بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ} (1)
(سورة إبراهيم، الآية 31)
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 31(25/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(25/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ـ الرياض
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(25/3)
المحتويات
الافتتاحية:
نصيحة عامةلأئمة المسلمين وعامتهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
موضوع العدد:
كيفية الإمساك والإفطار في رمضان وضبط أوقات الصلاة في بعض البلدان اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 11
الفتاوى:
فتاوى اللجنة الدائمة 35
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 79(25/4)
البحوث:
بيان معنى لا إله إلا الله سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 91
الولاء والبراء في الإسلام الدكتور / صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان 115
حكم الشهادة والحكمة من مشروعيتها وأركانها الدكتور / عبد الله بن محمد الزين 129
حكم العمل بالعام قبل البحث عن المخصص الدكتور / عياضة بن نامي السلمي 151
تعدد الزوجات وأهميته للمجتمع المسلم الدكتور / ناصر بن عقيل الطريفي 177
تحقيق مخطوطة "فتيا في حكم السفر إلى بلاد الشرك" للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب تحقيق الشيخ الوليد بن عبد الرحمن الفريان 201
الإمام أحمد بن حنبل الشيباني ومسنده الشيخ /أحمد بن عبد الرحم بن سليمان الصويان 221
الحكمة من قطع يد السارق الشيخ / عبد الله بن حمد العبودي 303
كلمة حول عدم جواز وصف الميت بالمغفور له أو المرحوم لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 330
تعليق على كلمة محيي الدين الصافي سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 331
من قرارات المجمع الفقهي الإسلامي 337
نداء لجميع المسلمين وغيرهم للوقف في صف حكومة السودان وشعبها بسبب الكارثة التي نزلت بهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 346(25/5)
صفحة فارغة(25/6)
الافتتاحية
نصيحة عامة لأئمة المسلمين وعامتهم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يبتلي عباده بالخير والشر، والصحة والمرض، والفقر والغنى، والقوة والضعف؛ لينظر كيف يعملون، وهل يكونون مطيعين له في حال الرخاء والشدة، قائمين بحقوقه سبحانه في كل الأوقات والأحوال، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (1) . وقال سبحانه وتعالى: {المَ} (2) {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (3) {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (4) .
إذا علم هذا فإن الله سبحانه يختبر العباد ويمتحن شكرهم وصبرهم؛ لينالوا الجزاء منه كل حسب حاله وما صدر منه. فالواجب على المسلم إذا أنعم الله عليه بنعمة المال أن يتذكر أخاه الفقير فيواسيه من ماله، ويعينه على تحمل أعباء الحياة ويؤدي حق الله الواجب في المال، وأن يتذكر دائما قوله سبحانه وتعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (5) .
وإذا كان المسلم معافى في بدنه، قويا في جسمه، فينبغي له أن يتذكر إخوانه وجيرانه المرضى والضعفاء العاجزين، فيعينهم على قضاء حوائجهم، ويبذل ما يستطيع لتخفيف وطأة المرض عليهم. ومثل ذلك إذا كان قويا
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 35
(2) سورة العنكبوت الآية 1
(3) سورة العنكبوت الآية 2
(4) سورة العنكبوت الآية 3
(5) سورة القصص الآية 77(25/7)
في علمه، فعليه أن ينفع عباد الله المسلمين الذين حرموا نعمة العلم، فيرشدهم إلى ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم، ويعلمهم ما أوجب الله عليهم، كما أن على المسلم الفقير أو المريض العاجز أن يصبر على ما أصابه، ويرجو الفضل من عند الله سبحانه، ويجتهد في فعل الأسباب المباحة التي يكشف الله بها ما أصابه، وليتذكر الجميع قول الرب سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (1) .
وما يقال بالنسبة للأفراد يقال بالنسبة للأمم المسلمة؛ إذ يجب على الأمة القوية في مالها أو رجالها أو سلاحها أو علومها، أن تمد الأمة المستضعفة، وأن تعينها على الحفاظ على نفسها ودينها، وتمنع عنها الذئاب من حولها المتسلطة عليها، وأن تؤتيها من مال الله الذي آتاها، فهذا هو مقتضى الأخوة الإسلامية التي عقدها الرب سبحانه بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ إذ يقول جل شأنه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (2) .
فيا أيها الزعماء والقادة، ويا أيها المسلمون في كل مكان، أدعوكم إلى تطبيق مقتضى الآية الكريمة، والعمل على إقامة الأخوة الحقيقية بين كل المسلمين على اختلاف أجناسهم وألوانهم وألسنتهم، وأن يكون المسلمون يدا على من سواهم، واعلموا وفقكم الله أن وسائل الابتلاء في هذا العصر أكثر منها في العصور الخالية؛ ذلك أن الله سبحانه أفاض أنواعا من النعم على طوائف من المسلمين، وابتلى طوائف أخرى بالفقر والجهل وتسلط الأعداء من اليهود والنصارى والشيوعيين وغيرهم، وابتلى الناس بمخترعات جديدة وآلات حديثة يسرت اطلاع بعضهم على أحوال بعض واتصالهم فيما بينهم، وجعلتهم أعظم مسؤولية وأكثر قدرة على النصر ومد يد العون إذا هم أرادوا ذلك. فالمسلمون اليوم يسمعون ويرون ما يحل بإخوانهم في
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 7
(2) سورة الحجرات الآية 10(25/8)
الفلبين وأفغانستان وأريتيريا والحبشة وفلسطين وبلدان أخرى كثيرة، بل إن هناك أقليات مسلمة في دول شيوعية كافرة والمسلمون قد فرطوا في حقها، ولم يقوموا بما يجب من نصرتها وتأييدها وإعانتها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر (1) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا. وشبك بين أصابعه (2) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة (3) » ، وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (4) » .
وهذه الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضح ما يجب أن يكون عليه المسلمون من التعاون والشعور بحاجة بعضهم إلى بعض.
ولقد قرر العلماء رحمهم الله أنه لو أصيبت امرأة مسلمة في المغرب بضيم لوجب على أهل المشرق من المسلمين نصرتها، فكيف والقتل والتشريد والظلم والعدوان والاعتقالات بغير حق كل ذلك يقع بالفئات الكثيرة من المسلمين، فلا يتحرك لهم إخوانهم ولا ينصرونهم إلا ما شاء الله من ذلك.
فالواجب على الدول الإسلامية والأفراد من ذوي الغنى والثروة أن ينظروا نظرة عطف ورحمة إلى إخوانهم المستضعفين، ويعينوهم بواسطة سفراء الدول الإسلامية الموثوق بهم أو بواسطة الوفود التي يجب أن ترسل بين حين وآخر باسم الدول الإسلامية؛ لتفقد أحوال المسلمين في تلك الدول الإسلامية أو الأقليات المسلمة في الدول الأخرى، وإذا كانت الأمم النصرانية واليهودية والشيوعية من الأمم
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .
(2) صحيح البخاري الصلاة (481) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) .
(3) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) ، مسند أحمد بن حنبل (2/68) .
(4) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن أبو داود الأدب (4946) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) .(25/9)
الكافرة قد تحفظ حقوق أي فرد ينتسب إليها ولو كان يقيم في دولة أخرى بعيدة عنها، وتصدر الاحتجاجات وترسل الوعيد والتهديد أحيانا إذا لحق بواحد منهم ضرر، ولو كان مفسدا في الدولة التي يقيم في أراضيها، فكيف يسكت المسلمون اليوم على ما يحل بإخوانهم في حروب الإبادة وضروب العذاب والنكال في أماكن كثيرة من هذا العالم، ولتعلم كل طائفة أو أمة لا تتحرك لنصرة أختها بأنه يوشك أن تصاب هي بمثل ذلك البلاء الذي تسمع به أو تراه يقطع أوصال أولئك المسلمين، فلا تجد من ينصرهم أو يعمل على رفع الظلم والعذاب عنهم، فالله سبحانه المستعان، وهو المسئول بأن يوقظ قلوب العباد لطاعته، وأن يهدي ولاة أمور المسلمين وعامتهم إلى أن يكونوا يدا واحدة وصرحا متراصا للقيام بأوامر الله، والعمل بكتابه وسنة رسوله ونصرة المسلمين ومحاربة الظالمين المعتدين؛ عملا بقول الله سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (2) .
وقوله سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (3) .
وقوله عز وجل: {وَالْعَصْرِ} (4) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (5) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (6) .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الحج الآية 40
(2) سورة الحج الآية 41
(3) سورة المائدة الآية 2
(4) سورة العصر الآية 1
(5) سورة العصر الآية 2
(6) سورة العصر الآية 3(25/10)
كيفية الإمساك والإفطار في رمضان
وضبط أوقات الصلاة في بعض البلدان
إعداد: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الرسالة الواردة من معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بالمملكة بتاريخ 16 \ 1 \ 1398 هـ إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، والتي يذكر فيها أنه تلقى كتابا من رئيس رابطة الجمعيات الإسلامية في مدينة (مالو) بالسويد يفيد بأن الدول الإسكندنافية يطول نهارها صيفا ويقصر شتاء؛ نظرا لوضعها الجغرافي، كما أن المناطق الشمالية منها لا تغيب عنها الشمس إطلاقا في الصيف، وعكسه في الشتاء، ويسأل المسلمون فيها عن كيفية الإمساك والإفطار في رمضان، وكذلك كيفية ضبط أوقات الصلاة في هذه البلدان، ويرجو إصدار فتوى في ذلك.
وبناء على ما اقترحه سماحة الرئيس العام من عرض هذا الموضوع على مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة الثانية عشرة؛ لما له من صفة العموم، وما رآه من إعداد اللجنة الدائمة بحثا في ذلك - ذكرت اللجنة نقولا عن الفقهاء تتضمن آراءهم في الموضوع، مع استدلال كل منهم لما ذهب إليه لينظره المجلس ويتخذ ما يراه حول هذا الموضوع، وفيما لي ذكر النقول مع الأدلة، والله الموفق.(25/11)
قال الكمال ابن الهمام في فتح القدير (1) : ومن لا يوجد عندهم وقت العشاء كما قيل يطلع الفجر قبل غيبوبة الشفق عندهم، أفتى البقالي بعدم الوجوب عليهم؛ لعدم السبب، وهو مختار صاحب الكنز، كما يسقط غسل اليدين من الوضوء عن مقطوعهما من المرفقين، وأنكره الحلواني ثم وافقه، وأفتى الإمام البرهاني الكبير بوجوبها. ولا يرتاب متأمل في ثبوت الفرق بين عدم محل الغرض وبين عدم سببه الجعلي الذي جعل علامة على الوجوب الخفي الثابت في نفس الأمر، وجواز تعدد المعرفات للشيء، فانتفاء الوقت انتفاء للمعرف، وانتفاء الدليل على الشيء لا يستلزم انتفاءه لجواز دليل آخر. وقد وجد وهو ما تواطأت عليه أخبار الإسراء من فرض الله الصلاة خمسا بعدما أمروا أولا بخمسين، ثم استقر الأمر على الخمس شرعا عاما لأهل الآفاق، لا تفصيل فيه بين أهل قطر وقطر - وما روي: «ذكر الدجال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قلنا: ما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم. فقيل: يا رسول الله: اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم. قال: لا: اقدروا له (2) » . رواه مسلم. فقد أوجب فيه ثلاثمائة عصر قبل صيرورة الظل مثلا، أو مثلين، وقس عليه، فاستفدنا أن الواجب في نفس الأمر خمس على العموم، غير أن توزيعها على تلك الأوقات عند وجودها فلا يسقط بعدمها الوجوب - وكذا قال صلى الله عليه وسلم: «خمس صلوات كتبهن الله على العباد (3) » . ومن أفتى بوجوب العشاء يجب على قوله الوتر. اهـ. كلام الكمال ابن الهمام.
وقال الزيلعي في شرحه على الكنز (4) :
من لم يجد وقت العشاء والوتر، بأن كان في بلد يطلع الفجر فيه كما تغرب الشمس، أو قبل أن يغيب الشفق، لم يجبا عليه؛ لعدم السبب، وهو الوقت، وذكر المرغيناني أن الشيخ برهان الدين الكبير أفتى بأن عليه صلاة
__________
(1) ص 156 جـ 1.
(2) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2937) ، سنن الترمذي الفتن (2240) ، سنن أبو داود الملاحم (4321) ، سنن ابن ماجه الفتن (4075) ، مسند أحمد بن حنبل (4/182) .
(3) سنن النسائي كتاب الصلاة (461) ، سنن أبو داود الصلاة (1420) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1401) ، مسند أحمد بن حنبل (5/322) ، موطأ مالك كتاب النداء للصلاة (270) ، سنن الدارمي الصلاة (1577) .
(4) ص 81 جـ 1.(25/12)
العشاء - ثم إنه لا ينوي القضاء في الصحيح؛ لفقد وقت الأداء، وفيه نظر؛ لأن الوجوب بدون السبب لا يعقل، وكذا إذا لم ينو القضاء يكون أداء ضرورة، وهو فرض الوقت، ولم يقل به أحد؛ إذ لا يبقى وقت العشاء بعد طلوع الفجر إجماعا. اهـ.
وكتب الشلبي في حواشيه على شرح الزيلعي: قوله (بأن كان في بلد يطلع الفجر فيه. . إلخ) قال العيني: (ويذكر أن بعض أهل بلغار لا يجدون في كل سنة وقت العشاء أربعين ليلة، فإن الشمس كما تغرب من ناحية المغرب يظهر الفجر من المشرق. اهـ.
قوله: أفتى بأن عليه صلاة العشاء. . إلخ. وردت هذه الفتوى من بلغار على شمس الأئمة الحلواني، فأفتى بقضاء العشاء، ثم وردت بخوارزم على الشيخ الكبير سيف السنة البقالي، فأفتى بعدم الوجوب، فبلغ جوابه الحلواني، فأرسل من يسأله في عامته بجامع خوارزم: ما تقول فيمن أسقط من الصلوات الخمس واحدة، هل يكفر؟ فأحس به الشيخ فقال: ما تقول فيمن قطع يداه من المرفقين أو رجلاه من الكعبين، كم فرائض وضوئه؟ قال: ثلاث لفوات محل الرابع. قال: وكذلك الصلاة الخامسة. فبلغ الحلواني جوابه فاستحسنه ووافقه فيه. اهـ. من المجتبى.
قال العلامة كمال الدين ابن الهمام رحمه الله تعالى: ولا يرتاب متأمل في ثبوت الفرق بين عدم محل الغرض، وبين عدم سببه الجعلي الذي جعل علامة الوجوب الخفي الثابت في نفس الأمر. . . إلخ.
وقال العلامة ابن عابدين في حواشيه على الدر المختار (1) : لم أر من تعرض عندنا لحكم صومهم فيما إذا كان يطلع الفجر عندهم كما تغيب الشمس أو بعده بزمان لا يقدر فيه الصائم على أكل ما يقيم بنيته، ولا يمكن أن يقال بوجوب موالاة الصوم عليهم؛ لأنه يؤدي إلى الهلاك، فإن قلنا
__________
(1) ص 339 جـ1.(25/13)
بوجوب الصوم يلزم القول بالتقدير، وهل يقدر ليلهم بأقرب البلاد إليهم كما قال الشافعية أم يقدر لهم بما يسع الأكل والشرب، أم يجب عليهم القضاء فقط دون الأداء، كل محتمل، فليتأمل. ولا يمكن القول هنا بعدم الوجوب أصلا كالعشاء عند القائل به فيها؛ لأن علة عدم الوجوب فيها عند القائل به عدم السبب، وفي الصوم قد وجد السبب وهو شهود جزء من الشهر، وطلوع فجر كل يوم. هذا ما ظهر لي، والله أعلم.
وقال في إمداد الفتاح: وكذلك يقدر لجميع الآجال كالصوم والزكاة والحج والعدة وآجال البيع والسلم والإجارة، وينظر ابتداء اليوم فيقدر كل فصل من الفصول الأربعة بحسب ما يكون كل يوم من الزيادة والنقص، كذا في كتب الشافعية، ونحن نقول بمثله؛ إذ أصل التقدير مقول به إجماعا في الصلوات اهـ. نقله عنه ابن عابدين في ص 338 جـ 1.
قال الشيخ محمد عرفة الدسوقي في أوقات الصلاة (1) : ما ذكره المصنف من أن مبدأ المختار للظهر من زوال الشمس إلى هنا كله بالنسبة لغير زمن الدجال، وأما في زمنه فيقدر للظهر وغيرها بالنسبة لغير زمانه، ثم إن بعض البلاد السنة فيها يوم وليلة، وحينئذ فيقدرون لكل صلاة كزمن الدجال، وفي بعض البلاد الليل من المغرب للعشاء، فيخرج الفجر وقت العشاء، فعند الحنفية تسقط عنهم العشاء، وعند الشافعية يقدرون بأقرب البلاد إليهم، ولا نص عندنا، ولكن استظهر بعضهم الرجوع في ذلك لمذهب الشافعي. كذا قرر شيخنا.
وقال الشيخ أحمد الدردير في شرحه الكبير على مختصر خليل: وإن التبست عليه الشهور فلم يعرف رمضان من غيره. عرف الأهلة أم لا (وظن شهرا) أنه رمضان (صامه وإلا) يظهر بل تساوت عنده الاحتمالات (تخير) شهرا وصامه، فإن فعل ما طلب منه فله أحوال أربعة، أشار لأولها
__________
(1) ص 156 جـ 1 من حاشية الدسوقي على الشرح الكبير.(25/14)
بقوله: (وأجزأ ما بعده) أي إن تبين أن ما صامه في صورتي الظن والتخيير هو ما بعد رمضان أجزأ، ويكون قضاء عنه وثابت نية الأداء عن القضاء، ويعتبر في الإجزاء مساواتهما (بالعدد) ، فإن تبين أن ما صامه شوال، وكان هو ورمضان كاملين أو ناقصين، قضى يوما عن يوم العيد، وإن كان الكامل رمضان فقط قضى يومين وبالعكس لا قضاء، وإن تبين أن ما صامه ذو الحجة فإنه لا يعتد بالعيد وأيام التشريق، ولثانيها وثالثها بقوله: (لا) إن تبين أن ما صامه (قبله) ، ولو تعددت السنون (أو بقي على شكه) في صومه لظن أو تخيير، فلا يجزئ فيهما. وقال ابن الماجشون وأشهب وسحنون: يجزئه في البقاء على الشك؛ لأن فرضه الاجتهاد، وقد فعل ما يجب عليه، فهو على الجواز حتى ينكشف خلافه، ورجحه ابن يونس، ولرابعها بقوله: (وفي) الإجزاء عند (مصادفته) في صومه تخييرا، وهو المعتمد وعدمه (تردد) ، فإن صادفه في صومه ظنا فجزم اللخمي بالإجزاء من غير تردد) (1) .
وقال الحطاب في مواهب الجليل على مختصر خليل (2) :
(الخامس) ورد في صحيح مسلم أن «مدة الدجال أربعون يوما، وإن فيها يوما كسنة ويوما كشهر ويوما كجمعة، وسائر أيامه كأيامنا، فقال الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له قدره (3) » . قال القاضي عياض: في هذا حكم مخصوص بذلك اليوم شرعه لنا صاحب الشرع. قال ولو وكلنا إلى اجتهادنا لاقتصرنا فيه على الصلوات عند الأوقات المعروفة في غيره من الأيام. ونقله عنه النووي وقبله، وقال بعده: ومعنى «اقدروا له قدره (4) » أنه إذا مضى بعد طلوع الفجر قدر ما يكون بينه وبين الظهر كل يوم فصلوا
__________
(1) ص 476 من جـ1.
(2) ص 388 جـ1.
(3) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2937) ، سنن الترمذي الفتن (2240) ، سنن أبو داود الملاحم (4321) ، سنن ابن ماجه الفتن (4075) ، مسند أحمد بن حنبل (4/182) .
(4) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2937) ، سنن الترمذي الفتن (2240) ، سنن أبو داود الملاحم (4321) ، مسند أحمد بن حنبل (4/182) .(25/15)
الظهر ثم إذا مضى بعده قدر ما يكون بينها وبين العصر، فصلوا العصر، فإذا مضى بعدها قدر ما يكون بينها وبين المغرب فصلوا المغرب، وكذا العشاء والصبح، وهكذا إلى أن ينقضي ذلك اليوم، وقد وقع فيه صلوات سنة كلها فرائض مؤداة في وقتها، وأما اليوم الثاني الذي كشهر والثالث الذي كجمعة فقياس اليوم الأول أن يقدر لهما كاليوم الأول على ما ذكرنا، والله تعالى أعلم. انتهى.
ومثل ذلك الأيام الذي تحجب الشمس فيها عن الطلوع عند إرادة الله سبحانه وتعالى طلوعها من مغربها، ذكره ابن فرحون في الألغاز، وقال: هذا الحكم نص عليه الشارع. (قلت) : ومثله ما ذكره القرافي في كتاب اليواقيت عن الشافعية في قطر يطلع فيه الفجر قبل غروب الشفق قال: فكيف يصنع بالعشاء، وهل تصلي الصبح قبل مغيب الشفق، وهل يحكم على العشاء بالقضاء، فذكر عن إمام الحرمين أنه قال: لا تصلي العشاء حتى يغيب الشفق، ولا تكون قضاء؛ لبقاء وقتها، ويتحرى بصلاة الصباح فجر من يليهم من البلاد، ولا يعتبر الفجر الذي لهم. انتهى باختصار، وكأنه ارتضاه.
(السادس) قال القرافي في كتاب اليواقيت: مسألة من نوادر أحكام الأوقات إذا زالت الشمس ببلد من بلاد المشرق وفيها ولي فطار إلى بلد من بلاد المغرب، فوجد الشمس كما طلعت، فقال بعض العلماء: إنه مخاطب بزوال البلد الذي يوقع فيها الصلاة؛ لأنه صار من أهلها. انتهى. (قلت) : وانظر على هذا لو صلى الظهر في البلد الذي زالت عليه فيه الشمس، ثم جاء إلى البلد الآخر، والظاهر أنه لا يطالب بإعادة الصلاة؛ لأنه كان مخاطبا بزوال البلد الذي أوقع فيها الصلاة، وسقط عنه الوجوب بإيقاعها فيه، ولم يكلف الله بصلاة في يوم واحد مرتين، فانظره.
وقال أيضا: (ومن لا تمكنه رؤية ولا غيرها كأسير كمل الشهور) ابن بشير.(25/16)
لا شك أن الأسير إذا كان مطلقا أنه يبني على الرؤية أو العدد، وإن كان في مهواة لا يمكنه التوصل إلى الرؤية بنى على العدد، فأكمل كل شهر ثلاثين يوما (وإن التبست وظن شهرا صامه) ابن بشير إن التبست عليه الشهور اجتهد وبنى على ظنه (وإلا تحرى) ابن عبدون وابن القاسم وعبد الملك وأشهب.
إن أشكل رمضان على أسير أو تاجر ببلد حرب تحراه، اللخمي صام أي شهر أحب (وأجزأ ما بعده) من المدونة إن التبست الشهور على أسير أو تاجر أو غيره في أرض العدو فصام شهرا ينوي به رمضان فإن كان قبله لم يجزه وإن كان بعده أجزأه، وإن لم يدر أصام قبله أو بعده، فكذلك يجزئه حتى ينكشف أنه صام قبله. قاله أشهب وعبد الملك وسحنون، وقال ابن القاسم: يعيد؛ إذ لا يزول فرض بغير يقين (ابن يونس، وقول أشهب أبين؛ لأنه صار فرضه إلى الاجتهاد، وهو قد اجتهد وصام فهو على الجواز حتى ينكشف خلافه أصله من اجتهد في يوم غيم وصلى فلم يدر أصلى قبل الوقت أو بعده (بالعدد) من النكت. من كتاب أحكام القرآن لابن عبد الحكم إذا صام شوالا فليقض يوم الفطر إن كان رمضان الذي أفطره مثل عدد شوال الذي صامه من الأيام، وإن كان شوال الذي صامه ثلاثين يوما ورمضان تسعة وعشرين يوما فلا شيء عليه، وليس عليه قضاء يوم الفطر لأنه قد صام تسعة وعشرين يوما، وليس عليه إلا عدة الأيام (التي أفطر) (لا قبله) تقدم نص المدونة إن كان قبله لم يجزئه (أو بقي على شكه) تقدم قول ابن القاسم قبل قوله بالعدد (وفي مصادفته تردد) ابن رشد إذا صام على التحري ثم خرج وعلم أنه أصابه بتحريه فلا يجزئه على مذهب ابن القاسم، ويجزئه على مذهب أشهب وسحنون "ابن عرفة " ولم أجد ما ذكره عن ابن القاسم وأخذه من سماع عيسى بعيد، وما ذكر اللخمي إلا الأجزاء خاصة، وساقه كأنه المذهب ولم يعزه.(25/17)
قال الشيرازي في المهذب (1) :
وإن اشتبهت الشهور على أسير لزمه أن يتحرى ويصوم، كما يلزمه أن يتحرى في وقت الصلاة وفي القبلة، فإن تحرى وصام فوافق الشهر أو ما بعده أجزأه، فإن وافق شهرا بالهلال ناقصا وشهر رمضان الذي صامه الناس تاما ففيه وجهان: أحدهما: يجزئه. وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني رحمه الله تعالى؛ لأن الشهر يقع على ما بين الهلالين، ولهذا لو نذر صوم شهر فصام شهرا ناقصا بالأهلة أجزأه.
والثاني: أنه يجب عليه صوم يوم، وهو اختيار شيخنا القاضي أبي الطيب، وهو الصحيح عندي؛ لأنه فاته صوم ثلاثين وقد صام تسعة وعشرين يوما فلزمه صوم يوم.
وإن وافق صومه شهرا قبل رمضان. قال الشافعي: لا يجزئه. ولو قال قائل: يجزئه كان مذهبنا. قال أبو إسحاق المروزي: لا يجزئه، قولا واحدا. وقال سائر أصحابنا: فيه قولان بالفعل قبل الوقت عند الخطأ كالوقوف بعرفة إذا أخطأ الناس ووقفوا قبل يوم عرفة. والثاني لا يجزئه، وهو الصحيح؛ لأنه تعين له يقين الخطأ فيما يأمن مثله في القضاء. فلم يعتد له بما فعله. كما لو تحرى في وقت الصلاة قبل الوقت.
قال النووي: قوله: (عبادة تفعل في السنة مرة) احتراز من الخطأ في الصلاة قبل الوقت، والاحتراز في قوله: تعين له يقين الخطأ فيما يأمن مثله في القضاء. سبق بيانه في استقبال القبلة. وهذا الذي قاسه على الوقوف بعرفة قبل يوم عرفة تفريع على الضعيف من الوجهين، وهو أنه يجزئهم، وبه قطع المصنف، والأصح أنه لا يجزئهم كما سنوضحه في بابه إن شاء الله تعالى.
أما أحكام هذا الفصل فقال الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى:
__________
(1) ص 315 إلى 319 جـ.(25/18)
إذا اشتبه رمضان على أسير أو محبوس في مطمورة أو غيرهما، وجب عليه الاجتهاد؛ لما ذكره المصنف، فإن صام بغير اجتهاد ووافق رمضان لم يجزئه بلا خلاف. كما قلنا فيمن اشتبهت عليه القبلة فصلى إلى جهة بغير اجتهاد ووافق أو اشتبه عليه وقت الصلاة، فصلى بلا اجتهاد ووافق، فإنه لا يجزئه بلا خلاف، ويلزمه الإعادة في الصوم وغيره بلا خلاف، وإن اجتهد وصام فله أربعة أحوال:
(أحدها) أن يستمر الإشكال ولا يعلم أنه صادف رمضان أو تقدم أو تأخر، فهذا يجزئه بلا خلاف، ولا إعادة عليه، وعلله الماوردي وغيره بأن الظاهر من الاجتهاد الإصابة.
(الحال الثاني) أن يوافق صومه رمضان، فيجزئه بلا خلاف عندنا. قال الماوردي: وبه قال العلماء كافة، إلا الحسن بن صالح فقال: عليه الإعادة؛ لأنه صام شاكا في الشهر. قال: ودليلنا إجماع السلف قبله، وقياسا على من اجتهد في القبلة ووافقها، وأما الشك فإنما يضر إذا لم يعتضد باجتهاد بدليل القبلة.
(الحال الثالث) أن يوافق صومه ما بعد رمضان، فيجزئه بلا خلاف، نص عليه الشافعي رضي الله عنه، واتفق عليه الأصحاب رحمهم الله تعالى؛ لأنه صام بنية رمضان بعد وجوبه، ولا يجيء فيه الخلاف في اشتراط نية القضاء المذكور في الصلاة، وفرق الأصحاب بأن هذا موضع ضرورة، ولكن هل يكون هذا الصوم قضاء أم أداء؟ فيه وجهان مشهوران عند الخراسانيين وغيرهم. وحكاهما جماعة منهم قولين (أصحهما) قضاء؛ لأنه خارج وقته، وهذا شأن القضاء. (والثاني) أداء للضرورة. قال أصحابنا: ويتفرع على الوجهين ما إذا كان ذلك الشهر ناقصا وكان رمضان تاما. وقد ذكر المصنف فيه الوجهين.
قال أصحابنا: إن قلنا قضاء لزمه صوم يوم آخر، وإن قلنا أداء فلا يلزمه كما لو كان رمضان ناقصا (والأصح) أنه يلزمه، وهذا هو مقتضى التفريع على القضاء والأداء. وصرح(25/19)
بتصحيحه القاضي أبو الطيب والمصنف والأكثرون، وقطع به الماوردي.
ولو كان بالعكس فصام شهرا تاما وكان رمضان ناقصا، فإن قلنا قضاء فله إفطار اليوم الأخير، وهو الأصح، وإلا فلا. ولو كان الشهر الذي صامه ورمضان تامين أو ناقصين أجزأه بلا خلاف. هذا كله إذا وافق غير شوال وذي الحجة. فإن وافق شوالا حصل منه تسعة وعشرون يوما إن كمل، وثمانية وعشرون يوما إن نقص؛ لأن صوم العيد لا يصح. فإن جعلناه قضاء وكان رمضان ناقصا فلا شيء عليه إن تم شوال. ويقضي يوما إن نقص بدل العيد. وإن كان رمضان تاما قضى يوما إن تم شوال وإلا فيومين، وإن جعلناه أداء لزمه قضاء يوم على كل تقدير بدل يوم العيد، وإن وافق ذا الحجة حصل منه ستة وعشرون يوما إن تم، وخمسة وعشرون يوما إن نقص؛ لأن فيه أربعة أيام لا يصح صومها العيد وأيام التشريق، فإن جعلناه قضاء وكان رمضان ناقصا قضى ثلاثة أيام إن تم ذو الحجة، وإلا فأربعة أيام، وإن كان رمضان ناقصا قضى ثلاثة أيام إن تم ذو الحجة وإلا فأربعة أيام، وإن كان رمضان تاما قضى أربعة إن تم ذو الحجة وإلا فخمسة، وإن جعلناه أداء قضى أربعة أيام بكل حال. هكذا ذكر الأصحاب، وهو تفريع على المذهب أن أيام التشريق لا يصح صومها. فإن صححناها لغير المتمتع فذو الحجة كشوال كما سبق.
(الحال الرابع) أن يصادف صومه ما قبل رمضان، فينظر إن أدرك رمضان بعد بيان الحال لزمه صومه بلا خلاف لتمكنه منه في وقته. وإن لم يبن الحال إلا بعد مضي رمضان فطريقان مشهوران، ذكرهما المصنف بدليلهما، (أحدهما) القطع بوجوب القضاء، وأصحهما وأشهرهما فيه قولان (أصحهما) وجوب القضاء (والثاني) لا قضاء. قال الخراسانيون: هذا الخلاف مبني على أنه إذا صادف ما بعد رمضان هل هو أداء أم قضاء؟ إن قلنا أداء للضرورة أجزأه هنا، ولا قضاء؛ لأنه كما جعل أداء بعد وقته للضرورة كذا قبله. وإن قلنا قضاء لم يجزئه؛ لأن القضاء لا يكون قبل(25/20)
دخول الوقت.
والصحيح أنه قضاء، فالصحيح وجوب القضاء هنا. وهذا البناء إنما يصح على طريقة من جعل الخلاف في القضاء والأداء قولين.
وأما من حكاه وجهين فلا يصح بناء قولين على وجهين، ولو صام شهرا ثم بان له الحال في بعض رمضان لزمه صيام ما أدركه من رمضان بلا خلاف. وفي قضاء الماضي منه طريقان: (أحدهما) القطع بوجوبه. وأصحهما وأشهرهما أنه على الطريقين فيما إذا بان له بعد مضي جميع رمضان، والله أعلم.
(فرع) إذا صام الأسير ونحوه بالاجتهاد، فصادف صومه الليل دون النهار، لزمه القضاء بلا خلاف؛ لأنه ليس وقتا للصوم فوجب القضاء، كيوم العيد، وممن نقل الاتفاق عليه البندنيجي.
(فرع) ذكر المصنف في قياسه أنه لو تحرى في وقت الصلاة فصلى قبل الوقت، أنه يلزمه الإعادة، يعني قولا واحدا - ولا يكون فيه الخلاف الذي في الصوم إذا صادف ما قبل رمضان. وهذا على طريقته وطريقة من وافقه من العراقيين. وإلا فالصحيح أن الخلاف جار في الصلاة أيضا، وقد سبق بيانه في باب مواقيت الصلاة، وفي باب الشك في نجاسة الماء. وذكرنا هناك أن منهم من طرد الخلاف في المجتهد في الأواني إذا تيقن أنه توضأ بالماء النجس وصلى، هل تلزمه إعادة الصلاة، ويقرب منه الخلاف في تيقن الخطأ في القبلة. وفي الصلاة بنجاسة جاهلا أو ناسيا. أو نسي الماء في رحله وتيمم، أو نسي ترتيب الوضوء أو نسي الفاتحة في الصلاة، أو صلوا صلاة شدة الخوف لسواد رأوه فبان أنه ليس عدوا، أو بان بينهم خندق، أو دفع الزكاة إلى من ظاهره الفقر من سهم الفقراء فبان غنيا، أو أحج عن نفسه لكونه معضوبا فبرأ، أو غلطوا ووقفوا بعرفات في اليوم الثامن. وفي كل هذه الصور خلاف بعضه كبعض، وبعضه مرتب على بعض أو أقوى من بعض. والصحيح في الجميع أنه(25/21)
لا يجزئه. وكل هذه المسائل مقررة في مواضعها مبسوطة، وقد سبقت مجموعة أيضا في باب طهارة البدن، والله أعلم.
(فرع) قد ذكرنا أن الأسير ونحوه إذا اشتبهت عليه الشهور يتحرى ويصوم بما يظهر بالعلامة أنه رمضان. فلو تحرى فلم يظهر له شيء قال ابن الصباغ: قال الشيخ أبو حامد: يلزمه أن يصوم على سبيل التخمين. ويلزمه القضاء كالمصلي إذا لم تظهر له القبلة بالاجتهاد فإنه يصلي ويقضي.
قال ابن الصباغ: هذا عندي غير صحيح؛ لأن من لم يعلم دخول رمضان بيقين ولا ظن لا يلزمه الصيام كمن شك في وقت الصلاة فإنه لا يلزمه أن يصلي، هذا كلام ابن الصباغ.
وذكر المتولي في المسألة وجهين (أحدهما) قول الشيخ أبي حامد (والثاني) قال: وهو الصحيح: لا يؤمر بالصوم؛ لأنه لم يعلم دخول الوقت ولا ظنه فلم يؤمر به. كمن شك في دخول وقت الصلاة بخلاف القبلة. فإنه تحقق دخول وقت الصلاة وإنما عجز عن شرطها، فأمر بالصلاة بحسب الإمكان لحرمة الوقت. وهذا الذي قاله ابن الصباغ والمتولي هو الصواب، وهو متعين، ولعل الشيخ أبا حامد أراد إذا علم أو ظن أن رمضان قد جاء أو مضى ولم يعلم ولا ظن عينه. لكنه لو كان هذا لكان يصوم ولا يقضي؛ لأنه يقع صومه في رمضان أو بعده. والله أعلم. اهـ.
وقال النووي في روضة الطالبين (1) : أما الساكنون بناحية تقصر لياليهم ولا يغيب عنهم الشفق فيصلون العشاء إذا مضى من الزمان قدر ما يغيب في أقرب البلاد إليهم. اهـ.
وفي المغني لابن قدامة (2) : (مسألة) قال: وإذا اشتبهت الأشهر على الأسير فإن صام شهرا يريد به شهر رمضان فوافقه أو ما بعده أجزأه
__________
(1) ص 182 جـ1.
(2) ص 96 جـ 3.(25/22)
وإن وافق ما قبله لم يجزئه.
وجملته أن من كان محبوسا أو مطمورا أو في بعض النواحي النائية عن الأمصار لا يمكنه تعرف شهر رمضان صامه، ولا يخلو من أربعة أحوال:
(أحدها) أن لا يتكشف له الحال فإن صومه صحيح ويجزئه؛ لأنه أدى فرضه باجتهاد، فأجزأه كما لو صلى في يوم الغيم بالاجتهاد.
(الثاني) أن يتكشف له أنه وافق الشهر أو ما بعده فإنه يجزئه في قول عامة الفقهاء، وحكي عن الحسن بن صالح أنه لا يجزئه في هاتين الحالتين؛ لأنه صامه على الشك فلم يجزئه، كما لو صام يوم الشك فبان من رمضان، وليس بصحيح؛ لأنه أدى فرضه بالاجتهاد في محله، فإذا أصاب أو لم يعلم الحال أجزأه، كالقبلة إذا اشتبهت أو الصلاة في يوم الغيم إذا اشتبه وقتها وفارق يوم الشك فإنه ليس بمحل الاجتهاد؛ فإن الشرع أمر بالصوم عند أمارة عينها، فما لم توجد لم يجز الصوم.
(الحال الثالث) وافق قبل الشهر فلا يجزئه في قول عامة الفقهاء، وقال بعض الشافعية: يجزئه في أحد الوجهين، كما لو اشتبه يوم عرفة فوقفوا قبله.
ولنا أنه أتى بالعبادة قبل وقتها فلم يجزئه كالصلاة في يوم الغيم، وأما الحج فلا نسلمه إلا فيما إذا أخطأ الناس كلهم؛ لعظم المشقة عليهم، وإن وقع ذلك لنفر منهم لم يجزئهم، ولأن ذلك لا يؤمن مثله في القضاء بخلاف الصوم.
(الحال الرابع) أن يوافق بعضه رمضان دون بعض، فما وافق رمضان أو بعده أجزأه، وما وافق قبله لم يجزئه.
(فصل) وإذا وافق صومه بعد الشهر اعتبر أن يكون ما صامه بعدة أيام شهره الذي فاته، سواء وافق ما بين هلالين أو لم يوافق، سواء كان الشهران تامين أو ناقصين، ولا يجزئه أقل من ذلك، وقال القاضي: ظاهر(25/23)
كلام الخرقي أنه إذا وافق شهرا بين هلالين أجزأه، سواء كان الشهران تامين أو ناقصين، أو أحدهما تاما والآخر ناقصا. وليس بصحيح؛ فإن الله تعالى قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) الآية (85) من سورة البقرة.
ولأنه فاته شهر رمضان، فوجب أن يكون صيامه لعدة ما فاته، كالمريض والمسافر، وليس في كلام الخرقي تعرض لهذا التفصيل، فلا يجوز حمل كلامه على ما يخالف الكتاب والصواب، فإن قيل: أليس إذا نذر صوم شهر يجزئه ما بين هلالين؟ قلنا: الإطلاق يحمل على ما تناوله الاسم. والاسم يتناول ما بين الهلالين، وهنا يجب قضاء ما ترك، فيجب أن يراعي فيه عدة المتروك، كما أن من نذر صلاة أجزأه ركعتان ولو ترك صلاة وجب قضاؤها بعدة ركعاتها، كذلك هنا الواجب بعدة ما فاته من الأيام، سواء كان ما صامه بين هلالين أو من شهرين، فإن دخل في صيامه يوم عيد لم يعتد به، وإن وافق أيام التشريق فهل يعتد بها على روايتين بناء على صحة صومها عن الفرض.
(فصل) وإن لم يغلب على ظن الأسير دخول رمضان فصام، لم يجزئه، وإن وافق الشهر؛ لأنه صامه على الشك، فلم يجزئه، كما لو نوى ليلة الشك إن كان غدا من رمضان فهو فرضي، وإن غلب على ظنه من غير أمارة فقال القاضي: عليه الصيام، ويقضي إذا عرف الشهر، كالذي خفيت عليه دلائل القبلة، ويصلي على حسب حاله ويعيد. وذكر أبو بكر فيمن خفيت عليه دلائل القبلة هل يعيد؟ على وجهين، كذلك يخرج على قوله هاهنا. وظاهر كلام الخرقي أنه يتحرى، فمتى غلب على ظنه دخول الشهر صح صومه، وإن لم يبن على دليل؛ لأنه ليس في وسعه معرفة الدليل، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وقد ذكرنا مثل هذا في القبلة.
قال ابن حزم في المحلى (2) :
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) ص 261 - 262 جـ 6.(25/24)
(مسألة) والأسير في دار الحرب إن عرف رمضان لزمه صيامه إن كان مقيما؛ لأنه مخاطب بصومه في القرآن، فإن سوفر به أفطر ولا بد؛ لأنه على سفر وعليه قضاؤه لما ذكرنا قبل، فإن لم يعرف الشهر وأشكل عليه سقط عنه صيامه، ولزمته أيام أخر إن كان مسافرا، وإلا فلا، وقال قوم: يتحرى شهرا ويجزئه. وقال آخرون: إن وافق شهرا قبل رمضان لم يجزئه، وإن وافق شهرا بعد رمضان أجزأه؛ لأنه يكون قضاء عن رمضان.
قال علي: أما تحري شهر فيجزئه أو يجعله قضاء فحكم لم يأت به قرآن ولا سنة صحيحة ولا رواية سقيمة ولا إجماع ولا قول صاحب، وما كان هكذا فهو دعوى فاسدة لا برهان على صحتها، فإن قالوا: قسناه على من جهل القبلة قلنا: هذا باطل؛ لأن الله تعالى لم يوجب التحري على من جهل القبلة، بل من جهلها فقط سقط عنه فرضها، فيصلي كيف شاء، فإن قالوا: قسناه على من خفي عليه وقت الصلاة قلنا: وهذا باطل أيضا؛ لأنه لا تجزئه صلاة إلا حتى يوقن بدخول وقتها.
قال أبو محمد: وبرهان صحة قولنا: قول الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) .
فلم يوجب الله تعالى صيامه إلا على من شهده، وبالضرورة ندري أن من جهل وقته فلم يشهده، قال الله عز وجل:
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2) .
وقال تعالى:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (3) .
فمن لم يكن في وسعه معرفة دخول رمضان فلم يكلفه الله تعالى صيامه بنص القرآن، ومن سقط عنه صوم الشهر فلا قضاء عليه؛ لأنه صوم غير ما أمر الله تعالى به.
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) سورة البقرة الآية 286
(3) سورة الحج الآية 78(25/25)
فإن صح عنده بعد ذلك أنه كان فيه مريضا أو مسافرا، فعليه ما افترض الله تعالى على المريض فيه والمسافر فيه، وهو عدة من أيام أخر، فيقضي الأيام التي سافر والتي مرض فقط ولا بد، وإن لم يوقن بأنه مرض فيه أو سافر فلا شيء عليه وبالله تعالى التوفيق.
قال الشيخ حسنين مخلوف في الفتاوى: صيام رمضان في شمال أوروبا:
(السؤال والجواب) تلقى فضيلة المفتي استفتاء من أعضاء البعثات المصرية عن حكم الشريعة الغراء في صيام رمضان للمسلمين المقيمين في شمال أوروبا، حيث تبلغ مدة الصوم فيه 19 ساعة، وقد تزيد إلى 22 ساعة أو أكثر. فأرسل فضيلته إليهم بالطائرة الفتوى الآتي نصها، ومهد فيها بما يحبب إليهم الصلاة والصوم؛ خوفا عليهم من الافتتان في هذه البلاد:
إن التشريع الإسلامي في العبادات قد بني على توثيق الصلات بين العبد وربه، وحسن قيام العباد بحق الله تعالى الذي أفاض عليهم نعمة الوجود، ومن عليهم بالفضل والجود، والخير والإحسان:
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} (1) .
فهي تربية وتهذيب ونظام وإصلاح، يرقى بالفرد والمجتمع إلى مراقي السعادة والفلاح. ورأسها وعمادها الصلاة، وهي مناجاة بالقلب واللسان بين العبد ومولاه، يشهد فيها العبد افتقاره لخالقه وإحسان الخالق إليه، مع استغنائه عنه، ويعلم عن يقين أن الأمر كله لله، وأن لا معبود بحق سواه، فهو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
ومن أهمها الصيام، وهو رياضة روحية تعد النفوس البشرية للسمو
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 34(25/26)
إلى معارج الكمال والتحليق في أجواء العلم والعرفان، وتعودها الصبر والثبات والقوة والعزة، وتصفيها من الشوائب المادية والعوائق الجسمية، وتبغض إليها المآثم والمنكرات، وتحبب إليها الفضائل والمكرمات. وقد بني تشريع الصوم كما بني التشريع الإسلامي عامة على السماحة والتيسير والطاقة والرفق بالناس، فلم يكن فيه إعنات ولا إرهاق، ولم يكن فيه حرج ولا عسر، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1) .
وقال في الصوم:
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (2) .
وقال عليه الصلاة والسلام: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (3) » . وفي الحديث الصحيح: «سددوا وقاربوا (4) » .
هذه السماحة وهذا اليسر قد ظهرا جليا في فريضة الصوم في الترخيص بالفطر للمسافر، ولو كان صحيحا؛ لما يلازم السفر غالبا من المشقات والمتاعب، وللمريض لضعف احتماله وحاجته إلى الغذاء والدواء حتى لا تتفاقم علته، أو يبطئ برؤه، ولمن ماثلهما في الضرورة والاحتياج إلى الفطر؛ كالحامل التي تخاف على نفسها أو جنينها المرض أو الضعف، والمرضع التي تخشى ذلك على نفسها أو رضيعها، والطاعن في السن الذي لا يقدر على الصوم. فأباح الإسلام لهؤلاء فطر رمضان على أن يقضي كل من المسافر والمريض والحامل والمرضع ما أفطره في أيام أخر خالية من هذه الأعذار، وعلى أن يخرج الشيخ الفاني فدية الصوم عن كل يوم أفطره حسبما بين في الفقه.
__________
(1) سورة الحج الآية 78
(2) سورة البقرة الآية 185
(3) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الحج (1337) ، سنن الترمذي العلم (2679) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .
(4) صحيح البخاري الرقاق (6463) ، صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2816) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5034) ، سنن ابن ماجه الزهد (4201) ، مسند أحمد بن حنبل (2/514) .(25/27)
والصوم الشرعي يبتدئ من طلوع الفجر وينتهي بغروب الشمس كل يوم، فتختلف مدته باختلاف عروض البلاد، وكيفما كانت المدة فإن مجرد طولها لا يعد عذرا شرعيا يبيح الفطر، وإنما يباح إذا غلب على ظن الإنسان بأمارة ظهرت أو تجربة وقعت أو بإخبار طبيب حاذق أن صومه هذه المدة يفضي إلى مرضه، أو إلى إعياء شديد يضره، كما صرح به أئمة الحنفية، فيكون حكم المريض الذي يخشى التلف أو أن يزيد مرضه أو يبطئ شفاؤه إذا صام.
هذا هو المبدأ العام في رخصة الفطر وفي التيسير على المكلفين، وكل امرئ بصير بنفسه عليم بحقيقة أمره، يعرف مكانها من حل الفطر وحرمته.
فإذا كان صومه المدة الطويلة يؤدي إلى إصابته بمرض أو ضعف أو إعياء يقينا أو في غالب الظن بإحدى الوسائل العلمية التي أومأنا إليها، حل له الترخص بالفطر، وإذا كان لا يؤدي إلى ذلك حرم عليه الفطر. والناس في ذلك مختلفون، ولكل حالة حكمها، والله يعلم السر وأخفى.
وقال أيضا: صوم رمضان في الأقطار التي لا تطلع فيها الشمس أشهرا أو يطول النهار فيها كثيرا.
(السؤال) تقيم كريمتي وزوجها الآن في ألمانيا، وقد كتبت إلي تستفهم عن الواجب عليها وعلى المسلمين هناك في شهر رمضان بالنسبة إلى الصيام؛ حيث تقول: إن الشمس تستمر طالعة 20 ساعة، وتختفي أربع ساعات، فهل يلزمهم الصيام قبل طلوع الشمس بساعة ونصف وهو وقت طلوع الفجر وعلى ذلك فيصومون إحدى وعشرين ساعة ونصفا ويفطرون ساعتين ونصفا، أم ماذا؟ وما حكم الصلاة أيضا في هذه البلاد، وكذلك في البلاد التي تستمر فيها الشمس طالعة نحو ستة أشهر، وتغيب نحو ستة أشهر.(25/28)
هذا ما نريد الاستفهام عنه، فلعلنا نظفر في وقت قريب بما يزيل العقبات عن المقيمين في تلك البلاد ببيان حكم الله تعالى؛ تيسيرا عليهم وتبيانا لسماحة الدين.
(الجواب) اطلعنا على هذا السؤال، ونفيد بأنه فيما يختص بالبلاد التي تغيب فيها الشمس ستة أشهر أو نحو ذلك، اختلف الفقهاء في وجوب الصلاة على المقيمين بها وعدم وجوبها فقال بعضهم: لا تجب عليهم الصلاة؛ لعدم وجود السبب وهو الوقت. وقال بعضهم: تجب عليهم الصلاة وعليهم أن يقدروا لها أوقاتها بالقياس على أقرب البلاد التي تطلع فيها الشمس وتغرب كل يوم. والقول الأخير قول الشافعية، وهو قول مصحح عند الحنفية، وهو الذي اخترناه للفتوى؛ مراعاة لحكمة تشريع الصلاة.
وفيما يختص بصوم أهل هذه البلاد فإنه واجب عليهم، وعليهم أن يتحروا عن دخول شهر رمضان، وعن مدة الصيام فيه بالقياس على أقرب البلاد التي شهد أهلها الشهر وعرفوا وقت الإمساك والإفطار فيه، وهو كذلك مذهب الشافعية الذي اخترناه للفتوى.
وأما البلاد التي تطلع فيها الشمس وتغرب كل يوم، إلا أن مدة طلوعها تبلغ نحو عشرين ساعة، فبالنسبة للصلاة يجب عليهم أداؤها في أوقاتها لتميزها تميزا ظاهرا. وبالنسبة للصوم يجب عليهم الصوم في رمضان من طلوع الفجر إلى غروب الشمس هناك، إلا إذا أدى الصوم إلى الضرر بالصائم وخاف من طول مدة الصوم الهلاك أو المرض الشديد، فحينئذ يرخص له الفطر ولا يعتبر في ذلك مجرد الوهم والخيال، وإنما المعتبر غلبة الظن بواسطة الأمارات أو التجربة أو إخبار الطبيب الحاذق بأن الصوم يفضي إلى الهلاك أو المرض الشديد أو زيادة المرض أو بطء البرء، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فلكل شخص حالة خاصة. وعلى من أفطر في كل هذه الأحوال قضاء ما أفطره بعد زوال العذر الذي رخص له(25/29)
من أجله الفطر. والله تعالى أعلم. والله الموفق. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(25/30)
القرار رقم (61) وتاريخ 12 \ 4 \ 1398هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة الثانية عشرة المنعقدة بالرياض في الأيام الأولى من شهر ربيع الآخر عام 1398هـ كتاب معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة رقم (555) وتاريخ 16 \ 1 \ 1398هـ المتضمن ما جاء في خطاب رئيس رابطة الجمعيات الإسلامية في مدينة (مالو) بالسويد الذي يفيد فيه بأن الدول الإسكندنافية يطول فيها النهار في الصيف ويقصر في الشتاء؛ نظرا لوضعها الجغرافي، كما أن المناطق الشمالية منها لا تغيب عنها الشمس إطلاقا في الصيف، وعكسه في الشتاء، ويسأل المسلمون فيها عن كيفية الإفطار والإمساك في رمضان، وكذلك كيفية ضبط أوقات الصلوات في هذه البلدان.
ويرجو معاليه إصدار فتوى في ذلك ليزودهم بها (اهـ) .
وعرض على المجلس أيضا ما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ونقول أخرى عن الفقهاء في الموضوع، وبعد الاطلاع والدراسة والمناقشة قرر المجلس ما يلي:(25/30)
أولا: من كان يقيم في بلاد يتمايز فيها الليل من النهار بطلوع فجر وغروب شمس، إلا أن نهارها يطول جدا في الصيف ويقصر في الشتاء، وجب عليه أن يصلي الصلوات الخمس في أوقاتها المعروفة شرعا. لعموم قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (1) .
وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (2) .
ولما ثبت عن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن رجلا سأله عن وقت الصلاة، فقال له: صل معنا هذين. يعني اليومين، فلما زالت الشمس أمر بلالا فأذن، ثم أمره فأقام الظهر، ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما أن كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر فأبرد بها، فأنعم أن يبرد بها وصلى العصر والشمس مرتفعة أخرها فوق الذي كان، وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وصلى العشاء بعدما ذهب ثلث الليل، وصلى الفجر فأسفر بها، ثم قال: أين السائل عن وقت الصلاة؟ فقال الرجل: أنا يا رسول الله. قال: وقت صلاتكم بين ما رأيتم (3) » . رواه البخاري ومسلم.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله، ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان (4) » . أخرجه مسلم في صحيحه.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 78
(2) سورة النساء الآية 103
(3) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (613) ، سنن الترمذي الصلاة (152) ، سنن النسائي المواقيت (519) ، سنن ابن ماجه الصلاة (667) ، مسند أحمد بن حنبل (5/349) .
(4) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (612) ، سنن النسائي المواقيت (522) ، سنن أبو داود الصلاة (396) ، مسند أحمد بن حنبل (2/210) .(25/31)
إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في تحديد أوقات الصلوات الخمس قولا وفعلا، ولم تفرق بين طول النهار وقصره، وطول الليل وقصره، ما دامت أوقات الصلوات متمايزة بالعلامات التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا بالنسبة لتحديد أوقات صلاتهم، وأما بالنسبة لتحديد أوقات صيامهم شهر رمضان، فعلى المكلفين أن يمسكوا كل يوم منه عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس في بلادهم ما دام النهار يتمايز في بلادهم من الليل، وكان مجموع زمانهما أربعا وعشرين ساعة، ويحل لهم الطعام والشراب والجماع ونحوها في ليلهم فقط، وإن كان قصيرا؛ فإن شريعة الإسلام عامة للناس في جميع البلاد، وقد قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (1) .
ومن عجز عن إتمام صوم يوم لطوله، أو علم بالأمارات أو التجربة أو إخبار طبيب أمين حاذق، أو غلب على ظنه أن الصوم يفضي إلى إهلاكه أو مرضه مرضا شديدا، أو يفضي إلى زيادة مرضه أو بطء برئه، أفطر، ويقضي الأيام التي أفطرها في أي شهر تمكن فيه من القضاء، قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (2) .
وقال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (3) .
وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (4) .
ثانيا: من كان يقيم في بلاد لا تغيب عنها الشمس صيفا ولا تطلع فيها الشمس شتاء، أو في بلاد يستمر نهارها إلى ستة أشهر، ويستمر ليلها
__________
(1) سورة البقرة الآية 187
(2) سورة البقرة الآية 185
(3) سورة البقرة الآية 286
(4) سورة الحج الآية 78(25/32)
ستة أشهر مثلا، وجب عليهم أن يصلوا الصلوات الخمس في كل أربع وعشرين ساعة، وأن يقدروا لها أوقاتها ويحددوها، معتمدين في ذلك على أقرب بلاد إليهم تتمايز فيها أوقات الصلوات المفروضة بعضها من بعض؛ لما ثبت في حديث الإسراء والمعراج من «أن الله تعالى فرض على هذه الأمة خمسين صلاة كل يوم وليلة، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه التخفيف، حتى قال: (يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة (1) » . .) إلى آخره.
ولما ثبت من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل علي غيرهن، قال: لا إلا أن تطوع (2) » . . الحديث.
ولما ثبت من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد، أتانا رسولك فزعم أنك تزعم أن الله أرسلك. قال: صدق. إلى أن قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا. قال: صدق. قال فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم (3) » . . الحديث.
وثبت «أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث أصحابه عن المسيح الدجال، فقالوا: ما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوما، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، فقيل: يا رسول الله، اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له (4) » . فلم يعتبر اليوم الذي كسنة يوما واحدا يكفي فيه خمس صلوات، بل أوجب فيه خمس صلوات في كل أربع
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3207) ، صحيح مسلم الإيمان (162) ، سنن النسائي الصلاة (448) ، مسند أحمد بن حنبل (3/149) .
(2) صحيح البخاري الإيمان (46) ، صحيح مسلم الإيمان (11) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5028) ، سنن أبو داود الصلاة (391) ، مسند أحمد بن حنبل (1/162) ، موطأ مالك النداء للصلاة (425) ، سنن الدارمي الصلاة (1578) .
(3) صحيح البخاري العلم (63) ، صحيح مسلم الإيمان (12) ، سنن الترمذي الزكاة (619) ، سنن النسائي الصيام (2091) ، سنن أبو داود الصلاة (486) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1402) ، مسند أحمد بن حنبل (3/168) ، سنن الدارمي الطهارة (650) .
(4) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2937) ، سنن الترمذي الفتن (2240) ، سنن أبو داود الملاحم (4321) ، سنن ابن ماجه الفتن (4075) ، مسند أحمد بن حنبل (4/182) .(25/33)
وعشرين ساعة، وأمرهم أن يوزعوها على أوقاتها اعتبارا بالأبعاد الزمنية التي بين أوقاتها في اليوم العادي في بلادهم، فيجب على المسلمين في البلاد المسئول عن تحديد أوقات الصلوات فيها أن يحددوا أوقات صلاتهم معتمدين في ذلك على أقرب بلاد إليهم يتمايز فيها الليل من النهار، وتعرف فيها أوقات الصلوات الخمس بعلاماتها الشرعية في كل أربع وعشرين ساعة.
وكذلك يجب عليهم صيام شهر رمضان، وعليهم أن يقدروا لصيامهم، فيحددوا بدء شهر رمضان ونهايته وبدء الإمساك والإفطار في كل يوم منه ببدء الشهر ونهايته، وبطلوع فجر كل يوم وغروب شمسه في أقرب بلاد إليهم يتميز فيها الليل من النهار، ويكون مجموعهما أربعا وعشرين ساعة؛ لما تقدم في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن المسيح الدجال وإرشاده أصحابه فيه عن كيفية تحديد أوقات الصلوات فيه؛ إذ لا فارق في ذلك بين الصوم والصلاة، والله ولي التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
رئيس الدورة
عبد العزيز بن صالح
الأعضاء
عبد الله خياط ... عبد الله بن حميد ... عبد العزيز بن باز
عبد المجيد حسن ... محمد الحركان ... عبد الرزاق عفيفي
محمد بن جبير ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد
عبد الله بن غديان ... صالح بن غصون ... راشد بن خنين
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن منيع ... صالح بن لحيدان(25/34)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شئونهم الدينية والاجتماعية.(25/35)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
فتوى برقم 992 وتاريخ 4 \ 4 \ 1395هـ
السؤال الأول: ما حكم حمل آيات قرآنية في الجيب كالمصاحف الصغيرة بقصد الحماية من الحسد والعين أو أي شر، باعتبار أنها آيات الله الكريمة، على اعتبار أن الاعتقاد في حمايتها للإنسان هو الاعتقاد الصادق بالله، وكذلك وضعها في السيارة أو أي أداة أخرى لنفس الغرض. وكذلك السؤال الثاني الذي هذا نصه:
ما حكم حمل الحجاب المكتوب من آيات الله بقصد الحماية من العين أو الحسد أو لأي سبب آخر من الأسباب كالمساعدة على النجاح أو الشفاء من المرض أو السحر إلى غير ذلك من الأسباب؟
وكذلك السؤال الثالث الذي هذا نصه: ما حكم تعليق آيات قرآنية بالرقبة في سلاسل ذهبية أو خلافه للوقاية من السوء؟
الجواب: أنزل الله سبحانه القرآن ليتعبد الناس بتلاوته ويتدبروا معانيه، فيعرفوا أحكامه ويأخذوا أنفسهم بالعمل بها، وبذلك يكون لهم موعظة وذكرى تلين به قلوبهم، وتقشعر منه جلودهم، وشفاء لما في الصدور من الجهل والضلال، وزكاة للنفوس وطهارة لها من أدران الشرك، وما ارتكبته من المعاصي والذنوب، وجعله سبحانه هدى ورحمة لمن فتح له قلبه أو ألقى السمع وهو شهيد، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (1) .
__________
(1) سورة يونس الآية 57(25/36)
وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} (1) .
وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (2) .
وجعل سبحانه القرآن معجزة لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وآية باهرة على أنه رسول من عند الله إلى الناس كافة ليبلغ شريعته إليهم، ورحمة بهم، وإقامة للحجة عليهم، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} (3) {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (4) . وقال تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} (5) . وقال: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} (6) .
إلى غير ذلك من الآيات. فالأصل في القرآن أنه كتاب تشريع وبيان للأحكام. وأنه آية بالغة ومعجزة باهرة، وحجة دامغة أيد الله بها رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرقي نفسه بالقرآن، فكان يقرأ على نفسه المعوذات الثلاث: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (7) {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (8) {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (9) وثبت أنه أذن في الرقية بالقرآن، وأباح لهم ما أخذوا على ذلك من الأجر، فعن عوف بن مالك أنه قال: «كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله، كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا (10) » . رواه مسلم في صحيحه. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: «انطلق نفر
__________
(1) سورة الزمر الآية 23
(2) سورة ق الآية 37
(3) سورة العنكبوت الآية 50
(4) سورة العنكبوت الآية 51
(5) سورة يوسف الآية 1
(6) سورة يونس الآية 1
(7) سورة الإخلاص الآية 1
(8) سورة الفلق الآية 1
(9) سورة الناس الآية 1
(10) صحيح مسلم السلام (2200) ، سنن أبو داود الطب (3886) .(25/37)
من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم، فأبوا أن يضيفهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء، لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط، إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء، لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم والله إني لأرقي، ولكننا والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلا. فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ الحمد لله رب العالمين، فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قلبة. قال: فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه. فقال بعضهم: اقسموا. فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا. فقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا له، فقال: وما يدريك أنها رقية؟ ثم قال: قد أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم سهما. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم (1) » رواه البخاري ومسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا آوى إلى فراشه نفث في كفيه، بقل هو الله أحد والمعوذتين جميعا، ثم يمسح بهما وجهه ما بلغت يداه من جسده، قالت عائشة: فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به (2) » . رواه البخاري.
وعن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ بعض أهله، يمسح بيده اليمنى ويقول: اللهم رب الناس، أذهب البأس، واشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما (3) » . رواه البخاري، إلى غير ذلك من الأحاديث التي ثبت منها أنه رقى بالقرآن وغيره، وأنه أذن في الرقية وأقرها ما لم تكن شركا.
__________
(1) صحيح البخاري الإجارة (2276) ، صحيح مسلم السلام (2201) ، سنن الترمذي الطب (2063) ، سنن أبو داود البيوع (3418) ، سنن ابن ماجه التجارات (2156) ، مسند أحمد بن حنبل (3/50) .
(2) صحيح البخاري الطب (5748) ، صحيح مسلم السلام (2192) ، سنن أبو داود الطب (3902) ، سنن ابن ماجه الطب (3529) ، مسند أحمد بن حنبل (6/114) ، موطأ مالك الجامع (1755) .
(3) صحيح البخاري الطب (5743) ، صحيح مسلم السلام (2191) ، سنن ابن ماجه الطب (3520) ، مسند أحمد بن حنبل (6/44) .(25/38)
ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي نزل عليه القرآن، وهو بأحكامه أعرف وبمنزلته أعلم، أنه علق على نفسه أو غيره تميمة من القرآن أو غيره، أو اتخذه أو آيات منه حجابا يقيه الحسد أو غيره من الشر، أو جعله أو شيئا منه في ملابسه أو في متاعه على راحلته لينال العصمة من شر الأعداء، أو الفوز والنصر عليهم، أو لييسر له الطريق ويذهب عنه وعثاء السفر، أو غير ذلك من جلب نفع أو دفع ضر، فلو كان مشروعا لحرص عليه وفعله، وبلغه أمته، وبينه لهم؛ عملا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (1) .
ولو فعل شيئا من ذلك أو بينه لأصحابه لنقلوه إلينا، ولعلموا به؛ فإنهم أحرص الأمة على البلاغ والبيان، وأحفظها للشريعة قولا وعملا، وأتبعها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يثبت شيء من ذلك عن أحد منهم، فدل ذلك على أن حمل المصحف أو وضعه في السيارة أو متاع البيت أو خزينة المال لمجرد دفع الحسد أو لحفظ أو غيرهما من جلب نفع أو دفع ضر لا يجوز، وكذا اتخاذه حجابا أو كتابته أو آيات منه في سلسلة ذهبية أو فضية مثلا لتعلق في الرقبة ونحوها لا يجوز، لمخالفة ذلك لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهدي أصحابه رضوان الله عليهم، ولدخوله في عموم حديثه: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له (2) » . . . وفي رواية: «من تعلق تميمة فقد أشرك (3) » . رواهما الإمام أحمد، وفي عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك (4) » . إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى من الرقى ما لم يكن فيه شرك، فأباحه كما تقدم، ولم يستثن شيئا من التمائم، فبقيت كلها على المنع، وبهذا يقول عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وجماعة من الصحابة وجماعة من التابعين منهم أصحاب عبد الله بن مسعود كإبراهيم بن يزيد النخعي.
__________
(1) سورة المائدة الآية 67
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/154) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (4/156) .
(4) سنن أبو داود الطب (3883) ، سنن ابن ماجه الطب (3530) ، مسند أحمد بن حنبل (1/381) .(25/39)
وذهب جماعة من العلماء إلى الترخيص بتعليق تمائم من القرآن، ومن أسماء الله وصفاته؛ لقصد الحفظ ونحوه، واستثنوا ذلك من حديث النهي عن التمائم كما استثنيت الرقى التي لا شرك فيها؛ لأن القرآن كلام الله، وهو صفة من صفاته، فاعتقاد البركة والنفع فيه وفي أسمائه تعالى وصفاته ليس بشرك، فلا يمنع اتخاذ التمائم منها أو حمل شيء منها أو اصطحابه أو تعليقه رجاء بركته ونفعه، ونسب هذا القول إلى جماعة؛ منهم عبد الله بن عمرو بن العاص، لكنه لم تثبت روايته عنه، لأن في سندها محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن، على أنها إن ثبتت لم تدل على جواز تعليق التمائم من ذلك؛ لأن الذي فيها أنه كان يحفظ القرآن للأولاد الكبار، ويكتبه للصغار في ألواح، ويعلقها في أعناقهم.
والظاهر أنه فعل ذلك معهم ليكرروا قراءة ما كتب حتى يحفظوه، لا أنه فعل ذلك معهم حفظا لهم من الحسد أو غيره من أنواع الضرر، فليس هذا من التمائم في شيء.
وقد اختار الشيخ عبد الرحمن بن حسن في كتابه فتح المجيد ما ذهب إليه عبد الله بن مسعود وأصحابه من المنع من التمائم من القرآن وغيره، وقال: إنه هو الصحيح، لثلاثة وجوه:
الأول: عموم النهي ولا مخصص للعموم، الثاني: سد الذريعة، فإنه يفضي إلى تعليق ما ليس كذلك. الثالث: أنه إذا علق فلا بد أن يمتهنه المعلق بحمله معه في حال قضاء الحاجة والاستنجاء ونحو ذلك. والله أعلم.
السؤال الثاني: ما حكم القراءة على ماء زمزم من قبل أشخاص معينين، لإعطائه شخصا ما؛ لتحقيق أي غرض منه أو لشفائه؟
الجواب: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شرب من ماء زمزم، وأنه كان يحمله، وأنه حث على الشرب منه وقال: «ماء زمزم لما شرب له (1) » ، فعن ابن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية فاستسقى، فقال العباس: يا فضل، اذهب إلى أمك فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من
__________
(1) سنن ابن ماجه المناسك (3062) ، مسند أحمد بن حنبل (3/357) .(25/40)
عندها، فقال: اسقني. فقال: يا رسول الله، إنهم يجعلون أيديهم فيه، قال: اسقني. فشرب، ثم أتى زمزم وهم يستقون ويعملون فيه، فقال: اعملوا فإنكم على عمل صالح، ثم قال: لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل. يعني على عاتقه، وأشار إلى عاتقه (1) » . رواه البخاري. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ماء زمزم لما شرب له، إن شربته تستشفي به شفاك الله، وإن شربته ليشبعك أشبعك الله به، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه الله، وهي هزمة جبريل وسقيا إسماعيل (2) » . رواه الدارقطني وأخرجه الحاكم. وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تحمل من ماء زمزم وتخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم يحمله. رواه الترمذي، إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في فضل ماء زمزم وخواصه.
وهذه الأحاديث وإن كان في بعضها مقال، إلا أن بعض العلماء صححها، وعمل بها الصحابة، واستمر العمل بمقتضاها إلى يومنا. ويؤيد ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال في ماء زمزم: «إنها مباركة، وإنها طعام طعم (3) » . وزاد أبو داود بإسناد صحيح: «وشفاء سقم (4) » . ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في ماء زمزم لأحد من أصحابه ليشربه أو يتمسح به تحقيقا لغرض، أو رجاء الشفاء من مرض، مع عظم بركته، وعلو درجته، وعميم نفعه، وحرصه على الخير لأمته، ومع كثرة تردده على زمزم قبل الهجرة وفي اعتماره مرات، وحجه للبيت الحرام بعد الهجرة، ولم يثبت أيضا أنه أرشد أصحابه إلى القراءة عليه مع وجوب البلاغ عليه والبيان للأمة، فلو كان ذلك مشروعا لفعله وبينه للأمة، فإنه لا خير إلا دلهم عليه، ولا شر إلا حذرهم منه. لكن لا مانع من القراءة فيه للاستشفاء به كغيره من المياه، بل من باب أولى؛ لما فيه من البركة والشفاء للأحاديث المذكورة.
السؤال الثالث: ما حكم كتابة الأوراق القرآنية في براويز وتعليقها في
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1636) .
(2) سنن ابن ماجه المناسك (3062) ، مسند أحمد بن حنبل (3/357) .
(3) صحيح البخاري المناقب (3522) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2473) ، مسند أحمد بن حنبل (5/175) .
(4) أخرجه الطيالسي في المسند برقم457 وأخرجه مسلم في الصحيح 16 \ 30 (نووي) وأحمد في المسند 5 \ 175 بلفظ (إنها مباركة وإنها طعام طعم) من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -، والطبراني في الصغير رقم295.(25/41)
البيوت، أو كتابتها على جدران البيت بقصد بقاء الملائكة في البيت، أو تعليقها بقصد الزينة، أو احتراما لآيات الله وأسمائه الحسنى؟
الجواب: القرآن كتاب تشريع، أنزله الله تعالى ليبين للناس ما تنظم به أحوالهم وتستقيم حياتهم، ويصلح به أمرهم في معاشهم ومعادهم، وإنما يتم ذلك لهم إذا وجهوا همهم إلى تحقيق القصد الذي من أجله أنزل، فآمنوا به وقدروه قدره، وتدبروا آياته، وعملوا بما فيها من أحكام، فبذلك وحده يكون القرآن نورا في قلوبهم، وقوة لهم في إيمانهم وجهادهم وسائر أعمالهم، ومصدر هيبة ورهبة لهم في قلوب أعدائهم، وزينة لظواهرهم وبواطنهم، وبذلك وحده تغشاهم الملائكة وتحضر مجالسهم، وتنزل السكينة ويذكرهم الله فيمن عنده.
وقد علم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فكانوا مثلا أعلى في الاعتصام بالقرآن والسير على منهاجه، فكانوا خير أمة أخرجت للناس، وأقاموا المثل العليا للإنسانية قولا وعملا واعتقادا، سلما وحربا، فسعدوا في دنياهم سعادة لم تحلم بها الدول المتحضرة قديما وحديثا، وما لهم عند الله خير وأبقى. قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده (2) » . رواه أبو داود وغيره. وعن البراء قال: «كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين، فنفشته سحابة، فجعلت تدور وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: تلك السكينة تنزلت للقرآن (3) » . أي لقراءته. رواه مسلم في صحيحه. إلى غير ذلك من الأحاديث. وليس
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن أبو داود الصلاة (1455) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(3) صحيح البخاري تفسير القرآن (4839) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (795) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2885) ، مسند أحمد بن حنبل (4/293) .(25/42)
احترام القرآن في مجرد كتابته أو كتابة آيات منه في براويز وتعليقها في البيوت، ولا في كتابة آياته على الجدران، وليس في ذلك ما تحضر الملائكة في البيوت أو تبقى فيها من أجله، وليس فيه الزينة التي قصد إليها الشرع، وإنما هي تقاليد أخذها بعض جهلة المسلمين حينما جهلوا حقيقة دينهم ومقاصده، وضعف عملهم به، فوقفوا عند المناظر والمظاهر، وزعموه احتراما للقرآن وزينة يرضاها الشرع، وما هي إلا الهوى وعشق الزخارف، ولذا لم يأبه له السلف ولم يقيموا له وزنا، بل أعرضوا عنه صفحا، ولا خير إلا في اتباع هديهم، وسلوك طريقهم؛ فإنها الطريقة المثلى التي ورثوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(25/43)
فتوى برقم 1184 وتاريخ 3 \ 2 \ 1396هـ
السؤال الأول: امرأة جاءها دم أثناء الحمل قبل نفاسها بخمسة أيام في شهر رمضان، هل يكون دم حيض أو نفاس؟ وما يجب عليها؟
الجواب: إذا كان الأمر كما ذكر من رؤيتها الدم وهي حامل قبل الولادة بخمسة أيام، فإن لم تر علامة على قرب الوضع كالمخاض وهو الطلق فليس بدم حيض ولا نفاس، بل دم فساد على الصحيح، وعلى ذلك لا تترك العبادات، بل تصوم وتصلي، وإن كان مع هذا الدم أمارة من أمارات قرب وضع الحمل من الطلق ونحوه، فهو دم نفاس تدع من أجله الصلاة والصوم، ثم إذا طهرت منه بعد الولادة قضت الصوم دون الصلاة.
السؤال الثاني: اجتمع جماعة في بيت للمذاكرة في القرآن الكريم، واتفقوا على أن يدفع كل منهم شهريا عشرة ريالات تنفق في أعمال البر،(25/43)
فإذا حال عليها الحول في الصندوق وهي نصاب فهل تجب فيها زكاة أو لا؟ وكم زكاة الألف من الورق المعروف عندنا اليوم؟
الجواب: إذا وضع جماعة نقودا في صندوق لتنفق في وجوه البر على ألا يعود إلى أحدهم منها شيء فلا زكاة فيها؛ لأنها خرجت من ملكهم بدفعها إلى صندوق البر، وصارت أعيانها حقا للجهات الخيرية التي دفعت لإنفاقها فيها.
أما زكاة الألف من الورق الذي في أيدينا اليوم فهي ربع العشر، وهو يساوي خمسة وعشرين ريالا. فحكم هذه الأوراق في الزكاة حكم الذهب والفضة.
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(25/44)
فتوى برقم 1257 وتاريخ 2 \ 5 \ 1396هـ
السؤال الأول: سائل يقول: بعض العلماء يكتبون آيات من القرآن على لوح أسود ويغسلون الكتابة بالماء ويشرب؛ وذلك رجاء استفادة علم أو كسب مال أو صحة وعافية ونحو ذلك، وأيضا يكتبون على القرطاس ويعلقونه في أعناقهم للحفظ، فهل هذا حلال للمسلم أم حرام؟
الجواب: أذن صلى الله عليه وسلم في الرقية بالقرآن والأذكار والأدعية ما لم تكن شركا أو كلاما لا يفهم معناه؛ لما روى مسلم في صحيحه عن عوف بن مالك قال: «كنا في الجاهلية فقلنا: يا رسول الله، كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا (1) » .
وقد أجمع العلماء
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2200) ، سنن أبو داود الطب (3886) .(25/44)
على جواز الرقى إذا كانت على الوجه المذكور آنفا، مع اعتقاد أنها سبب لا تأثير له إلا بتقدير الله تعالى، أما تعليق شيء بالعنق أو ربطه بأي عضو من أعضاء الشخص، فإن كان من غير القرآن فهو محرم، بل شرك؛ لما رواه الإمام أحمد في مسنده عن عمران بن حصين رضي الله عنه، «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة من صفر، فقال: ما هذا؟ قال: من الواهنة. فقال: انزعها فإنها لا تزيد لك إلا وهنا، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا (1) » . وما رواه عن عقبة بن عامر عنه صلى الله عليه وسلم قال: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له (2) » . وفي رواية لأحمد أيضا: «من تعلق تميمة فقد أشرك (3) » ، وما رواه أحمد وأبو داود عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك (4) » .
وإن كان ما علقه من آيات القرآن فالصحيح أنه ممنوع أيضا لثلاثة أمور: الأول: عموم أحاديث النهي عن تعليق التمائم ولا مخصص لها. والثاني: سد الذريعة فإنه يفضي إلى تعليق ما ليس كذلك، والثالث: أن ما علق من ذلك يكون عرضة للامتهان بحمله في حال قضاء الحاجة والاستنجاء والجماع ونحو ذلك.
وأما كتابة سورة أو آيات من القرآن في لوح أو طبق أو قرطاس وغسله بماء أو زعفران أو غيرهما، وشرب تلك الغسلة رجاء البركة أو استفادة علم أو كسب مال أو صحة وعافية ونحو ذلك، فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله لنفسه أو غيره، ولا أنه أذن فيه لأحد من أصحابه أو رخص فيه لأمته، مع وجود الدواعي التي تدعو إلى ذلك، ولم يثبت في أثر صحيح فيما علمنا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم أنه فعل ذلك أو رخص فيه، وعلى هذا فالأولى تركه، وأن يستغنى عنه بما ثبت في الشريعة من الرقية بالقرآن وأسماء الله الحسنى، وما صح من الأذكار والأدعية النبوية ونحوها مما يعرف ولا شائبة للشرك فيه، وليتقرب إلى الله
__________
(1) سنن ابن ماجه الطب (3531) ، مسند أحمد بن حنبل (4/445) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/154) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (4/156) .
(4) سنن أبو داود الطب (3883) ، سنن ابن ماجه الطب (3530) ، مسند أحمد بن حنبل (1/381) .(25/45)
بما شرع رجاء التوبة، وأن يفرج الله كربته ويكشف غمته ويرزقه العلم النافع، ففي ذلك الكفاية، ومن استغنى بما شرع الله أغناه الله عما سواه، والله الموفق.
السؤال الثاني: بعض العلماء يسدل في الصلاة وبعضهم يقبض، وبعض من يقبض لا يصلي وراء من يسدل، وبعض من يسدل لا يصلي وراء من يقبض، فأفتونا في ذلك؟
الجواب: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضع يده اليمنى على يده اليسرى في الصلاة فريضة أو نافلة، وبهذا قال جمهور الفقهاء، وهو الصواب، وكره مالك ذلك في الفريضة للاعتماد، وأجازه في النافلة، وذكر أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد في كتابه المقدمات أن وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة من استحباب الصلاة، وقال: ومعنى كراهية مالك له أن يعد من واجبات الصلاة. اهـ.
ومع ذلك فاقتداء من يسدل بمن يقبض واقتداء من يقبض بمن يسدل كلاهما صحيح باتفاق العلماء.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(25/46)
فتوى برقم 1345 وتاريخ 5 \ 8 \ 1396هـ
السؤال الأول: توفي رجل عن ابنين وبنتين وزوجة وأخ شقيق وأخت شقيقة، فما نصيب كل واحد منهم؟
الجواب: المقدم في مال المتوفى وفاء دينه إن كان عليه دين، ثم تنفيذ(25/46)
وصيته الشرعية إن كان موصيا، والباقي بعد ذلك تكون مسألة الورثة فيه من ثمانية، وتصح من ثمانية وأربعين، للزوجة الثمن ستة أسهم، ولكل ابن أربعة عشر سهما، ولكل بنت سبعة أسهم، ولا شيء للأخ الشقيق والأخت الشقيقة لوجود الفرع من الذكور الوارث.
السؤال الثاني: اشترى قطعة من الأرض مع شقيقه في حياته، وجعلاها باسم أبنائهم دون البنات، على أساس أن البنات لا يدخلن فيها، وعلى أن الفلوس أو بعضها من الأبناء، مع أن البنات مصرات على المشاركة فيها، فهل يصح ذلك أم لا بد من مشاركتهن؟
الجواب: إذا كانت الفلوس التي اشتريت بها الأرض من فلوس الأبناء فلا حق للبنات فيها مطلقا، وإذا كان بعضهم قد اشترى ببعض فلوس الأبناء فهذا البعض لا حق للبنات فيه أيضا. أما إذا كانت الفلوس من الأبوين فالواجب هو التعديل بين الأبناء؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم (1) » . وكذلك الحكم إذا كان بعض فلوس الأرض من الأبوين فالتسوية بينهم واجبة في هذا البعض.
السؤال الثالث: هذا الرجل في حياته يأخذ حقوق زوجته فيأكلها، وعند موته أوصى لها بأذرع من الأرض التي يملكها مقابل ما أخذه في حياته، فهل يجوز ذلك أم لا؟
الجواب: إذا كانت حقوق الزوجة التي أخذها في حياته ثابتة في ذمته، فما أوصى به من أذرع أرض يملكها لزوجته مقابل ما أخذه منها في حياته فإنه جائز إذا كان القدر الذي أوصى به مساويا للحق الذي ثبت في ذمته، ويكون من أصل التركة، لا من الثلث.
السؤال الرابع: رجل توفي عن ابن وبنتين وأب وشقيقة وزوجة، فما نصيب كل واحد منهم؟
__________
(1) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587) ، سنن النسائي النحل (3681) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .(25/47)
الجواب: المقدم في تركته وفاء دينه إن كان عليه دين، ثم تنفيذ وصيته الشرعية، وما بقي بعد ذلك تكون مسألة الورثة من أربعة وعشرين، وتصح من ستة وتسعين، للزوجة الثمن اثنا عشر سهما من ستة وتسعين، وللأب السدس ستة عشر سهما من ستة وتسعين سهما، ولكل بنت سبعة عشر سهما من ستة وتسعين سهما، وللابن أربعة وثلاثون سهما من ستة وتسعين سهما، ولا شيء للأخت الشقيقة لوجود الفرع من الذكور الوارث، وهو الابن، ووجود الأصل من الذكور الوارث وهو الأب.
السؤال الخامس: أبو المتوفى المذكور آنفا توفي عن ابنته وابن ابنه وبنتي ابنه وأخوين شقيقين، فما نصيب كل واحد منهم؟
الجواب: المقدم وفاء دين المتوفى إذا كان عليه دين، ثم تنفيذ وصيته الشرعية إذا كان موصيا، فما بقي بعد ذلك مسألة الورثة من اثنين، وتصح من ثمانية؛ للبنت النصف أربعة والباقي أربعة بين ابن الابن وبنتي الابن، لابن الابن اثنان، ولكل بنت ابن واحد، ولا شيء للأخوين الشقيقين؛ لوجود الفرع من الذكور الوارث وهو الابن. وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(25/48)
فتوى برقم 1353 وتاريخ 11 \ 8 \ 1396هـ
السؤال الأول: يوجد في المناجم بفرنسا أماكن فوق الأرض للاغتسال بعد قضاء العمل، وهذا ما يسمى بالحمام، ومما لا شك فيه أن الجميع غير(25/48)
مستوري العورة في وقت الاغتسال، سواء كان مسلما أو غير مسلم، فهل يجوز هذا الاغتسال أم لا، مع العلم أن الجميع لم يجد أية حيلة ليستر العورة، حيث إن جسد الإنسان توجد عليه غبرة كثيرة حسب المعدن؟
الجواب: العورة ما يجب على الإنسان ستره في الصلاة، وهي من الرجل ما بين السرة والركبة، ومن الحرة جميع جسدها إلا الوجه، ومن الأمة مثل الرجل، وما يبدو منها في حال الخدمة كالرأس والرقبة وأطراف الساقين والساعد فليس بعورة، وما يجب ستره من هذه العورات في الصلاة يجب في غير الصلاة. وقد جاءت أدلة دالة على وجوب ستر العورة. فروى أبو داود والترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده. . وكانت له صحبة قال: قلت: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر. قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك. قلت: يا رسول الله، فالرجل يكون مع الرجل؟ قال: إن استطعت أن لا يراها أحد فافعل. قلت: فالرجل يكون خاليا. قال: الله أحق أن يستحي منه الناس. وفي رواية: قلت: يا رسول الله، إذا كان القوم بعضهم في بعض. قال: إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها. قلت: فإذا كان أحدنا خاليا؟ قال: الله أحق أن يستحي منه الناس. وروى مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة (1) » الحديث. وروى الترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والتعري؛ فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله، فاستحيوهم وأكرموهم (2) » . وروى الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الفخذ عورة (3) » .
وبناء على ما سبق من الأدلة فإن ستر العورة واجب في الحالة المسئول عنها، فلا يجوز لأي شخص أن يكشف عورته بمرأى من شخص آخر
__________
(1) صحيح مسلم الحيض (338) ، مسند أحمد بن حنبل (3/63) .
(2) سنن الترمذي الأدب (2800) .
(3) سنن الترمذي الأدب (2795) ، سنن أبو داود الحمام (4014) ، مسند أحمد بن حنبل (3/479) ، سنن الدارمي الاستئذان (2650) .(25/49)
ويمكنه أن يستعمل لباسا خاصا يستر به عورته أثناء الاغتسال ويدلك ما تحته بيده من فوق اللباس أو من تحته.
السؤال الثاني: قد جاء في الحديث أن الإنسان لن يدخل الجنة بفضل عمله، بل بفضل الله تعالى ورحمته، وأرجو أن تعرفوني بمزيد من الأقوال في هذا الصدد؟
الجواب: ليس بمجرد العمل ينال الإنسان السعادة، بل العمل سبب، يدل على ذلك قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (1) .
فهذه باء السبب، وأما ما نفاه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «لن يدخل أحد الجنة بعمله (2) » الحديث، فهي باء المقابلة كما يقال: اشتريت هذه بهذا، أي ليس العمل عوضا وثمنا كافيا في دخول الجنة، بل لا بد مع ذلك من عفو الله وفضله ورحمته، فبعفوه يمحو السيئات، وبرحمته يأتي بالخيرات، وبفضله يضاعف الحسنات.
السؤال الثالث: هل تجوز نفقة الزكاة في الأخ الشقيق إن كان محتاجا إليها أم لا؟
الجواب: إذا كان هذا الشخص لو مات في الحال كان السائل وارثا له فإن نفقته واجبة عليه ولا يجوز له أن يدفع له من زكاة ماله؛ لأن في ذلك إسقاطا لحق واجب عليه لأخيه وهو النفقة عليه، لكن إذا كان لا يلزمه الإنفاق ولم يتيسر الإنفاق عليه من جهة أخرى، فلا بأس أن يعطيه من الزكاة ما يكمل به نفقته المعتادة عرفا. وبالله التوفيق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة النحل الآية 32
(2) صحيح البخاري المرضى (5673) ، صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2816) ، سنن ابن ماجه الزهد (4201) ، مسند أحمد بن حنبل (2/264) .(25/50)
فتوى برقم 1385 وتاريخ 18 \ 9 \ 1396هـ
السؤال الأول: رجل يقول: جامعت امرأتي وهي حائض، علما أنها أفهمتني ولكن كذبتها ولا علمت أنها صادقة إلا بعد أيام، أرجو إفادتي عما يلزمني في ذلك؟
الجواب: وطء الحائض في الفرج حرام؛ لقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (1) .
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وإجماع الأمة على تحريمه، فعليك أن تستغفر الله وتتوب إليه من وطئك امرأتك وهي حائض، وخصوصا أنها أعلمتك أنها حائض، فكان ينبغي لك أن تحتاط وتتبين قبل الوطء، وعليك أيضا أن تتصدق بدينار أو نصف دينار كفارة لما حصل منك؛ لما رواه أحمد وأهل السنن بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما، «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي يأتي امرأته وهي حائض: يتصدق بدينار أو نصف دينار (2) » أيهما أخرجت أجزأك. ومقدار الدينار أربعة أسهم من سبعة أسهم من الجنيه السعودي - فإذا كان صرف الجنيه السعودي مثلا سبعين ريالا فعليك أن تخرج عشرين أو أربعين تتصدق بها على بعض الفقراء.
السؤال الثاني: كنت عملت خطايا كبيرة وأنا جاهل، وأحلف بالله وأكفر عن يميني، والآن هداني الله وأريد أن أدفع شيئا كثيرا كفارة لما ذكرت فأفيدوني.
الجواب: عليك أن تتوب إلى الله مما فرط منك من المعاصي، وأن تكثر من الاستغفار والأعمال الصالحات، وخاصة أداء الصلوات الخمس في
__________
(1) سورة البقرة الآية 222
(2) سنن الترمذي الطهارة (137) ، سنن النسائي الطهارة (289) ، سنن أبو داود النكاح (2168) ، سنن ابن ماجه كتاب الطهارة وسننها (650) ، مسند أحمد بن حنبل (1/286) ، سنن الدارمي الطهارة (1105) .(25/51)
أوقاتها جماعة في المساجد، وترد المظالم لأهلها ما أمكن، وأن تستسمح من لم تستطع رد مظلمته إليه، رجاء أن يبدل الله سيئاتك حسنات، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (1) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (2) {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (3) {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} (4) .
وقال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (5) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن (6) » . وعليك أيضا أن تكفر عن حلفك بالله فتطعم عشرة مساكين خمسة آصع من بر أو تمر أو أرز أو نحو ذلك من أوسط ما تطعمه أهلك لكل مسكين نصف صاع. إلا أن تكون الأيمان كثيرة على أفعال مختلفة، فالواجب أن تكفر عن كل واحدة منها بالكفارة المذكورة، والعمدة في ذلك على غلبة الظن. . وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الفرقان الآية 68
(2) سورة الفرقان الآية 69
(3) سورة الفرقان الآية 70
(4) سورة الفرقان الآية 71
(5) سورة هود الآية 114
(6) سنن الترمذي البر والصلة (1987) ، مسند أحمد بن حنبل (5/177) ، سنن الدارمي الرقاق (2791) .(25/52)
فتوى برقم 1412 وتاريخ 21 \ 11 \ 1396هـ
السؤال الأول: قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (1) الآية 84 من سورة آل عمران.
وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (2) إلى آخر الآيات 18، 19 آل عمران.
وقال تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ} (3) إلى آخر الآيات 112، 113، 114، 115 آل عمران.
وقال جل وعلا: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ} (4) الآيات 81 إلى 85 سورة المائدة.
بحكم عملي واحتكاكي بمسيحيين بزمالتي لبعض منهم. فإنه يحدث أحيانا بعض المناقشات هل دين الإسلام اعترف بالمسيحيين أم لا؟ وما موقف الإسلام من النصارى؟ ويستدلون ببعض الآيات من القرآن الكريم التي أوردت آنفا بعضا منها وغيرها مواضع كثيرة، وإنما أوردت هذه الآيات الكريمات على سبيل المثال، لا الحصر.
بناء على ذلك فإنني أرجو من علمائنا الأفاضل أن يعطوني الجواب الكافي، ورجائي أن يكون الجواب مبسطا ومقنعا ومزودا بالأدلة والبراهين وبأسلوب هادئ هادف، وهل هناك شيء من هذه الآيات منسوخ لأن النصارى يحتجون علينا بأن البعض منها يناقض الآخر، وإنما دعاني إلى كتابة هذه هو حرصي الشديد على الإسلام وأهله.
الجواب: أصول الشرائع التي جاء بها الأنبياء والمرسلون واحدة، أوحى الله بها إليهم، وأنزل عليهم بها كتبه يوصي فيها سابقهم بالإيمان باللاحق منهم ونصره وتأييده، ويوصي متأخرهم بتصديق من تقدمه منهم، وكل
__________
(1) سورة آل عمران الآية 85
(2) سورة آل عمران الآية 19
(3) سورة آل عمران الآية 113
(4) سورة المائدة الآية 82(25/53)
ما جاءوا به من عند الله يسمى دين الإسلام، قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (1) {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2) {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (3) {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (4) {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (5) .
وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} (6) .
وقال: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} (7) .
إلى أن قال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (8) .
وقال {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (9) {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (10) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 81
(2) سورة آل عمران الآية 82
(3) سورة آل عمران الآية 83
(4) سورة آل عمران الآية 84
(5) سورة آل عمران الآية 85
(6) سورة البقرة الآية 285
(7) سورة المائدة الآية 46
(8) سورة المائدة الآية 48
(9) سورة المائدة الآية 15
(10) سورة المائدة الآية 16(25/54)
وقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) .
وقال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (2) .
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (3) .
إلى غير ذلك من الآيات الدالة بالعموم والخصوص على وحدة أصول التشريع الذي جاءت به الأنبياء، من توحيد الله بالعبادة والإيمان به وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقضاء والقدر، وأصل الصلاة والزكاة والصيام؛ كقوله تعالى في دعاء خليله إبراهيم:
{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} (4) .
إلى أن قال في حكاية ضراعة خليله إليه:
{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} (5) .
وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} (6) {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (7) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 19
(2) سورة الصف الآية 6
(3) سورة الأنبياء الآية 25
(4) سورة إبراهيم الآية 37
(5) سورة إبراهيم الآية 40
(6) سورة مريم الآية 54
(7) سورة مريم الآية 55(25/55)
وقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (1) .
وقوله في زكريا: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} (2) الآية.
وقوله في عيسى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} (3) {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} (4) .
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (5) الآيات.
لكنها اختلفت في كيفياتها وتفاصيل فروعها كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (6) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الأنبياء أولاد علات، دينهم واحد وأمهاتهم شتى (7) » .
وعلى هذا فمن آمن بأصول الشرائع على ما جاء به الأنبياء والمرسلون، فقد رضي الله عنهم وكتب لهم السعادة والفلاح، وهم الذين امتدحهم الله في كتابه وأثنى عليهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في سنته، ومن آمن ببعض الأصول التي جاءوا بها من عند الله وكفر ببعض فأولئك هم الكافرون حقا بالجميع، لضرورة وحدتها وتصديق بعضها بعضا، وأعد الله لهم جهنم وساءت مصيرا. وهؤلاء هم الذين ذمهم الله في كتابه وذمهم
__________
(1) سورة يونس الآية 87
(2) سورة آل عمران الآية 39
(3) سورة مريم الآية 30
(4) سورة مريم الآية 31
(5) سورة البقرة الآية 183
(6) سورة المائدة الآية 48
(7) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3442) ، صحيح مسلم الفضائل (2365) ، سنن أبو داود السنة (4675) ، مسند أحمد بن حنبل (2/437) .(25/56)
رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (1) {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (2) {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (3) .
ومن أجل هذا أخبر الله سبحانه بأن أهل الكتاب من اليهود والنصارى ليسوا سواء في حكمه، بل أثنى على طائفة من هؤلاء وذم طائفة أخرى من الفريقين. أثنى على الذين امتثلوا أمره من اليهود والنصارى بقوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (4) .
ومن هؤلاء الذين قال الله فيهم:
{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (5) .
ومنهم بعض النصارى، وهم الذين قال الله فيهم:
{ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (6) {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (7) {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} (8) {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} (9) .
__________
(1) سورة النساء الآية 150
(2) سورة النساء الآية 151
(3) سورة النساء الآية 152
(4) سورة البقرة الآية 136
(5) سورة آل عمران الآية 199
(6) سورة المائدة الآية 82
(7) سورة المائدة الآية 83
(8) سورة المائدة الآية 84
(9) سورة المائدة الآية 85(25/57)
ومنهم جماعة من أهل الكتاب من اليهود والنصارى أثنى الله عليهم بقوله:
{مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (1) {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} (2) {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (3) .
وذم من الفريقين اليهود والنصارى من نافق أو آمن ببعض الرسل وكفر ببعض وكتموا الحق بعدما تبين، وحرفوا الكلم عن مواضعه وافتروا على الله الكذب في أصول الشرائع أو فروعها، ونقضوا ما أخذ عليهم من العهود والميثاق. قال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (4) {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (5) {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} (6) {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (7) {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} (8) .
وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (9) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 113
(2) سورة آل عمران الآية 114
(3) سورة آل عمران الآية 115
(4) سورة البقرة الآية 75
(5) سورة البقرة الآية 76
(6) سورة البقرة الآية 77
(7) سورة البقرة الآية 78
(8) سورة البقرة الآية 79
(9) سورة آل عمران الآية 187(25/58)
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (1) {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (2) {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (3) .
وذم منهم أيضا الذين قالوا: اتخذ الله ولدا واتخذوا أحبارهم أربابا من دون الله، ورد عليهم فريتهم؛ قال تعالى: {وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (4) {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (5) الآيات.
وذم منهم أيضا من زعم مع كفره أن الجنة وقف عليهم لا يدخلها غيرهم، وكذبهم في زعمهم وبين من هم أهل الجنة حقا؛ قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (6) {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (7) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 12
(2) سورة المائدة الآية 13
(3) سورة المائدة الآية 14
(4) سورة التوبة الآية 30
(5) سورة التوبة الآية 31
(6) سورة البقرة الآية 111
(7) سورة البقرة الآية 112(25/59)
وذم منهم أيضا من قتل الأنبياء والصالحين بغير حق وقالوا: قلوبنا غلف وافتروا على مريم بهتانا عظيما وقالوا: إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم، وأكلوا الربا وأموال الناس بالباطل. ومن قال: إن الله ثالث ثلاثة، وكفرهم جميعا ورد عليهم مزاعمهم الباطلة وتوعدهم بالعذاب الأليم. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ثنائه تعالى على جماعة من اليهود ومن النصارى، ووصفهم بصفات جعلتهم أهلا للثناء عليهم والفوز بالسعادة والنعيم المقيم، وذمه جماعة أخرى من كل من الفريقين، ووصفهم بصفات استوجبوا بها سخط الله ولعنته وأليم عقابه.
لهذا يتبين أن الإسلام وقف من اليهود والنصارى موقف إنصاف وعدل. وأنه لا تناقض بين نصوص الكتاب والسنة في الإخبار عنهم ثناء وذما، فإن من أثنى عليهم يختلفون اختلافا بينا عمن ذمهم، فالذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم؛ امتثالا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} (1) .
أولئك الذين وسعتهم رحمة الله وحق فيهم ثناؤه، وأولئك هم المفلحون. أما الذين كفروا بالجميع أو آمنوا ببعض وكفروا ببعض وحرفوا ما أنزل في التوراة أو الإنجيل إلى آخر ما تقدم بيانه وما في معناه، فأولئك الذين ذمهم الله وحقت عليهم كلمة العذاب، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
وعلى هذا فلا تناقض بين نصوص الإخبار عنهم ثناء على من هم أهل لذلك، واعترافا بقدرهم وإنزالا لهم منازلهم، مع ذم آخرين منهم
__________
(1) سورة النساء الآية 136(25/60)
لسوء سيرتهم وفساد عقيدتهم وتغييرهم وتبديلهم لما أنزل إليهم من ربهم، أو تقليدهم من فعل ذلك من أحبارهم ورهبانهم على غير هدى وبصيرة، ولا نسخ فيها لعدم تنافيها، بل بعضها يصدق بعضا.
ومن أراد المزيد فليرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله، فإن من تأمل آيات القرآن والأحاديث الصحيحة عن الرسول عليه الصلاة والسلام واطلع على ما صح من التاريخ وتبرأ من العصبية ولم يتبع الهوى تبين له الحق واهتدى إلى سواء السبيل. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(25/61)
فتوى برقم 1557 وتاريخ 23 \ 5 \ 1397هـ
السؤال الأول: سائل يقول: إن نصرانيا وزوجته أرادا الدخول في الإسلام، فأمرهما مقدم الاستفتاء بغسل البدن وبالنطق بالشهادتين عن طوع ورضا واستسلام والختان، ويسأل هل هذا صحيح أو لا؟ ويرجو الكتابة إليه بأقوال السلف وبالكيفية التي كانت تجرى لدخول الكافر في الإسلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
الجواب: إن طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوة الكفار إلى الإسلام أن يأمرهم بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإن هم أجابوه إلى ذلك دعاهم إلى بقية شرائع الإسلام حسب أهميتها وما تقتضيه الأحوال، ومما ورد في ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله(25/61)
إلا الله - وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله - فإن أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب (1) » .
ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه حينما أعطاه الراية يوم خيبر: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (2) » . وفي رواية أخرى: «فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله (3) » .
وقد اختلف السلف في حكم الغسل بالنسبة لمن كان كافرا فأسلم، فقال بوجوبه مالك وأحمد وأبو ثور رحمهم الله؛ لما رواه أبو داود عن النسائي عن قيس بن عاصم رضي الله عنه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أريد الإسلام، فأمر أن أغتسل بماء وسدر (4) » . والأمر يقتضي الوجوب. وقال الشافعي وبعض الحنابلة: يستحب أن يغتسل، إلا أن يكون قد حدثت به جنابة زمن كفره، فيجب عليه الغسل. وقال أبو حنيفة: لا يجب عليه الغسل بحال، وبكل حال فالمشروع له الغسل لهذا الحديث لما في معناه.
وأما الختان فواجب على الرجال ومكرمة في حق النساء، لكن لو أخرت دعوة من رغب في الإسلام إلى الختان بعض الوقت حتى يستقر الإسلام في قلبه ويطمئن إليه لكان حسنا؛ خشية أن تكون المبادرة بدعوته إلى الختان منفرة له من الإسلام.
وعلى هذا فما أمرت به الرجل وزوجته عند إسلامهما صحيح. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4347) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .
(2) صحيح البخاري المغازي (4210) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .
(3) صحيح البخاري الزكاة (1496) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .
(4) سنن الترمذي الجمعة (605) ، سنن أبو داود الطهارة (355) ، مسند أحمد بن حنبل (5/61) .(25/62)
السؤال الثاني: هل يجوز نقل دم من كافر إلى صبي مولود من أب وأم مسلمين عند الضرورة؟
الجواب: نعم، يجوز حقن صبي مسلم بدم غيره عند الضرورة، سواء كان من أخذ منه الدم مسلما أم كافرا. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(25/63)
فتوى برقم 1629 وتاريخ 20 \ 7 \ 1397هـ
السؤال الأول: رجل يقول: وضعت امرأتي وامتنع أحد أصدقائي من دخول منزلي بحجة أن المرأة إذا كانت نفساء لا يحل للإنسان أن يأكل من يدها، ويعتبرها نجسة بدنيا وعمليا، مما شككني في معيشتي، فأرجو إفادتي، وحسب ما أعرف أن المرأة النفساء يمتنع عليها الصلاة والصوم وقراءة القرآن.
الجواب: المرأة لا تنجس بحيض ولا نفاس، ولا تحرم مؤاكلتها ولا مباشرتها فيما دون الفرج، إلا أنها تكره مباشرتها فيما بين السرة والركبة فقط؛ لما روى مسلم عن أنس رضي الله عنه «أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصنعوا كل شيء إلا النكاح (1) » . وما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض (2) » . ولا تأثير لتحريم الصلاة والصوم وقراءة القرآن عليها أثناء الحيض أو النفاس على مؤاكلتها
__________
(1) صحيح مسلم الحيض (302) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2977) ، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (369) ، سنن أبو داود النكاح (2165) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (644) ، مسند أحمد بن حنبل (3/247) ، سنن الدارمي الطهارة (1053) .
(2) صحيح البخاري الحيض (301) ، سنن الترمذي الطهارة (132) ، سنن أبو داود الطهارة (268) ، مسند أحمد بن حنبل (6/55) .(25/63)
أو الأكل فيما أعدت بيدها، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(25/64)
فتوى برقم 2036 وتاريخ 3 \ 8 \ 1398هـ
السؤال الأول: ما حكم التصوير في الإسلام؟
الجواب: الأصل في تصوير كل ما فيه روح من الإنسان وسائر الحيوانات أنه حرام، سواء كانت الصورة مجسمة أم رسوما على ورق أو قماش أو جدران ونحوها، أم كانت صورا شمسية؛ لما ثبت في الأحاديث الصحيحة من النهي عن ذلك، وتوعد فاعله بالعذاب الأليم، ولأنها عهد في جنسها أنه ذريعة إلى الشرك بالله بالمثول أمامها والخضوع لها والتقرب إليها، وإعظامها إعظاما لا يليق إلا بالله تعالى، ولما فيها من مضاهاة خلق الله، ولما في بعضها من الفتن كصور الممثلات والنساء العاريات ومن يسمين بملكات الجمال وأشباه ذلك.
ومن الأحاديث التي وردت في تحريمها ودلت على أنها من الكبائر حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم (1) » . رواه البخاري ومسلم. وحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون (2) » . رواه البخاري ومسلم. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5951) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2108) ، سنن النسائي الزينة (5361) ، مسند أحمد بن حنبل (2/55) .
(2) صحيح البخاري اللباس (5950) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2109) ، سنن النسائي الزينة (5364) ، مسند أحمد بن حنبل (1/375) .(25/64)
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة (1) » . رواه البخاري ومسلم.
وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم تلون وجهه وقال: يا عائشة أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله. فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين (2) » . رواه البخاري ومسلم (القرام: الستر، والسهوة: الطاق النافذة في الحائط) .
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة، وليس بنافخ (3) » . رواه البخاري ومسلم.
وحديثه أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس فيعذبه في جهنم (4) » . قال ابن عباس رضي الله عنهما: فإن كنت لا بد فاعلا فاصدع الشجر وما لا روح فيه. رواه البخاري ومسلم.
فدل عموم هذه الأحاديث على تحريم تصوير كل ما فيه روح مطلقا، أما ما لا روح فيه من الشجر والبحار والجبال ونحوها فيجوز تصويرها، كما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما، ولم يعرف عن الصحابة من أنكره عليه، ولما فهم من قوله في أحاديث الوعيد: أحيوا ما خلقتم، وقوله فيها: كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ.
السؤال الثاني: هناك خلاف كبير بين علماء المسلمين في تحديد بدء صوم رمضان وعيد الفطر المبارك، فمنهم من عمل بحديث: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته (5) » ، ومن العلماء من يعتمد على آراء الفلكيين حيث يقولون: إن علماء الفلك قد وصلوا إلى القمة في علم الفلك بحيث يمكنهم معرفة بداية الشهور القمرية، وعلى ذلك يتبعون التقويم.
__________
(1) صحيح البخاري التوحيد (7559) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2111) ، مسند أحمد بن حنبل (2/232) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2105) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2107) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2468) ، سنن ابن ماجه اللباس (3653) ، مسند أحمد بن حنبل (6/246) ، موطأ مالك الجامع (1803) .
(3) صحيح البخاري اللباس (5963) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2110) ، سنن الترمذي اللباس (1751) ، سنن النسائي الزينة (5358) ، سنن أبو داود الأدب (5024) ، مسند أحمد بن حنبل (1/360) .
(4) صحيح البخاري البيوع (2225) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2110) ، سنن الترمذي اللباس (1751) ، سنن النسائي الزينة (5358) ، سنن أبو داود الأدب (5024) ، مسند أحمد بن حنبل (1/308) .
(5) صحيح البخاري الصوم (1909) ، صحيح مسلم الصيام (1081) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2117) ، مسند أحمد بن حنبل (2/497) ، سنن الدارمي الصوم (1685) .(25/65)
الجواب: أولا: القول الصحيح الذي يجب العمل به هو ما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة (1) » من أن العبرة في بدء شهر رمضان وانتهائه برؤية الهلال، فإن شريعة الإسلام التي بعث الله بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عامة خالدة مستمرة إلى يوم القيامة.
ثانيا: إن الله تعالى علم ما كان وما سيكون من تقدم علم الفلك وغيره من العلوم، ومع ذلك قال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (2) .
وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته (3) » الحديث، فعلق صوم شهر رمضان والإفطار منه برؤية الهلال، ولم يعلقه بعلم الشهر بحساب النجوم، مع علمه تعالى بأن علماء الفلك سيتقدمون في علمهم بحساب النجوم وتقدير سيرها، فوجب على المسلمين المصير إلى ما شرعه الله لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من التعويل في الصوم والإفطار على رؤية الهلال، وهو كالإجماع من أهل العلم، ومن خالف في ذلك وعول على حساب النجوم فقوله شاذ لا يعول عليه.
السؤال الثالث: هناك أناس لا يصلون الفرائض الخمس إطلاقا إلا صلاة الجمعة، فما حكم الميت منهم؟ وهل يجب على المسلمين دفنهم والصلاة عليهم؟
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكر فإن تاركها جاحدا لوجوبها عليه فهو كافر بإجماع المسلمين، أما إن تركها كسلا مع اعتقاد وجوبها فهو كافر على الصحيح من أقوال العلماء للأدلة الثابتة الدالة على ذلك. وعلى هذا القول الصحيح لا يغسل ولا يصلي عليه المسلمون صلاة الجنازة ولا يدفن في مقابر المسلمين.
السؤال الرابع: تستخدم في بعض المساجد في الفلبين وغيرها الطبول
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (688) ، سنن النسائي الصيام (2124) ، سنن أبو داود الصوم (2327) ، موطأ مالك الصيام (635) ، سنن الدارمي الصوم (1686) .
(2) سورة البقرة الآية 185
(3) صحيح البخاري الصوم (1909) ، صحيح مسلم الصيام (1081) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2117) ، مسند أحمد بن حنبل (2/497) ، سنن الدارمي الصوم (1685) .(25/66)
لنداء الناس للصلاة، ثم يؤذن بعد ذلك، فهل يجوز ذلك في الإسلام؟
الجواب: الطبول ونحوها من آلات اللهو لا يجوز استعمالها في إعلام الناس عند دخول وقت الصلاة أو قرب دخول وقتها، بل ذلك بدعة ممنوعة، ولو أذن للصلاة بعد استعمالها، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » رواه البخاري ومسلم. وقال العرباض بن سارية رضي الله عنه: «وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فأوصنا. قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، وأنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة (2) » . رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
السؤال الخامس: مما لا شك فيه أن الإسلام أباح تعدد الزوجات. فهل على الزوج أن يطلب رضى زوجته الأولى قبل الزواج بالثانية؟
الجواب: ليس بفرض على الزوج إذا أراد أن يتزوج ثانية أن يرضي زوجته الأولى، لكن من مكارم الأخلاق وحسن العشرة أن يطيب خاطرها بما يخفف عنها الآلام التي هي من طبيعة النساء في مثل هذا الأمر، وذلك بالبشاشة وحسن اللقاء وجميل القول، وبما تيسر من المال إن احتاج الرضى إلى ذلك.
السؤال السادس: هناك حديث شريف يمنع النساء من استعمال الطيب والروائح العطرة، وخاصة عند الذهاب إلى المسجد، فهل يجوز التطيب لتخفيف رائحة جسمها التي لا يزيلها الصابون؟
الجواب: الأصل أنه لا يجوز للمرأة التطيب بما له رائحة عطرة إذا
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(25/67)
أرادت الخروج من بيتها، سواء كان خروجها إلى المسجد أم إلى غيره؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية، وكل عين زانية (1) » . رواه أحمد والنسائي والحاكم من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
وليس هناك رائحة في الجسد لا يزيلها الصابون فيما نعلم حتى تحتاج بعد اغتسالها به إلى استعمال الطيب، وليست المرأة أيضا مطالبة بالذهاب إلى المسجد، بل صلاتها في بيتها خير لها من صلاتها في المسجد.
السؤال السابع: تجري عادة في بعض المساجد في أيام الفطر وفي غيرها من أيام المناسبات الدينية هي تزيين المساجد بأنواع وألوان مختلفة من الكهرباء والزهور، هل يجيز الإسلام هذا العمل أو لا؟ وما دليل الجواز أو المنع؟
الجواب: المساجد بيوت الله، وهي خير بقاع الأرض، أذن الله تعالى أن ترفع وتعظم بتوحيد الله وذكره وإقام الصلاة فيها، ويتعلم الناس بها شئون دينهم وإرشادهم إلى ما فيه سعادتهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة، وبتطهيرها من الرجس والأوثان والأعمال الشركية والبدع والخرافات، ومن الأوساخ والأقذار والنجاسات، وبصيانتها من اللهو واللعب والصخب وارتفاع الأصوات، ولو كان نشد ضالة وسؤالا عن ضائع ونحو ذلك مما يجعلها كالطرق العامة وأسواق التجارة، وبالمنع من الدفن فيها ومن بنائها على القبور، ومن تعليق الصور بها أو رسمها بجدرانها، إلى أمثال ذلك مما يكون ذريعة إلى الشرك، ويشغل بال من يعبد الله فيها، ويتنافى مع ما بنيت من أجله.
وقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك كما هو معروف في سيرته وعمله وبينه لأمته؛ ليسلكوا منهجه ويهتدوا بهديه في احترام المساجد وعمارتها بما فيه رفع لها من إقامة شعائر الإسلام بها مقتدين في ذلك
__________
(1) سنن الترمذي الأدب (2786) ، سنن النسائي الزينة (5126) ، سنن أبو داود الترجل (4173) ، مسند أحمد بن حنبل (4/418) ، سنن الدارمي الاستئذان (2646) .(25/68)
بالرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه عظم المساجد بإنارتها ووضع الزهور عليها في الأعياد والمناسبات، ولم يعرف ذلك أيضا من الخلفاء الراشدين ولا الأئمة المهتدين من القرون الأولى التي شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها خير القرون مع تقدم الناس وكثرة أموالهم وأخذهم من الحضارة بنصيب وافر، وتوفر أنواع الزينة وألوانها في القرون الثلاثة الأولى، والخير كل الخير في اتباع هديه صلى الله عليه وسلم وهدي خلفائه الراشدين، ومن سلك سبيلهم من أئمة الدين بعدهم.
ثم إن في إيقاد السرج عليها أو تعليق لمبات الكهرباء فوقها أو حولها أو فوق مناراتها، وتعليق الرايات والأعلام، ووضع الزهور عليها في الأعياد والمناسبات تزيينا وإعظاما لها تشبها بالكفار فيما يصنعون ببيعهم وكنائسهم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بهم في أعيادهم وعباداتهم.
السؤال الثامن: هل يجوز للمرأة أن ترتدي بنطلونا كالرجال؟
الجواب: ليس للمرأة أن تلبس الملابس الضيقة؛ لما في ذلك من تحديد جسمها، وذلك مثار الفتنة، والغالب في البنطلون أنه ضيق يحدد أعضاء البدن التي يحيط بها ويسترها، كما أنه قد يكون في لبس المرأة للبنطلون تشبه من النساء بالرجال، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال. وصلى الله عليه نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(25/69)
فتوى برقم 4297 وتاريخ 5 \ 1 \ 1402هـ
السؤال الأول: سائل يقول: هل يوجد في الإسلام طرق متعددة مثل(25/69)
الطريقة الشاذلية والطريقة الخلواتية وغيرهما من الطرق؟ وإذا وجدت هذه الطرق فما هو الدليل على ذلك؟ وما معنى قول الحق تبارك وتعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) ؟ وما معنى قوله أيضا: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (2) ؟
ما هي السبل المتفرقة؟ وما هو سبيل الله؟ ثم ما معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي رواه عنه ابن مسعود أنه خط خطا ثم قال: هذا سبيل الرشد. ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطا ثم قال: هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه.
الجواب: لا يوجد في الإسلام شيء من الطرق المذكورة ولا من أشباهها، والموجود في الإسلام هو ما دلت عليه الآيتان والحديث الذي ذكرت، وما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي (3) » . وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك (4) » . والحق هو اتباع القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة الصريحة، وهذا هو سبيل الله، وهو الصراط المستقيم، وهو قصد السبيل، وهو الخط الواضح المستقيم المذكور في حديث ابن مسعود، وما سوى ذلك من الطرق والفرق هي السبل
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153
(2) سورة النحل الآية 9
(3) سنن ابن ماجه الفتن (3992) .
(4) صحيح مسلم الإمارة (1920) ، سنن الترمذي الفتن (2229) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4252) ، سنن ابن ماجه الفتن (3952) ، مسند أحمد بن حنبل (5/279) .(25/70)
المذكورة في قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (1) .
السؤال الثاني: سائل يقول: ما هو حكم الشريعة الإسلامية في زيارة المقابر؛ أي مقابر الصالحين، حيث يذهب الرجل إلى قبر رجل صالح، ويصحبه في هذه الرحلة أهله وأقاربه، بما فيهم النساء، ويأخذون معهم شاة ليذبحوها بجوار القبر، ثم يضعون الطعام ويأكلون ويشربون ويقيمون عند هذا القبر يوما أو بعض يوم، وأحيانا إلى الصباح الباكر، وإن هذا القبر يبعد عن البيت بما لا يقل عن 20 كم، وأكثر وأقل، ثم ينقلون بعضا من اللحم إلى أصدقائهم وأقاربهم في مكان آخر بقصد أن هذا اللحم هدية أو صدقة، ومعلوم أن هذه الذبيحة ذكر عليها اسم الله عند ذبحها، وسمعنا من بعض الناس يقولون: إن هذا اللحم مثل لحم الخنزير تماما؛ أي أنه حرام شرعيا، والله سبحانه وتعالى يقول: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (2) .
مع أن هذه الرحلة من أولها إلى آخرها لم يقصد بها إلا التقرب إلى الله بزيارة قبر هذا الصالح والدعاء عنده والتبرك به والتوسل إلى الله به، وإذا اختلف اثنان يحلفون على قبر هذا الصالح ويقيمون عندهم الموالد سنويا، ومن عاداتنا إذا مرض منا أحد يذهب إلى قبور الصالحين، وإذا أصيب أحدنا بجنون أو مرض شديد يذهب به أقرباؤه إلى قبر الصالح، وأحيانا يبرأ من مرضه أو جنونه بسبب زيارته لذلك الصالح. فما رأي الإسلام في ذلك؟ أفيدونا يرحمكم الله.
الجواب: أولا: لا يجوز شد الرحال لزيارة القبور؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى (3) » .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153
(2) سورة الأنعام الآية 118
(3) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .(25/71)
ثانيا: تشرع زيارة القبور للرجال دون النساء، إذا كانت في البلد؛ أي: بدون شد رحل للعبرة والدعاء لهم إذا كانوا مسلمين؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإنها تذكركم بالآخرة (1) » . واقتداء به صلوات الله وسلامه عليه في زيارته لأهل البقيع والشهداء بأحد والسلام عليهم والدعاء لهم.
ثالثا: دعاء الأموات أو الاستغاثة بهم أو طلب المدد منهم أو الذبح لهم والاعتقاد فيهم أنهم يملكون جلب نفع، أو دفع ضر، أو شفاء مريض، أو رد غائب، كل ذلك وأشباهه شرك أكبر يخرج من ملة الإسلام.
رابعا: الذبح لله عند القبور تبركا بأهلها، وتحري الدعاء عندها، وإطالة المكث عندها؛ رجاء بركة أهلها، والتوسل بجاههم أو حقهم ونحو ذلك بدع محدثة، بل ووسائل من وسائل الشرك الأكبر، فيحرم فعلها، ويجب نصح من يعمله.
خامسا: أما الذبيحة عند القبور تحريا لبركات أهلها، فهو منكر وبدعة، لا يجوز أكلها؛ حسما لمادة الشرك ووسائله وسدا لذرائعه، وإن قصد بالذبيحة التقرب إلى صاحب القبر صار شركا بالله أكبر، ولو ذكر اسم الله عليها؛ لأن عمل القلوب أبلغ من عمل اللسان.
سادسا: أما ما قد يحصل لبعض المرضى الذين يتصلون أو يجيئون إلى القبور، فلا حجة فيه؛ لجواز هذا العمل؛ لأن البرء قد يصادف ذلك الوقت بتقدير الله عز وجل، فيظن الجاهلون أنه بسبب الرجل الصالح الذي في القبر؛ ولأن عباد الأصنام والجن قد تقضى بعض حوائجهم من جهة الشيطان، ولم يكن ذلك دليلا على جواز فعلهم، بل فعلهم شرك بالله وإن قضيت حوائجهم؛ لأن الشياطين قد تقرره بذلك على الثبات على الشرك، ولأن ذلك قد صادف قدرة الله من البرء.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/145) .(25/72)
السؤال الثالث: سائل يقول: ما هو معنى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم المتفق عليه؛ حيث قال: «سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة (1) » . فيمن قيل هذا الحديث؟ وأي زمان الذي أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: هذا الحديث وما في معناه قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الطائفة المسماة بالخوارج؛ لأنهم يغلون في الدين ويكفرون المسلمين بالذنوب التي لم يجعلها الإسلام مكفرة، وقد خرجوا في زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأنكروا عليه أشياء، فدعاهم إلى الحق وناظرهم في ذلك، فرجع كثير منهم إلى الصواب وبقي آخرون، فلما تعدوا على المسلمين قاتلهم علي رضي الله عنه وقاتلهم الأئمة بعده؛ عملا بالحديث المذكور وما جاء في معناه من الأحاديث. ولهم بقايا إلى الآن، والحكم ماض في كل من اعتقد عقيدتهم في كل زمان ومكان.
السؤال الرابع: سائل يقول: هل رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم الصدقة على نفسه وعلى آل بيته حقا، أم لا؟ وإذا حرمت على آل بيته فمن هم آل بيته؟ وهل يوجد أحد من آل بيت الرسول في زمننا هذا؟ وإذا وجد أحد منهم فهل الصدقة أو الزكاة لم تزل محرمة عليه أم هي مقتصرة - أي الحرمة - على آل بيته في زمنه فقط؟
الجواب: ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الصدقة المفروضة لا تحل له ولا لآله عليه الصلاة والسلام، وهم في هذا المقام بنو هاشم، قال ابن قدامة رحمه الله في المغني: لا نعلم خلافا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد
__________
(1) صحيح البخاري استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6930) ، صحيح مسلم الزكاة (1066) ، سنن النسائي تحريم الدم (4102) ، سنن أبو داود السنة (4767) ، مسند أحمد بن حنبل (1/88) .(25/73)
إنما هي أوساخ الناس (1) » . أخرجه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أخذ الحسن رضي الله عنه تمرة من الصدقة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كخ كخ - ليطرحها - وقال: أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة (2) » . متفق عليه. اهـ.
وهذا الحكم قائم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، فمن عرف في أي وقت أو أي مكان أنه من بني هاشم، فإن الصدقة المفروضة لا تحل له، ومن لم يعرف جاز له إذا كان من أهل الزكاة أن يأخذ ما أعطيه منها لسد حاجته.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الزكاة (1072) ، سنن النسائي الزكاة (2609) ، سنن أبو داود كتاب الخراج والإمارة والفيء (2985) ، مسند أحمد بن حنبل (4/166) .
(2) صحيح البخاري الزكاة (1491) ، صحيح مسلم الزكاة (1069) ، مسند أحمد بن حنبل (2/476) ، سنن الدارمي الزكاة (1642) .(25/74)
فتوى برقم 8122 وتاريخ 26 \ 2 \ 1405هـ
السؤال الأول: سائل يقول: انتشر النمل في بلدنا بصورة مذهلة، حيث لا يترك لنا طعاما ولا لباسا إلا أتلفه، بالإضافة إلى أنه يؤذينا في أجسامنا، فهل يجوز لنا قتله؟ وبأي وسيلة نقتله؟ وهل هذا بلاء لنا؟ وكيف ندفعه عنا؟
الجواب: إذا كان الواقع ما ذكر جاز لكم قتل المؤذي منه بأي وسيلة ما عدا النار. ولا شك أن ذلك من الابتلاء والامتحان الذي يدعو للاعتبار والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى.
السؤال الثاني: ما حكم الإسلام في رجل كان يطلق لحيته ثم حلقها، وهو يعلم أدلة تحريمها جيدا، ويقول: إن هذه الأيام يجب أن نأخذ بالرخص؟
الجواب: حلق اللحية حرام، وما ادعاه من الرخصة في هذه الأيام غير صحيح.(25/74)
السؤال الثالث: علاج الصرع عندنا في مصر هو الذهاب إلى الكنيسة، خاصة كنيسة ماري جرجس أو الذهاب إلى السحرة والدجالين الذين ينتشرون في القرى، وأحيانا يأتي بفائدة، فهل هذا يجوز فعله مع العلم بأن الشخص المصروع إذا لم يسرعوا بعلاجه فإنه يهلك ويموت؟
ثم ما العلاج الذي شرعه الله لهذا الداء؛ حيث إن لكل داء دواء إلا الهرم. نرجو التفصيل في الجواب في العلاج وجزاكم الله خيرا؟
الجواب: لا يجوز الذهاب إلى الكنيسة لعلاج الصرع، ولا إلى السحرة ولا إلى الدجالين. أما طرق العلاج المباح فيعالج بالرقى المشروعة، مثل قراءة القرآن كسورة الفاتحة وقل هو الله أحد والمعوذتين وآية الكرسي، وما ورد من الأذكار والأدعية الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(25/75)
فتوى برقم 9120 وتاريخ 27 \ 11 \ 1396هـ
السؤال الأول: هل يجوز للمسلم أن يرقي بأي نوع من الرقى؟
الجواب: تجوز الرقية بما ليس فيه شرك؛ كسور القرآن وآياته، وكالأذكار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتحرم بما فيه شرك كتعويذ المريض بذكر أسماء الجن والصالحين، وبما لا يفهم معناه، خشية أن يكون شركا؛ لما ثبت عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا (1) » . رواه مسلم.
السؤال الثاني: هل يجوز للطبيب أن يعتذر عن الذهاب إلى الفرائض الخمسة في المسجد إذا كانت مسافته بعيدة أو غير بعيدة لازدحام المرضى
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2200) ، سنن أبو داود الطب (3886) .(25/75)
بين يديه وهو يعالجهم بدون أجر يطلبه عندهم، بل في سبيل الله؟
الجواب: ليس له في ذلك العمل عذر يبيح له التخلف عن صلاة الفريضة في الجماعة.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(25/76)
فتوى برقم 9785 وتاريخ 24 \ 8 \ 1406هـ
السؤال الأول: سائل يقول: إن بعض الناس يزورون قبر نبي الله يونس عليه السلام، ويطوفون حول القبر، ويضعون عند القبر الذي أحيط بغرفة من زجاج وألمنيوم، وفيها نوافذ، يضعون من خلال النوافذ أكياسا من الحلوى، وقسم يضع المال وقسم يضع قطع قماش أخضر، والله أعلم بسرائر الناس هل أرادوا بعملهم هذا وجه الله فقط أم أرادوا التقرب إلى الله عن طريق هذا النبي، وتصادر هذه الحلوى والمال وقطع القماش الأوقاف. إلا أن بعض القائمين على هذا المسجد يوزعون من الحلوى للمعرفة (للبركة) وقطع القماش تباع على شكل أشرطة طول 20سم وعرض 5سم بنصف دينار، ثم يضعها المشتري في يده أو جيبه من أجل دفع الضر أو خشية من أن يصاب بسوء، أما المال فالله أعلم به، فهل هذه الحلوى أكلها حلال أم حرام؟ جزاكم الله خير الجزاء.
الجواب: أ- زيارة القبور لغير النساء حسنة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور؛ فإنها تذكركم بالآخرة (1) » .
ب- لا يجوز الطواف حول قبر نبي أو غيره، ولا يجوز وضع طعام
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (976) ، سنن النسائي الجنائز (2034) ، سنن أبو داود الجنائز (3234) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/441) .(25/76)
ولا حلوى ولا غيرها عند القبر، ولا قماش ولا نقود، بل ذلك شرك إذا قصد به التقرب إلى صاحب القبر نبيا كان أو غيره.
جـ- ما ذكرته عن القبر المذكور ليس بصحيح؛ لأنه لا يعلم بقبر أحد من الأنبياء، لا يونس عليه الصلاة والسلام ولا غيره سوى قبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقبر إبراهيم الخليل عليه السلام في فلسطين، ومن ادعى أن قبر يونس وغيره من الأنبياء معروف فقد كذب أو صدق بعض الكاذبين.
د- لو علم قبر يونس أو غيره لم يجز النظر فيه ولا التقرب إليه بشيء من العبادات، ولا تقديم الحلوى والخرق إليه، ولا التمسح به، ولا سؤاله شيئا من الحاجات؛ لقول الله سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (1) . وقوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} (2) . . الآية.
هـ- الحلوى وغيرها مما يقدم للقبور ليس له خصوصية ولا تكتسب به الأشياء من البركة، والواجب أخذها وتوزيعها بين الفقراء؛ لأنها مال قد أعرض عنه أهله.
السؤال الثاني: سائل يقول: عند بعض الناس والمعروفين بالسادة - الدراويش - وعامة الناس إذا ذبح أحدهم شاة قال: باسم الله الله أكبر، ويعتقدون أنه إذا قال أحدهم عند ذبح الذبيحة: بسم الله الرحمن الرحيم يجب أن يترك الشاة ولا يذبحها؛ لأنه جاء اسم الرحمن الرحيم في التسمية، فيجب أن يرحم الشاة ولا يذبحها. فما حكم الإسلام في هذا؟ وما رأيكم في قولهم؟
الجواب: لا يترك ذبح الشاة من أجل ذلك، بل يتم ذبحها، ويعلم الذابح
__________
(1) سورة الجن الآية 18
(2) سورة يونس الآية 107(25/77)
الاقتصار في التسمية على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن يقول عند الذبح: باسم الله والله أكبر.
السؤال الثالث: بماذا تنصحوني وأنا أعيش في هذا العصر الذي كثرت فيه البدع والإلحاد والفساد وكثر تاركو الصلاة، جزاكم الله خير الجزاء؟
الجواب: نوصيك بتقوى الله وننصحك بما نصح به النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان، فقد ثبت عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: «كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. فقلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله، صفهم لنا. قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ فقال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك (1) » .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3606) ، صحيح مسلم الإمارة (1847) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4244) ، سنن ابن ماجه الفتن (3979) ، مسند أحمد بن حنبل (5/387) .(25/78)
من فتاوى:
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
السؤال الأول: ما حكم بيع كيس السكر ونحوه بمبلغ مائة وخمسين ريالا إلى أجل وهو يساوي مبلغ مائة ريال نقدا؟
الجواب: إن هذه المعاملة لا بأس بها؛ لأن بيع النقد غير التأجيل، ولم يزل المسلمون يستعملون مثل هذه المعاملة، وهو كالإجماع منهم على جوازها، وقد شذ بعض أهل العلم فمنع الزيادة لأجل الأجل، وظن ذلك من الربا، وهو قول لا وجه له، وليس من الربا في شيء؛ لأن التاجر حين باع السلعة إلى أجل، إنما وافق على التأجيل من أجل انتفاعه بالزيادة، والمشتري إنما رضي بالزيادة من أجل المهلة وعجزه عن تسليم الثمن نقدا، فكلاهما منتفع بهذه المعاملة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على جواز ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمر عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن يجهز جيشا، فكان يشتري البعير بالبعيرين إلى أجل، ثم هذه المعاملة تدخل في عموم قول الله سبحانه:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1) الآية.
وهذه المعاملة من المداينات الجائزة الداخلة في الآية المذكورة، وهي من جنس معاملة بيع السلم؛ فإن البائع في السلم يبيع من ذمته حبوبا أو غيرها مما يصح السلم فيه بثمن حاضر أقل من الثمن الذي يباع به المسلم فيه وقت السلم؛ لكون المسلم فيه مؤجلا والثمن معجلا، فهو
__________
(1) سورة البقرة الآية 282(25/79)
عكس المسألة سألتم عنها، وهو جائز بالإجماع، وهو مثل البيع إلى أجل في المعنى، والحاجة إليه ماسة كالحاجة إلى السلم، والزيادة في السلم مثل الزيادة في البيع إلى أجل سببها فيهما تأخير تسليم المبيع في مسألة السلم وتأخير تسليم الثمن في مسألة البيع إلى أجل، لكن إذا كان مقصود المشتري لكيس السكر ونحوه بيعه والانتفاع بثمنه، وليس مقصوده الانتفاع بالسلعة نفسها، فهذه المعاملة تسمى مسألة (التورق) ، ويسميها بعض العامة (الوعدة) ، وقد اختلف العلماء في جوازها على قولين، أحدهما أنها ممنوعة أو مكروهة؛ لأن المقصود منها شراء دراهم بدراهم، وإنما السلعة المبيعة واسطة غير مقصودة. والقول الثاني للعلماء جواز هذه المعاملة لمسيس الحاجة إليها؛ لأنه ليس كل أحد اشتدت حاجته إلى النقد يجد من يقرضه بدون ربا، ولدخولها في عموم قوله سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (1) . وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2) .
ولأن الأصل في الشرع حل جميع المعاملات إلا ما قام الدليل على منعه ولا نعلم حجة شرعية تمنع هذه المعاملة.
وأما تعليل من منعها أو كرهها لأن مقصود التجار غالبا في المعاملات هو تحصيل نقود أكثر بنقود أقل، والسلع المبيعة هي الواسطة في ذلك، وإنما يمنع مثل هذا العقد إذا كان البيع والشراء من شخص واحد كمسألة العينة؛ فإن ذلك يتخذ حيلة على الربا، وصورة ذلك أن يشتري شخص سلعة من آخر بثمن في الذمة، ثم يبيعها عليه بثمن أقل ينقده إياه، فهذا ممنوع شرعا؛ لما فيه من الحيلة على الربا، وتسمى هذه المسألة مسألة العينة، وقد ورد فيها من حديث
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 282(25/80)
عائشة وابن عمر رضي الله عنهما ما يدل على منعها. أما مسألة التورق التي يسميها بعض الناس الوعدة فهي معاملة أخرى ليست من جنس مسألة العينة؛ لأن المشتري فيها اشترى السلعة من شخص إلى أجل وباعها من آخر نقدا من أجل حاجته للنقد، ليس في ذلك حيلة على الربا؛ لأن المشتري غير البائع، ولكن كثيرا من الناس في هذه المعاملة لا يعملون بما يقتضيه الشرع في هذه المعاملة، فبعضهم يبيع ما لا يملك ثم يشتري السلعة بعد ذلك ويسلمها للمشتري، وبعضهم إذا اشتراها يبيعها وهي في محل البائع قبل أن يقبضها القبض الشرعي، وكلا الأمرين غير جائز؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لحكيم بن حزام: «لا تبع ما ليس عندك (1) » .
وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يحل سلف وبيع، ولا بيع ما ليس عندك (2) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه (3) » . قال ابن عمر رضي الله عنهما: «كنا نشتري الطعام جزافا فيبعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ينهانا أن نبيعه حتى ننقله إلى رحالنا (4) » . وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أيضا أنه نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم.
ومن هذه الأحاديث وما جاء في معناها يتضح لطالب الحق أنه لا يجوز للمسلم أن يبيع سلعة ليست في ملكه ثم يذهب فيشتريها، بل الواجب تأخير بيعها حتى يشتريها ويحوزها إلى ملكه، ويتضح أيضا أن ما يفعله كثير من الناس من بيع السلع وهي في محل البائع قبل نقلها إلى ملك المشتري، أو إلى السوق، أمر لا يجوز؛ لما فيه من مخالفة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما فيه من التلاعب بالمعاملات وعدم التقيد فيها بالشرع المطهر، وفي ذلك من الفساد والشرور والعواقب الوخيمة ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، نسأل الله لنا ولجميع المسلمين التوفيق للتمسك بشرعه والحذر مما يخالفه.
أما الزيادة التي تكون بها المعاملة من المعاملات الربوية فهي التي تبذل لدائن بعد حلول الأجل ليمهل المدين وينظره، فهذه
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4613) ، سنن أبو داود البيوع (3503) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) .
(2) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (3/403) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/22) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(4) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .(25/81)
الزيادة هي التي كان يفعلها أهل الجاهلية ويقولون للمدين قولهم المشهور: إما أن تقضي وإما أن تربي. فمنع الإسلام ذلك وأنزل الله فيه قوله سبحانه: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (1) .
وأجمع العلماء على تحريم هذه الزيادة، وعلى تحريم كل معاملة يتوسل بها إلى تحليل هذه الزيادة، مثل أن يقول الدائن للمدين: اشتر مني سلعة من سكر أو غيره إلى أجل ثم بعها بالنقد وأوفني حقي الأول؛ فإن هذه المعاملة حيلة ظاهرة على استحلال الزيادة الربوية التي يتعاطاها أهل الجاهلية لكن بطريق آخر غير طريقهم. فالواجب تركها والحذر منها وإنظار المدين المعسر حتى يسهل الله له القضاء، كما أن الواجب على المدين المعسر أن يتقي الله ويعمل الأسباب الممكنة المباحة لتحصيل ما يقضي به الدين ويبرئ به ذمته من حق الدائنين، وإذا تساهل في ذلك ولم يجتهد في أسباب قضاء ما عليه من الحقوق فهو ظالم لأهل الحق، غير مؤد للأمانة، فهو في حكم الغني المماطل، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مطل الغني ظلم (2) » وقال عليه الصلاة والسلام: «لي الواجد يحل عرضه وعقوبته (3) » . والله المستعان.
ومن المعاملات الربوية أيضا ما يفعله بعض البنوك وبعض التجار من الزيادة في القرض إما مطلقا وإما في كل سنة شيئا معلوما، فالأول مثل أن يقرضه ألفا على أن يرد إليه ألفا ومائة، أو يسكنه داره أو دكانه أو يعيره سيارته أو دابته مدة معلومة، أو ما أشبه ذلك من الزيادات.
وأما الثاني فهو أن يجعل له كل سنة أو كل شهر ربحا معلوما في مقابل استعماله المال الذي دفعه إليه المقرض، سواء دفعه باسم القرض أم باسم الأمانة؛ فإنه متى قبضه باسم الأمانة للتصرف فيه كان قرضا مضمونا
__________
(1) سورة البقرة الآية 280
(2) صحيح البخاري الحوالات (2287) ، صحيح مسلم المساقاة (1564) ، سنن الترمذي البيوع (1308) ، سنن النسائي البيوع (4691) ، سنن أبو داود البيوع (3345) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2403) ، مسند أحمد بن حنبل (2/380) ، موطأ مالك البيوع (1379) ، سنن الدارمي البيوع (2586) .
(3) سنن النسائي البيوع (4689) ، سنن أبو داود الأقضية (3628) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2427) ، مسند أحمد بن حنبل (4/388) .(25/82)
ولا يجوز أن يدفع إلى صاحبه شيئا من الربح، إلا أن يتفق هو والبنك أو التاجر على استعمال ذلك المال على وجه المضاربة، بجزء مشاع معلوم من الربح لأحدهما والباقي للآخر، وهذا القسط يسمى أيضا القراض، وهو جائز بالإجماع؛ لأنهما قد اشتركا في الربح والخسران، والمال الأساسي في هذا العقد في حكم الأمانة في يد العامل إذا أتلف من غير تعد ولا تفريط لم يضمنه، وليس له عن عمله إلا الجزء المشاع المعلوم من الربح المتفق عليه في العقد.
وبهذا تتضح المعاملة الشرعية والمعاملة الربوية.(25/83)
السؤال الثاني: أرجو التفضل بإفادتي عن تسلسل جرح البينة، مثل أن يقيم المدعي بينة على دعواه، ثم يقيم المدعى عليه بينة على جرحها، فهل تسمع البينة لجرح بينة الجرح ولو طال التسلسل أم لا؟ ولماذا في كلا الحالتين؟
الجواب: قد دل الكتاب والسنة على اعتبار العدالة في البينات؛ كما في قوله سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (1) .
وقوله عز وجل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (2) .
ومعلوم أن الأصل براءة الذمة من الحقوق، فلا تثبت إلا بأمر يعتمد عليه، ولا ريب أن شهادة الفساق والمجهولين لا يجوز الاعتماد عليها، فاتضح بذلك أنه لا بد من العدالة في البينة والمزكين لها والجارحين لها أو للمزكين، ولهذا صرح أهل العلم بأن الشهادة والتزكية والجرح إنما تقبل من ذوي العدالة والمعرفة بحال البينة المزكاة والمجروحة، فعلم بهذا كله أنه لا بد من التحقق من حال البينة التي يعتمد الحاكم عليها في الحكم، ولو أفضى
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة البقرة الآية 282(25/83)
إلى التسلسل حتى يصل إلى العدالة المطلوبة حسب الإمكان، فإذا لم يتيسر ذلك ساغ له الحكم بما يغلب على الظن ثبوت الحق، ولو أفضى ذلك إلى تحليف المدعي مع بينته، أما تفريق الشهود عند أداء الشهادة فينبغي أن يعمل به عند الحاجة؛ خوفا من تواطئهم على الكذب.
والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. .(25/84)
السؤال الثالث:
سائل يقول: أنا شخص أصلي والحمد لله، ومع ذلك أدخن وأستمع إلى الأغاني وأتفرج على التلفاز وأحيانا الفيديو، وكل هدفي في حياتي هو جمع مبلغ من المال في السعودية والسفر بعد ذلك إلى بلدي؛ وذلك لكي أحسن مستواي الاجتماعي، وأن يكون أولادي مستوري الحال، ولي زوجة تعمل في وظيفة مختلطة بالرجال، وهي غير ملتزمة بالحجاب، وكذلك لي بنت تتعلم في مدرسة مختلطة، وهي ليست بالصغيرة، وكذلك لي أولاد يتعلمون في المدارس الحكومية التي لا تهتم بالتعليم الديني.
وقال لي أحد الناصحين: إن صلاتك لا تنفعك؛ لأنك "جاهل بالتوحيد" "ولا تكفر بالطواغيت" ولا تعادي الكفار والمشركين من اليهود والنصارى، وتحب المسلمين وتقف في صفهم، وإن لم تفعل هذا فقد تموت على غير الإسلام.
فهل صلاتي لا تنفع طالما أنني جاهل بالتوحيد وغير كافر بالطاغوت، مع أني لا أعرف الطاغوت؟
وهل إذا مت على هذه الحالة يعذرني الله لأنني "جاهل"؟
وما موقف أبي ووالدتي اللذين ماتا على هذه الحالة؟
الجواب: نفيدك بأن ما ذكره لك هذا الناصح فيه إجمال، والواجب على كل مسلم تخصيص الله بالعبادة، وإخلاصها له سبحانه؛ من الدعاء(25/84)
والخوف والرجاء والتوكل والصلاة والصوم والذبح والنذر ونحو ذلك. وهذا هو معنى لا إله إلا الله؛ لأن معناها لا معبود حق إلا الله كما قال سبحانه في سورة الحج: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (1) .
ولا بد مع ذلك من الكفر بجميع الطواغيت، وهي المعبودات من دون الله؛ كالأصنام ونحوها، ومعنى ذلك البراءة من عبادة غير الله، واعتقاد بطلانها، كما قال الله سبحانه: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (2) .
ويدخل في ذلك البراءة من عبادة الجهلة لأصحاب القبور؛ كعبادة الحسين والبدوي ونحو ذلك، وعليك يا أخي أيضا ترك ما حرم الله عليك من التدخين واستماع الأغاني ومشاهدة ما حرم الله مشاهدته من النساء السافرات وشبه العاريات ونحو ذلك، ومنع ابنتك من الدراسة المختلطة وزوجتك من العمل المختلط؛ صيانة لهما عن الفتنة، مع الحرص على تعليم أولادك حقيقة الإسلام بواسطة بعض المعلمين الطيبين. وفقنا الله وإياك للعلم النافع والعمل الصالح، ورزقنا وإياك وسائر إخواننا الفقه في دينه والسلامة من أسباب غضبه، إنه سميع قريب. .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
__________
(1) سورة الحج الآية 62
(2) سورة البقرة الآية 256(25/85)
السؤال الرابع: هل يعذر المسلم إذا فعل شيئا من الشرك كالذبح والنذر لغير الله جاهلا؟
الجواب: الأمور قسمان: قسم يعذر فيه بالجهل، وقسم لا يعذر فيه بالجهل. فإذا كان من أتى ذلك بين المسلمين، وأتى الشرك بالله، وعبد غير الله، فإنه لا يعذر؛ لأنه مقصر لم يسأل، ولم يتبصر في دينه، فيكون غير(25/85)
معذور في عبادته غير الله من أموات أو أشجار أو أحجار أو أصنام، لإعراضه وغفلته عن دينه، كما قال الله سبحانه:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} (1) .
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما استأذن ربه أن يستغفر لأمه لأنها ماتت في الجاهلية، لم يؤذن له ليستغفر لها؛ لأنها ماتت على دين قومها عباد الأوثان، ولأنه صلى الله عليه وسلم قال لشخص سأله عن أبيه، قال: هو في النار. . فلما رأى ما في وجهه قال: إن أبي وأباك في النار.
لأنه مات على الشرك بالله، وعلى عبادة غيره سبحانه وتعالى، فكيف بالذي بين المسلمين وهو يعبد البدوي، أو يعبد الحسين، أو يعبد الشيخ عبد القادر الجيلاني، أو يعبد الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم، أو يعبد عليا أو يعبد غيرهم؟!
فهؤلاء وأشباههم لا يعذرون من باب أولى؛ لأنهم أتوا الشرك الأكبر وهم بين المسلمين، والقرآن بين أيديهم. . وهكذا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم موجودة بينهم، ولكنهم عن ذلك معرضون.
والقسم الثاني: من يعذر بالجهل؛ كالذي ينشأ في بلاد بعيدة عن الإسلام في أطراف الدنيا، أو لأسباب أخرى كأهل الفترة ونحوهم ممن لم تبلغهم الرسالة، فهؤلاء معذورون بجهلهم، وأمرهم إلى الله عز وجل، والصحيح أنهم يمتحنون يوم القيامة فيؤمرون، فإن أجابوا دخلوا الجنة، وإن عصوا دخلوا النار؛ لقوله جل وعلا: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (2) ولأحاديث صحيحة وردت في ذلك.
وقد بسط العلامة ابن القيم رحمه الله الكلام في هذه المسألة في آخر كتابه: طريق الهجرتين لما ذكر طبقات المكلفين، فليراجع هناك لعظم فائدته.
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 3
(2) سورة الإسراء الآية 15(25/86)
السؤال الخامس: هل يجوز التوسل بجاه فلان أو حق فلان، وهل تجوز معاشرة الفساق وصحبتهم؟
الجواب: البدع التي لم يشرعها الله عند جمهور أهل العلم، وإنما المشروع التوسل إلى الله سبحانه وتعالى، بأسمائه وصفاته وتوحيده ومحبته والإيمان به، وبالأعمال الصالحات، كما قال سبحانه:
{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1) .
ولم يقل سبحانه: فادعوه بجاه محمد أو بجاه الأنبياء أو بجاه الأولياء أو بحق بيته العتيق أو نحو ذلك، وإنما قال سبحانه:
{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (2)
أي بأسمائه هو وصفاته، ويدعى أيضا بتوحيده كما جاءت الأحاديث بذلك، ومنها الحديث عن بريدة رضي الله عنه قال: «سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقول: "اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد". فقال: والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى (3) » . أخرجه أبو داود والترمذي.
ومن ذلك حديث أهل الغار الذين انطبقت عليهم صخرة لما آووا إلى الغار، في ليل فيه مطر، فقد انطبقت عليهم صخرة وسدت عليهم فم الغار ولم يستطيعوا الخروج، فقالوا فيما بينهم: لا ينجينا من هذا إلا أن نتوسل إلى الله بأعمالنا الخالصة، فتوسلوا إلى الله، فتوسل أحدهم إلى الله ببره لوالديه، والثاني توسل بعفته عن الزنا، والثالث توسل بأدائه للأمانة، ففرج الله عنهم.
فعلم بذلك مما ذكرنا أن العبد إذا توسل إلى الله بأسمائه أو بتوحيده،
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180
(2) سورة الأعراف الآية 180
(3) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان. البخاري \ العلم \ 28.(25/87)
أو بإيمانه به ومحبته له، أو بالإيمان بنبيه صلى الله عليه وسلم ومحبته له، أو بأداء ما افترض الله عليه من طاعته، أو بترك ما حرم عليه، فهو توسل مشروع وصاحبه حري بالإجابة.
وأما معاشرة الفساق ومجالستهم فلا تجوز؛ لأنهم يجرون إلى فسقهم وضلالهم، لكن إذا خالطهم للدعوة إلى الله، وإنكار ما هم عليه من الباطل، وتوجيههم للخير، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، فهذا لا بأس به؛ لأن المسلم مأمور بذلك، أما من يتخذهم أصحابا وخلانا يجالسهم، ويأكل معهم، ويأنس بهم فذلك لا يجوز.(25/88)
السؤال السادس: من يتحاكم إلى القوانين العرفية، والقوانين القبلية، هل حققوا معنى لا إله إلا الله؟
الجواب: أما تحكيم القوانين والأعراف القبلية فهذا منكر لا يجوز، والواجب تحكيم شرع الله، كما قال سبحانه:
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) .
والواجب على جميع الدول المدعية الإسلام أن تحكم شرع الله، وأن تدع تحكيم القوانين. وعلى القبيلة أي قبيلة أن ترجع إلى حكم الله، ولا ترجع إلى قوانينها وأعرافها وسوالف آبائها.
أما الصلح فلا بأس به من غير إلزام. . فإذا أصلح شيخ القبيلة أو أحد أفراد القبيلة وأعيانها بين متخاصمين، صلحا لا يخالف شرع الله، بأن أشاروا على هذا بأن يسقط بعض حقه، وهذا بأن يتسامح عن بعض حقه، وهذا بأن يعفو، فلا بأس بهذا، أما أن يلزموهم بقوانين ترجع إلى أسلافهم وآبائهم فهذا لا يجوز.
أما الصلح بالتراضي على أن يسمح عن بعض
__________
(1) سورة النساء الآية 65(25/88)
حقه، أو يسمح عن سبه لأخيه، أو ما أشبه ذلك، فهذا لا بأس به؛ لقول الله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (1) .
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما (2) » .
__________
(1) سورة النساء الآية 128
(2) سنن الترمذي الأحكام (1352) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2353) .(25/89)
السؤال السابع: سمعت لك فتوى على أحد الأشرطة بجواز الزواج في بلاد الغربة، وهو ينوي تركها بعد فترة معينة، كحين انتهاء الدورة أو الابتعاث. فما هو الفرق بين هذا الزواج وزواج المتعة، وماذا لو أنجبت زوجته طفلة، هل يتركها في بلاد الغربة مع أمها المطلقة. . أرجو الإيضاح؟
الجواب: نعم لقد صدر فتوى من اللجنة الدائمة وأنا رئيسها بجواز النكاح بنية الطلاق إذا كان ذلك بين العبد وبين ربه، إذا تزوج في بلاد غربة ونيته أنه متى انتهى من دراسته، أو من كونه موظفا وما أشبه ذلك أن يطلق، فلا بأس بهذا عند جمهور العلماء. وهذه النية تكون بينه وبين الله سبحانه، وليست شرطا.
والفرق بينه وبين المتعة: أن نكاح المتعة يكون فيه شرط مدة معلومة كشهر أو شهرين أو سنة أو سنتين ونحو ذلك، فإذا انقضت المدة المذكورة انفسخ النكاح، هذا هو نكاح المتعة الباطل، أما كونه تزوجها على سنة الله ورسوله، ولكن في قلبه أنه متى انتهى من البلد سوف يطلقها، فهذا لا يضره، وهذه النية قد تتغير وليست معلومة وليست شرطا، بل هي بينه وبين الله، فلا يضره ذلك، وهذا من أسباب عفته عن الزنا والفواحش، وهذا قول جمهور أهل العلم، حكاه عنهم صاحب المغني موفق الدين ابن قدامة رحمه الله.(25/89)
السؤال الثامن: هل تؤكل ذبيحة من لا تعرف عقيدته، ومن يستسهل المعاصي وهو يعلم أنها حرام، ومن يعرف عنه دعاء الجن بدون قصد؟(25/89)
الجواب: إذا كان لا يعرف بالشرك فذبيحته حلال إذا كان مسلما يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ولا يعرف عنه ما يقتضي كفره، فإن ذبيحته تكون حلالا، إلا إذا عرف عنه أنه قد أتى بشيء من الشرك كدعاء الجن أو دعاء الأموات، والاستغاثة بهم، فهذا نوع من الشرك الأكبر، ومثل هذا لا تؤكل ذبيحته. ومن أمثلة دعاء الجن أن يقول: افعلوا كذا أو افعلوا كذا أو أعطوني كذا أو افعلوا بفلان كذا، وهكذا من يدعو أصحاب القبور أو يدعو الملائكة ويستغيث بهم أو ينذر لهم، فهذا كله من الشرك الأكبر. نسأل الله السلامة والعافية.
أما المعاصي فهي لا تمنع من أكل ذبيحة من يتعاطى شيئا منها إذا لم يستحلها، بل هي حلال إذا ذبحها على الوجه الشرعي، أما من يستحل المعاصي فهذا يعتبر كافرا، كأن يستحل الزنا، أو الخمر، أو الربا، أو عقوق الوالدين، أو شهادة الزور ونحو ذلك من المحرمات المجمع عليها بين المسلمين. نسأل الله العافية من كل ما يغضبه.(25/90)
بيان معنى لا إله إلا الله
سماحة الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهداة إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن هذه الكلمة هي أصل الدين، وأساس الملة، وهي التي فرق الله بها بين الكافر والمسلم، وهي التي دعت إليها الرسل جميعا، وأنزلت من أجلها الكتب، وخلق من أجلها الثقلان الجن والإنس، دعا إليها آدم أبونا عليه الصلاة والسلام، وسار عليها هو وذريته إلى عهد نوح، ثم وقع الشرك في قوم نوح، فأرسل الله إليهم نوحا عليه الصلاة والسلام يدعوهم إلى توحيد الله ويقول لهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (1) وهكذا هود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وغيرهم من الرسل كلهم دعوا أممهم إلى هذه الكلمة. . إلى توحيد الله والإخلاص له وترك عبادة ما سواه، وآخرهم وخاتمهم وأفضلهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، بعثه الله إلى قومه بهذه الكلمة وقال لهم: «يا قوم، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا (2) » ، وأمرهم بإخلاص العبادة لله وحده، وأن يدعوا ما عليه آباؤهم وأسلافهم من الشرك بالله وعبادة الأصنام والأوثان والأشجار والأحجار وغير ذلك،، فاستنكرها المشركون وقالوا:
{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (3) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 59
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/492) .
(3) سورة ص الآية 5(25/91)
لأنهم قد اعتادوا عبادة الأصنام والأوثان والأولياء والأشجار وغير ذلك والذبح لهم والنذر لهم، وطلبهم قضاء الحاجات وتفريج الكروب، فاستنكروا هذه الكلمة؛ لأنها تبطل آلهتهم ومعبوداتهم من دون الله.
وقال سبحانه في سورة الصافات: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (1) {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (2) .
فسموا النبي عليه الصلاة والسلام شاعرا مجنونا بجهلهم وضلالهم وعنادهم، وهم يعلمون أنه أصدق الناس وأنه الأمين، وأنه أعقل الناس، وأنه ليس بشاعر، ولكنه الجهل والظلم والعدوان والمغالطة والتكذيب والتشبيه على الناس، فكل من لم يحقق هذه الكلمة ويعرف معناها ويعمل بها فليس بمسلم، فالمسلم هو الذي يوحد الله ويخصه بالعبادة دون كل ما سواه، فيصلي له ويصوم له ويدعوه وحده ويستغيث به وينذر ويذبح له إلى غير ذلك من أنواع العبادات، ويعلم يقينا أن الله سبحانه هو المستحق للعبادة، وأن ما سواه لا يستحقها، سواء كان نبيا أو ملكا أو وليا أو صنما أو شجرا أو جنيا أو غير ذلك، كلهم لا يستحقون العبادة، بل هي حق لله وحدة، ولهذا قال الله عز وجل:
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (3) .
يعني أمر وأوصى ألا تعبدوا إلا إياه، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، وهو أنه لا معبود حق إلا الله، فهي نفي وإثبات؛ نفي للإلهية عن غير الله، وإثبات لها بحق لله وحده سبحانه وتعالى. فالإلهية التي يوصف بها غير الله باطلة، وهي لله وحده بحق ثابت له سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (4) .
__________
(1) سورة الصافات الآية 35
(2) سورة الصافات الآية 36
(3) سورة الإسراء الآية 23
(4) سورة الحج الآية 62(25/92)
فالعبادة لله وحده دون كل ما سواه، وأما صرف الكفار لها لغيره سبحانه فذلك باطل ووضع لها في غير محلها، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) .
وقال سبحانه في سورة الفاتحة، وهي أعظم سورة:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) .
أمر الله المؤمنين أن يقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (3) يعني نعبدك وحدك وإياك نستعين وحدك، وقال عز وجل:
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (4) .
وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (5) .
وقال عز وجل: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (6) .
وقال سبحانه: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (7) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (8) .
إلى غير ذلك من آيات كثيرات كلها تدل على أنه سبحانه هو المستحق للعبادة، وأن المخلوقين لا حظ لهم فيها، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، وتفسيرها وحقيقتها تخص العبادة بحق لله وحده وتنفيها بحق عما سواه.
ومعلوم أن عبادة غير الله موجودة، وقد عبدت أصنام وأوثان من دون الله، وعبد فرعون من دون الله، وعبدت الملائكة من دون الله، وعبدت الرسل من دون الله، وعبد الصالحون من دون الله، كل ذلك قد وقع ولكنه باطل، وهو خلاف الحق، والمعبود بالحق هو الله وحده سبحانه وتعالى.
__________
(1) سورة البقرة الآية 21
(2) سورة الفاتحة الآية 5
(3) سورة الفاتحة الآية 5
(4) سورة النساء الآية 36
(5) سورة البينة الآية 5
(6) سورة غافر الآية 14
(7) سورة الزمر الآية 2
(8) سورة الزمر الآية 3(25/93)
وكلمة لا إله إلا الله نفي وإثبات كما سبق، نفي للعبادة بحق عن غير الله كائنا من كان، وإثبات العبادة لله وحده بالحق، كما قال جل وعلا عن إبراهيم الخليل عليه السلام أنه قال لأبيه وقومه:
{إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} (1) {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} (2) {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} (3) .
وقال سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (4) ، وهذا قول الرسل جميعا؛ لأن قوله سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} (5)
يعني به الرسل جميعا، وهم الذين معه من أولهم إلى آخرهم، ودعوتهم دعوته، وكلمتهم هي البراءة من عبادة غير الله، ومن المعبودين من دون الله الذين رضوا بالعبادة لهم ودعوا إليها، فالمؤمن يتبرأ منهم وينكر عبادتهم، ويؤمن بالله وحده المعبود الحق سبحانه وتعالى؛ ولهذا قال سبحانه في الآية السابقة عن إبراهيم أنه قال لأبيه وقومه:
{إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} (6) {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} (7)
وهو الله سبحانه وتعالى الذي فطره وفطر غيره، فإنه لا يتبرأ من عبادته، وإنما يتبرأ من عبادة غيره، فالبراءة تكون من عبادة غيره سبحانه، أما هو الذي فطر العباد وخلقهم وأوجدهم من العدم وغذاهم بالنعم فهو المستحق العبادة سبحانه وتعالى، فهذا هو مدلول هذه الكلمة ومعناها ومفهومها، وحقيقتها البراءة من عبادة غير الله وإنكارها واعتقاد بطلانها
__________
(1) سورة الزخرف الآية 26
(2) سورة الزخرف الآية 27
(3) سورة الزخرف الآية 28
(4) سورة الممتحنة الآية 4
(5) سورة الممتحنة الآية 4
(6) سورة الزخرف الآية 26
(7) سورة الزخرف الآية 27(25/94)
والإيمان بأن العبادة بحق لله وحده سبحانه وتعالى، وهذا معنى قوله جل وعلا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) .
ومعنى يكفر بالطاغوت ينكر عبادة الطاغوت ويتبرأ منها، والطاغوت: اسم لكل ما عبد من دون الله، فكل معبود من دون الله يسمى طاغوتا، فالأصنام والأشجار والأحجار والكواكب المعبودة من دون الله كلها طواغيت، وهكذا من عبد وهو راض كفرعون ونمرود وأشباههما يقال له: طاغوت.
وهكذا الشياطين طواغيت؛ لأنهم يدعون إلى الشرك، وأما من عبد من دون الله ولم يرض بذلك كالأنبياء والصالحين والملائكة فهؤلاء ليسوا طواغيت، وإنما الطاغوت الشيطان الذي دعا إلى عبادتهم من جن وإنس.
أما الرسل والأنبياء والصالحون والملائكة فهم براء من ذلك، وليسوا طواغيت؛ لأنهم أنكروا عبادتهم وحذروا منها وبينوا أن العبادة حق الله وحده سبحانه وتعالى؛ كما قال جل وعلا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} (2) يعني ينكر عبادة غير الله ويتبرأ منها ويجحدها ويبين أنها باطلة.
{وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} (3) يعني يؤمن بأن الله هو المعبود بالحق، وأنه هو المستحق للعبادة، وأنه رب العالمين، وأنه الخلاق العليم رب كل شيء ومليكه، العالم بكل شيء والقاهر فوق عباده، وهو فوق العرش فوق السماوات سبحانه وتعالى، وعلمه في كل مكان، وهو المستحق العبادة جل وعلا، فلا يتم الإيمان ولا يصح إلا بالبراءة من عبادة غير الله وإنكارها واعتقاد بطلانها، والإيمان
__________
(1) سورة البقرة الآية 256
(2) سورة البقرة الآية 256
(3) سورة البقرة الآية 256(25/95)
بأن الله هو المستحق للعبادة سبحانه وتعالى، وهذا هو معنى قوله سبحانه في سورة الحج: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (1) .
وفي سورة لقمان: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (2) .
وهو معنى الآيات السابقات، وهي قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (3) . وقوله جل وعلا: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (4) . وقوله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (5) . إلى غير ذلك من الآيات.
وكان الناس في عهد آدم وبعده إلى عشرة قرون كلهم على توحيد الله كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، ثم وقع الشرك في قوم نوح فعبدوا مع الله ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا، كما ذكر الله ذلك في سورة نوح، فأرسل الله إليهم نوحا عليه الصلاة والسلام يدعوهم إلى توحيد الله وينذرهم نقمة الله وعقابه، فاستمروا في طغيانهم وكفرهم وضلالهم ولم يؤمن به منهم إلا القليل، فأكثرهم ومعظمهم استكبروا عن ذلك كما بين الله ذلك في كتابه العظيم، فماذا فعل الله بهم؟ فعل بهم ما بينه لنا في كتابه العظيم من إهلاكهم بالطوفان، وهو الماء العام الذي ملأ الأرض وعلا فوق الجبال وأغرق الله به من كفر بالله وعصى رسوله نوحا، ولم ينج إلا من كان مع نوح في السفينة؛ كما قال سبحانه:
{فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} (6) .
وهذا عقابهم في العاجل في الدنيا، ولهم عقاب آخر في الآخرة، وهو العذاب في النار يوم القيامة. . نسأل الله العافية، ثم جاءت عاد بعد ذلك
__________
(1) سورة الحج الآية 62
(2) سورة لقمان الآية 30
(3) سورة البقرة الآية 21
(4) سورة النساء الآية 36
(5) سورة البينة الآية 5
(6) سورة العنكبوت الآية 15(25/96)
وأرسل الله إليهم هودا بعد نوح، فسلكوا مسلك من قبلهم من قوم نوح في العناد والكفر بالله والضلال، فأرسل الله عليهم الريح العقيم فأهلكوا عن آخرهم، ولم ينج منهم إلا من آمن بهود وهم القليل، ثم جاء بعدهم قوم صالح وهم ثمود فسلكوا مسلك من قبلهم من الأمتين أمة نوح وأمة هود، فعصوا الرسل واستكبروا عن الحق، فأخذهم الله بعقاب الصيحة والرجفة حتى هلكوا عن آخرهم، ولم ينج إلا من آمن بنبيه صالح عليه الصلاة والسلام، ثم جاء بعدهم الأمم الأخرى أمة إبراهيم وأمه لوط وأمة يعقوب وإسحاق ويوسف، ثم جاء بعدهم موسى وهارون وداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء، كلهم دعوا الناس إلى توحيد الله كما أمروا، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) .
وقال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2) .
وكلهم أدوا ما عليهم من البلاغ والبيان عليهم الصلاة والسلام، بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة ونصحوا الأمة وبينوا لهم معنى هذه الكلمة: "لا إله إلا الله"، وبينوا أن الواجب إخلاص العبادة لله وحده، وأنه هو الذي يستحق العبادة دون كل ما سواه، وأن الأشجار والأحجار والأصنام والكواكب والجن والإنس وغيرهم من المخلوقات كلهم لا يصلحون للعبادة؛ لأن العبادة يجب أن تصرف لله وحده.
وفرعون لما بغى وطغى وعاند موسى وخرج لقتله ساقه الله جل وعلا للبحر وأغرقه ومن معه فيه في لحظة واحدة، وهذا عذاب معجل، وهو الغرق، وبعده عذاب النار، نسأل الله العافية والسلامة.
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة الأنبياء الآية 25(25/97)
ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام دعا الناس إلى عبادة الله، وبشر بالجنة من آمن، وحذر بالنار من كفر، فآمن من آمن وهم القليل في مكة، ثم بسبب الأذى له ولأصحابه أمره الله بالهجرة إلى المدينة، فهاجر إليها ومن آمن معه ممن استطاع الهجرة، فصارت المدينة دار الهجرة، والعاصمة الأولى للمسلمين، وانتشر فيها دين الله، وقامت فيها سوق الجهاد بعد تعب عظيم وإيذاء شديد من قريش وغيرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه في مكة.
كل ذلك من أجل هذه الكلمة "لا إله إلا الله"، الرسل تدعو إليها، ومحمد خاتمهم عليه الصلاة والسلام يدعو إلى ذلك، يدعو إلى الإيمان بها، واعتقاد معناها، وتعطيل الآلهة التي عبدوها من دون الله وإنكارها، وإخلاص العبادة لله وحده، والمشركون يأبون ذلك، ويقولون: إنهم سائرون على طريقة أسلافهم، ويقولون:
{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (1) .
فأمة العرب الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم سلكوا مسلك من قبلهم في العناد والكفر والضلال والتكذيب، ونبينا عليه الصلاة والسلام طيلة ثلاث عشرة سنة في مكة يدعوهم إلى توحيد الله، وإلى ترك الشرك بالله، فلم يؤمن به إلا القليل، وهذا بعد الهجرة إلى المدينة، استمروا في طغيانهم، وقاتلوه يوم بدر، ويوم أحد، ويوم الأحزاب؛ عنادا وكفرا وضلالا، وساعدهم من ساعدهم من كفار العرب، ولكن الله جلت قدرته أيد نبيه والمؤمنين وأعانهم، وجرى ما جرى يوم بدر من الهزيمة على أعداء الله، والنصر لأولياء الله، ثم جرى ما جرى يوم
__________
(1) سورة الزخرف الآية 23(25/98)
أحد من الامتحان الذي كتبه الله على عباده، وحصل ما حصل من الجراح والقتل على المسلمين بأسباب بينها في كتابه العظيم سبحانه وتعالى.
ثم جاءت وقعة الأحزاب بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أهل الكفر، فأعز الله جنده ونصر عبده وأنزل بأسه بالكفار، فرجعوا خائبين لم ينالوا خيرا، ونصر الله المسلمين ضد أعدائهم، ثم جاءت بعد ذلك غزوة الحديبية عام ست من الهجرة، وحصل فيها ما حصل من الصلح بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل مكة، والمهادنة عشر سنين حتى يأمن الناس، وحتى يتصل بعضهم ببعض، وحتى يتأملوا دعوته عليه الصلاة والسلام وما جاء به من الهدى، ثم نقضت قريش العهد فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم عام ثمان من الهجرة في رمضان، وفتح الله عليه مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجا والحمد لله.
فهذا الدين العظيم، وهو الإسلام، يحتاج من أهله إلى صبر ومصابرة وإخلاص لله ودعوة إليه وإيمان به وبرسله، والوقوف عند حدوده، وترك لما نهى عنه عز وجل، هذا هو دين الله، الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، وهو الدين الذي بعث به نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام، وهو توحيد الله والإخلاص له والإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والانقياد لشريعته قولا وعملا وعقيدة، وأصله وأساسه شهادة أن لا إله إلا الله، التي بعث الله بها جميع الرسل، فلا إسلام إلا بها من عهد نوح إلى عهد محمد عليه الصلاة والسلام، لا إسلام إلا بهذه الكلمة: "لا إله إلا الله" قولا وعملا وعقيدة، فيقول المسلم "لا إله إلا الله" بلسانه ويصدقها بقلبه وأعماله، فيوحد الله، ويخصه بالعبادة، ويتبرأ من عبادة ما سواه، ولا بد مع هذا من الشهادة للنبي بالرسالة عليه الصلاة والسلام، لا بد من الإيمان بالله وحده وإخلاص العبادة له، لا بد من التصديق للرسل الذين بعثوا بذلك من عهد نوح إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم، لا بد مع الشهادة بأنه "لا(25/99)
إله إلا الله"، والإيمان بالله: من تصديق نوح عليه الصلاة والسلام، فلا إسلام إلا بذلك.
وفي عهد هود كذلك لا إسلام إلا بتصديق هود عليه الصلاة والسلام، مع توحيد الله والإخلاص له، والإيمان بمعنى لا إله إلا الله، وهكذا في عهد صالح لا إسلام إلا بذلك. . بتوحيد الله والإخلاص له، والإيمان بصالح، وأنه رسول الله حقا عليه الصلاة والسلام، وهكذا من بعدهم كل نبي يبعث إلى أمته، لا بد في الإسلام من توحيد الله والإيمان بذاك الرسول الذي بعث إليهم وتصديقه، وآخرهم عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام هو آخر أنبياء بني إسرائيل وآخر الأنبياء قبل محمد عليه الصلاة والسلام.
فلا إسلام إلا لمن آمن به واتبع ما جاء به، ولما أنكرته اليهود وكذبوه صاروا كفارا بذلك، ثم بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وآخرهم.
وجعل الدخول في الإسلام لا يتم ولا يصح إلا بالإيمان به عليه الصلاة والسلام، فلا بد من توحيد الله والإيمان بهذه الكلمة، وهي لا إله إلا الله، واعتقاد معناها. وأن معناها توحيد الله وإفراده بالعبادة، وتخصيصه بها دون كل ما سواه، مع الإيمان برسوله محمد عليه الصلاة والسلام، وأنه خاتم الأنبياء، لا نبي بعده، هكذا علم الرسول أمته عليه الصلاة والسلام، وهكذا دل كتاب الله على ذلك، قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (1) .
لا بد من الإيمان بالنبيين جميعا وآخرهم محمد عليه الصلاة والسلام، ولما سأل جبرائيل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قال: «أن تؤمن بالله وملائكته
__________
(1) سورة البقرة الآية 177(25/100)
وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره (1) » .
فلا بد مع الإسلام وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله من الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين السابقين، والإيمان بجميع الملائكة، والكتب المنزلة على الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام جميعا، ولا بد من الإيمان بالقدر خيره وشره والإيمان باليوم الآخر، والبعث بعد الموت، والجنة والنار، وأن ذلك حق لا بد منه، ولكن أصل ذلك وأساسه الإيمان بالله وحده، وأنه هو المستحق العبادة.
هذا هو الأصل، وهذا هو الأساس والبقية تابعة لذلك، فمن أراد الدخول في الإسلام والاستقامة عليه والفوز بالجنة والنجاة من النار، وأن يكون من أتباع محمد عليه الصلاة والسلام الموعودين بالجنة والكرامة، فإنه لا يتم له ذلك إلا بتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
فتحقيق الأولى وهي: " لا إله إلا الله " بإفراد الله بالعبادة، وتخصيصه بها، والإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله من أمر الجنة والنار والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
وأما تحقيق الثانية: وهي شهادة أن محمدا رسول الله، فبالإيمان به صلى الله عليه وسلم، وأنه عبد الله ورسوله، أرسله الله إلى الناس كافة إلى الجن والإنس، يدعوهم إلى توحيد الله والإيمان به، واتباع ما جاء به رسول الله عليه الصلاة والسلام، مع الإيمان بجميع الماضين من الرسل والأنبياء، ثم بعد ذلك الإيمان بشرائع الله التي شرعها لعباده، على يد رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والأخذ بها والاستمساك بها من صلاة وزكاة وصوم وحج وجهاد وغير ذلك.
«وكان صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن عمل يدخل به العبد الجنة وينجو به من النار قال له: " تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " وربما قال له: " تعبد الله ولا تشرك به شيئا (2) » . فعبر له بالمعنى، فإن معنى شهادة أن
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/27) .
(2) صحيح البخاري الزكاة (1396) ، صحيح مسلم الإيمان (13) ، سنن النسائي الصلاة (468) ، مسند أحمد بن حنبل (5/417) .(25/101)
لا إله إلا الله، أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا.
ولهذا لما سأله جبرائيل عليه السلام في حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقال: «يا رسول الله، أخبرني عن الإسلام؟ قال: " الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا (1) » .
وفي حديث عمر رضي الله عنه قال: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله (2) » . فهذا يفسر هذا؛ فإن شهادة أن لا إله إلا الله معناها: إفراد الله بالعبادة، وهذا هو عبادة الله وعدم الإشراك به مع الإيمان برسوله عليه الصلاة والسلام.
وجاءه رجل فقال: «يا رسول الله، دلني على عمل أدخل به الجنة، وأنجو من النار. . قال: تعبد الله ولا تشرك به شيئا. ثم قال: وتقيم الصلاة (3) » . إلى آخره.
فعبادة الله وعدم الإشراك به هذا هو معنى لا إله إلا الله، قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (4) .
يعني: اعلم أنه المستحق للعبادة، وأنه لا عبادة لغيره، بل هو المستحق لها وحده، وأنه الإله الحق، الذي لا تنبغي العبادة لغيره عز وجل.
وإنكار المشركين لها يبين معناها؛ لأنهم إنما أنكروها لما علموا أنها تبطل آلهتهم وتبين أنهم على ضلالة، ولهذا أنكروها فقالوا:
{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} (5) ، وقال الله عنهم:.
{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (6) {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (7) .
فعرفوا أنها تبطل آلهتهم وتبين زيفها، وأنها لا تصلح للعبادة، وأنها
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/52) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/52) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (3/473) .
(4) سورة محمد الآية 19
(5) سورة ص الآية 5
(6) سورة الصافات الآية 35
(7) سورة الصافات الآية 36(25/102)
باطلة، وأن الإله الحق هو الله وحده سبحانه وتعالى.
ولهذا أنكروها، فعبادتهم للأصنام أو الأشجار أو الأحجار، أو الأموات أو الجن أو غير ذلك عبادة باطلة.
فجميع المخلوقات ليس عندهم ضر ولا نفع، كلهم مملوكون لله سبحانه وتعالى، عبيده جل وعلا، فلا يصلحون للعبادة؛ لأن الله سبحانه خالق كل شيء، وهو القائل سبحانه وتعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1) .
وقال جل وعلا: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} (2) .
فالواجب على كل مكلف، وعلى كل مؤمن ومؤمنة من الجن والإنس التبصر في هذا الأمر، وأن يعتني به كثيرا، حتى يكون جليا عنده، واضحا لديه؛ لأن أصل الدين وأساسه عبادة الله وحده، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله وحده سبحانه وتعالى، ويضاف إلى ذلك الإيمان بالرسل وبخاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام، لا بد من ذلك مع الإيمان بملائكة الله، وكتب الله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، والإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله.
كل ذلك لا بد منه في تحقيق الدخول في الإسلام، وكما سبق بيان ذلك. وكثير من الناس قد يظن أن قول: " لا إله إلا الله، أو أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " يكفيه، ولو فعل ما فعل، وهذا من الجهل العظيم، فإنها ليست كلمات تقال، بل كلمات لها معنى لا بد من تحقيقه بأن يقولها ويعمل بمقتضاها، فإذا قال: لا إله إلا الله، وهو يحارب الله بالشرك وعبادة غيره، فإنه ما حقق هذه الكلمة، فقد قالها المنافقون وعلى رأسهم عبد الله بن أبي ابن سلول، وهم مع ذلك في الدرك الأسفل من
__________
(1) سورة البقرة الآية 163
(2) سورة طه الآية 98(25/103)
النار، كما قال عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (1) .
لماذا؟! لأنهم قالوها باللسان وكفروا بها بقلوبهم، ولم يعتقدوها ولم يعملوا بمقتضاها، فلا ينفعهم قولها بمجرد اللسان.
وهكذا من قالها من اليهود والنصارى وعباد الأوثان، كلهم على هذا الطريق، لا تنفعهم حتى يؤمنوا بمعناها، وحتى يخصوا الله بالعبادة، وحتى ينقادوا لشرعه.
وهكذا أتباع مسيلمة الكذاب والأسود العنسي والمختار بن أبي عبيد الثقفي الذين ادعوا النبوة وغيرهم، ويقولون: لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، لكن لما صدقوا من ادعى أنه نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم كفروا، وصاروا مرتدين؛ لأنهم كذبوا قول الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (2) .
فهو خاتمهم وآخرهم، ومن ادعى بعده أنه نبي أو رسول صار كافرا ضالا، وهكذا من صدقه كأتباع مسيلمة في اليمامة والأسود العنسي في اليمن والمختار في العراق وغيرهم، لما صدقوا هؤلاء الكذابين بأنهم أنبياء، كفر من صدقهم بذلك، واستحقوا أن يقاتلوا.
فإذا كان من ادعى مقام النبوة يكون كافرا؛ لأنه ادعى ما ليس له في هذا المقام العظيم، وكذب على الله، فكيف بالذي يدعي مقام الألوهية، وينصب نفسه ليعبد من دون الله؟ لا شك أن هذا أولى بالكفر والضلال.
فمن يعبد غير الله، ويعرف له العبادة، ويوالي على ذلك ويعادي عليه، فقد أتى أعظم الكفر والضلال.
فمن شهد لمخلوق بالنبوة بعد محمد عليه الصلاة والسلام، فهو كافر ضال، فلا إسلام ولا إيمان إلا بشهادة أن لا إله إلا الله، قولا وعملا
__________
(1) سورة النساء الآية 145
(2) سورة الأحزاب الآية 40(25/104)
وعقيدة، وأنه لا معبود بحق سوى الله، ولا بد من الإيمان بأن محمدا رسول الله، مع تصديق الأنبياء الماضين والشهادة لهم بأنهم بلغوا الرسالة عليهم الصلاة والسلام.
ثم بعد ذلك يقوم العبد بما أوجب الله عليه من الأوامر والنواهي، هذا هو الأصل، لا يكون العبد مسلما إلا بهذا الأصل: بإفراد الله بالعبادة، والإيمان بما دلت عليه هذه الكلمة: " لا إله إلا الله "، ولا بد مع ذلك من الإيمان برسول الله والأنبياء قبله، وتصديقهم واعتقاد أنهم بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة عليهم الصلاة والسلام، وكثير من الجهلة كما تقدم يظن أنه متى قال: لا إله إلا الله وشهد أن محمدا رسول الله، فإنه يعتبر مسلما ولو عبد الأنبياء أو الأصنام أو الأموات أو غير ذلك. وهذا من الجهل العظيم والفساد الكبير والضلال البعيد، بل لا بد من العمل بمعناها والاستقامة عليه، وعدم الإتيان بضد ذلك قولا وعملا وعقيدة، ولهذا يقول جل وعلا في سورة " فصلت ":
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (1) {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (2) .
والمعنى أنهم قالوا: ربنا الله ثم استقاموا على ذلك، ووحدوه وأطاعوه واتبعوا ما يرضيه، وتركوا معاصيه، فلما استقاموا على ذلك صارت الجنة لهم، وفازوا بالكرامة.
وفي الآية الأخرى من سورة الأحقاف قال سبحانه:
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (3) {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4) .
__________
(1) سورة فصلت الآية 30
(2) سورة فصلت الآية 31
(3) سورة الأحقاف الآية 13
(4) سورة الأحقاف الآية 14(25/105)
فعليك يا عبد الله بالتبصر في هذا الأمر والتفقه فيه بغاية العناية، حتى تعلم أنه الأصل الأصيل والأساس العظيم لدين الله، فإنه لا إسلام ولا إيمان إلا بشهادة أن لا إله إلا الله قولا وعملا وعقيدة، والشهادة بأن محمدا رسول الله قولا وعملا وعقيدة، والإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله عما كان وما سيكون، ثم بعد ذلك تأتي بأعمال الإسلام من صلاة وزكاة وصوم وغير ذلك.
ولا ينبغي لعاقل أن يغتر بدعاة الباطل، ودعاة الشرك الذين دعوا غير الله، وأشركوا بالله غيره، وعبدوا المخلوقين من دون الله، وزعموا أنهم بذلك لا يكونون كفارا؛ لأنهم قالوا: " لا إله إلا الله " قالوها بالألسنة، ونقضوها بأعمالهم وأقوالهم الكفرية، قالوها وأفسدوها بشركهم بالله، وعبادة غيره سبحانه وتعالى، فلم تعصم دماءهم ولا أموالهم، ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله عز وجل (1) » .
هكذا بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا بد من هذه الأمور. . وفي حديث طارق بن أشيم الأشجعي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل (2) » . . وفي اللفظ الآخر: «من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه (3) » . أخرجهما الإمام مسلم في صحيحه.
فأبان النبي صلى الله عليه وسلم بهذين الحديثين وأمثالهما أنه لا بد من توحيد الله والإخلاص له، ولا بد من الكفر بعبادة غيره، وإنكار ذلك والبراءة منه، مع التلفظ بالشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأداء بقية الحقوق
__________
(1) البخاري، كتاب الإيمان، باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة.
(2) صحيح مسلم الإيمان (23) ، مسند أحمد بن حنبل (6/394) .
(3) صحيح مسلم الإيمان (23) ، مسند أحمد بن حنبل (6/394) .(25/106)
الإسلامية. . وهذا هو الإسلام حقا، وضده الكفر بالله عز وجل.
وهذا الأصل يجب التزامه والسير عليه، وهو أن توحد الله، وتخلص له العبادة أينما كنت، مع أداء الحقوق التي فرضها الله، وترك ما حرم الله عليك، وبهذا تكون مسلما، مستحقا لثواب الله ولكرامته سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة، ولذلك أنزل الله قوله جل وعلا:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) .
فبين الحكمة في خلقهم، وهي أن يعبدوا الله وحده، وأنهم لم يخلقوا عبثا ولا سدى، بل خلقوا لهذا الأمر العظيم: ليعبدوا الله جل وعلا، ولا يشركوا به شيئا، ويخصوه بدعائهم وخوفهم ورجائهم وصلاتهم وصومهم، وذبحهم ونذرهم وغير ذلك، وقد بعث بهذا الأمر الرسل، كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (2) .
فكل من أتى بناقض من نواقض الإسلام أبطل هذه الكلمة؛ لأن هذه الكلمة إنما تنفع أهلها إذا عملوا بها واستقاموا عليها، فأفردوا الله بالعبادة وخصوه بها، وتركوا عبادة ما سواه واستقاموا على ما دلت عليه من المعنى، فأطاعوا أوامر الله وتركوا نواهي الله، ولم يأتوا بناقض ينقضها.
وبذلك يستحقون كرامة الله، والفوز بالسعادة، والنجاة من النار.
أما من نقضها بقول أو عمل فإنها لا تنفعه، ولو قالها ألف مرة في الساعة الواحدة، فلو قال: لا إله إلا الله وشهد أن محمدا رسول الله، وصلى وصام وزكى وحج ولكنه يقول: إن مسيلمة الكذاب الذي خرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم في عهد الصحابة يدعي أنه رسول الله، لو قال إنه: صادق، كفر ولم ينفعه كل شيء.
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة النحل الآية 36(25/107)
أو قال: إن المختار بن أبي عبيد الثقفي الذي ادعى النبوة في العراق إنه نبي صادق، وأن الذين قاتلوه أخطئوا في قتاله.
أو قال في حق الأسود العنسي الذي ادعى في اليمن أنه نبي، أو من بعدهم من الكذابين: إنهم صادقون، يكون كافرا، ولو قال: لا إله إلا الله، وكررها آلاف المرات.
وهكذا لو قالها وهو يعبد البدوي أو يعبد الحسين أو يعبد ابن علوان أو العيدروس، أو يعبد النبي محمدا صلى الله عليه وسلم، أو يعبد ابن عباس رضي الله عنهما، أو يعبد الشيخ عبد القادر الجيلاني، أو غيرهم يدعوهم ويستغيث بهم، وينذر لهم، ويطلب منهم المدد والعون، لم تنفعه هذه الكلمة، وهي "لا إله إلا الله"، وصار بذلك كافرا ضالا، وناقضا لهذه الكلمة، مبطلا لها.
وهكذا لو قال: لا إله إلا الله، وصلى وصام ولكنه يسب النبي صلى الله عليه وسلم، أو يتنقصه أو يهزأ به، أو يقول: إنه لم يبلغ الرسالة كما ينبغي، بل قصر في ذلك، أو يعيبه بشيء من العيوب، صار كافرا، وإن قال: لا إله إلا الله آلاف المرات، وإن صلى وصام؛ لأن هذه النواقض تبطل دين العبد الذي يأتي بها، ولهذا ذكر العلماء رحمهم الله في كتبهم بابا سموه: باب حكم المرتد، وهو الذي يكفر بعد إسلامه، وذكروا فيه أنواعا من نواقض الإسلام منها ما ذكرنا آنفا.
وهكذا لو قال: لا إله إلا الله، وجحد وجوب الصلاة، فقال: إن الصلاة ليست واجبة، أو الصوم ليس واجبا، أو الزكاة ليست واجبة، أو الحج ليس واجبا مع الاستطاعة، كفر إجماعا، ولم ينفعه قوله: لا إله إلا الله، أو صلاته، أو صومه إذا جحد وجوب ذلك، ولو صام وصلى وتعبد، ولكنه يقول: إن الزنا حلال، أو غيره مما أجمعت الأمة على تحريمه، كفر عند جميع المسلمين، ونقض دينه بهذا القول، وإن قال: لا إله إلا الله، وشهد أن محمدا رسول الله وصلى وصام؛ لأنه بتحليله الزنا صار(25/108)
مكذبا لله الذي حرمه بقوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} (1) .
وهكذا لو قال: إن الخمر أو الميسر حلال، كفر ولو صلى وصام، ولو قال: لا إله إلا الله، فإنه يصير مشركا كافرا عند جميع المسلمين؛ لأنه مكذب لله في قوله سبحانه:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) .
لكن إن كان من قال ذلك مثله يجهل الحكم لكونه نشأ في بلاد بعيدة عن المسلمين، بين له حكم ذلك بالأدلة الشرعية، فإذا أصر على حل الزنا أو الخمر ونحوهما من المحرمات المجمع عليها، كفر إجماعا.
والمقصود من هذا أن يعلم أن الدخول في الإسلام والنطق بهذه الكلمة: "لا إله إلا الله" والشهادة بأن محمدا رسول الله لا يكفي في عصمة الدم والمال، إذا أتى قائلها بما ينقضه.
وهكذا لو أن إنسانا صلى وصام وتعبد وقال هذه الكلمة آلاف المرات في كل مجلس، ثم قال مع ذلك: إن أمه حلال له أن يجامعها، أو بنته أو أخته، كفر عند جميع المسلمين، وصار مرتدا بذلك؛ لكونه استحل ما حرم الله، بالنص والإجماع، وهكذا لو كذب نبيا من الأنبياء، وقال: إن محمدا رسول الله وأنا مؤمن به وموحد لله، وأقول: لا إله إلا الله، ولكني أقول: إن عيسى ابن مريم كذاب ليس برسول لله، أو موسى أو هارون أو داود أو سليمان أو نوحا أو هودا أو صالحا أو غيرهم ممن نص القرآن على نبوته ليسوا أنبياء، أو سبهم، كفر إجماعا، ولم ينفعه قول
__________
(1) سورة الإسراء الآية 32
(2) سورة المائدة الآية 90(25/109)
لا إله إلا الله ولا شهادة أن محمدا رسول الله، ولا صلاته ولا صومه؛ لأنه أتى بما يكذب به الله ورسوله، وطعن في رسل الله، وهكذا لو أتى بكل شيء مما شرعه الله، وعبد الله وحده وصلى وصام، ولكنه يقول: الزكاة ليست واجبة، من شاء زكى ومن شاء لم يزك كفر إجماعا، وصار من المرتدين الذين يستحقون أن تراق دماؤهم؛ لأنه قال: الزكاة غير واجبة، ولأنه خالف قول الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (1) .
وخالف النصوص من السنة الدالة على أنها فرض من فروض الإسلام وركن من أركانه.
وهكذا لو ترك الصلاة، ولو قال: إنها واجبة، فإنه يكفر في أصح قولي العلماء كفرا أكبر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (2) » . أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وأهل السنن بإسناد صحيح، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة (3) » .
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على كفر تارك الصلاة.
ومن أراد التفصيل في هذا الأمر فليراجع باب حكم المرتد، ليعرف ما ذكر فيه العلماء من النواقض الكثيرة.
وبذلك يكون المؤمن على بصيرة في هذا الدين، ويعرف أن لا إله إلا الله هي أصل الدين، وهي أساس الملة، مع شهادة أن محمدا رسول الله، وأنه لا إسلام ولا إيمان ولا دين إلا بهاتين الشهادتين، مع الإيمان بكل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والالتزام بذلك، مع الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومع الإيمان بفرائض الله، ومع الإيمان بمحارم الله، ومع الوقوف عند حدود الله.
__________
(1) سورة البقرة الآية 43
(2) سنن النسائي، كتاب الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة.
(3) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب إطلاق الكفر على تارك الصلاة.(25/110)
وهذا أمر أوضحه العلماء، وبينوه في كتبهم، وهو محل إجماع ووفاق بين أهل العلم، فينبغي لك يا عبد الله أن تكون على بصيرة، وألا تنخدع بقول الجاهلين والضالين من القبوريين وغيرهم، من عباد غير الله، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وجهلوا دين الله، حتى عبدوا مع الله غيره، ويزعمون أنهم بذلك ليسوا كافرين؛ لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، وهم ينقضونها بأعمالهم وأقوالهم، وتعلم أيضا أن هاتين الشهادتين اللتين هما أصل الدين وأساس الملة ينتقضان في حق من أتى بناقض من نواقض الإسلام.
فلو أن هذا الرجل أو هذه المرأة شهدا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وصليا وصاما إلى غير ذلك من أعمال، لكنهما يقولان: إن الجنة ليست حقيقة، أو إن النار ليست حقيقة، فلا جنة ولا نار، بل كله كلام ما له حقيقة، فإنهما يكفران بذلك القول كفرا أكبر، بإجماع المسلمين.
ولو صلى وصام من قال ذلك وزعم أنه مسلم موحد لله، وترك الشرك، ولكنه يقول: إن الجنة أو النار ليستا حقا، ما هناك جنة ولا نار، أو قال: ما هناك ميزان، أو ما هناك قيامة، ما فيه يوم آخر، فإنه بذلك يصير مرتدا كافرا ضالا عند جميع المسلمين.
أو قال: إن الله ما يعلم الغيب، أو لا يعلم الأشياء على حقيقتها، فإنه يكفر بذلك؛ لكونه بهذا القول مكذبا لقول الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) .
وما جاء في معناها من الآيات، ولأنه قد تنقص ربه سبحانه وتعالى، وسبه بهذا القول، وبهذا تعلم يا أخي أن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله هي أصل الإيمان، وهي أساس الملة، ولكنها لا تعصم قائلها إذا أتى بناقض من نواقض الإسلام، بل لا بد من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.
__________
(1) سورة المجادلة الآية 7(25/111)
ولا بد مع ذلك من أداء فرائض الله، وترك محارم الله، فمن أتى بعد ذلك بناقض من نواقض الإسلام بطل في حقه قول: لا إله إلا الله، وصار مرتدا كافرا، وإن أتى بمعصية من المعاصي التي دون الشرك نقص دينه، وضعف إيمانه، ولم يكفر كالذي يزني أو يشرب الخمر، وهو يؤمن بتحريمها؛ فإن دينه يكون ناقصا، وإيمانه ضعيفا، وهو على خطر إذا مات على ذلك من دخول النار والعذاب فيها، ولكنه لا يخلد فيها إذا كان قد مات موحدا مسلما، بل له أمد ينتهي إليه حسب مشيئة الله سبحانه وتعالى، ولكنه لا يكون آمنا، بل هو على خطر من دخول النار؛ لأن إيمانه قد ضعف ونقص بهذه المعصية التي مات عليها ولم يتب، من زنا أو سرقة أو غيرهما من الكبائر.
فالمخالفة لأمر الله قسمان:
قسم يوجب الردة، ويبطل الإسلام بالكلية، ويكون صاحبه كافرا كالنواقض التي أوضحتها سابقا.
والقسم الثاني: لا يبطل الإسلام، ولكن ينقصه ويضعفه، ويكون صاحبه على خطر عظيم من غضب الله وعقابه إذا لم يتب، وهو جنس المعاصي التي يعرف مرتكبها أنها معاص، ولكن لا يستحلها، كالذي مات على الزنا، أو على الخمر، أو على عقوق الوالدين، أو على الربا ونحو ذلك. . فهذا تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له؛ لقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) .
لأنه ليس بكافر؛ لكونه لم يستحل هذه الأمور، وإنما فعلها اتباعا للهوى والشيطان.
أما من استحل الزنا أو الخمر أو الربا فإنه يكفر كما تقدم بيان ذلك،
__________
(1) سورة النساء الآية 116(25/112)
فينبغي التنبه لهذه الأمور، والحذر منها، وأن يكون المسلم على بصيرة من أمره. وهذا الذي ذكرناه هو قول أهل السنة والجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم وأتباعهم بإحسان.
رزقني الله وجميع المسلمين الاستقامة على دينه، ومن علينا جميعا بالفقه في الدين، والثبات عليه، وأعاذنا الله جميعا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.(25/113)
صفحة فارغة(25/114)
الولاء والبراء في الإسلام
بقلم: د \ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد: فإنه بعد محبة الله ورسوله تجب محبة أولياء الله ومعاداة أعدائه. فمن أصول العقيدة الإسلامية أنه يجب على كل مسلم يدين بهذه العقيدة أن يوالي أهلها ويعادي أعداءها، فيحب أهل التوحيد والإخلاص ويواليهم، ويبغض أهل الإشراك ويعاديهم، وذلك من ملة إبراهيم والذين معه، الذين أمرنا بالاقتداء بهم، حيث يقول سبحانه وتعالى:
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (1) .
وهو من دين محمد عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (2) .
وهذه في تحريم موالاة أهل الكتاب خصوصا.
وقال في تحريم موالاة الكفار عموما:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (3) .
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 4
(2) سورة المائدة الآية 51
(3) سورة الممتحنة الآية 1(25/115)
بل لقد حرم الله على المؤمن موالاة الكفار ولو كانوا من أقرب الناس إليه نسبا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1) .
وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} (2) .
وقد جهل كثير من الناس هذا الأصل العظيم، حتى لقد سمعت بعض المنتسبين إلى العلم والدعوة في إذاعة عربية يقول عن النصارى: إنهم إخواننا، ويا لها من كلمة خطيرة.
وكما أن الله سبحانه حرم موالاة الكفار أعداء العقيدة الإسلامية فقد أوجب سبحانه موالاة المؤمنين ومحبتهم، قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (3) {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (4) .
وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (5) .
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (6) .
فالمؤمنون إخوة في الدين والعقيدة، وإن تباعدت أنسابهم وأوطانهم وأزمانهم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (7) .
فالمؤمنون من أول الخليقة إلى آخرها مهما تباعدت أوطانهم وامتدت
__________
(1) سورة التوبة الآية 23
(2) سورة المجادلة الآية 22
(3) سورة المائدة الآية 55
(4) سورة المائدة الآية 56
(5) سورة الفتح الآية 29
(6) سورة الحجرات الآية 10
(7) سورة الحشر الآية 10(25/116)
أزمانهم إخوة متحابون، يقتدي آخرهم بأولهم، ويدعو بعضهم لبعض، ويستغفر بعضهم لبعض.
وللولاء والبراء مظاهر تدل عليهما:(25/117)
1 - فمن مظاهر موالاة الكفار:
1 - التشبه بهم في الملبس والكلام وغيرهما؛ لأن التشبه بهم في الملبس والكلام وغيرهما يدل على محبة المتشبه للمتشبه به، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم (1) » . فيحرم التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم من عاداتهم وعباداتهم، سمتهم وأخلاقهم؛ كحلق اللحى وإطالة الشوارب والرطانة بلغتهم إلا عند الحاجة، وفي هيئة اللباس، والأكل والشرب وغير ذلك.
2 - الإقامة في بلادهم وعدم الانتقال منها إلى بلد المسلمين لأجل الفرار بالدين؛ لأن الهجرة بهذا المعنى، ولهذا الغرض واجبة على المسلم؛ لأن إقامته في بلاد الكفر تدل على موالاة الكافرين، ومن هنا حرم الله إقامة المسلم بين الكفار إذا كان يقدر على الهجرة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (2) {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} (3) {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (4) .
فلم يعذر الله في الإقامة في بلاد الكفار إلا المستضعفين الذين لا يستطيعون الهجرة. وكذلك من كان في إقامته مصلحة دينية
__________
(1) سنن أبو داود اللباس (4031) .
(2) سورة النساء الآية 97
(3) سورة النساء الآية 98
(4) سورة النساء الآية 99(25/117)
كالدعوة إلى الله ونشر الإسلام في بلادهم.
3 - ومن مظاهر موالاة الكفار السفر إلى بلادهم لغرض النزهة ومتعة النفس. والسفر إلى بلاد الكفار محرم إلا عند الضرورة - كالعلاج والتجارة والتعليم للتخصصات النافعة التي لا يمكن الحصول عليها إلا بالسفر إليهم - فيجوز بقدر الحاجة، وإذا انتهت الحاجة وجب الرجوع إلى بلاد المسلمين. ويشترط كذلك لجواز هذا السفر أن يكون مظهرا لدينه معتزا بإسلامه، مبتعدا عن مواطن الشر؛ حذرا من دسائس الأعداء ومكائدهم، وكذلك يجوز السفر أو يجب إلى بلادهم إذا كان لأجل الدعوة إلى الله ونشر الإسلام.
4 - ومن مظاهر موالاة الكفار إعانتهم ومناصرتهم على المسلمين ومدحهم والذب عنهم، وهذا من نواقض الإسلام وأسباب الردة، نعوذ بالله من ذلك.
5 - ومن مظاهر موالاة الكفار الاستعانة بهم والثقة بهم وتوليتهم المناصب التي فيها أسرار المسلمين، واتخاذهم بطانة ومستشارين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (1) {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (2) {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} (3) .
فهذه الآيات الكريمة تشرح دخائل الكفار وما يكنونه نحو المسلمين من بغض، وما يدبرونه ضدهم من مكر وخيانة، وما يحبونه
__________
(1) سورة آل عمران الآية 118
(2) سورة آل عمران الآية 119
(3) سورة آل عمران الآية 120(25/118)
من مضرة المسلمين وإيصال الأذى إليهم بكل وسيلة، وأنهم يستغلون ثقة المسلمين بهم فيخططون للإضرار بهم والنيل منهم.
روى الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قلت لعمر رضي الله عنه: لي كاتب نصراني، قال: ما لك قاتلك الله، أما سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (1) . ألا اتخذت حنيفا؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين، لي كتابته وله دينه. قال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم وقد أقصاهم الله.
وروى الإمام أحمد ومسلم «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر فتبعه رجل من المشركين، فلحقه عند الحرة، فقال: إني أردت أن أتبعك وأصيب معك، قال: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا. قال: ارجع فلن أستعين بمشرك (2) » .
ومن هذه النصوص يتبين لنا تحريم تولية الكفار أعمال المسلمين التي يتمكنون بواسطتها من الاطلاع على أحوال المسلمين وأسرارهم، ويكيدون لهم بإلحاق الضرر بهم، ومن هذا ما وقع في هذا الزمان من استقدام الكفار إلى بلاد المسلمين؛ بلاد الحرمين الشريفين، وجعلهم عمالا وسائقين ومستخدمين، ومربين في البيوت، وخلطهم مع العوائل، أو خلطهم مع المسلمين في بلادهم.
6 - ومن مظاهر موالاة الكفار التأريخ بتاريخهم، خصوصا التاريخ الذي يعبر عن طقوسهم وأعيادهم كالتاريخ الميلادي، والذي هو عبارة عن ذكرى مولد المسيح عليه السلام، والذي ابتدعوه من
__________
(1) سورة المائدة الآية 51
(2) صحيح مسلم الجهاد والسير (1817) ، سنن الترمذي السير (1558) ، سنن أبو داود الجهاد (2732) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2832) ، مسند أحمد بن حنبل (6/149) ، سنن الدارمي السير (2496) .(25/119)
أنفسهم، وليس هو من دين المسيح عليه السلام، فاستعمال هذا التاريخ فيه مشاركة في إحياء شعارهم وعيدهم. ولتجنب هذا لما أراد الصحابة رضي الله عنهم وضع تاريخ للمسلمين في عهد عمر رضي الله عنه عدلوا عن تواريخ الكفار وأرخوا بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ مما يدل على وجوب مخالفة الكفار في هذا وفي غيره مما هو من خصائصهم، والله المستعان.
7 - ومن مظاهر موالاة الكفار مشاركتهم في أعيادهم أو مساعدتهم في إقامتها أو تهنئتهم بمناسبتها، أو حضور إقامتها، وقد فسر قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} (1) . أي: ومن صفات عباد الرحمن أنهم لا يحضرون أعياد الكفار.
8 - ومن مظاهر موالاة الكفار مدحهم والإشادة بما هم عليه من المدنية والحضارة، والإعجاب بأخلاقهم ومهاراتهم، دون نظر إلى عقائدهم الباطلة ودينهم الفاسد. قال تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (2) طه الآية 131.
وليس معنى ذلك أن المسلمين لا يتخذون أسباب القوة من تعلم الصناعات ومقومات الاقتصاد المباح والأساليب العسكرية، بل ذلك مطلوب، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (3) .
وهذه المنافع والأسرار الكونية هي في الأصل للمسلمين، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (4) .
__________
(1) سورة الفرقان الآية 72
(2) سورة طه الآية 131
(3) سورة الأنفال الآية 60
(4) سورة الأعراف الآية 32(25/120)
وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} (1) .
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (2) .
فالواجب أن يكون المسلمون سباقين إلى استغلال هذه المنافع وهذه الطاقات، ولا يستجدون الكفار في الحصول عليها، بل يجب أن تكون لهم مصانع وتقنيات.
9 - ومن مظاهر موالاة الكفار التسمي بأسمائهم، بحيث يسمي بعض المسلمين أبناءهم وبناتهم بأسماء أجنبية ويتركون أسماء آبائهم، وأمهاتهم وأجدادهم وجداتهم والأسماء المعروفة في مجتمعهم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الأسماء عبد الله وعبد الرحمن (3) » ، وبسبب تغيير الأسماء فقد وجد جيل يحمل أسماء غريبة، مما يسبب الانفصال بين هذا الجيل والأجيال السابقة، ويقطع التعارف بين الأسر التي كانت تعرف بأسمائها الخاصة.
10 - من مظاهر موالاة الكفار الاستغفار لهم والترحم عليهم، وقد حرم الله ذلك بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (4) .
لأن هذا يتضمن حبهم وتصحيح ما هم عليه.
__________
(1) سورة الجاثية الآية 13
(2) سورة البقرة الآية 29
(3) مسند أحمد بن حنبل (4/178) .
(4) سورة التوبة الآية 113(25/121)
2 - مظاهر موالاة المؤمنين:
مظاهر موالاة المؤمنين قد بينها الكتاب والسنة ومنها:
1 - الهجرة إلى بلاد المسلمين وهجر بلاد الكافرين، والهجرة هي(25/121)
الانتقال من بلاد الكفار إلى بلاد المسلمين لأجل الفرار بالدين.
والهجرة بهذا المعنى ولأجل هذا الغرض واجبة وباقية إلى طلوع الشمس من مغربها عند قيام الساعة، وقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، فتحرم على المسلم الإقامة في بلاد الكفار، إلا إذا كان لا يستطيع الهجرة منها. أو كان في إقامته مصلحة دينية كالدعوة إلى الله ونشر الإسلام. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (1) {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} (2) {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (3) .
2 - مناصرة المسلمين ومعاونتهم بالنفس والمال واللسان فيما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (4) ، وقال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (5) .
3 - التألم لألمهم والسرور بسرورهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المسلمين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر (6) » وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا. وشبك بين أصابعه صلى الله عليه وسلم (7) » .
__________
(1) سورة النساء الآية 97
(2) سورة النساء الآية 98
(3) سورة النساء الآية 99
(4) سورة التوبة الآية 71
(5) سورة الأنفال الآية 72
(6) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .
(7) صحيح البخاري الصلاة (481) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) .(25/122)
4 - النصح لهم ومحبة الخير لهم، وعدم غشهم وخديعتهم، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه (1) » . وقال: «المسلم أخو المسلم، لا يحقره ولا يخذله، ولا يسلمه، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه (2) » . وقال عليه الصلاة والسلام: «لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تناجشوا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا (3) » .
5 - احترامهم وتوقيرهم وعدم تنقصهم وعيبهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (4) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} (5) .
6 - أن يكون معهم في حال العسر واليسر والشدة والرخاء، بخلاف أهل النفاق الذين يكونون مع المؤمنين في حالة اليسر والرخاء، ويتخلون عنهم في حال الشدة؛ قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (6) .
7 - زيارتهم ومحبة الالتقاء بهم والاجتماع معهم. وفي الحديث القدسي: «وجبت محبتي للمتزاورين في (7) » . وفي حديث آخر: «أن
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (13) ، صحيح مسلم الإيمان (45) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2515) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5016) ، سنن ابن ماجه المقدمة (66) ، مسند أحمد بن حنبل (3/272) ، سنن الدارمي الرقاق (2740) .
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564) ، مسند أحمد بن حنبل (2/277) .
(3) صحيح البخاري الأدب (6066) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2563) ، مسند أحمد بن حنبل (2/394) ، موطأ مالك الجامع (1684) .
(4) سورة الحجرات الآية 11
(5) سورة الحجرات الآية 12
(6) سورة النساء الآية 141
(7) مسند أحمد بن حنبل (5/237) ، موطأ مالك الجامع (1779) .(25/123)
رجلا زار أخا له في الله، فأرصد الله على مدرجته ملكا، فسأله: أين تريد؟ قال: أزور أخا لي في الله، قال: هل لك عليه من نعمة تربها عليه، قال: لا، غير أني أحببته في الله، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه (1) » .
8 - احترام حقوقهم، فلا يبيع على بيعهم، ولا يسوم على سومهم، ولا يخطب على خطبتهم، ولا يتعرض لما سبقوا إليه من المباحات. قال صلى الله عليه وسلم: «ألا لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبته (2) » . وفي رواية: «ولا يسم على سومه» .
9 - الرفق بضعفائهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يوقر كبيرنا، ويرحم صغيرنا (3) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم (4) » . وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (5) .
10 - الدعاء لهم والاستغفار لهم، قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (6) .
وقال سبحانه: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} (7) .
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2567) ، مسند أحمد بن حنبل (2/408) .
(2) صحيح البخاري النكاح (5142) ، صحيح مسلم النكاح (1412) ، سنن الترمذي البيوع (1292) ، سنن النسائي النكاح (3243) ، سنن أبو داود البيوع (3436) ، سنن ابن ماجه التجارات (2171) ، مسند أحمد بن حنبل (2/42) ، موطأ مالك النكاح (1112) ، سنن الدارمي البيوع (2567) .
(3) سنن الترمذي البر والصلة (1920) ، سنن أبو داود الأدب (4943) ، مسند أحمد بن حنبل (2/207) .
(4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2896) ، سنن النسائي الجهاد (3178) ، مسند أحمد بن حنبل (1/173) .
(5) سورة الكهف الآية 28
(6) سورة محمد الآية 19
(7) سورة الحشر الآية 10(25/124)
تنبيه:
وأما قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1) .
فمعناه أن من كف أذاه من الكفار فلم يقاتل المسلمين ولم يخرجهم
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 8(25/124)
من ديارهم فإن المسلمين يقابلون ذلك بمكافأته بالإحسان والعدل معه في التعامل الدنيوي، ولا يحبونه بقلوبهم؛ لأن الله قال:
{أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} (1)
ولم يقل: توالونهم وتحبونهم. ونظير هذا قوله تعالى في الوالدين الكافرين:
{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} (2) .
وقد «جاءت أم أسماء إليها تطلب صلتها وهي كافرة، فاستأذنت أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال لها: صلي أمك (3) » . وقد قال الله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} (4) .
فالصلة والمكافأة الدنيوية شيء، والمودة شيء آخر، ولأن في الصلة وحسن المعاملة ترغيبا للكافر في الإسلام، فهما من وسائل الدعوة، بخلاف المودة والموالاة، فهما يدلان على إقرار الكافر على ما هو عليه، والرضى عنه، وذلك يسبب عدم دعوته إلى الإسلام.
وكذلك تحريم موالاة الكفار لا تعني تحريم التعامل معهم بالتجارة المباحة واستيراد البضائع والمصنوعات النافعة والاستفادة من خبراتهم ومخترعاتهم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم استأجر ابن أريقط الليثي ليدله على الطريق وهو كافر، واستدان من بعض اليهود، وما زال المسلمون يستوردون البضائع والمصنوعات من الكفار، وهذا من باب الشراء منهم بالثمن وليس لهم علينا فيه فضل ومنة. وليس هو من أسباب محبتهم وموالاتهم؛ فإن الله أوجب محبة المؤمنين وموالاتهم وبغض الكافرين ومعاداتهم.
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 8
(2) سورة لقمان الآية 15
(3) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2620) ، صحيح مسلم الزكاة (1003) ، سنن أبو داود الزكاة (1668) ، مسند أحمد بن حنبل (6/355) .
(4) سورة المجادلة الآية 22(25/125)
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (1) .
إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} (2) .
قال الحافظ ابن كثير: ومعنى قوله: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} (3) أي: إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين وإلا وقعت فتنة في الناس، وهو التباس الأمر واختلاط المؤمنين بالكافرين، فيقع بين الناس فساد منتشر عريض طويل. . انتهى. . قلت: وهذا ما حصل في هذا الزمان. والله المستعان.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 72
(2) سورة الأنفال الآية 73
(3) سورة الأنفال الآية 73(25/126)
أقسام الناس فيما يجب في حقهم من الولاء والبراء:
الناس في الولاء والبراء على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من يحب محبة خالصة لا معاداة معها، وهم المؤمنون الخلص من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وفي مقدمتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه تجب محبته أعظم من محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين، ثم زوجاته أمهات المؤمنين وأهل بيته الطيبين وصحابته الكرام، خصوصا الخلفاء الراشدين وبقية العشرة والمهاجرين والأنصار وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان، ثم بقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ثم التابعون والقرون المفضلة وسلف هذه الأمة وأئمتها؛ كالأئمة الأربعة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1) .
__________
(1) سورة الحشر الآية 10(25/126)
ولا يبغض الصحابة وسلف هذه الأمة من في قلبه إيمان، وإنما يبغضهم أهل الزيغ والنفاق وأعداء الإسلام كالرافضة والخوارج، نسأل الله العافية.(25/127)
القسم الثاني: من يبغض ويعادي بغضا ومعاداة خالصين لا محبة ولا موالاة معهما، وهم الكفار الخلص من الكفار والمشركين والمنافقين والمرتدين والملحدين، على اختلاف أجناسهم كما قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} (1) .
وقال تعالى عائبا على بني إسرائيل:
{تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} (2) {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (3) .
__________
(1) سورة المجادلة الآية 22
(2) سورة المائدة الآية 80
(3) سورة المائدة الآية 81(25/127)
القسم الثالث: من يحب من وجه ويبغض من وجه، فيجتمع فيه المحبة والعداوة، وهم عصاة المؤمنين، يحبون لما فيهم من الإيمان، ويبغضون لما فيهم من المعصية التي هي دون الكفر والشرك. ومحبتهم تقتضي مناصحتهم والإنكار عليهم، فلا يجوز السكوت على معاصيهم، بل ينكر عليهم ويؤمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وتقام عليهم الحدود والتعزيرات حتى يكفوا عن معاصيهم ويتوبوا من سيئاتهم، لكن لا يبغضون بغضا خالصا ويتبرأ منهم كما تقوله الخوارج في مرتكب الكبيرة التي هي دون الشرك، ولا يحبون ويوالون حبا وموالاة خالصين كما تقوله المرجئة، بل يعتدل في شأنهم على ما ذكرنا كما هو مذهب أهل السنة والجماعة.(25/127)
والحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان، والمرء مع من أحب يوم القيامة كما في الحديث.
وقد تغير الوضع وصار غالب موالاة الناس ومعاداتهم لأجل الدنيا، فمن كان عنده طمع من مطامع الدنيا والوه، وإن كان عدوا لله ولرسوله ولدين المسلمين. ومن لم يكن عنده طمع من مطامع الدنيا عادوه ولو كان وليا لله ولرسوله عند أدنى سبب وضايقوه واحتقروه. وقد قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (من أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئا) . رواه ابن جرير.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب (1) » الحديث، رواه البخاري.
وأشد الناس محاربة لله من عادى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبهم وتنقصهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا، فمن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه (2) » أخرجه الترمذي وغيره.
وقد صارت معاداة الصحابة وسبهم دينا وعقيدة عند بعض الطوائف الضالة. نعوذ بالله من غضبه وأليم عقابه، ونسأله العفو والعافية، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه. .
__________
(1) صحيح البخاري الرقاق (6502) .
(2) سنن الترمذي المناقب (3862) ، مسند أحمد بن حنبل (4/87) .(25/128)
حكم الشهادة والحكمة من مشروعيتها وأركانها
الدكتور: عبد الله بن محمد الزبن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه وبعد:
بما أن الشهادة من أهم طرق الإثبات لدفع المظالم ورفعها، فإنني أورد حكمها - بمعنى الأثر المترتب عليها - والحكمة من مشروعيتها وأركانها فيما يلي:(25/129)
أولا: حكم الشهادة:
حكم الشهادة - بمعنى الأثر المترتب عليها - وجوب الحكم على القاضي بموجبها بعد التزكية فورا، والقياس يأبى جواز الحكم بها، لاحتمال الكذب، لكن لما شرطت العدالة ترجح جانب الصدق، وترك القياس؛ لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (1) سورة البقرة آية 282. .
ونظائر هذا الأمر كثير في الكتاب والسنة. والعدل مفروض على كل حاكم الحكم به (2) .
قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (3) .
{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (4) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) بدائع الصنائع جـ 9 ص 4061.
(3) سورة المائدة الآية 44
(4) سورة المائدة الآية 49(25/129)
والحكم بالشهادة حكم بما أنزل الله، فمتى أصبحت مكتملة الشروط والأركان فإن الحكم بموجبها من العدل، قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} (1) .
والأمر بالشيء نهي عن أضداده (2) ، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالحكم بما أنزل الله، سواء كان ذلك بمقتضى الشهادة أو غيرها مما ورد في القرآن الكريم.
ويجوز للقاضي تأخير الحكم للأسباب التالية:
1 - أن تكون الدعوى بين الأقرباء فيأمل القاضي حصول الصلح بينهما، وكذلك إذا رجي الصلح بين الخصوم من غير الأقارب.
2 - أن يدعي المدعى عليه أن لديه دفعا للدعوى ويطلب الإمهال لإحضار بينته على الدفع أو يطلب المدعي الإمهال لإحضار بينته على الدعوى.
3 - أن يكون لدى القاضي ريب وشبهة في الشهود.
4 - إذا احتاج القاضي إلى البحث عن الحكم في الكتب أو سؤال العلماء عنه.
لكن النظر يقضي بأن السببين الثاني والثالث خارجان عن الموضوع؛ لأن القضية لا تكتمل بدون البينة على الدعوى أو الدفع أو عند حصول ريبة في الشهود.
__________
(1) سورة ص الآية 26
(2) الإحكام في أصول الأحكام جـ 2 ص 251.(25/130)
ثانيا: الحكمة من مشروعية الشهادة:
من حكمة الله تعالى أن جعل حياة الإنسان حياة جماعية؛ لأنه لا يستطيع الوفاء بما يحتاجه بمفرده في هذه الحياة من ضروريات، فكان في الحياة الجماعية قيام كل فرد بجزء من متطلباتها، مما ينجم عنه الوفاء بحاجياتها عن طريق التعاون الجماعي. قال الله تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} (1) .
ومع أن الناس لا يستغني بعضهم عن بعض في هذه الحياة، فمنذ وجد الإنسان على ظهر البسيطة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فإنه يحصل بينهم مشاحنات، ويحصل من بعضهم على بعض تطاولات واعتداءات على الأنفس، والأعراض، والثمرات، نتيجة لتجمعاتهم، ولما تحويه الأنفس من غرائز الطمع، والجنس، وغيرهما مما يجعل بعضهم يعتدي على البعض الآخر، ويحاول الاستيلاء على الممتلكات من غير حق.
وقد حصلت التعديات والاعتداءات في عهد صفوة الخلق محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وفي عهد صحابته الأطهار الخلفاء الراشدين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر (2) » .
وقد تجلت حكمة الله تعالى بأن شرع من الحدود ما يناسب الفطرة البشرية؛ حفاظا على أبدانها، وعقولها، وأعراضها، وأموالها، وكان من كراماته أن شرع طرقا لإثبات هذه الحدود والحقوق عند تنازع الناس فيها، ومن هذه الطرق الشهادة التي يستدل بها القاضي على الحق ويحكم بموجبها
__________
(1) سورة الزخرف الآية 32
(2) أخرجه البيهقي بسند صحيح، انظر: البيهقي جـ 10 ص 252، نصب الراية جـ 4 ص 95، بلوغ المرام ص 346، سنن الدارقطني جـ 4 ص 157.(25/131)
بعد أخذ الحيطة للتأكد من عدالة الشهود وغيرها، وعدم وجود حجة قطعية أو ظنية تحول دون تغليب حجية الشهادة في القضية.
وهي وسيلة عظيمة وجليلة لدفع التظالم ولإثبات الحقوق وردها إلى أهلها إذا اعتدى عليها، وتمكين القضاء من توقيع العقوبة على من يستحقها، وبدونها فإنها تضيع. كما أنها ترجح قول المدعي على قول المدعى عليه.
ولو أن القاضي اقتصر على علمه بالحادثة المراد منه الحكم فيها بحيث يكون علما منطبقا على الواقع بأن يشاهد الحادثة بنفسه ويحيط بها إحاطة تامة، أو يصل إليه خبرها بطريق التواتر المفيد للعلم، فإن أكثر مصالح الناس سوف تتعطل؛ لأن علمه إذا حصل في حادثة واحدة أو اثنتين فإن الكثير من الحوادث يتعذر عليه الوقوف عليها والعلم بها، كما يتعذر عليه العلم بها عن طريق التواتر المفيد لليقين؛ لأنه ليس من اليسر والسهولة وصول أخبار الحوادث دائما بطريق التواتر، ولذلك اقتضت حاجات الناس فيما يتقاضون فيه قبول الحجة الظنية ليبنى عليها الحكم؛ لأنهم إما أن يهملوا النظر في الحوادث والقضايا التي لم يقم على ثبوتها دليل قطعي عند القاضي، ويترتب على هذا ضياع حقوق الناس وفوضى واضطراب في حياتهم ونظامها، وإما أن يقبلوا الدليل الذي يغلب على الظن صدقه كالشهادة، ويحفظوا حقوق الناس بها.
وبالنظر في هذين الأمرين يتعين قبول الدليل الظني دفعا لأشد الضررين، وعلى هذا فإن الحقوق تثبت بما يفيد العلم القطعي، وبما يفيد الظن الراجح. وإذن فإن الحاجة ماسة إلى الشهادة؛ إذ إنها سبب في إثبات(25/132)
الحقوق، وحفظ الأرواح، والأموال، والأنساب، والعقول.
فهي طريق لإنصاف المظلومين، وردع للظالمين، وحسم للنزاع بين العالمين، الذي ينشأ من حين لحين؛ لأن المجتمعات البشرية على اختلاف زمانها ومكانها لا تخلو من الأسباب المفضية إلى المنازعات والخصومات مهما بلغت هذه المجتمعات من رقي وعلم وحضارة.
ولأهميتها فقد نطق القرآن الكريم بفضلها، ورفع الله جل جلاله نسبتها إلى نفسه، وشرف بها ملائكته ورسله وأفاضل خلقه، فقال تعالى وهو أصدق القائلين: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ} (1) .
وقال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} (2) .
فجعل كل نبي شهيدا على أمته لكونه أفضل خلقه في عصره.
وقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (3) . وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (4) .
ويكفي الشهادة شرفا أن الله تعالى خفض الفاسق عن قبول الشهادة.
فقال تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (5) .
وقال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (6) .
فأخبر أن العدل هو المرضي بقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (7) .
__________
(1) سورة النساء الآية 166
(2) سورة النساء الآية 41
(3) سورة آل عمران الآية 18
(4) سورة آل عمران الآية 110
(5) سورة الحجرات الآية 6
(6) سورة الطلاق الآية 2
(7) سورة البقرة الآية 282(25/133)
وكل هذا دليل على محاسن الشهادة وأهميتها ومكانتها.
والشريعة السمحاء بعد أن أجازت القضاء بالحجة الظنية - شهادة الشهود - المبنية على المعاينة والمشاهدة لم تقتصر على ذلك، بل يسرت للأمة، فأجازت الشهادة بالتسامع، والشهادة على الشهادة، وشهادة الرجل الواحد من غير يمينه في مواضع وأحوال مخصوصة، وشهادة الصبيان في مواضع تضيع فيها الحقوق لو لم تقبل شهادتهم فيها، وذلك لصيانة حقوق الناس متى غلب على الظن صدق هؤلاء الشهود.
ومن هذا تتجلى الحكمة من مشروعية الشهادة، ويتضح أنها من الأهمية بمكان حيث تدعو الحاجة الماسة إليها في مختلف الأمصار والأعصار ما وجد الإنسان على ظهر الأرض.(25/134)
ثالثا: أركان الشهادة:
الركن في اللغة: جانب الشيء الأقوى (1) :
أما في اصطلاح الفقهاء: فقد عرفه الحنفية بأنه: ما توقف عليه وجود الشيء، وكان جزءا منه، وداخلا في تركيبه. أما ما يتوقف وجود الشيء عليه، ولكنه لا يكون جزءا منه، فهو الشرط عندهم، فهم إذن يفرقون بين الركن والشرط من حيث حقيقة كل منهما.
أما من حيث الأثر الذي يترتب على عدم وجود الركن، أو الشرط،، فيقولون: إنه لا فرق بينهما في العبادات على معنى أن العبادة التي يفوت ركنها، أو يتخلف شرطها تكون باطلة، فالركن والشرط إذن لا بد من وجودهما لصحة العبادة، وفوات أي منهما يبطلها، ويجعلها غير صالحة لأداء ما هو المقصود بها شرعا. وهذا لا خلاف فيه بين جميع الفقهاء.
__________
(1) المصباح المنير جـ1 ص 255، مختار الصحاح ص 255 ط الأولى.(25/134)
أما في المعاملات فإنهم يفرقون بين ما فقد ركنه منها، فيكون باطلا، وما تخلف شرطه حيث يكون فاسدا، بخلاف الجمهور الذين يرون بطلان كل ما تخلف ركنه أو فقد شرطه؛ لأن الركن: ما لا بد للشيء منه في وجود صورته عقلا، إما لدخوله في حقيقته، أو لاختصاصه به.
وعلى ضوء ما تقدم يمكن القول بأن تعريف الركن في اصطلاح الحنفية أقرب إلى معناه اللغوي، وإن كان العلماء يقولون: لا مشاحة في الاصطلاح.
وقد ترتب على الخلاف في معنى الركن الخلاف في أركان الشهادة، وذلك على قولين:
القول الأول: أن ركن الشهادة هو قول الشاهد: "أشهد" بلفظ المضارع؛ لتضمنه معنى المشاهدة والقسم والإخبار للحال، فكأن الشاهد يقول: أقسم بالله لقد اطلعت على ذلك وأخبر به.
وهذا قول جمهور فقهاء الحنفية.
ويرى بعضهم أن الركن: هو الصيغة المتمثلة في حكاية الشاهد بقوله: "أشهد بكذا وكذا" وأن لفظ: "أشهد" شرط في كل ما يشهد به أمام القاضي، أي شرط في الركن.
وقد أخذ بهذا المتأخرون من الحنفية، وهو الراجح عندهم.
القول الثاني: أن أركان الشهادة خمسة وهي: شاهد، ومشهود له، ومشهود عليه، ومشهود به، وصيغة.(25/135)
وهذا مذهب الشافعية (1) . وفيما يلي شيء من بيان هذه الأركان:
__________
(1) حاشية قليوبي وعميرة جـ 4 ص 318، نهاية المحتاج جـ 8 ص 292، مغني المحتاج جـ 4 ص 426.(25/136)
الركن الأول: الشاهد، وقد اتفق الفقهاء في الجملة على ضرورة توفر شروط معينة في الشاهد لكي تقبل شهادته عند القضاء؛ إذ إنه لو لم يعتبر لقبول الشهادة شروطا يغلب على الظن صدق الشاهد بعد توفرها فيه لأدى ذلك إلى أن يشهد الفجار بعضهم لبعض، فتؤخذ الأموال بغير حق، وتنتهك الأعراض، وتزهق الأنفس. لذلك اعتبر في أحوال الشهود خلوهم عما يوجب التهمة في شهاداتهم. والشروط الواجب توفرها في الشاهد إجمالا هي: أن يكون الشاهد بالغا، عاقلا، مسلما، حرا، متيقظا، سميعا، بصيرا، ناطقا، عدلا، وألا يكون محدودا في قذف، ولا متهما في شهادته، وأن يكون عالما بالمشهود به.(25/136)
الركن الثاني والثالث: المشهود له وعليه:
لا تجوز الشهادة على من لا يعرفه الشاهد، ولا لمن لا يعرفه؛ لأن الجهل بمعرفة كل منهما مانع من صحة الشهادة كالجهل بمعرفة المشهود به.
وكمال معرفة كل منهما أن يعرفه بعينه بالإشارة إليه، وذكر اسمه، ونسبه. ولو عرفه بعينه دون اسمه ونسبه جاز ذلك في الحاضر دون الغائب؛ لأن الإشارة أقوى سبل التعريف، فمتى أمكنت وجبت وكفت.
وإن عرفه باسمه، ونسبه، ولم يعرفه بعينه جاز ذلك في المشهود له، ولم يجز في المشهود عليه؛ لأنه قد يجوز أن يتحمل الشهادة لغائب، ولا يجوز أن يتحملها على غائب.(25/136)
الركن الرابع: المشهود به:
وذلك بأن يكون المشهود به معلوما. فإذا كانت الشهادة بمجهول لم تقبل؛ لأن علم القاضي بالمشهود به شرط صحة قضائه، ومبنى علمه شهادة الشهود بمعلوم. وعلى هذا فإن القاضي لا يقضي بالمشهود به إذا لم يعرفه الشهود عنده تعريفا كافيا لعلمه به.
ولكن الفقهاء اختلفوا في القدر الكافي من تعريف الشاهد بالمشهود به الدال على علمه عند أدائه للشهادة، وذلك في بعض المسائل.
فلو شهد رجلان - مثلا - عند القاضي أن فلانا وارث هذا الميت لا وارث له غيره، فإن شهادتهما جائزة عند الحنابلة، والشافعية، وغير جائزة عند الحنفية؛ لأنهم يرون أنه لا بد أن يقول الشهود بأنه ابنه ووارثه، لا يعلمون له وارثا غيره، أو أخوه لأبيه وأمه، لا يعلمون له وارثا غيره.(25/137)
الركن الخامس: الصيغة:
اتفق الفقهاء على الركن الخامس، وهو الصيغة في الشهادة، إلا أنهم اختلفوا في اللفظ الذي تؤدى به الشهادة، فهل يجب على الشاهد إذا حضر في مجلس القضاء لأداء الشهادة أن يؤديها بلفظ: "أشهد" دون غيره من الألفاظ، أو أن شهادته تصح بأي لفظ آخر يؤدي المعنى كأعلم، وأتيقن.
ولأهمية هذا اللفظ، واختلاف العلماء فيه على قولين فإنني أوضح كلا منهما وأدلة أصحابه به فيما يلي:
القول الأول:
إنه يجب على الشاهد عند تأديته الشهادة أن يؤديها بلفظ "أشهد" بصيغة المضارع، فلا يجوز شهدت، لاحتمال الإخبار عما مضى،(25/137)
فلا يكون بذلك شاهدا للحال، بخلاف لفظ "أشهد" فهي بمعنى الشهادة في الحال حيث يتضمن المشاهدة والقسم، والإخبار في الحال، ولا يقبل غير هذا اللفظ كأعلم، وأتيقن.
وقد ذهب إلى هذا القول جمهور الفقهاء.
الأدلة:
استدل أصحاب هذا القول - الجمهور - على وجوب أداء الشهادة بلفظ "أشهد" بالكتاب، والسنة، واللغة.
أولا: الأدلة من الكتاب:
استدلوا بقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (1) .
وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (2) .
وقوله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} (3) .
وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (4) .
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} (5) .
وبغير هذه الآيات من آيات عموم الشهادة.
فقد استعملت هذه الآيات وغيرها لفظ "أشهد" في مجال إثبات الحقوق، والدعوة إلى أداء ما علمه الإنسان وإقامته، وعدم كتمانه، دون غيره من الألفاظ، وهذا يدل على وجوب أدائها بلفظ: "أشهد".
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) سورة البقرة الآية 282
(3) سورة البقرة الآية 283
(4) سورة الطلاق الآية 2
(5) سورة النساء الآية 135(25/138)
قال في تكملة رد المحتار: " فالنصوص ناطقة بلفظ الشهادة، فلا يقوم غيرها مقامها، لما فيها من زيادة توكيد؛ لأنها من ألفاظ اليمين، فيكون معنى اليمين ملاحظا فيها " (1) .
ثانيا: الدليل من السنة:
استدلوا من السنة بما روى ابن عباس رضي الله عنهما: «أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة، فقال صلى الله عليه وسلم له: هل ترى الشمس؟ قال نعم، قال: على مثلها فاشهد، أو دع (2) » .
ففي هذا الحديث الشريف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم السائل بلفظ "أشهد" عندما سأله عن الشهادة بعد أن بين له ضرورة التأكد مما يشهد به، وهذا يدل على أن هذا هو اللفظ الذي يجب أن تؤدى به الشهادة.
ثالثا: الدليل من اللغة:
إن سبب عدم جواز الشهادة بالتصريفات الأخرى كلفظ "شهدت" بدلا من لفظ "أشهد"؛ لأن لفظ "شهدت" موضوع للإخبار بأمر وقع في زمن ماض، فإذا شهد باللفظ المذكور فلا يكون المشهود به مخبرا به في الحال، بل يحتمل معنى أنه شهد في الزمن الماضي.
أما صيغة المضارع فلما كانت موضوعة للإخبار في الحال فإنه إذا قال: أشهد فإنها بمعنى الشهادة في الحال، كما أن هذا اللفظ يتضمن: المشاهدة، والقسم، والإخبار في الحال، فإذا شهد الشاهد بذلك اللفظ كان معنى قوله: إنني أقسم بالله أنني مطلع على ذلك عن مشاهدة وإنني أخبر عنه الآن، وهذا المعنى مفقود في الألفاظ الأخرى كلفظ الإخبار والإعلام ونحوهما وإن كان يؤدي الشهادة تعبدا غير معقول المعنى إلا أنه
__________
(1) حاشية قرة عيون الأخبار تكملة رد المحتار جـ 7 ص 77، انظر تبيين الحقائق جـ 4 ص 210.
(2) نصب الراية جـ 4 ص 82، سبل السلام جـ 4 ص 171، بلوغ المرام ص 245، المستدرك جـ 4 ص 98.(25/139)
تعين هذا اللفظ "أشهد" احتياطا واتباعا للمأثور، ولأن الشهادة خبر محتمل للصدق والكذب، فلا يصلح حجة ما لم يؤيد بمؤيد وهو لفظ "أشهد"، لأنه يمين بدلالة قوله عز وجل مخبرا عن المنافقين (1) :
{قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} (2) .
وقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (3) .
القول الثاني:
إنه لا يجب على الشاهد تأدية الشهادة بلفظ معين، بل تصح تأديتها بأي لفظ أو صيغة تفيد المعنى.
وقد ذهب إلى هذا القول المالكية، والإمام أحمد بن حنبل في إحدى رواياته، وبه قال ابن قيم الجوزية، وشيخه ابن تيمية، والظاهريون. ونقل عن ابن القيم أن هذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، وظاهر كلام أحمد بن حنبل.
أدلة أهل هذا القول:
استدل أهل هذا القول على عدم وجوب الاقتصار على لفظ "أشهد" عند أداء الشهادة، وجواز قول الشاهد للقاضي: أنا أخبرك، أو أنا أقول لك، أو أنا أعلمك، أو رأيت كيت وكيت، أو سمعت نحو ذلك، بدلا من أنا
__________
(1) معين الحكام ص 88.
(2) سورة المنافقون الآية 1
(3) سورة المنافقون الآية 2(25/140)
أشهد، وعلى أن ذلك سواء، ويعتبر شهادة تامة يجب على القاضي الحكم بها، بأن الغرض من الشهادة هو إخبار الشاهد عما علمه ليتمكن القاضي من الحكم وإيصال الحق إلى صاحبه، وهذا يتحقق بأي لفظ يفيد العلم؛ كأتيقن أو أعلم أو رأيت أو سمعت. . إلخ فينبغي المصير إلى اعتبار هذه الألفاظ.
أما القول بأن النصوص استعملت لفظ الشهادة فيرد عليه بأن الشرع استعمل لفظ الشهادة مرادفا لألفاظ أخرى، مما يؤكد عدم تفرد لفظ الشهادة بمعنى خاص، وأن الله تبارك وتعالى قال:
{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (1) .
وروى مسلم بسنده عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ (ثلاثا) : الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، أو قول الزور. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت (2) » .
وعن عبيد الله بن أبي بكر، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر، قال: «الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وقول الزور (3) » .
فجاء في نص الحديث الشريف قول الزور مرادفا لشهادة الزور، وعلى هذا فإن القول والشهادة سواء.
وورد في القرآن الكريم قوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} (4) .
ومعلوما قطعا أنه ليس المراد التلفظ بلفظ "أشهد" في هذا، بل مجرد
__________
(1) سورة الحج الآية 30
(2) صحيح البخاري الشهادات (2654) ، صحيح مسلم الإيمان (87) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3019) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37) .
(3) رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، وأحمد، عن أبي بكرة، واللفظ لمسلم، انظر: صحيح مسلم جـ 1 ص 91، صحيح البخاري جـ 3 ص 151، جـ 7 ص 70، 71، سنن الترمذي جـ 4 ص 548.
(4) سورة الأنعام الآية 150(25/141)
الإخبار بتحريمه. وقد قال الله تعالى:
{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} (1) .
ولا تتوقف صحة الشهادة على أنه يقول سبحانه: "أشهد بكذا".
وقال تعالى:
{وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} (2) .
أي أخبر به وتكلم به عن علم، والمراد به التوحيد.
ولا تفتقر صحة الإسلام إلى أن يقول الداخل فيه: "أشهد أن لا إله إلا الله، بل لو قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله" كان مسلما بالاتفاق (3) .
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله (4) » . فإذا تكلموا بقول: لا إله إلا الله حصلت لهم العصمة وإن لم يأتوا بلفظ "أشهد".
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "شهد عندي رجال مرضيون - أرضاهم عندي عمر - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب". ومعلوم أن عمر لم يقل لابن عباس: أشهد عندك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، ولكن أخبره فسماه ابن عباس شهادة (5) .
قال ابن قيم الجوزية: (وقد تناظر الإمام أحمد، وعلي بن المديني في
__________
(1) سورة النساء الآية 166
(2) سورة الزخرف الآية 86
(3) الطرق الحكمية ص 203.
(4) رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، واللفظ للبخاري، انظر: صحيح البخاري جـ 1 ص 11، صحيح مسلم جـ 1 ص 52، جامع الترمذي جـ 5 ص 439، سنن النسائي بشرح السيوطي جـ 5 ص 14، سنن ابن ماجه جـ 2 ص 1295، وقد ورد الحديث بلفظ ''حتى يقولوا: لا إله إلا الله'' في مسلم والترمذي، وابن ماجه، والنسائي، وفي البخاري جـ 2 ص 110.
(5) الطرق الحكمية ص 203، انظر: تبصرة الحكام جـ 1 ص 262.(25/142)
العشرة - رضوان الله عليهم - فقال علي: أقول: "هم في الجنة، ولا أقول: أشهد بذلك". بناء على أن الخبر في ذلك خبر آحاد، فلا يفيد العلم، والشهادة إنما تكون على العلم.
فقال الإمام أحمد: " متى قلت: هم في الجنة فقد شهدت ". حكاه القاضي أبو يعلى، وذكره ابن تيمية.
فكل من أخبر بشيء فقد شهد به، وإن لم يتلفظ بلفظ "أشهد". وقال: ومن العجب أنهم احتجوا على قبول الإقرار بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} (1) .
قالوا: هذا يدل على قبول إقرار المرء على نفسه. ولم يقل أحد: إنه لا يقبل الإقرار حتى يقول المقر: "أشهد على نفسي"، وقد سماه الله "شهادة" (2) .
وأما ما ورد في شرح فتح القدير على الهداية من (أن النصوص نطقت باشتراط هذه اللفظة، وهي قوله تعالى:
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (3) .
وقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (4) .
وقوله تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} (5) .
وقوله: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (6) .
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا علمت مثل الشمس فاشهد (7) » ، وأن حاصل هذا أن النصوص وردت بلفظ الشهادة. وقوله: فإن قيل: غاياتها وردت بلفظ الشهادة، وذلك لا يوجب على الشاهد لفظ الشهادة؛ كما قال تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (8) .
__________
(1) سورة النساء الآية 135
(2) الطرق الحكمية ص 204.
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة البقرة الآية 282
(5) سورة النساء الآية 15
(6) سورة الطلاق الآية 2
(7) نصب الراية جـ 4 ص 82، سبل السلام جـ 4 ص 171، بلوغ المرام من أدلة الأحكام ص 345.
(8) سورة المدثر الآية 3(25/143)
ولم يرد من السنة في تكبير الافتتاح إلا بلفظ التكبير؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: «تحريمها التكبير (1) » ولم يشترط لذلك لفظ التكبير عند أبي حنيفة، فمن أين لزم في الشهادة؟ وجوابه عليه بقوله: قلنا الفرق معنوي، وهو أن لفظة الشهادة أقوى في إفادة تأكيد متعلقها من غيرها من الألفاظ كأعلم، وأتيقن، لما فيها من اقتضاء معنى المشاهدة والمعاينة التي مرجعها الحس، ولأنها من ألفاظ الحلف، فالامتناع مع ذكرها عن الكذب أظهر. وقد وقع الأمر بلفظ الشهادة في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (2)
وقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا رأيت مثل الشمس فاشهد» ، فلزم لذلك لفظ الشهادة بخلاف التكبير فإنه التعظيم، وليس لفظ أكبر أبلغ من أجل وأعظم، فكانت الألفاظ سواء، فلم تثبت خصوصية توجب تعيين لفظ أكبر (اهـ.) (3) فقد رد عليه الشيخ أحمد إبراهيم قائلا:
أقول: (إن عجيبا من مثل صاحب الفتح أن يقتنع بمثل هذا الكلام) :
أولا: استدلاله بقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (4) وبقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا رأيت مثل الشمس فاشهد» على أن الأمر وقع بلفظ الشهادة، فكيف هذا وكل ما في الآية الكريمة هو الأمر بإقامة الشهادة لله، وليس في ذلك ما يستلزم أن يكون الأداء بلفظ مشتق من مادة (ش هـ د) ، فضلا عن لفظ أشهد بخصوصه، فإقامة الشهادة قد تأتي بغير ذلك اللفظ، ولا أحسب أن هذا يخفى على مثل صاحب الفتح على جلالة قدره، ومتانة علمه، بل هو لا يخفى على من دونه بدرجات، والاستدلال بالحديث على ذلك أبعد من
__________
(1) سنن أبي داود جـ 1 ص 208، سنن الترمذي جـ 2 ص 3، سنن ابن ماجه جـ 1 ص 101، قال الترمذي: هذا حديث حسن.
(2) سورة الطلاق الآية 2
(3) شرح فتح القدير على الهداية جـ 7 ص 376.
(4) سورة الطلاق الآية 2(25/144)
الاستدلال بالآية، والأمر ظاهر.
ثانيا: أن ذلك الفرق المعنوي بين لفظي الشهادة والتكبير ممنوع، كيف وذلك المعنى الذي يستفاد من تأدية الشهادة بلفظ أشهد يمكن أن يستفاد من مثل قول الشاهد: "رأيت ما أخبر به الآن بعيني التي في رأسي، وسمعت كلام المدعي عليه بأذني سمعا حقيقيا، وإني متأكد مما أقول، وأقسم بالله العظيم إني لصادق". فهل تقصر مثل هذه العبارة عن أن تؤدي المعنى المستفاد من لفظ أشهد أو هي تزيد عليه؟ على أنه كم شاهد يشعر بأن في قوله: "أشهد" معنى اليمين، بل هل ورد عن العرب أن لفظ أشهد يؤدي معنى الإخبار عن معاينة مع تضمنها القسم في آن واحد، فمن الذي ادعى هذا ممن يوثق بنقله من أئمة اللغة؟ فالمسألة في الحقيقة من قبيل المشترك اللفظي، وهل يتناول اللفظ المشترك في استعمال واحد معنييه معا أو جميع معانيه؟
ثالثا: أن التكبير جاء في الصلاة التي هي من العبادات، والشهادات جاءت في المعاملات، والأصل عند المحققين من أئمة الشريعة أن أحكام المعاملات معللة معقولة المعنى جملة وتفصيلا، بخلاف العبادات، فيا للعجب كيف يدخل الرأي والقياس في العبادات، وكيف يمتنع في المعاملات؟! على أنه من الذي يدرينا أن معنى أجل وأعظم أبلغ من معنى أكبر عند الشارع، أليس للشارع وحده أن يتعبدنا بما شاء، فمنه الأمر وعلينا الامتثال، ولا معنى للتعبد قليلا أو كثيرا، وما الذي يدرينا أن هذا الذي استنبطناه بالرأي يكون عبادة يرضاها الشارع منا؟ فالأسلم في جانب العبادة أن تكون بمعزل عن الرأي والقياس. وأما المعاملات الدنيوية فجانب المعنى فيها في(25/145)
غاية الظهور، فلا معنى لأن يدخلها التعبد. فالحق أنه لا دليل من الكتاب، ولا من السنة، ولا من القياس على اشتراط أن يكون الأداء بلفظ الشهادة فضلا عن لفظ "أشهد" بخصوصه (اهـ.) .(25/146)
الترجيح:
إذا نظرنا إلى أدلة جمهور الفقهاء لا نجد فيها نصا صريحا يستوجب الاقتصار على لفظة "أشهد" عند تأدية الشاهد لشهادته أمام القاضي؛ لأن جميع أدلتهم عامة، خالية من نص خاص يؤيد ما قالوا به، أو تعليل يفرض نفسه سوى تضمن هذا اللفظ للإعلام، والإخبار، والقسم، إضافة إلى أنهم قالوا في معرض تبريرهم بأن هذا اللفظ تعبدي غير معقول المعنى، وأنه ورد اللفظ به على لسان الشارع، فنسلم به، ونقصر لفظ الشهادة عليه دون غيره من الألفاظ كأعلم، وأتيقن.
أما الفريق الآخر فإن أدلتهم وإن ورد بها ما يفيد عدم اقتصار الشهادة المعتبرة شرعا على لفظ الشهادة أمام القاضي، حيث عبر في الحديث الشريف بقول الزور، وبشهادة الزور، وقال في الآية الكريمة:
{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (1) .
فرادف القول الشهادة، فإن شهادة الزور سميت شهادة مجازا.
أما قول الإمام أحمد: "متى قلت: هم في الجنة فقد شهدت" (2) فإنه كلام إمام مجتهد لا يخلو من معارض.
__________
(1) سورة الحج الآية 30
(2) الطرق الحكمية ص 204، الاختيارات الفقهية لابن تيمية ص 361.(25/146)
والذي يترجح عندي عدم الاقتصار في الشهادة على لفظ "أشهد" عند تأدية الشاهد لها أمام القاضي، واعتبار أي لفظ يفيد المعنى ويؤدي الغرض المطلوب، وهو إيضاح الحقيقة تبيانا للعدل، وإيضاحا للحق، وذلك للأسباب التالية:
1 - عدم وجود نص صريح يستوجب الاقتصار على هذا اللفظ.
2 - أنه ما دام أن الدخول في الإسلام يتم بدون شرط التلفظ بالشهادة بالرغم من ورود ذلك في نص الحديث، فإن هذا اللفظ ليس بشرط. فإن قيل: إن هذا من معاني الشهادة العامة، قلت: وكذلك استعمالها عند القاضي ليس في موضوع معين، بل في عامة القضايا.
3 - وقوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} (1) .
حيث لا تتوقف الشهادة على أنه سبحانه يقول: أشهد بكذا.
4 - كذلك قوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ} (2) .
فإنه إذا كان قد احتج بهذا على إقرار المرء على نفسه ولم يقل أحد بقصر الإقرار على قول المقر: أشهد على نفسي بكذا وكذا. وقد سمى الله الإقرار هنا شهادة؛ فإنه كما يجوز الإقرار بأي لفظ فكذلك الشهادة من باب أولى، سيما وأنها لا ترد من الشخص المقر، بل من شخص - في الغالب - لا يطلب مغنما ولا يدفع مغرما.
5 - أنه هناك من المسلمين غير العرب من لا يفهم معنى كلمة أشهد باللغة العربية، وفي حالة شهادته حادثة ما، واستلزم الأمر لشهادته مع
__________
(1) سورة النساء الآية 166
(2) سورة النساء الآية 135(25/147)
أنه لا يستطيع تأديتها بالعربية، أفنضطره على أن ينطق بهذا اللفظ مع عدم معرفته لمعناه؟ لا شك أن هذا شبه مستحيل، ويصعب على أي عاقل أن ينطق بكلام لا يفهم معناه ويوافق على تدوينه والتوقيع عليه. وإذا صرف النظر عن شهادته فسيضيع الحق إذا كانت قد تعينت عليه الشهادة لكمال النصاب به.
وإذا اكتفى بإدلائه بشهادته بلغته، ثم ترجمت إلى العربية - وهذا هو الافتراض الذي أرى أنه لا محيد عنه من لدن أي عاقل يدرك سماحة الشريعة وحرصها على حقوق الناس - فإن الترجمة حينئذ لن تكون حرفية، فقد يمليها المترجم بلفظ أعلم أو أتيقن، أو غيرهما مما يفيد علمه بالواقعة، فهل نصرف النظر عن هذه الشهادة لعدم قول المترجم لفظ: أشهد؟!
كما أن المترجم قد يترجم لفظ أعلم أو أتيقن بلغة الشاهد إلى لفظ أشهد، وتكون الشهادة المملاة من الناقل وهو المترجم مغايرا لفظها للفظ الصادر من الشاهد، فيكون ظاهر الحكم على هذه الشهادة صحيحا وباطنه باطلا. بخلاف الحالة الأولى حيث يطابق فيها لفظ لغة الشاهد للفظ: أشهد مع ترجمتها إلى أعلم أو أتيقن، فيكون ظاهر هذه الشهادة باطلا وباطنها صحيحا. وعندئذ فإنه سيكون هناك مشقة على المسلمين عند تأدية الشهادات وتحملها، سيما في البلاد التي تكثر فيها اللغات، والله تعالى يقول: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (1) {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (2) .
قال ابن عباس في تفسير هاتين الآيتين: لا يغلب عسر يسرين (3) ، والدين الإسلامي في غاية اليسر والسماحة والمثالية ومراعاة مصالح الناس، وإن الشريعة مقاصدها المحافظة على مصالح الناس، وكيان المجتمع
__________
(1) سورة الشرح الآية 5
(2) سورة الشرح الآية 6
(3) تفسير القرطبي جـ 20 ص 107.(25/148)
بكفالة ضروريات الناس وتوفير حاجياتهم، والمحافظة على حياتهم وشؤونها. والأمور الضرورية للناس هي: المحافظة على خمسة أشياء، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال. ولا يتأتى حفظ هذه الأشياء إلا بتطبيق شريعة الله، ومن ذلك الأخذ بالشهادة بأي لفظ يفيد المعنى ويتحقق الحق به.
وقد قال ابن حزم بأنه: (إن قال الشاهد للقاضي: أنا أخبرك، وأنا أقول لك، وأنا أعلمك، أو لم يقل: أنا أشهد - فكل ذلك سواء - وكل ذلك شهادة تامة فرض على الحاكم الحكم بها؛ لأنه لم يأت قرآن، ولا سنة، ولا قول صاحب، ولا قياس ولا معقول، بالفرق بين شيء من ذلك. ثم قال: فإن قيل بأن القرآن والسنة وردا بتسمية ذلك شهادة؟ قلنا: نعم، وليس في ذلك أنه لا يقبل حتى يقول: أنا أشهد فقد جعلنا معتمدنا وجعلتم معتمدكم في رد شهادة الفاسق قول الله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (1) .
فصح أن كل شهادة نبأ، وكل نبأ شهادة وكلاهما خبر، وكلاهما قول، وكل ذلك حكاية (2) .
وهذا كلام جيد وموافق للغة والمعقول، وتتحقق به المصالح المنشودة من الشهادة. والله أعلم.
__________
(1) سورة الحجرات الآية 6
(2) المحلى لابن حزم جـ 10 ص 640، 641.(25/149)
صفحة فارغة(25/150)
حكم العمل بالعام قبل البحث عن المخصص
بقلم الدكتور: عياضة بن نامي السلمي
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد بن عبد الله النبي الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذا بحث صغير في مسألة من مسائل أصول الفقه الهامة، التي كثر الكلام فيها بين الأصوليين، وجاء أكثره فيها غير مبين، قد اختلط فيه الغث بالسمين، وأثار الغبار في طريق الدارسين، وبلبل عقول المبتدئين، فأردت أن أسهم بهذا البحث المختصر في حل معضلها، وبيان مشكلها، راجيا الله العليم الحكيم أن يوفقني للصواب ويكتب لي به الأجر والثواب.
وقد قسمت البحث إلى تمهيد وسبعة مطالب على النحو التالي:
1 - تمهيد في تعريف العام ووجوب العمل به.
2 - المطلب الأول: تحرير محل النزاع في المسألة.
3 - المطلب الثاني: ذكر الأقوال فيها إجمالا.
4 - المطلب الثالث: تحرير الأقوال ونسبتها لأصحابها والاستدلال عليها ومناقشة الأدلة.
5 - المطلب الرابع: الموازنة والترجيح.
6 - المطلب الخامس: سبب الخلاف في المسألة.
7 - المطلب السادس: ثمرة الخلاف.
8 - المطلب السابع: مقدار البحث المخصص عند من أوجبه في تعريف(25/151)
العام ووجوب العمل به.
تمهيد:
- العام في اللغة: اسم فاعل من العموم، وهو الشمول والإحاطة، والعام هو الشامل المحيط بأكثر من واحد.
- وفي الاصطلاح: هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد دفعة بلا حصر.
والعمل بالعام من الكتاب والسنة هو مذهب جماهير العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة والظاهرية وغيرهم من الطوائف. وإنما نقل الخلاف فيه عن بعض المتكلمين الذين يزعمون أن ألفاظ العموم التي يذكرها العلماء لا تفيد العموم إلا بقرائن، فإن لم توجد قرائن تدل على العموم أو الخصوص وجب التوقف فيها، وهذا القول لا يعتد به، ولا يلتفت إليه، وما زال العلماء قديما وحديثا يستدلون بعمومات الكتاب والسنة غير معتدين بمن خالف فيها.
والصحابة رضوان الله عليهم هم أعرف الناس بهذا الشرع وبلغته التي أنزل الله بها كتابه، وتكلم بها نبيه صلى الله عليه وسلم. وقد عملوا بعمومات الكتاب والسنة في وقائع كثيرة حصل بمجموعها العلم بأنهم كانوا مجمعين على إجراء ألفاظ الكتاب والسنة على عمومها ما لم يصرفها صارف إلى الخصوص.(25/152)
وقد لام النبي صلى الله عليه وسلم أبا سعيد بن المعلى حينما لم يعمل بعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (1) .
وذلك حين ناداه وهو يصلي فلم يجب حتى قضى صلاته، فلامه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: ألم تسمع قول الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} (2) الآية (3) . ووقع مثل ذلك لأبي بن كعب (4) .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 24
(2) سورة الأنفال الآية 24
(3) أخرجه أحمد في المسند (2 \ 412، 413) والترمذي في سننه - كتاب ثواب القرآن.
(4) ((8 \ 91- 92) وقال: هذا حديث حسن صحيح.(25/153)
المطلب الأول
تحرير محل النزاع
لا خلاف بين أرباب العموم في أن العام المراد به العموم قطعا، يجب اعتماد عمومه والعمل به من غير توقف ولا انتظار، يقول الشاطبي (ت 790هـ) رحمه الله تعالى: العمومات إذا اتحد معناها، وانتشرت في أبواب الشريعة، أو تكررت في مواطن بحسب الحاجة، من غير تخصيص، فهي مجراة على عمومها على كل حال، وإن قلنا بجواز التخصيص بالمنفصل. . إلى أن قال: وعلى هذا ينبني القول في العمل بالعموم، وهل يصح من غير المخصص أم لا؟ فإنه إذا عرض على هذا التقسيم أفاد أن القسم الأول غير محتاج فيه إلى بحث؛ إذ لا يصح تخصيصه إلا حيث تخصص القواعد بعضها بعضا. فإن قيل: قد حكي الإجماع في أنه يمنع العمل بالعموم حتى يبحث هل له مخصص أم لا؟ وكذلك كل دليل مع معارضه، فكيف يصح القول بالتفصيل؟ فالجواب أن الإجماع إن صح فمحمول على غير القسم المتقدم؛ جمعا بين الأدلة (1) .
__________
(1) الموافقات: (3 \ 306-308) .(25/153)
ولا خلاف بين العلماء في أن العام المراد به الخصوص لا يجوز العمل به في عمومه. وإنما اختلفوا في العام المطلق الذي لم يعلم له مخصص أصلا أو علم تخصيص بعض أفراده، فهل يجوز العمل بعمومه في الأفراد التي لم يعلم تخصيصها قبل البحث عن المخصص؟
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ) في تحرير محل النزاع: "وإنما اختلف العلماء في العموم الذي لم يعلم تخصيصه، أو علم تخصيص صور معينة منه، هل يجوز استعماله فيما عدا ذلك قبل البحث عن المخصص المعارض له؟ " (1) .
وهذا هو الذي عليه المحققون، وإن كان من الأصوليين من نقل الإجماع على عدم جواز العمل بالعام قبل البحث عن المخصص، كالغزالي وغيره (2) .
ومنهم من نقل الإجماع على التمسك بالعموم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البحث عن المخصص. ونقل الإجماع في هذه المسألة وهم كبير، لما سنعرف من كثرة الأقوال فيها، إلا إذا فسر البحث عن المخصص بأنه مجرد التروي واسترجاع ما في الذاكرة.
__________
(1) مجموع الفتاوى (29 \ 166) .
(2) راجع المستصفى (2 \ 157) ، وتيسير التحرير (1 \ 203) .(25/154)
المطلب الثاني
ذكر الأقوال إجمالا
اختلف العلماء في المسألة السابقة على أقوال:
1 - أنه يجب العمل بالعام قبل البحث عن المخصص.
2 - أنه لا يجوز العمل به قبل البحث عن المخصص.
3 - أنه يجوز العمل به لمن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من غير بحث عن(25/154)
المخصص.
4 - أنه يجوز العمل به لمن سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم من غير بحث عن المخصص.
5 - أنه يجوز العمل به لمن سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التعليم، كأن يكون جوابا عن سؤال ونحو ذلك.(25/155)
المطلب الثالث
تحرير الأقوال وذكر أدلتها ومناقشتها
القول الأول:
أنه يجب العمل بالعام إذا حضر وقت العمل به ولا يتوقف فيه إلى أن يتم البحث عن المخصص.
وهذا القول هو ظاهر كلام الشافعي في الرسالة حيث قال: " فكل كلام كان عاما ظاهرا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على ظهوره وعمومه حتى يعلم حديث ثابت عن رسول الله: (بأبي هو وأمي) يدل على أنه إنما أريد بالجملة العامة في الظاهر بعض الجملة دون بعض " (1) .
وقال أيضا: " وكذلك ينبغي لمن سمع الحديث أن يقول به على عمومه وجملته حتى يجد دلالة يفرق بها فيه بينه " (2) .
وذكر نحو ذلك في مواضع أخرى (3) .
وهذا المذهب هو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وقد استخرجها أصحابه مما جاء في رواية ابنه عبد الله أنه سأله عن
__________
(1) الرسالة (ص 341) .
(2) الرسالة (ص 395) .
(3) انظر (ص 296، 322) من الرسالة.(25/155)
الآية إذا جاءت عامة مثل قوله تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (1) .
وأخبر أن قوما يقولون: لو لم يجئ فيها خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم توقفنا عندها، فلم تقطع حتى يبين الله لنا فيها أو يخبر الرسول. فقال أحمد قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (2)
كنا نقف عند ذكر الولد لا نورثه حتى ينزل الله أن لا يرث قاتل ولا عبد؟ " (3) .
قال القاضي أبو يعلى (ت 458هـ) بعد ذلك: "وظاهر هذا الحكم به في الحال من غير توقف، وهو اختيار أبي بكر من أصحابنا، وذكره في أول كتاب التنبيه، فقال: وإذا ورد الخطاب من الله تعالى، أو من الرسول بحكم عام أو خاص حكم بوروده على عمومه حتى ترد الدلالة على تخصيصه، أو تخصيص بعضه (4) .
وجاء في المسودة بعد نقل كلام القاضي ما نصه: (قلت: إنما رد على من يقف إذا لم يرد مخصص، ليس فيه عدم البحث عن المخصص) (5) .
وقد اختار هذا القول الصيرفي من الشافعية (6) .
وهو اختيار ابن حزم (7) (ت 456هـ) والقاضي أبي يعلى (8) ، وابن
__________
(1) سورة المائدة الآية 38
(2) سورة النساء الآية 11
(3) العدة (2 \ 526) .
(4) العدة (2 \ 526) .
(5) المسودة (ص 90) .
(6) البرهان (1 \ 406، 407) ، والمحصول (1 \ 3 \ 29) .
(7) الأحكام لابن حزم (3 \ 341) .
(8) العدة (2 \ 526) .(25/156)
عقيل (1) (ت513هـ) وابن قدامة (2) (ت 620هـ) ، والبيضاوي (3) (ت 685هـ) والسبكي (4) (ت 771هـ) وغيرهم.
ونسبه صاحب فواتح الرحموت إلى الحنفية فقال: " والحنفية يوجبون العمل به قبل البحث، واستقر هذا المذهب إلى الآن" (5) .
وسيأتي أن هذا ليس مذهب جميع الحنفية كما يتبادر من كلامه.
الأدلة:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة نذكر منها ما يلي:
الدليل الأول: أن الصيغة تقتضي العموم وضعا، فيجب العمل بمقتضاه حتى يرد ما يعارضه، كما أنه يجب العمل بنصوص الكتاب والسنة قبل انقطاع الوحي مع احتمال ورود الناسخ، ولم يقل أحد إنهم كانوا لا يعملون بالنصوص إلا بعد السؤال عن الناسخ والبحث عنه، بل كانوا يبادرون إلى العمل بالنص من كتاب أو سنة متى بلغهم من غير أن ينتظروا الناسخ، وإذا لم يجب التوقف للبحث عن الناسخ لم يجب للبحث عن المخصص (6) .
- المناقشة:
اعترض على هذا الاستدلال من قبل المانعين من وجهين:
الأول: أن الصيغة تقتضي العموم، لكن ليس اقتضاؤها إياه مطلقا، بل هو مشروط بالتجرد عن المخصص، ولا يتحقق ذلك إلا بالبحث عن المخصص (7) .
__________
(1) الواضح (2 \ 94) .
(2) الروضة (ص 242) .
(3) منهاج الوصول، ومعه نهاية السول، ومنهاج العقول (2 \ 91) .
(4) جمع الجوامع مع شرح المحلى وحاشية البناني (2 \ 8) .
(5) فواتح الرحموت (1 \ 267) .
(6) راجع الأحكام لابن حزم (2 \ 342) ، والعدة (2 \ 529) ، والواضح (2 \ 95) والروضة (ص 243) .
(7) راجع العدة (2 \ 531) ، والواضح (2 \ 95) .(25/157)
- ودفع هذا الاعتراض من وجوه:
1 - أن الأصل عدم المخصص، فإن لم يعلم وجب العمل بالأصل.
2 - أنه يلزمهم أن يقولوا في الأعداد والحقائق الأخرى مثل ذلك.
3 - أنه يلزمهم أن يقولوا في تخصيص الزمان وهو النسخ مثل ذلك؛ لأن احتمال النسخ قائم، لكنه خلاف الظاهر (1) .
الثاني: أن النسخ يفارق التخصيص؛ لأن النسخ لا يكون متراخيا، لذلك لم يجب انتظاره، بخلاف المخصص فإنه يكون مقارنا. وأيضا فإن انتظار الناسخ يؤدي إلى تعطيل العمل بالدليل السابق مطلقا، ورفع الحكم إنما يكون بعد العمل به، فلو كان قبل العمل به لم يكن للفظ الأول فائدة، وهذا بخلاف المخصص، فإن انتظاره لا يؤدي إلى تعطيل العمل بالدليل؛ لأنه إذا لم يوجد المخصص عملنا بالدليل على عمومه، وإن وجد المخصص عملنا به فيما سوى المخصص، وتحققنا أن المخصوص غير مراد باللفظ، فالعمل بالعام بعد البحث حاصل على كل حال، إما في عمومه من غير استثناء، أو فيما بقي (2) .
ودفع هذا الاعتراض القاضي وابن عقيل فأجابا عن الشق الأول من الاعتراض بأن المخصص يجوز تأخيره عندنا، فهو كالناسخ في ذلك (3) .
وأجاب ابن عقيل عن الشق الثاني بأن البحث عن الناسخ لا يعطل العمل بالدليل، بل إن عدم الناسخ عملنا بالدليل، وإن وجد علمنا أن العمل بالدليل الأول لا يجوز، وكذا الشأن في المخصص، فإذا لم يوجد المخصص عمل بالعموم، وإن وجد لم يعمل به في عمومه، بل فيما عدا المخصوص.
__________
(1) العدة (2 \ 532) ، الواضح (2 \ 95) .
(2) الواضح (2 \ 95) .
(3) العدة (2 \ 529) ، الواضح (2 \ 95) .(25/158)
وقولهم: إن رفع الحكم لا يكون إلا بعد العمل به غير مسلم به، يجوز أن يرفع الحكم قبل التمكن من العمل به على الأرجح. وفائدة الأمر الأول ظهور عزم المطيع على العمل، وعزم العاصي على المعصية (1) .
الدليل الثاني: أن الصيغة موضوعة للعموم حقيقة، والتخصيص متوهم، فلا يجوز تأخير العمل بالعام لتوهم الخصوص، كما أن الحقائق لا يتوقف فهم معانيها، والعمل بها على البحث عن القرائن الصارفة لها عن حقيقتها إلى المجاز. فإذا وجب التمسك بالحقيقة والعمل بها من غير بحث عما يصرفها عن حقيقتها إلى المجاز فكذلك يجب العمل بالعام من غير بحث عما يصرفه عن عمومه إلى الخصوص (2) .
- المناقشة:
اعترض على هذا الاستدلال بأن صيغة العموم تخالف سائر الحقائق في أنه إذا خص من العموم بعض أفراده لم يصر مجازا في الباقي، والحقائق إذا صرفت عما وضعت له صارت مجازات عند الجميع.
ودفع هذا الاعتراض بأنه قد اشترك العام مع سائر الحقائق في أنه موضوع لمعناه حقيقة، وإنما قلنا: إنه بعد التخصيص لا يصير مجازا؛ لأن البعض الباقي ليس غير ما وضع له اللفظ، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لقرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي (3) .
وهذا الجواب كما هو واضح لا يتمشى إلا مع مذهب القائلين بأن التخصيص لا يصير العام مجازا. وأما من قال: إنه يصير مجازا فلا يخفى أن الاعتراض لا يرد عليه أصلا.
الدليل الثالث: أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة رضوان الله عليهم
__________
(1) الواضح (2 \ 95، 96) .
(2) العدة (2 \ 528) ، والواضح (2 \ 95) ، والمحصول (1 \ 3 \ 30) .
(3) راجع الواضح (2 \ 96) .(25/159)
التوقف في العمل بالعام إلى أن يستقصي البحث عن المخصص، ولا أنكر أحد منهم على من استدل بالعام قبل استقصاء البحث عما يخصصه، بل قد روي عنهم ما يخالف ذلك؛ فقد حكم عمر رضي الله عنه بدية الأصابع بمجرد العلم بكتاب عمرو بن حزم رضي الله عنه، وترك القياس، والرأي، ولم يبحث عن المخصص ولم يسأل عنه، وتمسكت فاطمة رضي الله عنها بعموم آية: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (1) .
ولم تبحث عن المخصص؛ إذ لو بحثت واستقصت في البحث لوجدته، وقد أقرها أبو بكر على ذلك الاحتجاج، ولم ينكر عليها، ولكن بين لها أن العموم مخصوص (2) .
الدليل الرابع: أنه لو لم يعمل بالعام قبل البحث عن المخصص لأفضى ذلك إلى ترك العمل بالدليل العام؛ لأن الأصول كثيرة، والإحاطة بها ليس بالأمر الهين، فما لم يجده المجتهد اليوم قد يجده غدا (3) .
__________
(1) سورة النساء الآية 11
(2) فواتح الرحموت (1 \ 267) .
(3) روضة الناظر (ص 243) .(25/160)
الدليل الخامس: أن الأصل عدم المخصص، وهذا يورث ظنا غالبا بأن المخصص معدوم، والظن الغالب كاف لإثبات الأحكام (1) .
القول الثاني:
أنه لا يجوز العمل بالعام قبل البحث عن المخصص.
وهذا القول هو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل. وقد استنتجها أصحابه من قوله فيما كتبه إلى أبي عبد الرحيم الجوزجاني حيث قال: "فأما من تأوله على ظاهره - يعني القرآن - بلا دلالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من أصحابه، فهو تأويل أهل البدع؛ لأن الآية قد تكون خاصة ويكون حكمها حكما عاما، ويكون ظاهرها في العموم، وإنما قصدت لشيء بعينه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعبر عن كتاب الله، وما أراد وأصحابه أعلم بذلك منا لمشاهدتهم الأمر، وما أريد بذلك (2) .
قال القاضي بعد نقل هذا النص: " ظاهر هذا أنه لا يجب اعتقاده، ولا العمل به في الحال حتى يبحث وينظر هل هناك دليل تخصيص (3) .
وقال الإمام أحمد أيضا في رواية صالح: " إذا كان للآية ظاهر فينظر ما عملت السنة، فهو دليل على ظاهرها " (4) .
__________
(1) العدة (2 \ 528) ، والمحصول (1 \ 3 \ 31)
(2) العدة (2 \ 527) ، والمسودة (ص 102) .
(3) العدة (2 \ 527) ، والمسودة (ص 102) .
(4) العدة (2 \ 526) ، والمسودة (ص 111) .(25/161)
واختار هذا القول ابن سريج وأكثر الشافعية (1) . وهو اختيار أبي الخطاب (510هـ) وشيخ الإسلام ابن تيمية من الحنابلة (2) .
الأدلة:
استدل أصحاب القول الثاني بأدلة أهمها ما يلي:
الدليل الأول:
أننا لو قدرنا وجود المخصص لما صح الاستدلال بالعام على عمومه، فإذا لم نبحث عن المخصص حتى يحصل لنا علم أو ظن غالب بعدمه فالدليل العام متردد بين أن يكون حجة وأن لا يكون. والأصل ألا يكون حجة إبقاء للأشياء على حكم الأصل. فيكون الدليل العام قبل البحث عن المخصص ليس بحجة (3) .
- المناقشة:
لقد أجاب الرازي عن هذا الاستدلال بأن الدليل العام وإن كان مترددا بين الحجية وعدمها إلا أن كونه حجة أغلب على الظن؛ لأن فيه إجراء للعام على ظاهره، والظن الغالب يكفي للاحتجاج (4) .
الدليل الثاني: قياس اللفظ العام على الشهادة فإنه لا يجوز للقاضي المبادرة إلى العمل بشهادة الشهود قبل أن يستكشف حالهم هل هم عدول؟ ولا يكتفي بأصل العدالة. قالوا: فكذلك الشأن في اللفظ العام فإنه وإن كان ظاهره يدل على دخول جميع أفراده لكن لا بد أن يبحث
__________
(1) راجع المحصول (1 \ 3 \ 29) .
(2) راجع روضة الناظر (242) ، ومجموع الفتاوى (29 \ 166، 167) .
(3) راجع المحصول (1 \ 3 \ 32) .
(4) راجع المحصول (1 \ 3 \ 32) .(25/162)
المجتهد عما يخصص هذا العموم، ولا يكتفي بدلالة الصيغة في أصل الوضع (1) .
- المناقشة:
اعترض على هذا الاستدلال بأن الشهود لم تثبت عدالتهم من قبل، وإلا لوجب على القاضي العمل بموجب شهادتهم من غير حاجة إلى تزكية، وأما العام فقد علمت دلالته على أفراده بأصل الوضع، فيعمل بتلك الدلالة حتى يرد ما يخالفها.
قال ابن حزم في الجواب عن هذا الاستدلال: " وهذا تشبيه فاسد؛ لأن الشاهدين لو صح عندنا قبل شهادتهما أنهما عدلان فهما على تلك الحالة، ولا يحل التوقف في شهادتهما، والغرض إنفاذ الحكم بها ساعة يشهدان، وكذلك ما أيقنا أنه خطاب الله تعالى أو خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا، وإنما يتوقف في الشاهدين إذا لم يعلمها " (2) .
وأيضا فإن الشهادة تفارق النقل والرواية من وجوه كثيرة؛ فإن رواية الواحد صحيحة يجب قبولها والعمل بها، بخلاف الشهادة فلا تصح من واحد (3) .
الدليل الثالث: أن السامع إذا سمع قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (4) .
فإما أن يعتقد عموم الآية مباشرة حتى إنه يعتقد خلق صفة الكلام، والإرادة، والعلم، ونحوها من صفات الله عز وجل، وإما أن يتوقف حتى ينظر فيما يجوز دخوله تحت الآية فيدخله، وما لا يجوز إدخاله فيخرجه، والاحتمال الأول باطل، فيتعين الثاني، وإذا قلتم به فقد قلتم بوجوب البحث
__________
(1) راجع العدة (2 \ 528) ، والأحكام لابن حزم (3 \ 342) ، والواضح (2 \ 95) .
(2) الأحكام لابن حزم (3 \ 342) .
(3) انظر في الفرق بين الرواية والشهادة كتاب الفروق للقرافي (1 \ 10-22) .
(4) سورة الزمر الآية 62(25/163)
عن المخصص (1) .
- المناقشة:
أجيب عن هذا الدليل بأن دليل العقل فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته سابق لكل سمع، فإذا سمع العاقل هذه الآية ونحوها بعدم دخول الله وصفاته تحت عمومها (2) .
ولا يخفى أن هذا الدليل إنما يتجه على من أوجب اعتقاد العموم والجزم به قبل البحث عن المخصص كالصيرفي، ولا يدل على عدم جواز العمل بالعام قبل البحث عما يخصصه.
القول الثالث: التفصيل، فيجب التوقف في حق البعض ولا يجب في حق البعض الآخر، وقد اختلفوا في كيفتيه على ثلاثة أقوال:
أ - مذهب أبي بكر الجصاص:
وهو أن السامع للفظ العام إن كان قد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم حادثة فأنزل الله في ذلك قرآنا عاما أو أجابه النبي بجواب عام، فعليه إمضاء لفظه على عمومه من غير طلب للمخصص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يذكر للسائل اللفظ العام من غير ذكر المخصص إلا إذا كان مرادا به العموم؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. وإن كان سمع النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم باللفظ العام ابتداء من غير أن يسأله، أو بلغه الدليل العام عن طريق النقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم من غير مشافهة، فلا يخلو إما أن يكون السامع من أهل الاجتهاد أو لا. فإن كان من أهل الاجتهاد ففيه وجهان:
__________
(1) راجع العدة (2 \ 532) .
(2) راجع العدة (2 \ 532) ، والواضح (2 \ 96) .(25/164)
- أحدهما: أنه لا يجوز له الحكم بظاهر الدليل العام حتى يستقرئ الأصول هل فيها ما يخصه؟
- والثاني: أنه يجوز له الحكم بعمومه من غير بحث؛ لأنه لا يمكن أن يخليه الله عند سماع اللفظ العام من إيراد دليل الخصوص إن كان العام مخصوصا؛ لأن إسماع المكلف اللفظ العام المخصوص دون دليل الخصوص تجهيل وتضليل، وهما ممتنعان عن الله جل وعلا.
وأما إن لم يكن السامع من أهل النظر والاجتهاد كالعامي فليس له أن يعمل بالعام قبل سؤال العلماء المجتهدين، فإن سأل من يلزمه قبول قوله فأفتاه بجواب عام لزمه إمضاؤه على عمومه، كمن سأل النبي صلى الله عليه وسلم (1) .
ب- أنه يجوز لمن سمع اللفظ العام من النبي صلى الله عليه وسلم التمسك به قبل البحث عن المخصص، ولا يجوز لغيره ذلك. ونسب هذا القول إلى أبي عبد الله الجرجاني من الحنفية (2) .
ووجه هذا القول أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز عليه تأخير المخصص عن العام، فإذا سمع الدليل العام من النبي صلى الله عليه وسلم من غير ذكر المخصص علم أن عمومه مراد، أما آحاد أمته فلا يمتنع عليهم أن ينقلوا العام المخصوص من غير نقل المخصص، فلا يجوز المبادرة بالعمل العام إلا لمن سمعه من النبي عليه السلام (3) .
وقد أجاب المجيزون للعمل بالعام من غير بحث عن ذلك من وجوه:
1 - أن تأخير بيان التخصيص عن وقت الخطاب جائز عندنا (4) .
__________
(1) راجع أصول الجصاص (2 \ 17) .
(2) الواضح (2 \ 94) .
(3) العدة (2 \ 532) ، والواضح (2 \ 96) .
(4) العدة (2 \ 532) ، والواضح (2 \ 96- 97) .(25/165)
2 - أن المبلغ عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز له أن يؤدي بعضا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم دون بعض، ولا يجوز له أن يكتم ماله أثر في الحكم، وإلا لكان ملبسا. فوجب أن يكون من سمعه من غير النبي صلى الله عليه وسلم كمن سمعه منه؛ لأنه سمع لفظ النبي بنصه من غير زيادة ولا نقصان.
3 - أن صيغ العموم موضوعة للدلالة عليه، فلا يختلف مدلولها باختلاف الناطقين بها، فيستوي في ذلك من سمع الدليل العام من النبي، ومن سمعه من غيره بنقل العدول الثقات (1) ج - أنه يجوز التمسك بالعام قبل البحث عن المخصص لمن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم دون من بعده، وقد ذكر المحلي في شرحه على جمع الجوامع أن الأستاذ أبا إسحاق الإسفراييني نقل الإجماع على ذلك (2) ، ولكن سبق أن عرفنا أن هذا النقل ليس بدقيق.
وهذا القول أوسع من الذي قبله؛ لأن ما قبله لا يجيز العمل إلا لمن سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، أما هذا القول فيجوزه لمن في عهد النبي سواء سمعه منه مباشرة أم بواسطة.
ولعل أصحاب هذا القول احتجوا بأن من في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يخفى عليهم المخصص إن وجد، بخلاف من بعدهم فربما خفي عليهم.
وهذا الاستدلال ليس بسديد؛ لأن من في عهد النبي عليه السلام قد تخفى عليهم بعض المخصصات كما خفي على فاطمة رضي الله عنها تخصيص آية الميراث بحديث «لا نورث، ما تركناه صدقة (3) » .
وأيضا فإن التابعين، ومن بعدهم فيهم من هو أعلم بكثير ممن في عهد
__________
(1) الواضح (2 \ 96 - 97) .
(2) شرح المحلى على جمع الجوامع (2 \ 8) .
(3) صحيح البخاري كتاب فرض الخمس (3094) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1757) ، سنن الترمذي السير (1610) ، سنن النسائي قسم الفيء (4148) ، سنن أبو داود كتاب الخراج والإمارة والفيء (2963) ، مسند أحمد بن حنبل (1/208) .(25/166)
النبي عليه السلام إذا لم يكن الصحابي ملازما للنبي ملازمة طويلة مع زيادة الفطنة والانتباه؛ إذ ليس كل من في عهد النبي عالما.(25/167)
المطلب الرابع
الموازنة والترجيح
الذي يظهر لي بعد استعراض أهم الآراء وأدلتها أن الراجح هو التفريق بين العلماء المجتهدين الذين أحاطوا بغالب نصوص الشريعة، وحصلوا من العلم ما يمكنهم من معرفة مراد الشارع، وسبروا غور النصوص فعرفوا الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والعام والخاص، وعرفوا مواطن الإجماع والاختلاف، والعوام ومن يلحق بهم من المنتسبين إلى الفقه الذين أخذوا من العلم ما لا يؤهلهم للفتيا وتولي القضاء. فالقسم الأول لا ينبغي الخلاف في أن أحدهم إذا بلغته آية عامة أو حديث عام ولم يبلغه ما يخصصه، مع تمرسه بالأدلة المنقولة والمعقولة، أنه يجب عليه العمل به إذا حان وقت العمل من غير توقف، ولا يجب عليه البحث عما عساه أن يجده من مخصص أو ناسخ.
أما العوام ومن في حكمهم فليس لأحد منهم أن يفتي أو يحكم بالعموم على ظاهره؛ لأنهم ليسوا من أهل الفتيا والحكم، وليسوا مخاطبين بهما.
ولكن إذا ابتلي بعض طلاب العلم بمنصب قضاء أو فتوى نظرا لانعدام المجتهد المطلق أو لندرة وجوده فلا يجوز له أن يحكم ولا أن يفتي قبل أن يتدبر أدلة الشرع، ويعرف ما قاله أهل العلم الذين سبقوه في هذه المسألة، وما استدل به كل منهم؛ حتى يتضح له وجه الصواب فيقدم على ما يراه حقا حينذاك، ولو أجزنا لهؤلاء أن يكتفوا بعمومات الأدلة(25/167)
التي بلغتهم لضلوا وأضلوا.
ووجه هذا التفصيل أن العلماء المجتهدين قد أحاطوا بغالب نصوص الشريعة، وعرفوا الخاص والعام والناسخ والمنسوخ، وقد سبق لهم البحث في العمومات، وعرفوا ما دخله التخصيص منها، وما لم يدخله التخصيص، فالبحث قد حصل منهم سابقا، قبل أن يتصدروا للفتيا أو القضاء، فإذا ألزمناهم بمعاودة البحث فلا يخلو إما أن نقول: تكفيهم غلبة الظن أو لا بد من القطع بعدم المخصص.
فإن قلنا: تكفيهم غلبة الظن، فغلبة الظن حاصلة لهم عند سماع العام الذي لم يعرفوا له مخصصا، وإن قلنا: يلزمهم القطع عطلنا العمل بنصوص الشريعة العامة، وآل بنا الأمر إلى مذهب الواقفية الذين لا يرون العمل بالعمومات؛ لأن القطع لا سبيل إليه في أكثر العمومات.
ويبدو لي أن الذين نقل عنهم المنع من العمل بالعام قبل البحث عن المخصص إنما منعوه لأحد أمرين:
الأول: أنهم لا يقصدون بالبحث عن المخصص استقصاء موارد الأدلة جميعها، وإنما يقصدون مجرد التروي واسترجاع المعلومات السابقة لعرض الدليل العام عليها، فإن وجدوا فيها ما يخصصه خصصوه، وإلا عملوا به في عمومه.
وهذا ظاهر من قول أبي زيد الدبوسي: " وأما الفقيه فيلزمه أن يحتاط لنفسه، فيقف ساعة لاستكشاف هذا الاحتمال بالنظر في الأشباه، مع كونه حجة للعمل به إن عمل، لكن يقف احتياطا حتى لا يحتاج إلى(25/168)
نقض ما أمضاه بتبين الخلاف " (1) .
ومثل هذا التوقف لا ينبغي الخلاف في أنه واجب.
الثاني: أنهم إنما منعوا ذلك خوفا من أن يقدم كل أحد على العمل بالعموم، والحكم به، وإن كان من غير أهل الاجتهاد، ولا شك أنه لو أذن لغير المجتهدين في أن يعملوا بالعموم من غير بحث عن المخصص لتعطل كثير من نصوص الشريعة الخاصة للجهل بها، وعدم البحث عنها، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ترجيح قول المانعين: "وهذا هو الصحيح الذي اختاره أبو الخطاب وغيره، فإن الظاهر الذي لا يغلب على الظن انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه، فإذا غلب على الظن انتفاء معارضه غلب على الظن مقتضاه، وهذه الغلبة لا تحصل للمتأخرين في أكثر العمومات إلا بعد البحث عن المعارض" (2) .
فقوله: إن هذه الغلبة لا تحصل للمتأخرين إلا بعد البحث عن المعارض. يدل على أنه إنما منع من ذلك خشية أن يتشبث بعض مدعيي العلم ببعض العمومات، ويتركوا البحث عن مخصصاتها.
والذين نقلوا الإجماع على المنع ربما قصدوا المنع من الاعتقاد الجازم قبل البحث، لا المنع من العمل إذا حضر وقت العمل بالعام. وقد أشار إمام الحرمين إلى ذلك حيث قال: "إذا وردت الصيغة الظاهرة في اقتضاء العموم ولم يدخل وقت العمل بموجبها. فقد قال أبو بكر الصيرفي من أئمة الأصول: يجب على المتعبدين اعتقاد العموم فيها على جزم، ثم إن كان الأمر على ما اعتقدوه فذلك وإن تبين الخصوص تغير العقد. وهذا غير معدود عندنا من مباحث العقلاء. ومضطرب العلماء، وإنما هو قول صدر
__________
(1) فواتح الرحموت (1 \ 267) .
(2) مجموع الفتاوى (29 \ 166 - 167) .(25/169)
من غباوة واستمرار في عناد. . (إلى أن قال) : " والذي يكشف الغطاء في هذه المسألة أن المتعبد قبل أن يحين العمل يتردد، وقد يغلب على ظنه العموم لظهور اللفظ في اقتضائه، ثم إذا لم يرد مخصص ودخل وقت العمل فيقع ذلك على وجهين:
أحدهما: القطع بالتعميم، فينتهض اللفظ العام مع ما يبدو من القرائن نصا، وقد يقع ذلك نصا في مسالك الظنون، فإن العمل لا ينحصر في مدارك القطع، فالمقطوع به وجوب العمل بالعموم، فأما أن يعتقد إرادة العموم فلا، وهذا يطرد في كل ما لا يكون قاطعا كأخبار الآحاد والأقيسة الظنية، فالمقطوع به في جميع هذه الأبواب وجوب العمل به " (1) .
فهذا الكلام يدل بوضوح على أن إمام الحرمين لم ينكر على الصيرفي القول بوجوب العمل بالعام إذا حضر وقت العمل من غير توقف، وإنما أنكر عليه القول بوجوب اعتقاد العموم الذي لم يحضر وقت العمل به، من غير بحث عن المخصص اعتقادا جازما، وقد اتهمه بالغباوة والعناد، وعد قوله مخالفا لمسالك العقلاء؛ وذلك لأن العام ظاهر لا يرتفع إلى درجة النص إلا بقرائن تدل على أنه أريد به العموم، فكيف يصح أن تقطع بأن مطلقه أراد التعميم من غير بحث عما قد يخصصه؟
ثم بين أن وجوب العمل به لا يدل على أنه ارتفع إلى درجة القطع، بل المقطوع به وجوب العمل، لا إرادة التعميم.
والحنابلة وإن كان منهم من أوجب اعتقاد عمومه قبل البحث، لكن لا يقصدون بذلك الاعتقاد الجازم، بل اعتقاد موقوف على عدم تبين المخصوص، أو هو ظن غالب.
وأما الذين أجازوا العمل بالعموم قبل البحث لمن سمعه من النبي
__________
(1) البرهان (1 \ 406 - 408)(25/170)
صلى الله عليه وسلم أو لمن في عهد النبي فإنما أجازوه لهم؛ لأنه يبعد أن يوجد المخصص ولا يعلموه، بخلاف من بعدهم، أو لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز عليه أن يذكر العام المخصوص دون أن يذكر دليل الخصوص. وهذه مسألة أخرى ليس هذا مكان بحثها. وقولهم لم يعد ذا أثر بعد انقراض عصر الصحابة رضي الله عنهم.
وخلاصة القول أن المجتهد الذي قد سبر غور النصوص وعرف خاصها وعامها وناسخها ومنسوخها، يجوز له أن يتمسك بالعام ويعمل به، ولا يجب عليه أن يعاود البحث في كل مرة يريد فيها أن يعمل بموجب نص عام، بل يعرض النص العام على ما بلغه من النصوص، فإن رأى فيها ما يخصه وإلا عمل به. . والله أعلم.(25/171)
المطلب الخامس
سبب الخلاف
اختلف في سبب الخلاف في المسألة ما هو؟ فذهب بعض العلماء إلى أن الخلاف مبني على أن التخصيص مانع أو عدمه شرط لإفادة العموم؟ فمن قال: إن التخصيص مانع أوجب العمل قبل البحث عن المخصص، فإذا وجد المخصص عمل بالعام فيما عداه، وإن لم يوجد بقي العام على عمومه.
وأما من قال: إن عدم المخصص شرط لإفادة الصيغة العموم فقالوا: لا يعمل بالعام إلا بعد تحقيق هذا الشرط قطعا أو ظنا غالبا (1) .
ومن العلماء من جعل الخلاف في المسألة مبنيا على الخلاف في قوة دلالة العام، أهي قطعية أم ظنية؟ فمن قال: إنها قطعية أوجب العمل قبل
__________
(1) راجع المسودة (ص 113) ، ونزهة المشتاق (145) .(25/171)
البحث، ومن قال: إنها ظنية منع العمل قبل البحث (1) .
وهذا الكلام فيه نظر؛ لأننا وجدنا الذين قالوا: إنها ظنية منهم من يوجب العمل قبل البحث، ومنهم من يوجب التوقف حتى يبحث.
وكذلك الذين قالوا: إنها قطعية، منهم من قال: يجب العمل مطلقا، ومنه من قال: لا يجوز العمل قبل البحث إلا لمن سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم على وجه التعليم، أو سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم مطلقا، سواء كان على سبيل التعليم أم لا.
__________
(1) راجع فواتح الرحموت (1 \ 267) .(25/172)
*
المطلب السادس
*
ثمرة الخلاف
الخلاف في هذه المسألة يترتب عليه خلاف في مسائل كثيرة، نشير فيما يلي إلى بعض منها باختصار:
1 - هل يجوز للقاضي أن يحكم للمدعي إذا قامت البينة بدون الإعذار إلى المدعي عليه؟
- قال الإسنوي (ت 772) : "جوزه الشافعي ومنعه أبو حنيفة، ولاشك أن حكم الحاكم بالبينة أو بالإقرار قبل الفحص عن المعارض كالعمل بالدليل قبل الفحص عن معارضه" (1) .
2 - إذا علق الزوج طلاق زوجته فقال: إن أعطيتني ألفا فأنت طالق، فهل تطلق بإعطائه أي نقد؟
- قال الإسنوي: تطلق بإعطائه أي نقد، لكن إذا أعطته من غير الغالب كان له رده، والمطالبة بالغالب. فإن كان الغالب في البلد الدراهم الزائدة قبل تفسيره بها على المذهب، وإن كان الغالب المغشوشة فقيل: ينزل كلامه عليها، وقيل: لا.
__________
(1) التمهيد (365 - 366) .(25/172)
فعلى قول من قال: يقبل التفسير بالناقصة والمغشوشة، فهل يجب أن يراجع ويسأل عن مقصوده أو يؤخذ بالظاهر، إلا أن يعبر بما يخالفه؟ فيه احتمالان:
3 - إذا لاعن الرجل زوجته وانتفى الولد ثم استلحقه فقال شخص للولد: لست ابن فلان فهل يعتبر هذا قذفا يحد به أو يسأل عن قصده؟
- قال النووي (ت 646هـ) : الراجح أنه يعتبر قذفا فيحد به، إلا إن ذكر تفسيرا معقولا فيقبل قوله بيمينه (1) .
4 - ذكر صاحب فواتح الرحموت أن الخلاف في تأخير المخصص عن الخطاب العام مبني على الخلاف في العام أيجب العمل بعمومه قبل البحث عن المخصص أم لا بد من البحث قبل العمل؟ فمن قال: يجب العمل قبل البحث قال: لا يجوز تأخير المخصص (2) .
__________
(1) راجع في المسائل المتقدمة التمهيد (365 - 367) .
(2) راجع فواتح الرحموت (1 \ 302) .(25/173)
المطلب السابع
مقدار البحث عن القائلين به
الذين منعوا العمل بالعام قبل البحث عن المخصص اختلفوا في مقدار البحث على أقوال:
القول الأول:
أنه يكفي غلبة الظن. وبه قال أكثر من أوجب البحث عن المخصص، ومنهم ابن سريج.
ووجه هذا القول: أن القطع واليقين لا سبيل إليه، وليس في وسع المكلف تحصيله، والظن الغالب كاف لوجوب العمل بالأدلة الشرعية فيقتصر عليه (1) .
__________
(1) راجع المستصفى (2 \ 158 - 159) ، روضة الناظر (242) ومسلم الثبوت وشرحه (1 \ 268) .(25/173)
القول الثاني:
أنه يجب القطع بانتفاء المخصص، وقد نقله الغزالي عن القاضي أبي بكر الباقلاني، وقد ذكر لتحصيل القطع طريقين:
أ - أن المسألة إذا اشتهر الكلام فيها بين الصحابة والتابعين وسائر أهل العلم بعدهم، فيقال: إن هذه المسألة طال البحث فيها بين أهل العلم، وذكر كل منهم دليله، وليس فيها ما يخصص هذا العموم، فنقطع بانتفائه (1) .
وقد رد الغزالي ذلك من وجهين:
الأول: أنه ليست كل المسائل قد طال البحث فيها بين أهل العلم، فهل يحجر على الصحابة التمسك بالعموم في المسائل التي لم يكثر البحث فيها؟
الثاني: أنه حتى لو طال الخوض في مسألة من المسائل لا يمكن أن نقطع بعدم وجود المخصص، وبخاصة أنه لا يمكن لأحد أن يدعي أنه اطلع على كل ما قاله أهل العلم فيها؛ لأن منه ما لم يكتب، ومنه ما كتب، ولم يبلغنا، فيمكن أن يكون فيما لم يبلغنا دليل الخصوص.
ب - الطريق الثاني: أن يقول: لو كان الحكم خاصا لنصب الله تعالى عليه دليلا للمكلفين، ولبلغهم ذلك، وما خفي عليهم.
وقد رده الغزالي بأنه إذا تحقق إجماع الأمة على شيء أمكن القطع به، لكن إذا لم تجمع الأمة عليه فكيف يتصور القطع به؟ (2) .
__________
(1) راجع المستصفى (2 \ 159 - 160) ، ومسلم الثبوت وشرحه (1 \ 268) .
(2) راجع المستصفى (2 \ 161 - 162) .(25/174)
القول الثالث:
وهو اختيار الغزالي، وقد توسط بين القولين السابقين فلم يقل بوجوب القطع، ولم يقل: تكفي غلبة الظن، بل قال: يجب على المجتهد أن يبحث حتى يتحقق من عجزه عن إدراك المخصص، بحيث يتيقن أن بحثه بعد ذلك بحث ضائع لا جدوى منه، ومثل هذا البحث يحصل به علم وظن، أما العلم فهو تيقن المجتهد بعجزه عن إدراك المخصص، وأما الظن فبانتفاء الدليل المخصص في واقع الأمر.
ووجه هذا القول أن العام لا يكون دليلا إلا بانتفاء المعارض، فوجب بذل الجهد والطاقة لإدراك المخصص أو تحقق العجز عن إدراكه، وغلبة الظن بعدم وجوده في نفسه (1) وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________
(1) المستصفى (2 \ 162) .(25/175)
مصادر البحث
1 - الإحكام في أصول الأحكام لأبي محمد بن حزم - طبع مطبعة الإمام بمصر.
2 - الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر - الطبعة الأولى سنة 1328هـ - مطبعة السعادة بمصر.
3 - أصول الجصاص: لأبي بكر أحمد بن علي الرازي (مخطوط) له صورة بدار الكتب.
4 - الأعلام لخير الدين الزركلي - الطبعة الثالثة.
5 - البرهان: لإمام الحرمين الجويني - تحقيق د. عبد العظيم الديب - الطبعة الأولى - قطر.
6 - التمهيد لجمال الدين الإسنوي - تحقيق محمد حسن هيتو - طبعة سنة 1400هـ.
7 - تيسير التحرير لمحمد أمين - مطبعة البابي الحلبي سنة 1350هـ.
8 - جمع الجوامع لتاج الدين السبكي - الطبعة الثانية مطبعة مصطفى البابي الحلبي سنة 1356هـ ومعه شرح المحلي وحاشية البناني.
9 - الجواهر المضيئة لابن نصر الله - الطبعة الأولى بمطبعة حيدر أباد الدكن.
10 - الرسالة للإمام الشافعي - تحقيق أحمد محمد شاكر - الطبعة الأولى.
11 - روضة الناظر لأبي محمد بن قدامة - تحقيق د. عبد العزيز السعيد - الطبعة الأولى.
12 - السنن الكبرى للحافظ البيهقي - الطبعة الأولى سنة 1344هـ - حيدر أباد الدكن.
13 - سنن الترمذي - تعليق عزت الدعاس - مطابع الفجر الحديثة بحمص.
14 - شذرات الذهب: لابن العماد الحنبلي - طبعة المكتب التجاري في بيروت.
15 - صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري - نشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
16 - صحيح مسلم تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي - نشر وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
17 - طبقات الحنابلة: للقاضي أبي الحسين محمد بن أبي يعلى - دار المعرفة - بيروت.
18 - طبقات الشافعية لجمال الدين الإسنوي - طبع ديوان الأوقاف في بغداد - سنة 1391هـ تحقيق عبد الله الجبوري.
19 - طبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين السبكي - الطبعة الأولى تحقيق عبد الفتاح الحلو ومحمد الطناحي.
20 - العدة للقاضي أبي يعلى تحقيق د. أحمد سير المباركي - طبعة مؤسسة الرسالة.
21 - الفروق لشهاب الدين القرافي - تصوير دار المعرفة - بيروت.
22 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية - جمع عبد الرحمن بن قاسم.
23 - المحصول - لفخر الدين الرازي تحقيق د. طه جابر العلواني - الطبعة الأولى.
24 - المستصفى لأبي حامد الغزالي - الطبعة الأميرية في بولاق سنة 1322هـ - وبذيله مسلم الثبوت وشرحه.
25 - مسلم الثبوت لابن عبد الشكور وشرحه فواتح الرحموت للأنصاري - المطبعة الأميرية - مطبوع بذيل المستصفى.
26 - المسودة لابن تيمية - طبع مطبعة المدني بمصر، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد.
27 - مفتاح السعادة ومصباح الريادة - لطاش كبري زادة - مطبعة الاستقلال بمصر تحقيق كمال بكري وعبد الوهاب أبو النور.
28 - منهاج الوصول للبيضاوي - مطبعة محمد علي صبيح بمصر، ومعه نهاية السول للإسنوي وشرح البدخشي.
29 - الموافقات للشاطبي تحقيق عبد الله دراز - طبعة دار المعرفة - بيروت.
30 - نزهة المشتاق في شرح اللمع لأبي إسحاق الشيرازي: لمحمد يحيى بن الشيخ أمان - طبعة 1370هـ مطبعة حجازي بالقاهرة.
31 - الواضح لابن عقيل مخطوط بالظاهرية.(25/176)
تعدد الزوجات وأهميته للمجتمع المسلم
الدكتور
ناصر بن عقيل الطريفي
الحمد لله الذي خلق لنا من أنفسنا أزواجا لنسكن إليها، وجعل بيننا مودة ورحمة، والصلاة والسلام على رسولنا وهادينا محمد بن عبد الله الذي أرسل رحمة للعالمين، فأمر بالتناكح والتزاوج للتناسل وتكثير هذه الأمة للمباهاة والمكاثرة بها الأمم يوم القيامة.
وبعد:
فإن الله تعالى جعل بقاء الإنسان وطريقة تكاثره وتناسله عن طريق التزاوج بين المرأة والرجل، وركب في الزوجين الرجل والمرأة غريزة الشهوة الجنسية؛ ليحصل المقصود من تناسل الإنسان لبقائه، ثم إنه سبحانه وتعالى نظم طريقة إرواء غرائز الإنسان تنظيما يكفل إرواءها ويحد من جماحها؛ إذ لو ترك للإنسان إرواء رغباته حسب ما يحلو له، لدبت الفوضى، ولجنح عن الصراط المستقيم، وتنكب الجادة كما هو مشاهد في عالم البشر الذين لا يؤمنون بالله تعالى، أو لا يطبقون شريعة الإسلام، فنجد أن ظاهرة الجنس تسيطر على حياتهم، وكأن الإنسان خلق من أجل التمتع الجنسي؛ لذا دبت الفوضى واستشرى الفساد، وأصبحت العلاقات البهيمية المحمومة هي المسيطرة بين الرجال والنساء، وأصبحت المرأة سلعة يتاجر بها الرجل ويلوح بها في كل حين، وظهرت الحياة عند بعض الشعوب حياة جنسية شبيهة بحياة الحيوانات الخالية من كل قيد وتنظيم.
أما نظام إرواء الرغبة الجنسية في الإسلام فهو عن أحد طريقين:(25/177)
الزواج أو الاسترقاق. ولا ثالث لهما، وأي طريق غير هذين فهو اعتداء على حرمات الله وتشريعه، يعاقب عليه في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (1) {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (2) {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (3) .
وتشريع الله للعلاقة بين الرجل والمرأة هو التشريع السليم؛ لأنه من عند خالق البشر، العالم بما يصلحهم في دنياهم وآخرتهم، فالزواج المشروع هو الذي ينتج العلاقة الصالحة التي تقوى فيها العاطفة والمحبة والألفة والحنان بين الزوجين، وتروى فيها الرغبة الجنسية والوطر، ويولد فيها الأولاد في جو من المحبة والسعادة، ويتربون في كنف هذه الحياة الزوجية أسوياء يشاركون بعد ذلك في بناء المجتمع.
أما ترك الإنسان يجمح في إرواء رغبته كلما سنحت له الفرصة مع أي امرأة، وبأي طريقة، فهذا يولد القلق والأمراض، وينتج أولادا غير شرعيين يتربون في الملاجئ، ومن ثم يحرمون الحنان والعاطفة، فيشبون مجردين عن الحب، بل ربما يخرجون وهم يحملون الحقد على المجتمع.
وتعدد الزوجات الذي أباحه الله تعالى بقوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (4) .
يرعى تحقيق مصالح كثيرة تظهر لنا أحيانا، وتخفى علينا أحيانا أخرى، وهذا الشأن في تشريعات الله وأحكامه، فالله - سبحانه وتعالى - لم يسن أي أمر عبثا، وإنما سنه لحكمة يعلمها، ومصالح كثيرة تعود على الإنسان بالنفع العميم والخير الكثير. فهذا التعدد فيه إعفاف للرجال والنساء عن الحرام وقضاء على الفساد، ودفع للشرور والآثام، وتكثير
__________
(1) سورة المعارج الآية 29
(2) سورة المعارج الآية 30
(3) سورة المعارج الآية 31
(4) سورة النساء الآية 3(25/178)
للنسل، وطاقات المجتمع البشرية التي يحتاج إليها للبناء والتنمية، حتى إن بعض العلماء لا يرى أن تعدد الزوجات مجرد إباحة، وإنما هو مندوب إليه ومرغب فيه شرعا. قال ابن قدامة في معرض حديثه عن النكاح وأمر الله به وحث عليه: (ولأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج وبالغ في العدد وفعل ذلك أصحابه، ولا يشتغل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا بالأفضل، ولا تجتمع الصحابة على ترك الأفضل والاشتغال بالأدنى) (1) اهـ.
وأصدق دليل على فضل النكاح وتعدد الزوجات هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو خير هذه الأمة، وقد عدد زوجاته. روى البخاري بسنده عن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس: هل تزوجت؟ قلت: لا. قال: فتزوج؛ فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء (2) .
قال ابن حجر في بيان معنى هذا الحديث: (قيل: المعنى: خير أمة محمد من كان أكثر نساء من غيره ممن يتساوى معه فيما عدا ذلك من الفضائل. والذي يظهر: أن مراد ابن عباس بالخير النبي صلى الله عليه وسلم وبالأمة أخصاء أصحابه، وكأنه أشار إلى أن ترك التزويج مرجوح؛ إذ لو كان راجحا ما آثر النبي صلى الله عليه وسلم غيره، وكان مع كونه أخشى الناس صلى الله عليه وسلم وأعلمهم به يكثر التزويج لمصلحة تبليغ الأحكام التي لا يطلع عليها الرجال) (3) اهـ.
وقد قال ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه -: (لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام، وأنا أعلم أني أموت في آخرها يوما، ولي طول النكاح فيهن لتزوجت مخافة الفتنة) (4) .
__________
(1) المغني (6 \ 447) . ط: الثالثة، أصدرتها دار المنار سنة 1367هـ.
(2) صحيح البخاري - كتاب النكاح، باب كثرة النساء، رقم الحديث 5069. فتح الباري (9 \ 113) .
(3) فتح الباري (9 \ 114) .
(4) المغني (6 \ 446) ط: الثالثة، أصدرتها دار المنار، سنة 1367هـ.(25/179)
كما أن الآية أمرت بالنكاح اثنتين، أو ثلاثا، أو أربعا، فإن خاف الإنسان عدم العدل بين الزوجات فيلجأ إلى عدم التعدد، فيقتصر على واحدة أو على ملك اليمين من الإماء، والأمر أقل درجاته الندب والاستحباب، روى البخاري بسنده «عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة - رضي الله تعالى عنها - عن قوله تعالى:.
فقالت: يا ابن أختي، هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها، ويريد أن ينتقص صداقها، فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا في إكمال الصداق، وأمروا بنكاح من سواهن. قالت: واستفتى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، فأنزل الله تعالى: إلى. . فأنزل الله لهم أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها ونسبها في إكمال الصداق، وإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركوها وأخذوا غيرها من النساء. قالت: فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها، إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى من الصداق (4) » .
ومع هذه الفوائد الجمة لتعدد الزوجات من تكثير أفراد الأمة، وإعفاف الرجال والنساء عن الحرام والزنا والعلاقات المشبوهة، نجد أعداء الإسلام يهاجمون الإسلام ويطعنون فيه بإباحته للتعدد، ويصفونه بأنه يهضم المرأة حقها، ويعطي الرجل فرصا أفضل من الفرص التي يعطيها للمرأة في إشباع مطالبه ورغباته، بينما يقيد دائما دور المرأة، ويجعلها
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب النكاح - باب الأكفاء في المال وتزويج المقل المثرية، رقم الحديث 5092. فتح الباري (9 \ 136 - 137) .
(2) سورة النساء الآية 3 (1) {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا}
(3) سورة النساء الآية 127 (2) {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ}
(4) سورة النساء الآية 127 (3) {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ}(25/180)
مغلوبة على أمرها، كما أن إباحة التعدد لا يستفيد منه جميع طبقات المجتمع، وإنما يستفيد منه ذوو الثراء والجاه وحدهم؛ إذ هم القادرون على التعدد والإنفاق، ودفع تكلفة الزواج، وهم القادرون على تحقيق مطالب الزوجات والأولاد.
وللأسف نجد بعض المسلمين يزهد في التعدد ويحاول تصويره بأنه كله مشكلات وأعباء، وما ذلك إلا لعدم ثقته بالله تعالى المشرع والمنظم، ولضعف إيمانه بأحكام دينه.
بل إن بعضهم يحاول أن يجعل من النصوص الشرعية ما يؤيد رأيه ووجهته في منع التعدد، فيجعل قول الله تعالى:
{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (1) . وقوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} (2) .
دليلا له على منع التعدد في الظروف العادية؛ إذ شرط التعدد هو العدل، وهو متعذر وغير مستطاع؛ لذا يمنع التعدد، لأنه إذا امتنع الشرط الذي هو العدل امتنع المشروط الذي هو التعدد، وليس الأمر كذلك؛ لأن العدل المنفي في قوله:
{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} (3)
هو المحبة القلبية؛ لأن القلوب ليست ملكا لأصحابها، فلا يملك المرء التحكم في قلبه، فهو بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعدل بين زوجاته في القسم والنفقة والمبيت والسكنى ويقول:
__________
(1) سورة النساء الآية 3
(2) سورة النساء الآية 129
(3) سورة النساء الآية 129(25/181)
«اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك (1) » .
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والدارمي وأحمد. سنن أبي داود، كتاب النكاح - باب في القسمة بين النساء (1 \ 492) . سنن النسائي، كتاب عشرة النساء - باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض (7 \ 634) . سنن ابن ماجه، كتاب النكاح - باب القسمة بين النساء، رقم الحديث 1971 (1 \ 634) . سنن الدارمي، كتاب النكاح - باب في القسمة بين النساء (2 \ 144) . مسند الإمام أحمد (6 \ 144) .(25/182)
فوائد تعدد الزوجات وأهميته للمجتمع
إن تعدد الزوجات ضرورة اجتماعية، ورحمة بالمرأة ورعاية لها قبل أن يكون مغنما للرجل، وهذه حقيقة مشاهدة مدركة بالعيان، يشاهدها كل ذي بصيرة. . أما من أغفل قلبه وأعمى عينيه وسار وراء الذين يشوهون التعدد ويصورونه بأنه مشكلات وأعباء ومتاعب وقسوة وحيوانية وظلم للمرأة، ويضربون أمثلة من الوقائع اليومية التي يعيشها الناس، فهم ناسون بأن الحياة كلها مشكلات، وأن الإنسان يعيش في داخل المشكلات والمتاعب؛ كما قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} (1) .
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه (2)
فهل صاحب الزوجة الواحدة يخلو من المشكلات والمنغصات؟! وهل الأولاد إذا كانوا من زوجة واحدة وأب واحد لا يوجد بينهم منافسات ومشكلات؟! وهل من عنده أولاد سعيد كل السعادة؟! وهل من حرم الأولاد سعيد كذلك؟! فالحياة الدنيا حياة ملؤها المشكلات والمنغصات والهموم والكبد، ولكن على الإنسان أن يصبر ويرضى بحكمة ربنا وقدره، ويستشعر أن هذه الحياة ما هي إلا وسيلة إلى الحياة الحقيقية، الحياة الآخرة التي لا فناء بعدها، كما قال الله تعالى:
{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (3) .
__________
(1) سورة البلد الآية 4
(2) البيت لبشار بن برد. انظر: العقد الفريد (2 \ 310) ط: الثانية بالقاهرة.
(3) سورة العنكبوت الآية 64(25/182)
وتعدد الزوجات الذي نحن بصدد الحديث عنه رغم ما فيه من أعباء وتكاليف كثيرة على الزوج، وما فيه من إثارة لغيرة المرأة من ضراتها - الزوجات الأخر - فهو يعالج شرا بأخف ضرر ممكن، فعلى المرأة أن تضحي من أجل بنات جنسها، وعلى الرجل أن يتحمل ليشارك في بناء المجتمع، فإننا ندرك مبررات كثيرة للتعدد، وضرورات اجتماعية تلجئ إليه، مع إيماننا بأن المسلم عليه أن يطبق حكم الله، سواء أظهرت له الحكمة والمصلحة من الحكم، أم لم يظهر له شيء:
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (1) .
ولكننا نذكر هذه الفوائد والمبررات لتطمئن قلوب الذين ضعف إيمانهم، أو يريدوا إقناع غيرهم، واتقاء شر هجوم الكفار على الإسلام، فمن هذه المبررات:
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 36(25/183)
أولا: أن نسبة النساء في أي مجتمع من المجتمعات البشرية تفوق نسبة الرجال وتزيد عليها، وذلك مشاهد من عدة وجوه:
الوجه الأول: كثرة ولادة البنات دون الذكور، فنجد عدد النساء في البيت الواحد أكثر من عدد الرجال، وليتحقق كل واحد من هذه الحقيقة بالنظر إلى بيته وأقاربه وجيرانه، وليعمل إحصائية يعدد فيها الرجال، وإحصائية أخرى يعدد فيها النساء في معارفه، فإنه ولا شك سيخرج بنتيجة زيادة عدد النساء على الرجال.
الوجه الثاني: يتعرض الرجال للموت والفناء أكثر من النساء؛ إذ لديهم قابلية للمرض أكثر من النساء، كما أن الرجال يتعرضون للحوادث من جراء تعرضهم للمخاطر أكثر من النساء، فالرجال في الغالب تقع(25/183)
عليهم حوادث الطائرات والسيارات والقطارات والسفن، وشتى حوادث الطرق؛ لأنهم يخرجون للكسب والمعاش، بينما النساء يقبعن في بيوتهن، والرجال قوامون عليهن، فالمرأة لا تتعرض للأخطار كثيرا، وإن كنت شاكا في هذا فاجلس عند باب المقبرة، واعمل إحصائية بمن يموت خلال شهر، فستجد نسبة وفيات الرجال تزيد على نسبة وفيات النساء بنسبة 3 - 1.
كما أن الحروب تلتهم الرجال، وهم وقود المعارك، وبنظرة سريعة إلى البلاد التي تستعر فيها الحروب، فستجد آلاف النساء بلا عائل، تخطفت الحروب والاغتيالات آباءهن وأزواجهن ومن يعولهن.
وقد دلت الإحصائيات بعد الحرب العالمية الثانية أن أكثر بلاد أوروبا أصبحت النساء يشكلن نسبة 7 - 1 من الرجال، فإذا تزوجت واحدة برجل فأين الأزواج للبواقي إذا لم يكن التعدد؟(25/184)
ثانيا: أن الرجل يتأخر نضجه الجنسي والاجتماعي واستعداده للزواج، فقل أن يكون مهيئا للزواج قبل الخامسة والعشرين من عمره، بينما المرأة يبدأ نضجها واستعدادها للزواج في سن مبكرة قبل الرجل بما لا يقل عن خمس سنوات. فكمال نضارة المرأة وبهجتها في سن العشرين من عمرها، وهذا يجعل الجاهزات للزواج أكثر من نسبة الرجال الجاهزين للزواج، فلو تأخرت المرأة في الزواج كما يتأخر الرجل لذهبت نضارتها وزهرة حياتها وأنوثتها، وهذا ما نشاهده في واقع الحياة، وبخاصة مع البنات اللاتي شغلت الدراسة أفكارهن، فيردن التخرج من الجامعات وإكمال الدراسات العليا، وفي النهاية يفاجأن بفوات قطار الزواج، ورغبة الرجال عنهن، فيجلسن عانسات في بيوتهن.(25/184)
ثالثا: أن رغبة المرأة إلى الجماع أقل من رغبة الرجل، وهي أكثر حياء منه، فقلما تجد رجلا يستغني بامرأة واحدة، بينما كثير من النساء(25/184)
لا تتحمل كثرة الجماع وتتأفف منه، فلا تستطيع امتصاص طاقة الرجل، وبخاصة عند بلوغها الخمسين من عمرها.
والذين ينتقدون الإسلام في إباحته للتعدد هم يعددون النساء ولكن بطرق غير مشروعة، فلهم الخليلات والصديقات والسكرتيرات، وغير ذلك من طرق الاتصال المشبوه الذي يهدد البيوت ويفسد العلاقات الأسرية، كما أن القسوة والوحشية تتمثل في هذا الاتصال المحرم، فالمرأة يعبث بها الرجل ثم تنوء بأعباء هذا العبث من إفساد سمعتها وتدنيس شرفها وعفتها، وتركها للخزي والعار، وربما تحمل من هذا الاتصال والرجل ليس عليه تبعات هذا الحمل، ولا نفقة للمرأة ولا مهر يدفعه لها، والأولاد يتركون للحرمان والتشرد والفقر، فالصلات المحرمة آلام على المرأة وعلى أولادها، لذا عاقب عليها الإسلام بالجلد والرجم بالحجارة حتى الموت، وقد أغمضت القوانين الوضعية عينيها وكأنها لا ترى الفساد والإفساد الذي ينخر كالسوس في جسم المجتمع، حتى ليكاد يبليه، فهؤلاء الأولاد الذي يرمون في الشوارع، أو يسلمون لدور الملاجئ، وهذه الأمراض الجنسية التي تهدد من كل صوب وناحية سببها - والله أعلم - هو الاتصال الجنسي غير الشرعي وبسبب البعد عن التمسك بأوامر الإسلام.
وبهذا ندرك أهداف الذين ينتقدون الإسلام في عدم إعطائه الحرية الشخصية للناس يعملون كما يشاءون، ندرك أنهم يريدون العبث بالمرأة وإرواء رغباتهم ونزواتهم، بينما الإسلام يريد مجتمعا نظيفا تقوم العلاقة فيه بين الرجل والمرأة عن طريق واحد هو الزواج، وهذا يكفل للمرأة سعادتها وكرامتها وعفتها، وللأولاد الحنان والنفقة والتربية، ويكفل للرجل قضاء الوطر والعيش الهنيء، الذي تسوده المحبة والراحة والاطمئنان والأنس والرحمة.(25/185)
رابعا: المرأة معرضة للعقم والإياس، والمرض الذي يفوت على الرجل الاستمتاع بها، كما أن المرأة بعد كبرها وإياسها لا تثير الرجل لذهاب بهجتها، كما قال الله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) .
فالمرأة لا تحمل ولا تحيض بعد سن الخمسين من عمرها، أما الرجل فتبقى لديه القوة والحيوية والرغبة إلى النساء ولو بعد كبر السن، بل حتى الموت.
فإذا كانت المرأة عقيما هل من العدل أن يصبح الرجل معها عقيما ونفسه تشرئب للأطفال والأنس بهم، ومن هنا ليس هناك حل إلا أن يبقى محروما من الأولاد مع بقائه مع هذه العقيم، أو أن يطلقها ليتزوج غيرها، أو أن يتزوج بأخرى تنجب مع بقائها، ولا شك أن بقاءه بدون ذرية يتنافى مع فطرة الإنسان وغريزته التي تحب الأولاد، وطلاقه للعقيم يشردها؛ إذ المرأة إذا طلقت لا يتزوجها في الغالب إلا من هو أقل من زوجها السابق شأنا، أو أكبر سنا وله زوجة وأولاد، وقد يكون عاجزا عن الزواج على الأبكار، أو أن تبقى بدون زوج طيلة بقية حياتها، فكونها ترضى بنصف رجل أو ثلثه أو ربعه هو خير لها من عدمه.
وإن كانت مريضة وهو يحبها ومرضها لا شفاء بعده وهو يمنع زوجها من أن يستمتع بها، أو يحرم زوجها من خدمتها، فهل يطلقها وهي مريضة ومحتاجة إلى الرعاية والحنان؟ أم يتزوج غيرها مع بقائها في عصمته ولها النفقة والسكنى والكرامة والمساواة؟ .
__________
(1) سورة النور الآية 60(25/186)
خامسا: الزواج المتعدد فيه نبل وتضحية من الرجل وتحمل للمشقات والتبعات، فأحيانا يتزوج يتيمة أو أرملة، أو امرأة فاتها قطار الزواج وفرصه، ولو تركت لجلست بدون زوج العمر كله، وقد يفكرن في الاتصال المحرم، كما أن الزوج بتعداده لزوجاته إنما يخفف من أعباء المجتمع وأولياء النساء، حيث يتحمل رعاية وتبعات أناس آخرين، ويساهم في رفع المشقة والعنت عن أولياء أمور النساء، فيحفظ زوجته ويصونها، ويكون سببا في حصول الأولاد لها، وينفق عليها وعلى أولادها منه، ويشرف على تربيتهم.
هذه بعض فوائد التعدد ومبرراته، ثم هو مباح، لا واجب، فهو بمثابة العلاج في الصيدلية يتناوله من يحتاج إليه ويجد القدرة على استعماله رغم ما فيه من مرارة ومعاناة، فالأمر متروك للرجل، فهو الذي يقرر التعدد من عدمه؛ لأن مسألة الزواج يترتب عليها تبعات أخرى من السكن والنفقة والعدل والمساواة في القسم، فهو لا يقدم على التعدد إلا إذا وجد الحاجة داعية إليه، والمرأة التي أقدمت على الزواج من رجل معه زوجة أخرى لو وجدت أحسن منه لمالت إليه، ولكن الظروف ألجأتها إلى ذلك، والمرأة الأولى إذا لم تستطع البقاء بعد زواج زوجها على غيرها، فإن لها مندوحة ومخرجا من هذا الزواج بطلب الطلاق والمخالعة.
وبعد هذا ندرك أهمية تعدد الزوجات للمجتمعات البشرية كلها، وصدق الله العظيم: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1) .
فشريعة الله وتنظيمه لا يدانيها أي تشريع أو نظام من نظم وتشريعات البشر.
فالزواج المتعدد نعمة يحل كثيرا من المشكلات للزوجين، فتبقى زوجته الأولى مع أولادها، لها النفقة والرعاية والحب والعدل في القسم،
__________
(1) سورة المائدة الآية 50(25/187)
وهو يسعد بزواجه من الأخرى، ولو لم يبح التعدد فماذا تعمل النساء الأخريات؛ إذ كل امرأة أخذت نصيبها من الرجال، وماذا يعمل الرجل في قضاء وطره وتتوق نفسه إلى النساء؟
وليس معنى هذا أن التعدد نعمة على الجميع - الرجل وزوجاته - ولكن عدم التعدد أشد ضررا، فيدفع التعدد - الذي هو ضرر - ما هو أعظم منه، إذ لوجدت المرأة رجلا ليس عنده زوجات أخر لم تفضل عليه غيره.
وإذا كانت الزوجة الأولى ينالها ضرر من الزواج بالثانية، فإن الثانية ينالها ضرر أشد وأعظم بالحرمان؛ إذ تموت أنوثتها أو تنجرف فتكون ضياعا بين الرجال - والضرر الكبير يدفع الضرر اليسير - ثم إن الحياة الزوجية المتعددة فيها ما فيها من المنغصات والكبد والمشقة، شأنها شأن الحياة كلها؛ إذ الحياة كلها عنت ومشقة، والإنسان يعيش في داخل الكبد والمشقة، قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} (1) .
حتى الرجل مع زوجته الواحدة عنده من المشكلات الشيء الكثير.
هذه بعض فوائد التعدد، وقد يكشف الزمن مستقبلا غير هذه الفوائد.
__________
(1) سورة البلد الآية 4(25/188)
شروط تعدد الزوجات
لما شرع الله تعدد الزوجات لم يتركه بدون قيد ولا شرط، وإنما سن له حدودا واشترط له شروطا، فيما يلي أتحدث عن هذه الشروط فأقول:
هناك ثلاثة شروط لجواز تعدد الزوجات، هي:
1 - أن لا يزيد عدد الزوجات عن أربع نساء.
2 - أن يستطيع الإنفاق على الزوجات جميعا.(25/188)
3 - أن يستطيع العدل بين زوجاته.
أما الشرط الأول: وهو أن لا يزيد عدد النساء اللاتي يتزوج بهن عن أربع زوجات، فقد ذكره الله تعالى في كتابه الكريم حيث قال: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (1) .
وقد روى الترمذي (2) . وابن ماجه (3) وأبو داود (4) : «أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اختر منهم أربعا وفارق سائرهن» . وهذا الشرط مجمع عليه بين المسلمين. قال ابن قدامة: (أجمع أهل العلم على هذا، ولا نعلم أحدا خالفه إلا شيئا يحكى عن ابن القاسم بن إبراهيم أنه أباح تسعا لقوله تعالى:
{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (5)
والواو للجمع، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم مات عن تسع، وهذا ليس بشيء؛ لأنه خرق للإجماع وترك للسنة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال لغيلان بن سلمة حين أسلم وتحته عشر نسوة: أمسك أربعا وفارق سائرهن (6) » «وقال نوفل بن معاوية: أسلمت وتحتي خمس نسوة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فارق واحدة منهن» . رواهما الشافعي في مسنده، وإذا منع من استدامة زيادة عن أربع فالابتداء أولى، فالآية أريد بها التخيير بين اثنتين وثلاث وأربع كما قال: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (7)
ولم يرد أن لكل ملك تسعة أجنحة، ولو أراد ذلك لقال: تسعة، ولم يكن للتطويل معنى، ومن قال غير هذا فقد جهل اللغة العربية. . وأما النبي صلى الله عليه وسلم فمخصوص بذلك) (8) .
__________
(1) سورة النساء الآية 3
(2) سنن الترمذي في كتاب النكاح رقم الباب 33 (3 \ 435) رقم الحديث 1128.
(3) سنن ابن ماجه، في كتاب النكاح - رقم الباب 40، رقم الحديث 1953 (1 \ 628) .
(4) سنن أبي داود، كتاب الطلاق - باب من أسلم وعنده نساء أكثر من أربع (1 \ 519) .
(5) سورة النساء الآية 3
(6) سنن الترمذي النكاح (1128) ، سنن ابن ماجه النكاح (1953) ، مسند أحمد بن حنبل (2/83) ، موطأ مالك الطلاق (1243) .
(7) سورة فاطر الآية 1
(8) المغني (6 \ 539، 540) .(25/189)
الشرط الثاني لتعدد الزوجات: أن يستطيع الإنفاق على جميع زوجاته اللاتي في عصمته. قال الله تعالى:
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (1) .
فالنفقة على الزوجة واجبة بالإجماع، وكذلك الزوجات. قال الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (2) .
وقال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف (3) » . عوان: أي محبوسات.
قال ابن قدامة:
"وأما الإجماع فاتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين إلا الناشز منهن " (4) .
__________
(1) سورة النساء الآية 34
(2) سورة الطلاق الآية 7
(3) رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه. صحيح مسلم، كتاب الحج - باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم الحديث 147، صحيح مسلم بشرح النووي (8 \ 183 - 184) . سنن أبي داود، كتاب المناسك - باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم (1 \ 442) . سنن ابن ماجه، كتاب المناسك - باب حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم الحديث 3074 (2 \ 1025) .
(4) المغني (7 \ 564) ط: الثالثة، أصدرتها دار المنار، سنة 1367هـ.(25/190)
الشرط الثالث لتعدد الزوجات: استطاعة العدل بين زوجاته في المبيت والسكن والنفقة، قال الله تعالى:
{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (1) .
فاشترط العدل وعدم الجور في المعاملة.
أما محبة القلب وميله فلا يستطيع الإنسان أن يعدل فيه.
__________
(1) سورة النساء الآية 3(25/190)
قال الله تعالى:
{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} (1) .
فهذه الآية يخبر الله فيها عن فطرة الإنسان التي فطره عليها - وهو سبحانه أعلم بما ركب في النفس البشرية من فطرة، فيعلم سبحانه أن نفس الإنسان ذات ميول واتجاهات لا يملكها الإنسان، ومن ثم أعطاها لهذه الميول خطاما لينظم حركتها، لا ليعدمها ويقتلها.
ومن هذه الميول أن يميل القلب إلى إحدى الزوجات دون سواها أو أكثر من غيرها لسبب من الأسباب، وهذا الميل لا حيلة له فيه، ولا قدرة له عليه، ولا يملك محوه ولا قتله وإزالته، فالقلوب ليست ملكا لأصحابها، إنما هي بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. فبين الله سبحانه في هذه الآية أنه لا يحاسب الزوج عليه، ما دام في قلبه لم يتعد إلى معاملته وأفعاله وسلوكه، بل يصارح الناس بأنهم لن يستطيعوا أن يعدلوا بين النساء في محبة القلب ليرفع عنهم الحرج؛ إذ الأمر خارج عن إرادتهم.
ولكن عليهم أن لا يميلوا كل الميل فيؤثر على المعاملة الظاهرة ويحرم الأخرى حقوقها، فلا تكون زوجة ولا تكون مطلقة. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في فعله يحقق الواقع البشري، فيقسم بين نسائه فيما يملك ويعدل في هذه القسمة، حتى إنه إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ليأخذ من تقع عليها القرعة معه لتصحبه في السفر. ولكن محبة القلب لا يملكها
__________
(1) سورة النساء الآية 129(25/191)
ولا يستطيع أن يعدل فيها فيقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك (1) » . وقد أخرج البيهقي بسنده عن ابن عباس في قوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا} (2) الآية. قال: "في الحب والجماع".
ولا يخص بالقسم أحدا دون أحد، فيقسم بين نسائه الصحاح والمرضى، والطاهرات والحيض. قال ابن قدامة: (ويقسم للمريضة والرتقاء والحائض والنفساء والمحرمة والصغيرة الممكن وطؤها، وكلهن سواء في القسم، وبذلك قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي، ولا نعلم عن غيرهم خلافهم، وكذلك التي ظاهر منها؛ لأن القصد الإيواء والسكن والأنس، وهو حاصل لهن. . وأما المجنونة فإن كانت لا يخاف منها فهي كالصحيحة، وإن خاف منها فلا قسم لها لأنه لا يأمنها على نفسه، ولا يحصل لها أنس ولا بها) (3) .
وقال ابن حجر: " المراد بالعدل: التسوية بينهن بما يليق بكل منهن، فإذا وفى لكل واحدة منهن كسوتها ونفقتها والإيواء إليها، لم يضره ما زاد على ذلك من ميل قلب، أو تبرع بتحفة " (4) . اهـ.
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي. سنن أبي داود، كتاب النكاح - باب في القسم بين النساء (1 \ 492) . سنن الترمذي، كتاب النكاح - باب ما جاء في التسوية بين الضرائر. رقم الحديث 1140 (3 \ 446) . سنن النسائي: كتاب النساء - باب ميل الرجل إلى بعض نسائه (7 \ 64) . سنن ابن ماجه، كتاب النكاح - باب القسمة بين النساء، رقم الحديث 197، (1 \ 634) . السنن الكبرى، كتاب القسم والنشور - باب ما جاء في قوله الله عز وجل: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) جـ7، ص298. وقال ابن حجر: ''وقد روى الأربعة وصححه ابن حبان، والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة، فتح الباري (9 \ 313) .
(2) سورة النساء الآية 129
(3) المغني (7 \ 28) ط: الثالثة، أصدرتها دار المنار، سنة 1367هـ.
(4) فتح الباري، جـ9، ص313.(25/192)
وقال ابن قدامة: "وليس عليه التسوية بين نسائه في النفقة والكسوة إذا قام بالواجب لكل واحدة منهن. قال أحمد في الرجل له امرأتان: له أن يفضل إحداهما على الأخرى في النفقة والشهوات والكسى، إذا كانت الأخرى في كفاية، ويشتري لهذه أرفع من ثوب هذه، وتكون تلك في كفاية. وهذا لأن التسوية في هذا كله تشق، فلو وجب لم يمكنه القيام به إلا بحرج فسقط وجوبه كالتسوية في الوطء " (1) .
وإذا تنازلت الزوجة عن حقها في القسم سقط حقها، وصار لمن وهبت له. روى البخاري بسنده «عن عائشة - رضي الله عنها - أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة بيومها ويوم سودة (2) » .
قال ابن حجر: " وللواهبة في جميع الأحوال الرجوع عن ذلك متى أحبت، لكن فيما يستقبل، لا فيما مضى " (3) .
وقد أذن نساء النبي صلى الله عليه وسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته أن يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها صلوات الله وسلامه عليه.
كما أن القسم لا يلزم في الدخول على النساء، والحديث معهن والأكل عندهن. روى البخاري بسنده «عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو
__________
(1) المغني (7 \ 32) ط: الثالثة، أصدرتها دار المنار، سنة 1367هـ.
(2) صحيح البخاري، كتاب النكاح - باب المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها رقم الحديث 5212 - فتح الباري (9 \ 312) .
(3) فتح الباري (9 \ 312) .(25/193)
من إحداهن، فدخل على حفصة فاحتبس أكثر مما كان يحتبس (1) » .
«وعن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا (2) » . رواه البخاري.
«وكان صلى الله عليه وسلم يطوف على نسائه في الليلة الواحدة في غسل واحد (3) » - رواه البخاري.
وعماد القسم بين الزوجات في الحضر هو الليل لمن معاشه وعمله بالنهار، أما في السفر فعماد القسم فيه النزول والمبيت، وأما حالة السير فليس فيه قسما لا ليلا ولا نهارا، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير مع عائشة ويتحدث معها في السفر دون حفصة.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب النكاح - باب دخول الرجل على نسائه في اليوم، رقم الحديث 5216 - فتح الباري (9 \ 316) .
(2) صحيح البخاري، كتاب الطلاق - باب لم تحرم ما أحل الله لك - رقم الحديث 5267 - فتح الباري (9 \ 374) .
(3) صحيح البخاري، كتاب النكاح - باب من طاف على نسائه في غسل واحد، رقم الحديث 5215. فتح الباري (9 \ 316) .(25/194)
حكمة تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم
لقد عدد رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه بعد أن هاجر إلى المدينة، ولم يكن بهذا التعداد بدعا من الناس. فأمم الأرض وكل الناس يعددون نساءهم. بل كانوا يبالغون في التعداد حتى وصل ببعضهم إلى أكثر من سبعمائة زوجة دون الإماء. فالعرب يتزوجون بأكثر من عشر نساء، فهذا غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وعنده عشر نسوة، وقال له صلى الله عليه وسلم: «اختر منهن أربعا وفارق سائرهن (1) » .
__________
(1) رواه الترمذي وابن ماجه وأبو داود. سنن الترمذي - كتاب النكاح رقم الباب 33، جـ3، ص435 رقم الحديث 1128. سنن ابن ماجه - كتاب النكاح - رقم الباب 40 ورقم الحديث 1953 جـ1، ص628. سنن أبي داود - كتاب الطلاق، باب من أسلم وعنده نساء أكثر من أربع جـ1، ص519.(25/194)
وقد كان الأثنيون والصينيون والبابليون والأشوريون والمصريون وغيرهم يعددون الزوجات.
كما أن اليهود يعددون النساء، فهذا نبي الله سليمان لديه سبعمائة من الحرائر وثلاثمائة من الإماء، وقد روى البخاري في صحيحه «أن سليمان بن داود قال: لأطوفن الليلة بمائة امرأة، تلد كل امرأة غلاما يقاتل في سبيل الله، فقال الملك: قل إن شاء الله، فلم يقل ونسي. فأطاف بهن ولم تلد منهن إلا امرأة نصف إنسان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان أرجى لحاجته (1) » ، وكانت الكنيسة النصرانية تأذن في التعدد ولا تعارض فيه.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينما عدد نساءه وتزوج بتسع، فكن في عصمته في آن واحد إنما فعل هذا بأمر الله تعالى وحكمته:
{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} (2) {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} (3) .
وقال تعالى مبينا أن الله هو الذي أحل لرسوله تعدد الزوجات:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} (4) .
ثم بعد عدد التسع منع الله تعالى رسوله من أن يزيد عليهن، أو أن يطلقهن، فقال جل وعلا:
{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} (5) .
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب النكاح - باب قول الرجل: لأطوفن الليلة على نسائي - رقم الحديث 5242 فتح الباري (9 \ 339) .
(2) سورة الأحزاب الآية 37
(3) سورة الأحزاب الآية 38
(4) سورة الأحزاب الآية 50
(5) سورة الأحزاب الآية 52(25/195)
فزواج الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو زواج بأمر الله تعالى. فالأمر رباني لا يجوز القياس عليه، فهو خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز لأحد من أمته صلى الله عليه وسلم أن يزيد على أربع نساء، مدعيا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج تسعا.
والذين ينتقدون نبي الإسلام ويصفون المسلمين بأنهم شهوانيون هؤلاء مخطئون كل الخطأ، والأفظع من ذلك أننا نجد من بين أبناء المسلمين من يحمل أفكار الكفر ويتندر بزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولو عمر الإيمان قلبه وكان مسلما حقا لما سمح لنفسه بأن يخوض في مثل هذا الأمر. ثم إنه لو ألقى نظرة على من تزوج بهن صلى الله عليه وسلم لوجد أن لكل زواج ظروفه. إما ليؤوي أرملة، أو ليجبر قلبا تحطم بقتل ذويه، وإما ليتألف قلوب أهلهن، وإما ليكرم امرأة نفذت أمر الله فخالفت ما كان عليه المجتمع مبتغية رضوان الله تعالى عليها من الزواج بالسادة دون العبيد والموالي.
ولو كان صلى الله عليه وسلم شهوانيا لتزوج وهو في عز شبابه، حينما كانت الرغبة إلى النساء قوية، ولكنه لم يعدد إلا بعد أن كبر وضعفت فيه الرغبة إلى النساء، وقد كان في شبابه مكتفيا بخديجة بنت خويلد - رضي الله تعالى عنها - التي تكبره بخمس عشرة سنة. فقد كان عمرها أربعين سنة، بينما كان عمره صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة، وظل معها حتى ماتت رضي الله تعالى عنها.
ثم إن النساء اللاتي تزوج بهن كلهن ثيبات عدا عائشة. وزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم هن:
1 - سودة بنت زمعة بن قيس القرشية. تزوج عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت زوجها السكران بن عمرو بن عبد شمس، وبعد موت زوجته خديجة بنت خويلد في مكة قبل الهجرة إلى المدينة، وبعد(25/196)
كبر سنها وهبت يومها وليلتها لعائشة رضي الله تعالى عنها.
2 - عائشة بنت الصديق. عقد عليها قبل سودة، ولكنه دخل عليها بعد أن دخل على سودة، وهي الزوجة الوحيدة التي تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بكر، وتزوجها ليزيد قربه من أبي بكر الصديق - أول من أسلم من الرجال وآزر دعوة الرسول وصدقه في كل ما يقول، وبذل ما يملك في سبيل الله.
3 - حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها، وهذه تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ثيب، وليست ذات جمال؛ لمكانة أبيها منه صلى الله عليه وسلم.
4 - أم سلمة هند بنت سهيل المخزومية. تزوجها صلى الله عليه وسلم بعد موت زوجها أبي سلمة بن عبد الأسد، ليؤوي أولادها، وقد قالت له حين خطبها: ما مثلي ينكح. أما أنا فلا يولد لي، وأنا غيور، ذات عيال. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أكبر منك، وأما الغيرة فيذهبها الله، وأما العيال فإلى الله ورسوله (1) » . فتزوجها (2) .
5 - زينب بنت جحش، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد طلاق زوجها زيد بن حارثة - مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم ليكافئها على امتثال أمر الله تعالى، وليقرر الله حكما يصعب على المجتمع تنفيذه في ذلك الزمن، وهو زواج زوجة المتبنى. قال الله تعالى:
{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} (3) .
6 - أم حبيبة بنت أبي سفيان، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن ارتد زوجها عبيد الله بن جحش، وأعرضت عنه إلى أن مات، ولها من
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (918) ، سنن النسائي النكاح (3254) ، مسند أحمد بن حنبل (6/307) .
(2) الإصابة في تمييز الصحابة. لابن حجر (4 \ 459) .
(3) سورة الأحزاب الآية 37(25/197)
العمر بضع وثلاثون سنة. تزوجها رسول الله وهي في أرض الحبشة مهاجرة، وقد عهد للنجاشي بعقد نكاحه عليها، ووكلت هي خالد بن سعيد بن العاص، فأصدقها النجاشي من عنده أربعمائة دينار، وذلك سنة سبع من الهجرة.
7 - جويرية بنت الحارث، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد زوجها مسانع بن صفوان الذي قتل يوم المريسيع، وذلك ليشرف قومها بمصاهرته لهم، وبخاصة بعد سبيه لهم في غزوة بني المصطلق.
8 - صفية بنت حيي بن أخطب، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجبر قلبها بعد قتل أبيها وعمها وزوجها.
9 - ميمونة بنت الحارث الهلالية، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت زوجها أبي رهم بن عبد العزى العامري. وذلك سنة سبع من الهجرة، وعمرها يقرب من الأربعين سنة. رضي الله عنها.(25/198)
وقد التمس العلماء - رحمهم الله تعالى - عدة حكم من استكثار رسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء، فقال ابن حجر: والذي تحصل من كلام أهل العلم في الحكمة في استكثاره من النساء عشرة أوجه:
أحدها: أن يكثر من يشاهد أحواله الباطنة، فينتفي عنه ما يظن به المشركون من أنه ساحر أو غير ذلك.
ثانيها: لتتشرف به قبائل العرب بمصاهرته فيهم.
ثالثها: للزيادة في تأليفهم لذلك.
رابعها: للزيادة في التكليف، حيث كلف أن لا يشغله ما حبب إليه منهن عن المبالغة في التبليغ للرسالة.
خامسها: لتكثير عشيرته من جهة نسائه، فتزداد أعوانه على من يحاربه.
سادسها: نقل الأحكام الشرعية التي لا يطلع عليها الرجال؛ لأن أكثر ما يقع مع الزوجة مما شأنه أن يختفي مثله.(25/198)
سابعها: الاطلاع على محاسن أخلاقه الباطنة، فقد تزوج أم حبيبة وأبوها إذ يعاديه، وصفية بعد قتل أبيها وعمها وزوجها، فلو لم يكن أكمل الخلق في خلقه لنفرن منه، بل الذي وقع أنه كان أحب إليهن من جميع أهلهن.
ثامنها: خرق العادة له في كثرة الجماع مع التقلل من المأكول والمشروب، وكثرة الصيام والوصال. وقد أمر من لم يقدر على مؤن النكاح بالصوم، وأشار إلى أن كثرته تكسر شهوته فانخرقت هذه العادة في حقه صلى الله عليه وسلم.
تاسعها: تحصينهن وقصر طرفهن عليه، فلا يتطلعن إلى غيره، بخلاف العزبة، فإن العفيفة تتطلع بالطبع البشري إلى التزويج، وذلك هو الوصف اللائق بهن.
عاشرها: القيام بحقوقهن واكتسابه لهن وهدايته إياهن (1) .
نسأل الله تعالى أن يهدي ضال المسلمين، وأن يجنبنا الشبهات، وأن يرزقنا العدل في الغضب والرضا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) فتح الباري، جـ9، ص115.(25/199)
صفحة فارغة(25/200)
فتيا في حكم السفر إلى بلاد الشرك
تأليف
سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب
1200 - 1233هـ
بتحقيق
الوليد بن عبد الرحمن الفريان
تمهيد
جبل الله تعالى النفس البشرية على الشغف بكل مظهر يعبر عن المحبة والارتياح إلى كل تصرف ينبض بالود.
وما من إنسان سوى إلا وهو بطبعه ينشد ذلك في قسمات الوجوه ويتلمسه في طوايا الحديث وبين الكلمات ويتلهف إليه في كل حين.
ومن أجل هذا كانت المحبة قمة العلاقات الإنسانية.
فمنها ينبثق التسامح، ومن معينها تفيض جميع الصفات النبيلة، وعن طريقها تتفجر الأحاسيس وتسمو العواطف.
والإسلام حين أشرق نوره، فاكتسح بأشعته ظلام الجهل والشرك، كانت الحياة اللاهثة تتقطع بضوضائها في ظل تفكك أخلاقي، وطغيان عارم لمبدأ القوة والعنف.
فبسط جناحه الحاني، وامتد إلى الناس يزرع الحب والود.
وأعاد روح الأخوة والتضامن التي افتقدوها سنين طويلة، فأبدل الله العداوة المستحكمة إلى محبة وتآلف مثالي. قال تعالى:(25/201)
{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (1) .
{لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} (2) .
وهكذا تحول المجتمع الإسلامي إلى خلية واحدة: يسودها الوئام، ويشع في جنباتها الانسجام والتجانس. بعد أن صبغهم الإسلام بالتوحيد، وشكلهم كأحسن ما تكون المجتمعات.
ورغبة في بقاء هذه السمة بمظرها الخلاق وتأثيرها العميق على النفوس: اتخذ الإسلام بعض الاحتياطات الكفيلة، للمحافظة عليها، وتمثلت في سبيلين اثنين:
أحدهما: التأكد على وجوب محبة المؤمنين بعضهم لبعض، قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا تتدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا (3) » ووجوب تولي بعضهم لبعض، كما قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (4) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (5) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ} (6) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} (7) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103
(2) سورة الأنفال الآية 63
(3) أخرجه مسلم في الصحيح (54) وأبو داود في السنن رقم 5193 والترمذي في الجامع رقم 2689 وابن ماجه في السنن رقم 68، 3692 وأحمد في المسند جـ 2 صفحة 391، 442، وابن أبي شيبة في المصنف رقم 5793، والبخاري في الأدب المفرد رقم 980، ووكيع في الزهد رقم 331 من رواية أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) سورة التوبة الآية 71
(5) سورة الممتحنة الآية 1
(6) سورة النساء الآية 144
(7) سورة المائدة الآية 51(25/202)
وتحريم موادة الكفار أو محبتهم.
ولم يستثن قرابة أو ذا رحم شفيق، قال تعالى:
{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} (1) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (2) .
وبلغ الأمر أن حكم على المتعدي لوصاياه بالكفر، قال تعالى:
{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (3) .
ولم يقف النهي عن موالاة المشركين عند حدود الموالاة فقط، بل جاوره إلى النهي عن المشابهة، حتى استقرت كقاعدة عامة، وغدت من الأركان الأساسية التي امتدت إلى الكثير من تفاصيل الأحكام، لوفرة ما دل عليها من الكتاب والسنة.
والسبب كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: أن المشاركة في الهدي الظاهر، تورث تناسبا وتشاكلا بين المتشابهين، يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال، وتدفع إلى المشابهة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدرج الخفي. فينتج عنه نوع مودة ومحبة (4) ، مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم (5) »
ولا تقتصر المعاداة لأهل الشرك فحسب، وإنما تتخطاه أيضا إلى كل
__________
(1) سورة المجادلة الآية 22
(2) سورة التوبة الآية 23
(3) سورة المائدة الآية 51
(4) الإمام ابن تيمية: الاقتضاء 1 \ 79، 488
(5) أخرجه أبو داود في السنن رقم 4031 وأحمد في المسند (2 \ 50) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بإسناد جيد، كما قال ابن تيمية في الاقتضاء (1 \ 236) والفتاوى (25 \ 331) ، وقال الحافظ: وله شاهد مرسل بإسناد حسن. فتح الباري (6 \ 98) . وانظر بقية التخريج في بقية كتاب سبيل النجاة والفكاك (52) .(25/203)
صاحب بدعة وإن لم تخرج عن إطار الإسلام، وذلك لأمرين:
الأول: غلط البدعة في الدين في نفسها.
الثاني: أن البدع تجر إلى الردة الصريحة، كما وجد من كثير من أهل البدع (1) .
ولما فرط المسلمون في هذا الأصل الأصيل، اشتدت غربة الإسلام، وتفشت الكثير من البدع والخرافات. فانقلبت المحبة إلى عداء ونفور وتقاطع، وحل الخصام محل التفاهم والتراحم، وتشتت المسلمون إلى فرق وطوائف. وما زالوا مع الأسف يعيشون تحت وطأة هذا الانحراف الشديد، ولم يعدموا من بائس يرفع عقيرته بالدعوة إلى تقديس القبور وعبادتها، وإلى إحياء المواد والعادات البالية، ويسعى في انقسام الأمة وتفتيتها، والعودة إلى الجاهلية الأولى.
والمؤلم أنه يجاهر بدعوته إلى البدعة في كل محفل بين ظهراني المسلمين، وفي عقر دار التوحيد دون خوف ولا حياء.
__________
(1) الإمام محمد بن عبد الوهاب: مفيد المستفيد 34.(25/204)
موضوع الفتيا:
الأصل أن الإقامة في بلاد المشركين والسفر إليها لا يجوز بأي حال من الأحوال؛ لوجوب معاداتهم ومقاطعتهم وفريضة البراءة منهم، ولكن إذا حتمت الضرورة ذلك، كأن يرغمه جور حاكم إلى النزوح عن بلاده خوفا من بطشه وظلمه، أو يسافر للعلاج مثلا، أو يحتاج إلى جلب بضاعة أو تخليص حق - بناء على أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة (1) - فإنه يرخص فيه بقدر الحاجة.
لأن الرخصة: ما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلى يقتضي
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم 100.(25/204)
المنع، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه (1) . فمتى زالت الضرورة عاد التحريم إلى الجريان.
وهذه خاصة من خواص الرخصة، وهو الفاصل بين ما شرع من الحاجيات الكلية وما شرع من الرخص (2) .
غير أنه لا بد من التنبه إلى قضية في غاية الأهمية تتوقف عليها هذه الرخصة، وترتبط بها وجودا وعدما، وهي الأمن من الفتنة في الدين، والتمكن من إقامته والمجاهرة به بحرية تامة.
وواضح أن المراد لا ينحصر في مجرد القدرة على النطق بالشهادتين والصلاة والعبادات البدنية الأخرى، وإلا لما استثنى الله المستضعفين في قوله:
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (3) {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} (4) .
ولو حمل على مجرد العبادة لتساوى المستثنى والمستثنى منه - لأنه لا يتصور في المستضعف أنه يترك عبادة ربه - وبالتالي سوف يؤدي إلى بطلان فائدة تعلق الوعيد بالقادر على الهجرة دون من لم يقدر (5) وهذا عبث ينزه القرآن الكريم عنه. ومما يزيد المقام بيانا سبب النزول.
فقد روى ابن عباس، قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بإسلامهم، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم
__________
(1) الموافقات للشاطبي (1 \ 301) .
(2) الموافقات للشاطبي (1 \ 303) .
(3) سورة النساء الآية 97
(4) سورة النساء الآية 98
(5) ينظر الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن: الدرر السنية (9 \ 381) .(25/205)
فنزلت الآية.
ولما قام النبي صلى الله عليه وسلم بالنذارة لكفار قريش عن الشرك وأمرهم بضده وهو التوحيد، لم يكرهوا ذلك واستحسنوه وحدثوا أنفسهم فيه. . إلى أن صرح بسبب دينهم وتجهيل علمائهم، فحينئذ شمروا له ولأصحابه عن ساق العداوة. . فإذا عرفت هذا عرفت أن الإنسان لا يستقيم له إسلام - ولو وحد الله وترك الشرك - إلا بعداوة المشركين والتصريح لهم بالعداوة والبغض (1) .
__________
(1) الإمام محمد بن عبد الوهاب: شرح ستة مواضع من السيرة. مجموع مؤلفات محمد بن عبد الوهاب (1 \ 354) .(25/206)
المؤلف:
هو الحافظ المفسر المحدث الفقيه: سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي الوهيبي التميمي، ولد في بلدة الدرعية سنة 1200هـ.
وقد هيأ الله له أسرة علمية وبيتا من أشهر البيوتات الضاربة في صميم نجد.
فوالده الأدنى الشيخ عبد الله بن محمد من جلة العلماء صنف ودرس وولي القضاء في الدرعية (1) منذ عهد الإمام الراشد، عبد العزيز بن محمد بن سعود (2) .
وجده الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رائد الدعوة السلفية (3) مما دفعه إلى طلب العلم والحرص عليه. واستطاع بما حباه الله من ذهن
__________
(1) توفي رحمة الله سنة 1243هـ في مصر بعيدا عن بلاده وأسرته.
(2) قتل رحمه الله غدرا سنة 1218هـ
(3) توفي رحمه الله في الدرعية سنة 1206هـ.(25/206)
وقاد وصبر على القراءة أن يدرك علما جما مكنه من التدريس والقضاء، والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتأليف الكتب والرسائل النافعة. وهكذا أمضى حياته القصيرة، في الجهاد والنصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، بشجاعة وقوة وبصيرة إلى أن أدركه الأجل، وفاضت روحه الطاهرة على يد الظالم الغشوم إبراهيم بن محمد علي في الدرعية سنة 1233 هـ فذهب شهيدا. . بعد أن قام بواجبه تجاه ربه وتجاه إخوانه المسلمين. . رحمه الله رحمة واسعة وبلغه منازل الصديقين (1) .
__________
(1) وردت له ترجمة واسعة في مقدمة (الدلائل) يسر الله نشرها(25/207)
النسخ الأصول
اعتمدت في التحقيق على خمس نسخ، وهي كما يلي:
الأولى: وتقع في نحو أربع ورقات ومسطرتها 16 سطرا، كتب في أولها: (قال سليمان بن عبد الله بن الشيخ) عثرت عليها في مجموع صغير مخطوط في مكتبة الرياض السعودية بدون رقم، وليس له اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ لفقدان أوله وآخره.
وقد كتب بخط جميل تغلب عليه الصحة والقدم، ولذلك اتخذتها أصلا.
الثانية: وسجل في مستهلها ما نصه: (ست مسائل في حكم التجارة إلى أرض المشركين هل هي جائزة أم لا. للشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله) . تقع في نحو ثلاث ورقات ومسطرتها 23 سطرا، كتبت بقلم نسخي متوسط، وسقط منها أكثر المسألة السادسة، ورمزت لها بحرف (م) .(25/207)
الثالثة: ذكر في بدايتها ما نصه: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أجوبة ستة لسليمان بن عبد الله رحمه الله وعفى عنه) .
وتقع في أربع ورقات تقريبا ومسطرتها 16 سطرا، ضمن مجموع مكتوب بقلم نسخي جيد، خال من اسم الناسخ وتاريخ نسخه، وهي محفوظة في خزانة المكتبة السعودية بدون رقم، وفيها بعض البياضات، ورمزت لها بحرف (ض) .
الرابعة: مطبوعة في كتاب الجامع الفريد سنة 1387هـ كتب في أولها (هذه ست مسائل سئل عنها الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب فأجاب) . وتقع في نحو ورقتين ومسطرتها 28 سطرا، وفيها بعض التحريف والنقص، ورمزت لها بحرف (ط) .
الخامسة: ما نقله كل من الشيخ حمد بن عتيق، والشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن عن هذه الفتيا، وهي كما يلي:
نقل الشيخ حمد بن عتيق في كتابه سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك (ط الإفتاء) المسائل الأولى والثانية والثالثة (1) على التوالي والسادسة (2) وجزءا من المسألة الرابعة (3) ولم ينسب أيا منها صراحة إلى الشيخ سليمان، وإنما قال: وفي أجوبة آل الشيخ، ثم ساقها.
ونقل الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن في جوابه عن حكم السفر إلى بلاد المشركين (الدرر السنية 9 \ 377 - 406) المسألة الأولى (4) والمسألتين الثانية والثالثة (5) على التوالي. ونسب الأولى فقط إلى سليمان صراحة، حيث قال: ولما سئل العلامة سليمان بن عبد الله عن السفر إلى
__________
(1) سبيل النجاة 102 - 104.
(2) سبيل النجاة 70.
(3) سبيل النجاة 77.
(4) الدرر السنية 9 \ 389.
(5) الدرر السنية 403.(25/208)
بلاد المشركين أجاب. وقد استفدت من هذه النقول وأشرت إلى اختلافها في الهامش، ورمزت لما نقله ابن عتيق بحرف (س) وما نقله إسحاق بحرف (د) .(25/209)
منهج التحقيق:
اتخذت النسخة الأولى أصلا لقدمها وصحتها في الغالب، أما بقية النسخ فعارضتها بالأصل، وأثبت الفروق وأضفت في الصلب - من النسخ الأخرى - ما رأيت الضرورة تدعو إليه وجعلته بين حاصرتين، كما قمت بترقيم الآيات الكريمة وتخريج الأحاديث والآثار وترجمت لمن يحتاج إلى ذلك من الأعلام.
وبعد:
أرجو الله مخلصا أن يصلح قلوبنا ويبصرنا بأمور ديننا، ويحفظ لنا عقيدتنا النقية، وان يجعلنا هداة مهتدين إنه ولي ذلك. . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الرياض 27 \ 5 \ 1408هـ(25/209)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين، (1) .
المسألة الأولى (2) : هل يجوز للمسلم (3) أن يسافر إلى بلد الكفار (4) لأجل التجارة أم لا؟
الجواب: (5) : الحمد لله (6) . إن كان يقدر على إظهار دينه ولا يوالي المشركين، جاز له ذلك، فقد «سافر بعض الصحابة - كأبي بكر رضي الله عنه وغيره (7) من (8) الصحابة - إلى بلدان المشركين لأجل التجارة (9) . ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم» . كما رواه أحمد في مسنده وغيره (10) (11) . وإن كان لا يقدر على إظهار دينه (12) ولا على عدم (13) موالاتهم (14) ، لم يجز له السفر (15) إلى ديارهم، كما (16) نص على ذلك العلماء. وعليه تحمل
__________
(1) وبه نستعين: ساقط من (ط) و (ض) .
(2) بياض في (ض) .
(3) (س) للإنسان.
(4) (ط) الكفار الحربية.
(5) بياض في (ض) .
(6) (س) ساقط.
(7) ما بينهما ساقط من (د) .
(8) ساقط من (س) .
(9) ساقط من (س) .
(10) المسند (6 \ 316) .
(11) ما بينهما ساقط من (د) .
(12) الأصل: إظهاره.
(13) (د) ساقط.
(14) (د) معاداتهم.
(15) ما بينهما ساقط من (د) .
(16) ما بينهما ساقط من (د) .(25/210)
الأحاديث التي تدل على النهي عن ذلك (1) .
ولأن الله تعالى أوجب على الإنسان العمل بالتوحيد (2) ، وفرض عليه عداوة المشركين. فما كان ذريعة وسببا إلى إسقاط ذلك لم يجز (3) .
وأيضا (4) فقد (5) يجره ذلك (6) إلى موافقتهم (7) (8) وإرضائهم، كما هو الواقع كثيرا (9) ممن يسافر إلى (10) بلدان المشركين (11) من فساق المسلمين (12) .
__________
(1) (د) ساقط.
(2) قال تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا) . سورة النساء آية 36.
(3) (د) : منع منه.
(4) (د) : ساقط.
(5) (د) : وقد.
(6) (د) : يبحر.
(7) (د) : إلى موالاتهم وموافقتهم.
(8) الأصل و (س) : أو.
(9) الأصل: كثير: تحريف (د) (م) من كثير (س) كثير.
(10) ما بينهما ساقط من (د) .
(11) ما بينهما ساقط من (د) .
(12) (ط) المسلمين نعوذ بالله من ذلك.(25/211)
المسألة الثانية (1) : هل يجوز للإنسان (2) أن يجلس (3) في بلد الكفار (4) وشعائر الشرك (5) ظاهرة لأجل التجارة أم لا (6) ؟
الجواب (7) عن هذه المسألة: هو (8) الجواب عن التي قبلها سواء. ولا فرق في ذلك (9) بين دار الحرب و (10) دار (11) الصلح. فكل بلد (12) لا يقدر المسلم على إظهار دينه فيها. لا يجوز له (13) السفر إليها.
المسألة الثالثة (14) : هل يفرق بين المدة [141 \ أ] القريبة مثل: شهر أو شهرين (15) وبين (16) المدة البعيدة؟
الجواب (17) : أنه (18) لا فرق بين المدة القريبة ولا (19) البعيدة (20) .
فكل بلد (21) لا يقدر [المسلم] (22) على إظهار دينه فيها، ولا على (23)
__________
(1) (ض) بياض.
(2) (ض) : للمسلم.
(3) (د) يسافر إلى.
(4) (م) المشركين.
(5) (ط) الكفر (س) المشركين.
(6) (ط) ساقط.
(7) (ض) بياض.
(8) (س) و.
(9) (س) ساقط.
(10) (ط) أو.
(11) (د) ساقط.
(12) (ط) بلدة.
(13) (م) ، (س) ، (د) ساقط.
(14) (ض) ، بياض.
(15) (ض) الشهر والشهرين.
(16) (ط) ، ساقط.
(17) (ض) ، بياض.
(18) (س) ، ساقط.
(19) (د) ، (س) ، (ط) ساقط.
(20) (س) المدة البعيدة.
(21) (ط) ، بلدة.
(22) إضافة من (د) .
(23) (ض) ساقط.(25/212)
عدم موالاة المشركين (1) . لا يجوز له المقام فيها ولا يوما واحدا إذا كان يقدر على الخروج منها (2) .
المسألة الرابعة (3) : في معنى قوله تعالى: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (4) . وقوله (5) في الحديث: «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله (6) » .
الجواب (7) : أن معنى (8) الآية على ظاهرها. [وهو] (9) أن الرجل إذا سمع آيات الله يكفر بها، ويستهزأ بها، فجلس (10) عند (11) الكافرين المستهزئين (12) من غير إكراه ولا إنكار، ولا قيام عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره؛ فهو كافر مثلهم، وإن لم يفعل فعلهم؛ لأن ذلك يتضمن الرضا بالكفر، والرضا بالكفر كفر (13) . وبهذه الآية ونحوها استدل العلماء على أن الراضي بالذنب كفاعله. فإن (14) ادعى أنه يكره ذلك بقلبه لم يقبل منه؛ لأن الحكم بالظاهر (15) . وهو (16) قد أظهر الكفر فيكون كافرا.
__________
(1) (ض) موالاتهم.
(2) (م) ساقط.
(3) (ض) ، بياض.
(4) سورة النساء الآية 140
(5) (ض) ساقط (ط) وقول النبي صلى الله عليه وسلم.
(6) أخرجه أبو داود في السنن رقم 2787 والطبراني من نسخة مروان السمري كما في الميزان 4 \ 89 وأخرجه الترمذي في الجامع رقم 1605 بلفظ ''لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم، فمن ساكنهم أو جامعهم فهو مثلهم'' ونحوه الحاكم في المستدرك 2 \ 141 وأبو نعيم في أخبار أصبهان 1 \ 123 والبيهقي في السنن الكبرى 9 \ 142، وذكره الألباني في صحيح الجامع 6 \ 279 من طريق سمرة بن جندب رضي الله عنه.
(7) (ض) بياض.
(8) (س) ساقط.
(9) إضافة من (ط) .
(10) (م) وجلس.
(11) (ض) مع.
(12) (س) المستهزئين بآيات الله.
(13) الأصل و (د) كفرا. تحريف.
(14) (ض) وإن.
(15) (ط) على الظاهر.
(16) (م) ساقط.(25/213)
ولهذا لما وقعت الردة (1) وادعى أناس أنهم كرهوا ذلك لم يقبل منهم الصحابة ذلك، بل جعلوهم كلهم مرتدين إلا من أنكر بلسانه (2) .
وكذلك (3) قوله (4) في الحديث (5) : «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله (6) » على ظاهره. وهو أن الذي [141 \ ب] يدعي الإسلام ويكون (7) مع المشركين في الاجتماع والنصرة، والمنزل (8) معهم (9) . بحيث يعده المشركون منهم (10) ، فهو كافر مثلهم وإن ادعى الإسلام إلا إن كان يظهر دينه ولا يتولى (11) المشركين.
ولهذا لما ادعى بعض الناس الذين (12) أقاموا بمكة بعد مهاجر (13) النبي صلى الله عليه وسلم (14) ، فادعوا الإسلام إلا أنهم أقاموا بمكة (15) يعدهم المشركون منهم، وخرجوا معهم يوم بدر كارهين للخروج فقتلوا فظن بعض (16) الصحابة أنهم مسلمون وقالوا: قتلنا إخواننا.
__________
(1) (ط) الردة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.
(2) (ط) بلسانه وقلبه.
(3) الأصل: وكذلك في.
(4) (م) ساقط.
(5) (ض) ساقط.
(6) (م) فهو.
(7) الأصل: ويكن. تحريف و (ض) ويسكن.
(8) (م) والمنزلة.
(9) (س) (م) ساقط.
(10) (م) كأمثالهم.
(11) (ط) يوالي.
(12) الأصل (م) (ض) (س) : أن الذين. ولعل المثبت هو الصواب.
(13) (ض) (ط) : بعدما هاجر.
(14) صلى الله عليه وسلم (ض) وسلم منها.
(15) (ط) في مكة.
(16) (ض) ساقط.(25/214)
أنزل (1) الله فيهم:
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} (2) الآية.
قال السدي (3) وغيره من المفسرين: إنهم كانوا كفارا. ولم يعذر الله منهم (4) إلا المستضعفين (5) .
المسألة الخامسة (6) : هل يقال لمن (7) أظهر علامات النفاق ممن يدعي الإسلام: إنه (8) منافق (9) أم لا؟
الجواب (10) : أن (11) من ظهرت (12) منه علامات النفاق الدالة عليه: كارتداده عند التحزيب على المؤمنين، وخذلانهم عند اجتماع العدو كالذين قالوا:
{لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ} (13) (14) .
وكونه إذا غلب المشركون صار (15) معهم، وإن (16) غلب المسلمون التجأ إليهم.
__________
(1) جميع النسخ: فأنزل. ولعل المثبت هو الصواب.
(2) سورة النساء الآية 97
(3) أبو محمد إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة الكوفي. صدوق يهم، ورمي بالتشيع ت 127. تقريب \ 108.
(4) (ط) ساقط.
(5) تفسير ابن كثير 2 \ 343.
(6) (ض) بياض.
(7) (م) فمن.
(8) (م) فإنه.
(9) الأصل: منافقا. تحريف.
(10) (ض) ، بياض
(11) (ط) أنه.
(12) الأصل: أظهرت. تحريف.
(13) سورة آل عمران الآية 167
(14) (ط) : لاتبعناكم هم للكفر. آية.
(15) (ط) التجأ.
(16) (ض) وإذا (م) فإن.(25/215)
ومدحه للمشركين بعض الأحيان، وموالاتهم من دون المؤمنين.
وأشباه هذه العلامات التي ذكرها (1) الله أنها علامات للنفاق وصفات للمنافقين.
فإنه يجوز إطلاق النفاق عليه وتسميته منافقا.
وقد كان (2) الصحابة يفعلون [142 \ أ] ذلك كثيرا كما قال حذيفة رضي الله عنه: إن الرجل [لـ] (3) يتكلم بالكلمة في (4) عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون بها منافقا.
وكما قال عوف بن مالك (5) رضي الله عنه لذلك المتكلم بذلك (6) الكلام (7) القبيح: كذبت، ولكنك منافق (8) .
وكذلك (9) قال عمر في قصة حاطب (10) : يا رسول الله، دعني
__________
(1) (ض) (م) (ط) : ذكر.
(2) (م) فإن.
(3) إضافة من (م) و (ط) .
(4) (ض) على.
(5) أبو عبد الرحمن الأشجعي الغطفاني. شهد فتح مكة ت 73. سير أعلام النبلاء 2 \ 487.
(6) (م) ساقط.
(7) (م) بالكلام.
(8) (ض) منافقا. تحريف.
(9) (م) وكما.
(10) ابن أبي بلتعة اللخمي. بدري، ت 30، الإصابة 1 \ 300.(25/216)
أضرب عنق هذا المنافق. وفي رواية (1) : دعني أضرب عنقه فإنه منافق، وأشباه (2) ذلك (3) كثير (4) .
وكذلك قال أسيد بن الحضير لسعد (5) بن عبادة لما قال ذلك الكلام: كذبت ولكنك منافق (6) ، تجادل عن المنافقين.
ولكن ينبغي أن يعرف (7) : أنه لا تلازم بين إطلاق النفاق عليه ظاهرا وبين كونه منافقا باطنا (8) .
فإذا فعل علامات النفاق جاز تسميته منافقا، لمن أراد أن يسميه (9) بذلك وإن لم يكن منافقا (10) في نفس الأمر؛ لأن بعض هذه الأمور قد يفعلها الإنسان مخطئا لا علم عنده، أو لمقصد يخرج به (11) عن كونه منافقا.
فمن أطلق عليه النفاق لم ينكر [عليه] (12) كما لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على أسيد بن الحضير (13) تسمية سعد (14) منافقا مع أنه ليس بمنافق.
__________
(1) (م) لفظ.
(2) ما بينهما ساقط من (م) .
(3) (ض) هذا.
(4) ما بينهما ساقط من (م) .
(5) (ض) لأسعد. تحريف.
(6) (ض) منافقا. تحريف.
(7) (م) ساقط.
(8) ما بينهما ساقط من (م) .
(9) (ض) يسبه.
(10) ما بينهما ساقط من (م) .
(11) (م) من.
(12) إضافة من (ض) و (ط) .
(13) جميع النسخ حضير. تحريف.
(14) (ط) سعدا وتحريف.(25/217)
ومن سكت، لم ينكر عليه. بخلاف المذبذب (1) الذي ليس مع المس لمين ولا مع المشركين. فإنه لا يكون إلا منافقا. واعلم أنه لا يجوز إطلاق (2) النفاق على المسلم بالهوى والعصبية أو لكونه يشاحن رجلا [142 \ ب] في أمر دنيا، أو يبغضه لذلك أو (3) لكونه يخالف (4) في بعض (5) الأمور التي لا يزال الناس فيها مختلفين.
فليحذر (6) الإنسان من ذلك (7) أشد الحذر؛ فإنه قد (8) صح في الحديث (9) عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله (12) » .
وإنما يجوز من ذلك ما كانت العلامات مطردة (13) في النفاق: كالعلامات التي ذكرنا، وأشباهها.
بخلاف مثل الكذبة والفجرة ونحو ذلك، وكان قصد الإنسان ونيته إعلاء كلمة الله ونصر دينه.
المسألة السادسة (14) : [ما قولكم] (15) في الموالاة والمعاداة: هل هي من معنى لا إله إلا الله أو من لوازمها؟
__________
(1) (ض) المذنب.
(2) (م) ساقط.
(3) (ض) ساقط.
(4) (ض) يخالفه.
(5) (م) ساقط.
(6) (م) وليحذر.
(7) (ط) ساقط.
(8) (ض) ساقط.
(9) (ط) ذلك الحديث.
(10) أخرجه البخاري في الصحيح رقم 6105 وأخرجه رقم 6047 بلفظ (ومن قذف مؤمنا) من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه.
(11) (ط) فيمن. (10)
(12) (م) دعى. (11)
(13) (ض) المطردة.
(14) (ض) بياض.
(15) إضافة من (س) .(25/218)
الجواب (1) أن يقال: الله (2) أعلم.
حسب (3) (4) المسلم أن يعلم أن الله افترض عليه عداوة المشركين، وعدم موالاتهم.
وأوجب عليه (5) محبة المؤمنين وموالاتهم، وأخبر أن ذلك من شروط الإيمان.
ونفى الإيمان عمن يواد من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم.
وأما كون ذلك من معنى لا إله إلا الله، أو من (6) لوازمها: فلم يكلفنا الله بالبحث عن ذلك. وإنما كلفنا: بمعرفة أن الله فرض ذلك وأوجبه، وأوجب العمل به.
فهذا الفرض (7) والحتم الذي لا شك فيه.
ومن عرف أن ذلك من معناها، أو من لوازمها (8) فهو حسن وزيادة خير. ومن لم يعرف (9) ، فلم يكلف بمعرفته. لا سيما إذا كان الجدال في ذلك (10) والمنازعة فيه، مما يفضي إلى شر واختلاف، ووقوع فرقة بين
__________
(1) (ض) بياض.
(2) (س) والله.
(3) (ض) حب (ط) لكن حسب.
(4) من هنا يبدأ الحزم في نسخة (م) إلى آخر الفتيا.
(5) (س) عليهم.
(6) (ط) ساقط.
(7) (ط) هو الغرض.
(8) (ط) لازمها.
(9) (ط) يعرفه.
(10) (ط) ساقط.(25/219)
المؤمنين [143 \ أ] الذين قاموا بواجبات الإيمان، وجاهدوا في الله (1) ، وعادوا المشركين ووالوا المسلمين.
فالسكوت عن (2) ذلك متعين.
وهذا ما ظهر لي. على أن الاختلاف قريب من جهة المعنى. والله أعلم (3) .
آخره (4) (5) . وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم (6) (7) .
__________
(1) (ط) سبيل الله.
(2) (س) والسكوت على.
(3) (ط) أعلم ولله الحمد والمنة.
(4) (ض) (ط) (س) ساقط.
(5) ما بينهما ساقط من (ض) و (س) .
(6) ما بينهما ساقط من (ض) و (س) .
(7) (ط) وسلم تسليما كثيرا آمين. اهـ. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.(25/220)
الإمام أحمد بن حنبل الشيباني ومسنده
دراسة وإعداد
أحمد بن عبد الرحمن بن سليمان الصويان
أحمد بن حنبل
(164 - 241هـ)
أحد الأئمة الأعلام، ومن الأفذاذ الذين قلما يجود الزمان بمثلهم. أحاط بالمجد من جميع أطرافه، وبرز في كثير من العلوم، فهو عند المحدثين: إمامهم، وعند الفقهاء: سيدهم، وعند الحفاظ: أميرهم، وعند الشجعان: رائدهم، وعند الثابتين على الحق: قائدهم.(25/221)
الوضع القائم في عصره:
عاش الإمام أحمد بن حنبل في عصر استقرت الأمور فيه للدولة العباسية، التي ظهر فيها بشكل جلي اعتماد الولاة على العناصر الأعجمية، لتثبيت حكمهم. فاعتمد المأمون على الفرس، والمعتصم على الترك. حتى بدأ الضعف يطغى شيئا فشيئا على الدولة العباسية.
ومن الملامح العامة التي تميز المدة التي عاشها الإمام أحمد:
1 - البدء في ترجمة الكتب الفلسفية من يونانية، ورومانية، وفارسية، وهندية، بدعم من الولاة.
2 - نتج من جراء هذا: انتشار البدع في عقائد الناس، وعباداتهم بشكل سريع.
3 - انتشرت الرافضة والمعتزلة، ودعم الولاة المذهب الاعتزالي خاصة، والقول بخلق القرآن. وأصاب المسلمين محنة وبلاء.(25/221)
4 - الطغيان المادي الجامح، ليس في قصور الولاة والأمراء فحسب، بل حتى عند عامة الناس.
هذه بعض الملامح الرئيسية التي تميز البيئة التي عاش فيها الإمام أحمد بن حنبل. ويلخص لنا المقريزي رحمه الله تعالى الآثار الناتجة من ترجمة كتب الفلسفة فيقول:
" وبتعريب المأمون لكتب الفلسفة انتشرت مذاهب الفلاسفة في الناس، واشتهرت مذاهب الفرق من: القدرية والجهمية والمعتزلة والأشعرية والكرامية والخوارج والروافض والقرامطة والباطنية، حتى ملأت الأرض، وما منهم إلا من نظر في الفلسفة، وسلك من طرقها ما وقع عليه اختياره، فانجر بذلك على الإسلام وأهله من علوم الفلاسفة ما لا يوصف من البلاء والمحنة في الدين. اهـ. " (1) .
في هذه الفترة الحرجة ولد الإمام أحمد بن حنبل لينصر الله به الدين، ويعز به أهل السنة والجماعة، لينطبق عليه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» .
__________
(1) الخطط للمقريزي (2 \ 358) .(25/222)
اسمه ونسبه:
هو: أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل الذهلي الشيباني. يلتقي نسبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم في: نزار بن معد بن عدنان. قدم(25/222)
به والده من مرو وهو حمل، فوضعته أمه في بغداد في ربيع الأول من سنة أربع وستين ومائة. وتوفي أبوه وهو ابن ثلاث سنين، فكفلته أمه. وينسب إلى جده لشهرته.(25/223)
شيوخه:
سمع الإمام أحمد من عدد كبير من العلماء يصعب حصرهم، ويطول ذكرهم؛ حيث أكثر الترحال إلى كثير من الأمصار؛ كـ: البصرة، والكوفة، والشام، والجزيرة، والحرمين، واليمن، وغيرها.
وأذكر من شيوخه على سبيل المثال:
محمد بن إدريس الشافعي، وسفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، ويحيى القطان، ويزيد بن هارون، وإسماعيل بن علية، وهشيم بن بشير، وعبد الرزاق بن همام الصنعاني، وغيرهم.
قال الحافظ الذهبي: " فعدة شيوخه الذين روى عنهم في المسند: مئتان وثمانون ونيف " (1) .
وقال ابن الجزري: "مئتان وثمانون رجلا".
__________
(1) النبلاء (11 \ 181) .(25/223)
تلاميذه:
سمع من الإمام أحمد عدد كثير من العلماء، ورحل إليه الناس من أماكن بعيدة ليسمعوا منه. وممن سمع منه:
ابناه عبد الله وصالح، وابن عمه حنبل بن إسحاق، وأبو زرعة، والبخاري، ومسلم، وأبو داود صاحب السنن، والأثرم، وأبو يعلى الموصلي - صاحب المسند -، والميموني، وابن هانئ، وغيرهم.(25/223)
حفظه:
يمتاز الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى بالحفظ الواسع، والاطلاع الكثير، حيث شهد له بذلك حفاظ الأمة ومحدثوها.
o قال أبو زرعة: " حزرت كتب أحمد يوم مات فبلغت اثني عشر حملا وعدلا، ما كان على ظهر كتاب منها حديث فلان، ولا في بطنه حدثنا فلان، كل ذلك كان يحفظه على ظهر قلبه ".
o وقال عبد الله بن أحمد: قال لي أبو زرعة: "أبوك يحفظ ألف ألف حديث". فقيل له: وما يدريك؟ قال: "ذاكرته فأخذت عليه الأبواب".
ويعلق الحافظ الذهبي على هذا القول فيقول: "وكانوا يعدون في ذلك المكرر، والأثر، وفتوى التابعي، وما فسر، ونحو ذلك. وإلا فالمتون المرفوعة القوية لا تبلغ عشر معشار ذلك " (1) .
وقال علي بن المديني: " ليس في أصحابنا أحفظ من أبي عبد الله أحمد بن حنبل، إلا أنه لا يحدث إلا من كتابه، ولنا فيه أسوة حسنة ".
قلت: وهذا من تمام ورعه رحمه الله تعالى.
o وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: " كتب أبي عشرة آلاف ألف حديث، لم يكتب سوادا في بياض إلا حفظه " (2) .
قلت: ما وصل الإمام أحمد إلى هذه المنزلة الرفيعة إلا بحرصه الشديد ومثابرته على طلب العلم، فبقدر ما تعطى العلم من نفسك، فإنه يظهر لك من كنوزه ودرره. وإليك مصداق ذلك:
__________
(1) النبلاء 11 \ 187) .
(2) خصائص المسند (ص22) وطبقات الشافعية (2 \ 31) .(25/224)
o قال الخلال: حدثنا أبو إسماعيل الترمذي، سمعت قتيبة بن سعيد يقول: "كان وكيع إذا كانت العتمة ينصرف معه أحمد بن حنبل، فيقف على الباب فيذاكره، فأخذ وكيع ليلة بعضادتي الباب، ثم قال: يا أبا عبد الله، أريد أن ألقي عليك حديث سفيان، قال: هات. قال: تحفظ عن سفيان عن سلمة بن كهيل كذا؟ قال: نعم حدثنا يحيى، فيقول: سلمة كذا وكذا؟ فيقول: حدثنا عبد الرحمن، فيقول: عن سلمة كذا وكذا؟ فيقول: أنت حدثتنا، حتى يفرغ من سلمة، ثم يقول أحمد: فتحفظ عن سلمة كذا وكذا؟ فيقول وكيع: لا، ثم يأخذ في حديث شيخ شيخ، قال: فلم يزل قائما حتى جاءت الجارية فقالت: قد طلع الكوكب، أو قالت: الزهرة" (1) .
ولهذا نجد الإمام أحمد قد أتقن حديث وكيع إتقانا جيدا.
o قال عبد الله بن أحمد: قال لي أبي: "خذ أي كتاب شئت من كتب وكيع، فإن شئت تسألني عن الكلام فأخبرك بالإسناد، وإن شئت بالإسناد حتى أخبرك عن الكلام".
o وصدق ابن الجوزي حينما قال عن الإمام أحمد:
" كان رضي الله عنه شديد الإقبال على العلم، سافر في طلبه السفر البعيد ووفر على تحصيله الزمان الطويل، ولم يتشاغل بكسب ولا نكاح حتى بلغ منه ما أراد " (2) .
__________
(1) مناقب الإمام (ص61) وتاريخ الإسلام (ص10) .
(2) مناقب الإمام (ص58) .(25/225)
ثناء الأئمة عليه:
o قال الإمام الشافعي: " خرجت من بغداد، وما خلفت بها أحدا(25/225)
أتقى ولا أروع ولا أعلم من أحمد بن حنبل ".
وكفى بهذه شهادة من شيخه وإمام عصره محمد بن إدريس رحمه الله تعالى.
o وقال عبد الرزاق بن همام الصنعاني: " ما قدم علينا أحد كان يشبه أحمد بن حنبل " (1) .
o وقال أيضا: " ما رأيت مثل أحمد بن حنبل " (2) .
قلت: قال عبد الرزاق ذلك، وقد رأى أئمة العلم مثل: معمر بن راشد، والإمام مالك، والسفياني، وابن جريج، وابن معين، وغيرهم.
o وقال إبراهيم الحربي: " كأن الله قد جمع له علم الأولين من كل صنف، يقول ما يرى ويمسك ما شاء " (3) .
o وقال شجاع بن مخلد: سمعت أبا الوليد الطيالسي يقول: "ما بالمصرين - يعني: الكوفة والبصرة - رجل أكرم علي من أحمد بن حنبل ".
o وقال الهيثم بن جميل: "إن عاش هذا الفتى سيكون حجة على أهل زمانه" (4) .
o وقال أبو جعفر النفيلي: "كان أحمد بن حنبل من أعلام الدين".
__________
(1) مناقب الإمام (ص69) .
(2) مناقب الإمام (ص70) .
(3) مناقب الإمام (ص62) وطبقات الحنابلة (1 \ 6) وبنحوه في تاريخ الإسلام (ص11) والنبلاء (11 \ 188) .
(4) الحلية (9 \ 162 و167) وتاريخ دمشق (7 \ 245) وتاريخ الإسلام (ص12) والنبلاء (11 \ 195) .(25/226)
o وقال إسماعيل بن خليل: "لو كان أحمد بن حنبل في بني إسرائيل لكان آية" (1) .
ولو تتبعت ثناء الأئمة عليه لطال بنا المقام، ولكن أختم بقول الإمام الذهبي: " كان أحمد عظيم الشأن، رأسا في الحديث، وفي الفقه، وفي التأله. أثنى عليه خلق من خصومه، فما الظن بإخوانه وأقرانه؟!! وكان مهيبا في ذات الله. حتى قال أبو عبيد القاسم بن سلام: ما هبت أحدا في مسألة ما هبت أحمد بن حنبل " (2) .
__________
(1) الحلية (9 \ 66) وتاريخ بغداد (4 \ 418) وتاريخ دمشق (7 \ 250) والنبلاء (11 \ 202) .
(2) النبلاء (11 \ 203) . وانظر: تاريخ دمشق (7 \ 246) ومناقب الإمام (ص212) .(25/227)
احترام العلماء له:
العلماء لهم منزلة عظيمة ومكانة رفيعة، فهم ورثة الأنبياء، والعلم تاج يرفع من ذكر الإنسان ويعلي قدره، وكم من أصيل النسب حطه الجهل، وكم من وضيع النسب رفعه العلم فوق جميع الناس، وصدق من قال:
العلم يرفع بيتا لا عماد له ... والجهل يهدم بيت العز والشرف
ويزداد فضل الإنسان ومكانته بزيادة علمه وعمله، والإمام أحمد رحمه الله تعالى جمع الأمرين معا، مما جعل شيوخه قبل تلاميذه يقدرونه، ويجلونه، ويحترمونه، حتى قال إدريس بن عبد الكريم المقرئ:
" رأيت علماءنا مثل الهيثم بن جميل، ومصعب الزبيري - وذكر (20) عالما من الحفاظ والفقهاء - فيمن لا أحصيهم من أهل العلم والفقه، يعظمون أحمد بن حنبل، ويجلونه، ويوقرونه، ويبجلونه، ويقصدونه للسلام عليه ".
وقال أحمد بن شيبان: " ما رأيت يزيد بن هارون لأحد أشد تعظيما منه لأحمد بن حنبل، وكان يقعده إلى جنبه إذا حدثنا، وكان يوقر أحمد بن(25/227)
حنبل ولا يمازحه ".
ويزيد بن هارون من شيوخ أحمد، ويعتبر من الأئمة الحفاظ الأثبات، ومع ذلك نجده يحترم الإمام أحمد هذا الاحترام. ويزيد بن هارون صاحب نكتة وطرافة، لكنه يتحرز من ذلك عند الإمام أحمد. قال خلف بن سالم: " كنا في مجلس يزيد بن هارون، فمزح يزيد مع مستمليه، فتنحنح أحمد بن حنبل، فضرب يزيد بيده على جبينه، وقال: ألا أعلمتموني أن أحمد ههنا حتى لا أمزح!! " (1) .
وقال أبو بكر المروزي: أخبرني عبد الله بن المبارك - شيخ سمع منه قديما، وليس بالخراساني - قال: "كنت عند إسماعيل ابن علية، فتكلم إنسان فضحك بعضنا، وثم أحمد بن حنبل. فأتينا إسماعيل فوجدناه غضبان، فقال: أتضحكون وعندي أحمد بن حنبل؟ ! " (2) .
رحم الله الإمام أحمد بن حنبل، فقد كان رجلا جادا، متميزا، حريصا على وقته، وعلى طلبه للعلم. وهذه الصفات هي التي جعلت شوامخ العلماء يحترمونه ويقدرونه، حتى إن كثيرا من العلماء كان يسميه بـ: "الإمام" أو "إمامنا" سواء من شيوخه أو من أقرانه أو من تلاميذه، فمنهم: الإمام المبجل يحيى بن آدم (3) وعلي بن المديني الذي قال: "اتخذت أحمد بن حنبل إماما فيما بيني وبين الله" (4) .
كما كان يسميه أيضا بـ: "سيدنا". وممن يسميه بالإمام أيضا: بشر بن الحارث (5)
__________
(1) الحلية (9 \ 169) ومناقب الإمام (ص67) والنبلاء (11 \ 194) والمنهج الأحمد (1 \ 76) .
(2) مناقب الإمام (ص68) والنبلاء (11 \ 194) .
(3) انظر: تاريخ بغداد (4 \ 417) ومناقب الإمام (ص77) والنبلاء (11 \ 189) والتهذيب (1 \ 73) .
(4) تاريخ دمشق (7 \ 242) ومناقب الإمام (ص109) والبداية والنهاية (10 \ 336) .
(5) مناقب الإمام (ص117) .(25/228)
والذهلي (1) ، وأبو عبيد القاسم بن سلام (2) ، وقتيبة بن أحمد (3) ، وأبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن (4) ، وغيرهم (5) .
__________
(1) مناقب الإمام (ص125) والنبلاء (11 \ 198) .
(2) مناقب الإمام (ص109) والمنهج الأحمد (1 \ 70) .
(3) تاريخ الإسلام (ص12) والتهذيب (1 \ 74) .
(4) الحلية (9 \ 176) .
(5) سوف يأتي سبب تسميته بإمام أهل السنة عند الحديث عن المحنة.(25/229)
زهد الإمام أحمد:
عندما تدبر الدنيا عن الإنسان، ويدعى الزهد فيها، فهو وإن كان صادقا في زهده هذا، إلا أن هذا الزهد سهل المنال.
أما حينما تقبل الدنيا بخيلها ورجلها، وتقف بين يدي الإنسان ثم يزهد فيها، فلا شك أن هذا هو الزهد الحقيقي، الذي تتضاغر عنده النفوس، ولا يطيقه إلا القلة الصابرة المحتسبة، الناظرة لنعيم الآخرة، المعرضة عن نعيم الدنيا.
والإمام أحمد رحمه الله تعالى من النوع الثاني، وصدق ابن النحاس حينما قال في الإمام أحمد بن حنبل: " رحمه الله، عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، وبالصالحين ما كان ألحقه. عرضت له الدنيا فأباها، والبدع فنفاها " (1) .
قال ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى على قول ابن النحاس: " وهذه حال أئمة المتقين، الذين وصفهم الله في كتابه بقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (2) (سورة السجدة آية 24) .
فبالصبر تترك الشهوات، وباليقين تدفع الشبهات، قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3) (سورة العصر آية 3) . وقوله تعالى:
{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} (4) (سورة ص آية 45) (5) .
__________
(1) تاريخ دمشق (7 \ 252) وتاريخ الإسلام (ص15) .
(2) سورة السجدة الآية 24
(3) سورة العصر الآية 3
(4) سورة ص الآية 45
(5) إعلام الموقعين (1 \ 137) وانظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1 \ 103) .(25/229)
والحديث عن زهد الإمام أحمد رحمه الله باب يطول، نقتصر على القليل منه: قال صالح بن أحمد: " ربما رأيت أبي يأخذ الكسر، ينفض الغبار عنها، ويصيرها في قصعة، ويصب عليها ماء، ثم يأكلها بالملح، وما رأيته اشترى رمانا ولا سفرجلا، ولا شيئا من الفاكهة، إلا أن تكون بطيخة فيأكلها بخبز وعنبا وتمرا " (1) .
قلت: وهذا من شدة خوفه من الله سبحانه وتعالى، فقد قال المروذي: " كان الإمام أحمد إذا ذكر الموت خنقته العبرة، وكان يقول: الخوف يمنعني أكل الطعام والشراب " (2) .
وقال صالح بن أحمد: " قال لي أبي: كانت والدتك في الظلام تغزل غزلا دقيقا، فتبيع الأستار بدرهمين أقل أو أكثر، فكان ذلك قوتنا. وكنا إذا اشترينا الشيء نستره عنه كيلا يراه فيوبخنا. وكان ربما خبز له، فيجعل في فخارة عدسا وشحما وتمرات ولهريز (3) ، فيجيء الصبيان فيصوت ببعضهم، فيدفعه إليهم، فيضحكون ولا يأكلون. وكان يأتدم بالخل كثيرا " (4) .
وأما عن بيته فيصفه لنا الميموني بقوله: " كان منزل أبي عبد الله ضيقا صغيرا، وينام في الحر في أسفله " (5) .
لذلك لما دخل أحمد بن عيسى المصري ومعه قوم من المحدثين على أبي عبد الله أحمد بن حنبل بالعسكر، فقال له أحمد بن عيسى: "يا أبا عبد الله، ما هذا الغم؟ الإسلام حنيفية سمحة، وبيت واسع!! فنظر إليهم وكان مضطجعا، فلما خرجوا، قال أبو عبد الله: "ما أريد أن يدخل علي
__________
(1) النبلاء (11 \ 208) .
(2) تاريخ الإسلام (ص21) والنبلاء (11 \ 215) وطبقات الحنابلة (1 \ 12) .
(3) نوع من التمر.
(4) النبلاء (11 \ 208) .
(5) النبلاء (11 \ 325) .(25/230)
هؤلاء! " (1) .
قلت: لما قرأت هذا الخبر تذكرت قول المصطفى صلى الله عليه وسلم في صفة الطائفة المنصورة: «لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم (2) » . . ".
وكان الإمام أحمد بن حنبل يرفض التزلف تحت أعتاب السلطان، ويرفض عطايا الولاة بنفس أبية عزيزة، فقد قال إسحاق بن موسى الأنصاري: "دفع إلي المأمون مالا فقال: اقسمه على أصحاب الحديث فإن فيهم ضعفا. فما بقي أحد إلا أخذ، إلا أحمد بن حنبل فإنه أبى " (3) .
بل كان رحمه الله يغضب على أولاده حينما يقبلون جوائز الأمراء، فقد ذكر أحمد بن محمد التستري: " أن أحمد بن حنبل أتى عليه ثلاثة أيام ما طعم فيها، فبعث إلى صديق له، فاقترض منه دقيقا، فجهزوه بسرعة، فقال: كيف ذا؟! قالوا: تنور صالح مسجر فخبزنا فيه، فقال: ارفعوا، وأمر بسد باب بينه وبين صالح " (4) .
قال الحافظ الذهبي: لكونه أخذ جائزة المتوكل.
قلت: والأمثلة على رد الإمام أحمد جوائز الخلفاء كثيرة؛ وذلك لأنه آثر الباقية على الفانية، فقد قال صالح بن أحمد: "قلت لأبي: إن أحمد الدورقي أعطي ألف دينار، فقال: يا بني {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (5) (سورة طه: آية 131) .
__________
(1) النبلاء (11 \ 325) .
(2) أخرجه من حديث معاوية رضي الله عنه: أحمد (4 \ 93 و97 و99 و101) والبخاري (13 \ 293) رقم (7312) ومسلم (3 \ 1524) وابن ماجه (1 \ 5) . وأخرجه من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: أحمد (4 \ 244 و 248 و 252) والدارمي (2 \ 132) رقم (2437) والبخاري (6 \ 632) و (13 \ 293) ومسلم (3 \ 1523) والطبراني في المعجم الكبير (20 \ 402 و403) . والحديث رواه أيضا جمع كثير من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. ولهذا عده شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى من الأحاديث المتواترة. انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1 \ 69) ت. العقل.
(3) الحلية (9 \ 181) وتاريخ دمشق (7 \ 264) .
(4) النبلاء (11 \ 214) .
(5) سورة طه الآية 131(25/231)
رحم الله الإمام أحمد فقد حفظ العلم، وحفظ كرامة العلماء، فلم يجعل العلم عبثا.
رحم الله الإمام أحمد فقد قال: "إذا ذكر الموت هان علي كل شيء من أمر الدنيا، وإنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل، ما أعدل بالفقر شيئا".
ثم إن الإمام أحمد كان يرفض عطايا شيوخه، حتى لو كان محتاجا لها، فقد روى عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: " عرض علي يزيد بن هارون خمسمائة درهم أو أكثر أو أقل، فلم أقبل منه. وأعطى يحيى بن معين، وأبا مسلم المستملي فأخذا منه " (1) .
قال إسحاق بن راهويه: " كنت أنا وأحمد باليمن عند عبد الرزاق، وكنت أنا فوق الغرفة وهو أسفل، وكنت إذا جئت إلى موضع اشتريت جارية، قال: فاطلعت على أن نفقته فنيت، فعرضت عليه فقلت: إن شئت قرضا، وإن شئت صلة، فأبى. فنظرت فإذا هو ينسج التكك ويبيع وينفق " (2) .
كما رفض رحمه الله عطية شيخه عبد الرزاق بن همام الصنعاني لما كان عنده باليمن، مع أنه كان في أمس الحاجة إليها (3) .
__________
(1) انظر: الحلية (9 \ 174، 175) وتاريخ دمشق (7 \ 263) وتاريخ الإسلام (ص19) والنبلاء (1 \ 193) .
(2) تاريخ دمشق (7 \ 263) وتاريخ الإسلام (ص19) والنبلاء (11 \ 193) .
(3) انظر: الحلية (9 \ 174، 175) وتاريخ دمشق (7 \ 263) وتاريخ الإسلام (ص19) والنبلاء (11 \ 193) .(25/232)
كما امتنع عن قبول هدية ابن الجروي ومقدارها ثلاثة آلاف دينار، مع الإلحاح الشديد (1) .
قلت: وهذا من تمام توكل الإمام أحمد رحمه الله على الخالق الرازق عز وجل، حيث سئل الإمام أحمد عن التوكل فقال: "قطع الاستشراف بالإياس من الخلق". فقيل له: فما الحجة فيه؟ قال: "قول إبراهيم - عليه السلام - لما وضع في المنجنيق ثم طرح في النار، اعترض له جبريل - عليه السلام - فقال: هل من حاجة؟ فقال: أما إليك فلا. قال: فسل من لك إليه حاجة. فقال: أحب الأمرين إلي أحبهما إليه" (2) .
وقد وصف زهد الإمام أحمد جمع من معاصريه، من شيوخه وأقرانه وتلاميذه. فمن ذلك: قال يحيى الشامي: " ما رأيت أحدا أجمع لكل خير من أحمد، وقد رأيت سفيان بن عيينة ووكيعا وعدة من العلماء. فما رأيت مثل أحمد في: علمه، وفقهه، وزهده، وورعه " (3) .
وقال يحيى بن معين: " كان في أحمد خصال ما رأيتها في عالم قط، كان محدثا، وكان حافظا، وكان عالما، وكان ورعا، وكان زاهدا، وكان عاقلا " (4) .
ومن أجمل ما رأيت في وصف زهد الإمام أحمد قول تلميذه: سليمان بن الأشعث السجستاني - صاحب السنن -: " لقيت مائتين من مشايخ العلم، فما رأيت مثل أحمد بن حنبل، لم يكن يخوض في شيء مما يخوض فيه الناس من أمر الدنيا. فإذا ذكر العلم تكلم " (5) .
وقال أبو داود أيضا: "كانت مجالسة أحمد بن حنبل مجالسة
__________
(1) الحلية (9 \ 178) ومن طريقه تاريخ دمشق (7 \ 264) والنبلاء (11 \ 206، و214) .
(2) تاريخ دمشق (7 \ 267، 268) ومناقب الإمام (ص198) .
(3) الحلية (9 \ 174) ومن طريقه تاريخ دمشق (7 \ 245) .
(4) تاريخ دمشق (7 \ 243) والبداية والنهاية (10 \ 336) .
(5) الحلية (9 \ 164) وتاريخ دمشق (7 \ 252) .(25/233)
الآخرة. لا يذكر فيها شيء من الدنيا. ما رأيت أحمد ذكر الدنيا قط" (1) .
قلت: وأعظم بها من شهادة، من رجل حافظ ثقة مصنف دقيق العبارة، أحد الذين تتلمذوا وأكثروا عن الإمام أحمد، وعرفه تمام المعرفة.
وأختم حديثي عن زهد الإمام أحمد بقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: " وقد صنف أحمد في الزهد كتابا حافلا عظيما، لم يسبق إلى مثله، ولم يلحقه أحد فيه. والمظنون بل المقطوع به أنه إنما كان يأخذ بما أمكنه منه رحمه الله " (2) .
__________
(1) تاريخ دمشق (7 \ 252) ومناقب الإمام (ص214) وتاريخ الإسلام (ص6) والنبلاء (11 \ 199) .
(2) البداية والنهاية للحافظ ابن كثير (10 \ 329) .(25/234)
فقه الإمام أحمد:
الحديث عن فقه الإمام أحمد وتضلعه في هذا الباب يطول، ومن المعلوم أن مذهب الإمام أحمد في الفقه أحد المذاهب المعتبرة، ويعتبر رابع المذاهب المشهورة.
وقد أقام الإمام أحمد بن حنبل مذهبه الفقهي على خمسة أصول كما بينها ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى وهي:
الأول: النصوص: فإذا وجد النص أفتى بموجبه ولم يلتفت إلى ما خالفه، ولا من خالفه كائنا من كان.
الثاني: ما أفتى به الصحابة: فإنه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يعدها إلى غيرها.
الثالث: إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج من أقوال الصحابة. فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال، حكى الخلاف فيها، ولم يجزم بقول.
الرابع: الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، وهو الذي رجحه على القياس.(25/234)
وقد بين الإمام ابن القيم المراد بالحديث الضعيف الذي يأخذ به الإمام أحمد، حينما قال رحمه الله تعالى:
"وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه فالعمل به. بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح وقسم من أقسام الحسن، ولم يكن يقسم الحديث إلى: صحيح وحسن وضعيف، بل إلى: صحيح وضعيف، وللضعيف عنده مراتب، فإذا لم يجد في الباب أثرا يدفعه، ولا قول صاحب، ولا إجماع على خلافه، كان العمل به عنده أولى من القياس". اهـ.
الخامس: إذا لم يكن عند الإمام أحمد في المسألة نص، ولا قول صحابة، أو أحد منهم، ولا أثر مرسل أو ضعيف، عدل إلى الأصل الخامس وهو: القياس، فاستعمله للضرورة (1) .
ثم قال الإمام ابن القيم: " فهذه الأصول الخمسة من أصول فتاويه، وعليها مدارها. وقد يتوقف في الفتوى لتعارض الأدلة عنده. أو لاختلاف الصحابة فيها، أو لعدم اطلاعه فيها على أثر أو قول أحد من الصحابة والتابعين.
وكان شديد الكراهة والمنع للإفتاء بمسألة ليس فيها أثر عن السلف، كما قال لبعض أصحابه: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام.
وكان يسوغ استفتاء فقهاء الحديث وأصحاب مالك، ويدل عليهم، ويمنع من استفتاء من يعرض عن الحديث، ولا يبني مذهبه عليه ولا يسوغ العمل بفتواه. . . " (2) .
قلت: ولي ها هنا مع الأصل الرابع وقفة قصيرة: فابن قيم الجوزية تبع في هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله تعالى، وإليك قول
__________
(1) إعلام الموقعين للإمام ابن القيم (1 \ 29-32) .
(2) إعلام الموقعين (1 \ 32- 33) .(25/235)
شيخ الإسلام: " قولنا: إن الحديث الضعيف خير من الرأي، ليس المراد به الضعيف المتروك، لكن المراد به: الحسن، كحديث: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وحديث: إبراهيم الهجري، وأمثالهما ممن يحسن الترمذي حديثه أو يصححه " (1) .
وقال رحمه الله أيضا: "وأول من عرف أنه قسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف: أبو عيسى الترمذي " (2) .
ولي ههنا وقفتان:
الأولى: لا يسلم بأن الترمذي رحمه الله تعالى هو أول من قسم الحديث التقسيم الثلاثي، بل عرفت هذه القسمة قبله، حيث ورد لفظ التحسين على لسان عدة من العلماء السابقين للإمام الترمذي، ومن أمثلة ذلك: ما ذكره ابن القيم نفسه عن الإمام أحمد بن حنبل أنه حسن حديث ركانة في طلاقه امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فقال ابن القيم: "وقد صحح أحمد هذا الحديث وحسنه" (3) .
وقد ذكر الإمام علي بن المديني حديث عمر بن الخطاب مرفوعا: «إني ممسك بحجزكم عن النار (4) » . وقال: "هذا حديث حسن الإسناد" (5) .
لذلك قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في نكته على مقدمة ابن الصلاح: " قد أكثر علي بن المديني من وصف الأحاديث بالصحة والحسن في مسنده وعلله، وكان الإمام السابق لهذا الاصطلاح. وعنه أخذ: البخاري، ويعقوب بن شيبة، وغير واحد. وعن البخاري أخذ الترمذي " (6) .
__________
(1) منهاج السنة النبوية (2 \ 191) .
(2) الفتاوى (18 \ 23) وانظر: الفتاوى (18 \ 25) وقاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص82، 83) ط لاهور.
(3) إعلام الموقعين (3 \ 31) .
(4) صحيح البخاري الرقاق (6483) ، صحيح مسلم الفضائل (2284) ، مسند أحمد بن حنبل (2/540) .
(5) العلل لعلي بن المديني (ص102) .
(6) النكت على ابن الصلاح لابن حجر (1 \ 426) وانظر: قوت المقتدي للسيوطي (1 \ 8) .(25/236)
والذي يدلك على أن الترمذي أخذ هذا الاصطلاح عن الإمام البخاري: أنه نقل عنه في جامعه تحسين بعض الأحاديث، ومنها حديث: «من زرع في أرض قوم بغير إذنه، فليس له من الزرع شيء وله نفقته (1) » قال البخاري: هذا حديث حسن.
وكذلك جاء ذكر الحديث الحسن عند الحافظ: أبي حاتم الرازي رحمه الله تعالى (2) .
وبهذا يتبين: أن الإمام الترمذي مسبوق في هذا الاصطلاح. ولكن لا شك بأن الإمام الترمذي هو الذي نشر هذا التقسيم ونوه به، قال الحافظ ابن الصلاح: " كتاب أبي عيسى الترمذي رحمه الله أصل في معرفة الحديث الحسن، وهو الذي نوه باسمه وأكثر من ذكره في جامعه، ويوجد في متفرقات من كلام مشايخه والطبقة التي قبله. كأحمد بن حنبل والبخاري " (3) .
الوقفة الثانية: هل كان الإمام أحمد بن حنبل يقصد بالحديث الضعيف: الحديث الحسن؟! هذا أمر لا يسلم به؛ لأن الإمام أحمد يحتج بالحديث المرسل كما نص على ذلك ابن القيم، والمرسل كما هو معلوم: نوع من أنواع الحديث الضعيف! ثم لو كان الإمام أحمد يقصد بالحديث الضعيف: "الحديث الحسن" للزم من كلام ابن القيم أن الإمام أحمد يقدم قول الصحابي على الحديث الحسن - على حسب ما قرره ابن القيم في ترتيب الأصول التي اعتمد عليها أحمد - وهذا مما لم يقله أحد من أهل العلم.
لكن مع هذا لا شك في أن الإمام أحمد بن حنبل لا يقصد بالحديث
__________
(1) سنن الترمذي الأحكام (1366) ، سنن أبو داود البيوع (3403) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2466) ، مسند أحمد بن حنبل (4/141) .
(2) انظر: شرح علل الترمذي لابن رجب الحنبلي (ص203) .
(3) مقدمة ابن الصلاح (ص32) . وانظر: شرح علل الترمذي لابن رجب (ص203) .(25/237)
الضعيف - الذي يقدمه على القياس - هو الباطل أو المنكر أو ما في روايته متهم، بل كان يقدم الحديث الضعيف ضعفا محتملا على القياس، كما حرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، والله أعلم.
بعد هذا العرض الموجز في أصول مذهب الإمام أحمد أقول: إن الإمام أحمد بن حنبل أحد المحدثين البارزين، جمع من علمه بالحديث ورجاله فقها استطاع به أن يعرف دلائل النصوص ومراميها. فقد قال إسحاق بن راهويه رحمه الله تعالى: "كنت أجالس بالعراق: أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأصحابنا، وكنا نتذاكر الحديث من طريق وطريقين وثلاثة. فيقول يحيى بن معين من بينهم: وطريق كذا. فأقول: أليس هذا صح بإجماع منا؟ فيقولون: نعم. فأقول: ما مراده، ما تفسيره، ما فقهه؟! فيبقون كلهم إلا أحمد بن حنبل ".
وقد أثنى كثير من العلماء على فقه الإمام أحمد بن حنبل ثناء عظيما، ومن ذلك ما قاله شيخه عبد الرزاق بن همام: "ما رأيت أفقه من أحمد بن حنبل ولا أورع".
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: "انتهى العلم إلى أربعة: إلى أحمد بن حنبل وهو أفقههم فيه، وإلى ابن أبي شيبة وهو أحفظهم له، وإلى علي بن المديني وهو أعلمهم به، وإلى يحيى بن معين وهو أكتبهم له".
وهذه شهادة جليلة من أبي عبيد الذي قال عنه إبراهيم الحربي: "رأيت أبا عبيد القاسم بن سلام ما مثله إلا بجبل نفخ فيه روح" (1) ،
__________
(1) مناقب الإمام (ص62) .(25/238)
وقال عنه ابن القيم: "كان جبلا نفخ فيه الروح علما وجلالة ونبلا وأدبا" (1) .
كان الإمام الفقيه أبو ثور رحمه الله تعالى يفضل أحمد بن حنبل على سفيان الثوري في الفقه والعلم، حيث قال: " أحمد بن حنبل أعلم من الثوري وأفقه". لذلك كان أبو ثور يحترم آراء الإمام أحمد ويفتي بها. قال المروذي: "حضرت أبا ثور وقد سئل عن مسألة. فقال: قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل شيخنا وإمامنا فيها كذا وكذا".
وقال ابن ماكولا: "كان أعلم الناس بمذاهب الصحابة والتابعين" (2) .
وقال ابن الجوزي يصف فقه أحمد: "قد خرج عنه اختيارات بناها على الأحاديث بناء لا يعرفه أكثرهم، وخرج من دقيق الفقه ما ليس نراه لأحد منهم، وانفرد بما سلموه له من الحفظ، وشاركهم وربما زاد على كبارهم " (3) .
__________
(1) إعلام الموقعين (1 \ 28) .
(2) تهذيب التهذيب (1 \ 75) .
(3) مناقب الإمام (ص64) .(25/239)
الإمام أحمد والجرح والتعديل:
كان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى من أئمة الجرح والتعديل، عارفا بالرجال وعلل الحديث، نقادا بارعا يعتمد عليه.
قال الإمام محمد بن إدريس الشافعي: "أنتم أعلم بالحديث والرجال - يعني: الإمام أحمد - فإذا كان الحديث الصحيح فأعلموني، إن شاء يكون كوفيا، أو شاء شاميا حتى أذهب إليه إن كان صحيحا" (1) .
__________
(1) طبقات الحنابلة (1 \ 6) .(25/239)
وقال أبو حاتم: "كان أحمد بن حنبل بارع الفهم لمعرفة الحديث، لصحيحه وسقيمه، وتعلم الشافعي أشياء من معرفة الحديث منه. وكان الشافعي يقول لأحمد: حديث كذا وكذا قوي الإسناد محفوظ؟ فإذا قال أحمد: نعم. جعله أصلا وبني عليه" (1) .
وقال الحسن بن محمد الخلال: قال عبد الرزاق الصنعاني: "رحل إلينا من العراق أربعة من رؤساء الحديث: الشاذكوني وكان أحفظهم للحديث، وابن المديني وكان أعرفهم باختلافه، ويحيى بن معين وكان أعلمهم بالرجال، وأحمد بن حنبل وكان أجمعهم لذلك كله" (2) .
وقال أبو يعلى: "هو إمام في الجرح والتعديل، والمعرفة والتعليل، والبيان والتأويل" (3) .
وقد قسم الإمام الذهبي المتكلمين في الرجال إلى ثلاثة أقسام، جعل الإمام أحمد في القسم الثالث حيث وصف أصحاب هذا القسم بأنهم: "معتدلون منصفون" (4) .
كما قال عنه الحافظ الذهبي: "سأله جماعة من تلامذته عن الرجال، وجوابه بإنصاف، واعتدال، وورع في المقال".
قلت: وكتابيه: "العلل والرجال" و"الأسماء والكنى" يشهدان بتضلع الإمام أحمد في هذا العلم الجليل، وأنه وصل إلى منزلة ليست لكثير من الأئمة.
__________
(1) تقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (ص 302) . وانظر: شرح علل الترمذي لابن رجب (ص142) .
(2) مناقب الإمام (ص69) . وشرح علل الترمذي لابن رجب (ص141) .
(3) طبقات الحنابلة (1 \ 5) .
(4) ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل (ص158) ت. عبد الفتاح أبو غدة.(25/240)
محنة الإمام أحمد بن حنبل:
ذكرت في بداية حديثي عن الإمام أحمد أنه - رحمه الله تعالى -(25/240)
عاش في زمن استقرت فيه الأمور للدولة العباسية. ولكن ما لبث أن ظهر اعتماد المأمون على الجيش الفارسي لكي يستطيع التغلب على أخيه الأمين، وتم له ذلك فعلا، ومنذ ذلك الحين بدأ تسرب الأعاجم إلى دار الخلافة، حتى جاء المعتصم من بعده فاعتمد على الترك الذين قوي نفوذهم بمرور الزمن، حتى جاء اليوم الذي اعتدوا فيه على الخلفاء وعاثوا في الأرض الفساد.
وانقسمت الدولة الأم بعد ذلك انقسامات عديدة، كل ذلك بسبب الجهل الشديد بمبدأ من أعظم المبادئ الإسلامية، هو: "مبدأ الولاء والبراء".
وصدق الحق سبحانه وتعالى حينما قال في محكم التنزيل:
{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (1) (سورة المجادلة آية 22) .
وفي عصر المأمون، استطاع المعتزلة التسلل إلى قلب المأمون، وأقنعوه بمسلكهم الفلسفي في التفكير الذي نتج عنه: إنكار صفات الخالق سبحانه وتعالى، ومن بينها صفة الكلام، ومن ثم دعوة المأمون العلماء إلى القول بخلق القرآن.
وأراد المأمون أن يحمل الناس على ذلك، إلا أن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى أبى واستعصم وثبت على الحق، في الوقت الذي تراجع فيه كثير من أهل العلم عن قول الحق.
ثبت الإمام أحمد رحمه الله تعالى في الساحة وحده، وآثر الباقية على الفانية، وظل صابرا محتسبا، وأصبح بحق رجلا بأمة. فأمر المأمون بضربه وحبسه، وحتى مات المأمون، فأوصى المعتصم من بعده بأن يقول مقالته بخلق القرآن، ومن ثم بدأ المعتصم ينفذ هذه الوصية، فضرب الإمام أحمد بالسياط حتى أغمي عليه، وأهانه أشد الإهانة، واستمر حبسه نحوا
__________
(1) سورة المجادلة الآية 22(25/241)
من ثمانية وعشرين شهرا، وقيل: بضعة وثلاثين شهرا. وكان يصلي وينام والقيد في رجله.
وفي كل يوم يرسل إليه الخليفة المعتصم من يناظره، وكان كلام الإمام أحمد واحدا لا يتغير. حتى غضب عليه المعتصم وهدده وشتمه، وأمر بالشدة في جلده، وزاد في قيده. والإمام أحمد صابر محتسب ثابت ثبوت الجبال الرواسي.
قال أبو شعيب الحراني: "كنا مع أبي عبيد القاسم بن سلام بباب المعتصم، وأحمد بن حنبل يضرب. قال: فجعل أبو عبيد يقول: أيضرب سيدنا، لا صبر؟! أيضرب سيدنا، لا صبر؟! قال أبو شعيب: فقلت:
ضربوا ابن حنبل بالسياط بظلمهم ... بغيا فثبت بالثبات الأنور
قال الموفق حين مدد بينهم ... مد الأديم مع الصعيد القرر
إني أموت ولا أبوء بفجرة ... تصلى بوائقها محل المفتري
". (1) .
ثم أطلق سراح الإمام أحمد، فعاد رحمه الله تعالى إلى التدريس بالمسجد بعد أن شفاه الله من جراحاته إلى أن مات المعتصم.
ثم تولى الخلافة من بعده ابنه الواثق الذي أظهر ما أظهر من المحنة والميل إلى ابن أبي دؤاد - رأس المعتزلة - وأصحابه. واشتد الأمر على أهل بغداد، فمنع الإمام أحمد من الخروج للدرس والاجتماع للناس، فانقطع الإمام أحمد عن التدريس مدة تزيد على خمس سنوات، حتى توفي الواثق (232هـ) .
ثم تولى الخلافة المتوكل رحمه الله تعالى، الذي أعاد الحق إلى نصابه،
__________
(1) مناقب الإمام (ص336) .(25/242)
ونصر الله على يديه السنة وأعز الله به أهلها، حتى قيل: " أبو بكر في الردة، وعمر بن عبد العزيز في رده المظالم، والمتوكل في إحياء السنة وإماتة التجهم" (1) .
وأمر المتوكل المحدثين بأن يحدثوا بأحاديث الصفات والرؤية. وقال في ذلك أبو بكر بن الخبازة:
وبعد فإن السنة اليوم أصبحت ... معززة حتى كأن لم تذلل
تصول وتسطو إذا أقيم منارها ... وحط منار الإفك والزور من عل
وولى أخو الإبداع في الدين هاربا ... إلى النار يهوي مدبرا غير مقبل
شفى الله منهم بالخليفة جعفر ... خليفته ذي السنة المتوكل
خليفة ربي وابن عم نبيه ... وخير بني العباس من منهم ولي
وجامع شمل الدين بعد تشتت ... وفاري رؤوس المارقين بمنصل
" (2) .
هذا ملخص المحنة التي مر بها الإمام أحمد بن حنبل. وكما نرى فإن الإمام أحمد وقف موقفا عظيما لا يناله إلا أهل العزم من الرجال المخلصين. يقول الشيخ أحمد شاكر في موقف الإمام أحمد: "أما أولو العزم من الأئمة الهداة، فإنهم يأخذون بالعزيمة، ويحتملون الأذى ويثبتون،
__________
(1) البداية والنهاية (10 \ 337) .
(2) تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص230) .(25/243)
وفي سبيل الله ما يلقون. ولو أنهم أخذوا بالتقية، واستساغوا الرخصة لضل الناس من ورائهم يقتدون بهم ولا يعلمون أن هذه تقية، وقد أتي المسلمون من ضعف علمائهم في مواقف الحق. . لا يجاملون الملوك والحكام فقط! بل يجاملون كل من طلبوا منه نفعا أو خافوا ضرا في الحقير والجليل من أمر الدنيا. ولقد قال رجل من أئمة هذا العصر المهتدين: كأن المسلمين لم يبلغهم من هداية كتابهم فيما يغشاهم من ظلمات الحوادث غير قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} (1) .
ثم أصيبوا بجنون التأويل فيما سوى ذلك. . . " (2) .
وقف الإمام أحمد هذا الموقف في الوقت الذي أحجم فيه عامة العلماء عن الحق، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون (3) » . وفي لفظ: «لا يزال ناس من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله عز وجل (4) » .
وبعد أن ثبت الله الإمام أحمد على الحق، نسب إليه مذهب أهل السنة؛ لأنه صبر على الذب عنها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " وأحمد بن حنبل وإن كان قد اشتهر بإمامة السنة والصبر في المحنة، فليس ذلك لأنه انفرد بقول، أو ابتدع قولا، بل لأن السنة التي كانت موجودة معروفة قبله، علمها ودعا إليها، وصبر على من امتحنه ليفارقها، وكان الأئمة قبله قد ماتوا قبل المحنة، فلما وقعت محنة الجهمية نفاة الصفات في أوائل المائة الثالثة - على عهد المأمون وأخيه المعتصم ثم الواثق - ودعوا الناس إلى التجهم وإبطال صفات الله تعالى، وهو المذهب الذي ذهب إليه متأخرو الرافضة، وكانوا قد أدخلوا معهم من أدخلوه من ولاة الأمور، فلم
__________
(1) سورة آل عمران الآية 28
(2) مقدمة المسند (1 \ 98) الهامش.
(3) صحيح مسلم الإمارة (1920) ، سنن الترمذي الفتن (2229) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4252) ، سنن ابن ماجه المقدمة (10) ، مسند أحمد بن حنبل (5/279) .
(4) حديث صحيح متواتر، تقدم تخريجه (ص251) .(25/244)
يوافقهم أهل السنة حتى تهددوا بعضهم بالقتل، وقيدوا بعضهم، وعاقبوهم وأخذوهم بالرهبة والرغبة. وثبت الإمام أحمد على ذلك الأمر حتى حبسوه مرة، ثم طلبوا أصحابهم لمناظرته، فانقطعوا معه في المناظرة يوما بعد يوم. . . (وذكر خبر المحنة) .
إلى أن قال ابن تيمية: ". . . ثم صارت هذه الأمور سببا في البحث عن مسائل الصفات وما فيها من النصوص والأدلة والشبهات من جانبي المثبتة والنفاة. وصنف الناس في ذلك مصنفات. وأحمد وغيره من علماء السنة والحديث، ما زالوا يعرفون فساد مذهب الروافض والخوارج والقدرية والجهمية والمرجئة، ولكن بسبب المحنة كثر الكلام، ورفع الله قدر هذا الإمام، فصار إماما من أئمة السنة وعلما من أعلامها، لقيامه بإعلامها وإظهارها، واطلاعه على نصوصها وآثارها، وبيانه لخفي أسرارها، لا لأنه أحدث مقالة أو ابتدع رأيا.
ولهذا قال بعض شيوخ المغرب: المذهب لمالك والشافعي، والظهور لأحمد. يعني أن مذهب الأئمة في الأصول مذهب واحد، وهو كما قال" (1) .
وقال شيخ الإسلام في موضع آخر: ". . . وأحمد إنما اشتهر أنه إمام أهل السنة، والصابر على المحنة، لما ظهرت محن الجهمية الذين ينفون صفات الله تعالى، ويقولون: إن الله لا يرى في الآخرة، وإن القرآن ليس هو كلام الله، بل هو مخلوق من المخلوقات، وإنه تعالى ليس فوق السماوات، وإن محمدا لم يعرج إلى الله، وأضلوا بعض ولاة الأمر، فامتحنوا الناس بالرغبة والرهبة، فمن الناس من أجابهم رغبة، ومن الناس من أجابهم رهبة، ومنهم من اختفى فلم يظهر لهم. وصار من لم يحبهم قطعوا رزقه وعزلوه عن ولايته، وإن كان أسيرا لم يفكوه ولم يقبلوا شهادته، وربما قتلوه أو حبسوه.
__________
(1) منهاج السنة النبوية (2 \ 482-486) ت. محمد رشاد سالم.(25/245)
والمحنة مشهورة معروفة، كانت في إمارة المأمون، والمعتصم، والواثق. ثم رفعها المتوكل، فثبت الله الإمام أحمد فلم يوافقهم على تعطيل صفات الله تعالى، وناظرهم في العلم فقطعهم، وعذبوه فصبر على عذابهم، فجعله الله من الأئمة الذين يهدون بأمره. كما قال تعالى:
{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (1) .
فمن أعطي الصبر واليقين جعله الله إماما في الدين، وما تكلم به من السنة فإنما أضيف له لكونه أظهره وأبداه لا لكونه أنشأه وابتدأه، وإلا فالسنة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فأصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وما قاله الإمام أحمد هو قول الأئمة قبله، كمالك والثوري، والأوزاعي، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وقول التابعين قبل هؤلاء، وقول الصحابة الذين أخذوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأحاديث السنة معروفة في الصحيحين وغيرهما من كتب الإسلام.
والنقل عن أحمد وغيره من أئمة السنة متواتر بإثبات صفات الله تعالى، وهؤلاء متبعون في ذلك ما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأما أن المسلمين يثبتون عقيدتهم في أصول الدين بقوله - أي: بقول الإمام أحمد - أو بقول غيره من العلماء، فهذا لا يقوله إلا جاهل" (2) .
هذا الثبات العظيم الذي ثبته الإمام أحمد رحمه الله تعالى، جعل علماء عصره يثنون عليه ثناء كثيرا لشدة إعجابهم به ولاعترافهم بشجاعته وقدرته. وإليك ثناء بعض منهم: قال إسحاق بن راهويه: "لولا أحمد وبذل نفسه لما بذلها لذهب الإسلام" (3) .
وحينما عوتب يحيى بن معين في المحنة، قال: "أراد الناس منا أن
__________
(1) سورة السجدة الآية 24
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (6 \ 214- 215) . وانظر لوامع الأنوار البهية (1 \ 65) .
(3) الحلية (9 \ 171) ومناقب الإمام (ص116) وتاريخ الإسلام (ص13) وطبقات الحنابلة (1 \ 13) .(25/246)
نكون مثل أحمد بن حنبل، لا والله لا نقدر على أحمد ولا على طريق أحمد ".
وعندما قيل لبشر بن الحارث يوم ضرب الإمام أحمد: " قد وجب عليك أن تتكلم! قال: تريدون مني مقام الأنبياء؟! ليس هذا عندي. حفظ الله أحمد من بين يديه ومن خلفه ". وقال رحمه الله بعدما ضرب أحمد: "لقد أدخل الكير فخرج ذهبة حمراء".
وما أجمل ما قاله الإمام علي بن المديني واصفا ثبات أحمد: "أيد الله هذا الدين برجلين لا ثالث لهما: أبو بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة".(25/247)
آثار الإمام أحمد:
كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى لشدة ورعه وتمسكه بالأثر، يكره تدوين الكتب؛ لأنه يريد من الناس أن يعتمدوا على ذلك المعين الصافي، والمنهل العذب الذي: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (1) (سورة فصلت آية 42) .
كما يعتمدوا على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:
{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (2) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (3) (سورة النجم آية 3 و4) .
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به،
__________
(1) سورة فصلت الآية 42
(2) سورة النجم الآية 3
(3) سورة النجم الآية 4(25/247)
فلن تضلوا أبدا: كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم (1) » .
وكان الإمام أحمد يربي تلاميذه على هذا الاتجاه، فقد قال عثمان بن سعيد: قال لي أحمد بن حنبل: "لا تنظر في: كتب أبي عبيد، ولا فيما وضع إسحاق، ولا سفيان، ولا الشافعي، ولا مالك، وعليك بالأصل" (2) .
وقال ابن هانئ: سألت أحمد بن حنبل عن كتب أبي ثور؟ فقال: "كتاب ابتدع فهو بدعة". ولم يعجبه وضع الكتب، وقال: "عليكم بالحديث" (3) .
ولكن الله سبحانه وتعالى حفظ لنا شيئا كثيرا من مسائل الإمام أحمد، قال ابن الجوزي رحمه الله: "وكان ينهى الناس عن كتابة كلامه، فنظر الله إلى حسن قصده فنقلت ألفاظه وحفظت. فقل أن تقع مسألة إلا وله فيها نص من الفروع والأصول، وربما عدمت في تلك المسألة نصوص الفقهاء الذين صنفوا وجمعوا" (4) .
وقال ابن القيم الجوزية: " وكان أحمد شديد الكراهة لتصنيف الكتب، وكان يحب تجريد الحديث ويكره أن يكتب كلامه، ويشتد عليه جدا. فعلم الله حسن نيته وقصده، فكتب من كلامه وفتواه أكثر من ثلاثين سفرا، ومن الله سبحانه وتعالى علينا بأكثرها، فلم يفتنا منها إلا القليل. وجمع الخلال نصوصه في الجامع الكبير فبلغ نحو: عشرين سفرا أو أكثر، ورويت فتاواه ومسائله وحدث بها قرنا بعد قرن، فصارت إماما وقدوة لأهل السنة على اختلاف طبقاتهم، حتى إن المخالفين لمذهبه بالاجتهاد والمقلدين لغيره، يعظمون نصوصه وفتاواه، ويعرفون لها حقها وقربها من
__________
(1) أخرجه: الحاكم في كتاب العلم (1 \ 93) من حديث ابن عباس وإسناده لا بأس به، وأخرجه: مالك في الموطأ: كتاب القدر (2 \ 899) بلاغا. وانظر: السلسلة الصحيحة رقم (1761) .
(2) مناقب الإمام أحمد (ص192) .
(3) مناقب الإمام أحمد (ص192) . وانظر: إعلام الموقعين (4 \ 206) .
(4) مناقب الإمام أحمد (ص191) .(25/248)
النصوص وفتاوى الصحابة " (1) .
ومن آثار الإمام أحمد:
__________
(1) إعلام الموقعين (4 \ 206) .(25/249)
1 - المسند:
وقد تساءل ابنه عبد الله بن أحمد: كيف يكره أبوه وضع الكتب وقد عمل المسند؟! فأجابه الإمام أحمد: "عملت هذا الكتاب إماما، إذا اختلف الناس في سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع إليه".
وصدق الإمام أحمد رحمه الله فإن هذا الكتاب الجليل من أكبر كتب السنة التي وصلت إلينا، وأعظمها نفعا، وأغزرها مادة، وقد قال أبو موسى محمد بن أبي بكر المديني: "هذا الكتاب أصل كبير، ومرجع وثيق لأصحاب الحديث. انتقي من أحاديث كثيرة، ومسموعات وافرة، فجعل إماما ومعتمدا، وعند التنازع ملجأ ومستندا" (1) .
طريقة ترتيبه:
المسانيد هي: الكتب التي جمع فيها مؤلفوها أحاديث كل صحابي على حدة، بدون النظر إلى موضوعات هذه الأحاديث.
قال الصنعاني: " وشرط أهلها - أي: أهل المسانيد - أن يفردوا أحاديث كل صحابي على حدة - بكسر المهملة -. . . ". ثم قال: "من غير نظر إلى الأبواب التي تلائم الحديث، كما يصنعه غيرهم من المؤلفين على الكتب والأبواب، ويستقصون جميع حديث ذلك الصحابي كله " (2) .
قلت: وهذا ما عمله الإمام أحمد في مسنده، حيث أفرد أحاديث كل
__________
(1) خصائص المسند (ص21) وطبقات الشافعية (2 \ 31) .
(2) توضيح الأفكار للصنعاني (1 \ 228) .(25/249)
صحابي على حدة، من غير نظر إلى موضوعاتها، فقد تجد حديثا في غسل الجمعة، ثم يتبعه بحديث في حكم لبس الحرير، ثم يتبعه بحديث في المواريث. . . وهكذا (1) .
وقد رتب الإمام أحمد مسنده بطريقة لم يسبق إليها، وهي:
1 - بدأ بمسانيد العشرة المبشرين بالجنة. في الجزء الأول من: (ص2) إلى (ص196) .
2 - ثم مسانيد: عبد الرحمن بن أبي بكر، وزيد بن خارجة، والحارث بن خزمة، ثم سعد مولى أبي بكر. في الجزء الأول من: (ص197) إلى (ص199) .
3 - مسانيد أهل البيت رضي الله عنهم. في الجزء الأول من: (ص199) إلى (ص206) .
4 - مسانيد بني هاشم رضي الله عنهم. في الجزء الأول من: (ص206) إلى (ص374) .
5 - مسانيد المشهورين من الصحابة. في الجزء الأول من: (ص374) إلى نهايته، والجزء الثاني كله، والجزء الثالث إلى (ص400) .
6 - مسند المكيين: في الجزء الثالث من: (ص400) إلى نهاية الجزء.
7 - مسند المدنيين: في الجزء الرابع من: (ص2) إلى (ص88) .
8 - مسند الشاميين: في الجزء الرابع من: (ص88) إلى (ص239) .
9 - مسند الكوفيين: في الجزء الرابع من: (ص239) إلى
__________
(1) انظر: مسند أحمد بن حنبل (1 \ 46) .(25/250)
(ص419) .
10 - مسند البصريين: في الجزء الرابع من: (ص419) إلى نهايته، ومن بداية الجزء الخامس إلى (ص113) .
11 - مسند الأنصار: في الجزء الخامس من: (ص113) إلى نهايته، وفي الجزء السادس من: أوله إلى (ص29) .
12 - مسند النساء: في الجزء السادس من: (ص29) إلى (ص382) . ومن: (ص402) إلى آخر الجزء السادس.
13 - مسند القبائل: في الجزء السادس من: (ص383) إلى (ص403) .
هذا الأسلوب من الترتيب للمسند يكلف الباحث جهدا وعناء للبحث عن حديث واحد، لهذا قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى:
"ومع جلالة قدر هذا الكتاب، وحسن موقعه عند ذوي الألباب، فالوقوف على المقصود منه متعسر، والظفر بالمطلوب منه بغير تعب متعذر؛ لأنه غير مرتب على أبواب السنن، ولا مهذب على حروف المعجم لتقريب السنن، وإنما هو مجموع على مسانيد الرواة من الرجال والنساء، لا يسلم من طلب منه حديثا من نوع من الملل والعناء؛ إذ قد خلط فيه بين أحاديث الشاميين والمدنيين، ولم يحصل التمييز في جميعه بين روايات الكوفيين والبصريين، بل قد امتزج في بعضه أحاديث الرجال بأحاديث النسوان. . . " (1) .
عدد الصحابة في المسند:
بين أبو موسى المديني في خصائص المسند أن عدد الصحابة في مسند الإمام أحمد: "سبعمائة رجل" (2) . بينما ذكر الجزري عن أبي موسى المديني أن عدد الصحابة نحو سبعمائة رجل، ومن النساء مائة
__________
(1) ترتيب أسماء الصحابة للحافظ ابن عساكر (ص 1 ب) .
(2) خصائص المسند لأبي موسى المديني (ص23) .(25/251)
ونيف، ثم قال: "قد عددتهم لما أفردتهم في كتابي المسند فبلغوا: ستمائة ونيفا وتسعين سوى النساء الصحابيات. وعددت النساء الصحابيات فبلغن: ستا وتسعين. واشتمل المسند على نحو: ثمانمائة من الصحابة، سوى ما فيه ممن لم يسم من الأبناء والمبهمات وغيرهم" (1) .
وبلغ عدد الصحابة في مسند أحمد بن حنبل على حسب فهرس الشيخ محمد ناصر الدين الألباني الذي وضعه المكتب الإسلامي في مقدمة الجزء الأول للمسند: "أربعة وتسعمائة صحابي، بمن فيهم من النساء أو الذين لم ترد تسميتهم" (2) .
عدد أحاديث المسند:
اختلف في عدد أحاديث مسند الإمام أحمد اختلافا كثيرا، فمن قائل بأنه ثلاثون ألف حديث (3) ، ومن قائل بأنه أربعون ألف حديث (4) . ويقول الحافظ ابن عساكر: "والكتاب كبير العدد والحجم، مشهور عند أرباب العلم، تبلغ عدد أحاديثه ثلاثين ألفا سوى المعاد، وغير ما ألحق به ابنه عبد الله من عالي الإسناد" (5) . ويقول الأستاذ أحمد شاكر: "هو على اليقين أكثر من ثلاثين ألفا، وقد لا يبلغ الأربعين ألفا" (6) .
وقدرها جولد تسيهر بما يتراوح بين: (28) إلى (29) ألف حديث (7) . وتابعه على هذا التقدير: نالينو المستشرق الإيطالي.
__________
(1) المصعد الأحمد للجزري (ص34) .
(2) سقط من فهرس الألباني بعض الأسماء مثل: أبي سيارة المتعي. انظر: طرق تخريج حديث الرسول (ص144) .
(3) انظر: مناقب الإمام أحمد (ص191) .
(4) انظر: الفهرست لابن النديم (ص320) وخصائص المسند (ص23) .
(5) ترتيب أسماء الصحابة للحافظ ابن عساكر (ص1 أ) .
(6) انظر: خصائص المسند (ص 23) (الهامش) .
(7) انظر: دائرة المعارف الإسلامية (1 \ 199، 200) النسخة الفرنسية، مادة: أحمد بن حنبل.(25/252)
وقد قام أخي الفاضل: عادل عبد الشكور الزرقي بترقيم أحاديث المسند حديثا حديثا، وبلغ عدد الأحاديث على حسب ترقيمه: (27517) حديثا، مع المكرر. وبلغ عدد زوائد عبد الله بن أحمد بن حنبل: (642) حديثا.
قلت: ويحتوي المسند على أحاديث متكررة في أماكن مختلفة، بل قد تجد أن الحديث الواحد يتكرر في الصفحة الواحدة. وينفي الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى أن يكون هذا التكرار من عمل الإمام أحمد بن حنبل، حيث قال: "ولست أظن ذلك إن شاء الله وقع من جهة أبي عبد الله رحمه الله؛ فإن محله في هذا العلم أوفى، ومثل هذا على مثله لا يخفى" (1) . ثم يبرر ذلك بسببين:
الأول: أن الإمام أحمد عاجلته المنية ولما يعمل على ترتيبه، لذلك لما أحس الإمام بدنو أجله أسرع بقراءته على أهل بيته.
الثاني: أن هذا قد يكون ناتجا من رواة الكتاب كالقطيعي مثلا.
قلت: ومن خلال التتبع والاستقراء لكثير من أحاديث مسند الإمام أحمد وجدت أن معظم الأحاديث المتكررة يكون فيها زيادة علم في الإسناد، أقله أن يختلف شيوخ الإمام أحمد بن حنبل، أو يكون زيادة علم في المتن. ومثال ذلك:
1 - حديث: الفضل بن عباس رضي الله تعالى عنه «أنه كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم من جمع - يعني: المزدلفة - فما زال يلبي حتى رمى الجمرة (2) » .
هذا الحديث تكرر: (20) مرة، أو يزيد، ومع ذلك لا يوجد حديث كالذي قبله. فإما أن يختلف شيخ الإمام أحمد - وهذا
__________
(1) ترتيب أسماء الصحابة للحافظ ابن عساكر (ص2 أ) .
(2) انظر: مسند الإمام أحمد بن حنبل (1 \ 210- 211) .(25/253)
أكثره - وإما أن يختلف أكثر الإسناد أو المتن.
2 - قال الإمام أحمد: ثنا سفيان عن عمرو، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبي شريح الخزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره. من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت (1) » .
قلت: وهذا حديث صحيح، أخرجه الإمام أحمد في مكان آخر بزيادة في متنه، وإليك لفظه: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة، الضيافة ثلاثة أيام، فما كان بعد ذلك فهو صدقة، لا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه (2) » .
ورواه الإمام أحمد في مكان آخر بلفظ: «الضيافة ثلاث، وجائزته يوم وليلة، ولا يحل لأحد أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه. قالوا: يا رسول الله، ما يؤثمه؟! قال: يقيم عنده ولا يجد شيئا يقوته (3) » .
قلت: فكما ترى تكرر الحديث في أماكن متعددة، ولكن في كل مكان نحصل على فائدة جديدة. والأمثلة من هذا النوع في المسند كثيرة أكتفي بما ذكر.
انتقاء المسند:
انتقى الإمام أحمد مسنده من عدد كبير من الأحاديث النبوية التي وقف عليها. وجاء نتيجة عمل شاق، ورحلات طويلة وبعيدة، لاقى فيها
__________
(1) مسند الإمام أحمد بن حنبل (6 \ 384) .
(2) مسند الإمام أحمد بن حنبل (6 \ 385) .
(3) مسند أحمد (6 \ 486) . والحديث أخرجه البخاري (10 \ 531) رقم (6135) ومسلم (1 \ 69) وغيرهم.(25/254)
ما لاقى من التعب والإجهاد والتنقل، والسهر ليال طوال: نسأل الله عز وجل أن يرفعه بكل حرف من حروف مسنده درجات.
قال عبد الله بن الإمام أحمد: "خرج أبي المسند من سبعمائة ألف حديث" (1) .
وقال حنبل بن إسحاق: " جمعنا عمي - يعني الإمام أحمد - لي ولصالح ولعبد الله، وقرأ علينا المسند وما سمعه منه - يعني تاما - غيرنا. وقال لنا: إن هذا الكتاب قد جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمائة وخمسين ألفا، فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فارجعوا إليه، فإن كان فيه وإلا ليس بحجة ".
قال الإمام ابن قيم الجوزية: "هذه الحكاية قد ذكرها حنبل في تاريخه، وهي صحيحة بلا شك" (2) .
مناقشة العبارة السابقة:
تأمل قول الإمام أحمد بن حنبل السابق: "فإن كان فيه وإلا ليس بحجة". فماذا يقصد الإمام أحمد بقوله هذا؟!
يجيب على هذا التساؤل ابن الجزري رحمه الله فيقول: "يريد أصول الأحاديث، وهو صحيح فإنه ما من حديث غالبا إلا وله أصل في هذا المسند، والله أعلم" (3) .
وقال ابن قيم الجوزية: "وقد استشكل بعض الحفاظ هذا من أحمد وقال: في الصحيحين أحاديث ليست في المسند. وأجيب عن هذا بأن تلك الألفاظ بعينها وإن خلا المسند عنها فلها فيه أصول، ونظائر،
__________
(1) خصائص المسند (ص22) والمصعد الأحمد (ص31) وطبقات الشافعية (2 \ 31) .
(2) الفروسية لابن القيم ب (ص69) .
(3) المصعد الأحمد (ص31) .(25/255)
وشواهد. وأما أن يكون متن صحيح لا مطعن فيه ليس له في المسند أصل ولا نظير، فلا يكاد يوجد البتة" (1) .
وهناك إشكال آخر ألا وهو: أن هناك أحاديث صحاح ليست في مسند الإمام أحمد كحديث عائشة الطويل المعروف بحديث: أم زرع.
فأجيب عن ذلك: "أن الإمام أحمد شرع في جمع المسند فكتبه في أوراق مفردة ومفرقة في أجزاء منفردة، على نحو ما تكون المسودة، ثم جاء حلول المنية قبل حصول الأمنية، فبادر بإسماعه لأولاده وأهل بيته، ومات قبل تنقيحه وتهذيبه فبقي على حاله. ثم إن ابنه عبد الله ألحق به ما يشاكله، وضم إليه من مسموعاته ما يشابهه ويماثله، فسمع القطيعي من كتبه تلك النسخة على ما يظفر به منها فوقع الاختلاط من المسانيد، والتكرار من هذا الوجه قديم، فبقي كثير من الأحاديث في الأوراق والأجزاء لم يظفر بها، فما لم يوجد فيه من الأحاديث الصحاح من هذا القبيل (2) .
قلت: وبهذا يتبين أن المسند مشتمل على أصول الأحاديث النبوية الشريفة، ولذلك عندما سئل أبو الحسين اليونيني: "أنت تحفظ الكتب الستة؟! فقال: أحفظها وما أحفظها!! فقيل له: كيف هذا؟ فقال: أنا أحفظ مسند أحمد وما يفوت المسند من الكتب الستة إلا قليل. أو قال: وما في الكتب هو في المسند - يعني إلا قليل - وأصله في المسند، فأنا أحفظها بهذا الوجه، أو كما قال رحمه الله " (3) .
شرط الإمام أحمد في المسند:
قبل أن أبدأ بشرط الإمام أحمد في مسنده، أود أن أذكر شرط أهل
__________
(1) الفروسية لابن قيم الجوزية (ص69) .
(2) المصعد الأحمد (ص30-31) .
(3) المصعد الأحمد (ص32) .(25/256)
المسانيد عموما، لكي تتضح لنا الصورة.
يقول الحافظ ابن الصلاح: "فهذه عادتهم - أي: أصحاب المسانيد - أن يخرجوا في مسند كل صحابي ما رووه من حديثه، غير متقيدين بأن يكون حديثا محتجا به" (1) .
ويقول النووي: "وأما مسند أحمد بن حنبل، وأبي داود الطيالسي، وغيرهما من المسانيد، فلا تلتحق بالأصول الخمسة، وما أشبهها في الاحتجاج بها، والركون إلى ما فيها" (2) .
ويعلل السيوطي ذلك بقوله: "لأن المصنف على الأبواب إنما يورد أصح ما فيه ليصلح للاحتجاج" (3) .
وقال العراقي في ألفيته:
"
ودونها في رتبة ما جعلا ... على المسانيد فيدعى الجفلا
كمسند الطيالسي وأحمدا ... وعده الدارمي انتقدا
" (4) .
ويقول السخاوي في شرحه لهذه الأبيات: "ودونها في رتبة، أي: رتبة الاحتجاج الذي هو أصل بقية المبوبين، ما جعلا على المسانيد التي موضوعها جعل حديث كل صحابي على حدة، من غير تقييد بالمحتج به" (5) .
والخلاصة في ذلك: أن أهل المسانيد عموما لا يشترطون الرواية عن من يحتج به فقط، بل يروون حديث من لا يحتج به أيضا.
والآن أعود لمسند الإمام أحمد فأقول: هل هذا هو شرط الإمام أحمد في مسنده؟ وللإجابة على هذا السؤال أقول: إن هذا ليس على إطلاقه، بل ثبت لدينا أن الإمام أحمد قام بتنقيح المسند من كثير من الرجال الذين
__________
(1) مقدمة ابن الصلاح (ص35) .
(2) تقريب النووي مع شرحه تدريب الراوي (1 \ 170-172) .
(3) تدريب الراوي للسيوطي (1 \ 172) .
(4) فتح المغيث شرح ألفية الحديث (1 \ 63) .
(5) فتح المغيث (1 \ 87) .(25/257)
يرى عدم الاحتجاج بحديثهم، وإليك بعض الأمثلة على ذلك:
روى أبو موسى المديني بسنده إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل أنه قال: "سألت أبي عن عبد العزيز بن أبان فقال: لم أخرج عنه في المسند شيئا، قد أخرجت عنه على غير وجه الحديث لما حدث بحديث المواقيت تركته" (1) .
وقال ابن المديني: "أخبرنا ابن الحصين بإسناده: حدثنا عبد الله،، حدثني عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن محمد بن سالم، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فيما سقت السماء العشر، وما يسقى بالغرب والدالية ففيه نصف العشر (2) » . قال أبو عبد الرحمن - يعني: عبد الله بن أحمد -: فحدثت أبي بحديث عثمان عن جرير فأنكره جدا، وكان أبي لا يحدثنا عن محمد بن سالم لضعفه عنده، وإنكاره حديثه" (3) .
كما ضرب الإمام أحمد رحمه الله تعالى على حديث عمرو بن خالد وغيره (4) .
نتيجة لهذه الأمثلة وما يشبهها ظن أبو موسى المديني أن الإمام أحمد لم يورد في مسنده إلا ما صح عنده، لذلك قال رحمه الله: "ولم يخرج إلا عمن ثبت عنده صدقه وديانته، دون من طعن في أمانته" (5) . وقال أيضا: "ومن الدليل على أن ما أودعه الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده قد احتاط فيه إسنادا ومتنا ولم يورد فيه إلا ما صح عنده" (6) ثم ساق بعض الأدلة التي ذكرت آنفا.
__________
(1) خصائص المسند (ص22) والمصعد الأحمد (ص34) وطبقات الشافعية (2 \ 31) .
(2) صحيح البخاري الزكاة (1483) ، سنن الترمذي الزكاة (640) ، سنن النسائي الزكاة (2488) ، سنن أبو داود الزكاة (1596) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1817) .
(3) خصائص المسند (ص25) .
(4) انظر: خصائص المسند (ص24-27) .
(5) انظر: خصائص المسند (ص22) .
(6) انظر: خصائص المسند (ص24) .(25/258)
قلت: وهذا غير مسلم به لأبي موسى المديني، حيث إن مسند الإمام أحمد يحتوي على عدد لا بأس به من الأحاديث الضعيفة، وقد عمل الشيخ أحمد شاكر إحصاء لعدد الأحاديث الصحيحة والضعيفة، بلغت في نهاية تحقيقه للمجلد الخامس عشر: (7246) حديثا صحيحا وحسنا، و (853) حديثا ضعيفا (1) .
وقد ناقش الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى رأي المديني بشيء من التفصيل، في معرض الرد على من قال بأن كل ما سكت عنه أحمد في المسند فهو صحيح عنده، فقال رحمه الله تعالى: "فإن هذه المقدمة لا مستند لها البتة، بل أهل الحديث كلهم على خلافها. والإمام أحمد لم يشترط في مسنده الصحيح ولا التزمه. وفي مسنده عدة أحاديث سئل هو عنها فضعفها بعينها وأنكرها كما روى حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة يرفعه: «إذا كان النصف من شعبان فأمسكوا عن الصيام حتى يكون رمضان (2) » .
وقال حرب: سمعت أحمد يقول: هذا حديث منكر، ولم يحدث العلاء بحديث أنكر من هذا. وكان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث به" ثم ساق ابن القيم أمثلة كثيرة من هذا النوع، إلى أن قال: "وهذا باب واسع لو تتبعناه لجاء كتابا كبيرا، والمقصود أنه ليس كل ما رواه وسكت عنه يكون صحيحا عنده، حتى لو كان صحيحا عنده وخالفه غيره في تصحيحه لم يكن قوله حجة على نظيره. وبهذا يعرف وهم الحافظ أبي موسى المديني في قوله: إن ما خرجه الإمام أحمد في مسنده فهو صحيح عنده. فإن أحمد لم يقل ذلك قط ولا قال ما يدل عليه، بل قال ما يدل على خلاف ذلك" (3) .
__________
(1) انظر: المسند (15 \ 247) ت. أحمد شاكر.
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند (2 \ 442) .
(3) الفروسية لابن القيم (ص64-69) .(25/259)
درجة أحاديث المسند:
انطلاقا من المبحث السابق اختلف بعض العلماء في درجة أحاديث المسند، فمنهم من قال: إن فيه أحاديث ضعيفة وموضوعة، ومنهم من قال بأنه صحيح، وتوسط أناس منهم فقالوا بأن فيه أحاديث ضعيفة، ولكنها قليلة مقارنة بعدد أحاديث الكتاب، وينفون وجود الأحاديث الموضوعة فيه.
فمن العلماء الذين قالوا بأنه صحيح: أبو موسى المديني كما تقدم، وقد رد عليه الحافظ ابن كثير فقال: "وأما قول الحافظ أبي موسى عن مسند الإمام أحمد: إنه صحيح فقول ضعيف؛ فإن فيه أحاديث ضعيفة، بل وموضوعة، كأحاديث فضائل مرو (1) ، وعسقلان (2) ، والبرث الأحمر عند حمص (3) ، وغير ذلك، كما بينه عليه طائفة من الحفاظ" (4) .
وقد ذكر الحافظ العراقي أيضا أن في المسند أحاديث موضوعة (5) . فألف الحافظ ابن حجر العسقلاني كتابا أسماه: "القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد ". ذكر فيه الأحاديث التي ذكرها العراقي ورد عليه وهي تسعة أحاديث. وأضاف إليه خمسة عشر حديثا أوردها ابن الجوزي في كتابه: "الموضوعات". ورد عليها.
ثم جاء السيوطي وألف كتابا أسماه: "الذيل الممهد" ذكر فيه أحاديث فاتت الحافظ ابن حجر في القول المسدد، وهي في موضوعات ابن الجوزي، وذب عنها رحمه الله تعالى، وعدتها أربعة عشر حديثا (6) . فيكون مجموع ما انتقد بالوضع في المسند: (38) حديثا.
__________
(1) مسند أحمد من حديث بريدة رضي الله عنه (5 \ 357) .
(2) مسند أحمد من حديث أنس رضي الله عنه (3 \ 225) .
(3) مسند أحمد من حديث عمر رضي الله عنه (1 \ 19) .
(4) اختصار علوم الحديث مع شرحه الباعث الحثيث (ص29) .
(5) في شرحه لمقدمة ابن الصلاح المسمى التقييد والإيضاح (ص57) .
(6) ذكر ذلك السيوطي في كتابه: تدريب الراوي (1 \ 172) .(25/260)
وقد رد أبو العلاء الهمداني رحمه الله على ابن الجوزي حينما علم أن ابن الجوزي حكم على بعض أحاديث المسند بالوضع (1) . وقد حقق هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية تحقيقا علميا طيبا، حيث قال بعد أن ذكر أن الإمام أحمد لا يروي عمن يتعمد الكذب: "ولهذا تنازع أبو العلاء الهمداني والشيخ أبو الفرج بن الجوزي: هل في المسند حديث موضوع؟ فأنكر الحافظ أبو العلاء أن يكون في المسند حديث موضوع. وأثبت ذلك أبو الفرج. وبين أن فيه أحاديث قد قام دليل على أنه باطل، وإن كان المحدث به لم يتعمد الكذب، بل غلط فيه، ولهذا روى في كتابه الموضوعات أحاديث كثيرة من هذا النوع. وقد نازعه طائفة من العلماء في كثير مما ذكره، وقالوا: إنه ليس مما يقوم دليل على أنه باطل، بل بينوا ثبوت بعض ذلك. لكن الغالب على ما ذكره في الموضوعات أنه باطل باتفاق العلماء. وأما الحافظ أبو العلاء وأمثاله، فإنما يريدون بالموضوع: المختلق المصنوع الذي تعمد صاحبه الكذب، والكذب كان قليلا في السلف" (2) .
كما بين شيخ الإسلام في موضع آخر: أنه لا يروي عن المعروفين بالكذب فقال: "وليس كل ما رواه أحمد في المسند وغيره، يكون حجة عنده، بل يورد ما رواه أهل العلم. وشرطه في المسند: أن لا يروى عن المعروفين بالكذب، وإن كان في ذلك ما هو ضعيف. وشرطه في المسند أمثل من شرط أبي داود في سننه" (3) .
وقد بين الذهبي أن في المسند أحاديث موضوعة قليلة فقال: "ففيه جملة من الأحاديث الضعيفة مما يسوغ نقلها، ولا يجب الاحتجاج بها. وفيه أحاديث معدودة شبه موضوعة، ولكنها قطرة في بحر. وفي غضون
__________
(1) انظر: صيد الخاطر لابن الجوزي (ص245، 246) .
(2) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية (ص81) .
(3) منهاج السنة النبوية لابن تيمية (4 \ 27) .(25/261)
المسند زيادات جمة لعبد الله بن أحمد " (1) .
وقال ابن حجر: "ومسند أحمد ادعى قوم فيه الصحة، كذا في شيوخه، وصنف الحافظ أبو موسى المديني في ذلك تصنيفا. والحق أن أحاديثه غالبها جياد، والضعاف منها إنما يوردها للمتابعات، وفيه القليل من الضعاف الغرائب الأفراد، أخرجها ثم صار يضرب عليها شيئا فشيئا وبقي منها بعده بقية" (2) .
وقال أيضا: "ليس في المسند حديث لا أصل له إلا: ثلاثة أحاديث أو أربعة، منها حديث: عبد الرحمن بن عوف أنه يدخل الجنة زحفا. قال: والاعتذار عنه: أنه مما أمر أحمد بالضرب عليه فترك سهوا، أو ضرب وكتب من تحت الضرب".
كما قال السخاوي: "والحق أن فيه أحاديث كثيرة ضعيفة، وبعضها أشد في الضعف من بعض، حتى إن ابن الجوزي أدخل كثيرا منها في موضوعاته، ولكن قد تعقبه في بعضها الشارح - يعني: نفسه - وفي سائرها شيخنا - يعني: ابن حجر العسقلاني - وحقق كما سمعته منه نفي الوضع عن جميع أحاديثه، وأنه أحسن انتقاء وتحريرا من الكتب التي لم تلتزم الصحة في جمعها.
وقال: ليست الأحاديث الزائدة فيه على ما في الصحيحين بأكثر ضعفا من الأحاديث الزائدة في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما" (3) .
ومن جهة أخرى بين الحافظ العراقي رحمه الله تعالى: أن بعض هذه
__________
(1) سير أعلام النبلاء (11 \ 329) .
(2) مقدمة تعجيل المنفعة لابن حجر العسقلاني (ص6) .
(3) فتح المغيث شرح ألفية الحديث للسخاوي (1 \ 89) .(25/262)
الموضوعات من زيادات عبد الله بن أحمد بن حنبل فقال: " ولعبد الله بن أحمد في المسند أيضا زيادات فيها الضعيف والموضوع.
فمن الموضوع: حديث سعد بن مالك، وحديث ابن عمر في: سد الأبواب إلا باب علي. ذكرهما ابن الجوزي في الموضوعات، وقال: إنهما من وضع الرافضة" (1) .
الخلاصة:
الخلاصة التي تترجح بعد هذا العرض: أن في المسند أحاديث ضعيفة، وما كان فيه من حديث موضوع فهو مما أمر الإمام أحمد بالضرب عليه، ولكن غفل عنه أو كتب بعد الضرب، أو من زوائد عبد الله ابن الإمام أحمد. أما الحديث الضعيف فغالبه من الحديث الذي ينجبر بغيره، والله تعالى أعلم (2) .
ومن الأمثلة على أن الإمام أحمد بن حنبل أمر بالضرب على بعض الأحاديث، لكن ابنه عبد الله كتبها بعد الضرب:
1 - ذكر عبد الله بن أحمد أنه وجد عند أبيه حديثين من طريق: فائد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه - ثم ذكر الحديثين - ثم قال عبد الله: "لم يحدثنا أبي بهذين الحديثين، ضرب عليهما من كتابه لأنه لم يرض حديث: فائد بن عبد الرحمن،
__________
(1) التقييد والإيضاح للعراقي (ص43) . وانظر: الموضوعات لابن الجوزي (1 \ 363-367) .
(2) انظر: نيل الأوطار للشوكاني (1 \ 12) وتحفة الأحوذي (1 \ 88-90) .(25/263)
أو كان عنده، متروك الحديث" (1) .
2 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يهلك أمتي هذا الحي من قريش. قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: لو أن الناس اعتزلوهم (2) » .
قال عبد الله: قال أبي في مرضه الذي مات فيه: اضرب على هذا الحديث؛ فإنه خلاف الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، يعني قوله: «اسمعوا وأطيعوا واصبروا (3) » .
3 - وقال الإمام أحمد: ثنا إسحاق بن يوسف الأزرق وهوذة بن خليفة، قالا: ثنا عوف عن ميمون بن أستاذ، قال هوذة الهزاني قال: قال عبد الله بن عمرو: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لبس الذهب من أمتي فمات وهو يلبسه لم يلبس من ذهب الجنة (4) » . وقال هوذة: «حرم الله عليه ذهب الجنة، ومن لبس الحرير من أمتي فمات وهو يلبسه حرم الله عليه حرير الجنة (5) » .
قال عبد الله: ضرب أبي على هذا الحديث فظننت أنه ضرب عليه لأنه خطأ، وإنما هو: ميمون بن أستاذ، عن عبد الله بن عمرو ليس فيه عن
__________
(1) انظر: مسند أحمد بن حنبل (4 \ 382) .
(2) صحيح البخاري الفتن (7058) ، صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2917) ، مسند أحمد بن حنبل (2/301) .
(3) مسند أحمد (2 \ 301) . وقال ابن القيم في هذا الحديث: ''وضربه على هذا الحديث مع أنه صحيح أخرجه أصحاب الصحيح، لكونه عنده خلاف الأحاديث والثابت المعلوم من سنته صلى الله عليه وسلم في الأمر بالسمع والطاعة ولزوم الجماعة وترك الشذوذ والانفراد كقوله صلى الله عليه وسلم: ''اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي'' وقوله: ''من فارق الجماعة فمات، فميتته جاهلية''. إلى أن قال: ''فلما رأى أحمد هذا الحديث الواحد يخالف هذه الأحاديث وأمثالها، أمر عبد الله بضربه عليه. وأما من جزم بصحته فقال: هذا في أوقات الفتن والقتال على الملك، ولزوم الجماعة في وقت الاتفاق والتئام الكلمة. وبهذا تجتمع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي رغب فيها في العزلة والقعود عن القتال، ومدح فيها من لم يكن مع إحدى الطائفتين، وأحاديثه التي رغب فيها في الجماعة والدخول مع الناس فإن هذا حال اجتماع الكلمة وترك الفتنة والقتال، والله أعلم''. الفروسية لابن القيم (ص68) . والحديث صححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند (15 \ 162) وانظر تعليقه عليه.
(4) مسند أحمد بن حنبل (2/209) .
(5) مسند أحمد بن حنبل (2/166) .(25/264)
الصدفي، ويقال: إن ميمون هذا هو الصدفي لأن سماع يزيد بن هارون من الحريري آخر عمره، والله أعلم.
ثم قال عبد الله: حدثني أبي، ثنا يزيد بن هارون، (أنا الجريري، عن ميمون بن أستاذ، عن الصدفي، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مات من أمتي وهو يشرب الخمر (1) » . . . ".
ترجمة رواة المسند:
قد تقدم قبل قليل أن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى لم يسمع المسند كاملا إلا لثلاثة رجال وهم:
1 - صالح بن أحمد بن حنبل.
2 - عبد الله بن أحمد بن حنبل.
3 - حنبل بن إسحاق.
ولم ينقل المسند إلينا كاملا إلا: عبد الله بن أحمد بن حنبل: ورواه عن عبد الله بن أحمد مجموعة، منهم:
1 - أبو بكر أحمد بن جعفر القطيعي، وهو أشهر رواة المسند عن عبد الله.
2 - أبو الحسن أحمد بن محمد بن عمر بن أبان العبدي اللنباني، سمع المسند كاملا من ابن الإمام أحمد (2) .
3 - أبو علي بن الصواف. وسمع منه كثيرا من المسند: الحافظ أبو نعيم الأصبهاني (3) .
قال الدارقطني: "ما رأت عيني مثل أبي علي بن الصواف "، وقال
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/209) .
(2) انظر: أخبار أصبهان لأبي نعيم (1 \ 137) والنبلاء (15 \ 311) .
(3) انظر: سير أعلام النبلاء (13 \ 524) . والتقييد لأبي بكر بن نقطة (1 \ 286) .(25/265)
ابن أبي الفوارس: "كان أبو علي ثقة مأمونا" (1) .
ورواه عن أبي بكر مجموعة من الرواة، منهم:
1 - أبو عبد الله الحاكم (2) .
2 - أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن، وعنه يرويه حافظ المغرب: ابن عبد البر القرطبي (3) .
3 - أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله الوهراني، وعنه يرويه: ابن عبد البر، وأبو القاسم الطرابلسي (4) .
4 - أبو علي الحسن بن علي بن المذهب التميمي. وهو: "آخر من روى المسند كاملا عن القطيعي - سوى نزر قليل منه أسقط من النسخ" (5) . وهو أشهر الرواة عن القطيعي.
5 - أبو محمد الجوهري، وهو خاتمة أصحاب القطيعي. حدث عن القطيعي بمسند العشرة، ومسند أهل البيت من المسند (6) . قال الخطيب البغدادي: "كان ثقة أمينا، كتبنا عنه" (7) .
قلت: ولقد وصل إلينا المسند برواية: " هبة الله بن محمد بن عبد الواحد بن الحصين، عن الحسن بن علي التميمي، عن أبي بكر أحمد بن جعفر القطيعي، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه أحمد بن حنبل ".
وهذه هي أشهر روايات المسند، وسوف أترجم لرواتها:
__________
(1) سير أعلام النبلاء (16 \ 184) .
(2) سير أعلام النبلاء (13 \ 524) .
(3) فهرسة ما رواه عن شيوخه للإشبيلي (ص139) .
(4) فهرسة ما رواه عن شيوخه للإشبيلي (ص140) .
(5) سير أعلام النبلاء (13 \ 524) . وسوف يأتي تفصيل ترجمته إن شاء الله.
(6) سير أعلام النبلاء (18 \ 69) .
(7) تاريخ بغداد (7 \ 393) .(25/266)
أولا: عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل:
ولد سنة: ثلاث عشرة ومئتين، وتوفي سنة: تسعين ومئتين.
سمع: أباه، ويحيى بن معين، وأبا بكر بن أبي شيبة، وعثمان بن أبي شيبة، وأبا خيثمة زهير بن حرب، وسلمة بن شبيب، وعبيد الله القواريري، وغيرهم.
حدث عنه: النسائي، والبغوي، وأبو عوانة، وأحمد القطيعي، وسليمان الطبراني، وقاسم بن أصبغ، والنجاد، وابن الصواف، وغيرهم.
قال عباس الدوري: "كنت يوما عند أبي عبد الله أحمد بن حنبل، فدخل علينا عبد الله ابنه، فقال لي أحمد: يا عباس، إن أبا عبد الرحمن - يعني عبد الله - قد وعى علما كثيرا".
وقال أبو الحسين بن المنادي: "وما زلنا نرى أكابر شيوخنا يشهدون له بمعرفة الرجال وعلل الحديث، والأسماء والكنى، والمواظبة على طلب الحديث في العراق وغيرها، ويذكرون عن أسلافهم الإقرار بذلك، حتى إن بعضهم أسرف في تقريظه إياه بالمعرفة وزيادة السماع للحديث على أبيه".
وقال ابن أبي حاتم: "وكتب إلي بمسائل أبيه وبعلل الحديث، وكان صدوقا ثقة" (1) .
وقال ابن الصواف: قال عبد الله بن أحمد: "كل شيء أقول: قال أبي، فقد سمعته مرتين وثلاثة، وأقله مرة" (2) .
__________
(1) الجرح والتعديل (5 \ 7) والتهذيب (5 \ 142) .
(2) تاريخ بغداد (9 \ 376) والنبلاء (13 \ 520) والتذكرة (2 \ 666) والتهذيب (5 \ 142) والطبقات (1 \ 184) .(25/267)
وقال الإمام النسائي: "ثقة" (1) .
وقال بدر بن أبي بدر البغدادي: " عبد الله بن أحمد جهبذ بن جهبذ" (2) .
وقال أبو بكر الخلال: "كان عبد الله رجلا صالحا صادق اللهجة كثير الحياء" (3) .
وقال السلمي: سألت الدارقطني عن عبد الله بن أحمد بن حنبل وحنبل بن إسحاق فقال: "ثقتان نبيلان" (4) .
وقال الخطيب البغدادي: "وكان ثقة ثبتا فهما" (5) .
وقال الذهبي: "كان صينا دينا، صاحب حديث واتباع وبصر بالرجال، لم يدخل في غير الحديث" (6) .
ثانيا: أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي:
سمع من: عبد الله بن أحمد بن حنبل، وبشر بن موسى، وأحمد بن علي الأبار، وإبراهيم الحربي، وإدريس الحداد، وعبد الله الطيالسي، وجعفر الفريابي، وغيرهم.
وروى عنه: الدارقطني، وابن شاهين، وأبو نعيم الأصبهاني، وابن رزقويه، والحاكم، والبرقاني، والحسن الخلال، وابن المذهب، وبشرى الفاتني، وغيرهم.
ولد سنة: أربع وسبعين ومائتين، ومات سنة: ثمان وستين وثلاثمائة.
قال القطيعي: "كان عبد الله بن أحمد يجيئنا، فيقرأ عليه أبو
__________
(1) تهذيب التهذيب (5 \ 143) .
(2) سير أعلام النبلاء (13 \ 523) والتهذيب (5 \ 143) والمصعد الأحمد (ص39) .
(3) تهذيب التهذيب (5 \ 143) .
(4) تهذيب التهذيب (5 \ 143) .
(5) تاريخ بغداد (9 \ 375) .
(6) سير أعلام النبلاء (13 \ 524) .(25/268)
عبد الله بن الجصاص، عم أمي، فيقعدني في حجره، حتى يقال له: يؤلمك؟ فيقول: إني أحبه".
وقال الحاكم: "ثقة مأمون" (1) .
وقال السلمي: "سألت الدارقطني عنه، فقال: ثقة زاهد قديم، سمعت أنه مجاب الدعوة" (2) .
جرحه:
جرح القطيعي بأمرين:
الأول: غرق كتبه:
قال أبو بكر البرقاني: "كان شيخا صالحا، وكان لأبيه اتصال ببعض السلاطين، فقرئ لابن ذلك السلطان على عبد الله بن أحمد المسند، وحضر ابن مالك - يعني القطيعي - سماعه. ثم غرقت قطعة من كتبه بعد ذلك فنسخها من كتاب ذكروا أنه لم يكن سماعه فيه، فغمزوه لأجل ذلك، وإلا فهو ثقة" (3) .
وقال البرقاني أيضا: "كنت شديد التنقير على حال ابن مالك! حتى ثبت عندي أنه: صدوق لا يشك في سماعه، وإنما كان فيه بله فلما غرقت القطيعة بالماء الأسود غرق شيء من كتبه، فنسخ بدل ما غرق من كتاب لم يكن فيه سماعه. ولما اجتمعت مع الحاكم بن عبد الله بن البيع بنيسابور، ذكرت ابن مالك ولينته!! فأنكر علي وقال: ذاك شيخي، وحسن حاله".
__________
(1) ميزان الاعتدال (1 \ 87) والمصعد الأحمد (ص42) والكواكب النيرات (ص18) .
(2) سير أعلام النبلاء (16 \ 212) والمصعد الأحمد (ص41) والكواكب النيرات (18) .
(3) تاريخ بغداد (4 \ 74) ومن طريقه ابن نقطة في التقييد (1 \ 139) . والنبلاء (16 \ 212) .(25/269)
وقال محمد بن أبي الفوارس: " أبو بكر بن مالك كان مستورا صاحب سنة، ولم يكن في الحديث بذاك، له في بعض المسند أصول فيها نظر، ذكر أنه كتبها بعد الغرق" (1) .
قلت: وغرق كتبه، ثم نسخها من أصول ليس له عليها سماع لا يوجب تركه على الإطلاق، ولهذا قال الخطيب البغدادي: "وكان بعض كتبه غرق فاستحدث نسخها من كتاب لم يكن فيه سماع، فغمزه الناس. إلا أنا لم نر أحدا امتنع من الرواية عنه، ولا ترك الاحتجاج به".
الثاني: الاختلاط:
قال الخطيب البغدادي: حدثت عن أبي الحسن بن الفرات: "كان ابن مالك القطيعي مستورا، صاحب سنة كثير السماع، سمع من عبد الله بن أحمد وغيره، إلا أنه خلط في آخر عمره، وكف بصره وخرف حتى كان لا يعرف شيئا مما يقرأ عليه" (2) .
ولعل ابن الصلاح قد اعتمد على هذه الرواية حينما قال في: "فصل معرفة من خلط في آخر عمره من الثقات": " وأبو بكر بن مالك القطيعي راوي مسند أحمد وغيره، اختل في آخر عمره وخرف، حتى كان لا يعرف شيئا مما يقرأ عليه" (3) .
ولكن الحافظ الذهبي تعقب ابن الصلاح بقوله: "فهذا غلو وإسراف، وقد كان أبو بكر أسند أهل زمانه" (4) .
كما تعقبه الحافظ العراقي بقوله: "وفي ثبوت هذا عن القطيعي نظر، وهذا القول تبع فيه المصنف - يعني ابن الصلاح - مقالة حكيت عن
__________
(1) تاريخ بغداد (4 \ 74) والنبلاء (16 \ 212) والميزان (1 \ 88) .
(2) تاريخ بغداد (4 \ 74) . وانظر: النبلاء (16 \ 212) .
(3) مقدمة ابن الصلاح (ص357) .
(4) ميزان الاعتدال (1 \ 88) .(25/270)
أبي الحسن بن الفرات لم يثبت إسنادها إليه، ذكرها الخطيب في التاريخ فقال: حدثت عن أبي الحسن بن الفرات. . " (1) .
ولكن الحافظ ابن حجر العسقلاني تعقب الذهبي وأثبت اختلاط القطيعي حيث قال: "وإنكار الذهبي على ابن الفرات عجيب، فإنه لم ينفرد بذلك؛ فقد حكى الخطيب في ترجمة أحمد بن أحمد المسيبي يقول: قدمت بغداد وأبو بكر بن مالك حي، وكان مقصودنا درس الفقه والفرائض. فقال لنا ابن اللبان الفرضي (2) : لا تذهبوا إلى ابن مالك فإنه قد ضعف واختل، ومنعت ابني السماع منه. قال: فلم نذهب إليه" (3) .
قلت: والرواية التي ذكرها ابن حجر عن ابن اللبان الفرضي صحيحة الإسناد إليه، ولهذا لما ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء الرواية عن ابن الفرات واتبعها برواية ابن اللبان الفرضي سكت ولم يرد ذلك.
ولكن يجب أن يعلم أن: القطيعي روى مسند الإمام أحمد قبل اختلاطه، حيث قال الحافظ ابن حجر: "كان سماع أبي علي بن المذهب منه لمسند الإمام أحمد قبل اختلاطه، أفاده شيخنا أبو الفضل بن الحسن " (4) .
وقال الحافظ العراقي: "وعلى تقدير ثبوت ما ذكره أبو الحسن بن الفرات من التغير، وتبعه المصنف - أي ابن الصلاح - فممن سمع منه في الصحة: أبو الحسن الدارقطني، وأبو حفص بن شاهين، وأبو عبد الله الحاكم، وأبو بكر البرقاني، وأبو نعيم الأصبهاني، وأبو علي بن المذهب روى المسند
__________
(1) التقييد والإيضاح (ص413) ونقله عن سبط بن العجمي في الاغتباط بمن رمي بالاختلاط (ص39) .
(2) وثقه الخطيب البغدادي في تاريخه (2 \ 472) .
(3) لسان الميزان (1 \ 145) .
(4) لسان الميزان (1 \ 145) .(25/271)
عنه فإنه سمعه عليه في سنة ست وستين. والله أعلم".(25/272)
الخلاصة:
أبو بكر القطيعي محدث جليل ثقة، لا يوجد فيه شيء يوجب تركه. روى عنه جمع من الأئمة قبل اختلاطه منهم: أبو علي بن المذهب راوي المسند عنه.
ثالثا: أبو علي، الحسن بن علي بن محمد ابن المذهب التميمي:
ولد سنة: خمس وخمسين وثلاثمائة.
سمع من: أبي بكر القطيعي، وأبي محمد بن ماسي، وأبي سعيد الحرفي، وأبي الحسن بن لؤلؤ الوراق، وأبي بكر بن شاذان، وغيرهم.
وسمع منه: الخطيب البغدادي، وابن خيرون، وابن ماكولا، وأبو القاسم هبة الله بن محمد بن الحصين، ومحمد بن مكي بن دوست، وغيرهم.
قال ابن الجوزي: "ولا يعرف فيه إلا الخير والدين" (1) .
وقال ابن كثير: "وكان خيرا دينا" (2) .
وقد عابه الخطيب البغدادي بأمرين:
الأول:
قال الخطيب البغدادي: "كتبنا عنه، وكان يروي عن ابن مالك القطيعي مسند أحمد بن حنبل بأسره، وكان سماعه صحيحا إلا في أجزاء منه، فإنه ألحق اسمه فيها. وكذلك فعل في أجزاء من فوائد ابن مالك، وكان يروي عن ابن مالك أيضا كتاب الزهد لأحمد بن حنبل، ولم يكن له
__________
(1) المنتظم لابن الجوزي (8 \ 155) .
(2) البداية والنهاية لابن كثير (12 \ 63) .(25/272)
به أصل عتيق، وإنما كانت النسخة بخطه، كتبها بأخرة، وليس بمحل للحجة".
وقول الخطيب: "وكان سماعه صحيحا إلا في أجزاء منه" علق عليه الحافظ ابن نقطة بقوله: "ولم ينبه الخطيب من أي مسند هي، ولو فعل ذلك لكان قد أتى بالفائدة. وقد ذكرنا في صدر هذه الترجمة: أن مسندي " فضالة بن عبيد " و" عوف بن مالك " لم يكونا في كتاب أبي علي، وكذلك: أحاديث من مسند: " جابر بن عبد الله، لم توجد في نسخته رواها الحراني عن أبي بكر بن مالك، ولو كان يلحق اسمه كما زعم لألحق ما ذكرناه أيضا" (1) .
الثاني:
قال الخطيب البغدادي: "حدثني ابن المذهب، حدثنا محمد بن إسماعيل الوراق، وعلي بن عمر الحافظ، وأبو عمر بن مهدي، قالوا: حدثنا الحسين بن إسماعيل. . . هكذا حدثنيه ابن المذهب من لفظه فأنكرته عليه، وأعلمته أن هذا الحديث لم يكن عند أبي عمر بن مهدي، فأخذ القلم وضرب على اسم ابن مهدي. وكان كثيرا يعرض علي أحاديث في أسانيدها قوم غير منسوبين ويسألني عنهم، فأذكر له أنسابهم، فيلحقها في تلك الأحاديث، ويزيدها في أصوله موصولة بالأسماء، وكنت أنكر عليه هذا الفعل فلا ينثني عنه" (2) .
هذه هي جملة انتقادات الخطيب البغدادي على ابن المذهب التميمي، ولكن ابن الجوزي رحمه الله تعالى شدد في الرد على الخطيب، حيث قال: "وقد ذكر الخطيب عنه أشياء لا توجب القدح عند الفقهاء،
__________
(1) التقييد لابن نقطة (1 \ 280) . وانظر: النبلاء (17 \ 642) والميزان (1 \ 511) واللسان (2 \ 237) .
(2) تاريخ بغداد (7 \ 391) . وانظر: النبلاء (17 \ 642) والميزان (1 \ 511) واللسان (2 \ 237) .(25/273)
وإنما يقدح بها عوام المحدثين". ثم قال ردا على القدح الأول: "وهذا لا يوجب القدح، لأنه إذا تيقن سماعه للكتاب جاز أن يكتب سماعه بخطه لإجلال الكتب، والعجب من عوام المحدثين كيف يجيزون قول الرجل: أخبرني فلان، ويمنعون إن كتب سماعه بخط نفسه، أو إلحاق سماعه فيها بما يتيقنه. . " (1) .
وقال ردا على القدح الآخر: "هذا كله فقه من الخطيب، فإني إذا انتقيت في الرواية عن ابن عمر أنه عبد الله، جاز أن أذكر اسمه، ولا فرق بين أن أقول: حدثنا ابن المذهب، وبين أن أقول: الحسن بن علي بن المذهب. وقد كان في الخطيب شيئان: أحدهما الجري على عادة عوام المحدثين من قبله من قلة الفقه، والثاني: التعصب في المذهب، ونحن نسأل الله السلامة" (2) .
قلت: والخلاصة أن: سماع الحسن بن علي بن المذهب للمسند من أبي بكر القطيعي سماع صحيح كما قال الخطيب، إلا أجزاء منه فإنه ألحق اسمه فيها، وهذا لا يضر لأنه قد تيقن سماعه للمسند، والله أعلم.
والعجيب أن الحافظ الذهبي قال: "الظاهر من ابن المذهب أنه شيخ ليس بالمتقن، وكذلك شيخه ابن مالك، ومن ثم وقع في المسند أشياء غير محكمة المتن ولا الإسناد. والله أعلم" (3) .
وأخشى أن يكون هذا سبق قلم من الحافظ الذهبي - على جلالته وعلمه - فقد تقدم حال ابن مالك القطيعي، وأما ابن المذهب فقد سمع كتبا وأداها كما سمعها، ولم يجرحه أحد بشيء معتبر. ثم: ما هي
__________
(1) المنتظم (8 \ 155) .
(2) المنتظم (8 \ 155- 156) .
(3) الميزان (1 \ 512) . وانظر: لسان الميزان (2 \ 237) .(25/274)
الأشياء غير المحكمة في المسند؟! والله تعالى أعلم.
رابعا: أبو القاسم هبة الله بن محمد بن عبد الواحد بن الحصين:
ولد في: ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وتوفي في: شوال سنة خمس وعشرين وخمسمائة.
سمع من: ابن المذهب المسند كاملا، ومن أبي الطيب الطبري، وأبي القاسم التنوخي، وأبي محمد الحسين بن المقتدر، وغيرهم.
وسمع منه: أبو طاهر السلفي، وأبو القاسم بن عساكر، وأبو موسى المديني، وأبو الفرج بن الجوزي، وحنبل بن عبد الله الرصافي، وأبو الفضل بن ناصر، وغيرهم.
قال أبو سعد السمعاني: "شيخ ثقة دين، صحيح السماع، واسع الرواية، تفرد وازدحموا عليه، وحدثني عنه معمر بن الفاخر، وأبو القاسم بن عساكر، وعدة، وكانوا يصفونه بالسداد والأمانة والخيرية" (1) .
وقال تلميذه ابن الجوزي: "عمر حتى صار سيد أهل عصره، فرحل إليه الطلبة، وازدحموا عليه، وكان ثقة صحيح السماع، وسمعت منه مسند الإمام أحمد، والغيلانيات جميعها وأجزاء المزكي، وهو آخر من حدث بذلك. . . " (2) .
وقال الحافظ الذهبي: "الشيخ الجليل، المسند الصدوق، مسند الآفاق" (3) .
قال الذهبي أيضا: "كان دينا صحيح السماع" (4) .
__________
(1) سير أعلام النبلاء (19 \ 538) .
(2) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (10 \ 24) . وانظر: مشيخة ابن الجوزي (ص53) .
(3) سير أعلام النبلاء (19 \ 536) .
(4) العبر في خبر من غبر (4 \ 66) .(25/275)
وقال الحافظ ابن كثير: "كان ثقة ثبتا، صحيح السماع" (1) .
وقال ابن العماد الحنبلي: "كان دينا صحيح السماع".
عناية العلماء بالمسند:
سبق أن ذكرت أن مسند الإمام أحمد بن حنبل ديوان عظيم من دواوين السنة النبوية، يحتوي على مادة علمية كبيرة من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولكن الطريقة التي تم فيها ترتيب الكتاب طريقة متعبة، تأخذ جهد الإنسان ووقته، وقد أحس بهذا قديما الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى، وتمنى أن يعاد إخراج الكتاب بصورة أفضل، فقال: "فلعل الله يقيض لهذا الديوان العظيم من يرتبه ويهذبه، ويحذف ما كرر فيه، ويصلح ما تصحف، ويوضح حال كثير من رجاله، وينبه على مرسله، ويوهن ما ينبغي من مناكيره، ويرتب الصحابة على المعجم، وكذلك أصحابهم على المعجم، ويرمز على رؤوس الحديث بأسماء الكتب الستة، وإن رتبه على الأبواب فحسن جميل، ولولا أني قد عجزت عن ذلك لضعف البصر، وعدم النية، وقرب الرحيل، لعملت ذلك" (2) .
ويقول الشيخ أحمد شاكر في وصف المسند: "فوجدته بحرا لا ساحل له، ونورا يستضاء به، ولكن تنقطع الأعناق دونه، بأنه رتب على مسانيد الصحابة، وجمعت فيه أحاديث كل صحابي متتالية دون ترتيب، فلا يكاد يفيد منه إلا من حفظه، كما كان القدماء الأولون يحفظون، وهيهات، وأنى لنا ذلك. . " (3) .
وقد انتبه لهذا عدد من علماء الأمة فعملوا على إعادة إخراجه ليسهل
__________
(1) البداية والنهاية (12 \ 203) .
(2) سير أعلام النبلاء (13 \ 525) . وانظر: المصعد الأحمد (ص39) .
(3) انظر: مقدمة المسند لأحمد شاكر (1 \ 4) .(25/276)
البحث فيه، ومن هذه الأعمال:
1 - ترتيب أسماء الصحابة الذين أخرج حديثهم أحمد في المسند على ترتيب المعجم لأبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر، المتوفى سنة (571هـ) . في هذا الكتاب رتب الحافظ ابن عساكر أسماء الصحابة ترتيبا هجائيا، وبين أمام كل صحابي موقع حديثه في المسند.
2 - قام الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله بن المحب الصامت، بترتيب المسند على معجم الصحابة، ورتب الرواة كذلك، كترتيب كتاب الأطراف. قال الجزري: "تعب فيه تعبا كثيرا" (1) .
3 - استفاد الحافظ عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير، المتوفى سنة (774هـ) من الكتاب السابق، وأضاف إليه أحاديث الكتب الستة، ومعجم الطبراني الكبير، ومسند البزار، ومسند أبي يعلى الموصلي. ورتبه على طريقة الكتاب السابق. قال الجزري يصف عمل ابن كثير: "وأجهد نفسه كثيرا وتعب فيه تعبا عظيما، فجاء لا نظير له في العالم، وأكمله إلا بعض مسند أبي هريرة، فإنه مات قبل أن يكمله، إنه عوجل بكف بصره" (2) .
4 - ترتيب مسند أحمد على حروف المعجم لأبي بكر محمد بن عبد الله بن عمر المقدسي الحنبلي المتوفى سنة (820هـ) (3) .
5 - الكواكب الدراري في ترتيب مسند الإمام أحمد على أبواب
__________
(1) انظر: المصعد الأحمد (ص39) .
(2) انظر: المصعد الأحمد (39، 40) .
(3) انظر: تاريخ الأدب العربي (3 \ 311) وتاريخ التراث العربي (3 \ 1 \ 221) .(25/277)
البخاري، لعلي بن الحسين بن زكبون، المتوفى سنة (837هـ) (1) .
6 - وضع الحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة (852هـ) كتابا في أطراف المسند سماه: "أطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي، في مجلدين. أفرده ابن حجر من كتابه المسمى: "إتحاف المهرة بأطراف العشرة" (2) .
كتب حول المسند:
1 - خصائص المسند. لأبي موسى المديني، المتوفى سنة (557هـ) .
2 - المصعد الأحمد في ختم مسند الإمام أحمد، لشمس الدين الجزري. المتوفى سنة (833هـ) . وحقق هذين الكتابين الشيخ أحمد شاكر في مقدمة تحقيقه للمسند.
ومن الكتب التي ألفت في الذب عن مسند أحمد:
1 - القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد. لابن حجر المتوفى سنة (852هـ) ، طبع عدة طبعات.
2 - الذيل الممهد، لجلال الدين السيوطي. المتوفى سنة (911هـ) (3) .
3 - ذيل القول المسدد، لمحمد صبغة الله المدراسي. كتبه عام (1281هـ) وهو مطبوع.
__________
(1) انظر: المصعد الأحمد (ص40) وتاريخ الأدب العربي (3 \ 311) وتاريخ التراث العربي (3 \ 1 \ 221) .
(2) انظر: لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ (ص333) . والرسالة المستطرفة (ص127) .
(3) ذكره السيوطي في كتابه: تدريب الراوي (1 \ 172) .(25/278)
وفي زوائد مسند الإمام أحمد:
ألف الحافظ علي بن أبي بكر الهيثمي كتابا في زوائد المسند أسماه: "غاية المقصد في زوائد المسند". وقد كان الحافظ الهيثمي قد(25/278)
ألف كتبا مفردة في: زوائد مسند أبي يعلى الموصلي. ومعاجم الطبراني الثلاثة، فأشار عليه شيخه: الحافظ العراقي بأن يجمع هذه الكتب في مؤلف واحد، ويحذف أسانيدها، ويرتبها على الأبواب، فعمل الحافظ الهيثمي رحمه الله تعالى كتابه الجليل: "مجمع الزوائد، ومنبع الفوائد" (1) . وهو كتاب مطبوع ومتداول.
وفي رجال المسند:
قال شمس الدين الجزري: "وأما رجال المسند: فما لم يكن في تهذيب الكمال، أفرده المحدث الحافظ: شمس الدين محمد بن المحب فيما قصر، وما فاته فإني استدركته وأضفته إليه في كتاب سميته: (المقصد الأحمد في رجال مسند أحمد) . وقد تلف بعضه في الفتنة، فكتبته بعد ذلك مختصرا " (2) .
شروحه ومختصراته:
1 - ثلاثيات المسند: أخرج أكثرها الحافظ محب الدين المقدسي. المتوفى سنة (613هـ) ، وقد شرح هذه الثلاثيات العلامة محمد السفاريني رحمه الله تعالى. وطبع الكتاب في دمشق سنة (1380هـ) .
2 - عقود الزبرجد على مسند الإمام أحمد. لجلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى، وهو عبارة عن شرح لغوي.
__________
(1) انظر: مقدمة مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (1 \ 7) .
(2) المصعد الأحمد (ص40) .(25/279)
3 - صنف زين الدين عمر بن أحمد الشماع الحلبي مختصرا للمسند أسماه "الدر المنتقد من مسند أحمد " (1) .
4 - ذكر حاجي خليفة أن أبا الحسن بن عبد الهادي السندي صنف شرحا كبيرا لمسند الإمام أحمد جاء في خمسين كراسة (2) .
5 - المنتقى من مسند العشرة المبشرة (3) .
عناية العلماء المعاصرين بالمسند:
أولا: عمل الشيخ أحمد البنا رحمه الله تعالى كتابا أسماه: "الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني ". عمل على ترتيب المسند على حسب الأبواب، كما حذف سلاسل الإسناد مكتفيا بذكر اسم الصحابي على الأغلب. وقد شرح رحمه الله تعالى عمله في الأحاديث المكررة، وبين أنه إذا جاء الحديث من عدة طرق لصحابي واحد اكتفى بذكر أصحها إسنادا، وحذف الباقي إلا أن يكون فيه زيادة فائدة، فإنه يثبتها في مكانها اللائق. ويقول: "وفي رواية كذا وكذا" وإذا كانت الزيادة كبيرة أو لا تصلح أن توضع بهذا الشكل قال في نهاية الحديث: (وعنه في أخرى، أو: وعنه من طريق آخر بنحوه) . هذا إذا كان الصحابي واحدا.
أما إذا كان الحديث مرويا عن غير واحد من الصحابة فإنه يثبت الأصح إسنادا، وإذا كان في الحديث الآخر أحكام زائدة فإنه يثبت الحديث، ويشير إلى البقية بقوله: "وعن فلان من الصحابة مثله" وهو بذلك قد استوعب أحاديث المسند جميعها (4) .
ثم ذيل الشيخ البنا الكتاب بشرح لطيف موجز أسماه: "بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني". أثبت فيه أسانيد الأحاديث، وخرجها بإيجاز،
__________
(1) كشف الظنون (2 \ 1680) .
(2) كشف الظنون (2 \ 1680) .
(3) ذكره فؤاد سزكين في تاريخ التراث العربي (3 \ 1 \ 221) ، ولم يذكر مؤلفه.
(4) انظر: مقدمة الفتح الرباني (1 \ 15- 16) .(25/280)
ونقل أحكام العلماء عليها من تصحيح أو تضعيف، كما شرح غريب اللغة وبين أبرز الفوائد المستمدة من الحديث.
فخرج الكتاب بصورة جيدة ومفيدة جدا سهل للباحثين، وطلبة العلم الاستفادة من هذا الكتاب الجليل.
وقد ظهر الكتاب بأربعة وعشرين جزءا، بدأه بـ: "كتاب التوحيد"، ثم: "كتاب الإيمان والإسلام"، ثم: "كتاب القدر"، ثم: "كتاب العلم"، ثم: "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة"، ثم: "كتاب الطهارة". . وهكذا، ختمه بـ: "أبواب ذكر النار والجنة وما جاء فيهما".
ولكن الشيخ أحمد البنا توفي رحمه الله تعالى ولما يكمل كتابه: "بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني"، حيث وصل إلى الجزء الثاني والعشرين".
فجاء من بعده الشيخ محمد بحيري وأكمل الجزء الثاني والعشرين بنفس طريقة البنا رحمه الله. ثم كونت لجنة من أبناء الشيخ البنا مع الأستاذ حامد إبراهيم، ومحمد الحسيني، والشيخ التيجاني، فأكملوا الجزء الثالث والعشرين، والرابع والعشرين، بنفس طريقة المؤلف السابقة.
ملاحظات على الكتاب:
1 - بذل الشيخ أحمد البنا جهدا كبيرا، وأسدى خدمة جليلة لهذا الديوان العظيم، وسهل الاستفادة من هذا البحر الزاخر.
2 - حبذا لو أن البنا راجع الكتاب على أحد المخطوطات الأصيلة لكي تتم مقارنتها بالنسخة المطبوعة، وفي هذا زيادة في التوثيق.
3 - تخريج الأحاديث فيه ضعف ملموس، وفيه أوهام كثيرة، قد يعذر فيه المؤلف لكثرة أحاديث الكتاب.(25/281)
4 - يعتمد البنا في حكمه على الأحاديث على: المنذري والهيثمي غالبا، ولا شك أن الاستفادة بأحكام المتقدمين أمر مهم ومطلوب. لكن لا يخفى على طالب العلم أن الاعتماد على هذا وحده لا يكفي، حيث يجب دراسة الإسناد دراسة وافية على حسب ما هو مقرر في قواعد علم المصطلح.
5 - حبذا لو أن الشيخ البنا أشار أمام كل حديث إلى موقعه في طبعة الحلبي؛ لأنها طبعة متداولة ومنتشرة بين طلاب العلم.
6 - تقدم قبل قليل أن التكرار في مسند الإمام أحمد له فوائد متعددة، سواء في المتن أو في الإسناد. كثير من هذه الفوائد نفقدها عند مراجعة الفتح الرباني.
7 - تمت طباعة الكتاب طباعة سيئة ومتعبة، وفيها أخطاء مطبعية كثيرة.
ثانيا: عمل الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى على تحقيق المسند وترقيمه، وتخريج أحاديثه، والحكم عليها من حيث الصحة أو الضعف. وخرج الكتاب بصورة علمية رائعة تشهد للشيخ بعلمه وحسن اطلاعه، ولكنه رحمه الله لم يتمه؛ حيث بلغ ما حققه ثلث الكتاب تقريبا، حيث خطا شوطا لا بأس به من مسند أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، فخرج الكتاب بستة عشر جزءا، وبلغ عدد أحاديثه: (7782) حديثا. ووضع فيه - رحمه الله - فهارس علمية قيمة لكل جزء على حدة، تسهل البحث فيه، وتجعل الباحث يجد ضالته فيها بسهولة.
وأثبت رحمه الله في المقدمة: كتاب: "خصائص المسند" لأبي موسى المديني، وكتاب: "المصعد الأحمد في ختم مسند الإمام أحمد " لشمس الدين الجزري، وترجمة الإمام أحمد من: "تاريخ الإسلام" للحافظ الذهبي. وحقق هذه الكتب وعلق عليها.(25/282)
واعتمد أحمد شاكر في تحقيقه للمسند على:
1 - طبعة الحلبي: وهي الطبعة المتداولة حاليا، وهي ستة أجزاء. طبعت في المطبعة الميمنية بالقاهرة سنة (1313هـ) وبهامشها المنتخب من كنز العمال.
2 - جزء صغير مطبوع في المطبعة الحيدرية في بمبي بالهند سنة (1308هـ) ، وهذه الطبعة إلى مسند سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنه، أي: نحو (190) صفحة من الجزء الأول من طبعة الحلبي السابقة الذكر.
3 - نسخة مخطوطة في دار الكتب المصرية. وصفها أحمد شاكر بأنها: "نسخة صحيحة جيدة الضبط والإتقان، نادرة الغلط" (1) .
4 - وفي بداية الجزء السابع حصل أحمد شاكر على مخطوطة من أبناء الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ. وقال عنها شاكر: "ليست بقديمة، ولكنها صحيحة معتمدة، وفيها تصحيحات نفيسة" (2) .
5 - وفي بداية مسند أبي هريرة رضي الله عنه وجد أحمد شاكر مخطوطة فيها مسند أبي هريرة فقط. كتبت سنة: (837هـ) (3) .
ملاحظات على التحقيق:
1 - يمتاز الكتاب بجودة الترتيب، والإخراج والإعداد، بذل فيه أحمد شاكر جهدا مباركا.
2 - رقم الأحاديث، وأشار إلى موقع الحديث في طبعة الحلبي.
3 - يوجد في كل مجلد فهارس علمية جيدة تسهل البحث.
4 - رجوعه إلى المخطوطات جيد، لكن حبذا لو وصف هذه
__________
(1) انظر في ذلك كله: مسند أحمد تحقيق أحمد شاكر (1 \ 12) .
(2) انظر: مسند أحمد (7 \ 5) تحقيق شاكر.
(3) انظر: مسند أحمد (12 \ 81) تحقيق شاكر.(25/283)
المخطوطات وصفا كافيا، مع الإشارة إلى تاريخ نسخها.
5 - تخريجه للأحاديث مفيد وجيد، لكن فيه نقصا أحيانا، وحكمه على الأحاديث ممتاز جدا، على تساهل في بعضها.
وبشكل عام خدم الشيخ أحمد شاكر مسند الإمام أحمد خدمة جليلة، قلما يعمل مثلها، نسأل الله عز وجل أن يجعله في موازين أعماله.
ثالثا: قام الدكتور: " الحسيني عبد المجيد هاشم " أستاذ الحديث بكلية أصول الدين - بجامعة الأزهر بمصر بتتمة عمل الشيخ أحمد شاكر، حيث بدأ الحسيني من حيث انتهى أحمد شاكر.
وصدر من عمله هذا حتى الآن أربعة أجزاء من: (17) إلى: (20) . صدر الجزء السابع عشر عام (1395هـ) ، والثامن عشر عام (1397هـ) ، والتاسع عشر بدون تاريخ، والعشرون عام (1404هـ) . وشاركه في إخراج الجزء العشرين الدكتور: أحمد عمر هاشم رئيس قسم الحديث بجامعة الأزهر.
لم يكتب الدكتور الحسيني مقدمة عند إخراجه للكتاب يشرح فيها عمله، إلا أنه - من حيث العموم - سار على نفس منهاج شاكر، مع وجود الفارق في التخريج والحكم على الحديث. والظاهر أن الحسيني لم يعتمد في إخراج الكتاب إلا على طبعة الحلبي التي صدرت في القاهرة عام (1313هـ) .
رابعا: عمل الأستاذ عبد القادر أحمد عطا بالتعاون مع الدكتور محمد أحمد عاشور على تحقيق مسند الإمام أحمد من بدايته، وخرج من عملهما - فيما أعلم - ثلاثة أجزاء فقط. وبلغ عدد الأحاديث التي تم تحقيقها: (2109) حديثا. ولا أدري هل توقفا عن العمل - وهو الظاهر - أم أنهما لا زالا يعملان في بقية المسند!!
اعتمدا في تحقيقهما على:
1 - طبعة الحلبي.(25/284)
2 - مخطوطة دار الكتب المصرية، وهي نسخة كاملة.
3 - جزءان مخطوطان في المكتبة الأزهرية. ولم يذكرا شيئا عنها.
4 - اعتمدا أيضا على الجزء الذي حققه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله.
5 - كما اعتمدا على الكتب التي تكثر النقل من مسند الإمام أحمد، ومنها:
أ - البداية والنهاية، وتفسير القرآن العظيم. كلاهما الحافظ ابن كثير.
ب - ما أثبته بهاء الدين حيدر بن علي الجاشي في كتابه:
"المعتمد من المنقول فيما أوحي إلى الرسول".
جـ - منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية.
د - إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية.
6 - كما اعتمدا على بعض كتب السنة الأخرى، منها:
أ - مصنف عبد الرزاق الصنعاني.
ب - مسند ابن الجارود.
جـ - الزهد لابن المبارك، والزهد لأحمد.
د - كتب الرجال كالميزان واللسان وغيرها.
ملاحظات على الكتاب:
تحقيقهما لا يقارن بتحقيق أحمد شاكر. والمحققان قد اطلعا على نسخة شاكر، ولو أنهما عملا عملا أفضل منه لقلنا: إنهما يريدان أن يخرجا الكتاب بالصورة الجيدة، أما حينما يريان نسخة شاكر ويخرجان عملا أقل منه - أو حتى أفضل منه بقليل - لا شك بأن هذا من تبديد الجهود، فلو أنهما شرعا في التحقيق من حيث انتهى أحمد شاكر لكان خيرا لهما ولطلبة العلم، خاصة أن مسند الإمام أحمد ديوان عظيم يحتوي على مادة علمية كبيرة، فيحتاج إلى جهد وتظافر وتكاتف. والذي يثبت(25/285)
ذلك أنهما توقفا ولما يصلا إلى ما وصل إليه أحمد شاكر. هذا لا يعني أنهما لم يعملا شيئا طيبا، بل على العكس حيث خرجا الأحاديث تخريجا لا بأس به، لكن ينقصه الحكم على الحديث من حيث القوة أو الضعف. كما شرحا غريب اللغة وأثبتا بعض الفوائد القيمة.
كما وعدا بإخراج بعض الفهارس في نهاية الكتاب، لكن هذه الفهارس لم تظهر لعدم إتمامهما للكتاب.
خامسا: أخرج الشيخ عبد الله القرعاوي كتابا رتب فيه المسند على أبواب الفقه، معتمدا على: "الفتح الرباني" للشيخ أحمد البنا. ولكن الشيخ القرعاوي أثبت سلاسل الإسناد ولم يحذف من المسند شيئا.
ويعلل سبب ذلك بأنه يريد أن يثبت جميع الأحاديث وبجميع طرقها متجاورة في الباب الواحد، لكي يتسنى للباحث أن يعرف طرق الحديث والمتابعات والشواهد.
ورقم أحاديث كل باب على حدة، وسمى كتابه: "المحصل" ظهر منه حتى كتابة هذه السطور ثلاثة أجزاء فقط، بدأه "بكتاب التوحيد" ثم "بكتاب الإيمان والإسلام" وختم كل جزء بفهرس للموضوعات.
سادسا: عملت في الآونة الأخيرة بعض الأطروحات العلمية لتحقيق بعض أجزاء من مسند الإمام أحمد، ومنها:
1 - مرويات بريدة الأسلمي - رضي الله عنه - في مسند أحمد.
2 - مرويات سمرة بن جندب - رضي الله عنه - في مسند أحمد.
3 - القسم الرابع من مسند الكوفيين في مسند أحمد.
4 - القسم الثاني من مسند الأنصار في مسند أحمد.
5 - مرويات زيد بن ثابت - رضي الله عنه - في مسند أحمد (1) .
6 - تخريج أحاديث أبي ذر - رضي الله عنه - في مسند أحمد (2) .
__________
(1) انظر: الأطروحات الإسلامية لمحيي الدين عطية (1402هـ) .
(2) إعداد: عبد الله علي الجهني في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة.(25/286)
7 - تخريج أحاديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - في مسند أحمد (1) .
سابعا: عمل الأستاذ حمدي عبد المجيد السلفي فهرسا لأطراف أحاديث المسند سماه: "مرشد المحتار إلى ما في المسند من الأحاديث والآثار". خرج منه جزأين حتى الآن، وصل بهما إلى حرف الميم.
ثامنا: وفي نفس الوقت أخرج الأستاذ: أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول فهرسا لأطراف أحاديث المسند.
يمتاز الأخير بأنه يحوي المسند في مجلد واحد بحيث يسهل تناوله والرجوع إليه.
بينما يمتاز فهرس السلفي بذكر اسم الصحابي الراوي للحديث. كما يحيل للأحاديث المتقاربة في اللفظ.
ومن آثار الإمام أحمد أيضا رحمه الله تعالى.
__________
(1) إعداد: عبد العزيز بن عبد الرحمن العثيم في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة.(25/287)
(2) فضائل الصحابة:
عمل الأستاذ " وصي الله بن محمد عباس " على تحقيق الكتاب لنيل شهادة الدكتوراة من كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى، وأشرف على الرسالة: السيد أحمد صقر. وطبع الكتاب ضمن مطبوعات جامعة أم القرى عام (1403هـ) في جزأين لطيفين.
اعتمد المحقق على نسخة خطية فريدة. كتبت قبل سنة: أربع وأربعين وخمسمائة. كما وجد المحقق جزء فضائل علي من الكتاب، بنسخة خطية كتبت سنة (1027) .
يبدأ الكتاب بفضائل أبي بكر الصديق، ثم بفضائل بقية الخلفاء الراشدين، ثم بفضائل بقية العشرة المبشرين بالجنة ما عدا سعيد بن زيد(25/287)
رضي الله عنه، ثم ببقية الصحابة، وختم الكتاب بفضائل: عبد الله بن عباس رضي الله عنه.
احتوى الكتاب على (1962) نصا، بذل فيه المحقق جهدا طيبا. وأخرج الكتاب بصورة علمية رائعة، وذيله بفهارس علمية قيمة.(25/288)
(3) التفسير:
قال أبو الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي:
"لم يكن في الدنيا أحد أروى عن أبيه من عبد الله بن أحمد؛ لأنه سمع منه: "المسند" وهو ثلاثون ألفا. و"التفسير" وهو مائة ألف وعشرون ألفا، سمع منه ثمانين ألفا، والباقي وجادة. وسمع الناسخ والمنسوخ، والتاريخ، وحديث شعبة. . ".
وذكر هذا الكتاب ابن النديم في: "الفهرست" (1) ، والخطيب البغدادي في: "تاريخه" (2) ، وابن الجوزي في: "مناقب الإمام أحمد " (3) ، وابن حجر في "التهذيب" (4) ، وغيرهم.
ولكن الحافظ الذهبي ينكر وجود هذا الكتاب إنكارا شديدا؛ حيث قال: "ما زلنا نسمع بهذا التفسير الكبير لأحمد على ألسنة الطلبة، وعمدتهم حكاية ابن المنادي هذه، وهو كبير قد سمع من جده وعباس الدوري، ومن عبد الله بن أحمد، لكن ما رأينا أحدا أخبرنا عن وجود هذا التفسير، ولا بعضه ولا كراسة منه، ولو كان له وجود، أو لشيء منه لنسخوه، ولاعتنى بذلك طلبة العلم، ولحصلوا ذلك، ولنقل إلينا، ولاشتهر، ولتنافس أعيان البغداديين في تحصيله، ولنقل منه ابن جرير فمن بعده في تفاسيرهم، ولا - والله - يقتضي أن يكون عند الإمام أحمد في التفسير
__________
(1) الفهرست (ص320) .
(2) تاريخ بغداد (9 \ 375) .
(3) مناقب الإمام أحمد (ص248) .
(4) تهذيب التهذيب (5 \ 142) .(25/288)
مائة ألف وعشرون ألف حديث، فإن هذا يكون في قدر مسنده، بل أكثر بالضعف.
وهذا التفسير لا وجود له، وأنا أعتقد أنه لم يكن، فبغداد لم تزل دار الخلفاء، وقبة الإسلام، ودار الحديث، ومحلة السنن. ولم يزل أحمد فيها معظما في سائر الأعصار، وله تلامذة كبار وأصحاب أصحاب، وهلم جرا إلى بالأمس، حين استباحها جيش المغول، وجرت بها من الدماء سيول، وقد اشتهر ببغداد تفسير ابن جرير وتزاحم على تحصيله العلماء، وسارت به الركبان، ولم نعرف مثله في معناه، ولا ألف قبله أكبر منه، وهو في عشرين مجلدة، وما يحتمل أن يكون عشرين ألف حديث، بل لعله خمسة عشر ألف إسناد، فخذه، فعده إن شئت" (1) .
__________
(1) انظر: سير أعلام النبلاء (13 \ 522) و (11 \ 328) .(25/289)
(4) الزهد:
وهو كتاب فريد في بابه، جيد في مضمونه، خال من قصص المتصوفة وأعمالهم المخالفة لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ". . ولكن كتاب الزهد للإمام أحمد، والزهد لابن المبارك، وأمثالهما، أصح نقلا من الحلية". وقال أيضا: ". . وأما الزهد للإمام أحمد ونحوه فليس فيه من الأحاديث والحكايات الموضوعة مثل ما في هذه - يعني: الحلية، وصفة الصفوة - فإنه لا يذكر في مصنفاته عمن هو معروف بالوضع، بل قد يقع فيها ما هو ضعيف بسوء حفظ ناقله، وكذلك الأحاديث المرفوعة ليس فيها ما يعرف أنه موضوع قصد الكذب فيه، كما ليس ذلك في مسنده، لكن فيه ما يعرف أنه غلط، غلط فيه رواته، ومثل هذا يوجد في غالب كتب الإسلام، فلا يسلم كتاب من الغلط إلا القرآن " (1) .
وقال الحافظ ابن كثير: " وقد صنف أحمد في الزهد كتابا حافلا
__________
(1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (18 \ 72) .(25/289)
عظيما لم يسبق إلى مثله ولم يلحقه أحد فيه " (1) .
والكتاب بدأه الإمام أحمد بزهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بزهد الأنبياء، ثم بزهد الصحابة، ثم بزهد التابعين.
طبع الكتاب عدة طبعات بدون أي عناية علمية، إلى أن جاء الأستاذ محمد جلال شرف وحققه تحقيقا لا بأس به، ثم حققه ورقم نصوصه وفهرسها الأستاذ: محمد السعيد بن بسيوني زغلول.
__________
(1) البداية والنهاية لابن كثير (10 \ 329) .(25/290)
(5) الرد على الزنادقة والجهمية:
نسبه للإمام أحمد: ابن النديم في "الفهرست" (1) ، وابن الجوزي في: "مناقب الإمام أحمد " (2) ، وبروكلمان (3) ، وفؤاد سزكين (4) .
ولكن يشكك في نسبته للإمام أحمد:
1 - الحافظ الذهبي: وحجته: أن في سند الكتاب إلى الإمام أحمد: الخضر بن المثنى وهو مجهول (5) .
2 - زاهد الكوثري: في تعليقه على كتاب: "الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية" (6) .
3 - وهبي بن سليمان غاوجي الألباني: في كتابه: " أبو حنيفة النعمان إمام الأئمة الفقهاء" ضمن سلسلة أعلام المسلمين.
لكن هناك من يصحح نسبة الكتاب للإمام أحمد بن حنبل، منهم: الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه الجليل: "اجتماع الجيوش الإسلامية"، ونسب ذكر ذلك لشيخ الإسلام ابن تيمية، والقاضي: أبو الحسن بن
__________
(1) الفهرست (ص320) .
(2) مناقب الإمام أحمد (ص248) . وانظر: المنهج الأحمد (1 \ 67) .
(3) تاريخ الأدب العربي (3 \ 311) .
(4) تاريخ التراث العربي (3 \ 1 \ 206) .
(5) انظر: سير أعلام النبلاء (11 \ 286) .
(6) لابن قتيبة (ص55) مكتبة القدس. القاهرة 1349هـ.(25/290)
القاضي أبي يعلي في كتابه: "إبطال التأويل" حيث قال: "قرأت في كتاب أبي جعفر محمد بن أحمد بن صالح بن أحمد بن حنبل قال: قرأت على أبي صالح بن أحمد هذا الكتاب فقال: هذا الكتاب عمله أبي في مجلسه ردا على من احتج بظاهر القرآن، وترك ما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يلزم اتباعه". وهذا يثبت طريقا آخر غير طريق: الخضر بن المثنى.
كما أن أبا بكر الخلال يروي الكتاب عن طريق الوجادة من طريق: عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه الإمام أحمد، وهذا يثبت طريقا ثالثا للكتاب.
وقال ابن القيم: "لم يسمع من أحد من متقدمي أصحاب الإمام أحمد، ولا متأخريهم طعن فيه، والله أعلم". وقد اقتبس شيخ الإسلام ابن تيمية من هذا الكتاب في عدة مواضع من كتابه الجليل: "درء تعارض العقل مع النقل" وغيره.
قلت: الكتاب بدأه الإمام أحمد بالرد على الزنادقة الذين يتتبعون متشابه القرآن، ويضربون آياته بعضها مع بعض. ثم بدأ بالرد على الجهمية المعطلة الذين يقولون بخلق القرآن، ثم رد عليهم حينما جحدوا نظر المؤمنين لله عز وجل يوم القيامة، ثم رد على عليهم إنكارهم: من أن يكون الله كلم موسى عليه الصلاة والسلام، ثم رد عليهم إنكارهم: أن يكون الله على العرش، ثم تكلم عن المعية وتفسير قوله تعالى:
{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} (1) (سورة المجادلة آية 7) .
ثم عاد للرد عليهم في قضية خلق القرآن، وختم كتابه بالرد على
__________
(1) سورة المجادلة الآية 7(25/291)
الجهمية تأويلهم لقوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} (1) (سورة الحديد آية 3) .
__________
(1) سورة الحديد الآية 3(25/292)
(6) العلل ومعرفة الرجال:
وهو برواية: ابن الصواف عن عبد الله بن أحمد عن أبيه الإمام أحمد بن حنبل.
طبع الجزء الأول من الكتاب في أنقرة بتركيا سنة (1963م) ، ثم توقف العمل بالكتاب حتى سنة (1987م) حيث طبع بقية الكتاب في جزء آخر. وكلا الجزأين بتحقيق: الدكتور طلعت قوج، وإسماعيل جراح أوغلي.
واعتمدا في التحقيق على نسخة خطية كاملة موجودة في أيا صوفيا بتركيا.
ويوجد للكتاب نسخة خطية جيدة في: المكتبة الظاهرية بدمشق (1) . وقد بدأ بتحقيقه مرة أخرى الأستاذ وصي الله بن محمد عباس (2) ، على اعتبار أن الكتاب لم يطبع منه إلا جزء واحد. والآن بعد أن تم إخراج الكتاب كاملا لا أدري هل سوف يستمر وصي الله بالتحقيق أم لا؟
(7) الأشربة:
وهو مطبوع بتحقيق: السيد صبحي جاسم البدري سنة (1396هـ) . تم طبع بتحقيق: عبد الله حجاج سنة (1401هـ) .
(8) الأسامي والكنى:
وهو من أوائل الكتب التي ألفت في علم الرجال، نشره وحققه: عبد الله بن يوسف الجديع، عام 1406هـ.
__________
(1) انظر: تاريخ الأدب العربي لبروكلمان (3 \ 312) وتاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين (1 \ 3 \ 204) .
(2) انظر: مقدمة كتاب فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل، تحقيق وصي الله عباس (1 \ 25) .(25/292)
(9) الورع:
طبع لأول مرة في القاهرة سنة (1340هـ) بدون عناية. ثم في عام 1403هـ حققته الدكتورة: زينب إبراهيم القاروط، اعتمادا على النسخة المطبوعة عام 1340هـ. ثم طبعه اعتمادا على هذه النسخة المطبوعة أيضا: محمد السعيد بن بسيوني زغلول عام 1406هـ.
(10) رسالة الصلاة:
طبعت لأول مرة في القاهرة سنة (1322هـ) ، وفي نسبتها للإمام أحمد نظر (1) .
(11) الإيمان:
قال أبو حاتم: "أول ما لقيت أحمد سنة ثلاث عشرة ومئتين، فإذا قد أخرج معه إلى الصلاة: "كتاب الأشربة" و"كتاب الإيمان" فصلى، ولم يسأله أحد. فرده إلى بيته. وأتيته يوما آخر، فإذا قد أخرج الكتابين. فظننت أنه يحتسب في إخراج ذلك؛ لأن كتاب الإيمان أصل الدين، وكتاب الأشربة صرف الناس عن الشر، فإن كل الشر من السكر" (2) .
وكتاب الإيمان توجد منه نسخة خطية في: المتحف البريطاني (3) .
(12) كتاب أهل الردة والزنادقة وتارك الصلاة والفرائض ونحو ذلك:
توجد منه نسخة خطية في: مكة المكرمة (4) . ونسخة أخرى ضمن: "كتاب الجامع" للخلال في: دار الكتب المصرية (5) .
__________
(1) انظر: سير أعلام النبلاء (11 \ 287) و (11 \ 330) .
(2) مناقب الإمام أحمد (ص249) وسير أعلام النبلاء (11 \ 301) .
(3) تاريخ التراث العربي (1 \ 3 \ 226) .
(4) تاريخ التراث العربي (1 \ 3 \ 225) .
(5) انظر تعليق: محمد رشاد سالم على كتاب: ''درء تعارض العقل مع النقل'' (8 \ 390) .(25/293)
(13) كتاب الوقوف والوصايا:
توجد منه نسخة خطية في: مكة المكرمة (1) . ونسخة أخرى ضمن: "كتاب الجامع" للخلال في: دار الكتب المصرية (2) .
(14) أحكام النساء:
توجد منه نسخة مخطوطة في: مكة المكرمة (3) .
(15) الترجل:
توجد منه نسخة مخطوطة في: مكة المكرمة (4) .
ومما ذكره ابن النديم في الفهرست أيضا (5) .
(16) الناسخ والمنسوخ (6) .
(17) الفرائض.
(18) المناسك (7) .
(19) طاعة الرسول.
ومما ذكره ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد (8) .
__________
(1) تاريخ التراث العربي (1 \ 3 \ 225) .
(2) تاريخ التراث العربي (1 \ 3 \ 225) .
(3) تاريخ التراث العربي (1 \ 3 \ 225) .
(4) تاريخ التراث العربي (1 \ 3 \ 225) .
(5) الفهرست (ص320) .
(6) وذكره أيضا: ابن الجوزي في مناقب الإمام (ص248) .
(7) وذكره أيضا: ابن الجوزي في مناقب الإمام (ص248) .
(8) مناقب الإمام أحمد (ص248) .(25/294)
(20) التاريخ. .
(21) حديث شعبة.
(22) المقدم والمؤخر في القرآن.
(23) جوابات القرآن.
(24) نفي التشبيه.
(25) الإمامة.
هذا بالإضافة إلى كتب المسائل والتي تضم إجابات الإمام أحمد بن حنبل على أسئلة تلاميذه في العلوم المختلفة. ذكر الحافظ الذهبي ما يقارب: (47) جامعا لها. كما ذكر الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد في كتابه: "موارد ابن القيم في كتبه": (70) جامعا لها (1) .
ومن أبرز هذه المسائل:
1 - مسائل الإمام أحمد: لعبد الله بن أحمد بن حنبل.
2 - مسائل الإمام أحمد: لأبي داود السجستاني.
3 - مسائل الإمام أحمد: لابن هانئ.
4 - مسائل الإمام أحمد: للأثرم.
5 - مسائل الإمام أحمد: للميموني.
6 - مسائل الإمام أحمد: للبغوي.
وغيرها.
ثم جمع أبو بكر الخلال سائر ما عند تلاميذه من أقواله وفتاويه. قال
__________
(1) انظر: سير أعلام النبلاء (11 \ 330، 331) . وانظر: موارد ابن القيم في كتبه (ص93-109) .(25/295)
الذهبي: "وجمع أبو بكر الخلال سائر ما عند هؤلاء من أقوال أحمد، وفتاويه، وكلامه في العلل، والرجال والسنة والفروع، حتى حصل عنده من ذلك ما لا يوصف كثرة. ورحل إلى النواحي في تحصيله، وكتب عن نحو من مائة نفس من أصحاب الإمام. ثم كتب كثيرا من ذلك عن أصحاب أصحابه، وبعضه عن رجل، عن آخر عن الإمام أحمد. ثم أخذ في ترتيب ذلك، وتهذيبه، وتبويبه، وعمل كتاب "العلم" وكتاب "العلل" وكتاب "السنة" كل واحد من الثلاثة من ثلاث مجلدات.
ويروي في غضون ذلك من الأحاديث العالية عنده، عن أقران أحمد من أصحاب ابن عيينة ووكيع وبقية مما يشهد له بالإمامة والتقدم، وألف كتاب "الجامع" في بضعة عشر مجلدة، أو أكثر. . " (1) .
أحاديث الإمام أحمد في كتب السنة:
أولا: في صحيح الإمام البخاري:
قال الحافظ الذهبي: "حدث عنه البخاري حديثا، وعن أحمد بن الحسن عنه حديثا آخر في المغازي" (2) .
وقال الحافظ ابن حجر: "وليس للمصنف - أي: البخاري - في هذا الكتاب رواية عن أحمد إلا في هذا الموضع، وأخرج عنه في آخر المغازي حديثا بواسطة" (3) .
وبهذا يتبين - من رأي الحافظين - أن للإمام أحمد حديثين فقط في: صحيح البخاري. ولكن ذكر ابن القيسراني - من قبلهما - حديثا ثالثا في كتاب الصدقات، حيث قال: "روى البخاري عن أحمد بن الحسن الترمذي عنه حديثا واحدا في آخر المغازي في مسند بريدة قوله:
__________
(1) سير أعلام النبلاء (11 \ 331) .
(2) سير أعلام النبلاء (11 \ 181) .
(3) فتح الباري (9 \ 124) .(25/296)
أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة. وقال في كتاب الصدقات: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، ثنا أبي، ثنا ثمامة الحديث، ثم قال عقبه: وزادني أحمد بن حنبل (1) عن محمد بن عبد الله الأنصاري.
وقال في كتاب النكاح: قال لنا أحمد بن حنبل رحمه الله. لم يقل: حدثنا ولا أخبرنا، وهو حديث الثوري عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حرم من النسب سبع. . الحديث" (2) .
هكذا قال ابن القيسراني: "كتاب الصدقات". قلت: ولعل الصواب: "كتاب اللباس" وسوف يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وإليك الآن أحاديث أحمد في صحيح البخاري:
1 - قال البخاري: وقال لنا أحمد بن حنبل: حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، حدثني: حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "حرم من النسب سبع ومن الصهر سبع. ثم قرأ:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (3) الآية (النساء: 23) .
فكما ترى قال البخاري: "قال لنا أحمد بن حنبل " ولم يقل: "حدثنا أو أخبرنا". قال أبو جعفر بن حمدان النيسابوري: "كل ما قال البخاري: قال لي فلان، فهو "عرض، ومناولة" (4) .
ولكن ابن حجر يقول: "هذا فيما قيل أخذه المصنف عن الإمام أحمد في المذاكرة أو الإجازة، والذي ظهر لي بالاستقراء أنه إنما استعمل هذه الصيغة في الموقوفات، وربما استعملها فيما فيه تصور ما عن شرطه، والذي هنا من الشق الثاني" (5) .
__________
(1) الذي في صحيح البخاري: ''وزادني أحمد'' هكذا غير منسوب. وسوف يأتي بيانه.
(2) الجمع بين رجال الصحيحين (1 \ 5) .
(3) سورة النساء الآية 23
(4) علوم الحديث لابن الصلاح (ص63) .
(5) فتح الباري (9 \ 154) .(25/297)
2 - وقال البخاري: حدثني ابن الحسن، حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال، حدثنا معتمر بن سليمان، عن كهمس، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: ست عشرة غزوة".
3 - وقال البخاري: حدثني محمد بن عبد الله الأنصاري قال: حدثني أبي، عن ثمامة، عن أنس: "أن أبا بكر لما استخلف كتب له، وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر: محمد: سطر، ورسول: سطر، والله: سطر".
قال أبو عبد الله: وزادني أحمد: حدثنا الأنصاري، قال: حدثني أبي، عن ثمامة، عن أنس قال: «كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم في يده، وفي يد أبي بكر بعده، وفي يد عمر بعد أبي بكر، فلما كان عثمان جلس على بئر أريس، قال: فأخرج الخاتم يعبث به، فسقط. قال: فاختلفنا ثلاثة أيام مع عثمان فننزح البئر، فلم نجده (1) » .
فكما ترى قال البخاري: "وزادني أحمد " هكذا غير منسوب، وقد تقدم جزم ابن القيسراني بأنه أحمد بن حنبل. قال الحافظ ابن حجر: " وأحمد المذكور جزم المزي في الأطراف أنه أحمد بن حنبل. لكن لم أر هذا الحديث في مسند أحمد من هذا الوجه أصلا".
قلت: ولهذا قال الذهبي، ومن بعده ابن حجر: إنه لا يوجد في صحيح البخاري عن أحمد إلا حديثين، كما تقدم قبل قليل. فلعله على اعتبار
__________
(1) أخرجه: البخاري، كتاب اللباس، باب هل يجعل نقش الخاتم ثلاثة أسطر؟ (10 \ 328) رقم (5878، 5879) . ولم أجد هذا الحديث في مسند الإمام أحمد.(25/298)
أن أحمد هذا هو غير أحمد بن حنبل. والله أعلم.
ثانيا: في صحيح مسلم:
روى الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه (20) حديثا فقط عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
ومن الأمثلة على حديث الإمام أحمد في صحيح مسلم:
1 - قال مسلم: حدثنا أحمد بن حنبل ومحمد بن رافع قال: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا: معمر، عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر أحاديث منها، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما قرية أتيتموها، وأقمتم فيها، فسهمكم فيها. وأيما قرية عصت الله ورسوله، فإن خمسها لله ولرسوله. ثم هي لكم (1) » .
2 - وقال مسلم: وحدثني أحمد بن حنبل، حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن ورقاء، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة (2) » .
ثالثا: في سنن أبي داود:
أكثر الإمام أبو داود عن الإمام أحمد بن حنبل حيث لازمه فترة طويلة، وبلغ عدد أحاديث الإمام أحمد في سنن أبي داود (220) حديثا. ولهذا
__________
(1) أخرجه: أحمد (2 \ 317) ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب حكم الفيء (3 \ 1376) رقم (1756) . وأبو داود: كتاب الخراج والإمارة، باب في إيقاف أرض السواد وأرض العنوة (3 \ 166) من طريق أحمد أيضا.
(2) أخرجه: أحمد (2 \ 455) ومن طرق أخرى (2 \ 331 و517 و531) ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب كراهية الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن (1 \ 493) رقم (710) . كما أخرجه: ابن ماجه (1151) وأبو داود (1266) من طريق أحمد وغيره. والترمذي (421) والنسائي (2 \ 116) . أما مواضع حديث أحمد في صحيح مسلم فهي: (1 \ 152 و197 و369 و409 و493) و (2 \ 933 و944) و (3 \ 1186 و1303 و1376 و1448 و1534 مرتين و1656) و (3 \ 186 و1688 و1649) و (4 \ 1804 و1882 و1903) .(25/299)
يعتبر أبو داود أكثر من روى عن الإمام أحمد بن حنبل من أصحاب الكتب الستة.
وإليك أمثلة على حديث الإمام أحمد في سنن أبي داود:
1 - قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، ثنا هشيم، أخبرنا سيار، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فلما ذهبنا لندخل قال: أمهلوا حتى ندخل ليلا، لكي تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة (1) » .
2 - قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العين حق (2) » .
تنبيه: قال الحافظ الذهبي: "روى أبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، عن رجل عنه".
قلت: جميع الأحاديث التي رواها أبو داود عن أحمد رواها بدون واسطة. والله تعالى أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
__________
(1) أخرجه: أحمد (3 \ 303) وهو في سنن أبي داود: كتاب الجهاد، باب في الطروق (3 \ 90) رقم (2778) . وأخرجه أيضا: البخاري رقم (5079) ومسلم (2 \ 1088) و (3 \ 1527) .
(2) الأحاديث التي ذكرت قبل قليل كأمثلة لحديث أحمد في صحيح مسلم تصلح أن تكون أيضا أمثلة لحديث أحمد في سنن أبي داود لأنه رواها من طريقه أيضا.(25/300)
"
فهرس المصادر والمراجع
"
1 - إعلام الموقعين عن رب العالمين: لابن القيم. ت. محمد محيي الدين عبد الحميد.
2 - الاغتباط بمعرفة من رمي بالاختلاط: لسبط ابن العجمي. الدار العلمية - الهند 1406 هـ.
3 - الأنساب: للسمعاني. دائرة المعارف العثمانية - حيدر أباد الدكن، الطبعة الأولى 1382هـ.
4 - البداية والنهاية: لابن كثير. مكتبة المعارف - بيروت. الطبعة الرابعة 1982م.
5 - التاريخ: ليحيى بن معين. ت. أحمد نور سيف. مركز البحث العلمي بجامعة الملك عبد العزيز. الطبعة الأولى 1399هـ.
6 - تاريخ الأدب العربي: لبروكلمان. دار المعارف بمصر. ترجمة عبد الحليم النجار.
7 - تاريخ بغداد: للخطيب البغدادي. مطبعة السعادة - مصر. الطبعة الأولى 1349هـ.
8 - تاريخ التراث العربي: لفؤاد سزكين. نشر جامعة الإمام محمد بن سعود. الطبعة الأولى 1403هـ.
9 - تاريخ دمشق: لابن عساكر. نشر مجمع اللغة العربية - دمشق.
10 - تحفة الأشراف: للمزي. الدار العلمية بالهند. الطبعة الأولى 1386هـ.
11 - تدريب الراوي: للسيوطي. طبعة المكتبة العلمية - المدينة المنورة 1379 هـ.
12 - تذكرة الحفاظ: للذهبي. حيدر آباد الدكن. الطبعة الثالثة 1375هـ.
13 - ترتيب أسماء الصحابة: لابن عساكر. مخطوط في جامعة الإمام محمد بن سعود برقم (4919) .
14 - ترجمة الإمام من "تاريخ الإسلام": للذهبي. دار الوعي بحلب. بدون تاريخ.
15 - توضيح الأفكار: للصنعاني. مطبعة السعادة - مصر. 1366هـ.
16 - تعجيل المنفعة: لابن حجر. دار المحاسن للطباعة - القاهرة. الطبعة الأولى 1386هـ.
17 - التقييد لمعرفة الرواة والسنن والمسانيد: لابن نقطة - حيدر آباد الدكن. الطبعة الأولى 1404هـ.
18 - التقييد والإيضاح: للعراقي. دار الحديث - بيروت. الطبعة الثانية 1405هـ.
19 - تهذيب التهذيب: لابن حجر. حيدر آباد الدكن. الطبعة الأولى 1325هـ.
20 - الجرح والتعديل: لابن أبي حاتم. حيدر آباد الدكن. الطبعة الأولى 1371هـ.
21 - حلية الأولياء: لأبي نعيم. دار الكتب العلمية. بيروت.
22 - خصائص المسند: لأبي موسى المديني. ت. أحمد شاكر في مقدمة المسند.
23 - الرد على الزنادقة والجهمية: لأحمد بن حنبل. ت. عبد الرحمن عميرة.
24 - الرسالة المستطرفة: للكتاني.
25 - الزهد: للإمام أحمد بن حنبل. ت. محمد السعيد زغلول. دار الكتاب العربي. الطبعة الأولى 1406هـ.
26 - سير أعلام النبلاء: للذهبي - مؤسسة الرسالة - بيروت. الطبعة الأولى 1401هـ.
27 - شذرات الذهب: لابن العماد الحنبلي. مكتبة القدس. الطبعة الأولى 1350هـ.
28 - شرح علل الترمذي: لابن رجب الحنبلي. ت. السامرائي. عالم الكتب. الطبعة الثانية 1405هـ.
29 - طبقات الحنابلة: مطبعة السنة المحمدية 1371هـ. تحقيق محمد حامد الفقي.
30 - طبقات الشافعية الكبرى: للسبكي. مطبعة عيسى البابي الحلبي - مصر - 1382هـ.
31 - العبر في خبر من غبر: للذهبي. ت. صلاح الدين المنجد. دائرة المطبوعات والنشر بالكويت.
32 - العلل: لعلي بن المديني. ت. محمد الأعظمي. المكتب الإسلامي - الطبعة الثانية 1980م.(25/301)
33 - العلل ومعرفة الرجال: لأحمد بن حنبل. ت. طلعت قوج. تركيا 1963 م.
34 - علوم الحديث: لابن الصلاح. ت. نور الدين عتر - حلب 1386 هـ.
35 - الفتاوى: لشيخ الإسلام ابن تيمية. مجموع ابن قاسم. نشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
36 - فتح الباري: المكتبة السلفية - المدينة المنورة. ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي.
37 - الفتح الرباني: أحمد البنا - دار الشهاب - القاهرة.
38 - فتح المغيث: للسخاوي. مصورة دار الكتب العلمية - بيروت.
39 - الفروسية: لابن القيم. مطبعة الأنوار - مصر - 1360هـ.
40 - فضائل الصحابة: لأحمد بن حنبل. ت. وصي الله بن محمد عباس. جامعة أم القرى 1403هـ.
41 - الفهرست: لابن النديم. دار المعرفة - بيروت - 1398هـ.
42 - فهرست ما رواه عن شيوخه: للإشبيلي. دار الآفاق الجديدة. الطبعة الثانية 1399هـ.
43 - قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة: لابن تيمية. إدارة ترجمان السنة. لاهور 1397 هـ.
44 - القول المسدد في الذب عن مسند أحمد: لابن حجر - حيدر آباد الدكن 1319 هـ.
45 - كشف الظنون: لحاجي خليفة - دار الفكر - بيروت 1402 هـ.
46 - الكواكب النيرات في معرفة من اختلط من الرواة الثقات: لابن كيال. ت - حمدي السلفي - 1401هـ.
47 - لسان الميزان: لابن حجر. دائرة المعارف العثمانية - حيدر آباد الدكن 1329 هـ.
48 - المحصل: للقرعاوي. دار العليان للنشر - بريدة. الطبعة الأولى 1405هـ.
49 - المسند: لأحمد بن حنبل. الطبعة الميمنية بالقاهرة 1313 هـ. مصدرة المكتب الإسلامي.
50 - المسند: لأحمد بن حنبل. ت. أحمد شاكر.
51 - المصعد الأحمد في ختم مسند الإمام أحمد: للجزري. ت. أحمد شاكر في مقدمة المسند.
52 - المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: لابن الجوزي. دائرة المعارف العثمانية - حيدر آباد. الطبعة الأولى 1358هـ.
53 - منهاج السنة النبوية: لابن تيمية مطبعة بولاق - مصر - 1321هـ.
54 - المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد: للعليمي. مطبعة المدني - القاهرة 1383 هـ.
55 - مناقب الإمام أحمد: لابن الجوزي. طبعة الخانجي - القاهرة 1349 هـ.
56 - الموضوعات: لابن الجوزي. المكتبة السلفية - المدينة المنورة 1386 هـ.
57 - ميزان الاعتدال: للذهبي. ت. علي البجاوي. الطبعة الاولى 1382هـ.
58 - النجوم الزاهرة: لابن تغري بردي. نشر وزارة الثقافة والإرشاد القومي بمصر. الطبعة الأولى 1393هـ.
59 - وفيات الأعيان: لابن خلكان. ت. إحسان عباس. دار الثقافة بيروت. 1388هـ.(25/302)
الحكمة من قطع يد السارق
أعده: عبد الله بن حمد بن عبد الله العبودي
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فمن المؤسف جدا أن بعض دعاة الضلال ومنكري الأحكام الشرعية أو المستهزئين بحدود الله التي حدها يسخرون بقطع يد السارق ويرون أن القطع فيه جفوة وغلظة، وإتلاف لعضو من أعضاء الإنسان، وأن ذلك لا يتناسب مع الجريمة؛ إذ به يصير عضوا أشل وعالة على مجتمعه في نظرهم الخاطئ القاصر.
ومما لا شك فيه ولا ريب أن هذا الاعتقاد ناشئ عن الغفلة عن معنى الجريمة، وعن آثارها الضارة الكثيرة المترتبة عليها، بل عن عدم الإيمان الكامل بمعرفة من وضع الأحكام وحد الحدود؛ إذ لو عرف القائل لمثل هذا الكلام الدين الحنيف معرفة تامة، وعرف ما اشتملت عليه أحكامه من منافع جمة، ووقف على حقيقة العلل الشرعية التي لأجلها جعلت هذه العقوبات، وعلم ما يترتب على إقامة هذا الحد الشرعي الذي شرعه أحكم الحاكمين لما قال مثل هذا الكلام.
وبناء على ذلك رأيت أن من الواجب أن أساهم بجهد المقل بكلمة أبين فيها بعضا من حكمة التشريع الإلهي والحكمة من إقامة الحدود، ثم الحكمة من قطع يد السارق؛ تأدية لبعض ما يجب علينا بيانه، وقياما بحق النصيحة في الإسلام، راجيا من الله الهداية والتوفيق والإعانة، والثبات على الحق لي ولجميع المسلمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(25/303)
حكمة التشريع الإلهي
من المعلوم أن الشرائع السماوية يقصد بها عدة أمور من أهمها أربعة، هي:
الأول: معرفة الله وتوحيده وتمجيده ووصفه بصفات الكمال وتنزيهه عما لا يليق بجلاله وعظمته.
الثاني: معرفة كيفية أداء عبادته المحتوية على تعظيمه وشكر نعمه التي لا تعد ولا تحصى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} (1) .
الثالث: الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتحلي بالأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة، والمزايا التي تسمو بالمرء إلى مراتب الشرف والرفعة.
الرابع: إيقاف المتعدي عند حده بوضع الأحكام المقررة في المعاملات والحدود والعقوبات والزواجر والتعزيرات الرادعة لمن يخالف ما قرره الشرع في ذلك.
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 34(25/304)
الحكمة من إقامة الحدود
إن الله سبحانه وتعالى وإن كان قد جعل لمن يرتكب الذنوب والآثام، ويعمل المعاصي عقابا يوم القيامة، إلا أن ذلك لا يمنع أهل الشر وأصحاب النفوس الضعيفة عن ارتكاب ما يضر بالمصلحة العامة والخاصة في الحياة الدنيا.
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم
وأيضا فإن من الناس من له قوة وسلطان لا يقدر المظلوم الضعيف(25/304)
على أخذ حقه منه وبذلك تضيع الحقوق ويعم الفساد.
وهدف الشريعة الإسلامية من فرض العقوبة هو إصلاح النفوس وتهذيبها والعمل على سعادة الجماعة البشرية؛ ذلك لأن للإسلام في العقاب رأيا ينفرد به.
من أجل ذلك وضع الله الحدود وضعا شرعيا كافلا لراحة البشر في كل زمان ومكان؛ حتى يكون الناس في مأمن وتمتنع الجرائم التي ترتكب، فكل فعل سيئ يحدث في الأرض لا يمكن إصلاحه إلا بالعقوبة.
فالعقوبة إذا مصلحة للمجتمع، وليس في الشريعة ما يمنع من أن تكون أسباب المصالح مفاسد فيؤمر بها أو تباح لا لكونها مفاسد، بل لكونها مؤدية إلى المصالح، بل إن دفع الضرر مقدم على جلب المنافع.
يقول العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام: (ربما كانت أسباب المصالح مفاسد فيؤمر بها أو تباح، لا لكونها مفاسد، بل لكونها مؤدية إلى المصالح، وذلك كقطع الأيدي المتآكلة حفظا للأرواح، وكالمخاطرة بالأرواح في الجهاد، وكذلك العقوبات الشرعية كلها ليست مطلوبة لكونها مفاسد، بل لكون المصلحة هي المقصودة من شرعها كقطع يد السارق وقاطع الطريق، وقد سميت مصالح من قبيل المجاز بتسمية السبب باسم المسبب) (1) .
ويقول في موضع آخر منها: (الأطباء يدفعون أعظم المرضين بالتزام بقاء أدناهما، ويجلبون أعلى السلامتين والصحتين ولا يبالون بفوات أدناهما، وأن الطب كالشرع وضع لجلب مصلحة السلامة والعافية ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام، ولدرء ما أمكن درؤه من ذلك ولجلب ما أمكن.
__________
(1) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، جزء (1) ، ص 12.(25/305)
فالعقوبات شرعت لمصلحة تعود إلى كافة الناس) (1) .
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (إن الله أوجب الحدود على مرتكبي الجرائم التي تتقاضاها الطباع، وليس عليها وازع طبيعي، والحدود عقوبات لأرباب الجرائم في الدنيا كما جعلت عقوبتهم في الآخرة بالنار إذا لم يتوبوا، ثم إن الله تعالى جعل التائب من الذنب كمن لا ذنب له، فمن لقيه تائبا توبة نصوحا لم يعذبه مما تاب منه) (2) ويقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: (شرعت العقوبات رحمة من الله تعالى بعباده، فهي صادرة عن رحمة الخلق وإرادة الإحسان إليهم، ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة بهم كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض) (3) .
ويقول الدهلوي رحمه الله تعالى في كتابه حجة الله البالغة: (اعلم أن من المعاصي ما شرع الله فيه الحد وذلك كل معصية جمعت وجوها من المفسدة، بأن كانت فسادا في الأرض واقتضابا على طمأنينة المسلمين، وكانت لها داعية في نفوس بني آدم لا تزال تهيج فيها، ولها ضراوة لا يستطيع الإقلاع منها بعد أن أشربت قلوبهم بها وكان فيه ضرر لا يستطيع المظلوم دفعه عن نفسه في كثير من الأحيان، وكان كثير الوقوع فيما بين الناس، فمثل هذه المعاصي لا يكفي فيها الترهيب بعذاب الآخرة، بل لا بد من إقامة ملامة شديدة عليها وإيلام ليكون بين أعينهم ذلك فيردعهم عما يريدونه. ثم مثل ببعض المعاصي، إلى أن قال: وكالسرقة؛ فإن الإنسان كثيرا ما لا يجد كسبا صالحا فينحدر إلى السرقة
__________
(1) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، جزء (1) ، ص 4.
(2) أعلام الموقعين، جزء (3) ، ص 156.
(3) اختيارات ابن تيمية، ص 593.(25/306)
ولها ضراوة في نفوسهم، ولا تكون إلا اختفاء بحيث لا يراه الناس) .(25/307)
حرمة التعدي على المال وأثر قطع يد السارق
اهتم الإسلام بالأموال اهتماما عظيما وحماها حتى جعل المال شقيق الروح ومساويا لها في الحرمة؛ فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه (1) » . وقال أيضا في خطبته المشهورة: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا (2) » رواه البخاري (3) .
فحمى المال من أن تمتد إليه أيدي العابثين وتطلعات الطامعين، فهددهم بالويل والثبور وعظائم الأمور حبسا أو قطعا أو قتلا أو صلبا أو تشريدا.
{ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (4) (المائدة 33) .
كما نهى سبحانه وتعالى عن كل ما يجر إلى أكل أموال الناس بالباطل، فحرم التعامل بالربا وجعله من أكبر الكبائر؛ لما يجلبه من الأحقاد والضغائن، وحرم المقامرة والرشوة ونحوهما، وحرم أكل أموال اليتامى والضعفاء وأكل صداق المرأة إلا ما طابت به نفسها.
وجملة القول: إن الاعتداء على أموال الناس بأي وجه من الوجوه حرام، سواء كان عن طريق الكذب أو التحايل أو المماطلة والنصب، أو جحد العارية، والغش في المعاملة، وأكل الأجور ومنعها أصحابها، إلى غير ذلك مما يستحله أصحاب النفوس الضعيفة.
وفي مقدمة هذه الكبائر جريمة السرقة التي نهى عنها الإسلام وحذر
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564) ، مسند أحمد بن حنبل (2/277) .
(2) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/371) .
(3) جـ8، ص 82 من صحيح البخاري.
(4) سورة المائدة الآية 33(25/307)
منها، وتحريمها ثابت في كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وإجماع السلف الصالح، وليس هذا محل تفصيله.
وقد رتب الله سبحانه وتعالى عليها حد قطع اليد؛ مما يدل على أن فاعلها قد ارتكب كبيرة من الكبائر، وفعل جرما؛ فقال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) .
فقد نصت هذه الآية الكريمة على أن عقوبة السارق قطع يده، ولا خلاف بين الفقهاء ممن يعتد بقولهم في أن المراد بالقطع في الآية الكريمة {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (2) هو إبانة اليد وإزالتها؛ لأن لفظ القطع موضوع لها حقيقة لتبادرها منه، والتبادر إمارة الحقيقة كما هو مقرر عند علماء اللغة:
قال ابن منظور في كتابه لسان العرب (3) (القطع إبانة بعض أجزاء الجسم من بعض فصلا، والقطع مصدر قطعت الحبل قطعا، والأقطع المقطوع اليد، ويد قطعاء أي مقطوعة) .
والأحاديث الشريفة والآثار الصحيحة تؤيد هذا المعنى وتدل عليه، وليس هذا مكان ذكرها.
والآن نأتي إلى الحكمة من قطع يد السارق، فنقول: إن مما لا شك فيه أن قطع اليد في السرقة عقوبة لها أثرها في القضاء على هذه الجريمة.
والشريعة الإسلامية المحكمة تهدف من وراء ذلك إلى حماية الجماعة وحفظها حتى تقضي قضاء تاما على خطر يهدد الناس في أموالهم، وما يتبع ذلك من ترويع وإذلال. فلقد أحكم الشارع الحكيم وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجناية وشرعها على أكمل الوجوه، مع عدم مجاوزة
__________
(1) سورة المائدة الآية 38
(2) سورة المائدة الآية 38
(3) انظر لسان العرب، جزء (10) ، ص 149.(25/308)
ما يستحقه الجاني من عقاب حتى يكون العقاب مكافئا للجريمة، ولم يترك تحديد العقاب على السرقة إلى اجتهاد أو نظر أو رأي جماعة؛ لما في ذلك من التناقض الذي لا تؤمن عاقبته ولا يضمن فيه تحقيق العدالة التي يجد الناس فيها أمانا من الظلم والقهر، بل إن من رحمته سبحانه وتعالى بعباده ورأفته بهم أن تكفل بتقرير العقوبات على الخطير من الجرائم حتى تحفظ الضروريات الخمس التي هي حفظ النفس، وحفظ الدين، وحفظ النسل، وحفظ العرض، وحفظ المال، وجعل لكل جريمة عقوبة تناسب ما قد يخفى علينا تعقلها ومعرفة الحكمة منها.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في هذا المعنى ما نصه:
(فلما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات، وكان من المعلوم أن الناس لو وكلوا على عقولهم في معرفة ذلك، وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنسا ووضعا وقدرا لذهبت بهم الآراء كل مذهب، وتشعبت بهم الطرق كل مشعب، ولعظم الاختلاف واشتد الخطب، فكفاهم أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين مؤنة ذلك، وأزال عنهم كلفته، وتولى بحكمته وعدله ورحمته تقديره نوعا وقدرا، ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة وما يليق بها من النكال) (1) اهـ.
فالإسلام في أهدافه السامية معني بتوفير الحياة الكريمة والعيش المطمئن، ولا يكون ذلك إلا بحماية الفضيلة، والقضاء على الفساد والرذيلة، وكل ما شأنه أن يدنس واجهة الإسلام التي أرادها نقية ناصعة، ولما كانت الغاية السامية تبرر الوسيلة الحازمة، وأن القسوة والشدة ليست شرا دائما، كان من العدل الضرب بشدة على يد من لا يراعي مصلحة الجماعة،
__________
(1) انظر أعلام الموقعين لابن قيم الجوزية، جزء (2) ، ص 96.(25/309)
ومن لا يرحم الناس لا يرحمه الله، فالعدل كل العدل أن يعاقب من يستحق العقاب، وليس أجدر بذلك النوع من العقاب إلا المجرمون الذين تقتضي طبيعة جرائمهم أن تتم في الخفاء الذي يترك الرهبة والرعب الشديد في نفوس الناس.
وقد قال الله تعالى بعد تقرير عقوبة السرقة: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} (1) .
فإن هذا النص يدل على أن العقوبة مكافئة ومساوية للجريمة بكل آثارها الناتجة عنها، مما تحدثه السرقة من ترويع وإفساد، وكل ما يمكن السارق من تحقيق مأربه، ولو أدى ذلك إلى القتل، فإن طبيعة السارق موسومة بالشراهة والنهم، فلا يهمه إلا ما يحصل عليه من أموال الناس، من أجل ذلك شدد الشارع في تلك العقوبة حتى يردع الإثم ويطمئن الأمن.
ولما كانت العقوبة مرتبة على ما تشيعه السرقة من خوف واضطراب، بدليل أن الشارع قطع يد السارق في ربع دينار، كما قطع يد سارق الأكثر. ولو كان القطع على ذات الفعل لتفاوتت العقوبة في كل منهما) (2) .
يقول العز بن عبد السلام في قواعده: (إن السرقتين استويتا في المفسدتين، وما ذلك إلا بأثرهما على الجماعة وإلا فإنه لا وجه لتساويهما كما هو ظاهر، وقد جعل الله تلك العقوبة نكالا تمنع الغير من ارتكاب السرقة اعتبارا بما وقع للسارق المقطوعة يده من شدة وحزم. وإن مادة النكال من نكل بفلان إذا صنع به صنعا يحذر منه غيره إذا رآه، ومنه قول الله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} (3) أي عبرة.
__________
(1) سورة المائدة الآية 38
(2) مكافحة جريمة السرقة في الإسلام، ص 204.
(3) سورة البقرة الآية 66(25/310)
ولا عبرة أعظم من قطع يد السارق في السرقة يفتضح بها صاحبها طول حياته، ويوسم بميسم الخزي والعار يلاحقه حتى مماته) (1) .
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى (2) :
(ومن المعلوم أن عقوبة الجناة والمفسدين لا تتم إلا بمؤلم يردعهم ويجعل الجاني نكالا وعظة لمن يريد أن يفعل مثل فعله، وعند هذا فلا بد من إفساد شيء منه بحسب جريمته في الكبر والصغر والقلة والكثرة) .
ويقول العز بن عبد السلام في قواعده الفقهية: (من أمثلة الأفعال المشتملة على المصالح والمفاسد مع رجحان مصالحها على مفاسدها قطع يد السارق؛ فإنه إفساد لها ولكنه زاجر حافظ لجميع الأموال، فقدمت مصلحة حفظ الأموال على مفسدة قطع يد السارق) (3) اهـ.
ومن الحكمة في قطع اليد ما قاله الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره حيث قال:
{جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} (4) هذا تعليل للحد، أي: اقطعوا أيديهما جزاء لهما بعملهما وكسبهما السيئ، ونكالا وعبرة لغيرهما، فالنكال مأخوذ من النكل وهو (بالكسر) قيد الدابة، ونكل عن الشيء عجز أو امتنع لمانع صرفه عنه.
فالنكال هنا ما ينكل الناس ويمنعهم أن يسرقوا، ولعمر الحق أن قطع اليد الذي يفضح صاحبه طول حياته ويسمه بميسم الذل والعار وهو أجدر العقوبات بمنع السرقة وتأمين الناس على أموالهم، وكذا على أرواحهم؛ لأن الأرواح كثيرا ما تتبع الأموال، إذا قاوم أهلها السراق عند العلم بهم، إلى أن قال: فهو سبحانه يضع الحدود والعقوبات بحسب
__________
(1) جزء (1) ، ص 40.
(2) إعلام الموقعين، جزء (2) ، ص 103.
(3) جزء (1) ، ص 116.
(4) سورة المائدة الآية 38(25/311)
الحكمة التي توافق المصلحة) (1) .
وقال الدهلوي في معرض كلامه على السرقة وما يتعلق بها ما نصه: (وقال صلى الله عليه وسلم في سارق: «اقطعوه ثم احسموه» أقول: إنما أمر بالحسم لئلا يسري فيهلك؛ فإن الحسم سبب عدم السراية. وأمر عليه السلام باليد فعلقت في عنق السارق، أقول: إنما فعل هذا للتشهير وليعلم الناس أنه سارق) (2) اهـ. أما الفقهاء رحمهم الله تعالى فلم يتعرضوا في كتبهم في الغالب لعلة الحكم الشرعي أو حكمة تشريعه، بل جل اهتمامهم بذكر الأحكام فقط، اللهم إلا بالنزر القليل الذي يأتي في معرض الكلام كقول السرخسي من جملة كلامه على قوله عليه الصلاة والسلام في حق السارق: «اذهبوا به فاقطعوه (3) » : (فيه دليل على أن القطع للزجر، لا للإتلاف؛ لأنه أمر بالحسم بعد القطع، وهو دواء وإصلاح يتحرز به عن الإتلاف، وفيه دليل على أن التطهير لا يحصل بالحد إذا كان مصرا على ذلك، ولأنه خزي ونكال، وإنما التطهير والتكفير به في حق التائب) .
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى تحت عنوان " لماذا قطعت يد السارق ولم يقطع فرج الزاني"؟:
فصل: وأما معاقبة السارق بقطع يده وترك معاقبة الزاني بقطع فرجه ففي غاية الحكمة والمصلحة، وليس في حكمة الله تعالى ومصلحة خلقه وعنايته ورحمته بهم أن يتلف على كل جان كل عضو عصاه به، فيشرع قلع عين من نظر إلى المحرم، وقطع أذن من استمع إليه، ولسان من تكلم به، ويد من لطم غيره عدوانا، ولا خفاء بما في هذا من الإسراف والتجاوز في العقوبة، وقلب مراتبها. وأسماء الرب الحسنى وصفاته العليا
__________
(1) تفسير المنار، جزء (6) ، ص 380.
(2) حجة الله البالغة، الجزء الثاني، ص 123.
(3) سنن النسائي قطع السارق (4877) .(25/312)
وأفعاله الحميدة تأبى ذلك.
وليس مقصود الشرع مجرد الأمن من المعاودة ليس إلا، ولو أريد هذا لكان قتل صاحب الجريمة فقط، وإنما المقصود الزجر والنكال والعقوبة على الجريمة، وأن يكون إلى كف عدوانه أقرب، وأن يعتبر به غيره، وأن يحدث له ما يذوقه من الألم توبة نصوحا، وأن يذكره ذلك بعقوبة الآخرة، إلى غير ذلك من الحكم والمصالح.
ثم إن في حد السرقة معنى آخر، وهو أن السرقة إنما تقع من فاعلها سرا كما يقتضيه اسمها، ولهذا يقولون: فلان ينظر إلى فلان مسارقة. إذا كان ينظر إليه نظرا خفيا لا يريد أن يفطن له، والعازم على السرقة مختف كاتم خائف أن يشعر بمكانه فيؤخذ به، ثم هو مستعد للهرب والخلاص بنفسه إذا أخذ الشيء.
واليد للإنسان كالجناحين للطائر في إعانته على الطيران، ولذلك يقال: وصلت جناح فلان إذا رأيته يسير منفردا فانضممت إليه لتصحبه، فعوقب السارق بقطع اليد قصا لجناحه، وتسهيلا لأخذه إن عاود السرقة، فإذا فعل به هذا في أول مرة بقي مقصوص أحد الجناحين ضعيفا في العدو، ثم يقطع في المرة الثانية رجله فيزداد ضعفا في عدوه، فلا يكاد يفوت الطالب، ثم تقطع يده الأخرى في الثالثة ورجله الأخرى في الرابعة، فيبقى لحما على وضم، فيستريح ويريح اهـ) .
ويقول في موضع آخر: (وأما القطع فجعله عقوبة مثله عدلا، وعقوبة السارق فكانت عقوبته به أبلغ وأردع من عقوبته بالجلد، ولم تبلغ جناية حد العقوبة بالقتل فكان أليق العقوبات به إبانة العضو الذي(25/313)
جعله وسيلة إلى أذى الناس، وأخذ أموالهم، ولما كان ضرر المحارب أشد من ضرر السارق وعدوانه أعظم ضم إلى قطع يده قطع رجله ليكف عدوانه وشر يده التي بطش بها، ورجله التي سعى بها، وشرع أن يكون ذلك من خلاف؛ لئلا يفوت عليه منفعة الشق بكماله، فكف ضرره وعدوانه، ورحمه بأن بقى له يدا من شق ورجلا من شق) (1) .
ويقول رحمه الله تعالى في موضع آخر: (فصل، وأما قطع يد السارق في ثلاثة دراهم وترك قطع المختلس والمنتهب والناصب فمن تمام حكمة الشارع أيضا، فإن السارق لا يمكن الاحتراز منه فإنه ينقب الدور، ويهتك الحرز ويكسر القفل، ولا يمكن صاحب المتاع الاحتراز بأكثر من ذلك، فلو لم يشرع قطع لسرق الناس بعضهم بعضا وعظم الضرر، واشتدت المحنة بالسراق، بخلاف المنتهب والمختلس فإن المنتهب هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس، فيمكنهم أن يأخذوا على يديه، ويخلصوا حق المظلوم، أو يشهدوا له عند الحاكم) (2) .
وقال عبد الرحمن الحريري: (حد السرقة من الحدود الثابتة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، فذكر الله تعالى حده في الآية الكريمة، وأمر بقطع يد السارق ذكرا كان أو أنثى، عبدا أو حرا، مسلما أو غير مسلم؛ صيانة للأموال وحفظا لها، ولقد كان قطع يد السارق معمولا به في الجاهلية قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام أقره وزاد عليه شروطا معروفة) (3) إلى أن قال: (ولهذا علل الله تعالى قطع اليد في السرقة بقوله عز وجل: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} (4)
أي تقطع مجازاة على صنعها السيئ في أخذهم أموال الناس بأيديهم
__________
(1) إعلام الموقعين للإمام ابن القيم، ص 84.
(2) إعلام الموقعين للإمام ابن القيم، ص 44.
(3) كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، تأليف عبد الرحمن الحريري - المجلد الخامس، ص 153.
(4) سورة المائدة الآية 38(25/314)
فناسب أن يقطع العضو الذي استعانا به على ذلك {نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} (1) أي تنكيلا من الله بهما على ارتكاب ذلك الفعل، وعبرة لغيرهما، فإن قطع اليد يفضح صاحبه طول حياته، ويجلب له الخزي والعار، ويسقطه في نظر المجتمع، وهو أجدر العقوبات بمنع السرقة، وتأمين الناس على أموالهم وأرواحهم وأعراضهم.
وها هنا سؤال معروف، وهو أن قطع اليد فيه إتلاف لعضو من أعضاء الإنسان، وذلك لا يتناسب مع الجريمة إذا كانت يسيرة، فإن أقل ما تقطع فيه اليد عشرة دراهم والعقوبة شديدة. وهذا الكلام منشؤه الغفلة عن معنى الجريمة، وعن الآثار الضارة المترتبة عليها، فإنك قد عرفت أن هذه الجريمة من أشد الجرائم خطورة، فإذا فشت السرقة بين الناس فقد هددوا في أموالهم وأعراضهم وأنفسهم كما ذكرنا، وأصبحت حياتهم مريرة لا فائدة منها، فإن السارق كالحيوان المفترس الذي يفتك بكل ما يلاقيه، فجريمته يجب أن تقابل بالقسوة المتناهية كي ينقطع دابرها من بين الناس بتاتا، فإذا تخيل شخص أن العقوبة شديدة فإنه يجب أن يعلم أن فظاعة الجريمة وآثارها في المجتمع أشد وأنكى.
ثم إن العقوبات لم توضع إلا لزجر فاسدي الأخلاق، وهؤلاء لا ينزجرون بالرفق واللين بدون نزاع، فإذا لم تتمثل أمامهم شدة العقوبة فإنهم لا ينزجرون أبدا) (2) .
وقال الشيخ علي أحمد الجرجاوي أحد علماء الأزهر - ما نصه: (حكمة عقاب السارق) :
(إن الذين لم يفقهوا هذا الدين الحنيف الذي جاء شاملا كاملا لكل منفعة لبني الإنسان، ولم يقفوا على حقيقة العلل الشرعية التي لأجلها جعلت العقوبات متنوعة في الشدة. هؤلاء يقولون: إن عقاب السارق بهذا الشكل مضر ببني الإنسان وليس فيه مصلحة للأمة.
__________
(1) سورة المائدة الآية 38
(2) كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، تأليف عبد الرحمن الحريري - المجلد الخامس، ص 191.(25/315)
وهذا القول منقوض مردود، وهو وهم وليس من الحكمة في شيء، ولأجل أن نوقف هؤلاء الناقدين والطاعنين على الإسلام في وجوب العقاب هكذا نبين لهم بقدر الإمكان ضرر السرقة، ثم نكل إلى ذوي العقول منهم الحكم بعد ذلك.
أولا: إن المرء يكد ويكدح في هذه الحياة طلبا للرزق وما يقوم به أود حياته، إما بفلح الأرض واستثمارها فيصهر جلده لعاب الشمس في الصيف، ويهري أطرافه الزمهرير في الشتاء، وهكذا من المشاق التي يعانيها الفلاح المسكين كما هو مشاهد لنا برأي العين. وإما بالسفر مشيا على القدمين أو ركوبا على الدابة، معرضا نفسه للوحوش الضارية والسباع الكاسرة في فسيح الفلوات وبين الجبال والوهاد، يترقب الخطر كل لحظة وأخرى، والطامة الكبرى إذا فقد الزاد فإنه يقع بين خطرين عظيمين، وهما فقد الأمن والزاد، وفي هذه الحالة يكون الموت والهلاك منه قاب قوسين أو أدنى، هذا مع بعد المسافات واحتمال الحر والبرد. وإما بركوب السفن فيكون دائما معرضا للخطر إذا هبت الرياح الهوج وهاج البحر واضطرب وجرت السفينة في موج كالجبال، خصوصا إذا كان البر بعيدا والقاع عميقا في المحيطات الكبرى الفسيحة اللجج والغمرات. وقد يكون الريح ساكنا فتتعطل السفينة إذا لم تكن بخارية وتطول الشقة ويفنى الزاد. وهكذا من وعثاء السفر.
وإما بالاتجار في البضائع وهو في بلده، فيوما يربح ويوما يخسر، وآونة يفقد رأس المال، وهو في كلتا الحالتين يبقى دائما في همين: هم وقوع الخسارة إذا لم يربح، أو فقد رأس المال، فهو دائما في كد وكدح وهم ونصب، وإما بمباشرة الصناعة التي تهد الجبال وتفني الجسد، وإما بالخدمة في الحكومة أو غيرها، فهو دائما في تعب وذل لسطوة الرؤساء وغطرستهم وعقابهم إياه؛ أهمل أو لم يهمل. بل لمجرد الصولة والسطوة، وربما كان(25/316)
عقابه قطع راتبه شهرا أو أقل أو أكثر، أو الرفث في بعض الأوقات، فيكون الضرر أعظم كما لا يخفى، وهلم جرا من الأعمال التي يعانيها الإنسان في سبيل الكسب، والتي يعرض لأجلها روحه على الموت، والتي تدعو أرباب الأعمال في كثير من الأحايين إلى الإضراب عن العمل وتوقف الحركة، فيختل النظام ويجرد الحسام كما هو واقع في الشرق والغرب.
ثانيا: أن هذه الأموال التي يكتسبها الإنسان بالكد والكدح تصرف إما للقوت، وهو قوام الحياة، وإما على الملبس وعليه وقاية الجسد. وإما لإعانة الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، واليتامى، والمرضى، وذوي البيوتات التي لا يحصى عددها، الذين أضنى عليهم الدهر. وقل ما شئت في وجوه الصرف التي لا يحصى عددها، والتي عليها قوام الحياة، ونظام هذا الكون.
فيجتهد الإنسان هذا الاجتهاد في الكسب لهذه الأغراض الشريفة، ثم يأتي اللص فيسلبه ثمرة أتعابه سلبا هو في الحقيقة تقويض لدعائم العمران والأمن العام للأسباب التي سلفت.
ثالثا: إن اللص قد يسرق سلبا ونهبا بالإغارة على الناس وهم آمنون في ديارهم، فيزعجهم ويقلق راحتهم، وربما أدت الحالة إلى إراقة الدماء فتذهب الأرواح وتيتم الأطفال وترمل النساء، كما هو الحال في بلاد الأرياف وبعض المدن.
رابعا: إن السارق إذا تعود السرقة مالت نفسه إلى الكسل والبطالة، فتتعطل حركة الأعمال ويحل بالعالم النكال والوبال، ويأكل الناس بعضهم بعضا لجلب ما يحتاجون إليه من ضرورات الحياة.
إذا عرفت هذا عرفت أن اللص عضو فاسد في جسم الأمة يجب تلافي شره.
ومن حكمة الشارع أنه جعل العقوبة على الجارحة التي استعان بها على السرقة، وهي اليد التي تناول بها المسروق، والرجل التي سعى بها(25/317)
ليسرق، فإذا ما شاهد الناس سارقا أو سارقة في الطريق بهذا الشكل ارتعدت فرائصهم من لفظ سرق - يسرق - سارق - مسروق، فضلا عن مباشرة السرقة فعلا، ولنام الناس في بيوتهم وهي مفتحة الأبواب، وكذا خزائن الأموال، ولا حارس لهم إلا عدل هذا الشارع الحكيم، ولخلت السجون من اللصوص، ولما احتاجت الحكومات إلى إتعاب الفكر في إيجاد أنجع الطرق والوسائل التي تقطع دابر اللصوص، ولما احتاجت للجند والشرطة اللهم إلا لعدو في الحرب أو طارق، لا للص وسارق.
والحكمة في قطع الرجل عند العودة، والحبس إذا تكررت السرقة من السارق، هو أن الإبقاء على اليد والرجل يمكنه الارتزاق بقدر الإمكان، فلا يكون عولا على الناس؛ إذ المراد من القطع هو لأجل الاتعاظ والعقوبة، أما العقوبة فقد حصلت، وأما الاتعاظ فهو يحصل بالقطع إذا رأوه الناس) (1) .
وعن أهمية قطع يد السارق وتنفيذ هذه العقوبة حسبما أمر به الشرع يقول عبد القادر عودة ما نصه:
(ثانيا: القطع - أساس القطع: الأصل في القطع قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} (2) .
وعقوبة القطع لا يجوز العفو عنها لا من المجني عليه ولا من رئيس الدولة، ولا يجوز أن تستبدل بها عقوبة أخرى أخف منها، والأصل في ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تجافوا العقوبة فيما بينكم، فإذا انتهى بها إلى الإمام فلا عفا الله عنه إن عفا» . كذلك لا يجوز تأخير تنفيذ
__________
(1) انظر كتاب حكمة التشريع وفلسفته - الجزء الثاني من صفحة 295 - 299، الطبعة الرابعة.
(2) سورة المائدة الآية 38(25/318)
العقوبة أو تعطيلها، وهذه المبادئ متفق عليها.
وقال في موضع آخر: (وعلة فرض عقوبة القطع للسرقة أن السارق حينما يفكر في السرقة إنما يفكر أن يزيد كسبه بكسب غيره، فهو يستصغر ما يكسبه عن طريق الحلال، ويريد أن ينميه عن طريق الحرام، وهو لا يكتفي بثمرة عمله فيطمع في ثمرة عمل غيره، وهو يفعل ذلك ليزيد من قدرته على الإنفاق، أو الظهور ليرتاح من عناء الكد والعمل، أو ليأمن على مستقبله، فالدافع الذي يدفع إلى السرقة ويرجع إلى هذه الاعتبارات وهو زيادة الكسب أو زيادة الثراء.
وقد حاربت الشريعة الإسلامية هذا الدافع في نفس الإنسان بتقرير عقوبة القطع؛ لأن قطع اليد أو الرجل يؤدي إلى نقص الكسب؛ إذ اليد والرجل كلاهما أداة العمل أيا كان، ونقص الكسب يؤدي إلى نقص الثراء، وهذا يؤدي إلى نقص القدرة على الإنفاق وعلى الظهور، ويدعو إلى شدة الكدح وكثرة العمل والتخوف الشديد على المستقبل.
فالشريعة الإسلامية بتقريرها عقوبة القطع دفعت العوامل النفسية التي تدعو لارتكاب الجريمة بعوامل نفسية مضادة تصرف عن جريمة السرقة، فإذا تغلبت العوامل النفسية الداعية، وارتكب الإنسان جريمة مرة كان في العقوبة والمرارة التي تصيبه منها ما يغلب العوامل النفسية الصارفة، فلا يعود للجريمة مرة ثانية.
ذلك هو الأساس الذي قامت عليه عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية، وإنه لعمري خير أساس قامت عليه عقوبة السرقة من يوم نشأة(25/319)
عالمنا حتى الآن. وإنه السر في نجاح عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية قديما. وهو السر الذي جعلها تنجح نجاحا باهرا في الحجاز في عصرنا هذا، فتحوله من بلد كله فساد واضطراب ونهب وسرقات إلى بلد كله نظام وسلام وأمن وأمان.
لقد كان الحجاز قبل أن تطبق فيه الشريعة الإسلامية أخيرا أسوأ بلاد العالم أمنا، فكان المسافر إليه أو المقيم فيه لا يأمن على نفسه وماله وعياله ساعة من ليل، بل ساعة من نهار، بالرغم مما له من قوة وما معه من عدة، وكان معظم السكان لصوصا وقطاعا للطرق، فلما طبقت الشريعة أصبح الحجاز خير بلاد العالم كله أمنا، يأمن فيه المسافر والمقيم، وتترك فيه الأموال على الطرقات دون حراسة، فلا تجد من يسرقها أو يزيلها من مكانها على الطريق حتى يأتي الشرطة فيحملونها إلى حيث يقيم صاحبها) (1) .
ويقول السيد سابق في معرض كلامه عن حد السرقة وحكمة التشديد في العقوبة فيها:
(وشدد في السرقة فقضى بقطع يد السارق التي من شأنها أن تباشر السرقة، وفي ذلك حكمة بينة؛ إذ إن اليد الخائنة بمثابة عضو مريض يجب بتره ليسلم الجسم، والتضحية بالبعض من أجل الكل مما اتفقت عليه الشرائع والعقول، كما أن في قطع يد السارق عبرة لمن تحدثه نفسه بالسطو على أموال الناس، فلا يجرؤ أن يمد يده إليها، وبهذا تحفظ الأموال وتصان. يقول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) .
إلى أن قال: (والحكمة في تشديد العقوبة في السرقة دون غيرها من
__________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي، جزء (1) ، ص 652 و653.
(2) سورة المائدة الآية 38(25/320)
جرائم الاعتداء على الأموال هي ما جاء في شرح مسلم للنووي: قال القاضي عياض رضي الله عنه: (صان الله الأموال بإيجاب القطع على السارق، ولم يجعل ذلك في غير السرقة كالاختلاس والانتهاب والغصب؛ لأن ذلك قليل بالنسبة إلى السرقة، ولأنه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمور، وتسهل إقامة البينة عليه بخلاف السرقة؛ فإنها تندر إقامة البينة عليها، فعظم أمرها واشتدت عقوبتها؛ ليكون أبلغ في الزجر عنها) (1) .
ويقول أحمد الحصري: (وقد أجمع المسلمون على وجوب قطع يد السارق دون نكير ممن يعتد بآرائهم وأفكارهم) .
المعقول: قال الشافعية: المال من أهم دعائم الحياة فيجب الحفاظ عليه من أن تعبث به أيدي اللصوص، ويجب أن يأمن الناس على أموالهم حتى تستقر أمورهم وتنتظم حياتهم، ولقد وردت السنة تفيد وتؤكد وجوب الدفاع عن المال واعتبار من يموت دفاعا عن ماله أنه مات في سبيل الله.
ولهذا كان لا بد للشارع الحكيم من أن يشرع من العقوبات ما يحفظ بها المال من الضياع ويؤمن أصحاب الأموال على أموالهم حتى تسير أمور المسلمين على خير حال، فكانت عقوبة السرقة عقوبة رادعة زاجرة مؤكدة تصميم الشارع على عدم ترك العابثين يعبثون دون ردع وزجر، فكانت العقوبة هي قطع اليد الآثمة السارقة.
وقد حاول الزنادقة والمغرضون من أعداء الإسلام التشكيك على الشريعة في الفرق بين دية اليد إذا اعتدي عليها من إنسان، وبين وجوب قطعها عقوبة على سرقة دراهم معدودة، فقال أبو العلاء المعري:
يد بخمس مئين عسجد وديت ... ما بالها قطعت في ربع دينار
وأجابه القاضي عبد الوهاب المالكي بقوله:
__________
(1) فقه السنة، جـ 2، نشر دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ص 485.(25/321)
وقاية النفس أغلاها وأرخصها ... ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
وهذا الرد هو جواب بديع مع الاختصار، ومعناه أن اليد لو كانت تودى بما قطع فيه لكثرت الجنايات على الأطراف؛ لسهولة الغرم في مقابلتها، لكن الشارع الحكيم وقاية للنفوس غلظ الغرم على الأطراف حفظا لها.
قال ابن الجوزي: وقد سئل عن شدة العقوبة في السرقة في مقابل مال زهيد، بينما اليد التي تقطع عقوبة لهذه الجريمة قيمتها لو اعتدي عليها يزيد أضعافا مضاعفة على قيمة المسروق الذي تقطع فيه، قال: لما كانت اليد أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت) اهـ.
ويقول الدكتور محمد فاروق النبهان: (أود أن أشير إلى أن حد القطع هو حد من حدود الله أريد به حماية المجتمع من أخطار من يهددون أمنه واستقراره، فالسرقة جريمة من الجرائم الأساسية التي يعاني منها مجتمعنا المعاصر، وكم سقطت ضحايا نتيجة هذه الجريمة الشرسة التي لم تستطع القوانين الجزائية المعاصرة أن تضع حدا لها، بل إن الإحصائيات تشير إلى أن هذه الجرائم تزداد مع الزمن، ولا تختص بالمجتمعات المتخلفة والفقيرة، وإنما هي ظاهرة نجدها بصورة أكثر شراسة ووحشية في المجتمعات المتقدمة والغنية، حيث نجد العصابات الإرهابية تأخذ طابعا مميزا في جرائمها الوحشية التي تأنف منها إنسانية الإنسان.
وإن الذين يتباكون على اليد المقطوعة التي روعت المجتمع بجرائمها أولى بهم يرون أن يتباكوا أيضا على الضحايا الذين يسقطون بالمئات نتيجة أعمال النهب والسلب في كل مجتمع من المجتمعات المعاصرة، ويد واحدة تقطع على ملأ من الناس كفيلة بردع كل مجرم، وزجر كل من تسول له نفسه أن يتخذ من السرقة بابا من أبواب الرزق.(25/322)
وإذا كان علماء القانون الجزائي يضعون النظريات المثالية التي يستدرون بها الدموع، ويستجدون بها العواطف على المجرمين، فأولى بهؤلاء أن ينظروا ولو مرة واحدة إلى الجرائم المروعة الدامية التي تحل بالآمنين المطمئنين من السكان الذين استسلموا وألقوا سلاحهم اعتمادا على الأمن والاستقرار والحماية التي توفرها أجهزة الأمن لهم من خلال التشريعات الجزائية الواقية.
وقطع يد السارق هي عقوبة من الله، فأولى بالبشر أن يتمسكوا بهذه العقوبة الرادعة الزاجرة التي ما أريد بها إلا حماية المجتمع وحماية أمنه واستقراره.
ولتكف الأعين الدامعة أسى وحزنا على المجرمين، وإذا كان المجرم يستحق نظرة رحمة وشفقة فإن البريء بدون شك هو أحوج لهذه النظرة البريئة) .
ويقول ابن مودود في الاختيار ما خلاصته:
(المال محبوب إلى النفوس، تميل إليه الطباع البشرية، ومن الناس من لا يردعه عقل ولا يمنعه نقل، ولا تزجرهم الديانة، أو تردهم المروءة والأمانة. فلولا الزواجر الشرعية لبادروا إلى أخذ أموال الناس، وفي ذلك من الفساد ما لا يخفى، فناسب شرع هذا الزاجر الذي هو القطع في السرقة) حسما لباب الفساد، وإصلاحا لأحوال العباد، فهذا المعتدي الذي ترك ما أباح الله تعالى له، واستحسنه الناس من المكاسب الشريفة التي تعود عليه وعلى مجتمعه بالصالح العام، فأقدم على أموال الناس بغير حق، وأفزعهم وأخافهم، يناسبه في العقوبة أن تقطع يده؛ فإن الثواب والعقاب يكونان من جنس العمل في قدر الله وفي شرعه، وهذا من العدل(25/323)
الذي تقوم به السماء والأرض، ولهذا حكم سبحانه وتعالى بقطع يد السارق، فجعله عقوبة مثلة عدلا، فكانت عقوبته به أبلغ وأردع من عقوبته بالجلد (أو السجن) فأليق العقوبات به إبانة العضو الذي جعله وسيلة إلى أذى الناس وأخذ أموالهم) .
ويقول أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن البخاري في كتابه محاسن الإسلام وشرائع الإسلام، حينما تكلم عن محاسن الحدود وتكلم عن كل حد قال:
(وأما حد السرقة فالحسن فيه صيانة أموال المسلمين عن التلف، وصيانة السارق عن السرقة، فإن من سرق أسرف إذا حصل له مال مجموع غير مكسوب، فإن السرقة إنما تنشأ من لؤم الطبيعة وخبث الطينة، وسوء ظنه بالله تعالى، وترك الثقة بضمان الله تعالى، وترك الاعتماد على قسم الله تعالى. قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (1) .
وقال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} (2) .
فجوزي لهذه الأنواع من الجناية.
وآخر: إن مالك المال يعتمد عصمة الله تعالى في حال نومه وغفلته وغيبته، والسارق ينتهز هذه الفرصة ولا يبالي من هذه العصمة، فجازاه الله بقطع العصمة من آلة الجناية، وهي اليد؛ فإنه بها يتمكن من السرقة في غالب أحواله. ثم الحسن فيه أن جوزي بالقطع لا بالقتل؛ لأنه فوت على المالك بعض المنافع، فيجازى بتفويت بعض المنافع) . . . وهكذا.
وخلاصة ما تقدم في البحث ما يلي:
__________
(1) سورة هود الآية 6
(2) سورة الذاريات الآية 23(25/324)
أن الله لما خلق الإنسان وفضله وكرمه على سائر خلقه فقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} (1) .
وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (2) .
فقد أنزل سبحانه وتعالى من الأحكام على يد رسله الذين اختارهم واصطفاهم، وكان الهدف من هذه الأحكام هو المحافظة على الإنسان الذي كرمه على سائر خلقه، كما تهدف أيضا إلى المحافظة على الأرواح والأموال والأعراض والعقول وغيرها من مقاصد تنظيم المجتمع تنظيما دقيقا ناجحا، ومن هذه الأغراض والمقاصد الأساسية التي تهدف إليها الشريعة الغراء المحافظة على مال الإنسان ونفسه.
ولذلك فقد شرع سبحانه حد السرقة، وهو (قطع يد السارق) ؛ لأن السرقة تؤدي إلى إتلاف المال وضياعه، والمال مخلوق لوقاية النفس والمحافظة عليها، فكانت الحكمة من شرعية حد السرقة هي المحافظة على المال، وعلى النفس، وعلى العرض، كما أن السرقة إذا انتشرت في قوم سادهم الخوف والقلق وعدم الاستقرار، وإذا سادت هذه الأشياء مجتمعا من المجتمعات فلن يصلح حاله ولن يتقدم مهما كانت أسباب التقدم فيه، ولقد خلق الله المال حماية للإنسان. يقول تعالى:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (3) .
ويقول الشاعر في المال:
أصون عرضي بمالي لا أدنسه ... لا بارك الله بعد العرض في المال
ولا يمكن المحافظة على النفس، أو العقل، أو النسل إلا به. لذا كانت
__________
(1) سورة ق الآية 16
(2) سورة الإسراء الآية 70
(3) سورة البقرة الآية 29(25/325)
ضرورته للحياة ملحة، وكان مقصدا شرعيا لتضامن الأدلة على حفظه ورعايته، قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} (1) .
والسارق لما أخذ مال غيره خفية وظلما وانتهبه بغيا وعدوانا، وكان أكبر مساعد له على فعله اليد التي امتدت لأخذه وانبسطت لسلبه، وتحركت لاغتياله ونهبه، كانت أحق بالعقوبة دون سائر الجوارج؛ لذلك أوجب الله قطعها؛ لأن بها البطش والسطو، زجرا واعتبارا كيلا تمتد يد لسرقة، ولا تحدث نفس صاحبها بها أصلا؛ لأنه إذا علم أنه إن سرق بترت يمينه وشوهت بنيته، ونقصت خلقته، وصار مثلا يضرب، وعارا يذكره الناس به إذا مشى، ونكاية وزجرا لغيره، وامتنع عن مجرد التفكير فيها. فلأجل هذا أوجب الدين الإسلامي قطع يد السارق ليكون ذلك ردعا ومنعا من هذه الفعلة الشنيعة، وقطعا لدابر من تسول لهم أنفسهم بإخافة المجتمع وتعكير صفوه.
وباستقراء ما سبق وتأمله نكاد نستخلص من حكم حد قطع اليد ما يلي:
1 - أنه لا يجوز تعديلها ولا العفو عنها متى علم بها الحاكم الشرعي، ولا يجوز تأخير تنفيذها إلا بمسوغ شرعي، يدل على ذلك أنه عليه الصلاة والسلام لم يقبل الشفاعة في المخزومية التي سرقت وقال مقالته المشهورة: «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها (2) » متفق عليه.
2 - هذه العقوبة وهذا الجزاء فيه الردع والمنع لنفس الجاني ولغيره من الجناة الذين يفكرون في فعل مماثل لفعله، فحينما يرى السارق
__________
(1) سورة النساء الآية 5
(2) هذا من حديث رواه البخاري في باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان، جـ (8) ، ص 16، باب 12، وكذا رواه مسلم في باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود جـ (5) ، ص 114.(25/326)
يده قد قطعت، ويرى الآخرون ذلك ماثلا بين أعينهم، يكون ذلك مانعا قويا من الجريمة مهما كانت.
3 - الجزاء الذي ذكره الله لا يتم إلا بالقطع، والنكال لا يتم إلا برؤية اليد المقطوعة.
4 - في القطع إظهار السارق بين الملأ بمظهر ينبئ عن خسته ودنائته، وينفر المجتمع منه، وليعرف من يراه أنه مجرم، ومن ثم يحذر منه ومن أن يفعل مثل فعله، ويكون عبرة أمام غيره ممن تسول لهم نفوسهم ارتكاب هذا الذنب العظيم.
وعلى العموم فإن الحدود كما قال عنها بعض العلماء: إنما شرعت زواجر وروادع، بمعنى أن إقامتها تجعل الناس ينزجرون ويرتدعون عن الجرائم ويتجنبونها خشية أن تلحقهم تلك العقوبة، وربما استند هؤلاء العلماء إلى بعض النصوص المقترنة بذكر العلة أو حكمة التشريع؛ كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (1) . وكقوله تعالى في حد الحرابة: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (2) .
كما أن من العلماء من يرى أن الحدود جوابر، بمعنى أن من اقترف جريمة من جرائمها ثم أقيم عليه الحد، فإن إقامة الحد تعتبر كفارة لجريمته إذا تاب، ويستند هؤلاء أيضا إلى بعض النصوص الواردة في ذلك، مثل ما رواه البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال: «كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين
__________
(1) سورة البقرة الآية 179
(2) سورة المائدة الآية 33(25/327)
أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن فعل شيئا من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له (1) » . . . الحديث ومثل ما رواه مسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه من حديث المرأة الجهنية التي قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر في شأنها: «إنها تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم (2) » ومثل نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن شتم المحدود حينما قالوا: أخزاك الله. فقال لهم رسول الهدى والرحمة: «لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان (3) » رواه البخاري.
ويظهر والله أعلم أن الحدود تعتبر زواجر وجوابر في وقت واحد: فمن النفوس من لا يرتدع إلا بالعقوبة، ومنها من لا تؤثر فيه العقوبة أبلغ من تأثير الوعد الحسن، ولذلك نستطيع أن نقول: إن الحدود شرعت للغايتين الآتيتين:
أ - تزجر الناس وتردعهم عن اقتحام الجرائم، والنفس البشرية مجبولة على الابتعاد عن الإيلام والإيجاع. فإذا عرفت أن مقارفة الجريمة ستفضي إلى نزول العقوبة بها، كفت عن الإجرام.
ب - وهي أيضا تجبر ما ينثلم من دين المرء الذي اقتحم المعصية ثم عوقب عليها بالحد في الدنيا، لكن هذه الغاية وهذا التكفير والجبر إنما تتحقق لمن تاب وندم على ما اقترف.
هذا قليل من كثير، بل نقطة من بحر فيما جاء في الحكمة والغاية من إقامة حد السرقة الذي شرعه أحكم الحاكمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. والله أعلم.
__________
(1) رواه البخاري في باب الحدود كفارة، جـ 8، ص 15 ورواه مسلم في باب الحدود كفارات لأهلها، جـ5، ص 127.
(2) في الحدود - في باب من اعترف على نفسه بالزنى من صحيح مسلم جـ (5) ، ص 12.
(3) من حديث رواه البخاري في باب الضرب بالجريد والنعال، جـ 8، ص 14.(25/328)
مصادر البحث
1 - اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية: من منشورات المؤسسة السعيدية بالرياض.
2 - أعلام الموقعين: الإمام ابن القيم، تحقيق عبد الرحمن الوكيل، طباعة دار الكتب الحديثة، شارع الجمهورية بعابدين.
3 - الاختيار لابن مودود: نقلا عن رسالة السرقة وأحكامها في الفقه الإسلامي، تأليف سليمان بن محمد الربعي عام 1404هـ.
4 - التشريع الجنائي: عبد القادر عودة، الطبعة الثانية، مكتبة دار العروبة شارع الجمهورية بالقاهرة.
5 - الحدود والأشربة في الفقه الإسلامي: تأليف أحمد الحصري، أستاذ الفقه المقارن بالجامعة الأردنية، نشر مكتبة الأقصى، عمان.
6 - الفقه على المذاهب الأربعة: تأليف عبد الرحمن الحريري، الطبعة الأولى، دار الفكر ببيروت.
7 - المبسوط لشمس الدين السرخسي: الطبعة الثالثة، دار المعرفة للطباعة والنشر ببيروت، لبنان.
8 - حجة الله البالغة للشيخ أحمد المعروف بشاه ولي الله المحدث الدهولي: الطبعة الأولى بالمطبعة الخيرية لصاحبها عمر حسين الخشاب عام 1322هـ.
9 - حكمة التشريع الإلهي وفلسفته: للشيخ علي الجرجاوي، الطبعة الرابعة.
10 - رسالة السرقة وأحكامها في الفقه الإسلامي بحث لنيل درجة الماجستير، تأليف سليمان بن محمد الربعي 1404 هـ.
11 - سنن الترمذي: تحقيق وتصحيح عبد الوهاب عبد اللطيف، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت.
12 - صحيح البخاري: المكتبة الإسلامية محمد أوزدمير استامبول، تركيا.
13 - صحيح مسلم: توزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
14 - فقه السنة: للسيد سابق، نشر دار الكتاب العربي ببيروت، لبنان.
15 - قواعد الأحكام: لأبي محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
16 - لسان العرب: لابن منظور، دار صابر للطباعة، بيروت 1956 م.
17 - مباحث في التشريع الجنائي الإسلامي للدكتور محمد فاروق النبهان، نشر وكالة المطبوعات بالكويت ودار العلم ببيروت، لبنان.
18 - محاسن الإسلام وشرائع الإسلام: لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن البخاري، نشر دار العربي، بيروت، لبنان.
19 - مكافحة جريمة السرقة في الإسلام: تأليف خليفة البراهيم الصالح الزرير، الطبعة الأولى، نشر مكتبة المعارف بالرياض.(25/329)
عدم جواز وصف الميت بأنه مغفور له أو مرحوم
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأما بعد:
فقد كثر الإعلان في الجرائد عن وفاة بعض الناس، كما كثر نشر التعازي لأقارب المتوفين، وهم يصفون الميت فيها بأنه مغفور له أو مرحوم أو ما أشبه ذلك من كونه من أهل الجنة، ولا يخفى على كل من له إلمام بأمور الإسلام وعقيدته بأن ذلك من الأمور التي لا يعلمها إلا الله، وأن عقيدة أهل السنة والجماعة أنه لا يجوز أن يشهد لأحد بجنة أو نار إلا من نص عليه القرآن الكريم كأبي لهب، أو شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كالعشرة من الصحابة ونحوهم، ومثل ذلك في المعنى الشهادة له بأنه مغفور له أو مرحوم، لذا ينبغي أن يقال بدلا منها: غفر الله له أو رحمه الله أو نحو ذلك من كلمات الدعاء للميت.
وأسأل الله سبحانه أن يهدينا جميعا سواء السبيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(25/330)
تعقيب وتوضيح
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
بعنوان (من أجل أن نكون أقوى أمة) عن صفات الله
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد.
فقد اطلعت على ما نشر في صحيفة الشرق الأوسط في عددها 3283 الصادر في 3 \ 4 \ 1408 هـ بقلم الدكتور محيي الدين الصافي بعنوان (من أجل أن نكون أقوى أمة) .
وقد لفت نظري ما ذكره عن اختلاف السلف والخلف في بعض صفات الله، وهذا نص كلامه:
(إلا أنه وردت في القرآن الكريم آيات تصف الله تعالى ببعض صفات المخلوقين، من مثل قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (1) {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (2) {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3) ، وللعلماء في فهم هذه الآيات طريقتان: الأولى طريقة السلف، وهي: أن نثبت لله تعالى ما أثبت لنفسه، ولكن من غير تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل، واضعين نصب أعينهم عدم تعطيل الذات الإلهية عن الصفات، مع جزمهم بأن ظاهر هذه الآيات غير مراد، وأن الأصل تنزيه الله تعالى عن كل ما يماثل المخلوقين؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (4) .
أما طريقة الخلف، فهي: تأويل هذه الكلمات وصرفها عن ظاهرها إلى المعنى، فتكون اليد بمعنى القدرة، والوجه بمعنى الذات، والاستواء
__________
(1) سورة الفتح الآية 10
(2) سورة القصص الآية 88
(3) سورة طه الآية 5
(4) سورة الشورى الآية 11(25/331)
بمعنى الاستيلاء والسيطرة ونفوذ الأمر؛ لأنه قام الدليل اليقيني على أن الله ليس بجسم، ولقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) .
وكل من الطريقتين صحيحة، مذكورة في الكتب المعتمدة للعلماء الأعلام. إلخ.
وقد أخطأ - عفا الله عنا وعنه - في نسبته للسلف (جزمهم بأن ظاهر هذه الآيات غير مراد) فالسلف رحمهم الله، ومن سار على نهجهم إلى يومنا هذا، يثبتون لله ما أثبته لنفسه من صفات الكمال، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ويعتقدون حقيقتها اللائقة بجلاله من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، ولا تأويل لها عن ظاهرها ولا تفويض.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة الفتوى الحموية ما نصه: (روى أبو بكر البيهقي في الأسماء والصفات بإسناد صحيح عن الأوزاعي قال: كنا - والتابعون متوافرون - نقول: إن الله - تعالى ذكره - فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من الصفات، فقد حكى الأوزاعي، وهو أحد الأئمة الأربعة في عصر تابعي التابعين، الذين هم: مالك إمام أهل الحجاز، والأوزاعي إمام أهل الشام، والليث إمام أهل مصر، والثوري إمام أهل العراق، حكى شهرة القول في زمن التابعين بالإيمان بأن الله تعالى فوق العرش، وبصفاته السمعية، وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور مذهب جهم المنكر لكون الله فوق عرشه، والنافي لصفاته؛ ليعرف الناس أن مذهب السلف كان يخالف هذا.
وروى أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن الأوزاعي قال: سئل مكحول والزهري عن تفسير الأحاديث فقالا: أمروها كما جاءت. وروي أيضا عن الوليد بن مسلم قال: سألت مالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي عن الأخبار التي جاءت في الصفات فقالوا:
__________
(1) سورة الشورى الآية 11(25/332)
أمروها كما جاءت، وفي رواية قالوا: أمروها كما جاءت بلا تكييف. وقولهم رضي الله عنهم: أمروها كما جاءت رد على المعطلة، وقولهم: بلا كيف رد على الممثلة.
والزهري ومكحول هما أعلم التابعين في زمانهما، والأربعة الباقون أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين، ومن طبقاتهم حماد بن زيد، وحماد بن سلمة وأمثالهما) إلى أن قال رحمه الله: (وروى الخلال بإسناد كلهم أئمة ثقات عن سفيان بن عيينة، قال: سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) .
كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ المبين، وعلينا التصديق. وهذا الكلام مروي عن مالك بن أنس تلميذ ربيعة بن أبي عبد الرحمن من غير وجه، (ومنها) ما رواه الشيخ الأصبهاني وأبو بكر البيهقي عن يحيى بن يحيى قال: كنا عند مالك بن أنس، فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء، ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وما أراك إلا مبتدعا. فأمر به أن يخرج.
فقول ربيعة ومالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، موافق لقول الباقين: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة، ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله، لما قالوا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول. ولما قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوما، بل يكون مجهولا بمنزلة حروف المعجم، وأيضا فإنه لا
__________
(1) سورة طه الآية 5
(2) سورة طه الآية 5(25/333)
يحتاج إلى نفي علم الكيفية؛ إذ لم يفهم عن اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات.
وأيضا فإن من ينفي الصفات الخبرية أو الصفات مطلقا لا يحتاج إلى أن يقول: بلا كيف، فمن قال: إن الله ليس على العرش، لا يحتاج أن يقول: بلا كيف، فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر، لما قالوا: بلا كيف، وأيضا فقولهم: أمروها كما جاءت يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه؛ فإنها جاءت ألفاظا دالة على معان، فلو كانت دلالتها منفية لكان الواجب أن يقال: أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة، وحينئذ تكون قد أمرت كما جاءت ولا يقال حينئذ: بلا كيف، أو نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول) اهـ.
فهذا هو مذهب السلف في هذه المسألة، وهو واضح في أنهم يثبتون لله سبحانه ما أثبته لنفسه في كتابه من صفات الكمال، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه، وأن ما تدل عليه الآيات والأحاديث الصحيحة مراد ومفهوم، ولكنهم لا يؤولونها ولا يكيفونها، بل يكلون علم الكيفية لله سبحانه، ويعتقدون تنزيه الله سبحانه عن مماثلة المخلوقين، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) وكما قال عز وجل: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (2) ، {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (3) .
أما قوله: (أما طريقة الخلف فهي تأويل هذه الكلمات وصرفها عن ظاهرها) إلى قوله: (وكل من الطريقتين صحيحة مذكورة في الكتب المعتمدة للعلماء الأعلام) اهـ. أقول: هذا خطأ عظيم، فليست كلتا الطريقتين صحيحة، بل الصواب أن طريقة السلف هي الصحيحة، وهي
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة الإخلاص الآية 4
(3) سورة النحل الآية 74(25/334)
الواجبة الاتباع؛ لأنها عمل بالكتاب والسنة، وتمسك بما درج عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان من التابعين، ومن تبعهم من الأئمة الأعلام، وفيها تنزيه الله سبحانه وتعالى عن صفات النقص بإثبات صفات الكمال، وتنزيه الله سبحانه عن صفات الجمادات والناقصات والمعدومات، وهذا هو الحق، أما تأويلها على ما يقول علماء الخلف من أصحاب الكلام فهو خلاف الحق، وهو تحكيم للعقل الناقص، وقول على الله بلا علم، وفيه تعطيل الله جل وعلا من صفات الكمال، فهم فروا من التشبيه المتوهم في أذهانهم ووقعوا في التعطيل الذي هو في الحقيقة تشبيه لله سبحانه بالجمادات والمعدومات والناقصات كما تقدم، وتجريد له سبحانه من صفات الكمال التي وصف بها نفسه، أو وصفه بها رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام، ونص عليها سبحانه في كتابه الكريم، وتمدح بها إلى عباده، وأرسل بها أفضل رسله وخاتم أنبيائه، وفطر عليها الخلق.
ولو أن هؤلاء المتكلمين المتأولين ساروا على مذهب السلف الصالح، وأثبتوا لله صفات الكمال على الوجه اللائق بالله سبحانه، واكتفوا بنفي التكييف والتمثيل لأصابوا الحق، وفازوا بالسلامة من مخالفة الرسل، وتحكيم العقول التي لم تحط به علما.
والخلاصة: أن مذهب السلف هو الحق الذي يجب اتباعه والقول به، وأما ما ذهب إليه بعض علماء الخلف من تأويل نصوص صفات الله جل وعلا فهو باطل، مخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما عليه سلف الأمة.
فالواجب العدول عنه، والوقوف عند نصوص الكتاب والسنة وإثبات ما أثبتته ونفي ما نفته، مع الإيمان بأن ما دلت عليه من المعاني حق ثابت لله سبحانه، لا يشابهه فيه أحد من خلقه كما تقدم.
وقوله: (قام الدليل اليقيني على أن الله ليس بجسم) هذا الكلام لا دليل عليه؛ لأنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة وصف الله سبحانه بذلك أو(25/335)
نفيه عنه، فالواجب السكوت عن مثل هذا؛ لأن مأخذ صفات الله جل وعلا توقيفي، لا دخل للعقل فيه، فيوقف عند حد ما ورد في النصوص من الكتاب والسنة. وبهذا يتضح خطأ قول الدكتور محيي الدين الصافي ما نصه: (لذا فإن علينا أن نتفق أن من ذهب من علماء المسلمين في العالم الإسلامي الآن إلى الأخذ بإحدى الطريقتين فهو على صواب) إلى آخر ما قال؛ لأن الحق كما ذكرنا هو ما ذهب إليه السلف رحمهم الله، وما خالفه يعتبر باطلا يجب تركه وبيان بطلانه وإظهار الحق للناس، وهو من التعاون على البر والتقوى، ومن إنكار المنكر، ومن الدعوة إلى الحق.
والله المسئول أن يوفقنا وجميع المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه، والسير على ما دل عليه كتاب الله العزيز وسنة رسوله الناصح الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، وعلى ما درج عليه سلف الأمة في باب أسماء الله وصفاته وفي جميع أبواب الدين، وأن يوفق أخانا الدكتور محيي الدين الصافي للرجوع إلى الحق والتمسك به وترك ما خالفه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(25/336)
من قرارات المجمع الفقهي الإسلامي
القرار الأول
حكم الماسونية والانتماء إليها
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فقد نظر المجمع الفقهي الإسلامي في قضية الماسونية والمنتسبين إليها وحكم الشريعة الإسلامية في ذلك.
وقد قام أعضاء المجمع بدراسة وافية عن هذه المنظمة الخطيرة، وطالع ما كتب عنها من قديم وجديد، وما نشر عن وثائقها نفسها فيما كتبه ونشره أعضاؤها وبعض أقطابها من مؤلفات، ومن مقالات في المجلات التي تنطق باسمها.
وقد تبين للمجمع بصورة لا تقبل الريب من مجموع ما اطلع عليه من كتابات ونصوص ما يلي:
1 - إن الماسونية منظمة سرية تخفي تنظيمها تارة وتعلنه تارة بحسب ظروف الزمان والمكان، ولكن مبادئها الحقيقية التي تقوم عليها هي سرية في جميع الأحوال، محجوب علمها حتى على أعضائها إلا خواص الخواص الذي يصلون بالتجارب العديدة إلى مراتب عليا فيها.(25/337)
2 - إنها تبني صلة أعضائها بعضهم ببعض في جميع بقاع الأرض على أساس ظاهري للتمويه على المغفلين، وهو الإخاء الإنساني المزعوم بين جميع الداخلين في تنظيمها، دون تمييز بين مختلف العقائد والنحل والمذاهب.
3 - إنها تجتذب الأشخاص إليها ممن يهمها ضمهم إلى تنظيمها بطريق الإغراء بالمنفعة الشخصية، على أساس أن كل أخ ماسوني مجند في عون كل أخ ماسوني آخر في أي بقعة من بقاع الأرض، يعينه في حاجاته وأهدافه ومشكلاته، ويؤيده في الأهداف إذا كان من ذوي الطموح السياسي، ويعينه إذا وقع في مأزق من المآزق، أي كان على أساس معاونته في الحق والباطل ظالما أو مظلوما، وإن كانت تستر ذلك ظاهريا بأنها تعينه على الحق لا الباطل، وهذا أعظم إغراء تصطاد به الناس من مختلف المراكز الاجتماعية، وتأخذ منهم اشتراكات مالية ذات بال.
4 - إن الدخول فيها يقوم على أساس احتفال بانتساب عضو جديد تحت مراسم وأشكال رمزية إرهابية لإرهاب العضو إذا خالف تعليماتها والأوامر التي تصدر إليه بطريق التسلسل في الرتبة.
5 - إن الأعضاء المغفلين يتركون أحرارا في ممارسة عباداتهم الدينية، وتستفيد من توجيههم وتكليفهم في الحدود التي يصلحون لها، ويبقون في مراتب دنيا، أما الملاحدة أو المستعدون للإلحاد فترتقي مراتبهم تدريجيا في ضوء التجارب والامتحانات المتكررة للعضو على حسب استعدادهم لخدمة مخططاتها ومبادئها الخطيرة.
6 - إنها ذات أهداف سياسية ولها في معظم الانقلابات السياسية والعسكرية والتغيرات الخطيرة ضلع وأصابع ظاهرة أو خفية.(25/338)
7 - إنها في أصلها وأساس تنظيمها يهودية الجذور ويهودية الإدارة العليا العالمية السرية وصهيونية النشاط.
8 - إنها في أهدافها الحقيقية السرية ضد الأديان جميعا لتهديمها بصورة عامة وتهديم الإسلام في نفوس أبنائه بصورة خاصة.
9 - إنها تحرص على اختيار المنتسبين إليها من ذوي المكانة المالية أو السياسية أو الاجتماعية أو العلمية، أو أية مكانة يمكن أن تستغل نفوذا لأصحابها في مجتمعاتهم، ولا يهمها انتساب من ليس لهم مكانة يمكن استغلالها، ولذلك تحرص كل الحرص على ضم الملوك والرؤساء والوزراء وكبار موظفي الدولة ونحوهم.
10 - إنها ذات فروع تأخذ أسماء أخرى تمويها وتحويلا للأنظار لكي تستطيع ممارسة نشاطاتها تحت مختلف الأسماء إذا لقيت مقاومة لاسم الماسونية في محيط ما، وتلك الفروع المستورة بأسماء مختلفة من أبرزها منظمة الأسود (الليونز) والروتاري - إلى غير ذلك من المبادئ والنشاطات الخبيثة التي تتنافى كليا مع قواعد الإسلام وتناقضه مناقضة كلية.
وقد تبين للمجمع بصورة واضحة العلاقة الوثيقة للماسونية باليهودية الصهيونية العالمية، وبذلك استطاعت أن تسيطر على نشاطات كثير من المسئولين في البلاد العربية وغيرها في موضوع قضية فلسطين، وتحول بينهم وبين كثير من واجباتهم في هذه القضية المصيرية العظمى لمصلحة اليهود والصهيونية العالمية.
لذلك ولكثير من المعلومات الأخرى التفصيلية عن نشاط الماسونية وخطورتها العظمى وتلبيساتها الخبيثة وأهدافها الماكرة؛ يقرر المجمع الفقهي اعتبار الماسونية من أخطر المنظمات الهدامة على الإسلام والمسلمين، وإن من ينتسب إليها على علم بحقيقتها وأهدافها فهو كافر بالإسلام، مجانب(25/339)
لأهله، لكن الأستاذ الزرقاء أصر على إضافة جملة (معتقدا جواز ذلك) فيما بين جملة (علم بحقيقتها وأهدافها) وبين جملة (فهو كافر. .) وذلك كيما ينسجم الكلام مع حكم الشرع في التمييز بين من يرتكب الكبيرة من المعاصي مستبيحا لها، وبين من يرتكبها غير مستبيح، فالأول كافر والثاني عاص فاسق.
والله الموفق(25/340)
القرار الثاني
مناشدة حكام الدول العربية والإسلامية
بتطبيق الشريعة الإسلامية
لقد تدارس مجلس المجمع الفقهي واقع الدول العربية والإسلامية المؤلم، وما تعانيه من تفكك، وما ابتليت به من نأي عن الأخذ بأسباب العز والسعادة، وإعراض عن تطبيق الشريعة الإسلامية، وزهد في تعاليمها، وانصياع إلى تطبيق قوانين مستوردة ما أنزل الله بها من سلطان.
وقرر مجلس المجمع أن من أهم واجباته أن يكتب إلى ملوك ورؤساء الدول العربية والإسلامية رسائل يدعوهم ويناشدهم فيها إلى أن يبادروا إلى تطبيق الشريعة الإسلامية التي تكفل لهم بالتزامها عز الدنيا وسعادة الآخرة، ويحصل لهم بالاستمساك بها النصر على الأعداء، والظفر بالأمن والطمأنينة، والخلاص من المصائب التي يعانون منها نتيجة لإعراضهم عن تحكيمها (ويتم إرسال هذه الرسائل وفقا للصيغة المرفقة) .
نائب الرئيس
رئيس مجلس المجمع الفقهي
عبد العزيز بن باز
اللواء محمود شيت خطاب(25/341)
القرار الثالث
حكم الشيوعية والانتماء إليها
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد:
فإن مجلس المجمع الفقهي درس فيما درسه من أمور خطيرة (موضوع الشيوعية والاشتراكية) وما يتعرض له العالم الإسلامي من مشكلات الغزو الفكري على صعيد كيان الدول، وعلى صعيد نشأة الأفراد وعقائدهم، وما تتعرض له تلك الدول والشعوب معا من أخطار تترتب على عدم التنبه إلى مخاطر هذا الغزو الخطير.
ولقد رأى المجمع الفقهي أن كثيرا من الدول في العالم الإسلامي تعاني فراغا فكريا وعقائديا، خاصة أن هذه الأفكار والعقائد المستوردة قد أعدت بطريقة نفذت إلى المجتمعات الإسلامية وأحدثت فيها خللا في العقائد وانحلالا في التفكير والسلوك؛ وتحطيما للقيم الإنسانية وزعزعة لكل مقومات الخير في المجتمع، وإنه ليبدو واضحا جليا أن الدول الكبرى على اختلاف نظمها واتجاهها قد حاولت جاهدة تمزيق شمل كل دولة تنتسب للإسلام؛ عداوة له وخوفا من امتداده ويقظة أهله؛ لذا ركزت جميع الدول المعادية للإسلام على أمرين مهمين، هما العقائد والأخلاق.
ففي ميدان العقائد شجعت كل من يعتنق المبدأ الشيوعي المعبر عنه مبدئيا عند كثيرين بالاشتراكية، فجندت له الإذاعات والصحف والدعايات البراقة والكتاب المأجورين، وسمته حينا بالحرية وحينا بالتقدمية وحينا بالديمقراطية، وغير ذلك من الألفاظ، وسمت كل ما يضاد ذلك من إصلاحات ومحافظة على القيم والمثل السامية والتعاليم الإسلامية رجعية وتأخرا وانتهازية ونحو ذلك.
وفي ميدان الأخلاق دعت إلى الإباحية(25/342)
واختلاط الجنسين، وسمت ذلك أيضا تقدما وحرية، فهي تعرف تمام المعرفة أنها متى قضت على الدين والأخلاق فقد تمكنت من السيطرة الفكرية والمادية والسياسية، وإذا تم ذلك لها تمكنت من السيطرة التامة على جميع مقومات الخير والإصلاح، وصرفتها كما تشاء، فانبثق عن ذلك الصراع الفكري والعقائدي والسياسي، وقامت بتقوية الجانب الموالي لها وأمدته بالمال والسلاح والدعاية، حتى يتمركز في مجتمعه ويسيطر على الحكم، ثم لا تسأل عما يحدث بعد ذلك من تقتيل وتشريد وكبت للحريات وسجن لكل ذي دين أو خلق قويم.
ولهذا لما كان الغزو الشيوعي قد اجتاح دولا إسلامية لم تتحصن بمقوماتها الدينية والأخلاقية تجاهه. وكان على المجمع الفقهي في حدود اختصاصه العلمي والديني أن ينبه إلى المخاطر التي تترتب على هذا الغزو الفكري والعقائدي والسياسي الخطير الذي يتم بمختلف الوسائل الإعلامية والعسكرية وغيرها، فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي المنعقد في مكة المكرمة يقرر ما يلي:
يرى مجلس المجمع لفت نظر دول وشعوب العالم الإسلامي إلى أنه من المسلم به يقينا أن الشيوعية منافية للإسلام، وأن اعتناقها كفر بالدين الذي ارتضاه الله لعباده، وهي هدم للمثل الإنسانية والقيم الأخلاقية وانحلال للمجتمعات البشرية والشريعة الإسلامية المحمدية هي خاتمة الأديان السماوية، وقد أنزلت من لدن حكيم حميد لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهي نظام كامل للدولة سياسيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا، وستظل هي المعول عليها بإذن الله للتخلص من جميع الشرور التي مزقت المسلمين وفتت وحدتهم وفرقت شملهم، سيما في المجتمعات التي عرفت الإسلام ثم جعلته وراءها ظهريا.
لهذا وغيره كان الإسلام(25/343)
بالذات هو محل هجوم عنيف من الغزو الشيوعي الاشتراكي الخطير؛ بقصد القضاء على مبادئه ومثله ودوله.
لذا فإن المجلس يوصي الدول والشعوب الإسلامية أن تتنبه إلى وجوب مكافحة هذا الخطر الداهم بالوسائل المختلفة، ومنها الأمور الآتية:
(أ) إعادة النظر بأقصى السرعة في جميع برامج ومناهج التعليم المطبقة حاليا فيها بعد أن ثبت أنه قد تسرب إلى بعض هذه البرامج والمناهج أفكار إلحادية وشيوعية مسمومة مدسوسة، تحارب الدول الإسلامية في عقر دارها، وعلى يد نفر من أبنائها من معلمين ومؤلفين وغيرهم.
(ب) إعادة النظر وبأقصى سرعة في جميع الأجهزة في الدول الإسلامية، وبخاصة في دوائر الإعلام والاقتصاد والتجارة الداخلية والخارجية وأجهزة الإدارات المحلية؛ من أجل تنقيتها وتقويمها ووضع أسسها على القواعد الإسلامية الصحيحة التي تعمل على حفظ كيان الدول والشعوب وإنقاذ المجتمعات من الحقد والبغضاء، وتنشر بينهم روح الأخوة والتعاون والصفاء.
(جـ) الإهابة بالدول والشعوب الإسلامية أن تعمل على إعداد مدارس متخصصة، وتكوين دعاة أمناء؛ من أجل الاستعداد لمحاربة هذا الغزو بشتى صوره، ومقابلته بدراسات عميقة ميسرة لكل راغب بالاطلاع على حقيقة الغزو الأجنبي ومخاطره من جهة، وعلى حقائق الإسلام وكنوزه من جهة ثانية، ومن ثم فإن هذه المدارس وأولئك الدعاة كلما تكاثروا في أي بلد إسلامي يرجى أن يقضوا على هذه الأفكار المنحرفة الغريبة، وبذلك يقوم صف علمي عملي منظم واقعي من أجل التحصن ضد جميع التيارات التي تستهدف هذه البقية الباقية من مقومات الإسلام في نفوس الناس.(25/344)
كما يهيب المجلس بعلماء المسلمين في كل مكان، وبالمنظمات والهيئات الإسلامية في العالم أن يقوموا بمحاربة هذه الأفكار الإلحادية الخطيرة التي تستهدف دينهم وعقائدهم وشريعتهم، وتريد القضاء عليهم وعلى أوطانهم، وأن يوضحوا للناس حقيقة الاشتراكية والشيوعية وأنهما حرب على الإسلام.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
نائب الرئيس ... الرئيس
محمد علي الحركان
الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي ... عبد الله بن حميد
رئيس مجلس القضاء الأعلى
في المملكة العربية السعودية
الأعضاء
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
في المملكة العربية السعودية ... محمد محمود الصواف ... محمد بن صالح بن عثيمين
محمد بن عبد الله السبيل ... محمد رشيد قباني ... مصطفى الزرقاء
محمد رشيدي ... عبد القدوس الهاشمي الندوي ... أبو بكر جومي(25/345)
نداء لجميع المسلمين وغيرهم
للوقوف في صف حكومة السودان وشعبها بالدعم والمواساة بسبب الكارثة العظيمة التي نزلت بهم
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يطلع عليه من المسلمين وغيرهم في المملكة العربية السعودية وغيرها، وفقني الله وإياهم لفعل الخيرات وجعلنا جميعا من المسارعين إلى الباقيات الصالحات.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فلا يخفى على الجميع ما حل بحكومة السودان وشعبها من الكارثة العظيمة بسبب الأمطار والفيضانات الغزيرة التي تسببت في أضرار عظيمة على العاصمة السودانية وما جاورها من المدن والقرى، مما تسبب في إتلاف الكثير من أموالهم، وتشريد أكثر من مليون من المواطنين، وموت العديد من الناس، وتهدم الآلاف من المساكن، وقد أصبح أهلها يعيشون في العراء بدون مأوى.
وقد تناقلت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة أنباء هذه الكارثة العظيمة، وشاهد الكثير من الناس على شاشة التلفاز الخراب والدمار الذي حل ببلادهم، كما شوهد المشردون وهم في العراء لا شيء يكنهم من الشمس والمطر والريح.
ولا شك أن ما حصل لهم من الابتلاء والامتحان الذي يبتلي الله به من يشاء من عباده فيه عظة وذكرى واختبار وامتحان؛ قال سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (1) وقال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (2) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (3) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (4)
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 35
(2) سورة البقرة الآية 155
(3) سورة البقرة الآية 156
(4) سورة البقرة الآية 157(25/346)
وقال جل وعلا: {الم} (1) {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (2) {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (3) ، وقال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (4) .
وكل هذه الآيات وغيرها كثير يبين الله سبحانه فيها أنه لا بد أن يبتلي عباده ويمتحنهم في هذه الحياة الدنيا، فإذا صبروا على هذا الابتلاء وأنابوا إلى الله ورجعوا إليه في كل ما يصيبهم، وتابوا إليه من سيئات أعمالهم، أثابهم الله رضاه ومغفرته، وكشف عنهم الكربة، وأحسن لهم العاقبة، وعوضهم خيرا مما فاتهم.
ونظرا لعظم المصيبة التي حلت بإخواننا في السودان، وما ترتب عليها من الخسائر العظيمة في النفوس والأموال؛ فإني أهيب بجميع المسلمين وغيرهم من الأمراء والوزراء والأغنياء وغيرهم ممن يحب الخير ويعين عليه في المملكة العربية السعودية وغيرها من سائر المعمورة، أن يبادروا إلى مد يد العون لإخوانهم في السودان، وأن تكون المساعدة عامة لكل ما يحتاجون إليه من نقود وأطعمة وملابس وخيام وأدوية وغير ذلك، كما أهيب بجميع العلماء والدعاة إلى الله سبحانه وجميع الأمراء وأئمة المساجد وجميع الأعيان أن يحثوا المسلمين على الوقوف بجنب إخوانهم في السودان بالدعم والمساعدة؛ استجابة لأوامر الله سبحانه وأوامر رسوله
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 1
(2) سورة العنكبوت الآية 2
(3) سورة العنكبوت الآية 3
(4) سورة البقرة الآية 214(25/347)
صلى الله عليه وسلم بالحث على الإنفاق في وجوه الخير والتعاون على البر والتقوى، والمساعدة في تخفيف المصائب، قال الله عز وجل: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (1) .
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (2) .
وقال سبحانه: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (3) .
وقال جل وعلا: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} (4) .
وقال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (5) .
وقال عز وجل: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (6) ، {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (7) .
وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (8) .
وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (9) » متفق على صحته. وقال عليه الصلاة والسلام: «المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا. وشبك بين أصابعه (10) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا
__________
(1) سورة الحديد الآية 7
(2) سورة البقرة الآية 254
(3) سورة سبأ الآية 39
(4) سورة المزمل الآية 20
(5) سورة البقرة الآية 274
(6) سورة البقرة الآية 195
(7) سورة المائدة الآية 2
(8) سورة الحجرات الآية 10
(9) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .
(10) صحيح البخاري الصلاة (481) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) .(25/348)
والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (1) » رواه مسلم في صحيحه، وقال عليه الصلاة والسلام: «من كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته (2) » . متفق على صحته.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم غاية الاهتمام بأمر المحتاجين وذوي الفاقة، ويستاء لحاجتهم ويبادر لمساعدتهم، وهكذا ينبغي لأتباعه أن يتأسوا به في ذلك صلوات الله وسلامه عليه، فعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: «كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه قوم عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى ثم خطب فقال:.
والآية التي في الحشر:.
تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره. حتى قال: ولو بشق تمرة. قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء (5) » . أخرجه مسلم في صحيحه.
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن أبو داود الأدب (4946) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) .
(2) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) .
(3) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن الترمذي العلم (2675) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، سنن ابن ماجه المقدمة (203) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (514) .
(4) سورة النساء الآية 1 (3) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}
(5) سورة الحشر الآية 18 (4) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(25/349)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما نقص مال من صدقة (1) » . رواه مسلم والترمذي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما، فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشى أنامله وتعفو أثره، وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت وأخذت كل حلقة مكانها. قال أبو هريرة رضي الله عنه: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأصبعه هكذا في جيبه، فلقد رأيته يوسعها ولا تتسع (2) » أخرجه البخاري ومسلم.
فعلينا جميعا أيها المسلمون المبادرة بمد يد العون والمساعدة لإخواننا المنكوبين في السودان، وبذل ما نستطيع مما أنعم الله به علينا لنحقق معنى الأخوة الإسلامية التي ذكرها الله سبحانه في كتابه الكريم، وذكرها رسوله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة الكثيرة، ونحقق معنى الاستجابة لله ورسوله التي أمرنا بها الله في قوله سبحانه:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (3) ، وفي قوله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (4) ، وفي قوله سبحانه: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (5) .
ودعا إليها رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله: «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته (6) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (7) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من لا يرحم لا يرحم (8) » في أحاديث كثيرة تحث
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2588) ، سنن الترمذي البر والصلة (2029) ، مسند أحمد بن حنبل (2/386) ، موطأ مالك الجامع (1885) ، سنن الدارمي الزكاة (1676) .
(2) صحيح البخاري اللباس (5797) ، صحيح مسلم الزكاة (1021) ، سنن النسائي الزكاة (2547) ، مسند أحمد بن حنبل (2/523) .
(3) سورة الأنفال الآية 24
(4) سورة المائدة الآية 2
(5) سورة البقرة الآية 195
(6) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) .
(7) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن أبو داود الأدب (4946) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) .
(8) صحيح البخاري الأدب (5997) ، صحيح مسلم الفضائل (2318) ، سنن الترمذي البر والصلة (1911) ، سنن أبو داود الأدب (5218) ، مسند أحمد بن حنبل (2/269) .(25/350)
المؤمنين على التعاون على الخير ودعم المنكوبين ومواساتهم، وجبر مصابهم؛ رغبة فيما عند الله، ورجاء لثوابه، ورحمة لعباده، وإحسانا إليهم. وبذلك تتحقق الأخوة الإيمانية والتعاون على الخير، ويفوز الجميع بجزيل ثواب الله، وعظيم إحسانه.
واعلموا أيها الإخوة في الله أنه كلما كانت الحاجة إلى المساعدة أشد، كان الأجر عليها من الله أعظم، ولا شك أن حاجة إخواننا في السودان شديدة وعظيمة، تستدعي منا المبادرة والمسارعة إلى مساعدتهم، والوقوف بجانبهم، وتخفيف آلامهم.
وفق الله المسلمين عموما وإخواننا في السودان خصوصا للصبر والاحتساب، والتعاون على الخير، وضاعف لنا ولهم الأجر، وأنزل على المصابين السكينة والطمأنينة وأحسن للجميع العاقبة في الدنيا والآخرة، ووفق الجميع للتوبة النصوح، والاستقامة على الحق، والحذر من أسباب غضب الله وعقابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ولا يفوتني في ختام كلمتي هذه أن أشكر حكومة المملكة العربية السعودية وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين على مبادرتها بمد يد العون والمساعدة للسودان حكومة وشعبا، للتخفيف من آثار هذه الكارثة، كما أشكر كل من بادر بمساعدتهم من حكام المسلمين وشعوبهم وغيرهم ممن ساهم في تخفيف هذه المصيبة بالعون والإحسان.
وأسأل الله أن يجعل ذلك عملا خالصا لوجهه الكريم، وأن يثقل به موازين الجميع يوم القيامة، ويرفع به درجاتهم في دار الكرامة، ويخلف عليهم ما أنفقوا بخير منه وأفضل، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة
والرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية(25/351)
اعتذار. . وتصويب
تعتذر مجلة البحوث الإسلامية لقرائها الكرام وللباحث \ إسماعيل الأنصاري، عما سقط سهوا من قبل المطبعة في بحث (التدابير الزجرية والوقائية في التشريع الإسلامي وتطبيقها) المنشور في العدد (23) حيث سقط السطر الأخير في السحب النهائي من الصفحة (188) مما ترتب عليه تغيير المعنى.
والسطر الساقط هو (. . فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها ففعلت فتشاور الناس في رجمها فقال علي. .) .
نكرر الاعتذار للإخوة القراء وللباحث ونوضح أن ذلك السقط كان من قبل المطبعة في المرحلة النهائية من الطبع ولعل ذلك لخلل فني في المطابع.(25/352)
حديث شريف
عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وقت الظهر ما لم تحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت المغرب ما لم يسقط نور الشفق، ووقت العشاء إلى نصف الليل، ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس (1) »
رواه مسلم وأبو داود، واللفظ لأبي داود
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (612) ، سنن النسائي المواقيت (522) ، سنن أبو داود الصلاة (396) ، مسند أحمد بن حنبل (2/210) .(25/353)
بسم الله الرحمن الرحيم
{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (1)
(سورة النساء، آية 114)
__________
(1) سورة النساء الآية 114(26/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(26/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ـ الرياض
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(26/3)
المحتويات
الافتتاحية:
أهمية العلم في محاربة الأفكار الهدامة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
موضوع العدد:
حوادث السيارات وبيان ما يترتب عليها بالنسبة لحق الله وحق عباده اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 27
الفتاوى:
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 79
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 129(26/4)
البحوث:
تحديد صيغة القبض وهل قبض الشيكات يعتبر قبضا؟ الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع 141
نظريات وتعقيبات على ما في كتاب السلفية من الهفوات الشيخ الدكتور / صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان 183
الشباب والتيارات المعاصرة الدكتور / محمد بن سعد الشويعر 215
مخطوطة ما انفرد به القراء الثمانية من الياءات والنونات والتاءات، لأبي الطيب بن غلبون تحقيق الدكتور / علي حسين البواب 255
بحث فيما نسبه الشيخ منصور البهوتي في الروض المربع إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صلاة التراويح في رمضان. تخريجه ومناقشة أهل العلم في ذلك الدكتور / رويعي بن راجح الرحيلي 277
بحث في مسألة دفع الخصومة الشيخ مسفر بن حسين القحطاني 309
من قرارات المجمع الفقهي 331
حكم قيام الطلاب للمدرسين سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 347
تنبيه من سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز على دعاء أضيف إلى كتيب سماحته (كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم) 349(26/5)
صفحة فارغة(26/6)
الافتتاحية
أهمية العلم في
محاربة الأفكار الهدامة
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيلهم واتبع هداهم إلى يوم الدين وبعد:
فلا ريب أن العلم هو مفتاح كل خير، وهو الوسيلة إلى أداء ما أوجب الله وترك ما حرم الله، فإن العمل نتيجة العلم لمن وفقه الله وهو مما يؤكد العزم على كل خير، فلا إيمان ولا عمل ولا كفاح ولا جهاد إلا بالعلم، فالأقوال والأعمال التي بغير علم لا قيمة لها ولا نفع فيها بل تكون لها عواقب وخيمة، وقد تجر إلى فساد كبير.
وإنما يعبد الله، ويؤدى حقه وينشر دينه وتحارب الأفكار الهدامة والدعوات المضللة والأنشطة المنحرفة بالعلم النافع، المتلقى عن كتاب الله عز وجل وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا إنما تؤدى الفرائض بالعلم ويتقى الله بالعلم وبه تكشف الحقائق الموجودة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله محمد عليه الصلاة والسلام. . قال جل وعلا في كتابه العزيز: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (1) .
__________
(1) سورة الفرقان الآية 33(26/7)
فجميع ما يقدمه أهل الباطل وما يلبسون به في دعواتهم المضللة وفي توجيهاتهم لغيرهم بأنواع الباطل أو في تشكيكهم غيرهم فيما جاء عن الله عز وجل وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كله يندحض ويكشف بما جاء عن الله ورسوله بعبارة أوضح، وبيان أكمل أو بحجة قيمة تملأ القلوب وتؤيد الحق، وما ذاك إلا لأن العلم المأخوذ من الكتاب العزيز والسنة المطهرة علم صدر عن حكيم عليم، يعلم أحوال العباد ويعلم مشكلاتهم ويعلم ما في نفوسهم من أفكار خبيثة أو سليمة، ويعلم بما يأتي به أهل الباطل فيما يأتي من الزمان، كل ذلك يعلمه سبحانه وقد أنزل كتابه لإيضاح الحق وكشف الباطل، وإقامة الحجج على ما دعت إليه رسله عليهم الصلاة والسلام، وقد أرسل رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق، وأنزل كتابه الكريم تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين وإنما يعمل أهل الباطل وينشطون عند اختفاء العلم وظهور الجهل وخلو الميدان ممن يقول قال الله وقال الرسول، فعند ذلك يتأسدون ضد غيرهم وينشطون في باطلهم لعدم وجود من يخشونهم من أهل الحق والإيمان وأهل البصيرة، وقد ذكر الله عز وجل في كتابه كل شيء إجمالا في مواضع، وتفصيلا في مواضع أخرى. قال عز وجل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (1) .
هذا كلام الحكيم العليم الذي لا أصدق منه {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} (2) .
أوضح سبحانه في قوله:
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (3) . أنه مع كونه تبيانا لكل شيء فيه هدى ورحمة وبشرى، فهو بيان للحق وإيضاح لسبله ومناهجه ودعوة إليه بأوضح عبارة وأبين إشارة،
__________
(1) سورة النحل الآية 89
(2) سورة النساء الآية 122
(3) سورة النحل الآية 89(26/8)
ومع ذلك فهو هدى للعالمين في كل ما يحتاجون إليه في ذكر ربهم والتوجه إلى ما يرضيه، والبعد عن مساخطه وبين لهم طريق النجاح وسبيل السعادة مع كونه رحمة في بيانه وإرشاده، وهدى وإحسانا وبشرى، وتطمينا للقلوب بما يوضح من الحقائق ويرشد إليه من البصائر التي تخضع لها القلوب وتطمئن إليها النفوس، وتنشرح لها الصدور، بوضوحها وظهورها يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (1) .
يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} (2) .
ويقول سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (3) .
ولولا أن كتابه عز وجل وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فيهما الهداية والكفاية لما رد الناس إليهما، ولكان رده إليهما غير مفيد تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وإنما رد الناس إليهما عند التنازع والخلاف لما فيهما من الهداية والبيان الواضح وحل المشكلات والقضاء على الباطل، ثم ذكر أن هذا شرط للإيمان فقال سبحانه: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (4)
ثم ذكر أنه خير للعباد في العاجل والآجل وأحسن عاقبة يعني أن ردهم ما يتنازعون فيه إلى الله والرسول خير لهم في الدنيا والآخرة وأحسن لهم في العاقبة.
ومن هذا يعلم أن في كتاب الله العزيز وسنة رسوله الأمين حلا لجميع
__________
(1) سورة يونس الآية 57
(2) سورة النساء الآية 59
(3) سورة الشورى الآية 10
(4) سورة النساء الآية 59(26/9)
المشكلات، وبيانا لكل ما يحتاجه الناس في دينهم، وفي القضاء على خصوماتهم، كما أن في ذلك النصر للداعي إلى الحق والقضاء على خصمه بالحجة الواضحة ولهذا يقول سبحانه:
{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (1) .
والمثل يعم كل ما يقدمون من شبهة يزعمونها حجة، ومن مذهب يدعونه صحيحا، ومن دعوة يزعمون أنها مفيدة، كل ذلك يكشفه هذا الكتاب وما جاءت به سنة رسوله عليه الصلاة والسلام. فجميع ما يقدمونه من مشكلات ودعوات مضللة أو مذاهب هدامة كل ذلك يكشفه العلم بهذا الكتاب وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام.
ومعلوم أن الأفكار الهدامة والمبادئ الضالة والمذاهب المنحرفة كثيرة والملبسون للحق بالباطل لا يحصون، وكذلك دعاة الباطل والمؤلفون في الصد عن سبيل الله لا يحصيهم إلا الله وهم يلبسون على الناس باطلهم بما يحرفون من الكلم، ولقد كثر الخطباء والمتكلمون في الإذاعات وفي التلفاز وفي كل مجال: في الصحافة والمجتمعات وفي كل نافذة كل يدعو إلى نحلته، وينادي إلى فكرته، ويمني غيره ويدعوه إلى الباطل، ولا مخرج من هذه المحن، ولا طريق للتخلص منها والقضاء عليها إلا بعرضها على هذا الميزان العظيم الكتاب والسنة، ففي عرضها على هذا الميزان العظيم تمحيصها وبيان حقها من باطلها، ورشدها من غيها، وهداها من ضلالها، وبذلك ينتصر الحق وأهله ويندحر الباطل وأهله فإذا تقدم دعاة الشيوعية والاشتراكية المنكرون لوجود الله والقائلون لا إله والحياة مادة، المكذبون بالحق والمنكرون لكتاب الله وما ورد فيه من الأدلة النقلية والعقلية، على وجود البارئ وقدرته العظيمة وعلمه الشامل. فارجعوا إلى كتب الله
__________
(1) سورة الفرقان الآية 33(26/10)
واقرءوا من آياته ما يرشد إلى دلائل وجوده سبحانه، وأنه الصانع الحكيم لهذه الأشياء والموجد لها والخالق لها سبحانه. وقد أرشد سبحانه في كتابه الكريم إلى ذلك، وبين أنه رب العالمين وأنه الخلاق العليم وأنه خالق كل شيء وأنه ينصر الحق، ويقيم الأدلة على ذلك في مواضع كثيرة من كتابه ليعتمد عليها طالب الحق.
يقول سبحانه: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1) ثم يقول سبحانه بعدها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (2) ويقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (3) {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4) .
ويقول: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} (5) .
ويقول سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (6) .
ويقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (7) .
إلى آيات كثيرة يرشد بها سبحانه أنه رب العباد وأنه رب العالمين،
__________
(1) سورة البقرة الآية 163
(2) سورة البقرة الآية 164
(3) سورة البقرة الآية 21
(4) سورة البقرة الآية 22
(5) سورة طه الآية 98
(6) سورة الإسراء الآية 23
(7) سورة الفاتحة الآية 5(26/11)
وأن الرسل جاءت بهذا، كما قال جل وعلا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) .
ويقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2) .
ويقول سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (3) .
ويقول جل وعلا: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (4) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (5) .
ويقول سبحانه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (6) .
ويقول سبحانه: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} (7) .
ثم يبين الأدلة في مواضع كثيرة عندما يتأملها المؤمن يعرف أن الدليل النقلي مؤيد بالدليل العقلي المشاهد المحسوس، ولهذا ذكر سبحانه بعد قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (8) الحجة على ذلك فقال: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (9) .
والمعنى أن هذا الخالق لنا هو المستحق أن نعبده لكونه خلقنا ولأنه يرى مصالح العباد وهذا أمر معلوم بالفطر السليمة والعقول الصحيحة، فهم لم يخلقوا أنفسهم فقد خلقهم بارئهم، فالله هو الخالق بالأدلة النقلية والعقلية ثم قال سبحانه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (10) .
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة الأنبياء الآية 25
(3) سورة الحج الآية 62
(4) سورة الزمر الآية 2
(5) سورة الزمر الآية 3
(6) سورة الزمر الآية 62
(7) سورة فاطر الآية 3
(8) سورة البقرة الآية 21
(9) سورة البقرة الآية 21
(10) سورة البقرة الآية 22(26/12)
بين سبحانه وتعالى كيف تدرك هذه الأشياء المشاهدة المخلوقة التي يدركها العقل ويدركها كل إنسان فجعل الأرض فراشا لنا ننام عيها ونسير عليها ونرعى المواشي عليها ونحمل عليها ونزرع عليها الأشجار ونأخذ منها المعادن إلى غير ذلك. ثم أنزل من السماء ماء من السحاب، أنزل المطر فأخرج به الثمرات لنا. من الذي أنزل المطر؟ من الذي أخرج هذه الثمار التي يأكلها الناس والدواب؟ مما زرعوا ومن غير ما زرعوا كلها من آيات الله العظيمة الدالة على قدرته العظيمة وأنه رب العالمين. أرض مستقرة أرساها ربنا بالجبال التي جعلها أوتادا لها وجعلها ممهدة ساكنة نعيش عليها ونطمئن نحن ودوابنا وسياراتنا فوقها، وتطير في فضائها طائراتنا، ونتمتع بجميع ما خلق فيها والسماء كذلك خلقها فوقنا وزينها بالكواكب السيارات والثوابت، وجعل فيها الشمس والقمر ليعلم العبادة قدرة الخالق العظيم والعلي الكبير الذي لا شريك له في ذلك سبحانه وتعالى. ثم هذه المزروعات الكثيرة والثمار المنوعة التي فيها المنافع الكثيرة والمصالح العظيمة مع اختلاف أشكالها وألوانها، وأحجامها وطعومها ومنافعها إلى غير ذلك، هنا تظهر قدرة الله سبحانه، واستحقاقه للعبادة كما قال عز وجل: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1) {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 163
(2) سورة البقرة الآية 164(26/13)
فهو سبحانه يبين لنا في هذه الآيات التي نشاهدها ونراها ونحسن بها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} (1)
هذه السماوات مع اتساعها وارتفاعها وما فيها من عجائب وغرائب، وهذه الأرض مع سعتها وانبساطها وما فيها من أنهار وجبال وغير ذلك، ثم اختلاف الليل والنهار وما أنزل من السماء من ماء. وما أخرج من البحار من أشياء تنفع الناس وما يحمله ماؤها من البواخر التي أمسكها على ظهر هذا الماء تحمل حاجات الناس وتحملهم أيضا من بلاد إلى بلاد.
ثم أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض. هذه الآيات العظيمة لمن تدبرها ترشده إلى وجود بارئها وخالقها الذي خلقه وأوجده من العدم وأنه رب العالمين سبحانه وتعالى، وأن هذه المخلوقات لا قوام لها إلا به سبحانه كما قال عز وجل:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} (2) .
فهذه الآيات التي نشاهدها والدلائل التي نقرؤها ونعلمها إنما ينتفع بها ذوو العقول السليمة والبصائر المستقيمة، ولهذا قال سبحانه في آخر الآية: {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (3)
والرسل عليهم الصلاة والسلام هم أصدق الناس وقد أقاموا الأدلة على صدقهم ودلت المعجزات على ذلك، وقد أخبرونا بهذا وأن هذا صنع الله وأنه ربنا وخالقنا وأنه الرحمن وأنه الرحيم وأنه السلام وأنه القدوس، إلى غير ذلك من أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى كما أخبر جل وعلا في كتابه العظيم، أنه الحكيم العليم القادر على كل شيء جل وعلا، وفي هذا
__________
(1) سورة البقرة الآية 164
(2) سورة الروم الآية 25
(3) سورة الروم الآية 24(26/14)
أبلغ رد على دعاة الشيوعية والدهرية الاشتراكية وغيرهم ممن أنكروا وجود الله فهل هذه المخلوقات وهل هذه الموجودات تخلق نفسها وتنشئ نفسها؟ هل يقول هذا عاقل؟ بل كوب الماء لو قلت لعاقل إنه خلق نفسه لقال إنك مجنون، وهكذا كوب الشاي وكوب القهوة والملعقة والعصا، كلها معروف من صنعها فكيف بهذا العالم العظيم الذي أنشأه الخالق سبحانه من العدم وجعل فيه من الآيات والمنافع ما لا يحصى فهو المبدع سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، ثم هذا الخالق قد بين أسماء تليق بذاته، وبينت الرسل صفاته وأسماءه ودلوا عليه وأرشدوا إليه، وقامت الدلائل على صدقهم وعلى رأسهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، أصدق الأنبياء وأفضلهم، قد بعثه الله بكتابه العظيم، والرسالة العامة، التي أوضح بها كل شيء، ثم يأتي دعاة الماسونية الذين يريدون أن يردوا الناس إلى الأحوال البهيمية والمساواة في كل شيء ويحاربوا مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ليجعلوهم كالبهائم لا يميزون حقا من باطل ولا خيرا من شر. وهذا كله خلاف ما دعت إليه الرسل عليهم الصلاة والسلام، وخلاف ما دل عليه القرآن الكريم المعجز، وهو أيضا خلاف ما دلت عليه العقول الصحيحة، والفطر السليمة التي فطر الله العباد عليها، فإن الله سبحانه فطر الناس على الاعتراف بمكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال والعدل والحق، وكراهة الظلم والعدوان والأذى.
لقد فطر الله العباد على تمييز الأب من الابن، والأخ من الأخت، والزوجة من الزوج، حتى البهائم ميزت هذا عن هذا.
كذلك من ادعى الإباحية، وأنه لا حرج على الإنسان في أي حال أن يعمل ما شاء ويستبيح ما يشاء من مهازل ومساوئ. كلهم ملحدون وضالون، وقد أبطل الله هذا المذهب وبين سبحانه وتعالى أنه أرسل(26/15)
الرسل، وأنزل الكتب لبيان حقه على عباده، وما أحل من الطيبات، وما حرم من الخبائث وما أوصى به سبحانه وتعالى عباده من التمسك بما جاءت به الرسل، ونبذ ما خالفه.
ولقد أوضح سبحانه في الكتب المنزلة من السماء تفصيل الحلال من الحرام والهدى من الضلال، والمعروف من المنكر، والخير من الشر.
فالإباحيون والماسونيون قد أعرضوا عن ذلك كله، ونبذوه وراء ظهورهم، فلا خلقا كريما استقاموا عليه، ولا عقلا صحيحا تمسكوا به، فلم يأخذوا بما جاءت به الرسل من الهدى، والتمييز بين الحق والبطال، والهدى والضلال.
ومن تأمل كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وتأمل أحوال العالم، عرف أن الحق كله فيما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، من بيان ما أباح الله، وبيان ما حرمه سبحانه، وأنهم بعثوا ليميزوا بين الطيب والخبيث وبين الحلال والحرام بما شرع الله، حتى تسير المجتمعات على هدى وبيان، وعلى خير ورشاد، وعلى الأخلاق الكريمة والصفات الحميدة، التي تحفظ للإنسان عقله ودينه، وماله ونفسه، وذريته وزوجته وغير ذلك.
ولا يتعدى عليه غيره فيأمن المجتمع، وتستقيم الأحوال والأخلاق، ويأمن الناس، وتحصل لكل إنسان حريته، في أخذه وعطائه، وبيعه وشرائه، وتعاطي ما يسر الله له من الحلال وتملكه ما كسب بالطرق الشرعية. وتصرفه بما ينفعه ولا يضره.
وأما من دعا إلى أفكار أخرى كدعوة القاديانية وأشباههم ممن دعا إلى اتباع نبي جديد أو رسول جديد فدعواه باطلة وأفكاره مضللة زائفة، لأن الله عز وجل، بين في كتابه المبين، أن محمدا عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين، وقد جاء ذلك في الأحاديث المتواترة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(26/16)
وبشرت به النبوات السابقة قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (1) .
ولكن هناك أشباه الأنعام، تلتبس عليهم كل دعوى، ويخفى عليهم كل شيء، ولا يميزون بين حق وباطل، ولا يفرقون بين هدى وضلال.
فكل ما يدعيه الداعون، وينعق به الناعقون، يلتبس عليهم لعدم العلم والبصيرة ولهذا ارتفع صوت هذا الرجل، أعني مرزا غلام أحمد بدعواه الباطلة، فاتبعه من الناس من هم أشباه الأنعام، وصدقوا بما قاله، وما كتبه في هذا الباب، مما يخالف نص الكتاب العزيز، وما تواترت به السنة عن المصطفى عليه الصلاة والسلام من كونه خاتم الأنبياء والمرسلين.
كيف يحدث مثل هذا؟ وكيف يشتبه على من هم من بني آدم الذين هم من أصحاب العقول، والذين يقرءون ويكتبون، وبطلانه من أوضح الأشياء وأظهرها؟
ولكن الله عز وجل يري عباده من العجائب والعبر، ما فيه عظة وذكرى لكل ذي لب، قال سبحانه وتعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (2) .
وهكذا البهائية والبابية وأشباههم، ممن ادعوا دعاوى باطلة، وضلوا في هذا السبيل، ولبسوا على أشباه الأنعام من البشر، ما يدعون إليه من باطلهم، فزعم كبيرهم، أنه نبي، ثم ادعى أنه رب العالمين. ومع ظهور باطلهم، نجد لهم أتباعا ودعاة وأندية تروج باطلهم، وتدعو إليه، وربما كان الكثير منهم يعرف الحق، ويعلم أنه مبطل في دعواه، ولكنه يتظاهر بتأييد الباطل، لما له من غرض في ذلك، في هذه الحياة الدنيا، فتابعهم في طريق الباطل، وهم أشبه بالأنعام، بل هم أضل منها، كما قال الله عز
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 40
(2) سورة الحج الآية 46(26/17)
وجل:
{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (1) .
وقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (2) .
لقد ضل هؤلاء ضلالا بعيدا، كما ضل أصحاب فرعون بفرعون، وأصحاب النمرود بالنمرود.
فهذا المسكين الذي يتبول ويتغوط، ويأكل ويشرب، ويتألم من كل شيء كيف يكون ربا، وكيف يكون إلها، وكيف يجوز هذا عليه، وعلى أتباعه، ولكن الأمر كما قال الله سبحانه:
{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (3) .
وكما قال سبحانه وتعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (4) .
وكما قال عز وجل: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (5) .
وهكذا الدجال الذي يأتي آخر الزمان يتبعه جم غفير من كل جاهل وأعمى بصيرة لما يروجه من الباطل ويأتي به من خوارق العادات، التي تشتبه على أشباه الأنعام.
وكل نحلة، وكل دعوة باطلة تجد لها أتباعا وأنصارا بغير قلوب، ولا هدى، أما طريق السلف الصالح فهو أوضح من الشمس في رابعة
__________
(1) سورة الفرقان الآية 44
(2) سورة الأعراف الآية 179
(3) سورة الحج الآية 46
(4) سورة الفرقان الآية 44
(5) سورة القصص الآية 50(26/18)
النهار، لما قام عليه من البراهين الساطعة، والحجج النيرة، والأدلة القاطعة، لكل من عنده أدنى بصيرة، ورغبة في طلب الحق، وقد بين الله في كتابه الكريم، وسنة رسوله الأمين أن الخير والفلاح يكونان في التمسك بكتاب الله العظيم، وسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وما كان عليه سلف الأمة من الصحابة رضوان الله عليهم، وأتباعهم بإحسان، فيرد دعاة الحق على هؤلاء المنحرفين بما علموا من كتاب الله. وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وبما علموا بعقولهم الصحيحة وبصائرهم النافذة، وفطرهم السليمة على هدي ما علموه من كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما علموه من مخلوقات الله عز وجل، من الدلالة على قدرته وعظمته، واستحقاقه للعبادة، وصدق رسله عليهم الصلاة والسلام، وأن ما أتوا به هو الحق، وهو ما دل عليه كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من بيان الحلال والحرام والهدى والضلال، وما شرع الله لعباده، وما نهى عنه، وما أخبر به من الجنة والنار، إلى غير ذلك.
وأن ما أنكره هؤلاء وغيرهم من الشيوعيين، وسائر الملاحدة، من البعث والنشور والجنة والنار، وغير ذلك من شئون اليوم الآخر، كله باطل ومخالف للأدلة القطعية.
وهم جميعا حجتهم داحضة، وباطلهم واضح، فإن الأدلة الدالة على بعث الموتى، ووقوفهم أمام رب العالمين كثيرة لا تحصى، وأن كل ما خلقه الله في هذه الدنيا شاهد على قدرته سبحانه، ووجوب الاعتراف بألوهيته وحده، فالأرض الميتة، ينزل الله عليها المطر، فيخرج منها النبات بعد موتها ويخرج منها جل وعلا ما شاء من الثمار.
فالذي أخرج هذا النبات، وأنعم علينا بهذه الثمار، هو الله سبحانه وتعالى، الذي أنزل هذا المطر، وأحيا به الأرض الميتة، التي أخرجت النبات والثمار، وهو الذي سيحيي الموتى، ويبعثهم من قبورهم، ويقف(26/19)
كل واحد أمامه عز وجل للحساب على ما عمل، وما اكتسبت يداه في هذه الدنيا.
وهكذا الإنسان: خلق الله أبانا آدم من تراب، ثم جاءت منه الذرية، خلقهم سبحانه من ماء مهين، ثم تحولوا إلى علقة، ثم إلى مضغة، ثم إلى إنسان سوي، له سمع وبصر، وعقل وإدراك وجوارح، ثم يتدرج ويكبر حتى يصير إنسانا عظيما، فيأخذ ويعطي، ويفكر ويتعلم، وينتج.
وإن هذه الآيات العظيمة كلها تدل على قدرة الله عز وجل، وتدل على صدق الرسل في إخبارهم بأن هناك أي في الآخرة مجتمعا لديه سبحانه، يؤيد فيه الحق، ويجزي أهله بأحسن الجزاء، ويدخلهم الجنة، ويقيهم عذاب النار، ويذل أعداءه، ويخلدهم في النار أبد الآباد.
ثم إن كل عاقل في هذه الدار يشاهد من يظلم، ومن تؤخذ حقوقه، ومن يعتدى عليه في ماله وبدنه وغير ذلك، ثم يموت الظالم ولم يرد الحقوق، ولم ينصف المظلوم فهل يضيع ذلك الحق على المظلومين المساكين المستضعفين؟ كلا. . فإن الخالق العظيم الحكيم العليم، حدد للإنصاف موعدا، ذلك الموعد هو يوم القيامة، ينصف فيه المظلوم، الذي لم يعط حقه في الدنيا كاملا من الظالم، فينتقم منه، ويعاقبه بما يستحق.
إن هذه الدار ليست دار جزاء، ولكنها دار امتحان وابتلاء، وعمل وسرور وأحزان وقد ينصف فيها المظلوم فيأخذ حقه فيها، وقد يؤجل أمره إلى يوم القيامة لحكمة عظيمة، فينتقم الله من هؤلاء الظالمين، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (1) .
ففي هذا اليوم الرهيب، ينصف الله المظلومين، ويعطيهم جزاءهم، وينتقم لهم من الظالمين، وقد يعجل الله سبحانه للظلمة العقوبات في
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 42(26/20)
الدنيا، كما فعل في أمم كثيرة، وقد يؤجل ذلك للمظلومين والظالمين، ثم تعطى الحقوق في هذا اليوم العظيم، يوم القيامة الذي تشخص فيه الأبصار، وكل ذلك حق.
فالحكيم العليم القادر على كل شيء لا يفوت على المظلومين حقهم، ولهذا أخبرنا أن هناك بعثا ونشورا، وأن هناك جزاء وحسابا، وقد قامت على هذا الأدلة من القرآن والسنة، وإجماع الأمة، والعقول الصحيحة، والفطر السليمة، دلت على أنه لا بد من جزاء وحساب، وأن البعث حق، وأن الجنة حق، وأن النار حق، كل ذلك جاءت به الكتب السماوية، والسنة النبوية، وأجمع عليه المسلمون.
ومع ذلك فالفطرة السليمة، والعقول الصحيحة، تشهد بذلك، وأننا نشاهد ظالمين ومظلومين، لم يقتص من الظالمين للمظلومين، ولم تؤخذ منهم الحقوق، فلا بد لهم من يوم يحاسبون فيه، ويجازى فيه كل إنسان على ما قدم.
إننا نجد مؤمنين صالحين موفقين مجتهدين في سبيل الخير، لم ينالوا ما ناله غيرهم من أولئك الذين تعدوا حدود الله، وظلموا عباد الله، وهم مع هذا لديهم الأموال العظيمة، والقصور الشاهقة، والخدم والمتاع.
وجم غفير من الأخيار المتقين، محرومون لم ينالوا من هذا شيئا، فلا بد من موعد ولا بد من لقاء مع ربهم، يعطون فيه من المنازل العالية، والأجر العظيم، ويتكرم عليهم سبحانه بأنواع الفضل، جزاء صبرهم وأعمالهم الصالحة، فينالون الثواب الكبير، والمنازل العالية، والخير الجزيل، والإحسان العظيم، والقصور والجواري والخيرات التي لا تحصى، على ما فعلوا من خير، وعلى ما قدموا من عمل صالح، ويجازي سبحانه هؤلاء الظالمين المفرطين المعرضين، الذين ركنوا إلى الدنيا، وغرتهم شهواتها، وانساقوا وراء مفاتنها بما يستحقون من العذاب والنكال، وسوء المصير،(26/21)
وما ذلك إلا لتفريطهم، وإعراضهم عن الله، وتعديهم حدوده، ومقابلتهم نعمه بالكفران، وظلمهم عباده وإدبارهم عن طاعته.
فهؤلاء يجازيهم الله عز وجل بما يستحقون، وهذه الأمور العظيمة إذا تأملها صاحب العقل الصحيح، والفطرة السليمة، عرف أن المعاد حق، وعلم أن ما يدعيه الملحدون والشيوعيون والوثنيون وغيرهم ممن ينكرون الآخرة، ومعاد الأبدان، من أبطل الباطل، واتضح له أن دعواهم ساقطة، وأقوالهم زائفة.
وهكذا أصحاب النحل والدعوات المضللة، والأفكار الهدامة، كلها على هذا السبيل إذا تأملها ذو العقل الصحيح، والبصيرة النافذة، والفطرة السليمة، عرف بطلانها وعرف أدلة زيفها، من الكتاب والسنة المطهرة، ومن الكتب الصحيحة، فإنه سبحانه خلق الشواهد، وأقام الدلائل على الحق، من كتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وبما أودع في العقول من فهم وإدراك، وبما خلق في هذه الدنيا من مخلوقات، وأوجد فيها من كائنات، تشهد له بالحكمة، وأنه الخلاق العليم، الرزاق الكريم، القادر على كل شيء، والمستحق لأن يعبد وحده لا شريك له.
والجدير بطالب العلم، أينما كان أن يقبل على كتاب الله وأن يجعل تدبره وتعقله، من أكبر همه، ومن أعظم شواغله، وأن تكون له العناية الكاملة بقراءته، وتدبر ما فيه من المعاني العظيمة، والبراهين الساطعة، على صحة ما جاءت به الرسل، وعلى صدق ما دل عليه الكتاب، وعلى بطلان ما يقوله أهل السوء، أينما كانوا وكيفما كانوا.
ومن تدبر القرآن طالبا للهدى أعزه الله، ونصره وبلغه مناه، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1) .
وقال عز وجل: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (2) .
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) سورة فصلت الآية 44(26/22)
وهكذا السنة المطهرة إذا تأملها المؤمن، وتأمل موقفه - صلى الله عليه وسلم - مع أعدائه وخصومه في مكة والمدينة، عرف الحق وأن أهل الحق منصورون وممتحنون، ومن فاته النصر في الدنيا فلن يفوته الجزاء والعرض في الآخرة، كما قال عز وجل: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (1) {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (2) .
فقد وعد الله سبحانه بالنصر للعاملين في الدنيا والثواب في الآخرة، قال عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (3) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (4) .
فقد وعد الله سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين، الذين يعملون للحق، ويقيمون الصلاة ويؤدون الزكاة لمستحقيها، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وعدهم جل وعلا بالنصر، وهو يعم النصر في الدنيا، والتمكين فيها، والنصر والرضى من الله سبحانه يوم القيامة، يوم يقوم الأشهاد، وفي هذا عزة للمؤمنين، وذلة للكافرين، فالمؤمنون يفوزون بالجنة، والكافرون تعلو وجوههم الذلة والندامة، والنار تكون مثواهم ومصيرهم.
وفي هذا المعنى يقول سبحانه وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (5) .
والآيات في هذا المعنى كثيرة
ومن تأمل أحوال أهل العلم الموفقين الذين نبغوا في هذه الأمة، وتدبروا كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وعلموا من ذلك ما يعينهم على فهم كتاب الله وعلى فهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهما صحيحا من
__________
(1) سورة غافر الآية 51
(2) سورة غافر الآية 52
(3) سورة الحج الآية 40
(4) سورة الحج الآية 41
(5) سورة النور الآية 55(26/23)
الصحابة - رضي الله عنهم وأرضاهم - والتابعين لهم بإحسان من أئمة الإسلام فيما كتبوا، وما نقل عنهم ومن سار على نهجهم من أهل الصدق والوفاء والبصيرة كأبي العباس ابن تيمية رحمه الله وتلميذيه: العلامة ابن القيم، والحافظ ابن كثير وغيرهم ممن برزوا في هذا الميدان من أئمة هذا الشأن.
نعم، من تأمل أحوالهم، وفتح الله عليه بفهم ما قالوا وما كتبوا، رأى العجب والعجاب، والعبر الباهرة والعلوم الصحيحة، والقلوب النيرة، والبراهين الساطعة، التي ترشد من تمسك بها إلى طريق السعادة، وسبيل الاستقامة.
وبذلك يحصل له بتوفيق الله سبحانه، تحقيق الغاية المطلوبة، وتحصين نفسه بالعلوم والمعرفة والطمأنينة إلى الحق، الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، ودرج عليه سلف هذه الأمة. ويتضح له أن من خالفهم من دعاة الزيغ والضلال، ليس عندهم إلا الشبهات الباطلة والحجج الزائفة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
ويعلم حقا أن طالب العلم في الحقيقة هو الذي يميز الحق من الباطل، بأدلته الظاهرة، وبراهينه الساطعة. ويقرأ كتب الأئمة المهتدين، ويأخذ منها ما وافق الحق، ويترك ما ظهر بطلانه، وعدم موافقته للحق، ومن هؤلاء الأئمة المبرزين، الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأنصاره في القرن الثاني عشر وما بعده، قد برزوا في هذا الميدان، وكتبوا الكتابات العظيمة الناجحة، وأرسلوا الرسائل إلى الناس وردوا على الخصوم، وأوضحوا الحق في رسائلهم ومؤلفاتهم بأدلته من الكتاب والسنة وقد جمع من ذلك العلامة الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله جملة كثيرة في كتابه المسمى: " الدرر السنية في الأجوبة النجدية ".
والأدلة التي كتبها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وتلاميذه،(26/24)
من تأملها وتبصر فيها، رأى فيها الحق المبين، والحجج الباهرة، والبراهين الساطعة التي توضح بطلان أقوال الخصوم، وشبهاتهم، وتبين الحق بأدلته الواضحة.
وهم رحمة الله عليهم، مع تأخر زمانهم، قد وفقوا في إظهار الحق، وبيان أدلته، وأوضحوا ما يتعلق بدعوة التوحيد، والرد على دعاة الوثنية، وعباد القبور، وبرزوا في هذا السبيل، وكانوا على النهج المستقيم، نهج السلف الصالح، واستعانوا في هذا الباب بالأدلة الواضحة التي جاءت في الكتاب والسنة النبوية، وعنوا بكتب الحديث وكتب التفسير، وبرزوا في هذا الميدان حتى أظهر الله بهم الحق، وأذل بهم الباطل، وأقام بهم الحجة على غيرهم، ونشر بهم راية الإسلام، وقامت راية الجهاد، وأجرى الله على أيديهم من نعمه وخيره الجزيل ما لا يحصى، وأصبح أهل الحق في سائر الأمصار الذين عرفوا كتبهم، وصحة دعوتهم، وسلامة منهجهم ينشرون دعوتهم، ويستعينون بما ألفوا في هذا الشأن، على خصوم الإسلام، وأعداء الإسلام في كل مكان، من أهل الشرك والبدع والخرافات.
وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا جميعا لما يرضيه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يجعلنا هداة مهتدين، وصالحين مصلحين، وأن يمنحنا الفقه في دينه، كما أسأله عز وجل أن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يولي عليهم خيارهم، وأن يصلح قادة المسلمين ويجعلهم هداة مهتدين، وأن يوفقهم لتحكيم الشريعة والتحاكم إليها، وأن يوفق ولاة أمرنا لكل خير، وينصر بهم الحق، إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(26/25)
صفحة فارغة(26/26)
حوادث السيارات
وبيان ما يترتب عليها بالنسبة لحق الله وحق عباده
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد،
فبناء على ما رآه مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة التاسعة المنعقدة بمدينة الطائف في شهر شعبان عام 1396 هـ من إدراج موضوع حوادث السيارات من صدم ودهس وانقلاب وبيان حكم ما يترتب على ذلك بالنسبة لحق الله وحق عباده في جدول أعمالها بالدورة العاشرة - أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك ضمنته ما يأتي:
1 - تصادم سيارتين مثلا أو صدم إحداهما الأخرى وبيان ما يترتب على ذلك من أحكام.
2 - دهس سيارة ونحوها لشيء وانقلابها وبيان ما يترتب على ذلك من أحكام.
3 - بيان ما يترتب على حوادث السيارات من العقوبات لمخالفة نظام المرور ونحوه مما يسبب وقوع الحوادث.
4 - توزيع الجزاء على من اشتركوا في وقوع الحادث بنسبة اعتدائهم أو خطئهم.
وفيما يلي الكلام على هذه الموضوعات إن شاء الله تعالى. . . .(26/27)
الموضوع الأول
تصادم سيارتين مثلا أو صدم إحداهما الأخرى
وبيان ما يترتب على ذلك من أحكام
تمهيد:
يحسن بنا أن نمهد بين يدي النقل عن فقهاء الإسلام في الموضوع ببيان منشأ اختلاف الأحكام أو اختلاف الفقهاء فيها بذكر ما يأتي:
إن ما يترتب على تصادم سيارتين مثلا أو صدم إحداهما الأخرى من الأحكام يختلف باختلاف عدة أمور:
الأول: حال القائد أو السائق من كونه عامدا أو مخطئا أو مغلوبا على أمره في وقوع الحادث أو كونه لا يحسن القيادة.
الثاني: اختلاف الفقهاء في ضابط العمد والخطأ وشبه العمد وما تحمله العاقلة وما لا تحمله.
الثالث: اعتبار فعل كل من الجانبين في حق نفسه وحق صاحبه أو اعتباره في حق صاحبه فقط.
الرابع: تعدي كل من الطرفين بالنسبة للحادث أو تعدي أحدهما دون الآخر.
الخامس: اعتبار التسبب أو المباشرة منهما أو من أحدهما أو من غيرهما.
السادس: الاختلاف في تحقيق المناط " التطبيق ".
وفيما يلي نقول، من بعض كتب الفقهاء في حكم حوادث المواصلات وآلات النقل في زمنهم يتضح منها حكم وسائل النقل في زمننا: جاء في تكملة فتح القدير على الهداية (1) :
(وإذا اصطدم فارسان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر) .
__________
(1) ص 348 ج 8 من تكملة فتح القدير.(26/28)
وقال زفر والشافعي: يجب على عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر لما روي في ذلك عن علي - رضي الله عنه - ولأن كل واحد منهما مات بفعله وفعل صاحبه لأنه بصدمته آلم نفسه وصاحبه فيهدر نصفه ويعتبر نصفه، كما إذا كان الاصطدام عمدا أو جرح كل واحد منهما نفسه وصاحبه جراحة أو حفرا على قارعة الطريق بئرا فانهار عليهما يجب على كل واحد منهما النصف فكذا هذا.
ولنا أن الموت يضاف إلى فعل صاحبه لأن فعله في نفسه مباح وهو المشي في الطريق فلا يصلح مستندا للإضافة في حق الضمان كالماشي إذا لم يعلم بالبئر ووقع فيها لا يهدر شيء من دمه وفعل صاحبه وإن كان مباحا لكن الفعل المباح في غيره سبب للضمان كالنائم إذا انقلب على غيره. وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه أوجب على كل واحد منهما كل الدية فتعارضت روايتاه فرجحنا بما ذكرنا. وفيما ذكر من المسائل الفعلان محظوران فوضح الفرق. اهـ.
وقال الكاساني (1) :
إذا اصطدم فارسان فماتا فدية كل واحد منهما على عاقلة الآخر في قول أصحابنا الثلاثة رحمهم الله وعند زفر رحمه الله على عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر وهو قول الشافعي رحمه الله (وجه) قول زفر أن كل واحد منهما مات بفعلين فعل نفسه وفعل صاحبه وهو صدمة صاحبه وصدمة نفسه فيهدر ما حصل بفعل نفسه ويعتبر ما حصل بفعل صاحبه فيلزم أن يكون على عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر كما لو جرح نفسه وجرحه أجنبي فمات أن على الأجنبي نصف الدية لما قلنا، كذا هذا (ولنا) ما روي عن سيدنا علي - رضي الله عنه - أنه قال مثل مذهبنا ولأن كل واحد منهما مات من صدم صاحبه إياه فيضمن صاحبه كمن بنى حائطا في الطريق فصدم رجلا فمات أن الدية على صاحب الحائط
__________
(1) ص 273 ج 7 من كتاب بدائع الصنائع.(26/29)
كذا هذا. وبه تبين أن صدمه نفسه مع صدم صاحبه إياه فيه غير معتبر إذ لو اعتبر لما لزم باني الحائط على الطريق جميع الدية لأن الرجل قد مشى إليه وصدمه وكذلك حافر البئر يلزمه جميع الدية وإن كان الماشي قد مشى إليها. رجلان مدا حبلا حتى انقطع فسقط كل واحد منهما فإن سقطا على ظهريهما فماتا فلا ضمان فيه أصلا لأن كل واحد منهما لم يمت من فعل صاحبه إذ لو مات من فعل صاحبه لخر على وجهه فلما سقط على قفاه علم أنه سقط بفعل نفسه وهو مده فقد مات كل واحد منهما من فعل نفسه فلا ضمان على أحد وإن سقطا على وجهيهما فماتا فدية كل واحد منهما على عاقلة الآخر لأنه لما خر على وجهه علم أنه مات من جذبه وإن سقط أحدهما على ظهره والآخر على وجهه فماتا جميعا فدية الذي سقط على وجهه على عاقلة الآخر لأنه مات بفعله وهو جذبه ودية الذي سقط على ظهره هدر لأنه مات من فعل نفسه ولو قطع قاطع الحبل فسقطا جميعا فماتا فالضمان على القاطع لأنه تسبب في إتلافهما والإتلاف تسببا يوجب الضمان كحفر البئر ونحو ذلك، صبي في يد أبيه جذبه رجل من يده والأب يمسكه حتى مات فديته على الذي جذبه ويرثه أبوه لأن الأب محق في الإمساك والجاذب متعد في الجذب فالضمان عليه، ولو تجاذب رجلان صبيا وأحدهما يدعي أنه ابنه والآخر يدعي أنه عبده فمات من جذبهما فعلى الذي يدعي أنه عبده ديته لأنه متعد في الجذب لأن المتنازعين في الصبي إذا زعم أحدهما أنه أبوه فهو أولى به من الذي يدعي أنه عبده فكان إمساكه بحق وجذب الآخر بغير حق فيضمن، رجل في يده ثوب تشبث به رجل فجذبه صاحب الثوب من يده فخرق الثوب ضمن الممسك نصف الخرق لأن حق صاحب الثوب في دفع الممسك وعليه دفعه بغير جذب فإذا جذب فقد حصل التلف من فعلهما فانقسم الضمان بينهما، رجل عض ذراع(26/30)
رجل فجذب المعضوض ذراعه من فيه فسقطت أسنان العاض وذهب لحم ذراع هذا تهدر دية الأسنان ويضمن العاض أرش الذراع لأن العاض متعد في العض والجاذب غير متعد في الجذب لأن العض ضرر وله أن يدفع الضرر عن نفسه. رجل جلس إلى جنب رجل فجلس على ثوبه وهو لا يعلم فقام صاحب الثوب فانشق ثوبه من جلوس هذا عليه يضمن الجالس نصف ذلك لأن التلف حصل من الجلوس والجذب، والجالس متعد في الجلوس إذ لم يكن له أن يجلس عليه فكان التلف حاصلا من فعليهما فينقسم الضمان عليهما.
رجل أخذ بيد إنسان فصافحه فجذب يده من يده فانقلب فمات فلا شيء عليه لأن الآخذ غير متعد في الأخذ للمصافحة بل هو مقيم سنة وإنما الجاذب هو الذي تعدى على نفسه حيث جذب يده لا لدفع ضرر لحقه من الآخذ وإن كان أخذ يده ليعرصها فآذاه فجر يده ضمن الآخذ ديته لأنه هو المتعدي وإنما صاحب اليد دفع الضرر عن نفسه بالجر، وله ذلك، فكان الضمان على المتعدي فإن انكسرت يد الممسك وهو الآخذ بالجذب لم يضمن الجاذب لأن التعدي من الممسك فكان جانيا على نفسه فلا ضمان على غيره.
والله سبحانه وتعالى أعلم. . .
في المدونة (1) :
(قلت) أرأيت إذا اصطدم فارسان فقتل كل واحد منهما صاحبه (قال) مالك عقل كل واحد منهما على قبيل صاحبه وقيمة كل فرس منهما في مال صاحبه (قال) أرأيت لو أن سفينة صدمت سفينة أخرى فكسرتها فغرق أهلها (قال) قال مالك إن كان ذلك من الريح غلبتهم أو من شيء لا يستطيعون حبسها منه فلا شيء عليهم وإن كانوا لو شاءوا أن يصرفوها صرفوها فهم ضامنون.
__________
(1) ص 505 ج4.(26/31)
وفي بداية المجتهد لابن رشد (1) :
اختلفوا في الفارسين يصطدمان فيموت كل واحد منهما فقال مالك وأبو حنيفة وجماعة على كل منهما دية الآخر، وذلك على العاقلة، وقال الشافعي وعثمان البتي: على كل واحد منهما نصف دية صاحبه لأن كل واحد منهما مات من فعل نفسه وفعل صاحبه.
قال أحمد الدردير في شرحه الكبير لمختصر خليل (2) : وإن تصادما أي المكلفان أو غيرهما (أو تجاذبا) حبلا أو غيره كأن جذب كان منهما يد صاحبه فسقطا (مطلقا) سواء كانا راكبين أو ماشيين أو مختلفين أو بسفينتين على الراجح (قصدا) منهما (فماتا) معا فلا قصاص لفوات محله (أو) مات (أحدهما فقط) (فالقود) جواب للمسألتين وهو على حذف مضاف أي فأحكامه ثابتة بينهما وحكمه في موتهما نفيه وفي موت أحدهما ثبوته، ومن أحكامه أنه إذا كان أحدهما بالغا والآخر صبيا فلا قصاص على الصبي أو كان أحدهما حرا والآخر رقيقا فلا يقتص للرقيق من الحر ويحكم بحكم القود أيضا فيما لو قصد أحدهما التصادم أو التجاذب دون الآخر، وهو داخل في قوله قصدا (وحملا عليه) أي على القصد عند جهل الحال لا على الخطأ وإنما يظهر في موت أحدهما فقط للقصاص من الحي (عكس السفينتين) إذا تصادمتا فتلفتا أو إحداهما وجهل الحال فيحملان على عدم القصد فلا قود ولا ضمان لأن جريهما بالريح وليس من عمل أربابهما وهذه العلة تدل على أن المراد بعدم القصد هو العجز لا الخطأ وهو كذلك على الراجح وأما الخطأ ففيه الضمان فظهر أن لقوله: عكس السفينتين فائدة حيث حمل على العجز.
وأما المتصادمان ففي العمد القود كما قال وفي الخطأ الضمان. ولو سفينتين فيهما ولا شيء في العجز بل هدر ولو غير سفينتين كما أشار له بقوله:
__________
(1) ص 409 ج2.
(2) ص 247 ج 4(26/32)
(إلا لعجز حقيقي) أي إلا أن يكون تصادمهما لعجز حقيقي، لا يستطيع كل منهما أن يصرف نفسه أو دابته عن الآخر فلا ضمان بل هدر ولا يحملان عند الجهل عليه بل على العمد كما تقدم لكن الراجح أن العجز الحقيقي في المتصادمين كالخطأ، فيه ضمان الدية في النفس والقيم في الأموال بخلاف السفينتين فهدر وحملا عند الجهل عليه لأن جريهما بالريح كما تقدم (لا لخوف غرق أو ظلمة) فخرج من قوله: عكس السفينتين أي فإنهما يحملان على العجز عند الجهل فلا قود ولا ضمان (إلا لخوف غرق أو ظلمة) فالضمان؛ أي: لا إن قدروا على الصرف فلم يصرفوا خوفا من غرق أو نهب أو أسر أو وقوع في ظلمة حتى تلفتا أو إحداهما أو ما فيهما من آدمي أو متاع فضمان الأموال في أموالهم والدية على عواقلهم لأن هذا ليس من العجز الحقيقي لقدرتهم على الصرف وليس لهم أن يسلموا من الهلاك بهلاك غيرهم (وإلا) يكن التصادم في غير السفينتين أو فيهما أو التجاذب قصدا بل خطأ (فدية كل) من الآدميين (على عاقلة الآخر) للخطأ، وقيمة فرسه مثلا، وإنما خص الفرس لأن التصادم غالبا يكون في ركوب الخيل (في مال الآخر) لا على عاقلته لأن العاقلة لا تحمل غير الدية (كثمن العبد) أي قيمته لا يكون على عاقلة لأنه مال بل في مال الحر، ودية الحر في رقبة العبد حالة فإن تصادما فماتا فإن زادت دية الحر على قيمة العبد لم يضمن سيده الزائد، لأنها تعلقت برقبة العبد، ورقبته زالت ولو زادت قيمة العبد على دية الحر أخذ سيده الزائد من مال الحر حالا. اهـ.
قال محمد بن يوسف العبدري الشهير بالمواق في شرحه التاج والإكليل لمختصر خليل (1) : (وإن تصادما أو تجاذبا مطلقا قصدا فماتا أو أحدهما فالقود. قال مالك: إذا اصطدم فارسان فمات الفرسان
__________
(1) ص 243 ج 6.(26/33)
والراكبان فدية كل واحد على عاقلة الآخر وقيمة فرس كل واحد في مال الآخر، قال مالك: ولو أن حرا وعبدا اصطدما فماتا جميعا فقيمة العبد في مال الحر ودية الحر في رقبة العبد يتقاصان فإن كان ثمن العبد أكثر من دية الحر كان الزائد لسيد العبد في مال الحر وإن كانت دية الحر أكثر لم يكن على السيد من ذلك شيء. وقال في رجلين اصطدما وهما يحملان جرتين فانكسرتا غرم كل واحد ما كان على صاحبه وإن انكسرت إحداهما غرم ذلك له صاحبه. قال مالك في السفينتين تصطدمان فتغرق إحداهما بما فيها فلا شيء في ذلك على أحد لأن الريح تغلبهم إلا أن يعلم أن النواتية لو أرادوا صرفها قدروا فيضمنوا وإلا فلا شيء عليهم قال ابن القاسم: ولو قدروا على حبسها إلا أن فيها هلاكهم وغرقهم فلم يفعلوا فليضمن عواقلهم دياتهم ويضمنوا الأموال في أموالهم وليس لهم أن يطلبوا نجاتهم بغرق غيرهم وكذلك لو لم يروهم في ظلمة الليل وهم لو رأوهم لقدروا على صرفها فهم ضامنون لما في السفينة ودية من مات على عواقلهم ولكن لو غلبتهم الريح أو غفلوا لم يكن عليهم شيء " انتهى. من ابن يونس ابن عرفة قال ابن شاس: وسواء كان المصطدمون راكبين أو ماشين أو بصيرين أو ضريرين أو أحدهما ضريرا وبيده عصا وإن تعمد الاصطدام فهو عمد محض فيه حكم القصاص ولو كانا صبيين ركبا بأنفسهما أو أركبهما أولياؤهما فالحكم فيهما كما في البالغين إلا في القصاص ولو جذبا حبلا فانقطع فتلف فكاصطدامهما وإن وقع أحدهما على شيء فأتلفه ضمناه. ابن عرفة يؤيد هذا ما في المدونة والمجموعة إن اصطدم فرسان فمر أحدهما على صبي فقطع إصبعه ضمناه انظر هنا في ابن عرفة القصاص. من قتل خارجة ولم يلتفت لإثبات قوله أردت عمرا وأراد الله خارجة ومن قتل رجلا عمدا يظنه غيره ممن لو قتله لم يكن فيه قصاص ومن رمى رجلا بحجر فاتقاها المرمي عليه فقتلت(26/34)
آخر كما لو هرب أمام القاتل فسقط على طفل فقتله كالأربعة الذين تعلق بعضهم ببعض وسقطوا على الأسد فقتلهم (وحملا عليه عكس السفينتين إلا لعجز حقيقي إلا كخوف غرق أو ظلمة) قد تقدم جميع ما نقل ابن يونس عن ابن القاسم في اصطدام السفينتين والراكبين، وقال ابن الحاجب: لو اصطدم فارسان عمدا فإحكام القصاص وإلا فعلى عاقلة كل واحد دية الآخر ثم قال فإن اصطدم سفينتان فلا ضمان بشرط العجز عن الصرف والمعتبر العجز حقيقة لا لخوف غرف أو ظلمة، ابن عبد السلام: قول ابن الحاجب يوهم أن حكم الفارسين مخالف لحكم السفينتين وليس كذلك لأن الفارسين إذا جمح بهما فرساهما فكان تلف لم يضمنا إلا أن الفرسين إذا جهل أمرهما حمل على أنهما قادران على إمساكهما وفي السفينتين على العجز. ابن عرفة قوله إذا جمح الفرس ولم يقدر راكبه على صرفه أنه لا يضمن يرد بقولها إن جمحت دابة براكبها فوطئت إنسانا فهو ضامن وبقولها إن كان في رأس الفرس اعتزام فحمل بصاحبه فاصطدم فصاحبه ضامن لأن سبب جمحه من راكبه وفعله به إلا أن يكون إنما نفر من شيء مر به في الطريق من غير سبب راكبه فلا ضمان عليه (وإلا فدية كل على عاقلة الآخر وفرسه في مال الآخر كثمن العبد) .
وقال أبو إسحاق الشيرازي في المهذب (1) :
(فصل) وإن اصطدم فارسان أو رجلان وماتا وجب على كل واحد منهما نصف دية الآخر. وقال المزني: إن استلقى أحدهما فانكب الآخر على وجهه وجب على المنكب دية المستلقي وهدر دمه لأن الظاهر أن المنكب هو القاتل والمستلقي هو المقتول وهذا خطأ لأن كل واحد منهما هلك بفعله وفعل صاحبه فهدر النصف بفعله ووجب النصف بفعل
__________
(1) ص 195 ج2 من المهذب(26/35)
صاحبه كما لو جرح كل واحد منهما نفسه وجرحه صاحبه، ووجه قول المزني لا يصح لأنه يجوز أن يكون المستلقي صدم صدمة شديدة فوقع مستلقيا من شدة صدمته. وإن ركب صبيان أو أركبهما وليهما واصطدما وماتا فهما كالبالغين، وإن أركبهما من لا ولاية له عليهما فاصطدما وماتا وجب على الذي أركبهما دية كل واحد منهما النصف بسبب ما جنى كل واحد من الصبيين على نفسه والنصف بسبب ما جناه الآخر عليه. وإن اصطدمت امرأتان حاملان فماتتا ومات جنيناهما كان حكمهما في ضمانهما حكم الرجلين، فأما الحمل فإنه يجب على كل واحدة منهما نصف دية جنينها ونصف دية جنين الأخرى لجنايتهما عليهما.
(فصل) وإن وقف رجل في ملكه أو في طريق واسع فصدمه رجل فمات هدر دم الصادم لأنه هالك بفعل هو مفرط فيه فسقط ضمانه، كما لو دخل دار رجل فيها بئر فوقع فيها. وتجب دية المصدوم على عاقلة الصادم لأنه قتله بصدمة هو متعمد فيها وإن وقف في طريق ضيق فصدمه رجل ومات وجب على عاقلة كل واحد منهما دية الآخر لأن الصادم قتل الواقف بصدمة هو مفرط فيها والمصدوم قتل الصادم بسبب هو مفرط فيه وهو وقوفه في الطريق الضيق. وإن قعد في طريق ضيق فعثر به رجل فمات كان الحكم فيه كالحكم في الصادم، والمصدوم وقد بيناه.
(فصل) فإن اصطدمت سفينتان وهلكتا وما فيهما فإن كان بتفريط من القيمين بأن قصرا في آلتهما أو قدرا على ضبطها فلم يضبطا أو سيرا في ريح شديدة لا تسير السفن في مثلها فإن كانت السفينتان وما فيهما لهما وجب على كل واحد منهما نصف قيمة سفينة صاحبه ونصف قيمة ما فيها ويهدر النصف وإن كانت لغيرهما وجب على كل واحد منهما نصف قيمة سفينته ونصف قيمة ما فيها ونصف قيمة سفينة صاحبه ونصف قيمة ما فيها لما بيناه في الفارسين، فإن كان في السفن رجال فهلكوا ضمن عاقلة(26/36)
كل واحد منهما نصف ديات ركاب سفينته وركاب سفينة صاحبه فإن قصدا الاصطدام وشهد أهل الخبرة أن مثل هذا يوجب التلف وجب على كل واحد منهما القصاص لركاب سفينته وركاب سفينة صاحبه وإن لم يفرطا ففي الضمان قولان أحدهما يجب كما يجب في اصطدام الفارسين إذا عجزا عن ضبط الفرسين، والثاني: لا يجب لأنها تلفت من غير تفريط منهما فأشبه إذا تلفت بضاعة، واختلف أصحابنا في موضع القولين فمنهم من قال: القولان إذا لم يكن من جهتهما فعل بأن كانت السفن واقفة فجاءت الريح فقلعتها، فأما إذا سيرا ثم جاءت الريح فغلبتهما ثم اصطدما وجب الضمان قولا واحدا لأن ابتداء السير كان منهما فلزمهما الضمان كالفارسين. وقال أبو إسحاق وأبو سعيد: القولان في الحالين، وفرقوا بينهما وبين الفارسين بأن الفارس يمكنه ضبط الفرس باللجام والقيم لا يمكنه ضبط السفينة، فإن قلنا إنه يجب الضمان كان الحكم فيه كالحكم فيه إذا فرط إلا في القصاص فإنه لا يجب مع عدم التفريط وإن قلنا إنه لا يجب الضمان نظرت فإن كانت السفن وما فيها لهما لم يجب على كل واحد منهما ضمان وإن كانت السفن مستأجرة والمتاع الذي فيهما أمانة كالوديعة ومال المضاربة لم يضمن لأن الجميع أمانة فلا تضمن مع عدم التفريط وإن كانت السفن مستأجرة والمتاع الذي فيها يحمله بأجرة لم يجب ضمان السفن لأنها أمانة وأما المال فهو مال في يد أجير مشترك فإن كان مع صاحبه لم يضمن وإن لم يكن معه صاحبه فعلى القولين في الأجير المشترك وإن كان أحدهما مفرطا والآخر غير مفرط كان الحكم في المفرط ما ذكرناه إذا كانا مفرطين، والحكم في غير المفرط ما ذكرناه إذا كانا غير مفرطين.
وقال الشيخ محمد الشربيني الخطيب في شرح المنهاج: \ 1
(فصل) فيما يوجب الشركة في الضمان وما يذكر معه، إذا(26/37)
(اصطدما) أي حران كاملان راكبان أو ماشيان أو راكب وماش طويل سواء أكانا مقبلين أو مدبرين أم أحدهما مقبلا والآخر مدبرا كما يشعر به إطلاقه، وإن قيد الرافعي بالمدبرين وقيد المصنف الاصطدام بقوله (بلا قصد) كاصطدام أعميين، أو غافلين، أو كانا في ظلمة ليشمل ما إذا غلبتهما الدابتان، وسيأتي محترزه في كلامه، واستفيد تقييد الاصطدام بالحرين من قوله (فعلى عاقلة كل) منهما (نصف دية مخففة) أما كونه نصف دية فلأن كل واحد هلك بفعله وفعل صاحبه فيهدر النصف كما لو جرحه مع جراحة نفسه وأما كونها مخففة على العاقلة فلأنه خطأ محض، ولا فرق في ذلك بين أن يقعا منكبين أو مستلقيين، أو أحدهما منكبا والآخر مستلقيا اتفق المركوبان كفرسين أو لا كفرس وبعير وبغل اتفق سيرهما أو اختلف كأن كان أحدهما يعدو والآخر يمشي على هينته (وإن قصدا) جميعا الاصطدام (فنصفها مغلظة) على عاقلة كل منهما لورثة الآخر أما كونها نصف دية فلما مر. وأما كونها مغلظة على العاقلة فلأن القتل حينئذ شبه عمد. لأن الغالب أن الاصطدام لا يفضي إلى الموت فلا يتحقق فيه العمد المحض ولذلك لا يتعلق به القصاص إذا مات أحدهما دون الآخر (أو) قصد (أحدهما) الاصطدام دون الآخر وماتا (فلكل) منهما (حكمه) من التخفيف والتغليظ.
(تنبيه) محل ذلك ما إذا لم تكن إحدى الدابتين ضعيفة بحيث قطع بأنه لا أثر لحركتها، فإن كانت كذلك لم يتعلق بحركتها حكم كغرز الإبرة في جلدة العقب مع الجراحات العظيمة نقله في الروضة عن الإمام وأقره: وجزم به ابن عبد السلام ولا ينافيه قول الشافعي رضي الله تعالى عنه سواء أكان أحد الراكبين على فيل والآخر على كبش لأنا لا نقطع بأنه لا أثر لحركة الكبش مع حركة الفيل، ومثل ذلك يأتي في الماشيين كما قاله ابن الرفعة وغيره والصحيح أن على كل منهما في تركته (كفارتين)(26/38)
إحداهما لقتل نفسه والأخرى لقتل صاحبه لاشتراكهما في إهلاك نفسين بناء على أن الكفارة لا تتجزأ وأن قاتل نفسه عليه كفارة وهو الأظهر والثاني على كل كفارة بناء على أنها تتجزأ (وإن ماتا مع مركوبهما فكذلك الحكم دية وكفارة (و) يزاد على ذلك أن (في تركة كل) منهما (نصف قيمة دابة الآخر) أي مركوبه لاشتراكهما في الإتلاف مع هدر فعل كل منهما في حق نفسه، وقد يجيء التقاص في ذلك ولا يجيء في الدية إلا أن يكون عاقلة كل منهما ورثته وعدمت الإبل
(فروع) لو كان مع كل من المصطدمين بيضة، وهي ما تجعل على الرأس فكسرت ففي البحر أن الشافعي رضي الله تعالى عنه قال: على كل منهما نصف قيمة بيضة الآخر، ولو تجاذبا حبلا لهما أو لغيرهما فانقطع وسقطا وماتا فعلى عاقلة كل منهما نصف دية الآخر وهدر الباقي لأن كلا منهما مات بفعله وفعل الآخر سواء أسقطا منكبين أم مستلقيين أم أحدهما منكبا والآخر مستلقيا فإن قطعه غيرهما فماتا فديتهما على عاقلته لأنه القاتل لهما وإن مات أحدهما بإرخاء الآخر الحبل فنصف ديته على عاقلته وهدر الباقي لأنه مات بفعلهما، وإن كان الحبل لأحدهما والآخر ظالم فالظالم هدر وعلى عاقلته نصف دية المالك، ولو كان شخص يمشي فوقع مداسه على مؤخر مداس غيره وتمزق لزمه نصف الضمان لأنه تمزق بفعله وفعل صاحبه (وصبيان أو مجنونان) أو صبي ومجنون في اصطدامهما (ككاملين) فيما سبق فيهما ومنه التغليظ بناء على أن عمدهما عمد وهو الأصح إن كانا مميزين هذا إن ركبا بأنفسهما وكذا إن أركبهما وليهما لمصلحتهما وكانا ممن يضبط المركوب (وقيل) ونص عليه في الأم (إن أركبهما الولي تعلق به الضمان) لما فيه من الخطر وجوازه مشروط بسلامة العاقبة، والأصح المنع كما لو ركبا بأنفسهما:
(تنبيه) محل الخلاف كما نقلاه عن الإمام وأقراه ما إذا أركبهما لزينة(26/39)
أو لحاجة غير مهمة فإن أرهقت إلى إركابهما حاجة كنقلهما من مكان إلى مكان فلا ضمان عيه قطعا، قالا: ومحله أيضا عند ظن السلامة فإن أركبهما الولي دابة شرسة جموحا ضمن الولي لتعديه، قال الأذرعي، ومحله أيضا فيمن يستمسك على الدابة فلو أركبه دابة هادية وهو لا يستمسك عليها تعلق به الضمان، قال ابن الرفعة: ويستثنى من عدم تضمين الولي ما إذا كانا غير مميزين كابن سنة وسنتين فأركبهما الولي فيجب على عاقلته دية كل منهما، قال البلقيني: وينبغي أن يضاف إلى ما ذكره الإمام أن لا ينسب الولي إلى تقصيره في ترك من يكون معهما ممن جرت العادة بإرساله معهما. قال: والمراد بالولي هنا ولي الحضانة الذكر لا ولي المال وذلك ظاهر من قول الشافعي رضي الله تعالى عنه وبسط ذلك. ثم قال ولم أر من تعرض له وقال الزركشي في التكملة: يشبه أنه من له ولاية التأديب من أب وغيره خاص وغيره. وقال في الخادم ظاهر كلامهم والي المال. اهـ. والأوجه كلام البلقيني (ولو أركبهما أجنبي) بغير إذن الولي ولو لمصلحتهما (ضمنهما ودابتيهما) لتعديه بإركابهما وحكى ابن المنذر فيه الإجماع.
(تنبيه) شمل إطلاقه تضمين الأجنبي ما لو تعمد الصبيان الاصطدام وهو كذلك وإن قال في الوسيط يحتمل إحالة الهلاك عليهما بناء على أن عمدهما عمد، واستحسنه الشيخان لأن هذه المباشرة ضعيفة فلا يعول عليها كما قاله شيخي، وقوله: ضمنهما ودابتيهما ليس على إطلاقه، بل الضمان الأول على عاقلته والثاني عليه، وقضية كلام الجمهور إن ضمان المركب بذلك ثابت، وإن كان الصبيان ممن يضبطان الركوب وهو كذلك وإن كان قضية نص الأم أنهما إن كانا كذلك فهما كما لو ركبا بأنفسهما وجزم به البلقيني أخذا من النص المشار إليه، وإن وقع الصبي فمات ضمنه المركب كما قاله الشيخان وظاهره أنه لا فرق بين أن يكون(26/40)
إركابه لغرض من فروسية ونحوها أو لا، وهو كذلك في الأجنبي، بخلاف الولي فإنه إذا أركبه لهذا الغرض وكان ممن يستمسك على الدابة فإنه لا يضمنه، وقول المتولي لا فرق بين الولي والأجنبي خصه ابن الرفعة في الأجنبي على ما إذا أركب بإذن معتبر. أو اصطدم (حاملان وأسقطتا) بأن ألقتا جنينيهما وماتتا (فالدية كما سبق) من وجوب نصفها على عاقلة كل منهما وإهدار النصف الآخر، لأن الهلاك منسوب إلى فعلهما (وعلى) أي ويجب في تركة (كل) من الحاملين (أربع كفارات على الصحيح) بناء على الصحيح أن الكفارة تجب على قاتل نفسه وأنها لا تتجزأ فيجب كفارة لنفسها، وثانية لجنينها، وثالثة لصاحبتها، ورابعة لجنينها لأنهما اشتركا في إهلاك أربعة أنفس. والثاني تجب كفارتان بناء على عدم الوجوب وعلى التجزي (و) يجب (على عاقلة كل) منهما (نصف غرتي جنينيهما) نصف غرة لجنينها ونصف غرة لجنين الأخرى، لأن الحامل إذا جنت على نفسها فألقت جنينا وجبت الغرة على عاقلتها كما لو جنت على حامل أخرى ولا يهدر من الغرة شيء بخلاف الدية فإنه يجب نصفها ويهدر نصفها كما مر، لأن الجنين أجنبي عنهما بخلاف أنفسهما.
(تنبيه) كلامه قد يوهم وجوب رقيق واحد نصفه لهذا ونصفه لذلك وعبارة ابن يونس له أن يسلم نصف رقيق عن واحد ونصف رقيق عن الآخر، وعلى هذا فكان الأولى للمنصف أن يقول نصف غرة لهذه ونصف غرة للأخرى (أو) اصطدم (عبدان) وماتا (فهدر) سواء ماتا معا بهذا الاصطدام أم أحدهما بعد الآخر قبل إمكان بيعه وسواء اتفقت قيمتهما أم اختلفت، لأن جناية العبد تتعلق برقبته وقد فاتت.
(أو) اصطدم سفينتان وغرقتا (فكدابتين) اصطدمتا وماتتا في حكمهما السابق (والملاحان) فيهما تثنية ملاح، وهو النوتي صاحب السفينة سمي بذلك لإجرائه السفينة على الماء المالح حكمهما (كراكبين) ماتا باصطدام(26/41)
في حكمهما السابق (وإن كانتا) أي السفينتان وما فيهما (لهما) فيهدر نصف قيمة كل سفينة ونصف بدل ما فيها، فإن ماتا بذلك لزم كلا منهما كفارتان كما سبق ولزم عاقلة كل منهما نصف دية الآخر.
(تنبيه) يستثنى من كون الملاحين كالراكبين ما إذا قصد الملاحان الاصطدام بما يعده أهل الخبرة مهلكا مغرقا فإنه يجب نصف دية كل منهما في تركة الآخر، بخلاف المصطدمين فإنها على العاقلة، ولو مات أحدهما بما صدر من المتعمد دون الآخر وجب القصاص على الحي بناء على إيجاب القصاص على شريك جارح نفسه ولو كان في السفينة من يقتلان به فعليهما القصاص إذا مات بذلك، فلو تعدد الغرقى قتل بواحد ووجب في مال كل واحد نصف ديات الباقين وضمان الكفارات بعدد من أهلكا، وإن كان الاصطدام لا يعد مهلكا غالبا وقد يهلك فشبه عمد فتجب الدية مغلظة على العاقلة ولو كان الملاحان صبيين وأقامهما الولي أو أجنبي فالظاهر كما قال الزركشي إنه لا يتعلق به ضمان لأن الوضع في السفينة ليس بشرط لأن العمد من الصبيين هنا هو المهلك (فإن) كانت السفينتان لهما (وكان فيهما مال أجنبي لزم كلا) منهما (نصف ضمانه) سواء أكان المال في يد مالكه وهو السفينة أم لا لتعديهما ويتخير الأجنبي بين أخذ جميع بدل ماله من أحد الملاحين ثم هو يرجع على الآخر. وبين أن يأخذ نصفه منه ونصفه من الآخر فإن كان الملاحان رقيقين تعلق الضمان برقبتيهما (وإن كانتا لأجنبي) والملاحان فيهما أمينين أو أجيرين للمالك (لزم كلا نصف قيمتهما) لأن مال الأجنبي لا يهدر منه شيء، ويتخير كل من المالكين بين أن يأخذ جميع قيمة سفينته من ملاحه ثم يرجع هو بنصفهما على الملاح الآخر. أو يأخذ نصفهما منه ونصفهما من الملاح الآخر، فلو كان الملاحان رقيقين تعلق الضمان برقبتيهما.(26/42)
(تنبيه) محل هذا التفصيل إذا كان الاصطدام بفعلهما أو لم يكن وقصرا في الضبط أو سيرا في ريح شديدة فإن حصل الاصطدام بغلبة الريح فلا ضمان على الأظهر بخلاف غلبة الدابة فإن الضبط ثم ممكن باللجام ونحوه فالقول قولهما بيمينهما عند التنازع في أنهما غلبا؛ لأن الأصل براءة ذمتهما وإن تعمد أحدهما أو فرط دون الآخر فلكل حكمه وإن كانت إحداهما مربوطة فالضمان على مجري السائرة.
وفي المغني لابن قدامة (1) رحمه الله:
(مسألة) قال (وإذا اصطدم الفارسان فماتت الدابتان ضمن كل واحد منهما قيمة دابة الآخر) وجملته: أن على كل واحد من المصطدمين ضمان ما تلف من الآخر من نفس أو دابة أو مال سواء كانت الدابتان فرسين أو بغلين أو حمارين أو جملين أو كان أحدهما فرسا والآخر غيره سواء كانا مقبلين أو مدبرين، وبهذا قال أبو حنيفة وصاحباه وإسحاق.
وقال مالك والشافعي: على كل واحد منهما نصف قيمة ما تلف من الآخر لأن التلف حصل بفعلهما فكان الضمان منقسما عليهما كما لو جرح إنسان نفسه وجرحه غيره فمات منهما ولنا أن كل واحد منهما مات من صدمة صاحبه وإنما هو قربها إلى محل الجناية فلزم الآخر ضمانها كما لو كانت واقفة بخلاف الجراحة. إذا ثبت هذا فإن قيمة الدابتين إن تساوتا تقاصا وسقطتا وإن كانت إحداهما أكثر من الأخرى فلصاحبها الزيادة وإن ماتت إحدى الدابتين فعلى الآخر قيمتها وإن نقصت فعليه نقصها.
(فصل) فإن كان أحدهما يسير بين يدي الآخر فأدركه الثاني فصدمه فماتت الدابتان أو إحداهما فالضمان على اللاحق لأنه الصادم والآخر مصدوم فهو بمنزلة الواقف.
__________
(1) ص 89 من ج 4.(26/43)
(مسألة) قال (وإن كان أحدهما يسير والآخر واقفا فعلى السائر قيمة دابة الواقف) نص أحمد على هذا لأن السائر هو الصادم المتلف فكان الضمان عليه وإن مات هو أو دابته فهو هدر لأنه أتلف نفسه ودابته وإن انحرف الواقف فصادفت الصدمة انحرافه فهما كالسائرين لأن التلف حصل من فعلهما وإن كان الواقف متعديا بوقوفه مثل أن يقف في طريق ضيق فالضمان عليه دون السائر لأن التلف حصل بتعديه فكان الضمان عليه كما لو وضع حجرا في الطريق أو جلس في طريق ضيق فعثر به إنسان.
(مسألة) قال (وإن تصادم نفسان يمشيان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر) روي هذا عن علي - رضي الله عنه - والخلاف فيها في الضمان كما الخلاف فيما إذا اصطدم الفارسان إلا أنه لا تقاص هاهنا في الضمان لأنه على غير من له الحق لكون الضمان على عاقلة كل واحد منهما. وإن اتفق أن يكون الضمان على من له الحق مثل أن تكون العاقلة هي الوارثة أو يكون الضمان على المتصادمين تقاصا ولا يجب القصاص سواء كان تصادمهما عمدا أو خطأ لأن الصدمة لا تقتل غالبا فالقتل الحاصل بها مع العمد عمد الخطأ ولا فرق بين البصيرين والأعميين والبصير والأعمى فإن كانتا امرأتين حاملتين فهما كالرجلين فإن أسقطت كل واحد منهما جنينا فعلى كل واحدة نصف ضمان جنينها ونصف ضمان جنين صاحبتها لأنهما اشتركتا في قتله وعلى كل واحد منهما عتق ثلاث رقاب واحدة لقتل صاحبتها واثنتان لمشاركتهما في الجنين وإن أسقطت إحداهما دون الأخرى اشتركتا في ضمانه وعلى كل واحدة عتق رقبتين.
وإن أسقطتا معا ولم تمت المرأتان ففي مال كل واحدة ضمان نصف الجنين بغرة إذا سقطا ميتين وعتق رقبتين وإن اصطدم راكب وماش(26/44)
فهو كما لو كانا ماشيين وإن اصطدم راكبان فماتا فهو كما لو كانا ماشيين.
(فصل) وإن اصطدم عبدان فماتا هدرت قيمتهما لأن قيمة كل واحد منهما تعلقت برقبة الآخر فسقطت بتلفه وإن مات أحدهما تعلقت قيمته برقبة الحي فإن هلك قبل استيفاء القيمة سقطت لفوات محلها وإن تصادم حر وعبد فماتا تعلقت دية الحر برقبة العبد ثم انتقلت إلى قيمة العبد ووجبت قيمة العبد في تركة الحر فيتقاصان فإن كانت دية الحر أكثر من قيمة العبد سقطت الزيادة لأنها لا متعلق لها وإن كانت قيمة العبد أكثر أخذ الفضل من تركة الجاني وفي مال الحر عتق رقبة ولا شيء على العبد لأن تكفيره بالصوم فيفوت بفواته وإن مات العبد وحده فقيمته في ذمة الحر لأن العاقلة لا تحمل العبد، وإن مات الحر وحده تعلق ديته برقبة العبد وعليه صيام شهرين متتابعين وإن مات العبد قبل استيفاء الدية سقطت وإن قتله أجنبي فعليه قيمته ويتحول ما كان متعلقا برقبته إلى قيمته لأنها بدله وقائمة مقامه وتستوفى ممن وجبت عليه.
(مسألة) قال (وإذا وقعت السفينة المنحدرة على الصاعدة فغرقتا فعلى المنحدرة قيمة السفينة الصاعدة أو أرش ما نقصت إن أخرجت إلا أن يكون قيم المنحدرة غلبته الريح فلم يقدر على ضبطها) . وجملته أن السفينتين إذا اصطدمتا لم تخلوا من حالين: أحدهما: أن تكونا متساويتين كاللتين في بحر أو ماء واقف، أو كانت إحداهما منحدرة والأخرى صاعدة فنبدأ بما إذا كانت إحداهما منحدرة والأخرى صاعدة لأنها مسألة الكتاب ولا يخلوان من حالين:
أحدهما: أن يكون القيم بها مفرطا بأن يكون قادرا على ضبطها أو ردها عن الأخرى فلم يفعل أو أمكنه أن يعدلها إلى ناحية أخرى فلم يفعل أو لم يكمل آلتها من الحبال والرجال وغيرهما فعلى المنحدر ضمان الصاعدة لأنها تنحط عليها من علو فيكون ذلك سببا لغرقها فتنزل(26/45)
المنحدرة بمنزلة السائر والصاعدة بمنزلة الواقف وإن غرقتا جميعا فلا شيء على المصعد، وعلى المنحدر قيمة المصعد أو أرش ما نقصت إن لم تتلف كلها إلا أن يكون التفريط من المصعد بأن يمكنه العدول بسفينته والمنحدر غير قادر ولا مفرط فيكون الضمان على المصعد لأنه المفرط وإن لم يكن من واحد منهما تفريط لكن هاجت ريح أو كان الماء شديد الجرية فلم يمكنه ضبطها فلا ضمان عليه لأنه لا يدخل في وسعه ضبطها ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
الحال الثاني: أن يكونا متساويتين فإن كان القيمان مفرطين ضمن كل واحد منهما سفينة الآخر بما فيها من نفس ومال كما قلنا في الفارسين يصطدمان، وإن لم يكونا مفرطين فلا ضمان عليهما وللشافعي في حال عدم التفريط قولان: أحدهما: عليهما الضمان لأنهما في أيديهما فلزمهما الضمان كما لو اصطدم الفارسان لغلبة الفرسين لهما. ولنا أن الملاحين لا يسيران السفينتين بفعلهما ولا يمكنهما ضبطهما في الغالب ولا الاحتراز من ذلك فأشبه ما لو نزلت صاعقة أحرقت السفينة ويخالفان الفرسين فإنه ممكن ضبطهما والاحتراز من طردهما وإن كان أحدهما مفرطا وحده فعليه الضمان وحده فإن اختلفا في تفريط القيم فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم التفريط وهو أمين فهو كالمودع وعند الشافعي أنهما إن كانا مفرطين فعلى كل واحد من القيمين ضمان نصف سفينته ونصف سفينة صاحبه كقوله في اصطدام الفارسين على ما مضى.
(فصل) فإن كان القيمان مالكين للسفينتين بما فيهما تقاصا وأخذ ذو الفضل فضله وإن كانا أجيرين ضمنا ولا تقاص هاهنا لأن من يجب به غير من يجب عليه وإن كان في السفينتين أحرار فهلكوا وكانا قد تعمدا المصادمة وذلك مما يقتل غالبا فعليهما القصاص وإن كانوا عبيدا فلا ضمان على القيمين إذا كان حرين وإن لم يتعمدا المصادمة أو كان ذلك(26/46)
مما لا يقتل غالبا وجبت دية الأحرار على عاقلة القيمين وقيمة العبيد في أموالهما وإن كان القيمان عبدين تعلق الضمان برقبتيهما فإن تلفا جميعا سقط الضمان وأما مع عدم التفريط فلا ضمان على أحد وإن كان في السفينتين ودائع ومضاربات لم تضمن لأن الأمين لا يضمن ما لم يوجد منه تفريط أو عدوان وإن كانت السفينتان بأجرة فهما أمانة أيضا لا ضمان فيهما وإن كان فيهما مال يحملانه بأجرة إلى بلد آخر فلا ضمان لأن الهلاك بأمر غير مستطاع.
(فصل) وإن كانت إحدى السفينتين قائمة والأخرى سائرة فلا ضمان على الواقفة وعلى السائرة ضمان الواقفة إن كان مفرطا ولا ضمان عليه إن لم يفرط على ما قدمنا. اهـ.
وذكر أبو الفرج في شرحه الكبير للمقنع نحو ما تقدم.
وفي الفروع لابن مفلح (1) رحمه الله:
وإن اصطدم راجلان أو راكبان أو ماش وراكب - قال في الروضة: بصيران أو ضريران أو أحدهما - فماتا أو دابتاهما ضمن كل واحد متلف الآخر، وقيل: نصفه، وقدم في الرعاية وإن غلبت الدابة راكبها بلا تفريط لم يضمن وجزم به في الترغيب وإن اصطدما عمدا ويقتل غالبا فهدر، والأشبه عمد، وما تلف للسائر منهما لا يضمنه واقف وقاعد، في المنصوص وقيل: بلى مع ضيق الطرق، وفي ضمان سائر ما أتلف لواقف وقاعد في طريق ضيق وجهان: وإن اصطدم قنان ماشيان فهدر، لا حر وقن فقيمة قن. وقيل: نصفها في تركة حر، ودية حر ويتوجه الوجه أو نصفها في تلك القيمة، وإن اصطدمت سفينتان فغرقتا ضمن كل واحد متلف الآخر وفي المغني: إن فرطا وقاله في المنتخب وأنه ظاهر كلامه ولا يضمن المصعد منهما بل المنحدر إن لم يغلبه ريح نص عليه. وفي
__________
(1) ص 6 ـ 8 من ج 6.(26/47)
الواضح وجه لا يضمن منحدر. وفي الترغيب السفينة كدابة والملاح كراكب ويصدق ملاح في إن تلف مال بغلبة ريح ولو تعمد الصدم فشريكان في إتلاف كل منهما ومن فيهما فإن قتل غالبا فالقود والأشبه عمد ولا يسقط فعل المصادم في حق نفسه مع عمد ولو خرقها عمدا أو شبه عمد أو خطأ عمل على ذلك، وهل يضمن من ألقى عدلا مملوءا بسفينة ما فيها أو نصفه أو بحصته؟ يحتمل أوجها وإن أركب صبيين غير وليهما فاصطدما ضمن وفي الترغيب: تضمن عاقلته ديتهما وإن ركباها فكبالغين مخطئين وكذا إن أركبهما ولي لمصلحة قال ابن عقيل ويثبتان بأنفسهما. وفي الترغيب: إن صلحا للمركوب وأركبهما ما يصلح لركوب مثلهما وإلا ضمن ويضمن كبير صدم الصغير وإن مات الكبير ضمنه من أركب الصغير نقل حرب: إن حمل رجل صبيا على دابة فسقط ضمنه إلا أن يأمره أهله بحمله. اهـ.
وفي الإنصاف على المقنع (1) :
قوله: (وإن اصطدم نفسان) قال في الروضة بصيران أو ضريران أو أحدهما، قلت وكذا قال المصنف والشارح (فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر) هذا المذهب جزم به الخرقي والمحرر والمفتي والشرح والزركشي والنظم والوجيز والمنور ومنتخب الآدمي وغيرهم وقدمه في الرعايتين والحاوي الصغير والفروع وقيل يجب على عاقلة كل منهما نصف الدية وهو تخريج لبعضهم.
(تنبيه) ظاهر كلام المصنف أنه سواء كان تصادمهما عمدا أو خطأ وهو صحيح وهو المذهب وعليه أكثر الأصحاب وقيل إذا كان عمدا يضمنان دون عاقلتهما وقال في الرعاية وهو أظهر (قوله: وإن كانا راكبين فماتت الدابتان فعلى كل واحد منهما قيمة دابة الآخر) وهذا
__________
(1) ص 35 ج 10.(26/48)
المذهب جزم به في المغني والشرح الكبير والمحرر وغيرهم وقدمه في الفروع وغيره وقيل على كل واحد منهما نصف قيمة دابة الآخر وقدم في الرعايتين إن غلبت الدابة راكبها بلا تفريط لم يضمن وجزم به في الترغيب والوجيز والحاوي الصغير. قوله (وإن كان أحدهما يسير والآخر واقفا فعلى السائر ضمان الواقف ودابته إلا أن يكون في طريق ضيق قاعدا أو واقفا فلا ضمان عليه. وعليه ضمان ما تلف به) ذكر المصنف هنا مسألتين إحداهما: ما يتلف السائر إذا كان الآخر واقفا أو قاعدا فقطع بضمان الواقف ودابته على السائر إلا أن يكون في طريق ضيق قاعدا أو واقفا فلا ضمان عليه وهو أحد الوجهين وهو المذهب منهما، ونص عليه وجزم به في المغني والشرح والوجيز وهو ظاهر ما جزم به في الرعاية والحاوي وقيل يضمنه السائر سواء كان الواقف في طريق ضيق أو واسع وقدمه في المحرر والنظم والزركشي وهو ظاهر كلام الخرقي وأطلقهما في الفروع.
المسألة الثانية: ما يتلفه الواقف أو القاعد للسائر في الطريق الضيق فجزم المصنف هنا أنه يضمنه وجزم به في الشرح وشرح ابن منجا واختاره المصنف والصحيح من المذهب أنه لا يضمن نص عليه وقدمه في المحرر والنظم والرعايتين والحاوي الصغير والفروع وأما ما يتلف للسائر إذا كان الطريق واسعا فلا ضمان على الواقف والقاعد على الصحيح من المذهب وقطع به كثير منهم وقدمه في المحرر والنظم والرعايتين والحاوي والفروع وغيرهم وقيل يضمنه، ذكره الزركشي وغيره.
تنبيهان: أحدهما: قوله (فعلى السائر ودابته ضمان الواقف يكون على عاقلة السائر وضمان دابة الواقف يكون على نفس السائر صرح به الأصحاب فظاهر كلام المصنف غير مراد.(26/49)
الثاني: قوله: (إلا أن يكون في طريق ضيق قاعدا أو واقفا) قال ابن منجا: لا بد أن يلحظ أن الطريق الضيق غير مملوك للواقف أو القاعد؛ لأنه إذا كان مملوكا لم يكن متعديا بوقوفه فيه، بل السائر هو المتعدي بسلوكه ملك غيره بغير إذنه. انتهى.
قال أبو محمد ابن حزم (1) رحمه الله (2) :
وأما المصطدمان راجلين أو على دابتين أو السفينتين يصطدمان، فروي عن الشعبي في السفينتين يصطدمان: لا ضمان في شيء من ذلك. وقال الشافعي: لا يجوز فيه إلا أحد قولين: إما أنه يضمن مدير السفينة نصف ما أصابت سفينته لغيره، أو أنه لا يضمن البتة إلا أن يكون قادرا على صرفها بنفسه أو بمن يطيعه فلا يفعل فيضمن. والقول قوله مع يمينه أنه ما قدر على صرفها وضمان الأموال إذا ضمن في ذمته وضمان النفوس على عاقلته، قال أبو محمد:: وقال بعض أصحابنا:: إذا اصطدمت السفينتان بغير قصد من ركابهما لكن بغلبة أو غفلة فلا ضمان في ذلك أصلا، فإن حملا سفينتيها على التصادم فهلكتا ضمن كل واحد نصف قيمة السفينة الأخرى لأنها هلكت من فعلها ومن فعل ركابها، وأما الفارسان يصطدمان فإن أبا حنيفة ومالكا والأوزاعي والحسن بن حيي قالوا: إن ماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر كاملة. وقال عثمان البتي وزفر والشافعي: على كل واحد منهما نصف دية صاحبه. وقال بعض أصحابنا بمثل قول الشافعي في ذلك، وكذلك أوجبوا إن هلكت الدابتان أو إحداهما فنصف قيمتها أيضا، وكذلك لو رموا بالمنجنيق فعاد الحجر على أحدهم فمات فإن الدية على عواقلهم وتسقط منها حصة المقتول؛ لأنه مات من فعله وفعل غيره قالوا: فلو صدم أحدهما فقط فمات المصدوم فديته
__________
(1) ص 502، 503، 504 من المحلى لابن حزم، طبع منير.
(2) ابن حزم، المحلى، ج 12 ص (283 ـ 286) مكتبة الجمهورية العربية \ 1391 هـ.(26/50)
على عاقلة الصادم إن كان خطأ، وفي مال القاتل إن قتلت في العمد.
قال أبو محمد: والقول في ذلك، وبالله تعالى التوفيق، أن السفينتين إذا اصطدمتا بغلبة ريح أو غفلة فلا شيء في ذلك؛ لأنه لم يكن من الركبان في ذلك عمل أصلا ولم يكسبوا على أنفسهم شيئا وأموالهم وأموال عواقلهم محرمة إلا بنص أو إجماع، فإن كانوا تصادموا وحملوا وكل أهل سفينة غير عارفة بمكان الأخرى لكن في ظلمة لم يروا شيئا فهذه جناية والأموال مضمونة؛ لأنهم تولوا إفسادها وقال تعالى::::
{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (1) .
وأما الأنفس فعلى عواقلهم كلهم؛ لأنه قتل خطأ، وإن كانوا تعمدوا فالأموال مضمونة كما ذكرنا، وعلى من سلم منهم القود أو الدية كاملة، والقول في الفارسين أو الرجلين يصطدمان كذلك، وكذلك أيضا الرماة بالمنجنيق تقسم الدية عليه وعليهم، وتؤدي عاقلته وعاقلتهم ديته سواء، برهان ذلك: أنه في الخطأ قاتل نفسه مع من قتلها، وقد ذكرنا قبل أن في قاتل نفسه الدية بنص قول الله تعالى في قاتل الخطأ، فعم تعالى كل مقتول ولم يخص خطأ وما كان ربك نسيا.
قال أبو محمد: ثم نرجع إلى مسألتنا فنقول: أما قولهم في المصطدمين أن الميت مات منهما من فعل نفسه ومن فعل غيره فهو خطأ، والفعل إنما هو مباشرته الفاعل وما يفعله فيه، وهو لم يباشره بصدمة غيره في نفسه شيئا ولا يختلفون فيمن دفع ظالما إلى ظالم آخر ليقاتله فقتل أحدهما الآخر أن على القاتل منهما القود أو الدية، كلها إن فات القود ببعض العوارض وهو قد تسبب في موت نفسه بابتداء القتال كما تسبب في موت نفسه بالصدم، ولا فرق، وهذا تناقض منهم.
قال أبو محمد: وكذلك القول في المتصارعين، ولا فرق، وما أباح الله
__________
(1) سورة الشورى الآية 40(26/51)
تعالى في اللعب شيئا حظره في الجد، وأما من سقط من علو على إنسان فماتا جميعا أو مات الواقع أو الموقوع عليه، فإن الواقع هو المباشر لإتلاف الموقوع عليه بلا شك وبالمشاهدة؛ لأن الوقعة قتلت الموقوع عليه ولم يعمل الموقوع عليه شيئا، فدية الموقوع عليه إن هلك على عاقلة الواقع إن لم يتعمد الوقوع عليه؛ لأنه قاتل خطأ، فإن تعمد فالقود واقع عليه إن سلم أو الدية، وكذلك الدية في ماله إن مات الموقوع عليه قبله، فإن ماتا معا أو مات الواقع قبل فلا شيء في ذلك لما ذكرنا من أن الدية إنما تجب بموت المقتول المجني عليه لا قبل ذلك، فإذا مات في حياة قاتله فقد وجبت الدية أو القود في مال القاتل، وإذا مات مع قاتله أو بعد قاتله فلم يجب له بعد شيء لا قود ولا دية في حياة القاتل، فإذا مات فالقاتل غير موجود والمال قد صار للورثة، وهذا لا حق له عندهم وليس هكذا قتل الخطأ؛ لأن الدية لا تجب في مال الجاني وإنما تجب على عاقلته فسواء مات القاتل قبل المقتول أو معه أو بعده لا يسقط بذلك وجوب الدية إما على العاقلة إن علمت وإما في كل مال المسلمين كما جاء في سهم الغارمين، وبالله تعالى التوفيق، ولا شيء لوارث الواقع إن مات في جميع هذه الوجوه لا دية ولا غيرها؛ لأنه لم يجن أحد عليه شيئا، وسواء وقع على سكين بيد الموقوع عليه أو على رمح أو غير ذلك لا شيء في ذلك أصلا؛ لأنه إن عمد فهو قاتل نفسه عمدا ولا شيء في ذلك بلا خلاف، وإن كان لم يعمد فلم يباشر في نفسه جناية وإنما هو قتيل حجر أو حديدة أو نحو ذلك، وما كان هكذا فلا شيء في ذلك كله.
وبالله تعالى التوفيق.
مما تقدم تتبين أحكام حوادث آلات النقل والمواصلات في نظر فقهاء الإسلام السابقين بالنسبة لما كان مستعملا منها في زمنهم كالسفن والدواب وأحكام حوادث المصارعة والتجاذب وما إليهما مع اختلاف(26/52)
وجهة نظرهم في بعض المسائل، ولا يزال الكثير من هذه الآلات والوسائل وأحداثها قائما، وجد إلى جانبها وسائل أخرى للنقل والمواصلات كالسيارات والطيارات والدبابات والدراجات، ولا غنى للناس عن استعمالها بل صارت من ضرورات الحياة، ولذا كثر استعمال الناس لها في تحقيق مصالحهم وقضاء حاجاتهم، ونشأ عن ذلك كثير من الحوادث فوجب على علماء هذا العصر أن يتبينوا حكمها على ضوء الأصول الشرعية وما سبق من النظائر التي حكم فيها أئمة الفقه الإسلامي باجتهادهم، وذلك بتخريج حوادث الوسائل الجديدة على نظائرها من حوادث الوسائل القديمة ليعرف الحكم فيها بتحقيق المناط وتطبيق القواعد الشرعية عليها، كما فعل المجتهدون السابقون في بناء الأحكام على أصولها واستنباطها منها وتخريجها على نظائرها، وعلى هذا يمكن أن يقال:
أولا: إن تصادمت سيارتان وكان ذلك من السائقين عمدا فإن ماتا فلا قصاص لفوات المحل وتجب دية كل منهما ودية من هلك معه من النفوس وما تلف معه من السيارة والمتاع في مال صاحبه بناء على عدم اعتبار اعتدائه وفعله في نفسه ومن هلك معه، واعتبار ذلك بالنسبة لصاحبه ومن هلك أو تلف معه، أو يجب نصف دية كل منهما ونصف دية من هلك معه ونصف قيمة ما تلف معه في مال صاحبه، بناء على اعتبار اعتدائه وفعله في حق نفسه وحق صاحبه، وإن مات أحدهما دون الآخر اقتص منه لمن مات بالصدمة؛ لأنها مما يغلب على الظن القتل به، وإن كان التصادم منهما خطأ وجبت الدية أو نصفها لكل منهما ولمن مات معه على عاقلة صاحبه، وتجب قيمة ما تلف من سيارة كل منهما أو متاعه أو نصفها في مال صاحبه بناء على ما تقدم من الاعتبارين، وإن كان أحدهما عامدا والآخر مخطئا فلكل حكمه(26/53)
على ما تقدم، ومن كان منهما مغلوبا على أمره فلا ضمان عليه إلا إذا كان ذلك بسبب تفريط منه سابق.
ثانيا: إذا صدمت سيارة سائرة سيارة واقفة في ملك صاحبها أو خارج طريق السيارات أو على جانب طريق واسع، ضمن سائق السائرة ما تلف في الواقفة من نفس ومال بصدمته؛ لأنه المتعدي فإن انحرفت الواقفة فصادف ذلك الصدمة فالضمان بينهما على ما تقدم في تصادم سيارتين، وإن كانت واقفة في طريق ضيق غير مملوك لصاحبها فالضمان على صاحب الواقفة، لتعديه بوقوفه، ويحتمل أن يكون الضمان بينهما لتفريط كل منهما وتعديه.
وإن صدمت سيارة نازلة من عقبة مثلا سيارة صاعدة فالضمان على سائق المنحدرة إلا إذا كان مغلوبا على أمره فلا ضمان عليه، أو كان سائق الصاعدة يمكنه العدول عن طريق النازلة فلم يفعل فالضمان بينهما، وإن أدركت سيارة سيارة أمامها فصدمتها ضمن سائق اللاحقة ما تلف من النفوس والأموال في سيارته والسيارة المصدومة؛ لأنه متعد بصدمه لما أمامه والأمامية بمنزلة الواقفة بطريق واسع إلا إذا حصل من سائق الأمامية فعل يعتبر سببا أيضا في الحادث، كأن يوقف سيارته فجأة أو يرجع بها إلى الخلف أو ينحرف بها إلى ممر اللاحقة ليعترض طريقها، فالضمان بينهما على ما تقدم من الخلاف في حكم تصادم سيارتين.
ثالثا: وإذا وقف سائق سيارة بسيارته أمام إشارة المرور مثلا ينتظر فتح الطريق فصدمت سيارة مؤخر سيارته صدمة دفعتها إلى الأمام فصدمت بعض المشاة مثلا فمات أو أصيب بكسور ضمن من صدمت سيارته مؤخر السيارة الأخرى كل ما تلف من نفس ومال؛ لأنه متعد بصدمه والسيارة الأمامية بمنزلة الآلة بالنسبة للخلفية فلا ضمان على سائقها لعدم تعديه.(26/54)
الموضوع الثاني
حوادث دهس السيارات وانقلابها، أو سقوط شيء
منها على أحد، أو قفز أحد ركابها، أو تعلق أحد بها
وما يترتب على ذلك من أحكام
يعتبر ما تقدم في التمهيد أمام النقول في الموضوع الأول من بيان مبنى الأحكام في الحوادث ومنشأ الخلاف فيها تمهيدا للنقول عن فقهاء الإسلام في الموضوع الثاني يقصد به هنا ما قصد به هناك، وعلى هذا نبدأ في ذكر النقول عن الفقهاء، ثم نتبعها تخريج الأحكام في موضوع البحث إن شاء الله.
قال شمس الدين المعروف بقاضي زاده في تكملة فتح القدير على الهداية (1) : " الراكب ضامن لما أوطأت الدابة ما أصابت بيدها أو رجلها أو رأسها أو كدمت أو خبطت، وكذا إذا صدمت ولا يضمن ما نفحت برجلها أو ذنبها "، والأصل أن المرور في طريق المسلمين مباح مقيد بشرط السلامة؛ لأنه يتصرف في حق نفسه من وجه وفي حق غيره من وجه؛ لكونه مشتركا بين كل الناس، فقلنا بالإباحة مقيدا بما ذكرنا ليعتدل النظر من الجانبين، ثم إنما يتقيد بشرط السلامة فيما يمكن الاحتراز عنه، ولم يتقيد بها فيما لا يمكن الاحتراز عنه، لما فيه من المنع من التصرف وسد بابه وهو مفتوح والاحتراز عن الإبطاء وما يضاهيه ممكن، فإنه ليس من ضرورات التسيير فقيدناه بشرط السلامة عنه، والنفحة بالرجل والذنب ليس يمكنه الاحتراز عنه مع السير على الدابة فلم يتقيد به (فإن أوقفها في الطريق ضمن النفحة أيضا) لأنه يمكنه التحرز عن الإيقاف، وإن لم يمكنه عن النفحة فصار متعديا في الإيقاف وشغل به
__________
(1) ص 344 ـ 354 من ج 8.(26/55)
فيضمنه. قال: (وإن أصابت بيدها أو برجلها حصاة أو نواة، أو أثارت غبارا أو حجرا صغيرا ففقأ عين إنسان أو أفسد ثوبه لم يضمن، وإن كان حجرا كبيرا ضمن) ؛ لأنه في الوجه الأول لا يمكن التحرز عنه، إذ سير الدواب لا يعرى عنه، وفي الثاني ممكن لأنه ينفك عن السير عادة وإنما ذلك عن تعنيف الراكب، والرديف فيما ذكرنا كالراكب؛ لأن المعنى لا يختلف قال: (فإن راثت أو بالت في الطريق وهي تسير فعطب به إنسان لم يضمن) ؛ لأنه من ضرورات السير فلا يمكن الاحتراز عنه، (وكذا إن أوقفها لذلك) ؛ لأن من الدواب ما لا يفعل ذلك إلا بالإيقاف، وإن أوقفها لغير ذلك فعطب إنسان بروثها أو بولها ضمن لأنه متعد بهذا الإيقاف؛ لأنه ليس من ضرورات السير، ثم هو أكثر ضررا بالمارة من السير، لأنه أدوم مدة، فلا يلحق به (والسائق ضامن لما أصابت بيدها أو رجلها والقائد ضامن لما أصابت بيدها دون رجلها) ، والمراد النفحة.
قال - رضي الله عنه -: هكذا ذكره القدوري في المختصر، وإليه مال بعض المشايخ، ووجهه أن النفحة بمرأى عين السائق فيمكنه الاحتراز عنه وغائب عن بصر القائد فلا يمكنه الاحتراز عنه، وقال بعض المشايخ: إن السائق لا يضمن النفحة أيضا وإن كان يراها؛ إذ ليس على رجلها ما يمنعها به فلا يمكنه التحرز عنه بخلاف الكدم لإمكانه كبحها بلجامها، وبهذا ينطق أكثر النسخ وهو الأصح، وقال الشافعي: يضمنون النفحة كلهم لأن فعلها مضاف إليهم، والحجة عليه ما ذكرناه، وقوله عليه الصلاة والسلام: «الرجل جبار (1) » ومعناه النفحة بالرجل وانتقال الفعل بتخويف القتل كما في المكره، وهذا تخويف بالضرب (قال: وفي الجامع الصغير: وكل شيء ضمنه الراكب ضمنه السائق والقائد) لأنهما مسببان بمباشرتها شرط التلف، وهو تقريبها إلى مكان الجناية فيتقيد بشرط السلامة فيما يمكن الاحتراز عنه كالراكب (إلا أن على الراكب
__________
(1) سنن أبو داود الديات (4592) .(26/56)
الكفارة فيما أوطأته بيدها أو برجلها (ولا كفارة عليهما) ولا على الراكب فيما وراء الإيطاء؛ لأن الراكب مباشر فيه لأن التلف بثقله وثقل الدابة تبع له، لأن سير الدابة مضاف إليه وهي آلة له، وهما مسببان لأنه لا يتصل منهما إلى المحل شيء وكذا الراكب في غير الإيطاء، والكفارة حكم المباشرة لا حكم التسبب، وكذا يتعلق بالإيطاء في حق الراكب حرمان الميراث والوضعية دون السائق والقائد؛ لأنه يختص بالمباشرة (ولو كان راكب وسائق قيل: لا يضمن السائق ما أوطأت الدابة) لأن الراكب مباشر فيه لما ذكرناه والسائق مسبب والإضافة إلى المباشر أولى، وقيل: الضمان عليهما؛ لأن كل ذلك سبب الضمان.
ثم قال (1) : (ومن ساق دابة فوقع السرج على رجل فقتله ضمن، وكذا على هذا سائر أدواته كاللجام ونحوه وكذا ما يحمل عليها) ؛ لأنه متعد في هذا التسبب، لأن الوقوع بتقصير منه وهو ترك الشد أو الإحكام بخلاف الرداء؛ لأنه لا يشد في العادة، ولأنه قاصد لحفظ هذه الأشياء كما في المحمول على عاتقه دون اللباس على ما مر من قبل، فيقيد بشرط السلامة.
قال: (ومن قاد قطارا فهو ضامن لما أوطأ فإن وطئ بعير إنسانا ضمن به القائد والدية على العاقلة) لأن القائد عليه حفظ القطار كالسائق، وقد أمكنه ذلك، وقد صار متعديا بالتقصير فيه والتسبب بوصف التعدي سببا للضمان إلا أن ضمان النفس على العاقلة فيه، وضمان المال في ماله (وإن كان معه سائق فالضمان عليهما) لأن قائد الواحد قائد للكل وكذا سائقه؛ لاتصال الأزمة، وهذا إذا كان السائق في جانب من الإبل، أما إذا كان توسطها وأخذ بزمام واحد يضمن ما عطب بما هو خلفه ويضمنان ما تلف بما بين يديه؛ لأن القائد لا يقود ما خلف السائق لانفصام الزمام، والسائق يسوق ما يكون قدامه ثم قال: (ومن سار على دابة في الطريق
__________
(1) ص 349 ـ 354 من ج 8 من التكملة.(26/57)
فضربها رجل أو نخسها فنفحت رجلا أو ضربته بيدها أو نفرت فصدمته فقتلته كان ذلك على الناخس دون الراكب) هو المروي عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، ولأن الراكب والمركوب مدفوعان بدفع الناخس فأضيف فعل الدابة إليه كأنه فعله بيده، ولأن الناخس متعد في تسبيبه والراكب في فعله غير متعد فيترجح جانبه في التغريم للتعدي حتى لو كان واقفا دابته على الطريق يكون الضمان على الراكب والناخس نصفين لأنه متعد في الإيقاف أيضا.
قال: (وإن نفحت الناخس كان دمه هدرا) لأنه بمنزلة الجاني على نفسه (وإن ألقت الراكب أيضا فقتلته كانت ديته على عاقلة الناخس) لأنه متعد في تسببه وفيه الدية على العاقلة، قال: (ولو وثبت بنخسة على رجل أو وطئته فقتلته كان ذلك على الناخس دون الراكب) لما بيناه والواقف في ملكه والذي يسير في ذلك سواء، وعن أبي يوسف أنه يجب الضمان على الناخس والراكب نصفين لأن التلف حصل بثقل الراكب ووطء الدابة والثاني مضاف إلى الناخس فيجب الضمان عليهما، وإن نخسها بإذن الراكب كان ذلك بمنزلة فعل الراكب لو نخسها ولا ضمان عليه في نفحتها لأنه أمره بما يملكه إذ النخس في معنى السوق فصح أمره فانتقل إليه معنى الأمر.
قال (ولو وطئت رجلا في سيرها وقد نخسها بإذن الراكب فالدية عليهما نصفين جميعا إذا كانت في ثؤرها الذي نخسها) لأن سيرها في تلك الحالة مضاف إليهما والإذن يتناول فعلة السوق ولا يتناوله من حيث إنه إتلاف، فمن هذا الوجه يقتصر عليه والركوب وإن كان علمه للوطء فالنخس ليس بشرط لهذه العلة بل هو شرط أو علة للسير، والسير علة للوطء وبهذا لا يترجح صاحب العلة كمن جرح إنسانا فوقع في بئر حفرها غيره على قارعة الطريق فمات فالدية عليهما لما أن الحفر شرط علة أخرى دون علة الجرح كذا هذا. . . إلى أن قال: (ومن قاد دابة فنخسها برجل فانفلتت من يد(26/58)
القائد فأصابت في فورها فهو على الناخس وكذا إذا كان لها سائق فنخسها غيره) لأنه مضاف إليه. . ثم قال: (ولو نخسها شيء منصوب في الطريق فنفحت إنسانا فقتلته فالضمان على من نصب ذلك الشيء) لأنه متعد بشغل الطريق فأضيف إليه كأنه نخسها بفعله. اهـ بتصرف.
وفي المدونة (1) .
قلت: أرأيت الرجلان يترادفان على الدابة فوطئت الدابة رجلا بيديها أو رجليها فقتلته قال مالك: أراه على المقدم إلا أن يعلم أن ذلك كان من الدابة بسبب المؤخر مثل أن يكون حركها أو ضربها فيكون عليهما جميعا، لأن المقدم بيده لجامها أو يأتي من سبب فعلها أمر يكون من المؤخر لم يكن المقدم يقدر على دفع شيء منه فيكون على المؤخر بمنزلة ما لو ضربها المؤخر فرمحت لضربه فقتلت إنسانا، فهذا وما أشبهه على عاقلة المؤخر لأنه يعلم أن المقدم لم يعنتها شيئا، ولم يمسك لها لجاما ولا تحريكا من رجل ولا غيرها فيكون شريكا فيما فعل، قلت: أريت إن كان الرجل راكبا على دابته فكدمت إنسانا فأعطبته أيكون على الراكب شيء أم لا؟ قال: سمعت مالكا يقول في الرجل يكون على الدابة راكبا فتضرب برجلها رجلا فتعطبه قال: لا شيء على الراكب إلا أن يكون ضربها فنفحت برجليها فيكون عليه ما أصابت، وأرى الفم عندي بمنزلة الرجل إن كدمت من شيء فعله بها الراكب فعليه وإلا فلا شيء عليه، قلت: أرأيت ما وطئت بيديها أو رجليها؟ قال: هو ضامن ما وطئت بيديها أو رجليها عند مالك لأنه هو يسيرها، قال ابن القاسم: وإن كانت قد ضربت من فعل الرديف برجلها فأصابت إنسانا فلا شيء على المقدم من ذلك؛ لأن المقدم لا يضمن النفحة بالرجل إلا أن يكون ذلك من فعله عند مالك، قال ابن القاسم: وأرى إن كان فعل الرديف بها شيئا فوثبت
__________
(1) ص 505.(26/59)
الدابة من غير أن يعلم المقدم بذلك فوطئت إنسانا فالضمان على الرديف إذا كان يعلم أن المقدم لم يكن يستطيع حبسها فهو على الرديف، قلت: أرأيت حين قلت: إن اللجام بيد المقدم فلم لا تضمنه ما كدمت الدابة؟ قال: لأن الدابة تكدم وهو غافل لا يعلم بذلك، فإذا كان شيئا يستيقن أنه من غير سببه فليس عليه شيء، وإن كان يعلم أنه من سببه فهو له ضامن. .
قلت (1) : أرأيت إن أوقف دابة في سبيل المسلمين حيث لا يجوز له أيضمن ما أصابت في قول مالك؟ قال: نعم، قلت: أرأيت من قاد دابة فوطئت بيديها أو رجليها أيضمن القائد ما أصابت في قول مالك؟ قال: نعم، قلت: فإن ضربت برجلها فنفحت الدابة فأصابت رجلا فأعطبته أيضمن القائد ما أصابت أم لا في قول مالك؟ قال: لا يضمن في رأيي إلا أن تكون نفحت من شيء صنع بها. قلت: أرأيت السائق أيضمن ما أصابت الدابة في قول مالك؟ قال: نعم يضمن ما وطئت بيديها أو رجليها بحال ما وصفت لك في قائد الدابة. . .) .
قلت: أرأيت إن نخس رجل دابة فوثبت الدابة على رجل فقتلته؛ على من تكون دية هذا المقتول؟ قال: على عاقلة الناخس. قلت: وهو قول مالك؟ قال: هو قوله. قلت: أرأيت الدابة إذا جمحت براكبها فوطئت إنسانا فعطبت أيضمن ذلك أم لا في قول مالك؟ قال: قال: هو ضامن. قلت: هل كان مالك يضمن القائد والسائق والراكب إذا اجتمعوا أحدهم سائق والآخر راكب والآخر قائد؟ قال: ما سمعت من مالك فيه شيئا إذا اجتمعوا جميعا وما أقوم لك على حفظه، وأرى أن ما أصابت الدابة على القائد والسائق إلا أن يكون الذي فعلت الدابة من شيء كان من سبب الراكب ولم يكن من القائد والسائق عون في ذلك فهو له ضامن قلت:
__________
(1) ص 506.(26/60)
أرأيت الرجل يقود القطار فيطأ البعير من أول القطار أو من آخره على رجل فيعطب أيضمن القائد؟ قال: ما سمعت من مالك فيه شيئا وأراه ضامنا. اهـ.
وفي المهذب للشيرازي (1) :
(فصل) وإن كان معه دابة فأتلفت إنسانا أو مالا بيدها أو رجلها أو نابها أو بالتبول في الطريق فزلق ببولها إنسان فوقع ومات ضمنه؛ لأنها في يده وتصرفه فكانت جنايتها كجنايته وفيه أيضا (2) .
وإن كان صبي على طرف سطح فصاح رجل ففزع فوقع من السطح ومات ضمن، لأن الصياح سبب لوقوعه وإن كان صياحه عليه فهو عمد خطأ، وإن لم يكن صياحه عليه فهو خطأ، وإن كان بالغ على طرف سطح فسمع الصيحة في حال غفلته فخر ميتا ففيه وجهان: أحدهما أنه كالصبي لأن البالغ في حال غفلته يفزع من الصيحة كما يفزع الصبي، والثاني لا يضمن لأن معه من الضبط ما لا يقع به مع الغفلة.
وفي المغني لابن قدامة (3) :
(مسألة) قال: (وما جنت الدابة بيدها ضمن راكبها ما أصابت من نفس أو جرح أو مال وكذلك إن قادها أو ساقها) وهذا قول شريح وأبي حنيفة والشافعي، وقال مالك: لا ضمان عليه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «العجماء جرحها جبار (4) » ، ولأنه جناية بهيمة فلم يضمنها كما لو لم تكن يده عليها. ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الرجل جبار (5) » رواه سعيد بإسناده عن هزيل بن شرحبيل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروى عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتخصيص الرجل بكونها جبارا دليل على وجوب الضمان في جناية غيرها، ولأنه يمكنه حفظها عن الجناية إذا كان راكبها أو يده عليها
__________
(1) ص 195.
(2) ص 193.
(3) ص 171 من ج 9 مطبعة الإمام.
(4) صحيح البخاري الديات (6912) ، صحيح مسلم الحدود (1710) ، سنن الترمذي الزكاة (642) ، سنن النسائي الزكاة (2495) ، سنن أبو داود الديات (4593) ، سنن ابن ماجه الديات (2673) ، مسند أحمد بن حنبل (2/454) ، موطأ مالك العقول (1622) ، سنن الدارمي الديات (2377) .
(5) سنن أبو داود الديات (4592) .(26/61)
بخلاف من لا يد له عليها وحديثه محمول على من لا يد له عليها.
(مسألة) قال (وما جنت برجلها فلا ضمان عليه) وبهذا قال أبو حنيفة وفي رواية أخرى أنه يضمنها وهو قول شريح والشافعي لأنه من جناية بهيمة يده عليها فيضمنها كجناية يده، ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الرجل جبار (1) » ولأنه لا يمكنه حفظ رجلها عن الجناية فلم يضمنها كما لو لم تكن يده عليها فأما إن كانت جنايتها بفعله مثل أن كبحها بلجامها أو ضربها في وجهها ونحو ذلك ضمن جناية رجلها لأنه السبب في جنايتها فكان ضمانها عليه ولو كان السبب في جنايتها غيره مثل أن نخسها أو نفرها فالضمان على من فعل ذلك دون راكبها وسائقها وقائدها لأن ذلك هو السبب في جنايتها.
(فصل) فإن كان على الدابة راكبان فالضمان على الأول منهما لأنه المتصرف فيها القادر على كفها إلا أن يكون الأول صغيرا أو مريضا أو نحوهما ويكون الثاني هو المتولي لتدبيرها فيكون الضمان عليه وإن كان مع الدابة سائق وقائد فالضمان عليهما لأن كل واحد منهما لو انفرد لضمن فإذا اجتمعا ضمنا وإن كان معهما أو مع أحدهما راكب ففيه وجهان: أحدهما الضمان عليهما جميعا لذلك، والثاني على الراكب لأنه أقوى يدا وتصرفا ويحتمل أن يكون على القائد لأنه لا حكم للراكب مع القائد.
(فصل) والجمل المقطور على الجمل الذي عليه راكب يضمن جنايته لأنه في حكم القائد فأما الجمل المقطور على الجمل الثاني فينبغي أنه لا تضمن جنايته إلا أن يكون له سائق لأن الراكب الأول لا يمكنه حفظه عن الجناية ولو كان مع الدابة ولدها لم تضمن جنايته لأنه لا يمكنه حفظه.
(فصل) وإن وقفت الدابة في طريق ضيق ضمن ما جنت بيد أو
__________
(1) سنن أبو داود الديات (4592) .(26/62)
رجل أو فم لأنه متعد بوقفها فيه وإن كان الطريق واسعا ففيه روايتان إحداهما يضمن وهو مذهب الشافعي لأن انتفاعه بالطريق مشروط بالسلامة وكذلك لو ترك في الطريق طينا فزلق به إنسان ضمنه والثانية لا يضمن لأنه غير متعد بوقفها في الطريق الواسع فلم يضمن كما لو وقفها في موات وفارق الطين لأنه متعد بتركه في الطريق.
بناء على ما تقدم في التمهيد من القواعد الشرعية والعلل التي بنيت عليها أحكام حوادث وسائل النقل القديمة وعلى ما ذكر بعد ذلك من المسائل يمكن تخريج أحكام حوادث السيارات في الموضوع الثاني من البحث عليها فيقال:
أولا: إذا ساق إنسان سيارة في شارع عام ملتزما السرعة المقررة ومتبعا خط السير حسب النظام فقفز رجل فجأة أمامه فصدمته السيارة ومات أو أصيب بجروح أو كسور رغم قيام السائق بما وجب عليه من الفرملة ونحوها أمكن أن يقال بتضمين السائق من مات بالصدم أو كسر مثلا بناء على ما تقدم من تضمين الراكب أو القائد أو السائق ما وطئت الدابة بيديها وقد يناقش بأن كبح الدابة وضبطها أيسر من ضبط السيارة ويمكن أن يقال بضمان كل منهما ما تلف عند الآخر من نفس ومال، بناء على ما تقدم عن الحنفية والمالكية والحنابلة ومن وافقهم في تضمين المتصادمين ويمكن أن يقال بضمان السائق ما تلف من نصف الدية أو نصف الكسور لتفريطه بعدم احتياطه بالنظر لما أمامه من بعيد وبضمان المصدوم نصف ذلك لاعتدائه بالمرور فجأة أمام السيارة دون الاحتياط لنفسه، بناء على ما ذكره الشافعي وزفر وعثمان البتي ومن وافقهم في تضمين المتصادمين ويحتمل أن يقال أنه هدر لانفراده بالتعدي.(26/63)
ولو قدر أنه اصطدم بجانب السيارة فمات أو كسر والسيارة على ما ذكر من الحال كان الضمان بينهما على ما تقدم من الاحتمالات.
ثانيا: إذا مر إنسان أو حيوان أمام سيارة (ونيت) مثلا فاستعمل سائق السيارة الفرملة تفاديا للحادث فسقط أحد الركاب وقفز آخر فماتا أو أصيبا بكسور علما بأن باب السيارة قد أحكم إغلاقه ضمن السائق دية من سقط أو أرش إصابته لأن سقوطه كان بعنفة الفرملة وقد كان عليه أن يعمل لذلك احتياطا من قبل فيهدئ من السرعة وليس له أن يتسبب في قتل شخص ليسلم آخر ويحتمل ألا يضمن إذا كان متبعا للنظام في سرعته وخط سيره لأنه مأمور بالفرملة تفاديا للحادث.
أما من قفز فهو كاسر نفسه أو قاتلها فلا يضمنه السائق.
ثالثا: إذا تعهد السائق سيارته قبل السير بها ثم طرأ عليها خلل مفاجئ في جهاز من أجهزتها مع مراعاته النظام في سرعته وخط سيره وغلب على أمره فصدمت إنسانا أو حيوانا أو وطئته فمات أو كسر مثلا لم يضمن السائق دية ولا قيمة ولو انقلبت بسبب ذلك فمات أو كسر من فيها أو تلف ما فيها لم يضمن وكذا لو انقلبت بسبب ذلك على أحد أو شيء فمات أو تلف فلا ضمان عليه لعدم تعديه وتفريطه قال الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) .
وإن فرط السائق في تعهد سيارته أو زاد في السرعة أو في حمولتها أو نحو ذلك ضمن ما أصاب من نفس ومال. وإن سقط شيء من السيارة ضمنه إن كان في حفظه بأن كان موكلا إليه إلا
__________
(1) سورة البقرة الآية 286(26/64)
أن عليه شده بما يصونه ويضبطه وإن سقط أحد منها لصغره وليس معه قيم فأصيب ضمن ذلك لتفريطه.
رابعا: إن سقط شيء من السيارة فأصاب أحدا فمات أو كسر أو أصاب شيئا فتلف ضمن ما أصاب من نفس أو مال لتفريطه وإن سقط منها مكلف لازدحام يخالف نظام المرور فمات ضمن السائق لتعديه ويحتمل أن يكون الضمان على السائق ومن هلك بالسقوط مناصفة لاشتراكهما في الاعتداء.(26/65)
الموضوع الثالث
بيان ما يترتب على حوادث السيارات من العقوبات
لمخالفة نظام المرور ونحوه مما يسبب وقوع الحوادث
من الواجب على ولي الأمر العام النصح لأمته، والمحافظة على رعيته والسعي في تحقيق ما فيه صلاحهم وما به دفع الضرر عنهم معتصما في ذلك بكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهدي الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، وعلى الأمة النصح له وإعانته على شئون الدولة وحفظ كيانها وطاعته في المعروف، وعلى هذا إذا رأى باجتهاده في أمور الناس ومعاملاتهم المباحة وشئون حياتهم التي ليس فيها نص شرعي بأمر أو نهي إنما وكلت إلى اختيارهم أن يلزمهم بأحد طرفي المباح تحقيقا للمصلحة ودفعا لمضرة الفوضى عنهم، وجب عليهم أن يطيعوه واعتبر من عصاه في ذلك من المعتدين.
من ذلك تنظيم العمل في الوزارات والدوائر والمؤسسات والمدارس بتحديد زمان العمل ومكانه ووضع اللوائح ومناهج العلوم وجداول(26/65)
الدراسة ونحو ذلك مما يضبط العمل ويساعد على الاستفادة منه على أكمل الوجوه فإذا فعل ذلك أو نائبه وجبت طاعته وحق له تعزير من يعصيه ويخالفه بما يراه مكافئا لمخالفته.
ومن تنظيم خط السير في الطرق برا وبحرا وجوا وإلزام قادة السيارات والبواخر والطائرات ونحوها خطوطا محدودة وسرعة مقدرة ومواعيد مؤقتة وأن يحملوا بطاقات تثبت الإذن لهم في القيادة وتدل على صلاحيتهم لها، فيجب على قادة وسائل النقل والمواصلات أن يلتزموا بما وضع لهم محافظة على الأمن والدماء وسائر المصالح ودفعا للفوضى والاضطراب وما ينجم عنهما من الحوادث والأخطار وفوات الكثير من المصالح، ومن خالف في ذلك كان من المعتدين، وحق لولي الأمر أو نائبه أن يعزره بما يردعه ويحفظ الأمن والمصلحة والاطمئنان من حبس وسحب بطاقة القيادة وغرامة مالية في قول بعض العلماء وحرمانه من القيادة ونحو ذلك، ومن جنى على غيره وهو مخالف للنظام ضمن ما أصاب من نفس ومال على ما تقدم بيانه في مسائل الموضوع الأول والثاني من هذا البحث.(26/66)
الموضوع الرابع
توزيع الجزاء على من اشتركوا في وقوع حادث
بنسبة اعتدائهم أو خطئهم
إن لاشتراك جماعة في وقوع حادث صورا كثيرة ومتنوعة يختلف الحكم فيهم باختلافها في وحدة موضع جنايتهم في البدن أو العضو وتعدده وفي اتفاق زمن حصول الحادث منهم وتتابعه، وفي تساوي مبلغ الإصابة وما ترتب عليها من الآثار والتفاوت في ذلك وفي المباشرة للحادث والتسبب فيه إلى غير هذا مما يختلف باختلافه الحكم على من(26/66)
اشترك في الحادث أو يوجب تساويهم في الحكم عليهم، كما يختلف الحكم باختلاف الجناية إذا وقعت من واحد.
ونذكر فيما يلي نقولا عن بعض فقهاء الإسلام يتبين منها ذلك ثم نتبعها بالكلام عن توزيع الجزاء على المشتركين في حادث بنسب متساوية أو متفاوتة.
في المدونة (1) :
قلت: أرأيت لو أن رجلا جرح رجلا جرحين خطأ وجرحه آخر جرحا واحدا خطأ فمات من ذلك فأقسمت الورثة عليهما كيف تكون الدية على عاقلتهما، أنصفين أم الثلث والثلثين؟ قال: ما سمعت من مالك فيه شيئا إلا ما أخبرتك أن الدية على عواقلهما فلو كانت الدية عند مالك الثلث والثلثين لقال لنا ذلك ولكنا لا نشك أن الدية عليهما نصفان. اهـ. قلت: أرأيت العينين أو الأذنين كيف يعرف ذهاب السمع والبصر منهما في قول مالك؟ قال: قال لي مالك: في العين إذا أصيبت فنقص بصرها أن تغلق الصحيحة وتقاس له التي أصيبت بأمكنة يختبر بها، فإذا اتفق قوله في تلك الأمكنة قيست الصحيحة ثم نظر كم نقصت هذه المصابة من الصحيحة فيعقل له قدر ذلك، قال: قال مالك: والسمع كذلك قلت: فكيف يقيسون بصره؟ قال: سمعت أنه توضع له البيضة أو الشيء في مكان فإن أبصرها حولت إلى موضع آخر ثم إلى موضع آخر، فإن كان قياس ذلك سواء أو يشبه بعضه بعضا صدق، وكذلك قال لي مالك، قلت فالسمع كيف يقاس قال: يختبر بالأمكنة أيضا حتى يعرف صدقه من كذبه. . اهـ.
وقال الشيرازي في المهذب (2) :
(فصل) وإن خاط الجائفة فجاء رجل وفتق الخياطة نظرت، فإن
__________
(1) ج 4 ط الخشاب.
(2) ص 201 ج 2.(26/67)
كان قبل الالتحام لم يلزمه أرش لأنه لم توجد منه جناية ويلزمه قيمة الخيط وأجرة المثل للخياطة وإن كان بعد التحام الجميع لزمه أرش جائفة لأنه بالالتحام عاد إلى ما كان قبل الجناية ويلزمه قيمة الخيط لا أجرة الخياطة، لأنها دخلت في أرش الجائفة، وإن كان بعد التحام بعضها لزمه حكومة، لجنايته على ما التحم، ولزمه قيمة الخيط ولا تلزمه أجرة الخياطة لأنها دخلت في الحكومة ". ثم قال: (فصل) فإن جنى على عينيه فنقص الضوء منها فإن عرف مقدار النقصان بأن كان يرى الشخص من مسافة فصار لا يراه إلا من نصف تلك المسافة وجب من الدية بقسطها لأنه عرف مقدار ما نقص فوجب بقسطه، وإن لم يعرف مقدار النقصان بأن ساء إدراكه وجبت من الحكومة لأنه تعذر التقدير فوجبت فيه الحكومة، وإن نقص الضوء في إحدى العينين عصبت القليلة وأطلقت الصحيحة ووقف له شخص في موقف يراه ثم لا يزال يبعد الشخص ويسأل عنه إلى أن يقول: لا أراه ويمسح قدر المسافة، ثم تطلق العليلة وتعصب الصحيحة ولا يزال يقرب الشخص حتى يراه، ثم ينظر ما بين المسافتين فيجب من الدية، بقسطها. . إلخ. ثم قال مثل ذلك في نقصان السمع والشم والذوق والكلام والعقل غير أن المقياس لمعرفة مقدار النقص فيها يكون في كل منها بحسبه. اهـ.
وقال الشربيني في مغني المحتاج (1) :
لو وضع رجل حجرا في طريق عدوانا وآخران حجرا كذلك فعثر بهما آخر فمات فالضمان عليهم للعاثر أثلاثا وإن تفاوت فعلهم نظرا لعدد رءوس الجناة كما لو مات بجراحة ثلاثة واختلفت الجراحات وقيل: الضمان نصفان على الأول نصف وعلى الآخرين نصف نظرا إلى عدد الموضوع ورجحه البلقيني إذ ليس هذا كالجراحات التي لها نكاية في
__________
(1) ص 88 من ج 4.(26/68)
الباطن بل هو إلى صورة الضربات أقرب بل أولى في الحكم. اهـ.
وقال الشيرازي في المهذب (1) :
وتجب على الجماعة إذا اشتركوا في القتل وتقسم بينهم على عددهم لأنه بدل متلف يتجزأ فقسم بين الجماعة على عددهم كغرامة المال، فإن اشترك في القتل اثنان وهما من أهل القود فللولي أن يقتص من أحدهما ويأخذ من الآخر نصف الدية وإن كان أحدهما من أهل القود والآخر من أهل الدية فله أن يقتص ممن عليه القود ويأخذ من الآخر نصف الدية.
وفي المغني لابن قدامة (2) :
(مسألة) قال: (وإذا أمسك رجلا وقتله آخر قتل القاتل وحبس الماسك حتى يموت) يقال أمسك ومسك ومسك وقد جمع الخرقي بين اللغتين فقال: إذا أمسك وحبس الماسك وهو اسم الفاعل من مسك مخففا ولا خلاف في أن القاتل يقتل لأنه قتل من يكافئه عمدا بغير حق وأما الممسك فإن لم يعلم أن القاتل يقتله فلا شيء عليه لأنه متسبب والقاتل مباشر فسقط حكم المتسبب وإن أمسكه له ليقتله مثل أن ضبطه له حتى ذبحه له فاختلفت الرواية فيه عن أحمد فروي عه أنه يحبس حتى يموت. وهذا قول عطاء وربيعة وروي ذلك عن علي وروي عن أحمد أنه يقتل أيضا. وهو قول مالك قال سليمان بن أبي موسى: الاجتماع فينا أن يقتل لأنه لو لم يمسكه ما قدر على قتله وبإمساكه تمكن من قتله فالقتل حاصل بفعلهما فيكونان شريكين فيه فيجب عليهما القصاص كما لو جرحاه. وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وابن المنذر: يعاقب ويأثم ولا يقتل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إن أعتى الناس على الله من قتل غير
__________
(1) ص 192 من ج 2.
(2) ص 348 ـ 349 من ج 8 ط الإمام.(26/69)
قاتله (1) » والممسك غير قاتل ولأن الإمساك سبب غير ملجئ فإذا اجتمعت معه المباشرة كان الضمان على المباشر كما لو لم يعلم الممسك أنه يقتله.
ولنا ما روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك» ولأنه حبسه إلى الموت فيحبس الآخر إلى الموت كما لو حبسه عن الطعام والشراب حتى مات فإننا نفعل به ذلك حتى يموت.
(فصل) وإن اتبع رجلا ليقتله رجلا فهرب منه فأدركه آخر فقطع رجله ثم أدركه الثاني فقتله نظرت فإن كان قصد الأول حبسه بالقطع ليقتله الثاني فعليه القصاص في القطع وحكمه في القصاص في النفس حكم الممسك لأنه حبسه على القتل وإن لم يقصد حبسه فعليه القطع دون القتل كالذي أمسكه غير عالم ومنه وجه آخر ليس عليه إلا القطع بكل حال، والأول أصح لأنه الحابس له بفعله فأشبه الحابس بإمساكه فإن قيل لم اعتبرتم قصد الإمساك هاهنا وأنتم لا تعتبرون إرادة القتل في الخارج؟
قلنا: إذا مات من الجرح فقد مات من سرايته وأثره فنعتبر قصد الجرح الذي هو السبب دون قصد الأثر، وفي مسألتنا إنما كان موته بأمر غير السراية والفعل ممكن له عليه فاعتبر قصده لذلك الفعل كما لو أمسكه.
وفي المغني أيضا لابن قدامة (2) :
(فصل) ولا يعتبر في وجوب القصاص على المشتركين التساوي في سببه فلو جرحه رجل جرحا والآخر مائة أو جرحه أحدهما موضحة والآخر آمة أو أحدهما جائفة والآخر غير جائفة فمات كانا سواء في القصاص والدية لأن اعتبار التساوي يفضي إلى سقوط القصاص عن المشتركين إذ لا يكاد جرحان يتساويان من كل وجه.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/187) .
(2) ص 269 من ج 8 ط الإمام(26/70)
ولو احتمل التساوي لم يثبت الحكم لأن الشرط يعتبر العلم بوجوده ولا يكتفى باحتمال الوجود بل الجهل بوجوده كالعلم بعدمه في انتفاء الحكم، ولأن الجرح الواحد يحمل أن يموت منه دون المائة كما يحتمل أن يموت من الموضحة دون الآمة ومن غير الجائفة دون الجائفة ولأن الجراح إذا صارت نفسا سقط اعتبارها فكان حكم الجماعة كحكم الواحد، ألا ترى أنه لو قطع أطرافه كلها فمات وجبت فيه دية واحدة كما لو قطع طرفه فمات.
(فصل) إذا اشترك ثلاثة في قتل رجل فقطع أحدهم يده والآخر رجله وأوضحه الثالث فمات فللولي قتل جميعهم والعفو عنهم إلى الدية فيأخذ من كل واحد ثلثها وله أن يعفو عن واحد فيأخذ منه ثلث الدية ويقتل الآخرين وله أن يعفو عن اثنين فيأخذ منهما ثلثي الدية ويقتل الثالث. .) اهـ.
وفي المقنع مع حاشيته ص 338 - 339 من ج3:
(وإن جرحه أحدهما جرحا والآخر مائة فهما سواء في القصاص والدية) قال في الحاشية: هذا بلا نزاع بشرطه المتقدم (يعني إذا كان فعل كل منهما صالحا للقتل) أي لو انفرد لقتل. وفي الحاشية إذا اشترك ثلاثة فقطع أحدهم يده والآخر رجله والثالث أوضحه فمات فللولي قتل جميعهم والعفو عنهم إلى الدية فيأخذ من كل وحد ثلثها وله أن يعفو عن واحد فيأخذ منه ثلث الدية ويقتل الآخرين وله أن يعفو عن اثنين فيأخذ منهما ثلثي الدية ويقتل الثالث. (وإن فعل أحدهما فعلا لا تبقى معه الحياة كقطع حشوشه أو مريئه أو ودجيه ثم قطع عنقه آخر فالقاتل هو الأول وعزر الثاني) .
وإن شق الأول بطنه أو قطع يده ثم ضرب الثاني عنقه فالثاني هو القاتل وعلى الأول ضمان ما أتلف بالقصاص أو الدية.(26/71)
(وإن رماه من شاهق فتلقاه آخر بسيف فقده فالقاتل الثاني) قال في الحاشية لأنه فوت حياته قبل المصير إلى حالة ييئس فيها من حياته وبه قال الشافعي إن كان مما يجوز أن يسلم منه، وإن رماه من شاهق لا يسلم منه الواقع ففيه وجهان أحدهما كقولنا والثاني الضمان عليهما بالقصاص لأن كل واحد منهما سبب الإتلاف.
(وإن أمسك إنسانا لآخر ليقتله فقتله قتل القاتل وحبس الممسك حتى يموت في إحدى الروايتين والأخرى يقتل أيضا) .
وفي الحاشية: وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وابن المنذر يعاقب ويأثم ولا يقتل وفيها أيضا فائدة مثل هذه المسألة في الحكم لو أمسكه ليقطع طرفه، ذكره في الانتصار وكذا إن فتح فمه وسقاه آخر سما وكذا لو اتبع رجلا ليقتله فهرب فأدركه آخر فقطع رجله ثم أدركه الثاني فقتله فإن كان الأول حبسه بالقطع فعليه القصاص في القطع وحكمه في القصاص في النفس حكم الممسك على الصحيح من المذهب وفيه وجه ليس عليه إلا القطع.
وفي المغني لابن قدامة (1) :
(فصل) وإن ذهب بعض الكلام وجب من الدية بقدر ما ذهب يعتبر ذلك بحروف العجم وهي ثمانية وعشرون حرفا سوى لا فإن مخرجها مخرجها اللام والألف فمهما نقص من الحروف وجب من الدية بقدره لأن الكلام يتم بجميعها فالذاهب يجب أن يكون عوضه من الدية كقدره من الكلام ففي الحرف الواحد ربع سبع الدية وفي الحرفين نصف سبعها وفي الأربعة سبعها ولا فرق بين ما خف من الحروف على اللسان وما ثقل لأن كل ما وجب فيه المقدر لم يختلف لاختلاف قدره كالأصابع ويحتمل أن قسم الدية على الحروف التي للسان فيها عمل دون الشفة
__________
(1) ص 439 من ج 8 ط الإمام.(26/72)
وهي أربعة الباء والميم والفاء والواو ودون حروف الحلق الستة الهمزة والهاء والحاء والخاء والعين والغين فهذه عشرة بقي ثمانية عشر حرفا للسان تنقسم ديته عليها لأن الدية تجب بقطع اللسان وذهاب هذه الحروف وحدها مع بقائه فإذا وجبت الدية فيها بمفردها وجب في بعضها بقسطه منها ففي الواحد نصف تسع الدية وفي الاثنين تسعها وفي الثلاثة سدسها وهذا قول بعض أصحاب الشافعي.
وإن جنى على شفته فذهب بعض الحروف وجب فيه بقدره وكذلك إن ذهب بعض حروف الحلق بجنايته وينبغي أن تجب بقدره من الثمانية والعشرين وجها واحدا وإن ذهب حرف فعجز عن كلمة لم يجب غير أرش الحرف لأن الضمان إنما يجب لما تلف وإن ذهب حرف فأبدل مكانه حرفا آخر كأن يقول درهم فصار يقول دلهم أو دغهم أو ديهم فعليه ضمان الحرف الذاهب لأن ما تبدل لا يقوم مقام الذاهب في القراءة ولا غيرها فإن جنى عليه فذهب البدل وجبت ديته أيضا لأنه أصل وإن لم يذهب شيء من الكلام لكن حصلت فيه عجلة أو تمتمة أو فأفأة فعليه حكومة لما حصل من النقص والشين ولم تجب الدية لأن المنفعة باقية.
وإن جنى عليه جان آخر فأذهب كلامه ففيه الدية كاملة كما لو جنى على عينه جان فعمشت ثم جنى عليها آخر فذهب بصرها وإن أذهب الأول بعض الحروف وأذهب الثاني بقية الكلام فعلى كل واحد منهما بقسطه كما لو ذهب الأول ببصر إحدى العينين وذهب الآخر ببصر الأخرى وإن كان ألثغ من غير جناية عليه فذهب إنسان بكلامه كله. فإن كان مأيوسا من زوال لثغته ففيه بقسط ما ذهب من الحروف وإن كان غير مأيوس من زوالها كالصبي ففيه الدية كاملة لأن الظاهر زوالها وكذلك الكبير إذا أمكن إزالة لثغته بالتعليم.
(فصل) إذا قطع بعض لسانه فذهب بعض كلامه فإن استويا مثل(26/73)
أن يقطع ربع لسانه فيذهب ربع كلامه وجب ربع الدية بقدر الذاهب منهما كما لو قلع إحدى عينيه فذهب بصرها.
وإن ذهب من أحدهما أكثر من الآخر كأن قطع ربع لسانه فذهب نصف كلامه أو قطع نصف لسانه فذهب ربع كلامه وجب بقدر الأكثر وهو نصف الدية في الحالين لأن كل واحد من اللسان والكلام مضمون بالدية منفردا فإذا انفرد نصفه بالذهاب وجب النصف، ألا ترى أنه لو ذهب نصف الكلام ولم يذهب من اللسان شيء وجب نصف الدية ولو ذهب نصف اللسان ولم يذهب من الكلام شيء وجب نصف الدية وإن قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام وجب نصف الدية فإن قطع آخر بقية اللسان فذهبت بقية الكلام ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: عليه نصف الدية هذا قول القاضي وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن السالم نصف اللسان وباقيه أشل بدليل ذهاب نصف الكلام.
والثاني: عليه نصف الدية وحكومة للربع الأكمل لأنه لو كان جميعه أشل لكانت فيه حكومة أو ثلث الدية فإذا كان بعضه أشل ففي ذلك البعض حكومة أيضا.
الثالث: عليه ثلاثة أرباع الدية وهذا الوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأنه قطع ثلاثة أرباع لسانه فذهب ربع كلامه فوجبت عليه ثلاثة أرباع الدية كما لو قطعه أولا ولا يصح القول بأن بعضه أشل لأن العضو متى كان فيه بعض النفع لم يكن بعضه أشل كالعين إذا كان بصرها ضعيفا واليد إذا كان بطشها ناقصا وإن قطع نصف لسانه فذهب ربع كلامه فعليه ديته فإن قطع الآخر بقيته فعليه ثلاثة أرباع الدية وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والآخر عليه نصف الدية لأنه لم يقطع إلا نصف لسانه.(26/74)
ولنا أنه ذهب ثلاثة أرباع الكلام فلزمه ثلاثة أرباع ديته كما لو ذهب ثلاثة أرباع الكلام بقطع نصف اللسان الأول ولأنه لو أذهب ثلاثة أرباع الكلام مع بقاء اللسان لزمه ثلاثة أرباع الدية فلأن تجب بقطع نصف اللسان في الأول أولى ولو لم يقطع الثاني نصف اللسان لكن جنى عليه جناية أذهب بقية كلامه مع بقاء لسانه لكان عليه ثلاثة أرباع ديته لأنه ذهب بثلاثة أرباع ما فيه الدية فكان عليه ثلاثة أرباع الدية كما لو جنى على صحيح فذهب بثلاثة أرباع كلامه مع بقاء لسانه.
(فصل) وإذا قطع بعض لسانه عمدا فاقتص المجني عليه من مثل ما جني عليه به فذهب من كلام الجاني مثل ما ذهب من كلام المجني عليه وأكثر فقد استوفى حقه ولا شيء في الزائد لأنه من سراية القود وسراية القود غير مضمونة وإن ذهب أقل، فللمقتص دية ما بقي لأنه لم يستوف بدله.
بناء على ما تقدم من أقوال الفقهاء في مسائل الموضوع الرابع من الإعداد، وما بنيت عليه من العلل أو اندرجت تحته من القواعد الشرعية يمكن أن يخرج توزيع المسئولية في حوادث السيارات على الطريقة الآتية:
أولا: إذا صدمت سيارة إنسانا عمدا أو خطأ فرمته إلى جانب وأصابته سيارة أخرى مارة في نفس الوقت فمات:
أ - فإن كانت إصابة كل منهما تقتله لو انفردت وجب القصاص منهما له، أو الدية عليهما مناصفة، على ما تقدم من الخلاف والشروط في مسألة اشتراك جماعة في قتل إنسان سواء تساوت الإصابتان أو كانت إحداهما أبلغ من الأخرى ما دامت الدنيا منهما لو انفرد قتلت (1) .
ب - وإن تتابعت الإصابتان وكانت الأولى منهما تقتل وجب
__________
(1) يرجع في ذلك إلى ما نقل عن الشيرازي ص 67 والمغني والمقنع ص 70 ـ 71 من الإعداد.(26/75)
القصاص أو الدية على سائق الأولى، ويعزر سائق الثانية، وإن كانت الأولى لا تقتل ومات بإصابة الثانية فالقصاص أو الدية على سائق الثانية، ويجب على سائق الأولى جزاء ما أصاب من قصاص أو دية أو حكومة (1) .
ثانيا: إذا أصابت سيارة إنسانا بجروح أو كسور وأصابته أخرى بجروح أو كسور أقل أو أكثر من الأولى وكل من الإصابتين لا تقتل إذا انفردت فمات المصاب من مجموع الإصابتين وجب القصاص أو الدية على السائقين مناصفة (2) .
ثالثا: إذا دفع إنسان آخر فسقط أو أوثقه في طريق فأدركته سيارة ووطئته فقتلته أو كسرته مثلا فقد يقال: على السائق ضمان ما أصاب من نفس أو كسر، ويعزر الدافع أو الموثق بعقوبة دون الموت أو يحبس حتى يموت لأن السائق مباشر والموثق أو الدافع متسبب ويحتمل أن يكون الضمان عليهما قصاصا أو دية أو حكومة لأن كليهما مشترك مع السائق في ذلك (3) .
رابعا: إذا أصابت سيارة إنسانا أو مالا وأصابته أخرى في نفس الوقت أو بعده ولم يمت وتمايزت الكسور أو الجروح أو التلف فعلى كل من السائقين ضمان ما تلف أو أصيب بسيارته قل أو كثر (4) .
خامسا: إذا أصابت سيارتان إنسانا بجروح أو كسور ولم تتمايز ولم يمت أو أصابتا شيئا أو أتلفته فعليهما القصاص في العمد وضمان
__________
(1) يرجع إلى آخر ص 71 وأول ص 72 من الإعداد.
(2) يرجع في ذلك إلى ما نقل عن المدونة في ص 67 وعن المغني والمقنع وحاشيته ص 71 من الإعداد.
(3) يرجع في ذلك إلى ما نقل عن المغني في ص 69 وعن المغني والمقنع وحاشيته في ص 71 من الإعداد.
(4) يرجع إلى ما نقل عن المغني ص 69 وعن الشيرازي ص 67 ـ 68 من الإعداد.(26/76)
الدية والمال بينهما مناصفة (1) .
سادسا: إن استعمل السائق المنبه (البوري) من أجل إنسان أمام سيارته أو يريد العبور فسقط من قوة الصوت أمام سيارته ووطئته سيارته فمات أو كسر مثلا ضمنه السائق وإن سقط تحت سيارة أخرى ضمنه سائقها لأنه مباشر ومستعمل المنبه متسبب ويحتمل أن يكون بينهما لاشتراكهما كالممسك مع القاتل وإن سقط فمات أو كسر مثلا بمجرد سماعه الصوت ضمنه مستعمل المنبه.
سابعا: إذا خالف سائق نظام السير المقرر من جهة السرعة أو عكس خط السير وأصاب إنسانا أو سيارة أو أتلف شيئا عمدا أو خطأ ضمنه.
وإن خرج إليه إنسان أو سيارة من منفذ فحصل الحادث ففي من يكون عليه الضمان احتمالات الأول: أن يكون على السائق المخالف للنظام لاعتدائه ومباشرته، ويحتمل أن يكون على من خرج من المنفذ فجأة لأنه لم يثبت ولم يحتط لنفسه ولغيره وعلى من خالف نظام المرور التعزير بما يراه الحاكم أو نائبه، ويحتمل أن يكون الضمان عليهما للاشتراك في الحادث وإن اعترضته سيارة تسير في خطها النظامي أو زحمته فإن كان ذلك عمدا منه فالضمان عليه وإن كان خطأ فالضمان عليهما وعلى المخالف للنظام الحق العام وهو التعزير بما يراه الإمام.
والله الموفق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) ص 71، من الإعداد.(26/77)
صفحة فارغة(26/78)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شؤونهم الدينية والاجتماعية(26/79)
صفحة فارغة(26/80)
فتوى برقم 446 وتاريخ 25 \ 4 \ 1393 هـ
السؤال: هل تلاوة سورة الإخلاص والمعوذتين والفاتحة للاستشفاء حرام أو حلال وهل فعل ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام أو أحد من السلف الصالح؟
الجواب: إن تلاوة سورة الإخلاص المعوذتين والفاتحة وغير هذه السور من القرآن على المريض من الرقية الجائزة التي شرعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفعله وبإقراره لأصحابه. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من طريق معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات (سورة الإخلاص والمعوذتين) فلما ثقل كنت أنفث عليه بهن وأمسح بيده نفسه لبركتها (1) » قال معمر فسأل الزهري: كيف ينفث، قال: كان ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه. وروى البخاري عن طريق أبي سعيد الخدري رضي الله عنه «أن أناسا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أتوا على حي من أحياء العرب فلم يقروهم فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك، فقال هل معكم من دواء أو راق، فقالوا: إنكم لم تقرونا، ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلا، فجعلوا لهم قطيعا من الشاء فجعل يقرأ بأم القرآن ويجمع بزاقه ويتفل فبرأ فأتوا بالشاء، فقالوا لا نأخذه حتى نسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه فضحك، وقال: وما أدراك أنها رقية، خذوها واضربوا لي بسهم (2) » ، ففي الحديث الأول قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفسه بالمعوذات في مرضه وفي الثاني إقراره للصحابة على الرقية بالفاتحة، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5735) ، صحيح مسلم السلام (2192) ، سنن أبو داود الطب (3902) ، سنن ابن ماجه الطب (3529) ، مسند أحمد بن حنبل (6/114) ، موطأ مالك الجامع (1755) .
(2) صحيح البخاري الطب (5736) ، صحيح مسلم السلام (2201) ، سنن الترمذي الطب (2063) ، سنن أبو داود البيوع (3418) ، سنن ابن ماجه التجارات (2156) ، مسند أحمد بن حنبل (3/44) .(26/81)
فتوى برقم 1258 وتاريخ 2 \ 5 \ 1396 هـ
السؤال: شخص عمل صنما من شيء نافع كالذهب والفضة وما دونهما وكان على صورة آدمي أو حيوان لقصد الزينة مثلا ثم رجع عن ذلك ورغب أن يحوله إلى شيء ينتفع به شرعا كنقد أو حلية أو بناء فهل يجوز ذلك وماذا يفهم من كلمة " يعبد " من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن نذر أن ينحر إبلا ببوانة: «هل فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد (1) » ؟
الجواب: يجب هدم التماثيل والقضاء على رسومها وهتك الصور وإزالة معالمها سواء اتخذت للعبادة أم للزينة، إنكارا للمنكر وحماية للتوحيد، وكلمة " يعبد " في جملة هل فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد. " وصف كاف لبيان أن الغالب في عمل الأوثان أو اتخاذها أن تكون للعبادة وليس القصد به الاحتراز، ويجوز الانتفاع بأنقاض التماثيل والأصنام فيما يناسبها من بناء بيوت وأسوار ومساجد أو عمل نقد أو حلية للنساء ونحو ذلك كما يجوز الانتفاع بالأوراق والألواح والسيارات التي بها صور بعد طمسها وإذهاب معالمها لما رواه مسلم عن أبي الهياج قال: قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته (2) » . فاكتفى - صلى الله عليه وسلم - في أمره عليا رضي الله عنه بطمس الصور وتسوية القبور المرتفعة بالأرض، كما اكتفى - صلى الله عليه وسلم - من عائشة رضي الله عنها بجعل الستارة التي في حجرتها في نمارق بعد أن قسمتها قطعا تذهب بمعالم ما كان فيها من الصور وأقرها على ذلك ولم يأمرها بإتلافها ولأن الأصل جواز استعمال هذه الخامات، والحرمة طارئة فإذا زال ما طرأ عليها عادت إلى أصل إباحة الاستعمال فيما يناسبها شرعا. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن أبو داود الأيمان والنذور (3313) .
(2) صحيح مسلم الجنائز (969) ، سنن الترمذي الجنائز (1049) ، سنن النسائي الجنائز (2031) ، سنن أبو داود الجنائز (3218) ، مسند أحمد بن حنبل (1/96) .(26/82)
فتوى برقم 1545 وتاريخ 12 \ 5 \ 1397 هـ
السؤال الأول: ما هو الجواب شرعا وحقا فيمن ترك زوجته وسافر سنة أو أكثر للعمل في تزويد عياله بما يكفيهم لمعيشتهم. مع العلم أن هناك آخرين ليس غيابهم لذلك فقط بل يبنون به قصورا ويشترون حافلات وما أشبه ذلك من زينة الحياة الدنيا، ولا شك أن هذا الغياب الطويل مما يؤدي إلى الزنا إما من الرجل وإما من المرأة نسأل الله الهداية والتوفيق.
الجواب: إذا تراضى الزوجان على الغيبة سواء كانت طويلة أو قصيرة مع العفاف فلا حرج عليهما وإن خاف أحدهما على نفسه من الغيبة ولو مع الحاجة إليها لكسب العيش طلب من صاحبه حقه، بما يحقق الاجتماع، محافظة على العرض وتحقيقا للعفة وتحصين الفروج، فإن أبى رفع المحتاج أمره إلى القاضي ليحكم بينهما بما شرع الله علما بأنه ليس بلازم أن يقع في الزنا من ليس معه زوجته أو من ليس معها زوجها ولو طالت المدة.
السؤال الثاني: نريد تزويدنا بمزيد من الأقوال عن صيام المرأة وصلاتها وقت الحيض، وقد شهدنا أدلة دالة على هذا الصدد ونريد الصحيح.
الجواب: إذا حاضت المرأة تركت الصلاة والصيام، فإذا طهرت قضت ما أفطرته من أيام رمضان، ولا تقضي ما تركت من الصلوات لما رواه البخاري. وغيره في بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لنقصان دين المرأة من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أليست إحداكن إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي (1) » ولما رواه البخاري ومسلم عن معاذ أنها سألت عائشة رضي الله عنهما قالت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة فقالت عائشة رضي الله عنها
__________
(1) صحيح البخاري الحيض (304) ، صحيح مسلم الإيمان (80) .(26/83)
أحرورية أنت؟ قالت لست بحرورية، ولكني أسأل فقالت: «كنا نحيض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة (1) » . رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وهذا من رحمة الله سبحانه للمرأة ولطفه بها لما كانت الصلاة تتكرر كل يوم وليلة خمس مرات ويتكرر الحيض كل شهر غالبا أسقط الله عنها وجوب الصلاة وقضاءها لما في قضائها من المشقة العظيمة أما الصوم فلما كان لا يتكرر إلا في السنة مرة أسقط الله عنها الصوم في حال الحيض رحمة بها وأمرها بقضائه بعد ذلك تحقيقا للمصلحة الشرعية في ذلك
السؤال الثالث: ما الحكم في الذين يكتبون آيات الله البينات ويأمرون المريض بتعليقها في رأسه أو في أي جهة من جسده ويقولون له: هذا سبب الشفاء ويأخذون منه ثمنا، ومنهم من لا يأخذ شيئا؟ .
الجواب: الصحيح أن كتابة آيات من القرآن أو غيرها من الأدعية المأثورة وتعليقها على المريض رجاء الشفاء ممنوع لثلاثة أمور: الأول: عموم أحاديث النهي عن تعليق التمائم ولا مخصص لها. الثاني: سد ذريعة فإن تعليق ما كتب من آيات القرآن يفضي إلى تعليق ما ليس كذلك.
الثالث: أن ما علق من ذلك عرضة للامتهان، يحمله في حال قضاء الحاجة والاستنجاء ونحو ذلك.
وإذا كان ذلك ممنوعا فأخذ الأجرة على كتابته ليعلق على المريض لرجاء الشفاء ممنوع أيضا. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الحيض (335) ، سنن النسائي الصيام (2318) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (631) ، مسند أحمد بن حنبل (6/232) .(26/84)
فتوى رقم 1644 وتاريخ 10 \ 8 \ 1397 هـ
السؤال الأول: إني قد جادلت بعض الذين يفتون بإباحة الصلاة في المقبرة وفي المسجد الذي فيه قبر أو قبور فدحضت شبههم بالقنابل الذرية - الأحاديث الصحيحة الصريحة - غير أنهم قالوا: أين كانت عائشة رضي الله عنها تصلي بعد أن دفن في بيتها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيره في داخل بيتها أم خارجه. وقالوا أيضا: كيف وقد صلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في المسجد الحرام وقد دفن فيه هاجر زوجة إبراهيم عليه السلام وبعض الأنبياء. وعلى هذا فإني ألتمس منك يا فضيلة الشيخ أن تخبرني هل صحيح ما ذكروا من وجود هاجر في البيت الحرام وبعض الأنبياء؟ وهل صحيح أن عائشة كان تصلي في بيتها بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وأن تدلني على بعض الكتب التي تتكلم عن هذا؟
الجواب: ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجدا. وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال قبل أن يموت بخمس: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (2) » . وفي صحيح مسلم أيضا أنه قال: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها (3) » ، «ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن يجصص القبر وأن يبنى عليه وأن يقعد عليه (4) » . فلعن اليهود والنصارى لكونهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ونهى - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ القبور مساجد وعن الصلاة إليها والبناء عليها حماية لجناب التوحيد وسدا
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .
(3) صحيح مسلم الجنائز (972) ، سنن الترمذي الجنائز (1050) ، سنن النسائي القبلة (760) ، سنن أبو داود الجنائز (3229) ، مسند أحمد بن حنبل (4/135) .
(4) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .(26/85)
لذرائع الشرك. وبهذا يعلم أن المساجد المبنية على القبور لا تجوز الصلاة فيها وبناؤها محرم.
وأما ما جاء في السؤال من قول السائل أين كانت عائشة رضي الله تعالى عنها تصلي بعد أن دفن في بيتها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيره في داخل بيتها أم خارجه. فإن عائشة رضي الله عنها ممن روى الأحاديث الثابتة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن اتخاذ القبور مساجد وهذا من حكمة الله جل وعلا. وبهذا يعلم أنها ما كانت تصلي في الحجرة التي فيها القبور لأنها لو كانت تصلي فيها لكانت مخالفة للأحاديث التي روتها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا لا يليق بها. وإنما تصلي في بقية بيتها. وأما كون هاجر مدفونة بالمسجد الحرام أو غيرها من الأنبياء فلا نعلم دليلا يدل على ذلك وأما من زعم ذلك من المؤرخين فلا يعتمد على قوله لعدم الدليل الدال على صحته.
السؤال الثاني: ما حكم الشريعة في الذي يقول لزوجته إذا أتاك الحيض ثم طهرت فأنت طالق - وفعلا قصد الطلاق ولكن ظهر له بعد ذلك وقبل إتيان الحيض أن يمسكها فهل يعد ذلك طلقة أم لا؟ وهل يعد طلقة كذلك إذا لم يبد له إمساكها إلا بعد الطهر المعلق عليه؟
الجواب: هذا طلاق معلق على شرط محض لا يقصد به حث ولا منع فيقع الطلاق بوجود الشرط وهو الطهر بعد الحيض ورجوعه عن هذا التعليق بعد حصوله منه لا يصح.
السؤال الثالث: إذا كان الأب محافظا على الصلوات الخمس وأركان الإسلام ولكنه يعتقد جواز النذر والذبح للمقبورين في الأضرحة والمشاهد. فهل لابنه الموجود أن يأخذ من ماله ما يبني به مستقبله أو أن يرثه بعد موته أم لا؟
الجواب: من اعتقد من المكلفين المسلمين جواز النذر والذبح(26/86)
للمقبورين، فاعتقاده هذا شرك أكبر مخرج من الملة يستتاب صاحبه ثلاثة أيام ويضيق عليه فإن تاب وإلا قتل. أما أخذ ابنه من ماله ما يبني به مستقبله وكونه يرثه بعد موته في نفس المسألة المسئول عنها فإن هذا مبني على معرفة حقيقة واقع الأب ومعرفة الحال التي يموت عليها فإذا كان أبوه مات على هذه العقيدة لا يعلم أنه تاب فإنه لا يرثه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم (1) » ويجوز لابنه أن يأخذ من ماله في حياته ما طابت به نفسه له.
السؤال الرابع: هل يجوز للولد أن يأكل من مال أبيه المرابي؟
الجواب: الربا محرم بالكتاب والسنة والإجماع وإذا كان والدك مرابيا، فالواجب عليك نصحه ببيان الربا وحكمه وما أعد الله لأهله من العذاب ولا يجوز لك أن تأخذ من مال أبيك ما تعلم أنه يدخل إلى ملكه من طريق التعامل بالربا.
وعليك أن تطلب الرزق من الله جل وعلا وتبذل الأسباب الشرعية التي وضعها الله لطلب الرزق.
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (2) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (3) .
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (4) .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... رئيس اللجنة
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الفرائض (6764) ، صحيح مسلم الفرائض (1614) ، سنن الترمذي الفرائض (2107) ، سنن أبو داود الفرائض (2909) ، سنن ابن ماجه الفرائض (2730) ، مسند أحمد بن حنبل (5/208) ، موطأ مالك الفرائض (1104) ، سنن الدارمي الفرائض (2998) .
(2) سورة الطلاق الآية 2
(3) سورة الطلاق الآية 3
(4) سورة الطلاق الآية 4(26/87)
فتوى برقم 2363 وتاريخ 29 \ 11 \ 1398 هـ
السؤال الأول: أنا كنت ألزم المعتمرين بطواف الوداع عند خروجهم من البلد الحرام، وقد سمعت من سماحتكم في درسكم بالحرم أنه لا وداع لهم، فأرجو زيادة البيان في هذا الموضوع:
الجواب: يجب طواف الوداع على من حج بيت الله الحرام عند سفره لقول ابن عباس رضي الله عنهما: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض (1) » . متفق عليه - ولقوله: «كان الناس ينصرفون من كل وجهة - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا ينصرف أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (2) » - رواه أحمد ومسلم، وهذا أمر للحجاج بقرينة الحال، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قاله عند الفراغ من الحج إرشادا للحجاج. أما المعتمر فلا يجب عليه طواف الوداع، لكن يسن له أن يطوفه عند سفره، لعدم الدليل على الوجوب، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يطف للوداع عند خروجه من مكة بعد عمرة القضاء فيما علمنا من سنته في ذلك.
السؤال الثاني: قال بعض أهل البدع الذين يدعون أهل القبور قال: كيف تقولون الميت لا ينفع وقد نفعنا موسى عليه السلام حيث كان السبب في تخفيف الصلاة من خمسين إلى خمس وقال بعضهم كيف تقولون كل بدعة ضلالة فماذا تقولون في شكل القرآن ونقطه كل ذلك حدث بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبماذا نجيبهم؟
الجواب: أولا: الأصل في الأموات أنهم لا يسمعون نداء من ناداهم من الناس ولا يستجيبون دعاء من دعاهم، ولا يتكلمون مع الأحياء من البشر ولو كانوا أنبياء، بل انقطع عملهم بموتهم، لقول الله تعالى:
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1755) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) .
(2) صحيح البخاري الحج (1755) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (1/222) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .(26/88)
{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (1) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (2) . وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (3) .
وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} (4) {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (5) .
وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية وولد صالح يدعو له وعلم ينتفع به (6) » رواه مسلم في صحيحه. ويستثنى من هذا الأصل ما ثبت بدليل صحيح كسماع أهل القليب من الكفار كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقب غزوة بدر، وكصلاته بالأنبياء ليلة الإسراء، وحديثه مع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في السماوات حينما عرج به إليها، ومن ذلك نصح موسى لنبينا عليهما الصلاة والسلام أن يسأل الله التخفيف مما افترضه عليه وعلى أمته من الصلوات فراجع نبينا - صلى الله عليه وسلم - ربه في ذلك حتى صارت خمس صلوات في كل يوم وليلة، وهذا من المعجزات وخوارق العادات فيقتصر فيه على ما ورد، ولا يقاس عليه به غيره مما هو داخل في عموم الأصل، لأن بقاءه في الأصل أقوى من خروجه عنه بالقياس على خوارق العادات علما بأن القياس على المستثنيات من الأصول ممنوع خاصة إذا لم تعلم العلة، والعلة في هذه المسألة غير معروفة، لأنها من الأمور الغيبية التي لا تعلم
__________
(1) سورة فاطر الآية 13
(2) سورة فاطر الآية 14
(3) سورة فاطر الآية 22
(4) سورة الأحقاف الآية 5
(5) سورة الأحقاف الآية 6
(6) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .(26/89)
إلا بالتوقيف من الشرع ولم يثبت فيها توقيف فيما نعلم، فوجب الوقوف بها مع الأصل.
ثانيا: الأمة مأمورة بحفظ القرآن كتابة وتلاوة، وبقراءته على الكيفية التي علمهم إياها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد كانت لغة الصحابة رضي الله عنهم عربية سليمة، لقلة الأعاجم بينهم وعنايتهم بتلاوته كما أنزل علهيم. واستمر ذلك في عهد الخلفاء الراشدين، فلم يخش عليهم اللحن في قراءة القرآن، ولم يشق عليهم قراءته من المصحف بلا نقط ولا شكل، فلما كانت خلافة عبد الملك بن مروان وكثر المسلمون من الأعاجم واختلطوا بالمسلمين من العرب خشي عليهم اللحن في التلاوة وشق عليهم القراءة من المصحف بلا نقط ولا شكل، فأمر عبد الملك بن مروان بنقط المصحف وشكله وقام بذلك الحسن البصري ويحيى بن يعمر رحمهما الله وهما من أتقى التابعين وأعلمهم وأوثقهم محافظة على القرآن، وصيانة له من أن يناله تحريف، وتسهيلا لتلاوته وتعليمه وتعلمه كما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وبهذا يتبين أن كلا من نقط القرآن وشكله وإن لم يكن موجودا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو داخل في عموم الأمر بحفظه وتعليمه وتعلمه على النحو الذي علمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته ليتم البلاغ ويعم التشريع ويستمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها وعلى هذا لا يكون من البدع، لأن البدعة ما أحدث مما لم يدل عليه دليل خاص به أو عام له ولغيره. وقد يسمي مثل هذا بعض من تكلم في السنن والبدع مصلحة مرسلة لا بدعة، وقد يسمى هذا بدعة من جهة اللغة لكونه ليس على مثال سابق لا من جهة الشرع، لدخوله تحت عموم الأدلة الدالة على وجوب حفظ القرآن وإتقانه تلاوة وتعلما وتعليما ومن هذا قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس على إمام واحد في التراويح: (نعمت البدعة هذه) . والظاهر(26/90)
دخول النقط والشكل في عموم النصوص الدالة على وجوب حفظ القرآن كما أنزل.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(26/91)
فتوى برقم 2501 وتاريخ 25 \ 7 \ 1399 هـ
السؤال: شخص يقول: " إن الكثير من النساء بعد أدائهن لفريضة الحج يسافرن إلى المدينة المنورة لزيارة المسجد النبوي وقبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهل يلزم المرأة زيارة المسجد النبوي وزيارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو يلزمها أحدهما أو لا يلزمها الاثنان؟ أفيدونا عن ذلك ".
الجواب: ليست زيارة المسجد النبوي واجبة على النساء ولا على الرجال بل هي سنة للصلاة فيه فقط ويجوز شد الرحال لذلك وليست زيارة قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجبة أيضا بل هي سنة بالنسبة لمن لم يتوقف ذلك منه على سفر كزيارة سائر قبور المسلمين، وذلك للعبرة والاتعاظ وتذكرة الآخرة بزيارتها، وقد زار النبي - صلى الله عليه وسلم - القبور، وحث على زيارتها لذلك لا للتبرك بها، ولا لسؤال من فيها من الموتى قضاء الحاجات وتفريج الكربات، كما يفعل ذلك كثير من المبتدعة رجالا ونساء، أما إذا توقفت زيارة قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو غيره على سفر فلا يجوز ذلك من أجلها لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد:(26/91)
مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى (1) » .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .(26/92)
فتوى برقم 2506 وتاريخ 25 \ 7 \ 1399 هـ
السؤال: شخص يريد أن يزور المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة وهو بمكة، ويسأل هل ذلك جائز أولا:
الجواب: يجوز للمسلم أن يسافر إلى المدينة للصلاة في المسجد النبوي بل يستحب لأن الصلاة فيه بألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وإذا كان بمكة فصلاته في المسجد الحرام أفضل من سفره للصلاة في المسجد النبوي لأن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة فيما سواه ولا يجوز له أن يسافر إلى المدينة من أجل زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قبور أخرى لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى (1) » رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه - وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .(26/92)
فتوى برقم 2734 13 \ 12 \ 1399
السؤال: إنني أقوم بالوعظ والإرشاد وأقوم بالإمامة جمعة وجماعة في أحد الجوامع وأسست مكتبة فيها كمية من الكتب القيمة من كتب السنة وأدرس بنفس المسجد في الحديث والفقه والتوحيد والتفسير وأعالج المرضى بالرقية الشرعية الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الصحيحة كرقيته لأهله وأصحابه وكرقية جبريل عليه السلام له ولا أخرج عن الأحاديث وأنت تعلم أن الرقية ثابتة في كتب السنة وأكثر ما أرقي به ما ورد في كتب شيخ الإسلام كإيضاح الدلالة في عموم الرسالة وغيرها من كتبه المعروفة ولكتب ابن القيم منها زاد المعاد ولا يخفاك أنني آخذ أجرة على ذلك مستدلا بما ورد في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري الدال على جواز الرقية وأخذ الأجرة هو الاستغناء عما في أيدي الناس وحيث إنني مكفوف البصر ولي ظروف عائلية ولم يحالفني الحظ بوظيفة ولعلمي أن ذلك جائز وحلال وقد اعترض علي بعض الجهال بدون دليل. لذا أرجوا من الله ثم من سماحتكم إصدار فتوى من قبل سماحتكم لبيان ما ينبغي أن يبين لأكون على بصيرة وإقناعا لمن يعترض جهلا منه وإن تر أنني على باطل في عملي هذا فأرجو الإفتاء بما يقنعني وأنا لا أخالف لكم رأيا.
الجواب: إذا كان الواقع منك كما ذكرت من أنك تعالج المرضى بالرقية الشرعية وأنك لم ترق أحدا إلا بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنك تتحرى الرجوع في ذلك إلى ما ذكره العلامة ابن تيمية رحمه الله في كتبه المعروفة وما كتبه العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله في زاد المعاد وأمثالهما من(26/93)
كتب أهل السنة والجماعة فعملك جائز، وسعيك مشكور، ومأجور عليه إن شاء الله، ولا بأس بأخذك أجرا عليه، لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الذي أشرت إليه في سؤالك.
ونسأل الله أن يثبتك على ما ذكرت مع أنك قمت به من وعظ الناس وإرشادهم والتدريس لهم والصلاة بهم في المسجد وعلى إنشائك مكتبة فيها كتب قيمة من تأليف أهل السنة والجماعة وأن يجزيك عن إخوانك خير الجزاء ونرجو الله أن يزيدك توفيقا إلى الخير وعمل المعروف وأن يغنيك من فضله عما في أيدي الناس إنه سبحانه قريب مجيب الدعاء وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(26/94)
فتوى برقم 2787 وتاريخ 26 \ 1 \ 1400 هـ
السؤال: رجل يعيش في جماعة تستغيث بغير الله هل تجوز له الصلاة خلفهم وهل تجب الهجرة عنهم وهل شركهم شرك غليظ وهل موالاتهم كموالاة الكفار الحقيقيين؟
الجواب: إذا كانت حال من تقيم بينهم كما ذكرت من استغاثتهم بغير الله كالاستغاثة بالأموات والغائبين عنهم من الأحياء أو بالأشجار أو الأحجار أو الكواكب ونحو ذلك فهم مشركون شركا أكبر يخرج من ملة الإسلام لا تجوز موالاتهم كما لا تجوز موالاة الكفار ولا تصح الصلاة(26/94)
خلفهم ولا تجوز عشرتهم ولا الإقامة بين أظهرهم إلا لمن يدعوهم إلى الحق على بينة ويرجو أن يستجيبوا له وأن تصلح حالهم دينيا على يديه وإلا وجب عليه هجرهم والانضمام إلى جماعة أخرى يتعاون معها على القيام بأصول الإسلام وفروعه وإحياء سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يجد اعتزل الفرق كلها ولو أصابته شدة لما ثبت عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه قال: «كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه فقلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر. قال نعم. قلت فهل بعد هذا الشر من خير قال نعم وفيه دخن قلت وما دخنه. قال قوم يستنون بغير سنتي ويهتدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر فقلت فهل بعد ذلك الخير من شر قال: نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها فقلت يا رسول الله صفهم لنا قال: نعم هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قلت يا رسول الله فما تأمرني إن أدركني ذلك قال تلزم جماعة المسلمين وإمامهم فقلت فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام قال فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك (1) » . متفق عليه.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3606) ، صحيح مسلم الإمارة (1847) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4244) ، مسند أحمد بن حنبل (5/387) .(26/95)
فتوى برقم 2853 وتاريخ 3 \ 3 \ 1400 هـ
السؤال الأول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغتسل لأربع: الجنابة، إذا غسل الميت، قبل الجمعة، بعد الحجامة. فهل يجب الغسل على من غسل الميت؟
الجواب: من غسل الميت فليغتسل لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ (1) » رواه الخمسة ولم يذكر ابن ماجه الوضوء وقال أبو داود هذا منسوخ وقال بعضهم معناه من أراد حمله ومتابعته فليتوضأ من أجل الصلاة عليه قال الحافظ ابن حجر: قد حسنه الترمذي وصححه ابن حبان ورواه الدارقطني بسند رواته موثقون وقد صححه ابن حزم أيضا وقال ابن حجر أيضا: هو لكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسنا وقال الذهبي: هو أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء وفي الباب حديث عن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت فيه غسله - صلى الله عليه وسلم - من الأربع المذكورة. . رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة.
السؤال الثاني: هل حمل الجنازة يحسب من نواقض الوضوء؟
الجواب: سبق الجواب عن هذا السؤال ضمن جواب السؤال الأول والصواب أنه لا ينقض الوضوء للاختلاف في صحة الحديث المذكور لقول الإمام أحمد رحمه الله: لا يثبت في هذا الباب شيء ولعدم وجود شواهد تشهد للحديث المذكور في الوضوء من حمل الجنازة.
السؤال الثالث: إنسان يكتب التمائم وهو إمام المسجد هل تجوز الصلاة ورواءه؟
البيان: أن هذا الإنسان يكتب هذه التمائم لا للسحر وإنما لأغراض صغيرة
__________
(1) سنن الترمذي الجنائز (993) ، سنن أبو داود الجنائز (3161) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1463) ، مسند أحمد بن حنبل (2/272) .(26/96)
ومنها صداع الرأس وللصبي حين نزوله من أمه للرضاع وهناك مسائل أخرى مثل هذه أرجو أن تبين لي هذه المسألة فهناك علماء يقولون إنه مشرك لا تجوز الصلاة خلفه.
الجواب: تجوز الصلاة خلف الذي يكتب التمائم من القرآن والأدعية المشروعة ولا ينبغي له أن يكتبها لأنه لا يجوز تعليقها. وأما إذا كانت التمائم تشتمل على أمور شركية فلا يصلى خلف الذي يكتبها ويجب أن يبين له أن هذا شرك والذي يجب عليه البيان هو الذي يعلمها. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(26/97)
فتوى برقم 3529 وتاريخ 18 \ 3 \ 1401
السؤال الأول: شخص كتب لشخص آخر تمائم بأجرة وعرف المكتوب له فيما بعد أن تعليق التمائم لا يجوز في الإسلام فهل يعطي الكاتب له تلك التمائم أجرة أم لا؟
الجواب: الصواب تحريم تعليق التمائم سواء كانت من القرآن أو غيره وإذا حرم تعليقها لم يجز أخذ أجرة كتابتها ولا دفعها لمن كتبها.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(26/97)
فتوى برقم 4086 وتاريخ 4 \ 11 \ 1401 هـ
السؤال الأول: ما حكم رفع صوت المأموم بعد الركوع بقول (ربنا لك الحمد) مثلما يقول (آمين) ؟
الجواب: لا نعلم دليلا يدل على أن المأمومين يرفعون أصواتهم بقول ربنا لك الحمد ولا غيرها ما عدا الثابتة في الصلاة الجهرية.
السؤال الثاني: ما حكم الصلاة وراء إمام مبتدع؟
الجواب: إن كانت بدع الإمام شركية كالاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله وكالاعتقاد في أهل القبور أنهم ينفعون أو يضرون فالصلاة وراءه لا تجوز ولا تصح لو فعلت وإن كانت دون ذلك كالدعاء الجماعي بعد الصلاة ونحوه صحت ومتى تيسر إبداله بصاحب سنة وجب ذلك مع القدرة.
السؤال الثالث: ما حكم رفع الصوت بالتسبيح بين كل ركعتين في صلاة التراويح؟
الجواب: الفصل بين كل ركعتين بتسبيح أو استغفار أو دعاء أو بسلام لا حرج فيه ولا ينبغي رفع الصوت به لعدم الدليل على ذلك.
السؤال الرابع: هل تجوز قراءة القرآن لمريض لوجه الله تعالى أو بأجرة؟
الجواب: إذا كان المقصود أن يرقى المريض بالقرآن فذلك جائز بل مستحب لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه (1) » ، ولفعله ذلك وأصحابه رضي الله عنهم والأولى أن يكون بغير أجرة وإن كان بأجرة جاز لثبوت السنة بجواز ذلك وإن كان المقصود أن يجعل ثوابه للمريض فذلك لا ينبغي فعله لعدم وروده في الشرع المطهر وقد
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2199) .(26/98)
قال عليه الصلاة والسلام «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد (1) » متفق على صحته.
السؤال الخامس: ما حكم أخذ الزوج المؤونة من والد الزوجة لقاء زواج ابنته؟
الجواب: يجوز ذلك ويشرع أن يسمي الزوج لها مهرا عن العقد ولو قليلا. وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(26/99)
فتوى برقم 4184 وتاريخ 6 \ 12 \ 1401 هـ
السؤال الأول: شخص يقول: لي أستاذ - هو الذي علمني القرآن - وجد والد والدتي - قد توفيا - كان يكتبان آيات القرآن مع الخواتم ثم يعطيانه للناس ثم إنهما أمراني بالتزام قراءة القرآن وأنا لزمت تلاوة القرآن حتى أفهمني ربي التوحيد ثم بان لي أنهما فعلا شيئا غير صحيح. فهل يمكن أن أدعو لهما وأستغفر لهما. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: كتابة آيات من القرآن لتعلق تمائم لا تجوز وكذا تعليقها رجاء الحفظ أو الشفاء أو دفع البلاء لا يجوز على الصحيح. ولكن مع ذلك يجوز لك أن تدعو لمعلمك ولجدك بالرحمة والمغفرة وإن كانا يفعلان ذلك في حياتهما لأنه ليس بشرك وإن كان لا يجوز إلا أن تكون علمت منهما(26/99)
غير ذلك مما يوجب كفرهما كدعاء الأموات والاستغاثة بالجن ونحو ذلك من أنواع الشرك الأكبر فلا تدع لهما ولا تستغفر لهما.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(26/100)
فتوى برقم 4259 وتاريخ 16 \ 12 \ 1401 هـ
السؤال الأول: ما حكم طالب المدد من شخص ميت بأن يقول مدد يا فلان وما الحكم في طلبه أيضا من الأحياء الغير حاضرين لذلك الشخص الطالب للمدد؟
الجواب: أولا: طالب المدد من شخص ميت بأن يقول مدد يا فلان يجب نصحه وتنبيهه بأن هذا أمر محرم بل هو شرك فإن أصر على ذلك فهو مشرك كافر لأنه طلب من غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله فقد صرف حق الله إلى المخلوق. قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (1) الآية.
ثانيا: طلب المدد من الحي الذي ليس بحاضر لا يجوز لأنه دعى غير الله وطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى وهو شرك أيضا قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (2)
__________
(1) سورة المائدة الآية 72
(2) سورة الكهف الآية 110(26/100)
ودعاء الحي الغائب نوع من العبادة فمن فعل ذلك نصح فإن لم يقبل فهو مشرك يخرج من الملة.
السؤال الثاني: هل يجوز للأخ المسلم الملتحي أن يخالف والديه إن طالباه بحلق اللحية وهل يجوز حلقها لأن حكومة من الحكومات تضطهد المتمسكين بدينهم وسنة نبيهم؟
الجواب: أولا: لا يجوز أن يحلق الرجل لحيته إذا طلب والده ذلك منه لأن حلقها محرم ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ثانيا: إذا أجبر الإنسان على حلق لحيته ولو أنه أعفاها ترتب على ذلك قتله أو قطع عضو من أعضائه أو إزالة منفعة من المنافع كحاسة السمع أو البصر ونحو ذلك جاز.
السؤال الثالث: ما حكم الإسلام في الغناء وما حكم من يعرف أن شيئا حرام كالاستماع إلى الموسيقى والغناء ثم يقبله وهل يجوز لي أن أصادقه وإن قاطعته هل أكون عاصيا لله وكذلك باقي المحرمات كحلق اللحية؟
الجواب: الهجر لمن يعصى الله جل وعلا يختلف حكمه باختلاف الأمكنة والأزمنة والأحوال والأشخاص فإذا ترجح جانب المصالح على المفاسد في الهجر وجب وإذا ترجح جانب المفاسد على جانب المصالح فلا ينبغي أن يحصل الهجر وإن استوى الأمران في نظر من يريد الهجر فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
السؤال الرابع: هل يجوز إقامة المساجد على قبور أولياء الله الصالحين وهل يجوز الصلاة في هذه المساجد مع وجود مساجد أخرى في نفس البلد خالية من القبور؟
الجواب: لا يجوز بناء المساجد على قبور أولياء الله الصالحين ولا تجوز(26/101)
الصلاة في هذه المساجد لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » متفق على صحته. ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (2) » خرجه مسلم في صحيحه. وخرج مسلم أيضا عن جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه «نهى أن يخصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبني عليه (3) » .
السؤال الخامس: هل تجوز الصلاة خلف الإمام حليق اللحية وهل يجوز أخذ الفتوى من أولئك القوم وكذلك المبتدع هل تؤخذ منه الفتوى؟
الجواب: أولا: حلق اللحية حرام وحالقها فاسق.
ثانيا: من أشكل عليه شيء من أمور دينه فإنه يسأل أوثق من يتمكن من أن يسأله وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .
(3) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .(26/102)
فتوى برقم 4521 وتاريخ 6 \ 4 \ 1402 هـ
السؤال: سائل يقول: ما حكم الصلاة في مسجد فيه قبر؟ ويقول بعض العلماء لا تجوز الصلاة فيه وإن لم يكن في البلد مسجد غيره فتصلي في بيتك خير لك ثوابا من أن تصلي في ذلك المسجد الذي فيه قبر ويقول بعضهم تجوز الصلاة فيه لأن قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - موجود في مسجده وصاحبيه أبي بكر وعمر وقد أشكل علي الأمر. فما العمل؟
الجواب: أولا: لا يجوز بناء المساجد على القبور ولا تجوز الصلاة(26/102)
في مسجد بني على قبر أو قبور لما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح الخميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها فقال وهو كذلك: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) (1) » يحذر ما صنعوا ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا. رواه البخاري ومسلم. وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (2) » . رواه مسلم.
فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بناء المساجد على القبور ولعن من فعل ذلك فدل على أنه من الكبائر وأيضا في بناء المساجد على القبور والصلاة فيها غلو في الدين وذريعة إلى الشرك والعياذ بالله. ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها (يحذر ما صنعوا ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا) .
ثانيا: إذا بني المسجد على قبر أو قبور وجب هدمه لأنه أسس على خلاف ما شرع الله والإبقاء عليه مع الصلاة فيه إصرار على الإثم في بنائه وزيادة غلو في الدين وفي تعظيم من بني عليه المسجد وذلك مما يفضي إلى الشرك والعياذ بالله وقد قال تعالى: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (3) . .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين (4) » أما إذا بني المسجد على غير قبر ثم دفن فيه ميت فلا يهدم ولكن ينبش قبر من دفن فيه ويدفن خارجه في مقبرة المسلمين لأن دفنه بالمسجد منكر فيزال بإخراجه منه.
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (436) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532، 532) .
(3) سورة النساء الآية 171
(4) سنن ابن ماجه المناسك (3029) ، مسند أحمد بن حنبل (1/215) .(26/103)
ثالثا: المسجد النبوي أسسه - صلى الله عليه وسلم - على تقوى من الله تعالى ورضوان منه سبحانه ولم يقبر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته بل قبر في حجرة عائشة رضي الله عنها ولما مات أبو بكر رضي الله عنه دفن معه في الحجرة ثم مات عمر رضي الله عنه فدفن معه أيضا في الحجرة ولم تكن الحجرة في المسجد ولا في قبلته بل عن يسار المصلي خارج المسجد ولم تدخل فيه حينما وسع عثمان رضي الله عنه المسجد النبوي وإنما أدخلت بعد زمن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.
وعلى هذا فالصلاة فيه مشروعة بل خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام بخلاف غيره مما قد بني على قبر أو قبور أو دفن فيه ميت فالصلاة فيها محرمة.
رابعا: ليس لك أن تصلي الفريضة في بيتك بل عليك أن تصليها جماعة مع بعض إخوانك في غير المسجد الذي بني على قبر ولو في الفضاء عليكم أن تؤسسوا مسجدا على ما شرع الله لتؤدوا فيه الصلوات الخمس عملا بنصوص الشرع وبعدا عما نهى الله عنه والله الموفق وصلى الله على نبينا وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(26/104)
فتوى برقم 4874 وتاريخ 21 \ 8 \ 1402 هـ
السؤال: ما حكم بناء المساجد على القبور وما حكم هدمها إذا بنيت عليها؟
الجواب: لا يجوز بناء المساجد على القبور لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن جعل(26/104)
القبور مساجد ولعن من فعل ذلك وذلك يعم بناء المساجد عليها والصلاة فيها.
وإذا بنيت المساجد على القبور وجب هدمها لأنها أسست على غير الطريقة الشرعية ولأن الإبقاء عليها والصلاة فيها ذريعة إلى الشرك. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(26/105)
فتوى برقم 5093 وتاريخ 4 \ 12 \ 1402 هـ
السؤال الأول: رجل يقول: قام أهل بلدتنا بهدم مسجد لكي يعيدوا بناءه وكان هذا المسجد مقاما على قبر وبعد أن بدءوا البناء ارتفع هذا البناء على القبر ولم يضعوه خارج المسجد فما حكم التبرع لهذا المسجد وهل تجوز الصلاة فيه بعد بنائه على القبر مع العلم بأن القبر في حجرة وبابها في المسجد؟
الجواب: إذا كان الواقع ما ذكر فلا يجوز التبرع لبناء هذا المسجد ولا المشاركة في بنائه ولا تجوز الصلاة فيه بل يجب هدمه. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(26/105)
فتوى برقم 5741 وتاريخ 27 \ 6 \ 1403 هـ
السؤال الأول: إذا أخر المسافر صلاة الظهر مثلا ووصل إلى بلدته وقت العصر (الاختياري) أو قبله هل يصلي الظهر أم ينتظر ويجمعهما. وهل يقصر أم يتم إذ قد نوى الجمع قبل بدء سفره؟
الجواب: إذا أخر المسافر صلاة الظهر - مثلا - ووصل إلى بلدته وقت العصر (الاختياري) أو قبله فإنه يصلي الظهر أربعا ولا ينتظر دخول وقت العصر لأن الرخصة انتهت بوصوله إلى بلده ويصلي العصر أربعا في وقتها.
السؤال الثاني: هل يجوز للطالب أن يجمع الظهر والعصر إذ إن الأساتذة والمسئولين لا يسمحون له بالصلاة على وقتها حيث يكون داخل الفصل؟
الجواب: على الطالب أن يصلي الظهر أربعا في وقتها ويصلي العصر أربعا في وقتها وكون الأساتذة لا يسمحون له ليس هذا عذرا يبيح له الجمع بين الصلاتين.
السؤال الثالث: ما هي المدة التي يقصر فيها المسافر والمسافة المحددة لذلك إذ قرأنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصر تسعة عشر يوما يصلي ركعتين وأقام بتبوك عشرين يقصر. وسعد رضي الله عنه قصر أربعين ليلة وابن عمر رضي الله عنهما ستة أشهر وأقام عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه بكابل يقصر سنتين. أما الفقهاء فقالوا ثلاثة أيام والبعض قال أربعة مع شروط أنتم أعلم بها ونريد أن نتبع هدي الحبيب - صلى الله عليه وسلم - وآله. فأوضحوا لنا ذلك مع المسافة بالكم والمدة يرحمكم الله؟ (من فقه السنة أخذنا ما سلف ج 1) .
الجواب: مقدار المسافة التي تكون مسببا في الترخيص برخص السفر كل ما يسمى سفرا عرفا عند بعض أهل العلم وبعضهم يحدده بيومين(26/106)
قاصدين: وأما المدة فإن نوى المسافر الإقامة ببلد أكثر من أربعة أيام فإنه لا يترخص برخص السفر وإن كانت أربعة فما دون أو أكثر من أربعة ولكنه لم يحددها بل إقامته معلقة بقضاء حاجته فمتى انقضت سافر فإنه يترخص برخص السفر، وأما ما ذكرته من إقامة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة تسعة عشر يوما وفي تبوك عشرين يوما وإقامة ابن عمر وعبد الرحمن بن سمرة فذلك محمول عند الجمهور على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يجمع الإقامة وهكذا ابن عبد وعبد الرحمن بن سمرة وإنما أقام لأسباب عارضة.
السؤال الرابع: إن الحجاج عند رجوعهم من البقاع المقدسة إلى بلدانهم يلزمون بيوتهم أسبوعا لا يخرجون لا لقضاء حوائجهم ولا إلى الصلاة وينكب الناس عليهم لدعائهم هل هذا من السنة؟
الجواب: ليس ذلك بسنة بل هو بدعة ومن ادعى أنه سنة فعليه الإتيان بالدليل. وأما جلوسهم في بيوتهم عن أداء صلاة الجماعة في المسجد فلا يجوز إلا لعذر شرعي وليس ما ذكر بعذر فهم آثمون في تخلفهم عن الصلاة.
السؤال الخامس: يبقى العريس مع زوجه أسبوعا مع البكر ومع الثيب ثلاثا لا يخرج لصلاة الجماعة. أهو في السنة حتى عدم الخروج للصلاة؟
الجواب: إذا تزوج بكرا أقام عندها سبعا ثم قسم وإن كانت ثيبا أقام عندها ثلاثا فإن أحبت أن يقيم عندها سبعا فعل وقضاهن للبواقي. والأصل في ذلك ما روى أبو قلابة عن أنس رضي الله عنه قال: «من السنة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعا وقسم وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا ثم قسم (1) » قال أبو قلابة لو شئت لقلت إن أنسا رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -) متفق عليه. ولفظه للبخاري وما روته أم سلمة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تزوجها أقام عندها ثلاثا وقال «إنه ليس
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5214) ، صحيح مسلم الرضاع (1461) ، سنن الترمذي النكاح (1139) ، سنن أبو داود النكاح (2124) ، سنن ابن ماجه النكاح (1916) ، موطأ مالك النكاح (1124) ، سنن الدارمي النكاح (2209) .(26/107)
بك هوان على أهلك فإن شئت سبعت لك وإن سبعت لك سبعت لنسائي (1) » . رواه مسلم. ولا يجوز لمن تزوج بكرا أو ثيبا أن يتأخر عن صلاة الجماعة في المسجد بحجة أنه متزوج لعدم الدليل على ذلك وليس في الحديثين المذكورين ما يقتضي ذلك.
السؤال السادس: هل يجوز للمسلم أن يصلي الصبح جماعة بالتيمم من احتلام أو جنابة ليس به مرض لئلا تفوته صلاة الجماعة إذا ما اغتسل وذهب إلى المسجد؟
الجواب: يجب عليه أن يغتسل ويتوضأ وضوء الصلاة ويصلي ولو فاتته الجماعة ولا يجزئه التيمم وكون الجماعة تفوته إذا اغتسل لا يجوز له التيمم.
السؤال السابع: هل تجوز الصلاة بالتيمم (في قيام الليل) بعد أن يكون المسلم ضاجع أهله لكنه عجز عن الغسل ليلا.
الجواب: يغتسل ويتوضأ وضوء الصلاة ويصلي صلاة الليل ولا يجوز له أن يصلي بالتيمم والحال ما ذكر لكن إذا كان عاجزا عن الغسل لكونه مريضا ولعدم وجود ما يسخن به الماء البارد أو نحوها من الأعذار الشرعية جاز له أن يتيمم ويصلي لعموم قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2) وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (3)
السؤال الثامن: هل يجوز المبيت عند مشرك من أهل القباب والذبح لغير الله؟
الجواب: لا يجوز له أن يبيت عند مشرك من أهل القباب والذبح لغير الله لأنه قد يؤثر عليه ويدعوه إلى شركه إلا إذا اضطر إلى ذلك.
__________
(1) صحيح مسلم الرضاع (1460) ، سنن أبو داود النكاح (2122) ، سنن ابن ماجه النكاح (1917) ، مسند أحمد بن حنبل (6/295) ، موطأ مالك كتاب النكاح (1123) ، سنن الدارمي النكاح (2210) .
(2) سورة البقرة الآية 286
(3) سورة التغابن الآية 16(26/108)
السؤال التاسع: من أكل مما لم يذكر اسم الله عليه كالوليمة لمشهد مثلا أهو مشرك أم ارتكب حراما؟
الجواب: لا يجوز الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه أو أهل به لغير الله كالذبائح التي يتقرب بها أصحاب المشاهد لأصحاب القبور لأنها في حكم الميتة ولكن من أكل منها لا يكفر بذلك إذا لم يستحل لك وإنما حمله على الأكل الجهل في الحكم الشرعي أو التساهل.
السؤال العاشر: من يوصل مشركا إلى قبة من القباب للطواف بها أو لحضور وليمة. أهو مشرك أم ارتكب إثما بدون رضاه إذ الذاهب للقبة والده أو والدته وإذا امتنع يغضب الواحد منهما؟
الجواب: لا يجوز لشخص أن يوصل مشركا إلى قبة من القباب للطواف بها أو لحضور وليمة أقيمت من أجل المشهد فإذا فعل ذلك فقد ارتكب معصية لأن هذا من التعاون على الإثم والعدوان وكون الذي يريد الذهاب أباه أو أمه لا يبيح له ذلك فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (1) » .
السؤال الحادي عشر: من لم يحكم بما أنزل الله هل هو مسلم أم كافر كفرا أكبر وتقبل منه أعماله؟
الجواب: قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (2) .
وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (3) .
وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4) .
لكن إن استحل ذلك واعتقده جائزا فهو كفر أكبر وظلم أكبر وفسق أكبر يخرج من الملة أما إن فعل ذلك من أجل الرشوة ومقصد آخر
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/131) .
(2) سورة المائدة الآية 44
(3) سورة المائدة الآية 45
(4) سورة المائدة الآية 47(26/109)
وهو يعتقد تحريم ذلك فإنه آثم ويعتبر كافرا كفرا أصغر وظالما ظلما أصغر وفاسقا فسقا أصغر لا يخرجه من الملة كما أوضح ذلك أهل العلم في تفسير الآيات المذكورة.
السؤال الثاني عشر: قد قرأت في كتاب توضيح العقيدة المفيد في علم التوحيد لشرح الخريدة لسيدي أحمد الدردير تأليف المرحوم الشيخ حسين عبد الرحيم مكي الجزء الثاني مقرر السنة الرابعة الإعدادية بالمعاهد الأزهرية وتصحيح موسى أحمد اللباد الطبعة الرابعة 1383 هـ \ 1963 م أن صفات الله عز وجل عشرون صفة في قول مذهب جماعة منهم الرازية. أما في قول آخر فالإمام الأشعري ومن ذهب مذهبه أنها الصفات ثلاث عشرة صفة والمتفق عليه حسب الكتاب سبع صفات وهي صفات المعاني. فأفيدونا أفادكم الله بما يجب لله تعالى من صفة وما عددها أهي سبع أم ثلاث عشرة أم عشرون وإذا كانت عشرين فما معنى كونه قادرا وكونه حيا. هل هذا الكتاب صالح للعقيدة الصحيحة لأنني داخلني شك منه لأن صاحب الخريدة أشعري. وأريد أن أتبع وأقتدي بأهل السنة والجماعة لا الأشاعرة ولا غيرهم. فزدونا بكتاب يتكلم عن الصفات على مذهب أهل السنة.
الجواب: عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله تعالى موصوف بصفات الكمال وأنه يوصف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف على حد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) .
وأما القول بأنها عشرون وسبع أو ثلاث عشرة فلا أصل له بل هو مخالف للكتاب والسنة والإجماع والكتاب الذي ذكرته لا يصلح أن تعتمد عليه وعليك أن ترجع إلى العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن
__________
(1) سورة الشورى الآية 11(26/110)
تيمية وشرح الشيخ محمد خليل الهراس وكذلك التدمرية والحموية كلاهما لشيخ الإسلام ابن تيمية والكتب الثلاثة المذكورة قد أوضحت مذهب أهل السنة في الأسماء والصفات والرد على مخالفيهم وبالله التوفيق.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(26/111)
فتوى برقم 6425 وتاريخ 3 \ 12 \ 1403 هـ
السؤال: هل تجوز الصلاة في مسجد دفن فيه ميت أو أموات لضرورة عدم وجود غيره مع العلم أني إذا لم أصل فيه لم أصل الجماعة ولا الجمعة؟
الجواب: يجب نبش قبر أو قبور من دفن فيه ونقلها إلى المقبرة العامة أو نحوها ودفنهم فيها ولا تجوز الصلاة به والقبر أو القبور فيه بل عليك أن تلتمس مسجدا آخر لصلاة الجمعة والجماعة قدر الطاقة. وبالله التوفيق.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(26/111)
فتوى برقم 6427 وتاريخ 15 \ 3 \ 1404 هـ
السؤال الأول: هل يجوز وضع خرقة أو قطعة جلد أو ما يشبه ذلك على بطني الولد أو البنت وهما في سن الرضاعة. والكبير أيضا نحن في(26/111)
الجنوب نضع خرقة أو جلدا على بطن البنت أو الولد الصغير، وأيضا الكبار. فأرجو الإفادة عن ذلك.
الجواب: إذا كان وضع هذه الخرقة أو الجلد يقصد بها ما يقصد من التمائم من جلب نفع أو دفع ضر فهذا محرم بل قد يكون شركا وإن كان لغرض صحيح كمسك السرة للطفل عن الارتفاع أو شد الظهر فلا شيء في ذلك.
السؤال الثاني: هل يجوز مسك الخبز باليد اليسرى أم لا يجوز. إنني أشاهد نحو تسعين من المائة ما زالوا يأخذون الخبز باليد اليسرى لكي يقطع الخبز باليد اليمنى أو يمسك بها علما أن الخبز لين ولا يستطيع تناوله باليد اليمنى دون اليد اليسرى. فأرجو الإفادة عن ذلك؟
الجواب: يجوز مسك الخبز باليد اليسرى وأما الأخذ والإعطاء للغير فباليد اليمنى مراعاة للأدب وأما الأكل فلا يجوز باليد اليسرى مع القدرة على الأكل باليمنى.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(26/112)
فتوى برقم 6779 وتاريخ 29 \ 3 \ 1404 هـ
السؤال الأول: ما حكم انحناء الرأس لمسلم عند التحية؟
الجواب: لا يجوز لمسلم أن يحني رأسه للتحية سواء كان ذلك لمسلم(26/112)
أو كافر لأنه من فعل الأعاجم لعظمائهم ولأنه شبيه بالركوع والركوع تحية وإعظاما لا يكون إلا لله.
السؤال الثاني: ما حكم كتابة شيء من آيات القرآن الكريم وشربها فإني رأيت أناسا يفعلون ذلك.
الجواب: لم يثبت شيء من ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن خلفائه الراشدين ولا سائر صحابته رضي الله عنهم فتركها أولى والله أعلم.
السؤال الثالث: ما حكم احتفال الناس في العقيقة والوليمة؟
الجواب: العقيقة ما تذبح عن المولود سابع يوم ولادته والوليمة ما يقدم من الطعام في العرس ذبيحة أو نحوها وكلاهما سنة والاجتماع في ذلك لتناول الطعام والمشاركة في السرور وإعلان النكاح خير.
السؤال الرابع: هل يجوز لمسلم أن يكون قاضيا في بلد تحكم بغير ما أنزل الله من قرآن أو حديث؟
الجواب: لا يجوز وقد كتب سماحة الرئيس العام الشيخ عبد العزيز بن باز رسالة في الموضوع. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(26/113)
فتوى برقم 7095 وتاريخ 25 \ 6 \ 1404 هـ
السؤال الأول: رجل يقول: عندنا مسجد قديم وحوله مقبرة قديمة جدا قد ضاعت معالمها بحيث لا يعرف أنها مقبرة إلا قبرا واحدا بجوار(26/113)
المسجد. وأراد أهل القرية توسيع هذا المسجد بحيث يدخل في المسجد القبر الظاهر وغيره علما بأن المكان المذكور أنسب مكان لبناء المسجد فهل يجوز لهم ذلك أم لا؟
الجواب: يحرم إدخال القبر المذكور أو شيء من المقبرة في المسجد. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(26/114)
فتوى برقم 7137 وتاريخ 7 \ 7 \ 1404 هـ
السؤال الأول: رجل وقع في الزنا وهو لا يعلم حد الزاني المحصن لأنه رجل متزوج ويريد أن يتخلص من ذنب هذه الجريمة وبخاصة أنه لا تنفذ عندنا حدود الشريعة. فماذا يصنع حتى لا يلقى الله وفي عنقه كبيرة؟
الجواب: الزنا حرام في حق المحصن وغيره وكبيرة من كبائر الذنوب وعلى من وقع فيه أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى عسى الله أن يتوب عليه. قال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (1) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (2) {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (3) .
__________
(1) سورة الفرقان الآية 68
(2) سورة الفرقان الآية 69
(3) سورة الفرقان الآية 70(26/114)
والتوبة النصوح هي المشتملة على الإقلاع من الذنب والندم على ما فات منه والعزم الصادق ألا يعود في ذلك خوفا من الله سبحانه وتعظيما له مع الاجتهاد في الاستكثار من العمل الصالح كما في الآية الكريمة.
السؤال الثاني: ما حكم من يقوم بإنشاء وتشييد أو المشاركة في إنشاء مسجد يقام على قبر رجل وبجواره عدد من القبور وهو يرى مظاهر الشرك في هذا المكان وبخاصة أصحاب المهن الحالية كالزخرفة والتلوين وغيرها وماذا يصنع في المال الذي اكتسبه من هذا العمل وبخاصة أنه أحوج ما يكون إليه؟
الجواب: صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » . وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (2) » . وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن تجصيص القبور والبناء عليها والقعود عليها فلا يجوز للمسلم أن يفعل ما نهى عنه أو يعين على ذلك.
وعلى من عمل شيئا من ذلك أو شارك فيه أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى ويزيل ما عمله من المنكر إذا أمكنه ذلك وإذا صحت توبته وحسن عمله في حياته بعد التوبة فنرجو الله أن يعفو عنه ويساعده فيما عمل قبل التوبة. وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .(26/115)
فتوى برقم 7210 وتاريخ 20 \ 7 \ 1404 هـ
السؤال الأول: يوجد عندنا مجنات أي قبور كثيرة وبعضها يوجد عليها أحجار بيض أو سود ويبنى عليها ويقولون إنهم لا يبنون على قبور الرجال الذين قد قتلوا وقتلوا ناس كثير وسمعتهم شريفة فأنا أقول أن ذلك من الخطأ البناء عليها وقررت هدم ذلك فهل يجوز ذلك وهل لها عقوبة من الله. أفيدوني جزاكم الله خيرا؟
الجواب: البناء على القبور بدعة منكرة فيها غلو في تعظيم من دفن في ذلك وهو ذريعة إلى الشرك فيجب على ولي أمر المسلمين أو نائبه الأمر بإزالة ما على القبور من ذلك وتسويتها بالأرض قضاء على هذه البدعة وسدا لذريعة الشرك. فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج حيان بن حصين قال: قال لي علي رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته (1) » وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه «نهى عن البناء على القبور وتجصيصها والجلوس عليها (2) » .
لكن لا تقم بذلك من تلقاء نفسك خشية أن يصيبك ضرر دون أن تتم إزالته بل ارفع الموضوع إلى قاضي الجهة أو أميرها ليقوم بما وجب عليه من هدمها وتنبيه المسلمين على شرها فإنه نائب ولي الأمر في ذلك وأمثاله وصلى الله على نبينا محمد آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (969) ، سنن الترمذي الجنائز (1049) ، سنن النسائي الجنائز (2031) ، سنن أبو داود الجنائز (3218) ، مسند أحمد بن حنبل (1/96) .
(2) صحيح مسلم الجنائز (972) ، سنن الترمذي الجنائز (1050) ، سنن النسائي القبلة (760) ، سنن أبو داود الجنائز (3229) ، مسند أحمد بن حنبل (4/135) .(26/116)
فتوى برقم 7275 وتاريخ 4 \ 8 \ 1404 هـ
السؤال الأول: شخص يقول: لي من العمر (80 عاما) ولم يشأ الله لي في هذا العمر زيارة الكعبة المكرمة ولا زيارة مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن حبي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصلي عليه آناء الليل والنهار فأراه كثيرا في منامي. واليوم لم أر إلا أن أبوح بهذا، لي منزل بسيط ولم أرزق إلا بنجل واحدة ولها نجل يتيم وسكنا معي وفاء بخدمتي ودخلي محدود وشوقي كثير لزيارة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل أبيع المنزل وأتمتع بزيارتي إلى الحبيب؟
الجواب: أولا: نرجو أن تكون رؤياك خيرا.
ثانيا: السفر لزيارة قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز والمشروع زيارة مسجده للصلاة فيه وليست بواجبة ومن زار مسجده - صلى الله عليه وسلم - شرع له أن يسلم عليه وعلى صاحبيه رضي الله عنهما ولا يجوز أن تبيع بيت مسكنك من أجلها وطاعته - صلى الله عليه وسلم - وملازمة سنته وهديه ابتغاء ثواب الله في أي زمان أو مكان من أسباب السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(26/117)
فتوى برقم 7323 وتاريخ 14 \ 8 \ 1404 هـ
السؤال الأول: تزوجت بفتاة يتيمة الأم غير متعلمة وذلك في عيد الفطر من عام 1403 هـ وفي بداية شهر ذي الحجة أصابها مرض نفسي عبارة عن بكاء ونحيب ويرتفع أحيانا إلى صراخ وعويل. فأخذها والدها إلى منزله وأحضر لها كاهنا لمعالجتها فعالجها بالدخائن المنتنة وأمر بحبسها طوال شهر محرم في غرفة مظلمة ويسمون هذا العلاج الحجبة. وقد حدث هذا دون أخذ موافقتي فشفيت وبقيت في بيت أهلها شهري صفر وربيع الأول فعادت إلى منزلي في بداية شهر ربيع الثاني فعاد إليها المرض نفسه. والآن أقوم بمعالجتها عند طبيب أخصائي نفسي يعالجها بالقرآن والأدعية المأثورة بالإضافة إلى العلاجات الأخرى ولكن أهلها غير مقتنعين ويريدون علاجها لدى الكهنة. وقد منعني أهلها من قراءة القرآن عليها إذا أصابتها النوبة لأن الكاهن أخبرهم بأنني أنا السبب في زيادة مرضها لأنني قرأت عليها المعوذتين وآية الكرسي. فما هو الموقف الذي يجب أن أتخذه إذا عرضها والدها على كاهن آخر أرجو مساعدتي بالرد في أسرع وقت؟
الجواب: أحسنت بعلاجها بقراءة القرآن عليها ورقيتها بالأدعية النبوية المأثورة، لكن يحرم خلوة الأجنبي الذي يرقيها بها ويحرم عليها أن تكشف شيئا من عورتها أمامه أو يضع يده عليها. ولو توليت علاجها بذلك أو تولاه أحد محارمها كان أحوط. ونرى أن تعالجها أيضا بالمستشفى ونحوه عند دكتور الأمراض النفسية فإنه متخصص في علاج هذا المرض.
أما عرضها على الكهان والذهاب بها إليهم للعلاج فممنوع لقول(26/118)
النبي - صلى الله عليه وسلم - «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة (1) » رواه مسلم في صحيحه. ولقوله - صلى الله عليه وسلم - «من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد (2) » . وفق الله الجميع لاتباع الحق والتمسك به وترك المخالفة. وصلى الله على نبينا محمد آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2230) ، مسند أحمد بن حنبل (4/68) .
(2) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/429) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .(26/119)
فتوى برقم 7350 وتاريخ 21 \ 8 \ 1404 هـ
السؤال الأول: ما تفسير قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} (1) .
فما المراد بقوله تعالى: {ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا} (2) {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} (3)
مع أننا سمعنا منكم أنه يمنع البناء على القبور أليس هذا دليلا على جواز البناء على القبور.
الجواب: الأمر كما سمعتم عنا من تحريم بناء المساجد على القبور للأدلة الكثيرة الدالة على ذلك ولكونه وسيلة لعبادة أهلها من دون الله وليس في الآية المذكورة دليل على البناء لكونها مكان لماض وفعل أناس دلت الأدلة الشرعية على خلافه وذمهم عليه.
__________
(1) سورة الكهف الآية 21
(2) سورة الكهف الآية 21
(3) سورة الكهف الآية 21(26/119)
السؤال الثاني: سمعنا من بعض علمائنا في الحديث خبرا يقول: بعد أربعة عشر قرنا وشيء يكون قيام الساعة فهل هذا الخبر صحيح. علما بأنه مضت أربعة عشر قرنا وما هو الشيء؟
الجواب: لا يعلم تحديد وقت خبر قيام الساعة إلا الله سبحانه.
السؤال الثالث: هل ولد المهدي الذي أخبر أنه يخرج في آخر الزمان مع سيدنا عيسى عليه السلام ويقتل الدجال لعنة الله عليه والملائكة والناس أجمعين؟
الجواب: لا ندري بل علم ذلك عند الله سبحانه.
السؤال الرابع: بعض العلماء في قريتنا يضربون الدفوف والطبل ويبنون مساجد على القبور. ويذبحون لها الأغنام والأبقار والإبل وغيرها ويأخذون المال من الناس في الشهر والسنة هل يدخلون في قوله تعالى: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (1) .
الجواب: نعم يدخلون تحت عموم الآية بسبب ذبحهم لغير الله لأنه من الشرك بالله سبحانه، أما ضرب الدفوف والطبول ممن ذكرتم فمعصية ومنكر هداهم الله ومن عليهم بالتوبة إلى الله سبحانه من الشرك وسائر المعاصي. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الكهف الآية 104(26/120)
فتوى برقم 7501 وتاريخ 14 \ 9 \ 1404 هـ
السؤال الأول: إذا كان أذان الفجر يؤذن قبل موعده بحوالي 20 دقيقة فإذا أقيمت الصلاة قبل دخول وقت الفجر الصادق ودخل الإمام الصلاة وأثناء الصلاة دخل وقت الفجر الصادق. فهل يجوز لي أن أدخل في الصلاة خلف الإمام الذي صلى أو أبدأ الصلاة قبل دخول وقتها؟
الجواب: إذا ثبت أن الإمام دخل في صلاة الفجر قبل طلوع الفجر الصادق فلا يجوز الدخول معه لا في أول الصلاة ولا في آخرها الذي وقع منه بعد طلوع الفجر الصادق لكونها والحال ما ذكر باطلة.
السؤال الثاني: هل يجوز البيع بالتقسيط إذا كان البائع فرض عليك زيادة في ذلك كمثل أن يقول هذه السلعة بـ 10 إذا دفعت حالا وبـ 15 بالتقسيط؟
الجواب يجوز ذلك إذا عينا أحد الثمنين في مجلس العقد وتفرقا على ذلك.
السؤال الثالث: يوجد امرأة مصروعة وعليها امرأة من الجن وعندما تضرب امرأة الجن لا تستجيب للخروج من المرأة المسلمة. فهل يجوز في هذه الحالة حرقها بالنار حتى تخرج من المرأة المسلمة؟
الجواب: يحرم إحراقها بالنار مطلقا لأن النار لا يعذب بها إلا الله. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(26/121)
فتوى برقم 8019 وتاريخ 22 \ 1 \ 1405 هـ
السؤال: ما حكم الرقية بالقرآن وبالأذكار والدعوات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: تجوز الرقية بالقرآن وبالأذكار والدعوات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم للحفظ والوقاية ولدفع ما أصيب به الإنسان من الأمراض مثل (تلاوة آية الكرسي وسورة الفاتحة وقل هو الله أحد والمعوذتين ومثل «أذهب الباس رب الناس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما (1) » ومثل (أعيذك بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة) ونحو ذلك. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري المرضى (5675) ، صحيح مسلم السلام (2191) ، سنن ابن ماجه الطب (3520) ، مسند أحمد بن حنبل (6/45) .(26/122)
فتوى برقم 8040 وتاريخ 28 \ 1 \ 1405 هـ
السؤال: شخص يقول: أنا رجل كفيف البصر وساكن في بيت وهذا البيت كل ليلة يجيئني جن وأتخوف منهم والآن عندي مصحف إذا جعلته على وجهه ذهبوا عني وقال بعض الناس ما يصح أن تجعل المصحف على وجهه. آمل منكم إفادتي؟
الجواب: ينبغي لك أن تكثر من ذكر الله عند النوم وأن تقرأ آية الكرسي وسورة الإخلاص والمعوذتين وأن تستعيذ بكلمات الله التامات(26/122)
من شر ما خلق ثلاث مرات صباحا ومساء وتقول: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات صباحا ومساء. وتسلم إن شاء الله من شر الجن وغيرهم ولا ينبغي لك استعمال المصحف في هذا الأمر على الوجه المذكور لما في ذلك من الإهانة لكتاب الله وإرضاء الشياطين بذلك. ونسأل الله أن يعافيك وأن يعيذنا جميعا من الشياطين وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(26/123)
فتوى برقم 8086 وتاريخ 12 \ 2 \ 1405 هـ
السؤال: كنت نائما فرأيت الرسول صلى الله عليه وسلم أمرني أن أبلغ هذه الرسالة بالمسلمين بالتعاون والإيمان من يقرأ هذه الرسالة أن يكتبها 8 مرات ومن لا يقوم بتوزيعها يعاقب بالمرض ومن يقوم بتوزيعها يفرح بعد عشرة أيام فإذا كنت أكذب أموت على دين الكفر. هل هذا الكلام صحيح أم كذب؟
وهل الناس الذين يذهبون إلى القبة للزيارة ويكون معهم دجاج أو نعجة ويذبحون حول القبة التي يوجد فيها الميت ويقول بأن ذلك الميت مرابط. هل هذا الشيء حرام أم حلال؟
الجواب: أولا: هذه الرؤيا باطلة لا أصل لها وهي من جنس الرؤيا المنسوبة إلى خادم الحجرة النبوية وسبق أن كتب سماحة الشيخ(26/123)
عبد العزيز بن باز كتابة مطولة ونشرت في الصحف المحلية وغيرها.
ثانيا: الطواف بالقبور حرام وإن قصد التقرب إلى من فيها من الموتى فهو شرك أكبر يخرج من الإسلام لأن الطواف عبادة لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1) .
وصرف العبادة أو شيء منها إلى غير الله شرك.
ثالثا: الذبح عند القبور محرم وإن قصد به التقرب إلى صاحب القبر فهو شرك أكبر لقول الله سبحانه:
{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) .
والنسك هو الذبح ولقول النبي صلى الله عليه وسلم «لعن الله من ذبح لغير الله (3) » خرجه مسلم في صحيحه. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الحج الآية 29
(2) سورة الأنعام الآية 162
(3) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .(26/124)
فتوى برقم 8705 وتاريخ 15 \ 8 \ 1405 هـ
السؤال الأول: يوجد بمدينتي مسجد وبه قبر في إحدى زواياه وهذا القبر داخل غرفة وحده أي لا تقع الصلاة داخل هذه الغرفة ولكن تقع زيارة هذا القبر كل ليلة جمعة من بعض العائلات ويأتون ببعض الأطعمة ويتصدقون بها داخل هذا المسجد. فهل يجوز هذا وما حكم الصلاة في هذا المسجد. أرجو من سماحتكم توضيح كل ما ترونه صالحا في هذا(26/124)
الموضوع وذلك للإفادة؟
الجواب: أولا: لا تجوز الصلاة في كل مسجد فيه قبر لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك ولعن من اتخذ القبور مساجد.
ثانيا: لا يجوز اتخاذ المسجد الذي فيه القبر محلا للصدقات وإطعام الطعام لأن ذلك بدعة ووسيلة إلى الشرك بصاحب القبر فإن كانت الصدقة بذلك تقربا إلى صاحب القبر صار ذلك شركا أكبر.
السؤال الثاني: عندنا رجل يعالج المرضى بطريقة الطب العربي وسأروي لكم ما جرى لي معه كنت مريضا فأدخلني في غرفة مظلمة وأخذ الرجل يقرأ القرآن وعدة آيات وينادي عن أسماء بعض أولياء الله الصالحين بعد ذلك سمعت كأن طيرا كبيرا دخل الغرفة تسمع صوت جناحيه ولا ترى شيئا نطق بعدها صوتا رفيعا وسلم علي باسمي ولم أشاهد جسما وحسست بلمس في ظهري أثناء الفحص وكنت أتألم من شدة المرض فقال لي ذلك الصوت: اذكر الله وصل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبعد تمام الفحص قال لي: إن مرضك كذا وكذا وعلاجه ليس عندي. اذهب إلى طبيب الصحة العامة ويجب أن تنام في المستشفى. فذهبت ونمت بالمستشفى وشفيت بإذن الله. وهذا الرجل له خبرة في نزع السحر حيث هناك أزواج ليلة دخولهم لا يستطيعون مباشرة أزواجهم وبعد الذهاب إلي هذا الشخص يخرج لهم بعض الكتائب وبها السحر وترمي ذلك الكتاب بين يدي المسحور ويشفى من بعد استخراج هذا السحر بإذن الله.
السؤال في هذا الموضوع: هل الذهاب إلى هذا الشخص يعتبر شركا مع العلم أنه لا يطلب أجرا؟(26/125)
الجواب: هذا من العرافين والكهنة الذين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيانهم وسؤالهم وتصديقهم كما روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أتى عرافا فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوما (1) » وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أتى الكاهن فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد (2) » والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2230) ، مسند أحمد بن حنبل (5/380) .
(2) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/429) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .(26/126)
فتوى برقم 9224 وتاريخ 15 \ 12 \ 1405 هـ
السؤال: أعمل في الحرم النبوي الشريف أعمالا مؤقتة ويكون عملي أمام المواجهة لمنع الزوار من لمس الحجرة أو المواجهة والتبرك بها. وقد دأبت عندما أدخل المسجد أن أصلي تحية المسجد ثم أتوجه إلى عملي أمام المواجهة وقبل البدء في العمل أسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه رضوان الله عنهم. فما حكم ما أقوم به؟ وفقكم الله وأحسن إليكم وبارك فيكم ونفع بكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: لا يجوز اتخاذ قبر النبي صلى الله عليه وسلم مكانا يعتاد مجيئه يوميا أو أسبوعيا أو شهريا لأن ذلك من اتخاذه عيدا وقد أخرج أبو داود بإسناد حسن رواته ثقات عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلوا علي(26/126)
فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم (1) » وقد وردت أدلة تعضد ذلك. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (2042) ، مسند أحمد بن حنبل (2/367) .(26/127)
فتوى برقم 9440 وتاريخ 26 \ 3 \ 1406 هـ
السؤال الأول: ما حكم الذهاب إلى السيد في حالات المرض القصوى مع أنه لا يوجد علاج للمريض ولكن السيد عالج كثيرين من نفس المرض وشفوا بأمر الله مع اعتقادنا أن الله هو الشافي وقد اعترض البعض على ذلك ونحن نقول بأن السيد وسيلة مثله مثل الطبيب. فما رأي فضيلتكم في ذلك؟
الجواب: يباح للمريض أن يتعالج من مرضه بالأدوية المباحة وبالرقية الشرعية وبالأدعية المشروعة ويحرم الذهاب إلى الكهان والمشعوذين الذين يدعون علم المغيبات ويعملون الطلاسم والرقى الشركية ولو كان مما يسمى سيدا.
السؤال الثاني: إذا نام إنسان من بعد صلاة الفجر إلى وقت صلاة العشاء ثم أفاق من نومه عند إقامة صلاة العشاء جماعة فماذا يفعل هل يصلي مع الجماعة صلاة العشاء ثم يقضي ما فاته أو يصلي ما فاته وكيف يصليها؟(26/127)
الجواب: إذا نام المصلي عن صلاة ثم ذكرها بعد أن استيقظ فإنه يصلي ما فاته من الصلوات مرتبة فلو صلى مع الجماعة ونواها لصلاة الظهر صحت منه ثم يصلي ما بعدها من الصلوات.
السؤال الثالث: إذا أغمي على إنسان لمدة شهر ولم يصل طوال هذه الفترة وأفاق بعده فكيف يعيد الصلوات الفائتة؟
الجواب: لا يقضي ما عليه من الصلوات لأنه في حكم المجنون والحال ما ذكر والمجنون مرفوع عنه القلم. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(26/128)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
السؤال الأول: شخص يقول إذا أرق الرجل الأعزب منيه مع نفسه فهل يعتبر ذلك زنا وما حكم ذلك؟
الجواب: هذا يسمى عند بعض الناس العادة السرية ويسمى جلد عميرة ويسمى الاستمناء والذي عليه جمهور أهل العلم تحريمه وهو الصواب لأن الله عز وعلا قال لما ذكر المؤمنين وصفاتهم قال:
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (1) {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (2) {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (3) .
والعادي هو الظالم المتعدي لحدود الله فأخبر سبحانه أن من تجاوز جماع الزوجة وجماع السرية فإنه عادي. ولا شك أن الاستمناء خارج عن ذلك.
ولهذا استنبط العلماء من هذه الآية الكريمة تحريم هذه العادة السرية وهي الاستمناء باليد يعني إخراج المني بيده عند تحرك الشهوة فلا يجوز له هذا العمل وفيه مضار كثيرة قالها الأطباء، بل ألف بعض أهل العلم في ذلك مؤلفا جمع فيه المضار لهذه العادة السرية. فالواجب عليك أيها السائل أن تحذر ذلك وأن تبتعد عن هذه العادة ففيها من المضار الكثيرة
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 5
(2) سورة المؤمنون الآية 6
(3) سورة المؤمنون الآية 7(26/129)
ما لا يخفى ولأنها عادة تخالف ظاهر كتاب الله العزيز وتخالف ما أباح الله لعباده فيجب اجتنابها والحذر منها وينبغي لمن اشتدت فيه الشهوة وخاف على نفسه أن يبادر بالزواج فإن لم يتيسر ذلك فليصم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء (1) » ، ولم يقل فمن لم يستطع فليخرج منيه بيده أو فليستمن بل قال «ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء (2) » فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر أمرين:
أحدهما: المبادرة بالزواج لمن قدر.
الثاني: الاستعانة بالصوم لمن عجز عن النكاح لأن الصوم يضعف مجاري الشيطان فينبغي لك يا عبد الله أن تتأدب بالآداب الشرعية وأن تجتهد في إحصان نفسك بالزواج الشرعي حتى ولو بالاستدانة أو القرض فإن الله سبحانه يوفي عنك فإن الزواج عمل صالح وصاحبه معان كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح الذي يريد العفاف والمكاتب الذي يريد الأداء والمجاهد في سبيل الله (3) » .
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5065) ، صحيح مسلم النكاح (1400) ، سنن الترمذي النكاح (1081) ، سنن النسائي النكاح (3211) ، سنن أبو داود النكاح (2046) ، سنن ابن ماجه النكاح (1845) ، مسند أحمد بن حنبل (1/378) ، سنن الدارمي النكاح (2165) .
(2) صحيح البخاري الصوم (1905) ، صحيح مسلم النكاح (1400) ، سنن الترمذي النكاح (1081) ، سنن النسائي النكاح (3207) ، سنن أبو داود النكاح (2046) ، سنن ابن ماجه النكاح (1845) ، مسند أحمد بن حنبل (1/378) ، سنن الدارمي النكاح (2166) .
(3) سنن الترمذي فضائل الجهاد (1655) ، سنن النسائي الجهاد (3120) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2518) ، مسند أحمد بن حنبل (2/437) .(26/130)
السؤال الثاني: ما حكم الدين الإسلامي في زيارة القبور والتوسل بالأضرحة وأخذ خروف وأموال للتوسل بها كزيارة السيد البدوي والحسين والسيدة زينب. أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب: زيارة القبور نوعان:
أحدهما: مشروع ومطلوب لأجل الدعاء للأموات والترحم عليهم ولأجل تذكر الموت والإعداد للآخرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (1) » وكان يزورها صلى الله عليه وسلم وهكذا أصحابه رضي الله عنهم وهذا الفرع للرجال خاصة لا للنساء. أما النساء فلا يشرع لهن زيارة القبور بل يجب نهيهن عن ذلك لأنه قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعن
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (976) ، سنن النسائي الجنائز (2034) ، سنن أبو داود الجنائز (3234) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/441) .(26/130)
زائرات القبور من النساء (1) » ، ولأن زيارتهن للقبور قد يحصل بها فتنة لهن أو بهن مع قلة الصبر وكثرة الجزع الذي يغلب عليهن وهكذا لا يشرع لهن اتباع الجنائز إلى المقبرة لما ثبت في الصحيح عن أم عطية رضي الله عنها قال: «نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا (2) » فدل ذلك على أنهن ممنوعات من اتباع الجنائز إلى المقبرة لما يخشى في ذلك من الفتنة لهن وبهن وقلة الصبر. والأصل في النهي التحريم لقول الله سبحانه:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3) .
أما الصلاة على الميت فمشروعة للرجال والنساء كما صحت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضي الله عنهم في ذلك. أما قول أم عطية رضي الله عنها لم يعزم علينا فهذا لا يدل على جواز اتباع الجنائز للنساء لأن صدور النهي عنه صلى الله عليه وسلم كاف في المنع وأما قولها لم يعزم علينا فهو مبني على اجتهادها وظنها واجتهادها لا يعارض بها السنة.
النوع الثاني بدعي: وهو زيارة القبور لدعاء أهلها والاستغاثة بهم أو للذبح لهم أو للنذر لهم وهذا منكر وشرك أكبر نسأل الله العافية ويلتحق بذلك أن يزوروها للدعاء عندها والصلاة عندها والقراءة عندها وهذا بدعة غير مشروع ومن وسائل الشرك فصارت في الحقيقة ثلاثة أنواع:
النوع الأول: مشروع وهو أن يزوروها للدعاء لأهلها أو لتذكرة الآخرة.
الثاني: أن تزار للقراءة عندها أو للصلاة عندها أو للذبح عندها فهذه بدعة ومن وسائل الشرك.
الثالث: أن يزوروها للذبح للميت والتقرب إليه بذلك أو لدعاء الميت من دون الله أو لطلب المدد منه أو الغوث أو النصر فهذا شرك أكبر
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (320) ، سنن النسائي الجنائز (2043) ، سنن أبو داود الجنائز (3236) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1575) ، مسند أحمد بن حنبل (1/337) .
(2) صحيح البخاري الجنائز (1278) ، صحيح مسلم الجنائز (938) .
(3) سورة الحشر الآية 7(26/131)
نسأل الله العافية فيجب الحذر من هذه الزيارات المبتدعة ولا فرق بين كون المدعو نبيا أو صالحا أو غيرهما ويدخل في ذلك ما يفعله بعض الجهال عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم من دعائه والاستغاثة به أو عند قبر الحسين أو البدوي أو الشيخ عبد القادر الجيلاني أو غيرهم والله المستعان.(26/132)
السؤال الثالث: هل إراقة المني خارج فرج المرأة بالنسبة للرجل المتزوج حرام. أفيدونا أفادكم الله وخاصة في حالة الحيض أو الولادة؟
الجواب: إراقة المني خارج الفرج إذا كان للمصلحة جائز وهذا يسمى العزل فقد ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أنهم كانوا يعزلون وقد أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وذلك إذا كان للمصلحة إما لكونه لا يرغب في الحمل في ذلك الوقت أو لما ذكره السائل لكونه محرما عليه الجماع في الحيض والنفاس إذا دعت الحاجة إلى ذلك لأن المحرم هو الجماع. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حق الحائض «اصنعوا كل شيء إلا النكاح (1) » يعني الجماع فله أن يباشرها من التقبيل والضم إلى نفسه والاستمتاع بفخذها وبطنها ونحو ذلك لكن الأفضل أن يكون عليها إزار وسراويل ابتعادا عن الخطر فإن المباشرة حول الفرج قد تدعو إلى الجماع قالت عائشة رضي الله عنها «كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر إحدانا إذا أراد أن يباشرها وهي حائض أن تتزر فيباشرها من وراء ذلك (2) » هكذا صح عن عائشة رضي الله عنها والمقصود أن السنة في حق الزوج إذا كانت المرأة حائضة أو نفساء أن يباشرها من وراء إزار أو من وراء السراويل ونحو ذلك لكن لو باشرها من داخل الإزار أو السراويل فلا حرج في هذا لما تقدم من قوله عليه الصلاة والسلام «اصنعوا كل شيء إلا النكاح (3) » رواه مسلم في صحيحه. وكانت اليهود إذا حاضت المرأة منهم لم يواكلوها ولم يشاربوها ولم يساكنوها في البيت.
__________
(1) صحيح مسلم الحيض (302) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2977) ، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (369) ، سنن أبو داود النكاح (2165) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (644) ، مسند أحمد بن حنبل (3/133) ، سنن الدارمي الطهارة (1053) .
(2) صحيح البخاري الحيض (302) ، صحيح مسلم الحيض (293) ، سنن الترمذي الطهارة (132) ، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (373) ، سنن أبو داود الطهارة (268) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (635) ، مسند أحمد بن حنبل (6/134) ، سنن الدارمي الطهارة (1047) .
(3) صحيح مسلم الحيض (302) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2977) ، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (369) ، سنن أبو داود النكاح (2165) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (644) ، مسند أحمد بن حنبل (3/133) ، سنن الدارمي الطهارة (1053) .(26/132)
السؤال الرابع: ما رأيكم في رجل حلف يمين طلاق واحد بالثلاث على أخ مسلم ليعملن كذا فلم يعمل فهل اليمين تعتبر نافذة في حد ذاتها على امرأته وما حكم الإسلام إذا لم ينفذ تلك اليمين. أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب: إذا حلف الإنسان بالطلاق الثلاث على أن فلانا يفعل كذا أو لا يفعل بفعل كذا أو قال علي الطلاق بالثلاث أن أضع الوليمة لفلان أو لا أكلم فلانا ونحو ذلك فهذا فيه تفصيل فإن كان القصد التلزيم والتأكيد وليس قصده إيقاع الطلاق فهذا حكمه حكم اليمين فيه كفارة يمين وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة فإن عجز صام ثلاثة أيام.
أما إذا كان قصده إيقاع الطلاق إن لم ينفذ هذا الشيء فإنه يقع على زوجته طلقة واحدة ولو بلفظ الثلاث على الصحيح وله مراجعتها ما دامت في العدة فإن خرجت من العدة قبل المراجعة لم تحل له إلا بنكاح جديد بشروطه المعتبرة لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن التطليق بالثلاث بكلمة واحدة يعتبر طلقة واحدة. أخرجه مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنه.(26/133)
السؤال الخامس: ما حكم الإسلام في رجل حلف يمين طلاق وهو غاضب وهل يشترط سماع امرأته يمين الطلاق بأذنها أم لا؟ أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب: يختلف الوضع إذا طلق إذا كان الغضب شديدا يشبه صاحبه المجنون لكونه ما يعقل ما يقول فهذا لا يقع طلاقه عند جميع أهل العلم.
الحالة الثانية: أن يكون الغضب شديدا قد تملك عليه شعوره وملك عليه نفسه وقلبه ولا يستطيع التخلص من شدة الغضب بسبب المسابة بينه(26/133)
وبين زوجته أو بينه وبين أبيها أو المضاربة التي أوجبت شدة الغضب فالصحيح أنه لا يقع. أما إن كان الغضب عاديا فإنه يقع عند جميع أهل العلم وهذا التفصيل هو الحق في مسألة الغضب كما نبه على ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه " أعلام الموقعين عن رب العالمين ".(26/134)
السؤال السادس: جاء تحريم لبس الذهب بالنسبة للرجال على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن في هذا الوقت أصبح هناك تقليد وهو أن الرجال يلبسون حلق الذهب في الأصابع عند خطبة المرأة وحتى بعد أن يتم زواجها منه. أرجو إعطاء حكم الشرع في ذلك ولكم من الله الأجر والمثوبة؟
الجواب: لبس الرجل لخاتم الذهب لا يجوز سواء كان ذلك من أجل الزواج أو غيره لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى الرجال عن التختم بالذهب في الأحاديث الصحيحة ولما رأى في يد رجل خاتما من ذهب نزعه وطرحه وقال: «يعمد أحدكم إلى جمرة من النار فيضعها في يده (1) » . رواه مسلم في الصحيح وهذا يدل على تحريم التختم بالذهب للرجال وأنه لا يجوز مطلقا.
__________
(1) صحيح مسلم اللباس والزينة (2090) .(26/134)
السؤال السابع: سائلة تقول: أنا أقوم بالواجبات الدينية من الصلاة والصوم وقراءة القرآن بكل إخلاص ومع ذلك أستمع للأغاني العاطفية والخالية من ذكر الخمر وما شابه ذلك من المحرمات. هل يصح ذلك أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب: ننصحك بألا تسمعي الأغاني مطلقا لأنها شر ولأنها تفضي إلى فساد كير في القلوب وننصحك بسماع إذاعة القرآن فإن فيها الخير الكثير وسماع برنامج نور على الدرب وسماع الأحاديث النافعة المفيدة. أما سماع الأغاني فاتركيها واحذريها لأن شرها كبير. وقد قال(26/134)
الله سبحانه:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (1) الآية.
قال أكثر أهل العلم إن لهو الحديث هو الغناء. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل. وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه هو من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن علمائهم رضي الله عنهم أجمعين. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف (2) » فأخبر أنه يكون في آخر الزمان قوم يستحلون المعازف وهي الملاهي والأغاني فنسأل الله أن يحمينا وإياك وجميع المسلمين من شرها وأن يثبت الجميع على الهدى إنه سميع قريب.
__________
(1) سورة لقمان الآية 6
(2) سنن أبو داود اللباس (4039) .(26/135)
السؤال الثامن: ما حكم من أدرك الإمام راكعا هل أدرك الصلاة أم لا. لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتم الصلاة بدون فاتحة الكتاب (1) » . أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب: الصحيح أنه إذا أدرك الركوع يعتبر مدركا للركعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما «دخل أبو بكرة الثقفي وهو راكع ركع معه دون الصف ثم دخل معه في الصف فقال النبي صلى الله عليه وسلم زادك الله حرصا ولا تعد (2) » ولم يأمره بقضاء الركعة فدل على أنه معذور وهذا يخصص قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب (3) » . وهذا عام للإمام والمنفرد فمتى تركها الإمام أو المنفرد وجب عليه الإعادة إذا طال الفصل فإن لم يطل الفصل أتى بركعة واحدة بدلا من الركعة التي ترك قراءة الفاتحة فيها إذا كان ذلك سهوا فإن كان عمدا فإنه يعيدها بكل حال لكونها باطلة. أما المأموم لو تركها ناسيا أو جاهلا فإنه يتحملها عنه الإمام وتصح صلاته كسائر الواجبات كالتشهد الأول ونحوه.
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (756) ، صحيح مسلم الصلاة (394) ، سنن الترمذي الصلاة (247) ، سنن النسائي الافتتاح (911) ، سنن أبو داود الصلاة (823) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (837) ، سنن الدارمي الصلاة (1242) .
(2) صحيح البخاري الأذان (783) ، سنن النسائي الإمامة (871) ، سنن أبو داود الصلاة (684) ، مسند أحمد بن حنبل (5/42) .
(3) صحيح البخاري الأذان (756) ، صحيح مسلم الصلاة (394) ، سنن الترمذي الصلاة (247) ، سنن النسائي الافتتاح (911) ، سنن أبو داود الصلاة (822) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (837) ، سنن الدارمي الصلاة (1242) .(26/135)
السؤال التاسع: بعض أهل العلم يقول: إن الضم في الصلاة سنة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم والبعض الآخر يقول إنه بدعة أي الضم بعد القيام من الركوع. أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب: الضم سنة حال القيام في الصلاة قيل الركوع وبعده هذا هو الصواب. ومن قال إنه بدعة فقد غلط غلطا بينا فقد ثبت في الحديث الصحيح عن وائل بن حجر رضي الله عنه أنه قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان قائما في الصلاة يضع يده اليمنى على اليسرى والرسغ والساعد (1) » رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح. وكذلك قال قبيصة بن هلب الطائي عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يضع يمينه على شماله على صدره حال الوقوف في الصلاة (2) » رواه ابن أبي شيبة بإسناد جيد. وهكذا روى البخاري في الصحيح عن سهل بن سعد من طريق أبي حازم قال «كان الرجل يؤمر أن يضع يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة (3) » قال أبو حازم ولا أعلمه ينمي ذلك إلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا يدل على أن القائم في الصلاة يضع يمينه على شماله وهذا يعم قبل الركوع وبعده وهذا هو الصواب.
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (401) ، سنن النسائي الافتتاح (889) ، سنن أبو داود الصلاة (730) ، سنن الدارمي الصلاة (1357) .
(2) سنن الترمذي الصلاة (252) ، سنن أبو داود الصلاة (1041) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (929) .
(3) صحيح البخاري الأذان (740) ، موطأ مالك النداء للصلاة (378) .(26/136)
السؤال العاشر: إذا تقدم شاب لخطبة فتاة هل يجب أن يراها وأيضا هل يصح أن تكشف الفتاة عن رأسها لتبين جمالها أكثر لخاطبها. أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب: لا بأس ولكن لا يجب بل يستحب أن يراها وتراه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من يخطب أن ينظر إليها لأن ذلك أقرب إلى الوئام بينهما فإذا كشفت له وجهها ويديها ورأسها فلا بأس على الصحيح. وقال بعض أهل العلم: يكفي الوجه والكفان ولكن الصحيح أنه لا بأس أن يرى منها رأسها ووجهها وكفيها وقدميها للحديث المذكور ولا يجوز ذلك(26/136)
مع خلوة بها بل لا بد أن يكون معها أبوها أو أخوها أو غيرهما لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم (1) » متفق عليه. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: «لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما (2) » أخرجه الإمام مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1862) ، صحيح مسلم الحج (1341) ، سنن ابن ماجه المناسك (2900) ، مسند أحمد بن حنبل (1/222) .
(2) سنن الترمذي الفتن (2165) ، مسند أحمد بن حنبل (1/18) .(26/137)
السؤال الحادي عشر: هل يجوز الجهر في الصلاة السرية. أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب: يجوز الجهر بالقراءة في الصلاة السرية مع الكراهة والسنة أن يقرأ فيها سرا لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسر القراءة في الصلاة السرية ويجهر بها في الجهرية ويستحب أن يجهر ببعض الآيات في الصلاة السرية بعض الأحيان لأن النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك. متفق عليه من حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه.(26/137)
السؤال الثاني عشر: أثناء صيامي لشهر رمضان وضعت قطرة لعيني قبل وقت الإمساك ولم أكن أعلم أنها من المفطرات وبعد أن علمت هذا من برنامجكم في إحدى الحلقات نسيت ذلك فوضعت القطرة ونزلت إلى البلعوم شعرت بذلك عندما أحسست بشيء من المرارة في فمي. فما هو حكم الشرع في ذلك؟
الجواب: الصحيح أن القطرة والكحل لا يفطران مطلقا في أصح قولي العلماء وقال بعض أهل العلم إنهما يفطران إذا وجد الصائم طعمهما في الحلق والصواب الأول لأن العين ليست منفذا وهكذا الأذن.(26/137)
السؤال الثالث عشر: شاب مسلم يريد الزواج من فتاة لا يعلم هل هي تصلي أم لا هل يجوز ذلك الزواج وما حكم ذلك أفيدونا بارك الله فيكم؟(26/137)
الجواب: لا بد أن يتثبت في الأمر ويسأل عنها أهل الخبرة فإن الزواج من كافرة لا يجوز والله سبحانه يقول:
{لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (1) .
ومن ترك الصلاة كفر على الصحيح من أقوال العلماء ولو كان مقرا بالوجوب إذا تركها تهاونا وكسلا كفر بذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (2) » . رواه مسلم في صحيحه وقال عليه الصلاة والسلام: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (3) » خرجه الإمام أحمد وأهل السنن الأربع بإسناد صحيح فإذا كانت لا تصلي لم يحل له أن يتزوجها حتى تتوب للحديثين السابقين ويشرع للمسلم الحرص على التماس المرأة الطيبة في دينها لقول النبي صلى الله عليه وسلم «تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك (4) » متفق على صحته.
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 10
(2) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/389) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .
(3) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(4) صحيح البخاري النكاح (5090) ، صحيح مسلم الرضاع (1466) ، سنن النسائي النكاح (3230) ، سنن أبو داود النكاح (2047) ، سنن ابن ماجه النكاح (1858) ، مسند أحمد بن حنبل (2/428) ، سنن الدارمي النكاح (2170) .(26/138)
السؤال الرابع عشر: شاب مسلم يريد الزواج من فتاة مسلمة ولكن أباها دائما يتعاطى السكر وملحد هل يجوز عقد ذلك الأب لابنته؟
الجواب: إذا كانت مسلمة فلا بأس أن يتزوج بها الشاب المسلم لكن لا يكون أبوها وليا لها إذا كان كافرا ولكن يزوجها أخوها إذا كان لها أخ طيب أو عمها أو ابن عمها أو ابن أخيها إذا كان لها عصبة مسلمون فيزوجها أقربهم إليها فإن لم يوجد أحد غير الأب الكافر زوجها القاضي.(26/138)
السؤال الخامس عشر: سائلة تقول هل يجوز إسدال الشعر على الجبين في الصلاة للمرأة. أفيدونا أفادكم الله؟ الجواب: لا شيء في ذلك لكن إذا أزالته وصار السجود على الأرض فذلك أفضل وكذلك لو سجد الرجل على العمامة أو طرف ثوبه فلا(26/138)
حرج ولكن مباشرة المصلي بالوجه والكفين أفضل إلا إذا دعت الحاجة إلى السجود على الثوب أو نحوه لحرارة الأرض أو برودتها فلا شيء في ذلك بل هو أفضل إذا أعانه على الخشوع والواجب عليها ستر جميع شعرها وبدنها إلا الوجه والكفين إذا كانت قد بلغت الحلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار (1) » والمراد بالحائض هنا البالغة.
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (377) ، سنن أبو داود الصلاة (641) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (655) ، مسند أحمد بن حنبل (6/259) .(26/139)
السؤال السادس عشر: المرأة المسلمة إذا سبت زوجها أو دين زوجها هل تصبح طالقا في الشرع كما نسمع من أكثر الناس. أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب: إذا سبت زوجها لا تكون طالقا ولكن عليها التوبة من الله واستسماح زوجها فإذا سمح عنها فلا بأس وإذا سبها كما سبته قصاصا لا يزيد على ذلك فلا بأس وإن سمح عنها فهو أفضل لأن الله يقول:
{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (1) .
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا (2) » .
أما سبها لدين زوجها المسلم فهو كفر أكبر نسأل الله السلامة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 237
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2588) ، سنن الترمذي البر والصلة (2029) ، مسند أحمد بن حنبل (2/386) ، موطأ مالك الجامع (1885) ، سنن الدارمي الزكاة (1676) .(26/139)
السؤال السابع عشر: هل الديوث الذي يتكلم عما يجري بينه وبين زوجته في الخلوة. أم من هو الديوث بالشكل الصحيح في نظر الدين الحنيف. جزاكم الله خيرا؟
الجواب: الديوث هو الذي يرضى بالفاحشة في أهله وذلك بأن يقرها على فعل الزنا ولا يمنعها من ذلك ولا يغضب لله سبحانه لقلة غيرته وضعف إيمانه. أما من أنكر عليها وحال بينها وبين الفاحشة فهذا لا يسمى ديوثا.(26/139)
السؤال الثامن عشر: كيف تتحجب المرأة وممن؟ هل من جميع بدنها؟ وهل يجب أن تظهر كفيها ووجهها لجميع المحارم. نرجو توضيح ذلك أثابكم الله؟
الجواب: المرأة تتحجب من غير محارمها من جيرانها وابن عمها وأخي زوجها ونحوهم. أما محارمها فلا تتحجب عنهم ولا بأس بأن يبدو وجهها وكفاها وقدماها لمحارمها كأخيها وعمها وخالها إنما التحجب عن الأجانب كابن عمها وكزوج أختها وأخ زوجها وعم زوجها ونحوهم، هؤلاء عليها أن تتحجب عنهم وتستتر في وجهها وبدنها كله لقول الله سبحانه.
{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (1) .
وقوله سبحانه في سورة النور:
{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} (2) . إلى آخر الآية والبعولة هم: الأزواج.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 53
(2) سورة النور الآية 31(26/140)
بحث في
تحديد صيغة القبض
وهل قبض الشيكات يعتبر قبضا؟
إعداد \ عبد الله بن سليمان بن منيع (1) عضو هيئة كبار العلماء
الحمد لله وحده، وصلى الله على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه.
وبعد:
فبناء على خطاب سماحة والدنا الشيخ عبد العزيز بن باز رقم 1922 \ 2 وتاريخ 11 \ 7 \ 1407 هـ المبني على رغبة مجلس هيئة كبار العلماء بموجب المحضر السابع من محاضر الدورة التاسعة والعشرين المنعقدة في الرياض ابتداء من 9 \ 6 \ 1407هـ حيث عرض على المجلس موضوع صرف العمل بالشيكات وهل يقوم قبض الشيك مقام قبض العمل، فرأى المجلس أن الموضوع يحتاج إلى إعداد بحث في تحديد صيغة القبض وهل قبض الشيكات يعتبر قبضا ورأى تكليفي بإعداد البحث المذكور فاستعنت بالله تعالى وبحثت الموضوع وكانت نتيجة البحث ما أقدمه الآن. سائلا الله تعالى أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
عضو مجلس هيئة كبار العلماء
عبد الله بن سليمان بن منيع
__________
(1) وردت للكاتب ترجمة في العدد السابع من المجلة ص290.(26/141)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
قبل الحديث عن صرف العمل بالشيكات وهل قبض الشيك قبض لمحتواه يجدر بنا أن نرجع إلى ما ذكره علماء الاقتصاد والمال وما جاء في التنظيمات المالية عن وصف الشيك وخصائصه حتى يتم تصوره بما يمكن أن يكون سببا في القدرة على الحكم في المسألة حيث إن الحكم على الشيء فرع من تصوره.
سبق أن قامت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - وكنت أحد أعضائها - بإعداد بحث مستفيض عن المعاملات المصرفية بما في ذلك عمليات التحويلات المصرفية والبريدية وكل إلي إعداده حيث كان العمل بيننا معشر أعضاء اللجنة توزيع المواضيع المراد إعداد بحوث فيها علينا فكان من نصيبي إعداد بحث عن المعاملات المصرفية فأعددته وجرى عرضه على مجلس اللجنة فتم إقراره ثم توزيعه على أعضاء المجلس وفيما يلي ما يتعلق بالشيك ووصفه وخصائصه وأحكامه.(26/142)
الشيك:
الشيك هو أمر مكتوب وفقا لأوضاع معينة حددتها الأنظمة يطلب به شخص يسمى الساحب من شخص آخر يسمى المسحوب عليه أن يدفع بمقتضاه أو بمجرد الاطلاع عليه مبلغا معينا من النقود للساحب أو لشخص معين أو لحامله (1) .
وصورته:
يذكر في هامش الشيك رقم الحساب الجاري واسم صاحبه.
__________
(1) الموسوعة الفقهية الكويتية - الحوالة - ص236.(26/142)
تحديد صيغة قبض الشيكات،، عبد الله بن سليمان بن منيع
إمضاء الساحب (1) .
ويجب أن يشتمل الشيك على بيانات معينة حددتها كل دولة في أنظمتها وقد جاء النص عليها في نظام الأوراق التجارية السعودي بما يأتي:
المادة (91) يشتمل الشيك على البيانات التالية:
أ- كلمة شيك مكتوبة في متن الصك باللغة التي كتب بها.
ب- أمر غير معلق على شرط بوفاء مبلغ معين من النقود.
ج- اسم من يلزم الوفاء (المسحوب عليه) .
د- مكان الوفاء.
هـ- تاريخ ومكان إنشاء الشيك.
وتوقيع من أنشأ الشيك - الساحب.
وقد نصت المادة الثانية والتسعون على سلب الصفة الشيكية من الشيك إذا خلا من البيانات المذكورة في المادة السابقة إلا في حالتين هما:
أ- إذا خلا الشيك من بيان مكان وفائه اعتبر مستحق الوفاء في المكان المبين بجانب اسم المسحوب عليه فإذا تعددت الأماكن المبينة بجانب اسم المسحوب عليه اعتبر الشيك مستحق الوفاء في أول
__________
(1) الالتزام المصرفي في قوانين البلاد العربية للدكتور أمين بدر ص39.(26/143)
مكان منها. وإذا خلا الشيك من هذه البيانات أو من أي بيان آخر اعتبر مستحق الوفاء في المكان الذي يقع فيه المحل الرئيسي للمسحوب عليه.
ب- إذا خلا الشيك من بيان مكان الإنشاء اعتبر منشأ في المكان المبين بجانب اسم الساحب. اهـ.(26/144)
خصائص الشيك:
مما تقدم نستطيع استظهار الخصائص التالية للشيك:
أ- الشيك ورقة تجارية تشبه النقد من حيث صلاحه للتداول والقبول.
ب- الغالب على الشيك أن يشتمل على أطراف ثلاثة هي: الساحب والمسحوب عليه والمستفيد. ويجوز اقتصاره على طرفين هما الساحب وهو المستفيد والمسحوب عليه. وإلى هذا تشير المادة السادسة والتسعون من نظام الأوراق التجارية السعودي حيث تقول:
(يجوز سحب الشيك لأمر الساحب نفسه ويجوز سحبه لحساب شخص آخر ولا يجوز سحبه على الساحب نفسه ما لم يكن مسحوبا بين فروع بنك يسيطر عليه مركز رئيسي واحد ويشترط ألا يكون الشيك مستحق الوفاء لحامله) .
ج- يشترط لسحب الشيك أن يكون المسحوب عليه مدينا للساحب بما لا يقل عن قيمته ومع ذلك فيعتبر الشيك صحيحا ولو لم يكن المسحوب عليه مدينا للساحب إلا أنه يعتبر من ضمان الساحب نفسه فضلا عما في سحبه على غير مدين به من الإجرام الموجب للعقوبة. اهـ.
د-إذا كان المسحوب عليه غير مدين بمثل قيمته فلا يلزمه اعتماده.(26/144)
هـ-لا يعتبر الشيك مبرئا ساحبه إبراء تاما من قيمته حتى يتم سداده.
ولحامل الشيك الرجوع على الملتزمين مجتمعين أو منفردين إذا قدم في ميعاده النظامي ولم تدفع قيمته.
ز- لا يعتبر الشيك ورقة نقدية تضيع قيمتها بفقدها وإنما هو سند بدين يثبت بإحدى طرق الإثبات المعتبرة في حالة ضياعه.
ح- لا يشترط لصحة الشيك ووجوب دفعه لدى الاطلاع رضا المسحوب عليه إلا إذا كان غير مدين للساحب بمثل قيمته.
ط- لا يشترط لصحة الشيك النص على وصول قيمته للساحب كما هو الشأن في الكمبيالة.
ي- لا يعتبر لصحة الشيك انتفاء رصيده أو نقصانه لدى المسحوب عليه.(26/145)
الفرق بين الشيك والكمبيالة:
لا شك أن الشيك يشبه الكمبيالة في كثير من خصائصها كما أنه يختلف عنها في بعض خصائصه وفيما تقدم لنا يتضح أن الشيك يشبه الكمبيالة فيما يلي:
أ - افتراض وجود ثلاثة أطراف هي الساحب والمسحوب عليه والمستفيد في الغالب.
ب - وجود علاقتين حقوقيتين إحداهما بين الساحب والمسحوب عليه وهي الرصيد الدائن وهو ما يسمى بمقابل الوفاء.
الثانية بين الساحب والمستفيد وهي وصول قيمة الكمبيالة أو الشيك.
ج-قدرتهما على القيام بتسوية ما يرتبانه من علاقات قانونية بين المتعاملين بهما بعملية وفاء واحدة.(26/145)
ويختلف الشيك عن الكمبيالة فيما يلي:
أ- أن الشيك يسحب عادة على مصرف ويندر أن يسحب على فرد عادي أو مؤسسة غير مصرفية في حين أن الكمبيالة تسحب على أي جهة أو فرد أهل للالتزام بها.
ب- أن الشيك واجب الدفع دائما لدى الاطلاع عليه ولا يجوز تأجيل دفعه بينما يغلب على الكمبيالة ألا تكون مستحقة الوفاء عند الاطلاع وإنما يجب وفاؤها بعد وقت يجرى تعيينه فيها.
ج- يشترط لسحب الشيك أن يكون المسحوب عليه مدينا للساحب بما لا يقل عن قيمته فإن سحب شيك على غير مدين به اعتبر ذلك جريمة توجب العقوبة وتبقى للشيك قيمته المالية في ذمة ساحبه.
وعليه فإنه لا يجوز للمسحوب عليه أن يؤشر على الشيك بالقبول لأنه طالما كان مستكملا لشروط اعتباره وكان واجب الدفع على المسحوب عليه رضي ذلك أم سخط وإلى هذا تشير المادة (100) من نظام الأوراق التجارية السعودي حيث تقول:
لا يجوز للمسحوب عليه أن يوقع على الشيك بالقبول وكل قبول مكتوب عليه يعتبر كأن لم يكن ومع ذلك يجوز للمسحوب عليه أن يؤشر على الشيك باعتماده، وتفيد هذه العبارة وجود مقابل في تاريخ التأشير ولا يجوز للمسحوب عليه رفض اعتماد الشيك إذا كان لديه مقابل وفاء يكفي لدفع قيمته ويعتبر توقيع المسحوب عليه على صدر الشيك بمثابة اعتماد. اهـ.
على أن كثيرا من علماء الاقتصاد يرون أن التفرقة بينهما عسيرة في حال ما إذا كان ساحب الكمبيالة دائنا للمسحوب عليه بقيمتها وكان النص فيها على الدفع حال الاطلاع وفي ذلك يقول الدكتور أمين بدر بعد أن استعرض الفروق بينهما وناقشها مناقشة أذابت كثيرا منها وقربت(26/146)
بعضها لمقابله قال ما نصه: (وبالاختصار فإن التمييز بين الشيك والكمبيالة قد يغدو في بعض الصور عسيرا (1) . اهـ.
وبمزيد من التأمل يمكن القول أن الكمبيالة قد تكون على حال من الإجراء بحيث يصعب التمييز بينها وبين الشيك كأن يكون سحبها على مدين بها وأن تكون واجبة الدفع عند الاطلاع وأن يكون سحبها على مصرف وقد تختلف عن خصائص الشيك بالنسبة لنوع المسحوب عليه ووجود أجل معين لوجوب دفعها وانتفاء مديونية المسحوبة عليه بقيمتها وحينئذ يبدو الفرق بينهما واضحا جليا.
ونظرا إلى أن الشيك قد تعترضه بعض المخاطر من ضياع أو سرقة أو نحوهما فقد ابتدع النظام المصرفي ما يسمى بالشيك المسطر. وذلك بوضع خطين متوازيين على وجهه إشارة إلى تعيين أن يكون الوفاء بهذا الشيك لأحد البنوك لا لفرد أو شخص آخر فيكون على المستفيد منه أن يظهره لأحد البنوك ليتولى تحصيله لحسابه.
ويكون الشيك المسطر عاما إذا لم يرد بين الخطين إشارة أو وردت عبارة صاحب مصرف أو ما يعادلها.
ويكون خاصا إذا كتب بين الخطين اسم صاحب مصرف بالذات وفي ذلك تقول المادة (112) من نظام الأوراق التجارية السعودي ما نصه: (لا يجوز للمسحوب عليه أن يوفي شيكا مسطرا تسطيرا عاما إلا إلى أحد عملائه أو إلى بنك ولا يجوز أن يوفي شيكا مسطرا تسطيرا خاصا إلا إلى البنك المكتوب اسمه فيما بين الخطين وإلى عميل هذا البنك إذا كان هذا الأخير هو المسحوب عليه ومع ذلك يجوز للبنك المكتوب
__________
(1) الالتزام المصرفي في قوانين البلاد العربية ص42.(26/147)
اسمه بين الخطين أن يعهد إلى بنك آخر قبض قيمة الشيك) . اهـ.
وهناك وسيلة أخرى لاتقاء مخاطر ضياع الشيك أو سرقته أو تزويره وهي اشتراط قيد قيمته في الحساب الجاري بدلا من دفعها بالنقود ويفترض لهذه الطريقة وجود حساب جاري لحامل الشيك لدى المسحوب عليه.
وفي هذا تقول المادة (113) من نظام الأوراق التجارية السعودي ما نصه: (يجوز لساحب الشيك أو لحامله أن يشترط عدم وفائه نقدا بأن يضع عبارة للقيد في الحساب أو أية عبارة أخرى تفيد نفس المعنى. وفي هذه الحالة لا يكون للمسحوب عليه إلا تسوية قيمة الشيك بطريق قيود كتابية كالقيد في الحساب أو النقل المصرفي أو المقاصة وتقوم هذه القيود مقام الوفاء ولا يعتد بشطب بيان " للقيد في الحساب ") .
وهناك ما يسمى بالشيك السياحي ويذكر الأستاذ علي جمال الدين عوض أن أول نشأته كانت عام 1891 م بسبب رحلة قام بها رئيس شركة أمريكان إكسبريس للسياحة إلى أوروبا فصادفته فيها متاعب راجعة إلى كيفية حصوله على مال يقوم بشئون حياته في هذه الرحلة فابتكر نظام الشيكات السياحية حتى ذاع استعمالها فأصبحت البنوك تصدر شيكات سياحية قابلة للصرف لدى جميع البنوك الأخرى. ويذكر الأستاذ علي جمال الدين عوض أن الصورة الغالبة للشيك هو أن يصدر الشيك بفئات نقدية معينة وعلى الصك مكان يوقع فيه العميل عند استلام الشيك ومكان آخر يوقع فيه عند قبض قيمته أمام البنك الذي يدفع هذه القيمة ليتحقق من تطابق التوقيعين ومن أن الذي يستوفي القيمة هو ذات المستفيد الذي استلم الشيك ممن أصدره وبعد الوفاء بقيمة الشيك السياحي تسوى العملية بين البنوك المشتركة في إصداره وتنفيذه بطريق المقاصة. ويذكر الأستاذ علي عوض: أن كثيرا من الشراح يستبعد(26/148)
الشيك السياحي من تعريف الشيك إذا تخلف بيان من البيانات اللازمة للشيك وهو أمر غالب حيث لا يتضمن تاريخ السحب ومكان الإصدار واسم المسحوب عليه كما ينكر عليه وصف السند الإذني أو السند لحامله كما يعرفه القانون التجاري إذ هو لا يتضمن تعهد البنك بالدفع حتى ولو تضمن أمرا للمسحوب عليه. لأن تعهد الساحب ضمنا بالوفاء عند تخلف المسحوب عليه لا يكفي لاعتبار الورقة سندا تجاريا صرفيا كما أن وظيفة الشيك السياحي تختلف عن وظيفة السند الإذني أو السند للحامل لأن الشيك السياحي يستهدف مجرد نقل النقود ولا يستخدم أداة للائتمان وهي الوظيفة الأساسية للسندات التجارية ومن هذا ندرك أن الشيك السياحي ورقة ابتكرها العرف وأقر حكمها بعيدا عن الأحكام التي وضعها التشريع للأوراق التي قد تشتبه بها) (1) اهـ.
__________
(1) عمليات البنوك من الوجهة القانونية ص603 \ 604.(26/149)
الوصف الفقهي الإسلامي:
مر بنا أن من خصائص الشيك أنه ليس ورقة نقدية وإنما هو وثيقة بدين تقضي بإحالته من ذمة ساحبه إلى ذمة المسحوب عليه مع بقاء مسئولية ساحبه حتى سداده. وأنه ينبغي ألا يسحب إلا على من لديه مقابل وفائه وأنه لا يلزم لاعتباره شيكا قبول المسحوب عليه وهذه الخصائص هي خصائص الحوالة فإذا قيل بأن الشيك حوالة كان لهذا القول وجاهته ولم يرد عليه إلا مسألة ضمان الساحب قيمة الشيك حتى يتم سداده لأن الحوالة نقل الدين من ذمة إلى ذمة بمعنى براءة ذمة المحيل من الدين إذا كانت الإحالة على مليء وقد أجابت الموسوعة الفقهية الكويتية عن هذا الاعتراض بأن الساحب يعتبر محيلا بمبلغ الشيك وضامنا سداده (1) .
__________
(1) الموسوعة الفقهية الكويتية - الحوالة - ص239 \ 240.(26/149)
وقد يقال بأن الشيك يعتبر في حكم ورقة نقدية وفي ذلك تقول الموسوعة الفقهية الكويتية في معرض توجيه القول بأن تسلم الشيك من المصرف بمثابة تسليم قيمته ما نصه:
(فإذا نظرنا إلى أن الشيكات تعتبر في نظر الناس وعرفهم وثقتهم بمثابة النقود الورقية وأنه يجري تداولها بينهم كالنقود تظهيرا وتحويلا وأنها محمية في قوانين جميع الدول من حيث إن سحب الشيك على جهة ليس للساحب فيها رصيد يفي بقيمة الشيك المسحوب يعتبر جريمة شديدة تعاقب عليها قوانين العقوبات في الدول جميعا، إذا نظرنا إلى هذه الاعتبارات يمكن القول معها بأن تسليم المصرف الوسيط شيكا بقيمة ما قبض من طالب التحويل يعتبر بمثابة دفع بدل الصرف في المجلس) (1) اهـ.
بعد استعراض ما مر إيراده عن الشيك ووضعه ووصفه وخصائصه وأحكامه وما بينه وبين الكمبيالة من فروق يطيب لي إيراد ما ذكرته اللجنة الدائمة في بحثها موضوع التحويلات المصرفية والبريدية حيث إن التحويلات المصرفية تتناول تحويل النقد نفسه أو صرفه بنقد آخر ثم تحويله كما يتناول حالات ما إذا كان لطالب التحويل حساب جار في البنك يأمر بالسحب منه لعملية التحويل أم لا فقد جاء في بحث اللجنة في الموضوع نفسه ما يلي:
__________
(1) انظر ص232 من الموسوعة الفقهية الكويتية - الحوالة.(26/150)
التحويلات المصرفية والبريدية:
من المعاملات المصرفية التحويلات وتتم بأحد طريقتين:
أحدهما: أن يدفع شخص إلى مصرف ما مبلغا من المال ليحوله إلى شخص يعينه في بلد آخر فيحرر المصرف حوالة بذلك المبلغ إلى مصرف آخر أو فرع له في البلد المطلوب تحويل المبلغ إليه يأمره بدفع(26/150)
المبلغ إلى الشخص الذي عينه طالب التحويل فيتسلم دافع المبلغ سند التحويل ليقوم بتسليمه محتواه أو يرسله إلى الشخص الذي يريد تسليمه المبلغ ليقبض قيمته وهذا ما يسمى بالتحويل المصرفي.
الثاني: أن يقوم المصرف بناء على رغبة دافع المبلغ بالكتابة أو الإبراق إلى المصرف الآخر بتسليم المبلغ على الشخص المعين دون أن يتسلم العميل حوالة محررة بذلك ويسمى هذا النوع بالتحويل البريدي.
وكما يقع التحويل من بلد إلى بلد فقد يكون في البلد نفسه بين مصرف وفروعه وبين حساب شخص في مصرف آخر. والغالب أن التحويل المصرفي والبريدي لا يتم إلا بعمولة يأخذها البنك في مقابل قيامه بهذه المهمة (1) .
__________
(1) الموسوعة الفقهية الكويتية - الحوالة - ص228.(26/151)
الوصف الإسلامي للتحويلات المصرفية:
حاولت الموسوعة الفقهية الكويتية التعرف على الوصف الإسلامي للتحويلات المصرفية فكتبت في ذلك بحثا مطولا ناقشت فيه القول بتخريجها على السفتجة المعروفة لدى فقهاء الشريعة فذكرت ما بينهما من تشابه وفروق كما ناقشت القول بتخريجها على القرض أو الوكالة ثم انتهت إلى القول بأن التحويلات المصرفية عملية مركبة من معاملتين أو أكثر وهو عقد حديث بمعنى أنه لم يجر العمل به على هذا الوجه المركب في العهود السابقة ولم يدل دليل على منعه فهو صحيح جائز شرعا من حيث أصله (1) . اهـ.
ونظرا لنفاسة البحث وما فيه من مناقشة لتخريج التحويلات المصرفية على بعض العقود المشابهة لها في الفقه الإسلامي فإن اللجنة ترى إيراده تحقيقا للفائدة وفيما يلي نصه:
__________
(1) الموسوعة الفقهية ص235.(26/151)
الوصف (التكييف) الفقهي الإسلامي:
سبق أن أشرنا في بحث (السفتجة) إلى وجه الشبه إجمالا بين السفتجة القديمة والتحويلات المصرفية الحديثة. ولبيان ذلك تفصيلا ينبغي التنبيه إلى أن السفتجة القديمة قد أجازها بعض الفقهاء (على الرغم من الشرط الذي يستفيد به المقرض المان من خطر الطريق، وهو شرط التوفية في بلد آخر) فهي وسيلة أجيزت لشدة الحاجة إليها ولم يحل دون جوازها اشتراط الوفاء في بلد آخر. تلك وجوه الشبه أشرنا إليها إجمالا هناك، لكن الناظر إلى هذه التحويلات الحديثة وإلى السفتجة القديمة يرى بينهما فرقا من جهات أربع:
الجهة الأولى: أن السفتجة القديمة لا بد أن تكون بين بلدين والتحويل المصرفي تارة يكون كذلك وتارة يكون بين مصرفين في بلد واحد.
الجهة الثانية: أن السفتجة القديمة قد يكون المقترض فيها مسافرا أو عازما على السفر، فيوفي هو نفسه أو نائبه إلى المقرض أو إلى مأذونه والتحويل المصرفي ليس فيه ذلك. فالمصرف الأول وهو المقترض لا يوفي بنفسه إلا إذا كان المصرف الثاني الدافع فرعا للأول.
الجهة الثالثة: أن المفروض في السفتجة القديمة اتحاد جنس النقد المدفوع عند العقد والمؤدى عند الوفاء. فالآخذ في السفتجة إذا أخذ دنانير من نوع مخصص وفاها كذلك. وإذا أخذ دراهم من نوع مخصوص وفاها كذلك. فإنهم عرفوا السفتجة بأنها قرض (وقد تتوافر معه فيها عناصر الحوالة) فلو كانت التأدية بنوع آخر لما كانت قرضا، لأن القرض لا بد فيه من رد المثل.
والتحويل المصرفي لا يقتصر على هذه الحالة، فإن المصرف في أغلب الأحيان يأخذ نقودا من نوع ويكتب للمصرف الآخر أن يوفي من نوع(26/152)
آخر، وهذه المعاملة ليست قرضا محضا، بل تشتمل أيضا على صرف أو شبهه على ما سيأتي.
الجهة الرابعة: أن الآخذ بالسفتجة القديمة لا يتقاضى أجرا عادة اكتفاء بأنه سينتفع بالمال في سفره أو إقامته، فيربح ما يغنيه عن اشتراط أجر لعمله. أما المصرف في التحويل المصرفي فيتقاضى أجرا يسمى: (عمولة) .
وفيما يلي سنتناول بالبحث والتمحيص كل جهة من جهات الفروق الأربع هذه بين السفتجة الفقهية القديمة والتحويلات المصرفية الحديثة لنرى مقتضاها في الأحكام بالنظر الفقهي الإسلامي.
الفرق الأول: كون السفتجة لا تتم إلا بين بلدين، والتحويل قد يتم بين مصرفين في بلد واحد. هذا الفرق لا تأثير له في الحكم الشرعي بالجواز. فإن الذين أجازوا السفتجة بين بلدين يجب أن يجيزوا ما يشبهها بين مكانين في بلد واحد. بل هذه أقرب إلى الجواز، لأن اشتراط الوفاء في بلد آخر كان هو العلة التي جعلت بعض الفقهاء يكرهون السفتجة أو يحرمونها فإذا أجازها المحققون مع وجود هذه الشبهة فإجازتها مع قرب المكانين أولى لأن المقترض حينئذ لا يستفيد سقوط خطر الطريق، فلا يتوهم أنه قرض جر نفعا.
الفرق الثاني: كون السفتجة القديمة تشمل صورا مغايرة للتحويل المصرفي. هذا الفرق أيضا لا تأثير له لأن الذين أجازوا السفتجة لم يخصوا الجواز بهذه الصورة المغايرة، فيكفي أن يكون التحويل موافقا للصور الأخرى من السفتجة فالقائلون بجواز هذه الصور ينبغي أن يقولوا بجواز التحويل الموافق لها.
الفرق الثالث: كون السفتجة تجرى بنقد واحد، أما التحويل المصرفي فقد يجرى بنقد واحد وقد يكون بين جنسين من النقود. هذه(26/153)
جهة فرق جديرة بعناية الباحث، لأن لها تأثيرا، وتحتاج إلى شيء من التحليل والتفصيل:
فالتحويل بين مصرفين في بلد واحد أو دولة واحدة إنما يكون بنقد الدولة غالبا فيكون كالسفتجة القديمة بعد اعتبار أن المصرف شخصية اعتبارية فما قيل في تطبيق السفتجة على المعاملات الشرعية المعروفة يقال في تطبيق هذا النوع من التحويل فهو قرض وتوكيل. أو قرض وحوالة.
والتحويل بين مصرفين في دولتين لا يمكن أن يكون بنوع واحد من النقد غالبا، فالذي يريد تحويل دنانير عن طريق مصرف في الكويت إلى مصرف في لبنان مثلا لا بد أن يطلب التحويل إلى ليرات لبنانية بسعر الصرف وقت التحويل وهذا يستدعي ثلاث خطوات ذات أحكام وسنشرحها فيما يلي مبينين وصفها الفقهي خطوة خطوة:
أولا: أن يتقدم إنسان للمصرف ويطلب تحويل النقود إلى مصرف آخر وهذا تمهيد لعقد التحويل، ويبين فيه عادة مقدار النقود، وهل يقصد تحويلها إلى نقود من جنسها أم من غير جنسها؟ وبيان المصرف الذي يراد التحويل إليه وبيان الشخص الذي سيقبض البدل من المصرف الآخر أهو طالب التحويل أم غيره؟
ثانيا: قيام الطالب بدفع النقود إلى موظف المصرف:
وهذا بعد سبق الطلب المبين يعتبر إيجابا للتحويل الذي يعد قرضا إن كان المقصود التوفية بمثله من جنسه: فالدافع مقرض والآخذ مقترض من المصرف والدفع إيجاب والأخذ مع ما بعده قبول والمال المدفوع هو محل العقد، وكذلك المثل الذي يلتزم به المقترض معطي الصك فإنه العوض. فهذا القرض المستوفي لمقوماته عقد صحيح جائز شرعا حيث خلا من الموانع الشرعية. وما يتخيل مانعا وهو العمولة سيأتي الكلام عليه.
وأما إن كان المقصود التوفية بنقد من جنس آخر فهو صرف، ومن(26/154)
شرائط صحة الصرف التقابض ولا تقابض في هذا المصرف، فيلتحق بالربا لعدم التقابض، هذا إذا اعتبرنا الأوراق النقدية نقودا وضعية، وأما إذا اعتبرت سندات على الجهة التي أصدرتها بالقيمة المذكورة فيها من الذهب فإن معاملة التحويل المذكورة بين جنس منه وجنس آخر تعتبر بيع دين بدين دون قبض أصلا في مجلس العقد، لأن ما تم تسليمه من أحد الجانبين هو سند (صك) بمبلغه وليس نقدا، فهل من حل؟ .
فتقول جوابا عن ذلك:
1 -إننا نعتبر الأوراق النقدية المذكورة من قبيل النقود الوضعية لا من قبيل الأسناد المعترف فيها باستحقاق قيمتها على الجهة التي أصدرتها من دولة أو مصرف إصدار، وإن كانت هذه الصفة الأخيرة هي أصلها ومنطلق فكرة إحلال الأوراق النقدية المعروفة بين الناس باسم (بنكنوت) محل النقود الذهبية والفضية في التداول أخذا وعطاء ووفاء ذلك لأن الصفة السندية فيها قد تنوسيت بين الناس وفي عرفهم العام وأصبحوا لا يرون في هذه الأوراق إلا نقودا مكفولة حلت محل الذهب في التداول تماما، وانقطع نظر الناس إلى صفة السندية في أصلها انقطاعا مطلقا، تلك الصفة التي كانت في الأصل حين ابتكار هذه الأوراق لإحداث الثقة بها بين الناس لينتقلوا في التعامل عن الذهب إليها حيث يعلمون أن لها تغطية ذهبية في مركز الإصدار وأنها سند على ذلك المركز بقيمتها مستحق لحامله يستطيع قبضه ذهبا متى شاء.
هذا أصلها، أما بعد أن ألفها الناس وسالت في الأسواق تداولا ووفاء من الدولة وعليها بين الناس ولمس المتعاملون بها مزيتها في الخفة وسهولة النقل، فقد تنوسي - كما ذكرنا - فيها هذا الأصل السندي واكتسبت في نظر الجميع واعتبارهم وعرفهم صفة النقد المعدني وسيولته بلا فرق فوجب لذلك اعتبارها بمثابة الفلوس الرائجة من المعادن غير الذهب والفضة، تلك الفلوس التي اكتسبت صفة النقدية بالوضع والعرف(26/155)
والاصطلاح حتى أنها وإن لم تكن ذهبا أو فضة لتعتبر حسب القيمة التي لها بمثابة أجزاء للوحدة النقدية الذهبية التي تسمى: دينارا أو ليرة أو جنيها ذهبيا، بحسب اختلاف التسمية العرفية بين البلاد للوحدة من النقود المسكوكة الذهبية. هذه حال الفلوس الرائجة من المعادن المختلفة غير الذهب والفضة بالنظر الشرعي، وهو الصفة التي يجب إعطاؤها في نظرنا للأوراق النقدية (البنكنوت) فتبديل جنس منها كالدينار الكويتي الورقي أو الليرة السورية أو اللبانية مثلا بجنس آخر كالجنيه المصري أو الإسترليني أو الدولار الأمريكي مثلا يعتبر مصارفة كالمصارفة بين الذهب والفضة والفلوس المعدنية الرائجة على السواء.
والقاعدة الفقهية في هذه المصارفة إنه عند اختلاف الجنس يجوز التفاضل في المقدار بين العوضين ولكن يجب التقابض في المجلس من الجانبين، منعا للربا المنصوص عليه في الحديث النبوي.
وبهذا التخريج يستبعد اعتبار عملية التحويل المصرفي بين جنسين من هذه الأوراق من قبيل بيع الدين بالدين وإنما هي مبادلة بين نقود ونقود فيها تحويل وصرف في وقت واحد.
2 -بناء على ما سبق نقول: إن اعتبار الأوراق النقدية كما ذكرنا (نقودا وضعية اصطلاحية) يقتضي في التحويل من جنس إلى آخر منها أن يتم تقابض العوضين في مجلس التحويل نظرا لأن هذا التحويل بين جنسين من هذه النقود يتضمن مصارفة والصرف يشترط لصحته التقابض وهذا يقتضي أن يدفع طالب التحويل إلى المصرف الأوراق النقدية التي يحملها وأن يصرفها بالأوراق النقدية من الجنس الآخر المطلوب ويقبضها بالفعل من المصرف، ثم يسلمها قرضا ليوفيه في البلد الآخر من هذا الجنس الثاني، أي يجب حينئذ فك عملية التحويل بين جنسين مختلفين من هذه الأوراق إلى عمليتين: مصارفة أولا يقع فيها(26/156)
التقابض، وسفتجة ثانيا يدفع فيها مبلغ من جنس ويستوفى نظيره من الجنس نفسه في البلد الآخر. هذا ما يستوجبه في الأصل عنصر المصارفة في عملية التحويل المصرفي بين جنسين ولكن هذه التجزئة العملية لا تقع فعلا بين طالب التحويل والمصرف الوسيط وإنما يدفع طالب التحويل على المصرف المبلغ المطلوب تحويله من نقود البلد الذي هو فيه فيقوم المصرف بتسليمه إيصالا به مع صك (شيك) يتضمن حوالة على مصرف عميل في البلد الآخر بما يعادل هذا المبلغ من نقود البلد المطلوب التحويل إليه، فيرسل طالب التحويل هذا الشيك إلى الشخص المحول باسمه (والذي حرر الشيك لأمره) ليقبضه هناك من المصرف المحول عليه.
فإذا نظرنا إلى أن الشيكات تعتبر في نظر الناس وعرفهم وثقتهم بمثابة النقود الورقية وإنها يجري تداولها بينهم كالنقود تظهيرا وتحويلا وإنها محمية في قوانين جميع الدول، من حيث إن سحب الشيك على جهة ليس للساحب فيها رصيد يفي بقيمة الشيك المسحوب يعتبر جريمة تعاقب عليها قوانين العقوبات في الدول جميعا. وإذا نظرنا إلى هذه الاعتبارات يمكن القول معها بأن تسليم المصرف الوسيط شيكا بقيمة ما قبض من طالب التحويل يعتبر بمثابة دفع بدل الصرف في المجلس أي أن قبض ورقة الشيك كقبض مضمونه فيكون الصرف قد استوفى شريطته الشرعية في التقابض) .(26/157)
ثالثا: إعطاء المصرف لطالب التحويل صكا (شيكا) بالمبلغ المطلوب:
فهذا الإعطاء إما أن يكون مسبوقا بإعطاء النقود أو غير مسبوق كما تقدم في الخطوة الثانية وأيا كان فهو من تتمة قبول التحويل الذي هو عملية مركبة، ولكن لو لاحظنا على انفراد لكان له وصف شرعي يختلف بحسب سبقه بدفع النقود وعدم سبقه بذلك:
أ- فإن كان مسبوقا بإعطاء النقود التي اعتبرت مقترضة احتمل كونه حوالة أو وكالة: وتصوير الحوالة أن يقال: إن المصرف الذي أصبح مدينا بدين القرض قد أحال دائنه - الذي أعطى النقود وأصبح مقرضا - على المصرف الآخر ليدفع الدين الذي هو بدل القرض إلى ذلك الدائن، أو إلى الشخص الذي عينه وكتب اسمه في الصك. وتصوير الوكالة أن يقال: إن المصرف الآخذ قد وكل المصرف الثاني في دفع المبلغ المذكور في الصك إلى من ذكر اسمه فيه سواء أكان هو الطالب أم الشخص الآخر الذي عينه وهذا التوكيل مصرح في الصك بما يدل عليه، وإنما سلم هذا الصك لطالب التحويل تمكينا له من استيفاء حقه.
وإن اعتبار ذلك وكالة بهذا التصوير الثاني هو الأقرب وعليه يكون وكالة جائزة شرعا وتكون عملية التحويلة مركبة من قرض ووكالة إذا استوفى المحول بنفسه أو من قرض ووكالتين إذا كان المستوفي هو الشخص الآخر الذي عينه المحول فهو وكيله في الاستيفاء.
وإنما قلنا: إن تقدير الوكالة هنا أقرب من تقدير الحوالة لأن الحوالة الشرعية ثمرتها براءة ذمة المحيل من الدين، وليست للتحويل المصرفي هذه الثمرة لأن المصرف الآخذ يبقى مدينا بدين القرض ولا يبرأ منه إلا بتوفية المصرف الآخر. يضاف إلى ذلك أن المصرف الثاني قد يكون غير مدين للمصرف الأول فلا يصح أن يكون محالا عليه شرعا عند الجمهور (إلا(26/158)
على أساس الحوالة المطلقة عند الحنفية ومن معهم) وإن الوكالة خالية من هذين الإشكالين، فالتخريج عليها يكون أولى وأرجح غير أنه قد يقال: إن الوكالة يجوز فيها رجوع الموكل ورجوع الوكيل وهذان الأمران ليسا من صفات التحويل المصرفي.
وجوابا على هذا الإيراد نقول: إن الوكالة هنا ليست عقدا منفردا معقودا بصورة مقصودة مباشرة وإنما حللنا إليها عقد التحويل الذي هو عقد مركب من إقراض وشرط، وهذا الشرط ينحل إلى وكالة فهي وكالة مشروطة من جانب طالب التحويل، فتكون وكالة تعلق بها حق الغير فلا يجوز رجوع الموكل فيها ولا الوكيل بعد القبول. ومن جهة أخرى يلحظ أيضا أن المصرف قد استوفى عمولة على هذه العملية فهي وكالة بأجر فلا يجوز الرجوع فيها.
ب- وإن لم يكن إعطاء الصك مسبوقا بدفع المبلغ المطلوب تحويله فلذلك حالتان:
الحالة الأولى: أن يكون للطالب في المصرف حساب جار دائن:
1 - فإن كان المطلوب تحويل النقود إلى نقود من جنسها، كدنانير كويتية إلى دنانير كويتية فحينئذ يكون إعطاء الصك توكيلا من المصرف للطالب بقبض المبلغ المبين في الصك ليستوفيه من الدين الذي له على المصرف. وقد استغنى عن تقدير القرض لأن الدين السابق قام مقامه.
2 -وإن كان المطلوب التحويل إلى نقود من غير جنسها، كدنانير كويتية إلى ليرات لبنانية أو غيرها كان طلب التحويل إيجاب مصارفة بين بعض النقود التي للطالب في حسابه الدائن لدى المصرف والمبلغ المطلوب من النقود الأخرى وكان تسليم الصك (الشيك) للطالب قبولا للمصارفة وتوكيلا من المصرف بالقبض(26/159)
قام مقام التقابض الواجب شرعا في مجلس عقد الصرف لأن هذا الصك (الشيك) عرفا في حكم النقد.
الحالة الثانية: ألا يكون للطالب في المصرف حساب دائن:
فإن كان يريد تحويل النقود إلى نقود من جنسها كان الطلب التماسا للتوكيل في القرض كأنه يقول للمصرف: ألتمس منك أن توكل المصرف الثاني في دفع مبلغ كذا إلي أو إلى فلان ليحتسب لك قرضا علي. وحينئذ يكون إعطاء الصك توكيلا للمصرف الثاني أن يدفع للشخص المعين في الصك المبلغ المبين مقداره فيه. فإذا قام المصرف الثاني بالدفع إلى هذا الشخص صار هذا المصرف الثاني دائنا للمصرف الأول بالمبلغ ما لم يكن له - أي للمصرف الأول - عنده حساب دائن، ويصير المصرف الأول دائنا لطالب التحويل ما لم يكن قد قام بدفع المبلغ إليه قبل قيام المصرف الآخر بدفع ما في الصك.
وإن كان يريد تحويل النقود إلى نقود من غير جنسها - والمفروض أن طالب التحويل ليس له في المصرف حساب دائن ولم يدفع النقود في المجلس - فحينئذ يعد طلب التحويل التماسا للتوكيل بالقرض (كما سبق بيانه) أي أن يقوم المصرف الأول بتوكيل المصرف الثاني في البلد الآخر بأن يدفع إلى الطالب (أو إلى من يعينه) المبلغ المطلوب من نقود ذلك البلد الآخر ليحتسب دينا على الطالب. ويعتبر تسليم الصك إلى الطالب قبولا وتنفيذا للتوكيل بالإقراض. فيصبح طالب التحويل مدينا للمصرف الأول بمبلغ الصك من نقود ذلك البلد متى تم قبضه هناك، ثم حين يوفي للمصرف قيمته من نقود الجنس الآخر (النقود المحلية) يعتبر ذلك الوفاء مصارفة بين ما للمصرف في ذمته من النقود الأجنبية وما يوفيه الآن من النقود المحلية. ويتحقق بذلك شرط التقابض في بدلي الصرف لأن أحدهما في الذمة مقبوض والآخر يدفع الآن في مجلس(26/160)
الصرف.
الفرق الرابع والأخير: بين السفتجة القديمة والتحويل المصرفي اليوم: وهو أن المصرف يأخذ عمولة من طالب التحويل من المبلغ المطلوب تحويله ولا يوجد هذا في عملية السفتجة القديمة التي تكلم عنها الفقهاء.
فنقول في هذا الفرق: إن في هذه العمولة إشكالا بحسب الظاهر، لا سيما إذا قلنا إن العملية من قبيل القرض وقد نص بعض الفقهاء على أنه لا يجوز في القرض اشتراط يجر نفعا للمقترض كما لا يجوز اشتراط يجر نفعا للمقرض.
ولكن شرط جر النفع للمقرض يعتبر ربا وشرط جر النفع للمقترض يعتبر زيادة إرفاق من المقرض للمقترض فيكون وعدا حسنا ولا يلزمه تنفيذه اكتفاء بأصل الإرفاق. على أن بعض الحنابلة (1) أجازوا في القرض اشتراط دفع المقترض أقل مما أخذ. كما لو قال: أقرضك مائة دينار على أن تردها إلي تسعة وتسعين، فيجوز ذلك لأنه زيادة إرفاق بالمقترض، وقد التزمه المقرض فيلزمه. وليس للإرفاق حد يجب الوقوف عنده، ولا سيما أن هذا الشرط مضاد للربا ففي التزامه تأكيد التبري من الربا.
فهذا القول عند الحنابلة جيدا جدا ويسعف في تخريج العمولة عليه.
ثم إن بين المعاملات التي يقوم بها الأفراد والمعاملات التي تقوم بها المصارف فرقا شاسعا فالمقترض في السفتجة القديمة لا يقوم بعمل للمقرض ولا يحمل مئونة، لأنه إن كان مسافرا فهو مسافر لحاجة نفسه، وغالبا ما يتجر في بلده أو في البلد الذي يصل إليه وقد أصبح المال الذي اقترضه ملكا له، فأرباحه كلها تخصه، وما صنع شيئا للمقرض سوى كتابته الصك، ثم توفية الدين له أو لصديقه مثلا.
__________
(1) الإنصاف، جـ5، ص133.(26/161)
أما المصرف الذي اعتبر مقترضا في عملية التحويل فيختلف عن المقترض في السفتجة، فهو شخصية اعتبارية تجمع موظفين وعمالا يتقاضون رواتب شهرية غير مرتبطة بالعمل قلة وكثرة، ويتخذ مقرا مجهزا بأثاث وأدوات وآلات كثيرة لاستقبال العملاء وقضاء حاجاتهم، ثم إن العملية ليست كتابة ورقة فحسب وإنما هي إجراءات كثيرة ذات كلفة مالية فلو لم يأخذ عمولة لما استطاع تغطية النفقات الطائلة التي ينفقها فاشتراط العمولة محقق للعدالة ومتفق مع أصل التشريع الإسلامي، وليس هناك نص أو إجماع على منع مثل ذلك.(26/162)
النتيجة:
والنتيجة التي تستخلص من كل ما سبق من كلام عن التحويلات المصرفية اليوم هي أن التحويل المصرفي أو البريدي عملية مركبة من معاملتين أو أكثر، وهو عقد حديث بمعنى أنه لم يجر العمل به على هذا الوجه المركب في العهود السابقة، ولم يدل دليل على منعه، فهو صحيح جائز شرعا من حيث أصله بقطع النظر عما يحيط به من مواد قانونية يجب لمعرفة حكمها استقصاؤها تفصيلا ودراستها للحكم فيها (1) اهـ.
وقد بحث مسألة قبض الشيك هل هو قبض لمحتواه مجموعة من علماء الشريعة والاقتصاد منهم الدكتور علي السالوسي والدكتور سامي حمود والأستاذ سفر الجعيد وغيرهم وكلهم اتفوقا على أن قبض الشيك قبض لمحتواه وقد صدرت فتوى من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بذلك وفيما يلي ذكر أقوالهم:
فقد جاء في كتاب الدكتور علي السالوسي (استبدال النقود والعملات في معرض رده على الشيخ حسن أيوب حيث كان حسن أيوب يرى
__________
(1) الموسوعة الفقهية الكويتية - الحوالة - ص229 \ 235.(26/162)
أن الأوراق النقدية عروض تجارة فرد عليه جزاه الله خيرا وذكر في رده أن الشيك ينقل الملكية في الحال وأنه قبض لمحتواه. وذكر رأي بعض علماء الاقتصاد ومنهم الدكتور يوسف إبراهيم فقال:
الشيك والقبض:
قال الشيخ (كان الأولى أن تطلب التوبة بشجاعة من نفسك ومن القائلين بأن الشيك يكفي عن قبض الأوراق المالية. إلخ) .
وأقول:
* عاد الشيخ للحديث عن الشيك والقبض وأحب أن أسأله: لو أن الشيك لا يكفي عن القبض فما النتيجة؟ أنبحث عن حل آخر أم نقول: إن هذه النقود ليست من الأموال الربوية؟
* عندما كان يذهب المسلم إلى عبد الله بن الزبير في مكة، ويعطيه نقودا، ويأخذ سفتجة يتسلم بها ما يقابل هذه النقود من أخيه مصعب في العراق، فأين القبض هنا؟ أليست السفتجة قد قامت مقام القبض؟
ألا يقوم الشيك بما قامت به السفتجة؟
ألا يعني الشيك نقل الملكية في الحال؟ فالشيك إذن قام بدور السفتجة أو أكثر ولا يمكن أن يكون أقل منها في أداء وظيفة القبض.
* قال صاحب المغني (الحوالة بمنزلة القبض) 5 \ 56.
وقال أيضا: (الحوالة كالتسليم) (67) .
ونص على هذا أيضا صاحب الشرح الكبير (انظر 5 \ 58 \ 69) .
فما رأيك في هذا؟ هل نطلب منهما التوبة؟
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
(الأسماء تعرف حدودها تارة بالشرع كالصلاة، والزكاة والصيام والحج، وتارة باللغة كالشمس والقمر والبر والبحر، وتارة بالعرف كالقبض والتفريق) .(26/163)
(مجموع الفتاوى 29 \ 448) .
فإذا كان القبض مرده إلى العرف فإن الشيك هو الأداة الرئيسية التي تنتقل بها ملكية النقود المودعة في الحسابات الجارية بالمصارف، وإذا تعارف الناس على نقل هذه الملكية بالتلكس مثلا ألا يكون هذا قبضا في عرفهم؟ ويمكن أن يتوصل الناس إلى وسائل أخرى تنتقل بها مليكة النقود فتقوم هذه الوسائل مقام قبض النقود ذاتها.
* الشيك يقوم مقام قبض النقود ولكن لو سلمنا جدلا بأنه لا يقوم بهذا فهنا تأتي الضرورة التي تبيح المحظورة، إلى أن نجد حلا آخر.
* يسأل الشيخ: هل قيل لك إنه لا حل عند الاقتصاديين إلا هذا؟ والجواب: لقد عرضت هذا الأمر على عدد من الاقتصاديين، ورجعت إلى كتب آخرين، فما وجدت ما يمنع جعل الشيك يقوم مقام القبض، بل وجدت من يعتبر الشيك نقودا بالفعل ووجدت بعد هذا من يقول للشيخ حسن بأن اعتبار الشيك ليس قبضا عاجلا قول يرد عليه الاقتصاديون.
وممن طلبت رأيهم في هذا الموضوع بعض الأساتذة من كلية التجارة بجامعة الكويت وأذكر أنهم قالوا بأن بعض البنوك الأجنبية تقوم بصرف قيمة الشيك قبل تحصيله مما يدل على أن الشيك أصبح له قوة مشابهة لقوة النقود. وقالوا كذلك أنه في بعض البلاد - كإنجلترا مثلا - هناك من يتعامل في المعاملات اليومية السائدة بالشيكات بدل النقود.
وما أذكره أيضا أني عرضت هذا الأمر قبل نشر البحث الثاني على أحد هؤلاء الإخوة وهو الأستاذ الدكتور عبد العزيز رجب فأيد ما قلته ولم يعارضه بل عارض كلام الشيخ.
وفي الفصل الدراسي الأول من العام (1402 - 1403) جاءنا من(26/164)
تجارة الأزهر أستاذ زائر لتدريس الاقتصاد الإسلامي بجامعة قطر وهو الدكتور يوسف إبراهيم فطلبت رأيه في هذا الموضوع فكتب يقول:
بسم الله الرحمن الرحيم
إن النقود في اصطلاح الاقتصاديين هي كل ما يستخدم وسيطا في تبادل السلع والخدمات ويلقى القبول العام من الناس، دون نظر إلى الشكل الذي تكون عليه فقد تتخذ النقود الشكل المعدني مثل النقود الذهبية والنقود الفضية التي عرفتها البشرية منذ فترة ليست بالقصيرة ولا زالت تعرف بعضها حتى اليوم في صورة ضيقة، وقد تتخذ النقود الشكل الورقي، مثل النقود الورقية الإلزامية التي تصدرها البنوك المركزية وقد تتخذ شكل النقود الائتمانية (المصرفية) التي تقدمها البنوك التجارية وبالشكل الأخير من أشكال النقود (النقود الائتمانية) تجرى معظم المعاملات في الاقتصاديات الحديثة والتي يقتصر دور النقود المعدنية فيها على استخدامها نقودا مساعدة فقط، بينما تستخدم النقود الورقية في الصفقات ذات القيم الصغيرة أما الصفقات والمعاملات الأساسية في هذه الاقتصاديات فإنها تتم بواسطة النقود الائتمانية أو المصرفية والتي ليس لها أداة غير الشيك.
وتتمتع الأنواع الثلاثة بالخاصيتين الجوهريتين للنقود وهما كونهما وسيطي التبادل وكونها تلقى القبول العام، فلا فرق في ذلك بين النقود المعدنية والنقود الورقية والنقود المصرفية والذي يأخذ (الشيك) في معاملة من المعاملات فإنه يأخذ نوعا من النقود ما في ذلك شك. وإذا كان بعض الناس في بعض المجتمعات لا يثقون في النقود الائتمانية ثقتهم في النقود الورقية فإن ذلك راجع إلى إلفهم التعامل بهذه النقود وعدم إلفهم التعامل بالنقود الائتمانية، ذلك أن النقود الورقية تحمل من المخاطر أكثر مما تحمله النقود الائتمانية بل والنقود المعدنية التي ربما تكون زيوفا فليس هناك نوع(26/165)
من النقود يخلو من المخاطر، بل ربما تكون النقود الائتمانية من أقلها مخاطر، الأمر الذي جعلها تغطي الجزء الأكبر من المعاملات في المجتمعات المتقدمة اقتصاديا وستحتل نفس المكانة في بقية المجتمعات في المستقبل، بل لعل القبول بها لقي استجابة أكثر من الاستجابة التي قوبلت بها النقود الورقية عند نشأتها. فالنقود الائتمانية والشيك أداتها هي أهم أنواع النقود في العصر الحديث ما في ذلك شك.
يوسف إبراهيم
هذا ما كتبه الدكتور يوسف إبراهيم. ومن قبله كثيرون كتبوا عن الشيك، ونقله للملكية، وبينوا أن معظم المدفوعات النقدية تسوى بواسطة الشيكات التي أصبحت أهم أدوات الائتمان في العصر الحديث وما ذكروا لنا حلولا أخرى أو التفكير في حلول أخرى، بل تحدثوا عن ميزات التعامل بالشيكات من حيث الملاءمة واليسر والأمان وحماية القانون.
حتى لا نطيل هنا انظر على سبيل المثال:
مقدمة في النقود والبنوك للدكتور شافعي، ص51: 55، والمبسوط في الأوراق التجارية للدكتور صلاح الدين الناهي ص560 - 573.
ومن الاعتراضات التي تذكر هنا:
- أن الشيك قد يكون بدون رصيد، فلا يتم قبض.
- وقد يتعلق صرف الشيك على شرط وصول إخطار للبنك من صاحب الرصيد، وبهذا يتأخر القبض.
- وقد يعارض صاحب الرصيد في صرف الشيك، فلا يتم القبض أو يتأخر.
وهذه الاعتراضات لا تمنع ما انتهينا إليه. فمخاطر الشيك بدون رصيد قد لا تقل عن مخاطر الأوراق النقدية المزيفة وغالبا لا يعرف من قام بالتزييف.(26/166)
ومما يذكر في هذا المجال أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عندما فكر في جعل الدراهم من الجلود كان مرد هذا إلى التزييف الذي لحق بالدراهم آنذاك.
وإن كان حامل النقود المزيفة لا يحميه القانون ما دام المزيف غير معروف فإن حامل الشيك يحميه القانون حيث ينص قانون العقوبات على توقيع عقوبة النصب على كل من أعطى بسوء نية شيكا لا يقابله رصيد قائم أو قابل للسحب أو كان أقل من قيمة الشيك أو سحب بعد إعطاء الشيك كل الرصيد أو بعضه بحيث لا يفي الباقي بقيمة الشيك أو أمر المسحوب عليه بعدم الدفع. وهذه الحماية القانونية كان لها أثرها في تعامل الناس بالشيكات في العصر الحديث. اهـ.
كما بحث المسألة الدكتور سامي حمود في كتابه الذي نال به الدكتوراة وأسماه " تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية " حيث عقد فصلا تحت عنوان (القبض في مصارفة البنك) قال فيه ما نصه:
" تتفق الآراء الفقهية على فساد الصرف إذا لم يكن فيه قبض فقد نقل السبكي في المجموع عن ابن المنذر أنه قال (أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد) (1) .
ولكن الآراء الفقهية تختلف في المراد بالقبض فالقبض على ما يرى الحنفية مراد به التعيين باعتبار أن اليد في قوله (صلى الله عليه وسلم) «يدا بيد (2) » ليس مرادا بها اليد الجارحة - كما يقول الكاساني في معرض رده على أخذ الشافعي بظاهر اللفظ في هذا الحديث - بل يمكن حمل اليد على التعيين لأنها آلته ولأن الإشارة باليد سبب التعيين (3) ، ولذلك فإنه إذا وقع البيع
__________
(1) السبكي، مرجع سابق، الجزء العاشر، ص65.
(2) صحيح البخاري البيوع (2061) ، صحيح مسلم كتاب المساقاة (1589) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4575) ، مسند أحمد بن حنبل (4/372) .
(3) السبكي، مرجع سابق، الجزء العاشر، ص65.(26/167)
على مال ربوي بمال ربوي آخر (قمح بشعير مثلا) فإن تعيينهما يقوم - عند الحنفية - مقام القبض ولكن الأمر يختلف عندهم بالنسبة للنقود، وذلك لأن الدراهم والدنانير لا تتعين عند الحنفية بالتعيين ولذلك كان لا بد من التقابض (1) .
فإذا انتقلنا من حالة الكلام في البيع الذي يجري فيه الصرف بالمناولة (خذ وهات) إلى حالة وقوع الصرف في الذمة فإن الصورة تتضح بأن المراد من القبض هو التعيين الذي تثبت به الحقوق وليس المراد شكله بالأخذ والإعطاء فلنستمع إلى ما يرويه ابن عمر - رضي الله عنهما - بقوله: «كنت أبيع الإبل في البقيع (أبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فوقع في نفسي من ذلك، فأتيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو في بيت حفصة - أو قال حين خرج من بيت حفصة - فقلت: يا رسول الله رويدك أسألك: إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها، ما لم تفرقا وبينكما شيء (2) » .
ومن الواضح أن هذا التصارف الجاري على ما في الذمة ليس فيه تقابض بمظهره الشكلي بأن يبرز كل طرف ما يريد مصارفته بل كان يتم على أساس أن الحق القائم بهيئة دنانير في الذمة يسدد بما يؤدى في مقابلها من دراهم بسعر اليوم.
وقد أشكلت هذه النقطة على بعض من نظر إلى أن هذا الحديث المروي عن ابن عمر معارض بحديث أبي سعيد بالنسبة لما جاء فيه «ولا تبيعوا منها غائبا بناجز (3) » فقال ابن عبد البر موضحا ذلك الإشكال على ما جاء في تكملة المجموع. (وليس الحديثان بمتعارضين عند أكثر
__________
(1) الكسائي مرجع سابق ج7، ص3190.
(2) البيهقي، مرجع سابق، الجزء الخامس، ص284.
(3) صحيح البخاري البيوع (2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4570) ، موطأ مالك البيوع (1324) .(26/168)
الفقهاء، لأنه يمكن استعمال كل واحد منهما، فحديث ابن عمر مفسر، وحديث أبي سعيد الخدري مجمل فصار معناه لا تبيعوا غائبا - ليس في ذمة - بناجز. وإذا حملا على هذا لم يتعارضا (1) . اهـ.
ومن ذلك يؤخذ أن غاية القبض هي إثبات اليد، فإذا كان ذلك حاصلا فلا ينظر للشكل في المبادلة، ولذا كان الصرف في الذمة جائزا، سواء كان أحدهما دينا والآخر نقدا أو كان المبلغان عبارة عن دينين في ذمة كل من من المتصارفين.
فقد جاء في المدونة ما يلي:
قلت: أرأيت لو أن لرجل علي مائة دينار، فقلت: بعني المائة دينار التي لك علي بألف درهم أدفعها إليك ففعل، فدفعت إليه تسعمائة، ثم فارقته قبل أن دفع إليه المائة الباقية.
قال: قال مالك: لا يصلح ذلك ويرد الدراهم، وتكون الدنانير التي عليه على حالها. قال مالك - ولو قبضها كلها كان ذلك جائزا (2) .
وأورد ابن رشد الخلاف في مسألة الصرف بين دينين في ذمة المتصارفين فقال:.
المسألة السادسة: واختلفوا في الرجلين يكون لأحدهما على صاحبه دنانير وللآخر عليه دراهم هل يجوز أن يتصارفاها وهي في الذمة؟ .
فقال مالك: ذلك جائز - إذا كانا قد حلا معا.
وقال أبو حنيفة - يجوز في الحال وفي غير الحال.
وقال الشافعي والليث - لا يجوز ذلك حلا أو لم يحلا (3) .
وحجة من لم يجز العملية (الشافعي والليث) أنه غائب بغائب وقد
__________
(1) السبكي، المرجع السابق، الجزء العاشر، ص105.
(2) مالك بن أنس، المدونة الكبرى، مرجع سابق، الجزء الثامن، ص393.
(3) ابن رشد الحفيد، مرجع سابق، الجزء الثاني، ص200.(26/169)
بينا أن قابلية الدين حال المطالبة لا تبقي في المسألة إلا الشكل الذي يجري فيه إبراز كل طرف ما عليه من دين للآخر، وهذا الإبراز وسيلة إبراء لا أكثر فإذا توصلنا إليه بالمصارفة فما المانع؟
ومع ذلك فإن المراد هو بيان مدى الرحمة في اختلاف الأئمة - أثابهم الله جميعا بما قدموا وما خدموا هذا الفقه العظيم.
فإذا انتقلنا لتطبيق المسألة على واقع العمل المصرفي فإننا نجد أن الصرف إما أن يكون على الصندوق أو بالحساب.
فإذا كان الصرف نقدا على الصندوق فلا إشكال في المسألة حيث يسلم المتصارف نقوده (من الجنيهات الإسترلينية - مثلا) ليستلم من صندوق المصرف العملة المطلوبة من الجنس الآخر. فهنا تقابض حال منجز.
أما إذا كان الصرف بالحساب فإن المودع يتسلم إيصال الإيداع الذي يحمل تاريخ اليوم الذي فيه الإيداع، ويقوم المصرف بقيد القيمة المعادلة للعملة الوطنية. وهذا قبض، لأن فيه تعيينا لحق العميل تجاه المصرف.
ولو كان للعميل حسابان أحدهما بالجنيه الإسترليني مثلا - والآخر بالدولار، وأراد أن يصارف من أحدهما ليضيفه للآخر فإنه يأمر المصرف بإجراء القيود بالمصارفة بسعر يوم التنفيذ فتكون العملية تبديل دين بدين بما يشبه مصارفة الدين بالدين، وهي العملية الجائزة عند مالك (إذا كان الدينان حالين) والجائزة أيضا عند أبي حنيفة (حل الدينان أم لم يحلا) .
هذا ومن الجدير بالإشارة إلى أن سير المصارف على نظام القيد المزدوج في إجراء القيود لا يسمح للمصرف إلا أن يجري العملية بشقها في كل حال لأن كل قيد دائن لا بد أن يقابله قيد مدين وهذا أمر معروف ومتفق عليه في علم المحاسبة.(26/170)
وتقوم المصارف العالمية بالإضافة إلى أعمال الصرف العادي مع العملاء بيعا وشراء بإجراء عمليات يطلق عليها اصطلاح الترجيح وهي - في نطاق الصرف - تنطوي على شراء عملات أجنبية من سوق (لندن مثلا) لبيعها في سوق آخر (نيويورك) بهدف ربح فرق السعر بين المركزين - إذا وجد ذلك الفرق.
وتتم العملية على أساس السعر الحاضر وتقيد الحقوق في دفتر كما لو كانت عملية صرف لعميل له لدى المصرف حسابان أو أكثر بأنواع مختلفة من العملات وفي ضوء ذلك فإن أعمال الترجيح للاستفادة من فروق الأسعار بين مراكز العملات الأجنبية في الأسواق العالمية مقبولة في موازين النظر الفقهي الإسلامي باعتبار أنها أعمال صرف حاضر مع التقابض الحسابي المتبادل.
وهكذا يتبين أن القبض في بيوع الصرف - على أساس السعر الحاضر - لا يمثل مشكلة بالنسبة للعمل المصرفي المراعى فيه الخضوع لضوابط الشريعة الغراء وذلك لأن التقابض سواء كان يدويا (بالمناولة) أو حسابيا (بالقيود الدفترية) مبني على إثبات الحق المنجز بالنسبة للطرفين المتبايعين. اهـ.
وتحدث الأستاذ بجامعة أم القرى ستر بن ثواب الجعيد في رسالة تقدم بها لنيل الماجستير بعنوان " أحكام الأوراق النقدية والتجارية في الفقه الإسلامي " وقد اشتركت في نقاش هذه الرسالة في جامعة أم القرى فقال:
الفرع السادس حكم اقتران الصرف بالإجارة في التحويل بالشيكات:
ذكرنا فيما سبق حكم الشيك في التحويل إذا كان النقد من جنس(26/171)
واحد والآن نبين ما لو أراد المستأجر - طالب التحويل - أن يستلم المبلغ في البلد الآخر بنقد يخالف النقد الذي تقدم به إلى المصرف أو هو موجود في حسابه مع الصرف.
وإذا فرضنا أن زيدا من الناس تقدم إلى المصرف بمبلغ عشرة آلاف ريال سعودي مثلا ويريد أن يحرر له المصرف شيكا بهذا المبلغ على أن يتسلمه في مصر مثلا بالجنيهات المصرية أو الدولار الأمريكي أو أي عملة أخرى مخالفة للعملة التي جاء بها.
والمسألة ذات جوانب:
الأول: إذا كان طالب الشيك جاء بنقده معه ثم سلمه إلى المصرف وطلب منه أن يحرر له شيكا إلى مصر يتسلمه بالجنيهات. فهنا المسألة صرف يتلوه إجارة ووكالة.
أما الصرف فبين الريالات السعودية المفروضة في المثال وبين الجنيهات المصرية تم بسعر اليوم الذي يتقدم فيه الطالب.
والإجارة فهي تمكين المستأجر (الطالب للتحويل) من أخذ المقدار المساوي لنقده في المكان الذي يرغبه في مصر في مثالنا.
والوكالة فإنها ذات جانبين وكالة من المصرف للطالب ووكالة من المصرف القابض إلى المصرف الدافع والإشكال الوارد على العملية هو التقابض هل يتم باستلام الشيك أم لا؟
لقد ذهب كثير من الباحثين المعاصرين إلى أن استلام الشيك قبض لمحتواه وبالتالي يعتبر الصرف صحيحا لتوفر شرطه.
وإنما يعتبر قبض الشيك قبضا لمحتواه لأنه يحاط بضمانات وضوابط تجعل القابض له مالكا لمحتواه ويستطيع أن يتصرف فيه فيبيع به ويشتري(26/172)
ويهب ويستطيع أن يظهر الشيك إلى آخر إذا مارس أي عملية من بيع أو شراء ونحوها.
كما أن من الضوابط التي تدعم الثقة بالشيك ما يلي:
أ-اعتبار إصداره من غير رصيد جريمة يعاقب عليها.
ب-كون الشيك غير مؤجل بل يتم صرفه بمجرد تقديمه بخلاف الأوراق التجارية الأخرى فإن الأجل لازم لها ومن طبيعتها غالبا.
وذلك لا يمنع من دخول الأجل في الشيك أو انتقائه في الأوراق التجارية الأخرى ولكن يجب أن لا يدخل الأجل في الشيك - إلا الأجل الذي لا بد منه لانتقال المستفيد إلى البلد الذي يرغب تحويل النقد إليه - إذا ترجح هذا الحكم لأن الأجل يدخل العملية في ربا النسيئة.
ويدعي ما ذهب إليه هؤلاء الباحثون أن الأوراق النقدية كانت في بداية نشأتها سندات لحاملها حتى شاعت بين الناس وكان يدفع للراغب في استبدالها ذهبا أو فضة حسب الغطاء ولكن ذلك تلاشى شيئا فشيئا مع انتشارها ورواجها وثقة الناس بها.
وبذلك تقترب الأوراق التجارية من الأوراق النقدية خاصة الشيكات - والسياحية منها خاصة - إذ هي تحرر على شكل فئات معينة ومتساوية أما بقية الأوراق التجارية فتحرر على أرقام متفاوتة حسب ما تقتضيه المعاملة التي استدعت تحريرها.
وقد اشترط بعض العلماء في اقتران الصرف بالحوالة ثبوت الدين قبل الحوالة واعتبروه شرط صحة لها قال بعض الفقهاء في تبريره: (احترز به بثبوت دين لازم - في صرف دينار بدراهم وأحال غريمه عليها فلا تصح لعدم المناجزة في الصرف وهو يوجب فسخه فالدراهم لم تلزم المحال عليه وهذه تشبه الصورة الجارية في البنوك ولكن هذا الفريق من(26/173)
العلماء فسروا ثبوت الدين بما يستفاد منه أن المصرف المستقبل للشيك لا يضره عدم مديونيته المباشرة عن طريق وجود حساب للمصرف المرسل بالشيك بل يكفي في ذلك ثبوت الدين ببينة أو إقرار.
ما يرد على هذا التخريج ومناقشته:
وما سبق من القول بأن الشيك يكفي قبضه عن قبض محتواه لصحة عقد الصرف يرد عليه بعض الإيرادات أهمها:
1 -أن قبض الشيك في قوة قبض محتواه وذلك لأن المتصرف الذي يملكه من قبض محتوى الشيك هو نهائي بينما يمارس من قبض الشيك بعض التصرفات وهي موقوفة على الوفاء الفعلي إذ قد يكون الشيك لا رصيد له وبذلك صار هذا وجه فرق بين المسألتين ولكن يمكن الرد عليه بأن هذا الفرق لا يؤثر في الإلحاق لأن قبض المحتوى هو الآخر ليس نهائيا إذا نظرنا إليه من جهة أخرى وهو كون النقد مزورا أو معيبا ونحو ذلك من العيوب لكن النقد المزور لا يمكن معرفة أول من زوره لأنه يتداول بالمناولة بينما الشيكات تتداول بطريق يمكن معرفة من انتقلت إليه وبالتالي يسهل ضبط العيب إذا ظهر قريبا، هو من هذه الناحية أسهل ولكن يعوض هذا في الأوراق النقدية مراقبة ولي الأمر ومعاقبته لمن زور النقد فهذا يحد من التزوير في النقود كما يحد من التزوير في الشيكات الضوابط الكثيرة - كالرصيد ومعاقبته من يصدر الشيك بدون رصيد - والتضامن ونحوها ويمكن القول بأن مسئولية مصدر الشيك عن صدق محتواه مع ما يحتف به من ضوابط أخرى تعزز الثقة في الشيك فتشبه ضمان الدولة عن الأوراق النقدية التي تصدرها غاية ما هناك أن الأوراق النقدية شيكات لحاملها والأوراق التجارية - الشيك - اسمية وما بينهما من(26/174)
فروق لا تؤثر في عدم الإلحاق إذ لا بد أن يكون الفرق مقصودا.
2 -إن قابض الشيك قد يتأخر عن تقديمه إلى المصرف الوكيل وقد يزيد السعر أو ينقص في هذه الفترة فيتضرر أحدهما فلا يتحقق الوصف الذي بينه الرسول (صلى الله عليه وسلم) في حديث ابن عمر «أن لا تفترقا وبينكما بأس أو شيء (1) » .
ويجاب عن ذلك بأن الأجير وموكله أو فرعه مستعدان للوفاء الفعلي للشيك في أي وقت يتقدم به حامله فإذا تأخر فهو خطؤه ويتحمل نتيجته لو نقص السعر فضلا عن أن هذا المتأخر لا يتأخر إلا لمصلحة أو عذر وهو ممكن من نقل هذا الشيك والتصرف به في أنواع التصرفات. وهذا يجعل من النادر أن يتأخر أحد بشيكه يترصد زيادة السعر أو نقصه) . اهـ.
لكن الممنوع حقا أن يوضع للشيك تاريخ متأخر لا يتم صرفه إلا بعده كما هو الحال في الأوراق التجارية الأخرى - ومن هنا كان لا وجه لترجيح أن قبضها قبض لمحتواها إذ الأجل لازم لها.
__________
(1) سنن النسائي البيوع (4589) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، مسند أحمد بن حنبل (2/139) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .(26/175)
رأي الباحث:
ويمكن القول في ضوء ما تقدم أن قبض الشيك قبض لمحتواه إذا لم يدون فيه تاريخ وأجل فيه الاستلام والأحوط أن يكون في المصرف الإسلامي مكتبان أحدهما يتلقى النقود ثم يعرف سعر الصرف ويتم تحديد النقد بعد ذلك تتم الإجارة على نقل النقد إلى البلد المقصود، أو تؤخر عملية الصرف إلى الفرع أو الوكيل ويتم النقل بالنقد الذي جاء به الطالب بذلك نخرج من المحظور الشرعي فمن تقدم بالنقد أو اقتطع من حسابه بالمصرف يحرر له شيك إلى المصرف الفرع أو الوكيل بنقده الذي جاء به وبعد ذلك حينما يصل(26/175)
إلى الفرع أو الوكيل تتم عملية الصرف وليس في ذلك تحيل وإنما الهدف القضاء على احتمال زيادة السعر بين موعد تحرير الشيك والاستلام الفعلي لا سيما إذا لاحظنا أن البعض أيضا يفضل أن يجري الصرف في البلد الذي يتم فيه الوفاء لكون سعر الصرف أقل أو قد يتذبذب وهذا ما يقوي علاقة الربا بالمسألة.
كما أن الأنظمة التجارية تجعل الزمن الذي يسمح بتقديم الشيك زمنا طويلا مما ساعد على الترصد لزيادة السعر أو نقصه.
فالنظام التجاري السعودي يجعل للشيكات المسحوبة خارج المملكة ثلاثة أشهر وبشيكات الداخلية شهر وهذه الفترة كافية لزيادة سعر الصرف أو نقصه وهو أمر يوصل إلى الربا.
ويتعضد قول من قال بأن قبض الشيك قبض لمحتواه - وهو الرأي الأرجح في نظري - بما اعتبره العلماء في باب الزكاة من أن الدين المرجوء الذي على مليء في حكم المقبوض ولذلك أوجبوا الزكاة فيه.
قال في الإنصاف بصدد الكلام عن زكاة الدين الذي على مليء (الحوالة به والإبراء منه كالقبض على الصحيح من المذهب وقيل إن جعل وفاء كالقبض وإلا فلا) (1) .
وعن عثمان رضي الله عنه أنه كان يقول (إن الصدقة تجب في الدين الذي لو شئت تقاضيته من صاحبه والذي على مليء تدعه حياء أو مصانعة ففيه صدقة) (2) .
وكذلك ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما. (وما كان من دين ثقة فزكه) (3) .
__________
(1) المرداوي 3 \ 18.
(2) الأموال لأبي عبيد: 388 وقد أورد جملة أخرى من الآثار تدل على أن الدين المرجوء يزكى.
(3) الأموال لأبي عبيد: 388 وقد أورد جملة أخرى من الآثار تدل على أن الدين المرجوء يزكى.(26/176)
قال الزيلعي (ولو كان الدين على مقر تجب - أي الزكاة - لأنه يمكنه الوصول إليه ابتداء أو بواسطة التحصيل (1) .
ويعضد ما ذكرنا من الترجيح ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية أن بعض الأمور لم يرد شيء بتحديدها فيرجع في تحديدها إلى العرف وذكر منها القبض لكن الظاهر أن القبض في الصرف غير داخل إلا إذا توافرت هذه الضوابط التي في الشيك فإن القابض للشيك كالقابض لمحتواه.
وقد ورد عن الإمام مالك بصدد هبة الدين لغير من هو عليه (قلت - سحنون - فإن وهبت لرجل دينا لي على رجل آخر قال: قال مالك: إذا شهد له وجمع بينه وبين غريمه ودفع إليه ذكر الحق فهو قد قبض (2) .
وإنما اشترط مالك الجمع بينه وبين الغريم لأن الموهوب له قد لا يعرف الغريم وقد لا يهتدي إليه أما قبض الشيك فإنه يستطيع بواسطته أن يتعرف على الغريم فإن المصارف مشتهرة ومعروفة وهو بمثابة الجمع بين الغريم وبين من وهب له الدين.
وهذا النقل من الإمام مالك بصدد الهبة وهي غير الصرف لكن يستأنس به على أن قبض الوثيقة قبض لمحتواها لا سيما والشيك فيه ضوابط تعضد هذا المقصد.
قال أبو عبيد بعد أن عرض أقوال العلماء في زكاة الدين: أما الذي أختاره من هذا فالأخير بالأحاديث العالية التي ذكرناها عن عمر وعثمان وجابر وابن عمر ثم قول التابعين بعد ذلك الحسن وإبراهيم وجابر بن زيد ومجاهد وميمون بن مهران أن يزكيه في كل عام مع ماله الحاضر إذا كان الدين على الأملياء المأمونين لأن هذا حينئذ بمنزلة ما بيده وفي بيته (3) .
__________
(1) تبين الحقائق: 1 \ 256.
(2) المدونة 14 \ 46.
(3) الأموال: 392.(26/177)
وبعد فلو ذهبنا نستعرض كل ما قاله علماء الشريعة الإسلامية والاقتصاد الإسلامي لخرجنا من محيط الإفادة والتصور إلى محيط التكرار الممل. وبناء على ذلك فأكتفي بما أوردته من نقول عن أهل العلم في الموضوع نفسه وألخص ذلك فيما يلي:
أولا: يكاد الإجماع ينعقد بين جميع من تحدث عن الشيك وخصائصه وأحكامه على أن قبضه قبض لمحتواه إذا كان محتواه في ذمة المسحوب عليه وإن الضمانات المتاحة لحماية حق المستفيد من الشيك أبلغ من الضمانات المتاحة لحماية ثمنية الورقة النقدية المجمع على اعتبارها نقدا موجبا للإبراء العام والقابلية المطلقة.
ثانيا: التحويل المصرفي له أحوال:
أحدها: أن يأتي المحول إلى المصرف ومعه نقد يريد أن يحوله المصرف إلى عميله أو من يرغب التحويل إليه وليس له عند الصرف حساب سابق كمن يتقدم إلى البنك في مكة المكرمة بطلب تحويله عشرة آلاف ريال إلى عميله في الرياض ويتسلم صورة من إشعار التحويل فقد ذكر الباحثون أن هذه إجارة وبعضهم خرجها على السفتجة وإن كانت الإجارة تتفق مع السفتجة في العناصر الجوهرية في التحويل واختلفوا في حكم أخذ الأجرة عليها فاتجه غالبهم على جواز ذلك وأنه ليس من قبيل القرض الذي يجر نفعا.
الحال الثانية: ما إذا كان للمحول حساب لدى المصرف فعمده بسحب مبلغ معين من حسابه لتحويله إلى من يرغب التحويل إليه فهذه الحال استيفاء من البنك بقدر المبلغ المحول عليه ثم حوالة لها حكم الحال الأولى ولا يؤثر استيفاء المبلغ المراد تحويله من البنك على أحكام الحوالة واعتبارها إجارة أو سفتجة مقبوضة(26/178)
متصرفا في مبلغها.
الحال الثالثة: ما إذا أحضر مريد التحويل مبلغا من النقد المحلي وطلب تحويله إلى خارج بلد النقد المحلي وبنقد البلد الخارجي كمن يطلب تحويل مبلغ من العملة الأمريكية إلى من يرغب التحويل عليه فهذه العملية تشتمل على صرف وإجارة فإن كان لدى البنك وقت طلب التحويل للعملة الأجنبية سواء كانت في صندوقه أو في صندوق من يحول عليه من البنوك الأجنبية بحيث يكون للبنك المحول حساب بالعملة المذكورة لدى البنك المحول عليه فإذا أجرى الصرف بسعر وقته وتعيين مقدار المبلغ المراد تحويله بالعملة الأجنبية فإن تحول المبلغ بالعملة المحلية إلى العملة الأجنبية في قوة المصارفة يدا بيد لأن عملية المصارفة تمت وليس بينهما بعد ذلك شيء ثم تؤول هذه الحال بعد المصارفة إلى الحال الأولى في اعتبارها بعد المصارفة إجارة أو سفتجة.
الحال الرابعة: ما إذا كان لطالب التحويل لدى البنك حساب جار فطلب السحب منه ثم طلب صرف المبلغ المسحوب إلى عملة أجنبية ثم طلب تحويل تلك العملة الأجنبية إلى من يرغب التحويل عليه خارج البلاد فإذا كان لدى البنك في صناديقه أو قيوداته العملة الأجنبية المراد صرف المبلغ إليها فهذه العملية هي استيفاء ثم صرف ثم تحويل وقبض الإشعار بالتحويل بالعملة الأجنبية بمثابة القبض الحسي ومما تقدم من البحوث يظهر سلامة هذه العمليات من المحذور.
الحال الخامسة: ما إذا تقدم طالب التحويل إلى البنك بمبلغ معين من العملة المحلية أو طلب من البنك إذا كان له عنده حساب(26/179)
جار أن يسحب من ذلك المبلغ ليصرفه إلى عملة أجنبية ليست لدى البنك في صناديقه ولا في قيوده لدى المصارف وإنما سيعمل البنك على تأمين النقد الأجنبي مستقبلا لمن حول عليه فهذه مصارفة يظهر - والله أعلم - بطلانها لانتفاء التقابض الحسي والمعنوي في مجلس عقد المصارفة ولأن البنك صارف بما لا يملكه وقت المصارفة.
الحال السادسة: ما إذا تقدم طالب التحويل إلى البنك بمبلغ معين من عملة محلية أو كان لطالب التحويل حساب عند هذا البنك فطلب منه سحب ذلك المبلغ ليقوم البنك بتحويله إلى عملة أجنبية إلى من يرغب طالب التحويل التحويل إليه فإذا لم يكن لدى البنك في صناديقه تلك العملة الأجنبية وليس له لدى البنك المحول عليه حساب بالعملة المذكورة - الأجنبية - ولكن له في بنوك أخرى سواء كانت محلية أو أجنبية حساب بنفس العملة وقدر المبلغ المراد تحويله أو أكثر منه فهل تصح هذه المصارفة باعتبار أن البنك صارف بما يملكه وأنه يمكنه تعميد البنك الذي له حساب عنده بنفس العملة الأجنبية بتحويل قدر المبلغ إلى البنك الذي حول عليه طلب التحويل أو أنها لا تصح حيث إنه ليس لديه في صناديقه ولا في قيد البنك المحول عليه شيء من العملة الأجنبية التي حول عليه بها.
وقبل ختام هذا البحث أذكر نصا عن شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة القبض حيث قال:
وأما استدلالهم بأن القبض هو التخلية. فالقبض مرجعه إلى عرف الناس حيث لم يكن له حد في اللغة ولا في الشرع. وقبض ثمر الشجر لا بد فيه من الخدمة والتخلية المستمرة إلى كمال الصلاح بخلاف قبض(26/180)
مجرد الأصول. وتخلية كل شيء بحسبه ودليل ذلك المنافع في العين المؤجرة (1) اهـ.
وأذكر أيضا عن شيخنا الجليل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله حيث قال:
ونعرف أن القبض من الأمور التي تختلف باختلاف المقبوضات فما جاء فيه التنصيص في الشرع صار القبض فيه إلى مقتضى التنصيص وما لا فيرجع إلى المتعارف (2) اهـ.
وفي الدرر السنية جواب للشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله ونصه:
وسئل عن صفة القبض للطعام ونحوه فأجاب: أهل العلم ذكروا أن القبض في كل شيء بحسبه. وأجاب أيضا: القبض كيله أو وزنه وفي الرواية الأخرى أنه التخلية مع التمييز (3) اهـ.
وفي المقنع ما نصه: إذ القبض مطلق في الشرع فيرجع فيه إلى الصرف كالحرز والتفرق (4) اهـ.
هذا ما تيسر والله المستعان وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) من الجزء الثلاثين من مجموع فتاوى ابن تيمية، ص275 - 276.
(2) فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم ج7، ص103.
(3) الدرر السنية، ج5، ص47.
(4) المقنع مع حاشيته، ج2، ص62، 63.(26/181)
صفحة فارغة(26/182)
نظرات وتعقيبات على ما في كتاب السلفية
لمحمد سعيد رمضان من الهفوات
بقلم \ الدكتور صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان (1)
الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وسلم.
وبعد:
فقد اطلعت على كتاب من تأليف الدكتور \ محمد سعيد رمضان البوطي بعنوان " السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي ".
فاستغربت هذا العنوان لما يوحي به من إنكار أن يكون للسلف مذهب ومنهج تجب علينا معرفته والتمسك به، وترك المذاهب المخالفة له، ولما قرأت الكتاب وجدت مضمونه أغرب من عنوانه حيث وجدته يقول فيه إن التمذهب بالسلفية بدعة ويشن حملة على السلفيين.
ونحن نتساءل هل الذي حمله على أن يشن هذه الحملة الشعواء على السلفية والسلفيين - الحملة التي تناولت حتى القدامى منهم كشيخ الإسلام ابن تيمية وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - هل الذي حمله على ذلك كراهيته للبدع فظن أن التمذهب بالسلفية بدعة فكرهه لذلك.
كلا ليس الحامل له كراهية البدع لأننا رأيناه يؤيد في هذا الكتاب كثيرا
__________
(1) وردت ترجمة للكتاب في العدد (7) من المجلة ص238.(26/183)
من البدع - يؤيد الأذكار الصوفية المبتدعة. ويؤيد الدعاء الجماعي بعد صلاة الفريضة وهو بدعة. ويؤيد السفر لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم " وهو بدعة ".
فاتضح لنا والله أعلم أن الحامل له على شن هذه الحملة هو التضايق من الآراء السلفية التي تناهض البدع والأفكار التي يعيشها كثير من العالم الإسلامي اليوم وهي لا تتلاءم مع منهج السلف، وقد ناقشت في هذه العجالة الآراء التي أبداها في كتابه المذكور حول السلفية والسلفيين وذلك من خلال التعقيبات التالية. وهي تعقيبات مختصرة تضع تصورا لما يحتويه كتابه من آراء هي محل نظر، وإذا كان الدكتور يعني بحملته هذه جماعة معينة. فلماذا لا يخصها ببيان أخطائها دون أن يعمم الحكم على جميع السلفيين المعاصرين، وحتى بعض السابقين منهم.
والآن إلى التعقيبات.(26/184)
التعقيب الأول
قوله في العنوان: " السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي ". هذا العنوان معناه أن السلف ليس لهم مذهب يعرفون به وكأنهم في نظره عوام عاشوا في فترة من الزمن بلا مذهب.
وأن تفريق العلماء بين مذهب السلف ومذهب الخلف تفريق خاطئ لأن السلف ليس لهم مذهب، وعلى هذا لا معنى لقول الرسول صلى الله عليه وسلم، «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين (1) » وقوله لما سئل عن الفرقة الناجية من هي، قال: «هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي (2) » لا معنى لهذا كله لأن السلف ليس لهم مذهب. ولعل قصد الدكتور من ذلك هو الرد على الذين يتمسكون بمذهب السلف في هذا الزمان ويخالفون المبتدعة والخرافيين.
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(2) سنن الترمذي الإيمان (2641) .(26/184)
التعقيب الثاني
قوله في صفحة (5) : هذا الكتاب لا يتضمن أي مناقشة لآراء(26/184)
السلفية وأفكارهم التي يعرفون بها، كما لا يتضمن تصويبا ولا تخطئة لها، ومعنى هذا أن الآراء السلفية قابلة للمناقشة والتخطئة، وهذا فيه إجمال لأن السلفية بمعناها الصحيح المعروف لا تخالف الكتاب والسنة فلا تقبل المناقشة والتخطئة، وأما السلفية المدعاة فهي محل النظر وهو لم يحدد المراد بالسلفية فكان كلامه موهما عاما يتناول السلفية الصحيحة المستقيمة.(26/185)
التعقيب الثالث
في صفحة (12) المقطع الأول يعلل فيه أن وجوب اتباع السلف بكونهم أفهم للنصوص لسلامة لغتهم ولمخالطتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا فيه نقص كبير لأنه أهمل قضية تلقيهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلمهم منه وسؤالهم إياه، ومشاهدتهم للتنزيل على رسول الله، وتلقيهم التأويل عنه صلى الله عليه وسلم وهذه مرتبة من العلم لم يبلغها غيرهم وقد أهمل ذكرها وتناساها تماما، كما أنه في آخر هذه الصفحة يقرر أن اتباع السلف لا يعني أخذ أقوالهم والاستدلال بمواقفهم من الوقائع وإنما يعني الرجوع إلى القواعد التي كانوا يحتكمون إليها.
ومعنى هذا الكلام أن أقوال السلف وأفعالهم ليست حجة وإنما الحجة هي القواعد التي كانوا يسيرون عليها وهذا كلام فيه تناقض لأن معناه أننا نلغي أقوالهم ونأخذ قواعدها فقط، ونستنبط بها من النصوص غير استنباطهم، وهذا إهدار لكلام السلف ودعوة لاجتهاد جديد، وفهم جديد يدعي فيه أنه على قواعد السلف.(26/185)
التعقيب الرابع
في صفحة 13، 14 ينكر أن تتميز طائفة من المسلمين من بين الفرق المختلفة المفترقة وتسمى " بالسلفية ". ويقول: لا اختلاف بين السلف والخلف ولا حواجز بينهم ولا انقسام.
وهذا الكلام فيه إنكار لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم (1) » .
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1920) ، سنن الترمذي الفتن (2229) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4252) ، سنن ابن ماجه الفتن (3952) ، مسند أحمد بن حنبل (5/279) .(26/185)
وقوله صلى الله عليه وسلم: «وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل من هي يا رسول الله. قال هم: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي (1) » . فهذان الحديثان يدلان على وجود الافتراق والانقسام والتميز بين السلف وأتباعهم وبين غيرهم.
والسلف ومن سار على نهجهم ما زالوا يميزون أتباع السنة عن غيرهم من المبتدعة والفرق الضالة ويسمونهم أهل السنة والجماعة، وأتباع السلف الصالح ومؤلفاتهم مملوءة بذلك.
حيث يردون على الفرق المخالفة لفرقة أهل السنة وأتباع السلف.
والدكتور يجحد هذا ويقول: لا اختلاف بين السلف والخلف ولا حواجز بينهم ولا انقسام. وهذا إنكار للواقع مخالف لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من وجود الانقسام والافتراق في هذه الأمة وأنه لا يبقى على الحق منها إلا فرقة واحدة.
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2641) .(26/186)
التعقيب الخامس
من صفحة 14 - 17 يحاول أن يبرر قوله بعدم وجوب الأخذ بأقوال السلف وأعمالهم وتصرفاتهم بأن السلف أنفسهم لم يدعوا الناس إلى ذلك وبأن العادات تختلف وتتطور في اللباس والمباني والأواني. إلخ ما ذكره. وهذا الكلام فيه جهل وخلط وتلبيس من وجهين:
الوجه الأول:
قوله: إن السلف لم يدعوا إلى الأخذ بأقوال السابقين وهذا كذب عليهم. فإن السلف من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين يحثون على امتثال ما أمر الله به ورسوله من الاقتداء بالسلف الصالح، والأخذ بأقوالهم، والله قد أثنى على الدين يتبعونهم، فقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} (1) . الآية.
__________
(1) سورة التوبة الآية 100(26/186)
وقال صلى الله عليه وسلم عن الفرقة الناجية: «هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي (1) » .
وقال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي (2) » ، وقال عبد الله بن مسعود: من كان مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة.
أولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (أبر الناس قلوبا وأغزرهم علما وأقلهم تكلفا) .
وقال الإمام مالك بن أنس: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها) إلى غير ذلك مما تضمنته الكتب المؤلفة في عقائد السلف والمسماة بكتب السنة، ككتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد، وكتاب السنة للآجري، وكتاب السنة لابن أبي عاصم وغيرها تذكر أقوال السلف وتحث على الأخذ بها.
الوجه الثاني:
أنه جعل مسائل العادات كالمباني والأواني والملابس كمسائل العلم والعقائد والعبادات تختلف باختلاف الأزمنة والأعراف وهذا منه جهل أو تلبيس، فإن الفرق في ذلك معروف لأقل الناس ثقافة وعلما. كل يعرف أن العادات تختلف وأما العبادات وأحكام الشريعة فهي ثابتة.
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2641) .
(2) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(26/187)
التعقيب السادس
في صفحة 19 المقطع الأخير يقول: إن السلف لم يجمدوا عند حرفية أقوال صدرت عنهم - ومراده أن السلف لا يبقون على أقوالهم بل يتحولون عنها ومن ثم لا يجب علينا الأخذ بأقوالهم.
وهذا فيه إجمال، فإن كان مراده أقوالهم في العقيدة فهو كذب عليهم لأنهم ثبتوا على قولهم في العقيدة ولم يتحولوا عنه، وإن كان مراده أقوالهم في المسائل الاجتهادية فهم لا يجمدون على القول الذي ظهر لهم أنه خطأ بل يتركونه إلى الصواب.(26/187)
التعقيب السابع
قوله: فكل من التزم بالمتفق عليه من تلك القواعد (1) والأصول وبنى اجتهاده وتفسيره وتأويلاته للنصوص على أساسها فهو مسلم ملتزم بكتاب الله وسنة رسوله.
نقول: ضابط الإسلام قد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل وهو أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا (2) ، فالمسلم هو الملتزم بالإسلام المقيم لأركانه، فلا حاجة إلى هذا التعريف الذي ذكره مع تعريف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن تعريفه فيه إجمال وعدم وضوح فهو يتيح لكل أحد أن يفسر الإسلام بما يريد. يدل على ذلك قوله فيما بعد: نعم إن من قواعد هذا المنهج ما قد يخضع فهمه للاجتهاد ومن ثم فقد وقع الخلاف إلخ. فهل الإسلام قابل للاختلاف. كلا بل إن أصول الإسلام والعقيدة ليست مجالا للاجتهاد والاختلاف وإنما هذا في المسائل الفرعية، فمن خالف في أصول الدين وعقيدته فإنه يكفر أو يضلل بحسب مخالفته، لأن مدارها على النص والتوقيف ولا مسرح للاجتهاد فيها.
__________
(1) يعني القواعد التي قال إن السلف كانوا يحتكمون إليها.
(2) ويتبع هذه الأركان فرائض وسنن وشرائع هي مكملات للإسلام.(26/188)
التعقيب الثامن
قوله: أن السلفية لا تعني إلا مرحلة زمنية قصارى ما في الأمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصفها بالخيرية كما وصف كل عصر آت من بعد بأنه خير من الذي يليه فإن قصدت بها جماعة إسلامية ذات منهج معين خاص بها، فتلك إذن إحدى البدع (ا. هـ) ونقول: هذا التفسير منه للسلفية بأنها مرحلة زمنية وليست جماعة تفسير غريب وباطل. فهل يقال للمرحلة الزمنية بأنها سلفية هذا لم يقل به أحد من البشر، وإنما تطلق السلفية(26/188)
على الجماعة المؤمنة الذين عاشوا في العصر الأول من عصور الإسلام، والتزموا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ووصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (1) » . الحديث.
فهذا وصف لجماعة وليس لمرحلة زمنية. ولما ذكر صلى الله عليه وسلم افتراق الأمة فيما بعد. قال عن الفرق كلها: إنها في النار إلا واحدة. ووصف هذه الواحدة بأنها هي التي تتبع منهج السلف وتسير عليه فقال: «هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي (2) » .
فدل على أن هناك جماعة سلفية سابقة وجماعة متأخرة تتبعها في نهجها وهناك جماعات مخالفة لها متوعدة بالنار وما ذاك إلا لضلال هذه الفرق المخالفة للفرقة الناجية. لا كما يقول فيما سبق في صفحة 20 - 21: ومن حق صاحب أحد الرأيين أو الآراء في تلك المسائل الاجتهادية أن يطمئن إلى أن ما ذهب إليه هو الصواب، ولكن ليس من حقه أن يجزم بأن الذين خالفوه إلى الآراء الأخرى ضالون خارجون عن حظيرة الهدى (ا. هـ) ونقول له: ليس هذا على إطلاقه إنما هو في المسائل الفروعية التي هي مسرح للاجتهاد أما مسائل العقيدة فلا مجال للاجتهاد فيها وإنما مدارها على التوقيف ومن خالف فيها ضلل أو كفر بحسب مخالفته، وقد ضلل السلف القدرية والخوارج والجهمية وحكموا على بعضهم بالكفر لمخالفتهم منهج السلف.
__________
(1) صحيح البخاري الشهادات (2651) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2535) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3809) ، سنن أبو داود السنة (4657) ، مسند أحمد بن حنبل (4/427) .
(2) سنن الترمذي الإيمان (2641) .(26/189)
التعقيب التاسع
زعم في صفحة 27 - 31 أن الصحابة لم يكن بهم حاجة إلى تحكيم ميزان علمي في الاستنباط. وهذا فيه إجمال، فإن أراد بالميزان العلمي فهم النصوص ومعرفة معانيها وما يراد بها فهم أغزر الناس علما في ذلك وأقلهم تكلفا، وأن أراد بالميزان العلمي منهج الجدل وعلم الكلام فهذا(26/189)
ميزان جهلي لا ميزان علمي. وهم أغنى الناس عنه. وقد تركوه وحذروا منه وضللوا أصحابه لأنه لا يوصل إلى حقيقة ولا يهدي إلى صواب وإنما آل بأصحابه إلى الشك، وإن زعم من ابتلي به أنه ميزان علمي ووصفوا أنفسهم بأن طريقتهم أعلم وأحكم وأن طريقة السلف أسلم، ويصفون السلف بأنهم ظاهريون كما وصفهم الدكتور بذلك في هذا الكتاب في صفحة 31 فقال: " ومن ثم فإن الشأن فيما ذكرناه عنهم من ابتعادهم عن ساحة الرأي وعدم الخوض فيما تلقوه من أنباء الغيب وغوامض المعاني، ووقوفهم في ذلك مع ظاهر النصوص دون تعطيل ولا تشبيه.
فهذا معناه أن طريقة السلف بدائية تقف عند ظاهر النصوص وليست طريقة علمية تنفذ إلى غور النصوص ومقاصدها، ومعناه أيضا أن للنصوص باطنا وظاهرا يختلفان كما يقوله أهل الضلال.(26/190)
التعقيب العاشر
من صفحة 32 إلى صفحة 47، يحاول أن يبرر مخالفة بعض الخلف لمنهج السلف باتساع بلاد الإسلام، ودخول أجناس من البشر في دين الإسلام وهم يحملون ثقافات أجنبية وبتوسع مجالات الحياة المعيشية باختلاف الملابس والمباني والأواني والصناعات والأطعمة إلى غير ذلك مما ذكره من الكلام الطويل إلى أن قال في النهاية: فلو كانت اتجاهات السلف واجتهاداتهم هذه حجة لذاتها لا تحتاج هي بدورها إلى برهان أو مستند يدعمها لأنها برهان نفسها إذا لوجب أن تكون تلك النظرات (يعني نظرات السلف) المتباعدة المتناقضة كلها حقا وصوابا ولوجب المصير ودون أي تردد إلى رأي المصوبة (1) ولما احتاج أولئك السلف رضوان الله عليهم أن يلجئوا أخيرا من مشكلة هذا التناقض والاضطراب إلى منهج علمي يضبط حدود المصالح. إلخ ما قال. ونحن نجيبه عن ذلك:
__________
(1) ومعناه غير واضح.(26/190)
الجواب الأول:
أن السلف لم يختلفوا في مسائل العقائد والإيمان، وإنما اختلفوا في مسائل الاجتهاد الفرعية وليس ذلك اضطرابا وتناقضا كما يقول وإنما هو اجتهاد يؤجرون عليه.
الجواب الثاني:
أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا باتباعهم بقوله: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي (1) » ، وقال عن الفرقة الناجية: «هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي (2) » وأثنى الله على من اتبعهم ورضي عنه معهم فقال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} (3) .
والإمام مالك بن أنس رحمه الله يقول: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها) .
فيجب اتباعهم والأخذ بأقوالهم لا سيما في العقيدة لأن قولهم حجة كما هو مقرر في الأصول.
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(2) سنن الترمذي الإيمان (2641) .
(3) سورة التوبة الآية 100(26/191)
التعقيب الحادي عشر
في صفحة 53 - 54 وصف الكوثري بأنه محقق ونقل كلاما له ذكر فيه أن عدة من أحبار اليهود ورهبان النصارى وموابذة المجوس بثوا بين أعراب الرواة من المسلمين أساطير وأخبارا في جانب الله فيها تجسيم وتشبيه وأن المهدي أمر علماء الجدل من المتكلمين بتصنيف الكتب في الرد على الملحدين والزنادقة (1) وأقاموا البراهين وأزالوا الشبه وخدموا الدين) هكذا وصف الكوثري رواة الإسلام بأنهم أعراب راجت عليهم أساطير اليهود والنصارى والمجوس، وهذه الأساطير بزعمه هي الأخبار
__________
(1) لعله يقصد بالملحدين أتباع السلف الذين يثبتون صفات الله التي هي في اعتباره أساطير وتجسيم وتشبيه.(26/191)
المتضمنة لأسماء الله وصفاته لأنها تفيد التشبيه والتجسيم عنده؛ وأثنى على علماء الكلام الذين ردوا هذه الروايات ووصفهم بالدفاع عن الإسلام والرد على الملحدين والزنادقة، وأما علماء الكتاب والسنة فليس لهم دور عند الكوثري في الذب عن الإسلام والرد على الملاحدة والزنادقة. وقد نقل الدكتور كلامه هذا مرتضيا له ووصفه بالمحقق - والله المستعان.(26/192)
التعقيب الثاني عشر
في صفحة 63 يرى في فقرة (1) أنه يجب التأكد من صحة النصوص الواردة والمنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآنا كانت هذه النصوص أو سنة ونقول له:
أولا: هل القرآن يحتاج إلى تأكد من صحته، أليس هو متواتر تواترا قطعيا، وإذا كان يريد بعض القراءات فلماذا لم يبين ويقيد كلامه بذلك.
ثانيا: هل القرآن من فم الرسول صلى الله عليه وسلم كالسنة، أو هو وحي كله لفظه ومعناه من الله تعالى والرسول مبلغ فقط، إن كلامه هذا يوهم أن القرآن من كلام الرسول كالسنة وليس هو كلام الله تعالى.(26/192)
التعقيب الثالث عشر
قال في صفحة 63 فقرة جـ: (إنه يجب على الباحث عرض حصيلة تلك المعاني (أي معاني النصوص الصحيحة) التي وقف عليها وتأكد منها على موازين المنطق والعقل لتمحيصها ومعرفة موقف العقل منها) (ا. هـ) .
ونقول: هل للعقل موقف وسلطة مع النصوص الصحيحة، هذا لم يقل به إلا المعتزلة ومن وافقهم، أما أهل السنة فيسلمون لما صح عن الله ورسوله سواء أدركته عقولهم أم لا، ولا سيما في نصوص الأسماء والصفات وقضايا العقيدة، فإن العقول لا مجال لها في ذلك لأنه من أمور الغيب. مع العلم أن الشرع لا يأتي بما تحيله العقول. لكنه قد يأتي بما تحار فيه العقول ولا تدرك كنهه.(26/192)
التعقيب الرابع عشر
في صفحة 64 المقطع الثالث يستنكر تقسيم المسلمين إلى سلفيين وبدعيين. وهذا رد للنصوص التي أخبرت عن افتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، والتي أخبرت عن حدوث الاختلاف الكثير وحثت على التمسك بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين عند ذلك، وكتابه كله يدور حول هذه النقطة وهو إنكار لما هو واقع من الانقسام والافتراق في هذه الأمة فهو إنكار للواقع المحسوس.
وكان الأجدر به أن يحث المختلفين والمفترقين إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة بدلا من أن يطمئنهم على ما هم عليه من فرقة ومخالفة وبأنهم على الحق.(26/193)
التعقيب الخامس عشر
في صفحة 65 - 67 يشك في صحة الاستدلال بالخبر الصحيح الذي لم يبلغ حد التواتر في الاعتقاد.
فيقول: هذا القسم لا تتكون منه حجة ملزمة في نطاق الاعتقاد بحيث يقع الإنسان في طائلة الكفر إن هو لم يجزم بمضمون خبر صحيح لم يرق إلى درجة المتواتر.
ونقول هذا كلام غير سليم ولا سديد، فإن خبر الآحاد إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب تصديقه والتسليم له والجزم بمضمونه في العقائد وغيرها، وهذا القول الذي ذكره قول مبتدع في الإسلام. فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرسل رسله آحادا ويقبل المرسل إليه خبرهم من غير توقف ولا تشكك في صحة ما جاءوا به وكذلك الصحابة وأتباعهم كانوا يتقبلون الأحاديث الصحيحة ويحتجون بها ولا يشكون في مضامينها في العقائد وغيرها ولا يوجد هذا التفريق في كلام السلف وإنما وجد في كلام بعض الخلف فهو مبتدع.(26/193)
التعقيب السادس عشر
في صفحة 99 ذكر الدكتور البوطي: الأصول والأحكام التي لا مجال للاختلاف فيها، وذكر منها اليقين بأن الله عز وجل واحد في ذاته وصفاته وأفعاله؛ وهذا الذي ذكره لا يزيد على توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون وجمهور الأمم. فالإقرار واليقين به وحده لا يكفي حتى يضاف إليه توحيد الألوهية وهو إفراد الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه. وهذا أيضا أصل لا مجال للاختلاف فيه، وقوله في هذه الصفحة في الفقرة رقم (4) عن صفات الله أنها قديمة قدم ذاته - هذا ليس على إطلاقه إنما يقال في صفات الذات، أما صفات الأفعال كالاستواء والنزول والخلق والرزق فهي قديمة النوع حادثة الآحاد وكذا قوله عن كلام الله، فهو قديم ليس على إطلاقه لأنه من صفات الأفعال وهذا التفصيل معروف عند أهل السنة والجماعة.(26/194)
التعقيب السابع عشر
قوله في صفحة 99: وكل ما قد وصف الله به ذاته أو أخبر به عنها مما يستلزم ظاهره التجسيد والتشبيه نثبته له كما قد أثبت ذلك لنفسه وننزهه عن الشبيه والنظير والتميز والتجسد.
نقول: ليس في صفات الله ما يستلزم ظاهره التجسيد والتشبيه، وإنما ذلك فهم فهمه بعض الجهال أو الضلال ولا ينسب ذلك إلى النصوص لأن لله صفات تخصه وتليق به لا تشبهها صفات خلقه. ولا يدور هذا في ذهن المؤمن الصادق الإيمان، وكلام الله وكلام رسوله ينزه عن أن يكون لازمه باطلا.(26/194)
التعقيب الثامن عشر
قوله في صفحة 101 في الفقرة (8) أن رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة(26/194)
لا تستلزم تحيزا في جهة معينة (ا. هـ) وأقول: نفي الجهة عن الله مطلقا غير صحيح. . فإنه سبحانه في جهة العلو كما تواترت الأدلة على علوه على خلقه، وإنما ينزه عن جهة غير العلو - هذا مذهب أهل السنة والجماعة - بخلاف الجهمية ومن سار على منهجهم في ذلك وغيره.(26/195)
التعقيب التاسع عشر
قوله في صفحة 101، 102 أن الشفاعة في حق كثير من العصاة والمذنبين ميزة ميز الله بها نبيه عن سائر الرسل. .
هذا كلام غير صحيح فإن الشفاعة في عصاة الموحدين ليست خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم، بل ليست خاصة بالأنبياء، وإنما الخاص به صلى الله عليه وسلم الشفاعة العظمى التي هي المقام المحمود، فقد صح أن الملائكة يشفعون والأنبياء يشفعون والأولياء يشفعون.
وفي الحديث الذي رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا (1) » . الحديث. وفيه: «فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط (2) » إلى آخر الحديث- انظر صحيح مسلم بشرح النووي (3 \ 31 - 32) ولكن لا بد للشفاعة من شرطين - الشرط الأول: أذن الله للشافع أن يشفع، قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (3)
والشرط الثاني: رضى الله عن المشفوع فيه بأن يكون من أهل التوحيد. قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} (4) فالكفار لا تنفعهم الشفاعة، قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (5)
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (183) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (183) .
(3) سورة البقرة الآية 255
(4) سورة الأنبياء الآية 28
(5) سورة المدثر الآية 48(26/195)
التعقيب العشرون
قوله في صفحة 104، في المقطع الأخير، والإسلام يستتبع آثاره مستقلا ومنفصلا عن الإيمان في الدنيا.
هذا الكلام فيه نظر فإن الإسلام الصحيح لا ينفصل عن الإيمان لا في الدنيا ولا في الآخرة، فإن انفصل عنه فليس إسلاما صحيحا، وإنما هو نفاق والمنافق لا يسمى مسلما وإنما يسمى منافقا كما سماه الله ورسوله.
ولا يلزم من معاملته معاملة المسلم في الدنيا، أنه مسلم حقيقة لا في الدنيا ولا في الآخرة.(26/196)
التعقيب الحادي والعشرون
قوله في صفحة 107، والقول بأن الإنسان يخلق أفعال نفسه وهو مذهب المعتزلة ليس مكفرا، أقول: في نفي تكفيره نظر، لأن من قال ذلك إن كان مع هذا ينكر علم الله كما هو قول غلاة القدرية فهو كافر وإن كان لا ينكره وهو مقلد لغيره فهذا يضلل، وإن كان غير مقلد فقد أنكر أحد أركان الإيمان وهو القدر على علم، فكيف لا يكفر من هذه حاله. وأيضا هو قد أثبت لله شريكا في خلقه وقد قال السلف عن هذا الصنف إنه مجوس هذه الأمة.(26/196)
التعقيب الثاني والعشرون
ما ذكره في صفحة 111 - 112 من أن من أضفى صفات النبوة على علي بن أبي طالب وما يعتقده بعض المريدين في أشياخهم من العصمة وما قاله للإمام الخميني من أن لأئمتهم ما لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل، أن هذه الأمور تعتبر شذوذات لا تستوجب كفر أصحابها وخروجهم من الملة وكرر ذلك أيضا في أول صفحة 110، وقال في هامش صفحة 112، تعليقة رقم (1) سألت بعض الإخوة علماء الشيعة الإيرانيين. . إلخ.(26/196)
نقول إن عدم تكفير من يقول هذه المقالات واعتباره أخا خطأ واضح لأنها من أسباب الردة الواضحة فكيف لا يكفرون بذلك وقد فضلوا أئمتهم على الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين وادعوا لهم العصمة وأعطوهم حق التشريع كما هو موجود في كتبهم ومقالاتهم وهذا من أعظم أنواع الردة، فلا يجوز للمؤمن أن يحبهم ويقول: إنهم إخوانه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} (1)
وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} (2) الآية.
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 1
(2) سورة المجادلة الآية 22(26/197)
التعقيب الثالث والعشرون
قوله في صفحة 114: ويقابل التعطيل التجسيم أو التشبيه وهو أن تترك هذه الآيات (أي آيات الصفات) على ظاهرها ويفهم منها المألوف في حياة المخلوقين والمحدثين فيفهم من اليد الجارحة التي خلقها الله فينا ويفهم من الاستواء معناه المتمثل في جلوس أحدنا على كرسيه أو سريره ويفهم من المجيء الحركة التي تتخطى حيزا، إلى غيره وهكذا (ا. هـ) .
والجواب عن ذلك أن نقول:
أولا: لا بد من ترك الآيات على ظاهرها فإنه حق مراد لله سبحانه وكون بعض الناس يفهم منها فهما سيئا آفته من فهمه الخاطئ وليس ما فهمه هو ظاهر الآيات:
وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم
ثانيا: الآيات تدل على صفات حقيقية لله فله يد حقيقية تليق به ولا تشبه يد المخلوق. والاستواء له معنى حقيقي فسره به السلف وأئمة السنة واللغة وهو العلو والارتفاع والاستقرار والصعود، وكل هذه المعاني على ما يليق بالله لا كعلو المخلوق وارتفاعه واستقراره وصعوده. تعالى(26/197)
الله عن ذلك، وكذلك المجيء هو مجيء حقيقي على معناه في اللغة العربية وكذا الإتيان كما جاء في الآيات الأخرى ولا يلزم منه مشابهة مجيء المخلوق وإتيانه. والجارحة والحيز ألفاظ مجملة لم يرد نفيها ولا إثباتها في حق الله تعالى.(26/198)
التعقيب الرابع والعشرون
في صفحة 118 - 119، أثنى على بعض المتصوفة وبعض مؤلفاتهم كالقشيري، وهذا الثناء في غير محله لأن التصوف أصله مبتدع في الإسلام ودخيل عليه وقد تطور إلى أفكار إلحادية، وما زال العلماء المحققون يحذرون منه ومن أصحابه وبالخصوص القشيري فإن لشيخ الإسلام ابن تيمية ردا مفصلا على رسالته وما فيها من مخالفات وشطحات وفي الثناء عليه وعلى أمثاله تقرير بمن لا يعرف حقيقتهم.(26/198)
التعقيب الخامس والعشرون
تكلم عن صفات الله عز وجل من صفحة 132 حتى صفحة 144، وقد حصل في كلامه أخطاء كثيرة من أهمها:
1 - اعتباره آيات الصفات من المتشابه، وهذا خطأ لأن آيات الصفات عند سلف الأمة وأئمتها من المحكم ولم يقل إنها من المتشابه إلا بعض المتأخرين الذين لا يحتج بقولهم، ولا يعتبر بخلافهم.
2 - ذكر أن آيات الصفات لها محملان:
المحمل الأول: أن تجري على ظاهرها مع تنزيه الله عز وجل عن التشبيه والشريك، وقال إن هذا تأويل إجمالي لأن ظاهرها ما هو من صفات المخلوقين.
والجواب: نقول له: ليس الأمر كما ذكرت فليس ظاهرها يدل على مشابهة صفات المخلوقين، وإنما هذا وهم توهمته أنت وتوهمه غيرك وليس هو ظاهرها لأن ظاهرها هو ما يليق بجلال الله، وصفات الخالق تختص(26/198)
به وصفات المخلوق تختص به -ثم قال: والمحمل الثاني حملها على المعنى المجازى بأن يفسر الاستواء بالاستيلاء والتسلط واليد بالقوة. انتهى كلامه.
والجواب نقول له: لا يجوز حمل صفات الله عز وجل على المعنى المجازي لأن هذا تعطيل لها عن مدلوها. بل يجب حملها على المعنى الحقيقي اللائق بالله، لأن الأصل في الكلام الحقيقة ولا سيما كلام الله عز وجل، ولا سيما ما يتعلق به وبأسمائه وصفاته - ولا يجوز حمل الكلام على المجاز، إلا عند تعذر حمله على الحقيقة وهذا ما لم يحصل في نصوص الصفات فليس هناك ما يوجب حملها على المجاز - وكتبرير منه لهذا الباطل الذي ذكره نسب إلى بعض السلف تأويل بعض الصفات. فنسب إلى الإمام أحمد تأويل (وجاء ربك) بمعنى جاء أمر ربك، ونسب إلى الإمام البخاري تأويل الضحك بالرحمة، ونسب إلى الإمام حماد بن زيد تأويل نزول الله إلى السماء الدنيا بإقباله جل جلاله إلى عباده.
والجواب أن نقول:
أولا: ما نسبه إلى الإمام أحمد لم يثبت عنه ولم يوثقه عنه ولم يوثقه من كتبه أو كتب أصحابه وذكر البيهقي لذلك لا يعتمد. لأن البيهقي رحمه الله عنده شيء من تأويل الصفات فلا يوثق بنقله في هذا الباب، لأنه ربما يتساهل في النقل.
والثابت المتيقن عن الإمام أحمد إثبات الصفات على حقيقتها وعدم تأويلها فلا يترك المعروف المتيقن عنه لشيء مظنون ونقل لم يثبت عنه وله رحمه الله رد على الجهمية والزنادقة في هذا الباب مشهور ومطبوع وتداول.
ثانيا: وما نسبه إلى البخاري غير صحيح فقد راجعت صحيح البخاري فوجدته قد ذكر الحديث الذي أشار إليه الدكتور تحت(26/199)
ترجمة: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} (1) ولم يذكر تأويل الضحك بالرحمة، وإنما الذي أوله بالرضا هو الحافظ ابن حجر في الفتح. والحافظ رحمه الله متأثر بمذهب الأشاعرة فلا عبرة بقوله في هذا.
ثالثا: ما نسبه إلى حماد بن زيد من تأويل النزول بالإقبال يجاب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أن هذا لم يثبت عنه لأنه من رواية البيهقي، والبيهقي رحمه الله يتأول بعض الصفات ولو ثبت عن حماد هذا التأويل فهو مردود بما أجمع عليه السلف من إثبات النزول على حقيقته.
الوجه الثاني: أنه لا تنافي بين إثبات النزول على حقيقته وإقبال الله عز وجل على عباده فيقال ينزل ويقبل على عباده وليس في هذا حمل على المجاز كما يظن الدكتور.
3 -نسب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره أنهم قد يفسرون الوجه بالجهة أو القبلة أو الذات وظن أن هذا تأويل للوجه الذي هو صفة من صفات الله عز وجل الذاتية - وهذا الظن منه خطأ واضح فهؤلاء الأئمة لم يقصدون ما توهمه - لأن الوجه لفظ مشترك. تارة يراد به الوجه الذي هو الصفة الذاتية، وتارة يراد به الدين والقصد، وتارة يراد به الجهة والوجهة - وسياق الكلام هو الذي يحدد المقصود في كل مكان بحسبه. فإذا فسر الوجه في موضع بأحد هذه المعاني لدليل اقتضى ذلك من دلالة السياق أو غيره، صح ذلك ولم يكن تأويلا - بل هو تفسير لذلك النص وبيان للمراد به. وبما ذكرنا يتبين أن ما ذكره الدكتور من جواز حمل آيات الصفات وأحاديثها على المعنى المجازي وصرفها عن ظاهرها أنه قول غير صحيح وأنه لا مستند له فيما ذكره عن بعض السلف، إما لأنه لم يصح عنهم أو لأنهم لم يقصدوا ما توهمه.
__________
(1) سورة الحشر الآية 9(26/200)
4 -اعتمد على تأويلات الخطابي لبعض الصفات وأشاد به ومدحه من أجل ذلك.
والجواب عن ذلك: أن الخطابي رحمه الله ممن يتأولون الصفات فلا اعتبار بقوله ولا حجة برأيه وله تأويلات كثيرة والله يعفو عنا وعنه.
ثم العجيب في الأمر أن الدكتور تناقض مع نفسه حيث ذكر فيما سبق أنه يجب إثبات صفات الله كما جاءتنا مع تنزيه الله عن التشبيه والتمثيل كما في صفحة 99، 101، 113، 115، بينما نراه هنا يجيز تأويلها وحملها على المجاز. هل هذا تراجع عما سبق أو هو التناقض.(26/201)
التعقيب السادس والعشرون
أنه في صفحة 138، يجيز مخالفة السلف في إثبات الصفات على حقيقتها فيقول: بل نفرض أن أحدا من رجال السلف رضوان الله عليهم لم يجز لنفسه أكثر من أن يثبت ما أثبته الله لذاته مع تفويض ما وراء ذلك من العلم والتفاصيل إلى الله عز وجل فإن ذلك لا يقوم حجة على حرمة مخالفتهم في موقفهم هذا حرمة مطلقة انتهى كلامه.
ونقول: يا سبحان الله ألا يسعنا ما وسع السلف، أليست مخالفتهم وفيهم المهاجرون والأنصار والخلفاء الراشدون وبقية الصحابة رضي الله عنهم والقرون المفضلة أليست مخالفتهم لا سيما في العقيدة. بدعة وكل بدعة ضلالة. بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (1) » ، والله تعالى يقول:
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (2)
فتشرط سبحانه في رضاه عمن جاء بعدهم اتباعهم للمهاجرين والأنصار بإحسان والدكتور يقول: لا تحرم مخالفتهم في صفات الله عز وجل.
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(2) سورة التوبة الآية 100(26/201)
ألم يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون ومعنى هذا الحث على الاقتداء بهم والنهي عن مخالفتهم لا سيما في أصول الدين، ثم هل تجوز المخالفة في أمور العقيدة أليست العقيدة توقيفية لا مجال للاجتهاد والاختلاف فيها.(26/202)
التعقيب السابع والعشرون
في صفحة 146 المقطع الأخير ذكر في أن من البدع القول بفناء النار وأن ذلك داخل بإجماع المسلمين في معنى البدعة، وتعقيبا عليه من وجهين:
الوجه الأول: أنه لم يحصل إجماع على تخطئة القول بفناء النار وعده من البدع كما زعم فالمسألة خلافية وإن كان الجمهور لا يرون القول بذلك لكنه لم يتم إجماع على إنكاره وإنما هو من المسائل الخلافية التي لا يبدع فيها.
الوجه الثاني: أن الذين قالوا بفنائها استدلوا بأدلة من القرآن والسنة.
وبقطع النظر عن صحة استدلالهم بها أو عدم صحته فإن هذا القول لا يعتبر من البدع ما دام أن أصحابه يستدلون له. لأن البدع ما ليس لها دليل أصلا - وغاية ما يقال أنه قول خطأ أو رأي غير صواب ولا يقال بدعة وليس قصدي الدفاع عن هذا القول ولكن قصدي بيان أنه ليس بدعة. ولا ينطبق عليه ضابط البدعة، وهو من المسائل الخلافية.(26/202)
التعقيب الثامن والعشرون
في صفحة 149، قال: وتفريق الباحث في مسألة القرآن بين ما فيه من المعاني النفسية والألفاظ المنطوق بها مع ما يلحق بها من حبر وورق وغلاف - ليقول أن الأول (يعني المعاني النفسية) قديم غير مخلوق - والثاني حادث مخلوق أيعد بدعة محظورة لأن هذا التفريق لم يعلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن ثم يجب إطلاق القول بأن القرآن قديم غير مخلوق دون تفضيل ولا تفريق أم لا يعد بدعة وإنما هو شرح وبيان لما(26/202)
علمه الصحابة من قبل على وجه الإجمال. ومن ثم فلا مانع لا سيما في مجال التعليم من هذا التفريق والتفضيل - (ا. هـ) .
وتعقيبا عليه أقول: كلامه هذا يتمشى مع مذهب الأشاعرة الذين يفرقون في كلام الله بين المعنى واللفظ فيقولون المعنى قائم بالنفس وهو قديم غير مخلوق وهذا هو كلام الله عندهم.
وأما اللفظ فهو عندهم تعبير عن هذا المعنى من قبل جبريل أو النبي صلى الله عليه وسلم وهو مخلوق - وهذا تفريق باطل (1) - ومذهب أهل السنة سلفا وخلفا أن كلام الله تعالى هو اللفظ والمعنى وكلاهما غير مخلوق لأنه كلام الله تعالى وصفة من صفاته غير مخلوقة. وقوله إن الصحابة علموا هذا التفريق بين اللفظ والمعنى في كلام الله هو تقول على الصحابة ونسبة إليهم ما هم منه براء.
__________
(1) وإن نسب هذا القول في صفحة 154 إلى الإمام الشافعي فهي نسبة غير صحيحة.(26/203)
التعقيب التاسع والعشرون
في صفحة 149 تساءل عن التوسل بجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته أو بجاه من عرفوا بالصلاح والاستقامة بعد وفاتهم هل هو بدعة أو يقاس على التوسل به صلى الله عليه وسلم حال حياته وهو شيء ثابت دلت عليه الأحاديث الصحيحة ومن ثم فهو ليس من البدعة في شيء ولم يجب عن ذلك التساؤل بل ترك القارئ في حيرة والتباس.
وأقول: أولا: التوسل بالجاه ليس عليه دليل أصلا لا في حياته ولا بعد موته فهو بدعة بلا شك.
ثانيا: أما التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم فهو جائز في حياته لأنه يتمكن من الدعاء فيها. ما بعد وفاته فطلب الدعاء منه بدعة ولا تجوز. لأنه لا يقدر على الدعاء ولأن الصحابة لم يفعلوا هذا معه بعد وفاته وإنما كانوا يفعلونه في حال حياته ولا تقاس حالة الحياة على حالة الموت لوجود الفوارق(26/203)
العظيمة بينهما عند جميع العقلاء - وإنما يقيس هذا القياس المخرفون.
وإن كان هو يزعم في صفحة 155 أن هذا التفريق لم يعرف إلا عن ابن تيمية وأن السلف لم يفرقوا ولم تفرق الأدلة بينهما وكأنه لم يقرأ ما ذكره العلماء في هذا الموضوع وما ذكره ابن تيمية في كتاب التوسل والوسيلة عن السلف والأئمة في ذلك، أو أن تحامله عليه أنساه ذلك. ثم إنه نسب إلى السلف ما لم يقولوه وحمل الأدلة ما لا تحمله، ولم يأت بدليل واحد على ما قال وأنى له ذلك.
والواجب أن الباحث أمثال الدكتور البوطي لا يخطئ شخصا ويتحامل عليه حتى يقرأ كلامه وينظر في مستنداته حتى يعرف هل هو مخطئ أو مصيب هذا هو الإنصاف والعدل - ولا ننسى أن الدكتور البوطي له هنات في غير هذا الكتاب حول هذه المسألة قد قام بالرد عليها الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله. ثم إنه في صفحة 146 يهون من شأن هذه المسألة ويقول: هي أقل من أن تصدع المسلمين أو تجعل منهم مذهبيين. وأقول: كلا والله إنها لمسألة خطيرة تمس صميم العقيدة وتجر إلى الشرك فكيف تكون هينة.
وفي صفحة 150، 157 أدخل تحت بدعة التزيد في العبادة الأذان الأول ليوم الجمعة الذي أمر به عثمان رضي الله عنه لما دعت الحاجة إليه.
وهذا منه خطأ واضح فإن عثمان رضي الله عنه من الخلفاء الراشدين وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين (1) » ففعله هذا يعتبر سنة لا بدعة وتزيد، حاشاه من ذلك رضي الله عنه وأرضاه. وهذا ينسينا ما قاله في حق شيخ الإسلام ابن تيمية أنه ابتدع التفريق بين حالة الحياة والموت. إذ إن الخليفة الراشد عنده قد ابتدع وتزيد في الدين.
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(26/204)
التعقيب الثلاثون
في صفحة 160 خلط بين علم الكلام والفلسفة وانتقد شيخ الإسلام(26/204)
ابن تيمية حيث أجاز مناظرة المتكلمين بمثل مصطلحاتهم مع أنه ينكر على الغزالي انشغاله بالفلسفة، وكأنه لا يدري أن علم الكلام غير الفلسفة وأن بينهما فرقا واضحا، وقد انتقد شيخ الإسلام أيضا في صفحة 162، 163 من ناحية أنه يحذر من الإقبال على علم الكلام والمنطق وهو قد تضلع فيهما وناظر بهما.
والجواب عن ذلك أنه رحمه الله يحذر من الاشتغال بذلك من هم على غير مستوى علمي جيد يمكنهم من التخلص من أضرار علم الكلام ولأن ذلك يشغل عن تعلم الكتاب والسنة، فأي انتقاد يوجه إليه في ذلك إلا من صاحب هوى وحقد. ثم إن الشيخ رحمه الله لا ينكر على من تعلم علم الكلام والمنطق من أجل الرد على المضللين وقتلهم بسلاحهم وإنما ينكر على من تعلمهما بغير هذا القصد.(26/205)
التعقيب الواحد والثلاثون
من صفحة 164 حتى صفحة 188 شن هجوما مسلحا على شيخ الإسلام ابن تيمية واتهمه أنه قال بقول الفلاسفة حينما قال إن الحوادث قديمة النوع حادثة الآحاد.
وهذه المسألة قد شنع بها خصوم شيخ الإسلام ابن تيمية عليه قديما وحديثا وقالوا إنه يقول بحوادث لا أول لها. والدكتور في هذا الكتاب اتخذ من هذه المسألة متنفسا ينفث من خلاله ما في صدره من حقد على شيخ الإسلام ابن تيمية لأنه شيخ السلفيين الذين يضايقونه في هذا الزمان - ولكن والحمد لله ليس له في هذه المسألة ولا للذين سبقوه أي مدخل على الشيخ وسيرده الله بغيظه لم ينل خيرا كما رد الذين من قبله. فإن مراد الشيخ رحمه الله أن أفعال الله سبحانه ليس لها بداية لأنه الأول الذي ليس قبله شيء -.(26/205)
(قال رحمه الله: والتسلسل الواجب ما دل عليه الشرع من دوام أفعال الرب تعالى في الأبد فكل فعل مسبوق بفعل آخر فهذا واجب في كلامه فإنه لم يزل متكلما إذا شاء ولم تحدث له صفة الكلام في وقت، وهكذا أفعاله هي من لوازم حياته فإن كل حي فعال، والفرق بين الحي والميت الفعل، ولم يكن ربنا تعالى قط في وقت من الأوقات معطلا عن كماله من الكلام والإرادة والفعل - إلى أن قال: ولا يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه فإنه سبحانه متقدم على كل فرد من مخلوقاته تقدما لا أول له، فلكل مخلوق أول والخالق سبحانه لا أول له فهو وحده الخالق وكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن - إلى أن قال: والمقصود أن الذي دل عليه الشرع والعقل أن كل ما سوى الله تعالى محدث كائن بعد أن لم يكن) ا. هـ.
أما كون الرب تعالى لم يزل معطلا عن الفعل ثم فعل فليس في الشرع ولا في العقل ما يثبته بل كلاهما يدل على نقيضه - هذه خلاصة ما يراه الشيخ في هذه المسألة وهل في ذلك ما يشنع به عليه كما يظنه الدكتور وأضرابه لولا أنه الهوى والحقد أو الجهل والغفلة، فإن بين ما قاله الشيخ في هذه المسألة وبين قول الفلاسفة - فروقا واضحة هي الفروق بين الحق والباطل والكفر والإيمان.(26/206)
التعقيب الثاني والثلاثون
في صفحة 191 - 192 يؤيد عقد حلقات الصوفية التي يسمونها حلق الذكر ويزعم أنه ليس هناك ما يمنع من إقامتها ويقول إن الذكر مشروع.
ونحن نجيبه عن ذلك ونقول له: الذكر لا شك أنه مشروع لكن على الصفة الواردة في الكتاب والسنة، أما إحداث هيئة للذكر لا دليل عليها كالذكر الجماعي أو الأوراد الصوفية التي ليس عليها دليل أو ربما(26/206)
يشوبها شيء من الألفاظ الشركية فهذه لا شك أنها بدعة، وأن الذين يقيمونها مبتدعة داخلون في قوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » والشيء قد يكون مشروعا في أصله لكن الصفة التي يؤدى بها إذا لم يكن عليها دليل فهي بدعة. وقد أنكر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على الذين يجتمعون في مسجد الكوفة وفيهم رجل يقول: سبحوا مائة. كبروا مائة. هللوا مائة، لأن هذه الصفة ليست من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(26/207)
التعقيب الثالث والثلاثون
في صفحة 193 - 195، شنع على الذين ينكرون ذكر الله بالاسم المفرد (الله) ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه وجه إليه قذائف غضبه ولم يصغ إلى حجج المذكورين ومنها أن ذكر الله بالاسم المفرد لم يرد في الكتاب ولا في السنة ولا في هدي السلف الصالح علاوة على أنه لا يفيد شيئا. لأن الاسم المفرد لا يأتي بفائدة حتى يتركب مع جملة مفيدة، وما يزعمه الدكتور أن ذكر الله بالاسم المفرد يدخل في قوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (1)
فنحن نسأله ونريد منه الصدق في الجواب دون مراوغة، هل ورد في سنة من أمره الله بهذا الأمر وهو الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الله بالاسم المفرد إذ لا شك أن سنته تفسر القرآن، أو أن هذا من محدثات الصوفية وفهمهم السقيم، وكثيرا ما يكرر الدكتور أن المخالف في هذه المسألة وغيرها لا يضلل ونحن نقول له: إن المخالف لا يضلل إذا كان لمخالفته مأخذ من النصوص الشرعية: أما إذا كانت مخالفته ليس لها مأخذ من الكتاب والسنة فإنه يضلل لأن الله تعالى يقول: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} (2)
وما دل عليه كتاب الله حق وما خالفه فهو ضلال يضلل من قال به.
__________
(1) سورة الإنسان الآية 25
(2) سورة يونس الآية 32(26/207)
التعقيب الرابع والثلاثون
في صفحة 196 \ 197 يبرر اصطلاحات الصوفية التي منها تفريقهم بين الشريعة والحقيقة ولم يجد دليلا - والحمد لله - لهذا التبرير إلا أن ذلك قول كبار الصوفية كسهل التستري، والحارث المحاسبي، والجنيد - وهذا لا أظنه معهم، وإن حشره معهم - ومعروف الكرخي، فهو بهذا الاستدلال كمن فسر الماء بعد الجهد بالماء (1) ، ثم هل هناك حقيقة تخالف الشريعة حتى يقال الحقيقة والشريعة إلا في اصطلاح الصوفية أن الشريعة للعوام والحقيقة للخواص. وهذا إلحاد واضح، وليت الدكتور لم يدخل هذه المجاهل المخيفة.
__________
(1) حيث استدل على قول الصوفية بأنه قول الصوفية.(26/208)
التعقيب الخامس والثلاثون
في صفحة 201 حتى 212 تحدث عن الصوفية وأحوالهم وأقوالهم وحاول الدفاع عنهم بكل ما أوتي من قوة والاعتذار لهم بكل ما استطاع من عبارة حتى عمن قال منهم: ما في الجبة إلا الله. وعمن قال منهم: ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك. ورغم ما تحمله هاتان العبارتان من كفر وضلال حاول تأويلهما بما لا داعي للإطالة بذكره.
لأن هاتين العبارتين تنبئان عن نفسهما ولا تقبلان التأويل؛ فإن قول القائل: ما في الجبة إلا الله صريح في الحلول أو الاتحاد، وقوله: ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك مخالف لهدي الأنبياء جميعا حيث وصفهم الله بأنهم يدعونه رغبا ورهبا، ومخالف لصفة المؤمنين الذين يدعون ربهم خوفا وطمعا - ولا يعني هذا أنهم لا يعبدونه إلا من أجل الخوف والطمع. فقط بل هم مع ذلك يحبونه حبا شديدا ويذلون له كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} (1)
وقال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (2)
__________
(1) سورة البقرة الآية 165
(2) سورة المائدة الآية 54(26/208)
ولا تصح العبادة إلا باستكمال هذه الأركان: المحبة والذل والخوف والرجاء.
ثم حاول الدفاع عن ابن عربي وما في كتبه من القول بوحدة الوجود.
ففي هامش صفحة 104 - 105 قال: إنه لا يجوز تكفيره بموجب كلامه الذي فيه الإلحاد الصريح حتى يعلم ما في قلبه هل يعتقد ما يقول أو لا - ولو صح قول الدكتور هذا ما كفر أحد بأي قول أو فعل مهما بلغ من القبح والشناعة والكفر والإلحاد حتى يشق عن قلبه ويعلم ما فيه من اعتقاد. وعلى هذا فعمل المسلمين على قتال الكفرة وقتل المرتدين خطأ على لازم قول الدكتور لأنهم لم يعلموا ما في قلوبهم وهل هم يعتقدون ما يقولون وما يفعلون من الكفر أو لا.
واسمع عبارته في ذلك حيث يقول: " وخلاصة المشكلة أنه (يعني شيخ الإسلام ابن تيمية) ومن يقلده في نهجه يظلون يأخذون ابن عربي وأمثاله بلازم أقوالهم بدون أن يحملوا أنفسهم على التأكد من أنهم يعتقدون (1) فعلا ذلك اللازم الذي تصوروه ثم قال: أما أن يكون في كتب ابن عربي كلام كثير يخالف العقيدة الصحيحة ويوجب الكفر فهذا ما لا ريبة فيه ولا نقاش فيه، وأما أن يدل ذلك دلالة قاطعة على أن ابن عربي كافر وأنه ينطلق في فهم الشهود الذاتي من أصل كفري هو نظرية الفيض فهذا ما لا يملك ابن تيمية ولا غيره أي دليل قاطع عليه، انتهى. وإنما سقت هذا المقطع من كلامه لإطلاع القارئ على ما فيه من تخبط وتناقض ومناقضة لأدلة الكتاب والسنة وعمل المسلمين على كفر من قال كلمة الكفر غير مكره قال تعالى: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} (2)
ويلزم من هذا أيضا أنه لا يحكم بإسلام كافر، إذا نطق بالشهادتين
__________
(1) سبحان الله ومن يعلم عقائدهم.
(2) سورة التوبة الآية 74(26/209)
حتى يعلم ما في قلبه هل يعتقدها أو لا؟ ولوازم هذا كثيرة، ويلزم عليه أن من دعا غير الله لا يكفر حتى يعلم ما في قلبه، ثم اعتذر عن ابن عربي بأن في كتبه كلاما آخر يناقض كلامه الكفري، ونحن نقول له إجابة عن ذلك هل ثبت لديك أنه رجع عن كلامه الكفري وأنه كتب هذا الكلام الذي يناقضه بعد ما تاب أو أنه كتبه من باب التغطية والتلبيس. ثم أنت لم تأت بشاهد على ما قلت من كلامه.
ثم قال: وإذا أبى ابن تيمية رحمه الله إلا أن يحملنا على تكفير ابن عربي استدلالا بالضلالات الفلسفية التي انزلق فيها، ويعني بذلك المسألة التي سبق ذكرها وهي قول الشيخ أن أفعال الله سبحانه ليس لها بداية.
ونقول: يا سبحان الله هل وصف الرب بما يستحقه من الكمال بدوام أفعاله وكماله أزلا وأبدا وتنزيهه عن التعطيل الذي وصفه به أهل الضلال من قولهم (إنه تعالى الله عما يقولون) مضى عليه وقت لم يفعل شيئا ثم حدث له الفعل بعد ذلك هل هذا هو قول الفلاسفة الذين يقولون بقدم العالم وإنكار الخالق، إن الضلال هو قول من يعطل الله من أفعاله ويضرب له مدة لا يفعل فيها شيئا كما هو قول علماء الكلام.
وإن قول ابن تيمية هو الحق وقول أهل الحق، وأين خطؤه لو كان خطأ على فرض من كفريات ابن عربي وقوله بوحدة الوجود وأن من عبد الأصنام ما عبد إلا الله - ثم إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم ينفرد بتكفير ابن عربي بل قد كفره كثير من العلماء حتى من الصوفية واقرأ مؤلفاتهم في ذلك منها كتاب - تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي للباقعي وغيره من الكتب. وللشيخ تقي الدين الفاسي رسالة مستقلة في تكفير ابن عربي وذكر من قال بذلك من العلماء وهي مطبوعة ومتداولة، فإذا كان بإمكان البوطي أن يكفرهم فليفعل.(26/210)
التعقيب السادس والثلاثون
في صفحة 236 كتب عنوانا بلفظ: (التمذهب بالسلفية بدعة) وهذا الكلام يثير الدهشة والاستغراب - كيف يكون التمذهب بالسلفية بدعة والبدعة ضلالة. وكيف يكون بدعة وهو اتباع لمذهب السلف، واتباع مذهبهم واجب بالكتاب والسنة وحق وهدى قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} (1) الآية. .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين (2) » الحديث.
فالتمذهب بمذهب السلف سنة وليس بدعة، وإنما البدعة التمذهب بغير مذهبهم. وإذا كان قصده أن التسمي بهذا الاسم حادث كما يظهر من كلامه ولم يكن معروفا من قبل فهو بدعة بهذا الاعتبار، فمسألة الأسماء أمرها سهل والخطأ فيها لا يصل إلى حد البدعة، وإن كان قصده أن في الذين تسموا بهذا الاسم من صدرت عنهم أخطاء تخالف مذهب السلف فعليه أن يبين هذا دون أن يتناول السلفية نفسها، فالتسمي بالسلفية إذا كان يعني التمسك بمذهب السلف ونبذ البدع والخرافات فهذا شيء محمود وطيب. كما قرر هذا هو في صفحة 233 حيث قال عن حركة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وتسميتها بالسلفية: فقد كان الشعار الذي رفعه أقطاب هذه الحركة الإصلاحية هو السلفية، وكان يعني الدعوة إلى نبذ كل هذه الرواسب التي عكرت على الإسلام طهره وصفاءه. هذا ما قاله عن تلك الحركة وتسميتها بالسلفية، ولم يعب عليها هذا التسمي نظرا لسلامة أهدافها - فنقول له: وهل السلفية اليوم تعني غير ذلك.
__________
(1) سورة التوبة الآية 100
(2) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(26/211)
التعقيب السابع والثلاثون
وفي صفحة 236 - 237 عبر عن دعوة الشيخ محمد بن(26/211)
عبد الوهاب رحمه الله بالمذهب الوهابي وقال: إن الوهابية تبرموا من هذه الكلمة لأنها توحي بأن ينبوع هذا المذهب بكل ما تضمنه من مزايا وخصائص يقف عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فدعاهم ذلك إلى أن يستبدلوا بكلمة الوهابية هذه كلمة السلفية. . إلخ. . ما قال. .
والجواب أن نقول: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ليس له مذهب خاص به يدعى بالوهابية؛ لأنه في العقيدة على منهج السلف وفي الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل الذي كان عليه علماء نجد من قبله وفي عصره ومن بعده. وأتباعه لم يتسموا بالسلفية وإنما يدعون إلى التمسك بمذهب السلف ويسيرون عليه بدون تسمية؛ لأن العبرة بالحقائق لا بالأسماء. ولأن التسمي بذلك فيه تزكية للنفس وهم لا يزكون أنفسهم، وأنا أطلب من الدكتور البوطي أن يأتي بما يدل على ما ادعاءه عليهم من كتبهم ومقالاتهم أنهم سموا أنفسهم بالسلفية، كما أطالبه أن يأتي بما يثبت أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أتى بمذهب جديد ينسب إليه، وإذا لم يأت ولن يأتي بذلك فإنه مفتر على الشيخ وعلى أتباعه. والله يجزي المفترين.(26/212)
التعقيب الثامن والثلاثون
في صفحة 239 - 240 تكلم عن زيارة القبر النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام فقال: ولكم اتهمنا واتهم كثير من المسلمين من أهل السنة والجماعة بالابتداع والمروق لأننا ذهبنا إلى ما ذهب إليه الجمهور من علماء السلف وغيرهم من أنه لا ضير في أن يعزم الرجل على زيارة كل من قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومسجده - كذا قال - والجواب أن نقول: إن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم من غير سفر سنة وليست بدعة - ولم يقل أحد إنها إذا كانت على هذه الصفة بدعة ومروق. أما السفر لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم فهو بدعة؛ لأنه لا يجوز السفر لأجل زيارة القبور لا قبر(26/212)
النبي صلى الله عليه وسلم ولا قبر غيره من الأولياء والصالحين أو الأقارب لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى (1) » . وعملا بهذا الحديث لم يكن السلف والأئمة الأربعة وغيرهم من الأئمة المقتدى بهم يسافرون من أجل زيارة القبور. وقد أوغل الدكتور في الخطأ حين ادعى أن مذهب الجمهور من علماء السلف وغيرهم أنه لا ضير في أن يعزم الرجل على هذا، فإن كان قصده العزم على السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فعلماء السلف ينهون عما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم من السفر لزيارة القبور عموما. قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره.
ثم إن الدكتور خطأ شيخ الإسلام ابن تيمية في استدلاله بالحديث المذكور على منع السفر لزيارة القبور وسماه غلطا عجيبا انزلق فيه الشيخ حيث قال: ويترتب على هذا الغلط العجيب الذي انزلق فيه ابن تيمية رحمه الله أن الإنسان لا يجوز له أن يشد الرحل إلى زيارة رحم أو إلى طلب علم أو إلى انتجاع رزق؛ لأن هذه الأشياء كلها خارج المساجد الثلاثة، ونحن نقول له بل الغلط العجيب ما انزلق إليه فهم الدكتور؛ لأن الحديث الشريف يعني منع السفر إلى بقاع مخصوصة لأجل التعبد فيها أو عندها غير المساجد الثلاثة، سواء كانت هذه البقاع مساجد أو قبورا أو غيرها.
أما السفر لزيارة الرحم أو طلب العلم أو طلب الرزق فلم يدخل في مدلول الحديث أصلا.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .(26/213)
التعقيب التاسع والثلاثون
في صفحة 241 قال عن سبب صبر الإمام أحمد على تحمل محنة القول بخلق القرآن: (وإنما كان سبب المحنة التي تعرض لها الإمام دون غيره هو ورعه الشديد الذي منعه أن يفصل ويفرق بين اللفظ والمعنى) .
والجواب نقول له:(26/213)
أولا: لم يكن الإمام أحمد وحده الذي تعرض لهذه المحنة بل شاركه في ذلك خلق كثير من العلماء منهم من قتل في ذلك ومنهم من عذب وأوذي لكن يظهر أن الدكتور لم يقرأ التاريخ.
ثانيا: ليس هناك تفريق بين معنى القرآن ولفظه كلاهما كلام الله منزل غير مخلوق والتفريق بينهما بأن يقال المعنى غير مخلوق واللفظ مخلوق، هذا قول المبتدعة لا قول أهل السنة. فالإمام أحمد لم يفرق بينهما لأنه كغيره من الأئمة لا يرى فرقا بينهما ولا يعتقد عقيدة الأشاعرة.(26/214)
التعقيب الأربعون وهو الأخير
في صفحة 256 - 257 استنكر الرد على كتاب الذخائر المحمدية لمحمد علوي مالكي وبيان ما فيه من الضلالات. وقال إن محمد علوي من أهل السنة والجماعة، ولم يقرأ الناس في تآليفه وكتاباته، ولم يروا من واقع حاله إلا ما يزيدهم ثقة باستقامة دينه وصلاح حاله وسلامة عقيدته.
والجواب أن نقول له: الواجب عليك أن تنظر محتويات كتب هذا الرجل وتعرضها على الكتاب والسنة وعلى عقيدة السلف لتعرف مدى مطابقتها أو مخالفتها لهذه الأصول. ولا تعتمد على قراءة الناس، وإنما تنظر أنت هل المعترض عليه مصيب أو مخطئ - هذا ما يتطلبه الباحث المنصف الذي يحترم ما يقول ويكتب دون التهجم على من اعترض على علوي قبل معرفة وجهة اعتراضه. ثم هل كون الرجل من أهل السنة والجماعة ومن أهل الاستقامة هل ذلك يمنع من الاعتراض عليه إذا أخطأ.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبيا محمد وعلى آله وصحبه.(26/214)
الشباب
والتيارات المعاصرة
بقلم د. محمد بن سعد الشويعر
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الهادي البشير النذير، سيد الأولين والآخرين، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على دربهم، واقتفى أثرهم إلى يوم الدين. أما بعد: -
فإن الحديث في موضوع كهذا، له أهمية كبيرة من حيث الاستيعاب والاستعداد؛ لأن ما يعترض الشباب، ويشوش أفكارهم، وخاصة في عصرنا الحاضر، الذي تكاثرت فيه التيارات المتعارضة، بحيث أصبحت الأفكار المتصارعة من نماذج متعددة، سمة من سمات العصر الذي نعيش فيه، يجب أن تؤخذ الأهبة له.
ولذا فإن على المهتمين بتأدية الأمانة العلمية والقيادية واجبا يحسن بهم أن يأخذوا الحيطة من أجله. وجهودا يجب أن يبذلوها من أجل حماية الشباب، وتحصين عقولهم من تلك الأفكار المسلطة. وتنقية أفكارهم عن تلك التيارات الجارفة. وإحلال أذهانهم بأفكار إسلامية مكانها، حتى يكون لدى الشباب في البيئة الإسلامية مناعة في التصدي، وقدرة على المجابهة.(26/215)
وهذا الموضوع في نظري هام وخطير، وأستميح القارئ عذرا فيما قد يبدر من قصور، أو يلمس من نواقص؛ لأن الإحاطة بجوانب هذا الموضوع، والاستشهاد بالوقائع، يحتاج لقدرة أمكن، واطلاع أكثر. . ولذا فإن ما أطرحه في هذه العجالة، ما هو إلا جهد المقل، مسترشدا بالتعليق والإضافة والتوضيح والإبانة ممن له إحاطة ودراية. . ورحم الله امرءا عرف قدر نفسه، إذ حسبي في هذا التعرض الحماسة والرغبة في المشاركة، وطرح الموضوع للإبانة عن أهمية الحاجة إلى حلول مريحة، تطمئن الأمة على شبابها، وتعين في حمايتهم من المخاطر المحدقة بهم.
ذلك أن شباب اليوم يمرون بعقبات متعددة، وتحيط بهم مدلهمات خطيرة، وتكتنفهم تيارات عديدة أكثر مما أحاط بشباب الأمس؛ لأنه قد ركز نحوهم غزو متعمد، بقصد بلبلة أفكارهم، ونصبت لهم الشباك بطرق شتى لمباعدتهم عن دينهم، وتشكيكهم في قدرة شرائعه على حل ما يعترضهم، ومحاولة صم آذانهم عن فهم تعاليمه فهما صحيحا، أو أخذها من مصادرها الموثوقة.
ولذا فإن الحماية من تلك الأخطار تحتاج إلى جهد يبذل، وعمل يتواصل وجهود تتضافر، مع فهم عميق، وإدراك وروية.
شباب اليوم انفتحت أمامهم مصادر المعرفة، وتكاثرت عليهم الآراء المتباينة. وانتشرت في ثقافاتهم الأفكار والنوايا المغرضة، التي يراد بها تشكيك المسلمين في دينهم، وانحرافهم عنه، ما بين مسموع ومرئي ومقروء.
وقد تعددت المصادر التي تأتي منها الأفكار والعلوم، وأصبحت المعرفة الموجهة إلى الشباب ذات أبعاد متنوعة من فكرية إلى عقدية إلى مادية وابتزاز، إلى ملذات ودعوة لتسليم النفس قياد الهوى، والنفس أمارة بالسوء.(26/216)
ترابطت أطراف العالم بثقافاته، وتشابكت الطرق المؤدية لذلك، وتعددت الوسائل الحاملة لهذه الثقافات، وخلف كل ثقافة بعدا عميقا في الجذور العقدية، والمنطلقات الفكرية. وغالبها خلفه أيد نشطة تحركه وتعذيه، وتدفع في سبيله الشيء الكثير من جهد ومال ووقت وتخطيط.
أصبحت وسائل الثقافة الموجهة، متوفرة في كل صقع من الأرض، بل دخلت كل بيت في أنحاء المعمورة، حتى أكواخ الفقراء، ومضارب البادية، وحصون النساء المخدرات، لقد تسربت إلى كل مكان تحركها عوامل متعددة: من نفس وهوى وشيطان. . وشياطين الإنس أشد خطرا من شياطين الجن.
أصبحت وسائل الثقافة اليوم سلاحا ذا حدين في التوجيه والاهتمام، وهو إن روعي فجانب خير ومفيد. . وهذا لن يتأتى إلا بجهود مبذولة في التوجيه والإعداد، ومغالبة للنفس في العمل، وهو قليل في أرض الله الواسعة، إلا ما رحم ربي.
وجهود أخرى في المراقبة والحيطة. . وهذا الجانب المهم، مهما بذل فيه فإن له طرقا للإفلات يدركها المتمرسون فيه، والمدفوعون إلى ترويجه لأي هدف، وبأي مصلحة شخصية أو جماعية.
وعندما نجيل النظر، فإننا لا نجد شخصا لا يملك جهاز راديو، أو يحتفظ بجهاز للتسجيل، كما أن الأجهزة المرئية من تلفاز وفيديو، وغيرها قد سرت في المجتمعات الإسلامية سريان النار في الهشيم.
أما الصحف والثقافات المتعددة، المهتمة بالصورة المثيرة، والمعلومات التي تتلاعب بأوتار الحواس عند الشباب، وتثير العواطف والشهوات، فهي المصدر المحبب إليهم أخذا من قول الشاعر:
منعت شيئا فأكثرت الولوع به ... أحب شيء إلى الإنسان ما منعا
فكان لا بد من معرفة ذلك، ثم التعرف على السبل المعينة على حماية(26/217)
المجتمع، وتسليح الفرد لمجابهة تلك الأخطار المحدقة والأعمال المسلطة.
فالإنسان لا بد أن يكون حذرا مستعدا للمعركة بما يناسب المقام من سلاح وقوة: قوة في الفهم والإدراك، وقوة في الحجة ورد الشبهات، وسلاح يقارع به ما سلط نحوه، وما نصب له من أهداف، كما يقال في المثل العربي: إذا لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب. والموجه للأمة الإسلامية شرور كثيرة يجب أن يتقى سلاحها بالتحصن والمدافعة. مع الحذر والحيطة.
ونستطيع أن نجمل مسارب التيارات المعاصرة في الأمور التالية:
الهجمة الشرسة على الإسلام والعداء للمسلمين.
قسر الأمور الإسلامية حتى توافق الأهواء.
التشكيك في التشريعات الإسلامية.
ما تنطوي عليه أفكار المبشرين والمستشرقين.
الحرب على اللغة العربية.
تسليط المغريات، والترغيب في الملذات.
إظهار شعارات مختلفة لتكون مجالات للترابط والتقارب مع الإسلام.
إيجاد هوة بالنفرة بين الشباب وبين قادتهم وعلمائهم.
تحريك النزعات العقدية، والنزعات العرقية.
تجسيم التيارات الفكرية، ونشرها وتمجيد أصحابها.
تبني التيارات الأدبية بمذاهبها وأهدافها.
تثبيط همم الشباب، وتشكيكهم في قدرة أمتهم الإسلامية في مسايرة الأمم الأخرى حضاريا وعلميا.
وسوف نمر بكل واحد من هذه الأمور على عجل، لأن الوقت المخصص لا يسمح بالإطالة والاستقصاء لعل من معرفة الداء، يوفقنا الله(26/218)
للوصول إلى الدواء، واستعماله فأقول وبالله الاستعانة:(26/219)
1 - الهجمة الشرسة على الإسلام: فمنذ أن أشرقت أنوار الإسلام الساطعة في بطاح مكة والهجمة عليه وعلى رسول الهداية شرسة، ونارها مستعرة: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} (1) .
لكنها في العصر الحاضر أخذت طرقا أخرى كاختلاق الأوصاف والنعوت للمنتمين إليه، والحريصين على التمسك بشعائره. ذلك أن يقظة المسلمين، وعودتهم لصفاء تعاليم دينهم، النقية من الشوائب والرجوع لكتاب الله، والصحيح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أمر لإبعاد ما أدخل على الإسلام في عصور الجهل والتقليد.
هذه الأمور تقض مضاجع أعداء الله، وأعداء دينه في كل مكان، وفي مقدمتهم إمامهم وزعيمهم إبليس اللعين، الذي أخذ على نفسه عهدا بصد عباد الله عن الطريق المستقيم، بعد ما أعطاه الله الوعد بالإنظار إلى يوم الدين، فقال جل وعلا، على لسان عدو الله، وعدو عباده:
{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (2) {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (3) .
وفي سورة أخرى جاء قول الله تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (4) {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (5) .
ويسهل مهمته أعوانه من شياطين الإنس والجن، الذين: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (6) .
إذ نلمس فيما يقدم من آراء وأفكار تنال الإسلام وشرائعه أن خلفها
__________
(1) سورة التوبة الآية 32
(2) سورة ص الآية 82
(3) سورة ص الآية 83
(4) سورة الأعراف الآية 16
(5) سورة الأعراف الآية 17
(6) سورة الأنعام الآية 112(26/219)
اختلاقا وترويجا ومتابعة مصدرها اليهود منذ بعث صلى الله عليه وسلم وحتى اليوم.
ولذا فإن الشيطان يفتح لأوليائه طرقا في الهجوم على الإسلام بأساليب متنوعة ذات ملمس لين، ومخبر سيئ، يخاطب بها عقولا متباينة، فيعطي لكل عقل ما يتلاءم معه إدراكا وتفكيرا، ويفتح له مغاليق الرغبات والنزعات، ليرضي أثرة في نفس ذلك الشخص، ويحببب إليه العلو والتسلط.
ولذا نهى جل وعلا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم عن سب آلهة الذين كفروا، لأن هذا يدفعهم إلى التعصب الأعمى، فيسبوا الله عدوا بغير علم.
ومن تنزيه الله تبارك وتعالى عن سفههم المقيت، جاء الأمر الرباني بتوجيه أكرم خلق الله، والمؤمنين المتبعين له، بأن يكونوا قدوة صالحة، ونموذجا فريدا حتى يحتذي الآخرون ذلك المنهج، فقال جل وعلا: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) .
ولن تتوقف تلك الهجمات ما دام في الدنيا خير وشر، إلا أن المسلمين يستطيعون التصدي لذلك بفهم دينهم، حيث تنمو الحجة، لتقطع بالبرهان، والدليل القوي.
وفي هذا الموقف فإن على الشباب دورا هاما في تقوية الملكة: تعلما وتدريبا وسؤالا وأخذ منهج القرآن الكريم في التوجيه وطريقة النقاش نبراسا، ومشعل هداية. لأن في تعليماته خير مدرسة، وفي نقله صورة ما حصل من المشركين واليهود من حوار وشبهات، وإجابة على ذلك خير معين، يشد العزائم، ويقوي النفوس، فيما تريد المسيرة نحوه، حيث طرحوا أقوى ما لديهم من شبهة، دحضت بالحجة القوية والدليل المقنع.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 108(26/220)
يدرك هذا كل من لديه عقل سليم، وفهم عميق: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} (1) .
__________
(1) سورة النساء الآية 87(26/221)
2 - محاولة قسر الأمور الإسلامية حتى توافق الأهواء: وفي هذا الجانب يحاول المتربصون بالإسلام وأهله تحريك أنصاف المتعلمين وأرباعهم باستثارة نقطة معينة أمامهم. ليفسروا الأمور المحيطة بهم، بما تصف الأهواء، ويلين في الألسن، تقليدا لأهل الكتاب في بدء إعراضهم عما جاءتهم به رسلهم من الهداية والنور المبين، واستهانة بشرع الله، ومخالفة رسله فيما أمروا به، فيسايروهم في ذلك الأمر، ويسيروا خلفهم حذو القذة بالقذة.
والشباب تبهرهم مسارات الأمم الأخرى، وما لديهم من مظاهر براقة، فيلتفون حول كل دعوة تربط الجديد في حياتهم بالدين، والمظاهر المدنية بنصوص الشرع، وقد لا يميزون بين الصحيح المقنع، والغريب المتكلف.
ففي فترة من الزمن برزت على الساحة الثقافية كتب كثيرة تمجد الاشتراكية وتصفها بأنها من الإسلام، وأن الدين الإسلامي يدعو لها، وقد أخرجت كتب باسم أبي ذر الغفاري ووصفه بأنه أول اشتراكي في الإسلام، وقسرت دراسات وأفكار لتتفق مع ما يدعو له زيد وعبيد، لشحن الأذهان بأن ما دعا إليه هو متلائم مع الإسلام، وضربت النماذج برجال من الزهاد وأهل الورع والتقى كأهل الصفة الذين منهم أبو هريرة، وبمكانة بعض الصحابة كبلال ومصعب بن عمير وغيرهما.
وما أكثر اغترار شباب ذلك الجيل بالعبارات المنمقة والأساليب الخداعة، والتأثر بالأسماء اللامعة من الأدباء والعلماء الذين كتبوا وشجعوا. وكأنه قد خفي على هؤلاء وأولئك منحى الإسلام في تصريف المال، وطريقته في حماية الفرد والجماعة وما تعنيه اشتراكية كارل ماركس(26/221)
اليهودي، من أمور أساسها وقوامها فكرة الإلحاد في العقيدة، وإنكار وجود الله جل وعلا وتقدس وتعظم، عما يقول الظالمون علوا كبيرا، ويستطيع الشاب اليقظ أن يدرك حقيقة ما يطرحون لأنهم يسمونه نظرية، والنظرية تعرف بأنها ما يقبل الخطأ والصواب، أما المسلم فيعتبر القرآن والسنة في الشريعة حقيقة لا يتطرق إليهما الشك. فالحقيقة تنفي النظرية والشباب في كل عصر ومصر تتجدد أمامهم أمور، ينبري لتبنيها أصحاب الأهواء، وتنطلي بمظهرها على ضعاف الثقافة، وبسطاء الإدراك.
والحق لا يتبع الأهواء، ولا يخضع للرغبات الشخصية، كما قال جل وعلا: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} (1) .
والجهلة من العلماء أو المتجاهلون، هم المطية التي يركبها أعداء الله وأعداء دينه وفي مقدمتهم اليهود، لتحقيق المآرب، وهم الدمية التي تحرك من وراء الستار لتدار في الاتجاه الذي يريده المتخفي. لأن أعداء دين الله يدركون عدم قبولهم في المجتمع الإسلامي، وعدم الإصغاء لما يقدمون من وجهة نظر، بل العكس محاربة كل ما يأتي عن طريقهم ومقته، كما قال بذلك أحد المستشرقين عندما حاول دراسة نفسيات المسلمين في دولة إفريقية فقيرة.
ولقد استغل هذا المركب الاستعمار في بعض ديار الإسلام، فارتفع قدر الدور الصوفي وزاد الاهتمام بالطرقية في البلاد التي دخل، وشجعت الفرق الصغيرة الخاملة لتكون ذات صوت إسلامي كالقاديانية والبهائية وغيرهما، ووجدوا في الشباب خير معين في تحقيق الهدف الذي قصدوه: لحماستهم، واندفاعهم، وسطحية ما لديهم من معارف وعلوم. فأصبح البغاث مستنسرا في ديار الإسلام، ونجح أعداء الله في تغذية مجال التنافر
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 71(26/222)
والتناحر بين المسلمين، وهم بذلك مدركون حقيقة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من إدراك المسلمين له، وذلك عندما قال صلى الله عليه وسلم: «سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني الثالثة: سألت ربي ألا يهلك أمتي بسنة عامة، فأعطانيها، وسألته ألا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها وسألته ألا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها (1) » أخرجه الترمذي ومسلم عن خباب بن الأرت رضي الله عنه.
__________
(1) سنن الترمذي الفتن (2175) .(26/223)
3 - التشكيك في التشريعات الإسلامية، وفي قدرتها على مواءمة الحياة الحاضرة: بحجة أن العصر قد تطور، وأن متطلبات الحياة، وأسلوب تعامل الناس فيها، يدعو إلى الأخذ بما في حياة الأمم من أسلوب في التعامل القانوني والربوي والاجتماعي والإداري والتربوي، وتنظيم الضرائب والغرامات والتأمينات إلى غير ذلك من أمور حسبها أصحابها جديدة، وأن الإسلام بعيد عن الأخذ بها، لأنهم لم يفهموه، وقصر بهم علمهم عن استظهار ما تنطوي عليه شريعة الإسلام من أمور تحل بها المشكلات الاقتصادية وغيرها مما بدأ وسيجد في تنظيم الحياة، وتسيير أمور الناس فيها، وغاب عنهم مفهوم قول الله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (1) .
وشمولية هذا الدين الذي جعله الله خاتم الأديان، في حل كل معضلة تعترض أو مشكلة تنشأ فوصفوا الإسلام وتشريعات الله فيه، بما وصفوا به دياناتهم النصرانية واليهودية وغيرهما، مما دخلته يد الإنسان تعديلا وتبديلا. وهم بذلك يريدون إلباس الثوب الجاهز في انتقاداتهم لدياناتهم وتصرف رجال الكهنوت فيها وتعديلات العلماء ورجال الدين في تشريعاتهم وما أنزل عليهم من كتب، برسالة الإسلام والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وما جاء في القرآن الكريم الذي حفظه الله من العابثين، وحماه من
__________
(1) سورة الأنعام الآية 38(26/223)
أصحاب الأهواء. فهم قد وجدوا في أحبارهم ورهبانهم صفات وأعمالا متباينة، جعلت العقلاء والمفكرين يعددون مآخذ كثيرة مما أوجد في تاريخهم الطويل - لمن يقرؤه - ثورات متعددة على الكنيسة وحماتها، والمنتفعين من ورائها. بدءا بمحاكم التفتيش والتسلط ونهاية بالثورة العلمية، حيث اتجهت أفكار شبابهم إلى المبادئ والأيديولوجيات المختلفة من: علمانية في العقيدة، ورأسمالية في المال والعمل، إلى إلحادية في العقيدة واشتراكية في المال والتوجيه. ثم تبع ذلك أفكار ومبادئ متعددة كالماسونية والوجودية وغيرها كثير، " إذ خلف كل مبدأ غاية وهدف يرمي إلى جذب المنتمين إليه ".
وما ذلك إلا أن عقولهم كانت فارغة من الإيمان بالله، ومما تعنيه قوة الإيمان، وناقصة في فهم العقيدة الصافية الصادقة بتوجهها لله، حيث يحث على ذلك الإسلام وتجعل تعاليمه سياجا يحمي النفوس من المؤثرات.
وإذا كان قد جاء في المثل العربي: كل إناء بالذي فيه ينضح، وقولهم: كل ينفق من معين داره. فإنما يتحمسون له من باطلهم، جعلهم يلفقون التهم حول الإسلام تشكيكا وافتراء وتهويلا، وتلبيسا على الذين لا يعرفون شيئا عن تعاليم الإسلام وأثرها في حياة الفرد ونماء المجتمع، واستقامة شئون الحياة.
في الوقت الذي انساق معهم ضعاف القدرة العلمية، والتمييز والإدراك، لأبعاد ما طرح أمامهم، كجزء من الاستجابة للتيارات(26/224)
الموجهة.
ووافقهم عليه المنبهرون بمظاهر حضارتهم، المنخدعون بلحنهم في القول، وما جسموه من أوهام، في مثل نعتهم آثار الحدود الشرعية في الإسلام: في الزنا والسرقة، وشرب الخمر والردة عن الإسلام وغيرها بنعوت عديدة كالقسوة والظلم والوحشية، وأن البدائل التي لديهم أرحم وأكثر التصاقا بالإنسانية، وتوجيها للمنحرف.
ودورنا في هذا تعبئة أذهان الشباب وثقافاتهم، بالنظرة الشمولية من الإسلام، واهتمامه بحفظ الفرد والجماعة، وصيانة الأعراض والأموال، بوضع الحواجز التي تردع جماح النفوس، وتحمي الحقوق عن التعدي أو التطاول، ومناقشتهم من المنطلق الذي يعرفونه بآثار الجريمة والاعتداءات في ظل نظام الإسلام، بعد مقارنتها بما لديهم في بيئاتهم، إذ جعل الله لكل تشريع حكمة وغاية.
والشباب هم الأرض الخصبة لهذه الشبه، وهم أيضا الدرع الواقية، إذا عرفوا وأدركوا نظرة الإسلام لهذه الأمور، ليذبوا عن دينهم شبهات المبطلين، ويحموا مجتمعهم من نفثات المغرضين الحاقدين، ويوضحوا لغيرهم خفايا ما يقال حول الإسلام، إذا صدروا في فهمهم عن علم حقيقي مستمد من الفطرة الإسلامية الشمولية لكل أمر يطرح.(26/225)
4 - ويدخل في النقطة السابقة: ما تنطوي عليه أفكار المبشرين، وما تنفثه سموم المستشرقين: نحو تراث الإسلام، وما جاء في تعاليم الإسلام بمصدرية، حيث نلمس أمثال ذلك عند: غوستاف لوبون الفرنسي، وجولد زيهر الألماني، وصموئيل زويمر القس الإنجليزي، الذي قيل عن أصله بأنه يهودي، ووول ديورانث صاحب قصة الحضارة، وغيرهم كثير.
أوائلهم وأواخراهم من الذين هاجموا الإسلام وأرادوا تقويض دعائمه بكل(26/225)
ما أوتوا من قدرة علمية، في الكتابة والتدريس وفي المناقشة، ووضع الشبهات أمثال:
-تعدد الزوجات، ووصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة ومن جاء بعدهم بنعوت منها الشهوانية والتلذذ، وامتهان كرامة المرأة.
-إطلاق الحرية للمرأة بالاختلاط في العمل، والعلاقة بمن تشاء، والتصرف بنفسها بما تريد ما دامت تجاوزت الثامنة عشرة، ووصفهم الإسلام بالتحجير والتضييق على حركة المرأة وفكرها.
-اتهامهم عائشة رضي الله عنها بالفحش رغم أن القرآن الكريم برأها، كما هي تهمتهم من قبل لمريم عليها السلام، واختلاق الأكاذيب حول مواقف إسلامية لكثير من القادة الإسلاميين كخالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، وصلاح الدين الأيوبي وغيرهم. والكذب في سير حياتهم بأن رغبتهم في القتال أساسه الحرص والاهتمام بالحصول على نساء من يقاتلون، بحيث يطرحون شبهات حول شرعية الجهاد وتحويله إلى رغبات شخصية لا حبا في نشر دين الله، وإعلاء كلمة التوحيد، ومحاربة ما نهى الله عنه من عقائد ومعتقدات.
-إشاعتهم أن الإسلام لم ينتشر إلا بالسيف والقوة، واصفين المجاهدين(26/226)
في سبيل الله بحب القتل من أجل التسلط والسيطرة وكسب المغانم، ووصفهم الحدود الشرعية بالقسوة وامتهان كرامة النفس البشرية.
-ترغيبهم في الخمر والزنا واللواط، وأن ذلك لم يحرم في الإسلام إلا لسبب انتهى وقته، وزالت المؤثرات الداعية إليه.
-تشكيك أبناء المسلمين ممن يسافر إليهم للدراسة أو العمل أو السياحة حول لحم الخنزير، وأنه حرم في الإسلام لعلة صحية أمكن السيطرة عليها بالطب الحديث، وأساليب الطهي والتعقيم.
-فريتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه تعلم على أيدي اليهود والنصارى في الشام والمدينة، وأنه استقى ما في القرآن الكريم - الذي يصفونه بأنه كتاب ألفه محمد. كما ذكر صاحب المنجد وغيره - من علومهم متأثرا بما تلقى عنهم، حيث جاء من أكاذيبهم بأن محمد صلى الله عليه وسلم تعلم على أيدي اليهود والنصارى ليوهموا من يقتنع بكلامهم أن الدين الإسلامي تبع لدياناتهم، وأن القرآن الكريم أصله ما في أيديهم من التوراة والأناجيل المحرفة، ومن هذا الكلام يتوصلون إلى الاهتمام بالأصل وترك الفرع، الذي يعنون به القرآن الكريم. وصدق الله جل وعلا في قوله الكريم:
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} (1) .
-تشبيههم حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما يأتيه الوحي بالمصروع أو بمن مس من الجن. وهذا من المساس بالوحي وبرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقصد الإنقاص من مكانتها في النفوس.
-تشويههم لتاريخ الإسلام، ووصفه بنعوت منفرة ومشككة في صحة نوايا قادة الإسلام وعلمائه، كوصفهم لهارون الرشيد بأنه زير نساء وتجسيمهم الرق في الإسلام، وخوضهم في سير رجالات الإسلام
__________
(1) سورة البقرة الآية 120(26/227)
بإدخال هنات تقدح في شخصياتهم، وتجسيمهم الأخطاء، وتعمد الكذب في هذا التاريخ بما يدسونه من أمور تختلف من عصر إلى عصر حتى نهاية الدولة العثمانية.
-حرصهم على إشاعة ونشر كتب السحر والمجون والطرق الصوفية، والقصص الخرافية، والموسيقى وأنواع الغناء، وإبراز ذلك على أنه تراث إسلامي، وجعل ذلك مجالا للقدح في حضارة العرب وتاريخ الإسلام.
-سرقة تراث المسلمين وكتبهم، وما تنبئ عنه من علومهم المختلفة، وتسمية ذلك لرجال منهم، ونسبتها إليهم اختراعا وتأليفا وفكرا. كما في الدورة الدموية لابن النفيس، وطب الأطفال لابن ربن، وعلاج الشقيقة وغير ذلك من العلوم المختلفة، وخاصة العلمية منها.
-دسهم الكثير في تاريخ الدولة الأموية، وأجزاء من تاريخ الدولة العباسية، وبث المعلومات الملفقة لتشويه سمعة الدولة العثمانية ليبرروا التعدي عليها وتقسيم ممتلكاتها غنيمة بينهم من جانب، ولتحقيق أطماع اليهود في إيجاد موضع استيطان كنواة لدولتهم، حيث عارض السلطان عبد الحميد في الموافقة على إعطاء وعد بذلك على أرض فلسطين لتكون مقرا لدولة اليهود.
-إلى غير ذلك مما يلمسه من يتتبع دراساتهم وتحليلاتهم عن مجريات الأحداث التاريخية، وآراءاهم في وقائع الأمة الإسلامية، ونظرتهم إلى المجتمعات الإسلامية مبثوثة في وسائل الثقافة المختلفة. وتطرح أمام الشباب شبهات تشكك، أو ثقافة مدسوسة. فيجب تهيئة النفس لإدراك كل ما يطرح، وتحضير الإجابة المسكتة من المعلومات(26/228)
الصحيحة الكاشفة لما وضعوه.
ولن يكون الجواب مهيئا إلا بثقافة جيدة في التاريخ الإسلامي، ومعرفة حقيقية لتراث الإسلام ومكانة رجالات الأمة، وذلك بتوسيع المدارك، واستقصاء المعلومات والسؤال والمناقشة. فثقافة الشاب ليست حصيلة يوم أو يومين، ولكنها مرحلة طويلة تحتاج إلى صبر واستيعاب، وحسن اختيار، حتى لا يضيع العمر في أمور غير نافعة. وإن من نباهة الشاب أن يكثر المساءلة عن النافع مع من تقدموه عمرا وعلما وتخصصا. فالعلم لا يناله مستح ولا متكبر.(26/229)
5 - محاربة اللغة العربية بمحاولة نزعها من ديار الإسلام وتجسيم صعوبتها نطقا وإدراكها فهما، وذلك لأنها لغة القرآن الكريم، الرابط المتين بين المسلمين في أي مكان. واستبدالها بلغة المستعمر بحجة الضرورة للتنظيم وسهولة التفاهم والتخاطب، مع الاهتمام باللهجات المحلية، وتنمية العامية في ديار العرب، حتى ينفصم الشباب المسلم في كل مكان من إدراك المعاني العميقة في دينهم، فيسهل توجيههم إلى كل ما يريده الأعداء من ثقافات وعلوم، وربطهم فكريا باللغة التي فرضت عليهم، كما يتيح هذا العمل فرصة لدخول التبشير في صفوفهم لخلو الأذهان من السلاح المضاد.
ولقد بلغ الأمر في صرف الشباب عن اللغة العربية إلى إيجاد جوائز للآداب الشعبية والأدب العامي، وتشجيع هؤلاء الشباب بتنظيم اهتمامات علمية بالدراسة والتأليف في اللهجات وخلفياتها، وجائزة سعيد عقل نموذج لذلك.
وقد ظهر مثل هذا العمل مصاحبا لإثارة النعرات الإقليمية والقبلية في كثير من ديار الإسلام، فوجد من يتعصب للعامية وينمي آدابها ولهجاتها، ويهتم بجذورها، ويدعو إلى التخاطب بها والكتابة بها.(26/229)
كما وجد من يدعو إلى استبدال الحروف العربية بالكتابة، إلى الحروف اللاتينية حيث نجح عملهم هذا في تركيا وأندونيسيا وغيرهما، باستبدال الحرف العربي الذي كانت تكتب به هذه اللغات إلى الحروف الإفرنجية.
كما حرصت كل أمة من الأمم على إنشاء معاهد لتسهل بذلك دراسة لغاتها في ديار الإسلام، ويسرت على الشباب هذه الدراسة وما تتطلبه من كتب وأجهزة وتبسيط في التعليم، سواء في بلد الشاب أو في بلد الدولة الأم لهذه اللغة، ثم تحبيبهم في هذه اللغة التي ارتبطوا بها: محادثة وكتابة وسماعا بتوفير كل الأسباب الرابطة للشاب بهذه اللغة بالإهداء أو تسهيل مهمة السفر، أو بالمغريات الأخرى، والمتابعة بعد ذلك، أو بوسائل الإعلام.
وهذا كله من أجل إضعاف صلة الشاب باللغة العربية لغة الدين والثقافة، لغة القرآن والنور اليقين، ليتجزأ العالم الإسلامي، وليضعف الرابط المتين، الذي يشده للوحدة والتماسك.
ثم يسلكون طرقا أخرى في تجسيم صعوبة قواعد العربية وفروعها وألفاظها. وعدم القدرة على استيعابها، وأن الواجب ترك ذلك لأهل الاختصاص مستشهدين على ذلك بحالات شاذة في هذا الصدد كقرينة على ما أرادوه.
ذلك أن من كلف بشيء اهتم به، ومن اهتم بشيء أنساه ما سواه، وهدفهم الاهتمام بلغاتهم لربط شباب المسلمين بثقافاتهم وأفكارهم، وإنسائهم ما له صلة بدينهم، وجذور تاريخهم وأمجادهم.
وهم في هذا التوجيه يتحصلون على هدفين رئيسين:
1 -تفريغ العقول من الأمور الهامة التي تربط بالدين الإسلامي.
2 -سهولة جذب شباب المسلمين إلى معتقداتهم وأفكارهم.
والثاني لا يتحقق إلا بالأول، وهم في غزوهم هذا لا يطمعون في(26/230)
تحويل الجيل الأول من المسلمين إلى معتقداتهم، لأن هذا مستحيل حسبما أدركوه عمليا، وهو مصداق لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي والنسائي، وجاء فيه «أن المسلم لا يرجع للكفر بعد أن أنقذه الله منه، حتى يعود اللبن في الضرع (1) » .
فقد قال أحد المنصرين إنه لا يشرفنا أن يدخل المسلم في المسيحية بعد أن ترك دينه الإسلامي، لأن من ترك دينه لا خير فيه، ولكن أهم ما يجب عمله هو أن نشكك المسلم في دينه، حتى يكون خاليا من الدين، ثم نجذب الجيل الثاني بعد ذلك لديننا.
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (16) ، صحيح مسلم الإيمان (43) ، سنن الترمذي الإيمان (2624) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4988) ، سنن ابن ماجه الفتن (4033) ، مسند أحمد بن حنبل (3/103) .(26/231)
6 - تسليط المغريات والترغيب في الملذات: وهذا مدخل من مداخل الشيطان حيث يسلط أعوانه لاقتناص الفرص لمعرفة نقاط ضعف النفس البشرية، وإيقاعهم في الموبقات التي نهى الله عنها فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بأن الجنة حفت بالمكاره، وأن النار حفت بالشهوات (1) » ونحمد الله أن ديننا الإسلامي لم ينه عن الزينة، ولا عن التمتع بالطيبات من الرزق، ولم يأمر الله المسلم بترك الحلال مهما كان نوعه، أو الزهادة فيه ما دام مصدره طيبا، ولا يتعارض مع نص شرعي بالتحريم أو الإباحة كما قال جل وعلا: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (2) ويأتي من تسليط المغريات، ترغيب الشباب في الغناء والرقص، وربطهم بالموسيقى والتصوير وغيرها، بحجة أنها مواهب يجب أن تنمى، وطاقات يجب الاستفادة منها، تقليدا لما هو سائد في بلاد غير المسلمين،
__________
(1) حديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، ورواه مسلم والترمذي عن أنس بن مالك ولفظ البخاري حجبت.
(2) سورة الأعراف الآية 32(26/231)
فهم لا يرغبون في الحلال وإنما يدفعون بالمغريات، ويحببونها إلى النفوس لتأنس إليها، وترتاح لعملها بأساليب مختلفة، لتقع فيما حرم الله، وفيما نهى عنه شرعه الذي شرعه لعباده، والتماس الأعذار والتسويفات لإماتة القلوب، حتى لا تبتئس بما تعمل، ويقل إحساسها عما فعلته، ومن ذلك قولهم بأن الموسيقى تفيد في علاج بعض المرضى، وتعين النساء على تسهيل الولادة وغير هذا مما نسمعه ونقرؤه في بحوث، يلمس منها تحليل ما حرم الله من الشهوات وتهوين عقابها. ولا شك أن النفوس قد حبب إليها كل شي ممنوع، ويكون لطعمه مذاق خاص، إذا تعاون على ترغيبه في النفس الأعداء الثلاثة: النفس الأمارة بالسوء، والهوى الذي يعمي ويصم، والشيطان الذي نذر نفسه لإغواء الإنسان، وإبعاده عن طريق الرشاد والفلاح. وأعوان الشيطان من الإنس أشد خطرا من جنوده من الجن، لأن الجن يطردهم تكرار ذكر الله، أما الإنس فلا بد من مجاهدتهم بالعلم القوي، والإيمان الراسخ، والفهم العميق، والحجة الداحضة، وفي مقدمة ذلك مدافعة النفس ومحاسبتها، وردعها عن غيها كما قال الشاعر " البوصيري " في حكمته:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على ... حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فإذا تعاون مع النفس والهوى والشيطان جماهير من البشر يسلطون غزوا من المغريات التي تتوق إليها النفوس، وسلكوا في هذا السبيل ألوانا عديدة وجذابة، وزينت المداخل لذلك بطرق متنوعة تفتح مغاليق النفس. ثم أمام هذا لم تكن هذه النفوس محصنة بسياج إيماني يحميها، ولا بعلم قوي يوضح لها، فهي بلا شك سوف تنهار أمام المغريات، وتجبن على الصمود أمام الملذات، وأعداء الله وأعداء أمة الإسلام يحرصون في الدرجة الأولى على غزو الشباب بهذه المغريات، وتكسير حدة المنعة لديهم، لأنهم درع الأمة القوي وسبيل التغلغل إلى مختلف حصون المجتمع(26/232)
المنيعة. وما ذلك إلا لأنهم يهدفون من مغرياتهم تلك لأمور كثيرة منها:
المكسب المادي: إذ الغاية عندهم تبرر الوسيلة، وأمثال هذه الأمور ذات مردود كبير، ولذا تجد أن المخططين لها، والعاملين فيها من اليهود، سواء كانوا أفرادا أو جماعات منظمة، واليهود قد عرفوا بأنهم عباد للمال، ولا يهمهم الطريق الموصل إليه، لأن الغاية في نظرهم تبرر الوسيلة.
إفساد شباب المسلمين وإبعادهم عن دينهم بالانشغال بأمور ينهى الله عنها، حتى يرفع عنهم عونه وتأييده، فيسهل على العدو السيطرة على أمتهم من مداخل الضعف التي فتحتها المغريات والملذات، كما جاء في الحديث القدسي: «من عصاني وهو يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني (1) » .
الهدف العقدي بإفساد الأمم. وهذا منهج صهيوني يهودي تحركه أفكار، وتعمل فيه منظمات تبذل الكثير من ربحها في تحقيق المطلب، ذلك أن من وقع في الرذيلة لا ترتاح نفسه حتى يوقع الآخرين معه.
التسلط والسيطرة، ولا يتحقق هذا إلا مع الهدفين الأولين، فالعقيدة غاية، والمادة وسيلة، أما التسلط والسيطرة فنتيجة لذلك.
من هنا نلمس أنهم أوجدوا لذلك في تياراتهم الموجهة مسارب عديدة، ومطايا مسرجة، كلها مهيأة للوصول للغاية المرسومة، بأساليب ظاهرها فيه الرحمة، وباطنها يحمل السم الزعاف، توجه للمجتمعات الإسلامية في كل مكان تحت غايات مختلفة مثل:
الترويح عن النفس، شغل الفراغ، التكريم، إحياء التراث، الفنون الشعبية، مسايرة الأمم الأخرى. وغير ذلك من التفنن في الأساليب المؤدية للغاية، والشباب هم أول من توجه هذه الأمور إليه، ويخاطب بها عقله
__________
(1) يروى هذا الحديث ضمن أحاديث أهل الكتاب كما جاء: حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج.(26/233)
قصدا، لأن انغماس الشباب مكسب للإغواء، وطريق للموافقة عن بعد مرماهم، ولا سبيل لإحباط هذه الأمور، وتعثر ما أرادوه بالأمة الإسلامية، إلا بوضع بدائل تمتص وقت الشباب، وتقتضي على فراغهم، وتستهلك طاقاتهم، وتفتح آفاقا لمواهبهم: عملا وتسلية وإرضاء نزعات، وفي منهج الإسلام وتنظيمه لحياة الفرد، وتوزيع الجهد بين العمل النافع، وتنمية المهارات ما يحقق الهدف الذي ينشده الحريصون على حماية شباب الإسلام من المنزلقات. إذ منهج ديننا بأن: صنعة في اليد أمان من الفقر، وخير العمل عمل داود، كان يأكل من عمل يده.
والتركيز على عمق دلالة هذا الحديث: الذي رواه أبو برزة الأسلمي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ما عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيما أبلاه (1) » أخرجه الترمذي.
وإن من سلاح الشباب في محاربة هذه الأمور، تحبيب شرع الله الذي شرع إلى نفوسهم، وتمكين العبادة من حواسهم حتى يشعروا لها بطعم خاص، كما روي عن مالك بن دينار في دعائه: اللهم أذقني حلاوة الإيمان.
فإن للإيمان حلاوة تمد النفوس بقوة، تقف دون تقلبها لما يسلط عليها من ملذات، وما يوجه إليها من مغريات أو يحبب إليها من شهوات، والإيمان القوي هو الذي يدفع نفوس الشباب للعمل والفهم العميق، ووضع السبل القديرة في مجابهة ما يسلط عليهم، بإدراك أبعاده والابتعاد عنها.
__________
(1) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2417) ، سنن الدارمي المقدمة (537) .(26/234)
7 - إظهار شعارات مختلفة تتجدد في كل عصر بمسميات متباينة، بدعوى الترابط مع الإسلام، وجذب فئة من أهله إلى دعواتهم للشعارات والمسميات والجمعيات، ذات الأهداف البعيدة: فقد لمسنا في قرننا الحاضر، بل وفي السنوات الأخيرة، دعوات جديدة للتقارب مع(26/234)
المسلمين، ومحاولة جذبهم إلى الزعامة اليهودية أو الزعامة النصرانية في العقيدة، وتجميع الديانات الأخرى من وثنية وإلحادية مع الإسلام، تحت مظلة هؤلاء تارة، وقيادة هؤلاء تارة أخرى، لإشعار الأمم الأخرى بأن الإسلام منطو تحت تبعية هذه الزعامة التي يتحمس لها قادتها من يهود ونصارى، وهدفهم من هذا أن يقولوا بلسان الحال، أو منطق المقال، بأنهم على حق وغيرهم - ويعنون بهذا الغير الإسلام في الدرجة الأولى - على باطل، وإذا حصلت القناعة بأنه على باطل فإن أهله دعاة لهذا الباطل حسب مفهومهم، أو ما يريدون إقناع العالم به.
والشباب هم الغرض المرمي في هذا الأمر، وهم الجهة المخاطبة بما أطلق من شعارات هم الغرض، أو قصد من أهداف، لأن بقناعتهم يمكن بث الفكرة وترويجها، بل وإدخالها للمجتمع الإسلامي نفسه.
ويبرز هذا الاتجاه في مؤتمرات وندوات دعي إليها كثير من المسلمين، ووجهت إعلاميا لجذب المسلمين على الخصوص، واستقطاب اتجاهات الشباب بالذات، باسم التقارب، والقضاء على المشكلات العالمية، موهمين من يخاطبون بأن المشكلات سطحية يمكن السيطرة عليها، والتغلب على مسبباتها، متناسين أن الخلاف بين هذه الطوائف وبين الإسلام خلاف عقدي، لا ينهيه إلا إدراك مفهوم شرع الله والعمل بموجبه، وفي مقدمة ذلك إخلاص الوحدانية لله بإدراك ما تنطوي عليه كلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، من عمق الدلالة، وسلامة المقصد، ونبل الاتجاه، وصدق التوجه. وجعل الحوار للتقارب ضمن مفهومها، وعمق معناها وأن ما أحدثوه من شعارات لا تحقق شيئا، لأنها بعيدة عن الالتقاء مع مفهوم كلمة الإخلاص: لفظا ومعنى، حيث برز ذلك البعد في نداءاتهم إلى:
1 -المؤمنون متحدون: وهي جماعة عالمية للمؤمنين بالله يتزعمها البابا،(26/235)
وقد تأسست في شهر مارس من عام 1987م بهدف جمع الديانات بما فيها الإسلام، تحت مظلة النصرانية بزعامة البابا.
2 -اللقاء الإبراهيمي: الذي دعا إليه قبل الجارودي - المسلم الفرنسي - يهود فرنسا، وأوربا بتجميع الأديان في الديانة البراهيمية نسبة لإبراهيم الخليل عليه السلام الذي يرى اليهود أنه جدهم وحدهم وليقولوا للناس بأننا الأصل فعليكم أن تتبعونا، وقد عقد في فبراير من 1987م في قرطبة بأسبانيا.
3 -صلاة البابا المشتركة التي أقيمت في قرية أسيس في 27 \ 10 \ 1986م، الذي اخترعوا فيه صلاة ونشيدا ليكونا مشتركين بين جميع الأديان، وفي حقيقة أمرهما أنهما على طريقة وعقيدة النصارى، وقصدهم من ذلك تحويل العالم للنصرانية بما فيهم المسلمون.
4 -نادي الشباب المتدين الذي أقيم صيف عام 1987م.
5 -جمعية " الناس متحدون " أقيمت في شهر أبريل سنة 1987م، وهي تالية لتأسيس الجماعة العالمية للمؤمنين بالله " رقم واحد هنا "، التي أنشئت قبلها بشهر واحد، لتقطع الطريق على جماعة الموحدين، الذين بدأ صوتهم يرتفع في أمريكا، حيث تقارب بعضهم مع المسلمين هناك لأنهم لا يؤمنون بعقيدة التثليث.
وغير هذا من المسميات التي قصد بها عدم تنفير شباب المسلمين في صحوتهم الجديدة، حسبما يرى من تواريخ تأسيس هذه الجمعيات، التي زامنت رغبة الشباب في العالم بأسره لمعرفة دين الإسلام والتعمق فيه، ودخول مجموعات كبيرة من شباب الغرب فيه عن قناعة ودراية، ودفاع بعض المفكرين في ديار الغرب عن وجهات نظر إسلامية ارتاحوا إليها فإذا ضمنوا مشاركة شباب وعلماء المسلمين في أمثال هذه اللقاءات التي(26/236)
يديرها ويوجهها مفكرون ورجال دين من اليهود والنصارى، كان هذا أكبر دليل على أحقية باطلهم الذي يدعون إليه، وأشعروا الآخرين بأسلوب عملي بعدم الفائدة من العمق في الإسلام وتعاليمه، لأنه لا خلاف بينهم وبين تعاليمه وتشريعاته.
ثم يخلصون في دعوتهم هذه إلى أن البابا، هو القادر على توجيه هذا اللقاء، وهو المهيأ له لأنه حامل رسالة السلام للبشرية جميعا كما يقولون في ابتهالاتهم.
وبهذا الأسلوب لا يصبح شباب الإسلام ومفكروهم أندادا في التوجيه والمقارعة، بل أتباعا لا يتحرجون من لقاء اليهود بل وزعماء الصهيونية، ولا من الاستفادة والتبعية من النصارى، وحملة رايات الصليب، والديانات الأخرى من وثنية وإلحادية وذلك على مستوى الأفراد ثم المؤسسات الإسلامية.
وهذا من أول الخطوات لهدم جدار العقيدة الذي يتحصن به الشباب في ديار الإسلام وصدق الله إذ يقول في تصوير دخائل نفوس أهل الكتاب: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (1) {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (2) .
لأنهم يلبسون الحق بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون، ولأنهم لن يرضوا عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم حتى يكونوا لهم من التابعين.
ودور المفكرين والعلماء من المسلمين، إدراك هذه الحقائق، وعدم الاستسلام لما يعرضون عليهم، أو المشاركة في المناقشة الواعية لفضح
__________
(1) سورة آل عمران الآية 72
(2) سورة آل عمران الآية 73(26/237)
أعمالهم، وإبانة وجهة نظر الإسلام فيها، وكيفية معالجته للأمور، بما يسعد النفوس، ويعلي مكانة المجتمعات ويحقق الأمن والرفاهية للجميع في ظل عدالته، ونظرته للأمور قاطبة.(26/238)
8 - إيجاد هوة بالنفرة بين الشباب:
وبين علمائهم وولاة أمورهم: ويدخل في هذا عقوق الأبناء لآبائهم، وعدم امتثال الطالب توجيهات مدرسه، وذلك بتفسير الأمور على غير وضعها، وتجسيم الصغائر، واختلاق أشياء لا أصل لها، حتى يحدثوا هوة بين الشباب وولاة أمرهم، فيفقد التعاون، ويقل السمع والطاعة. وهذا فيه فساد للمجتمع لأنه مخالفة لمنهج القرآن الكريم، وما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بوجوب السمع والطاعة لأوامر الله، وتوجيهات رسوله وطاعة من ولاه الله أمور العباد، فانتظام الحياة الاجتماعية، والأمن لا يتمان إلا مع الانقياد الذي أمر الله به. فقد تكرر في كتاب الله الكريم، الأمر بطاعة الله، وطاعة رسوله، أكثر من عشرين مرة. مما يدل على أهمية الطاعة ومكانتها في الإسلام.
فولاة الأمور جعلهم الله حماة لشرعه تعليما وتوجيها وقدوة وتنفيذا.
وفي كل شريعة الإسلام يؤدي العالم والوالد والمعلم والولاة أعمالهم بأمانة وإخلاص، ومن مفهوم الشريعة أيضا يعرف كل شاب ما يجب عليه تجاه هؤلاء من السمع والطاعة، وحسن الأدب، وأداء الواجب، وحسن الأخذ والاستجابة.
وبذلك ينتظم المجتمع وتسعد الأمة جمعاء. لأن أمر الله واجب، والاستجابة لرسوله الكريم في دعوته من أسس الإسلام، الذي هو الاستسلام والانقياد. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1) .
__________
(1) سورة النساء الآية 59(26/238)
ويقول سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (1) .
ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله (2) » رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
وأعداء الله، وأعداء دينه، هم أعداء المسلمين، يريدون بعملهم الموجه ضد المسلمين بث الفوضى في المجتمع الإسلامي، وشق عصا الجماعة، وإثارة هذا كمشكلة لدى الشباب، ليتحول مجتمعهم إلى الفوضى والبلبلة، حتى يسهل التغلغل فيه، والسيطرة عليه، عندما يبتعد أبناؤه عن أوامر ربهم، بما شرع لهم من وجوب السمع والطاعة للقيادة، والنصح لها، والتعاون معها.
وما كان ديننا الإسلامي ليؤكد على السمع والطاعة إلا لأن قوام المجتمع وسلامته بالسمع والطاعة، فإذا كان أقل الجماعة اثنين فإنهما في السفر لا بد أن يؤمر أحدهما، وعلى الآخر السمع والطاعة، فعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم (3) » رواه أبو داود.
كما أن هذا الدين يركز على أهمية الجماعة في الصلاة، وهي عبادة بين العبد وخالقه، فيحث على الجماعة، وأن ينقادوا مع الإمام، يقول صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا، وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا (4) » وفي رواية «فلا تختلفوا عليه (5) » . رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
والصلاة توطن النفوس عمليا على ما يجب أن ينقادوا فيه مع قياداتهم استسلاما وتنفيذا، وتعويد الأطفال عليها منذ حداثة أعمارهم تنمي
__________
(1) سورة الأنفال الآية 46
(2) صحيح البخاري الأحكام (7142) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2860) ، مسند أحمد بن حنبل (3/114) .
(3) سنن أبو داود الجهاد (2608) .
(4) صحيح البخاري الصلاة (378) ، صحيح مسلم الصلاة (411) ، سنن الترمذي الصلاة (361) ، سنن النسائي الإمامة (832) ، سنن أبو داود الصلاة (601) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1238) ، موطأ مالك النداء للصلاة (306) ، سنن الدارمي الصلاة (1256) .
(5) صحيح البخاري الأذان (722) ، صحيح مسلم الصلاة (414) ، مسند أحمد بن حنبل (2/314) .(26/239)
عندهم الولاء والطاعة عندما يكونون شبابا، وتحبب إليهم في سن التكليف مع الحرص على فهم ما تنطوي عليه من خيرات ومصالح. فهي تؤصل الطاعة والانقياد لولي الأمر.
ووجوب التمسك ببيعة ولي الأمر والسمع والطاعة له، وعدم الخروج عليه من الأمور التي تؤصلها عقيدة الإسلام، كما جاء ذلك في أحاديث كثيرة منها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من بايع إماما فأعطاه صفقة يمينه وثمرة قلبه، فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر (1) » رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه (2) .
والذي يجب أن يدرك الشباب خاصة وغيرهم عامة أن لزوم الجماعة في البيئة الإسلامية جزء من العقيدة التي يجب أن تؤصل في النفوس، حتى لو بدر من القيادة ما يكرهه المرء، مما يحرص أعداء الأمة الإسلامية على تجسيمه سواء كان له أساس أو مختلق، مما يقصد من ورائه التفريق، وإذكاء النزاعات، وإفساد المجتمع، فقد أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كره من أميره شيئا فليصبر فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية (3) » .
ودورنا أن نتأدب بأدبه صلى الله عليه وسلم، ونتأسى بأعماله، حيث نهى أن يتحدث إليه أحد في أصحابه حتى يخرج إليهم، وقلبه سليم، ونفسه صافية، بدون حقد أو ضغينة، أما أعداء الأمة المسلمة، فهم يريدون لقلوب المسلمين أن تحمل الضغينة على العلماء، والبغضاء بعضهم لبعض، وشق عصا لطاعة لولاة الأمر حتى يفسدوا المجتمع الإسلامي، ويبثوا
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1844) ، سنن النسائي البيعة (4191) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4248) ، سنن ابن ماجه الفتن (3956) ، مسند أحمد بن حنبل (2/191) .
(2) انظر جامع الأصول في أحاديث الرسول جـ4 ص67 وهامش ص68.
(3) انظر جامع الأصول في أحاديث الرسول جـ4 ص69.(26/240)
الفتنة في أرجائه. وبذلك يسهل عليهم تحقيق مآربهم في البيئة الإسلامية، من نقاط الضعف التي أوجدوا مداخلها. وإن السبيل الوحيد الذي يفسد عليهم عملهم، هو تحصن شباب الأمة بالعلم والإدراك وبث روح الوعي لما تنطوي عليه تعاليم الإسلام في النفوس، حتى تقوى على التصدي لكل ما يبث، وإدراك ما يراد بأمة الإسلام، فإذا عرف الداء، أمكن معرفة الدواء. وبذلك تتقارب النفوس، وتتحقق الألفة والمحبة بين فئات المجتمع.(26/241)
9 - النزعات العقائدية:
وهي مدخل دقيق من مداخل النفس وعواطفها، فالولاء العقدي جزء من أجزاء النفس المتأصلة، فكما أن النفس البشرية لا تستغني عن الهواء والماء، لأنهما أهم مقومات الحياة، فكذلك الارتباط العقدي، والولاء الوجداني من لوازم النفس. ومقومات كيانها.
والدارسون لخصائص النفوس، يدركون أهمية العقيدة، وحاجة النفس إليها. فالإنسان يأخذها منذ حداثة سنه ممن حوله بدءا بالأبوين، ثم بمن يرتبط به تعليما وتقليدا. وقد فطر الله الخلق على العقيدة الصافية. كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه، أو ينصرانه (1) » .
ويأتي التأثير في العقيدة للطفل، ثم الشباب اللذين هما كالصلصال القابل للتكيف على الشكل الذي يضعه فيه من يتصرف فيه - كل من يحيط بهما، ويؤثر فيهما -.
ولا وقاية تحمي الشاب من النزعات الموجهة إليه سواء كانت عقائد دينية، أو اتجاهات فكرية في شئون الحياة المختلفة إلا بتوفيق الأمة بإعطائه حصانة ضد هذه الأسلحة الموجهة إليه، كما يعطى الطفل تحصينات ضد
__________
(1) رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد أوسع ابن عبد البر الكلام على هذا الحديث في كتابه التقصي.(26/241)
كثير من الأمراض في سن معينة من عمره، وتحصيناته تتم في حسن التوجيه والرعاية: في البيت والمجتمع والمدرسة.
وأعداء الإسلام يدخلون على أبنائه من طرق شتى، فيتحينون نقاط الضعف لينفذوا منها، كالشيطان الذي يحاول جذب الإنسان إلى منهجه بقدر ما يستطيع، فإذا عجز عن الدخول من طريق الإغواء إلى المعصية، دخل عن طريق الطاعات والعبادات، ليفسدها على صاحبها: مبالغة وإغواء وتشديدا، وتشكيكا ووسوسة، وغير هذا من الأعمال المفسدة لجواهر العبادة، وسلامة العمل.
والذين يكيدون للإسلام من الإنس، يحرصون على معرفة خصائص نفوس شباب الإسلام، باعتبارهم العمود الفقري للأمة، والوتد الذي يثبت به المبنى، فيحاولون دراسة نفسيته، وتقويم اتجاهاته، والتعمق في رغبات نفسه، لعلهم يجدون منفذا يدخلون معه، أو نقطة ضعف تسهل عليهم غايتهم.
ودراسة نفسية الفرد المسلم، والمؤثرات فيه، كانت متأصلة لدى الغرب نحو شباب المسلمين، في محاولة لمعرفة مواطن الضعف فيهم، والنفاذ منها لبواطن عقولهم، ثم تحريك ما يضر بهم، ويخدم أعداءهم حتى يجدوا لأنفسهم مستقرا في ديار الإسلام، وهيمنة ذات آثار قديمة قدم العداء بين الإسلام والكفر، لكن الحروب الصليبية زادتها رسوخا وإلحاحا، ذلك أنه لم يمتد مكث الصليبين في بلاد الشام إلا بعد إثارتهم للنزعات العقائدية. واتكائهم على فئات تنتمي للإسلام اسما وهي بعيدة عنه عمقا وعملا. بل تطعن الإسلام وأهله بخنجر مسموم.
وأصحاب النزعات المتعددة هم العضد المساند لأعداء الإسلام في كل وقت وزمان، وهم الذين ثبتوا أقدام الاستعمار في كل بلد إسلامي، أو بلد به فئات كبيرة من المسلمين في أنحاء المعمورة. والتاريخ خير شاهد(26/242)
على ذلك، فقد ذكر ابن تيمية رحمه الله دور أصحاب النزعات في خدمة النصارى في بلاد الشام، ومساندتهم لهم (1) . كما ذكر ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية شيئا عمن خدموا التتار في دخول بغداد. وتقويض الخلافة الإسلامية العباسية، والزحف على ديار الإسلام قتلا وتدميرا، وفي سقوط الأندلس وإقصاء الإسلام من تلك البلاد، كان للمتعاطفين مع الإفرنج من أصحاب النزعات أثر في فتح باب التعاون والتساهل، ثم التخاذل بعدما مكنوهم من رقاب المسلمين، كما جاء في كتب المؤرخين الغربيين، الذين نقل عنهم بول ديورانت في كتابه قصته، وكما نقل أطرافا من ذلك محمد عبد الله عنان في كتابيه نهاية الأندلس، ودولة الإسلام في الأندلس. وغير هذا كثير في سجلات التاريخ.
ولذا فإن الاستعمار في القرن الحاضر وما قبله، قد وجد في أصحاب المعتقدات الشاذة عن منهج الإسلام سندا قويا، فأرضى لديهم نزعة حب العلو، وأمدهم بقوته، فمهدوا له السبيل للبقاء، وكانوا شوكة في جنب الإسلام، يحركهم العدو في الاتجاه، الذي يريده ليحقق بهم غرضه، ويطعن بهم أبناء الإسلام، ويحارب بهم مبادئ هذا الدين وشريعته.
ومع انتهاء الاستعمار العسكري جاء الاستعمار الفكري، فكانت دراساتهم تخدم ذوي النزعات العقدية، وتسهل لهم الإثارة، لأنهم أدركوا من مضمون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سألت ربي ثلاثا، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة، فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها (2) » . وفي رواية مالك في الموطأ بدل الغرق: «أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم (3) » .
__________
(1) راجع فتاواه الأجزاء الخاصة بالتوحيد والعقيدة.
(2) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2890) ، مسند أحمد بن حنبل (1/182) .
(3) أخرجه الترمذي ومسلم عن خباب بن الأرت رضي الله عنه.(26/243)
ومن تحريك النزعات: سواء كانت عقدية أو قبلية، أو طائفية تشتعل فتيلة البأس، وتتوقد نار الفتنة النائمة، فيجدها أعداء إسلام في تحريك الأمر من وراء ستار لتكبير الصغير، وتوسيع الخرق الضيق.
وفي هذا شق لعصا الجماعة، وخروج على أوامر الإسلام الذي يدعو للاعتصام والتماسك. فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن عصبية الجاهلية، وعن التفاخر بالأحساب والأنساب ليجمعهم حول الإسلام ومكانته في تأليف القلوب، وتوحيد الصفوف، والانصهار تحت قيادة واحدة، والسمع والطاعة لهذه القيادة، ضمن الإطار الإسلامي وفي بوتقته.
أما تحريك النزعات العقدية، فهي من الدعوات الجاهلية التي يغتنمها أعداء الأمة عندما تطغى الأثرة، وتضعف مكانة الإسلام في القلوب: عقيدة وفهما. ويضعف الوازع الديني بتغليب رغبات النفس على تعاليم الدين، وتقديم العاطفة والمصلحة الذاتية، على ما شرع الله، عند ذلك يصبح الإنسان سريع التأثر، لأنه فتح على نفسه بابا يسهل الولوج معه، وثغرة تجد الأفكار والآراء طريقا للنفاذ معها.(26/244)
10 -أما التيارات الفكرية المتنوعة، ونشرها وتمجيدها، فإن مما لا شك فيه أن كل أمة من الأمم لها فكر ينبعث من عقيدتها، وما تدعو إليه من مبادئ، ووجهات نظر، وهذه الأفكار تتنوع بحسب الاتجاه الذي ينزع إليه الداعون، ولعل أهم تلك التيارات ما يرتبط بالعقيدة، وما يمس الدين الإسلامي، وخاصة لدى أبناء المسلمين الذين درسوا في بلاد الشرق والغرب، الذين يحرص مدرسوهم على شحن أذهانهم بأفكار تشكك في قدرة إسلام ومناخه في التقديم العلمي والتكنولوجي، وأن خصائص النمو الاقتصادي، لا تتلاءم مع الفكر الإسلامي، وأن السياسة والحكم، وما ينجم عن ذلك من أسس ينتظم بها المجتمع، وتساس بها الرعية، وتكافح بها الجريمة، يجب أن تكون بعيدة عن نظرة الإسلام(26/244)
وقيوداته، التي تتسم بالقسوة فيما فرض من حدود. وما يطبق على الجاني من عقوبات كقطع يد السارق، ورجم الزاني المحصن، وإتلاف كل ما حرم في الإسلام، يتأثر بها بعض الشباب، أو تفرض على الشباب في تعليمه أو بوسائل الإعلام المختلفة، قبل أن تتحصن نفسه بما يعينه على مجابهة الموقف، والتصدي لمثل هذه التيارات.
وأخطر من ذلك أن يحملها شباب المسلمين لديارهم ليقنعوا بها غيرهم: فكرا مقلدا، أو ينشروها بين أضرابهم كشيء جديد وافد ليرفع المجتمع، ويعلي مكانة الأمة، وليبث ذلك كله منسوخا من البيئة المصدرة، كأي بضاعة ذات نفع في شئون الحياة.
ولذا فإن على المهتمين بأمور الشباب، أن يسلحوهم بما يعينهم لفهم الحقيقة، وإدراك كمال الإسلام، وشمول تعاليمه لما يصلح أحوال الناس في معاشهم ومعادهم، وأن تكامل العقيدة، مما يسمو بالنفس البشرية، على الإدراك المتكامل لما في الإسلام من حل لجميع القضايا المطروحة، إذ قصور البعض عن تخطي العقبات المجسمة، لم يكن من نقص في تعاليم الإسلام، ولكنه قصور في المعرفة، وضعف في التطبيق. ذلك أن هدف الإسلام النزوع إلى الحق، والإرشاد إلى الطرق المؤدية إليه.
ولو مثلنا لذلك بالحالة الاقتصادية، المبنية في المجتمع الغربي على الربا، والأرباح المركبة. فإن المسلم يستطيع أن يرد عليهم عن سبب تحريمه، واعتباره محاربة لله عز وجل، ورسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم، لما فيه احتكار للمال، وإضرار بالمجتمع، وتضييق على الفقير، وزيادة فقره فقرا، وبطر للغني وزيادة غناه غنى.
ذلك أن المال الذي ينتشر في المجتمع، ويوسع فيه على المحتاج: إحسانا(26/245)
وصدقة، وإنظارا لمن أعسر، وتشغيلا بالأجرة والعوض وغير هذا من الأمور التي شرعها الإسلام في التعامل، لما يجعل في المجتمع حركة، ويزيد فرص العمل، ويدخل السعادة على أسر هي في أمس الحاجة إلى التماس الطريق الشريف لكسب لقمة العيش.
وهذا ما ينظر إليه الإسلام ويهتم به لأنه من التعاون والترابط الاجتماعي، ومن عدم نقمة الفقير على الغني، كما قال تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (1) .
فالمال مال الله، والبشر مؤتمنون عليه، وجاءت شريعة الإسلام لترسم للنفس طريقة الأمانة للتصرف في هذا المال، أخذا وعطاء، ورأفة بالعباد، وأداء لحق الله فيه.
ولأن المال هو عصب الحياة، وشريانها النابض، كما يقول المختصون في هذا المجال، فإنه يجب أن يرسخ في أذهان الشباب، ركائز الإسلام في تمكين قواعد التوجيه فيه، واختلاف منهجه عن نظرة الماديين، وأصحاب المبادئ الأخرى والإبانة عن وسطية الإسلام في تسيير المال لشئون الحياة بين المذهبين المتحكمين عالميا اليوم: الرأسمالية والاشتراكية. وأن تسخير المال، وتوزيعه في البيئة الإسلامية، لم يكن خاضعا لأنظمة بشرية، تخطئ أكثر مما تصيب، ولكنه توجيه من رب العالمين، الذي يعلم ما يصلح أحوال الناس وما يتلاءم مع متطلبات حياتهم، أو تنتظم به معيشتهم.
وما يقال عن المال، يقال مثله عن حاجة المجتمعات إلى الأمن، وعقوبة الإسلام الشديدة والرادعة، لمن يزعزع راحة المجتمعات، أو يتعدى على الممتلكات والحرمات، إذ الرخاء والاستقرار، واتساع الحضارة، وانتظام المعيشة وغير هذا من شئون الحياة المتعددة، لا يهدأ وضعها، ولا يفسح
__________
(1) سورة الزخرف الآية 32(26/246)
المجال أمامها للنمو بدون الأمن. والموجهون للشباب في المجتمع الإسلامي، عليهم دور كبير في تلقيح أذهانهم بما يضاد تلك السموم الموجهة، وتعبئة الأوعية المتهيئة، بما يكفيها عن استقبال كل وافد، ليكون في المجتمع سد منيع، ضد التيارات الموجهة، وإيقاف زخرف نشرها، أو تمجيدها، بفكر أقوى، وإدراك أشمل وأصلح، والبقاء كما يقال للأصلح. وحتى يدرك الشباب بأن فكر الإسلام هو الأصلح، فلا بد من مخاطبة عقولهم من منطوق الشبهات المطروحة، وتوضيح نظرة الإسلام الحقيقية للأمور مقرونة بالنتائج والأسباب والمسببات، وموثقة بالبراهين والأرقام، حتى تكبر تعاليم الإسلام في نفوسهم ويجدون ما يعينهم في دحض الفكر الوافد، المرتكز على عناصر مادية وإلحادية بحتة، كإنكار ما وراء الطبيعة من العوالم، أو الفكر المنقول مع التقنية، المصحوبة بمناهجها، وأصولها المادية.
إذ أخطر ما يواجه الشباب المسلم، وخاصة الذي يدرس في بلاد لا تدين بالإسلام، بل تحاربه، وتحارب أفكاره، ما يجده من أفكار ونظريات علمية، تغاير الفكر الإسلامي وحقائقه، فالطالب على مقاعد الدراسة، يتشوق لدراسة العلوم المختلفة، ويرغب في نقل التكنولوجيا إلى بلاده، لكنه يتعرض لنظريات وقوانين، قد صيغت بأسلوب إلحادي يشككه في دينه.
ولذا فإن على علماء المسلمين مسئولية كبيرة في تغيير الصياغة العلمية، بمختلف الفنون بما يتمشى مع الإيمان الصحيح، الذي بموجبه يتنقى فكر الشباب المسلم وتتركز مصادر الأخذ بما يطمئن على سلامة العقيدة. وهذا ما يدعو إليه المخلصون باسم أسلحة المعرفة.(26/247)
11 - أما تبني التيارات الأدبية بمذاهبها وأهدافها: فإن هذا من أخطر ما يواجه الشباب اليوم، عندما قلدوا كل وافد، إذ التأثير العلمي قد يكون أخف، فهو مصحوب بأمور مادية ونتائج تجريبية، لكن الأدب(26/247)
فكر وثقافة، ولذا نلمس في الحداثة قدحا للتراث الإسلامي ونعوتا لمصادر الشريعة الإسلامية، وإبرازا لشخصيات عرفت من قبل بجنوحها العقدي كالحلاج والأسود العنسي ومهيار الديلمي، وميمون القداح وغيرهم حيث يرفعون من قدرهم ويعلون مكانتهم. وكل واحد من هؤلاء وغيرهم له في التاريخ الإسلامي سجل أسود.
حيث أطلق عليهم علماؤنا القدامى الكفر، ووصموهم بالمروق من الدين، وبانت أفكارهم الجدلية وعلاقاتهم بأديان ومعتقدات الأمم التي غلبتها الجيوش الإسلامية، وانطوت تحت لواء الدولة التي يحكمها كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، من باب محاولة إفساد الإسلام من داخله.
وإذا كان المنتمون لهذا الخطر منذ الدولة العباسية، هم أصحاب النزعات البعيدة عن الوفاق مع تعاليم الإسلام، ليعبروا في أدبهم عن مكنون نفوسهم، وارتباطهم بمن خلفهم، كما يلمس مثل ذلك في شعر بشار بن برد، ومحاولته الرفع من المانوية، وهي عقيدة وثنية، تمثل إله النور والظلام، وتعمده السخرية من النسب العربي، فإن مثل هذه الحركة قد كثرت في عهد المنصور وابنه المهدي، وحاربوهم باسم الزندقة، وكثر المنتمون إليها، وممن قتل من الأدباء لأفكاره: بشار بن برد، وابن المقفع وصالح بن عبد القدوس، وغيرهم.
ولذا كان مثل هذا المنهج مطية في بلاد الشرق والغرب، يعبر بها الأدباء المنفلتون من قيود الدين والأمانة عن خلجات نفوسهم، ورغباتهم الذاتية، وانتقاداتهم الاجتماعية، وانتماءاتهم الفكرية والعقدية.
ولأن عذر هؤلاء في الالتزام بمثل هذه الشهوات، فإن من سايرهم من أبناء المسلمين في اتجاهاتهم فإنهم غير معذورين، لأن لهم فكرا غير فكرهم، ومنطلقا غير منطلقهم، وثقافة غير ثقافتهم.
واتباع بعض الشباب في ديار الإسلام لما سار عليه أولئك، من تسخير(26/248)
الأدب: فكرا وأسلوبا وألفاظا. للتعبير والدعوة عما يختلف عن منهج الإسلام، وحرص تعاليمه على حماية الفرد، وسلامة المجتمع، لما يضر بهما، أو يخلخل كيانهما، وهو قصور في الفهم، ونقص في الإدراك، وتقليد جاء من غير روية، ومركب نقص، يعبر عنه صاحبه بشيء قد لا يدرك أبعاده. ومن هنا يلمس المتتبع لمسيرة بعض الشباب الأدبية؛ أفكارا تطرح، وألفاظا يؤتى بها، تخدم مذاهب وأهدافا تأباها تعاليم الإسلام، وينهى عنا شرع الله، وتتنافر مع صحيح اللغة وقواعدها.
ذلك أن من منهج شرع الله الذي شرع لعباده، ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه ضمن وصية يجب أن يأخذ بها كل مسلم، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «كف عليك هذا. وأشار إلى لسانه. فقال معاذ: أنحن مؤاخذون بما نقول يا رسول الله؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ. وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم (1) » . وما يرصده القلم هو جزء من حصاد اللسان.
والذي يجب أن ينمى عند شباب المسلمين، أن الفكر يجب أن يكون مأخذه إسلاميا، ومستمدا مما يدعو إليه الدين بمصدري التشريع فيه كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم بما فهمه وسار عليه سلف الأمة. وأن تكون الحصيلة الأدبية، أداة تخدم هذا الفكر، سواء كانت شعرا أو نثرا، وسواء كانت خطابة أو مشاركة كتابية.
وأن تعالج القضايا التي تمر بالفرد والجماعة، من زاوية الامتثال لذلك الشرع، وتثبت دعائمه في النفوس. لأن القرآن الكريم، لم يكن بمعزل عن الحياة، مهما جد في كل عصر ومهما تغيرت أساليب وأنماط العيش فيها، لأن الله جل وعلا يقول وقوله الحق: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (2)
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2616) ، سنن ابن ماجه الفتن (3973) ، مسند أحمد بن حنبل (5/231) .
(2) سورة الأنعام الآية 38(26/249)
وعمل الأديب في المجتمع الإسلامي، يجب أن يكون متشبعا بفكره، منطلقا من أسلوب دعوته، مدافعا عن كل دخيل على هذا المجتمع، لأن أعداء الإسلام يحرصون على تغيير شخصية والتزام أبناء المسلمين، ويرون الأدب وسيلة من تلك الوسائل، وأقصرها منفذا.
وإيقاف الزحف الفكري، الموجه للشباب عن طريق مسارب الأدب، يحتاج إلى تنمية الأصالة في الشباب، وربطهم بجذور لغتهم، ومكانة دينهم، وسمو تعاليمه، وشمولية فوائده، وإثبات ذلك بالوقائع والبراهين، وتعميق الجذور التراثية من نفوسهم، ذلك الوتر الذي يضرب عليه أعداؤهم ليباعدوا بينهم وبينه، وليجعلوا نفوسهم في شك من الماضي، وقدرة على تحمل الواقع بدون استناد على هذا الفكر والثقافة الوافدين إليهم من بلاد توسم بالرقي والحضارة والتقدم.
وإذا أدرك الموجهون للشباب، ثم بثوه بينهم عقيدة ومنهجا مثل هذا النص الكريم: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (1) .
فإنه سيكون منهم من يدرك الحجاب الذي يجب الاحتماء به، والشخصية المستقلة التي تحسن مجابهة تلك التيارات سواء كانت من هاتين الملتين، أم من غيرها. وأول ذلك عدم القدوة بغيرهم مظهرا وسلوكا، وفكرا وسيرة عمل.
__________
(1) سورة البقرة الآية 120(26/250)
12 - ويأتي دور: تثبيط همم الشباب، وتشكيكهم في قدرة أمتهم الإسلامية في مسايرة الأمم الأخرى حضاريا وعلميا: إذ هذا التثبيط مبعثه قصور المعرفة لدى الشباب، فمن يناقش الجاهل يغلبه، ومن يطرح شبهات على من هو خالي الوفاض، يشككه في أمره.
وشباب المسلمين الذين بهرتهم الحضارات الحديثة، وأساليب الصناعة والمخترعات، ثم بما يحجزه عنهم الغربيون والشرقيون على السواء، من أسرار(26/250)
العلوم والتكنولوجيا، كل هذا وأكثر منه، يدفع شباب المسلمين إلى التعلق بأولئك وفكرهم، وتبني انتقاداتهم وتشكيكهم في قدرة الأمة المسلمة، على مسايرة هذه الأمم حضاريا وعلميا، وذلك بوصم الإسلام وتعاليمه بنعوت كثيرة، وبقصوره في الميدان: الاقتصادي، والقانوني، والتنظيمي، والإعلامي وغير هذا من سبل الحياة الحاضرة.
وهذه النغمة لم تكن جديدة، بل بدأها اليهود في المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم يبثونها فكرا بين المشركين المعاندين للرسالة، وتشكيكا مع بعض الصحابة في النقاش والشبهات التي تطرح. ثم كبرت واتسع نطاقها مع الحملات الصليبية. ولما بدأ الاستشراق يأخذ سمة الثقافة والإفادة مع النهضة الأوروبية، ساق الحقد وسوء الفهم كثيرا من المستشرقين لينفثوا سموما، وينشروا شبهات حول رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم، وعدم صدق دلالة ما جاءا به، والأساليب التي نظمت ذلك من حدود وزواجر. فطرحت المسائل الكثيرة على أنها شبهات تصم الإسلام بعدم القدرة، ورجاله القائمين عليه، وفي مقدمتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنعوت تقلل من قدرهم، وتضعف من مكانة الاتجاه الذي ساروا إليه، والهدف الذي قصدوه. وذلك بإطلاق المطامع الدنيوية، والرغبات الشخصية على أعمالهم، ووصمهم بالعنف والشدة، ونعت تعليم دينهم وحدوده الشرعية بالقسوة، وعدم ملاءمة العصر الذي نعيش فيه لتلك الأحكام. ثم وضع مقاييس ومعايير تخدم هدفا ثانويا وقام بها رجال في مجتمعاتهم عرفوا بالظلم والشدة، كنماذج لرجال الإسلام وتعاليمه، مع أن البون شاسع، والهدف متغاير.
فرجال الإسلام يريدون ما عند الله، والجزاء الأوفى في الآخرة، وهؤلاء يريدون التسلط والتشفي والمتعة، والانتقام.
وفي العصر الحاضر، الذي أخذ سمة التقنين لكل نظام، والتخصص(26/251)
لكل فن، والتعقيد لكل أمر، يوضع أمام شباب المسلمين وجهات نظر مجسمة عن قصور الشريعة الإسلامية، في التكيف مع تلك النظم، وقدرتها في الصمود لتسيير الأحوال، لأنها - حسب مفهومهم - شريعة تقتصر على العبادة.
والحياة الصناعية والعلمية، وأساليب التعامل في الحضارة الراهنة، تتطلب مرونة واتساع أفق، لا يتيسر وفق تعاليم الإسلام المحصورة في نطاق ضيق لا يستوعب شئون الحياة الحاضرة. ولكي يجدوا لأقاويلهم مدخلا في أذهان بعض الشباب الفارغة، فإنهم يضربون لهم الأمثال بتمرد رجال العلم والتكنولوجيا في الغرب، على الكنيسة، التي حصرتهم في نطاق ضيق، وشددت على العلم والعلماء في محاكم التفتيش إبان النهضة الأوروبية الحديثة، حتى ظهر عندهم شعار التمرد على الكنيسة ورجالها باسم: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله.
وغير هذا من نماذج وشبهات، يجدر بالموجهين للشباب الإسلامي، أن يحصنوهم ضدها، ليدركوا أن الدولة الإسلامية صلحت وأصلحت المجتمعات منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحتى قرون متطاولة. استوعبت خلالها العلم والتقدم والحضارة، بشتى مناحيها، وسعدت المجتمعات، واستقامت أحوال الناس في معاشهم وتنظيم حياتهم، بل سعد الغرب بما أخذ من المسلمين من علوم ومعارف، وبما استفاده من تنظيم وتقنين لنواحي أعمال الحياة. ولم تقف حضارة الغرب، إلا على أسس متينة مما أرساه الإسلام والمسلمون وما عرفت الإنسانية منهجا سليما في العدالة وحسن الاستقامة، إلا تحت ظل الشريعة الإسلامية، وقد شهد جم غفير من مفكري الغرب والشرق بمكانة الإسلام، ودوره في إسعاد البشرية، ومنهم أديسون الذي قال: إن الإسلام لم يكن دينا للعرب، وإنما هو دين الإنسانية من أقصى الأرض إلى أقصاها، ولا هو مختص بجيل دون جيل،(26/252)
بل هو لعامة الأجيال إلى منتهى الدهر.
ذلك أن الدين الإسلامي يحث على العلم بجميع فروعه، وليس علم الحديث والفقه والمنطق والشرع فقط، وإنما كل ما تناله الكلمة من علم الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء وجميع العلوم، والدين الإسلامي لا يختلف هو والعلم، ولا يمكن أن يختلفا، بل الذي نعلم أن أكبر العلماء وأرسخهم علما هو أقربهم إيمانا وخشية لله سبحانه - كما قال بذلك قبيسي -.
ويقول ماركوس دودز: ليس في الدين نفسه ما يتعارض مع التقدم العقلي، فالعقيدة التي يتمسك أتباعها بالمبدأ القائل: أوصى الله إلى رسله، تترك أوسع مجال للتفكير والتأمل، والدين الذي يخص كل جندي يقع في ميدان القتال في سبيل الله بتاج الاستشهاد، ويعلن في الوقت نفسه أن مداد العالم أغلى من دم الشهيد، ليس من العدل في شيء أن يوصم بأنه دين ظلام.
ولذا فإن الشباب في المجتمع الإسلامي في حاجة إلى أن ينور ذهنه، وتوسع مداركه بمثل هذه الأقوال، وبما صدره كثير من مفكري الغرب، اعترافا للحق على أنه الحق، حيث إن أمثال كتاب: شمس العرب تسطع على الغرب للكاتبة الألمانية زيغريد هونكه، والقرآن والتوراة والإنجيل والعلم للدكتور الفرنساوي موريس بوكاي، وروح الإسلام للمسلم المؤرخ الهندي سيد أمير علي، والطريق إلى مكة للمسلم المجري محمد أسد، وغيرها من الكتب التي اقترن فيها الفكر بالعلم، وهذا من باب مخاطبة الناس بما يعرفون، وإلا فإن في كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفهم رجال السلف من هذه الأمة ما يغني ويثري: ثقافة وعلما، وردودا وتوضيحا، كما كان الإمام مالك يقول: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وفهم الشباب للإسلام هو الذي سيصلح(26/253)
أحوالهم ونظراتهم للأمور، لأن بذلك العزة والارتقاء، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومتى ابتغينا العز بغيره أذلنا الله.
وإن أهم ما يقف أمام الشباب البلبلة الفكرية، ونقل الفكر إليهم مع التقنية مصحوبة بمناهجها وأصولها المادية، ذلك أن الفكر في النظريات العلمية والفيزياء، ينكر ما وراء الطبيعة، ويرتكز على عناصر مادية إلحادية بحتة، حسب صياغاتها، وذلك لقلة المؤمنين في الميدان العلمي.
ويمكن للعالم المسلم تغيير تلك الصياغات بما يتمشى مع الإيمان الحقيقي، وتقديمها للشباب كمادة محببة، مرتبطة بالجذور العقدية، والأصل الإيماني في التفكر الذي أمر الله به الفئة المؤمنة، ومتأصلة في العلماء خشية لله، واعتقادا في كمال قدرته، وإحاطته بكل شيء، وأن ما علمه البشر ما هو إلا قليل في علم الله جل وعلا، الذي وسع كل شيء علما.(26/254)
ما انفرد به القراء الثمانية
من
الياءات والنونات والتاءات والباءات
لأبي الطيب عبد المنعم بن عبيد الله غلبون
المتوفى سنة 389 هـ
تحقيق \ د. علي حسين البواب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وبعد:
فقد وردت قراءات متواترة لكتاب الله العزيز، عني العلماء بجمعها وتصنيفها، وتنوعت أساليب التأليف فيها.
ولما كان مما وردت فيه الروايات عن القراء اختلافهم في حروف متشابهة في الرسم مختلفة في الوسم، كالباء والتاء والياء والنون، فقد تنبه أبو الطيب ابن غلبون أحد أعلام القرن الرابع الهجري إليها، وخصها بالتأليف في هذه الرسالة التي نقدم لها، والتي تظهر مدى عناية العلماء بكتاب الله تعالى.
جمع ابن غلبون في هذه الرسالة ما انفرد به كل قارئ من القراء السبعة - أو أحد الرواة - في حرف من الحروف الأربعة: الباء والتاء والياء والنون: فقارئ يقرأ (يعملون) بالياء وسائر القراء السبعة بالتاء، وآخر يقرأ (أولا ترون) بالتاء وغيره بالياء، وقارئ ينفرد بقراءة (حيث نشاء) بالنون، ويتفق القراء على قراءتها بالياء، وأحد القراء يتفرد(26/255)
بقراءة (بشرا) والقراء (نشرا) . وهكذا.
وقد يتعدى الخلاف ذلك إلى اختلاف ضبط الكلمة كلها، فقارئ ينفرد بقراءة (يجزى) بالياء والبناء للمجهول وسائر السبعة (نجزي) ، وقارئ يقرأ (نقضي إليك وحيه) وغيره (يقضى إليك وحيه) . وقد يكون الخلاف بفك أحد هذه الحروف كقراءة (ما مكنني) . والآخرون بالإدغام أو غير ذلك مما يتعلق بهذه الحروف.
والقراء السبعة الذين يتناول المؤلف ما انفرد كل واحد منهم، هم على ترتيب المؤلف:
1 - عبد الله بن كثير الداري المكي، المتوفى سنة 110 هـ (1) ، وقد انفرد بتسع كلمات من الأنواع الأربعة. كما انفرد بكلمة واحدة راويه قنبل، محمد بن عبد الرحمن المتوفى سنة 291 هـ (2) .
2 - نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني، المتوفى سنة 170 هـ (3) ، وانفرد بسبعة حروف.
3 - عاصم ابن بهدلة بن أبي النجود الكوفي، المتوفى سنة 129 هـ (4) ، وله سبعة حروف انفرد بها.
وقد كان لكل من راويي عاصم انفرادات: فأبو بكر، شعبة بن عياش المتوفى سنة 193 هـ (5) ، ينفرد بإحدى عشرة كلمة، وحفص بن سليمان المتوفى حوالي سنة 180 هـ (6) ينفرد بثلاث عشرة.
4 - عبد الله بن عامر اليحصبي الشامي المتوفى سنة 118 هـ (7) ، انفرد
__________
(1) ينظر معرفة القراء الكبار للذهبي 71، وغاية النهاية لابن الجزري 1 \ 443.
(2) ينظر معرفة القراء 186، وغاية النهاية 2 \ 165.
(3) ينظر معرفة القراء 89، وغاية النهاية 1 \ 346.
(4) ينظر معرفة القراء 73، وغاية النهاية 1 \ 346.
(5) ينظر معرفة القراء 110، وغاية النهاية 1 \ 325.
(6) ينظر معرفة القراء 116، وغاية النهاية 1 \ 254.
(7) ينظر معرفة القراء 67، وغاية النهاية 1 \ 423.(26/256)
بخمس عشرة كلمة.
كما اختلف راوياه أيضا: فانفرد عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان المتوفى سنة 242 هـ (1) بحرفين، وانفرد هشام بن عمار المتوفى سنة 245 هـ (2) بثلاثة.
5 - أبو عمرو بن العلاء زبان، الإمام اللغوي البصري، المتوفى حوالي سنة 150 هـ (3) ، روي عنه واحد وعشرون حرفا انفرد بها.
6 - حمزة بن حبيب الزيات الكوفي، المتوفى سنة 156 هـ (4) ، انفرد بستة عشر حرفا.
7 - علي بن حمزة الكسائي المتوفى سنة 189 هـ (5) ، وله أربعة حروف.
فيكون مجموع الحروف للقراء السبعة تسعة ومائة حرف.
وبعد أن فرغ المؤلف أضاف للقراء السبعة يعقوب بن أبي إسحاق الحضرمي البصري المتوفى سنة 205 هـ (6) وهو الذي عده كثير من مؤلفي القراءات ثامن القراء، وأدرجه من جمع من القراء أكثر من سبعة. وقد نقل عنه المؤلف ثمانية عشر حرفا انفرد بها. كما أن لراوييه انفرادات: فرويس، محمد بن المتوكل، أبو عبد الله اللؤلؤي البصري المتوفى سنة 238 هـ (7) انفرد بثمانية حروف، وروح بن عبد المؤمن الهذلي البصري المتوفى سنة 234 هـ (8) انفرد بحرفين فصار مجموع ما انفرد به يعقوب وراوياه ثمانية وعشرين حرفا.
__________
(1) ينظر معرفة القراء 163، وغاية النهاية 1 \ 405.
(2) ينظر معرفة القراء 160، وغاية النهاية 2 \ 354.
(3) ينظر معرفة القراء 83، وغاية النهاية 1 \ 288.
(4) ينظر معرفة القراء 93، وغاية النهاية 1 \ 261.
(5) ينظر معرفة القراء 100، وغاية النهاية 1 \ 535.
(6) ينظر معرفة القراء 130، وغاية النهاية 2 \ 386.
(7) ينظر معرفة القراء 177، وغاية النهاية 2 \ 234.
(8) ينظر معرفة القراء 175، وغاية النهاية 1 \ 285.(26/257)
ولو جعل المؤلف غرضه أصلا أن يضيف يعقوب إلى السبعة لاختلف الأمر، فمن الانفرادات لبعض السبعة ما وافقهم عليها يعقوب، وعليه لا تعد مما انفرد به قارئ واحد.
أما مؤلف الرسالة (1) : فهو الإمام الحافظ الماهر عبد المنعم بن عبيد الله بن غلبون، أبو الطيب الحلبي، ولد بحلب سنة 309 هـ، وتلقى علومه على أكابر علماء العصر في القراءات والحديث، وانتقل إلى مصر، واستقر بها وتوفي فيها سنة 389 هـ. وقد تلمذ له عدد من علماء العصر، في مقدمتهم ولده أبو الحسن طاهر، ومكي بن أبي طالب، وأبو عمر الطلمنكي. وكان أبو الطيب ذا عفاف ونسك، خيرا صالحا.
ألف ابن غلبون عددا من الكتب في القراءات منها:
الإرشاد في معرفة مذهب القراء السبعة.
إكمال الفائدة في القراءات السبعة.
استكمال الفائدة - في الإمالة.
المرشد في القراءات السبعة.
التهذيب لاختلاف قراءة نافع (2) .
أما الرسالة التي بين أيدينا، فمخطوطاتها تحتفظ بها مكتبة شستربتي بإيرلندا تحت رقم 3603، وفي جامعة الإمام صورة لها تحمل الرقم نفسه، وهي ثلاث لقطات (ست صفحات) في آخر المجموع الذي يحوي كتاب " الوجيز في أداء القراء الثمانية " للأهوازي، من ورقة (110 ب - 113 أ) وقد كتبت سنة 657 هـ بخط نسخي واضح، وقوبلت على الأصل، وعليها بعض التصحيحات، وعدد أسطر كل صفحة ثلاثة وعشرون سطرا. وقد وقع في المخطوطة بعض الأخطاء.
__________
(1) ينظر ترجمته في معرفة القراء 285، 286، وغاية النهاية 1 \ 470، 471.
(2) ينظر فهرست ما رواه ابن خير الأشبيلي عن شيوخه 25، 27.(26/258)
وقد كان من عملي في النص الإشارة إلى أرقام الآيات في السور، ثم مراجعة القراءات على بعض المصادر وهي: السبعة لابن مجاهد، والتيسير للداني، والكشف لمكي، والإقناع لابن الباذش، والنشر لابن الجزري. وفي قراءة يعقوب التي لا توجد - فيما ذكرت - إلا في النشر أضفت إليه إتحاف فضلاء البشر وبعض كتب التفسير التي تعنى بالقراءات.
وقد أشرت إلى ما وقع في المخطوطة من أخطاء صوبتها، وإلى ما أورد المؤلف من قراءات تخالف المصادر التي نعرفها.
وبعد
فهذه رسالة صغيرة نافعة، وهذا عمل متواضع في تقديمها وتحقيقها، نسأل الله تعالى أن يكتب لنا أجر هذا العمل، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ما انفرد به القراء الثمانية من
الياءات والنونات والتاءات والباءات
لأبي الطيب ابن غلبون
قال أبو الطيب، عبد المنعم بن عبيد الله بن غلبون المقرئ - رضي الله عنه -:
اعلم - نفعنا الله وإياك - أن المختصين بحفظ القرآن، والمعتمدين على ذكر اختلاف القراء في الروايات، والتالين بالحروف التي صح نقلها في الروايات المذكورات، يحبون أن يعرفوا كل ما انفرد به كل واحد(26/259)
من القراء مجملا، من الياءات والنونات والتاءات والباءات، فأفردته ليحفظ بكماله، ولا يغيب عن الطالب له منه شيء إن شاء الله.
وجملة دور هذا الباب في القرآن للقراء السبعة المشهورين دون غيرهم مائة وتسعة (1) مواضع، فأول ما أذكر منه:
__________
(1) في الأصل (وتسع) .(26/260)
ما انفرد به عبد الله بن كثير في روايتيه
وجملته عشرة مواضع:
تفرد بخمس نونات:
أولها في سورة " يوسف ": (حيث نشاء) بالنون.
وفي " الكهف ": (ما مكنني فيه ربي) بزيادة نون (1) .
وفي " الفرقان ": (وننزل الملائكة) بضم النون الأولى وإسكان الثانية وكسر الزاي.
وفي " النمل ": (أو ليأتينني بسلطان مبين) بنونين ظاهرتين.
وفي " الروم ": (لنذيقهم) (2) في رواية قنبل فقط.
وتفرد بخمس ياءات أيضا:
- في سورة " البقرة ": (وما الله بغافل عما يعملون) بعده (أفتطمعون)
__________
(1) سورة الكهف 95. وسائر السبعة (مكني) . السبعة 400، والتيسير 146، والكشف 2 \ 78.
(2) في الأصل (لنذيقنهم) .(26/260)
وفي سورة " النمل " (ولا يسمع الصم) بالياء وفتح الميم ومثله في " الروم ".
وفي آخر " الحجرات ": (والله بصير بما يعملون) بالياء.
وفي سورة " ق ": (هذا ما يوعدون) بالياء (1) . فهذا جميع ما انفرد به.
__________
(1) سورة ق 32. وقراءة غير ابن كثير (توعدون) . التيسير 202، والكشف 2 \ 285، والنشر 2 \ 376.(26/261)
ذكر انفراد نافع في روايتيه
وجملته سبعة (1) مواضع:
تفرد بالتاء في أربعة مواضع:
أولها في " آل عمران ": (ترونهم مثليهم) بالتاء.
وفي " القصص ": (تجبى إليه) .
وفي سورة " الروم ": (لتربو) بالتاء وهي مضمومة.
وفي سورة " المدثر ": (وما تذكرون) .
وتفرد بالنون في موضعين:
__________
(1) في الأصل (سبع) .(26/261)
في " آل عمران ": (لما آتيناكم) .
وفي " حم السجدة ": (ويوم نحشر أعداء الله) .
وتفرد بالياء في موضع واحد:
وهو قوله تعالى في سورة " البقرة ": (يغفر لكم) بالياء.(26/262)
ذكر انفراد عاصم في روايتيه
تفرد بسبعة مواضع:
تفرد بالباء في أربعة مواضع:
في " الأعراف " و " الفرقان " و " النمل ": بشرا بين يدي رحمته بالباء وهي مضمومة وإسكان الشين والتنوين.
وفي " الأحزاب ": (لعنا كبيرا) بالباء.
وتفرد بالنون في موضعين:
- في " التوبة ": إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بالنون فيهما.
وتفرد بالياء في موضع واحد:
- في " النحل ": والذين يدعون من دون الله بالياء.(26/262)
ذكر انفراد أبي بكر بن عياش عنه
تفرد بأحد عشر موضعا:
تفرد بتاء واحدة:
- في " النحل ": (أفبنعمة الله تجحدون) .
وتفرد بثلاث نونات:
قي " يونس ": (ونجعل الرجس) بالنون.
وفي " النحل ": (ننبت لكم) .
وفي " الأنبياء ": (لنحصنكم من بأسكم) .
وتفرد بسبع ياءات:
أولاهن في " الأنعام ": (ولينذر أم القرى) .
وفي " الأعراف ": (ولكن لا يعلمون) .
وفي " العنكبوت ": (ثم إلينا يرجعون) .
وفي سورة " محمد " (صلى الله عليه وسلم) : (وليبلونكم حتى يعلم المجاهدين) ، (ويبلو أخباركم) بالياء في الثلاثة.
وآخر سورة " المنافقين ": (والله خبير بما يعملون) .(26/263)
ذكر انفراد حفص عنه
تفرد بثلاثة عشر موضعا:
تفرد بتاء واحدة:
- في سورة " الفرقان ": فما تستطيعون صرفا بالتاء.
وتفرد بثلاث نونات:
أولاهن في سورة " يوسف ": إلا رجالا نوحي إليهم.
وكذلك في " النحل "، والأول من سورة " الأنبياء ": إلا رجالا نوحي إليهم.
وتفرد بتسع ياءات:
أولاهن في سورة " آل عمران ": فيوفيهم أجورهم.
وفيها: وإليه يرجعون بالياء.
وفيها: خير مما يجمعون (1) .
وفي سورة " النساء ": سوف يؤتيهم أجورهم بالياء.
وفي الموضع الثاني من " الأنعام ": ويوم يحشرهم.
وكذلك الموضع الثاني من " يونس " بالياء فيهما.
__________
(1) سورة آل عمران 157، والباقون بالتاء. السبعة 218، والتيسير 91، والإقناع 623، والنشر 2 \ 243.(26/264)
وفي " سبأ ": ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول بالياء فيهما (1) .
وفي سورة " القيامة ": من مني يمنى بالياء.
فهذه تسعة مواضع بالياء، الجميع ثلاثة عشر موضعا.
__________
(1) سورة سبأ 40، وغير حفص بالنون. السبعة 530، والتيسير 107، والكشف 1 \ 452، والإقناع 643.(26/265)
ذكر انفراد ابن عامر في روايتيه
تفرد بخمسة عشر موضعا:
تفرد بالتاء في تسعة مواضع:
أولاهن في سورة " البقرة ": (تغفر لكم) بالتاء.
وفي " المائدة ": (أفحكم الجاهلية تبغون) .
وفي " الأنعام ": (وما ربك بغافل عما تعملون) .
وفي " الأنفال ": (إذ تتوفى) .
وفي " يونس ": (خير مما تجمعون) .
وفي " الكهف ": (ولا تشرك في حكمه أحدا) .(26/265)
وفي " الأنبياء ": ولا تسمع الصم.
وفي " الشعراء ": (أو لم تكن لهم آية) .
وفي " الحديد ": (فاليوم لا تؤخذ منكم) بالتاء.
فهذه تسع تاءات.
وتفرد بالنون في ثلاثة مواضع:
أولها في " يونس ": (هو الذي ينشركم) من النشر.
وفي " الفرقان ": (فنقول أأنتم أضللتم) بالنون.
وفي " الزمر ": (تأمرونني أعبد) .
وتفرد بالياء في موضع واحد:
في " الأعراف ": (قليلا ما يتذكرون) بالياء والتاء.
وتفرد بموضعين:
أحدهما يبدل من الياء ألفا وهو قوله تعالى: (هو مولاها) (1) بفتح اللام وألف (2) على وزن " مفعل ".
__________
(1) سورة البقرة 148، ينظر السبعة 171، والتيسير 77، والكشف 1 \ 267، والإقناع 605، والنشر 2 \ 223.
(2) في الأصل (والفاء) .(26/266)
والحرف الآخر يحذف منه ياء ونونا، وهو قوله تعالى في سورة " الأعراف ": (وإذ أنجاكم) .
ذكر انفراد ابن ذكوان عنه
تفرد بزيادة باء في " آل عمران "، في قوله تعالى: (جاءوا بالبينات وبالزبر) بزيادة الباء في (الزبر) فقط.
وتفرد بتاء واحدة في سورة " طه " وهي قوله تعالى: (تخيل إليه من سحرهم) (1) بالتاء، فهذا جميع ما انفرد به.
ذكر انفراد هشام (2) عنه
تفرد بزيادة باء أخرى على زيادة ابن ذكوان، فقرأ في " آل عمران ": (جاءوا بالبينات وبالزبر وبالكتاب) والزيادة في (الكتاب) ، ووافق ابن ذكوان على زيادة الباء في (والزبر) (3) .
وقرأ في " الحشر ": (كي لا تكون) بالتاء (دولة) بالرفع.
وقرأ في " الأحقاف ": (أتعداني) بنون مشددة مع إسكان الياء. فجميع ما تفرد به ثلاثة مواضع.
__________
(1) سورة طه 66، وسائر القراء بالياء، التيسير 152، والكشف 2 \ 101، والإقناع 700، والنشر 2 \ 321.
(2) في الأصل (هاشم) وهو غير صواب.
(3) سبق الحديث عنها (قبل حاشيتين) .(26/267)
ذكر انفراد أبي عمرو بن العلاء البصري
وجملة انفراده واحد (1) وعشرون موضعا.
انفرد من التاء بأربعة مواضع:
- أولها في " الأنفال ": (أن تكون له أسرى) .
- وفي " النحل ": (تتفيؤ ظلاله) .
- وفي " الحج ": (أهلكتها) .
- وفي " الأحزاب ": (لا تحل لك النساء) .
وتفرد من النونات بنونين:
أولها في سورة " طه ": (يوم ننفخ في الصور) بالنون مفتوحة.
وفي " الطور ": (وأتبعناهم) بالنون والألف.
وتفرد بخمس عشرة ياء:
أولاهن رأس تسع وأربعين ومائة من سورة " البقرة ": (وما الله بغافل عما يعملون) بالياء (2) .
وفي " الأعراف ": (أن يقولوا) و (أو يقولوا) بالياء فيهما.
__________
(1) في الأصل (أحد) .
(2) سورة البقرة 149 وغيره بالتاء، التيسير 77، والكشف 1 \ 268، والإقناع 605، والنشر 2 \ 223.(26/268)
وفي " بني إسرائيل ": (ألا يتخذوا) .
وفي " طه ": (إن هذين لساحران) .
وفي " القصص ": (أفلا يعقلون) .
وفي " الأحزاب ": (إن الله كان بما يعملون خبيرا) وفيها (وكان الله بما يعملون بصيرا) بالياء فيهما.
وفي " فاطر ": (كذلك يجزى كل كفور) بالياء.
وفي " الفتح ": (وكان الله بما يعملون بصيرا) .
وفي سورة " الأعلى " عز وجل: (بل يؤثرون) .
وفي " الفجر " أربع ياءات: (كلا بل لا يكرمون) ، (ولا يحضون) ، (ويأكلون) ، (ويحبون) ، وبالياء في الأربعة.(26/269)
ذكر انفراد حمزة في روايتيه
وجملة ذلك ستة عشر موضعا.(26/269)
تفرد من التاء بخمسة مواضع (1) :
في " آل عمران ": (ولا تحسبن الذين كفروا) ، (ولا تحسبن الذين يبخلون) ، بالتاء فيهما.
وفي " التوبة ": (أو لا ترون أنهم يفتنون) بالتاء.
وفي " النمل " و " الروم ": (وما أنت تهدي) بالتاء فيهما (العمي) بالنصب.
وتفرد بسبع ياءات:
أولاهن في " آل عمران ": (سيكتب ما قالوا) ، (ويقول) بالياء فيهما.
وفي " النساء " رأس اثنتين وستين ومائة (سيؤتيهم أجرا عظيما) .
وفي " الأنعام ": (توفاه رسلنا) . وفيها (استهواه الشياطين) بالياء فيهما.
وفي سورة " النحل " (الذين يتوفاهم الملائكة) في الموضعين جميعا.
وتفرد من النونات بأربعة مواضع:
__________
(1) في الأصل (بأربعة) وصوبتها لأن آيتي الروم والنمل اثنتان على ما جرى المؤلف.(26/270)
أولاهن في سورة " الكهف ": (ويوم نقول نادوا) بالنون.
وفي سورة " طه " (وأنا) بتشديد النون (اخترناك) بنون وألف بين الراء والكاف من غير تاء.
وفي " النمل " (أتمدوني بمال) بنون واحدة مشددة (1) .
وفي " المجادلة ": (وينتجون بالإثم) بنون بين الياء والتاء.
__________
(1) سورة النمل 36، وغيره (أتمدونني) . السبعة 482، والتيسير 170، والكشف 2 \ 160، والنشر 2 \ 340.(26/271)
ذكر انفراد الكسائي في روايتيه
وجملة انفراده أربعة مواضع:
تفرد من التاءات بموضع واحد في سورة " المائدة ": (هل تستطيع ربك) بالتاء، وإدغام اللام في التاء.
وتفرد من النونات بموضع واحد في " بني إسرائيل ": (لنسوء وجوهكم) بالنون.
وتفرد من الياءات بموضعين:
أحدهما في سورة " الملك ": (وعليه توكلنا فسيعلمون) بالياء.(26/271)
والثاني في سورة " الواقع ": (يعرج الملائكة والروح إليه) بالياء.
وهذا جميع ما انفرد به القراء السبعة في هذا الباب. والحمد لله وصلى الله على محمد نبيه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.(26/272)
ذكر انفراد يعقوب
ثم أضيفت إلى ذلك تفاريد أبي محمد، يعقوب بن إسحاق الحضرمي البصري، من طريق شيخي عنه:
ذكر انفراده من روايتيه:
تفرد بثمانية عشر موضعا:
تفرد باثنتي عشرة ياء:
أولاهن في آخر سورة " البقرة ": (لا يفرق بين أحد) بالياء.
وفي " آل عمران ": (تقية) (1) .
وفي " الأنعام ": موضعان " (ويوم يحشرهم) ، (ثم يقول) بالياء فيهما.
وفي سورة " يوسف " موضعان: (يرفع درجات من يشاء) بالياء فيهما (2) .
وفي بني إسرائيل: (ويخرج له) بالياء.
وفي سورة " مريم " (يساقط عليك) بالياء.
__________
(1) سورة آل عمران 28، وقراءة السبعة (تقاه) ، النشر 2 \ 239، والإتحاف 172، والقرطبي 4 \ 57.
(2) سورة يوسف 76، والسبعة بالنون، النشر 2 \ 296، والإتحاف 266، والبحر 5 \ 332.(26/272)
وفي " الأنبياء ": (أن لن يقدر عليه) بالياء.
وفي آخر " الحج ": (إن الذين يدعون من دون الله) بالياء (1) .
وفي سورة " الزخرف ": (يقيض له شيطانا) بالياء.
وفي آخر " الأحقاف ": (يقدر على أن يحيي الموتى) بالياء.
وتفرد بأربع تاءات:
أولاهن في " البقرة ": (والله بصير بما تعملون. قل) بالتاء (2) .
وفي " الحج " موضعان: (لن تنال الله لحومها) ، (ولكن تناله التقوى) بالتاء فيهما (3) .
وفي " الحجرات ": (بين إخوتكم) بالتاء.
وتفرد بنونين:
أولهما في " طه ": (نقضي إليه وحيه) بالنون ونصب (وحيه) (4) .
وفي سورة " التغابن ": (يوم نجمعكم ليوم الجمع) بالنون (5) .
تم انفراده بعون الله وتأييده (6) .
__________
(1) سورة الحج 73، والسبعة (تدعون) النشر 2 \ 327، والإتحاف 317، والقرطبي 12 \ 97، والبحر 6 \ 390.
(2) سورة البقرة 96، 97، والقراء بالياء، النشر 2 \ 219، والإتحاف 144.
(3) سورة الحج 37، والقراء بالياء فيهما، النشر 2 \ 326، والإتحاف 315، والبحر 6 \ 370.
(4) سورة طه 114، والقراء (يقضى إليه وحيه) . النشر 2 \ 322، والإتحاف 308، والبحر 6 \ 282.
(5) سورة التغابن 9، والقراء (يجمعكم) . النشر 2 \ 388، والإتحاف 417، والبحر 8 \ 278.
(6) أي فيما اتفق عليه راوياه.(26/273)
ذكر انفراد رويس بن المتوكل اللؤلؤي عنه
تفرد بثمانية مواضع:
تفرد بخمس مواضع:
أولها في " الأنفال ": (فإن الله بما تعملون بصير) بالتاء (1) .
وفي " يونس ": (فبذلك فلتفرحوا) بالتاء (2) .
وفي " بني إسرائيل ": (فتغرقكم) بالتاء.
وفي " حم الطول ": (لتنذر يوم التلاق) بالتاء.
وفي " الحديد ": (ولا تكونوا كالذين) بالتاء (3) .
وتفرد بياء واحدة في سورة " يس ": (يقدر على أن يخلق) (4) .
وتفرد بنونين:
- في سورة " المجادلة ": (إذا انتجيتم فلا تنتجوا) بالنون فيهما.
تم انفراده بعون الله ومنه وتأييده.
ذكر انفراد روح بن عبد المؤمن عنه
تفرد بموضعين:
__________
(1) سورة الأنفال 39، وغيره (يعملون) . النشر 2 \ 276، والإتحاف 237، والبحر 4 \ 495.
(2) سورة يونس 58، والسبعة (فليفرحوا) . النشر 2 \ 285، والإتحاف 252، والبحر 5 \ 172.
(3) سورة الحديد 16، وغيره بالياء، النشر 2 \ 384، والإتحاف 410.
(4) سورة يس 81، والسبعة (بقادر على) . النشر 2 \ 355، والإتحاف 367، والبحر 7 \ 348.(26/274)
تفرد بياء واحد في " يونس ": (ما يمكرون) .
وتفرد بتاء واحد في سورة " النحل ": (تنزل الملائكة بالروح) بالتاء (1) .
فجميع انفراد يعقوب وصاحبيه ثمانية وعشرون موضعا: التاءات عشرة، والياءات أربعة [عشر، والنونات أربعة] (2) .
تم انفراد يعقوب من طريقيه المشهورين عنه حسب ما تأدى إلينا رواية وتلاوة.
والحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
مصادر التحقيق والدراسة
القرآن الكريم.
إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر: للدمياطي البنا \ مطبعة عبد الحميد حنفي، القاهرة 1359 هـ.
إعراب القرآن: لأبي جعفر النحاس، تحقيق د. زهير غازي زاهد، مكتبة العاني، بغداد، الجزء الثالث 1400 هـ.
الإقناع في القراءات السبع: لابن الباذش، تحقيق د. عبد المجيد قطامش، جامعة أم القرى، مكة المكرمة 1403 هـ.
البحر المحيط: لأبي حيان، مصورة مكتبة النصر الحديثة بالرياض، عن طبعة القاهرة 1329 هـ.
تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) ، مصورة دار إحياء التراث العربي، بيروت، عن طبعة القاهرة.
التيسير في القراءات السبع: لأبي عمرو الداني، تحقيق أوتوبرتزل إستامبول، مطبعة الدولة 1930 م.
السبعة في القراءات: لابن مجاهد، تحقيق د. شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، 1400 هـ.
غاية النهاية في طبقات القراء: لابن الجزري، تحقيق برجشتراسر، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1351 هـ.
فهرست ما رواه ابن خير الأشبيلي عن شيوخه، مصورة المكتب التجاري، بيروت 1382 هـ.
الكشاف: للزمخشري، مصورة دار المعرفة عن طبعة الحلبي، القاهرة.
الكشف عن وجوه القراءات السبع: لمكي بن أبي طالب، تحقيق د. محيي الدين رمضان، مؤسسة الرسالة، بيروت 1401 هـ.
معرفة القراء الكبار: للذهبي، تحقيق محمد سيد جاد الحق، دار الكتب الحديثة، القاهرة 1387 هـ.
النشر في القراءات العشر - لابن الجزري - مصورة دار الكتب العلمية.
__________
(1) سورة النحل 2، والقراءة (ينزل الملائكة) . النشر 2 \ 302، والإتحاف 277، والبحر 5 \ 473.
(2) تكملة يستقيم بها النص.(26/275)
بحث
فيما نسبه الشيخ منصور البهوتي في
الروض المربع إلى عمر بن الخطاب
رضي الله عنه في صلاة
التراويح
في رمضان وتخريجه ومناقشة
أهل العلم في ذلك
بقلم: د. رويعي راجح الرحيلي
أستاذ مساعد بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد فهذا تتمة بحث:
استحباب صلاة التراويح عشرين ركعة والوتر ثلاث ركعات جماعة في ليالي رمضان المبارك
ذكر الشيخ البهوتي - رحمه الله - في كتابه الروض المربع: صلاة التراويح، فقال: والتراويح سنة مؤكدة، سميت بذلك لأنهم يصلون أربع(26/277)
ركعات ويتروحون ساعة - أي يستريحون -، عشرون ركعة، لما روى أبو بكر عبد العزيز في الشافي: عن ابن عباس «أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يصلي في شهر رمضان عشرين ركعة (1) » . تفعل: ركعتين ركعتين في جماعة، مع الوتر بالمسجد أول الليل، والأفضل وسنتها في رمضان، لما روي في الصحيحين من حديث عائشة: «أنه (صلى الله عليه وسلم) صلاها لياليا، فصلوها معه، ثم تأخر وصلى في بيته باقي الشهر، وقال: إني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها (2) » . ثم قال: وفي البخاري: أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب فصلى بهم التراويح (3) .
هذا الذي ينسبه الشيخ - رحمه الله - إلى عمر من رواية البخاري، هو صحيح كما قال:
1 - ولفظ ما رواه البخاري بسنده إلى عبد الرحمن بن عبد القارئ أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط (4) ، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله.
هذا هو الحديث الذي أشار إليه البهوتي رحمه الله، وفيه عدة مسائل:
الأولى: أن هذه الرواية جاء فيها أن عمر - رضي الله عنه - أمر أبيا أن يؤم الناس في صلاة التراويح، وقد جاءت آثار أخرى
__________
(1) سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1327) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (924) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (761) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1604) ، سنن أبو داود الصلاة (1373) ، مسند أحمد بن حنبل (6/169) ، موطأ مالك النداء للصلاة (250) .
(3) انظر الروض المربع 1 \ 72 - 73 الطبعة السابعة طبع دار الكتب العلمية بيروت.
(4) قال في النهاية الرهط من الرجال ما دون العشرة وقيل إلى الأربعين انظر مادة رهط.(26/278)
تدل على أنه أمر غيره بما أمره به.
الثانية: أن هذه الرواية لم يذكر فيها عدد الركعات في صلاة التراويح عند عمر - رضي الله عنه -، وقد جاءت روايات أخرى تبين ذلك.
الثالثة: أن هذه الرواية بينت بعض الأسباب التي جعلت عمر - رضي الله عنه -، يجمع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وجاءت روايات أخرى توضح أسبابا أخرى.
الرابعة: أن في هذه الرواية ما يشعر بأن صلاة التراويح آخر الليل أفضل عند عمر - رضي الله عنه -، وجاءت روايات أخرى تؤيد ذلك، والجواب عنه.
الخامسة: أن في هذه الرواية ما يشعر بأنه - رضي الله عنه -، ما كان يصلي التراويح مع الجماعة في بعض الأحيان، والجواب عن ذلك.
السادسة: أن عمر - رضي الله عنه - حين أمر بإقامة صلاة التراويح جماعة في أول الليل قال: نعم البدعة هذه، وبيان محمل ذلك.
سنبحث هذه المسائل - إن شاء الله - مع بيان مناقشة أهل العلم لذلك مع ما يرجحه الدليل، وإليك إياها واحدة واحدة.
أما المسألة الأولى:
فهي أن عمر رضي الله عنه أمر في هذا الأثر أبي بن كعب بأن يؤم الناس في صلاة التراويح جماعة، فنعم. .
وقد جاءت آثار أخرى تدل على أنه رضي الله عنه أمر غيره بمثل ما أمر أبيا رضي الله عنه.(26/279)
2 - فقد ذكر صاحب كنز العمال: أن ابن سعد روى بسنده إلى ابن أبي مليكة، قال: بلغني أن عمر بن الخطاب أمر عبد الله بن السائب المخزومي حين جمع الناس في رمضان، أن يقوم بأهل مكة (1) .
وسيأتي عن عمر رضي الله عنه، أنه صلى خلفه حين قدم مكة معتمرا.
3 - وروى البيهقي وغيره بسندهم إلى عروة بن الزبير: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين جمع الناس على قيام شهر رمضان، الرجال على أبي بن كعب، والنساء على سليمان بن أبي حثمة.
4 - وروى الإمام مالك في الموطأ بسنده عن السائب بن يزيد قال: أمر عمر بن الخطاب: أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس في رمضان بإحدى عشرة ركعة، فكان القارئ يقرأ بالمئين حتى يعتمد على العصا من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر.
فهؤلاء أربعة أمرهم عمر رضي الله عنه أن يقوموا للناس بصلاة التراويح جماعة.
أبي بن كعب وتميم الداري وعبد الله بن السائب المخزومي وسليمان بن أبي حثمة الذي أمره أن يصلي بالنساء.
__________
(1) كنز العمال 8 \ 409، رقم 23470، قال الهندي: رواه ابن سعد. وراجعته في مظانه ولم أعثر عليه.(26/280)
وفي بعض الروايات: أن عمر رضي الله عنه أمر تميما الداري أن يصلي بالنساء.
فقد ذكر ابن حجر في فتح الباري: أن سعيد بن منصور روى من طريق عروة: أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب، فكان يصلي بالرجال وكان تميم الداري يصلي بالنساء (1) .
ثم قال ابن حجر رحمه الله: وقد رواه محمد بن نصر في كتاب قيام الليل له من هذا الوجه، فقال: سليمان بن أبي حثمة بدل تميم الداري (2) .
ثم جمع بينهما: بإمكان أن يكون عمر رضي الله عنه، أمر تميما الداري بذلك في وقت، وأمر سليمان بن أبي حثمة في وقت آخر فهو يقول: ولعل ذلك في وقتين (3) .
وجمعه رحمه الله متجه وحسن حتى لا يكون هناك تضاد بين الروايات، إذن عمر رضي الله عنه كما أمر أبيا بأن يؤم الناس في صلاة التراويح أمر غيره بمثل ذلك - والله أعلم - كما دلت له الآثار السابقة.
المسألة الثانية:
فهي أن هذه الرواية التي ذكرها البخاري وأشار إليها البهوتي - رحمه الله -، لم يذكر فيها عدد ركعات صلاة التراويح عند عمر رضي الله عنه، ومثلها.
5 - ما رواه ابن أبي شيبة بسنده إلى عروة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أبيا: أن يصلي بالناس في شهر رمضان (4) .
فهي رواية مجملة كرواية عبد الرحمن بن عبد القارئ التي رواها
__________
(1) فتح الباري 4 \ 203.
(2) فتح الباري 4 \ 203.
(3) فتح الباري 4 \ 203.
(4) مصنف ابن أبي شيبة 2 \ 396، مطبعة الدار السلفية، حدثنا وكيع أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه.(26/281)
البخاري، ولكن جاءت آثار مروية عن عمر رضي الله عنه تبين هذا الإجمال.
6 - فقد روى الإمام مالك في الموطأ بسنده عن السائب بن يزيد، قال: أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس في رمضان بإحدى عشرة ركعة، فكان القارئ يقرأ بالمئين حتى يعتمد على العصا من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر.
فالأثر هذا دل على أن عمر رضي الله عنه هو بنفسه الذي أمر أبيا وتميما الداري بأن يصليا للناس إحدى عشرة ركعة، لكن ابن أبي شيبة ساقه بلفظ آخر، وأن أبيا وتميما هما اللذان كان يصليانها كذلك، ولم يذكر في الأثر أن عمر أمرهما بذلك.
7 - فقد روى ابن أبي شيبة بسنده إلى السائب: أن عمر جمع الناس على أبي وتميم، فكانا يصليان إحدى عشرة ركعة، يقرآن بالمئين - يعني في رمضان.
وليس بين الروايتين فيما يظهر لي خلاف لأنه وإن لم يصرح ابن أبي شيبة في روايته بأن عمر أمرهما أن يصلياها إحدى عشرة ركعة إلا أنه لا بد أن يكون قد أقرهما على ذلك فيكون ذلك(26/282)
هو ما أراده عمر رضي الله عنه: لأنه من المستبعد ألا يكون عنده علم بذلك، وما دام أنه لم ينكر عليهما فقد أقرهما أن تصلى التراويح إحدى عشرة ركعة.
وقد جاءت روايات أخرى تدل على أن عمر رضي الله عنه قد أقر من صلاها - أي التراويح - عشرين ركعة غير الوتر.
8 - فقد روى البيهقي في المعرفة بسنده عن السائب بن البرقان، قال: كنا نقوم زمن عمر بن الخطاب بعشرين ركعة والوتر (1) .
9 - وروى ابن أبي شيبة بسنده إلى حسن - عبد العزيز - قال: كان أبي ابن كعب يصلي بالناس في رمضان بالمدينة عشرين ركعة ويوتر بثلاث.
فهذان الأثران دلا على أن صلاة التراويح قد صليت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عشرين ركعة، فلا بد أن يكون قد علم ذلك وأقر من صلاها كذلك ولم ينكر عليهم.
10 - وروى الإمام مالك عن يزيد بن رومان أنه قال: كان الناس يقومون في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه بثلاث وعشرين ركعة.
11 - وذكر ابن قدامة بصيغة الجزم، فقال: ولنا أن عمر لما جمع الناس على أبي بن كعب كان يصلي لهم عشرين ركعة، وقد روى الحسن: أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب فكان يصلي لهم عشرين ركعة (2) .
__________
(1) انظر حاشية شرح معاني الآثار للشيخ محمد زهري 1 \ 352، ووصف إسناده بأنه صحيح.
(2) انظر المغني والشرح الكبير 1 \ 799.(26/283)
بل إنه ورد عن عمر رضي الله عنه أنه أمر أن تصلى التراويح عشرين ركعة.
12 - فقد روى ابن أبي شيبة بسنده إلى يحيى بن سعيد: أن عمر بن الخطاب أمر رجلا يصلي بهم عشرين ركعة (1) .
وجاءت رواية أخرى تدل على أن الصحابة صلوا التراويح زمن عمر بن الخطاب ثلاث عشرة ركعة.
13 - قال ابن حجر: وأخرج وهب من طريق محمد بن إسحاق حدثني محمد بن يوسف عن جده السائب بن يزيد قال: كنا نصلي زمن عمر في رمضان ثلاث عشرة ركعة، قال ابن إسحاق - أحد رجال السند - وهذا أثبت ما سمعت في ذلك وهو موافق لحديث عائشة (2) .
فابن إسحاق هنا يثبت رواية من روى أنها - أي صلاة التراويح - صليت عشرين ركعة في زمن عمر رضي الله عنه، لكنه كان يرى أن ما روي في هذا الأثر أثبت بصيغة التفضيل، وذلك لما وافقه من حديث عائشة، وحديث عائشة الذي يعنيه هو ما رواه البخاري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه «سأل عائشة رضي الله عنها: كيف كانت صلاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في رمضان؟ فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا، فقلت: يا رسول الله: أتنام قبل أن توتر؟ قال: يا عائشة: إن عيني تنامان ولا ينام قلبي (3) » إذا ظاهر الروايات المأثورة عن
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة 2 \ 393، حدثنا وكيع عن مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد.
(2) فتح الباري 4 \ 254.
(3) صحيح البخاري مع فتح الباري 4 \ 251.(26/284)
عمر بن الخطاب رضي الله عنه الاختلاف في كون صلاة التراويح، هل كانت تصلى مع الوتر ثلاثا وعشرين ركعة، أو إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة؟ بل إن السائب بن يزيد نفسه روى مرة أن صلاة التراويح في عهد عمر كانت تصلى إحدى عشرة ركعة، ومرة روى أنها كانت تصلى ثلاث عشرة ركعة على ما سبق، وروى أيضا أنها كانت تصلى ثلاثا وعشرين ركعة.
14 - فقد روى البيهقي بسنده عن السائب بن يزيد أنه قال: كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب في شهر رمضان بعشرين ركعة، وكانوا يقرءون بالمئين، وكانوا يتوكئون على عصيهم في عهد عثمان من شدة القيام.
هذه الروايات ظاهرها الاختلاف، وفي نظري أنه لا تعارض حقيقي بينها لأن الجمع بينها ممكن.
فاختلاف الروايات عن السائب بن يزيد الذي جاء النقل عنه بأنه مرة قال: أمر عمر بن الخطاب أبيا وتميما الداري بأن يصليا للناس إحدى عشرة ركعة في رمضان، وجاء عنه في رواية أخرى أنه قال: كنا نصلي على عهد عمر بن الخطاب ثلاث عشرة ركعة، وقال في رواية ثالثة عنه: كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب بعشرين ركعة والوتر، فإن هذا الاختلاف يجاب عنه من ناحيتين:
الأولى: بأنه لا يستبعد أن يكون السائب بن يزيد قد علم أن عمر رضي الله عنه أمر أبيا وتميما بأن يصليا للناس بإحدى عشرة ركعة في بادئ الأمر، ثم إن الناس صلوا في زمن عمر بن الخطاب ثلاث عشرة(26/285)
أمر أبيا أركعة، فلم يعبهم عمر رضي الله عنه، وأقرهم على ذلك، فروى ذلك السائب بن يزيد، ثم إن الناس بعد ذلك صلوا التراويح عشرين ركعة والوتر، فلم يعبهم عمر بن الخطاب وأقرهم على ذلك، لدليل علمه أو اجتهاد منه، فروى ذلك السائب بن يزيد، وكان معنى ذلك أن صلاة التراويح إذا صليت على صفة من تلك الصفات الثلاث، كان ذلك جائزا ولا لوم على أحد فعل ذلك.
وقد جمع البيهقي بين الروايات بمثل هذا الجمع، فهو يقول: كانوا يقومون بإحدى عشرة ركعة، ثم كانوا يقومون بعشرين، ويوترون بثلاث والله أعلم (1) .
وما زال المسلمون إلى يومنا هذا منهم من يصلي التراويح مع الوتر إحدى عشرة ركعة، ومنهم من يصليها ثلاث عشرة ركعة ومنهم من يصليها ثلاثا وعشرين ركعة لأن كل ذلك سنة.
الثانية: طريق الترجيح، وذلك أن الرواية المأثورة عن عمر من طريق السائب بن يزيد التي ذكر فيها أن صلاة التراويح كانت تصلى في زمن عمر رضي الله عنه ثلاثا وعشرين ركعة، أيدتها روايات أخرى مروية عن السائب بن رومان ويحيى بن سعيد وحسن هو عبد العزيز، والسائب بن برقان والحسن البصري على ما ذكره ابن قدامة، ولا شك أن كثرة الطرق من أسباب الترجيح كما هو معروف في مصطلح الحديث فيكون رواية من روى أن صلاة التراويح كانت في عهد عمر تصلى عشرين ركعة والوتر هي الراجحة، ولعل ذلك كان آخر الأمر يقول ابن حبيب من المالكية: رجع عمر إلى ثلاث وعشرين ركعة.
أما ما ذكر ابن إسحاق من كون رواية السائب بن يزيد التي روى
__________
(1) سنن البيهقي 2 \ 496.(26/286)
فيها عن عمر بأن صلاة التراويح كانت تصلى في عهده ثلاث عشرة ركعة، وأنها أثبت عنده من غيرها من الروايات، لموافقة حديث عائشة رضي الله عنها السابق.
وكذلك قول اللخمي من المالكية: الذي آخذ به ما جمع عليه عمر: إحدى عشرة ركعة (1) .
فالجواب عما ذكره ابن إسحاق رحمه الله من وجهين:
أولا: أنه لم ينف صحة صلاة التراويح عشرين ركعة في زمن عمر رضي الله عنه وإنما رجح رواية السائب بن يزيد لأن التراويح كانت تصلى في زمن عمر ثلاث عشرة ركعة لموافقة حديث عائشة رضي الله عنها السابق.
وذكر ابن حجر ما يؤيد هذا الرأي وأنه هو الأولى لحديث عائشة هذا، ثم قال: مع كون عائشة أعلم بحال النبي (صلى الله عليه وسلم) من غيرها (2) .
وقد أجاب بعض أهل العلم عن هذا.
فإن الشيخ محمد زهري النجار: ذكر حديث ابن عباس الذي ذكره ابن حجر في فتح الباري وغيره وهو: «أن النبي (صلى الله عليه وسلم) : صلى التراويح عشرين ركعة مع الوتر (3) » . ثم قال:
قال: العلامة القارئ مجيبا عنه: ولا يبعد أن ابن عباس حصل له من العلم من غير طريق عائشة من سائر المؤمنين.
قال: وعلى كل تقدير فالعمل بالحديث الضعيف جائز عند الكل
__________
(1) انظر التاج والإكليل لمختصر خليل للمواق المتوفى عام 897 هـ.
(2) فتح الباري 4 \ 254.
(3) فتح الباري 4 \ 254، قال ابن حجر رواه ابن أبي شيبة وإسناده ضعيف، عمدة القارئ 11 \ 28، قال القارئ: قلت هذا الحديث رواه أبو القاسم البغوي، وذكر سنده. ثم قال: وأبو شيبة (في سنده) هو إبراهيم بن عثمان العبس الكوفي، قاضي واسط جد أبي بكر بن أبي شيبة كذبه شعبة وضعفه أحمد وابن معين وأورد له ابن عدي في الكامل هذا الحديث في مناكيره. انظر سنن البيهقي 2 \ 496.(26/287)
"يعني فضائل الأعمال "قال ويكفينا ما رواه البيهقي في المعرفة بإسناد صحيح عن السائب بن البرقان "كنا نقوم زمن عمر بن الخطاب بعشرين ركعة والوتر "، فهذا كالإجماع من غير منكر في هذا الإجماع وقد ورد: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين بعدي (1) » .
ثانيا: قال ابن قدامة - رحمه الله - في الجواب عن حديث عائشة رضي الله عنها في كون النبي (صلى الله عليه وسلم) ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة: بأن كونه (صلى الله عليه وسلم) لم يزد على إحدى عشرة ركعة محمول على صلاة التهجد - وهي الصلاة في الليل بعد القيام من نوم - لأن سياق حديث عائشة رضي الله عنها يشير إلى ذلك حيث بينته بقولها: «كان يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن (2) » . .
إذن الذي يترجح من سياق هذه الآثار أن صلاة التراويح صليت زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عشرين ركعة مع الوتر، وأنه أقر ذلك، ولم يظهر له مخالف فهو إجماع، أو كالإجماع، كما قال ذلك ابن قدامة والشيخ القارئ، وقد وافقه على ذلك ثلاثة من أئمة أهل العلم، أبو حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله، ولم يمنعوا أحدا أن يصليها إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة، وهذا يدل على أن فعلها ثلاثا وعشرين ركعة عند الأئمة الثلاثة أفضل، فحذار ممن يتطاول على هؤلاء الأئمة الأعلام، بزعم أن صلاة التراويح ثلاثا وعشرين ركعة بدعة، لأنه لا يقال لعمل فعله عمر رضي الله عنه أو أقره ووافقه عليه أئمة الهدى بأنه بدعة. وذهب الإمام مالك رحمه الله إلى أن صلاة التراويح تصلى تسعا وثلاثين ركعة، وحجته في ذلك عمل أهل المدينة، قال نافع: أدركت الناس يقومون تسعا وثلاثين ركعة، ويوترون منها بثلاث، قال
__________
(1) انظر تعليق الشيخ محمد زهري البخاري على شرح معاني الآثار 1 \ 350.
(2) المغني والشرح الكبير 1 \ 773.(26/288)
مالك: وهو لم يزل عليه الناس، وقد كره رحمه الله أن ينقص من ذلك (1) .
ولكن أهل العلم ناقشوا دليل الإمام مالك رحمه الله في ذلك، فإن ابن قدامة رحمه الله قال: بأن صالحا مولى التوأمة، هو الذي قال: أدركت الناس يقومون بإحدى وأربعين ركعة يوترون بخمس، وذلك مردود بأن صالحا ضعيف ثم لا ندري من الناس الذي أخبر عنهم؟ فلعله قد أدرك جماعة من الناس يفعلون ذلك وليس بحجة، ثم لو ثبت أن أهل المدينة كلهم فعلوه لكان ما فعله عمر وأجمع عليه الصحابة في عصره أولى بالاتباع.
ثم قال: قال بعض أهل العلم إنما فعل هذا أهل المدينة لأنهم أرادوا مساواة أهل مكة، فإن أهل مكة يطوفون سبعا بين كل ترويحتين، فيجعل أهل المدينة مكان كل سبع أربع ركعات، وما كان عليه أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أولى وأحق بالاتباع (2) .
إذن الآثار التي رويت عن عمر رضي الله عنه تدل على أن صلاة التراويح كانت تصلى في عهده مع الوتر ثلاثا وعشرين ركعة، وهو إما إجماع أو كالإجماع وقد فعل المسلمون ذلك إلى يومنا هذا، وهو دليل على فضل ذلك على ما سواه، والله أعلم بالصواب.
المسألة الثالثة:
فهي أن رواية البخاري التي أشار إليها الشيخ البهوتي رحمه الله أشارت إلى بعض الأسباب التي جعلت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجمع الناس في صلاة التراويح على إمام واحد بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فقد قال عبد الرحمن بن عبد القارئ: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله
__________
(1) انظر التاج والإكليل لمختصر خليل مع كتاب مواهب الجليل 1 \ 71.
(2) المغني والشرح الكبير 1 \ 799.(26/289)
عنه ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب (1) .
فإن الأثر دل على أن السبب الذي جعل عمر رضي الله عنه يجمع المسلمين في صلاة التراويح على إمام واحد هو ما شاهده من تفرقهم في المسجد أوزاعا مع أنهم جميعا يصلون صلاة واحدة، وهذا اجتهاد من عمر ولا أحد ينازع أنه من أهل الاجتهاد بل من أعظم المجتهدين.
لكن هذا الأثر لم يذكر أسبابا أخرى، وقد جاءت آثار أخرى تدل على أسباب أخرى.
منها أن كثيرا من الناس لا يحسنون القراءة، فأراد عمر رضي الله عنه أن يجمع المسلمين في صلاة التراويح على إمام واحد يحسن القراءة.
15 - فقد ذكر صاحب كنز العمال أن ابن منيع روى عن أبي بن كعب أن عمر بن الخطاب أمره أن يصلي بالليل في رمضان، فقال: إن الناس يصومون النهار ولا يحسنون أن يقرءوا، فلو قرأت عليهم بالليل، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا شيء لم يكن، فقال: قد علمت ولكنه حسن، فصلى بهم عشرين ركعة. ومنها أيضا أنه روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه أشار على عمر رضي الله عنه بأن تقام صلاة التراويح جماعة وحرضه على ذلك.
16 - فقد ذكر صاحب كنز العمال: أن ابن وهب روى بسنده عن
__________
(1) انظر ص 1 رقم الأثر 21.(26/290)
علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أنا حرضت عمر على القيام في شهر رمضان وأخبرته أن فوق السماء السابعة حظيرة يقال لها: حظيرة القدس سكنها قوم يقال لهم: الروح، فإذا كان ليلة القدر استأذنوا ربهم تبارك وتعالى في النزول إلى الدنيا فيأذن لهم، فلا يمسون بأحد يصلي، أو على الطريق إلا دعوا له فأصابه منهم بركة، فقال عمر: يا أبا الحسن فحرض الناس على الصلاة حتى تصيبهم البركة، فأمر الناس بالقيام (1) .
ومنها أيضا أن بعض الناس، قبل أن يجمعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه على إمام واحد كانوا يميلون إلى أحسن الناس صوتا، يعني وإن لم يكن يحسن القراءة.
17 - فقد ذكر صاحب كنز العمال: أن ابن سعد وغيره رووا بسندهم إلى نوفل بن إياس الهذلي قال: كنا نقوم في عهد عمر بن الخطاب فرقا في المسجد في رمضان هاهنا وهاهنا، وكان الناس يميلون إلى أحسنهم صوتا فقال عمر: ألا أراهم قد اتخذوا القرآن أغاني، أما والله لئن استطعت لأغيرن هذا، فلم أمكث ثلاث ليال حتى أمر أبي بن كعب، فصلى بهم، ثم قام في آخر الصف، فقال: لئن كانت هذه البدعة لنعمت البدعة هي.
إذن عمر رضي الله عنه حينما جمع الناس في صلاة التراويح، كانت هناك أسباب دعته إلى الاجتهاد في هذه المسألة، تفرق الناس وهم يصلون صلاة واحدة فكانوا في المسجد أوزاعا، ثم خوفه على أن يجتمع الناس على شخص لا يحسن القراءة، ثم خوفه من الناس أن يجتمعوا على شخص لحسن صوته، وإن لم يحسن القراءة، ثم مشاورة بعض الصحابة له بذلك.
__________
(1) انظر كنز العمال 8 \ 400، رقم 23479، قال الهندي: رواه ابن وهب، بسند ضعيف.(26/291)
فإذا اجتهد عمر رضي الله عنه وجمع الناس على إمام واحد، كان ذلك من حقه، ومن مثل عمر في اجتهاده؟ وقد شهد له أهل العلم بذلك، وليس في الشرع ما يمنع ذلك، فهذا هو الأولى إن شاء الله.(26/292)
المسألة الرابعة:
فهي أن في رواية البخاري التي أشار إليها البهوتي رحمه الله فيها ما يشعر بأن صلاة التراويح عند عمر رضي الله عنه عند آخر الليل أفضل من صلاتها في أول الليل في جماعة، فقد جاء في أثر عبد الرحمن بن عبد القارئ قول عمر رضي الله عنه: والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون.
وقال عبد الرحمن بن عبد القارئ الذي روى عنه ذلك: يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله (1) .
وليس هذا فقط، بل جاءت روايات أخرى عن عمر رضي الله عنه تؤكد هذا وتقويه.
18 - فقد ذكر صاحب كنز العمال: أن مسددا روى بسنده: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: استقبل عمر الناس من القيام فقال: ما بقي من الليل أفضل مما مضى.
19 - وروى ابن أبي شيبة بسنده عن السائب قال: قال عمر: إنكم تدعون أفضل الليل. آخره (2) .
20 - وروى ابن أبي شيبة بسنده عن حبيب قال: قال رجل: ذهب الليل، فقال عمر: ما بقي من الليل خير مما ذهب (3) .
__________
(1) انظر رواية البخاري ص 1، الأثر رقم (1) وانظر مصنف ابن شيبة 2 \ 396، رواه بسنده.
(2) مصنف ابن أبي شيبة 2 \ 396، حدثنا وكيع قال: حدثنا أسامة بن يزيد عن محمد بن يوسف الأعرج عن السائب.
(3) مصنف ابن أبي شيبة 2 \ 396، حدثنا وكيع، قال أخبرنا مسعر عن حبيب.(26/292)
هذه الآثار المروية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، تدل على أن صلاة التراويح آخر الليل، أفضل من صلاتها أول الليل، وهذا يتفق مع سيرته وديدنه، فقد كان رضي الله عنه، يصلي الليل في آخره، وأقره على ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، كما بينته في مجلة التضامن الإسلامي (1) .
وهناك بينت أيضا أن أبا بكر رضي الله عنه كان يصليها في أول الليل، وأقره على ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
وقد ذكر الطحاوي رحمه الله: أن الأفضل أن يصليها المسلم في البيت منفردا، ولعله يحتج في ذلك بما روي عن عمر رضي الله عنه هنا، وقد ذكر الطحاوي رحمه الله من أدلته: عموم حديث زيد بن ثابت: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة (2) » وهو حديث صحيح.
وجمع رحمه الله بين هذا الحديث وحديث أبي ذر الذي جاء فيه «أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) صلى بأصحابه التراويح جماعة. ثم قال: إن القوم إذا صلوا مع الإمام حتى ينصرف كتب لهم قيام تلك الليلة (3) » ، وهو حديث صحيح أيضا يدل على أن صلاة التراويح جماعة أول الليل أفضل، فكان جوابه رحمه الله، أن قال: فتصحيح هذين الأثرين يوجب أن حديث أبي ذر هو على أن يكتب له بالقيام مع الإمام قنوت بقية ليلته، وحديث زيد بن ثابت يوجب أن ما فعل في بيته أفضل من ذلك حتى لا يتضاد هذان الأثران (4) .
فحمل رحمه الله حديث أبي ذر على أن الصلاة مع الإمام في التراويح
__________
(1) انظر الجزء الخامس السنة الثالثة والأربعون ذو القعدة عام 1408 هـ، ص 29 من مجلة التضامن الإسلامي.
(2) شرح معاني الآثار 1 \ 350.
(3) سنن الترمذي الصوم (806) ، سنن أبو داود الصلاة (1375) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1327) ، سنن الدارمي الصوم (1777) .
(4) شرح معاني الآثار 1 \ 350.(26/293)
مجزئة ولكن الأفضل أن تصلى في البيت لحديث زيد بن ثابت.
ومن الحجة له أيضا: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان آخر الأمرين منه ترك صلاة التراويح جماعة في المسجد وصلاها في البيت منفردا.
ثم ذكر عن بعض الصحابة والتابعين، بأنهم كانوا يحبذون صلاة التراويح في البيت، وما كانوا يصلونها مع الجماعة، ذكر منهم ابن عمر، وإبراهيم النخعي وإسحاق بن سويد، وعروة، وسعيد بن جبير، والقاسم، وسالم، ونافع، ثم قال: فهؤلاء الذين روينا عنهم ما روينا من هذه الآثار، كلهم يفضل صلاته وحده في شهر رمضان على صلاته مع الإمام، وذلك هو الصواب.
ولكن أهل العلم سوى الطحاوي، جنحوا إلى ما ذهب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حين أمر أن تقام صلاة التراويح جماعة في أول الليل، وكلهم نص على أن ذلك أفضل، أعني أبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد رحمهم الله، وقد نقل عن الإمام مالك رواية غير معتمدة في المذهب: بأن صلاتها في البيت أفضل ولكن أصحابه بينوا بأن المراد من ذلك على هذه الرواية، مشروط بمن قوي على ذلك، وليس كل الناس يقوى عليها، وبأنه مشروط بما إذا كانت المساجد لم تعطل من جراء ذلك، وإلا كانت الصلاة في البيت منفردا مفضولة (1) .
وهكذا ذكر النووي عن الشافعية قولا غير معتمد في المذهب، وقال: بأن ذلك مشروط، بأن يكون من فعل ذلك حافظا للقرآن ولا يخاف الكسل في أدائها لو انفرد، ولا تختل الجماعة في المسجد بتخلفه، فإن فقد شرطا من هذه الشروط فالجماعة أفضل بلا خلاف في المذهب (2) .
__________
(1) مواهب الجليل 2 \ 70، 71.
(2) المجموع 4 \ 30.(26/294)
وحينما سئل الإمام أحمد رحمه الله: عن تأخير صلاة التراويح قال: لا، سنة المسلمين أحب إلي، ونقل ابن قدامة عنه عند أبي عبد الله فعلها في جماعة (1) .
وبهذا يتضح أن الأئمة الأربعة على خلاف رأي الشيخ رحمه الله.
يقول ابن حجر: جنح الجمهور إلى ما ذهب إليه عمر رضي الله عنه (2) .
والإجابة عن الآثار التي رويت عن عمر رضي الله عنه وهي تدل بظاهرها على أن صلاة التراويح آخر الليل في البيت أفضل بإطلاق بعضها، يعني سواء كانت في صلاة ليال رمضان أو غيره مثل أثري السائب وحبيب، وبعضها في صلاة التراويح خاصة، كما في أثري عبد الرحمن بن عبد القارئ وابن عباس.
فالجواب عنها بأنه من المستبعد أن يأمر عمر بن الخطاب المسلمين بالمفضول ليتركوا الأفضل لا سيما وقد وافقه جماعة الصحابة ولا يستبعد أن يكون فهم ذلك من سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فإنه كان قد صلاها وقد ذكر ذلك الباجي رحمه الله (3) .
ثم إن ما جاء في أثري عبد الرحمن بن عبد القارئ وغيره يمكن حمله على أن المراد من أخر صلاتها في آخر الليل جماعة لا منفردا.
وقد نقل النووي عن صاحب الشامل: أن الجماعة أفضل عند أبي العباس وأبي إسحاق من الشافعية واحتجا بإجماع الصحابة وإجماع أهل الأمصار على ذلك.
__________
(1) المغني والشرح الكبير 1 \ 799، 800.
(2) فتح الباري 4 \ 252.
(3) انظر تنوير الحوالك 1 \ 138.(26/295)
واحتج النووي على كونها أفضل وأنه هو المذهب عند الشافعية بما روي عن عمر رضي الله عنه حين جمع الناس على أبي بن كعب (1) .
وقد ناقش ابن قدامة رحمه الله: ما احتج به الطحاوي فقال: حديث أبي ذر: وهو أن القوم إذا صلوا مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام تلك الليلة، فقال: إن هذا خاص في قيام رمضان وهو مقدم على عموم ما احتجوا به - يعني من حديث زيد بن ثابت - الذي جاء فيه: «إن صلاة النافلة في البيت أفضل إلا المكتوبة (2) » . ثم قال: أما ترك النبي (صلى الله عليه وسلم) : صلاته التراويح جماعة فمعلل بكونه (صلى الله عليه وسلم) خشي أن تفرض على أمته، وقد أمن أن يفعل ذلك بعد وفاته (صلى الله عليه وسلم) .
وأما الآثار التي احتجوا بها عن بعض الصحابة والتابعين فيقول ابن قدامة: إن من فضل منهم الصلاة وحده في البيت في النوافل، مرادهم صلاة الليل دون ما يعمها، يعني ما كانوا يعنون صلاة التراويح لأنها تصلى في جماعة (3) .
وقد ذكر النووي: بأن الدليل على كون صلاة النافلة في البيت أفضل ليس على عمومه وأنه مخصوص: لأن كثيرا من النوافل شرعت فيها الجماعة، وذلك كصلاة العيدين، والكسوف، والاستسقاء، وكذلك التراويح مشروع فيها الجماعة في المسجد وأنه الأفضل بخلاف غيرها من النوافل (4) .
والذي يظهر مما سبق أن حجة من يقول: بأن صلاة التراويح الأفضل أن تصلى جماعة في أول الليل، هي الراجحة، وهذه مذهب عمر رضي الله عنه لأنه من المستبعد أن يأمر بذلك ويحث الناس عليه وغيره أفضل
__________
(1) انظر المجموع 4 \ 30.
(2) صحيح البخاري الأذان (731) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (781) ، سنن الترمذي الصلاة (450) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1599) ، سنن أبو داود الصلاة (1044) ، مسند أحمد بن حنبل (5/186) ، موطأ مالك النداء للصلاة (293) ، سنن الدارمي الصلاة (1366) .
(3) انظر: المغني والشرح الكبير 1 \ 800.
(4) انظر شرح صحيح مسلم للنووي 6 \ 41.(26/296)
منه، ويكفينا في ترجيح ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فعل ذلك وشاهد من فعله ولم ينكره ولولا خشية أن تفرض لاستمر على ذلك صلى الله عليه وسلم، بل إن عمر رضي الله عنه فعل ذلك بمشاهدة الصحابة، ولم ينكر عليه منهم أحد، وقال في ذلك: نعمت البدعة على ما سيأتي وهذا ما درج عليه المسلمون في الحرمين الشريفين وغيرهما إلى يومنا هذا.
المسألة الخامسة:
فهي أن في هذه الرواية التي رواها البخاري، وأشار إليها البهوتي رحمه الله من رواية عبد الرحمن بن عبد القارئ ما يشعر بأن عمر رضي الله عنه حين أمر بأن تصلى صلاة التراويح جماعة، ما كان يصلي معهم في بعض الأوقات وذلك أنه جاء في الأثر قول عبد الرحمن بن عبد القارئ، فخرجت معه - يعني عمر - ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة إمامهم.
قال ابن حجر عند كلامه على الأثر: وقوله: فخرجت معه ليلة والناس يصلون بصلاة إمامهم فيه إشعار بأن عمر كان لا يواظب على الصلاة معهم، وكان يرى أن الصلاة في بيته ولا سيما في آخر الليل أفضل (1) .
ويؤيد ما قاله ابن حجر رحمه الله:
21 - ما رواه محمد بن نصر في قيام الليل من طريق طاوس عن ابن عباس قال: كنت عند عمر في المسجد فسمع هيعة الناس فقال: ما هذا؟ قيل: خرجوا من المسجد، وذلك في رمضان، قال: ما بقي من الليل أحب إلي مما مضى (2) .
22 - وقد روى ابن أبي شيبة هذا الأثر، لكنه لم يقل في روايته: أن
__________
(1) فتح الباري 4 \ 253.
(2) فتح الباري 4 \ 253، قال ابن حجر: رواه محمد بن نصر في قيام الليل.(26/297)
ابن عباس قال: كنت عنده في المسجد، وإنما قال: دعاني عمر رضي الله عنه لأتغذى عنده - قال أبو بكر: يعني "السحور "في رمضان. وذكر الأثر.
فإن هذه الآثار تدل على أن عمر لم يكن يواظب على صلاة التراويح جماعة كما يقول ابن حجر رحمه الله، ولا غضاضة في ذلك فهذه حال السنة، لم يؤمر بها عمر ولا غيره أمر إيجاب، فكونه رضي الله عنه لم يواظب عليها لدلالة هذه الآثار على ذلك فنعم.
لكن كونه كان يؤخر ذلك من أجل أن يصليها في بيته لأنه أفضل كما يقول ابن حجر رحمه الله، فلا لما بينته في المسألة التي قبل هذه، ولأن أثر ابن عباس هنا محمول على أن عمر رضي الله عنه، لم يدرك صلاة التراويح كلها فقد يكون صلى معهم بعضها ثم انصرف، يدل عليه أن ابن عباس يقول: كنت عند عمر في المسجد. وهذا يوحي بأنه صلى معهم شيئا منها، وإلا لماذا كان في المسجد.
وقد جاءت روايات أخرى عن عمر رضي الله عنه تدل على أنه كان يصلي التراويح مع جماعة المسلمين في أول الليل.
23 - فقد روى ابن أبي شيبة بسنده عن عبد الله بن السائب، قال: كنت أصلي في رمضان فبينما أنا أصلي سمعت تكبير عمر على باب المسجد قدم معتمرا فدخل فصلى خلفي.
24 - وجاء في أثر نوفل رقم (17) أن عمر حين أمر أبي بن كعب: أقام في آخر الصف (1) .
__________
(1) انظر ص 14، رقم الأثر 17.(26/298)
25 - وروى البيهقي بسنده إلى زيد بن وهب قال: كان عمر بن الخطاب يروحنا في رمضان، - يعني بين الترويحتين - قدر ما يذهب الرجل من المسجد إلى سلع (1) .
وسلع جبل معروف بالمدينة، قريب من المسجد النبوي، حوالي ربع ساعة، للمشي على الأقدام.
وفي نظري أنه لا داعي للتأويل، إذ لا يستبعد أن يكون عمر رضي الله عنه هو إمامهم في تلك الليلة بناء على ظاهر الرواية، وقد نقل ابن قدامة عن الإمام أحمد، ما يشير على أن عمر كان يصلي بهم التراويح في بعض الأحيان.
قال ابن قدامة: وقال الإمام أحمد: وقد جاء عن النبي (صلى الله عليه وسلم) «اقتدوا بالخلفاء» ، وقد جاء عن عمر أنه كان يصلي في الجماعة (2) .
إذن عمر رضي الله عنه خالف عادته حين أمر المسلمين بأن يصلوا صلاة التراويح جماعة في أول الليل فكان يصلي معهم وذلك دليل على أنه كان يرى ذلك أفضل وبخاصة حين قال في ذلك: نعم هذه البدعة على ما سيأتي.
المسألة السادسة:
فهي أن رواية البخاري التي أشار إليها البهوتي رحمه الله، جاء فيها قول عمر رضي الله عنه حين أمر بأن تقام صلاة التراويح جماعة في أول الليل ورأى المسلمين قد فعلوا ذلك، قال: نعم البدعة.
__________
(1) كنز العمال 8 \ 409، رقم 3472، قال الهندي: رواه البيهقي.
(2) المغني والشرح الكبير 1 \ 799.(26/299)
والبدعة لها عند أهل العلم معنى لغوي ومعنى شرعي اصطلاحي. فالمعنى اللغوي: هو أن يبدع الإنسان وينشئ أمرا لم يكن معهودا له. والبدع كما يقول صاحب اللسان: الشيء الذي يكون أولا (1) .
وعليه فلو أن الإنسان كان من عادته ألا يأكل اللحم مثلا، وأكله أخيرا فإنه يعد مبتدعا في اللغة، لأنه عمل عملا وأنشأه على غير عادته، والظاهر أن عمر رضي الله عنه عنى بقوله في صلاة التراويح أو الليل: نعمت البدعة المعنى اللغوي، وذلك لأنه رضي الله تعالى عنه كان من عادته وديدنه أنه يصلي صلاة الليل ومنها التراويح والوتر آخر الليل لا أوله، فلما أمر المسلمين أن يصلوا تلك الصلاة في أول الليل وصلى معهم على خلاف عادته قال: نعمت البدعة يعني في حق نفسه لا أنه عنى البدعة الشرعية، التي قال الشاطبي معناها: أن يحدث أمرا في الشرع على غير مثال (2) . فهي أخص من البدعة اللغوية ومن ظن: أن قول عمر رضي الله عنه من ذلك القبيل فقد أخطأ الصواب ويعجبني ما قاله الشاطبي في قول عمر رضي الله عنه، فهو يقول: فالعلوم الخادمة للشريعة وما كان له أصل في الشرع ليس ببدعة شرعية، ومن سمى ذلك بدعة، فإما على المجاز، كما سمى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قيام الناس في ليالي رمضان بدعة، وإما جهلا بجوامع السنة والبدعة، فلا يكون قول من قال ذلك معتدا به ولا معتمدا عليه (3) .
وهذا الذي قاله الشاطبي رحمه الله حق، ولكنني لست معه، في أن عمر رضي الله عنه سمى قيام الناس في ليالي رمضان بدعة.
وإنما كان يعني بقوله هذا نفسه لأنه كان قد خالف عادته وديدنه في أنه يصلي صلاة الليل ومنها الوتر في آخر الليل، وأقره رسول الله
__________
(1) انظر: مادة بدع في اللسان لابن منظور 8 \ 6.
(2) انظر: الاعتصام 1 \ 36، 37.
(3) انظر: الاعتصام 1 \ 36، 37.(26/300)
(صلى الله عليه وسلم) على ذلك كما هو ثابت.
فهي إذن بدعة لغوية وليست شرعية، ولو كانت شرعية، فإن عمر قطعا لا يريدها بل هي مجاز كما قال الشاطبي رحمه الله.
والدليل على أن عمر رضي الله عنه ما كان يقصد بقوله: البدعة الشرعية التي هي إحداث أمر في الشرع على غير مثال، ما يأتي:
1 - أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) صلى التراويح جماعة في رمضان.
فقد روى البخاري في صحيحه بسنده إلى عروة بن الزبير: أن عائشة رضي الله عنها أخبرته «أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد، فصلى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمع أكثر منهم، فصلوا معه، فأصبح الناس، فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فخرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فصلى فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح فلما قضى الفجر، أقبل على الناس فتشهد ثم قال: أما بعد: فإنه لم يخف علي مكانكم، ولكني خشيت أن تفرض عليكم، فتعجزوا عنها، فتوفي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والأمر على ذلك (1) » .
أفترى أن عمر يسمي صلاة التراويح جماعة بدعة وقد فعلها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟ وهل فعل عمر رضي الله عنه بعد ذلك على غير مثال سابق؟ كلا.
2 - وروى الطحاوي بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه: «أن النبي (صلى الله عليه وسلم) شاهد أناسا يصلون بصلاة أبي فقال: نعم ما صنعوا (2) » .
قال ابن حجر معقبا على هذا الحديث: هو ضعيف، والمحفوظ:
__________
(1) صحيح البخاري م 1 ج2، 253.
(2) شرح معاني الآثار 1 \ 349، 352، فتح الباري 4 \ 252، قال ابن حجر: هو ضعيف لأن فيه مسلم بن خالد.(26/301)
أن عمر هو الذي جمع الناس على أبي بن كعب، يعني على إمام واحد (1) .
لكن هذا المحفوظ عن عمر رضي الله عنه، لا يمنع أن يكون الرسول (صلى الله عليه وسلم) رأى بعض الناس فعل ذلك تطوعا فلم يمنعهم، وما كل الناس اجتمعوا على إمام واحد في عهده (صلى الله عليه وسلم) ، وإنما كان ذلك في عهد عمر رضي الله عنه.
3 - ونقل ابن حجر عن ابن التين: من أن عمر استنبط ذلك من تقرير النبي (صلى الله عليه وسلم) تلك الليالي وإن كان كره النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك، فإنما كرهه خشية أن تفرض عليه، وترجح هذا عند عمر رضي الله عنه لما في الاختلاف من افتراق الكلمة (2) وهذا مؤيد لهذا الحديث الذي قال فيه ابن حجر أنه ضعيف.
وأهل العلم المعتد بهم يعرفون أن ما سنه عمر سواء كان عن توقيف أو عن اجتهاد منه لا يقال فيه أنه بدعة شرعية في الدين.
ولما ذكر ابن قدامة مشروعية صلاة الجماعة في التراويح قال: ولنا إجماع الصحابة على ذلك - يعني في عهد عمر - وجمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وأهله في حديث أبي ذر (3) .
أفترى أن الصحابة يجمعون على بدعة في الدين ولا يعارضون عمر في ذلك لو كانت كذلك، بل إن بعض الصحابة امتدح عمر رضي الله عنه في صنيعه ذلك بعد وفاته.
4 - فقد ذكر صاحب كنز العمال: أن ابن شاهين روى عن أبي إسحاق الهمداني قال: خرج علي بن أبي طالب في أول ليلة من
__________
(1) فتح الباري 4 \ 252.
(2) فتح الباري 4 \ 252.
(3) المغني والشرح الكبير 1 \ 800.(26/302)
رمضان والقناديل تزهر - أي تضاء - وكتاب الله يتلى فقال: نور الله لك يا ابن الخطاب في قبرك كما نورت مساجد الله تعالى بالقرآن.
فهل يدعو علي رضي الله عنه لعمر بن الخطاب بالمغفرة والرحمة لو كان عمله بدعة شرعية أحدثت على غير مثال في الشرع، أو كان ذلك العمل في مقابل السنة، لو كان الأمر كذلك لكانت مذمومة ولما وافقه الصحابة ولما دعا له علي بن أبي طالب بعد وفاته.
ثم لو لم يشهد لعمر رضي الله عنه فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وإجماع الصحابة رضي الله عنهم في عهده على جواز اجتماع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح بخصوصها لكان في أصول الشرع ما يشهد لعمله لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أقام صلاة الجماعة في كثير من النوافل كصلاة العيدين والاستسقاء والكسوف، وأوضح من ذلك.
5 - ما رواه البخاري في باب - صلاة النوافل جماعة - بسنده إلى ابن شهاب قال: أخبرني محمود بن الربيع الأنصاري: «أنه عقل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وعقل مجة مجها في وجهه من بئر كانت في دارهم فزعم محمود: أنه سمع عتبان بن مالك الأنصاري رضي الله عنه وكان ممن شهد بدرا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: كنت أصلي لقوم ببني سالم، وكان يحول بيني وبينهم واد إذا جاءت الأمطار فيشق علي اجتيازه قبل مسجدهم، فجئت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فقلت له: إني أنكرت بصري، وإن الوادي الذي بيني(26/303)
وبين قومي يسيل إذا جاءت الأمطار فيشق علي اجتيازه، فوددت أنك تأتيني فتصلي من بيتي مكانا أتخذه مصلى، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : سأفعل، فغدا على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبو بكر رضي الله عنه بعدما اشتد النهار، فاستأذن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فأذنت له، فلم يجلس حتى قال: أين تريد أن أصلي من بيتك؟ فأشرت له إلى المكان الذي أحب أن أصلي فيه، فقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فكبر وصففنا وراءه، فصلى ركعتين ثم سلم وسلمنا حين سلم (1) » .
أليس في ذلك دليل لما صنعه عمر رضي الله عنه حين أمر بأن يجتمع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) صلى تلك الركعتين بمن كان خلفه جماعة ولم ينكر ذلك.
وحاشا عمر رضي الله عنه أن يبتدع في الدين أمرا لا يريده الشرع أو لا يقره، وهذا من مسوغات تأويل قوله: نعمت البدعة وإنه لم يرد البدعة الشرعية في الدين.
ولو فرض أن عمر رضي الله عنه، كان يقصد بالبدعة في الدين، فإن مراده متجه على حد قوله (صلى الله عليه وسلم) : «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم الدين (2) » ، أو كما قال (صلى الله عليه وسلم) .
ويعجبني ما قاله ابن حجر رحمه الله: حين قال: والتحقيق أن البدعة: إن كانت مما يندرج تحت مستحسن فهي حسنة، وإن كانت مما يندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة، وإلا فهي من قسم المباح وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة (3) .
فإن قيل: إن ترك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلاة التراويح جماعة هو السنة
__________
(1) صحيح البخاري 21 ج2 \ 55، مطبعة دار الفكر 1401 هـ.
(2) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، سنن ابن ماجه المقدمة (203) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (512) .
(3) فتح الباري 4 \ 303.(26/204)
وصلاتها جماعة هو البدعة، لأن الفعل في مقابلة الترك كما ذكره في مواهب الجليل: فإنه قال: يعني البدعة جمعهم على قارئ واحد، لأنهم كانوا قبل ذلك يصلون أوزاعا فجمعهم رضي الله عنه على قارئ واحد، فهذا الجمع هو البدعة، فإن قيل قد صلى بهم (صلى الله عليه وسلم) ثم ترك، فكيف يجعل جمعهم بدعة، فيقال: لما فعله عليه الصلاة والسلام ثم تركه فتركه السنة، وصار جمعهم بعد ذلك بدعة حسنة (1) .
وقد ثبت بأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ترك صلاة التراويح جماعة وتوفي على ذلك.
فقد روى البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقد من ذنبه (2) » ، قال ابن شهاب - أحد رواة السند - فتوفي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، والأمر على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر رضي الله عنهما (3) .
قال ابن حجر في فتح الباري: يعني على ترك الجماعة (4) .
وفي نظري أن هذا ليس فيه دليل على أن عمر أراد بدعة شرعية، لأن ترك الرسول (صلى الله عليه وسلم) إنما كان شفقة وخشية أن تفرض، فليس جمع الناس بعد وفاته (صلى الله عليه وسلم) بدعة شرعية، وعمر رضي الله عنه هو أولى من غيره بمعرفة ذلك، ولو كانت بدعة شرعية لما عملها ولما حث عليها رضي الله عنه. وأما ما أراده عمر رضي الله عنه بقوله: نعمت البدعة، فإن صاحب مواهب الجليل بعد أن ذكر أقوال بعض أهل العلم في معنى المراد من قول عمر قال: وأجاب سند - من علماء المالكية - بأنه أراد بالبدعة جمعهم مواظبة في المسجد في أول الليل على قارئ واحد،
__________
(1) مواهب الجليل 2 \ 70.
(2) صحيح البخاري الإيمان (37) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (760) ، سنن الترمذي الصوم (683) ، سنن النسائي الصيام (2202) ، سنن أبو داود الصلاة (1371) ، مسند أحمد بن حنبل (2/241) ، سنن الدارمي الصوم (1776) .
(3) صحيح البخاري م1 ج2 \ 251، وانظر كنز العمال 8 \ 407، رقم 23466.
(4) فتح الباري 4 \ 252.(26/305)
لا أصل الصلاة، أما قيام رمضان فكان مشروعا كما بينا بأن قيام الليل بينهم معتاد فضلا عن رمضان، ألا ترى إلى قول عمر: والتي تنامون عنها أفضل؟ فخير قيام صلاة الليل آخر الليل فلم تستحق البدعة في ذلك من كل وجه (1) .
وأخيرا أنقل كلام ابن الأثير رحمه الله في النهاية فإنه قال: وفي حديث عمر رضي الله عنه في قيام رمضان "ونعمت البدعة هذه "البدعة بدعتان: بدعة هدى، وبدعة ضلالة، فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو في حيز الذم والإنكار، وما كان واقعا تحت عموم ما ندب الله إليه، وحض عليه الله ورسوله، فهو في حيز المدح، وما لم يكن له مثال موجود كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف فهو من الأفعال المحمودة، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد جعل له في ذلك ثوابا «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها (2) » وقال في ضده: «ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها (3) » وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله (صلى الله عليه وسلم) ، ومن هذا النوع قول عمر رضي الله عنه: "نعمت البدعة هذه "لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح سماها بدعة مدحها، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يسنها لهم، وإنما صلاها ليالي ثم تركها ولم يحافظ عليها ولا جمع الناس ولا كانت في زمن أبي بكر، وإنما عمر رضي الله عنه جمع الناس عليها وندبهم إليها، فبهذا سماها بدعة وهي على الحقيقة سنة لقوله (صلى الله عليه وسلم) : «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي (4) » ، وقوله: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر (5) » (6) .
__________
(1) مواهب الجليل 2 \ 70.
(2) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، سنن ابن ماجه المقدمة (203) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (512) .
(3) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن الترمذي العلم (2675) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، سنن ابن ماجه المقدمة (203) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (512) .
(4) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(5) سنن الترمذي المناقب (3662) ، سنن ابن ماجه المقدمة (97) ، مسند أحمد بن حنبل (5/382) .
(6) انظر النهاية مادة: بدع.(26/306)
وأنا قلت فيما مضى بأن عمر قصد البدعة في حق نفسه لأنه من عادته أن يؤخر صلاة الليل فلما صلاها مع المسلمين حين أمر بها أن تصلى جماعة، قال ما قال: وقصد البدعة اللغوية، إن شاء الله ولم أر من قال ذلك.
وأخيرا أختتم حديثي عن صلاة التراويح جماعة في رمضان في فقه عمر رضي الله عنه وأهل العلم بعده بأثر رواه البيهقي في القراءة في التراويح فقد روى البيهقي وغيره بسندهم إلى أبي عثمان النهدي قال: دعا عمر رضي الله عنه بثلاثة قراء، فاستقرأهم، فأمر أسرعهم: أن يقرأ للناس في رمضان ثلاثين آية، وأمر أوسطهم أن يقرأ خمسا وعشرين آية وأمر أبطأهم أن يقرأ عشرين آية.(26/307)
صفحة فارغة(26/308)
مسألة
دفع الخصومة
للشيخ مسفر بن حسين القطحاني
تمهيد:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه أجمعين. أما بعد: -
فإن جواب المدعى عليه - في مجلس القضاء - من المسائل التي حرر فقهاؤنا - رحمهم الله - أحكامها في مواضع مجتمعة أو متفرقة من مصفاتهم الفقهية. وذكروا - رحمهم الله تعالى - أن جواب المدعى عليه على دعوى المدعي قد يكون إقرارا. وقد يكون إنكارا. وقد يمتنع المدعى عليه عن الجواب، كما قد يجيب المدعى عليه بدفع الخصومة عن نفسه إلى غيره، أو يجيب بدفع الدعوى ذاتها. ومحل بحثنا - في هذا المقام - هو ما إذا أجاب المدعى عليه بما يدفع الخصومة عن نفسه إلى غيره. فنقول وبالله العون والتوفيق.
معنى دفع الخصومة
ذكر فقهاء الحنفية - رحمهم الله تعالى - ضوابط لمعنى دفع(26/309)
الخصومة، فقال الفقيه الكاساني - في كتابه بدائع الصنائع - " المدعى عليه يخرج عن كونه خصما للمدعي بكون يده غير يد المالك " (1) . وقال القاضي أحمد بن علي الرازي المعروف بالجصاص " الأصل في هذا الباب - أي مسألة دفع الخصومة - أن المدعى عليه متى أحال الخصومة على خصم معروف بوجهه، ببينة أقامها، لم يكن بينه وبين المدعي خصومة " (2) . وقال صاحب درر الحكام شرح مجلة الأحكام: " في الخصم ضابطان: الأول: إذا ادعى أحد شيئا، وكان يترتب على إقراره حكم إذا أقر يكون بإنكاره خصما في الدعوى وإقامة البينة في بعض الأحوال.
الضابط الثاني: وإذا كان لا يصح إقرار المدعى عليه، أي أنه في حالة إقراره لا يترتب حكم على إقراراه، فبإنكاره لا يكون خصما في الدعوى وإقامة البينة؛ لأن البينة تقام على الخصم المنكر (3) .
أما فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة فإن ذكر مسألة دفع الخصومة ترد عند ذكرهم مسألة إقرار المدعى عليه لثالث.
صور دفع الخصومة:
ذكر الفقهاء - رحمهم الله تعالى - من صور دفع الخصومة ما يلي:
1 - أن يجيب المدعى عليه الحائز للعين محل النزاع بقوله: هذه العين التي يدعيها المدعي ليست لي.
__________
(1) بدائع الصنائع 6 \ 231.
(2) شرح أدب القضاء للجصاص 406.
(3) درر الحكام 4 \ 200.(26/310)
2 - أو يقول: هذه العين التي يدعيها المدعي هي لفلان ابن فلان الغائب.
3 - أو يقول: هذه العين التي يدعيها المدعي هي لفلان ابن فلان الغائب استأجرتها أو استعرتها منه ونحو ذلك من الأسباب.
4 - أو يجيب بقوله: هذه العين التي يدعيها المدعي هي لفلان الحاضر.
5 - أو يقول: هذه العين التي يدعيها المدعي لرجل لا أعرفه أو لرجل لا أسميه.
قلت: الحكم في الصورة الأولى: هل جواب المدعى عليه إقرار فتسلم العين إلى المدعي أم ليس بإقرار لعدم صراحته، فيطلب منه الجواب الصريح بالإقرار أو الإنكار أو ليس بإقرار ولا إنكار ولكن تسليم العين إلى مدعيها لعدم المنازع، وإذا سلمت إلى المدعي، فكيف يضيفها إلى ملكه بلا سبب، وهل يتعين حينئذ أن يطالب بإثبات دعواه. ثم هل تبقى العين في يد صاحب اليد إلى حيث الإثبات، أم تحفظ لدى القاضي. وكذلك الأمر في الصورة الثانية: هل تجري المحاكمة مع صاحب اليد، ولا يلتفت لجوابه أن العين لفلان الغائب؟ أو تنتقل الخصومة إلى فلان الغائب بمجرد الإقرار بالملكية؟ وإذا قلنا بانتقال الخصومة: فهل كان قصد صاحب اليد صحيحا؟ أم كان يقصد الاحتيال لدفع الخصومة عن نفسه، ويلزمه حينئذ إثبات ملكية الغائب للعين محل الدعوى، ثم إن ألزمناه بإثبات ملكية للغائب فكيف نثبت الملكية للغائب ولم يكن حاضرا، ولم يوكل صاحب اليد بالإثبات والمخاصمة عنه، ثم إن عجز صاحب اليد عن إثبات الملكية للغائب، فهل يحلف المدعي لنفي دعوى دفع الخصومة؟ فإن نكل اندفعت الخصومة وإن حلف سار القاضي في الدعوى الأصلية.(26/311)
ولك أن تسأل نحو هذا في الصور الأخرى.
وإذا كان الأمر كذلك، فإننا لا نكاد نعدم لكل سؤال من جواب في أقوال الفقهاء - رحمهم الله تعالى.
وحيث يتعذر حصر أقوال الفقهاء في مسألة دفع الخصومة، لكثرة اختلافهم فيها، فإن من المتعين أن نطلع على ما نص عليه فقهاء كل مذهب في هذه المسألة.
حكم دفع الخصومة:
أولا: المذهب الحنفي:
يقول الفقيه الكاساني صاحب كتاب "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ": " وأما بيان ما تندفع به الخصومة عن المدعى عليه ويخرج عن كونه خصما للمدعي، فنقول وبالله التوفيق: إنه يخرج عن كونه خصما للمدعي بكون يده غير يد المالك وذلك يعرف بالبينة أو بالإقرار أو بعلم القاضي نحو ما إذا ادعى على رجل دارا أو ثوبا أو دابة فقال الذي في يده: هو ملك فلان الغائب أودعنيه.
وجملة الكلام فيه: أن المدعي لا يخلو: إما أن يدعي عليه ملكا مطلقا ولم يدع عليه فعلا أو يدعي عليه فعلا، فإن ادعى ملكا مطلقا ولم يدع عليه فعلا، فقال الذي في يده: أودعنيها فلان الغائب أو رهنها، أو آجرها أو أعارها، أو غصبتها أو سرقتها، أو أخذتها أو انتزعتها، أو ضلت منه فوجدتها، وأقام البينة على ذلك تندفع عنه الخصومة عند عامة العلماء " (1) . ثم قال: " هذا إذا لم يكن الرجل معروفا بالافتعال والاحتيال، فإن كان، تندفع عنه الخصومة عند أبي حنيفة ومحمد أيضا، وعند أبي يوسف: لا تندفع، وهي المسألة المعروفة بالمخمسة ".
ثم قال: " وكذلك لو ادعى لنفسه والفعل على غير ذي اليد، بأن قال
__________
(1) انظر بدائع الصنائع 6 \ 231 نشر دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان.(26/312)
هذا ملكي غصبه مني فلان: لأنه لم يدع على ذي اليد فعلا، فصار في حق ذي اليد دعوى مطلقة؛ فكان على الخلاف الذي ذكرنا. فأما إذا ادعى فعلا على ذي اليد؛ بأن قال: هذه داري، أو دابتي، أودعتكها، أو غصبتنيها أو سرقتها، أو استأجرتها، أو ارتهنتها مني، وقال الذي في يديه: إنها لفلان الغائب أودعنيها، أو غصبتها منه، ونحو ذلك، وأقام البينة على ذلك لا تندفع عنه الخصومة، ووجه الفرق: أن ذا اليد في دعوى الملك المطلق إنما يكون خصما بيده، ألا ترى أنه لو لم يكن المدعى في يده لم يكن خصما.
فإذا أقام البينة على أن اليد لغيره، كان الخصم ذلك الغير وهو غائب فأما في دعوى الفعل فإنما يكون خصما بفعله، لا بيده، ألا ترى أن الخصومة متوجهة عليه بدون يده، وإذا كان خصما بفعله بالبينة لا يتبين أن الفعل منه لم يكن، فبقي خصما.
ولو ادعى فعلا لم يسم فاعله، بأن قال: غصبت مني أو أخذت مني، فأقام ذو اليد البينة على الإيداع، تندفع عنه الخصومة؛ لأنه ادعى الفعل على مجهول، وأنه باطل فالتحق بالعدم، فبقي دعوى ملك مطلق. فتندفع الخصومة. ولو قال: سرق مني، فالقياس أن تندفع عنه الخصومة، كما في الغصب والأخذ، وهو قول محمد وزفر، وفي الاستحسان لا تندفع، فرقا بين الغصب والأخذ، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - ووجه الفرق يعرف في الجامع. ولو قال المدعي: هذه الدار كانت لفلان فاشتريتها منه، وقال الذي في يده: أودعني فلان الذي ادعيت الشراء من جهته، أو سرقتها منه أو غصبتها، تندفع الخصومة من غير إقامة البينة على ذلك؛ لأنه ثبت كون يده يد غيره بتصادقهما، أما المدعى عليه فظاهر، أما المدعي فبدعواه الشراء منه؛ لأن الشراء منه(26/313)
لا يصح بدون اليد " (1) .
ثم قال - رحمه الله - " ولو قال الذي في يديه: ابتعته من فلان الغائب لا تندفع الخصومة، لأنه ادعى الملك واليد لنفسه، وهذا مقر بكونه خصما فكيف تندفع الخصومة؟ ولو أقام المدعي البينة أنه ابتاعه من عبد الله وقال الذي في يديه: أودعني عبد الله ذلك، تندفع الخصومة من غير بينة، لأنهما تصادقا على الوصول إليه من يد عبد الله فأثبتا اليد له وهو غائب (2) .
ثانيا: المذهب المالكي:
يقول الفقيه ابن فرحون المالكي - رحمه الله - في كتابه الذي أسماه "تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام "، يقول: " فصل: لو ادعى رجل بملك، فكان إنكاره بإقراره به لغيره، كقوله: ليس لي فيه شيء. وإنما هو وقف على الفقراء، أو على ولدي، أو هو لطفل سماه، فيقال للمدعي: أثبت أنه لك، فإن هذا لا ينازعك فيه، إلا أن يثبت المدعى عليه ما ذكره من ذلك، فتقف المخاصمة على حضور من ثبت له عليه الولاية. ولو قال: ليس هو لي أو هو لمن لا أسميه لم يمنع المدعي ذلك من تمام المحاكمة. ولو قال: هو لفلان، وفلان حاضر في البلد، فحضر وادعى به، فللمدعي أن يحلف المقر له، فإن نكل حلف المدعي وأخذه، وإن حلف المقر له فللمدعي أن يحلف المقر؛ لأنه أتلف عليه بإقراره، فإن نكل حلف المدعي وأخذ ثمن المقر به.
أما لو أضافه إلى ملك غائب، فإن أثبت ذلك ببينة انصرفت الخصومة عنه إلى الغائب، وإن لم يثبت ذلك لم يصدق، وحلف المقر له، فإن نكل أخذه المدعي بغير يمين، فإن جاء المقر له فصدق المقر أخذه؛ لأن
__________
(1) انظر بدائع الصنائع 6 \ 231 نشر دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان.
(2) انظر بدائع الصنائع 6 \ 232 نشر دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان.(26/314)
من هو بيده يتهم أن يكون أراد صرف الخصومة عن نفسه " (1) .
ثالثا: المذهب الشافعي:
يقول القاضي أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله المعروف بابن أبي الدم الحموي الشافعي في كتابه "آداب القضاء وهو الدرر المنظومات في الأقضية والحكومات ": المسألة الخامسة: الإقرار لثالث، إذا ادعى ملكا في يد إنسان، فقال: ليس هو لي، ولا لك، فيه أحوال خمس:
الأولى:
أن يضيفها إلى حاضر ثالث، فيحضر، فإن صدقه، سلمت العين إلى الحاضر، وانصرفت الخصومة إليه، وإن كذبه، فيه ثلاثة أوجه، أصحها أن القاضي يحفظها إلى حين حجة لمدعيها، وأضعفها أنها تسلم إلى المدعي، ووجه ثالث: أنها تترك في يد ذي اليد، فلو رجع المقر بعد تكذيب المقر له، وقال: غلطت، هل يقبل؟ فيه وجهان قبل إزالة يده، ولا يقبل قوله بعد إزالة سلطته.
ولو رجع أيضا المقر له بعد أن كذب: فيه وجهان، ثم إذا سلمت العين المقر بها إلى الحاضر المقر له، هل للمدعي تحليف المقر؟ إن قلنا: إنه لو أقر لغرم للحيلولة القولية بالإقرار للثالث فله تحليفه، وإن قلنا: لا يغرم لم يحلفه.
فإذا قلنا يحلفه، فلو أحلفه فنكل، وردت اليمين على المدعي، فحلف، وقلنا: إن يمين الرد بمنزلة البينة، قال بعض الأصحاب: تؤخذ العين من يد المقر له الثالث، وتسلم إلى المدعى الحالف، لأن يمين الرد بمنزلة البينة.
والصحيح أنا لا نأخذ من يد هذا المقر له، ولا نسلمها إلى المدعي
__________
(1) تبصرة الحكام 1 \ 193، وكذا في كتاب البهجة شرح التحفة 1 \ 48.(26/315)
الحالف، بل نقتصر على وجوب القيمة، لأن يمين الرد، وإن جعلت كالبينة، لكن في حق المتداعين، ولا تتعدى إلى ثالث.
ثم قال الإمام بعد ذكر هذا: فرع: بعض المتكلفين على الوجه الضعيف القائل بانتزاع العين من يد المقر له، وتسلميها إلى المدعي الحالف، فقال: إذا أخذت منه، فهل له أن يغرم المدعى عليه الذي أقر له بها، ونكل عن اليمين، قيمة العين، لأنه يقول له: لو حلفت يمينا صادقة ما استردها مني هذا المدعي، فصار نكولك سببا لإزالة يدي؟ فيه وجهان، أصحهما لا يغرم له شيئا.
الحالة الثانية:
الإقرار بها لغائب: إذا أضاف العين إلى غائب فتصرف الخصومة إلى الغائب. وقال العراقيون لا نحلفه لأجل الغرم، وإن قلنا يغرم للحيلولة لو أقر الثاني. وقال الشيخ أبو محمد والغوراني: بل يحلف لينتزع العين من يده باليمين المردودة إن نكل؛ إذ لو فتح هذا الباب صار ذريعة إلى إسقاط الدعوى بالإضافة إلى الغائب الذي يتعذر رجوعه، ثم متى رجع الغائب ردت العين إليه، وعلى المدعي استئناف الخصومة معه.
ويتفرع على هذه المسألة: أن المدعي في هذه الحالة، إن أقام البينة على أن العين ملكه سلمت إليه قولا واحدا، ولكن: هل هو قضاء على الغائب فيحتاج إلى يمين أم هو قضاء على الحاضر المضيف العين إلى الغائب، فلا يحتاج إلى يمين المدعي؟ قال العراقيون: هو قضاء على الغائب، فلا بد من يمين، وعند الشيخ أبي محمد والغوراني هو قضاء على الحاضر، فلا يحتاج إلى يمين، هذا نقل الإمام. وقال القاضي أبو الطيب والشيخ أبو نصر: هل يحلف المدعي - والحالة هذه - إذا أقام بينة؟ اختلف أصحابنا فيه؛ فمنهم من قال: نعم؛ لأنه قضاء على الغائب ومنهم من قال: لا يحلف - وهو أبو إسحاق - لأنه قضاء على حاضر. ثم قال القاضي(26/316)
أبو الطيب والشيخ أبو نصر: وإن كان للمقر بينة أنها للغائب، سمعت بينته، فإذا أقام المدعي بينة أنها له قدمت بينته على بينة المقر، ويكون قضاء على الغائب قولا واحدا.
قال: فإن قيل: فلم سمعتم بينة المقر؟ قلنا: الفائدة زوال التهمة عنه، وإسقاط اليمين عنه، إذا ادعى المدعي أنه يعلم أنها له.
هذا ما قاله هؤلاء الأئمة.
وقال الإمام: إذا كان لصاحب اليد بينة أنها للغائب، فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: لا تسمع، إلا أن يثبت كونه وكيلا عنه.
والثاني: تسمع، لا لإثبات ملك الغائب، بل لقطع التحليف والخصومة عنه.
والثالث: اختاره القاضي حسين، إن ادعى لنفسه علقة من وديعة أو عارية سمعت، وإلا فلا. ثم إن سمعت بينة المقر للغائب بعد ثبوت وكالته وأقام المدعي بينة بالملك له، قدمت بينة الوكيل، لأجل اليد. وإن سمعت بينته دون الوكالة، لصرف اليمين عنه، قدمت بينة المدعي. وقال القاضي أبو الطيب والشيخ أبو نصر: إذا ادعى المقر أن العين للغائب، وأنها في يده بإعارة أو إجارة، وأقام بذلك بينة، هل يقضي بهذه البينة؟ فيه وجهان. ومهما سلمت العين إلى المدعي ببينته المترجمة على بينة المقر الحاضر، كتب في سجل أن الغائب على حجته ويده مهما عاد. ثم متى عاد الغائب وادعى، وجب عليه إعادة البينة، ولا يغنيه ما أقامه صاحب اليد، ولكن متى رجع جعلناه صاحب اليد، حتى إذا أقام بينة قدمت على بينة المدعي، وانتزعت من يده، وإن كان قد تسلمها قبل حضور الغائب. وفرع المراوزة على هذه الحالة، ما لو ادعى الحاضر المقر رهنا أو إجارة لنفسه، هل تسمع بينته؟ فيه وجهان، فإن قلنا: تسمع، هل تقدم على بينة المدعي؟ فيه وجهان.(26/317)
قال الإمام: الأظهر لا تقدم؛ لأنه إنما تثبت إجارته ورهنه بعد ثبوت ملك الغائب، فإذن لم تؤثر بينته إلا صرف الحلف عنه.
الحالة الثالثة:
الإقرار لرجل مبهم:
إذا قال: هذه العين لرجل لا أسميه، المذهب أن الخصومة لا تنصرف عنه بذلك، بل يحلف، فإن نكل حلف المدعي وأخذ، وقيل: يأخذ القاضي العين، ويودعها إلى أن تظهر حجته.
الحالة الرابعة:
الإقرار لصبي أو مجنون:
أن يضيفها على صبي أو مجنون انصرفت الخصومة إلى الولي، ولا يحلف الولي أصلا، بل تؤخر اليمين إلى وقت الأهلية.
الحالة الخامسة:
الإقرار بها وقفا:
أن يقول: هي وقف على ولدي، أو على الفقراء، انصرفت الخصومة عنه إليهم، ولم يبق على المقر إلا التحليف للتغريم " (1) .
رابعا: المذهب الحنبلي:
يقول أبو محمد، عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة صاحب كتاب المغني شرح مختصر الخرقي (2) : " مسألة ولو كان في يده دار، فادعاها رجل فأقر بها لغيره، فإن كان المقر له بها حاضرا جعل الخصم فيها، وإن كان غائبا - وكانت للمدعي بينة - حكم بها للمدعي ببينته، وكان الغائب على خصومته متى حضر.
__________
(1) مغني المحتاج، وكذا متن المنهاج مع شرحه.
(2) الجزء التاسع ص 301 فما بعدها. ونحو ذلك في كشاف القناع 6 \ 342.(26/318)
وجملته: أن الإنسان إذا ادعى دارا في يد غيره، فقال الذي هي في يده: ليست لي، إنما هي لفلان، وكان المقر له بها حاضرا سئل عن ذلك، فإن صدقه صار الخصم فيها مكان صاحب اليد؛ لأن من هي في يده اعترف أن يده نائبة عن يده، وإقرار الإنسان بما في يده إقرار صحيح؛ فيصير خصما للمدعي، فمن كانت للمدعي بينة حكم له بها، وإن لم تكن له بينة فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، وإن قال المدعي أحلفوا لي المقر الذي كانت العين في يده أنه لا يعلم أنها لي فعليه اليمين، لأنه لو أقر له بها بعد اعترافه لزمه الغرم، كما لو قال هذه العين لزيد ثم قال هي لعمرو فإنها تدفع لزيد ويدفع فقيمتها لعمرو، ومن لزمه الغرم مع الإقرار لزمته اليمين مع الإنكار، فإن رد المقر له الإقرار، وقال: ليست لي وإنما هي للمدعي حكم له بها، وإن لم يقل: هي للمدعي، ولكن قال: ليست لي، فإن كانت للمدعي بينة حكم به بها، وإن لم تكن له بينة ففيه وجهان:
أحدهما: تدفع إلى المدعي؛ لأنه يدعيها ولا منازع له فيها؛ ولأن من هي في يده لو ادعاها ثم نكل قضينا بها للمدعي فمع عدم ادعائه لها أولى.
والثاني: لا تدفع إليه؛ لأنه لم يثبت لها مستحق؛ لأن المدعي لا يد له ولا بينة وصاحب اليد معترف أنها ليست له؛ فيأخذها الإمام، فيحفظها لصاحبها، وهذا الوجه الثاني ذكره القاضي والأول أولى؛ لما ذكرنا من دليله. ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين، ووجه ثالث: أن المدعي يحلف أنها له وتسلم إليه، ويتخرج لنا مثله بناء على القول برد اليمين إذا نكل المدعى عليه.
وإن قال المقر له: هي لثالث، انتقلت الخصومة إليه، وصار بمنزلة(26/319)
صاحب اليد؛ لأنه أقر له بها من اليد له حكما. وأما إن أقر بها المدعى عليه لمجهول: قيل ليس هذا بجواب؛ فإن أقررت بها لمعروف، وإلا جعلناك ناكلا وقضينا عليك، فإن أصر قضى عليه بالنكول. وإن أقر لغائب أو لغير مكلف، معين كالصبي والمجنون صارت الدعوى عليه، فإن لم تكن للمدعي بينة لم يقض له بها؛ لأن الحاضر يعترف أنها ليست له، ولا يقضى على الغائب بمجرد الدعوى، ويقف الأمر حتى يقدم الغائب ويصير غير المكلف مكلفا. فتكون الخصومة معه. فإن قال المدعي: أحلفوا لي المدعى عليه أحلفناه لما تقدم.
وإن أقر بها للمدعي لم تسلم إليه. لأنه اعترف أنها لغيره، ويلزمه أن يغرم له قيمتها، لأنه فوتها عليه بإقراره بها لغيره. وإن كان مع المدعي بينة سمعها الحاكم، وقضى بها، وكان الغائب على خصومته متى حضر له أن يقدح في بينة المدعي وأن يقيم بينة تشهد بانتقال الملك إليه من المدعي، وإن أقام بينة أنها ملكه فهل يقضي بها؟ على وجهين بناء على تقديم بينة الداخل والخارج. فإن قلنا: تقدم بينة الخارج فأقام الغائب بينة تشهد له بالملك والنتاج. أو سبب من أسباب الملك؟ فهل تسمع بينته ويقضى بها؟ على وجهين، وإن كان مع المقر بينة تشهد بها للغائب سمعها الحاكم ولم يقض بها، لأن البينة للغائب والغائب لم يدعها هو ولا وكيله، وإنما سمعها الحاكم لما فيها من الفائدة، وهو: زوال التهمة عن الحاضر، وسقوط اليمين عنه إذا ادعى أنك تعلم أنها لي. ويتخرج أن يقضي بها إذا قلنا بتقديم بينة الداخل، وأن للمودع المخاصمة في الوديعة إذا غصبت؛ ولأنها بينة مسموعة فيقضي بها، كبينة المدعي إذا لم تعارضها بينة أخرى. فإن ادعى من هي في(26/320)
يده أنها معه بإجارة أو إعارة، وأقام بينة بالملك للغائب لم يقض بها لوجهين:
أحدهما: أن ثبوت الإجارة والإعارة يترتب على الملك للمؤجر بهذه البينة؛ فلا تثبت الإجارة المترتبة عليها.
والثاني: أن بينة الخارج مقدمة على بينة الداخل، ويخرج القضاء بها على تقديم بينة الداخل، وكون الحاضر له فيها حق؛ فإنه يقضي بها وجها واحدا، ومتى عاد المقر بها لغيره، وادعاها لنفسه لم تسمع دعواه؛ لأنه أقر بأنه لا يملكها فلا يسمع منه الرجوع عن إقراره، والحكم في غير المكلف كالحكم في الغائب على ما ذكرنا ".
خامسا:
رأي القاضي ابن شبرمة: لا يرى القاضي ابن شبرمة - رحمه الله - القول بدفع الخصومة مطلقا، سواء أقام صاحب اليد البينة على دفعه الخصومة عن نفسه أو لم يقم البينة، وفي ذلك يقول محمد بن محمود البابرتي من فقهاء الحنفية في كتابه: العناية على الهداية "وقال ابن شبرمة: لا تندفع وإن أقامها، ووجه قوله: أنه أثبت ببينته الملك للغائب، وإثبات الملك للغائب بدون خصم متعذر، إذ ليس لأحد ولاية إدخال شيء في ملك غيره بغير رضاه، ودفع الخصومة بناء على إثبات الملك والبناء على المتعذر متعذر. والجواب: أن مقتضى هذه البينة شيئان: ثبوت الملك للغائب ولا خصم فيه، فلا يثبت، ودفع الخصومة عن نفسه وهو خصم فيه، وبناء الثاني على الأول ممنوع؛ لانفكاكه عنه، كالوكيل بنقل المرأة إلى زوجها إذا أقامت البينة على الطلاق، فإنها تقبل لقصر يد الوكيل عنها. ولم يحكم بوقوع الطلاق ما لم يحضر الغائب كما مر. ولئن سلمنا(26/321)
البناء، لكن مقصود المدعى عليه بإقامة البينة ليس إثبات الملك للغائب، إنما مقصود إثبات أن يده يد حفظ، لا يد خصومة؛ فيكون ذلك ضمنيا ولا معتبر به (1) .
سادسا:
رأي القاضي ابن أبي ليلى: يرى القاضي ابن أبي ليلى - رحمه الله - عكس ما يراه القاضي ابن شبرمة. أي أن صاحب اليد المدعى عليه إذا أقر بالملكية لغيره فإن الخصومة تندفع عنه مطلقا، سواء أقام البينة أو لم يقم البينة، بل لا حاجة - عنده - إلى إثبات الدفع بالبينة إذ يكفي مجرد الإقرار بالملكية للغير. وفي ذلك يقول صاحب العناية على الهداية " وقال ابن أبي ليلى: تندفع بمجرد الإقرار، ووجه قوله: أن ذا اليد أقر بالملك لغيره، والإقرار يوجب الحق لنفسه فتبين أن يده يد حفظ فلا حاجة إلى البينة. والجواب (2) : أنه صار خصما بظاهر يده وبإقراره، يريد أن يحول حقا مستحقا على نفسه؛ فهو متهم في إقراره، فلا يصدق إلا بحجة، كما إذا ادعى تحول الدين من ذمته إلى ذمة غيره بالحوالة فإنه لا يصدق إلا بحجة. لا يقال: يلزم إثبات إقرار نفسه ببينة، وهو غير معهود في الشرع؛ لأنها لإثبات اليد الحافظة التي أنكرها المدعي، لا لإثبات الإقرار (3) .
الترجيح:
إذا أمعنا النظر في صور دفع الخصومة، وإلى ما استدل به كل فريق
__________
(1) العناية مع فتح القدير تكملة 8 \ 239 فما بعدها.
(2) أي جواب الإمام البابرتي صاحب العناية على الهداية.
(3) العناية مع تكملة فتح القدير 8 \ 239 فما بعدها.(26/322)
من فرق العلماء - رحمهم الله تعالى - فإننا نجد أن تلك الصور هي وقائع لا دليل عليها من نص ولا إجماع ولا قياس جلي، وإنما دليلها المصلحة المرسلة. ولذا فإن ما نقعده: هو أن على المجتهد أن يميز بين كون النظر في هذه الوقائع نظرا سياسيا شرعيا سنده المصلحة، وبين كون النظر فيها قضائيا يلتزم طريق الحكم القضائي وصفته. أي أن النظر في صور دفع الخصومة، إنما يعود إلى تصرفات القاضي باعتباره إماما لا باعتباره قاضيا، وهناك فرق بين التصرفين ليس هذا مكانه، وممن حرر الفرق بين التصرفين القاضيان: الماوردي وأبو يعلى الفراء في كتاب كل منهما المسمى بالأحكام السلطانية. فإذا اتضحت للقاضي هذه القاعدة، فإن له أن يجتهد في صور دفع الخصومة بما تقضى به المصلحة، ويؤيد ضرورة التفريق بين التصرفين - في هذه المسألة - ما يلي:
1 - صرح الفقهاء - أنفسهم -: أن سماع بينة دافع الخصومة إنما كان للمصلحة ولم تسمع بدليل شرعي معين، وكل حكم سنده المصلحة فهو حكم سياسي لا قضائي وعليه: فإن بينة دافع الخصومة هي بينة سياسية لا قضائية.
2 - أن سماع بينة دافع الخصومة المدعى عليه - باعتبارها بينة قضائية - مخالف لنص: «البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه (1) » وقاعدة "بينة الخارج مقدمة على بينة الداخل "فإن دافع الخصومة مدعى عليه بقرينة وضع اليد، وبينته بينة الداخل باعتبار
__________
(1) سنن الترمذي الأحكام (1341) .(26/323)
وضع اليد أيضا، ولا مخرج من هذه المخالفة إلا باعتبار بينته بينة سياسية لا قضائية.
3 - أنه على التسليم باعتبار بينة دافع الخصومة بينة قضائية فإن هذا القول يكون ذريعة إلى الخروج عن طريق الحكم وصفته؛ وذلك لأن تعليل الأحكام القضائية بالمصلحة يقضي إلى الحكم بالرأي والهوى - أعاذنا الله من ذلك - لأن المصالح تتفاوت في إدراكها العقول السليمة، هذا إذا لم تخالف نصا شرعيا، فكيف إذا خالفت نصا شرعيا، ثم خول إدراكها إلى عقول غلبتها الأهواء. فلا مخرج من هذا إلا أن يكون سماع بينة دافع الخصومة حكما سياسيا لا حكما قضائيا.
4 - أننا إذا اعتبرنا بينة دافع الخصومة بينة سياسية سندها المصلحة فلا يرد القول: بأن سماعها قضاء بالملكية للغائب، الذي لم يحضر ولم يوكل؛ وذلك لأن هذه البينة ليست قضائية، والأحكام القضائية إنما تبنى على البينات القضائية.
هذا، ولا يعني أن فيما ذكرناه تعطيلا للأخذ بأقوال الفقهاء - رحمهم الله تعالى - بل إن ما بينوه فيه ما يغني عما سواه، ولكن ما ذكرناه يتضح فيه المخرج من جميع المحاذير والإيرادات التي أشرنا إليها فيما تقدم.
بعد هذا، فإن الترجيح بين أقوال الفقهاء - في هذه المسألة، من جهة أن تلك الأحكام التي أوردوها إنما هي أحكام سلطانية سندها المصلحة، وليست أحكاما قضائية فإننا نقول وبالله التوفيق: -
إذا أعدنا النظر في أقوال الفقهاء - رحمهم الله تعالى - فإن جملة ما صوروه في هذه المسألة - ينحصر في ثلاث صور، هي:
1 - أن يدفع صاحب اليد الخصومة عن نفسه بعدم المنازعة.(26/324)
2 - أن يدفع صاحب اليد الخصومة عن نفسه إلى خصم معين.
3 - أن يدفع صاحب اليد الخصومة عن نفسه إلى خصم غير معين.
وإذا أعدنا النظر في أقوال الفقهاء في حكم كل صورة من هذه الصور الثلاث فإن ما نرجحه من تلك الأقوال هو ما يلي:
أولا: الترجيح في حكم الصورة الأولى، ومثالها في أقوال الفقهاء:
أن يجيب صاحب اليد بقوله: إن هذه العين ليست لي، وقد تقدم القول أن في هذه الصور ثلاثة أوجه في المذهب الشافعي، وهي ذاتها وجهان وتخريج في المذهب الحنبلي أحدها: تسليم العين للمدعي، والثاني: حفظها لدى القاضي حتى يأتي المدعي بحجة، والثالث: إبقاؤها في يد المدعى عليه. وقد سبق الكلام على أدلة كل وجه من الأوجه الثلاثة، والذي يترجح من هذه الأوجه هو القول بحفظها لدى القاضي حتى يأتي المدعي ببينة وذلك لما يلي:
1 - أنه يلزم من الوجه القائل بتسليم العين إلى المدعي تمكين المتخاصمين من الاحتيال لتملك العين بطريق القضاء. وقد يجاب على هذا: بأن صاحب اليد لو أقر للمدعي لورد إمكان الاحتيال كذلك. قلنا: هذا قياس مع الفارق لأن المقر يضمن العين المقر بها في حال ظهور من يدعيها وصحة دعواه، وذلك عكس ما لو لم يقر بها لأحد.
2 - أنه يلزم من الوجه القائل بإبقاء العين في يد صاحب اليد، ضياع العين أو تلفها؛ لأن صاحب اليد لم يذكر أن يده على العين يد أمانة أو يد حفظ، فتعين القول بحفظها لدى القاضي حتى ظهور(26/325)
حجة للمدعي.
قلت: لم يبين القائلون بحفظ العين لدى القاضي حتى ظهور حجة للمدعي ما هي قوة تلك الحجة؟ والظاهر أن قوتها لديهم هي قوة البينات الشرعية في حال المنازعة. ولكن الفقيه ابن رجب الحنبلي يرى أن العين تسلم إلى المدعي بأقرب البينات. يقول رحمه الله - في كتابه جامع العلوم والحكم (1) :
" أما من ادعى ما ليس له مدع لنفسه، منكر لدعواه، فهذا أسهل من الأول ولا بد للمدعي - هنا - من بينة، ولكن يكتفى من البينة - هنا - بما لا يكتفى بها في الدعوى على المدعي لنفسه المنكر، ويشهد لذلك مسائل:
1 - منها اللقطة إذا جاء من وصفها، فإنها تدفع إليه من غير بينة بالاتفاق، لكن منهم من يقول: يجوز الدفع إذا غلب على الظن صدقه، ولا يجب، كقول الشافعي وأبي حنيفة. ومنهم من يقول: يجب دفعها بذكر الوصف المطابق كقول مالك وأحمد.
2 - ومنها الغنيمة إذا جاء من يدعي منها شيئا، وأنه كان له واستولى عليه الكفار، وأقام على ذلك ما يبين أنه له اكتفى به، وسئل عن ذلك أحمد وقيل له: فتريد على ذلك بينة؟ قال: لا بد من بيان يدل على أنه له، وإن علم ذلك دفعه إلى الأمير.
3 - وروى الخلال بإسناده عن الركين بن الربيع عن أبيه قال: أحمس (أي شرد) لأخي فرس بعين القمر، فرآه في مربط سعد فقال فرسي، قال سعد: ألك بينة؟ قال: لا، ولكن أدعوه فيحمحم، فدعاه سعد فحمحم، فأعطاه إياه، وهذا يحتمل أنه كان لحق بالعدو ثم ظهر عليه المسلمون ويحتمل أنه عرف أنه ضال، فوضع
__________
(1) ص 312.(26/326)
بين الدواب الضالة، فيكون كاللقطة.
4 - ومنها: الغصوب إذا علم ظلم الولاة فطلب ردها من بيت المال، قال أبو الزناد: كان عمر بن عبد العزيز يرد المظالم إلى أهلها بغير البينة القاطعة، كان يكتفي باليسير. إذا عرف صدق مظلمة الرجل ردها عليه، ولم يكلفه تحقيق البينة لما يعرف من غشم الولاة قبله على الناس، ولقد انقضت أموال العراق في رد المظالم حتى حمل إليها من الشام.
5 - وذكر أصحابنا: أن الأموال المغصوبة مع قطاع الطريق واللصوص يكتفى من مدعيها بالصفة كاللقطة، ذكره القاضي في خلافه وأنه ظاهر كلام أحمد والله أعلم "انتهى كلام ابن رجب رحمه الله.
ثانيا: الترجيح في حكم الصورة الثانية:
وهي ما إذا دفع المدعى عليه الخصومة إلى معين. وقد فرق جمهور فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة بين ما إذا كان هذا المعين المدفوع إليه الخصومة حاضرا في البلد أم غائبا عنها: فإن كان حاضرا في البلد اندفعت إليه الخصومة بلا بينة. أما أكثر فقهاء الحنفية فإن الخصومة - عندهم - لا تندفع إلا ببينة كما لو كان المدفوع إليه الخصومة غائبا عن البلد. والراجح ما ذهب إليه جمهور فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة؛ وذلك لأن تكليف المدعى عليه بالبينة على دفع الخصومة لا ثمرة له مع وجود المدفوع إليه الخصومة وحضوره.
أما إن كان المدفوع إليه الخصومة غائبا عن البلد، فقد اتفق عامة الفقهاء على أن الخصومة لا تندفع عن المدعى عليه إلا ببينة.
ثالثا: الترجيح في حكم الصورة الثالثة:(26/327)
وهي ما إذا دفع المدعى عليه الخصومة عن نفسه إلى غير معين. وقد اتفق الفقهاء على أن الخصومة - في هذه الصورة - لا تندفع بحال عن نفس المدعى عليه.
استنتاج
لا تنحصر صور دفع الخصومة فيما ذكره الفقهاء - رحمهم الله تعالى - من صور دفع الخصومة، فإن دفع الخصومة - سواء كان دفعا مطلقا أو مقيدا - يأتي في صور أخرى سوى ما ذكره الفقهاء. فمثال دفع الخصومة دفعا مطلقا: أن يقول المدعى عليه: إن هذه الدعوى سبق الفصل فيها بحكم شرعي. فإذا ثبتت صحة هذا القول، فإن القاضي لا يعيد النظر في الخصومة، وبذلك يدفع المدعى عليه الخصومة عن نفسه في هذه الصورة.
وقد قال أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة - في حكم هذه الصور - " فصل: فإن ادعى رجل على الحاكم أنك حكمت لي بهذا الحق على خصمي، فذكر الحاكم حكمه أمضاه وألزم خصمه ما حكم به عليه، وليس هذا حكما بالعلم، إنما هو إمضاء لحكمه السابق. وإن لم يذكره القاضي فشهد عنده شاهدان على حكمه لزمه قبولها وإمضاء القضاء. وبه قال ابن أبي ليلى ومحمد بن الحسن. قال القاضي: هذا قياس قول أحمد؛ لأنه قال: يرجع الإمام إلى قول اثنين فصاعدا من المأمومين " (1) .
ومثال: دفع الخصومة دفعا مقيدا: أن يقول المدعى عليه للقاضي المرفوع إليه الشكوى: إن نظره لدعوى المدعي لا يدخل فيما هو مختص
__________
(1) انظر المغني شرح متن الخرقي 9 \ 76، 77.(26/328)
بالنظر فيه. فإذا ثبت قول المدعى عليه هذا فإن الخصومة تندفع عن المدعى عليه - مؤقتا - حتى ترفع الشكوى إلى القاضي المختص بنظرها.
ومثال: دفع الخصومة دفعا مقيدا - أيضا - أن يذكر المدعى عليه أن للمدعي مع القاضي الذي رفعت إليه الشكوى صلة قرابة بنوة أو أبوة، فإذا ثبت ذلك، فإن الخصومة تندفع عن المدعى عليه حتى ترفع الشكوى لقاض آخر.
وقاعدة القول في ذلك كله - كما نراه - أن المدعى عليه متى ادعى اختلال ركن من أركان القضاء أو شرط من شروطه، أو ادعى وجود مانع من موانع القضاء المتفق على حكمها، فإن الخصومة تندفع حتى يستقيم الركن أو الشرط أو ينتفي المانع.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(26/329)
صفحة فارغة(26/330)
من قرارات المجمع الفقهي
القرار الثالث
حكم القاديانية
والانتماء إليها
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. وبعد:
فقد استعرض مجلس المجمع الفقهي موضوع الفئة القاديانية التي ظهرت في الهند في القرن الماضي (التاسع عشر الميلادي) والتي تسمى أيضا (الأحمدية) ودرس المجلس نحلتهم التي قام بالدعوة إليها مؤسس النحلة ميرزا غلام أحمد القادياني 1876 م مدعيا أنه نبي يوحى إليه، وأنه المسيح الموعود، وأن النبوة لم تختم بسيدنا محمد بن عبد الله رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم (كما هي عليه عقيدة المسلمين بصريح القرآن العظيم والسنة) ، وزعم أنه قد نزل عليه، وأوحي إليه أكثر من عشرة آلاف آية، وأن من يكذبه كافر، وأن المسلمين يجب عليهم الحج إلى قاديان، لأنها البلدة المقدسة كمكة والمدينة، وأنها هي المسماة في القرآن بالمسجد الأقصى كل ذلك مصرح به في كتابه الذي نشره بعنوان (براهين أحمدية) وفي رسالته التي نشرها بعنوان (التبليغ) .
واستعرض مجلس المجمع أيضا أقوال وتصريحات ميرزا بشير الدين بن(26/331)
غلام أحمد القادياني وخليفته، ومنها ما جاء في كتابه المسمى (آينة صداقت) من قوله "أن كل مسلم لم يدخل في بيعة المسيح الموعود (أي والده ميرزا غلام أحمد) سواء سمع باسمه أو لم يسمع هو كافر وخارج عن الإسلام " (الكتاب المذكور صفحة 35) وقوله أيضا في صحيفتهم القاديانية (الفضل) فيما يحكيه هو عن والده غلام أحمد نفسه إنه قال: "إننا نخالف المسلمين في كل شيء: في الله، في الرسول، في القرآن، في الصلاة، في الصوم، في الحج، في الزكاة، وبيننا وبينهم خلاف جوهري في كل ذلك "صحيفة (الفضل) في 30 من تموز (يوليو) 1931 م.
وجاء أيضا في الصحيفة نفسها (المجلد الثالث) ي ما نصه "إن ميرزا هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم "زاعما أنه هو مصداق قول القرآن حكاية عن سيدنا عيسى عليه السلام {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (1) كتاب إنذار الخلافة ص 21 "واستعرض المجلس أيضا ما كتبه ونشره العلماء والكتاب الإسلاميون الثقات عن هذه الفئة القاديانية الأحمدية لبيان خروجهم عن الإسلام خروجا كليا.
وبناء على ذلك اتخذ المجلس النيابي الإقليمي لمقاطعة الحدود الشمالية في دولة باكستان قرارا في عام 1974 م بإجماع أعضائه يعتبر فيه الفئة القاديانية بين مواطني باكستان أقلية غير مسلمة. ثم في الجمعية الوطنية (مجلس الأمة الباكستاني العام لجميع المقاطعات وافق أعضاؤها بالإجماع أيضا على اعتبار فئة القاديانية أقلية غير مسلمة) .
يضاف إلى عقيدتهم هذه ما ثبت بالنصوص الصريحة من كتب ميرزا غلام أحمد نفسه ومن رسائله الموجهة إلى الحكومة الإنكليزية في الهند التي يستدرها ويستديم تأييدها وعطفها من إعلانه تحريم الجهاد، وأنه ينفي فكرة الجهاد ليصرف قلوب المسلمين إلى الإخلاص للحكومة الإنجليزية المستعمرة في الهند لأن فكرة الجهاد التي يدين بها بعض جهال
__________
(1) سورة الصف الآية 6(26/332)
المسلمين تمنعهم من الإخلاص للإنكليز. ويقول في هذا الصدد في ملحق كتابه (شهادة القرآن) الطبعة السادسة ص 17 ما نصه (أنا مؤمن بأنه كلما ازداد أتباعي وكثر عددهم قل المؤمنون بالجهاد لأنه يلزم من الإيمان بأني المسيح أو المهدي إنكار الجهاد) تنظر رسالة الأستاذ الندوي نشر الرابطة ص 25.
وبعد أن تداول مجلس المجمع الفقهي في هذه المستندات وسواها من الوثائق الكثيرة المفصحة عن عقيدة القاديانيين ومنشئها وأسسها وأهدافها الخطيرة في تهديم العقيدة الإسلامية الصحيحة وتحويل المسلمين عنها تحويلا وتضليلا، قرر المجلس بالإجماع اعتبار العقيدة القاديانية المسماة أيضا بالأحمدية عقيدة خارجة عن الإسلام خروجا كاملا، وأن معتنقيها كفار مرتدون عن الإسلام، وأن تظاهر أهلها بالإسلام إنما هو للتضليل والخداع، ويعلن مجلس المجمع الفقهي أنه يجب على المسلمين حكومات وعلماء وكتابا ومفكرين ودعاة وغيرهم مكافحة هذه النحلة الضالة وأهلها في كل مكان في العالم. . وبالله التوفيق.
نائب الرئيس ... الرئيس
محمد علي الحركان الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي ... عبد الله بن حميد رئيس مجلس القضاء الأعلى في المملكة العربية السعودية
الأعضاء
عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية ... محمد محمود الصواف ... محمد بن صالح بن عثيمين
... محمد بن عبد الله السبيل ... محمد رشيد قباني
مصطفى الزرقاء ... محمد رشيدي ... عبد القدوس الهاشمي الندوي
... أبو بكر جومي ...(26/333)
القرار الخامس
التأمين
بشتى صوره وأشكاله
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:
فإن مجمع الفقه الإسلامي قد نظر في موضوع التأمين بأنواعه المختلفة بعد ما اطلع على كثير مما كتبه العلماء في ذلك وبعد ما اطلع أيضا على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته العاشرة المنعقدة بمدينة الرياض بتاريخ 4 \ 4 \ 1397 هـ من التحريم للتأمين بأنواعه.
وبعد الدراسة الوافية وتداول الرأي في ذلك قرر المجلس بالأكثرية تحريم التأمين بجميع أنواعه سواء كان على النفس أو البضائع التجارية أو غير ذلك من الأموال.
كما قرر مجلس المجمع بالإجماع الموافقة على قرار مجلس هيئة كبار العلماء من جواز التأمين التعاوني بدلا من التأمين التجاري المحرم والمنوه عنه آنفا وعهد بصياغة القرار إلى لجنة خاصة.
تقرير اللجنة المكلفة بإعداد قرار مجلس المجمع حول التأمين:
بناء على قرار مجلس المجمع المتخذ بجلسة الأربعاء 14 شعبان 1398 هـ المتضمن تكليف كل من أصحاب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز والشيخ محمد محمود الصواف والشيخ محمد بن عبد الله السبيل(26/334)
بصياغة قرار مجلس المجمع حول التأمين بشتى أنواعه وأشكاله.
وعليه فقد حضرت اللجنة المشار إليها وبعد المداولة أقرت ما يلي:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:
فإن المجمع الفقهي الإسلامي في دورته الأولى المنعقدة في 10 شعبان 1398 هـ بمكة المكرمة بمقر رابطة العالم الإسلامي نظر في موضوع التأمين بأنواعه بعد ما اطلع على كثير مما كتبه العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته العاشرة بمدينة الرياض بتاريخ 4 \ 4 \ 1397 هـ بقراره رقم (55) من التحريم للتأمين التجاري بأنواعه.
وبعد الدراسة الوافية وتداول الرأي في ذلك قرر مجلس المجمع الفقهي بالإجماع عدا فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا تحريم التأمين التجاري بجميع أنواعه سواء كان على النفس أو البضائع التجارية أو غير ذلك للأدلة الآتية:
الأول: عقد التأمين التجاري من عقود المعاوضات المالية الاحتمالية المشتملة على الغرر الفاحش، لأن المستأمن لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي أو يأخذ فقد يدفع قسطا أو قسطين ثم تقع الكارثة فيستحق ما التزم به المؤمن، وقد لا تقع الكارثة أصلا فيدفع جميع الأقساط ولا يأخذ شيئا وكذلك المؤمن لا يستطيع أن يحدد ما يعطي ويأخذ بالنسبة لكل عقد بمفرده، وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن بيع الغرر.
الثاني: عقد التأمين التجاري ضرب من ضروب المقامرة لما فيه من المخاطرة في معاوضات مالية ومن الغرم بلا جنابة أو تسبب(26/335)
فيها ومن الغنم بلا مقابل أو مقابل غير مكافئ، فإن المستأمن قد يدفع قسطا من التأمين ثم يقع الحادث فيغرم المؤمن كل مبلغ التأمين وقد لا يقع الخطر ومع ذلك يغنم المؤمن أقساط التأمين بلا مقابل وإذا استحكمت فيه الجهالة كان قمارا ودخل في عموم النهي عن الميسر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1)
والآية بعدها.
الثالث: عقد التأمين التجاري يشتمل على ربا الفضل والنسأ فإن الشركة إذا دفعت للمستأمن أو لورثته أو للمستفيد أكثر مما دفعه من النقود لها فهو ربا فضل والمؤمن يدفع ذلك للمستأمن بعد مدة فيكون ربا نسأ وإذا دفعت الشركة للمستأمن مثل ما دفعه لها يكون ربا نسأ فقط وكلاهما محرم بالنص والإجماع.
الرابع: عقد التأمين التجاري من الرهان المحرم لأن كلا منهما فيه جهالة وغرر ومقامرة ولم يبح الشرع من الرهان إلا ما فيه نصرة للإسلام وظهور لإعلامه بالحجة والسنان وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم رخصة الرهان بعوض في ثلاثة بقوله صلى الله عليه وسلم «لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل (2) » وليس التأمين من ذلك ولا شبيها به فكان محرما.
الخامس: عقد التأمين التجاري فيه أخذ مال الغير بلا مقابل، وأخذ بلا مقابل في عقود المعاوضات التجارية محرم لدخوله في عموم النهي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (3)
__________
(1) سورة المائدة الآية 90
(2) سنن الترمذي الجهاد (1700) ، سنن أبو داود الجهاد (2574) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2878) ، مسند أحمد بن حنبل (2/474) .
(3) سورة النساء الآية 29(26/336)
السادس: في عقد التأمين التجاري الإلزام بما لا يلزم شرعا فإن المؤمن لم يحدث الخطر منه ولم يتسبب في حدوثه وإنما كان منه مجرد التعاقد مع المستأمن على ضمان الخطر على تقدير وقوعه مقابل مبلغ يدفعه المستأمن له والمؤمن لم يبذل عملا للمستأمن فكان حراما.
وأما ما استدل به المبيحون للتأمين التجاري مطلقا أو في بعض أنواعه فالجواب عنه ما يلي:
(أ) الاستدلال بالاستصلاح غير صحيح فإن المصالح في الشريعة الإسلامية ثلاثة أقسام: قسم شهد الشرع باعتباره فهو حجة، وقسم سكت عنه الشرع فلم يشهد له بإلغاء ولا اعتبار فهو مصلحة مرسلة وهذا محل اجتهاد المجتهدين، والقسم الثالث ما شهد الشرع بإلغائه وعقود التأمين التجاري فيها جهالة وغرر وقمار وربا فكانت مما شهدت الشريعة بإلغائه لغلبة جانب المفسدة فيه على جانب المصلحة.
(ب) الإباحة الأصلية لا تصلح دليلا هنا لأن عقود التأمين التجاري قامت الأدلة على مناقضتها لأدلة الكتاب والسنة. والعمل بالإباحة الأصلية مشروط بعدم المناقل عنها وقد وجد فبطل الاستدلال بها.
(ج) الضرورات تبيح المحظورات لا يصح الاستدلال به هنا، فإن ما أباحه الله من طرق كسب الطيبات أكثر أضعافا مضاعفة مما حرمه عليهم فليس هناك ضرورة معتبرة شرعا تلجئ إلى ما حرمته الشريعة من التأمين.
(د) لا يصح الاستدلال بالعرف فإن العرف ليس من أدلة تشريع الأحكام وإنما يبنى عليه في تطبيق الأحكام وفهم المراد من ألفاظ النصوص ومن عبارات الناس في أيمانهم وتداعيهم وأخبارهم وسائر(26/337)
ما يحتاج إلى تحديد المقصود منه من الأفعال والأقوال فلا تأثير له فيما تبين أمره وتعين المقصود منه وقد دلت الأدلة دلالة واضحة على منع التأمين فلا اعتبار به معها.
(هـ) الاستدلال بأن عقود التأمين التجاري من عقود المضاربة أو في معناه غير صحيح. فإن رأس المال لم يخرج عن ملك صاحبه وما يدفعه المستأمن يخرج بعقد التأمين من ملكه إلى ملك الشركة حسبما يقضي به نظام التأمين، وأن رأس مال المضاربة يستحقه ورثة مالكه عند موته، وفي التأمين قد يستحق الورثة نظاما مبلغ التأمين ولو لم يدفع مورثهم إلا قسطا واحدا، وقد لا يستحقون شيئا إذا جعل المستفيد سوى المستأمن وورثته، وأن الربح في المضاربة يكون بين الشريكين نسبا مئوية مثلا بخلاف التأمين فربح رأس المال وخسارته للشركة وليس للمستأمن إلا مبلغ التأمين أو مبلغ غير محدد.
(و) قياس عقود التأمين على ولاء الموالاة عند من يقول به غير صحيح، فإنه قياس مع الفارق ومن الفروق بينهما أن عقود التأمين هدفها الربح المادي المشوب بالغرر والقمار وفاحش الجهالة بخلاف عقد ولاء الموالاة فالقصد الأول فيه التآخي في الإسلام والتناصر والتعاون في الشدة والرخاء وسائر الأحوال وما يكون من كسب مادي فالقصد إليه بالتبع.
(ز) قياس عقد التأمين التجاري على الوعد الملزم عند من يقول به لا يصح لأنه قياس مع الفارق ومن الفروق أو الوعد بقرض أو إعارة أو تحمل خسارة مثلا من باب المعروف المحض فكان الوفاء به واجبا أو من مكارم الأخلاق بخلاف عقود التأمين فإنها معاوضة تجارية باعثها الربح المادي فلا يغتفر فيها ما يغتفر في التبرعات من(26/338)
الجهالة والغرر.
(ح) قياس عقود التأمين التجاري على ضمان المجهول وضمان ما لم يجب قياس غير صحيح لأنه قياس مع الفارق أيضا، ومن الفروق أن الضمان نوع من التبرع يقصد به الإحسان المحض بخلاف التأمين فإنه عقد معاوضة تجارية يقصد منها أولا الكسب المادي فإن ترتب عليه معروف فهو تابع غير مقصود إليه والأحكام يراعى فيها الأصل لا التابع ما دام تابعا غير مقصود إليه.
(ط) قياس عقود التأمين التجاري على ضمان خطر الطريق لا يصح فإنه قياس مع الفارق كما سبق في الدليل قبله.
(ى) قياس عقود التأمين التجاري على نظام التقاعد غير صحيح فإنه قياس مع الفارق أيضا لأن ما يعطى من التقاعد حق التزم به ولي الأمر باعتباره مسئولا عن رعيته وراعى في صرفه ما قام به الموظف من خدمة الأمة ووضع له نظاما راعى فيه مصلحة أقرب الناس إلى الموظف، ونظر إلى مظنة الحاجة فيهم فليس نظام التقاعد من باب المعاوضات المالية بين الدولة وموظفيها وعلى هذا لا شبه بينه وبين التأمين الذي هو من عقود المعاوضات المالية التجارية التي يقصد بها استغلال الشركات للمستأمنين والكسب من ورائهم بطرق غير مشروعة. لأن ما يعطى في حالة التقاعد يعتبر حقا التزم به من حكومات مسئولة عن رعيتها وتصرفها لمن قام بخدمة الأمة كفاء لمعروفه وتعاونا نعه جزاء تعاونه معها ببدنه وفكره وقطع الكثير من فراغه في سبيل النهوض معها بالأمة.
(ك) قياس نظام التأمين التجاري وعقوده على نظام العاقلة لا يصح فإنه قياس مع الفارق ومن الفروق أن الأصل في تحمل العاقلة لدية الخطأ وشبه العمد ما بينهما وبين القاتل خطأ أو شبه العمد من الرحم(26/339)
والقرابة التي تدعو إلى النصرة والتواصل والتعاون وإسداء المعروف ولو دون مقابل، وعقود التأمين التجارية استغلالية تقوم على معاوضات مالية محضة لا تمت إلى عاطفة الإحسان وبواعث المعروف بصلة.
(ل) قياس عقود التأمين التجاري على عقود الحراسة غير صحيح لأنه قياس مع الفارق أيضا ومن الفروق أن الأمان ليس محلا للعقد في المسألتين وإنما محله في التأمين الأقساط ومبلغ التأمين، وفي الحراسة الأجرة وعمل الحارس، أما الأمان فغاية ونتيجة وإلا لما استحق الحارس الأجرة عند ضياع المحروس.
(م) قياس التأمين على الإيداع لا يصح لأنه قياس مع الفارق أيضا فإن الأجرة في الإيداع عوض عن قيام الأمين بحفظ شيء في حوزته يحوطه بخلاف التأمين فإن ما يدفعه المستأمن لا يقابله عمل من المؤمن ويعود إلى المستأمن بمنفعة إنما هو ضمان الأمن والطمأنينة وشرط العوض عن الضمان لا يصح بل هو مفسد للعقد وإن جعل مبلغ التأمين في مقابلة الأقساط كان معاوضة تجارية جعل فيها مبلغ التأمين أو زمنه فاختلف في عقد الإيداع بأجر.
(ن) قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البز مع الحاكة لا يصح والفرق بينهما أن المقيس عليه من التأمين التعاوني وهو تعاون محض والمقيس تأمين تجاري وهو معاوضات تجارية فلا يصح القياس.
كما قرر مجلس المجمع بالإجماع الموافقة على قرار مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية رقم (51) وتاريخ 4 \ 4 \ 1397 هـ من جواز التأمين التعاوني بدلا من التأمين التجاري المحرم والمنوه عنه آنفا للأدلة الآتية:
الأول: إن التأمين التعاوني من عقود التبرع التي يقصد بها أصالة(26/340)
التعاون على تفتيت الأخطار والاشتراك في تحمل المسئولية عند نزول الكوارث وذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ مالية نقدية تخصص لتعويض من يصيبه الضرر فجماعة التأمين التعاوني لا يستهدفون تجارة ولا ربحا من أموال غيرهم وإنما يقصدون توزيع الأخطار بينهم والتعاون على تحمل الضرر.
الثاني: خلو التأمين التعاوني من الربا بنوعيه ربا الفضل وربا النسأ فليس عقود المساهمين ربوية ولا يستغلون ما جمع من الأقساط في معاملات ربوية.
الثالث: إنه لا يضر جهل المساهمين في التأمين التعاوني بتحديد ما يعود عليهم من النفع لأنهم متبرعون فلا مخاطرة ولا غرر ولا مقامرة بخلاف التأمين التجاري فإنه عقد معاوضة مالية تجارية.
الرابع: قيام جماعة من المساهمين أو من يمثلهم باستثمار ما جمع من الأقساط لتحقيق الغرض الذي من أجله أنشئ هذا التعاون سواء كان القيام بذلك تبرعا أو مقابل أجر معين. ورأى المجلس أن يكون التأمين التعاوني على شكل شركة تأمين تعاونية مختلطة للأمور الآتية:
أولا: الالتزام بالفكر الاقتصادي الإسلامي الذي يترك للأفراد مسئولية القيام بمختلف المشروعات الاقتصادية ولا يأتي دور الدول إلا كعنصر مكمل لما عجز الأفراد عن القيام به وكدور موجه ورقيب لضمان نجاح هذه المشروعات وسلامة عملياتها.
ثانيا: الالتزام بالفكر التعاوني التأميني الذي بمقتضاه يستقل المتعاونون بالمشروع كله من حيث تشغيله ومن حيث الجهاز التنفيذي ومسئولية إدارة المشروع.(26/341)
ثالثا: تدريب الأهالي على مباشرة التأمين التعاوني وإيجاد المبادرات الفردية والاستفادة من البواعث الشخصية فلا شك أن مشاركة الأهالي في الإدارة تجعلهم أكثر حرصا ويقظة على تجنب وقوع المخاطر التي يدفعون مجتمعين تكلفة تعويضها مما يحقق بالتالي مصلحة لهم في إنجاح التأمين التعاوني إذ إن تجنب المخاطر يعود عليهم بأقساط أقل في المستقبل، كما أن وقوعها قد يحملهم أقساطا أكبر في المستقبل.
رابعا: إن صورة الشركة المختلطة لا يجعل التأمين كما لو كان هبة أو منحة من الدولة للمستفيدين منه بل بمشاركة منها معهم فقط لحمايتهم ومساندتهم باعتبارهم هم أصحاب المصلحة الفعلية وهذا موقف أكثر إيجابية ليشعر معه المتعاونون بدور الدولة ولا يعفيهم في نفس الوقت من المسئولية.
ويرى المجلس أن يراعى في وضع المواد التفصيلية للعمل بالتأمين التعاوني الأسس الآتية:
الأول: أن يكون لمنظمة التأمين التعاوني مركز له فروع في كافة المدن وأن يكون بالمنظمة أقسام تتوزع بحسب الأخطار المراد تغطيتها وبحسب مختلف فئات ومهن المتعاونين كأن يكون هناك قسم للتأمين الصحي وثان للتأمين ضد العجز والشيخوخة. إلخ. أو يكون هناك قسم لتأمين الباعة المتجولين وآخر للتجار وثالث للطلبة ورابع لأصحاب المهن الحرة كالمهندسين والأطباء والمحامين. إلخ.
الثاني: أن تكون منظمة التأمين التعاوني على درجة كبيرة من المرونة(26/342)
والبعد عن الأساليب المعقدة.
الثالث: أن يكون للمنظمة مجلس أعلى يقرر خطط العمل ويقترح ما يلزمها من لوائح وقرارات تكون نافذة إذا اتفقت مع قواعد الشريعة.
الرابع: يمثل الحكومة في هذا المجلس من تختاره من الأعضاء ويمثل المساهمين من يختارونهم ليكونوا أعضاء في المجلس ليساعد ذلك على إشراف الحكومة عليها واطمئنانها على سلامة سيرها وحفظها من التلاعب والفشل.
الخامس: إذا تجاوزت المخاطر موارد الصندوق بما قد يستلزم زيادة الأقساط فتقوم الدولة والمشتركون بتحمل هذه الزيادة.
ويؤيد مجلس المجمع الفقهي ما اقترحه مجلس هيئة كبار العلماء في إقراره المذكور بأن يتولى وضع المواد التفصيلية لهذه الشركة التعاونية جماعة من الخبراء المختصين في هذا الشأن.
والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
نائب الرئيس ... الرئيس
محمد علي الحركان الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي ... عبد الله بن حميد رئيس مجلس القضاء الأعلى في المملكة العربية السعودية
الأعضاء
عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية ... محمد محمود الصواف ... محمد بن صالح بن عثيمين
... محمد بن عبد الله السبيل ... محمد رشيد قباني ... مصطفى الزرقاء ... محمد رشيدي ... عبد القدوس الهاشمي الندوي ... أبو بكر جومي ...(26/343)
مخالفة الأستاذ الدكتور مصطفى الزرقاء
إخواني الأساتذة الفضلاء أعضاء المجمع الفقهي.
إني أخالف ما ذهبتم إليه من اعتبار التأمين الذي أسميتموه تجاريا بمختلف أنواعه وصوره حراما، وميزتم بينه وبين ما أسميتموه تعاونيا. وأرى أن التأمين من حيث إنه طريق تعاوني منظم لترميم الأضرار التي تقع على رؤوس أصحابها من المخاطر التي يتعرضون لها هو في ذاته جائز شرعا بجميع صوره الثلاث وهي: التأمين على الأشياء والتأمين على المسئولية المسمى (تأمين ضد الغير) والتأمين المسمى خطأ بالتأمين على الحياة جائز شرعا.
وإن أدلتي الشرعية من الكتاب العزيز والسنة النبوية وقواعد الشريعة ومقاصدها العامة والشواهد الفقهية بالقياس السليم عليها ودفع توهم أنه يدخل في نطاق القمار أو الرهان المحرمين، ودفع شبهة أنه ربا، كل ذلك موضح تمام الإيضاح في كتابي المنشور بعنوان (عقد التأمين، وموقف الشريعة الإسلامية منه) وأنتم مطلعون عليه مع بيان حاجة الناس في العالم كله إليه.
وقد بينت لكم في هذه الجلسة أيضا أن التمييز بين تأمين تعاوني وتجاري لا سند له. فكل التأمين قائم على فكرة التعاون على تفتيت الأضرار وترميمها ونقلها عن رأس المصاب وتوزيعها على أكبر عدد ممكن بين عدد قليل من الأشخاص الذين تجمعهم حرفة صغيرة - أو سوق ويتعرضون لنوع من الأخطار فيساهمون في تكوين صندوق مشترك حتى إذا أصاب أحدهم الخطر والضرر عوضوه عنه من الصندوق الذي هو أيضا مساهم فيه هذا النوع الذي يسمى في الاصطلاح تبادليا وسميتموه(26/344)
(تعاونيا) لا تحتاج إدارته إلى متفرغين لها ولا إلى نفقات إدارة وتنظيم وحساب إلخ.
فإذا كثرت الرغبات في التأمين وأصبح يدخل فيه الألوف - عشراتها أو مئاتها أو آلافها من الراغبين وأصبح يتناول عددا كبيرا من أنواع الأخطار المختلفة فإنه عندئذ يحتاج إلى إدارة متفرغة وتنظيم ونفقات كبيرة من أجور محلات وموظفين ووسائل آلية وغير آلية إلخ. . وعندئذ لا بد لمن يتفرغون لإدارته وتنظيمه من أن يعيشوا على حساب هذه الإدارة الواسعة كما يعيش أي تاجر أو صانع أو محترف أو موظف على حساب عمله.
وعندئذ لا بد من أن يوجد فرق بين الأقساط التي تجبى من المستأمنين وبين ما يؤدى من نفقات وتعويضات للمصابين عن أضرارهم لتربح الإدارة المتفرغة هذا الفرق وتعيش منه كما يعيش التاجر من فرق السعر بين ما يشتري ويبيع.
ولتحقيق هذا الربح يبنى التأمين الذي أسميتموه تجاريا على حساب إحصاء دقيق لتحديد القسط الذي يجب أن يدفعه المستأمن في أنواع من الأخطار. هذا هو الفرق الحقيقي بين النوعين. أما المعنى التعاوني فلا فرق فيه بينهما أصلا من حيث الموضوع.
كما إني أحب أن أضيف إلى ذلك أن هذه الدورة الأولى لهذا المجمع الفقهي الميمون الذي لم يجتمع فيها إلا نصف أعضائه فقط والباقون تخلفوا أو اعتذروا عن العضوية لظروفهم الخاصة لا ينبغي أن يتخذ فيها قرار بهذه السرعة بتحريم موضوع كالتأمين من أكبر الموضوعات المهمة اليوم خطورة وشأنا لارتباط مصالح جميع الناس به في جميع أنحاء المعمورة والدول كلها تفرضه إلزاميا في حالات كالتأمين على السيارات ضد الغير صيانة لدماء المصابين في حوادث السيارات من أفئدة تذهب هدرا إذا(26/345)
كان قائد السيارة أو مالكها مفلسا.
فإذا أريد اتخاذ قرار خطير كهذا وفي موضوع اختلفت فيه آراء علماء العصر اختلافا كبيرا في حله أو حرمته يجب في نظري أن يكون في دورة يجتمع فيها أعضاء المجمع كلهم أو إلا قليلا منهم وعلى أن يكتب لغير أعضاء المجمع من علماء العالم الإسلامي الذين لهم وزنهم العلمي ثم يبت في مثل هذا الموضوع الخطير في ضوء أجوبتهم على أساس الميل إلى التيسير على الناس عند اختلاف آراء العلماء لا إلى التعسير عليهم.
ولا بد لي ختاما من القول بأنه إذا كانت شركات التأمين تفرض في عقودها مع المستأمنين شروطا لا يقرها الشرع، أو تفرض أسعارا للأقساط في أنواع الأخطار غالية بغية الربح الفاحش فهذا يجب أن تتدخل فيه السلطات المسئولة لفرض رقابة وتسعير لمنع الاستغلال، كما توجب المذاهب الفقهية وجوب التسعير والضرب على أيدي المحتكرين لحاجات الناس الضرورية وليس علاجه تحريم التأمين. لذلك أرجو تسجيل مخالفتي هذه مع مزيد من الاحترام لآرائكم.
دكتور مصطفى الزرقاء(26/346)
حكم قيام الطلاب للمدرسين
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز. إلى حضرة الأخ المكرم معالي وزير المعارف. . وفقه الله. . السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد:
فقد بلغني أن كثيرا من المدرسين يأمرون الطلبة بالقيام لهم إذا دخلوا عليهم الفصل، ولا شك أن هذا مخالف للسنة الصحيحة فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحب أن يمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار (1) » أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن معاوية رضي الله عنه بإسناد صحيح - وخرج الإمام أحمد والترمذي بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه - قال: «لم يكن شخص أحب إليهم - يعني الصحابة رضي الله عنهم - من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا لا يقومون له إذا دخل عليهم لما يعلمون من كراهيته لذلك (2) » .
فأرجو من معاليكم التعميم على المدارس بأن السنة عدم القيام للمدرسين إذا دخلوا على الطلبة في الفصول عملا بهذين الحديثين الشريفين وما جاء في معناهما ولا يجوز للمدرس أن يأمرهم بالقيام لما في حديث معاوية من الوعيد في ذلك ويكره للطلبة أن يقوموا عملا بحديث أنس المذكور ولا يخفى أن الخير كله في اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم والتأسي به وأصحابه رضي الله عنهم، جعلنا الله وإياكم من أتباعهم بإحسان ووفقنا للفقه في دينه والثبات عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) سنن الترمذي الأدب (2755) ، سنن أبو داود الأدب (5229) ، مسند أحمد بن حنبل (4/100) .
(2) سنن الترمذي الأدب (2754، 2754) .(26/347)
صفحة فارغة(26/348)
تنبيه من
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
على دعاء أضيف إلى كتيب سماحته
كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد. فقد اطلعت على الكتيب الذي جمعته وهو " كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم "وقد طبعه بعض المحسنين وأضاف في آخره دعاء هذا نصه:
" دعاء مستحب بعد صلاة الفجر: اللهم صل على سيدنا محمد صلاة تنجينا بها يا الله من جميع الأهوال والآفات وتقضي لي بها جميع الحاجات وتطهرنا بها من جميع السيئات وترفعنا بها أعلى الدرجات وتبلغنا بها أقصى الغايات من جميع الخيرات في الحياة وبعد الممات يا رب العالمين ". وهذا الدعاء لا دليل على مشروعيته على هذه الكيفية ولا أساس له من السنة ولا أسمح لأحد أن يضيف إلى كتبي ما ليس منها وإنما المشروع للمسلم أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا في كل وقت بالكيفية التي ثبتت عنه صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: «أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله تعالى أن نصلي عليك يا رسول الله. فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين(26/349)
إنك حميد مجيد. والسلام كما قد علمتم (1) » رواه مسلم في صحيحه.
وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: قد عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: "قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد (2) » متفق عليه. وغيرهما من الأحاديث التي تدل على كيفية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.
وينبغي للمسلم أن يتقيد بما ورد ولا يأتي بكيفية للصلاة عليه صلى الله عليه وسلم لم ترد بها السنة لأن اتباع السنة فيه الخير والبركة والسعادة في الدنيا والآخرة. وفق الله الجميع للفقه في دينه والثبات عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (405) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3220) ، سنن النسائي السهو (1286) ، مسند أحمد بن حنبل (4/119) ، موطأ مالك النداء للصلاة (398) ، سنن الدارمي الصلاة (1343) .
(2) صحيح البخاري الدعوات (6357) ، صحيح مسلم الصلاة (406) ، سنن الترمذي الصلاة (483) ، سنن النسائي السهو (1289) ، سنن أبو داود الصلاة (976) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (904) ، مسند أحمد بن حنبل (4/244) ، سنن الدارمي الصلاة (1342) .(26/350)
حديث شريف
عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تفتح أبواب الجنة كل يوم إثنين وخميس، فيغفر في ذلك اليومين لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا من بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا (1) »
رواه مسلم وأبو داود واللفظ لأبي داود
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2565) ، سنن الترمذي البر والصلة (2023) ، سنن أبو داود الأدب (4916) ، سنن ابن ماجه الصيام (1740) ، مسند أحمد بن حنبل (2/389) ، موطأ مالك الجامع (1686) ، سنن الدارمي الصوم (1751) .(26/351)
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1)
(سورة البقرة، الآية 265)
__________
(1) سورة البقرة الآية 265(27/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(27/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ـ الرياض
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(27/3)
المحتويات
فضل العلم وشرف أهله سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
موضوع العدد:
المواشي السائبة على جوانب الطرق العامة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 17
الفتاوى:
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 33
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 83(27/4)
البحوث:
الأحكام المتعلقة بالهلال الشيخ صالح بن محمد اللحيدان 91
مصادر النظم الإسلامية د. / حسين مطاوع الترتوري 119
الوجوه والنظائر في القرآن الكريم د. / سليمان بن صالح القرعاوي 165
جعفر بن أبي طالب اللواء الركن / محمود شيت خطاب 191
مشكلات التعليم في أفريقيا غير العربية د. / عبد الحليم عويس 223
مخطوطة "تفسير سورة الفلق" تأليف شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب تحقيق د. فهد بن عبد الرحمن الرومي 253
مناهج العلماء في إثبات الأحكام بخبر الواحد زيادة على ما ثبت فيها بالقرآن د. عبد الرؤوف مفضي خرابشة 287
من قرارات المجمع الفقهي 341
تأييد هيئة كبار العلماء لولي الأمر في تنفيذ حكم الله في الذين حاربوا الله ورسوله 347
قرار هيئة كبار العلماء في حكم جمعيات الموظفين وغيرهم 349(27/5)
صفحة فارغة(27/6)
الافتتاحية
فضل العلم وشرف أهله
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله، واهتدى بهداه إلى يوم الدين. . أما بعد:
فهذه كلمة موجزة في فضل العلم، وشرف أهله: لقد دلت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة على فضل العلم والتفقه في الدين، وما يترتب على ذلك من الخير العظيم، والأجر الجزيل، والذكر الجميل، والعاقبة الحميدة لمن أصلح الله نيته، ومن عليه بالتوفيق.
والنصوص في هذا كثيرة معلومة، ويكفي في شرف العلم وأهله أن الله عز وجل استشهدهم على وحدانيته، وأخبر أنهم هم الذين يخشونه على الحقيقة والكمال. قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) .
فاستشهد الملائكة وأولي العلم على وحدانيته سبحانه، وهم العلماء بالله، العلماء بدينه الذين يخشونه سبحانه ويراقبونه، ويقفون عند حدوده، كما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (2) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 18
(2) سورة فاطر الآية 28(27/7)
ومعلوم أن كل مسلم يخشى الله، ولكن الخشية الكاملة إنما هي لأهل العلم، وعلى رأسهم الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، ثم من يليهم من العلماء على طبقاتهم. فالعلماء هم ورثة الأنبياء، فالخشية لله حق، والخشية الكاملة إنما هي من أهل العلم بالله والبصيرة به وبأسمائه وصفاته، وعظيم حقه سبحانه وتعالى، وأرفع الناس في ذلك هم الرسل والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، ثم يليهم أهل العلم على اختلاف طبقاتهم في عملهم بالله ودينه.
والجدير بالعالم أينما كان، وبطالب العلم، أن يعنى بهذا الأمر، وأن يخشى الله، وأن يراقبه في كل أموره، في طلبه للعلم، وفي عمله بالعلم، وفي نشره للعلم، وفي كل ما يلزمه من حق الله، وحق عباده.
وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين في حديث معاوية - رضي الله عنه -، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » .
وهذا الحديث العظيم له شواهد أخرى، عن عدة من الصحابة - رضي الله عنهم -، وهو يدل على أن من علامات الخير ودلائل السعادة، أن يفقه العبد في دين الله، وكل طالب مخلص في أي جامعة أو معهد علمي أو غيرهما، إنما يريد هذا الفقه ويطلبه، وينشده. . . فنسأل الله لهم في ذلك التوفيق والهداية وبلوغ الغاية.
ومن أعرض عن الفقه في الدين، فذلك من العلامات على أن الله ما أراد به الخير، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يقول - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الشيخان عن أبي موسى - رضي الله عنه -: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكانت منها طائفة طيبة، قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل
__________
(1) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(27/8)
من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به (1) » .
فالعلماء الذين وفقوا لحمل هذا العلم طبقتان: إحداهما حصلت العلم ووفقت للعمل به، والتفقه فيه، واستنبطت منه الأحكام، فصاروا حفاظا وفقهاء، نقلوا العلم وعلموه الناس وفقهوهم فيه، وبصروهم ونفعوهم، فهم ما بين معلم ومقرئ، وما بين داع إلى الله - عز وجل -، ومدرس للعلم، إلى غير ذلك من وجوه التعليم والتفقيه.
أما الطبقة الثانية فهم الذين حفظوه ونقلوه لمن فجر ينابيعه، واستنبط منه الأحكام، فصار للطائفتين الأجر العظيم، والثواب الجزيل، والنفع العميم للأمة.
وأما أكثر الخلق فهم كالقيعان التي لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ لإعراضهم وغفلتهم، وعدم عنايتهم بالعلم.
فالعلماء وطلبة العلم في دور العلم الشرعي، على خير عظيم، وعلى طريق بحمد الله مستقيم، لمن وفقه الله لإخلاص النية، والصدق في الطلب.
وهنيئا لطلبة العلم الشرعي أن يتفقهوا في دين الله، وأن يتصبروا فيما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الهدى والعلم، وأن ينافسوا في ذلك، وأن يصبروا على ما في ذلك من التعب والمشقة، فإن العلم لا ينال براحة الجسم، بل لا بد من الجد والصبر والتعب، وهذا الإمام مسلم - رحمه الله - في صحيحه في أبواب المواقيت من كتاب الصلاة لما ساق عدة أسانيد ذكر فيها عن يحيى بن أبي كثير - رحمه الله -، أنه قال: "لا ينال العلم براحة الجسم"، ومقصوده - رحمه الله - من هذا التنبيه على أن تحصيل العلم والتفقه في الدين يحتاج إلى صبر ومثابرة، وعناية وحفظ للوقت، مع الإخلاص لله، وإرادة وجهه سبحانه وتعالى.
والدور العلمية التي يدرس فيها العلم الشرعي. وهكذا المساجد التي
__________
(1) صحيح البخاري العلم (79) ، صحيح مسلم الفضائل (2282) ، مسند أحمد بن حنبل (4/399) .(27/9)
تقام فيها الحلقات العلمية الشرعية، شأنها عظيم، وفائدتها كبيرة؛ لأنها مهيأة لنفع الناس وحل مشاكلهم.
فالمتخرجون فيها يرجى لهم الخير العظيم، والفائدة الكبيرة، والنفع العام، فلا ينبغي لمن من الله عليه بالعلم أن ينزوي عن نفع الناس وتفقيههم وتذكيرهم بالله، وبحقه وحق عباده، سواء كان ذلك من طريق التدريس أو القضاء أو الوعظ والتذكير، أو المذاكرة بين الزملاء والإخوان في المجالس العامة والخاصة، كما ينبغي لأهل العلم أن يشاركوا في نشر العلم عن طريق وسائل الإعلام، لعظم الفائدة في ذلك، ووصول العلم إلى ما شاء الله من أنحاء الأرض.
ومعلوم ما في ذلك من الخير العظيم، والنفع العام للمسلمين، وشدة الحاجة إلى ذلك في هذا العصر، بل في كل عصر، ولكن في هذا العصر أشد لقلة العلم. وكثرة دعاة الباطل.
فالواجب على من رزق العلم، أن يتحمل المشقة في نفع الناس به: قضاء وتدريسا، ودعوة إلى الله - عز وجل -، وفي غير هذا من شئون المسلمين، حتى تحصل الفائدة الكبيرة، والثمرة العظيمة من هذا الطلب.
وطالب العلم يطلب العلم لينفع نفسه، ويخلصها من الجهالة ويتقرب إلى ربه - عز وجل -، بما يرضيه، على بصيرة وحسن دارية، ولينفع الناس أيضا، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويقضي بينهم في مشاكلهم، ويصلح بينهم، ويعلم جاهلهم، ويرشد ضالهم، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر إلى غير ذلك.
فطالب العلم تدخل مهمته في أشياء كثيرة، ولا تنحصر في أبواب معدودة، ولا سيما القاضي. فإن القاضي إن وفقه الله وصبر تدخل وظيفته في أشياء كثيرة، فهو مع العلم محسوب، ومع القضاة محسوب، ومع المدرسين محسوب، ومع أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محسوب،(27/10)
ومع الدعاة إلى الله - عز وجل -، ومع الصالحين، إلى غير ذلك من شئون المسلمين. فينبغي له أن يهيئ نفسه لذلك، ويوطنها على تحمل الشدائد، في سبيل الله، وأن تكون همته عالية، كما كان سلفنا الصالح وأئمتنا - رحمهم الله جميعا - ينفعون الناس بكل ما يستطيعون.
وإن وصيتي لأهل العلم وطلبته، ولكل مسلم ومسلمة، أن يصبروا في هذا الأمر، وأن يواصلوا الجهود في سبيل الحق، وأن يحفظوا الوقت، وأن يكثروا من المذاكرة بينهم فيما قد يشكل على بعضهم، حتى يتوافر لديهم من المعلومات ما يحصل به الخير لهم، وللمسلمين إن شاء الله، مع الحرص على إصلاح النية والإخلاص في كل ما يتقرب به العبد إلى ربه، وفي كل ما ينفع الناس.
ومن الأمور التي تنفع الناس، وتحل بها المشاكل، وينتشر بها العدل توجه أهل العلم والبصيرة والخشية لله سبحانه، للقضاء بين الناس وتعليمهم.
ومعلوم أن القضاء مما يعظم الله به الأجور، ويرفع به الدرجات، لمن أصلح الله نيته، ومنحه العلم النافع، وقصد به الخير للمسلمين.
وهو وإن كان خطيرا كان سلفنا الصالح يهابونه، ويخافونه، ولكن الأحوال تختلف، والزمان يتفاوت، والناس اليوم في أشد الضرورة إلى العالم، الذي يقضي بين الناس على بصيرة، ويخاف الله ويراقبه في حل مشاكلهم.
فلا ينبغي لمن أهله الله للقضاء بين الناس، ومنحه العلم والبصيرة، واشتدت إليه الحاجة أن يمتنع عن قبول القضاء، بل يجب عليه أن يقبله وأن يوطن نفسه على العمل بعلمه، وأن ينفذ ما أريد منه، وأن ينفع الناس بعلمه، ويسأل ربه التوفيق والإعانة، فإن عجز بعد ذلك، ورأى من نفسه أنه لا يستطيع، أمكنه بعد ذلك أن يعتذر وأن يستقيل.(27/11)
أما من أول وهلة فلا ينبغي له ذلك، وهذا باب لا ينبغي لأهل العلم والإيمان والقدرة على نفع الناس، أن يفتحوه، بل ينبغي لأهل العلم أن تكون عندهم الهمة العالية والقصد الصالح، والرغبة في نفع المسلمين، وحل المشاكل التي تعترض لهم، حتى لا يتولى ذلك الجهلة.
فإنه إذا ذهب أهل العلم، تولى الجهلة، ولا شك. . . إما هذا وإما هذا، فلا بد للناس من قضاة يحلون مشاكلهم، ويحكمون بينهم بالحق، فإن تولى ذلك الأخيار وإلا تولاه غيرهم.
فالواجب على أهل العلم، وعلى كل من يخشى الله، أن يقدر هذا الوضع، وأن يحتسب الأجر عند الله، وأن يصبر ويتحمل ويرجو ما عند الله - عز وجل - من المثوبة، وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا (1) » خرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -.
وبذا يعلم أهل العلم والإيمان عظم الخطر، وسوء العاقبة، إذا فقد علماء الحق، أو تركوا الميدان لغيرهم.
ولا يخفى أن العالم سواء كان قاضيا أو غيره إذا اجتهد فأصاب، فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد، كما صح بذلك الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلا خطر عليه مع الصدق والإخلاص والتحري للحق، وإنما الخوف والخطر العظيم، على من يتهجم على القضاء أو الفتوى بالجهل، أو يقضي بالجور، كما في حديث بريدة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة، فأما الذي في الجنة، فرجل عرف الحق وقضى به، ورجل عرف الحق فجار فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار (2) » أخرجه أبو داود
__________
(1) صحيح البخاري العلم (100) ، صحيح مسلم العلم (2673) ، سنن الترمذي العلم (2652) ، سنن ابن ماجه المقدمة (52) ، مسند أحمد بن حنبل (2/162) ، سنن الدارمي المقدمة (239) .
(2) سنن الترمذي الأحكام (1322) ، سنن أبو داود الأقضية (3573) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2315) .(27/12)
والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه الحاكم.
أما من يتحرى الحق، ويجتهد في العمل به، ويتحرى النفع للمسلمين فهو بين أمرين، بين أجر وأجرين كما تقدم بذلك الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ثم إني أوصي جميع إخواني المسلمين عامة، وأهل العلم وطلبته بصفة خاصة، ونفسي بتقوى الله - عز وجل -، في كل الأمور والعمل بالعلم بأداء فرائض الله، والبعد عن محارمه، لأن طالب العلم قدوة لغيره فيما يأتي ويذر، في جميع الأحوال في حال القضاء وغير القضاء، في طريقه وفي بيته، وفي اجتماعه بالناس وفي سيارته، وفي طائرته وفي جميع الأحوال.
فهو قدوة في الخير، عليه أن يراقب الله ويعمل بما علمه سبحانه، ويدعو الناس إلى الخير بقوله وعمله جميعا، حتى يتميز بين الناس ويعرف بعلمه وفضله، وهديه الصالح، وسيره على المنهج النبوي الذي سار عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام، - رضي الله عنهم -، مع العناية بالتواضع، وعدم التكبر.
فالعالم وغيره على خطر عظيم، تارة من جهة الرياء، وتارة من جهة الكبر، وتارة من جهات أخرى، ومقاصد متعددة، فعليه أن يتقي الله، ويخلص له العمل، ويراقب الله سبحانه وتعالى، في جميع شئونه، ويتواضع لعباد الله، ولا يتكبر عليهم بما أعطاه الله من العلم، وحرمه كثيرا من الناس، فليشكر الله، ومن شكر الله التواضع، وعدم التكبر، ومن شكر الله نشر العلم في المساجد وفي غير المساجد.
فالقاضي يخطب الناس، إذا احتيج إليه، ويدرس طلبة العلم، ويدعو إلى الله، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويجتهد في إصلاح أحوال المسلمين، ويتصل بولاة الأمور ويرفع إليهم ما يرى أنه من نصحهم.
فيكون دائما في مصالح المسلمين، وفي كل ما ينفعهم، وفي كل ما(27/13)
يبرئ ذمته، ويرفع شأن الإسلام وأهله.
وأيضا أوصي إخواني جميعا وعلى رأسهم أهل العلم وطلبته بالقرآن الكريم، فإنه أعظم كتاب، وأشرف كتاب، وقد حوى خير العلوم كلها وأنفعها كما لا يخفى، وهو أعظم عون الله - عز وجل -، على الفقه في الدين، والتبصر فيه، والخشية لله - عز وجل -، وهو المعين في التأسي بالأخيار، فأوصي الجميع ونفسي بهذا الكتاب العظيم، تدبرا وتعقلا وإكثارا من تلاوته ليلا ونهارا، والرجوع إليه في كل شيء، ومراجعة كلام أهل التفسير فيما أشكل، فهو خير معين على فهم كتاب الله جل وعلا؛ لأن هذا الكتاب هو خير كتاب، وأفضل كتاب وأصدق كتاب يقول الله سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1) .
ويقول - عز وجل -: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (2) .
ويقول جل وعلا: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (3) .
ويقول سبحانه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (4) .
فجدير بالمؤمنين والمؤمنات عامة، وبأهل العلم خاصة أن يولوه العناية العظيمة، وأن يعضوا عليه بالنواجذ، وأن يجتهدوا في تدبره وتعقله والعمل به ومراجعة كلام أهل العلم فيما أشكل، كما قال الله سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (5) .
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) سورة النحل الآية 89
(3) سورة فصلت الآية 44
(4) سورة الأنعام الآية 38
(5) سورة ص الآية 29(27/14)
وقال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (1) .
ثم سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والعناية بها وحفظ ما تيسر منها، مع إكثار المذاكرة فيها، ولا سيما ما يتعلق بالعقيدة، وما يجب على المكلف فعله، وما يتعلق بعمل الإنسان الخاص به، فإنه به ألصق، وعنايته أوجب، وقد قال الله سبحانه وتعالى:
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (2) .
ولا سبيل إلى اتباعه - صلى الله عليه وسلم - على الكمال، إلا بدراسة سنته، والعناية بها مع العناية بكتاب الله - عز وجل -.
وأوصي أهل العلم وطلبته بالعناية بكتب الحديث والإكثار من قراءتها وتدريسها والمذاكرة فيها، وأهمها الصحيحان، ثم بقية الكتب الستة مع موطأ الإمام مالك ومسند الإمام أحمد، وسنن الدارمي وغيرها من كتب الحديث المعروفة، ضاعف الله الأجر لمؤلفيها، وجزاهم عن المسلمين خير الجزاء.
ثم مؤلفات أهل العلم المعروفين بحسن العقيدة، وسعة العلم بالأدلة الشرعية، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذاه: العلامة ابن القيم، والحافظ بن كثير - رحمة الله عليهم جميعا -. وقد برزوا في ذلك، ونشروا بين المسلمين العلم الكثير، وبينوا للناس عقيدة أهل السنة والجماعة بأدلتها من الكتاب والسنة.
ومن أهم كتب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: منهاج السنة، ومجموع الفتاوى، ومطابقة صريح المعقول لصحيح المنقول، والجواب الصحيح في الرد على من بدل دين المسيح، وغيرها من الكتب المفيدة النافعة، والمشتملة على بيان العقيدة الصحيحة والأحكام والرد على خصوم
__________
(1) سورة محمد الآية 24
(2) سورة آل عمران الآية 31(27/15)
الإسلام.
ومن أفضل كتب ابن القيم - رحمه الله -: الطرق الحكيمة وأعلام الموقعين، وزاد المعاد، فهذه الكتب لها شأن عظيم، ولا سيما في حق القضاة والمفتين.
وهكذا فتاوى أئمة الدعوة: المسماة الدرر السنية، فقد جمعت رسائل كثيرة، وأجوبة مفيدة لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وتلاميذه وأتباعه - رحمهم الله جميعا - وهكذا فتاوى شيخنا العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله -، فقد اشتملت على علم عظيم، وفوائده جمة.
فأوصى بهذه الكتب بعد كتاب الله - عز وجل -، وسنة رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم -. لما فيها من العلم العظيم، والعون على كل خير.
وهكذا ما أشبهها من الكتب المفيدة النافعة التي تعتني بالدليل مثل المغني وشرح المذهب، والمحلى وغيرها من الكتب التي تعني بالدليل ونقل أقوال أهل العلم فهي من أهم الكتب لأهل العلم وطلبته من القضاة وغيرهم.
وأسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يوفقنا وجميع المسلمين للعلم النافع، والعمل الصالح، وأن يمنحنا جميعا النية الخالصة، والصبر والفقه في الدين، والفوز بالعاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة، إنه تعالى جواد كريم، كما أسأله سبحانه وتعالى أن يوفق ولاة أمرنا وجميع ولاة أمر المسلمين، ويصلح بطانتهم، وأن يعينهم على كل خير، وأن ينصر بهم الحق، ويخذل بهم الباطل، وأن يعينهم على تحكيم كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - في كل شيء، وأن يعيذنا وإياهم وسائر المسلمين من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه سميع قريب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
عبد العزيز بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(27/16)
المواشي السائبة على الطرق العامة
إعداد: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده وبعد:
فبالإشارة إلى ما جاء في المحضر رقم (1) وتاريخ 11 \ 8 \ 1396هـ من محاضر جلسات هيئة كبار العلماء في دورتها التاسعة المنعقدة في شهر شعبان ابتداء من 11 \ 8 \ 1396هـ بخصوص رغبة المجلس من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء إعداد بحث مختصر لموضوع المواشي السائبة المهملة من قبل أهلها. بالإشارة إلى ذلك أعدت اللجنة الدائمة في ذلك البحث التالي مستمدة من الله العون والتوفيق.
لعل موضوع المواشي السائبة لا يخرج عن الصور الآتية:
الأولى: مواش ذات قيمة مالية ولها سوق نافقة ويغلب على الظن أن لها ملاكا.
الثانية: مواش لا قيمة لها ويغلب على الظن تخلي ملاكها عنها، وهذه إما تكون مما يباح أكله فالغالب أن أصحابها قد تخلوا عنها لعدم الاستفادة منها إما لمرضها أو لكبرها أو نحو ذلك.
الثالثة: أن تكون مما يباح أكله كالحمير وقد تخلى عنها ملاكها ويمكن الانتفاع بها ركوبا ونقلا ونحو ذلك.
الرابعة: أن تكون من الصورة الثالثة إلا أنه لا يمكن الانتفاع بها لمرضها أو كبرها أو عرجها أو نحو ذلك.
فهذه أربع صور. أما الصورة الأولى فنظرا إلى أن تركها سائبة على(27/17)
جانبي الطرق العامة مهددة أمن الطريق يعتبر ضررا بالغا وخطرا على الأموال والأنفس وحيث إن الشريعة الإسلامية تعني بتحقيق مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم وتتخذ في سبيلي هذا الوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك فترتكب أدنى المفسدتين لتفويت كبراهما وتؤثر مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد في حال التعارض وتؤثر درء المفاسد على جلب المصالح لذلك كله فإن لولي الأمر أن يأمر باحتجاز هذه المواشي وبيعها في المزاد العلني بعد التعرف على صفاتها فإن جاء أصحابها أعطى ما يبقى من قيمتها بعد خصم مصاريف الاحتجاز والعلف والنقل والبيع إلا أن يرى ولي الأمر معاقبته على إهمالها وتركها مهددة أمن الطريق فله أن يصادر قيمتها عليه عقوبة له. وإن لم يتقدم لها مالك أدخلت قيمتها في بيت المال وهذا كله بعد إعلام المواطنين بضرورة حماية جوانب الطرق من مواشيهم وإخطارهم بعواقب المخالفة وذلك في وسائل الإعلام المختلفة من إذاعة وصحافة وتلفزة.
الصورة الثانية: حيث إن مثل هذه المواشي المباح ذبحها للأكل يغلب على الظن الرغبة عن أكلها لمرضها أو كبرها أو نحو ذلك من أسباب التخلي عنها وبالتالي انتفاء قيمتها المالية أو تفاهتها، وحيث إن تركها سائبة على جوانب الطرق العامة فيه تعريض لأمن الطريق وخطر على الأنفس والأموال، فإن لولي الأمر أن يأمر بذبحها وإطعامها من يرغب في أكلها من الفقراء أو حيوانات أخرى.
الصورة الثالثة: حيوانات لا تؤكل ويمكن الانتفاع بها ركوبا ونقلا ونحو ذلك. فهذا النوع من الحيوان إن وجد من يأخذه للتملك على شرط إبعادها عن جوانب الطرق بحيث يؤمن شرها ويتفادى خطرها أعطيها وبذلك ينتهي إشكالها. وإن أمكن نقلها إلى جهات أهلها بحاجة إليها فكذلك، وإن لم يتيسر شيء من ذلك وبقي إشكالها على حالة مهددة(27/18)
أمن الطريق موفرة أسباب الدعس والصدم والحوادث وما يتبع ذلك في الغالب من إتلاف الأنفس والأموال وبذل جهات الاختصاص جهودا مكثفة في الإسعاف والتحقيق وفصل الخصومات فهذه الصورة قد يكون النظر في حكمها متفقا مع النظر في حكم الصورة الرابعة. ويتلخص النظر فيهما فيما يلي:
أن النظر في مآل هذه الحيوانات السائبة على جوانب الطرق العامة قد لا يتجاوز أمرين أحدهما: القول بذبحها وإطعامها حيوانات أخرى ويعلل ذلك بما يلي:
الأول: انتفاء ماليتها بانتفاء الانتفاع بها وحرمة أكلها على الناس.
الثاني: ثبوت أذيتها والضرر اللاحق من توافرها في الطرق وعلى جوانبها بما تسببه من الصدم والدهس والحوادث وتلف ما يتلف من ذلك من الأموال والأنفس. وقد جاءت الشريعة الإسلامية بتحصيل المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها وارتكاب أدنى المفسدتين لتفادي أشدهما ولا شك أن مفسدة ذبحها إن وجدت فهي قليلة مغمورة في جنب مصالح الخلاص منها ودرء مفاسدها.
الثالث: إن جمعها والإبقاء عليها فيه تحميل لبيت المال للإنفاق عليها وفي ذلك مضرة حيث إن النفقة عليها من بيت المال أو غيره خسارة محضة وجهود ضائعة ليس لها مقابل في تحقيق أي مصلحة حاضرة ولا منتظرة، ومما لا شك فيه أن بيت المال مرصود لمصالح المسلمين في الحاضر والمستقبل، وأنه لا يجوز الصرف منه فيما لا فائدة للمسلمين منه.
الرابع: جواز ذبح المأكول لحمه مما تعافه الأنفس في الغالب لمرضه أو كبره أو نحو ذلك لإراحته أو للخلاص من مشقة النفقة عليه(27/19)
ورعايته. فإذا جاز ذبح ذلك لغير الأكل فقد لا يكون فارق مؤثر بينه وبين ما لا يؤكل لحمه مما لا فائدة في بقائه إذا كان في ذبحه جلب مصلحة أو دفع مضرة.
الخامس: ما جاءت به النصوص وقال به أهل العلم من جواز قتل ما منه الأذى كالخمس الفواسق والهر المؤذي وغير ذلك من الحيوانات والحشرات المؤذية، قال العلامة ابن مفلح - رحمه الله - ما نصه:
ويكره قتل النمل إلا من أذية شديدة فإنه يجوز قتلهن وقتل القمل بغير النار ويكره قتلهما بالنار، ويكره قتل الضفادع، ذكر ذلك في المستوعب، قال في الغنية كذلك، وأنه لا يجوز سقي حيوان مؤذ - إلى أن قال - وقال صاحب النظم إلى أنه يحرم إحراق كل ذي روح وأنه يجوز إحراق ما يؤذي بلا كراهة إذا لم يزل ضرره دون مشقة غالبة إلا بالنار.
وقال: إنه سئل عما ترجح عند الشيخ شمس الدين صاحب الشرح فقال: ما هو ببعيد واستدل صاحب الشرح بالخبر الذي في الصحيحين أو في صحيح البخاري «أن نبيا من الأنبياء نزل على قرية نمل فآذته نملة فأحرق القرية فأوحى الله تعالى إليه: فهلا نملة واحدة (1) » - إلى أن قال - وقال في المستوعب في محظورات الإحرام: فأما النمل وكل ما لا يضر ولا ينفع كالخنافس والجعلان والديدان والذباب والنمل غير التي تلسع. فقال أحمد - رحمه الله -: إذا آذته - يعني هذه الأشياء - قتلها ويكره قتلها من غير أذية فإن فعل فلا شيء عليه. - إلى أن قال- عن إبراهيم النخعي قال: إذا آذاك النمل فاقتله. ورأى أبو العالية نملا على بساط فقتلهن. وعن طاووس قال: إنا لنفرق النمل بالماء، يعني إذا آذتنا روى ذلك ابن أبي شيبة في مصنفه وسئل الشيخ تقي الدين هل يجوز إحراق بيوت النمل
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3319) ، صحيح مسلم السلام (2241) ، سنن النسائي كتاب الصيد والذبائح (4359) ، سنن أبو داود الأدب (5265) ، سنن ابن ماجه الصيد (3225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/449) .(27/20)
بالنار فقال: يدفع ضرره بغير التحريق. وذكر في المغني في مسألة قتل الكلب أن ما لا مضرة فيه لا يباح قتله واستدل بالنهي عن قتل الكلاب فدل كلامه هذا على التسوية وأنه إن أبيح قتل ما ملا مضرة فيه من غير الكلاب أبيح قتل الكلاب وهو ظاهر كلام جماعة وهو متجه. وعلى هذا يحمل تخصيص جواز قتل الكلب العقور والأسود البهيم لأنه لم يبح قتل ما لا مضرة فيه - إلى أن قال - وعلى قولنا يمنع قتلها، أنها إذا آذت بكثرة نجاستها وأكلها ما غفل عنه الناس جاز قتلها على ما يأتي:
نص أحمد في النمل بقتله إذا آذاه مع أن الشارع نهى عن قتلها فما جاز في أحدهما جاز في الآخر. - إلى أن قال - فأما ما فيه منفعة من وجه ومضرة من وجه كالبازي والصقر والشاهين والباشق فإنه يخير في قتلها على ما ذكره في المستوعب وكذا في الفصول لما استوت حالتاه استوى الحال في قتله وتركه فمرضته في اصطياده لطيور الناس ومنفعته كونه يصطاد للناس قال: وكذا الفهد وكل كلب معلم للصيد - إلى أن قال - ويحرم قتل الهر وجزم بعضهم يكره. وإن ملكت حرم. وكذا جزم به صاحب النظم وإن كره فقط فقتل الكلب أولى ويجوز قتلها بأكلها لحما أو غيره نحوه قال صاحب النظم (بلا كراهة) وفي الفصول (حين أكله) لأنه لا يردعه إلا الدفع في حال صياله والقتل شرع في حق الآدمي وإن فارق الفصل ليرتدع الجنس. وفي الترغيب لا يجوز إلا إذا لم يندفع إلا به. وقال صاحب النظم وكذا لو كان يتبول على الأمتعة أو يكسر الآنية ويخطف الأشياء غالبا لا قليلا لمضرته. . . اهـ (1) .
الأمر الثاني: القول بعدم إباحة ذبحها على أي حال كانت ولو ميؤوسا منها واستدل لذلك بما يلي:
روى مسلم في صحيحه: عن جابر بن عبد الله قال: «أمرنا رسول الله
__________
(1) الآداب الشرعية الجزء الثالث ص 369 \ 374(27/21)
- صلى الله عليه وسلم- بقتل الكلاب حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها لتقتله، ثم نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتلها وقال: عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان (1) » . وروى مسلم أيضا عن عبد الله بن المغفل قال: «أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب ثم قال: ما بالهم وبال الكلاب ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم (2) » فإذا كان هذا في الكلاب التي لا ينتفع بها بل قد يكون ضررها محققا كتنجيسها للشوارع ونحوها. . فكيف بالحمر بحجة أنه لا ينتفع بها؟
وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى أن تصبر بهيمة أو غيرها للقتل (3) » متفق عليه. وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا (4) » متفق عليه. وعن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا (5) » . . رواه مسلم. وقال النووي قال العلماء: صبر البهائم أن تحبس وهي حية لتقتل بالرمي ونحوه - وهو معنى لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا - أي لا تتخذوا الحيوان الحي غرضا ترمون إليه كالغرض من الجلود وغيرها وهذا النهي للتحريم. . ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في رواية ابن عمر التي بعد هذه: «لعن الله من فعل هذا (6) » . ولأنه تعذيب للحيوان وإتلاف لنفسه وتضييع لماليته وتفويت لذكائه إن كان مذكى ولمنفعته إن لم يكن مذكى. وعن جابر «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر عليه حمار وقد وسم في وجهه قال: لعن الله الذي وسمه (7) » . . رواه مسلم.
فهذه الأحاديث ونظائرها دالة على - تحريم قتل كل ذي روح - لاتخاذها غرضا. . فكيف بقتل الحمر بدون غرض لذلك؟ ودعوى إيذائها وعدم الانتفاع بها ليس مبررا في قتلها كالكلاب حيث لا ينتفع بها والميؤوس منه لمرضه وعجزه لا أذى فيه. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - «أن نملة قرصت نبيا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله إليه أفي إن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح (8) » . وفي بعض الأحاديث:
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1572) ، سنن أبو داود الصيد (2846) ، مسند أحمد بن حنبل (3/333) .
(2) صحيح مسلم الطهارة (280) ، سنن النسائي الطهارة (67) ، سنن أبو داود الطهارة (74) ، سنن ابن ماجه الصيد (3201) ، مسند أحمد بن حنبل (4/86) .
(3) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5514) ، مسند أحمد بن حنبل (2/94) .
(4) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1958) ، سنن النسائي الضحايا (4441) ، مسند أحمد بن حنبل (2/141) .
(5) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1957) ، سنن الترمذي الأطعمة (1475) ، سنن النسائي الضحايا (4443) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3187) ، مسند أحمد بن حنبل (1/297) .
(6) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1958) ، مسند أحمد بن حنبل (2/141) .
(7) صحيح مسلم اللباس والزينة (2117) ، سنن أبو داود الجهاد (2564) .
(8) صحيح البخاري الجهاد والسير (3019) ، صحيح مسلم السلام (2241) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4358) ، سنن أبو داود الأدب (5266) ، سنن ابن ماجه الصيد (3225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/403) .(27/22)
«فهلا نملة واحدة، (1) » أخرجه مسلم وأخرج أيضا عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار لا هي أطعمتها وسقتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض (2) » . . قال النووي فيه وجوب نفقة الحيوان على مالكه وفي الحديث دليل لتحريم قتل الهرة وتحريم حبسها بغير طعام أو شراب. قال الشيخ أحمد بن محمد الصاوي المالكي في حاشيته على الشرح الصغير: ودخل في الدابة الواجبة نفقتها هرة عمياء فتجب نفقتها على من انقطعت عنده حيث لم تقدر على الانصراف فإن قدرت عليه لم تجب لأن له طردها.
وخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر قد اندلع لسانه من العطش فنزعت له بموقها فغفر لها (3) » .
قال النووي في الكلام على هذا الحديث معناه: في الإحسان إلى كل حيوان حي يسقيه ونحوه أجر وسمي الحي ذا كبد رطبة لأن الميت يجف جسمه وكبده.
ففي هذا الحديث الحث على الإحسان إلى الحيوان المحترم وهو ما لا يؤمر بقتله فأما المأمور بقتله فيتمثل أمر الشرع في قتله والمأمور بقتله كالكافر والحربي والمرتد والكلب العقور والفواسق الخمس المذكورات في الحديث وما في معناهن.
وأما المحترم: فيحصل الثواب بسقيه والإحسان إليه أيضا بإطعامه وغيره سواء كان مملوكا أو لا، وسواء كان مملوكا له أو لغيره. . والله أعلم.
قال في كشاف القناع: ولا يجوز قتلها أي البهيمة ولا ذبحها للإراحة لأنها مال ما دامت حية وذبحها إتلاف لها وقد نهي عن إتلاف المال كالآدمي المتألم بالأمراض الصعبة أو المصلوب بنحو حديد لأنه معصوم ما دام حيا. . ومعنى هذا كثير في كتب الحنابلة ولا نطيل بذكره مما يدل
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3319) ، صحيح مسلم السلام (2241) ، سنن النسائي كتاب الصيد والذبائح (4359) ، سنن أبو داود الأدب (5265) ، مسند أحمد بن حنبل (2/449) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3482) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2242) ، سنن الدارمي الرقاق (2814) .
(3) صحيح البخاري بدء الخلق (3321) ، صحيح مسلم السلام (2245) ، مسند أحمد بن حنبل (2/510) .(27/23)
على تحريم قتل ما لا يؤكل لحمه كالحمر ونحوها حتى لقصد راحتها أو كانت في النزع مثلا فيحرم قتلها. لذلك كما قرره (شيخ الإسلام ابن تيمية) وغيره. . فبهذا يتضح أن ما قيل من جواز قتل ما كان ميؤوسا منه من الحمر الأهلية غير مسلم. . وقد صرح أيضا الإمام النووي بتحريم قتل الحمر والبغل لدبغ جلده أو لاصطياد النسور والعقبان على لحمه وسواء في هذا الحمار الزمن والبغل المكسر.
وذكر الإمام النووي أيضا ما معناه إذا كان مع الإنسان دابة من حمار وغيره لزمه أن يحصل لها الماء لعطشها حتى لو لم يجد ماء إلا مع شخص آخر لا حاجة له به وامتنع من سقي الحمار أو الكلب جاز لصاحب الدابة أن يكابره عليه إذا امتنع من بيعه فيأخذه منه قهرا لكلبه ودابته كما يأخذه لنفسه فإن كابره فأتى الدفع على نفس صاحب الماء كان دمه هدرا وإن أتى على صاحب الكلب كان مضمونا. . أهـ.
ولم يفصل النووي في هذا بين ما إذا كان الحمار أو الكلب ميؤوسا منه أو غير ميؤوس أو يمكن الانتفاع بها أولا كما صرح به من قبل. . أهـ.
قال الشيخ الشبراملي الشافعي: (ويحرم ذبح الحيوان غير المأكول ولو لإراحته كالحمار الزمن مثلا) .
قال في مغني المحتاج: وعليه علف دوابه وسقيها فإن امتنع أجبر في الحيوان المأكول على بيع أو علف أو ذبح وفي غيره على بيع أو علف ويحرم ذبحه للنهي عن ذبح الحيوان إلا لأكله. . أهـ.
هذا ما تيسر إيراده، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة العلمية للبحوث والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(27/24)