات رجاله ويزعزع معنويات عدوه بالدعوة إلى مبارزة قائد أعدائه وأبطاله، فلا بد أن يبادر هو بالدعوة للمبارزة، وهذا ما يحتاج إلى الشجاعة والإقدام.
وقد كان أبو موسى بحق شجاعا مقداما، أثبتت أيامه في المعارك إنه ليس فارسا فحسب، بل سيد الفوارس، في أيام كانت الشجاعة فيها هي القاعدة، والجبن هو الاستثناء.
ولكنه لم يكن يعتمد الشجاعة وحدها في قتاله، بل كان يعتمد الشجاعة والعقل: يبدأ بالعقل، فيحاول أن يحقق أهدافه من عدوه بالمفاوضات وعقد الصلح وإشاعة السلام والتعاون الوثيق بين الغالب والمغلوب، نتيجة للمعاملة بالحسنى وتحكيم النطق والعقل. ولكن إذا لم ينجح في عروضه السلمية للصلح ووضع حد للقتال، ولم يبق أمامه إلا الأسنة مركبا، أقدم على ركوبها غير متردد، بشجاعة وإقدام: " نزل أبو موسى بأصبهان، فعرض عليهم الإسلام، فأبوا، فعرض عليهم الجزية، فصالحوه على ذلك، فباتوا على صلح، حتى إذا اصبحوا على غدر، فبارزهم القتال، فلم يكن أسرع من أن أظهره الله عليهم (2) ".
تلك هي سياسته في القيادة، وذلك هو منهجه القيادي: العقل أولا، والشجاعة ثانيا، وتلك هي تعاليم الإسلام الجازمة في القتال: الإسلام، أو
__________
(1) جوامع السيرة (241) .
(2) طبقات ابن سعد (4 \ 110) .(28/199)
الجزية، أو القتال، طبقها أبو موسى كأحسن ما يكون التطبيق قائدا.
وكانت الحروب القديمة بخاصة، بحاجة إلى قادة، يعلمون بعقولهم وسيوفهم، بعقولهم: لإعداد الخطط العسكرية، وتبليغها، وتنفيذها، وإدارة المعارك، ومفاوضة الأعداء قبل نشوب القتال للصلح، وفرض السلام بالحكمة والحسنى والمنطق، ويعملون بسيوفهم في المعركة: يبارزون الأبطال، ويصاولون الأعداء. والحق أن أبا موسى كان مثالا رائعا للقائد المتميز الذي يعمل بعقله وسيفه معا في آن واحد، العقل أولا، والسيف ثانيا وأخيرا، لذلك انتصر في كل معاركه التي خاضها، ولم ينكص له لواء واحد طيلة حياته العسكرية الطويلة، التي امتدت أكثر من عشرين سنة متواصلة.
وليس من الغريب أن يفتح أبو موسى تسع مناطق صلحا، ومنطقة واحدة عنوة، فهذا دليل قاطع على أنه كان يعمل بعقله أولا وقبل كل شيء، والسيف ثانيا وأخيرا، والقول أن ما عمله هو مجرد تطبيق عملي لتعاليم القتال في الإسلام حق لا ريب فيه، ولكن تطبيق هذه التعاليم بمثل هذا النجاح الباهر والنسبة العالية من الصلح لا يقدر عليه كل مسلم حق، ولا يقدر عليه إلا من تميز بالعقل الراجح والإيمان العميق، وهو ما تميز به أبو موسى في هذا المجال.
وعقليته المتميزة، جعلته سريع القرار سليمه، والسرعة في إصدار القرار ضرورية في القتال، لتطور أحوال المعركة بسرعة خاطفة في كثير من الأحيان مما يجعله قادرا على مواكبة المعركة في الوقت والمكان الجازمين.
وكان ذا إرادة قوية، إذا قرر فلا بد من أن يضع قراره في حيز التنفيذ فيصبح عملا ولا يبقى كلاما.
وكان ذا شخصية رصينة، فلا يصدر أمرا لا يمكن تنفيذه، بل يصدر أوامر قابلة للتنفيذ بسهولة ويسر، أو بصعوبة وعسر، على كل فهي أوامر يمكن تنفيذها وكفى، وشخصيته الرصينة كفيلة بحمل رجاله الذين صدرت الأوامر إليهم والمسؤولين عن تنفيذها، على وضعها في حيز التطبيق العملي(28/200)
الجاد المثمر بما يمكن من السرعة والإتقان.
وكان يتحلى بمزايا الضبط المتين، ويؤمن بمبادئ السمع والطاعة، فلا مخالفة، ولا تردد في التنفيذ، ولا دعوة إلى فتنة ولا مشاركة فيها باللسان أو اليد أو السيف أو بها جميعا، ولا التشجيع عليها من قريب أو بعيد ولا بالتلميح أو التصريح. كما فرض على نفسه مختارا مبدأ السمع والطاعة للخليفة القائم، فكان دائما مع الخلفاء على أعدائهم، كذلك فرض على رجاله السمع والطاعة لقيادته، فلم نسمع عن مخالفة واحدة لأوامره قائدا وإداريا، مع أنه كان على البصرة والكوفة وعلى جيش البصرة وجيش الكوفة، والبصرة والكوفة لا ترضيان عن قائد ولا أمير، ولا يرضى عنهما قائد ولا أمير.
وكان يتحمل المسؤولية إلى الحدود التي لا مخالفة في تحملها لأوامر رؤسائه، إذا هو لا يطيق خلاف ذوي الأمر المسؤول أمامهم مباشرة كالخليفة أو قائده العام، فهو من هذه الناحية قائد متبع وليس قائدا مبتدعا. وإذا اقتضى الأمر مخالفة أوامر رئيسه المباشر، فهو يعرض الأمر للرئيس ويعرض له ظروفه ويبسط له عذره، ثم ينتظر جواب رئيسه ويعمل بما يأمره به نصا وروحا، بدون مخالفة ولا خلاف.
وكانت له نفسية لا تتبدل في حالتي الرخاء والشدة، فهو بخير في الحالتين، إذا أصابه الخير شكر، وإذا أصابه الشر صبر، ولا يبطره الرخاء، ولا تجزعه الشدة.
وكان يعرف نفسيات رجاله وقابلياتهم، فيكلف كل واحد منهم بما يتفق مع نفسيته ويناسب قابليته، ولا يحمله ما يكره أو ما لا يطيق.
وكان موضع ثقة رؤسائه من خلفاء وأمراء وقادة، لأنه كان مطيعا بعيدا عن خلق المشاكل، وكان يبادلهم الثقة بثقة مثلها، فيخلص في عمله وفي أداء واجبه فيرضيهم بالأعمال كما يرضيهم بالطاعة المطلقة. وكان موضع ثقة رجاله، لا يستطيعون إلا الإعجاب به والتقدير له، لأنه يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الآخرون، ولا يفعل في الخفاء ما لا يفعله في العلن. كما(28/201)
كان يثق برجاله كما يثقون به، والثقة المتبادلة من عوامل النصر، لأن التعاون بين القائد ورجاله يكون صادرا عن القلب، فيكون تعاونا وثيقا إلى أبعد الحدود.
وكان موضع حب رؤسائه ومرؤوسيه: موضع حب رؤسائه، لأنه مطيع وبعيد عن الفتنة، ويؤدي واجبه على أحسن ما يرام. وموضع حب مرؤوسيه لأنه لا يظلمهم، ولا يغمط حقوقهم، ويعرف لهم أقدارهم، ولا يحرم أحدهم منصبا ولا عطاء يستحقه، ولا يتأثر بالمحسوبية والمنسوبية والوساطات لتقديم من لا يستحق التقدم، فيحرم المستحق ويقدم غير المستحق، فهو دائما يصون حقوق رجاله ماديا ومعنويا، وبدوره يبادل رؤساءه ومرؤوسيه حبا بحب، ويحب لهم ما يحبه لنفسه.
وكانت له قابلية بدنية متميزة تعينه على تحمل المشاق العسكرية، فكان إذا مطرت السماء، قام فيها حتى تصيبه السماء، وكأنه يعجبه ذلك (1) ، ولا يتستر من المطر خوف البلل. وكان متقشفا بطبعه في مأكله وملبسه ومسكنه، يكتفي منها بالنزز القليل الذي يسد الحاجة ويستر العورة، ولا يميل إلى الترف والمترفين، وكانت له طاقة نفسة عجيبة على مغالبة اليأس والقنوط والجزع، لهذا نراه قد قضى أكثر حياته مجاهدا، لأنه كان يعتبر الجهاد في سبيل الله من أعظم العبادات، لا يبالي في جهاده أن يكون قائدا عاما، أو قائدا مرؤوسا يضع نفسه بإمرة غيره من القادة، حتى القادة الذين ولاهم هو وبعث بهم إلى ساحات القتال، وهذا ما لا يقدر عليه إلا المجاهدون الصادقون الصابرون المحتسبون الصادقون.
وما شخصه أبو موسى، في الحكم والسياسة، ينطبق على ما يقوله رجال
__________
(1) طبقات ابن سعد (4 \ 113) .(28/202)
القانون والسياسة في القرن الأخير نتيجة دراساتهم الجامعية وتجاربهم العلمية ونضوجهم الفكري، ولكن أبا موسى أرسل قولته تلك نتيجة عقليته المتزنة ورأيه السديد وحكمته وتجاربه في حياته العملية.
وهذه المزايا الفكرية والعقلية، جعلت قيادته تنجح بالصلح مع الأعداء في تسع مناطق، وتنجح بالقتال في منطقة واحدة، أي أن تسعين بالمائة من نجاحه قائدا كان بالصلح، وعشرة بالمائة فقط نجاحه قائدا بالقتال، وهذا حقق له أهدافه بخسائر قليلة جدا بالأرواح، ولو انعكس الأمر لتضاعفت خسائره لتحقيق تلك الأهداف.
وهذا هو فضل العقل المتزن والرأي السديد بالنسبة للقائد، فالخير لا يقتصر عليه، بل يشمل رجاله كافة، فلا يتكبدون خسائر فادحة دون مسوغ، إذ يحقق لهم قائدهم أهدافهم من القتال كاملة، ويحفظ لهم أرواحهم، فلا عجب أن يكون أبو موسى موضع ثقة رجاله ثقة بلا حدود.
وعند مقارنة أعماله العسكرية بمبادئ الحرب، نجد أنه: (يختار مقصده ويديمه) ولا يحيد عنه، فهو يعرف ما يريد، ويبذل جهده لتحقيقه، ولا يستطيع عدوه أن يجبره على تبديل رأيه بشكل أو بآخر. مثلا إذا قصد هدفه السوقي، فحاول عدوه افتعال معركة جانبية لصرفه عن هدفه السوقي إلى هدف تعبوي ولا قيمة للهدف التعبوي كما هو معروف، إلا أن أبا موسى لم يكن من أولئك القادة الذين يصرفون عن تحقيق مقصدهم بمثل تلك الأساليب، فكان يمضي قدما لتحقيق هدفه المختار، غير ملتفت إلى ألاعيب خصمه.
وكانت معارك أبي موسى كلها (تعرضية) ، فلا نعرف له معركة واحدة دفاعية أو انسحابية، فهو قائد تعرضي، يقدر قيمة التعرض في رفع معنويات رجاله من جهة، وزعزعة معنويات أعدائه من جهة أخرى.
وكان في تعرضه، يحاول أن: (يباغت) عدوه إذا استطاع إلى ذلك سبيلا، وقد أفلح في تحقيق هذا المبدأ الحيوي في كثير من عملياته العسكرية، فأجبر عدوه على قبول الصلح أو الفرار من ميدان القتال،(28/203)
والمباغتة -كما نعلم- من أهم مبادئ القتال على الإطلاق.
وكان يعمل على: (تحشيد قوته) للمعركة، وقد أدى حين كان على البصرة دورين مهمين لهما علاقة مباشرة بالناحية العسكرية من حياة أبي موسى العامة، هما: دور حشد القوة وإرسالها إلى ميادين القتال بقيادة أحد القادة المرؤوسين، ودور قيادة رجاله من أهل البصرة الذين حشدهم للقتال. ولا بد أن نعرف أن واجب التحشد الذي نهض به أبو موسى في تلك الأيام كان في أوج مد الفتح الإسلامي العظيم، وأن أهل البصرة كان لهم الأثر الحاسم في فتوح المشرق الإسلامي، مما يشير إلى دور أبي موسى المتميز في تحشيد القوة، فقد بذل قصارى جهده بأحسن طريقة وأسلوب في حشد المجاهدين وتسييرهم إلى ميادين الجهاد بالعدد والعدد الكاملين وبالقيادات المتمرسة المقتدرة.
وكان يطبق مبدأ: (الاقتصاد بالمجهود) فلا يعطي خسائر بالأرواح دون مسوغ، وقد لمسنا بوضوح نجاحه في إقرار الصلح في أكثر أيام قيادته وعدم اللجوء إلى السلاح إلا مضطرا، وكان أهم أسباب هذا المسلك الذي سلكه في قيادته هو الاقتصاد بالمجهود في تحقيق أهدافه من القتال بالسلام لا بالحرب، حفاظا على أرواح الرجال أن تزهق بدون استنفاد الجهود كافة في بقائها على قيد الحياة.
وكان: (يتعاون) تعاونا وثيقا صادقا مع غيره من القادة المسلمين بكل رحابة صدر وعن طيب خاطر، كما أنه كان يحمل قواته على التعاون فيما بينها تعاونا وثيقا صادقا، وبدون تعاون وثيق يصعب إحراز النصر.
وكان يطبق مبدأ: (الأمن) تطبيقا مثاليا، فقد حمى رجاله بشتى الوسائل والأساليب، لكيلا يباغتهم عدوهم، ولا نعرف أن رجاله بوغتوا من عدوهم في يوم من الأيام. كما بذل قصارى جهده لمنع عدوه من الحصول على المعلومات عن قواته، فحرم عدوه من رصد حركاتها ونياتها.
وكانت خططه العسكرية التي يعدها لتحقيق أهدافه من القتال تتسم: (بالمرونة) ، صالحة للتطبيق في كل وقت، كما أنها صالحة للتحوير في حالة(28/204)
تبدل الموقف من حال إلى حال. فقد كان يسبق النظر، ويحسب لكل ما يتوقع حسابه، ويدخل في خططه أسوأ الاحتمالات، فإذا وقعت كان مستعدا لها بالمعالجة المدروسة المستحضرة، وإذا لم تقع لم يخسر شيئا في استعداداته الرصينة.
وإذا كان أبو موسى يطبق كل هذه المبادئ القتالية، فهو بدون شك: (يديم المعنويات) إدامة مستمرة بالنصر، والمعنويات ترتكز على أساسين: الإيمان، والنصر، وقد تيسرا في أيام أبي موسى تيسرا عظيما، فلا عجب أن ترتفع المعنويات إلى عنان السماء.
وقد كان أبو موسى يديم معنويات رجاله، بشجاعته الشخصية النادرة، وقيادته الحكيمة المتزنة، ومواعظه الحسنة المستمرة، وبمثاله الشخصي لرجاله في الورع والتقوى، وبانتصاراته المتعاقبة الباهرة.
وكان يطبق مبدأ: (الأمور الإدارية) ، فلا ينقص رجاله ما يأكلون ويلبسون ولا ما يتسلحون به ولا ما يحملون عليه، وتصل أعطياتهم إلى من يعولون، فلا يكون المجاهد في ميدان الجهاد، ويبقى قلقا على أهله وذويه في شيء. وبعد النصر كان يقسم بالسوية، فينال كل مجاهد ما يستحقه من الغنائم: للفارس حقه، وللراجل حقه، بموجب تعاليم الدين الحنيف.
لقد كان أبو موسى يطبق كل مبادئ القتال تطبيقا سليما.
وكان أبو موسى يتمتع بماض ناصع مجيد، فهو صحابي جليل، قديم الإسلام، ومن أصحاب الأيام، شجاع مقدام، قاض ومعلم، ومحدث وفقيه. والرجل الذي يقاتل تحت راية قائد له ماض ناصع مجيد، غير الرجل الذي يقاتل تحت راية قائد ليس له في سجل الباقيات الصالحات ذكر مستطاب أو ليس له أي ذكر على الإطلاق.
وكان بالإضافة إلى تلك المزايا، يساوي نفسه برجاله، بل كان يستأثر دونهم بالخطر ويؤثرهم بالأمن، ويؤثرهم على نفسه بالخير المادي، ويكتفي هو بالقليل القليل.(28/205)
وكان يستشير رجاله بكل أمر من أموره وبكل موقف من مواقفه، فإذا استقر الرأي على قرار، عمل بمشورتهم وعزا الفضل لذوي الفضل.
لقد كان أبو موسى قائدا لامعا حقا.(28/206)
السفير
كان أبو موسى من سفراء النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسله ومعاذ بن جبل إلى جملة اليمن داعين إلى الإسلام، فأسلم عامة أهل اليمن: ملوكهم، وسوقتهم (1) ، وكان إرسالهما إلى اليمن معا في وقت واحد (2) ، وروى الإمام أحمد بن حنبل، «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث معاذا وأبا موسى إلى اليمن فقال لهما: " بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا، وتطاوعا ولا تختلفا (3) » ، وقصدا اليمن في شهر شوال أو ذي القعدة من السنة التاسعة الهجرية، كما ذكرنا ذلك من قبل.
فما هي المزايا التي اجتمعت في أبي موسى، فأهلته ليصبح سفيرا نبويا؟ من مزاياه الإيمان الراسخ بالإسلام، والانتماء القاطع لهذا الدين، وإثبات إيمان أبي موسى وانتمائه حديث معاذ، فهو معروف بإيمانه، ولا يجادل في صدق إيمانه اثنان، ويتفق من يحبه ومن لا يحبه بأنه مؤمن صادق الإيمان، وأنه ربط مصيره بالإسلام، يخلص له أكثر مما لأمه وأبيه وذويه وفصيلته التي تؤويه، وولاؤه كله للإسلام، فإذا تعارض ولاؤه لدينه بولائه لأقرب المقربين إليه، فضل دون تردد ولاءه للإسلام على ولائه لأقرب المقربين إليه: بل إذا تناقض ولاؤه لمصلحته الذاتية بولائه لدينه لم يختر إلا الولاء لدينه حتى إذا سحقت مصلحته الذاتية من أجل المصلحة العامة للمسلمين فإنه لا يتردد لحظة في سحق مصلحته الذاتية إعلاء لكلمة الله، لتكون كلمة الله هي العليا.
__________
(1) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 30) .
(2) أخبار القضاة (1 \ 100-101) .
(3) انظر أخبار القضاة (1 \ 101) .(28/206)
ومن مزاياه سفيرا نبويا، الفصاحة، والعلم، وحسن الخلق، وقد كانت الفصاحة في أيام أبي موسى، وهو من العرب الذين نشئوا في محيط عربي خالص، بعيد عن الاختلاط بالعجم، هي السائدة بين العرب، وكان اللحن قليلا بينهم، وهو الذي قيل في وصف فصاحته: " ما كنا نشبه كلام أبي موسى إلا بالجزار الذي لا يخطئ المفصل " (1) .
وكتب أبو موسى إلى رجل من المسلمين: " أما بعد، فإني عاهدتك على أمر وبلغني أنك تغيرت، فإن كنت على ما عهدتك فاتق الله ودم، وإن كنت على ما بلغني فاتق الله وعد " (2) وفصاحته بالإضافة إلى حكمته واضحة في هذا الكتاب.
وقال أحدهم لأبي موسى في طاعون وقع: " اخرج بنا إلى وابق نبدو بها "، فقال: " إلى الله آبق لا إلى وابق " (3) ، وفصاحته في هذا الخطاب واضحة وإيجازه البليغ واضح أيضا.
وقد كان أبو موسى عالما كما فصلنا ذلك في فقرة: (العالم) خلال الحديث عنه إنسانا، وقد كان من علماء الأمة المعدودين، ومن الذين يفتون على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن قضاته وقضاة الخلفاء الراشدين الأربعة ومن أبرز معلمي القرآن الكريم والفقهاء والمحدثين، وقد خلفه النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة بعد غزوة الطائف يعلم أهلها القرآن ويفقههم في الدين، وبعثه إلى اليمن داعيا وقاضيا، وكان يفتي في المدينة ويقتدي به على عهد رسول -صلى الله عليه وسلم- (4) ، وكل ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على علمه وفضله، فقد كان من قادة الفكر الإسلامي الأولين الذين بنوا صرحه العظيم على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) طبقات بن سعد (4 \ 111) .
(2) العقد الفريد (3 \ 151) .
(3) طبقات ابن سعد (4 \ 111) \.
(4) طبقات ابن سعد (2 \ 334-354) وانظر أصحاب الفتيا لابن حزم -ملحق بجوامع السيرة - (320) .(28/207)
وخدموه بكل أمانة وصدق وإخلاص فانتشر الذين تلقوا العلم عليهم في البلاد ونشروا عملهم شرقا وغربا.
وكان على جانب عظيم من حسن الخلق، تتمثل فيه المثل العليا الإسلامية التي وردت في الكتاب العزيز والسنة النبوية، فكان أبو موسى حسن الحلق تمثل بشرا سويا، يمشي على الأرض، ويرتاد الأسواق، ويأكل الطعام ولكنه أسوة حسنة لغيره في الخلق الكريم.
ومن مزاياه سفيرا نبويا، الصبر الجميل، والحكمة البالغة لقد وردت كلمة: صبر، ومشتقاتها في أربع ومائة آية من آيات الذكر الحكيم (1) ، ومن الطبيعي أن يتأثر أبو موسى بتعاليم القرآن التي تأمر بالصبر وتبشر الصابرين، وتنهى عن الجزع واليأس والقنوط وتخوف الذين يجزعون وييأسون ويقنطون، وسيرته تدل على أنه كان من أكابر الصابرين، فقد صبر على أيام العسر والشدة في حياته، وما أكثرها وأعسرها وأشدها، ولا نعلم في سيرته موقفا واحدا انهار فيه، فقد صبر في الضراء صبر المؤمنين المحتسبين الشاكرين، فكان شاكرا في السراء والضراء وحين البأس لأنه كان من الصابرين.
ويبدو أنه بالإضافة إلى تأثره البالغ بتعاليم الإسلام في الصبر الجميل، كان بطبيعته له استعداد على الصبر، فهو هادئ الطبع رضي النفس غير متسرع ولا عصبي المزاج، فهو من أولئك النفر الصابرين بطبعهم، فزادته تعاليم الإسلام في الصبر نورا على نور.
أما تمتعه بالحكمة البالغة، فيكفي أن ندلل على ذلك بنجاحه الباهر في أعماله الكثيرة داعيا وقاضيا وواليا ومعلما ومرشدا ومجاهدا وجنديا وإنسانا، وفي السلم والحرب.
فقد بعثه الني -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن قاضيا وأميرا ومعلما، وبعد
__________
(1) انظر التفاصيل في المعجم المفهرس (399-401) .(28/208)
عام تقريبا أضاف إليه واجبا جديدا هو توليته جزءا من اليمن، ولو لم ينجح في واجباته الأولى لما أضاف إليه واجبات جديدة، وبقي على عمله في اليمن أيام أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- ثم أصبح قاضيا لعمر بن الخطاب وواليا على البصرة وعلى الكوفة ثم على البصرة، فلما رحل عمر كان في وصيته إ قرار أبي موسى أربع سنوات على عمله وإقرار عماله الآخرين سنة واحدة، وهذا التمييز في المدة دلالة على نجاحه في عهد عمر بن الخطاب نجاحا لم يصل إليه غيره من الولاة.
وبقي على البصرة أيام عثمان بن عفان، فلما أعفي من ولاية البصرة وأوى إلى الكوفة، اختاره أهل الكوفة أميرا عليهم وحملوا عثمان على إقرار اختيارهم له، وهو أول وال في الإسلام يولى باختيار الناس له لا بتوليته من الخليفة.
وكان بإمكانه أن يبقى على الكوفة في عهد علي بن أبي طالب، ولكنه اختار لنفسه الاعتزال عن الفتنة، فنحي عن الكوفة، ولكن أهل الكوفة اختاروه ليمثلهم في التحكيم، وحملوا عليا على إقرار هذا الاختيار.
أما نجاحه في القتال، فيكفي أن نذكر، أنه فتح تسع مناطق بالصلح، وفتح منطقة واحدة بالقتال.
ونجاح أبي موسى في أعماله الكثيرة في أيام السلام، وبخاصة في البصرة والكوفة، وهما المصران اللذان لا يرضيان عن وال ولا يرضى عنهما وال وإدارتهما من أصعب الأمور وأعقدها، دليل على حكمته البالغة.
ونجاحه في أعماله العسكرية حشدا وجهادا وقيادة، وتحقيق أهدافه بالصلح في تسعين بالمائة من المناطق التي فتحها، وبذلك أنجز فتوحه بخسائر في الأرواح لا تكاد تذكر، دليل على حكمته البالغة.
ومن مزاياه سفيرا نبويا، سعة الحيلة، فقد كان ألمعي الذكاء، متزن العقل، سديد الرأي، يتسم بالأناة والصبر والحكمة، لذلك كان واسع الحيلة، يجد لكل معضلة مخرجا، ولكل مشكلة حلا مناسبا، وبخاصة وهو يستعين بالشورى على إيجاد الحلول المناسبة، فلا يستقل بإعطاء القرار دون(28/209)
رجاله، ويشاركهم في وضع الحلول للمشاكل والمعضلات.
ومن مزاياه سفيرا نبويا، رواء مظهره، فقد كان شكله إنسانا ليس جميلا، ولكنه مقبول غير منفر على العموم، بسيط الثياب ولكنها نظيفة، نظيف البدن يديم نظافته بالوضوء.
وعلى كل حال، فقد كانت سفارته إلى اليمن، لا إلى دولة أجنبية كالفرس والروم، أو إلى عرب لهم صلة مباشرة بالفرس والروم، فقد كان رواء مظهر سفراء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أولئك الملوك والأمراء متميزا، أما سفراء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ملوك العرب وأمرائهم في الجزيرة العربية، فلم يكن رواء المظهر للسفير النبوي شرطا أساسيا.
لقد كان أبو موسى سفيرا، راسخ الانتماء للدين الحنيف، عميق الإيمان بالإسلام، فصيحا، عالما، حسن الخلق، صابرا، حكيما، يتسم بسعة الحيلة ورواء مظهره مقبول، لذلك نجح في سفارته نجاحا كبيرا.(28/210)
أبو موسى في التاريخ
يذكر التاريخ لأبي موسى، أنه كان من المسلمين الأولين الذين اعتنقوا الإسلام بمكة المكرمة قبل الهجرة إلى الحبشة.
وأنه له فضيلة ليست لأحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هاجر ثلاث هجرات، هجرة من اليمن إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة، وهجرة إلى الحبشة من بلده اليمن، وهجرة من الحبشة إلى المدينة (1) ويذكر له، أنه نال شرف الصحبة، وشرف الجهاد تحت لواء النبي -صلى الله عليه وسلم-.
__________
(1) تهذيب الأسماء واللغات (2 \ 268) .(28/210)
ويذكر له، أنه علم أهل مكة القرآن والفقه في الدين بعد عودة النبي -صلى الله عليه وسلم- من غزوة الطائف إلى المدينة المنورة.
ويذكر له، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسله ومعاذ بن جبل إلى اليمن داعين إلى الإسلام، فأسلم عامة أهل اليمن.
ويذكر له أنه كان من عمال النبي -صلى الله عليه وسلم- وقضاته ودعاته.
ويذكر له، أنه كان يفتي بالمدينة المنورة، ويقتدي به من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ويذكر له، أنه كان أول عامل في الإسلام، اختاره الناس عاملا لهم، وحملوا الخليفة على إقرار اختيارهم.
ويذكر له، أنه فتح عشر مناطق واسعة من بلاد فارس تسع مناطق منها صلحا، ومنطقة واحدة بالقتال.
ويذكر له، أنه كان أحد الحكمين في التحكيم بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان لإيقاف الاقتتال بين المسلمين.
ويذكر له، أنه اعتزل الفتنة الكبرى مع من اعتزل من كبار الصحابة، فلم يشارك فيها بلسانه ولا بيده ولا بسيفه.
ويذكر له، أنه كان أحد علماء الأمة الستة، وأحد قضاة الأمة الأربعة (1) ، وأحد معلمي القرآن الكريم الكبار، وأحد المحدثين الأولين، وأحد أساطين الفكر الإسلامي والعلوم الإسلامية الأقدمين.
__________
(1) تهذيب التهذيب (5 \ 363) .(28/211)
ويذكر له، أنه كان من ألمع ولاة المسلمين الأولين، ومن أقدر الإداريين حكما وبناء وفتحا.
ويذكر له، أنه كان إماما في علوم القرآن وتعليمه، إماما في الحديث النبوي الشريف، إماما في الورع والتقوى، إماما في القضاء، إماما في الإدارة وأن مناقبه كثيرة جدا.
ويذكر له، أنه كان يصدر في كل أعماقه عن عقيدة راسخة يؤمن بها أعمق الإيمان، ويضحي من أجلها كل التضحية، فلا يميل مع الهوى، ولا يرجو لنفسه من متاع الدنيا ما يرجوه لأنفسهم أكثر الناس، فاعتزل الفتنة خوفا من الله لا خوفا على نفسه، فخسر كل شيء وربح نفسه.
رضي الله عن الصحابي الجليل، المؤمن الصادق، الورع التقي، العالم المحدث، المعلم الفقيه، القاضي العادل، والإداري الحازم، البطل الشجاع، المجاهد الصابر، القائد الفاتح، أبي موسى الأشعري.(28/212)
فصل الجواب
عن استحقاق المتأخر
فضل الصحاب
تأليف الشيخ حسن بن حسين بن محمد بن عبد الوهاب
تحقيق
الوليد بن عبد الرحمن الفريان
مقدمة
بعث الله تعالى نبيه محمدا -صلى الله عليه وسلم- والحياة الدنيا تقترب من نهايتها، وتتدافع نحو مصيرها المكتوب «بعثت أنا والساعة كهاتين (1) » ودائما إنما تكون خاتمة الشيء في ظروف خاصة تتسم بالضعف الشديد، بعد أن يفقد الكثير مما كان يمتلك من مقومات البقاء، وتتقاصر خطاه المثقلة.
وحالة التدهور والتلاشي مقرونة بمظاهر تغاير تماما ما يمتع به إبان الشباب والعنفوان.
وهذا الانحدار المتزامن مع الانسحاب من شتى ميادين الحياة أمر متوقع وسنة كونية مطردة.
__________
(1) أخرجه البخاري في الصحيح رقم 6504 ومسلم في الصحيح رقم 2951 وأحمد في المسند 3 \ 124، 130، 131، 193، 218، 222، 237، 275، 278، 283، 311، 319 من حديث أنس بن مالك.(28/213)
فقد آن للحياة الدنيا أن تخلد إلى الراحة، وتتوقف عن رحلتها الممتدة عبر حقب التاريخ.
وحياة الإنسان القصيرة نموذج شديد الشبه بعمر الحياة.
فغالبا ما تنتهي حياته بالهرم والضعف وتداعي المقاومة، فتتسلط عليه الأمراض وتجتاحه العلل، ويصبح هدفا سهلا للأوبئة والأدواء.
وهكذا الحياة: يكثر خبثها وتتعاظم شرورها، وتزداد الفتن التي تغشى الناس كقطع الليل المظلم تموج موج البحر ويرقق بعضها بعضا، (1) ويخرج في المجتمع أقوام ينادون باطراح السنة ونبذ هدي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ويشنون حربا شعواء على المتمسكين بالسنة أو المنتمين إليها (2) .
حتى يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر فرارا بدينه (3) وذلك بسبب ما أصاب الناس من الوهن والتخاذل.
غير أنه لا يزال هناك طائفة مستمرة على الالتزام بشرع الله تقاوم الانحراف بكل ما تستطيع.
وقد تكفل الله أن يكونوا ظاهرين على الحق لا يضرهم انصراف الناس
__________
(1) أخرجه مسلم في الصحيح رقم 1844 وأحمد في المسند 2 \ 161، 191 من حديث عمرو بن العاص. .
(2) أخرجه البخاري في الصحيح رقم 7084 ومسلم في الصحيح رقم 1847 من حديث حذيفة بن اليمان.
(3) أخرجه البخاري في الصحيح رقم 7087 والنسائي في المجتبي 8 \ 113 من حديث أبي سعيد الخدري.(28/214)
عنهم ولا يقعدهم مخالفة المخالف (1) فهم غرس من غرس الله يستعملهم في طاعته.
__________
(1) أخرجه مسلم في الصحيح رقم 156 من حديث جابر.(28/215)
موضوع الرسالة:
سؤالان اثنان بعث بهما الشيخ راشد بن مبارك إلى الشيخ حسن.
أحدهما: عن معنى حديث أبي ثعلبة الخشني -رضي الله عنه- فيما يقع آخر الزمان من الفتن والبلايا وكيف المخرج منها.
والثاني: عن قصة سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- مع والدته التي أبت الدخول في الإسلام.
وقد شغل الجواب عن السؤال الأول معظم الرسالة.
حيث تكلم أولا عن رواة الحديث والمخرجين له من أهل المصنفات ثم بين السبب الذي من أجله نال العامل في آخر الزمان أجر خمسين من الصحابة.
وعقد بعده فصلا في بيان فضل القائم بالسنة ومضاعفة أجره.
ثم أعقبه بفصل خاص ذكر فيه طرفا مما ورد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعلاقته الوثيقة بما سبق وأحال من أراد الزيادة على رسالة أخرى أفردها لهذا الموضوع. أما السؤال الثاني فأجاب عنه باختصار مكتفيا بذكر نص القصة دون أن يعلق عليها بشيء.(28/215)
أهمية الرسالة:
أظن أنه ليس هناك ما يدعو إلى التنبيه على أهمية الرسالة فمن دقق فيما حوله وبذل جهدا ولو ضئيلا في التعرف على ما يدور من القمة إلى القاعدة تبين له بوضوح الحاجة الماسة لمثلها فنسأل الله السلامة والعافية.(28/215)
المؤلف:
هو العلامة الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ولا نعرف شيئا عن تاريخ ولادته ربما كانت في نهاية العقد الأول من القرن الثالث عشر بعد وفاة جده الإمام محمد.(28/216)
أسرته:
نشأ رحمه الله في أسرة علمية فاضلة فوالده العلامة الشيخ الجليل حسين بن محمد (ت 1224) قاضي الدرعية أيام الإمام عبد العزيز بن محمد (ت 1218) وإخوته علي وعبد الرحمن وحمد وعبد الملك كلهم علماء أجلاء ورجال نجباء (1) .
__________
(1) ينظر عنوان المجد 1 \ 187.(28/216)
شيوخه:
قرأ على العديد من علماء عصره منهم والده (1) وعمه العلامة عبد الله بن محمد (2) (ت 1243) وابن عمه العلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن (3) (ت 1285) .
__________
(1) الدرر السنية 12 \ 46.
(2) المصدر السابق 12 \ 45.
(3) عنوان المجد 2 \ 43.(28/216)
أعماله:
تولى القضاء بمدينة الرياض في عهد الإمام تركي بن عبد الله (1) (ت 1249) .
__________
(1) المصدر السابق 1 \ 187.(28/216)
وفاته:
لم تطل مدته فاخترمته المنية وهو بعد في ريعان الشباب سنة 1245 (1) هـ
__________
(1) المصدر السابق 2 \ 43.(28/216)
أولاده:
له من الأبناء الشيخ عبد الله. وصفه ابن بشر بأنه الشيخ العالم الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، تفقه على ابن عمه الشيخ عبد الرحمن بن حسن واستعمله الإمام فيصل بن تركي (ت 1282) قاضيا في بلد منفوحة.
والشيخ حسين. يقول عنه ابن بشر: وهو إلى الآن في الطلب يترقى (1) وقد انقرضت ذريته الآن (2)
__________
(1) ينظر المصدر السابق.
(2) تعليقات عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ على عنوان المجد 1 \ 187.(28/217)
آثاره العلمية:
له مسائل وفتاوى في التوحيد والأصول والفقه، نشر بعضها ضمن مجموعة الرسائل والمسائل النجدية التي رتبها الشيخ سليمان بن سحمان وأشرف على طباعتها الأستاذ رشيد رضا سنة 1346هـ على نفقة الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود.
وهي مفرقه في الجزء الأول من صفحة 426 إلى صفحة 481.
وفي الجزء الرابع من صفحة 740 إلى صفحة 773.(28/217)
وصف النسخ:
اعتمدت في تحقيق الرسالة على نسختين
إحداهما: بعنوان فصل الجواب عن استحقاق المتأخر فضل الصحاب، وتقع في خمس ورقات من القطع الصغير ومسطراتها 18 سطرا. عثرت عليها ضمن أوراق بمكتبة الشيخ المعمر عبد العزيز بن صالح بن مرشد مكتوبة(28/217)
سنة 1259هـ بقلم الشيخ محمد بن سعد العجيري وعليها بعض الهوامش المنقولة من حفظ المؤلف.
وهي نسخة جيدة تامة؛ ولذلك جعلتها أصلا.
والثانية: مطبوعة في الجزء الأول من مجموعة الرسائل والمسائل النجدية وتقع في أربع ورقات من صفحة 437 إلى صفحة 444 ولم يذكر الناشر شيئا عن الأصل الذي اعتمد عليه، وهي نسخة ناقصة سقط من منتصفها ما يوازي ربع الرسالة تقريبا.(28/218)
عنوان الرسالة:
انفردت النسخة الخطية بذكره وأهملته المطبوعة. وتسمية مثل هذه الرسائل الصغيرة لم يكن معتادا عند أئمة الدعوة مما يؤكد أنه ربما كان من صنع الناسخ.
وعلى أية حال فهو عنوان مطابق بوجه عام لمضمونها فأثبته كما جاء في المخطوطة.(28/218)
التوثيق:
أشار المؤلف إلى اسمه في صدر الرسالة، كما أنه قد أثبت ذلك على طرة المخطوط ولم يذكر فيما سوى ذلك. وإذا علمنا أن كتب التراجم أغفلت ترجمته على انفراد وكل ما وصلنا عنه نتف مفرقة استأثر عنوان المجد بالنصيب الأوفر منها تبين لنا السبب في عدم نسبته إليه.(28/218)
منهج التحقيق:
حاولت بقدر الإمكان أن يخرج النص على هيئة أقرب ما تكون إلى الصورة التي تركها المؤلف، وقمت بعزو الآيات وتخريج الأحاديث والآثار(28/218)
مع نقل ما قاله أهل العلم فيها وترجمت للأعلام ممن يحتاج إلى تعريف إلى غير ذلك مما يتطلبه التحقيق.
أسأل الله أن ينفع بها وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن إنه ولي ذلك والقادر عليه. والحمد لله حمدا كثيرا طيبا كما يحب ويرضى.
كتبه: الوليد بن عبد الرحمن الفريان.
الرياض: 15 \ 3 \ 1409 هـ.(28/219)
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الله على نعمه وآلائه وأصلي وأسلم على خاتم رسله وأنبيائه من حسن بن حسين إلى الأخ راشد بن مبارك (1) .
أولاه الله من نعمه وبارك
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وإن تسأل عني، فأحمد إليك الله وأشكره كما شكره الأواه بخير وعافية ونعم وافية، وقد سألت رحمك الله عن مسألتين والخاطر مشغول، وقد آن بحمد الله أن نشرع في الجواب.
المسألة الأولى: ما معنى (2) قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي ثعلبة «وللعامل منهم أجر خمسين) قيل: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: (أجر خمسين منكم (3) » .
كيف ساووا الصحابة -رضي الله عنهم- وهم أفضل الناس، ولن يبلغ من بعدهم أدنى درجة من درجاتهم؟
__________
(1) لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من المصادر.
(2) (ط) : ما معنى. ساقطة.
(3) سنن الترمذي تفسير القرآن (3058) ، سنن أبو داود الملاحم (4341) ، سنن ابن ماجه الفتن (4014) .(28/222)
فالجواب وبالله التوفيق:
اعلم أولا أن الحديث المشار إليه، خرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه، كلهم من طريق عتبة بن أبي حكيم (1) عن عمرو بن جارية عن أبي أمية الشعباني عن أبي ثعلبة الخشني -رضي الله عنه- في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (2) أما والله قد سألت عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمرا لا بد لك منه -وفي بعضها -لا يدان لك به، فعليك بخاصة نفسك، ودع أمر العوام فإن وراءكم أيام الصبر فمن صبر فيهن كان كمن قبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله) ، قالوا: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: (أجر خمسين منكم) (6) » .
__________
(1) الأصل: الحكم. تحريف.
(2) سورة المائدة الآية 105
(3) سنن أبي داود رقم 4341 وجامع الترمذي رقم 3058 وسنن ابن ماجه رقم 4014 وأخرجه الطبري في التفسير رقم 12862 والحاكم في المستدرك 4 \ 322 وصححه ووافقه الذهبي، وأخرجه الآجري في الغرباء رقم 9 وابن حبان في الصحيح رقم 1850 (موارد) والطحاوي في المستشكل 2 \ 65 والبيهقي في الاعتقاد 126وابن أبي عاصم في الزهد رقم 216 وأبو نعيم في الحلية 2 \ 30 والبغوي في شرح السنة 14 \ 347 وابن وضاح في البدع 4 \ 76 وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الشعب كما في الدر المنثور 2 \ 339.
(4) الشح: البخل الشديد، وطاعته: أن يتبع الإنسان هوى نفسه لبخله، وينقاد له. الجامع 10 \ 4. (3)
(5) علق في هامش الأصل ما نصه: أي الروايات، ومعناه: لا طاقة لك به. (4)
(6) (ط) : ودع عنك. (5)(28/223)
وعتبة هذا، قال الحافظ المنذري (1) في مختصر السنن لأبي داود: هو [أبو] (2) العباس بن أبي حكيم الهمداني الشامي وثقه غير واحد، وضعفه (3) غير واحد (4) (5) .
قلت: وقد حكم الترمذي على هذا الحديث بأنه حسن غريب (6) .
إذا عرفت ذلك، فالمعنى الذي لأجله استحق هذا (7) الأجر العظيم والثواب، وساوى فضل خمسين من الصحاب؛ إنما هو لعدم المعاون والمساعد على فعل الخير (8) كما ذكره (9) أبو سليمان الخطابي (10) وأبو الفرج عبد الرحمن بن رجب (11) وغيرهما فالمستقيم على المنهج السوي والطريق النبوي عند فساد الزمان ومروج الأديان، غريب ولو عند الحبيب، إذ قد توفرت الموانع وكثرت الآفات، وتظاهرت القبائح والمنكرات، وظهر التغيير في الدين والتبديل، واتباع الهوى والتضليل، وفقد المعين وعز من يلوذ به الموحد (12) .
__________
(1) أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي، حافظ محدث فقيه. مؤرخ ت 656. تذكرة الحفاظ 4 \ 1436.
(2) ساقط من الأصل و (ط) .
(3) (ط) : وتكلم فيه.
(4) مختصر السنن 6 \ 189.
(5) قال الحافظ ابن حجر في التقريب \ 380: صدوق يخطئ كثيرا من السادسة.
(6) الجامع 5 \ 258.
(7) (ط) : هذا. ساقطة.
(8) (ط) : فعل الخير. ساقط.
(9) (ط) : ما ذكره الحافظ.
(10) في العزلة \ 39.
(11) في كشف الكربة \ 21.
(12) (ط) : من تلوذ به من الموحدين.(28/224)
وصار الناس كالشيء المشوب، ودارت بين الكل رحى الفتن والحروب، وانتشر شر المنافقين وعيل صبر المتقين، وتقطعت أسباب (1) المسالك للسالك (2) وترادفت الضلالات والمهالك، ومنع الخلاص ولات حين مناص.
فالموحد بينهم أعز من الكبريت الأحمر، ومع ذلك فليس له مجيب ولا داع (3) ولا قابل لما يقول ولا واع (4) ، قد نصبت له رايات الخلاف ورمي بقوس العداوة والاعتساف، ونظرت إليه شزرا العيون (5) . وأتاه الأذى من كل منافق مفتون (فاشتدت عليه الكربة) (6) واستحكمت له الغربة، وأفلاذ كبده تقطعت مما جرى في دين الإسلام وعراه من الانثلام (7) والباطل قد اضطرمت ناره، وتطاير في الآفاق شراره، ومع هذا كله \ فهو على الدين الحنيف مستقيم ولحجج الله [1 \ ب] وبراهينه مقيم.
فبالله قل لي: هل يصدر هذا إلا عن يقين (8) وصدق راسخ في الجنان، وكمال توحيد وصبر وإيمان (9) ورضى وتسليم لما قدره الرحمن، وقد وعد الله الصابرين جزيل الثواب: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (10) .
وقد قال بعض العلماء رحمه الله تعالى: من اتبع القرآن والسنة وهاجر إلى الله بقلبه، واتبع آثار الصحابة لم يسبقه الصحابة إلا بكونهم رأوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انتهى. وفي ذلك الزمان فالكل له أعوان وإخوان
__________
(1) (ط) سبل.
(2) (ط) : للسالك. ساقطة.
(3) (ط) : راع.
(4) (ط) : وقد.
(5) (ط) : شزر. تحريف.
(6) ما بينهما ساقط من (ط) .
(7) (ط) : الانثلام والانفصام.
(8) (ط) : و. ساقط.
(9) (ط) : وإيمان وصبر.
(10) سورة الزمر الآية 10(28/225)
ومساعدون ومعاضدون، ولهذا قال علي بن المديني رحمه الله- كما ذكره عنه ابن الجوزي في صفة (1) الصفوة - ما قام أحد بالإسلام بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قام أحمد بن حنبل! قيل: يا أبا الحسن، ولا أبو بكر الصديق؟ ! . قال: إن أبا بكر الصديق له (2) أصحاب وأعوان، وأحمد بن حنبل لم يكن له أعوان ولا أصحاب. انتهى (3) . وقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء) قيل: يا رسول الله ومن الغرباء؟ . قال: (النزاع من القبائل (5) » .
ورواه أبو بكر الآجري الحنبلي (6) وعنده: «قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس (7) » .
__________
(1) (ط) : كتاب صفوة الصفوة.
(2) (ط) : رضي الله عنه كان له.
(3) أخرجه ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد \ 149 عن الميموني قال: سمعت علي بن المديني.
(4) المسند 1 \ 398 وأخرجه ابن ماجه في السنن رقم 3988 والدارمي في السنن رقم 2758والآجري في الغرباء رقم 2 والبغوي في شرح السنة 1 \ 118 والخطيب في أصحاب الحديث \ 23 والخطابي في الغريب 1 \ 174وابن وضاح في البدع \ 65 والطحاوي في مشكل الآثار 1 \ 297وأخرجه الدورقي في مسند سعد بن أبي وقاص رقم 93 من حديثه وصححه ابن كثير في النهاية 1 \ 17.
(5) النزاع: جمع نازع ونزيع، وهو الغريب الذي نزع عن أهله وعشيرته نهاية 5 \ 41. (4)
(6) محمد بن الحسين، فقيه محدث ت 360. تذكرة 3 \ 936.
(7) الغرباء للآجري رقم1 وأخرجه أحمد في المسند 4 \ 73 وابن وضاح في البدع \ 65 والخطابي في الغريب 1 \ 176 والطبراني وأبو نصر السجزي في الإبانة كما في الكنز 1 \ 239 من حديث عبد الرحمن بن سنة وأخرجه الطبراني في الصغير رقم 90 (روضه) والقضاعي في مسند الشهاب رقم 1055 من حديث سهل الساعدي.(28/226)
ورواه غيره: قال: «الذين يفرون بدينهم من الفتن (1) » .
ورواه الترمذي عن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده (2) عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بلفظ: «الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي (3) » .
ورواه الإمام أحمد أيضا من حديث سعد بن أبي وقاص (4) [2 / أ] ، ورواه الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال «طوبى للغرباء!) قيل: ومن الغرباء؟ قال: (قوم صالحون قليل في قوم سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم (5) » . قال الأوزاعي (6) في تفسيره (7) : أما أنه ما يذهب الإسلام ولكن يذهب أهل السنة، حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد أو رجلان (8) . وروى البخاري عن
__________
(1) ذكره الحافظ ابن رجب في كشف الكربة \ 12 ولم أعثر عليه مسندا فيما بين يدي من المصادر لكن أخرج نحوه أحمد في الزهد 1 \ 170 وأبو نعيم في الحلية ج1 \ ص25 من حديث عبد الله بن عمرو وأخرجه الدورقي في مسند سعد بن أبي وقاص رقم 94 موقوفا عليه.
(2) في الجامع: عن عمرو بن عوف بن زيد بن ملحه عن أبيه عن جده.
(3) جامع الترمذي رقم 2632 وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه ابن عبد البر في الجامع 397، وأخرج نحوه القضاعي في مسند الشهاب رقم 1052، 1053.
(4) المسند 1 \ 184.
(5) الطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد 7 \ 278 قال الهيثمي: وفيه ابن لهيعة وفيه ضعف وأخرجه أحمد في المسند 2 \ 177، 222 والآجري في الغرباء رقم 6 وابن المبارك في الزهد رقم 775 والفنوي في المعرفة 2 \ 517 وابن وضاح في البدع 4 \ 64 والحاكم في المستدرك 2 \ 71 وصححه ووافقه الذهبي.
(6) أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، الفقيه. ثقة جليل ت 157. تقريب \ 347.
(7) أي: تفسير هذا الحديث.
(8) ذكره الحافظ ابن رجب في كشف الكربه \ 18 والإمام محمد بن عبد الوهاب في أحاديث الفتن \ 101.(28/227)
مرداس الأسلمي. . . (1) -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يذهب الصالحون الأول ويبقي حثالة كحثالة الشعير أو التمر لا يباليهم الله باله (2) » . وكان الحسن البصري رحمه الله يقول لأصحابه: يا أهل السنة ترفقوا رحمكم الله، فإنكم من أقل (3) الناس (4) .
وقال يونس بن عبيد (5) : ليس شيء أغرب من السنة، وأغرب منها من يعرفها (6) .
وروى أبو القاسم الطبراني وغيره -بإسناد فيه نظر- (7) من حديث (8) أبي أمامه الباهلي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن لكل شيء إقبالا وإدبارا وإن لهذا الدين إقبالا وإدبارا، وإن من إقبال الدين أن تفقه القبيلة بأسرها حتى لا يوجد فيها إلا الفاسق والفاسقان فهما مقهوران ذليلان، إن تكلما قمعا وقهرا واضطهدا، ألا وإن من إدبار الدين أن تجفوا القبيلة بأسرها حتى لا يوجد فيها إلا الفقيه والفقيهان وهما مقهوران ذليلان إن تكلما فأمرا بمعروف ونهيا عن منكر قمعا وقهرا واضطهدا فهما مقهوران ذليلان لا يجدان على الحق أعوانا وأنصارا (9) » وروى الطبراني
__________
(1) الأصل و (ط) : السلمي. تحريف. وهو ابن مالك صحابي بايع تحت الشجرة، قليل الحديث. تقريب \ 525.
(2) أخرجه البخاري في الصحيح رقم 6434 وأحمد في المسند ج 4 \ ص193 والبيهقي في كتاب الأدب رقم 312. وأخرجه البخاري تعليقا رقم 4156، ومعنى: لا يباليهم الله باله. أي: لا يرفع لهم قدرا ولا يقيم لهم وزنا. فتح الباري 11 \ 252.
(3) الأصل و (ط) : أول.
(4) ذكره الحافظ ابن رجب في كشف الكربة \ 19.
(5) أبو عبيد بن دينار العبدي، ثقة ثبت فاضل ورع ت 159 تقريب \ 613.
(6) ذكره الحافظ ابن رجب في كشف الكربه \ 19. وذكره أبو يعلى في الطبقات 2 \ 42.
(7) كما في المصدر السابق \ 21.
(8) ما بينهما ساقط من (ط) .
(9) الطبراني كما في مجمع الزوائد 7 \ 261، 271، قال الهيثمي: وفيه علي بن يزيد وهو متروك وأخرجه أحمد بن منيع في مسنده كما في المطالب العالية 4 \ 335 قال ابن حجر: حديث ضعيف.(28/228)
أيضا عن ابن مسعود -رضي الله عنه- في ذكر أشراط الساعة قال: «وإن من أشراطها أن يكون المؤمن [2 \ ب] في القبيلة أذل من النقد (1) » . والنقد: هي الغنم الصغار (2) . . . وروى الترمذي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه كالقابض على الجمر (3) » . . . وروى الحافظ ابن عساكر عن أنس أيضا قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه أذل من شاته (4) » .
وروى الحافظ ابن أبي الدنيا عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «يأتي على الناس زمان يذوب فيه قلب المؤمن كما يذوب الملح في الماء. قيل مم ذلك يا رسول الله؟ قال: مما يرى من المنكر لا يستطيع تغييره (5) » .
وقال ابن مسعود: يأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه أذل من الأمة (6) .
فقد تبين بما أوردناه، واتضح مما قررناه، وظهر مما سطرناه: ما سأل عنه السائل وفقه الله.
__________
(1) قطعة من حديث طويل أخرجه الطبراني في الأوسط والكبير كما في مجمع الزوائد 7 \ 323، قال الهيثمي: وفيه سيف بن مسكين وهو ضعيف.
(2) واحدتها: نقدة، وجمعها: نقاد. النهاية 5 \ 104.
(3) جامع الترمذي رقم 2260 وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه.
(4) كما في كنز العمال 11 \ 276.
(5) أخرجه ابن أبي الدنيا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما في المصدر السابق 3 \ 686 وأخرجه ابن وضاح في البدع \ 92 عن عطاء بن ميسرة بلفظ (سيأتي على الناس زمان يذوب فيه قلب المؤمن في جوفه كما يذوب الثلج في الماء. قيل: يا نبي الله ومم ذاك؟ قال: يرى المنكر يعمل به فلا يستطيع أن يغيره) .
(6) ذكره الحافظ ابن رجب في كشف الكربة \ 22.(28/229)
وإلى هذا الذي ذكرنا أشار ابن القيم رحمه الله في الكافية الشافية حيث قال:
فالحائز الخمسين أجرا لم يحز ... ها في جميع شرائع الإيمان
هل حازها في بدر أو أحد (1) ... أو الفتح المبين وبيعه الضوان
بل حازها إذا كان قد عدم المعين ... وهم فقد كانوا أولي أعوان
والرب ليس يضيع ما يتحمل ... المتحملون لأجله من شأن
فتحمل العبد الوحيد (2) رضاه مع ... فيض العدو وقلة الأعوان
مما يدل على يقين صادق ... ومحبة وحقيقة العرفان
في كل يوم فرقة تغزوه إن ... يرجع (3) يوافيه الفريق الثاني (4)
فسل الغريب المستضام عن الذي ... يلقاه بين عدأ بلا حسبان
__________
(1) الأصل: أو في أحد. تحريف.
(2) في الكافية: العبد الضعيف.
(3) في الكافية: ترجع.
(4) بين هذا البيت والذي قبله قوله: يكفيه ذلا واغترابا قلة الأنصار بين عساكر الشيطان.(28/230)
.
هذا وقد بعد المدى وتطاول ال ... عهد الذي هو موجب الإحسان
ولذاك كان كقابض جمرا (1) فسل ... أحشاءه (2) عن حر ذي النيران
والله أعلم بالذي في قلبه ... يكفيه علم الواحد المنان
في القلب أمر ليس يقدر قدره ... إلا الذي آتاه للإنسان
بر وتوحيد وصبر مع رضى ... والشكر والتحكيم للقرآن
سبحان قاسم فضله بين العباد ... فذاك مولى الفضل والإحسان (3)
__________
(1) الأصل: جمر تحريف.
(2) الأصل: أحشاؤه تحريف.
(3) الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية (ط التقديم العلمية) \ 216-217.(28/231)
فصل:
وقد ورد في فضل القائم بالسنة ومضاعفة الأجر له عند فساد الزمان غير ما تقدم.
فروى الطبراني في الأوسط (74) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «المتمسك بسنتي عند اختلاف أمتي له أجر شهيد (1) »
__________
(1) كما في مجمع الزوائد 1 \ 172 وقال الهيثمي: وفيه محمد بن صالح العدوي ولم أر من ترجمه وبقية رجاله ثقات، وأخرجه أبو نعيم في الحلية 8 \ 200 وقال: غريب من حديث عبد العزيز عن عطاء، ورواه ابن أبي نجيح عن ابن فارس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثله وقال: (له أجر مائة شهيد) .(28/231)
وروى مسلم في صحيحه عن معقل بن يسار أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «العبادة في الهرج كهجرة إلي (1) » .
وعن الحسن البصري رحمه الله قال: لو أن رجلا من الصدر الأول بعث ما عرف من الإسلام شيئا إلا هذه الصلاة.
ثم قال: أما والله لئن عاش إلى (2) هذه المنكرات فرأى صاحب بدعة يدعو إلى بدعه، وصاحب دنيا يدعو إلى دنياه فعصمه الله. وقلبه يحن إلى ذلك السلف ويتبع آثارهم ويستن بسنتهم ويتبع سبيلهم كان له أجر عظيم) وروى المبارك بن فضالة (3) -أحد علماء الحديث بالبصرة - عن الحسن (4) البصري: (أنه ذكر الغني المترف الذي له سلطان يأخذ المال ويدعي أنه لا عقاب فيه، وذكر المبتدع الضال الذي خرج بسيفه (5) على المسلمين وتأول ما أنزل الله في الكفار على المسلمين.
ثم قال: سنتكم -والله الذي لا إله إلا هو- بينهما وبين (6) الغالي [3 \ ب] والجافي والمترف والجاهل فاصبروا عليها؛ فإن أهل السنة كانوا أقل الناس الذين لم يأخذوا مع أهل الأتراف أترافهم (7) ، ولا مع أهل البدع أهواءهم، وصبروا على سنتهم حتى أتوا ربهم فكذلك فكونوا إن شاء الله.
__________
(1) صحيح مسلم رقم 2948 وأخرجه الترمذي في الجامع رقم 2202 وابن ماجه في السنن رقم 3985 وأخرجه أحمد في المسند 5 \ 25، 27 وعبد بن حميد في المنتخب رقم 402 بلفظ (العبادة في الفتنة كالهجرة إلي) .
(2) الأصل و (ط) : على.
(3) أبو فضالة البصري، جالس الحسن ثلاث عشرة سنة، صدوق يدلس ت 166. تقريب \ 519.
(4) في كشف الكربه \ 24: روى ابن المبارك عن الفضيل عن الحسن.
(5) (ط) : بسيفه. ساقطة.
(6) (ط) : بينها وبين. تحريف.
(7) (ط) : في أترافهم.(28/232)
ثم قال: (والله لو أن رجلا أدرك هذه المنكرات يقول هذا: هلم إلي أو يقول هذا: هلم إلي!! فيقول لا أريد [إلا] (1) سنة محمد -صلى الله عليه وسلم-: يطلبها ويسأل عنها. إن هذا [ليعرض له] (2) أجر (3) عظيم. فكذلك فكونوا إن شاء الله (4) .
وعن مورق (5) رحمه الله قال: المتمسك بطاعة الله إذا جبب (6) الناس عنها كالكار بعد الفار.
قال أبو السعادات ابن الأثير في النهاية: أي إذا ترك الناس الطاعات ورغبوا عنها (7) . كان المتسمك بها له ثواب كثواب الكار في الغزو بعد أن فر الناس عنه.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) إضافة من كشف الكربه.
(3) الأصل: لأجر. (ط) : له أجر.
(4) ذكره الحافظ ابن رجب في كشف الكربة \ 24.
(5) مورق بن مشمرج بن عبد الله العجلي، ثقة عابد ت بعد المائة. تقريب \ 549.
(6) الأصل: أجنب (ط) : جنب. تصحيف.
(7) النهاية 1 \ 234.(28/233)
فصل:
ولنذكر طرفا مما ورد (1) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ له تعلق بما تقدم.
قال الله تعالى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) وقال تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (3) وقال تعالى
__________
(1) (ط) : ورد. ساقطة.
(2) سورة آل عمران الآية 104
(3) سورة آل عمران الآية 110(28/233)
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) وقال تعالى {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (2) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (3) وقال تعالى {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (4) . والآيات في هذا الباب كثيرة.
وروى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: [4 \ أ] سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (5) » .
وروى مسلم أيضا عن ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل (6) » .
وروى (7) الإمام أحمد عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول «إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله تعالى بعذاب
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة المائدة الآية 78
(3) سورة المائدة الآية 79
(4) سورة الأعراف الآية 165
(5) مسلم في الصحيح رقم 49 وأخرجه أبو داود في السنن رقم 1140، 4340 والترمذي في الجامع رقم2173 والنسائي في المجتبى 8 \ 111 وابن ماجه في السنن رقم 4013 وأحمد في المسند 3 \ 20، 49.
(6) مسلم في الصحيح رقم 50 وأخرجه أحمد في المسند 1 \ 458، 461.
(7) (ط) وقد.(28/234)
من عنده) فقلت: يا رسول الله! أما فيهم يومئذ صالحون! قال: (بلى!) قلت: فكيف يصنع بأولئك؟ قال: (يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان (2) » .
وروى البخاري ومسلم (3) «عن زينب بنت جحش قالت: قلت يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: (نعم! إذا كثر الخبث (4) » وروى الترمذي عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابا من عنده، ثم تدعون فلا يستجاب لكم (5) » .
وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن أبي عبيدة بن عبد الله بن (6) مسعود عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن من كان قبلكم كان إذا عمل العامل فيهم بالخطيئة، جاءه الناهي تعذيرا فإذا كان
__________
(1) مسند أحمد 6 \ 294-295، 304، قال الهيثمي في المجمع 7 \ 268: رواه أحمد بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح وأخرجه الطبراني في الكبير كما في الكنز 3 \ 80 ويشهد له ما أخرجه البخاري في الصحيح رقم 7108 ومسلم في الصحيح رقم 2879 وأحمد في المسند 2 \ 40، 110، 136 عن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا أنزل الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم) .
(2) الأصل: قال. تحريف. (1)
(3) (ط) : ومسلم. ساقطة.
(4) قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري في الصحيح رقم 7135 ومسلم في الصحيح رقم 2880 وأحمد في المسند 6 \ 428، 429 ومالك في الموطأ كتاب الجامع رقم 204.
(5) الترمذي في الجامع رقم 2170 وقال: هذا الحديث حسن. وأخرجه أحمد في المسند 5 \ 389 والبيهقي في السنن الكبرى 10 \ 93 والجوهري في الجعديات رقم 2786 وأخرجه ابن ماجه في السنن رقم 4052 وابن حبان في الصحيح رقم 1841 (موارد) وابن أبي شيبة في مسنده كما في مصباح الزجاجة 3 \ 241 من حديث عائشة وأخرجه البزار والطبراني في الأوسط كما في الكنز 3 \ 68 من حديث أبي هريرة.
(6) الأصل: عن. تحريف.
(7) أخرجه من هذا الطريق أبو داود في السنن رقم 4337 وابن وضاح في البدع \ 90 وأخرجه من طريق علي بن خذيمة عن أبي عبيدة أبو داود في السنن رقم 4336 والترمذي في الجامع رقم 3050، 3051 وقال: حسن الغريب وابن ماجه في السنن رقم 4054 وأحمد في المسند 1 \ 391 وعبد بن حميد وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه كما في الدر المنثور 3 \ 124. وأخرجه الطبراني في الكبير كما في المصدر السابق 3 \ 127 من حديث أبي موسى الأشعري واللفظ له ولم أجده عند النسائي.(28/235)
الغد: جالسه وواكله وشاربه كأنه لم يره على خطيئة بالأمس، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض، ثم لعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم؛ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا. أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم (1) » .
وروى ابن ماجه عن عبد الله بن عمر قال: كنت عاشر عشرة -رهط من المهاجرين- عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأقبل علينا بوجهه فقال: «يا معشر المهاجرين. خمس خصال! وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوها، إلا ابتلاهم الله بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قوم من المكيال والميزان، إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان. وما منع قوم زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء فلولا البهائم لم يمطروا، ولا خفر قوم العهد إلا سلط عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيدهم. وما لم يعمل أئمتهم بما أنزل الله عز وجل في كتابه، إلا جعل بأسهم بينهم (2) »
__________
(1) (ط) تعزيرا. تحريف. (7)
(2) ابن ماجه في السنن رقم 4068 وأخرجه الحاكم في المستدرك 4 \ 540 وصححه ووافقه الذهبي والبيهقي في الشعب كما في الكنز 16 \ 81 والبزار كما في مصباح الزجاجة 3 \ 246 وأخرجه الطبراني في الكبير كما في المصدر السابق من حديث ابن عباس وقال البوصيري: هذا حديث صالح للعمل به. وقال ابن كثير في النهاية 1 \ 22: تفرد به ابن ماجه وفيه غرابة.(28/236)
وروى البخاري عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا في سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم. فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا! . فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا (1) » قال النووي: القائم في حدود الله معناه: المنكر لها، القائم في [5 \ أ] دفعها وإزالتها والمراد بالحدود: ما نهى الله عنه (2) . انتهى والأحاديث في هذا كثيرة، قد أفردنا لها رسالة مستقلة (3) وجمعنا فيها جميع ما ورد، وتقنصنا (4) سائر ما شرد ولله الحمد فلتراجع.
__________
(1) البخاري في الصحيح رقم 2493، 2686 وأخرجه الترمذي في الجامع رقم 2174 وأحمد في المسند 4 \ 269، 270، 274.
(2) رياض الصالحين \ 102.
(3) (ط) : مستقلة. ساقطة.
(4) (ط) ونقصنا. تحريف.(28/237)
المسألة الثانية: سألت عن قول الجد (1) رحمه الله في ثماني الحالات: كما جرى لسعد مع أمه! ما الذي جرى لسعد مع أمه؟؟
فالجواب: سعد: هو ابن أبي وقاص أحد العشرة المبشرة -رضي الله عنه-. وأمه حمنة بنت أبي سفيان بن أبي أمية وقصته معروفة.
قال الحافظ الطبراني: حدثنا أحمد بن أيوب بن راشد حدثنا مسلمة بن علقمة عن داود بن أبي هند عن سعد -رضي الله عنه- قال: كنت بارا
__________
(1) العلامة المجدد محمد بن عبد الوهاب (ت 1206) .(28/237)
بوالدتي، فقالت لي أمي: يا سعد! ما هذا الذي أراك قد أحدثت؟! لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب [ولا أستظل] (1) حتى أموت. فتعير بي. ويقال: قاتل أمه. فقلت لا تفعلي يا أمه؛ فإني لا أدع ديني هذا لشيء. فمكثت يوما وليلة لا تأكل ولا تشرب ولم تستظل. فأصبحت وقد اشتد جهدها، فمكثت يوما آخر وليلة لا تأكل فأصبحت وقد اشتد جهدها. فقلت: يا أمه، والله لو كان لك مائة نفس! فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا لشيء. فإن شئت فكلي وإن شئت فلا تأكلي، فأكلت.
ورواه مسلم في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبه وزهير بن حرب حدثنا الحسن بن موسى حدثنا زهير حدثنا سماك بن حرب حدثني مصعب بن سعد عن أبيه فذكره بنحو هذا السياق وفيه: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا (2) فاها بعصا، ثم أوجروها (3) فنزلت {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} (4) الآية.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه.
__________
(1) إضافة من (ط) .
(2) أي: أدخلوا في شجره (مفتح الفم) عودا حتى يفتحوه به نهاية 2 \ 446.
(3) الوجور: الدواء يوجر في وسط الفم. الصحاح 2 \ 844.
(4) سورة العنكبوت الآية 8(28/238)
الخلوة
وما يترتب عليها
من أحكام فقهية
بقلم الدكتور
عبد الله بن عبد المحسن الطريفي
الأستاذ المشارك بقسم الدراسات الإسلامية
بالكلية المتوسطة بالرياض
مقدمة
في أهمية المحافظة على أعراض المسلمين وسد باب الفساد الموصل إليها.
جاء الإسلام لحفظ الضروريات الخمس، ومنها حفظ النسل فصان العرض وحماه بمنع اختلاط الأنساب ومنع الفاحشة المؤدية إلى ذلك فقال سبحانه {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} (1) .
ولما كان للزنا وسائله وذرائعه فقد حرم كل وسيلة موصلة إليه، باعتبار أن المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها، فالطرق
__________
(1) سورة الإسراء الآية 32(28/239)
والأسباب تعد تابعة لها في الحرمة، فوسائل المحرمات والمعاصي يكون حكمها في المنع الكراهية بحسب إفضائها إلى غايتها وارتباطاتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود فإذا حرم الرب تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها، ويمنع منها، تحقيقا لتحريمه، وتثبيتا له، ومنعا أن يقرب حماه، وإباحة الوسائل والذرائع المفضية إلى الحرام غير مقبولة؛ لأن ذلك لو قبل لكان من باب التناقض، وفيه إغراء للنفوس بارتكاب الحرام، وحكمة التشريع تأبى ذلك كل الإباء. فلو نظرنا إلى حال ملوك الدنيا لوجدناهم يأبون منع جندهم أو رعيتهم أو أهلهم من شيء ثم يباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه، ولو فعل ذلك لعد من باب التناقض وحصل من الرعية والجند ضد ما هو مقصود.
وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه.
وإذا كان هذا هو حال أهل الدنيا فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة، والمصلحة، والكمال؟ ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها (1) .
ومن هذه الذرائع ما ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- من تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية ومن في حكمها ولو في إقراء القرآن، والسفر بها ولو في الحج وزيارة الوالدين، سدا لذريعة ما يحاذر من الفتنة وغلبات الطباع (2) ، وحسما لمادة وسائل الفساد ودفعا لها، متى ما كان الفعل وسيلة لمفسدة، وإن كان منها سالما في فترة من الفترات (3)
__________
(1) إعلام الموقعين 3 \ 135.
(2) المرجع السابق 139.
(3) الفروق للقرافي 2 \ 32.(28/240)
الفصل الأول: تعريف الخلوة وبيان المراد بها
الخلوة في اللغة:
يقال: خلا المكان والشيء إذا لم يكن فيه أحد.
ويقال: خلا الرجل إذا وقع في موضع خال لا يزاحم فيه.
كما يقال: اخل بأمرك أي تفرد به وتفرغ له، وخلا الرجل بصاحبه وإليه ومعه.
والخلوة الاجتماع معه في خلوة قال تعالى {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} (1)
ويقول الرجل لرجل: اخل معي حتى أكلمك أي كن معي خاليا (2) وفي المعجم الوسيط (3) .
(الخلوة مكان الانفراد بالنفس أو بغيرها.
والخلوة الصحيحة في الفقه: إغلاق الرجل الباب على زوجته وانفراده بها) .
قال ابن مفلح في كتابه الفروع (4) :
" الخلوة هي التي تكون في البيوت أما الخلوة في الطرقات فلا تعد من ذلك ".
قلت: ويدخل في حكم البيوت كل مكان فيه مانع لدخول الغير، لسبب مقصود أو غير مقصود، كغرف المكاتب والعيادات الطبية، وغرف التصوير والسيارات وهلم جرا.
__________
(1) سورة البقرة الآية 14
(2) لسان العرب مادة خلا.
(3) مادة خلو.
(4) ج5 ص153.(28/241)
الفصل الثاني: أحكام الخلوة والسفر بالمرأة الأجنبية وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الخلوة بالأجنبية وفيه ثمانية مباحث:
المبحث الأول: المراد بالمرأة الأجنبية.
المرأة الأجنبية هي من ليس بزوجة ولا ذات قرابة محرمة للنكاح بسبب مباح أو نسب.
ولذلك نرى العلماء جعلوا زوجة الأخ في حكم الأجنبية (1) ، وكذلك بنت الزنا سواء كانت من مائه أو من ماء غيره (2) ، والمخطوبة تعد هي الأخرى في حكم الأجنبية فلا تصح بهن الخلوة لعدم المحرمية، والمخطوبة لم يرد الشرع إلا بحل النظر إليها. أما الخلوة بها فبقيت على التحريم، لأنه لا يؤمن مع الخلوة مواقعة المحظور، ولا سيما في زمن يقل فيه وازع الإيمان، ويكثر به الفساد وقد ورد عن جابر -رضي الله عنه- (3) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها فإن ثالثهما الشيطان (4) »
كما يعد في حكم الأجنبيات بنات العم، وبنات الخال فلا يحل لأي مما مضى الخلوة بهن، أو الدخول عليهن، إلا إذا دخل مع غيره من المحارم من غير خلوة ولا ريبة (5)
__________
(1) انظر المعيار المعرب 11 \ 298 ومجموع فتاوى ابن تيمية ج 32 \ 9.
(2) انظر بجيرمي على الخطيب ج 3 \ 355.
(3) رواه أحمد في مسنده 3 \ 339.
(4) انظر المغني لابن قدامة 6 \ 553 ومجموع فتاوى ابن تيمية 11 \ 505.
(5) انظر مجموع فتاوى ابن تيميةج32 \ 9.(28/242)
المبحث الثاني: في حكم الخلوة بالمرأة الأجنبية.
اتفق جميع العلماء على حرمة خلو الرجل بامرأة ليست له زوجة، ولا ذات رحم محرم. وهذه الحرمة مطلقة، سواء أمنت الفتنة أو لم تؤمن، وسواء وجدت العدالة أو لم توجد.
قال السنامي في نصاب الاحتساب (1) :
" ويحتسب على الرجل والمرأة إذا كانا في خلوة وكانا أجنبيين. . . إلا إذا كان له على المرأة حق، فله أن يلازمها ويجلس معها، ويقبض على ثيابها، وهذا ليس بحرام، فإن هربت وخلت الخربة فأراد الرجل أن يدخل تلك الخربة لا بأس به، إذا كان الرجل يأمن على نفسه من ذلك، فيكون بعيدا عنها يحفظها بعينه، لأن هذه الخلوة ضرورة ".
وقد أوجب العلماء نهي النساء عن اجتماعهن مع الرجال، اجتماع ملاصقة، لأن ذلك محرم، واستباحته كفر، وفعله مع الاعتقاد بتحريمه عصيان لله (2) ، وأطلقوا حرمة الخلوة مع الشهوة فحرموا الخلوة بكل حيوان يشتهي المرأة وتشتهيه كالقرد (3) والخلوة بشهوة لرجل مع رجل أو امرأة مع امرأة (4) ، ولذلك حرموا خلوة النساء بعضهن ببعض إذا خيف عليهن المساحقة انظر (5)
__________
(1) ص135.
(2) انظر المعيار المعرب ج11 ص228.
(3) انظر الفروع 5 \ 153 والإنصاف 8 \ 30 وكشاف القناع 5 \ 15، 16.
(4) انظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2 \ 121.
(5) إعلام الموقعين 4 \ 378.(28/243)
المبحث الثالث: الخلوة لغرض التعليم والعلاج.
طلب العلم يعد من الأمور المشروعة لكن إذا صاحبه أمر محرم حرم، لا لذاته وإنما للأمر المحرم المصاحب له.
ولذا نرى علماء المالكية يرون حرمة مباشرة الرجال للنساء لغرض تعليمهن، وقالوا: إن مسؤولية تعليم البنت على أبيها ثم على زوجها، ولا يجوز لهما إنابة الأجنبي في ذلك، لأن مثل هذه الإنابة لا تصح مطلقا، ولا يعني هذا منعهن من سؤال العلماء فالسؤال جائز لكن من وراء حجاب كما أمر الله تعالى (1) فالعالم لا بأس أن تأتيه الأجنبية إلى منزله، فتسأل بمحضر زوجته أو ابنته. فيجيبها بما عنده، وهو يكف بصره عن النظر إليها بشرط أن لا يسمع منها إلا ما لسماعه ضرورة من حديثها (2) ، ويرى الشافعية حرمة الخلوة بالأجنبية لغرض التعليم مع الشهوة مطلقا وإن وجد محرم، وأجازوها بوجود محرم إذا أمنت الفتنة (3) .
أما الخلوة للعلاج فحرام عندهم إذ قالوا بعدم جواز الخلوة بالمرأة للعلاج إلا بحضور محرم أو زوج أو امرأة ثقة على القول الراجح عندهم بجواز خلوة أجنبي بامرأتين (4) .
__________
(1) انظر المعيار المعرب ج11 \ 229.
(2) المرجع السابق 1 \ 159.
(3) انظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2 \ 121 والفتاوى الكبرى للهيثمي ج4 \ 97.
(4) انظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2 \ 120 وفتح الجواد 2 \ 68 وبجيرمي على الخطيب 3 \ 320.(28/244)
والحنابلة منعوا الخلوة بالمرأة لغرض التعليم أو العلاج (1) إلا بحضور محرم أو زوج لأنه لا يأمن مع الخلوة مواقعة المحظور لما ورد عنه -صلى الله عليه وسلم- من حديث جابر -رضي الله عنه- (2) مرفوعا: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم فإن ثالثهما الشيطان (3) »
ومما مضى نعلم أن الفقهاء قرروا حرمة الخلوة بالمرأة الأجنبية لغرض التعليم والعلاج غير أن الشافعية أجازوا الخلوة -لأجل التعليم- بأكثر من امرأة إذا أمنت الفتنة. لكنني لا أذهب إلى رأي الشافعية لإمكانية تعليم الرجل للنساء عن طريق الرائي المغلق، وقول الشافعية بخلوة رجل بامرأتين فأكثر قد يكون له وجه في العلاج إذا تعذر وجود المحرم لبعض الحالات فيجوز للحاجة بشروطها وهي أمن الفتنة ووجود عدد من النساء الثقات يتعذر من وجودهن مواطأة الفاحشة ووجه استثناء العلاج لأن بعض حالات العلاج قد يصعب وجود المحضر كالعمليات الجراحية التي يتعذر وجود محرم في أثنائها فإنقاذ المرأة واجب فيكتفى لتحصيل هذا الواجب بأدنى درجات الأمن.
__________
(1) انظر الإنصاف ج9 \ 314.
(2) سبق تخريجه ص7.
(3) انظر كشاف القناع 5 \ 13.(28/245)
المبحث الرابع: الخلوة بالمرأة الكبيرة.
ذهب الحنفية إلى أن العجوز الشوهاء تعد في حكم الأجنبية فيحرم على الرجل الشاب الخلوة بها كما يحرم على غيره (1) .
وبهذا قال الشافعية فلم يعتبروا الجمال، لأن الطبع يميل إليها فضبط التحريم بالأنوثة (2) .
__________
(1) انظر بدائع الصنائع ج 5 \ 125.
(2) انظر فتح الجواد ج 2 \ 71 وبجيرمي على الخطيب 3 \ 324 وحاشية البيجوري على شرح ابن قاسم 2 \ 99.(28/245)
وهو القول الصحيح عند الحنابلة إذ قالوا بحرمة الخلوة بالأجنبية ولو كانت عجوزا شوهاء (1) .
أما المالكية فيرون جواز خلوة الشيخ الهرم بالمرأة الشابة أو المتجالة (2) وكذلك خلوة الشاب بالمرأة المتجالة (3) وهذا هو القول الثاني عند الحنابلة (4) .
قلت: وضبط حرمة الخلوة بالأنوثة أولى لانضباط العلة فهي لا تختلف باختلاف محالها، ومن السهل التحقق من وجودها، أما الجمال فلا يمكن ضبطه لاختلافه باختلاف الأحوال والأشخاص بل ويختلف في نظرة الناس، باعتبار هذا جمالا، أو ليس بجمال فالجميل قد يكون عند البعض قبيحا، والقبيح قد يكون عند آخر جميلا، وكما يقال لكل ساقطة في الحي لاقطة.
__________
(1) انظر الإنصاف ج 9 \ 314.
(2) المتجالة: المرأة المسنة. انظر تاج العروس آخر مادة جلل.
(3) انظر حاشية العدوي ج 2 \ 422.
(4) انظر الإنصاف ج9 \ 314.(28/246)
المبحث الخامس: الخلوة بذوي العيوب المانعة من النكاح.
يرى الحنفية أن الشيخ الذي لا يجامع مثله بمنزلة المحرم (1) فتصح الخلوة معه.
وذهب الشافعية إلى أن الخصي والمجبوب والمخنث والشيخ الفاني، يعد كل منهم في حكم الأجنبي بخلاف الممسوح ذكره وأنثياه الذي لا ميل له للنساء، فتصبح الخلوة معه لانتفاء مظنه الفتنة، غير أنه يشترط أن يكون مسلما عفيفا (2) .
ومنع الحنابلة المرأة من الخلوة بالخصي والمجبوب، لأن العضو وإن تعطل أو عدم فشهوة الرجال لا تزول من قلوبهم، ولا يؤمن التمتع بالقبل وغيرها.
__________
(1) حاشية ابن عابدين ج6 \ 368.
(2) انظر فتح الجواد 2 \ 69 ونهاية المحتاج 6 \ 190 وبجيرمي على الخطيب 3 \ 314.(28/246)
وكذا لا يباح خلوة الرجال بالرتقاء من النساء لهذه العلة (1)
__________
(1) انظر الإنصاف 8 \ 22 وكشاف القناع 5 \ 13، 16.(28/247)
المبحث السادس: خلوة الرجل بأكثر من امرأة
ذهب الحنفية إلى حرمة خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية وإن كان معها أخرى.
وفي إمامة البحر عن الإسبيجاني (ويكره أن يؤم النساء وليس معهن رجل ولا محرم، ولا امرأة هو محرم لها) فعلة الكراهية التحريمية هنا الخلوة وهذا النص يفيد أن الخلوة لا تنتفي بوجود امرأة أخرى ولا تعتبر من محارم الرجل مما يدل على عدم صحة خلوة الرجل بامرأة أخرى وإن وجدت معها امرأة ثقة (1) .
ومنع الشافعية الخلوة بالمرأة إذا لم يوجد معها امرأة ثقة وعند الحنابلة يحرم خلوة الرجل مع عدد من النساء (2) وأجاز المالكية خلوة الرجل بالمرأتين (3) وقيد الشافعية الجواز بكون مع الرجل امرأة ثقة فقالوا بجواز الخلوة للعلاج ونحوه لأن المرأة تستحي من الأخرى، فلا تمكن من نفسها بحضرة غيرها فاستحياؤها أكثر من استحياء الرجل بشرط أن تكون المرأة ثقة، فالمرأة قد لا تستحي من غير الثقة فإذا لم يكن ثقات فلا تصح الخلوة (4) .
والجواز قول عند الحنابلة إذا وجدت امرأة ثقة قادرة على الحماية والرعاية (5) قلت: وعلى القول باشتراط المرأة الثقة لإباحة الخلوة لا بد من شرطين آخرين:
__________
(1) انظر حاشية ابن عابدين ج 6 \ 368.
(2) انظر منتهى الإرادات 2 \ 154.
(3) انظر حاشية العدوي 2 \ 422.
(4) انظر رقم 1.
(5) انظر حاشية ابن عابدين 6 \ 368.(28/247)
1 - الحاجة لهذه الخلوة فإن لم توجد حاجة فلا تصح.
2 - تعذر وجود المحرم بسبب مشروع وإلا فالقول بالحرمة المطلقة أولى.(28/248)
المبحث السابع: خلوة المرأة بأكثر من رجل.
ذهب الشافعية إلى حرمة خلوة رجلين أو رجال بامرأة ولو بعدت مواطأتهم على الفاحشة؛ لأن الرجل قد يمن من نفسه فعل الفاحشة بحضرة (1) الآخر وبهذا قال الحنابلة في الراجح عندهم إذ تحرم خلوة الأجانب بالأجنبية وليس فيهم محرم وهذا هو القول المشهور في المذهب (2) وقيد المالكية منع خلوة الرجلين بالمرأة إن كانا أحدهما شابا، لأن معهما شيطانين ومع المرأة شيطان (3) والحنفية قالوا: تنتفي الخلوة بوجود رجل آخر إذ قالوا " يكره للرجل أن يؤم النساء في بيت وليس معهن رجل ولا محرم ومعنى هذا جواز خلوة الرجلين بالمرأة" (4) .
قلت: ومذهب الحنفية قد لا يدل على حل خلوة الرجلين بالمرأة إذ أنهم قالوا بذلك إذا كن أكثر من امرأة فلا بد من رجلين معهن وهي حالة من حالات الخلوة فالرجل الواحد لا يكفي مع عدد من النساء، والحنابلة قالوا يتوجه وجه بجواز خلوة الرجال بالأجنبية لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- «أن نفرا من بني هاشم دخلوا على أسماء بنت عميس فدخل أبو بكر الصديق وهي تحته يومئذ فرآهم فكره ذلك فذكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: لم أر إلا خيرا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن الله قد برأها من ذلك ثم قام رسول الله -صلى الله
__________
(1) انظر مغني المحتاج ج 3 \ 407.
(2) انظر الإنصاف 9 \ 314وانظر منتهى الإرادات 2 \ 154.
(3) انظر حاشية العدوي 2 \ 422.
(4) انظر حاشية ابن عابدين 6 \ 368.(28/248)
عليه وسلم- على المنبر فقال: لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أول اثنان (2) »
قال النووي: المغيبة هي التي غاب عنها زوجها والمراد غاب زوجها عن منزلها سواء غاب عن البلد بأن سافر أو غاب عن المنزل وإن كان في البلد. . ثم إن ظاهر هذا الحديث جواز خلوة الرجلين أو الثلاثة بالأجنبية، والمشهور عند أصحابنا تحريمه فيتأول الحديث على جماعة يبعد وقوع المواطأة منهم على الفاحشة لصلاحهم أو مروءتهم أو غير ذلك (3) .
قال القاضي تعليقا على هذا الوجه القائل بجواز خلوة الرجال بالأجنبية " من عرف بالفسق منع من الخلوة بالأجنبية والأشهر والتحريم مطلقا وذكره جماعة إجماعا" (4) .
قلت: والمنع أولى من القول بالجواز وهو الأحوط لصيانة العرض وأبعد عن الريبة وأسلم للذمة.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب السلام باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها صحيح مسلم بشرح النووي 14 \ 155 وأخرجه أحمد \ الفتح الرباني 5 \ 83 وج 21 \ 419.
(2) انظر الإنصاف 9 \ 314. (1)
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 14 \ 155.
(4) الإنصاف 9 \ 314.(28/249)
المبحث الثامن: الأدلة الشرعية لتحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية:
بعد أن علمنا حقيقة الخلوة وما يتفرع عنها من أحكام قررت تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية في جميع حالاتها السابقة فما هوا المستند الشرعي لذلك؟
لقد حصل تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية باتفاق المسلمين (1) وقد دلت على ذلك النصوص الشرعية ومنها:
1 - ما ورد عن جابر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم فإن ثالثهما الشيطان (2) » .
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 11 \ 505.
(2) رواه أحمد في مسنده 3 \ 339.(28/249)
ففي هذا الحديث بيان أن من مقتضى الإيمان عدم الخلوة بالأجنبية، لا سيما وأن في الخلوة مشاركة للشيطان في هذا الاجتماع، وهو لا يوجد إلا ليوقع في الحرام، مما يدل على حرمة الخلوة بالمرأة الأجنبية.
2 -عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «ألا لا يبيتن رجل عند امرأة ثيب إلا أن يكون ناكحا أو ذا محرم (1) » .
ففي هذا الحديث نهى عن المبيت عند المرأة الأجنبية والمبيت يقتضي الخلوة وهذا النهي يقتضي التحريم مما يدل على حرمة الخلوة بالأجنبية.
3 - عن عقبة بن عامر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال «إياكم والدخول على النساء فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو قال الحمو الموت (3) » ففي هذا الحديث نهي عن الدخول على النساء، والدخول يعني الخلوة بهن والنهي يقتضي التحريم، مما يدل على حرمة الخلوة بالأجنبية.
جاء في فيض القدير أثناء شرحه لهذا الحديث (وهو تنبيه المخاطب على محذور ليتحرز منه أي اتقوا الدخول على النساء ودخول النساء عليكم وتضمن منع الدخول منع الخلوة بالأجنبية من باب أولى والنهي ظاهر العلة، والقصد به غير ذوات المحرم. . أي دخوله على زوجة أخيه يشبه الموت في الاستقباح والمفسدة فهو محرم شديد التحريم، وإنما بالغ في الزجر بتشبيهه بالموت لتسامح الناس في ذلك حتى كأنه غير أجنبي من المرأة، وخرج هذا مخرج قولهم الأسد الموت أي لقاؤه يفضي إليه، وكذا دخول الحمو عليها
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب السلام باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها \ صحيح مسلم بشرح النووى 14 \ 153.
(2) أخرجه البخاري في كتاب النكاح باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم والدخول على المغيبة ج 6 \ 159 وأخرجه مسلم في كتاب السلام باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها صحيح مسلم بشرح النووي 14 \ 153.
(3) انظر مجموع فتاوى ابن تيميه 11 \ 505. (2)(28/250)
يفضي إلى موت الدين، أو إلى موتها بطلاقها عند غيرة الزوج أو برجمها إن زنت معه وقد بالغ مالك في هذا الباب حتى منع ما يجر إلى التهم، كخلوة امرأة بابن زوجها وإن كانت جائزة، لأن موقع امتناع الرجل من النظر بشهوة لامرأة أبيه ليس كموقعة منه لأمه، هذا قد استحكمت عليه النفرة العادية وذاك أنست به النفس الشهوانية، والحمو أخو الزوج وقريبه (1) والخوف من الحمو بهذا النهي جاء لأن الخوف منه أكثر من غيره، والشر يتوقع منه، والفتنة أكثر، لتمكنه من الوصول إلى المرأة، والخلوة بها من غير أن ينكر عليه بخلاف الأجنبي (2) .
3 -لأن الأصل كلما كان سببا للفتنة ينبغي حسم مادته، وسد ذريعته، ودفع ما يفضي إليه إذا لم يكن منه مصلحة راجحة (3) ، مما يدل على حرمة الخلوة بالأجنبية.
__________
(1) فيض القدير 3 \ 124.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 14 \ 154.
(3) انظر مجموع فتاوى ابن تيميه ج28 \ 370 وج15 \ 419 وانظر بدائع الصنائع ج 5 \ 125.(28/251)
المطلب الثاني: السفر بالمرأة الأجنبية:
سفر المرأة بدون محرم لها لا بد أن يقتضي خلوة الغير بها إما أثناء السفر أو بعده فالسفر مظنة الخلوة وإن سافرت مع عدد من النساء أو الرجال في الطائرة أو القطار أو السيارة لذا يحسن بنا أن نعرف مدى حكم سفر المرأة بدون محرم لها فأقول وبالله التوفيق:
ذهب الحنفية إلى أنه لا يجوز للحرة أن تسافر بغير محرم، فسفرها مع غير المحرم خلوة محرمة (1) .
__________
(1) انظر نصاب الاحتساب للسنامي 132 \ 241 والفتاوى الهندية 5 \ 366.(28/251)
وبذلك قال المالكية (1) وقيدوا التحريم بالمرأة الشابة أما المتجالة فيجوز لها السفر بدون محرم.
ومنع الشافعية سفر المرأة بدون محرم لها (2) وبذلك قال الحنابلة (3) حتى مع الأمن فقالوا: يحرم على الرجل السفر بأخت زوجته ولو كانت أختها برفقتها مع زوجها (4) .
ويرى الحنفية حرمة سفر المرأة ثلاثة أيام فما فوقها بدون محرم واختلفت الروايات عندهم فيما دون ذلك.
قال أبو يوسف رحمه الله: كره لها أن تسافر يوما بغير محرم وهكذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله. قال الفقيه أبو جعفر واتفقت الروايات في الثلاث أما ما دون الثلاث فهو أهون من ذلك (5) .
قلت: الأولى منع السفر بدون محرم ولو دون الثلاث، لأن الأزمان تتغير فيكثر الفساق وتنتشر الذئاب الآدمية، والمرأة لا بد لها من حصن يحفظها، وكيف لها ذلك بدون محرم يمنع عنها الردى وتعدي الفساق.
ولذلك قال الحنفية: لا يجوز للمرأة أن تسافر مع نساء ثقات لخشية وقوع الفتنة معهم لعدم إمكان استعانتهن بالمفازة بأحد من جماعة المسلمين (6) فما دون الثلاث مفازة.
__________
(1) انظر الكافي في فقه أهل المدينة 2 \ 1134 وكفاية الطالب الرباني 4 \ 164.
(2) فتح الجواد 1 \ 315.
(3) مجموع فتاوى ابن تيميه 28 \ 370.
(4) انظر الإنصاف 9 \ 314.
(5) انظر تبيين الحقائق للزيلعي 3 \ 37 وحاشية ابن عابدين 6 \ 368.
(6) معالم السنن 2 \ 144.(28/252)
أما سفر المرأة للحج بدون محرم.
فبعض الحنفية يرى جواز سفر المرأة مع رجال صالحين (1) .
وأجاز المالكية سفرها بدون محرم للحج خاصة وقالوا: إذا لم يكن محرم فتخرج مع جماعة النساء (2) وقيد بعضهم الجواز أن تكون الرفقة مأمونة وإلا لم يجز (3) .
وبهذا قال الشافعية فيصح للمرأة أن تسافر للحج مع نساء ثقات، بأن بلغن وجمعن صفات العدالة وإن كن إماء، لانقطاع الأطماع باجتماعهن، فلا تكفي المراهقات إلا أن جعل معهن الأمن، وغير الثقات لا يصح أن تسافر معهن للحج، لأن الفاسقة لا تأنف من منع محرمها بخلاف الرجل وقيل: لا بد من ثلاث نسوة. وقيل: يكفي اثنتان غيرها (4) والقول الأخير لا يصح، لأنه بذهاب واحدة منهن يخشى على الباقية (5) .
وقرر الشافعية أن الواجب عليها الخروج مع واحدة لغرض الحج أو العمرة، بل أجازوا خروجها لوحدها إذا تيقنت الأمن وهو محمل الأخبار الدالة على حل سفرها.
__________
(1) انظر الفتاوى الهندية 5 \ 366.
(2) انظر الكافي في فقه أهل المدينة 2 \ 1134 وكفاية الطالب الرباني 4 \ 164.
(3) انظر كفاية الطالب الرباني 4 \ 165.
(4) انظر فتح الجواد 1 \ 315.
(5) انظر إعانة الطالبين 2 \ 283.(28/253)
أما سفرها لغير فرض الحج فحرام مع النسوة مطلقا، وإن قصر السفر أو كانت شوهاء، إذ لا واجب هنا حتى يغتفر لمصلحة تحصيله الاكتفاء بأدنى مراتب الأمن (1) .
وجعلوا في حكم المحرم جواز سفرها مع الممسوح ذكره وأنثياه ولم يبق فيه ميل للنساء، لانتفاء مظنة الفتنة، لكن بشرط أن يكون مسلما عفيفا (2) .
أما الحنابلة فيرون حرمة سفر المرأة مع غير محرمها مطلقا للحج وغيره، فلا يحل للمرأة أن تسافر إلا مع ذي محرم (3) .
ومن يرى أن المرأة يجوز لها السفر للحج بلا محرم فقد استدل بما يلي:
أولا: بما روي عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال «جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله: ما يوجب الحج قال:) الزاد والراحلة (4) » .
قالوا: فإذا قدرت المرأة على هذه الاستطاعة وجب أن يلزمها الحج ولو بدون محرم ويتأولون خبر النهي على الأسفار التي هي متطوعة بها دون السفر الواجب إذ لا يشترط له محرم.
__________
(1) انظر فتح الجواد 1 \ 315 وإعانة الطالبين 2 \ 283.
(2) انظر نهاية المحتاج 6 \ 190.
(3) مسائل الإمام أحمد 1 \ 142.
(4) رواه الترمذي واللفظ له في كتاب الحج باب ما جاء في إيجاب الحج بالزاد والراحلة قال أبو عيسى: هذا حديث حسن وفيه إبراهيم بن يزيد الخوزي المكي وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه \ الجامع الصحيح 3 \ 177 ورواه ابن ماجه في كتابه المناسك باب ما يوجب الحج ورواه عن ابن عباس قال الألباني عنه في إرواء الغليل: حديث رقم 988 ضعيف.(28/254)
ويجاب عن ذلك بما يلي:
1 - هذا الحديث قد تكلم فيه فإبراهيم الخوزي -وهو أحد رواته- متروك الحديث وقد روى ذلك عن طريق الحسن مرسلا وهو لا يحتج به عند الشافعي وهو ممن لا يرى اشتراط المحرمية في الحج (1) .
2 - أن الحديث في اشتراط الزاد والراحلة خاص بالرجل دون المرأة إذ يشترط للمرأة خروج غيرها معها وهذا لا يشترط في الرجل. فجعل ذلك الغير محرما للمرأة وبينه -صلى الله عليه وسلم- في الأحاديث المشترطة للمحرمية.
3 - يحتمل أنه أراد اشتراط الزاد والراحلة لوجوب الحج مع كمال بقية الشروط الأخرى، ولذلك اشترطوا تخلية الطريق، وإمكان السير، وقضاء الدين، ونفقة العيال.
واشترط المالكية إمكان الثبوت على الراحلة، وهو غير مذكور في الحديث، وهذه الشروط ليست واردة لا في الكتاب ولا في السنة وإنما شرط المحرمية وارد في السنة فهو أولى بالاشتراط.
3 - لو قدر التعارض فاشتراط الزاد والراحلة عام بما خصص من اشتراط المحرمية (2) ثانيا: بما روي عن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- قال (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لتوشكن الظعينة من الحيرة تؤم البيت لا جوار معها لا تخاف إلا الله (4) » ففي هذا الحديث إخبار بأن المرأة تسافر للحج من الحيرة إلى البيت ولا محرم معها مما يدل على عدم اشتراطه للحج.
__________
(1) معالم السنن 2 \ 144.
(2) المغني لابن قدامه3 \ 238.
(3) رواه أحمد في مسنده 4 \ 257، 378.
(4) المغني لابن قدامة 3 \ 237. (3)(28/255)
ويجاب عن ذلك:
بأن حديث عدي يدل على وجود السفر لا على جوازه، ولذلك لم يجز في غير الحج المفروض ولم يذكر فيه خروج غيرها معها، وقد اشترطوا ها هنا خروج غيرها معها (1) .
ثالثا: أنه سفر واجب فلم يشترط له المحرمية كالمسلمة إذا تخلصت من أيدي الكفار. وكذا الكافرة إذا أسلمت في دار الحرب فإنه يجب السفر إلى بلاد الإسلام بلا محرم فكذلك الحج (2) ويجاب على ذلك: بأن سفر المسلمة والكافرة إذا أسلمت في بلاد الكفر سفر ضرورة لا يقاس عليها حالة الاختيار ولذلك تخرج فيه وحدها. ولأنها تدفع ضررا متيقنا يتحمل الضرر المتوهم لذا لا يلزم تحمل ذلك من غير ضرر أصلا (3) .
ثم لو سلمنا بمساواة جواز سفرها للحج بما ذكروه لجاز لها أن تحج وحدها كما تفعل المسلمة أو الأسيرة. فإذن لم اشترطوا وجود امرأة ثقة للحج أو جماعة صالحة؟ فلما لم يبح لها في الحج أن تخرج وحدها دل على الفرق بين الأمرين، مما يدل على عدم جواز سفر المرأة وحدها لا في حج ولا في غيره (4) .
قلت: إن سفر المرأة لوحدها عرضة لفساد دينها وخلقها بما قد تتعرض له أثناء الطريق أو الإقامة في البلدان التي تمر عليها ففي السفر مظنة حصول الخلوة فالطائرة قد يحصل بها بعض العطل فتضطر للنزول ومن هنا لا محرم مما قد يجر الرجل إلى الخلوة بها في الفندق المهيأ لانتظار الركاب وفي السفينة قد يدعوها قبطانها أو أحد الركاب في غرفته فتحصل الخلوة. لهذا فإن عين المحرمية متابعة دائمة، والذئب إنما يأكل القصية من
__________
(1) انظر المغني لابن قدامة 3 \ 238.
(2) انظر المغني لابن قدامة 3 \ 237 وانظر معالم السنن 2 \ 145.
(3) انظر المغني لابن قدامة 3 \ 238.
(4) معالم السنن 2 \ 145.(28/256)
الغنم التي لا حارس يحرسها ولا حامي يحميها.
وإذا سقط الحج عن المريض والعاجز عن الزاد والراحلة فلئن يسقط عن المرأة التي لم تجد محرما من باب أولى.
ولو نظرنا إلى واقعنا اليوم لرأينا أن النساء المصاحبات لمحارمهن أكثر حشمة ووقارا، بل تمتنع نظرات الغير من متابعتهن، فضلا عن ملاحقتهن ومطاردتهن، بخلاف النساء اللاتي يتجولن في الأسواق والشوارع بدون محارم، أو مع سائقين لا محرمية لهم، فقد تكون الحشمة لدى بعضهن أقل، وقد يضايقن من أصحاب الشهوات والقلوب المريضة.
واجتماع النسوة لا يمنع الغير من مضايقتهن ومحاولة تدنيس خلقهن وإيقاعهن فيما منعن منه، وإذا كان هذا في الحضر فكيف بالسفر لوحدهن مما يؤكد عدم حل المرأة مع غير محرمها من زوج أو قريب مهما كان نوع السفر ومدته.
ويؤيد ما ذهب إليه الحنابلة من الحرمة المطلقة عموم الأدلة الواردة في منع سفر المرأة وحدها سواء كان لحج أم غيره ومنها:
1 - عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال سمعت أربعا من النبي -صلى الله عليه وسلم- فأعجبتني قال: «لا تسافر المرأة مسيرة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم (2) »
2 - عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لا يخلو رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم (3) » .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الصوم -باب صوم يوم النحر 2 \ 249 ومسلم في كتاب الحج -باب سفر المرأة مع محرم إلى حج أو غيره \ صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 106.
(2) انظر مجموع فتاوى ابن تيميه 28 \ 370. (1)
(3) رواه مسلم في كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج أو غيره، 3- صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 109.(28/257)
4 - عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرم (1) » .
6 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر يوما وليلة إلا مع ذي محرم من أهلها (2) » .
وفي رواية: «لا تسافر امرأة مسيرة يوم تام إلا مع ذي محرم (3) » وفي رواية قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها (4) » .
ففي هذه الأدلة نهي عن سفر المرأة بدون محرم، والنهي يقتضي التحريم مما يدل على عدم حل سفر المرأة وحدها مهما كانت مدة السفر، قال النووي (5) : (قوله لا تسافر المرأة ثلاثا إلا ومعها ذو محرم. . وفي رواية لأبي داود ولا تسافر بريدا والبريد مسيرة نصف يوم. قال العلماء: اختلاف هذه الألفاظ لاختلاف السائلين واختلاف المواطن وليس في النهي عن الثلاثة تصريح بإباحة اليوم والليلة أو البريد. قال البيهقي: كأنه -صلى الله عليه وسلم- سئل عن المرأة تسافر ثلاثا بغير محرم فقال: لا. وسئل عن سفرها يومين بغير محرم فقال: لا وسئل عن سفرها يوما فقال: لا وكذلك
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج أو غيره، 5- صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 103.
(2) رواه مسلم في كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج أو غيره، 7- صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 107 ورواه أحمد، 8- الفتح الرباني 5 \ 86 ورواه الترمذي في الكتاب الرضاع، 9- باب ما جاء في كراهية المرأة أن تسافر وحدها وقال: هذا حديث حسن صحيح \ سنن الترمذي 3 \ 473.
(3) لمسلم في كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج أو غيره. صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 107. وأحمد، الفتح الرباني 5 \ 87.
(4) لمسلم في كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج أو غيره، صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 107. وأبي داود في كتاب المناسك باب المرأة تحج بغير محرم، معالم السنن 2 \ 144.
(5) في شرحه على صحيح مسلم 9 \ 103.(28/258)
البريد فأدى كل منهم ما سمعه. وما جاء منها مختلفا عن رواية واحدة فسمعه في مواطن فروى تارة هذا وتارة هذا وكله صحيح، وليس كله تحديد لأقل ما يقع عليه اسم السفر، ولم يرد -صلى الله عليه وسلم- تحديد أقل ما يسمى سفرا، فالحاصل أن كل ما يسمى سفرا تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم، سواء كان ثلاثة أيام أو يومين أو بريدا أو غير ذلك، لرواية ابن عباس المطلقة وهي آخر روايات مسلم «لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم (1) » وهذا يتناول جميع ما يسمى سفرا) .
ولا ينبغي التفريق بين نوع السفر فالحرمة واحدة سواء أكان السفر للحج أم لغيره. فالمرأة إذا لم تجد المحرم سقط عنها الحج، لأنه من السبيل الذي ذكره الله في قوله سبحانه {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (2) فإذا لم يكن لها محرم، فلا تستطيع إلى هذا السبيل (3) .
قال الخطابي: (قلت: في هذا بيان أن المرأة لا يلزمها الحج إذا لم تجد رجلا ذا محرم يخرج معها. . وقال الشافعي: تخرج مع امرأة حرة مسلمة ثقة من النساء. قلت: المرأة الحرة المسلمة الثقة التي وصفها الشافعي لا تكون ذا حرمة منها، وقد حظر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تسافر إلا ومعها ذو محرم منها، فإباحة الخروج لها في سفر الحج مع عدم الشريطة التي أثبتها النبي -صلى الله عليه وسلم- خلاف السنة، فإذا كان خروجها مع غير ذي محرم معصية، لم يجز إلزامها الحج وهو طاعة. بأمر يؤدي إلى معصية) (4) خاصة وأنه مع وجود غير المحرم قد تتعرض المرأة أثناء سفرها لما لا ينبغي لها لعدم وجود من يمنع عنها الردى، أو يشفق عليها لو حصل لها مكروه، ولذلك، نرى الإمام مالكا يكره خروج المرأة للحج مع ابن زوجها وإن كان ذا محرم منها (5) .
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1862) ، صحيح مسلم الحج (1341) ، سنن ابن ماجه المناسك (2900) ، مسند أحمد بن حنبل (1/222) .
(2) سورة آل عمران الآية 97
(3) الجامع الصحيح للترمذي 3 \ 473.
(4) معالم السنن 2 \ 144.
(5) شرح الزرقاني على موطأ مالك ج 2 \ 402 طبع دار الفكر.(28/259)
وإذا كان مالك يكره ذلك مع ابن الزوج وهو محرم، فالقول بالحرمة مع غير المحرم أولى.
ولا حاجة للتفريق بين المرأة الشابة والمتجالة، لأن مناط النهي للتحريم كما في الأحاديث كونها امرأة وهو وصف منضبط يصلح لأن يكون علة للتحريم، بخلاف كونها شابة أو متجالة، خاصة وأن بعض النفوس قد تتعلق بالمرأة المتجالة أيضا فكل ساقطة في الحي لها لاقطة، وقد رد النووي على هذا بقوله (وهذا الذي قاله الباجي لا يوافق عليه؛ لأن المرأة مظنة الطمع فيها، ومظنة الشهوة، ولو كانت كبيرة، وقد قالوا لكل ساقطة لاقطة. ويجتمع في الأسفار من سفهاء الناس وسقطهم من لا يرتفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها. لغلبة شهوته، وقلة دينه ومروءته وخيانته، ونحو ذلك) (1) .
ومما يؤيد حرمة سفر المرأة بدون محرم للحج ما ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله إني كتبت في غزوة كذا وكذا وامرأتي حاجة قال ارجع وحج مع امرأتك (2) » ففي هذا الحديث دلالة على تقديم الأهم من الأمور المتعارضة، لأنه لما تعارض سفره في الغزو وفي الحج معها رجح الحج معها، لأن الغزو يقوم غيره مقامه بخلاف الحج معها (3) وهذا يدل على أن المحرم لا ينوب عنه جماعة المسلمين الصالحين أو النساء الثقات، وإلا لما أمره -صلى الله عليه وسلم- بالرجوع عن الجهاد والتخلف عنه لا سيما وأن من يتخلف عنه منافق معلوم النفاق.
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 104، 105.
(2) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب كتابة الإمام الناس 3 \ 34 واللفظ له ورواه مسلم في كتاب الحج آخر باب سفر المرأة مع محرم إلى حج أو غيره، صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 109، 110.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 110.(28/260)
الفصل الثالث: الخلوة بالأمرد
ذهب الشافعية على الصحيح عندهم (1) والحنابلة (2) إلى حرمة الخلوة بالأمرد مطلقا أمنت الفتنة أو لم تؤمن. وهو اتجاه عند المالكية.
ونص الحنابلة على المنع ولو لمصلحة تعليم وتأديب فمن الخلوة بالأمرد علم عنه محبتهم أو معاشرة بينهم منه من تعليمهم (3) .
واستثنى الشافعية من الإطلاق صحة الخلوة للتعليم إن أمنت الفتنة (4) ورتب الشافعية على قولهم هذا عدم صحة سفر الأمرد الجميل إلا مع محرم (5) .
وقالوا: لا يصح للرجل أن يخلو بأمردين فإن الأمرد قد يمكن من نفسه بحضرة الآخر، لا سيما إذا كان اجتماع المردان على رذيلة (6) .
وقالوا أيضا: لا يحل للرجل أن يبيت مع أمرد في مكان واحد. وحرموا الخلوة معه في بيت أو حانوت أو حمام (7) .
__________
(1) انظر مغني المحتاج ج3 \ 131 ونهاية المحتاج ج 6 \ 193.
(2) انظر مجموع فتاوى ابن تيميه ج 32 \ 248 وج 11 \ 542، 544 والفروع 5 \ 158 وكشاف القناع ج5 ص15، 16.
(3) انظر الفروع ج5 ص 158 وكشاف القناع ج5 ص 16.
(4) انظر قليوبي وعميرة ج3 ص 211 والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2 ص121.
(5) انظر فتح الجواد ج1 ص315.
(6) انظر بجيرمي على الخطيب ج3ص320.
(7) بجيرمي على الخطيب ج3ص323.(28/261)
وذهب الحنفية (1) والمالكية (2) والرواية الثانية عند الشافعية (3) إلى عدم حرمة الخلوة بالأمرد إن أمنت الفتنة ولو لغير مصلحة.
ومن ذهب إلى حرمة الخلوة بالأمرد استدل بما يلي:
1 - عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها فإن ثالثهما الشيطان (4) » .
ففي هذا الحديث بيان بأن في خلوة الرجل مع المرأة مشاركة للشيطان -وهو لا يوجد إلا للحث على فعل محرم- مما يدل على حرمة الخلوة بالمرأة، وفي المرد من يفوق النساء لحسنه، والفتنة به أعظم، مما يدل على تحريم الخلوة به.
2 - أنه يمكن معه من الشر والفتنة والقبائح ما لا يمكن من النساء ويسهل في حقه من طرق الريبة ما لا يسهل في حق النساء، 3- فكان بالتحريم أولى وأليق وبالزجر عن مخالطته والنظر إليه أحق (5) .
4 - أن في مخالطة المردان طريقا إلى القبح وفعل الشر مهما كانت منزلة المختلط معه (6) .
5 - أن السلف -رضي الله عنهم- كانوا ينهون عن مجالسة المرد. من ذلك ما يلى:
__________
(1) انظر الفتاوى الهندية ج5 ص330.
(2) انظر شرح الرسالة ج2 ص343 والشرح الصغير على أقرب المسالك ج1 ص 404 وبلغة السالك ج1 ص 106.
(3) انظر مغني المحتاج ج3ص131.
(4) سبق تخريجه ص7.
(5) انظر بجيرمي على الخطيب ج3 ص 323 وإعانة الطالبين ج 3 \ 263.
(6) انظر بجيرمي على الخطيب ج12ص371 انظر بجيرمي على الخطيب ج3 ص323.(28/262)
1 - قال الحسن بن ذكوان -من أكابر السلف- لا تجالسوا أولاد الأغنياء فإن لهم صورا كصور العذارى وهم أشد فتنة من النساء.
2 - قال بعض التابعين: ما أنا بأخوف على الشاب الناسك من سبع ضار من الغلام الأمرد يقعد إليه.
ج- أمر سفيان الثوري -وهو الذي انتهت إليه رسالة العلم والصلاح- بإخراج أمرد دخل عليه الحمام. وقال: أخرجوه فإني أرى مع كل امرأة شيطانا ومع كل أمرد سبعة عشر شيطانا.
د- قال فتح الموصلي: أدركت ثلاثين من الأبدال كلهم نهاني عند مفارقتي إياهم عن صحبة الأحداث. قال معروف الكرخي كانوا ينهون عن ذلك (1) .
- دليل من يرى عدم حرمة الخلوة بالأمرد مع أمن الفتنة.
1 - إن أحوال الناس ومخالطة الصبيان من عصر الصحابة إلى الآن يدل على إباحة الخلوة بهم (2) .
الترجيح: من خلال ما عرض أرى أن الراجح حرمه الخلوة بهم لغير حاجة وجوازها مع الحاجة إذا أمنت الفتنة لما يلي:
1 - أن التحريم مع عدم الحاجة إلى الخلوة فيه سد للذرائع وهو أقرب للاحتياط (3) .
2 - حمل الأدلة المحرمة للخلوة في حال خوف الفتنة (4)
__________
(1) انظر بجيرمي على الخطيب ج3 \ 323 وانظر إعانة الطالبين 3 \ 263 وانظر مجموع فتاوى ابن تيميه ج11ص545.
(2) انظر مغني المحتاج ج3 \ 131.
(3) انظر شرح الرسالة 2 \ 343 والشرح الصغير على أقرب المسالك 1 \ 404 وبلغة السالك 1 \ 106.
(4) انظر مغني المحتاج ج3 ص131.(28/263)
الفصل الرابع: الخلوة بالخنثى المشكل والسفر به.
ذهب الحنفية إلى كراهة الخلوة به ممن ليس بمحرم له وهي كراهية تحريم (1) وإلى هذا ذهب الشافعية والحنابلة (2) .
قال الحنفية: وإذا خلا الخنثى برجل فمن الجائز أنه امرأة فتكون هذه خلوة رجل بامرأة أجنبية، وإذا خلا بامرأة فمن الجائز أنه ذكر خلا بأجنبية، والمراهقة في المنع من هذه الخلوة كالبالغة، لأن المنع لخوف الفتنة (3) .
وقال الشافعية: ولا يجوز أن يخلو به أجنبي ولا أجنبية ولو كان مملوكا لامرأة (4) .
وقال الحنابلة: تحرم الخلوة بالخنثى المشكل لغير محرم من رجل أو امرأة تغليبا لجانب الحظر في أي من الحالين (5) .
واستدلوا على حرمة الخلوة به بما ورد عن جابر -رضي الله عنه-: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم فإن ثالثهما الشيطان (7) » والاحتمال أنه امرأة فحرم خلوة الرجل به والعكس بالعكس.
__________
(1) انظر المبسوط للسرخسي 30 \ 108 والفتاوى الهندية 6 \ 438.
(2) انظر كشاف القناع 5 \ 16، 15.
(3) انظر المبسوط للسرخسي ج 30 \ 108 والفتاوى الهنديةج6 ص438.
(4) انظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2 \ 122 ونهاية المحتاج 6 \ 195 وحاشية البيجوري 2 \ 99.
(5) انظر كشاف القناع 5 \ 15، 16.
(6) سبق تخريجه ص7.
(7) سبق تخريجه ص7. (6)(28/264)
- أما السفر به فعاملوه معاملة المرأة الأجنبية. فقال الحنفية: لا بأس أن يسافر الخنثى مع محرم من الرجال (1) ومعنى هذا أنه بدون محرم لا يحل له السفر، لأنه قد يكون امرأة فيجب منعه من السفر مع الرجال.
أما الشافعية فقالوا بجواز سفره للحج مع امرأتين، لأنه إذا جاز ذلك للرجل فالخنثى المحتمل للرجولة أولى، وليس سفره معهن مظنة الخلوة بأي منهم على حدة خلافا لمن زعمه (2) .
أما الحنابلة فسبق أن منعوا سفر الأجنبية بدون محرم ولو مع عدد من النساء ولاحتمال كون الخنثى امرأة فلا يصح سفره بدون محرم (3) .
قلت: والأولى معاملته بكونه أنثى ومنع الخلوة والسفر به بدون محرم وهذا أحوط من القول بالجواز إلا إذا ظهرت علامات تغليب جانب الذكورة فيجوز له السفر بدون محرم.
__________
(1) انظر الفتاوى الهندية 6 \ 438.
(2) انظر فتح الجود 1 \ 315.
(3) انظر ص 254 في منع سفر المرأة مطلقا للحج أو غيره بدون محرم.(28/265)
الفصل الخامس: خلوة المرأة بمملوكها والسفر معه
ذهب الحنفية والحنابلة إلى أن المملوك لا يصح أن يكون محرما لها في السفر ولا يعد من المحارم في ذلك (1) سواء كان فحلا أو مجبوبا أو خصيا (2) .
وذهب الشافعية إلى أن مملوك المرأة يصح أن يكون محرما لها على الأصح عند الأكثرين (3) ، فله الخلوة بها، والمسافر معها (4) إن كان ثقة وممسوحا لم يبق فيه شهوة للنساء (5) والمقصود بذلك الملكية التامة (6) .
واستدل الشافعية بما يلى:
1 - قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} (7) ثم قال سبحانه {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} (8) ففي هذه الآية ذكر سبحانه المملوك مع ذوي الأرحام في إباحة النظر مما يدل على أنه يأخذ حكمهم في الخلوة أيضا (9) .
2 - عن أنس -رضي الله عنه- «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى
__________
(1) انظر الكافي لابن قدامه 3 \ 6 ومجموع فتاوى ابن تيميه 22 \ 111.
(2) انظر نصاب الاحتساب للسنامي ص 132 وانظر فيض القدير 4 \ 105.
(3) انظر روضة الطالبين 7 \ 23 والمجموع 15 \ 11، 18 وفتح الجواد 1 \ 315 وج 2 \ 69.
(4) انظر المجموع 15 \ 16، 18 وانظر مغني المحتاج 6 \ 190.
(5) فتح الجواد 1 \ 315 وانظر فيض القدير 4 \ 106.
(6) الفتاوى الكبرى للهيثمي 4 \ 83.
(7) سورة النور الآية 31
(8) سورة النور الآية 31
(9) المجموع ج 15 ص12، 2- 18 والمغني لابن قدامة 6 \ 556، 3- 557 ومجموع فتاوى ابن تيميه 22 \ 111.(28/266)
فاطمة بعبد قد وهبه لها قال وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها.
فلما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما تلقى قال: إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك (2) » ففي هذا دلالة على إباحة النظر مما يدل على حل الخلوة والمسافرة بها.
ويجاب عن الاستدلالين السابقين بأن إباحة النظر لا تعني حل الخلوة والسفر، لأن النظر أجيز للحاجة كالشاهد والخاطب وكغير أولي الإربة فلهم النظر وليس لهم السفر والمحرمية (3) .
3 - إن المملوك يحرم عليه حرمة الزواج من سيدته فكان محرما كالأقارب (4) ويجاب عن ذلك بأن الحرمة المؤقتة هذه لا تقتضي النفرة الطبيعية بدليل السيد مع أمته وبالتالي فلا يؤمن عليها مما يدل على عدم صحة القياس على الأقارب (5) .
واستدل الحنفية والحنابلة بما يلي:
1 - بما روي عن ابن عمر -رضي الله عنه- أن النبي صلى اله عليه وسلم قال.
«سفر المرأة مع عبدها ضيعة (7) »
ففي هذا الحديث بيان في أن سفر المرأة مع عبدها ضياع للمرأة وما يؤدي إلى ضياعها لا يجوز. فإخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك دليل على تحريم سفر العبد بسيدته وخلوته بها.
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب اللباس باب في العبد ينظر إلى شعر مولاته. قال المنذري: في إسناده أبو جميع سالم بن دينار قال ابن معين ثقة وقال أبو زرعة الرازي لين الحديث، عون المعبود 11 \ 164، 165.
(2) المجموع ج 15 ص 13، 18 والمغني لابن قدامه 6 \ 556، 557. (1)
(3) المغنى لابن قدامة 6 \ 557 ومجموع فتاوى ابن تيميه ج 22 \ 111.
(4) المغني لابن قدامة 6 \ 557.
(5) المغني لابن قدامة 6 \ 557.
(6) رواه البزار والطبراني في الأوسط وفيه بزيع بن عبد الرحمن ضعفه أبو حاتم وبقية رجاله ثقات مجمع الزوائد 3 \ 214 وفيض القدير 4 \ 105.
(7) المغني لابن قدامة 6 \ 557. (6)(28/267)
2 - أنه لا يحل له أن يستمتع بها كما يفعل السيد بأمته فزوج الأخت لا يعد لها محرما فكذا العبد مع سيدته.
3 - أنه لا يعد محرما لها فلا تحرم عليه على التأبيد فله أن يتزوج بها إذا عتق.
4 - أنه غير مأمون عليها لعدم وجود نفرة المحرمية كما هو مع المحارم (1) .
الترجيح:
مما مضي نرى الشافعية حصروا السفر والخلوة في كون العبد ثقة، بل ممسوح الذكر وليس فيه رغبة للنساء، وهذا فيه تقييد ظاهر لكن تبقى عدم غيرته بالجملة على سيدته، ومنع الغير عنها، فلهذا ولما مضي من أدلة لأصحاب القول الأول، ولعدم قوة استدلال الشافعية فيما ذهبوا إليه، فإنني أميل إلى عدم حل خلوة المملوك بسيدته وعم جواز سفرها معه.
__________
(1) المرجع السابق ومجموع فتاوى ابن تيميه 22 \ 112.(28/268)
الفصل السادس: الخلوة بإماء الغير:
ذهب الحنابلة إلى حرمة خلو الرجل غير المحرم بأمة غيره، لأنه لا يؤمن عليها (1) ، وبهذا قال الحنفية في المختار عندهم.
أما المالكية فجعلوا مدار الحل والحرمة في خلو الرجل بخادم زوجته حسب الأشخاص فإن وثق بنفسه جاز (2) .
وذهب الحنفية في قول آخر لهم إلى حل الخلوة والمسافرة بهن كما في ذوات المحارم واستدلوا لهذه الرواية بما يلي:
__________
(1) انظر الإنصاف 9 \ 314.
(2) انظر حاشية العدوي 2 \ 422.(28/268)
1 - أن المولى قد يبعثها في حاجته من بلد إلى بلد ولا تجد محرما ليسافر معها.
ويجاب عن ذلك بأن بعث المولى ليس حجة شرعية والواجب أن يتقيد بالأحكام الشرعية ولا يبعثها إن كان سيترتب على هذا الفعل محظور.
2 - أن جارية المرأة قد تخلو بزوجها ولا يمنع أحد ذلك (1) .
ويجاب عن ذلك بأن الأصل كون الخادمة مصاحبة لسيدتها وبالتالي قد لا تتصور خلو الأمة مع زوج السيدة، وكما قلت أفعال الناس لا تعد حجة شرعية، ولذا الأولى أن لا يكون الرجل في خلوة مع خادمة زوجته.
3 - أن سائر الناس لها كذوي المحارم للحرائر ولذا جاز لهم السفر بهن (2) ويجاب عن ذلك بأن دعوى السفر منازع فيها، وسائر الناس ليسوا محارم لهن، وتنزيلهم هذه المنزلة بني على غير دليل شرعي.
وقد بين ابن عابدين أن جواز السفر كان في زمانهم وعلل ذلك بقلة الفساد في ذاك الزمان (3) .
واستدل الجمهور فيما ذهبوا إليه بما يلي:
1 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرم (5) » .
__________
(1) انظر المراجع السابقة.
(2) انظر حاشية ابن عابدين 6 \ 368.
(3) في حاشية 6 \ 368.
(4) سبق تخريجه.
(5) المرجع السابق. (4)(28/269)
ففي هذا الحديث نفي حل سفر المرأة بدون محرم - والأمة امرأة - ونفي الحل يقتضي التحريم مما يدل على حرمة سفر المرأة بدون محرم مطلقا سواء كانت حرة أم أمة.
2 - عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها فإن ثالثهما الشيطان (1) » .
ففي هذا الحديث نهي عن الخلوة بالمرأة مطلقا، سواء كانت حرة أم أمة والنهي يقتضي التحريم، مما يدل على حرمة الخلوة بالأمة.
3 - أن علة النهي عن الخلوة واحدة سواء في الحرة أم الأمة وبالتالي لن يؤمن عليها (2) .
4 - أن الفسقة لإرواء فسقهم لن يتورعوا عن ارتكاب الحرام لا سيما إذا كانت الأمة جميلة فاتنة فيبعث الشيطان النفس الأمارة بالسوء لذلك.
لذا رأى أن القول المحرم للخلوة بإماء الغير أو السفر بهن هو الراجح والله أعلم.
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) الإنصاف 9 \ 314.(28/270)
الفصل السابع: الخلوة بالمطلقة ثلاثا.
لا يصح للمطلق طلاقا بائنا أن يختلي بمطلقته، لأنها بمنزلة الأجنبية عنده وفي حالة سكناها - عند من يوجبها على الزوج - فيرى الحنفية يكون بينهما سترة واكتفى بالحائل لاعتراف الزوج بالحرمة، وإن كان فاسقا يخاف عليها منه.(28/270)
وإن جعل القاضي بينهما امرأة ثقة تقدر على الحيلولة فهو حسن لبقاء إمكانية استحياء الرجل من العشيرة، ولإمكان الاستعانة بجماعة المسلمين، وأولي الأمر منهم إذا اعتدى الزوج المطلق (1) .
قال ابن عابدين: (ومرادهم بالثقة أن تكون عجوزا لا يجامع مثلها مع كونها قادرة على الدفع عنها وعن المطلقة (2) .
والشافعية يقولون: ليس للزوج مساكنتها ولا مداخلتها، لكن يجوز له مساكنتها إذا كان في الدار محرم لها مميز ذكر، أو عند الرجل أنثى، أو زوجة أخرى، أو أمة، أو امرأة أجنبية ثقة حذرا من الخلوة.
ويحوز مساكنتها ولو بدون محرم إن كانت المرافق غير متحدة، والممر غير مشترك، لأنها والحال هذه في حكم الدارين المتجاورتين (3) .
قلت: المطلقة ثلاثا هي في حكم الأجنبية فلا ينبغي لها مساكنة الزوج في داره حتى وإن وجد محرم مميز، أو أنثى على ما ذكر، وإن اضطرت إلى السكنى عنده لعدم إمكان تخصيص منزل مستقل لها ولا محرم لها موجود فتعامل كمعاملة الأجنبيات وتسكن عند الرجل مع غيرها من النساء الثقات على أن يمنع الرجل من الدخول عليها والحالة هذه.
__________
(1) انظر تبيين الحقائق 3 \ 37 وحاشية ابن عابدين 6 \ 368.
(2) في حاشيته 6 \ 368.
(3) مغني المحتاج 3 \ 407 والفتاوى الكبرى للهيثمي 4 \ 106، 107 ونهاية المحتاج ج 7 \ 163.(28/271)
الفصل الثامن: الخلوة والسفر بالزوجة وذوات المحارم
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: في حكم الخلوة والسفر بالزوجة وذوات المحارم.
يصح للرجل أن يخلو ويسافر بزوجته وذوات محارمه وبهذا قال جميع العلماء: فيصبح خلوة الرجل بأي امرأة من ذوات محارمه بنسب كالأمهات والجدات والأخوات وبنات الأخ وبنات الأخت وكل امرأة محرمة عليه بالقرابة على التأبيد والمحرمة بالرضاع أو بالمصاهرة وأن يسافر بهن (1) وفي الدر المختار: (والخلوة بالمحرم مباحة إلا الأخت رضاعا والصهرة الشابة) وفي حاشية ابن عابدين: وينبغي لأخ من الرضاع أن لا يخلو بأخته من الرضاع؛ لأن الغالب هناك الوقوع في الجماع. قال العلامة البيري: إن ينبغي معناه الوجوب) (2) .
__________
(1) المبسوط للسرخسي 10 \ 150.
(2) ابن عابدين 6 \ 369.(28/272)
والمالكية يرون أن لا بأس للرجل أن يسافر بأخته من الرضاع فحكمها حكم ذوي المحارم (1) وهو ما ذهب إليه الشافعية (2) والحنابلة (3) والصحيح: أن الأخت من الرضاع تعد من المحارم لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة (4) » .
«ولحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله إن أفلح أخا أبي القعيس يدخل علي وأنا في ثياب فضل فقال: ليلج عليك أفلح فإنه عمك من الرضاعة (5) » ففي هذين الحديثين دلالة على أن القرابة من الرضاع تأخذ حكم القرابة من النسب، مما يدل على حل الخلوة والسفر بالأخت من الرضاعة.
غير أنه إن خاف الرجل على نفسه من الخلوة بامرأة ذات محرم بنسب أو نكاح فلا يحل له أن يسافر بها أو يخلو فيها، ولا ينبغي للمرأة إن خافت ذلك منه أن تخلو معه في بيت ولا تسافر معه.
قال محمد صاحب أبي حنيفة: " وإن أمن على نفسه فلا بأس أن يسافر بها ويكون محرما لها وتسافر معه ولا محرم معها غيره، فإن كان يخاف على نفسه فلا يسافرن معها ولا يخلون معها ولا ينبغي لها إن خافت ذلك منه أن تخلو به في بيت ولا تسافر معه، فأما إذا أمنا ذلك أو كان
__________
(1) هامش مواهب الجليل 1 \ 500.
(2) فتح الجواد 1 \ 314.
(3) المغني 3 \ 239.
(4) أخرجه البخاري في كتاب النكاح باب ما يحل من الدخول والنظر إلى النساء في الرضاع، صحيح البخاري 6 \ 160 وأخرجه مسلم في كتاب الرضاع \ صحيح مسلم بشرح النووي 10 \ 18.
(5) رواه البخاري في كتاب النكاح باب لبن الفحل (صحيح البخاري ج 6 ص 126) وأخرجه مسلم في كتاب الرضاع \ صحيح مسلم بشرح النووي 10 \ 18 فما بعدها.(28/273)
عليه أكبر رأيهما فلا بأس بالخلوة معها والسفر بها " (1) .
والبنت المنفية باللعان محرم على نافيها الزواج منها عند الشافعية وتتعدى الحرمة إلى سائر محارمه، لكن هذا لا يعني حل الخلوة بها فالخلوة محرمة احتياطيا (2) وقيل: يصح عندهم الخلوة والسفر بها (3) أما الحنابلة فقالوا: ليست من محارم الرجل وألحقوا بها في الحرمة أم المزني بها وابنتها وبنت الموطوءة بشبهة وأمها (4) .
وكذا قال الشافعية في الموطوءة بشبهة فتحرم على الواطئ أمهاتها وبناتها وتحرم على آبائه وأبنائه تحريما مؤبدا بالإجماع لتنزيله منزلة عقد النكاح غير أن هذا التحريم لا يحل الخلوة بهن أو المسافرة بهن.
والشافعية يحرمون أي خلوة ولو كانت مع ذي محرم متضمنة وجود الشهوة من أي منهما سواء رجل مع رجل، أو امرأة مع امرأة (5) .
ولا يشترط في المحرم العدالة، بل يكفي أن يكون مراهقا له وجاهة وفطنة بحيث تأمن معه، وتشترط مصاحبتها لها بحيث يمنع تطلع الفجرة إليها، وإن كان قد يبعد عنها قليلا في بعض الأحيان (6) بخلاف الصبي والمعتوه فليسا بمحرمين، أما الكبير الذي يعق فهو محرم (7) قلت: ويعنون بذلك الكبير المحرم فإن كبر سنه لا يمنع من محرميته.
ودليل مشروعيته جواز الخلوة والسفر بالزوجة وذوات المحرم ما يلي:
__________
(1) الأصل 3 \ 49 والفتاوى الهندية 5 \ 328.
(2) انظر مغني المحتاج 3 \ 175 ونهاية المحتاج 6 \ 172.
(3) انظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2 \ 130.
(4) المغني لابن قدامة 6 \ 556.
(5) انظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2 \ 121.
(6) انظر فتح الجواد 1 \ 314، 315 وإعانة الطالبين 2 \ 283.
(7) الفتاوى الهندية 5 \ 366.(28/274)
1 - عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها فإن ثالثهما الشيطان (1) » .
ففي هذا الحديث نهي عن الخلوة بالمرأة من غير ذوات المحارم مما يدل على إباحته في ذوات المحارم (2) .
2 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا يكون ثلاثة أيام فصاعدا إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها (3) » .
ففي هذا الحديث نهي عن سفر المرأة بدون محرم، والنهي يقتضي التحريم، مما يدل على جواز سفر المرأة مع محرمها، وبدلالة الاستثناء الوارد في الحديث.
3 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا لا يبيتن رجل عند امرأة ببيت إلا أن يكون ناكحا أو ذا محرم (4) » .
ففي هذا نهي عن المبيت عند الأجنبية لغير الناكح، والمحرم، والإذن لهما يدل على خلوتهما، أو أحدهما بها.
فمما سبق نعلم أن الخلوة والسفر بالزوجة وذوات المحارم أمر جائز بضوابطه الشرعية كخوف مواقعة المحظور.
__________
(1) سبق تخريج.
(2) انظر المبسوط للسرخسي 10 \ 150 وتبيين الحقائق 6 \ 19 ونصاب الاحتساب للسنامي 241.
(3) رواه مسلم في كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج أو عمرة \ صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 108.
(4) رواه مسلم في كتاب السلام باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها \ صحيح مسلم بشرح النووي 14 \ 153.(28/275)
المطلب الثاني: حكم مباشرة الزوجة من غير خلوة.
يحرم على الرجل أن يجامع أهله في مرأى الغير، بل يتعين عليهما الخلوة (1) وكره المالكية الوطء في ليل ومعه في البيت صغير أو كبير (2) .
غير أنه يجوز نوم الرجل مع امرأته بلا جماع بحضرة آخر غير أنه يشترط أن يكون من محارمها (3) .
وقال الحنفية: لا بأس أن يدخل على الزوجين محارمهما وهما في الفراش من غير وطء باستئذان، ولا يدخلون بغير إذن، وكذا الخادم حين يخلو الرجل بأهله وكذا الأمة (4) .
واستدلوا لذلك بما روي «عن ابن عباس رضي الله عنه أنه بات ليلة عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي خالته فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها (6) » .
ففي هذا دلالة على إباحة نوم الغير من المحارم مع الزوجين في غير حالة الجماع.
__________
(1) القوانين الفقهية ص141 والفروع 5 \ 324 وكشاف القناع 5 \ 16.
(2) انظر المعيار المعرب 11 \ 228.
(3) الفروع 5 \ 324.
(4) الفتاوى الهندية 5 \ 328.
(5) رواه البخاري في الوضوء باب قراءة القرآن \ صحيح البخاري 1 \ 53.
(6) الفروع 5 \ 324. (5)(28/276)
المطلب الثالث: أثر الخلوة بالزوجة على المهر والعدة.
ذهب الحنفية ورواية عن الحنابلة أن الخلوة بالمرأة بعد عقد النكاح عليها يوجب المهر والعدة.(28/276)
وحد الخلوة الموجبة لذلك عند الحنفية أن لا يكون هناك مانع يمنع من الوطء طبعا ولا شرعا، كالمرض وصيام رمضان والحيض فإن وجد فلا خلوة، لقيام المانع طبعا وشرعا (1) .
وعند الحنابلة كل امرأة فارقت زوجها في الحياة قبل المسيس والخلوة فلا عدة عليها، وإن خلا بها وهو عالم بها وهي مطاوعة فعليها العدة، سواء كان بهما أو بأحدهما مانع من الوطء كالإحرام والصيام والحيض والنفاس والمرض والجب والعنة أو لم يكن، وهذا هو المذهب مطلقا سواء كان المانع حسيا أم شرعيا.
وقيل: لا عدة بخلوة مطلقا. وعنه لا عدة بخلوة مع وجود مانع شرعي كالإحرام والصيام والحيض والنفاس والظهار والإيلاء والاعتكاف (2) .
وحكي عن الإمام الشافعي أن الخلوة بدون مسيس لا توجب المهر والعدة لقوله تعالى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (3) والمراد بالمسيس الجماع ولأن هذه خلوة خلت عن الإصابة فلا توجب المهر والعدة كالخلوة الفاسدة (4) ويستقر المهر كاملا إذا خلا الرجل بامرأته بشرط أن يكون عالما بوجودها عنده وأن يكون الزوج ممن يطأ مثله وليس عندهما مميز وهذا هو المذهب (5) .
واستدلوا بقوله تعالى (6) {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} (7) ففي هذه الآية نهي عن استرداد شيء من الصداق بعد الخلوة فإن
__________
(1) المبسوط 5 \ 150.
(2) الإنصاف 9 \ 370.
(3) سورة البقرة الآية 237
(4) انظر المبسوط للسرخسي ج 5 ص 149.
(5) الإنصاف 8 \ 283 ومنار السبيل 2 \ 198.
(6) انظر الكافي في فقه أهل المدينة 2 \ 618 وبداية المجتهد 2 \ 8 / 5 وشرح الرسالة 2 \ 58.
(7) سورة النساء الآية 21(28/277)
الإفضاء عبارة عن الخلوة، ومنه يسمى المكان الخالي فضاء، وتبين بهذا أن المراد بما تلي المسيس كما في استدلال الشافعية أو ما يقوم من مقامه وهي الخلوة.
وروى الإمام أحمد والأثرم عن زراة بن أوفى قال " قضى الخلفاء الراشدون والمهديون أن من أغلق باب أو أرخى سترا فقد وجب المهر ووجبت العدة" ولأنها سلمت نفسها التسليم الواجب عليها فاستقر صداقها (1) .
__________
(1) انظر المبسوط للسرخسي 5 \ 149 وانظر منار السبيل 2 \ 197.(28/278)
المطلب الرابع: أثر الخلوة بالمطلقة طلاقا رجعيا على الرجعة
يرى الحنفية أن الخلوة والمسافرة بالمطلقة طلاقا رجعيا لا تكون رجعة إلا عند زفر وأبي يوسف (1) .
ويرى المالكية أن المرأة المطلقة طلاقا رجعيا يكره للزوج أن يخلو بها أو أن يدخل عليها إلا بإذنها وإن كان ذلك لغرض الرجعة؛ لأن الرجعة لا تكون إلا بالقول (2) .
وذهب الحنابلة إلى أن الرجعية مباحة لزوجها فله السفر بها والخلوة معها.
غير أن الخلوة لا تعد رجعة، وإن كان معها شهوة، لأن تحريم المصاهرة لا يثبت بها وهذا هو الصحيح من المذهب.
ويرى بعضهم أن الخلوة من الشهوة تكون رجعة، لأنه محرم من غير الزوجة فأشبه الاستمتاع (3)
__________
(1) انظر منار السبيل 2 \ 197.
(2) فتح القدير 4 \ 16.
(3) انظر الكافي لابن قدامة 3 \ 229 والمقنع 3 \ 222 والإنصاف 9 \ 156 ومنتهى الإدارات 2 \ 313.(28/278)
الخاتمة
وهي خلاصة لأهم محتويات البحث
كانت البداية لهذا البحث مقدمة موجزة عن أهمية المحافظة على أعراض المسلمين بسد باب الذرائع الموصلة لانتهاكها، فالوسيلة الموصلة إلى الحرام تعتبر حراما، إذ للوسائل حكم الغايات، والخلوة بالمرأة الأجنبية ومن في حكمها يعد من الأمور المحرمة؛ لأنها قد تفضي إلى الوقوع في الحرام.
وتحدثت في الفصل الأول عن تعريف الخلوة، وبيان المراد بها، وأنها تشمل الخلوة في البيوت، والعيادات، والمكاتب، والسيارات، وهلم جرا.
وقد تحدثت في الفصل الثاني عن أحكام الخلوة، والسفر بالمرأة الأجنبية، وبينت الحرمة في ذاك، وأنها تشمل الخلوة لغرض التعليم، والعلاج، وبينت المراد بالمرأة الأجنبية، وهل المرأة الكبيرة تعد في حكم الأجنبية؟ وبينت أن الخلوة بذوي العيوب المانعة من النكاح محرمة، كما أن الحرمة لا تقتصر على انفراد رجل بامرأة بل تتعدى عند بعض العلماء إلى حرمة خلوة الرجل بأكثر من امرأة والعكس كذلك.
وفي نهاية هذا الفصل بينت الأدلة الشرعية الصحيحة على حرمة الخلوة وأن هذه الحرمة تشمل الحضر، والسفر، ولا فرق في ذلك بين حج، وغيره بعد أن ذكرت آراء العلماء في ذلك وسند كل منهم، وبما أن المردان قد يشتركون مع النساء في بعض الصفات فقد أوضحت حكم الخلوة بهم، وأنها محرمة لغير حاجة، وجائزة مع الحاجة إذا أمنت الفتنة.
ورجحت أن الخنثى المشكل ينبغي معاملته على أنه أنثي ومنع الخلوة والسفر به بدون محرم، إلا إذا ظهرت علامات تغليب جانب الذكورة عليه.
أما مملوك المرأة فالذي يظهر عدم خلوته بها وسفره معها بدون(28/279)
محرم، لعدم غيرته عليها، وإمكان تزوجه منها، بخلاف المحارم الآخرين. وهذا الحكم يشمل الخلوة بإماء الغير والسفر معهن بدون محرم. كما بينت حرمة الخلوة بالمطلقة ثلاثا، لأنها تعتبر في حكم الأجنبية وقد أوضحت أن الخلوة مشروعة بالزوجة وذوات المحارم فتصح الخلوة والسفر بأي منهم، بل لا يحل للزوج أن يباشر زوجته من غير خلوة، وللغير من المحارم الدخول عليهما إن كانا في غير وطء.
وفي نهاية البحث أوضحت أثر الخلوة بالزوجة على استحقاق المهر والعدة وعلى رجعه الزوجة بعد طلاقها.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(28/280)
كشاف المراجع
1 - القرآن الكريم.
2 - أخبار النساء - لابن قيم الجوزية - تحقيق نزار رضا منشورات - دار مكتبة الحياة - بيروت، لبنان.
3 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل.
تأليف محمد ناصر الدين الألباني - الطبعة الأولى سنة 1399هـ.
الناشر المكتب الإسلامي.
4 - الأصل لمحمد بن الحسن الشيباني.
من منشورات إدارة القرآن والعلوم الإسلامية كراتشي، باكستان.
تحقيق أبي الوفاء الأفغاني - طبع بمطبعة إدارة القرآن، كراتشي.
5 - إعانة الطالبين لأبي بكر بن محمد شطا.
طبع بمطبعة دار إحياء الكتب العربية - عيسى الحلبي وشركاه.
6 - إعلام الموقعين عن رب العالمين تأليف شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية.
راجعه طه عبد الرؤوف سعيد - الناشر مكتبة الكليات الأزهرية - طبع سنة 1388هـ بشركة الطباعة الفنية المتحدة.(28/280)
7 - الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع لمحمد الشربيني الخطيب.
طبع بمطبعة دار إحياء الكتب العربية - عيسى الحلبي وشركاه.
8 - الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف.
للشيخ علاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان المرداوي.
صححه وحققه محمد حامد الفقي، الطبعة الأولي سنة 1374هـ.
9 - بجيرمي علي الخطيب - حاشية الشيخ سليمان البجيرمي المسماة بتحفة الجبيب على شرح الخطيب.
الطبعة الأخيرة سنة 1370هـ شركة مكتبة ومطبعة مصطفى الحلبي.
10 - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع.
للإمام علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني.
الطبعة الثانية 1402 هـ - الناشر دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان.
11 - بداية المجتهد لمحمد بن أحمد بن رشد.
الطبعة الرابعة 1395 هـ شركة مطبعة ومكتبة مصطفى الحلبي.
12 - بلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك للشيخ أحمد بن محمد الصاوي المالكي الطبعة الأخيرة سنة 1372 هـ.
ملتزم الطبع والنشر مكتبة ومطبعة الحلبي.
13 - تاج العروس شرح القاموس للإمام محب الدين أبي الفيض السيد محمد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي - الطبعة الأولي بالمطبعة الخيرية سنة 1306 من منشورات دار مكتبة الحياة.
14 - تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق.
تأليف فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي.
طبع دار المعرفة بيروت، لبنان.
15 - الجامع الصحيح وهو سنن الترمذي لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة - تحقيق أحمد محمد شاكر.
طبع دار إحياء التراث العربي - بيروت
16 - حاشية البيجوري علي بن قاسم.
طبع سنة 1343هـ - بمطبعة مصطفى الحلبي بمصر.
17 - حاشية ابن عابدين لمحمد أمين الشهير بابن عابدين.
الطبعة الثانية سنة 1386هـ - طبع دار الفكر.
18 - حاشية العدوي على شرح أبي الحسن للشيخ علي الصعيدي العدوي
طبع دار إحياء الكتب العربية.
19 - روضة الطالبين وعمدة المفتين للإمام النووي.
الطبعة الثانية 1405هـ - الناشر المكتب الإسلامي.
20 - سنن ابن ماجه للحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني.
تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي طبع دار إحياء التراث العربي سنة 1395هـ
21 - شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني - للعلامة أحمد بن أحمد البرنس المعروف بزروق(28/281)
مع شرح العلامة قاسم بن عيسى بن ناجي التنوخي. طبع بالمطبعة الجمالية بمصر سنة 1332هـ.
22 - الشرح الصغير على أقرب المسالك لأحمد الدردير.
مطبعة عيسى البابي الحلبي.
23 - صحيح البخاري لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري.
الناشر المكتبة الإسلامية - إستانبول - تركيا سنة 1981م.
24 - صحيح مسلم بشرح النووي.
طبع المطبعة المصرية ومكتبتها.
25 - العناية شرح الهداية - مع فتح القدير لابن الهمام.
طبع دار إحياء التراث العربي - بيروت، لبنان.
26 - عون المعبود شرح سنن أبي داود لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم أبادي.
الطبعة الثالثة سنة 1399هـ طبع دار الفكر للنشر والتوزيع.
27 - الفتاوى الكبرى الفقهية لابن حجر الهيثمي وبهامشه فتاوى الرملي - طبع سنة 1403هـ.
الناشر دار الباز للنشر والتوزيع. المروة، مكة المكرمة.
28 - الفتاوى الهندية - تأليف الشيخ نظام وجماعة من علماء الهند.
الطبعة الثالثة 1400هـ طبع دار إحياء التراث العربي بيروت، لبنان.
29 - فتح الجواد بشرح الإرشاد لأحمد شهاب الدين بن حجر الهيثمي
الطبعة الثانية 1391هـ شركة مكتبة مصطفى الحلبي.
30 - الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني
تأليف أحمد عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي.
الطبعة الأولى والطبعة الثانية - طبع دار إحياء التراث العربي.
31 - فتح القدير لكمال الدين محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن الهمام - طبع دار إحياء التراث العربي بيروت - لبنان.
32 - الفروع لمحمد بن مفلح - راجعه عبد الستار أحمد فراج
طبع عالم الكتب الطبعة الرابعة سنة 1405 هـ.
33 - الفروق للإمام أحمد بن إدريس القرافي
عالم الكتب بيروت.
34 - فيض القدير شرح الجامع الصغير للعلامة المناوي - الطبعة الثانية سنة 1391هـ دار المعرفة للطباعة والنشر. بيروت.
35 - قليوبي وعميرة على منهاج الطالبين للإمامين شهاب الدين القليوبي والشيخ عميرة. طبع مطبعة دار إحياء الكتب العربية. عيسى الحلبي وشركاه - مصر.
36 - القوانين الفقهية لابن جزي.
الناشر عباس أحمد الباز. المروة - مكة المكرمة.
37 - الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل.
الناشر المكتب الإسلامي. الطبعة الرابعة سنة 1405هـ.
38 - الكافي في فقه أهل المدينة لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر - تحقيق(28/282)
الدكتور محمد محمد أحيد ولد ماديك الموريتاني.
الناشر مكتبة الرياض الحديثة - الطبعة الأولى 1398هـ.
39 - كشاف القناع عن متن الإقناع للشيخ منصور البهوتي راجعه وعلق عليه هلال مصيلحي.
الناشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض.
40 - الكفاية شرح الهداية مع فتح القدير لابن الهمام.
طبع دار إحياء التراث العربي.
41 - كفاية الطالب لرسالة ابن أبي زيد القيرواني لأبي الحسن علي بن محمد - الناشر مكتبة محمد علي صبيح.
42 - لسان العرب للإمام أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور - طبع دار صادر - بيروت.
43 - نصاب الاحتساب لعمر بن محمد بن عوض السنامي.
تحقيق ودراسة الدكتور مريزن سعيد مريزن عسيري.
الناشر مكتبة الطالب الجامعي مكة المكرمة طبع سنة 1405 \ 1406هـ.
44 - نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج لمحمد بن أبي العباس الرملي.
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى الحلبي الطبعة الأخيرة سنة 1386هـ.
45 - المبسوط لشمس الدين السرخسي.
الطبعة الثالثة 1398هـ طبع دار المعارف - بيروت، لبنان.
46 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي - الطبعة الثالثة سنة 1402هـ.
منشورات دار الكتاب العربي بيروت.
47 - المجموع شرح المهذب للإمام أبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي.
حققه وعلق عليه محمد نجيب المطيعي.
توزيع المكتبة العالمية بالفجالة بمصر.
48 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد.
الطبعة الأولي والطبعة المصورة عنها سنة 1398 هـ.
49 - مسائل الإمام أحمد بن حنبل - تحقيق زهير الشاويش
الناشر المكتب الإسلامي - طبع سنة 1400هـ.
50 - مسند الإمام أحمد وبهامشه منتخب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال للمتقي الهندي
الناشر المكتب الإسلامي \ بيروت.
51 - معالم السنن الإمام أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي البستي
الطبعة الثانية سنة 1401 هـ - منشورات المكتبة العلمية.
52 - المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب لأحمد بن يحيى الونشريسي.(28/283)
خرجه جماعة من الفقهاء بإشراف الدكتور محمد حجي
طبع سنة 1401 هـ دار الغرب الإسلامي - بيروت.
53 - المغني لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة.
الناشر مكتبة الجمهورية العربية ومكتبة الرياض الحديثة.
54 - مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج للشيخ محمد الشربيني الخطيب. الناشر دار إحياء التراث العربي.
55 - المقنع في فقه إمام السنة أحمد بن حنبل - لموفق الدين ابن قدامة المقدسي مع حاشية بخط الشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب - الطبعة الثانية.
56 - منار السبيل شرح الدليل للشيخ إبراهيم بن محمد بن سالم بن ضويان - الطبعة الأولى سنة 1399هـ الناشر المكتب الإسلامي.
57 - منتهى الإرادات لتقي الدين محمد بن أحمد الفتوحي الشهير بابن النجار - تحقيق عبد الغني عبد الخالق - طبع عالم الكتب.
58 - مواهب الجليل لشرح مختصر خليل لأبي عبد الله محمد المغربي المعروف بالحطاب - الطبعة الثانية 1398 هـ طبع دار الفكر.(28/284)
الدفاع عن السنة النبوية
وطرق الاستدلال
الدكتور الطبلاوي محمود سعد
أستاذ مساعد بكلية التربية
السنة في اللغة: الطريقة محمودة كانت أو مذمومة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة (1) » .
والسنة في اصطلاح المحدثين: ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خلقية، أو سيرة سواء كان قبل البعثة أو بعدها وهي بهذا ترادف الحديث عند بعضهم.
والسنة في اصطلاح الأصوليين: ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير.
فمثال القول: ما تحدث به النبي صلى الله عليه وسلم في مختلف المناسبات مما يتعلق بتشريع الأحكام كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور «إنما الأعمال بالنيات (2) » .
__________
(1) الحديث في: صحيح مسلم (كتاب العلم 15، كتاب الزكاة 69 النسائي الزكاة 14) ، مسند الإمام أحمد 4 \، 357، 359، 360، 361.
(2) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .(28/285)
وقوله «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا (1) » .
ومثال الفعل: ما نقله الصحابة من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم من أفعال صدرت عن بعض أصحابه بسكوت منه مع دلالة الرضا.
وقد تطلق السنة عند الأصوليين على ما دل عليه دليل شرعي من الكتاب أو السنة أو اجتهاد الصحابة.
والسنة في اصطلاح الفقهاء ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم مما يدل على حكم شرعي وجوبا أو حرمة أو إباحة أو غير ذلك أو ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ولم يكن من باب الفرض أو الواجب.
__________
(1) الحديث في: البخاري (كتاب البيوع 42، 44، 47، مسلم (كتاب البيوع 45) أبو داود (بيوع 51) ، النسائي (بيوع 9) ، الموطأ (بيوع 79) المسند 1 \ 56.(28/286)
جهود العلماء لصيانة السنة ومقاومة حركة الوضع
لقد بذل العلماء منذ عصر الصحابة إلى يومنا هذا جهودا عظيمة لتمييز صحيح الأحاديث متبعين في ذلك التحري في إسناد الحديث، فلا يقبلون منها إلا ما اطمأنوا فيه إلى ثقة الرواة وعدالتهم، وقد أشار الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن مسعود قوله: لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: " سموا لنا رجالكم ".(28/286)
ويقول الزهري،: الإسناد من الدين. ويقول ابن المبارك بيننا وبين القوم القوائم أي الإسناد. ويقول سعيد بن المسيب: إني كنت لأسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد.
يقول الشيخ مناع القطان:
ومن الخطوات التي اتبعت أيضا: نقد الرواة، قال الغزالي في المستصفى والذي عليه سلف الأمة وجماهير الخلف أن عدالة الصحابة معلومة بتعديل الله عز وجل إياهم، وثنائه عليهم في كتابه.
فلا يؤخذ حديث الذين يعرف عنهم الكذب، ولا أحاديث البدع ووضع العلماء أمارات للدلالة على أن الحديث موضوع كمخالفته لصريح القرآن، أو فساد معناه، ونشأ من ذلك علم الجرح والتعديل.
وكان لجهود أئمة الحديث وعلمائه في العصور المختلفة أثر كبير في الذب عن السنة النبوية. وفي تخريج الأحاديث، وبيان الأحاديث الصحيحة والضعيفة والموضوعة.
وظهرت كتب كثيرة في هذا الشأن منها:
- المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة للحافظ السخاوي.
- ونصب الراية لأحاديث الهداية للحافظ الزيلعي.
- والمغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار للحافظ العراقي.(28/287)
- وتلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير للحافظ ابن حجر العسقلاني.
- وتخريج أحاديث الكشافة للحافظ ابن حجر.
- والمنار المنيف في الصحيح والضعيف لابن قيم الجوزية.
- وتخريج أحاديث الشفاء للسيوطي.
- والموضوعات لابن الجوزي.
- واللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي.
- وذيل اللآلئ للسيوطي أيضا.
- والموضوعات الكبرى للشيخ علي القاري الهروي.
- والموضوعات الصغرى له أيضا.
- والفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني.
- وسلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للشيخ محمد ناصر الدين الألباني وقد رد الدكتور مصطفى السباعي في كتابة السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي على ما كتبه أبو رية في كتابه (أضواء على السنة المحمدية) ، وكذلك رد على مطاعن بعض المستشرقين في السنة.
وقد اهتم العلماء بالرد على من أنكر حجية السنة وأنها لم تدون إلا في عصر متأخر فتجد هذه الردود على الهجمات الشرسة من المستشرقين ومن ذوي النفوس المريضة الذين يهدفون إلى توهين الثقة في الأحكام الشرعية وحجية السنة تجد هذه الردود في كتاب دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه للدكتور محمد مصطفى الأعظمي.
الأعذار في ترك بعض الأحاديث في الاستدلال:(28/288)
وقد بين لنا شيخ الإسلام ابن تيمية أعذار الأئمة في ترك بعض الأحاديث النبوية أثناء اجتهاداتهم ووضح أنها ثلاثة أصناف: (1) .
أحدها: عدم اعتقاد المجتهد من الأئمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث.
الثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول.
الثالث:: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.
وهذه الأعذار الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة.
- السبب الأول: أن لا يكون الحديث قد بلغه، ومن لم يبلغه الحديث لم يكلف أن يكون عالما بموجبه.
وهذا السبب هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفا لبعض الأحاديث.
وقد فات على كثير من العلماء بعض الأحاديث فلم يعلموا بها وكذلك أيضا إحاطة واحد من الصحابة بجميع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فهذا لا يمكن ادعاؤه لأنهم بشر ولهم طاقة.
وهو صلى الله عليه وسلم كثيرا ما كان معه صاحباه أبو بكر وعمر في أوقات كثيرة، ثم مع ذلك لما «سئل أبو بكر عن ميراث الجدة قال: ما لك في كتاب الله من شيء، وما علمت لك من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من شيء، ولكن اسأل الناس فسألهم، فقام المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة فشهدا أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس (2) » وكذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يكن يعلم بسنة الاستئذان حتى أخبره بها أبو موسى واستشهد بالأنصار.
__________
(1) أصول الفقه لابن تيمية 2 \ 232 وما بعدها (الفتاوى مجلد 20) .
(2) الحديث في الترمذي (كتاب الفرائض 10) ، سنن ابن ماجه (كتاب الفرائض 4) والحديث '' أن رسول الله صلى الله علي وسلم ورث جدة سدسا''، والموطأ (كتاب الفرئض) .(28/289)
ولم يكن عمر يعلم أيضا أن المرأة ترث من دية زوجها بل يرى أن الدية للعاقلة حتى كتب إليه الضحاك بن سفيان وهو أمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض البوادي يخبره «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها (1) » ؛ فترك عمر رأيه لذلك وقال " لو لم نسمع بهذا لقضينا خلافه ".
ولما قدم سرغ وبلغه أن الطاعون بالشام، استشار المهاجرين الأولين الذين معه، ثم الأنصار، ثم مسلمة الفتح، فأشار كل عليه بما رأى، ولم يخبره أحد بسنة.
حتى قدم عبد الرحمن بن عوف فأخبره بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون وأنه قال «إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه، وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه (2) » .
وهكذا تجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقضي بما يعلم ولكن فاته بعض الأحاديث وذلك مثل ما قضى في دية الأصابع أنها مختلفة بحسب منافعها وقد كان عند أبي موسى وابن عباس - وهما دونه في كثير من العلم - علما بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال «هذه وهذه سواء (3) » يعني الإبهام والخنصر، فبلغت هذه السنة معاوية رضي الله عنه في إمارته فقضى بها، ولم يجد المسلمون بدا من اتباع ذلك. ولم يكن عيبا في عمر رضي الله عنه حيث لم يبلغه الحديث. وغير ذلك كثير.
ويواصل شيخنا ابن تيمية في توضيح الأعذار وأسبابها ويقول (4) فمن اعتقد أن كل حديث صحيح قد بلغ كل واحد من الأئمة أو إماما معينا فهو مخطئ خطأ فاحشا قبيحا.
__________
(1) الحديث في سنن ابن ماجه (كتاب الديات 12) .
(2) حديث '' إذا وقع بأرض. . . '' في: الترمذي (كتاب الجنائز 66) .
(3) حديث '' هذه وهذه. . . '' في: النسائي (كتاب القسامة 45) ، وفي الترمذي (كتاب الديات 4، سنن ابن ماجه (كتاب الديات 18) .
(4) أصول الفقه لابن تيمية 2 \ 238.(28/290)
ولا يقولن قائل: الأحاديث قد دونت وجمعت، فخفاؤها والحال هذه بعيد.
ولا نستنتج من كلام ابن تيمية أن الحديث لم يكتب في عهده، بل كان بعض كتاب الوحي يكتبون عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديث أيضا إلا أن هذه الدواوين المشهورة في السنن إنما جمعت بعد انقراض الأئمة المتبوعين.
ومع هذا فلا يجوز أن يدعي انحصار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في دوواين معينة بل الدوواين تكمل بعضها.
ثم لو فرض انحصارها فليس كل ما في الكتب يعلمه العالم، ولا يكاد ذلك يحصل لأحد. وبين لنا ابن تيمية أيضا أنه لا يشترط في المجتهد أن يكون عالما بالأحاديث كلها فيقول: لا يقولن قائل: من لم يعرف الأحاديث كلها لم يكن مجتهدا.
وإنما غاية العالم أن يعلم جمهور ذلك ومعظمه، بحيث لا يخفى عليه إلا القليل من التفصيل.
السبب الثاني: في ترك بعض الأحاديث: أن يكون الحديث قد بلغه، لكنه لم يثبت عنده إما لأن محدثه أو محدث محدثه أو غيره من الإسناد مجهول عنده أو متهم، أو سيئ الحفظ.
وإما لأنه لم يبلغه مسندا بل منقطعا.
أو لم يضبط لفظ الحديث.
السبب الثالث:
اعتقاد ضعف الحديث باجتهاد قد خالفه فيه غيره وتحته كلام كثير لا يتسع المقام لذكره.
السبب الرابع: في ترك بعض الأحاديث عند المجتهد أنه يشترط في خبر الواحد العدل الحافظ شروطا يخالفه فيها غيره.
مثل اشتراط بعضهم عرض الحديث على الكتاب والسنة واشتراط بعضهم أن يكون المحدث فقهيا إذا خالف قياس الأصول.
واشتراط بعضهم انتشار الحديث وظهوره إذا كان فيما يعم به البلوى.(28/291)
وتجد توضيح ذلك في كتب الأصول.
السبب الخامس:
أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده، لكن نسيه كما حدث ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وذلك مثل الحديث المشهور «عن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن الرجل يجنب في السفر فلا يجد الماء فقال: لا يصلي حتى يجد الماء - فقال عمار: يا أمير المؤمنين أما تذكر إذ كنت أنا وأنت في الإبل فأجنبنا فأما أنا فتمرغت كما تمرغ الدابة، وأما أنت فلم تصل، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم: (إنما يكفيك هكذا) وضرب بيديه الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه؟ فقال له عمر: اتق الله يا عمار!! فقال إن شئت لم أحدث به.
فقال: بل نوليك من ذلك ما توليت (1) » .
فهذه سنة شهدها عمر ثم نسيها حتى أفتى بخلافها وذكره عمار فلم يذكر وهو لم يكذب عمارا بل أمره أن يحدث بها.
وأبلغ من هذا أنه خطب الناس فقال " لا يزيد رجل على صداق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته إلا رددته ". فقالت امرأة: يا أمير المؤمنين: " لم تحرمنا شيئا أعطانا الله إياه؟ ".
ثم قرأت {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (2) سورة النساء (آية 20) فرجع عمر إلى قولها وكان حافظا للآية ولكن نسيها.
ويواصل شيخنا ابن تيمية في بيان الأعذار وتوضيح الأسباب في ترك بعض الأحاديث في الاستدلال فيقول (3) .
__________
(1) الحديث في: البخاري (كتاب التيمم 5، 8، 35) ، مسلم (كتاب الطهارة) ، النسائي (الطهارة 195) أبو داود (كتاب الطهارة) .
(2) سورة النساء الآية 20
(3) أصول الفقه لابن تيمية 2 \ 244 (فتاوى) .(28/292)
السبب السادس:
عدم معرفته بدلالة الحديث، تارة لكون اللفظ الذي في الحديث غريبا عنده.
مثل لفظ المزابنة، والمحاقلة، والمخابرة والملامسة والمنابزة، والغرر، إلى غير ذلك من الكلمات الغريبة التي قد يختلف العلماء في تفسيرها. وإن كان لها معان مشهورة.
وكالحديث المرفوع « (لا طلاق ولا عتاق في إغلاق) (1) » فإنهم فسروا الإغلاق بالإكراه ومن يخالفه لا يعرف هذا التفسير.
كما سمع بعضهم آثارا في الرخصة في النبيذ فظنوه بعض أنواع المسكر، لأنه لغتهم، وإنما هو ما ينبذ لتحلية الماء قبل أن يشتد.
وتارة لكون اللفظ مشتركا، أو مجملا، أو مترددا بين حقيقة ومجاز فيحمله على الأقرب عنده، وإن كان المراد هو الآخر.
كما حمل جماعة من الصحابة الخيط الأبيض، والخيط الأسود على الحبل. وهذا باب واسع أيضا.
السبب السابع: في ترك بعض الأحاديث:
اعتقاده ألا دلالة في الحديث.
السبب الثامن أيضا:
اعتقاده أن تلك الدلالة قد عارضها ما دل على أنها ليست مراده، مثل معارضة العام بالخاص، أو المطلق بالمقيد وهكذا.
__________
(1) حديث '' لا طلاق. . . '' في البخاري (كتاب الطلاق11) ، ابن ماجه (كتاب الطلاق 16) أبو داود (كتاب الطلاق 8) ، المسند 2 \ 276.(28/293)
السبب التاسع والعاشر:
اعتقاده أن الحديث معارض بما يدل على ضعفه أو نسخه، أو تأويله إن كان قابلا للتأويل.
كمعارضة كثير من الكوفيين الحديث بظاهر القرآن، واعتقادهم أن ظاهر القرآن مقدم على نص الحديث.
وللإمام الشافعي في هذه القاعدة كلام معروف، وللإمام أحمد في رسالته المشهورة في الرد على من يزعم الاستغناء بظاهر القرآن عن تفسير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أورد فيها من الدلائل ما يضيق هذا الموضوع عن ذكره (1) .
كتب الحديث وأوائل المصنفات:
قال الشافعي يرحمه الله: ما تحت أديم السماء كتاب أكثر صوابا بعد كتاب الله من موطأ مالك.
وهو كما قال الشافعي رضي الله عنه، من حيث إنه أول كتاب ظهر، ويعلق شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول:
وهذا لا يعارض ما عليه أئمة الإسلام من أنه ليس بعد القرآن كتاب أصح من صحيح البخاري ومسلم.
مع أن الأئمة على أن البخاري أصح من مسلم.
ولا يشك أحد أن البخاري أعلم من مسلم بالحديث والعلل والتاريخ، وأنه أفقه منه.
وكتب الأحاديث التي بين أيدينا أيضا ليست على درجة واحدة في الرتبة إذ البخاري وأبو داود أفقه أهل الصحيح والسنن المشهورة كما يقول ذلك ابن تيمية ويعلل ذلك فيقول:
__________
(1) السابق 2 \ 249.(28/294)
وإنما كان هذان الكتابان كذلك لأنه جرد فيها الحديث الصحيح المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما الموطأ ونحوه فإنه صنف على طريقة العلماء المصنفين إذ ذاك.
وأول ما نزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم كان الاهتمام به أكثر فإن الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكتبون القرآن فقط فكان الرسول في أول نزول الوحي لا يشغلهم بغيره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهاهم أن يكتبوا عنه غير القرآن وقال: «من كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه (1) » .
ولكن الصحابة في عهده صلى الله عليه وسلم بدأوا يكتبون الأحاديث حيث أذن في الكتابة لعبد الله بن عمرو وقال: «اكتبوا لأبي شاه (2) » .
وكتب لعمرو بن حزم كتابا (قالوا: كان النهي أولا خوفا من اشتباه القرآن بغيره، ثم أذن لهم صلى الله عليه وسلم بكتابة الحديث عنه لما أمن منهم اختلاطه بالقرآن.
فكان الناس يكتبون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتبوا أيضا غيره من الكتب والرسائل للملوك والأكاسرة والقياصرة وحكام البلاد.
ولم يكونوا يصنفون ذلك في كتب مصنفه إلى زمن تابع التابعين حتى صنف العلم بعد ذلك.
فأول من صنف ابن جريج شيئا في التفسير وشيئا في الأموات وصنف
__________
(1) الحديث في: صحيح مسلم (كتاب الزهد 72) سنن الدارمي (مقدمة 42) ، مسند الإمام أحمد 3 \ 12، 21، 39، 56.
(2) الحديث في البخاري (كتاب العلم 39) ، سنن أبي داود (كتاب المناسك 89) ، (كتاب الديات 4) الترمذي (كتاب العلم 12) ، المسند (2 \ 238) .(28/295)
سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة، ومعمر وأمثال هؤلاء يصنفون ما في الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين.
وصنف بعد ذلك عبد الله بن المبارك، وعبد الله بن وهب ووكيع بن الجراح، عبد الرحمن بن مهدي، وعبد الرزاق، وسعيد بن منصور وغير هؤلاء.
فهذه الكتب التي كانوا يعدونها في ذلك الزمان هي التي أشار إليها الشافعي رحمه الله فقال: ليس بعد القرآن كتاب أكثر صوابا من موطأ مالك فإن حديثه أصح من حديث نظائره وكذلك الإمام أحمد لما سئل عن حديث مالك ورأيه، وحديث غيره ورأيهم، رجح حديث مالك ورأيه على حديث أولئك ورأيهم.
وهذا يصدق الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة (1) » .
فقد روى عن غير واحد، كابن جريح وابن عيينة وغيرهما أنهم قالوا هو مالك (2) .
ومن ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم. وتكلم إما بظن أو هوى.
فهذا أبو حنيفة يعمل بحديث التوضي بالنبيذ في السفر مخالفة للقياس وبحديث القهقهة في الصلاة مع مخالفته للقياس. لاعتقاده صحتهما، وإن
__________
(1) حديث '' يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل. . . '' في الترمذي (كتاب العلم 18) ، المسند 2 \ 299.
(2) أصول الفقه لابن تيمية 2 \ 320.(28/296)
كان أئمة الحديث لم يصححوهما.
يعلق ابن تيمية ويقول:
وقد بينا هذا في رسالة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) وبينا أن أحدا من أئمة الإسلام لا يخالف حديثا صحيحا بغير عذر، بل لهم نحو عشرين عذرا. مثل أن يكون أحدهم لم يبلغه الحديث، أو بلغه من وجه لم يثق به، أو لم يعتقد دلالته على الحكم، أو اعتقد أن ذلك الدليل قد عارضه ما هو أقوى منه كالناسخ أو ما يدل على الناسخ، وأمثال ذلك.
والأعذار يكون العالم فيها مصيبا فيكون له أجران ويكون فيها مخطئا فيثاب على اجتهاده، وخطؤه مغفور له.
لقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (1) البقرة 286 وقد ثبت في الصحيح أن الله استجاب هذا الدعاء وقال: «قد فعلت (2) » ولأن العلماء ورثة الأنبياء.
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(2) حديث (قد فعلت) ثبت في صحيح مسلم أن الله قال: (قد فعلت) (كتاب الإيمان، باب أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق) ، المسند (ط. المعارف) 3 \ 341 رقم 2070، والترمذي كتاب التفسير، سورة البقرة) انظر درء 1 \ 59.(28/297)
أئمة الحديث والفقه واختلاف ميولهم
من تدبر أصول الإسلام وقواعد الشريعة وجد أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول والقواعد.
وقد ذكر ذلك الشافعي وأحمد وغيرهما.
حتى إن الشافعي لما ناظر محمد بن الحسن حين رجح محمد لصاحبه على صاحب الشافعي، فقال له الشافعي: بالإنصاف أو المكابرة؟
فقال له: بالإنصاف.
فقال: ناشدتك الله صاحبنا أعلم بكتاب الله أم صاحبكم؟(28/297)
فقال: بل صاحبكم.
فقال: صاحبنا أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم صاحبكم.
فقال: بل صاحبكم.
فقال: صاحبنا أعلم بأقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أم صاحبكم.
فقال: بل صاحبكم.
فقال: ما بقي بيننا وبينك إلا القياس. ونحن نقول بالقياس. ولكن من كان بالأصول أعلم كان قياسه أصح.
ويعلق شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول:
والإمام أحمد كان يعلم أن مذهب أهل المدينة وعلمائها أقرب إلى الكتاب والسنة من مذهب أهل الكوفة وعلمائها.
وأحمد كان يحب الشافعي ويثني عليه ويدعو له ويذب عنه عندما يطعن في الشافعي، أو من ينسبه إلى بدعة. ويذكر تعظيمه للسنة واتباعه لها ومعرفته بأصول الفقه كالناسخ والمنسوخ. والمجمل والمفسر، ويثبت خبر الواحد ومناظرته عن مذهب أهل الحديث من خالفه بالرأي وغيره.
وكان الشافعي يقول: سموني ببغداد ناصر الحديث. . وقد رحل إلى مالك وأحذ عنه الموطأ.
واجتمع بمحمد بن الحسن وكتب كتبه وناظره، وعرف أصول أبي حنيفة وأصحابه (1) .
__________
(1) أصول الفقه لابن تيمية (ضمن الفتاوى) 2 \ 328 - 331.(28/298)
والبخاري (256) وأبو داود إمامان في الفقه من أهل الاجتهاد.
وأما مسلم (261) ، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة وأبو يعلى (1) والبزار (2) ونحوهم، فهم على مذهب أهل الحديث ليسوا مقلدين لواحد بعينه من العلماء.
ولا هم من الأئمة المجتهدين على الإطلاق. . .
بل هم يميلون إلى قول أئمة الحديث، كالشافعي، وأحمد وإسحاق، وأبي عبيد، وأمثالهم.
ومنهم من له اختصاص ببعض الأئمة كاختصاص أبي داود ونحوه بأحمد بن حنبل وهم إلى مذاهب أهل الحجاز كمالك وأمثاله - أميل منهم إلى مذاهب أهل العراق - كأبي حنيفة والثوري.
وقبيل نهاية القرن الثاني وجدت شرذمة أنكرت حجية السنة كمصدر للتشريع ووجدت طائفة أخرى أنكرت حجية غير المتواتر منها.
فالإمام الشافعي ذكر في الأم: باب حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها، وباب حكاية قول من رد خبر الخاصة.
فالخوارج يأخذون بالسنة النبوية ويؤمنون بها مصدرا للتشريع الإسلامي إلا أنهم نقل عنهم رد ما روي بعض الصحابة، وخاصة بعد التحكيم.
قال الأستاذ السباعي: إن الخوارج على اختلاف فرقهم يعدلون الصحابة جميعا قبل الفتنة، ثم يكفرون عليا وعثمان وأصحاب الجمل والحكمين ومن رضي بالتحكيم وصوب الحكمين أو أحدهما.
وبذلك ردوا أحاديث جمهور الصحابة بعد الفتنة لرضاهم بالتحكيم.
__________
(1) أبو يعلى محمد بن الحسين بن خلف انظر درء 1 \ 16.
(2) البزار أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق الأعلام 1 \ 182 شذرات الذهب 2 \ 109 توفي سنة 292هـ.(28/299)
وقد استدرك الدكتور الأعظمي على الأستاذ السباعي في قوله بأن هذا الكلام يستدعي النظر.
فقال الأعظمي:
مما لا ريب فيه أن كتب الخوارج قد انعدمت بانعدام مذهبهم ما عدا الأباضية وهم فرقة من الخوارج وبمراجعة كتبهم نجدهم يقبلون الأحاديث النبوية: ويروون عن علي وعثمان وعائشة وأبي هريرة وأنس بن مالك وغيرهم رضوان الله عيهم أجمعين.
ومما كتبوه في أصول الفقه تبين أنهم أخذوا بخبر الآحاد.
قال السالمي: إذا عارض الآحاد القياس ففي تقديم أيهما على الآخر مذاهب، ذكر المصنف منها ثلاثة أحدها وهو قول الأكثر من أصحابنا والمتكلمين وهو قول عامة الفقهاء من قومنا أن يقدم الخبر على القياس، فيكون العمل به أولى من العمل بالقياس.
ويقول الأعظمى:
استنتج الشيخ الخضري من كتابات الشافعي - ومال إلى ذلك السباعي أيضا - بأن الفرقة التي ردت الأخبار كلها هي المعتزلة.
ذكر السباعي نقولا عن الآمدي، وابن حزم، وابن القيم.
ثم قال: وهذه النقول - كما ترى - متضاربة لا تعطينا حكما صحيحا في المسألة ثم نقل مذهب النظام من: الفرق بين الفرق للبغدادي مبينا أنه أنكر المعجزات، وأنكر حجية الإجماع والقياس، وأنكر الحجة من الأخبار التي توجب العلم الضروري ثم ذكر أن أكثر المعتزلة متفقون على تكفير النظام.
يعلق الدكتور الأعظمي على الشيخ السباعي فيقول: وبوب الحسين البصري المعتزلي في كتابه في أصول الفقه (المعتمد) بقوله: باب في أن خبر الواحد لا يقتضي العلم. قال أكثر الناس: إنه لا يقتضي العلم، وقال آخرون يقتضي العلم، واختلف هؤلاء فلم يشترط قوم من أهل العلم اقتران قرائن به(28/300)
وقيل إنه يشترط ذلك في التواتر أيضا، ومثل ذلك بأن نخبر بموت زيد. . . .
وترى الجنازة على بابه، مع علمنا بأنه ليس في داره مريض سواه. . . كما أورد أبو الحسين المعتزلي في كتابه أبوابا أخرى مثل باب في جواز ورود التعبد بأخبار الآحاد، وباب في التعبد بخبر الواحد.
فهذه النصوص تعطي فكرة واضحة عن مذهب المعتزلة بأنهم كانوا يأخذون بالأحاديث النبوية وما يقال عن النظام فهو مضطرب. وإن ثبت عنه رد السنة فهو مذهبه.
وهو في هذا لا يمثل جمهور المعتزلة.
يقول الأعظمي: والذي نميل إليه - بعد هذه الشواهد - أن المعتزلة كانوا مع جمهور الأمة في الأخذ بالأحاديث النبوية وربما طعنوا في صحة بعض الأحاديث عندما وجدوها تقف في سبيل نظرياتهم، لكنه لم يكن من مذهبهم رد الأحاديث جملة.
ويوضح لنا ذلك الدكتور الأعظمي يقول:
في عهد الاستعمار بدأ المستعمرون ينشرون أفكارهم الخبيثة للقضاء على مقومات الإسلام، ومنها ترك الأحاديث النبوية ففي العراق وجد من دعا إلى نبذ السنة وفي مصر حدث مثل ذلك فالدكتور توفيق صدقي كتب مقالتين في مجلة المنار بعنوان (الإسلام هو القرآن وحده) واستدل بالآيات القرآنية لعدم الحاجة إلى السنة النبوية حسب زعمه.
وأيد السيد رشيد رضا الدكتور توفيق صدقي بكتاباته إلى حد كبير إذ قسم الأحاديث النبوية إلى قسمين: المتواتر وغير المتواتر وكان يرى رشيد رضا أن ما نقل إلينا بالتواتر كعدد ركعات الصلاة، والصوم، وما شاكل ذلك فهذا يجب قبوله ويسميه الدين العام أما ما نقل بغير هذه الصفة فهو دين خاص لسنا ملزمين بالأخذ عنه.(28/301)
ويبدو أنه رجع عن موقفه في آخر عمره كما يذكر الأستاذ مصطفى السباعي رحمه الله.
ويذكر الشيخ الأعظمي أن الأستاذ أحمد أمين كتب فصلا عن السنة النبوية في كتابه (فجر الإسلام) خلط فيه الحق بالباطل، وكذلك نشر إسماعيل أدهم رسالة سنة 1353 عن تاريخ السنة وقال:
الأحاديث الموجودة حتى في الصحيحين ليست ثابتة الأصول والدعائم بل هي مشكوك فيها ويغلب عليها صفة الوضع.
بعد هؤلاء تسلم الراية أبو رية في كتابه أضواء على السنة المحمدية وخلط ما قال كل من إسماعيل أدهم وتوفيق صدقي ورشيد رضا، وذكر أبو رية أن السنة العملية للرسول صلى الله عليه وسلم هي السنة المعترف بها.
أما بالنسبة لأحاديث الآحاد فيقول: " ومن صح عنده شيء منها رواية ودلالة عمل به ولا تجعل تشريعا عاما تلزمه الأمة إلزاما تقليدا لمن أخذ به " واتهم أبو رية الشيخ محمد عبده أيضا بأنه قال:
إن المسلمين في هذا العصر ليس لهم إمام إلا القرآن، وفي الهند أنتجت الروح الانهزامية رجالا مثل السيد أحمد خان وعبد الله الجكر الوي وأحمد الدين الأهرتري وآخرين وغلام أحمد برويز الذي يقلد توفيق صدقي تقليدا تاما. مع دعوى الاجتهاد والانفراد لأنه ينكر إنكارا تاما أن يكون للأحاديث أية قيمة تشريعية، فلا يرفض أخبار الآحاد فحسب بل يرفض ما نقل إلينا بالتواتر مثل الصلوات الخمس وعدد ركعاتها إلى آخره.
ثم استعرض الدكتور الأعظمي في صفحات عدة حجج منكري السنة قديما وحديثا وقد رد على هذه الحجج وفندها (1) .
__________
(1) انظر دراسات في الحديث 1 \ 29 وما بعدها(28/302)
ويقول الأعظمي: أما الشيعة فيهم فرق كثيرة يكفر بعضهم بعضا كما بين ذلك النوبختي في كتابه فرق الشيعة.
والموجود من الشيعة حاليا في العالم الإسلامي أكثرهم من الاثني عشرية، وهم يذهبون إلى الأخذ بالسنة النبوية وانظر كتبهم في الأحاديث كالكافي للكليني وغير ذلك.
لكن الاختلاف بيننا وبينهم في طريق إثبات السنة نفسها.
وبما أنهم يحكمون بالردة على كافة الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم عدا عدة أشخاص يتراوح عددهم بين ثلاثة إلى أحد عشر.
لذلك لا يقبلون الأحاديث المروية عن هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. بل يعمدون إلى روايات منقولة عن أهل البيت فقط - حسب نظرهم - ويجمل الشيخ الأعظمي الهدف من تعليقاته فيقول:
وخلاصة القول: أجمعت الأمة الإسلامية من سالف الدهر حتى الآن على الأخذ بالسنة النبوية، وأنها مصدر التشريع، والمسلمون ملزمون بها.
ووجد قديما بعض الأشخاص أو بعض الفرق التي طعنت في السنة النبوية، ولكنها انتهت بنهاية القرن الثاني.
أو على الأكثر بنهاية القرن الثالث وما بقي لهم وجود.
وقد استيقظت الفتنة مرة أخرى في القرن الماضي بتأثير من الاستعمار الغربي (1) .
__________
(1) السابق 25(28/303)
لا فرق بين السنة والكتاب في الحلال والحرام:
يقول الدكتور صبحي الصالح رحمه الله تعالى: لكأني برسول الله صلى الله عليه وسلم استشف حجاب الغيب فرأى في القرون من بعده، قوما يفرقون بين كتاب الله وسنة رسوله ولا يعملون إلا بما نص عليه القرآن وحده. فإذا هو يصور لنا هؤلاء تصويرا ينبئنا عن فداحة خطئهم.(28/303)
وضلالهم عن الصراط المستقيم فيقول صلى الله عليه وسلم «ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، فإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله (1) » .
ويفسر الإمام الشافعي اعتناء النبي صلى الله عليه وسلم بضم سنته إلى كتاب الله في الحلال والحرام، وفي كل أمر تشريعي ذي بال بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل إلا ما أحل الله في كتابه، ولم يحرم إلا ما حرم الله في كتابه ثم يؤكد (الشافعي) بلهجة جازمة حاسمة أن جميع ما تقوله الأئمة شرح للسنة، وجميع السنة شرح للقرآن.
ويقول الدكتور صبحي الصالح: ويكاد غير الشافعي يغلو في تفسير هذه الظاهرة حين يعد السنة " وحيا ينزل به جبريل على رسول الله كما ينزل عليه القرآن، ويعلمه إياه كما يعلمه القرآن، ويصرح أبو البقاء بهذا التفسير حين يقول في كلياته دون تجوز ولا اتساع:
والحاصل أن القرآن والحديث يتحدان في كونهما وحيا منزلا من عند الله بدليل قوله تعالى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (2) إلا أنهما يتفارقان من حيث إن القرآن هو المنزل للإعجاز والتحدي به بخلاف الحديث، وأن ألفاظ القرآن مكتوبة في اللوح المحفوظ وليس لجبريل عليه السلام ولا للرسول عليه الصلاة والسلام أن يتصرفا فيه أصلا.
وأما الأحاديث فيحتمل أن يكون النازل على جبريل منها معنى صرفا فكساه حلة العبارة.
ثم يدلي الدكتور صبحي الصالح برأيه في هذه المسألة إذ يقول:
__________
(1) حديث (ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه. . .) في: سنن أبي داود (كتاب السنة باب 5) المسند 4 \ 131
(2) سورة النجم الآية 4(28/304)
ولقد نكون أشد ميلا - من ناحية الوحي - إلى التفرقة بين نزول القرآن على قلب النبي وإلهامه النطق ببعض الأحاديث ثم نجنح - بسبب هذه التفرقة إلى استقلال القرآن وحده بظاهرة الوحي على النحو الذي أوضحناه في كتابنا مباحث علوم القرآن: إذ كان عليه السلام يفرق بوضوح بين الوحي الذي ينزل عليه وبين أحاديثه الخاصة التي كان يعبر عنها بإلهام من الله فمما يجول في نفسه من خواطر وأفكار كان ذا صفة إنسانية محضة لا يمكن أن يختلط بالكلام الرباني. وإنما السنة هي حكمة كما سميت في القرآن في قوله تعالى {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (1) فقد اختار معظم العلماء المحققين أن الحكمة في الآية هي شرح آخر غير القرآن، وهي مجموعة ما اطلع الله عليه رسوله من مقاصد الشرع وتعاليمه وأسراره التي لا يمكن أن تكون غير سنة الرسول القولية والفعلية.
ومنذ عامين اكتشفت جماعة تنكر السنة النبوية بزعامة الدكتور أحمد صبحي منصور أستاذ التاريخ بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر وذلك من خلال كتاب له باسم (الأنبياء في القرآن الكريم) ، الذي تضمن هجوما صارخا على السنة النبوية، وقد تبين أن المذكور له آراء مخالفة لأهل السنة منها أن المسلم العاصي مخلد في النار وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا شفاعة له، وأنكر قصة المعراج وقال: إن القرآن لم يذكر إلا قصة الإسراء، واعتبر أحاديث المعراج باطلة، وأنكر حكم القتل على المرتد. وقال إن القرآن لم يشتمل على ذلك.
__________
(1) سورة الجمعة الآية 2(28/305)
وأول من فند آراء الدكتور صبحي وأبطلها الدكتور عبد الجليل شلبي الأمين العام السابق لمجمع البحوث الإسلامية إذ يقول إن الدكتور صبحي منصور شكك في مسائل إسلامية كثيرة بعضها متعلق بالعقيدة وبعضها متعلق بشخصية الرسول، وعميد كلية اللغة العربية الدكتور سعد ظلام غضب لهذه الآراء وقدم الكتاب الذي يتضمن هذه الآراء عن الرسول وعن السنة إلى مجمع البحوث الإسلامية الذي بدوره حوله إلى لجنة خاصة لمناقشته وتفنيد ما في الكتاب، ومن العلماء الذين قدموا تقريرا في هذا الكتاب الذي يشكك في السنة النبوية الدكتور الطيب النجار ونشرت صور من التقارير بينت بطلان آراء الدكتور صبحي منصور الذي اتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بكتمان الوحي وكذلك أيضا كان رأي الدكتور محمد سيد طنطاوي مفتي مصر بأن هذا الرجل وجماعته ينكرون السنة، وكذلك أيضا رأي الشيخ عبد الله المشد رئيس لجنة الفتوى بالأزهر ببطلان هذه الآراء، وكذلك الدكتور عبد الصبور مرزوق قال إن الدكتور صبحي منصور لن يكون الأول والأخير في محاولات النيل من السنة المطهرة، والأستاذ فهمي هويدي بين أن السنة كانت هدفا منذ بعيد لسهام هؤلاء المغرضين وقد فند آراء الدكتور صبحي كثير من العلماء والمفكرين وردوا عليها (1) .
والحملات على السنة النبوية لها جذور قديمة عند المعتزلة والرافضة والخوارج وإن البغدادي قد ذكرها ورد عليها في كتابه (الفرق بين الفرق) ، وابن حزم قد تصدى لها في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام) ومن قبله الإمام الشافعي قد فندها ورد عليها.
وهذه الآراء الباطلة قد رددها كثير من المستشرقين وروجوها في كتبهم وفي مقدمتهم (جولد تسهير وشبرنجر وفون كريمر) وغيرهم.
__________
(1) انظر جريدة (المسلمون) الدولية بتاريخ 13 ربيع الآخر سنة 1408 وجريدة الأهرام 29 \ 12 \ 87.(28/306)
وقد سار على نهجهم الأستاذ أحمد أمين في كتابه المشهور فجر الإسلام الصادر في سنة 1928 حيث أفرد في هذا الكتاب ست عشرة صفحة عن قضية (الموضوعات) وعدم التدوين وعرض الأقوال التي تنتقد أبا هريرة ويشكك فيه، وقد سار على منوال المستشرقين أيضا الشيخ محمود أبو رية في كتابه (أضواء على السنة) .
وشن حملة جارحة على أبي هريرة أشهر رواة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومثل هذه الحملات على السنة النبوية قد أثارت الغضب عند العلماء الذين فندوا هذه الآراء الباطلة وكانت ردودهم حاسمة أمثال الشيخ عبد الغني عبد الخالق في كتابه (حجية السنة) .
وهو مرجع نفيس أنجزه في بداية الأربعينات والشيخ الدكتور مصطفى السباعي في كتابه المشهور (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي) ، والشيخ الدكتور محمد مصطفى الأعظمي في كتابه الذي نال به جائزة الملك فيصل.(28/307)
(دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه) .
وهكذا مازال الدفاع مستمرا عن السنة النبوية المطهرة إلى يوم الدين. واتجه بعض الكتاب الباحثين في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تقسيم السنة إلى سنة تشريعية وسنة غير تشريعية، يقول الدكتور فتحي عبد الكريم: " إن أحدث ما كتب في هذا الموضوع - فيما نعلم - هو مقال الأستاذ الدكتور محمد سليم العوا في العدد الافتتاحي من مجلة المسلم المعاصر تحت عنوان السنة التشريعية وغير التشريعية (في مجلة المسلم المعاصر، العدد الافتتاحي ص29) . . وقد سبق ذلك المقال بحث آخر في نفس الموضوع للدكتور عبد الحميد متولي في كتابه (مبادئ نظام الحكم في الإسلام) كتب يقول: " في مؤلفات فقهاء الشريعة الإسلامية نجد بصدد الكلام عن السنة مبحثا خاصا وهو: بما يعد من السنة تشريعا عاما وما لا يعد كذلك ".(28/307)
واستخلص الدكتور متولي من ذلك أن السنة القولية وحدها هي التي تعد تشريعا دون السنة الفعلية والسنة التقريرية.
وينتهي صاحب البحث إلى القول بأن ثمة أحاديث كثيرة صدرت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولم تكن تشريعا أصلا، أي لا تعد تشريعا أبديا أو وقتيا.
" والبحثان المتقدمان متأثران بما كتبه كل من فضيلة الشيخ محمود شلتوت في كتابه (الإسلام عقيدة وشريعة) وما كتبه الشيخ أحمد المعروف بشاه ولي الله الدهلوي في كتابه (حجة الله البالغة) ".
" فقد كتب فضيلة الشيخ محمود شلتوت بحثا تحت عنوان: السنة تشريع وغير تشريع ".
" وكتب الدهلوي في المبحث السابع ما يأتي:
اعلم أن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ودون في كتب الحديث على قسمين، أحدهما: ما سبيله تبليغ الرسالة وفيه قوله تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1)
ثانيا: ما ليس من باب تبليغ الرسالة.
مما سبق يتبين أن الأبحاث المتقدمة تشترك في إثارة قضية هامة هي أن السنة ليست كلها تشريعا لازما ".
وبناء على ذلك فإن كتاب (السنة تشريع لازم ودائم) فقد خصصه مؤلفه للرد على هذه القضايا ردا شافيا وافيا، وقد أوجزنا ما قاله.
وأما القول بأن السنة قد تأخر تدوينها فزالت الثقة بضبطها وأصبحت مجالا للظن والظن لا يجوز في دين الله.
فهذا قول من لم يقف على ما بذله الصحابة رضوان الله عليهم وخاصة كتاب الوحي في عصر النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) سورة الحشر الآية 7(28/308)
فقد نقلت السنة بالضبط والحفظ، والكتابة أحيانا من عصر الصحابة إلى نهاية القرن الأول حيث دون الزهري السنة بأمر عمر بن عبد العزيز.
أما ما دس على السنة من كذب فقد تصدى له العلماء وبينوه بما لا يترك مجالا للشك حتى إن النفس لتطمئن إلى السنة إلى حد يكاد يصل إلى درجة اليقين.
انظر في ذلك (كتاب الوحي) للدكتور محمد مصطفى الأعظمي، وانظر له أيضا (دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه) .(28/309)
أخبار الرسول وحي كالقرآن:
وهل يخفى على ذي عقل سليم أن تفسير القرآن بهذه الطريق خير من أقوال أئمة الضلال وشيوخ التجهم والاعتزال كبشر المريسي، والجبائي، والنظام والعلاف وأضرابهم من أهل التفرق والاختلاف.
فإذا كانت أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم لا تفيد علما فجميع ما يذكره هؤلاء لا يفيد علما ولا ظنا.
والله سبحانه وتعالى أنزل على نبيه الحكمة كما أنزل عليه القرآن، والحكمة هي السنة كما قال غير واحد من السلف. فإن الله تعالى قال {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (1)
والمراد بالسنة ما أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى القرآن، كما قال صلى الله عليه وسلم «ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه (2) » .
قال الأوزاعي عن حسان بن عطية كان جبرائيل ينزل بالقرآن والسنة يعلمه إياها، كما يعلمه القرآن.
فهذه الأخبار التي زعم هؤلاء أنه لا يستفاد منها علم، نزل بها جبريل من عند الله عز وجل.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 34
(2) الحديث في: سنن أبي داود (كتاب السنة 5) المسند 4 \ 131(28/309)
ومن الردود لابن القيم على هؤلاء الذين ينكرون حجية الأخبار قوله في مختصر الصواعق: (1) .
إن الرجل لو قرأ بعض المصنفات في النحو أو الطب أو غيرهما أو قصيدة من الشعر كان من أحرص الناس على فهم معنى ذلك وكان من أثقل الأمور عليه قراءة كلام لا يفهمه.
فإذا كان السابقون يعلمون أن هذا كتاب الله وكلامه فكيف لا يكونون أحرص الناس على فهمه ومعرفة معناه. قال البخاري: كان الصحابة إذا جلسوا يتذاكرون كتاب ربهم وسنة نبيهم لم يكن بينهم رأي ولا تيأس مثل المتأخرين، ويوضح لنا أبو شامة الفرق الشاسع بين موقف الصحابة والسلف من العلم وموقف المتأخرين فيقول: إن العلم قد درست أعلامه، وقل في هذا الزمان إتقانه وإحكامه وأدى به الإهمال إلى عدم احترامه، وقل إجلاله وإعظامه وكاد يجهل حلاله وحرامه.
هذا مع حث الشارع عليه، ووصف العلماء القائمين بخشيتهم إياه، ورفعه درجاتهم قال تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (2)
وقد كان من مضى من الأئمة المجتهدين قائمين بنشر علوم الاجتهاد في جميع الآفاق، وهم في ذلك متفاضلون:
فمنهم المحكم لأمر الكتاب.
ومنهم القائم بأمر السنة.
ومنهم الممعن في استنباط الأحكام.
وقل من اجتمع فيه القيام بجميع ذلك.
قال المزني: سمعت الشافعي يقول: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر.
قد كان العلماء في الصدر الأول معذورين في ترك ما لم يقفوا عليه من
__________
(1) مختصر 460
(2) سورة فاطر الآية 28(28/310)
الحديث، لأن الأحاديث لم تكن حينئذ بينهم مدونة إنما كانت تتلقى من أفواه الرجال وهم متفرقون في البلاد (أي لم تكن مدونة منهجيا، بل كانت مكتوبة في صحف متفرقة) .
فلهذا كان الشافعي بالعراق يقول لأحمد بن حنبل " أعلموني بالحديث الصحيح أصر عليه " وفي رواية: إذا صح عندكم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا لي حتى أذهب إليه.
ثم جمع الحفاظ الأحاديث المحتج بها في الكتاب، ونوعوها وقسموها، وسهلوا الطريق إليها فبوبوها، وترجموها وبينوا ضعف كثير منها وصحته، وتكلموا في عدالة الرجال وجرح المجروح منهم وفي علل الأحاديث. ولم يدعوا للمشتغل شيئا يتعلل به خاصة في زماننا هذا إذا أراد الإنسان أن يعرف الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل باب من أبواب الفقه وغيره أمكن له ذلك بكل سهولة، وذلك لتوافر دواوين السنة المشهورة في كل مكان، وهي مخدومة بفهارس متنوعة تسهل للباحث الوقوف على المطلوب بأسرع وقت ممكن ولله الحمد.(28/311)
الاستدلال بالإجماع والقياس
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح في خطبة يوم الجمعة «خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (1) » .
ولم يقل وكل ضلالة في النار: يقول ابن تيمية (2) .
بل يضل عن الحق من قصد الحق، وقد اجتهد في طلبه فعجز عنه فلا يعاقب وخطؤه مغفور له.
__________
(1) الحديث في: صحيح البخاري (كتاب الاعتصام 2) ، صحيح مسلم (كتاب الجمعة 43) سنن ابن ماجه (المقدمة 7)
(2) أصول الفقه جـ1 \ 191 وما بعدها (فتاوى 19)(28/311)
وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد فعلوا ما هو بدعة، ولم يعلموا أنه بدعة إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها.
والمقصود هنا أن الرسول بين جميع الدين بالكتاب والسنة وأن الإجماع - إجماع الأمة - حق، فإنها لا تجتمع على ضلالة وكذلك القياس الصحيح حق يوافق الكتاب والسنة.
والآية المشهورة التي نستدل بها على الإجماع قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} (1)
ومن الناس من يقول: إنها لا تدل على مورد النزاع.
وآخرون يقولون بل تدل على اتباع المؤمنين مطلقا، وتكلفوا لذلك ما تكلفوه.
والقول الثالث الوسط أنها تدل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين مع تحريم مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى.
فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس.
فثبت أن بعض المجتهدين قد يفتي بعموم أو قياس ويكون في الحادثة نص خاص لم يعلمه.
فلما تنازعوا في (الحرام) احتج من جعله يمينا بقوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (3)
وكذلك لما تنازعوا في المبتوتة: هل لها نفقة أو سكنى؟ (4) .
احتج هؤلاء بحديث فاطمة، وبأن السكنى التي في القرآن للرجعية.
وأولئك قالوا: بل هي لهما.
__________
(1) سورة النساء الآية 115
(2) سورة التحريم الآية 1
(3) سورة التحريم الآية 2
(4) السابق ص198(28/312)
ودلالة النصوص قد تكون خفية، فخص الله بفهمهما بعض الناس. كما قال علي: (إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه) .
وقد يكون النص بينا ويذهل المجتهد عنه كتيمم الجنب، فإنه بين في القرآن في آيتين.
ولما احتج أبو موسى على ابن مسعود بذلك قال الحاضر: ما درى عبد الله ما يقول إلا أنه قال: لو أرخصنا لهم في هذا لأوشك أحدهم إذا وجد المرء البرد أن يتيمم.
وقد قال ابن عباس وفاطمة بنت قيس وجابر: إن المطلقة في القرآن هي الرجعية بدليل قوله تعالى {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (1) وأي أمر يحدثه بعد الثلاثة؟ .
وقد احتجت طائفة بوجوب العمرة بقوله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (2) واحتج بهذه الآية على منع الفسخ: أي فسخ العمرة عن الحج.
وآخرون يقولون: إنما أمر بالإتمام فقط، أي إتمام الأركان والمناسك إذا دخل فيهما.
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) سورة البقرة الآية 196(28/313)
الأخذ بالآثار وهو موافق للأصول
:
قول القائل التوضؤ من لحوم الإبل على خلاف القياس فهذا إنما قاله لأنها لحم، واللحم لا يتوضأ منه.
وصاحب الشرع بين لحم الغنم، ولحم الإبل. كما فرق بين مطاعن هذه ومبارك هذه.
فأمر بالصلاة في هذا، ونهى عن الصلاة في هذا.
فدعوى المدعي أن القياس التسوية بينهما من جنس قول الذين قالوا {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1)
والفرق بينهما ثابت في نفس الأمر.
كما فرق بين أصحاب الإبل وأصحاب الغنم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 275(28/313)
فقال «الفخر والخيلاء في الفدادين أصحاب الإبل والسكينة في أهل الغنم (1) » .
وروى في الإبل «أنها جن خلقت من جن» .
فالإبل فيها قوة شيطانية، والغاذي شبيه بالمغتذي فإذا توضأ العبد من لحوم الإبل كان في ذلك من إطفاء القوة الشيطانية ما يزيل المفسدة. بخلاف من لم يتوضأ منها فإن الفساد حاصل معه.
وكذلك التوضؤ من مس الذكر ومس النساء هو من هذا الباب، لما فيه من تحريك الشهوة، فالتوضؤ مما يحرك الشهوة كالتوضؤ من الغضب، والغضب من الشيطان.
والإبل نهى الرسول عن الصلاة في أعطانها للزوم الشيطان لها. بخلاف الصلاة في مباركها في السفر، فإنه جائز، لأنه عارض، وكذلك الحمام بيت الشيطان (2) .
وقد تنازع العلماء في الوضوء من النجاسة الخارجة من غير السبيلين كالفصاد والحجامة، والجرح، والقيء والوضوء من مس النساء لشهوة وغير شهوة، والتوضؤ من مس الذكر، والتوضؤ من القهقهة.
فبعض الصحابة كان يتوضأ من مس الذكر، كسعد، وابن عمر، وكثير منهم لم يتوضأ منه. والوضوء منه هل واجب أو مستحب؟
فيه عن مالك وأحمد، روايتان.
وإيجابه قول الشافعي.
وعدم الإيجاب مذهب أبي حنيفة.
ولا يقدر أحد قط أن ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر
__________
(1) حديث '' الفخر والخيلاء. . . '' ورد بروايات متعددة في: البخاري (كتاب بدء الخلق 15) ، (كتاب المغازي 74) ، مسلم (كتاب الإيمان 81، 85، 87) ، مسند الإمام أحمد 2 \ 258، 270، 319، ومواضع كثيرة 3 \ 42، 46، 323
(2) أصول الفقه 2 \ 524 - 525 (فتاوى)(28/314)
أصحابه بالوضوء من مس النساء، ولا من النجاسات الخارجة، لعموم البلوى بذلك.
وقوله تعالى {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (1) المراد به الجماع كما فسره بذلك ابن عباس وغيره.
والمقصود هنا: التنبيه على فساد قول من يدعي التناقض في معاني الشريعة أو ألفاظها.
يقول ابن تيمية:
والأظهر أنه لا يجب الوضوء من مس الذكر ولا النساء ولا خروج النجاسات من غير السبيلين ولا القهقهة، ولا غسل الميت، فإنه ليس مع الموجبين دليل صحيح.
بل الأدلة الراجحة تدل على عدم الوجوب. لكن الاستحباب متوجه ظاهر فيستحب أن يتوضأ.
والصحابة نقل عنهم فعل الوضوء، لا إيجاب الوضوء، وكذلك القهقهة في الصلاة ذنب، ويشرع لكل من أذنب أن يتوضأ.
وفي استحباب الوضوء من القهقهة وجهان لمذهب أحمد وغيره وأما الوضوء من الحدث الدائم لكل صلاة فيه أحاديث متعددة، وهو قول الجمهور وهو عندهم أظهر وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي وأحمد والله أعلم (2) .
وأما المتنازع فيه فمثل ما يأتي حديث بخلاف أمر فيقول القائلون: هذا بخلاف القياس، أو بخلاف قياس الأصول.
وهذا له أمثلة من أشهرها: المصراة.
__________
(1) سورة النساء الآية 43
(2) فتاوى أصول الفقه 2 \ 526 - 527، فتاوى أصول الفقه 2 \ 556 - 557(28/315)
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تصروا الإبل ولا الغنم (1) » .
فمن ابتاع مصراة، فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، «إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر (2) » وهو حديث صحيح.
فقال قائلون: هذا يخالف قياس الأصول من وجوه، وذكروا وجوها خمسة أوردها ابن تيمية ورد عليها ثم قال:
فقال المتبعون للحديث: بل ما ذكرتموه خطأ والحديث موافق للأصول. .
ولهذا كان من موارد الاجتهاد أن جميع الأمصار يضمنون ذلك بصاع من تمر.
وقصة داود وسليمان عليهما السلام من هذا الباب فإن الماشية كانت قد أتلفت حرث القوم، وهو بستانهم.
قالوا: وكان عينا، والحرث اسم للشجر والزرع، فقضى داود بالغنم لأصحاب الحرث كأنه ضمنهم ذلك بالقيمة، ولم يكن لهم مال إلا الغنم، فأعطاهم الغنم بالقيمة.
وأما سليمان فحكم بأن أصحاب الماشية يقومون على الحرث حتى يعود كما كان فضمنهم إياه بالمثل وأعطاهم الماشية، يأخذون منفعتها عوضا عن المنفعة التي فاتت من حين تلف الحرث إلى أن يعود.
وبذلك أفتى الزهري لعمر بن عبد العزيز فيمن كان أتلف له شجرا، فقال يغرسه حتى يعود كما كان.
وهذا موجب الأدلة، فإن الواجب ضمان المتلف بالمثل بحسب الإمكان قال تعالى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (3)
وقال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (4)
__________
(1) حديث '' لا تصروا الإبل. . . '' في البخاري (كتاب البيوع 64) ؛ مسلم (كتاب البيوع 11) سنن أبي داود (كتاب البيوع 46) ، النسائي (كتاب البيوع 14) ، الموطأ (البيوع 96) ، المسن 2 \ 243، 410 ومواضع أخرى
(2) صحيح البخاري البيوع (2150) ، صحيح مسلم البيوع (1515) ، سنن الترمذي البيوع (1221) ، سنن النسائي البيوع (4489) ، سنن أبو داود البيوع (3443) ، سنن ابن ماجه التجارات (2239) ، مسند أحمد بن حنبل (2/465) ، سنن الدارمي البيوع (2553) .
(3) سورة الشورى الآية 40
(4) سورة البقرة الآية 194(28/316)
ونظير هذا ما ثبت بالسنة اتفاق الصحابة من القصاص في اللطمة والضربة، وهو قول كثير من السلف.
فقال طائفة من الفقهاء: المساواة متعذرة في ذلك فيرجع إلى التعزير.
فيقال لهم: ما جاءت به الآثار هو موجب القياس.
ومن المعلوم الأمر بضرب يقاربه ضربه أقرب إلى العدل والمماثلة من عقوبة التعزير (1) .
يقول ابن تيمية:
وقد تأملت من هذا الباب ما شاء الله فرأيت الصحابة أفقه الأمة وأعلمها. . . وكان القياس مع قولهم، لا ضده. واعتبر هذا بمسائل الأيمان بالنذر، والعتق والطلاق.
وكذلك مثل مسألة ابن الملاعنة، ومسألة ميراث المرتد.
__________
(1) أصول الفقه 2 \ 565 ابن تيمية(28/317)
صفحة فارغة(28/318)
من قرارات المجمع الفقهي
القرار الأول
بشأن العمل بالرؤية في إثبات الأهلة لا بالحساب الفلكي
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد اطلع في دورته الرابعة المنعقدة بمقر الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في الفترة ما بين السابع والسابع عشر من شهر ربيع الآخر سنة 1401هـ. على صورة خطاب الدعوة الإسلامية في سنغافورة المؤرخ في 16 شوال 1399هـ الموافق 8 أغسطس 1979م الموجه لسعادة القائم بأعمال سفارة المملكة العربية السعودية هناك والذي يتضمن أنه حصل خلاف بين هذه الجمعية وبين المجلس الإسلامي في سنغافورة في بداية شهر رمضان ونهايته سنة 1399هـ - الموافق 1979م حيث رأت الجمعية ابتداء شهر رمضان وانتهاءه على أساس الرؤية الشرعية وفقا لعموم الأدلة الشرعية بينما رأى المجلس الإسلامي في سنغافورة ابتداء ونهاية رمضان المذكور بالحساب الفكلي معللا ذلك بقوله (بالنسبة لدول منطقة آسيا حيث كانت سماؤها محجبة بالغمام وعلى وجه الخصوص سنغافورة فالأماكن لرؤية الهلال أكثرها محجوبة عن الرؤية وهذا يعتبر من المعذورات التي لا بد منها لذا يجب التقدير عن طريق الحساب) .
وبعد أن قام أعضاء مجلس المجمع الفقهي الإسلامي بدراسة وافية لهذا الموضوع على ضوء النصوص الشرعية قرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي(28/319)
تأييده لجمعية الدعوة الإسلامية فيما ذهبت إليها لوضوح الأدلة الشرعية في ذلك.
كما يقرر أنه بالنسبة لهذا الوضع الذي يوجد في أماكن مثل سنغافورة وبعض مناطق آسيا وغيرها، حيث تكون سماؤها محجوبة بما يمنع الرؤية فإن للمسلمين في تلك المناطق وما شابهها أن يأخذوا برؤية من يثقون به من البلاد الإسلامية التي تعتمد على الرؤية البصرية للهلال دون الحساب بأي شكل من الأشكال عملا بقوله صلى الله عليه وسلم «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين (1) » وقوله صلى الله عليه وسلم «لا تصوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ولا تفطروا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة (2) » وما جاء في معناهما من الأحاديث.
[توقيع] ... - ... [توقيع]
نائب الرئيس ... - ... رئيس مجلس المجمع الفقهي
محمد علي الحركان ... - ... عبد الله بن حميد
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... مصطفى الزرقاء ... محمد محمود الصواف
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
صالح بن عثيمين ... محمد بن عبد الله بن السبيل ... مبروك العوادي
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
محمد الشاذلي النيفر ... عبد القدوس الهاشمي ... محمد رشيدي
[غائب عن التوقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
أبو الحسن علي الحسني الندوي ... أبو بكر محمود جومي ... حسنين محمد مخلوف
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
محمد رشيد قباني ... محمود شيت خطاب ... محمد سالم عدود
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (688) ، سنن النسائي الصيام (2124) ، سنن أبو داود الصوم (2327) ، موطأ مالك الصيام (635) ، سنن الدارمي الصوم (1686) .
(2) سنن النسائي الصيام (2127) ، سنن أبو داود الصوم (2326) ، مسند أحمد بن حنبل (4/314) .(28/320)
قرار هيئة كبار العلماء
رقم 2 وتاريخ 13 \ 8 \ 1392
في مسألة اعتبار اختلاف مطالع الأهلة من عدمه
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
فبناء على خطاب المقام السامي رقم 22451 وتاريخ 6 \ 11 \ 1391هـ المتضمن إحالة موضوع الأهلة إلى هيئة كبار العلماء نظرا إلى أن الموضوع عند دراسة مجلس رابطة العالم الإسلامي في جلسته المنعقدة في 15 شعبان عام 1391هـ واطلاعها على قرار اللجنة الفقهية المنبثقة من المجلس قررت الموافقة على القول بعدم اعتبار اختلاف المطالع إلا أن بعض أعضاء المجلس التأسيسي رأى التريث في الأمر وزيادة البحث والتقصي في هذا الموضوع.
بناء على ذلك عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورتها الثانية المنعقدة في شهر شعبان 1392هـ ما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في موضوع إثبات الأهلة المشتمل على الفقرتين التاليتين:
أ) حكم اعتبار اختلاف المطالع وعدم اعتباره.
ب) حكم إثبات الهلال بالحساب.
وكذا قرار رابطة العالم الإسلامي الصادر منها في دورتها الثالثة عشرة المنعقدة في شهر شعبان عام 1391هـ، ومرفقه بحث اللجنة الفقهية المشكلة من بعض أعضاء مجلس الرابطة في الموضوع وبعد دراسة المجلس للموضوع وتداول الرأي فيه قرر ما يلي:
أولا - اختلاف مطالع الأهلة من الأمور التي علمت بالضرورة حسا وعقلا ولم يختلف فيها أحد وإنما وقع الاختلاف بين علماء المسلمين في اعتبار اختلاف المطالع من عدمه.
ثانيا: مسألة اعتبار اختلاف المطالع من عدمه من المسائل النظرية التي للاجتهاد فيها مجال والاختلاف فيها وفي أمثالها واقع ممن لهم الشأن في العلم(28/321)
والدين وهو من الخلاف السائغ الذي يؤجر فيه المصيب أجرين أجر الاجتهاد وأجر الإصابة ويؤجر فيه المخطئ أجر الاجتهاد، وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين فمنهم من رأى اعتبار اختلاف المطالع ومنهم من لم ير اعتباره واستدل كل فريق بأدلته من الكتاب والسنة، وربما استدل الفريقان بالنص الواحد كاشتراكهما في الاستدلال بقوله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (1) وبقوله صلى الله عليه وسلم «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته (2) » . الحديث. وذلك لاختلاف الفهم في النص وسلوك كل منهما طريقا في الاستدلال به. وعند بحث هذه المسألة في مجلس الهيئة، ونظرا لاعتبارات قدرتها الهيئة، ولأن هذا الخلاف في مسألة اعتبار اختلاف المطالع من عدمه ليس له آثار تخشى عواقبها. وقد مضى على ظهور هذا الدين مدة أربعة عشر قرنا لا نعلم منها فترة جرى فيها توحيد الأمة الإسلامية على رؤية واحدة. . فإن أعضاء الهيئة يرون بقاء الأمر على ما كان عليه وعدم إثارة هذا الموضوع وأن يكون لكل دولة إسلامية حق اختيار ما تراه بواسطة علمائها من الرأيين المشار إليهما في المسألة إذ لكل منهما أدلته ومستنداته.
ثالثا: أما ما يتعلق بإثبات الأهلة بالحساب فبعد دراسة ما أعدته اللجنة الدائمة في ذلك، وبعد الرجوع إلى ما ذكره أهل العلم فقد أجمع أعضاء الهيئة على عدم اعتباره لقوله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته (3) » . الحديث. ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه (4) » . . الحديث.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،،،،.
__________
(1) سورة البقرة الآية 189
(2) صحيح البخاري الصوم (1909) ، صحيح مسلم الصيام (1081) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2117) ، مسند أحمد بن حنبل (2/497) ، سنن الدارمي الصوم (1685) .
(3) صحيح البخاري الصوم (1909) ، صحيح مسلم الصيام (1081) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2117) ، مسند أحمد بن حنبل (2/497) ، سنن الدارمي الصوم (1685) .
(4) صحيح البخاري الصوم (1906) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2121) ، سنن أبو داود الصوم (2320) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .(28/322)
صفحة فارغة(28/323)
نداء وتذكير لمساعدة المجاهدين
الأفغان والمجاهدين في فلسطين
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فقد قال سبحانه في محكم كتابه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3) {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (4) .
وقال عز وجل: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (5) .
وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (6) .
__________
(1) سورة الصف الآية 10
(2) سورة الصف الآية 11
(3) سورة الصف الآية 12
(4) سورة الصف الآية 13
(5) سورة التوبة الآية 41
(6) سورة التوبة الآية 111(28/324)
وثبت عن المصطفى عليه الصلاة والسلام أنه قال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر (1) » وقال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه (2) » وقال صلى الله عليه وسلم: «من جهز غازيا فقد غزا ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا (3) » وقال عليه الصلاة والسلام: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم (4) » .
والآيات والأحاديث في فضل الجهاد والإنفاق فيه والتشجيع على ذلك كثيرة معلومة. فمساعدة المجاهدين والمهاجرين الأفغان والمجاهدين داخل فلسطين بالمال والنفس من أفضل القربات ومن أعظم الأعمال الصالحات وهم من أحق الناس بالمساعدة من الزكاة وغيرها. ومن حكمة الزكاة في الإسلام والصدقات أن يشعر المسلم برابطة تجذبه نحو أخيه لأنه يشعر بما يؤلمه. ويحس بما يقع عليه من كوارث ومصائب. فيرق له قلبه ويعطف عليه. ليدفع مما آتاه الله بنفس راضية وقلب مطمئن بالإيمان.
والمجاهدون الأفغان والمهاجرون منهم والمجاهدون في داخل فلسطين وفقهم الله جميعا يعانون مشكلات عظيمة في جهادهم لأعداء الإسلام فيصبرون عليها رغم أن عدوهم وعدو الدين الإسلامي يضربهم بقوته وأسلحته.
ولكل ما يستطيع من صنوف الدمار وهم بحمد الله صامدون وصابرون على مواصلة الجهاد في سبيل الله كما تتحدث عنهم الأخبار والصحف ومن شاركهم في الجهاد من الثقات، لم يضعفوا ولم تلن شكيمتهم ولكنهم في أشد الضرورة إلى دعم إخوانهم المسلمين ومساعدتهم بالنفوس والأموال في قتال عدوهم عدو الإسلام والمسلمين وتطهير بلادهم من رجس الكفرة وأذنابهم من الشيوعيين واليهود.
وقد من الله عليهم بالاجتماع وجمع الشمل على التصميم في مواصلة الجهاد. فالواجب على إخوانهم المسلمين من الحكام والأثرياء أن يدعموهم ويعينوهم ويشدوا أزرهم حتى يكملوا مسيرة الجهاد ويفوزوا إن شاء الله بالنصر المؤزر على أعدائهم أعداء الإسلام.
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .
(2) صحيح البخاري الصلاة (481) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) .
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2843) ، صحيح مسلم الإمارة (1895) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1628) ، سنن النسائي الجهاد (3180) ، سنن أبو داود الجهاد (2509) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2759) ، مسند أحمد بن حنبل (4/116) ، سنن الدارمي الجهاد (2419) .
(4) سنن النسائي الجهاد (3096) ، سنن أبو داود الجهاد (2504) ، مسند أحمد بن حنبل (3/153) ، سنن الدارمي الجهاد (2431) .(28/325)
وإني أهيب بجميع إخواني المسلمين من رؤساء الحكومات الإسلامية وغيرهم من الأثرياء في كل مكان بأن يقدموا لإخوانهم المجاهدين الأفغان والمجاهدين في فلسطين مما أتاهم الله من فضله ومن الزكاة التي فرضها الله في أموالهم حقا لمن حددهم الله جل وعلا في سورة التوبة وهم ثمانية. قد دخل إخواننا المجاهدون والمهاجرون الأفغان والمجاهدون في فلسطين من ضمنهم.
والله تبارك وتعالى قد فرض حقا في مال الغني لأخيه المسلم في آيات كثيرة من كتابه الكريم كقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} (1) {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (2) وقوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (3) .
وقوله سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (4) وقوله سبحانه: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (5) . وهو سبحانه يثيب المسلم على ما يقدم لإخوانه ثوابا عاجلا وثوابا أخرويا يجد جزاءه عنده في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، كما أنه يدفع عنه في الدنيا بعض المصائب التي لولا الله سبحانه ثم الصدقات والإحسان لحلت به أو بماله فدفع الله شرها بصدقته الطيبة وعمله الصالح. يقول الله عز وجل: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} (6) . ويقول عز وجل: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (7) .
__________
(1) سورة المعارج الآية 24
(2) سورة المعارج الآية 25
(3) سورة الحديد الآية 7
(4) سورة البقرة الآية 261
(5) سورة البقرة الآية 195
(6) سورة المزمل الآية 20
(7) سورة سبأ الآية 39(28/326)
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما نقص مال من صدقة (1) » ويقول صلوات الله وسلامه عليه: «الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار (2) » .
ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «اتقوا النار ولو بشق تمرة (3) » .
وإخوانكم المجاهدون الأفغان والمجاهدون في داخل فلسطين أيها المسلمون يقاسون آلام الجوع والجراح والقتل والتشريد فهم في أشد الضرورة إلى الكساء والطعام. وفي أشد الضرورة إلى الدواء كما أنهم في أشد الضرورة إلى هذه الأشياء وإلى السلاح الذي يقاتلون به أعداء الله وأعداءهم. فجودوا عليهم أيها المسلمون مما أعطاكم الله واعطفوا عليهم يبارك الله لكم ويخلف عليكم ويضاعف لكم الأجور كما جاء في الحديث الصحيح عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: «كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه قوم عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر. فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى. ثم خطب فقال: والآية التي في الحشر تصدق رجل من ديناره من درهمه. من ثوبه من صاع بره. من صاع تمره. حتى قال: ولو بشق تمرة. فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت عنها. ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تهلل كأنه مذهبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2588) ، سنن الترمذي البر والصلة (2029) ، مسند أحمد بن حنبل (2/386) ، موطأ مالك الجامع (1885) ، سنن الدارمي الزكاة (1676) .
(2) سنن الترمذي الجمعة (614) .
(3) صحيح البخاري الزكاة (1417) ، صحيح مسلم الزكاة (1016) ، سنن النسائي الزكاة (2553) ، مسند أحمد بن حنبل (4/256) .
(4) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن الترمذي العلم (2675) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، سنن ابن ماجه المقدمة (203) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (514) .
(5) سورة النساء الآية 1 (4) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}(28/327)
من غير أن ينقص من أوزارهم شيء (1) » رواه مسلم في صحيحه. ثم هذه النفقة أيها المسلمون تؤجرون عليها وتخلف عليكم كما تقدم في قوله سبحانه: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} (2) .
وفي قوله سبحانه: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (3) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: «يقول الله عز وجل يا ابن آدم أنفق ننفق عليك (4) » . ونسأل الله عز وجل أن يضاعف أجر من ساهم في مساعدة إخوانه المجاهدين ويتقبل منه وأن يعين المجاهدين الأفغان والمجاهدين في فلسطين وسائر المجاهدين في سبيله في كل مكان على كل خير ويثبت أقدامهم في جهادهم ويمنحهم الفقه في الدين والصدق والإخلاص وأن ينصرهم على أعداء الإسلام أينما كانوا إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية
والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) سورة الحشر الآية 18 (5) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}
(2) سورة المزمل الآية 20
(3) سورة سبأ الآية 39
(4) صحيح البخاري النفقات (5352) ، صحيح مسلم الزكاة (993) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3045) ، سنن ابن ماجه المقدمة (197) ، مسند أحمد بن حنبل (2/313) .(28/328)
تصويب واعتذار
توضح مجلة البحوث الإسلامية لقرائها الكرام ولفضيلة الشيخ \ صالح بن عثيمين ولفضيلة الشيخ \ محمد بن صالح العثيمين عما حصل من خطأ في كتابة اسم فضيلة الشيخ في توقيعات قرارات المجمع الفقهي المنشورة في العدد (25) الصفحات (340 و341 و345) والعدد (26) الصفحات (333 و343 والعدد (27) الصحفات (342 و345) والصواب هو \ الشيخ صالح بن عثيمين.
ونعتذر للإخوة القراء وللشيخين الفاضلين ونوضح أن ذلك الخطأ كان نتيجة لتشابه الاسمين لدى مصحح المجلة.(28/329)
صفحة فارغة(28/330)
حديث شريف
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما (1) »
رواه البخاري
__________
(1) صحيح البخاري الديات (6862) ، مسند أحمد بن حنبل (2/94) .(28/331)
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1)
سورة البقرة \ 188
__________
(1) سورة البقرة الآية 188(29/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(29/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ـ الرياض
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(29/3)
المحتويات
الافتتاحية:
من أهداف الحج توحيد كلمة المسلمين على الحق سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
موضوع العدد:
التقادم في مسألة وضع اليد "الجزء الأول" اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 19
الفتاوى:
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 67
فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 99(29/4)
البحوث:
مصرف المؤلفة قلوبهم الشيخ عبد الله بن سليمان المنيع 111
الوقاية من الجريمة في التشريع الجنائي الإسلامي الدكتور محمد بن سعد الشويعر 125
حتمية تطبيق شرع الله في الأرض الدكتور / صالح بن غانم السدلان 169
النسخ في القرآن الكريم الشيخ عبد الله بن حمد الشبانة 207
مخطوطة "الجواب الفاصل بتمييز الحق من الباطل" تحقيق: الدكتور عواد بن عبد الله بن محمد المعتق 279
نحو مجتمع أفضل الشيخ / محمد المجذوب 315
من قرارات المجامع الفقهية 331
بيان بطلان ما يعتقده بعض الناس سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 345
بيان هيئة كبار العلماء في تأييد ما اتخذه ولي الأمر من إجراءات لحماية المملكة 349(29/5)
صفحة فارغة(29/6)
الافتتاحية
من أهداف الحج توحيد كلمة المسلمين على الحق
الحمد لله الذي جعل البيت مثابة للناس وأمنا، وجعله مباركا وهدى للعالمين، وأمر عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء ووالد الأنبياء من بعد أن يوجه الناس، ويؤذن فيهم بالحج بعد ما بوأ له مكان البيت؛ ليأتوا إليه من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، الذي بعث رسله، وأنزل كتبه؛ لإقامة الحجة وبيان أنه سبحانه هو الواحد الأحد المستحق أن يعبد، والمستحق لأن يجتمع العباد على طاعته واتباع شريعته وترك ما خالف ذلك، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله الذي أرسله سبحانه رحمة للعالمين وحجة على العباد أجمعين، بعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأمره أن يبلغ الناس مناسكهم ففعل ذلك قولا وعملا عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم.(29/7)
لقد حج عليه الصلاة والسلام حجة الوداع وبلغ الناس مناسكهم قولا وعملا، وقال للناس: «خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا (1) » فشرح لهم أعمال الحج وأقوال الحج وجميع مناسكه بقوله وفعله عليه الصلاة والسلام، فقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين من ربه عليه الصلاة والسلام، فسار خلفاؤه الراشدون وصحابته المرضيون رضي الله عنهم جميعا على نهجه القويم، وبينوا للناس هذه الرسالة العظيمة بأقوالهم وأعمالهم، ونقلوا إلى الناس أقواله وأعماله عليه الصلاة والسلام بغاية الأمانة والصدق، رضي الله عنهم وأرضاهم وأحسن مثواهم.
وكان أعظم أهداف هذا الحج توحيد كلمة المسلمين على الحق وإرشادهم إليه حتى يستقيموا على دين الله وحتى يعبدوه وحده وحتى ينقادوا لشرعه، فمن أجل ذلك رأيت أن تكون كلمتي في هذا المقام بهذا العنوان (من أهداف الحج توحيد كلمة المسلمين على الحق) وللحج أهداف كثيرة يأتي بيان كثير منها إن شاء الله.
فمعلوم أن الله جل وعلا شرع الحج لعباده وجعله الركن الخامس من أركان الإسلام لحكم كثيرة وأسرار عظيمة ومنافع لا تحصى، وقد أشار الله جل وعلا إلى ذلك في كتابه العظيم حيث يقول جل وعلا: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} (3) {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (4) .
فبين سبحانه وتعالى أن هذا البيت أول بيت وضع للناس أي في الأرض للعبادة والتقرب إلى الله بما يرضيه، كما ثبت في الصحيحين في حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: «قلت: يا رسول الله أخبرني عن أول مسجد وضع في
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .
(2) سورة آل عمران الآية 95
(3) سورة آل عمران الآية 96
(4) سورة آل عمران الآية 97(29/8)
الأرض، قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: وكم بينهما؟ قال: أربعون عاما، قلت: ثم أي؟ قال: ثم حيث أدركتك الصلاة فصل فإنه مسجد (1) » .
فبين عليه الصلاة والسلام أن أول بيت وضع للناس هو المسجد الحرام، وهو وضع للعبادة والتقرب إلى الله عز وجل كما قال أهل العلم. وهناك بيوت قبله للسكن، ولكن المقصود أنه أول بيت وضع للعبادة والطاعة والتقرب إلى الله عز وجل بما يرضيه من الأقوال والأعمال، ثم بعده المسجد الأقصى بناه حفيد إبراهيم يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، ثم جدده في آخر الزمان بعد ذلك بمدة طويلة نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك كل الأرض مسجد.
ثم جاء مسجد النبي عليه الصلاة والسلام وهو المسجد الثالث في آخر الزمان على يدي نبي الساعة محمد عليه الصلاة والسلام، فبناه بعدما هاجر إلى المدينة هو وأصحابه رضي الله عنهم، وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه أفضل المساجد بعد المسجد الحرام، فالمساجد المفضلة ثلاثة: أعظمها وأفضلها المسجد الحرام، ثم مسجد النبي عليه الصلاة والسلام ثم المسجد الأقصى، والصلاة في هذه المساجد مضاعفة، جاء في الحديث الصحيح أنها في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، وجاء في مسجده عليه الصلاة والسلام أن الصلاة في مسجده خير من ألف صلاة فيما سواه، وجاء في المسجد الأقصى أنها بخمسمائة صلاة، وهي المساجد العظيمة المفضلة، وهي مساجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وشرع الله جل وعلا الحج لعباده لما في ذلك من المصالح العظيمة، وأخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن الحج مفروض على العباد المكلفين المستطيعين السبيل إليه كما دل عليه كتاب الله عز وجل في قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (2) .
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3366) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (520) ، سنن النسائي المساجد (690) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (753) ، مسند أحمد بن حنبل (5/156) .
(2) سورة آل عمران الآية 97(29/9)
وخطب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الناس فقال: «أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فقيل: يا رسول الله أفي كل عام؟ فقال: الحج مرة فمن زاد فهو تطوع (1) » فهو فرض مرة في العمر فما زاد على ذلك فهو تطوع على الرجال والنساء المكلفين المستطيعين السبيل إليه، ثم هو بعد ذلك تطوع وقربة عظيمة، كما قال النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة (2) » وهذا يعم الفرض والنفل من العمرة والحج، وقال عليه الصلاة والسلام: «من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه (3) » وفي اللفظ الآخر: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه (4) » . وهذا يدل على الفضل العظيم للحج والعمرة وأن العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما وأن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.
فجدير بأهل الإيمان أن يبادروا لحج بيت الله وأن يؤدوا هذا الواجب العظيم أينما كانوا وإذا استطاعوا السبيل إلى ذلك، وأما ما بعد ذلك فهو نافلة وليس بفريضة ولكن فيه فضل عظيم كما في الحديث الصحيح: «قيل يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم أي؟ قال: حج مبرور (5) » متفق على صحته.
وقد حج عليه الصلاة والسلام حجة الوداع وشرع للناس المناسك بقوله وفعله وخطب بهم في حجة الوداع في يوم عرفة خطبة عظيمة ذكرهم فيها بحقه سبحانه وتوحيده، وأخبرهم فيها أن أمور الجاهلية موضوعة، وأن الربا موضوع، وأن دماء الجاهلية موضوعة، وأوصاهم فيها بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله والاعتصام بهما، وأخبر أنهم لن يضلوا ما اعتصموا بهما، وبين حق الرجل على زوجته وحقها عليه وبين أمورا كثيرة عليه الصلاة والسلام. ثم قال: «وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء، ثم ينكبها إلى الأرض ويقول: اللهم اشهد اللهم اشهد (6) » عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام. ولا شك أنه
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الحج (1337) ، سنن الترمذي العلم (2679) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .
(2) صحيح البخاري الحج (1773) ، صحيح مسلم الحج (1349) ، سنن الترمذي الحج (933) ، سنن النسائي مناسك الحج (2622) ، سنن ابن ماجه المناسك (2888) ، مسند أحمد بن حنبل (2/246) ، موطأ مالك الحج (776) ، سنن الدارمي المناسك (1795) .
(3) صحيح البخاري الحج (1521) ، صحيح مسلم الحج (1350) ، سنن الترمذي الحج (811) ، سنن النسائي مناسك الحج (2627) ، سنن ابن ماجه المناسك (2889) ، مسند أحمد بن حنبل (2/248) ، سنن الدارمي المناسك (1796) .
(4) صحيح البخاري الحج (1820) ، صحيح مسلم الحج (1350) ، سنن الترمذي الحج (811) ، سنن النسائي مناسك الحج (2627) ، سنن ابن ماجه المناسك (2889) ، مسند أحمد بن حنبل (2/410) ، سنن الدارمي المناسك (1796) .
(5) صحيح البخاري الإيمان (26) ، صحيح مسلم الإيمان (83) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1658) ، سنن النسائي مناسك الحج (2624) ، سنن الدارمي الجهاد (2393) .
(6) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .(29/10)
بلغ الرسالة وأدى الأمانة عليه الصلاة والسلام على خير الوجوه وأكملها ونشهد له بذلك كما شهد له صحابته رضي الله عنهم وأرضاهم.
وقد بين عليه الصلاة والسلام مناسك الحج وأعماله بأقواله وأفعاله، وكان خروجه من المدينة في آخر ذي القعدة من عام عشر محرما بالحج والعمرة قارنا من ذي الحليفة، وساق الهدي عليه الصلاة والسلام وأتى مكة في صبيحة اليوم الرابع من ذي الحجة، ولم يزل يلبي من الميقات من حين أحرم من ذي الحليفة بتلبيته المشهورة: لبيك اللهم لبيك. . لبيك لا شريك لك لبيك. . إن الحمد والنعمة لك والملك. . لا شريك لك، بعدما لبى بالحج والعمرة عليه الصلاة والسلام، وكان قد خير أصحابه في ذي الحليفة بين الأنساك الثلاثة، فمنهم من لبى بالعمرة، ومنهم من لبى بهما، وكان - صلى الله عليه وسلم - يرفع صوته بالتلبية، وهكذا أصحابه رضي الله عنهم، ولم يزل يلبي حتى وصل إلى بيت الله العتيق وبين للناس ما يقولونه في الأذكار والدعاء في طوافهم وسعيهم في عرفات وفي مزدلفة وفي منى، وبين الله جل وعلا ذلك في كتابه العظيم؛ حيث قال جل وعلا: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} (1) {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) إلى أن قال سبحانه وتعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (3) الآية.
فالذكر من جملة المنافع المذكورة في قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} (4) الآية وعطفه على المنافع من باب عطف الخاص على العام. وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله (5) » .
__________
(1) سورة البقرة الآية 198
(2) سورة البقرة الآية 199
(3) سورة البقرة الآية 203
(4) سورة الحج الآية 28
(5) سنن الترمذي الحج (902) ، سنن أبو داود المناسك (1888) ، مسند أحمد بن حنبل (6/75) ، سنن الدارمي المناسك (1853) .(29/11)
وشرع للناس كما جاء في كتاب الله ذكر الله عند الذبح وشرع لهم ذكر الله عند رمي الجمار.
فكل أنواع مناسك الحج ذكر الله عز وجل قولا وعملا، فالحج بأعماله وأقواله كله ذكر الله عز وجل، وكله دعوة إلى توحيده والاستقامة على دينه والثبات على ما بعث به رسوله محمد عليه الصلاة والسلام. فأعظم أهدافه توجيه الناس إلى توحيد الله والإخلاص له والاتباع لرسوله - صلى الله عليه وسلم - فيما بعث الله به من الحق والهدى في الحج وغيره.
فالتلبية أول ما يأتي به الحاج والمعتمر يقول: لبيك اللهم لبيك. . لبيك لا شريك لك لبيك، يعلن توحيده لله وإخلاصه وأن الله سبحانه لا شريك له، وهكذا في طوافه يذكر الله ويعظمه ويعبده بالطواف وحده، ويسعى فيعبده بالسعي وحده دون كل من سواه، وهكذا بالتحليق والتقصير، وهكذا بذبح الهدايا والضحايا، كل ذلك لله وحده، وهكذا بأذكاره التي يقولها في عرفات وفي مزدلفة وفي منى، كلها ذكر الله وتوحيد له ودعوة إلى الحق وإرشاد للعباد، وأن الواجب عليهم أن يعبدوا الله وحده، وأن يتكاتفوا في ذلك ويتعاونوا، وأن يتواصوا بذلك، وهم يأتون من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم.
وهذه المنافع كثيرة جدا أجملها الله في الآية وفصلها في مواضع كثيرة، منها الطواف وهو عبادة عظيمة ومن أعظم أسباب تكفير الذنوب وحط الخطايا، وهكذا السعي وما فيهما من ذكر الله عز وجل والدعاء، وهكذا ما في عرفات من ذكر الله والدعاء، وما في مزدلفة من ذكر الله والدعاء، وما في ذبح الهدايا من ذكر الله وتكبيره وتعظيمه، وما يقال عند رمي الجمار من تكبير الله عز وجل وتعظيمه، وكل أعمال الحج تذكر بالله وحده وتدعو المسلمين جميعا إلى أن يكونوا جسدا واحدا وبناء واحدا في اتباع الحق والثبات عليه، والدعوة إليه والإخلاص لله سبحانه في جميع الأقوال والأعمال، وهم يتلاقون على هذه الأراضي المباركة يريدون التقرب إلى الله وعبادته سبحانه، وطلب غفرانه وعتقه لهم من النار، ولا شك أن هذا مما يوحد القلوب ويجمعها على طاعة الله والإخلاص له واتباع شريعته وتعظيم أمره ونهيه؛ ولهذا قال عز وجل: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} (1)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 96(29/12)
فأخبر سبحانه أنه مبارك بما يحصل لزواره والحاجين إليه من الخير العظيم من الطواف والسعي وسائر ما شرعه الله من أعمال الحج والعمرة، وهو مبارك تحط عنده الخطايا، وتضاعف عنده الحسنات وترفع فيه الدرجات، ويرفع الله ذكر أهله المخلصين الصادقين ويغفر لهم ذنوبهم ويدخلهم الجنة فضلا منه وإحسانا إذا أخلصوا له واستقاموا على أمره، وتركوا الرفث والفسوق. كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه (1) » والرفث: هو الجماع قبل التحلل وما يدعو إلى ذلك من قول وعمل مع النساء كله رفث، والفسوق: جميع المعاصي القولية والفعلية يجب على الحاج تركها والحذر منها، وهكذا الجدال يجب تركه إلا في خير، كما قال جل وعلا: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (2) .
الحج كله دعوة إلى طاعة الله ورسوله، دعوة إلى تعظيم الله وذكره، دعوة إلى ترك المعاصي والفسوق، دعوة إلى ترك الجدال الذي يجلب الشحناء والعداوة، ويفرق بين المسلمين. أما الجدال بالتي هي أحسن فهذا مأمور به في كل زمان ومكان كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) وهذا طريق الدعوة في كل زمان ومكان، في البيت العتيق، وغيره يدعو إخوانه بالحكمة وهي العلم: قال الله تعالى، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وبالموعظة الحسنة الطيبة اللينة التي ليس فيها عنف ولا إيذاء، ويجادل بالتي هي أحسن عند الحاجة؛ لإزالة الشبهة وإيضاح الحق فيجادل بالتي هي أحسن بالعبارات الحسنة والأساليب الجيدة المفيدة التي تزيل الشبهة وتوجه إلى الحق دون عنف وشدة، فالحجاج في أشد الحاجة إلى الدعوة والتوجيه إلى الخير والإعانة على الحق، فإذا التقى مع إخوانه من سائر أقطار الدنيا وتذاكروا فيما يجب عليهم وما شرع الله لهم، كان ذلك من أعظم الأسباب في توحيد كلمتهم واستقامتهم على دين الله
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1521) ، صحيح مسلم الحج (1350) ، سنن النسائي مناسك الحج (2627) ، سنن ابن ماجه المناسك (2889) ، مسند أحمد بن حنبل (2/248) ، سنن الدارمي المناسك (1796) .
(2) سورة البقرة الآية 197
(3) سورة النحل الآية 125(29/13)
وتعارفهم وتعاونهم على البر والتقوى.
فالحج فيه منافع عظيمة، فيه خيرات كثيرة فيه دعوة إلى الله وتعليم وإرشاد وتعارف وتعاون على البر والتقوى بالقول والفعل المعنوي والمادي. هكذا يشرع لجميع الحجاج والعمار أن يكونوا متعاونين على البر والتقوى متناصحين على طاعة الله ورسوله، مجتهدين فيما يقربهم إلى الله متباعدين عن كل ما حرم الله، وأعظم ما أوجب الله توحيده، وإخلاص العبادة له في كل مكان وفي كل زمان ولا سيما في هذه البقعة العظيمة المباركة، فإن من الواجب إخلاص العبادة لله وحده في كل مكان وفي كل زمان، وفي هذا المكان أعظم وأوجب، فيخلص لله عملا وقولا من طواف وسعي ودعاء وغير ذلك، وهكذا بقية الأعمال كلها لله وحده جل وعلا مع الحذر من معاصي الله عز وجل، ومع الحذر من ظلم العباد وإيذائهم بقول وعمل، فالمؤمن يحرص كل الحرص على نفع إخوانه والإحسان إليهم وتوجيههم إلى الخير، وبيان ما قد يجهلون من أمر الله وشرعه مع الحذر من إيذائهم وظلمهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فالمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله بل يحب له كل خير ويكره له كل شر أينما كان ولا سيما في بيت الله العتيق وفي حرمه الأمين وفي بلد رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله جعل هذا الحرم آمنا، جعله آمنا من كل ما يخافه الناس، فعلى المسلم أن يحرص على أن يكون مع أخيه في غاية من الأمانة ينصحه ويرشده ولا يغشه ولا يخونه ولا يؤذيه لا بقول ولا بعمل، فقد جعل الله هذا الحرم آمنا كما قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} (1) وقال جل وعلا: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} (2) فالمؤمن يحرص كل الحرص على تحقيق هذا الأمن وأن يكون بنفسه حريصا على الإحسان لأخيه وإرشاده إلى ما ينفعه ومساعدته دينا ودنيا على كل ما فيه راحة ضميره وإعانته على أداء
__________
(1) سورة البقرة الآية 125
(2) سورة القصص الآية 57(29/14)
المناسك كما أنه يحرص كل الحرص على البعد عن كل ما حرم الله من سائر المعاصي، ومن جملة ذلك إيذاء العباد فإن ذلك من أكبر المحرمات وإذا كان مع حجاج بيت الله الحرام ومع العمار صار الظلم أكثر إثما وأشد عقوبة وأسوأ عاقبة.
فالحج والعمرة نسكان عظيمان من أعظم العبادة التي يترتب عليها خير عظيم ومنافع جمة وعواقب حميدة لسائر المسلمين في سائر أقطار الدنيا، فالصلوات الخمس يجتمع فيها العباد في كل بلد يتعارفون ويتناصحون ويتعاونون على البر والتقوى، لكن الحج يجتمع فيه العالم كله من كل مكان، فإذا كانت الصلوات هي من الخير العظيم لاجتماعهم عليها في أوقات خمسة، فهكذا الحج في كل عام فيه خير عظيم والأمر فيه أوجب وأعظم من جهة دعوة الناس إلى الخير؛ لأنهم يأتون من كل فج عميق، وقد لا تلقى أخاك الذي تراه في الحج بعد ذلك.
وهكذا المرأة عليها أن تحرص وأن تبذل وسعها في إرشاد أخواتها في الله مما علمها الله، فالرجل يرشد لإخوانه وأخواته في الله من حجاج بيت الله الحرام وزوار مسجد رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والمرأة كذلك ترشد لأخواتها وإخوانها في الله مما تعلم من الحجاج والعمار، هكذا يكون الحج وهكذا تكون العمرة فيهما التعاون والتواصي بالحق والتناصح والإرشاد إلى الخير وبذل المعروف وكف الأذى أينما كان الحجاج والعمار، في المسجد الحرام وفي خارج المسجد، في الطواف وفي السعي وفي رمي الجمار وفي غير ذلك، يحرص كل واحد على كل ما ينفع أخاه ويدرأ عنه الأذى في جميع أرجاء البلد الكريم، وفي جميع مشاعر الحج يرجو من الله المثوبة ويحذر مغبة الظلم والأذى لإخوانه المسلمين.
وهذا كله داخل في قوله سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} (1) وإنما كان مباركا
__________
(1) سورة آل عمران الآية 96(29/15)
وهدى للعالمين؛ لما يحصل لقاصديه من الخير العظيم في هذا البيت العتيق من الطواف والسعي والتلبية والأذكار العظيمة، يهتدون بها إلى توحيد الله وطاعته، ويحصل لهم من التعارف والتلاقي والتواصي والتناصح ما يهتدون به إلى الحق؛ ولهذا سمى الله بيته مباركا وهدى للعالمين؛ لما يحصل فيه من البركة والخير العظيم من تلبية وأذكار وطاعة عظيمة، تبصر العباد بربهم وتوحيده وتذكرهم بما يجب عليهم نحوه سبحانه ونحو رسوله عليه الصلاة والسلام، وتذكرهم بما يجب عليهم نحو إخوانهم الحجاج والعمار من تناصح وتعاون وتواص بالحق ومواساة للفقير ونصر للمظلوم وردع للظالم وإعانة على كل وجوه الخير. هكذا ينبغي لحجاج بيت الله الحرام ولعماره أن يوطنوا أنفسهم لهذا الخير العظيم وأن يستعدوا لكل ما ينفع إخوانهم وأن يحرصوا على بذل المعروف وكف الأذى كل واحد مسئول عما حمله الله حسب طاقته كما قال سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) .
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا وجميع المسلمين لما فيه رضاه وصلاح عباده وأن يوفق حجاج بيته العتيق وعماره لما فيه صلاحهم ونجاتهم ولما فيه قبول حجهم وقبول عمرتهم، ولكل ما فيه صلاح أمر دينهم ودنياهم، كما أسأله سبحانه أن يرد جميع الحجاج إلى بلادهم سالمين موفقين مسترشدين مستفيدين من حجهم ما يسبب نجاتهم من النار ودخولهم الجنة واستقامتهم على الحق أينما كانوا، كما أسأل الله أن يوفق ولاة أمرنا في هذه البلاد لكل خير ولكل ما يعين الحجاج على أداء مناسكهم على الوجه الذي يرضيه سبحانه، وقد فعلت الدولة وفقها الله الشيء الكثير من المشاريع والأعمال التي تساعد الحجاج على أداء مناسكهم وتؤمنهم في رحاب هذا البيت العتيق، فجزاها الله خيرا وضاعف مثوبتها ولا شك أن الواجب على الحجاج أن يبتعدوا عن كل ما يسبب الأذى والتشويش من
__________
(1) سورة التغابن الآية 16(29/16)
سائر الأعمال كالمظاهرات والهتافات والدعوات المضلة والمسيرات التي تضايق الحجاج وتؤذيهم إلى غير ذلك من أنواع الأذى التي يجب أن يحذرها الحجاج.
وسبق أن وضحنا الواجب على الحجاج بأن يكون كل واحد منهم حريصا على نفع أخيه وتيسير أدائه مناسكه وألا يؤذيه لا في طريق ولا في غيره. كما أسأله أن يوفق الحكومة وأن يعينها على كل ما فيه نفع الحجيج وتسهيل أداء مناسكهم وأن يبارك في جهودها وأعمالها، وأن يوفق القائمين على شئون الحج لكل ما فيه تيسير أمور الحجيج ولكل ما فيه إعانتهم على أداء مناسكهم على خير حال، كما أسأله عز وجل أن يوفق جميع ولاة أمر المسلمين في كل مكان لما فيه رضاه وأن يصلح قلوبهم وأعمالهم، وأن يصلح لهم البطانة وأن يعينهم على تحكيم شريعة الله في عباد الله، وأن يعيذنا وإياهم من اتباع الهوى ومن مضلات الفتن إنه جل وعلا جواد كريم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية
والإفتاء والدعوة والإرشاد(29/17)
صفحة فارغة(29/18)
التقادم في مسألة وضع اليد
" الجزء الأول "
إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد. . .
بناء على الخطاب رقم 1994 \ 2 وتاريخ 10 \ 10 \ 1398هـ الموجه من سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد إلى سماحة رئيس الدورة الثالثة عشرة وأعضاء المجلس بخصوص اقتراح دراسة التقادم في مسألة وضع اليد. وبناء على موافقة المجلس في الدورة الثالثة عشرة على إدراج هذا الموضوع ضمن المسائل التي تبحث في الدورة الرابعة عشرة وأن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء تكتب بحثا في ذلك.
فقد جمعت ما يسر الله في ذلك تحت العناصر الآتية: 1 - الأسباب الشرعية لنقل الملكية مع الأدلة إجمالا.
2 - أدلة تحريم الاعتداء على أموال الناس.
3 - تعريف الحيازة.
4 - موضوع البحث.
5 - ذكر آراء الفقهاء في إثبات الملكية بالتقادم وشروط ذلك مع الأدلة والتعليل والمناقشة.
وفيما يلي الكلام عليها بالقدر الذي تيسر وسنختم البحث بملخص مختصر تقريبا للموضوع.
أولا: الأسباب الشرعية لنقل الملكية مع الأدلة إجمالا:
من قواعد الشريعة أن نقل الملكية من المالك الشرعي لا يعتبر إلا إذا كان بسبب من الأسباب الشرعية كالبيع والهبة والوصية والميراث والشفعة(29/19)
والحيازة والتقادم عند من يقول بذلك على ما سيأتي تفصيله وفيما يلي بيان هذه الأسباب باختصار مع الأدلة:
أ - البيع ومن أدلته قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (1) .
ب - الهبة بلا شرط فإن كانت بشرط عوض فهي بيع وتدخل في عموم السبب الأول، ودليل الهبة قوله - صلى الله عليه وسلم -: «العائد في هبته كالعائد في قيئه (2) » ، في لفظ: «فإن الذي يعود في صدقته كالكلب يعود في قيئه يقيء ثم يعود فيه (3) » . أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
جـ - الوصية ومن أدلتها قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (4) البقرة 180 ثم أخرج الوارث بقوله - صلى الله عليه وسلم - «إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث (5) » .
د - الميراث: ومن أدلته قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر (6) » .
هـ - الشفعة ومن أدلتها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «جعل - وفي لفظ قضى - النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة له (7) » أخرجه البخاري وغيره.
والحيازة والتقادم عند من يقول بذلك ومما استدل به لذلك ما روي من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «من حاز شيئا عشر سنين فهو له» وفي رواية أخرى: «من حاز شيئا على خصمه عشر سنين فهو أحق به (8) » وفي رواية ثالثة: «من حاز شيئا على خصمه عشر سنين فهو أحق به منه (9) » وقد ذكر الفقهاء أسبابا أخرى تركنا ذكرها اختصارا؛ لأن البحث لا يتوقف على ذكرها.
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2621) ، صحيح مسلم الهبات (1622) ، سنن الترمذي البيوع (1298) ، سنن النسائي الرقبى (3710) ، سنن أبو داود البيوع (3538) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2385) ، مسند أحمد بن حنبل (1/250) .
(3) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2589) ، صحيح مسلم الهبات (1622) ، سنن الترمذي البيوع (1298) ، سنن النسائي الهبة (3695) ، سنن أبو داود البيوع (3538) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2385) ، مسند أحمد بن حنبل (1/217) .
(4) سورة البقرة الآية 180
(5) سنن الترمذي الوصايا (2120) ، سنن أبو داود البيوع (3565) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2713) .
(6) صحيح البخاري الفرائض (6737) ، صحيح مسلم الفرائض (1615) ، سنن الترمذي الفرائض (2098) ، سنن أبو داود الفرائض (2898) ، سنن ابن ماجه الفرائض (2740) ، مسند أحمد بن حنبل (1/292) .
(7) صحيح البخاري الحيل (6976) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/399) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .
(8) شرح الخطاب 6 \ 229.
(9) تبصرة الحكام على هامش فتح العلي المالك \ 2 \ 362 و 363.(29/20)
ثانيا: أدلة تحريم الاعتداء على أموال الناس:
سبق في الأمر الأول ذكر جملة من الأسباب الشرعية لنقل الملكية من المالك الشرعي، ونقل الملك بدون سبب شرعي لا يجوز؛ لأنه من الاعتداء على أموال الناس وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على تحريم الاعتداء على أموال الناس بغير حق وفيما يلي ذكر بعض الأدلة:
أ - من أدلة الكتاب قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) سورة البقرة الآية 188.
وجه الدلالة أن الآية اشتملت على النهي عن أكل الأموال بالباطل، والنهي يقتضي التحريم، فيكون أكلها محرما. قال القرطبي: والمعنى لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق فيدخل في هذا القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق وما لا تطيب به نفس مالكه، وحرمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه كمهر البغي وحلوان الكاهن وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك، إلى أن قال وأضيفت الأموال إلى ضمير المنهي لما كان كل واحد منهما منهيا ومنهيا عنه كما قال: (تقتلون أنفسكم) وقال أيضا: (من أخذ مال غيره لا على وجه إذن الشرع فقد أكله بالباطل) (2) .
ب - من أدلة السنة قوله - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الوداع «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا (3) » إلخ الخطبة.
وقد أخرجها مسلم وأبو داود وغيرهما، وهذا النص واضح في تحريم أموال الناس بعضهم على بعض.
جـ - أما الإجماع فقد ذكره القرطبي في أثناء الكلام على الآية السابقة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 188
(2) تفسير القرطبي \ 2 \ 331.
(3) صحيح البخاري الحج (1739) ، سنن الترمذي الفتن (2193) ، مسند أحمد بن حنبل (1/230) .(29/21)
ثالثا: تعريف الحيازة:
للحيازة معنيان لغوي واصطلاحي وفيما يلي بيان كل منهما.
أ - معنى الحيازة لغة:
1 - قال أحمد بن فارس بن زكريا: (حوز) الحاء والواو والزاي أصل واحد وهو الجمع والتجمع يقال: لكل مجمع وناحية حوز وحوزة، وحي فلان الحوزة أي المجمع والناحية. . . . . .
وكل من ضم شيئا إلى نفسه فقد حازه حوزا انتهى المقصود (1) .
2 - وقال الفيروز آبادي: " الحوز " الجمع وضم الشيء بالحيازة والاحتياز انتهى (2) .
3 - وقال ابن منظور: وقال سيبويه: هو تفعيل من حزت الشيء، والحوز من الأرض أن يتخذها الرجل ويبين حدودها فيستحقها ولا يكون لأحد فيها حق معه فذلك الحوز. . . والحوز الجمع وكل من ضم شيئا إلى نفسه من مال وغير ذلك فقد حازه حوزا وحيازة وحازه إليه واحتازه إليه، إلى أن قال ابن منظور: حازه ليحوزه إذا قبضه وملكه واستبد به - إلى أن قال - وحزت الأرض إذا أعلمتها وأحييت حدودها انتهى المقصود (3) .
ب - معنى الحيازة اصطلاحا: يقول الدردير: هي وضع اليد على الشيء والاستيلاء عليه والتصرف يكون بواحد من أمور مسكن وإسكان وزرع وغرس أو بيع وهدم وبناء وقطع شجر وعتق وكتابة ووطء في رقيق (4) وجاء هذا المعنى في النقول عن المذاهب الأخرى على ما يأتي تفصيله.
__________
(1) معجم مقاييس اللغة 2 \ 117 - 118.
(2) القاموس 2 \ 172.
(3) لسان العرب 7 \ 205 وما بعدها.
(4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 \ 207.(29/22)
رابعا: موضوع البحث:
شيء معين طالت مدته بيد إنسان وليس لديه إثبات لملكيته سوى طول المدة، وادعى إنسان آخر ملكيته ولديه ما يثبت أنه كان ملكا له بوسيلة من وسائل الملك الشرعية، فهل يحكم به لمن طالت مدة وجوده عنده وهو يتصرف فيه تصرف الملاك في أملاكهم مع عدم وجود مانع شرعي يمنع من بيده البينة من القيام على من بيده الملك ومطالبته به.(29/23)
خامسا: ذكر آراء الفقهاء في إثبات الملكية بالتقادم وشروط ذلك مع الأدلة والتعليل والمناقشة:
تمهيد: هذا العنصر هو أهم عناصر الموضوع وبتتبع اللجنة لما ذكره علماء الفقه الإسلامي، وجدت أنهم خدموه خدمة واسعة ودقيقة واشتملت على تفصيل ما يوضحه من الأقوال ومداركها، ومناقشة هذه المدارك مع ذكر الشروط المشترطة، وقد ذكرت اللجنة جملة من النقول في ذلك عن المذاهب الأربعة بدون تصرف فيها ليطلع أعضاء المجلس على كلام العلماء، وسيكون ترتيب ذكر النقول على حسب الترتيب الزمني للمذاهب الأربعة، فنذكر النقول عن المذهب الحنفي ثم المالكي ثم الشافعي ثم الحنبلي ونذكر أمام كل مذهب تمهيدا يعطي صورة مختصرة له.(29/23)
النقول عن المذهب الحنفي:
تمهيد: الحنفية يبنون القول بإثبات الملكية بالتقادم على الاجتهاد ومدته ست وثلاثون سنة وعلى الأمر السلطاني فيحدد المدة التي لا تسمع الدعوى بعدها، وهذه المدة لا يمكن ضبطها نظرا لاختلاف السلاطين واختلاف اجتهاد السلطان نفسه، فقد تكون المدة خمس عشرة سنة، وقد تكون عشر سنوات، وقد تكون أقل من ذلك على ما يأتي تفصيله في النقول، وقد وقع اختيار اللجنة على ثلاثة نقول من الدر المختار وشرحه ومن مجلة الأحكام العدلية وشرحها والثالث من مرشد الحيران وشرحه وقد ذكرناها على هذا الترتيب.(29/23)
جاء في الدر المختار ورد المحتار:(29/23)
(قوله بعد خمسة عشر سنة) المناسب خمس عشرة بتذكير الأول وتأنيث الثاني؛ لكون المعدود مؤنثا وهو سنة وأجاب ط بأنه على تأويل السنة بالعام أو الحول (قوله فلا تسمع الآن بعدها) أي لنهي السلطان عن سماعها بعدها، فقد قال السيد الحموي في حاشية الأشباه: أخبرني أستاذي شيخ الإسلام يحيى أفندي الشهير بالنقاري أن السلاطين الآن يأمرون قضاتهم في جميع ولاياتهم ألا يسمعوا دعوى بعد مضى خمس عشرة سنة، سوى الوقف والإرث اهـ.
ونقل في الحامدية فتاوى من المذاهب الأربعة بعدم سماعها بعد النهي المذكور لكن هل يبقى النهي بعد موت السلطان الذي نهى بحيث لا يحتاج من بعده إلى نهي جديد، أفتى في الخيرية بأنه لا بد من تجديد النهي، ولا يستمر النهي بعده، وبأنه إذا اختلف الخصمان في أنه منهي أو غير منهي، فالقول للقاضي ما لم يثبت المحكوم عليه النهي، وأطال في ذلك وأطاب فراجعه، وأما ما ذكره السيد الحموي أيضا من أنه قد علم من عادتهم يعني سلاطين آل عثمان نصرهم الرحمن من أنه إذا تولى سلطان عرض عليه قانون من قبله وأخذ أمره باتباعه فلا يفيد هنا؛ لأن معناه أن يلتزم قانون أسلافه بأن يأمر بما أمر به وينهى عما نهوا عنه، ولا يلزم منه أنه إذا ولى قاضيا ولم ينهه عن سماع هذه الدعوى أن يصير قاضيه منهيا بمجرد ذلك، وإنما يلزم منه أنه إذا ولاه ينهاه صريحا؛ ليكون عاملا بما التزمه من القانون كما اشتهر أنه حين يوليه الآن يأمره في منشوره بالحكم بأصح أقوال المذهب، كعادة من قبله.
وتمام الكلام على ذلك في كتابنا تنقيح الحامدية فراجعه وأطلنا الكلام عليه أيضا في كتابنا تنبيه الولاة والحكام: (قوله إلا في الوقف والإرث ووجود عذر شرعي) استثناء الإرث موافق لما مر عن الحموي ولما في الحامدية عن فتاوى أحمد أفندي المهمنداري مفتي دمشق أنه كتب على ثلاثة أسئلة أنه تسمع دعوى الإرث ولا يمنعها طول المدة ويخالفه ما في الخيرية حيث ذكر أن المستثنى ثلاثة: مال اليتيم والوقف والغائب ومقتضاه أن الإرث غير مستثنى، فلا تسمع دعواه بعد هذه المدة وقد نقل في الحامدية عن المهمنداري أيضا أنه كتب على سؤال آخر فيمن تركت دعواها الإرث بعد بلوغها خمس(29/24)
عشرة سنة بلا عذر أن الدعوى لا تسمع إلا بأمر سلطاني، ونقل أيضا مثله فتوى تركية عن المولى أبي السعود، وتعريبها إذا تركت دعوى الإرث بلا عذر شرعي خمس عشرة سنة، فهل لا تسمع الجواب؟ لا تسمع إلا إذا اعترف الخصم بالحق ونقل مثله شيخ مشياخنا التركماني عن فتاوى عبد الله أفندي مفتي الروم، وهذا الذي رأينا عليه عمل من قبلنا، فالظاهر أنه ورد نهي جديد بعدم سماع دعوى الإرث والله سبحانه أعلم.
(تنبيهات) الأول قد استفيد من كلام الشارح أن عدم سماع الدعوى بعد هذه المدة إنما هو للنهي عنه من السلطان، فيكون القاضي معزولا عن سماعها؛ لما علمت من أن القضاء يتخصص؛ فلذا قال: إلا بأمر، أي فإذا أمر بسماعها بعد هذه المدة تسمع، وسبب النهي قطع الحيل والتزوير، فلا ينافي ما في الأشباه وغيرها من أن الحق لا يسقط بتقادم الزمان اهـ. ولذا قال في الأشباه أيضا ويجب عليه سماعها اهـ. أي يجب على السلطان الذي نهى قضاته عن سماع الدعوى بعد هذه المدة أن يسمعها بنفسه، أو يأمر بسماعها كيلا يضيع حق المدعي، والظاهر أن هذا حيث لم يظهر من المدعي أمارة التزوير، وفي بعض نسخ الأشباه ويجب عليه عدم سماعها، وعليه فالضمير يعود للقاضي المنهي عن سماعها، لكن الأول هو المذكور في معين المفتي.
الثاني: أن النهي حيث كان للقاضي لا ينافي سماعها من المحكم، بل قال المصنف في معين المفتي: إن القاضي لا يسمعها من حيث كونه قاضيا، فلو حكمه الخصمان في تلك القضية التي مضى عليها المدة المذكورة فله أن يسمعها.
الثالث: عدم سماع القاضي لها إنما هو عند إنكار الخصم، فلو اعترف تسمع كما علم مما قدمناه من فتوى المولى أبي السعود أفندي؛ إذ لا تزوير مع الإقرار.
الرابع: عدم سماعها حيث تحقق تركها هذه المدة، فلو ادعى في أثنائها لا يمنع بل تسمع دعواه ثانيا ما لم يكن بين الدعوى الأولى والثانية هذه المدة، ورأيت بخط شيخ مشايخنا التركماني في مجموعته أن شرطها أي شرط الدعوى مجلس القاضي فلا تصح الدعوى في مجلس غيره كالشهادة، تنوير(29/25)
وبحر ودرر. قال: واستفيد منه جواب حادثة الفتوى، وهي أن زيدا ترك دعواه على عمرو مدة خمس عشرة سنة ولم يدع عند القاضي بل طالبه بحقه مرارا في غير مجلس القاضي، فمقتضى ما مر لا تسمع لعدم شرط الدعوى فليكن على ذكر منك؛ فإنه تكرر السؤال عنها وصريح فتوى شيخ الإسلام علي أفندي أنه إذا ادعى عند القاضي مرارا ولم يفصل القاضي الدعوى ومضت المدة المزبورة تسمع؛ لأنه صدق عليه أنه لم يتركها عند القاضي اهـ. ما في المجموعة، وبه أفتى في الحامدية.
ثم لا يخفى أن ترك الدعوى إنما يتحقق بعد ثبوت حق طلبها، فلو مات زوج المرأة أو طلقها بعد عشرين سنة مثلا من وقت النكاح، فلها مؤخر المهر؛ لأنه حق طلبه إنما ثبت لها بعد الموت أو الطلاق لا من وقت النكاح، ومثله ما يأتي فيما لو أخر الدعوى هذه المدة لإعسار المديون، ثم ثبت يساره بعد هاوية يعلم جواب حادثة الفتوى، سئلت عنها حين كتابتي لهذا المحل، في رجل له دكان وقف مشتمل على منجور وغيره وضعه من ماله في الدكان بإذن ناظر الوقف نحو أربعين سنة، وتصرف فيه هو وورثته من بعده في هذه المدة، ثم أنكر الناظر الآن وأنكر وضعه بالإذن، وأراد الورثة إثباته وإثبات الإذن بوضعه.
والذي ظهر لي في الجواب سماع البينة في ذلك؛ لأنه حيث كان في يدهم ويد مورثهم هذه المدة بدون معارض لم يكن ذلك تركا للدعوى، ونظير ذلك ما لو ادعى زيد على عمرو بدار في يده، فقال له عمرو: كنت اشتريتها منك من عشرين سنة وهي في ملكي إلى الآن وكذبه زيد في الشراء فتسمع بينة عمرو على الشراء المذكور بعد هذه المدة؛ لأن الدعوى توجهت عليه الآن وقبلها كان واضع اليد بلا معارض، فلم يكن مطالبا بإثبات ملكيتها فلم يكن تاركا للدعوى.
ومثله فيما يظهر أن مستأجر دار الوقف يعمرها بإذن الناظر وينفق عليها مبلغا من الدراهم يصير دينا له على الوقف، ويسمى في زماننا مرصدا ولا يطالب به ما دام في الدار، فإذا خرج منها فله الدعوى على الناظر بمرصده المذكور وإن طالت مدته حيث جرت العادة بأنه لا يطالب به قبل خروجه، ولا سيما إذا كان في كل سنة يقتطع بعضه من أجرة الدار فليتأمل.
الخامس: استثناء(29/26)
الشارح العذر الشرعي أعم مما في الخيرية من الاقتصار على استثناء الوقف ومال اليتيم والغائب؛ لأن العذر يشمل ما لو كان المدعى عليه حاكما ظالما كما يأتي، وما لو كان ثابت الإعسار في هذه المدة ثم أيسر بعدها فتسمع كما ذكره في الحامدية.
السادس: استثناء مال اليتيم مقيد بما إذا لم يتركها بعد بلوغه هذه المدة وبما إذا لم يكن له ولي كما يأتي، وفي الحامدية لو كان أحد الورثة قاصرا والباقي بالغين تسمع الدعوى بالنظر إلى القاصر بقدر ما يخصه دون البالغين.
السابع: استثنوا الغائب والوقف ولم يبينوا له مدة فتسمع من الغائب ولو بعد خمسين سنة، ويؤيده قوله في الخيرية من المقرر أن الترك لا يتأتى من الغائب له أو عليه؛ لعدم تأتي الجواب منه بالغيبة والعلة خشية التزوير ولا يتأتى بالغيبة الدعوى عليه، فلا فرق فيه بين غيبة المدعي والمدعى عليه اهـ.
وكذا الظاهر في باقي الأعذار أنه لا مدة لها؛ لأن بقاء العذر وإن طالت مدته يؤكد عدم التزوير بخلاف الوقف، فإنه لو طالت مدة دعواه بلا عذر ثلاثا وثلاثين سنة لا تسمع، كما أفتى به في الحامدية أخذا مما ذكره في البحر في كتاب الدعوى عن ابن الغرس عن المبسوط، إذا ترك الدعوى ثلاثا وثلاثين سنة، ولم يكن مانع من الدعوى ثم ادعى لا تسمع دعواه؛ لأن ترك الدعوى مع التمكن يدل على عدم الحق ظاهرا اهـ.
وفي جامع الفتوى عن فتاوى العتابي قال المتأخرون من أهل الفتوى: لا تسمع الدعوى بعد ست وثلاثين سنة إلا أن يكون المدعي غائبا أو صبيا أو مجنونا وليس لهما ولي أو المدعى عليه أميرا جائرا اهـ.
ونقل ط عن الخلاصة: لا تسمع بعد ثلاثين سنة اهـ. ثم لا يخفى أن هذا ليس مبنيا على المنع السلطاني بل هو المنع من الفقهاء، فلا تسمع الدعوى بعده وإن أمر السلطان بسماعها.
الثامن: سماع الدعوى قبل مضي المدة المحدودة مقيد بما إذا لم يمنع منه مانع آخر يدل على عدم الحق ظاهرا لما سيأتي في مسائل شتى آخر الكتاب من أنه لو باع عقارا أو غيره وامرأته أو أحد أقاربه حاضر يعلم به، ثم ادعى ابنه مثلا أنه ملكه لا تسمع دعواه، وجعل سكوته كالإفصاح قطعا للتزوير والحيل بخلاف الأجنبي فإن سكوته ولو جارا لا يكون رضا إلا إذا سكت الجار وقت البيع والتسليم(29/27)
وتصرف المشتري فيه زرعا وبناء فلا تسمع دعواه على ما عليه الفتوى قطعا للأطماع الفاسدة اهـ.
وأطال في تحقيقه في الخيرية من كتاب الدعوى فقد جعلوا مجرد سكوت القريب أو الزوجة عند البيع مانعا من دعواه بلا تقييد باطلاعه على تصرف المشتري، كما أطلقه في الكنز والملتقى، وأما دعوى الأجنبي ولو جارا فلا بد في منعها من السكوت بعد الاطلاع على تصرف المشتري ولم يقيدوه بمدة، وقد أجاب المصنف في فتاواه فيمن له بيت يسكنه مدة تزيد على ثلاث سنين ويتصرف فيه هدما وعمارة مع اطلاع جاره على ذلك، بأنه لا تسمع دعوى الجار عليه البيت أو بعضه على ما عليه الفتوى، وسيأتي تمام الكلام على ذلك آخر الكتاب في مسائل شتى قبيل الفرائض إن شاء الله تعالى فانظره هناك فإنه مهم. . حاشية ابن عابدين \ مجلد 4 \ 377 - 379.(29/28)
ب - وجاء في مجلة الأحكام العدلية وشرطها:
1 - أنواع مرور الزمن:
إن مرور الزمن على نوعين:
النوع الأول: مرور الزمن الذي حكمه اجتهادي ومدته ست وثلاثون سنة؛ ولذلك فالدعوى التي تترك ستا وثلاثين سنة بلا عذر لا تسمع مطلقا؛ حيث إن ترك الدعوى تلك المدة مع الاقتدار عليها وفقدان العذر يدل على عدم الحق. إن اعتبار نهاية مدة مرور الزمن ستا وثلاثين سنة بني على المادة (الـ 661) (علي أفندي ورد المحتار بزيادة) .
النوع الثاني: مرور الزمن المعين من قبل السلطان. إن عدم استماع الدعوى في مرور الزمن الذي هو من هذا النوع مبني على المادة (الـ1801) من المجلة؛ فلذلك إذا تحقق في دعوى مرور زمن من هذا النوع وأمر من قبل السلطان باستماع تلك الدعوى فتسمع.
وللسلطان أن يمنع قاضيا من استماع الدعوى التي يقع فيها مرور زمن من(29/28)
هذا النوع وأن يأذن قاض آخر بسماع مثل هذه الدعوى؛ ولذلك فالفتاوى التي أفتى بها مشايخ الإسلام بعدم استماع الدعوى في مثل هذا النوع من مرور الزمن قد ذكر فيها بأنها لا تسمع بلا أمر (علي أفندي) .
إن هذا النهي هو في حق القاضي وليس في حق الحكم؛ فلذلك إذا فصل الحكم دعوى مر عليها خمس عشرة سنة فصحيح وينفذ حكمه (الحموي) . حتى لو أن شخصين عينا القاضي حكما بفصل دعوى، فللحكم المذكور أن يفصل تلك الدعوى ولو مر عليها خمس عشرة سنة (رد المحتار) .
إن مرور الزمن لا يثبت حقا: يعني أن العقود كالبيع والإجارة مع كونها مثبتة وموجودة لكل واحد من العاقدين منفعة ومضرة، إلا أن مرور الزمن لا يثبت حقا للطرف الذي يريد الاستفادة منه؛ فلذلك إذا رد القاضي دعوى دائن بسبب وقوع مرور الزمن فيها يبقى المدعى عليه مدينا للمدعي ويكون قد هضم حق المدعي.(29/29)
2 - الدعاوى الممنوع استماعها:
1 - الدعاوى الواقع فيها مرور زمن وهي المبينة في هذا الباب.
2 - دعوى المواضعة والاسم المستعار في الأموال غير المنقولة.
3 - قد منع بتاريخ 27 جمادى الآخرة سنة 1320 وفي 17 أيلول سنة 1318 دعاوى بيع وشراء العقار ما لم يكن البيع والشراء وقعا بمعاملة رسمية أي في دوائر التمليك (دفتر خاقاني) .
4 - قد منع سماع دعوى الرهن والشرط والوفاء والاستغلال غير المندرجة في السند بتاريخ 28 رجب سنة 91، و28 أغسطس سنة 90.
5 - قد منع بتاريخ 18 صفر سنة 306، و12 تشرين الأول سنة 304 سماع دعوى فراغ الأراضي الأميرية بشرط الإعاشة الغير المندرج بسند الطابو.(29/29)
6 - قد منع استماع دعوى فراغ المستغلات الموقوفة مجانا بشرط الإعاشة الغير المندرج في سند التصرف.
7 - قد منع في 26 صفر سنة 78 سماع دعوى الفراغ وفاء الذي لم يندرج في سند الطابو.
8 - لا تسمع دعوى الخليط والشريك بحق الرجحان بعد خمس سنوات حسب قانون الأراضي.
9 - إذا تفرع متصرف الأرض بالأراضي الأميرية التي عليها أبنية أو أشجار لآخر فلا تسمع دعوى صاحب الأبنية والأشجار بحق الرجحان بتلك الأراضي بعد مرور عشر سنوات على الفراغ.
10 - إذا تفرغ أحد بالأرض التي بتصرفه بموجب سند طابو الواقعة في حدود القرية لآخر من أهالي قرية أخرى، فلمن كان له احتياج للأرض من أهالي تلك القرية أن يدعي تلك الأرض إلى سنة ببدل المثل ولا تسمع دعواه بعد مرور سنة حسب قانون الأراضي.
11 - إن الأراضي الأميرية التي تصبح مملوكة كعدم وجود أصحاب انتقال لها لا تسمع فيها دعوى حق الطابو الذي يثبت لصاحب الأبنية والأشجار في تلك الأرض بعد مرور عشر سنوات.
12 - كذلك لا تسمع دعوى حق الطابو بالأراضي المذكورة من الخليط والشريك بعد مرور خمس سنوات.
13 - كذلك لا تسمع دعوى حق الطابو في الأراضي المذكورة من الأشخاص المحتاجين للأراضي بعد مرور سنة.
14 - لا تسمع دعوى الربح الملزم زيادة عن تسعة في المائة سنويا.
15 - إذا وجد بين ورثة المتوفى شخص لم يبلغ خمس عشرة سنة فلا تسمع دعواه البلوغ وقد منع حكام الشرع من استماع دعواه.(29/30)
- السنة التي تعتبر في مرور الزمن:
تعتبر في مرور الزمن السنة العربية أي القمرية وليست السنة الشمسية؛ فلذلك يجب حساب مدة مرور الزمن بالسنة القمرية، مثلا إذا كان السند المحتوي الدين مؤرخا بتاريخ السنة الشمسية ولم يؤرخ بالسنة القمرية فيحسب مرور ذلك بالسنة القمرية.
مبدأ ومنتهى مرور الزمن:
إن مبدأ مرور الزمن يبتدئ من ثبوت الحق ومنتهاه إقامة الدعوى في حضور القاضي فلذلك يجب حساب مبدئه ومنتهاه على الوجه المشروح.
إذا أثبت من ادعى مرور الزمن مدعاه بالبينة فبها، أما إذا لم يثبت فهل له تحليف خصمه اليمين؟ أي إذا قال المدعى عليه: إنني متصرف في هذا العقار ست عشرة سنة بلا نزاع وأنت سكت وأنكر المدعي تصرف المدعى عليه هذه المدة ولم يثبت المدعى عليه بالبينة تصرفه هذا، فهل للمدعى عليه أن يحلف خصمه اليمين على عدم العلم بتصرفه ست عشرة سنة؟ لم أر صراحة في هذه المسألة إلا أن الفقهاء قد بينوا تحت قاعدة عمومية المسائل التي يجب فيها اليمين وهي: 4 - كل موضع يلزم فيه الخصم إذا أقر يستحلف إذا أنكر. ويستثنى من هذه القاعدة ثلاث مسائل ومرور الزمن ليس منها (صرة الفتاوى في الدعوى) فعلى ذلك يلزم اليمين في هذه المسألة حسب هذه القاعدة أن بينة مرور الزمن مرجحة.
ترجح بينة مرور الزمن على بينة أن المدة التي مرت أقل من مدة مرور الزمن، سواء كان المدعى به ملكا أو وقفا أو أرضا أميرية. مثلا إذا ادعى ذو اليد بأن الملك العقار المدعى به هو في تصرفه بلا نزاع زيادة عن خمس عشرة سنة، وأن دعوى المدعي غير مسموعة وادعى المدعي الخارج بأن مدة تصرف المدعى عليه هي عشر سنوات، وأن دعواه مسموعة وأقام البينة على(29/31)
ذلك فترجح بينة ذي اليد (الطريقة الواضحة) .
إذا أقام زيد على عمرو دعوى فادعى عمرو أنه مر خمس عشرة سنة وادعى زيد بأنه لم تمر خمس عشرة سنة وأقام البينة على ذلك، فأيهما كان مشهورا ومعروفا يعمل بها. أما إذا أثبت زيد أنه قدم الدعوى قبل مرور خمس عشر فيعمل بها (أبو السعود) .
وإن صدور الحكم بالمدعى به لا يمنع وقوع مرور الزمن فلذلك لو استحصل أحد حكما بمطلوبه ولم يطلبه مدة خمس عشرة سنة، ولم يضع أعلام الحكم لأجل تنفيذه في الإجراء يحصل مرور الزمن في حالة تصرف المدعى عليه بلا نزاع، أما إذا كان معروفا ومشهورا أن تصرف المدعى عليه في ذلك العقار بالوكالة عن المدعي فلا يتحقق مرور الزمن.
مثلا إذا ادعى المدعي قائلا: إن العقار الفلاني الذي في يدك هو ملكي وبعد أن أنكر المدعى عليه ادعى أنه متصرف في العقار المذكور منذ خمس عشرة سنة بلا نزاع، فأجابه المدعي: نعم إنك متصرف منذ خمس عشرة سنة، ولكن إن تصرفك هذا بالوكالة عني وكان مشهورا ومعروفا أن تصرفه بالوكالة عن المدعي فيسقط ادعاء المدعى عليه بمرور الزمن؛ لأن التصرف كما يكون أصالة يكون نيابة كالوكالة (البحر وأبو السعود) .
المادة (1660) : (لا تسمع الدعاوى الغير العائدة لأصل الوقف أو للعموم كالدين والوديعة والعقار الملك والميراث والمقاطعة في العقارات الموقوفة أو التصرف بالإجارتين والتولية المشروطة والغلة بعد تركها خمس عشرة سنة) .
لا تسمع الدعاوى الغير العائدة لأصل الوقف أو للعموم كالدين ولو كان دية، والوديعة والعارية والعقار الملك والملك الذي لم يكن عقارا كالحيوان والأمتعة الأخرى والميراث والقصاص والمقاطعة في العقارات الموقوفة ودعوى التصرف بالمقاطعة ودعوى التصرف بالإجارتين والتولية المشروطة والغلة بعد أن تركت خمس عشرة سنة.(29/32)
أما مدة مرور الزمن في الدعاوى الأخرى كالطلاق والنكاح والوصية فالتفصيلات عنها مفقودة.
ولكن يمكن أن يقال: إن الخصومات التي لم يمنع استماع الدعاوى فيها بمرور الزمن يجب استماعها ما لم يقع مرور زمن اجتهادي.
مدد مرور الزمان: إن مدد مرور الزمن في الدعاوى الحقوقية في هذا الحال على خمسة أقسام:
القسم الأول: مرور زمن الست والثلاثين سنة، وهذا يكون في دعوى أصل الوقف وفي دعوى صاحب الأرض برقبة الأرض. انظر المادة (الـ1661) وشرح المادة (الـ1662) .
القسم الثاني: مرور زمن الخمس عشرة سنة، وهذا قد عدد قسم منه آنفا وقسم منه مذكور في المادة (الـ1662) .
القسم الثالث: مرور زمن العشر سنوات، وهذا مذكور في المادة (الـ1662) .
القسم الرابع: مرور زمن السنتين، فحسب ذيل قانون الأراضي لا تسمع دعوى التصرف في الأراضي الخالية والمحلولة التي فوضت من طرف الحكومة للمهاجرين، والتي زرعت منهم أو أنشئت عليها أبنية بعد مرور سنتين بلا عذر.
القسم الخامس: مرور زمن شهر، انظر المادة (الـ134) .
ولنبحث الآن في تفصيل مدد مرور الزمن في الأمور البينة آنفا.
الدين - مثلا لو ادعى أحد على آخر قائلا: أطلب منك أن تؤدي لي كذا مبلغا الذي أخذ أو ثمن المبيع الذي بعته لك فلا تسمع دعواه.
ويفهم من ذكر الدين مطلقا أنه يشمل جميع الديون، سواء كان عائدا للآحاد أي ديون الناس مع بعضهم البعض، أو كان ديون بيت المال من الآحاد(29/33)
أو ديون الآحاد من بيت المال خمس عشرة سنة على هذه الديون يحصل فيه مرور الزمن؛ فلذلك قد صدرت إرادة سنية بتاريخ سنة 1300 وتشرين الثاني سنة 1898 بعد سماع دعوى دين بيت المال بعد مرور خمس عشرة سنة.
الوديعة: إذا ادعى أحد على آخر قائلا: إنني أطلب منك الوديعة التي أودعتها لك قبل خمس عشرة سنة وأنكر المدعى عليه فلا تسمع الدعوى.
العارية: إذا توفيت امرأة وادعت أمها على زوجها قائلة: إنني أعرت ابنتي المتوفاة كذا وكذا وأنكر الزوج فلا تسمع دعواها.
الميراث: إذا ادعى أحد الورثة على آخر قائلا: إنه قد بقي عندك كذا أشياء من مال مورثنا المتوفى قبل خمس عشرة سنة، فأطلب حصتي من تلك الأشياء وأنكر المدعى عليه ذلك فلا تسمع دعواه.
العقار الملك: إذا ادعى أحد بأن العقار كالدار والكرم الذي في تصرف شخص آخر مدة خمس عشرة سنة بلا نزاع بأنه ملكه أو له حصة فيه فلا تسمع دعواه.
كذلك إذا تصرف اثنان بكرم مدة خمس عشرة سنة بالاشتراك، ولم يدعيا على بعضهما البعض في تلك المدة، ثم ادعى أحدهما أن ذلك الكرم ملكه مستقلا فلا تسمع دعواه.
المقاطعة في العقارات الموقوفة - المقاطعة وهي العقار الذي يكون عرصته وقفا، وتكون الأبنية والأشجار والكروم التي عليها العرصة ملكا ويدفع من المتصرف فيها إجارة مقطوعة سنويا لجانب الوقف، وتسمى هذه أيضا إجارة الأرض ويجوز وقف هذا الملك أيضا، يعني إذا وقف أحد بإذن المتولي الذي أحدثه على العرصة الموقوفة أو الشجر الذي غرسه عليها لنفسه، فيصح الوقف سواء كان موقوفا في الجهة الموقوفة عليه العرصة الموقوفة أو وقف على جهة أخرى؛ لأنه وإن كان جهة القرب مختلفة إلا أنهم يجمعان في أصل القرب(29/34)
واختلاف الجهة لا أوجب اختلاف الحكم (علي أفندي) .
ويمكن تصوير دعوى التصرف في العقارات الموقوفة بمقاطعة على أربعة أوجه:
الوجه الأول: أن يكون المدعى به ملكا، مثلا لو ادعى أحد قائلا: إن داري المملوكة المنشأة على عرصة الوقف الفلاني والمربوطة بكذا مبلغا مقاطعة للوقف، يتصرف بها هذا المدعى عليه منذ خمس عشرة سنة، وحيث إنها ملكي فأطلب تسليمها فإذا أنكر المدعى عليه دعوى المدعي هذه فلا تسمع دعواه وتكون هذه الدعوى دعوى العقار الملك.
الوجه الثاني: يكون المدعى به وقفا، وهذا إما أن يكون بإجارة واحدة فلا يتصور فيه إقامة دعوى التصرف، والدعوى التي تقام من متولي الوقف تكون عائدة إلى أصل الوقف ويكون مرور زمن فيها ستا وثلاثين سنة.
وإما أن تكون بإجارتين وهذه تدخل تحت فقرة (أو التصرف بالإجارتين) .
الوجه الثالث: تكون صورة الدعوى على الوجه الآتي يربط كلمة التصرف بكلمة المقاطعة، وهو إن ادعى زيد على عمرو قائلا: إن عرصة هذا الوقف هي تحت التصرف بالمقاطعة بكذا درهما. فإذا لم يمر خمس عشرة سنة فتسمع الدعوى وإلا فلا. أما إذا ادعى أحد قائلا: إن العرصة التي أخذتها من المتولي زيد هي للوقف الفلاني الذي أنا متولى عليه وهي بتصرفك بمقاطعة وادعى أن العرصة ملكه وأنكر المقاطعة فيما أن هذه الدعوى في هذه الصورة تتعلق برقبة الوقف فتسمع الدعوى فيها إلى ست وثلاثين سنة.
الوجه الرابع: إذا لم تربط كلمة تصرف بكلمة مقاطعة فتكون صورة الدعوى على هذا الوجه:
إن العرصة الفلانية التي أخذتها من المتولي زيد هي من مستغلات الوقف الذي تحت توليتي هي تحت تصرفك، وبما أنه يطلب للوقف منك كذا مبلغا بدل مقاطعة فأطلب منك أداء ذلك. وحقيقة هذه الدعوى دعوى دين(29/35)
وتدخل في الدين فلذلك يجب أن يكون مقصودا من عبارة (دعوى التصرف في العقارات الموقوفة بالمقاطعة) الوجه الثالث.
دعوى التصرف بالإجارتين في العقارات الموقوفة تكون هذه الدعوى على وجهين:
الوجه الأول: تكون بين المتصرفين، مثلا إذا تصرف أحد بالإجارتين في عقار وقف في مواجهة آخر خمس عشرة سنة، وسكت بلا عذر هذه المدة ثم ادعى بعد ذلك أن العقار المذكور في تصرفه بالإجارتين قبل المدة المذكورة فلا تسمع دعواه، وكما أنه لا تسمع دعواه التصرف مرور خمس عشرة سنة لا تسمع دعواه الفراغ وفاء (جامع الإجارتين) .
كذلك إذا تصرف اثنان بالاشتراك في عقار وقف بالإجارتين مدة خمس عشرة سنة، ولم يدع في هذه المدة أحدهما على الآخر وقام أحدهما وادعى على الآخر أن ذلك العقار كان في تصرفه بالإجارتين قبل السنين المذكورة مستقلا، فلا تسمع دعواه.
الوجه الثاني: تكون بين المتصرف والمتولي، مثلا إذا تصرف أحد في عقار وقف بطريق الإجارتين مدة خمس عشرة سنة في مواجهة المتولي ذلك الوقف، وسكت المتولي تلك المدة بلا عذر فإذا ادعى المتولي بعد ذلك قائلا للمدعي عليه: إن العقار المذكور لم يؤجر لك وإنك ضبطت ذلك العقار فضولا، فلا تسمع دعواه.
دعوى التولية المشروطة: إذا تصرف أحد بوقف بصفته متوليا بالمشروطة مدة خمس عشرة سنة، ثم ظهر شخص آخر وادعى بأن المتولي لذلك الوقف بالمشروطة هو نفسه لا تسمع دعواه.
والمتولي هو الشخص الذي عين بإدارة ورؤية أمور ومصالح الوقف حسب شروط الوقفية وهو على قسمين:
القسم الأول: المتولي الذي تكون توليته من اقتضاء شروط الوقفية ويقال له: متول بالمشروطة.(29/36)
القسم الثاني: المتولي الذي لم يشرط من طرف الواقف شرط بأن يكون متوليا، بل هو متول ينصب القاضي له متوليا.
دعاوى الغلة: ومعنى غلة الوقف هي فائدة ومحصول الوقف، كربح النقود الموقوفة، وبدل إيجار العقار الموقوف، ومحصول المزرعة الموقوفة، وثمر الروضة الموقوفة، فعليه إذا تصرف عمرو بعد وفاة ولده بكر من أولاد أولاد الواقف في المزرعة الموقوفة المشروطة، غلتها على أولاد الواقف وأولاد أولاده في مواجهة بشر أربعين سنة مستقلا، وسكت بشر هذه المدة بلا عذر، وبعد ذلك ادعى بشر على بكر قائلا في دعواه: إنني من أولاد الواقف، وإن لي حق المشاركة في غلة المزرعة معك. فلا تسمع دعواه (علي أفندي) .
فإذا استمع القاضي الدعوى التي وقع فيها مرور زمن على هذا الوجه وحكم فيها، فلا ينفذ حكمه؛ لأن الحكم والقضاء المخالف لأمر إمام المسلمين المشروع مردود (جامع الإجارتين) .
المادة (1661) : (تسمع دعوى المتولي والمرازقة في حق أصل الوقف إلى ست وثلاثين سنة، ولا تسمع بعد مرور ست وثلاثين سنة، مثلا إذا تصرف أحد في عقار على وجه الملكية ستا وثلاثين سنة، ثم ادعى متولي وقف قائلا: إن ذلك العقار هو من مستغلات وقفي فلا تسمع دعواه) .
تسمع دعوى المتولي والمرازقة في حق أصل الوقف إلى ست وثلاثين سنة، وكل شيء يتعلق به صحة الوقف هو من أصل الوقف، وكل شيء لا يتوقف عليه صحة الوقف هو من شروط الوقف (جامع الإجارتين) .
والمتولي - كما بينا آنفا - إما أن يكون بالمشروطة أو بنصب القاضي، والدعوى صحيحة من أيهما كان.
والمرازقة: هم الذين يأخذون معاشا وراتبا من غلة الوقف، ويسمى هؤلاء أهل الوظائف أيضا كإمام الجامع وخدمته.(29/37)
يفهم من ظاهر المجلة بأن المرازقة هم خصم في دعوى الوقف، إلا أن هذه المسألة مختلف فيها بين الفقهاء، وبيان ذلك أن حق الدعوى في الأوقاف هو للمتولي عند بعض الفقهاء، ولا يكون المرازقة مدعين مدعى عليهم في الوقف، والقول المفتى به في ذلك الحين هو هذا القول. مثلا: إذا ادعى أحد على العقار الذي في يد آخر قائلا: إن سكن هذا العقار وغلته هي وقف مشروطة لي، وادعى ذو اليد بأن العقار المذكور ملكه، فإذا كان ذلك المدعي هو متولي الوقف فتعتبر خصومته ودعواه، وإذا كان غير ذلك فلا تعتبر على القول المختار (جامع الإجارتين والنتيجة والبحر في الدعوى والإسعاف ورد المحتار وأوائل الشهادة في الوقف) .
أما إذا أولت هذه الفقرة (بأنه تسمع دعوى المرتزقة برأي القاضي فتكون موافقة للرأي المختار) مثلا إذا كان المتولي غائبا أو لم يدع، كما أنه لم يوكل الموقف عليه فتسمع دعوى الموقوف عليه بإذن القاضي.
وعند بعض الفقهاء إن للموقوف عليه أن يكون مدعيا في الأوقاف كما للمتولي حق بذلك؛ فلذلك إذا كان الوقف على معين فدعوى الموقوف عليه المعين صحيحة (الحموي) .
ويرى أن المجلة قد اختارت هذا القول.
وأصل دعوى الوقف سواء كان عقارا، وقد ذكر في المجلة، أو كان منقولا كالنقود والدعاية التي تتعلق بأصل النقود الموقوفة تسمع إلى ست وثلاثين سنة.
مثلا إذا أتلف أحد كذا دينارا من النقود الموقوفة التي تحت توليته بصرفها على نفسه، ثم عين متول آخر على ذلك الوقف، ولم يدع ذلك المتولي تلك النقود، وبعد مرور خمس عشرة سنة نصب على الوقف متول آخر، وادعى على المتولي الأول بتلك النقود، فليس للمتولي الأول أن يقول للمتولي: لا تسمع دعواك حيث قد مر خمس عشرة سنة (علي أفندي) .(29/38)
أما الدعوى المتعلقة بربح النقود الموقوفة فتسمع إلى خمس عشرة سنة فقط، ولا تسمع دعوى المتولي والمرتزقة في حق أصل الوقف بعد مرور ست وثلاثين سنة. ومرور الزمن في ذلك هو مرور الزمن الذي هو حكم اجتهادي. والدعوى في حق أصل الوقف تكون على صورتين:
الصورة الأولى: تكون بين الملكية والوقفية، مثلا إذا تصرف أحد في عقار ستا وثلاثين سنة على وجه الملكية ثم ادعى متولي الوقف قائلا: إنه من مستغلات وقفي، فلا تسمع دعواه.
أما إذا كانت المدة التي مرت أقل من ست وثلاثين سنة، فتسمع الدعوى، فعليه لو ضبط أحد بضعة حوانيت، وتصرف فيها على وجه الملكية مدة خمس وعشرين سنة، ثم ادعى متولي وقف أن تلك الحوانيت هي وقف فلان، فتسمع دعواه (علي أفندي) .
الصورة الثانية: تكون بين وقفين، مثلا لو أجر متولي وقف عقارا على أنه من مستغلات الوقف الذي تحت توليته مدة ست وثلاثين سنة في مواجهة متولي وقف آخر، وسكت متولي الوقف الثاني في هذه المدة بلا عذر، ثم ادعى على متولي الوقف الأول أن العقار المذكور من مستغلات وقفه، فلا تسمع دعواه.
المادة (1662) : (إن كانت دعوى الطريق الخاص والمسيل وحق الشرب في عقار الملك، فلا تسمع بعد مرور خمس عشرة سنة، وإن كانت في عقار الوقف، فللمتولي أن يدعيها إلى ست وثلاثين سنة، وكما لا تسمع دعاوى الأرض الأميرية بعد مرور عشر سنوات، كذلك لا تسمع دعاوى الطريق الخاص والمسيل وحق الشرب في الأراضي الأميرية بعد أن تركت عشر سنوات) .
إن كانت دعوى الطريق الخاص والمسيل وحق الشرب في عقار الملك فلا تسمع بعد مرور خمس عشرة سنة.
ويستعمل الطريق الخاص والمسيل في معنيين:(29/39)
أولهما: بمعنى رقبة الطريق ورقبة المسيل، وقد مر في شرح المادة (الـ1213، والـ 1143) تعريف الطريق الخاص كما أنه قد ذكر في المادة (الـ1220) بأنه كالملك المشترك لمن لهم فيه حق المرور.
وقد ذكر في (144) أن المسيل هو محل جريان الماء والسيل (الهندية في باب البيع الفاسد في قوله وبيع الطريق وهبته) .
وعلى هذا المعنى إذا كان الطريق والمسيل لعقار الملك فمدة مرور الزمن فيها خمس عشرة سنة، إذا كانا لعقار وقف فمدة مرور الزمن فيها ست وثلاثون سنة، وقد ذكر ذلك في مادتي (الـ1660، والـ 1661) فإذا كان يقصد في هذه المادة هذا المعنى، فيكون تكرارا، كما إن عبارة (في العقار الملك) مانعة من إرادة هذا المعنى؛ لأنه لا يصح أن يكون الشيء ظرفا لنفسه.
ثانيا: معنى حق المرور حق المسيل، وهذا المعنى مناسب لتعبير حق الشرب، وإذا قصد هذا المعنى فلا يكون الكلام تأكيدا، بل يكون تأسيسا، والتأسيس أولى من التأكيد.
مثال للمعنى الثاني: إذا ادعى أحد بأنه له حق مرور في العرصة التي في تصرف آخر مستقلا مدة خمس عشرة سنة، وإنه كان يمر منها قبل خمس عشرة سنة، فلا تسمع دعواه. وإذا كانت في العقارات الموقوفة للمتولي أن يدعي ذلك لست وثلاثين سنة. مثلا لو كان لحانوت وقف حق مسيل في عرصة موقوفة لجهة أخرى، فلمتولي الوقف الأول أن يدعي على متولي الوقف الثاني إلى ست وثلاثين سنة وفي ذلك ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن يكون حق الطريق واقعا في العقارات الموقوفة، وأن يكون العقار الذي يرجع إليه حق الطريق وقفا كما في المثال المذكور آنفا.
الصورة الثانية: أن يكون حق الطريق واقعا في عقارات موقوفة، ويكون العقار الذي يرجع إليه حق الطريق ملكا، كادعاء أحد على متولي عرصة بقوله: إن لداري الملك حق طريق في العرصة التي أنت متول عليها ومدة(29/40)
مرور الزمن في هذه الدعوى على الظاهر هي خمس عشرة سنة، تبعا للعقار الملك التي هي عائدة إليه.
الصورة الثالثة: أن يكون حق الطريق واقعا في العقارات المملوكة، ويكون العقار الذي يرجع إليه حق الطريق وقفا، كادعاء متولي وقف عقارا على آخر بقوله: إن للعقار الذي تحت توليتي حق مرور في العرصة التي هي ملكك. ومدة مرور الزمن في هذه الدعوى على الظاهر ست وثلاثون سنة تبعا للعقار الموقف التي هي عائدة إليه.
وكما أنه لا تسمع دعوى التصرف في الأراضي الأميرية بعد مرور عشر سنوات قمرية، كذلك لا تسمع دعاوى الطريق الخاص والمسيل وحق الشرب في الأراضي الأميرية بعد أن تركت عشر سنوات.(29/41)
يوجد في هذه الفقرة أربع مسائل ويفصل كل منها على الوجه الآتي:
المسألة الأولى: دعاوى الأراضي الأميرية، والمقصد منها دعاوى التصرف في الأراضي الأميرية، سواء كانت الأميرية أميرية صرفة، أو أميرية موقوفة. مثلا إذا تصرف أحد في مزرعة في الأراضي الأميرية عشر سنوات في مواجهة آخر، وسكت ذلك الآخر تلك المدة بلا عذر، فأقام الدعوى قائلا: إن تلك المزرعة هي بتصرفي بموجب سند طابو قبل السنين المذكورة وأنكر المدعى عليه فلا تسمع دعواه.
وقد جاء في جامع الفصولين رجل تصرف في الأراضي الأميرية عشر سنين يثبت له حق القرار ولا تؤخذ من يده.
تكون دعوى التصرف في الأراضي الأميرية على صورتين:
الصورة الأولى: تكون بإقامة الدعوى من شخص على آخر وهو كما في المثال المتقدم الذكر.
الصورة الثانية: تكون بإقامة صاحب الأرض على شخص، مثلا إذا ادعى(29/41)
صاحب الأرض الأراضي التي بتصرف أحد بموجب طابو محلولة من عهدة فلان، أو أنها من الأراضي الأميرية الخالية، وطلب ضبطها لبيت المال، مبينا أن تصرف المدعى عليه بها تصرف فضولي، فأنكر المدعى عليه التصرف الفضولي، وادعى تصرفه بها على كونها أراضي أميرية منذ عشر سنوات، وأثبت مدعاه فلا تسمع دعوى صاحب الأرض، أما إذا كانت المدة التي مرت أقل من عشر سنوات، فتسمع الدعوى. مثلا لو ترك أحد دعواه على آخر المتعلقة بأرض مسجلة بالطابو تسع سنوات وأحد عشر شهرا، فلا يمنع هذا الإهمال استماع الدعوى، كما أنه لو تركها تسع سنوات وأحد عشر شهرا وخمسة وعشرين يوما بلا عذر ولم تتم السنوات العشر تسمع دعواه.
كذلك لو تصرف أحد مع آخر في مزرعة من الأراضي الأميرية بالاشتراك السنوي عشر سنوات، وسكت ذلك الشخص هذه المدة بلا عذر، وادعى بعد مرور السنوات العشر بأن جميع المزرعة هي بتصرفه بموجب طابو فلا تسمع دعواه.
وقد صدرت إرادة سلطانية بتاريخ 22 محرم سنة 1300هـ، و 22 تشرين الثاني سنة 1298 بسماع دعوى مأمور الأرض المتعلقة برقبة الأرض الأميرية إلى ست وثلاثين سنة.
مثلا إذا تصرف أحد في أرض على كونها ملكه فتسمع دعوى مأمور الأراضي بأنها أراض أميرية إلى ست وثلاثين سنة.
كذلك إذا ادعى صاحب الأرض بأن الأرض من الأراضي الأميرية وادعى المتولي ذي اليد بأنها وقف فتسمع دعوى صاحب الأرض إذا لم يمر ست وثلاثون سنة. أما إذا مر ست وثلاثون سنة فلا تسمع دعواه.
المسألة الثانية: دعاوى الطريق الخاص في الأراضي الأميرية. إذا ادعى أحد قائلا: إن لمزرعتي التي تحت تصرفي بموجب طابو طريقا خاصا في المزرعة التي تحت تصرفك بموجب طابو فلا تسمع الدعوى فيها إذا مر عشر سنوات.(29/42)
المسألة الثالثة: دعاوى المسيل في الأراضي الأميرية. إذا ادعى أحد قائلا: إن لهذه المزرعة التي تحت تصرفي بموجب طابو حق مسيل في المزرعة التي تحت تصرفك بموجب طابو فلا تسمع الدعوى فيها إذا مرت عشر سنوات.
إن الصور الثلاث التي ذكرت في شرح الفقرة الثانية من المادة الآنفة تلاحظ في هاتين المسألتين.
المسألة الرابعة: دعاوى حق الشرب في الأراضي الأميرية. إذا ادعى أحد قائلا إن لهذه المزرعة التي تحت تصرفي بموجب طابو حق شرب في النهر الموجود في المزرعة التي تحت تصرفك بموجب طابو فلا تسمع الدعوى فيها إذا مرت عشر سنوات وإلا فتسمع.
المادة (1663) : (والمعتبر في هذا الباب أي في مرور الزمن المانع لاستماع الدعوى هو مرور الزمن الواقع بلا عذر فقط، وأما مرور الزمن الحاصل بأحد الأعذار الشرعية ككون المدعي صغيرا أو مجنونا أو معتوها، سواء كان له وصي أو لم يكن له أو كونه في ديار أخرى مدة السفر أو كان خصمه من المتغلبة فلا اعتبار له؛ فلذلك يعتبر مبدأ مرور الزمن من تاريخ زوال واندفاع العذر. مثلا لا يعتبر الزمن الذي مر حال جنون أو عته أو صغر المدعي، بل يعتبر مرور الزمن من تاريخ وصوله حد البلوغ. كذلك إذا كان لأحد مع أحد المتغلبة دعوى، ولم يمكنه الادعاء لامتداد زمن تغلب خصمه، وحصل مرور زمن لا يكون مانعا لاستماع الدعوى وإنما يعتبر مرور الزمن من تاريخ زوال التغلب) .
والمعتبر في هذا الباب أي في مرور الزمن المانع لاستماع الدعوى هو مرور الزمن الواقع بلا عذر، أما الزمن الذي مر بعذر شرعي ككون المدعي أي صاحب الحق صغيرا أو مجنونا أو معتوها سواء كان له وصي أو لم يكن أو كان المدعي أو المدعى عليه في ديار أخرى مدة السفر، أو كان خصمه أي المدعى عليه من المتغلبة فلا يعتبر، فلذلك يعتبر مبدأ مرور الزمن من تاريخ زوال واندفاع العذر (علي أفندي) .(29/43)
فعلى هذه الصورة لو كان لزيد حق ثابت في ذمة عمرو، فتغيب عمرو بعد ثبوت ذلك الحق أربع عشرة سنة ثم حضر، فمبدأ مرور الزمن يعتبر من تاريخ حضور عمرو، فلو أقام زيد الدعوى بعد التاريخ المذكور بثلاث عشرة سنة تسمع دعواه.
والمدة التي تمر بأعذار كهذه لو بلغت أربعين أو خمسين سنة فتسمع الدعوى؛ لأن من المقرر أن الترك لا يتأتى من الغائب له أو عليه لعدم تأتي الجواب منه بالغيبة، والعلة خشية التزوير ولا لتالي بالغيبة الدعوى عليه (رد المحتار) .
الأعذار الثلاثة، يطلق على الأعذار المبينة في هذه المادة الأعذار الثلاثة:
الأول: القاصرية وهو عبارة عن كون صاحب الحق صغيرا أو مجنونا أو معتوها فالمدة التي تمر أثناء القاصرية لا تدخل في حساب مرور الزمن سواء بلغت حد مرور الزمن أو لم تبلغ.
مثلا لو دامت القاصرية خمس سنوات وزالت في ابتداء السنة السادسة فيبتدئ مرور الزمن اعتبارا من السنة السادسة، كما أنه لو دامت القاصرية خمس عشرة سنة وزالت في ابتداء السنة السادسة عشرة، فيحسب مرور الزمن من ابتداء السنة السادسة عشرة، أما إذا بدأ مرور الزمن حينما لم تكن القاصرية موجودة وقبل اكتمال مرور الزمن، حصلت القاصرية ثم زالت بعد مدة، فهل يجب تنزيل المدة التي كان فيها في حالة القاصرية من مدة مرور الزمن؟ يعني مثلا لو باع زيد وهو أهل للتصرف مالا لعمرو بعشرين دينارا، وبعد خمس سنوات طرأ على عمرو قاصرية دامت عشر سنوات، ثم زالت ثم ادعى بعد زوال القاصرية بثماني سنوات، فإذا نزلت من المدة مدة القاصرية، فيكون مجموع المدة ثلاث عشرة سنة ويجب سماع الدعوى، وفي حالة عدم تنزيلها تكون المدة ثلاثا وعشرين سنة ويجب عدم سماع الدعوى؟(29/44)
إن هذه المسألة محتاجة للحل ومن الموافق لسماع الدعوى لحين وجود مسألتها الصريحة.
الثاني: الغيبة، وهي أعم من غيبة الداعي أو المدعى عليه، فالمدة التي تمر في حالة الغيبة سواء بلغت حد مرور الزمن أو لم تبلغ، فلا تأثير لها في مرور الزمن إذا كان ثبوت الحق المدعى به في حالة الغياب.
مثال على كونه بالغا مدة مرور الزمن: إذا كان لأحد في ذمة آخر حق وهو مقيم في ديار بعيدة مدة السفر وتحقق في ذمة الغائب بطريق البيع أو الإجارة أو الإقراض بطريق المكاتبة أو المراسلة أو بإتلاف المال، ولم يتمكن من الادعاء بمطلوبه ثم بعد مرور خمس عشرة سنة حضر ذلك الشخص ثم بعد مرور أربع عشرة سنة من حضوره أقام صاحب الحق عليه الدعوى فتسمع دعواه.
مثال على عدم بلوغ مدة مرور الزمن: إذا ثبت لأحد في ذمة آخر حق وهو مقيم في ديار أخرى بعيدة مدة السفر ودامت غيبة المدين مدة خمس سنوات إلا أنه حضر في ابتداء السنة السادسة فبما أنه يبتدئ مرور الزمن من السنة السادسة فللمدعي أن يقيم الدعوى بعد تسع عشرة سنة اعتبارا من مبدأ ثبوت الحق.
يوجد بعض مسائل تحتاج للحل في عذر الغيبة:
1 - إذا بدأ مرور الزمن في عدم وجود الغيبة وقبل أن يتم مرور الزمن تخللته الغيبة ثم زالت الغيبة بعد مدة، فهل يجب تنزيل مدة الغيبة من مرور الزمن أو لا يجب؟ فالظاهر أنه يجب تنزيلها، يعني لو أقرض زيد لعمرو عشرة دنانير وسلمها إياه ثم أقام الاثنان في بلدة واحدة خمس سنوات، ثم غاب عمرو وسافر إلى ديار بعيدة مدة السفر مدة عشر سنوات، ثم حضر فادعى المدعي بعد حضوره بأربع سنوات، فإذا نزلت مدة الغيبة يكون مر تسع سنوات فقط، وإذا لم تنزل يكون قد مر تسع عشرة سنة، والظاهر أنه يجب تنزيل مدة الغيبة.(29/45)
2 - إذا كان للمدعى عليه الغائب وكيل بالخصومة أو نائب له، يعني لو وكل المدعى عليه قبل غيبته وكيلا في الخصومة في الدعاوى التي تقام له أو عليه وكانت هذه الجهة معلومة للمدعي إلا أن المدعي لم يقم الدعوى لغيبة المدعى عليه فهل يقع مرور الزمن؟ .
بما أنه في حالة غيبة المدعى عليه لا يمكن فصل بعض الدعاوى كأن لا يوجد لدى المدعي شهود، ويتوجه اليمين فيها على المدعى عليه، فالظاهر بأنه لا يحصل مرور الزمن في هذه المسألة.
3 - إذا كان للمدعي مطلوب في تركة وكان بعض الورثة غائبا وبعضهم حاضرا، فلم يقم المدعي الدعوى على الحاضرين، ورجع الغائب بعد مرور خمس عشرة سنة، فأقام المدعي الدعوى عليه، فهل يقع مرور الزمن؟ فالظاهر أنه لا يقع مرور الزمن في حصة هذا الغائب.
الثالث: التغلب، وهو أن يكون المدعى عليه من المتغلبة فالمدة التي تمر في حالة التغلب سواء بلغت حد مرور الزمن أو لم تبلغ، فلا تأثير لها على مرور الزمن ما دام ثبوت الحق كان في زمن التغلب.
مثال على بلوغ مدة مرور الزمن: إذا غصب أحد في حالة غلبة أغنام شخص آخر، وامتد تغلبه خمس عشرة سنة، وزال في السنة السادسة عشرة وادعى المدعي بعد مرور ثماني سنوات من تاريخ زوال التغلب فتسمع دعواه.
مثال على عدم بلوغ مدة مرور الزمن: لو غصب أحد في حالة تغلبه مزرعة آخر وامتد تغلبه خمس سنوات، وزال تغلبه في السنة السادسة وادعى بعد ثماني سنوات من زوال التغلب فتسمع دعواه.
أما إذا ابتدأ مرور الزمن قبل وجود التغلب، وتخلل ذلك التغلب قبل انقضاء مدة مرور الزمن، ثم زاد التغلب بعد مدة، فهل يجب تنزيل مدة التغلب؟ يعني مثلا لو غصب أحد قبل أن يكون متغلبا عشرة دنانير من(29/46)
آخر، ثم بعد مرور ثماني سنوات أصبح متغلبا ودام تغلبه سبع سنوات، ثم زال تغلبه فأقام المدعي بعد سنتين من زوال التغلب، فإذا تنزلت مدة التغلب تكون الدعوى مسموعة، وإذا لم تنزل فتكون غير مسموعة، والظاهر أنه يجب تنزيلها.
قيل في المجلة (ككون المدعي صغيرا إلخ) لأنه لا يوجد عذر رابع؛ حيث إذا منع الزوج زوجته صاحبة الحق من إقامة الدعوى منعا أكيدا، ولم تدع من أجل ذلك فهذا العذر معدود عذرا شرعيا، ولها إقامة الدعوى بعد زوال المنع، ولا تعتبر المدة التي مرت أثناء المنع، إلا أنه يجب أن يثبت منع الزوج لها (علي أفندي) .
مثال على القاصرية: مثلا لا يعتبر الزمن الذي مر حال جنون أو عته أو صغر أحد، وإنما يعتبر من تاريخ وصوله إلى حد البلوغ أو تاريخ زوال الجنون أو العته، ففي هذه الصورة لو بلغ الصغير ومر تسع سنوات، فلا يمنع ذلك من سماع دعواه.
كذلك لو ترك المجنون أو المعتوه الدعوى تسع سنوات ونصفا، فلا يمنع ذلك من استماع دعواه. مثال لمدة السفر البعيدة: لو سافر أحد إلى ديار بعيدة مدة السفر، ولم يدع دائنه بالعشرة الدنانير المطلوبة له من ذمة الغائب، ثم عاد الغائب بعد أربع عشرة سنة، وبعد عودته بثماني سنوات أقام صاحب الدين عليه الدعوى، فليس للمدعى عليه أن يقول: إن الدعوى غير مسموعة لمرور الزمن.
مثال للتغلب: كذلك إذا كان لرجل مع أحد المتغلبة دعوى ولم يمكنه الادعاء لامتداد زمان تغلب خصمه ووجد مرور الزمن بترك الدعوى الأرض الأميرية خمس عشرة سنة، فلا يكون ذلك مانعا لاستماع الدعوى، وإنما يعتبر مرور الزمن من تاريخ زوال التغلب.
أما عدم العلم فليس من الأعذار الشرعية (فتاوى أبي السعود) .(29/47)
مثلا لو ضبط أحد مزرعة من الأراضي الأميرية وتصرف بها مدة عشر سنوات في مواجهة آخر، وسكت الآخر تلك المدة، ثم ادعى بقوله: إن المزرعة هي في تصرف والدي المتوفى بموجب طابو قبل السنين المذكورة بوفاته قد انتقلت المزرعة المذكورة حصرا لي، ولكن كنت أجهل بأن تلك المزرعة هي في تصرف والدي، فلذلك لم أقم الدعوى قبلا والآن علمت ذلك فادعى فلا تسمع دعواه.
والحكم على هذا المنوال في التصرف بالإجارتين. مثلا لو تصرف أحد في دكان وقف بالإجارتين مدة عشرين سنة في مواجهة آخر وسكت المذكور تلك المدة بلا عذر، ثم ادعى أن الدكان المذكورة هي لوالده المتوفى بكر، وقد انتقلت إليه بالانتقال العادي، وأنه سمع ذلك من بعض الناس، إلا أنه كان يجهل أن الحال كما ذكر، فلم يتقدم للدعوى وأنه يتقدم إليها الآن فلا تسمع دعواه (جامع الإجارتين) .
ترجح بينة مرور الزمن الحاصل بعذر: مثلا لو ادعى طرف بأن مرور زمن حصل بعذر، وأقام البينة على ذلك وادعى الطرف الآخر بأنه وقع بغير عذر فترجح بينة كونه واقعا بعذر.
المادة (1664) : (مدة السفر هي ثلاثة أيام أي مسافة ثماني عشرة ساعة بالسير المعتدل) .
مدة السفر البعيدة هي ثلاثة أيام بالسير المعتدل أي راجلا أو راكبا حيوانا سيرا متوسطا مع الاستراحة المعتادة، وهو في الأيام القصيرة ثلاثة أيام أي مسافة ثماني عشرة ساعة؛ فلذلك إذا وصل إلى بلدة يسير البريد في يومين مع كونه يصل إليها بالسير المعتاد بثلاثة أيام فتعتبر أيضا مسافة سفر.
كذلك إذا وصل إلى بلدة بالقطار بيوم واحد أو بأقل من يوم وكانت مسافتها بالسير المعتدل ثلاثة أيام فتعد البلدة المذكورة بعيدة مدة السفر (الفتاوى الجديدة) .(29/48)
إذا ذهب المدعى عليه إلى بلدة من البلاد الأجنبية وكانت بالنسبة إلى البلدة التي يوجد فيها المدعي غير بعيدة مدة السفر، فحيث إنه لا يمكن للمدعي أن يذهب إلى البلدة التي يقيم فيها المدعى عليه؛ لاستحصال حقه حسب الأحكام المشروعة، فهل يعد ذلك عذرا في مرور الزمن؟ فالظاهر أنه يعد عذرا.
المادة (1665) : (إذا اجتمع ساكنا بلدتين بينهما مسافة سفر مرة واحدة في بلدة في كل بضع سنوات ولم يدع أحدهما على الآخر شيئا مع أن محاكمتهما كانت ممكنة وبعدها وجد مرور الزمن بهذا الوجه، لا تسمع دعوى أحدهما على الآخر بتاريخ أقدم من المدة المذكورة) .
ساكنا بلدتين بينهما مسافة سفر اجتمعا في بلدة وبتعبير آخر: إن المدعي قد علم بعودة خصمه ولم يدع أحدهما على الآخر وكانت محاكمتهما ممكنة فبعد ما وجد مرور الزمن المعتبر في نوع المدعى به، لا تسمع دعوى أحدهما على الآخر بتاريخ أقدم من المدة المذكورة، وبهذه الصورة لو تغيب عمرو بعد أن ثبت في ذمته حق لزيد مدة عشر سنوات في السنة الحادية عشرة، اجتمع بزيد مرة واحدة وفي الثانية عشرة مرة أخرى، وفي الثالثة عشرة مرة ثالثة، فإذا مر خمس عشرة سنة على مبدأ ثبوت الحق، فلا تسمع دعوى زيد. فعليه إذا أنكر المدعى عليه المدعى به، وادعى أنه قد اجتمع بالمدعي بضعة مرات في ظرف الخمس عشرة سنة، وأنه كان ممكنا جريان المحاكمة بينهما وأقر المدعي بذلك، أو أنكر وأثبت المدعى عليه ذلك فلا تسمع دعواه.
وقد ذكر في فتاوى علي أفندي في هذا المقام عبارة (مرة في كل سنتين أو ثلاث سنوات) ويفهم من ظاهر هذه العبارة بأنه يجب التكرر في الاجتماع ولا يكفي اجتماع واحد، وفي هذا الحال يجب حل أسئلة ثلاثة:
1 - كم مرة يجب أن يتكرر هذا الاجتماع، بما أنه يكون الاجتماع الثاني تكرر، فهل يكفي ذلك أو يجب تكرره ثلاث أو أربع مرات؟(29/49)
2 - ما هو السبب في اختلاف الحكم بين الاجتماع الواحد وبين الاجتماعين أو الأكثر؟
3 - إذا غاب أحد الطرفين في محل سفر بعيد تسع سنوات، واجتمع الطرفان في السنة العاشرة، وبعد ذلك غاب أحدهما في ديار بعيدة مدة السفر مدة أربع سنوات، ثم اجتمعا، فبموجب المادة (الـ1663) يكون مرور التسع سنوات الأولى بعذر، ومرور الزمن يبتدئ من بعده ويجب استماع الدعوى في الاجتماع الثالث، وفي هذا الحال تكون هذه المادة منافية لأحكام المادة (الـ1663) ؟ وإذا أجيب على ذلك بأن المقصود من مرور الزمن في المادة (الـ1663) هو حد مرور زمن العشر سنوات أو الخمس عشرة سنة، أو الست والثلاثين سنة التي تمت، أما في هذه المسألة فالتسع سنوات الأولى لم تصل إلى حد مرور الزمن، ولا يكون صحيحا، والحقيقة أن حكم هذه المادة مناف لحكم المادة (الـ1663) ؛ لأن مرور الزمن المانع لاستماع الدعوى حسب المادة (الـ1663) هو مرور الزمن الواقع بلا عذر.
مثلا: إذا تغيب عمرو بعد أن ثبت في ذمته حق لزيد مدة عشر سنوات، واجتمع بزيد في السنة الحادية عشرة مرة، وفي السنة الثانية عشرة مرة أخرى، وفي السنة الثالثة عشرة مرة ثالثة، ومر خمس عشرة سنة اعتبارا من مبدأ ثبوت الحق، فحسب هذه المادة لا تسمع الدعوى، والحال أنها تسمع بحسب المادة (الـ1663) ؛ لأن المانع من سماع الدعوى هو مرور الزمن الواقع بلا عذر، وعلى ذلك فالعشر سنوات الأولى في المسألة الآنفة قد مرت بعذر.
ويرد إلى الخاطر أن يجاب على هذا السؤال الجواب الآتي وهو: إذا تكرر الاجتماع أثناء الغيبة فالغيبة الأولى لا تعد عذرا فلا تنزل من المدة؛ لأنه لو جرى تنزيل مدة الغيبة الأولى، يجب تنزيل الغيبة الثانية والثالثة والرابعة، وما بعد ذلك وفي هذا الحال لا يتحقق في هذه الدعاوى مرور الزمن مطلقا (وهو أنه لا يتحقق؛ إذ لا ضرورة لتحققه) .(29/50)
أما إذا لم يتكرر الاجتماع وكان الاجتماع واحدا، فيجب تنزيل مدة الغيبة الأولى؛ لأنه في هذه الصورة لا يوجد المحذور الذي بين:
المادة (الـ1666) : (إذا ادعى أحد على آخر خصوصا في حضور القاضي في كل بضعة سنوات مرة، ولم تفصل دعواه، ومر على هذا الوجه خمس عشرة سنة، فلا يكون مانعا من استماع الدعوى، وأما الادعاء والمطالبة التي لم تكن في حضور القاضي فلا تدفع مرور الزمن، بناء عليه إذا ادعى أحد خصوصا في غير مجلس القاضي وطلب به، وعلى هذا الوجه وجد مرور الزمن فلا تسمع دعواه) .
وإذا ادعى أحد على آخر خصوصا في حضور القاضي وفي مواجهة الخصم الشرعي في كل بضع سنوات مرة، ولم تفصل دعواه، وبقيت معطلة في المحاكم، وحصل أثناء ذلك مرور الزمن المعين لذلك المدعى به كمرور خمس عشرة سنة في دعوى الدين، فلا يمنع ذلك استماع الدعوى.
إلا أنه إذا بلغت المدة بين الدعويين إلى حد خمس عشرة سنة، فيمنع ذلك استماع الدعوى، مثلا إذا مرت بين دعوى الدين مدة خمس عشرة سنة، وبين دعوى الأراضي الأميرية عشر سنوات، فيمنع ذلك سماع الدعوى. أما الادعاء والمطالبة التي لم تكن في حضور القاضي واللذان حصلا في مجالس الإدارة أو غرف التجارة أو نقابة الصناع أو غيرها مما لم يكن لها صلاحية الفصل والحكم في الدعوى، فلا يدفع ذلك مرور الزمن، فعليه لو ادعى أحد بخصوص في غير حضور القاضي وحصل مرور الزمن المعين لنوع تلك الدعوى، فلا تسمع دعوى المدعي.
إن تقديم الاستدعاء والمعروض للقاضي، ولو اقترن بإرسال ورقة جلب، لا يقطع مرور الزمن حسب الأحكام الفقهية.
وبتعبير آخر الاستدعاء الذي يقدمه المدعي للمحكمة يطلب الحكم له على خصمه بحقه وطلب جلب خصمه للمحكمة، لا يقوم مقام الدعوى ولا يكفي لقطع مرور الزمن.(29/51)
مثلا لو قدم المدعي قبل انتهاء مدة الخمس عشرة سنة بثمانية أيام استدعاء على هذا الوجه ودعا خصمه للمحاكمة وعند انتهاء مدة الثمانية أيام ترافعا أمام القاضي، فإذا كانت مدة الخمس عشرة سنة قد تمت يوم المرافعة في حضور القاضي، فلا تسمع الدعوى ولو كانت مدة مرور الزمن لم تتم حين تقديم الاستدعاء، أو وقت تبليغ جلب المحكمة؛ لأنه كما هو مصرح في متن هذه المادة: إن الذي يدفع مرور الزمن هو الدعوى. والدعوى حسب مادتي (1613، 1618) تقال للطلب الذي يقع في حضور القاضي وفي مواجهة الخصم وعليه فالطلب الذي لا يكون في مواجهة الخصم غير معدود من الدعوى.
المادة (1667) : (يعتبر مرور الزمن من تاريخ وجود صلاحية الادعاء في المدعي، فمرور الزمن في دعوى الدين المؤجل إنما يعتبر من حلول الأجل؛ لأنه ليس للمدعي صلاحية دعوى ذلك الدين ومطالبته قبل حلول الأجل، مثلا لو ادعى أحد على آخر بقوله: لي عليك كذا دراهم من ثمن الشيء الفلاني الذي بعتك إياه قبل خمس عشرة سنة مؤجلا لثلاث سنين تسمع دعواه، كذلك لا يعتبر مرور الزمن في دعوى البطن الثاني في الوقف المشروط للأولاد بطنا بعد بطن إلا من تاريخ انقراض البطن الأول؛ لأنه ليس للبطن الثاني صلاحية الدعوى ما دام البطن الأول موجودا. وكذلك يعتبر مبدأ مرور الزمن في دعوى المهر المؤجل من وقت الطلاق ومن تاريخ موت أحد الزوجين؛ لأن المهر المؤجل لا يكون معجلا إلا بالطلاق أو الوفاة) .
يعتبر مرور الزمن من تاريخ وجود صلاحية الادعاء في المدعي وصلاحية أخذه، فمرور الزمن في دعوى الدين المؤجل إنما يعتبر من حلول الأجل؛ لأنه ليس للمدعي صلاحية دعوى وأخذ ذلك الدين أو المطالبة به قبل حلول الأجل، حتى إنه لا يحبس المدين من أجل الدين المؤجل (رد المحتار) .
إلا أنه يجوز إثبات الدين المؤجل قبل حلول الأجل وبما أن الإثبات وإقامة البينة مشروط بسبق الدعوى بحكم المادة (الـ1696) فعلى هذه الصورة يجوز الادعاء بالدين المؤجل قبل حلول الأجل.(29/52)
مثلا يصح لأحد أن يثبت مطلوبه من ذمة آخر المؤجل لخمسة أشهر مثلا إلا أنه يؤخر الأخذ والاستيفاء لحلول الأجل (الأنقروي) .(29/53)
كذلك تقبل دعوى الزوجة بإثبات مهرها المؤجل على زوجها (الهندية) .
أما إذا لم يثبت المدعي الدين المؤجل بالبينة، فلا يحلف المدعى عليه قبل حلول الأجل على أظهر القولين، حيث لم يكن للمدعي حق بالمطالبة والأخذ، فلا يترتب على المدعى عليه اليمين في حالة إنكاره.
مثلا لو ادعى أحد على آخر بقوله: لي عليك كذا دراهم من ثمن الشيء الفلاني الذي بعتك إياه أو أجرته لك قبل خمس عشرة سنة مؤجلا لثلاث سنين تسمع دعواه؛ لأنه لم يمر سوى اثنتي عشرة سنة من حلول الأجل والحالة أن دعوى الدين تسمع إلى خمس عشرة سنة، انظر المادة (الـ1660) .
كذلك لا يعتبر مرور الزمن في دعوى البطن الثاني بالوقف المشروطة توليته وغلته للأولاد بطنا بعد بطن. مثلا لو شرط الواقف قائلا: قد شرطت تولية وغلة وقفي لأولادي وأولاد أولادي بطنا بعد بطن، فلا تسمع دعوى البطن الثاني إلا من تاريخ انقراض البطن الأول، فعلى هذه الصورة لو باع أحد أولاد الواقف من البطن الأول عقار الوقف لآخر وسلمه إياه وتصرف المشتري في ذلك العقار خمسا وثلاثين سنة، وانقرض البطن الأول بالكلية ونصب أحد الأولاد من البطن الثاني متوليا، وبعد مرور سنة ادعى العقار المذكور من المشتري على كونه وقفا فتسمع دعواه، حيث لم يمر على انقراض البطن الأول إلا سنة واحدة، والمدة التي مرت قبل ذلك لا تحسب في مرور الزمن، حيث إنه ليس للبطن الثاني صلاحية الدعوى ما دام البطن الأول موجودا؛ لأن أمثال هذا الوقف إذا كان البطن الأول موجودا لا يعطي حصة لأولاد البطن الثاني، ولا يكون لهم تولية كما أنه إذا كان البطن الثاني موجودا فلا يعطى لأولاد البطن الثالث حصة، ولا يكون لهم تولية على الوقف.(29/53)
كذلك لو ضبط أجنبي تولية الوقف المشروطة لأولاد الواقف وأولاد أولاده بطنا بعد بطن في مواجهة أولاد الواقف من البطن الأول مدة أربع عشرة سنة، وانقرض البطن الأول فادعى أحد أولاد الواقف من البطن الثاني التولية المذكورة من ذلك الأجنبي، فليس للأجنبي أن يدفع دعواه بقوله: إن دعوى المدعي غير مسموعة لمرور خمس عشرة سنة.
سؤال: لو تصرف المشتري في مواجهة أولاد الواقف من البطن الأول خمسا وثلاثين سنة، وتصرف سنة في مواجهة أولاد البطن الثاني، فتبلغ مدة تصرفه ستا وثلاثين سنة، وبما أنه حسب المادة (الـ1620) لو ترك الدعوى الوارث مدة والمورث مدة، وبلغ مجموع المدتين حد مرور الزمن فيجب عدم استماع الدعوى؟
الجواب: إن توجيه التولية للبطن الثاني لم يكن بطريق الإرث، بل هو بمقتضى شرط الواقف، فإذا انتقلت التولية إلى البطن الثاني قبل تمام مدة مرور الزمن في مواجهة البطن الأول، فللبطن الثاني حق الدعوى إلى انتهاء مدة مرور الزمن اعتبارا من تاريخ انتقال التولية له، مع أن المدة التي تمر في زمن البطن الأول والبطن الثاني لا تضم إلى بعضها البعض، إلا أنه إذا بلغت المدة في زمن البطن الأول حد مرور الزمن انتقلت التولية إلى البطن الثاني، فهل للبطن الثاني حق الدعوى؟ فنظرا إلى المثال الثاني وإلى دليله يجب أن يكون له حق الدعوى، إلا أن دليل الفقهاء لا يثبت المسألة بالكلية، فيجب العثور على صراحة المسألة، والمناسب أن تستمع الدعوى لحين العثور على صراحتها.
مثلا لو تصرف أحد في عقار على وجه الملكية ستا وثلاثين سنة في مواجهة البطن الأول، فانقرض البطن الأول فتصرف أيضا بالعقار المذكور ستا وثلاثين سنة في مواجهة البطن الثاني، ثم انقرض البطن الثاني، فراجع البطن الثالث المحكمة، وادعى عليه بأن تولية وغلة ذلك العقار مشروطة لأولاد الواقف بطنا بعد بطن، وأنه وإن تصرف في العقار المذكور مدة اثنتين وسبعين سنة في مواجهة أولاد البطن الأول والبطن الثاني إلا أنهما انقرضا وأصبحت(29/54)
تولية وغلة العقار المذكورة عائدة له، فهل تسمع دعواه؟ فإذا استمعت دعواه فلا يمكن أن يتحقق مرور زمن في نوع هذه الأوقاف.
وإن يكن بموجب المادة (الـ1675) لا يجري مرور الزمن في بعض الدعاوى إلا أن دعاوى التولية ليست من قبيل الدعاوى (وقد ورد في البهجة في هامش كتاب الشهادة أنه إذا استمع زيد القاضي دعوة التولية المشروطة التي تركت أربعين سنة بلا عذر، وحرر حجة بذلك فلا ينفذ حكمه ولا تعتبر حجته) وإن يكن أنه يفهم أن هذه الفتوى أنه إذا مر أربعون سنة على البطن الأول فلا تسمع دعوى البطن الأول، إلا أن هذه الفتوى لا تدل صراحة على عدم جواز استماع دعوى البطن الثاني.
وكذلك يعتبر مبدأ مرور الزمن في دعوى المهر المؤجل من وقت الطلاق أو من تاريخ موت أحد الزوجين؛ لأن المهر المؤجل لا يكون معجلا إلا بالطلاق أو الوفاة، وقد بين بأنه يجوز إثبات المهر المؤجل قبل حلول الأجل.
كذلك لو ادعى أحد الأراضي التي تحت يد آخر بقوله: إن هذه الأراضي هي بتصرفي، فأجابه المدعى عليه بقوله: إنك تفرغت لي بهذه الأراضي قبل عشر سنوات بإذن صاحب الأرض، فإذا أثبت الفراغ له على هذا الوجه، فيمنع المدعي من معارضته، ولا يقال بأنه حيث لم يثبت التفرغ بإذن صاحب الأرض منذ سنوات أنه وقع مرور زمن؛ لأنه لم يكن يوجد معارض له أثناء تصرفه بلا نزاع، فهو غير مطالب بإثبات الحق فلا يكون قد ترك الدعوى.
المادة (1668) : (لا يعتبر مرور الزمن في دعوى الطلب من المفلس إلا من تاريخ زوال الإفلاس، مثلا لو ادعى أحد على من تمادى إفلاسه خمس عشرة سنة، وتحقق يساره بعد ذلك بقوله بأنه قبل خمس عشرة سنة كان لي في ذمتك كذا دراهم من الجهة الفلانية، ولم أستطع الادعاء عليك؛ لكونك كنت مفلسا مع ذلك التاريخ؛ ولاقتدارك الآن على أداء الدين أدعي عليك به تسمع دعواه) .(29/55)
لا يعتبر مرور الزمن في دعوى الطلب من المفلس إلا من تاريخ زوال الإفلاس؛ لأنه لا يمكن استحصال المطلوب من الشخص المفلس كما أنه لا يحبس المدين الثابت إفلاسه.
مثلا لو ادعى أحد على من تمادى إفلاسه خمس عشرة سنة، وتحقق يساره بعد ذلك بقوله: إنه قبل خمس عشرة سنة كان لي عليك من الجهة الفلانية كذا دراهم طلبي منك، ولم أستطع الادعاء عليك حيث كنت مفلسا من ذلك التاريخ، وحيث أصبحت الآن قادرا على أداء الدين فأدعي عليك به، تسمع دعواه.
أما إذا ثبت في ذمة أحد دين في حال يساره، ثم أفلس بعد ثماني سنوات، ودام إفلاسه ست سنوات، وبعدها أصبح في حالة يسار، وبعد مرور سنة ادعى الدائن عليه فهل تسمع الدعوى بتنزيل مدة الإفلاس، كالمدة التي تمر أثناء الصغر؟
المادة (1669) : (إذا ترك أحد الدعوى بلا عذر على الوجه الآنف، ووجد مرور الزمن، فكما لا تسمع الدعوى في حياته، لا تسمع من ورثته بعد مماته أيضا) .
أي إذا ادعى الورثة أن المال المدعى به هو موروث عن المورث؛ لأن الوارث يقوم مقام المورث بماله أو عليه، وحيث إنه ليس للمورث حق الدعوى، فليس للوارث أيضا حق فيها.
مثلا لو ادعى أحد على آخر قائلا: إن لمورثي الذي توفي في هذه المدة كذا دراهم قد أقرضها لك قبل خمس عشرة سنة فأطلبها منك، فلا تسمع دعواه.
والحكم في المسقفات الموقوفة والأراضي الأميرية على هذا الوجه، مثلا لو ترك أحد دعواه المتعلقة بالأراضي الأميرية أو بالمسقفات الموقوفة بلا عذر على الوجه السالف الذكر، ووجد مرور زمن فلا تسمع تلك الدعوى منه في(29/56)
حياته، وكذلك لا تسمع من أصحاب حق الانتقال بعد وفاته.
مثلا لو ادعى أحد قائلا: إنك قد تصرفت بالأراضي الأميرية عشر سنوات بلا نزاع، التي هي في تصرف مورثي بموجب طابو قبل تلك المدة، وبوفاة والدي قد انتقلت تلك الأراضي لي، فلا تسمع دعواه.
المادة (1670) : (إذا ترك المورث الدعوى مدة، وتركها الوارث أيضا مدة، وبلغ مجموع المدتين حد مرور الزمن فلا تسمع) .
تضم مدة ترك المورث والوارث والمنتقل منه والمنتقل إليه إلى بعضها؛ فلذلك إذا ترك المورث الدعوى مدة وتركها الوارث أيضا مدة، وبلغ مجموع المدتين حد مرور الزمن، فلا تسمع دعوى الوارث. مثلا لو ترك أحد الدعوى بمطلوبه الذي في ذمة آخر مدة ثماني سنوات، وترك بعد وفاته وارثه الدعوى سبع سنوات فلا تسمع الدعوى بعد ذلك.
كذلك لو ترك أحد مطلوبه الذي في ذمة آخر خمس سنوات، ثم توفي وترك وارثه بالحصر ابنه الدعوى خمس سنوات أخرى، ثم توفي وترك وارثه بالحصر بنته الدعوى خمس سنوات أيضا، ثم ادعت بعد ذلك، فلا تسمع دعواها، كذلك لو ضبط أحد روضة مدة عشر سنوات على وجه الملكية في مواجهة زيد، وسكت زيد هذه المدة بلا عذر، ثم توفي زيد وترك بنتا، فتصرف المذكور أيضا في الروضة تسع سنوات في مواجهة البنت وسكتت تلك المدة بلا عذر، فادعت البنت بأن الروضة المذكورة هي ملك لوالدها زيد، وقد باعها لك وفاء، فلا تسمع دعواها (علي أفندي) .
كذلك إذا تصرف أحد مدة في عقار وقف بالإجارتين، ثم توفي وتصرف فيه ورثته الذين هم من أصحاب الانتقال بالإجارتين، وبلغ مجموع المدتين حد مرور الزمن، فلا تسمع دعوى المدعي الذي سكت في تلك المدة بلا عذر، والأراضي الأميرية تقاس عليها.
المادة (1671) : (البائع والمشتري والواهب والموهوب له كالمورث(29/57)
والوارث، مثلا إذا تصرف أحد في عرصة مدة خمس عشرة سنة، وسكت صاحب الدار المتصلة بتلك العرصة تلك المدة، ثم باع الدار لآخر، فإذا ادعى المشتري أن تلك العرصة هي طريق خاص للدار التي اشتراها، فلا تسمع دعواه. كذلك إذا سكت البائع مدة وسكت المشتري مدة، وبلغ مجموع المدتين حد مرور الزمن، فلا تسمع دعوى المشتري) .
البائع والمشتري والواهب والموهوب له كالمورث وبتعبير آخر تجري في حقهم أحكام مادتي (1669، 1670) السالفتي الذكر.
كذلك الفارغ والمفروغ له، كالمنتقل منه والمنتقل إليه.
مثال للبائع والمشتري: مثلا إذا تصرف أحد في عرصة ملك خمس عشرة سنة، وسكت صاحب الدار المتصلة بتلك العرصة تلك المدة بلا عذر، ثم باعها من آخر، فإذا ادعى المشتري بأن تلك العرصة هي طريق خاص للدار التي اشتراها، فلا تسمع دعواه كما لا تسمع في المادة (الـ1669) .
كذلك إذا سكت البائع مدة وسكت المشتري مدة، وبلغ مجموع المدتين حد مرور الزمن، فلا تسمع دعوى المشتري، كما لا تسمع في المادة (الـ1670) .
مثال للفارغ والمفروغ له في الأراضي الأميرية:
مثلا: إذا تصرف أحد في مزرعة عشر سنوات، وسكت صاحب المزرعة المتصلة بالمزرعة المذكورة تلك المدة بلا عذر، ثم تفرغ بمزرعته لآخر، فإذا ادعى المتفرغ له أن تلك المزرعة هي طريق خاص للمزرعة التي تفرغت إليه، فلا تسمع دعواه.
مثال للفارغ والمفروغ له في المسقفات الموقوفة:
مثلا لو تصرف أحد بالإجارتين مستقلا في دار وقف في مواجهة بنته(29/58)
هند خمس عشرة سنة، وسكتت هذه المدة بلا عذر، ثم توفي ذلك الشخص وترك هندا المذكورة وبنته زينب من زوجة أخرى، وأرادت زينب أن تتصرف في تلك الدار بناء على الانتقال العادي مع هند بالسوية، فإذا ادعت هند بأن نصف الدار المذكورة قبل السنين المذكورة هي في تصرف والدتها خديجة بالإجارتين، فانتقل النصف لها، وإنه لذلك لها ثلاثة أرباع الدار، فلا تسمع دعواها (جامع الإجارتين) .
إذا ضم مدة تصرف الوارث والمورث والبائع والمشتري والواهب والموهوب له والفارغ والمفروغ له إلى بعضهما، وبلغ مجموع المدتين حد مرور الزمن، فلا يجوز إقامة الدعوى عليهم من آخر، مثلا إذا تصرف المورث في عقار ملك مدة ثماني سنوات، وتصرف الوارث مدة ثماني سنوات أخرى بلا نزاع، فإذا ادعى من سكت هذه المدة بلا عذر أن ذلك العقار هو ملكه، فلا تسمع دعواه.
كذلك إذا تصرف البائع في عقار مدة تسع سنوات بلا نزاع، ثم باعه لآخر وسلمه، وتصرف المشتري ست سنوات بلا نزاع، فإذا ظهر أحد وادعى على المشتري أن ذلك العقار ملكه فلا تسمع دعواه.
ويقاس الواهب والموهوب له على ذلك.
كذلك إذا تصرف أحد مدة ثماني سنوات بلا نزاع في عقار موقوف، ثم أفرغه لآخر وتصرف المتفرغ له في ذلك مدة ثماني سنوات بلا نزاع، فإذا ادعى من سكت بلا عذر في هاتين المدتين على المتفرغ له بأن ذلك العقار تحت تصرفه بالإجارتين، فلا تسمع دعواه.
كذلك إذا تصرف أحد في مزرعة من الأراضي الأميرية ثماني سنوات بلا نزاع، ثم توفي فتصرف من أصحاب الانتقال ولده في تلك المزرعة مدة سنتين بلا نزاع، ثم ظهر شخص سكت في تينك المدتين بلا عذر، وادعى على الولد قائلا: إن المزرعة في تصرفي فلا تسمع دعواه.(29/59)
كذلك إذا تصرف أحد بلا نزاع في أرض أميرية سبع سنين، ثم تفرغ بها لآخر بإذن صاحب الأرض، وتصرف المتفرغ له بها ثلاث سنوات، ثم ظهر شخص وادعى على المتفرغ له بأن تلك المزرعة هي في تصرفه قبل تلك السنين فلا تسمع دعواه.
المادة (1672) : (لو وجد مرور الزمن في حق بعض الورثة في دعوى مال الميت الذي هو عند آخر، ولم يوجد في حق بعض الورثة لعذر كالصغر، وادعى به وأثبته يحكم بحصته في المدعى به، ولا يسري هذا الحكم إلى سائر الورثة) .
يقبل مرور الزمن التجزئة؛ فلذلك لو وجد مرور الزمن في حق بعض الورثة في دعوى مال الميت الذي هو عند آخر، ولم يوجد في حق بعض الورثة لعذر كالصغر والجنون والعته والغيبة مدة السفر، وادعى به وأثبته يحكم بحصته في المدعى به، ولا يسري هذا الحكم إلى سائر الورثة.
مثلا لو كان لأحد في ذمة آخر عشرة دنانير، ثم توفي وترك ولدين، أحدهما بالغ، والآخر صغير في السنة الأولى من عمره، ولم يدع ولده البالغ مدة ست عشرة سنة، وعندما بلغ الولد الصغير أي بعد تاريخ وفاة والده بست عشرة سنة ادعى بحصته، فللولد المذكور أن يأخذ حصته الخمسة دنانير، وليس للولد الآخر أن يدعي بمشاركته فيما أخذه توفيقا للمادة (الـ110) .
إذا كان المدعى به دينا ولم يكن عينا، فالحكم على هذا المنوال أيضا؛ فلذلك لو كان لرجلين بالغين مائة دينار في ذمة آخر، ولم يمر الزمن في حق أحدهما بسبب وجوده في ديار بعيدة مدة السفر، فادعى بمطلوبه وأثبته يحكم له بحصته في المدعى به، ولا يسري هذا الحكم على حصة الشريك الآخر.
المادة (1673) : (وليس لمن كان مقرا بكونه مستأجرا في عقارات يملكه(29/60)
لمرور زمن أزيد من خمس عشرة سنة، وأما إذا كان منكرا وادعى المالك بأنه ملكي وكنت أجرتك إياه قبل سنين، وما زلت أقبض أجرته، فتسمع دعواه إن كان إيجاره معروفا بين الناس، وإلا فلا) .
ليس من كان مقرا بكونه مستأجرا أو مستعيرا أو مستودعا أو مرتهنا أو غاصبا أو مزارعا أو مساقيا في عقار أن يملكه لمرور زمن أزيد من خمس عشرة سنة؛ لأنه لا يسقط الحق بتقادم الزمان حسب المادة (الـ1674) ، كما أن مرور الزمن ووضع اليد على مال مدة طويلة ليست معدودة من أسباب الملك، كما أن الاستئجار هو مانع لدعوى التملك كما جاء في المادة (الـ1583) .
وأما إذا كان ذلك الشخص منكرا كونه مستأجرا ذلك العقار، وادعى المالك بأنه ملكي وكنت أجرتك إياه قبل سنين، وما زلت أقبض أجرته، ينظر فإذا كان إيجاره معروفا بين الناس فتسمع دعواه، وإذا كان غير معروف فلا تسمع، والمعروف بضم العين من العرف، والعرف هو ضد النكر.
ومعنى معروف حسب هذه الإيضاحات أي إذا كان معلوما، ولا يفيد هذا التعبير لزوم إثبات الإيجار بالتواتر والشهرة، وعدم جواز إثباته ودفع مرور الزمن بالبينة العادية، ومع ذلك لو اعتبر معنى معروف يعني مشهور هنا، فالمشهور على قسمين: أحدهما أن يكون مشهورا بالشهرة الحقيقية، ويدعى ذلك بالتواتر، والآخر أن يكون مشهورا شهرة حكمية، والشهرة الحكمية تحصل بإخبار شهود بنصاب الشهادة على طريق الشهادة، والاشتهار يطلق على العلم الذي يكون بالتواتر والشهرة، أو بإخبار مخبرين عدلين أو بمخبر عدل (التهتاني) .
وهل أن هذا الحكم الذي يجري في حال معروفية الإيجار بين الناس، يجري أيضا في الإعارة والإيداع أو الرهن المعروف بين الناس؟ فالظاهر أنه يجري انظر مادة (1583) .(29/61)
والحكم على هذا المنوال أيضا في المسقفات والمستغلات الموقوفة وفي الأراضي الأميرية؛ فلذلك إذا تصرف أحد في عقار أكثر من ست وثلاثين سنة، وادعى بعد ذلك متولي وقف قائلا: إن هذا العقار هو من مستغلات الوقف الذي هو تحت توليتي، وقد أجرتك إياه في المدة المذكورة، وأنكر ذلك الشخص دعوى المتولي مدعيا ملكية ذلك العقار، فينظر: فإذا كان معروفا بين الناس أن العقار المذكور كان يؤجر من طرف الوقف لذلك الشخص، فتسمع دعوى المتولي وإلا فلا.
كذلك إذا تصرف أحد في مزرعة من الأراضي الأميرية أكثر من عشر سنوات، ثم ادعى شخص آخر قائلا: إن تلك الأرض هي في تصرفي بموجب طابو، وقد أجرتها لك المدة المذكورة، وأنكر ذلك الشخص دعوى المدعي، ينظر فإذا كان معروفا بين الناس أن تلك الأرض قد أجرت لذلك الشخص فتسمع دعواه، وإلا فلا.
المادة (1674) : (لا يسقط حق بتقادم الزمن، بناء عليه إذا أقر واعترف المدعى عليه صراحة في حضور القاضي بأن للمدعي عنده حقا في الحال في دعوى وجد فيها مرور الزمن بالوجه الذي ادعاه المدعي، فلا يعتبر مرور الزمن ويحكم بموجب إقرار المدعى عليه، وأما إذا لم يقم المدعى عليه في حضور القاضي، وادعى المدعي بكونه أقر في محل آخر، فكما لا تسمع دعواه الأصلية، كذلك لا تسمع دعوى الإقرار، ولكن الإقرار الذي ادعى أنه كان قد ربط بسند حاو لخط المدعى عليه المعروف سابقا أو ختمه، ولم يوجد مرور الزمن من تاريخ السند إلى وقت الدعوى، تسمع دعوى الإقرار على هذه الصورة) .
لا يسقط الحق بتقادم الزمن، ولو تقادم الزمن أحقابا كثيرة، وإن عدم استماع الدعوى بمرور الزمن المبين آنفا مبني على الأمر السلطاني بسبب امتناع الحكم عن سماع الدعوى خوف وقوع التزوير، ولقطع الحيل والتزوير والأطماع الفاسدة الفاشية بين الناس. انظر شرح عنوان الباب الثاني.(29/62)
فلذلك لو أقام أحد الدعوى بمطلوبه الذي هو على آخر بعد مرور خمس عشرة سنة، ورد القاضي الدعوى بسبب مرور الزمن، فيبقى المدين مدينا ديانة، ولا يخلص من حق غرمائه، ما لم يؤد دينه أو يرض مدينه.
فلذلك إذا أقر واعترف المدعى عليه صراحة في حضور القاضي بأن للمدعي عنده حقا في الحال في دعوى وجد فيها مرور الزمن بالوجه الذي ادعاه المدعي، فلا يعتبر مرور الزمن ويحكم بموجب إقرار المدعى عليه.
والإقرار إما أن يكون شفاهيا وقد بين، وإما أن يكون بالإقرار بأن إمضاء أو ختم السند المبرز هو إمضاؤه وختمه، ويقال لهذا: الإقرار بالكتابة.
مثلا إذا ادعى أحد دينا من آخر مر عليه خمس عشرة سنة استنادا إلى سند معنون ومرسوم، فأقر المدعى عليه الإمضاء والختم الذي في السند، وادعى وجود مرور الزمن في الدعوى، فيلزمه كما بين في المادة (الـ1610) أن يؤدي المبلغ الذي يحتويه السند (الخالية في كتاب الدعوى) .
وبما أنه لا يسقط الحق بمرور الزمن، فلا يكفي أن يكون جواب المدعى عليه على دعوى المدعي بقوله: إن في الدعوى مرور زمن، أما لو أجاب المدعى عليه على دعوى الدين بأنني لست مدينا، وفي دعوى العين: إن هذه العين لي. وأضاف إلى ذلك الادعاء بمرور الزمن، فيصح دفعه.
إن ذكر عبارة في الحال الواردة في هذه الفقرة، هي لكونها وردت في فتاوى مشائخ الإسلام، ولا يقصد بها الاحتراز من الإقرار للمدعي حقا عنده في الماضي؛ فلذلك لو ادعى المدعى عليه بأن المال المدعى به كان قبل ثلاثين سنة للمدعي، ولمورثه وأنه اشتراه منه، فيكون قد أقر بحق المدعي، فلذلك إذا لم يثبت المدعى عليه الشراء، وحلف المدعي اليمين عند تكليفه للحلف، يسلم المدعى به للمدعي؛ لأن من أقر بشيء لغيره أخذ بإقراره، ولو كان في يده أحقابا كثيرة لا تعد، وهذا مما لا يتوقف فيه (الخيرية في الدعوى) ، والحكم في الدين وهو على هذا المنوال، فلو ادعى المدعي على المدعى عليه قائلا: إن لي(29/63)
العشرين دينارا التي أقرضتها لك قبل خمس عشرة سنة، فإذا ادعى المدعى عليه أنه اقترض منه هذا المبلغ قبل خمس عشرة سنة، إلا أنه قد أدى ذلك للمدعي، فعليه إثبات ذلك، فإذا عجز عن الإثبات وحلف المدعي على عدم استيفائه الدين، فله أخذ ذلك المبلغ من المدعى عليه.
والمسقفات الموقوفة والأراضي الأميرية والموقوفة هي كالأملاك؛ فلذلك لو ادعى أحد على عقار وقف بالإجارتين، أو أرض أميرية جارية في تصرف آخر بلا نزاع مدة خمس عشرة سنة - بأن العقار المذكور هو تحت تصرفه من الوقف المذكور، أو أن الأرض تحت تصرفه، وأجاب المدعى عليه بأن العقار المذكور أو الأرض المذكورة كانت تحت تصرفك إلا أنك قد تفرغت بها لي قبل خمس عشرة سنة بإذن المتولي أو بإذن صاحب الأرض، وأنني متصرف بذلك العقار أو تلك الأرض من ذلك الوقت، فإذا أثبت المدعى عليه حصول الفراغ له أو نكل المدعي عن حلف اليمين، تندفع دعوى المدعي، أما إذا لم يثبت المدعى عليه الفراغ وحلف المدعي اليمين، فيحكم على المدعى عليه بالرد.
إن هذه المسألة قد كتبها أمين الفتوى الأسبق (عمر حلمي أفندي) في كتاب الأوقاف بغير هذا الوجه، إلا أنه لما كان ما كتبه بهذه المسألة مخالفا للشرع فهو غير معتبر.
وأما إذا لم يقر المدعى عليه في حضور القاضي وادعى بكونه أقر في محل آخر، وأنه لا يوجد مرور زمن اعتبارا من تاريخ الإقرار، فكما لا تسمع دعواه الأصلية، كذلك لا تسمع دعوى الإقرار؛ حيث إنه يوجد في هذه الصورة شبهة تزوير وتصنيع.
ولكن الإقرار الذي ادعى به كان قد ربط بسند حاو لخط وختم المدعى عليه المعروف سابقا بين التجار وأهل البلدة، ولم يوجد مرور الزمن من تاريخ السند إلى وقت الدعوى، ففي تلك الصورة تسمع دعوى الإقرار؛ لأنه يثبت الإقرار في هذا الحال بريئا من شبهة التزوير والتصنيع.(29/64)
والإيضاحات عن كلمة وختمه قد مر ذكرها في المادة (الـ1609) .
المادة (1675) : (لا اعتبار لمرور الزمن في دعاوى المحال التي يعود نفعها للعموم، كالطريق العام والنهر والمرعى، مثلا لو ضبط أحد المرعى المخصوص بقرية وتصرف فيه خمسين سنة بلا نزاع، ثم ادعاه أهل القرية تسمع دعواهم) .
لأنه يوجد بين العامة قاصرون كالصغار والمجانين والمعتوهين، ويوجد غائبون، وحيث لا يمكن إفراز حق هؤلاء من غيرهم؛ فلذلك لا يجري في المحال التي يعود نفعها للعموم مرور الزمن، مثلا إن لأهالي بغداد حقا في الطريق العام الكائنة في دمشق.
فلذلك لو ضبط أحد المرعى المخصوص بقرية وتصرف فيه خمسين سنة بلا نزاع، ثم ادعاه أهل القرية تسمع دعواهم.
أما إذا لم يكن المرعى عائدا للعموم أي عائدا لأهالي قرية أو قصبة أو عائدا لأهالي قرى أو قصبات متعددة بل كان عائدا لشخص مخصوص، فإذا كان ملكا فلا تسمع الدعوى فيه بعد خمس عشرة سنة، وإذا كان من الأراضي الأميرية فلا تسمع الدعوى فيه بعد مرور عشر سنوات.
كذلك لو أخذ أحد مقدارا من الطريق العام وألحقه بداره، فإذا ادعى أحد العامة بعد مرور خمسين سنة وأثبت دعواه، فله تفريغ الطريق.
والمقصود من النهر في المجلة هو النهر العائد لأهالي قرية أو قرى متعددة، أما النهر المملوك لشخص، فمرور الزمن فيه قد مر ذكره في المادة (الـ1661) .
تاريخ الإرادة السنية 9 جمادى الآخرة سنة 1293هـ.
(تم بألطافه تعالى كتاب الدعوى ويليه كتاب البينات والتحليف) .
ويرجع إلى كتاب قانون العدل والإنصاف للقضاء على مشكلات الأوقاف \ 224 وما بعدها، وكتاب إتحاف الأخلاف في أحكام الأوقاف \ 333 وما بعدها. وكتاب المعاملات في الشريعة الإسلامية 1 \ 107، وما بعدها.
(يتبع)(29/65)
صفحة فارغة(29/66)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شئونهم الدينية والاجتماعية.(29/67)
الفتوى رقم 2871
السؤال: ما حكم الصلاة خلف من يعتقد أن دعاء الرسول أو الأولياء أو علي بن أبي طالب رضي الله عنه مسموع مستجاب؛ حيث إن غالب الناس في باكستان يدعون الرسول أو عليا أو عبد القادر الجيلاني لجلب النفع ودفع الضرر؟
2 - ما حكم من يعتقد حياة الرسول والأولياء والمشايخ أو يعتقد أن أرواح المشايخ حاضرة تعلم، وكذلك ما حكم من يعتقد أن الرسول نور وينفي عنه البشرية؟
الجواب: أولا: الدعاء عبادة من العبادات، والعبادات من حقوق الله جل وعلا المختصة به، وصرفها إلى غيره شرك به، وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على تحريم دعاء غير الله؛ فأما الأدلة من القرآن فمنها قوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (1) ففي هذه الآية وأمثالها بيان أن دعوة غير الله كفر وشرك وضلال.
وأما الأدلة من السنة: فمنها ما ثبت في السنن عن النعمان بن بشير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدعاء هو العبادة وقرأ قوله سبحانه: (3) » وما رواه الطبراني بإسناده «أنه كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله
__________
(1) سورة يونس الآية 106
(2) الإمام أحمد جـ4 ص267، 271، 279، أبو داود ج2 ص161، الترمذي ج5 ص374، ابن ماجه ج2 ص1258.
(3) سورة غافر الآية 60 (2) {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(29/68)
عليه وسلم: إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله (1) » ففي هذا الحديث النص على أنه لا يستغاث بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا بمن دونه. كره - صلى الله عليه وسلم - أن يستعمل هذا اللفظ في حقه، وإن كان مما يقدر عليه في حياته؛ حماية لجناب التوحيد، وسدا لذرائع الشرك وأدبا وتواضعا لربه، وتحذيرا للأمة من وسائل الشرك في الأقوال والأفعال، فإذا كان هذا فيما يقدر عليه - صلى الله عليه وسلم - في حياته، فكيف يجوز أن يستغاث به بعد وفاته؟! ويطلب منه أمور لا يقدر عليها إلا الله عز وجل، وإذا كان هذا في الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكيف بمن دونه؟ ! وأما الإجماع فالأمة مجمعة على أن الدعاء من خصائص الله جل وعلا وصرفه لغيره شرك.
ثانيا: سماع الأصوات من خواص الأحياء، فإذا مات الإنسان ذهب سمعه، فلا يدرك أصوات أهل الدنيا ولا يسمع حديثهم، قال الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (2) فأكد تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - عدم سماع من يدعوهم إلى الإسلام بتشبيههم بالموتى، والأصل في المشبه به أنه أقوى من المشبه في الاتصاف بوجه الشبه وإذا فالموتى أدخل في عدم السماع، وأولى بعدم الاستجابة من المعاندين الذين صموا آذانهم عن دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، وعموا عنها وقالوا: قلوبنا غلف، وفي هذا يقول تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (3) وأما سماع قتلى الكفار الذين ألقوا في قليب يوم بدر نداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياهم، وقوله لهم: «هل وجدتم ما وعد ربكم حقا، فإنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا (4) » وقوله لأصحابه: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم (5) » حينما استنكروا نداءه أهل
__________
(1) ورواه الإمام أحمد ج5 ص317 وانظر فتح المجيد ص138.
(2) سورة فاطر الآية 22
(3) سورة فاطر الآية 14
(4) صحيح البخاري المغازي (3976) ، صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2875) ، سنن النسائي الجنائز (2074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/145) .
(5) صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2875) ، سنن النسائي الجنائز (2075) ، سنن أبو داود الجهاد (2681) ، مسند أحمد بن حنبل (3/104) .(29/69)
القليب (1) فذلك من خصوصياته التي خصه الله بها فاستثنيت من الأصل العام بالدليل.
ثالثا: دل القرآن على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ميت ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (2) وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (3) وهو - صلى الله عليه وسلم - داخل في هذا العموم، وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم وأهل العلم بعدهم على موته، وأجمعت عليه الأمة، وإذا انتفى ذلك عنه - صلى الله عليه وسلم - فانتفاؤه عن غيره من الأولياء والمشايخ أولى، والأصل في الأمور الغيبية اختصاص الله بعلمها، قال الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (4) آية 59 من سورة الأنعام وقال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (5) آية 65 من سورة النمل، لكن الله تعالى يطلع من ارتضى من رسله على شيء من الغيب، قال الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} (6) {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} (7) وقال تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} (8) آية 9 من سورة الأحقاف.
وثبت في حديث طويل من طريق أم العلاء أنها قالت: «لما توفي عثمان بن مظعون أدرجناه في أثوابه، فدخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب شهادتي عليك فقد أكرمك الله عز وجل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وما يدريك أن الله أكرمه؟ فقلت: لا أدري بأبي أنت وأمي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) البخاري ج2 ص101.
(2) سورة الزمر الآية 30
(3) سورة آل عمران الآية 185
(4) سورة الأنعام الآية 59
(5) سورة النمل الآية 65
(6) سورة الجن الآية 26
(7) سورة الجن الآية 27
(8) سورة الأحقاف الآية 9(29/70)
أما هو فقد جاءه اليقين من ربه، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي. فقلت: والله لا أزكي بعده أحدا أبدا (1) » رواه أحمد وأورده البخاري في كتاب الجنائز من صحيحه، وفي رواية له: «ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به (2) » .
وقد ثبت في أحاديث كثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعلمه الله بعواقب بعض أصحابه، فبشرهم بالجنة. وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه المخرج في صحيح مسلم «بأن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة؟ فقال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل (3) » ثم لم يزد على أن أخبره بأماراتها، فدل على أنه علم من الغيب ما أعلمه الله به دونما سواه من المغيبات، وأخبره به عند الحاجة. كما أن الله سبحانه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه مغفور له في سورة الفتح، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «النبي في الجنة وأبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعد بن مالك في الجنة (وهو ابن أبي وقاص) وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة (4) » رضي الله عنهم جميعا وهذا كله من علم الغيب الذي أطلع الله نبيه عليه.
رابعا: وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه نور من نور الله، إن أريد به أنه نور أتى من نور الله، فهو مخالف للقرآن الدال على بشريته، وإن أريد بأنه نور باعتبار ما جاء به من الوحي الذي صار سببا لهداية من شاء من الخلق، فهذا صحيح وقد صدر منا فتوى في ذلك هذا نصها: للنبي صلى الله عليه وسلم نور هو نور الرسالة والهداية التي هدى الله بها بصائر من شاء من
__________
(1) رواه الإمام أحمد ج6 ص436 والبخاري ج2 ص71، وج3 ص114، وج8 ص73.
(2) صحيح البخاري الجنائز (1243) ، مسند أحمد بن حنبل (6/436) .
(3) البخاري ج1 ص18.
(4) رواه الإمام أحمد من حديث سعيد بن زيد ج1، ص187، 188، وأبو داود ج5، ص37، 38، 39. والترمذي ج5 ص651. وابن ماجه ج1 ص49. ولم يذكر أبا عبيدة. كما رواه الإمام أحمد من حديث عبد الرحمن بن عوف ج1 ص193. وذكر أبا عبيدة ولم يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم.(29/71)
عباده ولا شك أن نور الرسالة والهداية من الله، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (1) {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2) {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (3) آخر سورة الشورى.
وليس هذا النور مكتسبا من خاتم الأولياء كما يزعمه بعض الملاحدة، أما جسمه صلى الله عليه وسلم فهو دم ولحم وعظم. . . . . إلخ خلق من أب وأم ولم يسبق له خلق قبل ولادته، وما يروى أن أول ما خلق الله نور وجهه، وأن هذه القبضة هي محمد صلى الله عليه وسلم ونظر إليها فتقاطرت فيها قطرات فخلق من كل قطرة نبيا، أو خلق الخلق كلهم من نوره صلى الله عليه وسلم، فهذا وأمثاله لم يصح منه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم. ص366 وما بعدها من مجموع الفتاوى لابن تيمية الجزء الثامن عشر.
خامسا: القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بشرا مثلنا يحتمل حقا وباطلا، وقد صدر منا فتوى في ذلك هذا نصها: هذه الكلمة مجملة تحتمل حقا وباطلا، فإن أريد بها إثبات البشرية للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس مماثلا للبشر من كل وجه، بل يشاركهم في جنس صفاتهم فيأكل ويشرب، ويصح ويمرض ويذكر وينسى ويحيا ويموت ويتزوج النساء ونحو ذلك، ويختص بما حباه الله به من الإيحاء إليه وإرساله إلى الناس بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فهذا حق وهو الذي شهد به الواقع وأخبر به القرآن، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (4)
__________
(1) سورة الشورى الآية 51
(2) سورة الشورى الآية 52
(3) سورة الشورى الآية 53
(4) سورة الكهف الآية 110(29/72)
فأمره أن يخبر أمته بأنه بشر مثلهم، إلا أن الله اصطفاه لتحمل أعباء الرسالة، وأوحى إليه بشريعة التوحيد والهداية. . . إلخ، وقال تعالى في بيان ما جرى من تحاور بين الرسل وأممهم {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} (1) {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (2) فأقر الرسل بأنهم بشر مثلنا، ولكن الله من عليهم بالرسالة، فإن الله سبحانه يمن على من يشاء من عباده بما شاء ويصطفي منهم من أراد؛ ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور. ومثل هذا في القرآن كثير.
وإن أريد به أن الرسول ليس بشرا أصلا أو أنه بشر لكنه لا يماثل البشر في جنس صفاتهم، فهذا باطل يكذبه الواقع وكفر صريح؛ لمناقضته لما صرح به القرآن من إثبات بشريتهم ومماثلتهم للبشر فيما عدا ما اختصهم الله به من الوحي والنبوة والرسالة والمعجزات.
وعلى كل حال لا يصح إطلاق هذه الكلمة نفيا ولا إثباتا مع التفصيل والبيان؛ لما فيها من اللبس والإجمال ولذا لم يطلقها القرآن إثباتا إلا مع بيان ما خص به رسله، كما في الآيات المتقدمة كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} (3) {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} (4) .
وكما يخشى من التعبير بمماثلتهم للبشر بإطلاق انتقاص الرسل والتذرع إلى إنكار رسالتهم يخشى من النفي للمماثلة بإطلاق الغلو في الرسل وتجاوز الحد بهم إلى ما ليس من شأنهم بل من شئون الله سبحانه، فالذي ينبغي للمسلم
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 10
(2) سورة إبراهيم الآية 11
(3) سورة فصلت الآية 6
(4) سورة فصلت الآية 7(29/73)
التفصيل والبيان ليتميز الحق من الباطل والهدى من الضلال.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس ... نائب رئيس اللجنة ... عضو ... عضو
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله بن غديان ... عبد الله بن قعود(29/74)
من الفتوى رقم 4162
السؤال: جاءنا عالم من العلماء الأبرار فقال إن أولياء الله يقضون للناس حوائجهم عندما يسألونهم من دون الله، واستدل بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن لله عبادا يفزع الناس إليهم في حوائجهم هم الآمنون يوم القيامة (1) » .
الجواب: الاستعانة بالحي الحاضر القادر فيما يقدر عليه جائز، كمن استعان بشخص فطلب منه أن يقرضه نقودا، أو استعان به في يده أو جاهه عند سلطان لجلب حق أو دفع ظلم.
والاستعانة بالميت شرك، وكذلك الاستعانة بالحي الغائب شرك؛ لأنهم لا يقدرون على تحقيق ما طلب منهم؛ لعموم قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (2) وقوله سبحانه: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (3) وقوله عز وجل: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (4) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (5)
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/343) .
(2) سورة الجن الآية 18
(3) سورة يونس الآية 106
(4) سورة فاطر الآية 13
(5) سورة فاطر الآية 14(29/74)
والآيات في هذا المعنى كثيرة والله المستعان.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس ... نائب رئيس اللجنة ... عضو ... عضو
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله بن غديان ... عبد الله بن قعود(29/75)
الفتوى رقم 8377
السؤال: أود أن أطرح عليكم سؤالا كان محض خلاف بين عدد من الناس، وهو أنه كانت مكتوبة كلمة الله وكلمة محمد بشكل متداخل فيما بينهما في أعلى باب أحد المساجد في محافظة أدلب، وهي كما يلي: فمنهم من قال بأنه لا يجوز كتابتها على هذا الشكل، وبرهنوا على قولهم بأن محمدا صلى الله عليه وسلم أصبح بذلك في مرتبة الله، وهذا غير معقول. ومنهم من قال بأن كتابتها ليس فيها أية حرمانية؛ لأن الله عز وجل جعل اسمه بجانب اسم رسوله صلى الله عليه وسلم، فأرجو منكم الإرشاد الصحيح ولكم مني جزيل الشكر.
الجواب: ومما جاء في نصوص الشريعة القرن بين الشهادة لله بالتوحيد والشهادة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة في مواضع، من ذلك القرن بينهما في الأذان للصلاة وفي الإقامة لها وفي حديث: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (1) » وغير ذلك مع بيان
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (8) ، صحيح مسلم الإيمان (16) ، سنن الترمذي الإيمان (2609) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5001) ، مسند أحمد بن حنبل (2/93) .(29/75)
ما يجب الإيمان به على المكلفين بالنسبة لكل منهما مما هو أهله، كقول المكلف لا إله إلا الله محمد رسول الله.
أما مزجها كتابة فلم يأت في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك ففيه خطر عظيم؛ إذ فيه مشابهة لعقيدة النصارى الباطلة في التثليث، وأن الأب والابن وروح القدس إله واحد، وفيه أيضا رمز للعقيدة الباطلة، عقيدة وحدة الوجود، وفيه أيضا ذريعة إلى الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم وعبادته مع الله سبحانه، وعليه يجب أن يمنع كتابة اسم الله تعالى واسم رسوله محمد صلى الله عليه وسلم على هذا الشكل، شكل تداخل حروف اسميهما كتابة، وتقاطع حروف اسم كل منهما بحروف اسم الآخر، بل لا يجوز كتابة (الله محمد) على باب المسجد ولا على غيره؛ لما في ذلك من الإيهام والتلبيس لما ذكر من المحاذير وغيرها.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس ... نائب رئيس اللجنة ... عضو ... عضو
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله بن غديان ... عبد الله بن قعود(29/76)