أما الإمام المصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه رحمهم الله فإنهم ينكرون بشدة على متعاطيه، ويرون أنه مسكر داخل في عموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: «كل مسكر حرام (1) » ، وأنه يدخل في عموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام (2) » .
يوضح ذلك ما أفتى به سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ رحمه الله في رسالته التي كتبها في تحريم التتن " التنباك "، واستدل على ذلك بعموم النصوص من الكتاب والسنة، وبما ثبت عن أهل الخبرة والتجربة من مضاره، كما يوضحه ما نقله عن الفقهاء في تحريمه. ونجتزي من ذلك بما يلي:
قال رحمه الله: لا ريب في خبث الدخان ونتنه، وإسكاره أحيانا وتفتيره، وتحريمه بالنقل الصحيح والعقل الصريح، وكلام الأطباء المعتبرين.
أما النقل الصحيح فقول الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (3)
وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام (4) » ، ولمسلم: «وكل مسكر حرام (5) » ، وروى أبو داود والترمذي وحسنه عن عائشة مرفوعا: «كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام (6) » ، وكل من الآية الكريمة والأحاديث الصحيحة دال على تحريمه؛ فإنه خبيث مسكر تارة ومفتر أخرى لا يماري في ذلك إلا مكابر للحس والواقع.
ولا ريب أيضا في إفادتها تحريم ما عداه من المسكرات والمفترات، وروى الإمام أحمد وأبو داود، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن كل مسكر ومفتر (7) » . قال: الحافظ الزين العراقي: إسناده صحيح وصححه السيوطي في الجامع الصغير. وفيه من إضاعة المال واستهلاك
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4343) ، صحيح مسلم الأشربة (1733) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3391) ، مسند أحمد بن حنبل (4/417) ، سنن الدارمي الأشربة (2098) .
(2) سنن الترمذي الأشربة (1866) ، سنن أبو داود الأشربة (3687) .
(3) سورة الأعراف الآية 157
(4) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) .
(5) صحيح البخاري المغازي (4343) ، صحيح مسلم الأشربة (1733) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3391) ، مسند أحمد بن حنبل (4/417) ، سنن الدارمي الأشربة (2098) .
(6) سنن الترمذي الأشربة (1866) ، سنن أبو داود الأشربة (3687) .
(7) سنن أبو داود الأشربة (3686) ، مسند أحمد بن حنبل (6/309) .(23/77)
المبالغ الطائلة المسببة لضلع الدين الحامل على بيع كثير من ضروريات الحياة في هذا السبيل ما لا يسع أحدا إنكاره، وفي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعا وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال (1) » .
يوضحه ما سنذكره من كلام العلماء من أرباب المذاهب الأربعة فممن ذكر تحريمه من فقهاء الحنفية الشيخ محمد العيني، ذكر في رسالته تحريم التدخين من أربعة أوجه:
أحدها: كونه مضرا للصحة بإخبار الأطباء المعتبرين، وكل ما كان كذلك يحرم استعماله اتفاقا.
ثانيا: كونه من المخدرات المتفق عليها عندهم، المنهي عن استعمالها شرعا؛ لحديث أحمد عن أم سلمة: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن كل مسكر ومفتر (2) » ، وهو مفتر باتفاق الأطباء، وكلامهم حجة في ذلك وأمثاله باتفاق الفقهاء سلفا وخلفا.
ثالثا: كون رائحته الكريهة تؤذي الناس الذين لا يستعملونه، وعلى الخصوص في مجامع الصلاة ونحوها، بل وتؤذي الملائكة المكرمين، وقد روى الشيخان في صحيحيهما عن جابر مرفوعا: «من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا وليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته (3) » ، وفي الصحيحين أيضا عن جابر رضي الله عنه «أن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الناس (4) » ، وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «من آذى مسلما فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله (5) » رواه الطبراني في الأوسط عن أنس رضي الله عنه بإسناد حسن.
رابعا: كونه سرفا، إذ ليس فيه نفع مباح خال عن الضرر بل فيه الضرر المحقق بإخبار أهل الخبرة، ومنهم أبو الحسن المصري الحنفي، قال ما نصه: الآثار النقلية الصحيحة والدلائل العقلية الصريحة تعلن بتحريم الدخان، وكان حدوثه في حدود الألف، وأول خروجه بأرض اليهود والنصارى والمجوس، وأتى به رجل يهودي يزعم أنه حكيم إلى أرض المغرب ودعا الناس إليه، وأول من جلبه إلى البر الرومي رجل اسمه الاتكلين من النصارى، وأول من أخرجه ببلاد
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (5975) ، صحيح مسلم الأقضية (593) ، مسند أحمد بن حنبل (4/246) ، سنن الدارمي الرقاق (2751) .
(2) سنن أبو داود الأشربة (3686) ، مسند أحمد بن حنبل (6/309) .
(3) صحيح البخاري الأذان (855) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (564) ، سنن الترمذي الأطعمة (1806) ، سنن النسائي المساجد (707) ، سنن أبو داود الأطعمة (3822) ، مسند أحمد بن حنبل (3/400) .
(4) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (564) ، سنن النسائي المساجد (707) ، مسند أحمد بن حنبل (3/387) .
(5) سنن الترمذي المناقب (3862) ، مسند أحمد بن حنبل (4/87) .(23/78)
السودان المجوس، ثم جلب إلى مصر والحجاز وسائر الأقطار، وقد نهى الله عن كل مسكر، وإن قيل: إنه لا يسكر فهو يخدر ويفتر أعضاء شاربه الباطنة والظاهرة، والمراد بالإسكار مطلق تغطية العقل، وإن لم تكن معه الشدة المطربة، ولا ريب أنها حاصلة لمن يتعاطاه أول مرة، وإن لم يسلم أنه يسكر فهو يخدر ويفتر.
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود، عن أم سلمة، «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن كل مسكر ومفتر (1) » ، قال العلماء: المفتر ما يورث الفتور والخدر في الأطراف. وحسبك بهذا الحديث دليلا على تحريمه، وأنه يضر بالبدن والروح ويفسد القلب، ويضعف القلب، ويغير اللون بالصفرة، والأطباء مجمعون على أنه يضر بالبدن، والمروءة والعرض والمال؛ لأن فيه التشبه بالفسقة؛ لأنه لا يشربه غالبا إلا الفساق والأنذال، ورائحة فم شاربه خبيثة. اهـ.
__________
(1) سنن أبو داود الأشربة (3686) ، مسند أحمد بن حنبل (6/309) .(23/79)
ومن فقهاء الحنابلة الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قدس الله أرواحهم، قال في أثناء جوابه على التنباك بعد ما سرد نصوص تحريم المسكر، وذكر كلام أهل العلم في تعريف الإسكار ما نصه: وبما ذكرنا من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكلام أهل العلم يتبين لك تحريم التتن الذي كثر في هذا الزمان استعماله، وصح بالتواتر عندنا والمشاهدة إسكاره في بعض الأوقات، خصوصا إذا أكثر منه أو أقام يوما أو يومين لا يشربه، ثم شربه فإنه يسكر ويزيل العقل حتى إن صاحبه يحدث عند الناس ولا يشعر بذلك، نعوذ بالله من الخزي وسوء البأس، فلا ينبغي لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلتفت إلى قول أحد من الناس إذا تبين له كلام الله وكلام رسوله في مثله من المسائل، وذلك لأن الشهادة بأنه رسول الله تقتضي طاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر، وتصديقه فيما أخبر.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله عن التنباك بقوله: الذي نرى فيه التحريم لعلتين:(23/79)
إحداهما: حصول الإسكار فيما إذا فقده شاربه مدة ثم شربه أو أكثر، وإن لم يحصل إسكاره حصل تخدير وتفتير، وروى الإمام أحمد حديثا مرفوعا، «أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن كل مسكر ومفتر (1) » .
والعلة الثانية: أنه منتن مستخبث عند من لم يعتده، واحتج العلماء بقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (2) (الأعراف، 157) .
وأما من ألفه واعتاده فلا يرى خبثه، كالجعل لا يستخبث العذرة.
ومن الفقهاء الشافعية الشيخ الشهير بالنجم الغزي الشافعي قال ما نصه: والتوتون الذي حدث وكان حدوثه بدمشق سنة خمس عشرة بعد الألف يدعي شاربه أنه لا يسكر، وإن سلم له فإنه مفتر وهو حرام؛ لحديث أحمد بسنده، عن أم سلمة قالت: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر (3) » ، قال: وليس من الكبائر تناوله المرة أو المرتين، أي: بل الإصرار عليه يكون كبيرة كسائر الصغائر. وقد ذكر بعض العلماء أن الصغيرة تعطى حكم الكبيرة بواحدة من خمسة أشياء.
إحداها: الإصرار عليها، الثانية: التهاون بها، وهو الاستخفاف وعدم المبالاة بفعلها.
والثالثة: الفرح والسرور بها. الرابعة: التفاخر بها بين الناس.
والخامسة: صدورها من عالم أو ممن يقتدى به.
وأجاب الشيخ خالد بن أحمد من فقهاء المالكية بقوله: لا تجوز إمامة من يشرب التنباك، ولا يجوز الاتجار به ولا بما يسكر. اهـ.
وممن حرم الدخان ونهى عنه من علماء مصر الشيخ أحمد السنهوري البهوتي الحنبلي، هذا وبعد أن ذكر نقولا أخرى عن الفقهاء في تحريمه ذكر طرق استعماله مضغا للفم، واستنشاقا لمسحوقه مع مواد أخرى، وتدخينا
__________
(1) سنن أبو داود الأشربة (3686) ، مسند أحمد بن حنبل (6/309) .
(2) سورة الأعراف الآية 157
(3) سنن أبو داود الأشربة (3686) ، مسند أحمد بن حنبل (6/309) .(23/80)
عن طريق ما يسمى بالسيجارة أو النارجيلة أو الغليون أو غير ذلك، ثم ذكر عن الأطباء القدماء والمتأخرين كثيرا من مضاره، وقد تقدم ذكر الكثير منها فلا نعيده خشية الإطالة.
وقال سماحة الشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي في حكم شرب الدخان جوابا على سؤال ورد إليه بشأنه، يقول فيها ما خلاصته: إن شرب الدخان والاتجار به والإعانة على ذلك حرام؛ لأنه داخل في عموم النصوص الدالة على التحريم لمضاره الدينية والدنيوية.
أما الدينية ودلالة النصوص على تحريمه فمن وجوه كثيرة: منها قول الله سبحانه: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (1) .
وقوله سبحانه: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (2) ، وما أشبههما من النصوص التي حرم الله سبحانه بها كل خبيث وضار، وأهل الدخان من أعرف الناس بأضراره ولكن إرادتهم ضعيفة.
ومن مضاره الدينية: أنه يثقل على العبد العبادات والقيام بالمأمورات خصوصا الصيام، ويدعو إلى مخالطة الأراذل ومجانبة الأخيار.
وأضراره البدنية كثيرة جدا لأنه يوهن القوى، ويضعف البصر، ويمنع الانتفاع بالغذاء، ويوجب ضعف القلب واضطراب الأعصاب، ويعرض للسعال والنزلات الشديدة، وقد قرر الأطباء أن له أكبر الأثر في النزلات الصدرية، وكم تضاعفت الأمراض بسببه حتى عز على الأطباء علاجها.
ومن مضاره المالية أنه إضاعة للمال وقد صح نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وكثيرا ما يترك المدخنون كثيرا من واجبات النفقة إيثارا لشربه، ثم قال: إن الواجب على من نصح لنفسه أن يتوب إلى الله من شربه، وأن يعلم أن من ترك شيئا لله أبدله الله خيرا منه، ومن علم الله سبحانه منه صدق النية في طلب
__________
(1) سورة الأعراف الآية 157
(2) سورة البقرة الآية 195(23/81)
ما عنده يسره لليسرى، وجنبه العسرى، وسهل له طرق الخير.
وبالجملة فالدخان إن ثبت أنه مسكر كان حكمه حكم الخمر، وإلا فأقل درجاته أنه مفتر من الخبائث، وأنه مفسدة للمال والبدن والأعصاب والعقل، وكل ذلك محرم بالنصوص الثابتة وقواعد الإسلام الواضحة، ولا مجال للقول بحله مع ثبوت هذه المضار والمفاسد فيه، وما الحاجة إلى شيء لا تدعو إليه حاجة لا في الدين ولا في الدنيا إلا في نظر بعض المتأثرين بالأوهام الذين يجادلون في الحق بعد ما تبين بغير سلطان أتاهم، والله ولي الهداية والتوفيق.(23/82)
الفتاوى
إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
على ما يرد إليهم من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شؤونهم الدينية والاجتماعية.(23/83)
فتوى برقم 9257 وتاريخ 22 \ 12 \ 1405 هـ
السؤال الأول: هل كل من أتى بعمل من أعمال الكفر أو الشرك يكفر، علما بأنه أتى بهذا الشيء جاهلا، هل يعذر بجهله أم لا يعذر؟ وما هي الأدلة بالعذر أو عدم العذر؟
الجواب: لا يعذر المكلف بعبادته غير الله أو تقربه بالذبائح لغير الله أو نذره لغير الله ونحو ذلك من العبادات التي هي من اختصاص الله إلا إذا كان في بلاد غير إسلامية ولم تبلغه الدعوة فيعذر؛ لعدم البلاغ لا لمجرد الجهل؛ لما رواه مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار (1) » .
فلم يعذر النبي صلى الله عليه وسلم من سمع به، ومن يعيش في بلاد إسلامية قد سمع بالرسول صلى الله عليه وسلم فلا يعذر في أصول الإيمان بجهله.
أما الذين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم ذات أنواط يعلقون بها أسلحتهم، فهؤلاء كانوا حديثي عهد بكفر، وقد طلبوا فقط ولم يفعلوا، فكان ما حصل منهم مخالفا للشرع، وقد أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بما يدل على أنهم لو فعلوا ما طلبوا كفروا.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (153) ، مسند أحمد بن حنبل (2/317) .(23/84)
السؤال الثاني: شخص يقول: لقد كنت في إحدى الدول وأعطاني أخ مبلغا من المال، أحتفظ به عندي كوديعة حتى يصل من سفره، وهو يعلم أن هذا المبلغ إذا ضبط معي في المطار سوف يؤخذ مني؛ لأن الدولة لا تسمح بخروج هذا المبلغ لأنه زائد عن المبلغ الذي تسمح به. فتم ضبط هذا المبلغ معي وأخذ مني، علما بأني وضعت بعض المال لي، وأخذ مالي أيضا، فما حكم رد المبلغ؟
الجواب: المودع أمين وإذا هلك ما في يده بدون تعد فلا ضمان عليه، فإذا كان الأمر كما ذكرت فلا يجب عليك رد بدله. .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(23/85)
فتوى برقم 1192 وتاريخ 1 \ 2 \ 1396 هـ
السؤال: رجل أوصى بخمس ما يخلفه واستثنى من ذلك بيت سكنا لذريته حسب الإرث الشرعي، ولكنه قبل وفاته تصرف في البيت فباعه واشترى غيره، وباع الآخر واشترى ثالثا وهكذا، ثم توفي ولديه بيت واحد هو سكن ذريته، ويسأل هل يدخل البيت المذكور في الخمس ويكون حكمه حكم البيت الأول أم لا؟
الجواب: إذا كان الأمر كما ذكرنا في السؤال فإن البيت الذي توفي وهو عنده يكون بدلا عن البيت الذي استثناه في وصيته فلا يدخل في الخمس.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(23/85)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(23/86)
فتوى برقم 1506 وتاريخ 11 \ 3 \ 1397 هـ
السؤال: شخص يقول: إن جده وقف أرضا قدرها اثنا عشر معادا ونصف وثمن من معاد، وكان وقفها على بئر ثم جده ثم والده، ولم يخلف وراءه سوى ما ذكر، والآن عطلت البئر واستغني عنها من أجل إجراء الماء في أنابيب ارتوازية، ونحن في أشد الحاجة إلى هذا الوقف فهل يجوز لنا هذا الوقف أم لا؟
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكر من الوقف على البئر والاستغناء عنها وجب إبقاء عين الأرض وقفا، وإنفاق غلتها في مرافق عامة لأهل الجهة التي فيها البئر من بناء مسجد أو ترميمه أو إنشاء مكتب لتحفيظ القرآن أو إعانة الفقراء والمساكين منها، وأقارب صاحب الوقف الفقراء أولى من غيرهم بالأخذ من غلة هذا الوقف، وإن اقتضت المصلحة الشرعية بيعها لتعطل منافعها أو قلتها وصرف ثمنها في عقار آخر أكثر غلة فلا بأس بذلك بعد موافقة قاضي البلد على ذلك، وتصرف غلة الأرض المشتراة فيما ذكرنا آنفا، أما ورثة الواقف فليس لهم حق فيها بصفة كونهم ورثة؛ لأن الوقف لا يورث، ولكن لا مانع من إعطائهم من الغلة إذا كانوا فقراء كما تقدم، وبالله التوفيق.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(23/86)
فتوى برقم 1538 في 12 \ 5 \ 1397 هـ
السؤال: لجدتي - أم والداتي - بيت وكلت عليه أمي عند وفاتها في أضحية، وفي حياة الوالدة أحيانا يضحي وأحيانا لا يضحي بسبب دماره، فلما حضرت والدتي الوفاة أوصتني عليه أعمره، واستاذنت ورثتها لما تركت أن يسمحوا عنه؛ ليوضع في عمار البيت، وسمحوا عن ذلك وتركت ألفا ومائتي ريال (1200) وقمت أنا في البيت بموجب وصية تركت لي وهي مقصودي، وعمرته من مالي الخاص حتى طلع البيت في مثل البيوت العامرة، والآن يدر غلة أكثر من الأضحية بكثير، سؤال: هل يحل لي بموجب أنني أحييت ميتا، أو من يحل له، ولها أي لجدتي بيت آخر دامر هل أجمع محصول هذا وأضعه فيه.
الجواب: نظرا إلى أن أمك أوصتك تعمر هذا البيت الذي لجدتك وكانت قد وكلت أمك عليه في أضحية، وقمت بعد الاستئذان من الورثة وعمرت البيت بما تركته لهم من الميراث ومن مالك الخاص فما تبرع به الورثة فهو تبرع منهم لصاحبة البيت، وما أنفقته أنت على البيت فهو تنفيذ لوصية أمك، فتكون متبرعا لجدتك وبناء على ذلك فغلة هذا البيت المقدم فيها إصلاحه تم تنفيذ وصية الموصية، وما بقي بعد ذلك ففي وجوه البر على نظر الوكيل الشرعي، ومن وجوه البر أقاربها الفقراء، فهم أحق من غيرهم، فإن حصل نزاع فمرجعه المحكمة الشرعية. أما البيت الآخر الذي ذكرت أنه لجدتك وأنه دامر فإن كان تابعا للبيت فقد عرفناك بحكم ذلك، أما إن كان من التركة وليس من البيت الموقوف فهذا أمره إلى الورثة، فإن سمحوا بجعله تبعا للبيت الموقوف فحكمه حكمه، وإن لم يسمحوا فهو بين الورثة على حكم الله.
وبالله التوفيق. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(23/87)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(23/88)
فتوى برقم 8544 وتاريخ 12 \ 5 \ 1397 هـ
السؤال: رجل يقول: فرضت أملاك والدي على أخواتي في عام 1371 هـ وأصبح قسم كل واحدة 7 قراريط، وقد قامت واحدة منهن ونذرت بحصتها المذكورة على أولادي، بيد أنها أوصت بوصية وهي اثنتان من البقر ينفق لحمهما على الفقراء والمساكين بعد وفاتها، وقد كررت هذا النذر وهذه الوصية مرارا، ثم إنها في عام 1394 هـ قدمت إلى رحمة الله، أرجو إفادتي عن النذر وجواز الوصية.
الجواب: أما ما يتعلق بنذرها حصتها من إرثها من أبيها لأولادك فيمكنك إثباته عن طريق قاضي البلد التي فيها الملك.
وأما ما أوصت به من ذبح اثنتين من البقر ينفق لحمهما على الفقراء والمساكين بعد وفاتها فحيث توفيت يجب تنفيذ وصيتها على وفق ما أوصت به كما ذكر في السؤال إذا كانت ثابتة بالبينة الشرعية، ولم تزد قيمة البقرتين على ثلث مالها.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(23/88)
فتوى برقم 1409 وتاريخ 15 \ 11 \ 1396 هـ
السؤال: رجل يقول: لدي قطعة أرض زراعية جعلت إنتاجها وقفا على وجبة إفطار في رمضان فقط، ثم لم يبق ممن يتولى الوقف سواي، وأنا موظف في منطقة بعيدة عن البلد، وليس بالبلد من يقوم عني بتجهيزه لمن يفطر به، ثم إن أهل بلادنا يشتغلون بالرعي في جهات يتعذر علي معرفتها، ولا يجتمعون إلا يوم عيد أو جمعة، وعلى تقدير أني هيأته لا أجد من يأكله، فهل يجوز لي أن أوزعه حبوبا على المستحقين؟ أو أبيعه وأشتري بثمنه تمرا لأوزعه على المستحقين؟
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكرت من عدم وجود ولي لهذا الوقف سواك، وأنك لا تقوى على مباشرة تجهيزه بنفسك، ولا تجد من يقوم مقامك في ذلك، وأنه على تقدير تجهيزه لا يوجد من يأكله في تلك البلاد جاز لك أن توزعه حبوبا في رمضان على المستحقين في بلادكم إن أمكن، وإلا ففي أقرب البلاد إلى بلد الوقف، وجاز لك أن تشتري بثمنه تمرا لتوزعه كذلك.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(23/89)
فتوى برقم 1511 وتاريخ 19 \ 3 \ 1397 هـ
السؤال: شخص يدعى سعيد وقف قطعة أرض صغيرة وكان معتادا(23/89)
هذه القطعة من الأرض صدقة من ثمارها ليلة 27 رمضان، وبعد أن انتهى سعيد ورثه ابنه سالم سعيد ومشى حسب العادة، وبعد أن انتهى سالم سعيد خلف محمد سالم ومشى محمد سالم سعيد حسب ما كان جده وأبوه، وانتهى محمد سالم سعيد، وخلف ولدين هما علي محمد سالم سعيد وحيدر محمد سالم سعيد، ومشى علي محمد سالم حسب ما كان عليه أبوه وجده، وبعد أن توفيا علي محمد سالم سعيد وحيدر محمد سالم سعيد، وخلف علي محمد سالم ثلاثة أولاد وحيدر ثلاثة أولاد، هل يجوز لأولاد علي محمد سالم وحيدر محمد سالم أن يقتسموا هذه القطعة وتكون كميراث بينهم أم لا تزال وقفا جيلا بعد جيل؟
والجواب: إذا كان الواقع كما ذكر لم يجز للورثة أن يقتسموا عين الأرض الموقوفة بينهم، ولو كان ما وقفت عليه قد عطل بل تبقى وقفا وتصرف غلتها في وجوه البر التي تحتاج للنفقة، ولا يوجد من ينفق عليها كإصلاح المساجد وترميمها أو بنائها أو إجراء الماء إليها أو فرشها، وكالمرافق الأخرى التي يحتاج إليها أهل البلد، وكالصدقة على الفقراء من أقارب الواقف وغيره.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(23/90)
فتوى برقم 5438 وتاريخ 1 \ 4 \ 1403 هـ
السؤال الأول: ما حكم النقاب في الإسلام؟(23/90)
الجواب: قال أبو عبيد في صفة النقاب عند العرب هو الذي يبدوا منه محجر العين، وكان اسمه عندهم الوصوصة والبرقع.
وأما حكمه فالجواز، والأصل في ذلك ما جاء من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين (1) » ، رواه أحمد والبخاري والنسائي، والترمذي وصححه، وفي رواية قال: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى النساء في الإحرام عن القفازين والنقاب (2) » ، الحديث رواه أحمد وأبو داود، ونهيه صلى الله عليه وسلم المحرمة أن تنتقب يدل على جوازه في غير حال الإحرام، ثم إنه لا يفهم من هذا الحديث أن المحرمة يجوز لها كشف وجهها إذا كان الرجال الأجانب يرونها، بل يجب عليها أن تسدل الخمار أو النقاب إلى أن يجاوزوها، والأصل في ذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه (3) » .
السؤال الثاني: ما حكم الصلاة في السروال (البنطلون) ؟
الجواب: الأصل في أنواع اللباس الإباحة؛ نه من أمور العادات، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (4) الآية.
ويستثنى من ذلك ما دل الدليل الشرعي على تحريمه أو كراهته كالحرير للرجال، والذي يصف العورة؛ لأنه حينئذ في حكم كشفها، وكشفها لا يجوز وكالملابس التي هي من سيما الكفار، فلا يجوز لبسها لا للرجال ولا للنساء؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بهم، وكلبس الرجال ملابس النساء ولبس النساء ملابس الرجال؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تشبه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال، وليس اللباس المسمى بالبنطلون والقميص مما يختص لبسه بالكفار بل هو لباس عام في المسلمين والكافرين في كثير من البلاد والدول، وإنما تنفر
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1838) ، سنن الترمذي الحج (833) ، سنن النسائي مناسك الحج (2681) ، مسند أحمد بن حنبل (2/119) .
(2) سنن أبو داود المناسك (1827) .
(3) سنن أبو داود المناسك (1833) ، سنن ابن ماجه المناسك (2935) ، مسند أحمد بن حنبل (6/30) .
(4) سورة الأعراف الآية 32(23/91)
النفوس من لبس ذلك في بعض البلاد؛ لعدم الإلف ومخالفة عادة سكانها اللباس، وإن كان ذلك موافقا لعادة غيرهم من المسلمين، لكن الأولى بالمسلم إذا كان في بلد لم يعتد أهلها ذلك اللباس ألا يلبسه في الصلاة ولا في المجامع العامة ولا في الطرقات.
السؤال الثالث: متى يجب العزل وما كيفيته؟
الجواب: روى الإمام أحمد وابن ماجه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها (1) » ، وأخرج عبد الرزاق في مصنفه والبيهقي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «نهى عن عزل الحرة إلا بإذنها (2) » . فهذا يدل على جواز العزل عن الحرة بإذنها ومنعه بدون إذنها، وأن العزل عن الأمة لا يحتاج إلى إذنها، مع مراعاة عدم فعله إلا من حاجة شديدة أو ضرورة وصفة العزل النزع بعد الإيلاج؛ لينزل خارج الفرج. وبالله التوفيق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن ابن ماجه النكاح (1928) .
(2) سنن ابن ماجه النكاح (1928) .(23/92)
فتوى برقم 8732 وتاريخ 17 \ 8 \ 1405 هـ
السؤال الأول: هل يؤثر شك المتوضي في الحدث من بول أو غائط أو ريح؟ حيث إن عدم تأكده ناتج عن طول مدة بقاء الطهارة، أم أنه إذا كان الأصل الطهارة فلا يلتفت إلى الشك إلا مع تيقن الحدث، وكذلك العكس؟(23/92)
الجواب: إذا كان الإنسان متطهرا ثم شك في طرء الحدث عليه فلا تأثير؛ لشكه في طرء الحدث على الطهارة السابقة، وإذا كان محدثا ثم شك هل تطهر أم لا، فهو محدث ولا أثر لهذا الشك؛ لأن اليقين لا يرفع بالشك، ولأن الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت ما يرفعه ولحديث «شكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا (1) » ، رواه الجماعة إلا الترمذي، ولحديث: «إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه، خرج منه شيء أم لا، فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا (2) » ، رواه مسلم والترمذي.
السؤال الثاني: هل يلتفت إلى الشك في عدد الركعات أو عدد أشواط الطواف أو السعي بعد الانتهاء منها؟ وكذلك الحال بالنسبة للوضوء أم لا؟
الجواب: من شك في عدد ركعات الصلاة أو في عدد أشواط الطواف بنى على الأقل وأكمل الباقي وسجد للسهو في الصلاة قبل السلام؛ لحديث: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان (3) » . رواه أحمد ومسلم.
السؤال الثالث: هل صحيح أن الركوع الثاني من صلاة الكسوف سنة لا يعتد به المسبوق بحيث يأتي المسبوق بالركوع الأول بركعة كاملة بركعتين بعد تسليم الإمام؟ أم أن الركوع الثاني يقوم مقام الأول؟
الجواب: الصحيح أن من فاته الركوع الأول من صلاة الكسوف لا يعتد بهذه الركعة، وعليه أن يقضي مكانها ركعة أخرى بركعتين؛ لأن صلاة الكسوف عبادة، والعبادات توقيفية فيقتصر فيها على ما ثبت من كيفيتها في النصوص الصحيحة.
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (137) ، صحيح مسلم الحيض (361) ، سنن النسائي الطهارة (160) ، سنن أبو داود الطهارة (176) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (513) ، مسند أحمد بن حنبل (4/39) .
(2) صحيح مسلم الحيض (362) ، سنن الترمذي كتاب الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطهارة (177) .
(3) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (571) ، سنن النسائي السهو (1238) ، سنن أبو داود الصلاة (1024) ، مسند أحمد بن حنبل (3/83) ، موطأ مالك النداء للصلاة (214) ، سنن الدارمي الصلاة (1495) .(23/93)
السؤال الرابع: إذا كان أحد المصلين يصلي منفردا ودخل معه آخر مقتديا به فهل ذلك جائز أم لا؟ وهل في ذلك فرق بين الفرض والنفل؟
الجواب: يجوز ذلك سواء كان فرضا أم نفلا.
السؤال الخامس: من المعلوم أن الحاج إذا ترك الرمي والمبيت بمنى فإنه يلزمه دم، ولكن هل يلزم الدم لكل يوم أم أن الدم الواحد يكفي عن كل أيام الرمي وأيام المبيت؟
الجواب: يكفيه دم واحد عن ترك الرمي كله.
السؤال السادس: هل يسقط الدم عن الجاهل الذي لا يعرف الحكم أو الناسي الذي ترك واجبا من واجبات الحج كالمبيت والرمي والحلق؟ أم لا بد من الدم وكذلك الحال لمن ارتكب شيئا من محظورات الإحرام؟
الجواب: يسقط عن الجاهل والناسي الذي ارتكب محظورا من محظورات الإحرام، ولا يسقط عمن ترك واجبا من واجبات الحج أو العمرة جهلا ونسيانا؛ لقول ابن عباس رضي الله عنه: من ترك نسكا أو نسيه فعليه دم. ولحديث صاحب الجبة الذي تضمخ بالطيب وهو معتمر.
السؤال السابع: إذا أخر الحاج الرمي إلى آخر أيام التشريق لمرض أو كبر وخوف زحام، فهل يرمي جمرة العقبة والجمرات الأخرى وهو في موقف واحد؟ أم لا بد من الرمي عن كل يوم على حدة بمعنى أنه يرمي عن اليوم الأول، ثم يبدأ من جديد لليوم الثاني، وهكذا عن اليوم الثالث؟ ولو كان في ذلك مشقة.
الجواب: يرمي جمرة العقبة أولا، ثم يرمي جمرات اليوم الحادي عشر، ثم جمرات اليوم الثاني عشر، ثم الثالث عشر إن لم يتعجل، والسنة أن كل يوم في وقته حسب الطاقة.
السؤال الثامن: إذا كان الساعي أو الطائف طفلا صغيرا أو كان يحمل(23/94)
مريضا فهل يجزي السعي أو الطواف عن الكل الحامل والمحمول أم لا؟
الجواب: يجزي عنهما بنية الحامل وبنية المحمول المميز في أصح قولي العلماء.
السؤال التاسع: هل يجوز رفع الرأس قليلا في الصلاة عند تكبيرة الإحرام وعند الدعاء والاستغفار أو لا؟
الجواب: لا يشرع رفع الرأس بحيث يرى السماء في الصلاة عند تكبيرة الإحرام، ولكن إذا كان الرفع عند الدعاء لم يجز؛ لحديث «لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء أو لتخطفن أبصارهم (1) » ، رواه مسلم.
السؤال العاشر: إذا أحسست أن بولا قد خرج في أثناء الصلاة فهل أخرج من الصلاة لكي أتأكد من ذلك الحدث؟ وإذا لمست طرف الذكر وأنا في الصلاة أو خارجها لغرض التأكد فهل ينقض الوضوء وتبطل الصلاة أم لا؟
الجواب: أولا: لا تخرج من الصلاة لمجرد الشك في خروج البول حتى تعلم أنه خرج منك.
ثانيا: إذا لمست ذكرك بلا حائل بطل وضوءك سواء لمسته في الصلاة أم خارجها.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (750) ، سنن النسائي السهو (1193) ، سنن أبو داود الصلاة (913) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1044) ، مسند أحمد بن حنبل (3/140) ، سنن الدارمي الصلاة (1302) .(23/95)
فتوى برقم 6448 وتاريخ 5 \ 12 \ 1403 هـ
السؤال الأول: هل يجوز حلق اللحى للالتحاق بالخدمة العسكرية بالجيش الوطني مع العلم أن الخدمة في هذا الجيش إجباري وحلق اللحى شيء إجباري؟ .
الجواب: لا يجوز حلق اللحى من أجل الدخول في الخدمة العسكرية؛ لأن حلقها معصية ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
السؤال الثاني: ما حكم الإسلام في التقبيل على أيدي رب الأسرة حبا له واحتراما وتقديرا، وليس هناك نية غير ذلك، وإطلاق لقب سيدي على رب الأسرة لنفس النية.
الجواب: إذا قبل إنسان يد إنسان على سبيل التكريم أو لعلم أو أبوية أو نحو ذلك ولم يتخذ عادة عند كل لقاء فلا بأس به، أما إذا كان ذلك عادة عند كل لقاء فيكره. .
ويكره له أن يقول لرب الأسرة (سيدي) ؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له بعض الصحابة: أنت سيدنا. قال: السيد الله تبارك وتعالى (1) » ، ولأن ذلك قد يفضي إلى تكبر المقول له ذلك.
السؤال الثالث: تقول: إذا احتكمنا لمفتي مثل (مفتي الديار السعودية) في مسألة فقهية، ولم نطمئن لهذه الفتوى فكل إنسان يخطئ ويصيب، فهل تعتبر هذه الفتوى حجة علي؟ وإذا لم أعمل بها فهل أصبح في حكم العاصي؟
الجواب: إذا أراد شخص أن يسأل فإنه يسأل أوثق من يمكنه الحصول عليه من أهل العلم، فإذا أفتاه فإنه يعمل بالفتوى إلا إذا كان طالب علم، وعلم أن
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (4806) .(23/96)
هذه الفتوى تخالف نصا من كتاب أو سنة وإجماع فإنه لا يعمل بها، وعليه أن يلتمس الحق بدليله.
السؤال الرابع: تقول: هل يجوز للإنسان أن يترك سنة في سبيل طاعة الوالدين؟ مثل أن يطلب منه والده عدم ارتداء القميص، وهل هناك فرق في هذا الأمر بين السنة المستحبة والسنة الواجبة؟ وهل فعل أي سنة يعتبر معروفا.
الجواب: إذا كانت طاعة الوالد تخالف أمرا من أوامر الله أو توجب ارتكاب ما نهى الله عنه فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فلا يجوز لك أن توافقي والدك على ما فيه طاعة له وهو معصية لله.
السؤال الخامس: تقول كنت في مجتمع يختلط الرجال بالنساء، وقد أهدى لي رجل هدية تعبيرا عن هوى شيطاني وهو سوار ثمين. والحمد لله قد خرجت من هذا المجتمع وعرفت طريق الحق، وندمت على ما فعلت، فهل هذه الهدية من حقي ويجوز أن أتزين بها أو أتصدق بها أو ماذا أفعل بها؟ وأنا لا أستطيع أن أرجعها إلى صاحبها؛ لكراهتي لهذا المجتمع. وما حكم ما أملكه خاص بي كالخطابات وغير ذلك الآن بعد توبتي؟
الجواب: احمدي الله على السلامة، وما دفع لك هدية فلا ترديه إلى صاحبه بل تصدقي به.
السؤال السادس: ما هي شروط إقامة الحجة على العاصي؟
الجواب: يبين له الحق بدليله، وبذلك تقوم الحجة عليه.
وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... الرئيس
عبد الله الغديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(23/97)
فتوى برقم 1644 وتاريخ 10 \ 8 \ 1397 هـ
السؤال الأول: إذا كان الأب محافظا على الصلوات الخمس وأركان الإسلام، ولكنه يعتقد جواز النذر والذبح للمقبورين في الأضرحة والمشاهد، فهل لابنه أن يأخذ من ماله ما يبني به مستقبله، أو أن يرثه بعد موته أم لا؟
الجواب: من اعتقد من المكلفين المسلمين جواز النذر والذبح للمقبورين، فاعتقاده هذا شرك أكبر مخرج من الملة يستتاب صاحبه ثلاثة أيام ويضيق عليه، فإن تاب وإلا قتل.
أما أخذ ابنه من ماله ما يبني به مستقبله وكونه يرث بعد موته في نفس المسألة المسئول عنها، فإن هذا مبني على معرفة حقيقة واقع الأب ومعرفة الحال التي يموت عليها، فإذا كان أبوه مات على هذه العقيدة لا يعلم أنه تاب فلا يرثه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم (1) » .
ويجوز لابنه أن يأخذ من ماله في حياته ما طابت به نفسه له.
السؤال الثاني: هل يجوز للولد أن يأكل من مال أبيه المرابي؟
الجواب: الربا محرم بالكتاب والسنة والإجماع، وإذا كان والدك مرابيا فالواجب عليك نصحه ببيان الربا وحكمه وما أعده الله لأهله من العذاب، ولا يجوز لك أن تأخذ من مال أبيك ما تعلم أنه ربا دخل إلى ملكه من طريق التعامل بالربا.
وعليك أن تطلب الرزق من الله جل وعلا وتبذل الأسباب الشرعية التي
__________
(1) صحيح البخاري الفرائض (6764) ، صحيح مسلم الفرائض (1614) ، سنن الترمذي الفرائض (2107) ، سنن أبو داود الفرائض (2909) ، سنن ابن ماجه الفرائض (2730) ، مسند أحمد بن حنبل (5/208) ، موطأ مالك الفرائض (1104) ، سنن الدارمي الفرائض (2998) .(23/98)
وضعها الله لطلب الرزق: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (2) ، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (3) .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 3
(3) سورة الطلاق الآية 4(23/99)
فتوى برقم 1395 وتاريخ 18 \ 10 \ 1396 هـ
السؤال: شخص يقول: يوجد لدينا مسجد صغير بناه المسلمون قبل عشر سنين، وأصبح الآن يضيق بالمصلين، والرغبة الآن متجهة إلى توسعة المسجد إلا أنه قد لا يتمكن من ذلك، ويريد شراء قطعة أرض كبيرة يقيم عليها المسجد ومدرسة لأبناء المسلمين ومرافق أخرى. ويسأل هل يجوز بيع أرض المسجد الحالي؛ ليستعان بقيمتها في بناء المسجد الجديد.
الجواب: إذا كان الأمر كما جاء في الاستفتاء من ضيق المسجد الحالي، وأنه لا مجال لتوسعته، وأن الضرورة تقضي بإيجاد مسجد واسع يسع المصلين ومدرسة لتعليم أولاد المسلمين ومرافق تخدم ذلك؛ فإنه لا يظهر لنا مانع من بيع أرض المسجد الحالي وأنقاضه، والاستعانة بثمن ذلك في شراء الأرض الواسعة في المكان المناسب وبناء المسجد والمدرسة ومرافقهما عليها؛ لما في ذلك من المصلحة العامة، لكن بشرط أن يتولى ذلك من تتوفر فيه الثقة والأمانة والدراية.(23/99)
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(23/100)
فتوى برقم 1707 وتاريخ 13 \ 11 \ 1397 هـ
السؤال الأول: ما حكم رفع الصوت بالتهليل الجماعي أثناء الخروج بالجنازة والمشي بها إلى المقبرة؟
الجواب: هدي الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تبع الجنازة أنه لا يسمع له صوت بالتهليل أو القراءة أو نحو ذلك، ولم يأمر بالتهليل الجماعي - فيما نعلم - بل قد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه «نهى أن يتبع الميت بصوت أو نار (1) » ، رواه أبو داود.
وقال قيس بن عباد وهو من أكابر التابعين من أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كانوا يستحبون خفض الصوت عند الجنائز وعند الذكر وعند القتال.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لا يستحب رفع الصوت مع الجنازة لا بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك، هذا مذهب الأئمة الأربعة، وهو المأثور عن السلف من الصحابة والتابعين، ولا أعلم فيه مخالفا.
وقال أيضا: وقد اتفق أهل العلم بالحديث والآثار أن هذا لم يكن على عهد القرون المفضلة وبذلك يتضح لك أن رفع الصوت بالتهليل الجماعي مع الجنائز بدعة منكرة وهكذا ما شابه ذلك من قولهم: وحدوه، أو: اذكروا الله، أو قراءة بعض القصائد كالبردة.
__________
(1) سنن أبو داود الجنائز (3171) ، مسند أحمد بن حنبل (2/532) .(23/100)
السؤال الثاني: رجل يقول: ما حكم تلقين الميت بعد الدفن، بقول أحدهم: " يا عبد الله بن عبديه اذكر العهد الذي خرجت عليه من دار الدنيا إلى دار الآخرة وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، إلى قولهم: فإذا جاءك الملكان الموكلان بك وسألاك: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فقل لهما: الله ربي، والإسلام ديني، ومحمد نبيي، والكعبة قبلتي، والمسلمون إخواني. وكلاما كثيرا نحو هذا؟ وكل هذا بعد دفن الميت غير تلقينه " يس " عند الاحتضار، وهل جاء حديث صحيح في ذلك؛ لأن المجيزين يحتجون بأحاديث بمعنى هذه.
الجواب: هدي الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إذا فرغ من دفن الميت هو وأصحابه وسأل له المغفرة والتثبيت، وأمرهم أن يسألوا له ذلك ولم يكن يجلس يقرأ عند القبر ولا يلقن الميت.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: تلقين الميت بعد موته ليس واجبا بالإجماع، ولا كان من عمل المسلمين المشهور بينهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه، بل ذلك مأثور عن طائفة من الصحابة كأبي إمامة وواثلة بن الأسقع، فمن الأئمة من أخذ به كالإمام أحمد وقد استحبه طائفة من أصحابه وأصحاب الشافعي، ومن العلماء من يكرهه؛ لاعتقاده أنه بدعة، فالأقوال فيه ثلاثة: الاستحباب والكراهة والإباحة، وهذا أعدل الأقوال، فأما المستحب الذي أمر به وحث عليه النبي صلى الله عليه وسلم فهو الدعاء للميت.
السؤال الثالث: سائل يقول: رجل تزوج امرأة وتوفي عنها، وكان قد تزوجها شغارا، وهو ما يسمونه لديهم بالزقار، وكان زواجه بها مقابل أخته لواحد آخر، وقد أنجب منها ثلاثة أولاد، فهل ترث أم لا؟ مع العلم أنها توفيت بعده عن أولادها الثلاثة وأبويها، وأيضا فإن أخت المتوفى لا تزال باقية مع زوجها الذي هو أخ للمتوفية. .، مع أنه قد أنجب منها ابنتين، فما رأيكم في عقد الزواج بينهما؟ وهل يتوارثان أم لا؟(23/101)
الجواب: كون الواقع نكاح شغار، أولا يحتاج إلى تحقيق لدى الحاكم الشرعي في جهتكم، وذلك في حضور الأطراف المعنية الذين على قيد الحياة، وإذا حقق القاضي في الموضوع فله مرجع يرجع إليه عندما يشكل عليه شيء في مجرى القضاء.
السؤال الرابع: أب المتوفى المذكور آنفا توفي عن بنته وابن ابنه وبنتي ابنه وأخوين شقيقين، فما نصيب كل واحد منهم؟
الجواب: المقدم وفاء دين المتوفى إذا كان عليه دين، ثم تنفيذ وصيته الشرعية إذا كان موصيا، فما بقي بعد ذلك فمسألة الورثة فيه من اثنين، وتصح من ثمانية: للبنت النصف أربعة. والباقي أربعة بين ابن الابن وبنتي الابن. لابن الابن اثنان، ولكل بنت ابن واحد، ولا شيء للأخوين الشقيقين؛ لوجود الفرع الوارث من الذكور وهو الابن.
وبالله التوفيق. .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(23/102)
فتوى برقم 1298 وتاريخ 9 \ 6 \ 1396 هـ
السؤال: شخص يقول: إن أمه أوصت ابنها قبل وفاتها أن يذبح ذبيحة بعد وفاتها يذبحها ويدعو لأكلها جيرانها وجماعاتها، ومن حضر جنازتها وساعد في حفر قبرها ودفنها فيه، فهل أقوم بتنفيذ وصيتها؟ .
الجواب: إذا لم يكن القصد من هذه الذبيحة إلا صلة جيرانها وأقاربها(23/102)
وجزاء لمن ساعد على تجهيزها، فلا يظهر لنا بأس في إنفاذ وصيتها، ولا حرج على من أكل منها وسواء نفذت وصيتها هذه من مالها أو من مال ابنها، فلا يظهر فرق في جواز ذلك، أما إذا كان ذلك لعادة جارية كمن يعتاد ذبح ذبيحة لميته بعد أسبوع من وفاته أو أربعين يوما أو سنة أو نحو ذلك أو لإقامة مأتم للوفاة، فهذا غير جائز؛ لما فيه من الابتداع والمخالفة الشرعية، فلا ينبغي تنفيذ هذه الوصية، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(23/103)
فتوى برقم 1569 وتاريخ17 \ 6 \ 1397 هـ
السؤال: مسجد قديم تقرر هدمه وبناؤه من جديد من تبرعات المحسنين، كما تبرع بعض المجاورين للمسجد ببيوتهم؛ لتضاف إلى المسجد إلا أن هذه البيوت لا تكفي بمجموعها أن تكون بيتا للإمام وآخر للمؤذن، فما حكم اقتطاع مساحة من المسجد؛ ليقام عليها بيتان أحدهما للإمام وآخر للمؤذن؟
الجواب: لا يجوز اقتطاع مساحة من المسجد ليقام عليها بيت للإمام أو المؤذن أو لهما؛ لأن أرض المسجد جعلت وقفا للصلاة فيها، فلا يجوز صرفها لغير ذلك إلا لمبرر، وليست حاجة الإمام أو المؤذن إلى مسكن مما يبيح ذلك، وعلى جهة الاختصاص وأهل الثراء وخاصة سكان حي المسجد أن يتعاونوا على(23/103)
إيجاد بيت للإمام والمؤذن قريبا من المسجد إذا دعت الحاجة إلى ذلك؛ تيسيرا لقيامهما بمهمة الإمامة والأذان.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(23/104)
فتوى برقم 1232 وتاريخ 5 \ 4 \ 1396 هـ
السؤال: رجل أوصى بربع ما يملك، وجعل فيه أضحيتين، والفاضل يقسم بين أولاده للذكر مثل حظ الأنثيين، وقد اشترى القائم على الوصية من الربع دكانا يشتري من إيجاره أضحيتين، وقسم الباقي من الإيجار بين أولاد الموصي للذكر مثل حظ الأنثيين كما هو نص الوصية، أما ما بقي من الربع بعد شراء الدكان وقدره عشرون ألف ريال فقد تسبب فيه القائم على الوصية حتى حصل منه ربح كثير، فهل يقسم الربح بين الورثة حسب ما في الوصية أو يكون تابعا للربع، ولا يقسم منه شيء على الورثة؟
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكر فكل ربح العشرين ألف ريال يعتبر فاضلا من غلة الوصية، فيقسم بين الورثة حسب نص الوصية، فإن المقصود أن يضحي بأضحيتين من الربح كل سنة وما زاد على ذلك من الغلة يعتبر فاضلا سواء أخرجت الأضحيتان سنويا من إيجار الدكان أو من ربح العشرين ألفا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(23/104)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(23/105)
فتوى برقم 1650 وتاريخ 14 \ 8 \ 1397 هـ
السؤال: شخص يقول: ورثت تركة من والدي ورثها عن جدي، وكان جدي قد أوصى والدي بأن هذه التركة فيها سبع حجج، ثم أوصاني والدي بأن في هذه التركة سبع حجج، وقال والدي: إنه لا يعلم من هم أصحاب الحجج وما أسماؤهم، هل هم ذكور أو إناث، والتركة الآن لا تساوي حجة واحدة، فأرجو إفادتي عنها كيف مخارجها؟ وهل يلزمني شرعا إخراج هذه الحجج من حقي إذا لم تف هذه التركة بالحجج؟ وكيف أحج عن أشخاص لا أعرفهم بأسمائهم سوى أن في هذه التركة سبع حجج؟
الجواب: نرى أن تجمع الغلة التي يستحقها صاحب الأرض، ويحج منها كلما اجتمع منها ما يؤدي به حجة عن واحد من السبعة حتى يحج من غلتها سبع حجج، وبعد ذلك تكون الأرض حرة لورثة جدك وأبيك على حسب الميراث الشرعي، ويكون ذلك بالنية عن الأشخاص الذين أرادهم جدك، وليس عليك أن تخرج عنهم بنفسك ولا بمالك، وإنما ذلك واجب في غلة الأرض، فإن حججت عنهم تبرعا منك فجزاك الله خيرا، وبالله التوفيق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(23/105)
صفحة فارغة(23/106)
من فتاوى
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
أولا: مقابلة أجرتها صحيفة الجزيرة مع سماحته
أسئلة تقدم بها مندوب الجزيرة في الطائف لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز بتاريخ 24 \ 9 \ 1407 هـ فأجاب عليها سماحته بما يلي:
س1: يقدم المسلمون هذه الأيام زكواتهم. . فما هو توجيه سماحتكم حول ذلك؟ وماذا عن زكاة عيد الفطر؟ وهل يجوز دفعها نقدا؟ وهل يجوز دفعها للمجاهدين الأفغان؟
ج: قد فرض الله سبحانه على عباده زكاة أموالهم، وأمرهم بأدائها وجعلها من أركان الإسلام الخمسة، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (1) وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) .
والآيات في هذا كثيرة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت (3) » متفق على صحته.
__________
(1) سورة البينة الآية 5
(2) سورة النور الآية 56
(3) صحيح البخاري الإيمان (8) ، صحيح مسلم الإيمان (16) ، سنن الترمذي الإيمان (2609) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5001) ، مسند أحمد بن حنبل (2/93) .(23/107)
فالواجب على جميع المسلمين أن يؤدوا زكاة أموالهم إلى مستحقيها في قوله عز وجل في سورة التوبة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1) . وأخبر سبحانه في سورة التوبة أيضا أن الزكاة طهرة لأهلها فقال سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (2) . الآية وتوعد من بخل بها بالعذاب الأليم، حيث قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (3) {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (4) . وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن كل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز يعذب به صاحبه.
كما صح عنه صلى الله عليه وسلم «أن كل صاحب إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي زكاتها فإنه يعذب بها يوم القيامة (5) » .
وفرض الله على المسلمين أيضا زكاة أبدانهم كل سنة وقت عيد الفطر كما في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على الذكر والأنثى والحر والمملوك والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس للصلاة (6) » . وهذا لفظ البخاري.
وفي الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: «كنا نعطيها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام، أو صاعا من تمر، أو صاعا من شعير، أو صاعا من زبيب، أو صاعا من أقط (7) » . ويلحق بهذه الأنواع في أصح أقوال العلماء كل ما يتقوت به الناس في بلادهم كالأرز والذرة والدخن ونحوها.
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) سورة التوبة الآية 103
(3) سورة التوبة الآية 34
(4) سورة التوبة الآية 35
(5) صحيح البخاري الزكاة (1460) ، صحيح مسلم الزكاة (990) ، سنن الترمذي الزكاة (617) ، سنن النسائي الزكاة (2456) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1785) ، مسند أحمد بن حنبل (5/152) .
(6) صحيح البخاري الزكاة (1503) ، صحيح مسلم الزكاة (984) ، سنن الترمذي الزكاة (676) ، سنن النسائي الزكاة (2504) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1826) ، مسند أحمد بن حنبل (2/66) ، موطأ مالك الزكاة (627) ، سنن الدارمي الزكاة (1661) .
(7) صحيح البخاري الزكاة (1508) ، صحيح مسلم الزكاة (985) ، سنن الترمذي الزكاة (673) ، سنن النسائي الزكاة (2513) ، سنن أبو داود الزكاة (1616) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1829) ، مسند أحمد بن حنبل (3/98) ، موطأ مالك الزكاة (628) ، سنن الدارمي الزكاة (1664) .(23/108)
وهي طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، خرجه أبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم.
فيجب على المسلمين أن يخرجوا هذه الزكاة قبل العيد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بإخراجها قبلها، ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون ذلك، وبذلك يعلم أنه لا مانع من إخراجها في اليوم الثامن والعشرين والتاسع والعشرين والثلاثين وليلة العيد وصباح العيد قبل الصلاة؛ لأن الشهر يكون ثلاثين ويكون تسعة وعشرين، كما صحت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا يجوز إخراج القيمة في قول أكثر أهل العلم؛ لكونها خلاف ما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم. وقد قال الله عز وجل: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (1) . وقال سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) .
ولا مانع من دفعها للمجاهدين الأفغان طعاما لا نقودا؛ لما ذكرنا من الأدلة على منع إخراج القيمة. . والله ولي التوفيق.
س2: بمناسبة ليلة القدر نود من سماحتكم التحدث لعامة المسلمين بهذه المناسبة الكريمة.
ج: ليلة القدر هي أفضل الليالي وقد أنزل الله فيها القرآن، وأخبر سبحانه أنها خير من ألف شهر وأنها مباركة، وإنه يفرق فيها كل أمر حكيم.
__________
(1) سورة النور الآية 54
(2) سورة النور الآية 63(23/109)
كما قال سبحانه في أول سورة الدخان: {حم} (1) {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} (2) {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} (3) {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (4) {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} (5) {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (6) . وقوله سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (7) {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} (8) {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (9) {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} (10) {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (11) .
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قام ليلة القدر إيمانا وإحتسابا غفر له ما تقدم له من ذنبه (12) » . متفق على صحته. وقيامها يكون بالصلاة والذكر والدعاء وقراءة القرآن وغير ذلك من وجوه الخير.
وقد دلت هذه السورة العظيمة أن العمل فيها خير من العمل في ألف شهر مما سواها، وهذا فضل عظيم ورحمة من الله لعباده، فجدير بالمسلمين أن يعظموها وأن يحيوها بالعبادة، «وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها في العشر الأواخر من رمضان (13) » ، وأن أوتار العشرة أرجى من غيرها: فقال عليه الصلاة والسلام: «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، التمسوها في كل وتر (14) » ، وقد دلت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن هذه الليلة متنقلة في العشر. وليست في ليلة معينة منها دائما، فقد تكون في ليلة إحدى وعشرين، وقد تكون في ليلة ثلاث وعشرين، وقد تكون في ليلة خمس وعشرين، وقد تكون في ليلة سبع وعشرين وهي أحرى الليالي، وقد تكون في تسع وعشرين، وقد تكون في الأشفاع: فمن قام ليالي العشر كلها إيمانا واحتسابا أدرك هذه الليلة بلا شك، وفاز بما وعد الله به أهلها، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخص هذه الليالي بمزيد اجتهاد لا يفعله في العشرين الأول. قالت عائشة رضي الله عنها: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان
__________
(1) سورة الدخان الآية 1
(2) سورة الدخان الآية 2
(3) سورة الدخان الآية 3
(4) سورة الدخان الآية 4
(5) سورة الدخان الآية 5
(6) سورة الدخان الآية 6
(7) سورة القدر الآية 1
(8) سورة القدر الآية 2
(9) سورة القدر الآية 3
(10) سورة القدر الآية 4
(11) سورة القدر الآية 5
(12) صحيح البخاري الصوم (1901) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (760) ، سنن الترمذي الصوم (683) ، سنن النسائي الصيام (2202) ، سنن أبو داود الصلاة (1372) ، مسند أحمد بن حنبل (2/241) ، سنن الدارمي الصوم (1776) .
(13) سنن الترمذي كتاب الصوم (792) ، مسند أحمد بن حنبل (6/50) .
(14) صحيح البخاري الاعتكاف (2027) ، صحيح مسلم الصيام (1167) ، مسند أحمد بن حنبل (3/74) .(23/110)
ما لا يجتهد في غيرها (1) » ، وقالت: «كان إذا دخل العشر أحيا ليله وأيقظ أهله وجد وشد المئزر (2) » . وكان يعتكف فيها عليه الصلاة والسلام غالبا وقد قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (3) الآية.
«وسألته عائشة رضي الله عنها فقالت: يا رسول الله، إذا وافقت ليلة القدر فما أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني (4) » ، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم، وكان السلف بعدهم يعظمون هذه العشر ويجتهدون فيها بأنواع الخير.
فالمشروع للمسلمين في كل مكان أن يتأسوا بنبيهم صلى الله عليه وسلم وبأصحابه الكرام رضي الله عنهم وبسلف هذه الأمة الأخيار، فيحيوا هذه الليالي بالصلاة وقراءة القرآن وأنواع الذكر والعبادة إيمانا واحتسابا، حتى يفوزوا بمغفرة الذنوب، وحط الأوزار والعتق من النار فضلا منه سبحانه وجودا وكرما. وقد دل الكتاب والسنة أن هذا الوعد العظيم إنما يحصل باجتناب الكبائر، كما قال سبحانه: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} (5) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما لم تغش الكبائر (6) » . خرجه الإمام مسلم في صحيحه.
ومما يجب التنبيه عليه أن بعض المسلمين قد يجتهد في رمضان ويتوب إلى الله سبحانه مما سلف من ذنوبه، ثم بعد خروج رمضان يعود إلى أعماله السيئة وفي ذلك خطر عظيم، فالواجب على المسلم أن يحذر ذلك، وأن يعزم عزما صادقا على الاستمرار في طاعة الله وترك المعاصي كما قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (7) وقال تعالى:
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (796) .
(2) صحيح البخاري صلاة التراويح (2024) ، صحيح مسلم الاعتكاف (1174) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1639) ، سنن أبو داود الصلاة (1376) ، سنن ابن ماجه الصيام (1768) ، مسند أحمد بن حنبل (6/41) .
(3) سورة الأحزاب الآية 21
(4) سنن الترمذي الدعوات (3513) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3850) .
(5) سورة النساء الآية 31
(6) صحيح مسلم الطهارة (233) ، سنن الترمذي الصلاة (214) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1086) ، مسند أحمد بن حنبل (2/400) .
(7) سورة الحجر الآية 99(23/111)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) ، وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (2) {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} (3) {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} (4) .
ومعنى الآية أن الذين اعترفوا بأن ربهم الله وآمنوا به، وأخلصوا له العبادة واستقاموا على ذلك تبشرهم الملائكة عند الموت بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأن مصيرهم الجنة من أجل إيمانهم به سبحانه واستقامتهم على طاعته وترك معصيته، وإخلاص العبادة له سبحانه، والآيات في هذا المعنى كثيرة، كلها تدل على وجوب الثبات على الحق والاستقامة عليه، والحذر من الإصرار على معاصي الله عز وجل، ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (5) {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (6) {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (7) {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (8) .
فنسأل الله أن يوفقنا وجميع المسلمين في هذه الليالي وغيرها لما يحبه ويرضاه وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه جواد كريم.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 102
(2) سورة فصلت الآية 30
(3) سورة فصلت الآية 31
(4) سورة فصلت الآية 32
(5) سورة آل عمران الآية 133
(6) سورة آل عمران الآية 134
(7) سورة آل عمران الآية 135
(8) سورة آل عمران الآية 136(23/112)
س3: فضيلة الشيخ: ماذا ترون حول من أخذ عمرة بشهر رمضان المبارك وأراد الحج بنفس العام، فهل يلزمه الفدي، وما هي أفضل أنواع النسك؟
ج: من أخذ عمرة في رمضان ثم أحرم بالحج مفردا في ذلك العام فإنه لا فدية عليه؛ لأن الفدية إنما تلزم من تمتع بالعمرة إلى الحج؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (1) .
والذي أتى بعمرة في رمضان ثم أحرم بالحج في أشهره لا يسمى متمتعا، وإنما المتمتع من أحرم بالعمرة في أشهر الحج وهي شوال وذو القعدة والعشر الأوائل من ذي الحجة. ثم أحرم بالحج من عامه، أو قرن بين الحج والعمرة، فهذا هو المتمتع وهو الذي عليه الفدية.
والأفضل لمن أراد الحج أن يأتي بعمرة مع حجته ويطوف لها ويسعى ويقصر ويحل، ثم يحرم بالحج في عامه، والأفضل أن يكون إحرامه بالحج في اليوم الثامن من ذي الحجة، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك في حجة الوداع.
وعلى المتمتع أن يطوف ويسعى لحجه كما طاف وسعى للعمرة.
ولا يجزئه سعي العمرة عن سعي الحج عند أكثر أهل العلم. وهو الصواب لدلالة الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك.
س4: تحدث إمام الأزهر في بداية شهر رمضان المبارك عن أهمية توحيد رؤية الهلال في العالم الإسلامي وطلب اجتماع علماء المسلمين لتقرير ذلك. ماذا يرى سماحتكم حول هذا وإمكانيته؟
ج: لا شك أن اجتماع المسلمين في الصوم والفطر أمر طيب ومحبوب للنفوس ومطلوب شرعا حيث أمكن ولكن لا سبيل إلى ذلك إلا بأمرين: -
أحدهما: أن يلغي جميع علماء المسلمين الاعتماد على الحساب كما ألغاه
__________
(1) سورة البقرة الآية 196(23/113)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وألغاه سلف الأمة، وأن يعملوا بالرؤية أو بإكمال العدة، كما بين ذلك رسول الله في الأحاديث الصحيحة. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى جـ 25 ص32-33 اتفاق العلماء على أنه لا يجوز الاعتماد على الحساب في إثبات الصوم والفطر ونحوهما.
ونقل الحافظ في الفتح جـ 4 ص 127 عن البادي: إجماع السلف على عدم الاعتداد بالحساب، وأن إجماعهم حجة على من بعدهم.
الأمر الثاني: أن يلتزموا بالاعتماد على إثبات الرؤية في أي دولة إسلامية تعمل بشرع الله وتلتزم بأحكامه، فمتى ثبت عندها رؤية الهلال بالبينة الشرعية دخولا أو خروجا تبعوها في ذلك عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة (1) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا، وأشار بيديه ثلاث مرات وعقد إبهامه في الثالثة، والشهر هكذا وهكذا وهكذا وأشار بأصابعه كلها (2) » . يعني بذلك عليه الصلاة والسلام أن الشهر يكون تسعة وعشرين ويكون ثلاثين، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة من حديث ابن عمر وأبي هريرة وحذيفة بن اليمان وغيرهم رضي الله عنهم، ومعلوم أن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم ليس خاصا بأهل المدينة بل هو خطاب للأمة جمعاء في جميع أعصارها وأمصارها إلى يوم القيامة.
فمتى توافر هذان الأمران أمكن أن تجتمع الدول الإسلامية على الصوم جميعا والفطر جميعا، فنسأل الله أن يوفقهم لذلك، وأن يعينهم على تحكيم الشريعة الإسلامية ورفض ما خالفها، ولا ريب أن ذلك واجب عليهم؛ لقوله سبحانه {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) وما جاء في معناها من الآيات.
ولا ريب أيضا أن في تحكيمها في جميع شئونهم: صلاحهم ونجاتهم
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (688) ، سنن النسائي الصيام (2124) ، سنن أبو داود الصوم (2327) ، موطأ مالك الصيام (635) ، سنن الدارمي الصوم (1686) .
(2) صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2141) ، سنن أبو داود الصوم (2319) .
(3) سورة النساء الآية 65(23/114)
واجتماع شملهم ونصرهم على عدوهم، وفوزهم بالسعادة العاجلة والآجلة، فنسأل الله أن يشرح صدورهم لذلك ويعينهم عليه، إنه سميع قريب.
س5: من المشروعات الخيرية التي تتولونها إعانة المتزوجين. . . ماذا عن هذا المشروع من حيث الدعم المادي الذي يتلقاه؟ وعدد المستفيدين منه والمتقدمين؟ وإمكانية زيادة المبلغ للمتزوجين؟
ج5: هذا المشروع أنشأناه في عام 1401 هـ لمسيس حاجة الشباب إليه، وقد نفع الله به كثيرا وأول من أسهم فيه سمو أمير منطقة الرياض الأمير المكرم سلمان بن عبد العزيز، ساهم بمبلغ ميلون ريال ثم تتابع أهل الخير في المساهمة فيه، وساهم فيه خادم الحرمين الشريفين بمبلغ خمسة ملايين ريال كل سنة، ضاعف الله مثوبته ومثوبة جميع المساهمين في ذلك.
ولا تزال المساهمات جارية في هذا المشروع، ولا يزال المشروع قائما والاستفادة منه مستمرة، وقد استفاد منه أكثر من أربعة آلاف ما بين رجل وامرأة.
ومقدار المساعدة 25 خمسة وعشرون ألفا ولم تر اللجنة المكونة لهذا المشروع زيادتها ولا النقص منها.
واللجنة التي أسند إليها هذا المشروع مكونة من أصحاب الفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل عضو المجلس الأعلى للقضاء سابقا، والشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، والشيخ راشد بن صالح بن خنين عضو هيئة كبار العلماء والمستشارين بالديوان الملكي، والشيخ عبد اللطيف بن محمد بن شديد القاضي بمحكمة التمييز بمنطقة الرياض، وقد انضم إليهم أخيرا فضيلة الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن فنتوخ مدير عام إدارة الدعوة والإرشاد بالداخل ودول الجزيرة العربية، وذلك برئاستي واشتراكي.(23/115)
وللحصول على هذه المساعدة شروط خمسة: -
أولها: أن يكون الزوج والزوجة يحملان الرعوية السعودية.
ثانيها: أن يكون الزوج عاجزا عن تكاليف الزواج بإثبات من المحكمة.
الثالث: أن يكون قد تم العقد ولم يدخل بالمرأة، فإن استدان ودخل بها وثبت ذلك بصك شرعي أعطي الأقل من المساعدة أو الدين.
الرابع: أن يكون أول زواج أو قد تزوج وماتت زوجته، أو أصيبت بمرض يجعلها في حكم الميتة.
الخامس: أن يثبت عند المحكمة أنه معروف بالمحافظة على الصلاة جماعة في مسجد الحي الذي يسكنه، ولا يزال الجم الغفير ينتظرون هذه المساعدة لكثرتهم وقلة المال، فنسأل الله أن يسهل أمرهم، وأن يوفق المسلمين جميعا للتعاون على البر والتقوى، وإني بهذه المناسبة أهيب بجميع إخواني من الأمراء والأثرياء وغيرهم أن يرعوا هذا المشروع وأن يساهموا فيه بكل سخاء وعناية من الزكاة وغيرها حتى يحصل للمنتظرين نصيبهم، وحتى يعفوا جما غفيرا من شباب هذه البلاد ويعينوهم على غض أبصارهم وإحصان فروجهم، والله المسئول أن يوفق المسلمين لكل خير، وأن يجزل مثوبة كل من ساهم في هذا المشروع ويعظم لهم الخلف، إنه ولي ذلك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(23/116)
ثانيا: حكم شرب الدخان وإمامة من يتجاهر به
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد سألني بعض الإخوان عن حكم شرب الدخان وإمامة من يتجاهر بشربه، وذكر أن البلوى قد عمت بهذا الصنف من الناس.
والجواب: قد دلت الأدلة الشرعية على أن شرب الدخان من الأمور المحرمة شرعا، وذلك لما اشتمل عليه من الخبث والأضرار الكثيرة، والله سبحانه لم يبح لعباده من المطاعم والمشارب إلا ما كان طيبا نافعا، أما ما كان ضارا لهم في دينهم أو دنياهم أو مغيرا لعقولهم، فإن الله سبحانه قد حرمه عليهم، وهو عز وجل أرحم بهم من أنفسهم، وهو الحكيم العليم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره، فلا يحرم شيئا عبثا، ولا يخلق شيئا باطلا، ولا يأمر بشيء ليس للعباد فيه فائدة؛ لأنه سبحانه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، وهو العالم بما يصلح العباد وينفعهم في العاجل والآجل كما قال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (1) وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (2) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة، ومن الدلائل القرآنية على تحريم شرب الدخان قوله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم في سورة المائدة: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (3) ، وقال في سورة الأعراف في وصف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (4) الآية. فأوضح سبحانه في هاتين الآيتين الكريمتين أنه سبحانه لم يحل لعباده إلا الطيبات
__________
(1) سورة الأنعام الآية 83
(2) سورة الأحزاب الآية 1
(3) سورة المائدة الآية 4
(4) سورة الأعراف الآية 157(23/117)
وهي الأطعمة والأشربة النافعة، أما الأطعمة والأشربة الضارة كالمكسرات والمخدرات وسائر الأطعمة والأشربة الضارة في الدين أو البدن أو العقل، فهي من الخبائث المحرمة، وقد أجمع الأطباء وغيرهم من العارفين بالدخان وأضراره أن الدخان من المشارب الضارة ضررا كبيرا، وذكروا أنه سبب لكثير من الأمراض كالسرطان وموت السكتة وغير ذلك، فما كان بهذه المثابة فلا شك في تحريمه ووجوب الحذر منه، فلا ينبغي للعاقل أن يغتر بكثرة من يشربه، فقد قال الله تعالى في كتابه المبين: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} (1) .
وقال عز وجل: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (2) أما إمامة شارب الدخان وغيره من العصاة في الصلاة فلا ينبغي أن يتخذ مثله إماما، بل المشروع أن يختار للإمامة الأخيار من المسلمين المعروفين بالدين والاستقامة؛ لأن الإمامة شأنها عظيم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سلما (3) » ، الحديث رواه مسلم في صحيحه. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه قال لمالك بن الحويرث وأصحابه: إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم (4) » .
لكن اختلف العلماء رحمهم الله هل تصح إمامة العاصي والصلاة خلفه، فقال بعضهم: لا تصح الصلاة خلفه؛ لضعف دينه ونقص إيمانه. وقال آخرون من أهل العلم: تصح إمامته والصلاة خلفه؛ لأنه مسلم قد صحت صلاته في نفسه فتصح صلاة من خلفه، ولأن كثيرا من الصحابة صلوا خلف بعض الأمراء المعروفين بالظلم والفسق، ومنهم ابن عمر رضي الله عنهما قد صلى خلف الحجاج وهم أظلم الناس، وهذا هو القول الراجح وهو صحة
__________
(1) سورة الأنعام الآية 116
(2) سورة الفرقان الآية 44
(3) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (673) ، سنن الترمذي الصلاة (235) ، سنن النسائي الإمامة (780) ، سنن أبو داود الصلاة (582) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (980) .
(4) صحيح البخاري الأذان (628) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (674) ، سنن النسائي الأذان (635) ، مسند أحمد بن حنبل (5/53) ، سنن الدارمي الصلاة (1253) .(23/118)
إمامته والصلاة خلفه، لكن لا ينبغي أن يتخذ إماما مع القدرة على إمامة غيره من أهل الخير والصلاح، وهذا جواب مختصر أردنا منه التنبيه على أصل الحكم في هاتين المسألتين، وبيان بعض الأدلة على ذلك، وقد أوضح العلماء حكم هاتين المسألتين فمن أراد بسط ذلك وجده، والله المسؤول أن يصلح أحوال المسلمين ويوفقهم جميعا للاستقامة على دينه والحذر مما يخالف شرعه إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(23/119)
صفحة فارغة(23/120)
رد الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين
على الدكتور إبراهيم الناصر
حول بحثه: موقف
الشريعة الإسلامية من المصارف
كان الدكتور إبراهيم الناصر قد دفع البحث الذي كتبه بعنوان " موقف الشريعة الإسلامية من المصارف " إلى صالح الحصين، وطلب منه أنه يكتب ملاحظاته على البحث بكل صراحة وبدون مجاملة، فكتب له رسالة مطولة نقتطف منها ما يأتي مع ملاحظة أنا حافظنا على عبارات الأصل عدا حالات نادرة اقتضى حسن السياق تغيير اللفظ مع بقاء المعنى.
الملاحظة الأولى:
ليست مناقشة بل هي بالأحرى عتب، إذ كان الانطباع لدي عند قراءتي للبحث لأول وهلة أنه لم يكتب بجدية تتناسب مع موضوعه، بل أخشى أن يكون كتب بطريقة أقرب إلى العبث وعدم الاحتفال.
لا أقصد، وقد انتصبتم للاجتهاد في الإفتاء في مسألة ترونها جديدة وخطيرة. (ص 11) أنه كان يجب أن تطلعوا على النصوص الشرعية المتصلة بالموضوع وأن تعملوا القواعد الفقهية في الاستنباط منها، وأن تستخدموا المقاييس والموازين الشرعية للترجيح بين الأدلة، فأنتم معذورون في التقصير في هذا؛ لأنه ليس لديكم الإمكانيات اللازمة لذلك.
أقول لا أقصد هذا وإنما أقصد أنه كان يتوقع منكم وقد تصديتم للكتابة في مثل هذا الموضوع أن تتقيدوا بمنهج البحث العلمي تفكيرا وتعبيرا، الأمر الذي حرم منه هذا البحث كما يتضح من الملاحظة الثانية.(23/121)
الملاحظة الثانية:
أدق وصف للبحث أنه خليط مشوش من اقتباسات أخذت من كتابة سابقة، كانت أكثر جدية وقد حررت للهدف نفسه الذي رمى إليه البحث وهو التماس المخرج الفقهي لإباحة " الفائدة الربوية ".
والإشكال جاء من أن الكتابة المشار إليها كانت عرضا لنظريات متباينة ومتعارضة فكل نظرية منها ذهبت مذهبا في التأسيس والتخريج، وكان من المستحيل أن يجيء باحث فيأخذ بها جميعا في وقت واحد، إنك لا تستطيع أن تصل إلى هدف واحد بالسير في إتجاهين متعارضين.
إن الباحث لم ينتبه لهذا التناقض الذي وقع فيه البحث؛ لأنه في حمى الوصول إلى النتيجة التي قررها مسبقا لم يبال أن يصل إليها بمقدمات وهمية، أو يكون إيصالها للنتيجة وهما، لقد اكتفى بصورة الحجة لا حقيقتها، عناه أن يكون يورد الشبهة ولم يهتم بإيراد الدليل.
إن الكتابة المشار إليها التي اقتبس منها هي بحث " محل العقد" في كتاب (مصادر الحق) للأستاذ السنهوري، وبدون أن يشير لهذا المرجع نقل منه بالنص. وقد يكون الأمر في هذا قاصرا على عدم الالتزام الخلقي لو أحسن النقل ولم ينقل بعض الأفكار نقلا خاطئا، ولو استطاع الاستفادة من المعلومات التي تضمنها هذا المرجع، أو من طريقة البحث التي انتهجها، ولكن كل ذلك لم يحصل.
لقد اهتم الأستاذ السنهوري غفر الله له - كما اهتم الباحث - بالوصول إلى إباحة الفائدة، وعرض ثلاث نظريات في الموضوع، وجاء الباحث فاقتبس من كل هذه النظريات مع اختلافها في الأساس وتعارضها فلم يكن(23/122)
غريبا أن يؤدي هذا الخلط المشوش من الاقتباسات إلى وقوع البحث في التناقض، والبعد عن الطريقة العلمية.
لقد قرأت البحث عدة مرات بغرض مناقشته، ولكني انتهيت إلى أن من المستحيل أن تناقش مناقشة علمية بحثا يبعد كل هذا البعد عن الطريقة العلمية، ولا يلتزم بقواعد المنطق القانوني، ورأيت أن السبيل الوحيد لمناقشة البحث، أن أرده أولا إلى الأصول التي أخذ منها، وأن أعرضها بالصورة التي وردت بها في مرجعه ثم أناقشها. ويتضح هذا بالملاحظة الثالثة.(23/123)
الملاحظة الثالثة:
عرض الأستاذ السنهوري في مصادر الحق ثلاث نظريات لإباحة الفائدة.
(1) نظرية الدكتور معروف الدواليبي وهو موضوع محاضرة ألقاها في مؤتمر الفقه الإسلامي المعقود في باريس عام 1951 م، ويلخصها الأستاذ السنهوري بما يأتي:
الربا المحرم إنما يكون في القروض التي يقصد بها إلى الاستهلاك لا إلى الإنتاج، ففي هذه المنطقة - منطقة الاستهلاك - يستغل المرابون حاجة المعوزين والفقراء ويرهقونهم بما يفرضون عليهم من ربا فاحش، أما اليوم وقد تطورت النظم الاقتصادية وانتشرت الشركات وأصبحت القروض أكثرها قروض إنتاج لا قروض استهلاك، فإن من الواجب النظر فيما يقتضيه هذا التطور في الحضارة من تطور في الأحكام، ويتضح ذلك بوجه خاص عندما تقترض الشركات الكبيرة والحكومات من الجماهير وصغار المدخرين، فإن الآية تنعكس والوضع ينقلب ويصبح المقترض وهو الشركات والحكومات هو الجانب القوي المستغل، ويصبح المقرض أي صغار المدخرين هو الجانب الضعيف الذي تجب له الحماية، فيجب إذن أن يكون لقروض الإنتاج حكمها في(23/123)
الفقه الإسلامي، ويجب أن يتمشى هذا الحكم مع طبيعة هذه القروض، وهي طبيعة تغاير مغايرة تامة طبيعة قروض الاستهلاك، والحل الصحيح أن تباح قروض الإنتاج بقيود وفائدة معقولة، ويمكن تخريج هذا على فكرة الضرورة أو فكرة المصلحة أي تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، كما لو تدرع العدو بمسلم فيقتل المسلم للوصول للعدو.
(2) نظرية الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله وهي كما تتلخص من المرجع المشار إليه آنفا كما يأتي:
الربا المحرم هو ربا الجاهلية وحده، فهو الربا الوارد في القرآن الكريم، وهو الربا الذي يؤدي إلى خراب المدين. أما ربا النسيئة وربا الفضل الواردان في الحديث الشريف فالنهي عنهما إنما جاء للذريعة إلى الربا المحرم القطعي وهو ربا الجاهلية، وهذه الذريعة مظنونة لا قطعية فالشيخ رشيد يرى أن بيع الأصناف الستة بمثلها مع التفاضل فضلا عن تثمير الأموال في الشركات التجارية كل هذا لا يدخل في الربا المحرم يقول: " وإنما يظهر من سبب النهي عن هذه البيوع أنه سد لذريعة الربا المحرم القطعي، وهذه الذريعة مظنونة لا قطعية، ومن المنهيات في الحديث ما هو محرم وما هو مكروه وما هو خلاف الأولى. "
(3) نظرية الأستاذ السنهوري غفر الله له وملخصها:
الأصل في الربا تحريم الربا في جميع صوره سواء كان ربا الجاهلية أو ربا النسيئة أو ربا الفضل على أن هناك صورة من الربا هي أشنع هذه الصور صورة الربا الذي تعودته العرب في الجاهلية، فيأتي الدائن مدينه عند حلول أجل الدين ويقول: " إما أن تقضي وإما أن تربي". وهذا أشبه بما نسميه اليوم. . الربح المركب. . هذه الصورة من الربا في العصر الحاضر هي التي تقابل ربا الجاهلية، وهي محرمة تحريما قاطعا لذاتها تحريم مقاصد لا تحريم وسائل.(23/124)
أما الصور الأخرى من الربا، الفائدة البسيطة للقرض وربا النسيئة وربا الفضل فهي أيضا محرمة.
ولكن التحريم هنا تحريم وسائل لا مقاصد، بعض هذه الصور، وهي الخاصة بالأصناف الستة وبفائدة القرض وردت بنصوص صريحة في الأحاديث الشريفة وبعضها وهي الخاصة بالأصناف الأخرى. . كان من عمل الفقهاء، وهي تقوم على صناعة فقهية لا شك في سلامتها، وكلها وسائل لا مقاصد وقد حرمت سدا للذرائع، ومن ثم يكون الأصل فيها التحريم وتجوز استثناء إذا قامت الحاجة إليها، والحاجة هنا معناها مصلحة راجحة في صورة معينة من صور الربا تفوت إذا بقي التحريم على أصله عند ذلك تجوز هذه الصورة استثناء من أصل التحريم وتجوز بقدر الحاجة القائمة فإن ارتفعت الحاجة عاد التحريم.
وفي نظام اقتصادي رأسمالي كالنظام القائم في الوقت الحاضر في كثير من البلاد. . تدعو الحاجة العامة الشاملة إلى حصول العامل على رأس المال حتى يستغله بعمله وقد أصبحت شركات المضاربة وغيرها غير كافية للحصول على رأس المال اللازم. . القروض هي الوسيلة الأولى وكذلك السندات، والمقترض هنا هو الجانب القوي والمقرض هو الجانب الضعيف. . . فما دامت الحاجة قائمة للحصول على رؤوس الأموال من طريق القرض. . فإن فائدة رأس المال في الحدود المذكورة ونقصد بذلك (أولا) : أنه لا يجوز بحال مهما كانت الحاجة قائمة أن تتقاضى فوائد على متجمد الفوائد، فهذا هو ربا الجاهلية الممقوت. (ثانيا) : وحتى بالنسبة للفائدة البسيطة يجب أن يرسم لها واضع القانون حدودا لا تتعداها من حيث سعرها، ومن حيث طريقة تقاضيها، ومن وجوه أخرى وذلك حتى نقدر الحاجة بقدرها.
وحتى بعد كل هذا فإن الحاجة إلى الفائدة لا تقوم كما قدمنا إلا في(23/125)
نظام رأسمالي كالنظام القائم فإذا تغير هذا النظام، ويبدو أنه في سبيله إلى التغيير. . . عند ذلك يعاد النظر في تقدير الحاجة فقد لا تقوم الحاجة فيعود الربا إلى أصله من التحريم. انتهى.
بعد استعراض هذه النظريات لن أناقشها من ناحية الفقه الشرعي، وإنما أترك لرجل من أعظم رجال القانون في العالم العربي، وهو الأستاذ السنهوري أن ينقض النظريتين الأوليين على أساس المنطق القانوني، وقبل ذلك ألفت النظر إلى الاختلاف الكامل بل إلى التعارض بين النظريات الثلاث في الأساس الذي بنت عليه الأمر الذي لا يسمح بالجمع بينها كما فعل الباحث.
عن النظرية الأولى نظرية الدكتور معروف الدواليبي يقول الأستاذ السنهوري في المرجع السابق المشار إليه: " يؤخذ على هذا الرأي أمران:
(1) يصعب كثيرا من الناحية العملية التمييز بين قروض الإنتاج وقروض الاستهلاك حتى تباح الفائدة المعقولة في الأولى وتحرم إطلاقا في الثانية، قد يكون واضحا في بعض الحالات أن القروض قروض إنتاج كالقروض التي تعقدها الحكومات والشركات لكن. . . من القروض صورا أكثرها وقوعا وهي القروض التي يعقدها الأفراد مع المصارف، فهل هي قروض إنتاج تباح فيها الفائدة المعقولة أو هي قروض استهلاك لا تجوز فيها الفائدة أصلا؟ وهل نستطيع هذا التمييز في كل حالة على حدة فنبيح هنا ونحرم هناك؟ ظاهر أن هذا التمييز متعذر ولا بد إذن من أحد الأمرين إما أن تباح الفائدة المعقولة في جميع القروض أو تحرم في جميعها.
(2) إذا فرضنا جدلا أنه يمكن تمييز قروض الإنتاج فإن تخريج جواز الفائدة المعقولة في هذه القروض على فكرة الضرورة لا يستقيم؛ فالضرورة بالمعنى الشرعي ليست قائمة، وإنما هي الحاجة لا الضرورة، وينبغي التمييز بين الأمرين.
وعن نظرية الشيخ محمد رشيد رضا يقول السنهوري في المرجع ذاته:
غني عن البيان أن القول بأن ربا النسيئة وربا الفضل إنما نهي عنهما في(23/126)
الحديث الشريف نهي كراهة لا نهي تحريم لا يتفق مع ما أجمعت عليه المذاهب الفقهية، وقد اعترض الأستاذ زكي الدين بدوي بحق على هذا الرأي في مقاله المنشور في مجلة القانون والاقتصاد حيث قال: " إنه يتعذر التسليم بقوله بعدم دخول الأصناف الستة في الربا المحرم؛ لأن بيع هذه الأصناف وإن كانت وسائل وذرائع إلى الربا إلا أنها وسائل وذرائع منصوصة، ودلالة الأحاديث عليها لا تختلف فيها الأفهام، أما قوله أن النهي عن بيع هذه الأصناف كان تورعا؛ لإفادة أن بيعها خلاف الأولى أو للكراهة فقط لا للتحريم، فدعوى تتعارض مع ظواهر النصوص والمأثور عن الصحابة "، ويبدو أنه يجب الذهاب إلى مدى أبعد مما ذهب إليه الأستاذ زكي الدين، والقول بأن ربا النسيئة وربا الفضل لا يقتصران على الأصناف الستة المذكورة في الحديث الشريف بل يجاوزانها إلى ما عداهما إليه المذاهب الفقهية من الأصناف الأخرى، وهذا هو الذي انعقد عليه الإجماع، وإن كل ذلك ربا محرم لا مكروه فحسب، وننتهي الآن إلى مناقشة نظرية أستاذنا السنهوري فنقول:
إذا كان الأستاذ السنهوري معذورا من جهة أنه حرر نظريته والواقع المعاش في ذلك الوقت أنه لا يوجد تطبيق مصرفي عملي إلا محكوما بأحد النظامين؛ النظام اللاربوي الشيوعي والنظام الربوي الرأسمالي؛ فإن الوضع الآن قد تغير ووجدت تطبيقات عملية وتجارب معاشة لنظام مصرفي ليس ربويا ولا شيوعيا هذا من ناحية، أما من الناحية الأخرى فإن الحاجة حينما تعتبر مثل هذا الاعتبار في بعض الأحكام إنما يقصد بها الحاجة التي تفرض على الإنسان من الخارج ولا يستطيع دفعها، أما أن يكون في إمكان الإنسان دفع الحاجة، ثم لا ينشط لذلك فلا يجوز اعتبارها في هذه الحال وواضح بعد تغير الظروف ونجاح التطبيقات للنظام المصرفي غير الربوي أن في إمكان أي دولة إسلامية أن تحول نظامها المحلي - على الأقل - إلى نظام لا ربوي لو أرادت ذلك. وسيأتي لهذا زيادة بيان إن شاء الله.(23/127)
ومن حيث بناء النظرية على التمييز بين صورة من صور الربا الجاهلية بالقول بأنها مقصودة في القرآن، والمحرمة تحريم مقاصد وربا النسيئة - ومنه ربا القرض - بالقول بأنه ليس من الربا المقصود في القرآن، ومحرم تحريم وسائل فهو خطأ واضح كالشمس، ووهم زل به عالم جليل نقصد به الشيخ رشيد رضا (وندعو الله أن يعفو عنه في جانب حسناته الجليلة والله أعلم بها) ولكن لا يجوز تقليده في زلته، ولو لم ترد النصوص موضحة أن ربا الجاهلية لا يقتصر على تلك الصورة لوجب أن نستيقن ذلك من طبائع الأمور وحكم العقل.
كانت مكة واديا غير ذي زرع فلم يكن اقتصاد قريش قائما على الزراعة، وإنما كان قائما على التجارة وكانت لهم رحلتا الشتاء والصيف، وكان منهم أصحاب الأموال (الممولون) وأصحاب العمل (المحتاجون للتمويل) وكان من الطبيعي أن يكون القرض الأداة الرئيسية للتمويل، ولا يعقل أن الممولين من قريش لم يعرفوا إلا القرض الحسن الذي لا يكون فيه ربا.
وعندما أعلن النبي صلى الله عليه وسلم وضع ربا الجاهلية تحت قدميه الشريفتين لم يفهم أحد أبدا أنه وضع فقط صورة (إما أن تقضي أو تربي) وترك ربا القرض قائما غير موضوع. وحين وضع ربا العباس، لم يكن الموضوع فقط ما كان على صورة " إما أن تقضي أو تربي " والنصوص تشهد لهذا.
فقد روى الطبري عن السدي في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (1) قال: نزلت هذه الآية في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة كانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى أناس من ثقيف. . الحديث ج 6 ص 33. كما روى عن السدي في تفسيره قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (2) قال: الذي أسلفتم وأسقط الربا. ج 1 ص 27. والسلف في اللغة هو القرض.
والعلماء عندما ذكروا صورة " إما أن تقضي وإما أن تربي " على أنها ربا
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279(23/128)
الجاهلية كانوا يقصدون حصر ربا الجاهلية في هذه الصورة، يقول ابن القيم في إعلام الموقعين: ربا النسيئة هو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية ومثل بصورة " إما أن تقضي أو تربي "، وأفسد من فهم أن ربا الجاهلية قاصر على صورة " إما أن تقضي أو تربي " نسبة ذلك إلى ابن عباس رضي الله عنه، وأنه لم يكن يرى ربا في غير هذه الصورة، في حين أن هذا غير صحيح إنه إنما نقل عنه فقط الخلاف في ربا الفضل، وها أنا أنقل من كتاب السنهوري نفسه: " قال ابن رشد: أجمع العلماء على أن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة لا يجوز إلا مثلا بمثل يدا بيد إلا ما روي عن ابن عباس ومن تبعه من المكيين أنهم أجازوا بيعه متفاضلا ومنعوه نسيئة فقط، وإنما صار ابن عباس إلى ذلك؛ لما رواه عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ربا إلا في النسيئة (1) » فأخذ ابن عباس بظاهر الحديث فلم يجعل الربا إلا في النسيئة.
بل إن بحث الدكتور إبراهيم الناصر نفسه وردت فيه هذه العبارات (ص 8) : وقال الشافعي رحمه الله في كتاب اختلاف الحديث: " كان ابن عباس لا يرى في دينار بدينارين ولا في درهم بدرهمين يدا بيد بأسا، ويراه في النسيئة وكذلك عامة أصحابه.
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي البيوع (4580) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (5/209) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .(23/129)
الملاحظة الرابعة:
وردت في البحث هذه التقريرات الانفعالية في المقدمة: " لن تكون هناك قوة إسلامية بدون اقتصاد، ولن تكون هناك قوة اقتصادية بدون بنوك، ولن تكون بنوك بلا فوائد، إن وظيفة الجهاز المصرفي في اقتصادها تشبه القلب بالنسبة لجسم الإنسان، يقوم البنك بتسيير النقود في عروق الحياة الاقتصادية لأي بلد لتعيش وتزدهر (ص 1) . وفي الخاتمة: " نستخلص ضرورة الترخيص بالقرض بفائدة، بذلك تتحقق أهداف الفائدة العامة خارج نطاق أي تحريم أو حظر قانوني في استخدام مدخرات المواطنين في(23/129)
تعزيز وتقوية الاقتصاد الوطني فالعائد سيصبح ثابتا ومضمونا ومثمرا وذلك بسبب تنوع وتوسع المشروعات، والنتيجة تحقق القوة الاقتصادية التي بدونها لن تكون هناك قوة إسلامية " ص 20.
أحقا أن الدكتور إبراهيم يعيش معنا على هذه الأرض؟
في المدة الأخيرة العنوان الذي لا نفتقده يوميا في الصحافة والإذاعة الحديث عن دول العالم الثالث، ومن بينها مع الأسف عدد من البلدان الإسلامية، وتخبطها في مشكلة الديون للدول والبنوك الأجنبية حيث تعاني العجز عن تسديد فوائد الديون لا عن أقساطها فحسب، لنترك هذه الصورة ولننتقل لصورة ثانية، لقد وجدت البنوك الربوية في العالم الإسلامي أو في جزء منه على الأقل منذ أكثر من مائة سنة، ولم تنجح البلدان الإسلامية في إقامة نظام يصلح أن يكون ندا أو مثيلا لنظام في البلدان المتقدمة إلا في النظام البنكي، ربما كانت الاختلافات يسيرة بين بنك في الرياض أو في جدة وبنك في جنيف أو لندن، ولكن هل تحققت النتيجة التي تنبأ بها الدكتور إبراهيم القوة الاقتصادية، إن الهزائم التي يعاني العالم الإسلامي منها في المجال العسكري والسياسي ليست أكبر من الهزائم في المجال الاقتصادي، إن المصارف الربوية ونظام الفائدة لم يخلق للعالم الإسلامي إمكانيات تمكنه من اجتياز حاجز التخلف، وإذا اعتبر معيار التخلف مدى العجز عن الانتفاع بالإمكانيات (لا أقصد فقط الإمكانيات المالية، بل ولا الإمكانيات الإيجابية، بل أقصد أيضا الإمكانيات السلبية) فإن بلدان العالم الإسلامي مع الأسف (مقلا ومستكثرا) عاجزة لا عن العمل بل عن عدم العمل إذ من المعروف، والمشاهد أن بلدان العالم الإسلامي تتخبط في مشاكل كان يمكن أن تحلها باتخاذ مواقف سلبية ولكنها مخذولة حتى عن ذلك، بالتأكيد أن نظام الفائدة لم يكسبها قوة اقتصادية، والبنوك (لم تسير الدم في عروق حياتها الاقتصادية لتعيش وتزدهر) .(23/130)
ولكن ألا يمكن أن يكون الأمر على العكس من ذلك؟ لقد شرط الله لنصرنا أن ننصره {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} (1) ووضع لنا قانونا أصدق من القوانين الرياضية {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} (2) أي: لم تذروا الربا {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (3) ولو آمنا حق الإيمان بكلمات الله لكان لنا شأن آخر.
غير أن اليقين أضحى مريضا مرضا باطنا كثير الخفاء
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) سورة البقرة الآية 279(23/131)
الملاحظة الخامسة:
إن النظريات التي سبقت الإشارة إليها في الملاحظة الثالثة قد وجدت بضغط من عوامل الواقع المعاش عند وجودها وذلك ما يلتمس به العذر لأصحابها في الخطأ، ولكن الظروف تغيرت كثيرا، وتلك العوامل تجاوزها الزمن فما بال الدكتور إبراهيم يصر على أن يحارب تحت راية من أشباح الماضي، في الوقت الذي وجدت فيه تلك النظريات وأشباهها لم يكن يوجد على أرض الواقع مصرف واحد يقوم بمختلف الخدمات المصرفية دون أن يحتاج لاستخدام أداة الفائدة.
أما الآن فربما بلغ عدد المصارف اللاربوية خمسين أو يزيد إذا استثنينا الباكستان وإيران، وبحسب التقرير الذي أصدرته حكومة الباكستان في عام 1985 م فقد تحولت جميع فروع المصارف البالغة سبعة آلاف فرع إلى النظام المصرفي اللاربوي، وقد اهتمت بهذه الظاهرة دراسات وبحوث كثيرة للخبراء الاقتصاديين والماليين الغربيين لعله يكون مفيدا للدكتور إبراهيم أن نقتبس من أحد النماذج لهذه البحوث ففي عام 1981 م نشر أنجو كارستن الأستاذ في مؤسسة السياسة الاقتصادية في جامعة كييل (ألمانيا الغربية) وكان حينذاك يعمل خبيرا في البنك الدولي نشر بحثا عن الإسلام والوساطة المالية، نشرت ترجمته مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي (2 \ 1) ، وأورد هنا بعض ما ورد في المقال أو ملخصه.(23/131)
عدد المقال مبررات وجود المصرف اللاربوي فلم يفته الإيضاح عن المبرر الاقتصادي، وهو المقولة الاقتصادية المسلمة أن (معدلات الفائدة تعوق الاستثمار والعمالة) . ثم تكلم عن مدى نجاح المصارف الإسلامية (ولم يكن بين يديه في ذلك الوقت إلا معلومات عن حوالي 20 مصرفا) فقال " تشير البيانات المحدودة التي أتيحت لنا إلى أن المصارف الإسلامية عملت بنجاح لا بأس به في العام الماضي 1980م، ففي الباكستان أعلنت المصارف التجارية عن حصص الأرباح على حسابات الادخار القائمة على المشاركة، وعلى الودائع المؤجلة للنصف الأول من عام 1981 م، وتم دفع معدل سنوي (9%) للأولى، بينما أغلت الثانية (11. 5 %) في حين كان عائد الحسابات الربوية المقابلة (9. 5 %) لستة أشهر - سنة وسجل البنك الإسلامي الأردني ربحا كليا بنسبة (8. 2 %) لحسابات الاستثمار لعام 1980م في حين أن المصارف التقليدية - أي الربوية - في الأردن دفعت عام 1980م معدلات ما بين 7. 5. 7 للحسابات المؤجلة لسنة، كما أن المودعين لدى بنك البحرين قبضوا عام 1980م معدلات أرباح 9 - 9. 5 % على حساب الودائع و 5. 5 % على حسابات الادخار، بينما كانت معدلات الفائدة للفترة نفسها على المصارف البحرينية الربوية لثلاثة أشهر 7. 5 - 8 % وعلى الودائع لمدة 6 - 15 شهرا 8. 5 - 9. 5 %.
ثم يقول: " إن المعلومات عن مستوى أداء المصارف الإسلامية قليلة في الواقع إلا أنها تشير إلى أن المصارف الإسلامية قادرة على مزاحمة المصارف التقليدية".
ثم يشير في بحث آثار النظام المصرفي الإسلامي على التنمية الاقتصادية والاستقرار إلى أنه " لدى تحليل الانعكاسات الناشئة من تحويل أساس عمليات القطاع المصرفي إلى المشاركة في الربح والخسارة فإن من المنافع المحتملة للتوسع في عمليات المشاركة في ظل بعض الظروف تحصيل معدلات(23/132)
العائد الحقيقية اللاحقة من آثار التغيرات غير المتوقعة في معدل التضخم، وزيادة معدل المرونة الواقعي في الظروف التي تكون فيها العوائد الاسمية (لزجة) ، وزيادة تدخل الوسطاء الماليين في الأداء المالي للمقترضين وجاذبية الوسائل المالية للمدخرين الذين يشعرون بزواجر دينية حيال الأصول التقليدية ذات الفائدة.
لقد تعمدت كثرة الاقتباس من الأستاذ كارستن وإن كان يتحدث عن مرحلة مبكرة من تاريخ المصارف الإسلامية، وهي مرحلة تجارب وخطوات أولى؛ لكي يقارن الدكتور إبراهيم بين طريقة تفكيره وطريقة تفكير الأستاذ كارستن، بين التفكير المستشرف للمستقبل لرجل غير مسلم، وطريقة تفكير مسلم يعيش أسير أفكار الماضي.
أرجو أن الدكتور إبراهيم يتابع بالقراءة والاطلاع الكتابات المستجدة في مجال القانون والاقتصاد، ومع ذلك فسوف أتطفل بأن أذكر له أن مجلة الإداري في عددها الصادر في كانون الثاني لعام 1987م. نشرت على صفحاتها 35 - 51 بيانات إحصائية عن أكبر مائة مصرف إسلاميا في إحدى دول مجلس التعاون حصل على المركز الأول بين البنوك المحلية في تلك الدولة في مردود الأسهم وواردات الأصول، وفي مجال المصرف الأكثر فعالية أما عند مقارنته بكل بنوك المملكة فإنه يتقدمها في كل هذه المجالات بمراحل، ولعل مما يثير دهشة الدكتور إبراهيم أن يعرف أن هذا المصرف مشهور بتشدده ومحافظته وحرصه على التقيد بالقيود التي يتسامح فيها غيره، وقد حقق هذا الإنجاز بدون استخدام أداة الفائدة.(23/133)
الملاحظة السادسة:
قرأت مرة في إحدى صحفنا أن مائة وستين ألف شخص تقدموا للمساهمة عندما طرحت أسهم أحد البنوك الربوية للاكتتاب العام في حين(23/133)
قدرت عدد المواطنين السعوديين الراغبين في الاستثمار والقادرين عليه والذين علموا عن طرح الأسهم في الاكتتاب ثم نسبت لهم عدد المتقدمين، فعلا أصابني فزع شديد وخشيت أن يكون لذلك دلالة على مدى ما وصلت إليه منزلة الدين في مجتمعنا إلى درجة أن تستهل هذه النسبة الكبيرة من المواطنين اقتحام خطر الربا، وأن ينضموا بسهولة إلى الجانب الذي أذن الله بالحرب، غير أني رجعت إلى نفسي وقلت لعل من هؤلاء كثيرا لا يهون عليهم ارتكاب معصية أقل خطرا. وإذن ما تفسير هذه الظاهرة؟
وأجبت لعل تفسيرها أن هؤلاء قد تقحموا الخطر تحت تأثير الاتجاه العام دون أن يكون لذلك دلالته على هوان أمر الإسلام في قلوبهم، ولو صح هذا التفسير فلا شك أن كثيرا من هؤلاء - والنذر والمواعظ تقرعهم كلما سمعوا خطبة أو قرأوا القرآن - يعانون من الصراع النفسي، ولذلك فإني أخشى أن يكون البحث مصدر فتنة لمثل هؤلاء، إن العوام - وأقصد بالعوام هنا غير المختصين في الفقه أو القانون - لا سيما مع الرغبة الشديدة في التخلص من الصراع النفسي والميل الجارف لتطمين الضمير لن يكونوا في حالة ذهنية ونفسية قادرة على تقييم البحث، إنهم ليسوا في وضع يمكنهم من التمييز بين الحقائق والأوهام بين الحجج الصورية والحجج الصحيحة بين الشبه والأدلة، ولذلك فإن البحث سيؤدي دورا لم يقصده كاتبه فهو الإضلال بغير علم، وإني بصدق أخشى على الكاتب من مقتضى الآية الكريمة: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} (1) ، عافانا الله وإياكم، ولا أجد للأخ المكرم - والنصيحة له فرض - لا أجد له مخرجا إلا بمحو هذه الآثار، فرحمة الله وسعت كل شيء وهي مكتوبة للمتقين.
__________
(1) سورة النحل الآية 25(23/134)
الملاحظة السابعة:
أقدم الأخ المكرم على أمر منكر حينما أقدم على التعرض لكلام الله بتفسيره بجهل، والصفحة الأولى والثانية أبلغ شاهد على ذلك، ولا أدري أين(23/134)
عزب فهمه عندما أقدم على تفسير {لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (1) في صفحة (14) فجاء بتفسير كان ينبغي أن يثير الضحك والسخرية لولا أنه يتعرض لكلام الله، فحقه أن يثير الغضب، هدى الله الأخ الكريم وأنقذه من وعيد من قال في القرآن برأيه أو بغير ما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار.
وقال الله تعالى: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (2) فقرن القول على الله بغير علم بالشرك به أعاذنا الله وإياكم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة الأعراف الآية 33(23/135)
الملاحظة الثامنة:
إن من العبث حقا تتبع شبه البحث وحججه الوهمية، وتسويد الورق بمناقشتها واحدة واحدة، ولكن إذا كان الأخ المكرم الدكتور إبراهيم لا يزال جاهلا أن ربا النسيئة من الأمور الغامضة ولا من الأمور التي ليس للاجتهاد فيها مجال، وأن إجماع الأمة على تحريمه تحريم مقاصد لا وسائل من الأمور غير الخفية، فضلا عن النصوص القاطعة الثبوت القاطعة الدلالة فلعله يفيده أن يعرف - وهو حديث عهد بالعمل في مؤسسة النقد - أن الجهاز الذي يعمل فيه كان حريصا على المصلحة العامة وازدهار الاقتصاد ومدركا لأسباب رقيه، ومع ذلك فبجهد المحافظ السابق للمؤسسة ومساندة ومتابعة المحافظ الحالي قامت المؤسسة بعمل دؤوب وجهد متواصل وبذل مشكور حتى أثمر ذلك مشروعا متكاملا لقيام مؤسسة مصرفية إسلامية لا تستخدم الفائدة، وقامت وزارة التجارة ثم مجلس الوزراء بدورهما المشكور في هذا السبيل والآن يوشك أن يخرج هذا المشروع إلى النور {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} (1) {بِنَصْرِ اللَّهِ} (2)
لعل من المناسب أن يضاف إلى الملاحظة السابقة هذه الملاحظة:
أن نظام مؤسسة النقد العربي السعودي (وهي البنك المركزي
__________
(1) سورة الروم الآية 4
(2) سورة الروم الآية 5(23/135)
للمملكة) ينص في المادة الثانية منه على أنه " لا يجوز لمؤسسة النقد العربي السعودي دفع أو قبض فائدة "، وينص في المادة السادسة منه على أنه " لا يجوز لمؤسسة النقد العربي السعودي مباشرة أي عمل يتعارض مع قواعد الشريعة الإسلامية السمحاء، فلا يجوز لها دفع أو قبض فائدة على الأعمال ".
ومع صراحة هذه النصوص فإما أن يكون الدكتور إبراهيم الناصر لم يطلع على نظام المؤسسة وهذا هو الأحرى، وإن كان غريبا أن لا يطلع المستشار القانوني للمؤسسة على نظامها، أو يرى أن المؤسسة قائمة على قواعد تخالف المنطق السليم، وتخالف التفسير الصحيح للشريعة إذ يقرر نظامها أن دفع وقبض الفوائد يعارض الشريعة في حين يرى هو أن دفع وقبض الفوائد يوافق الشريعة، وأنه لا اقتصاد سليم بدون بنوك تبني عملياته على الإقراض والاقتراض بالفائدة.
صالح بن عبد الرحمن الحصين(23/136)
مبحث وجيز
عن أضرار فاحشة الزنا
الدكتور \ عبد الله بن إسحاق آل الشيخ
وبعد فهذا مبحث وجيز عن أضرار فاحشة الزنا أعاذنا الله منه
مقدمة: ليعلم الحاذق أن الله تبارك وتعالى جعل عالم الإدراك ثلاثة أنواع:
- 1- عالم علوي: - وهذا النوع خلق من نور ولم تخلق فيه شهوة، ولا ميل إلى غريزة جنس، ومن أوصافه: أنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وهذا النوع هم الملائكة عليهم السلام.
2 - عالم مركب من العالمين العلوي والسفلي: فيه من العالم العلوي ملكة ونور العقل الذي يتأتى به إدراك نور العلم، وبه يكون مهبط الوحي، ومحل النبوة والرسالة ومنبع الحكمة ومناط التكليف ومركز الحياء، وقد فضل الله هذا النوع بالعقل ومسبباته حتى جعله خليفة في الأرض، وسخر له ما في الأرض جميعا وملكه الأرض، وما احتوت عليه وصوره فأحسن صورته، وأرسل إليه الرسل، وخلق الجنة له إذا أطاع الله وأطاع رسله، وأحل له الطيبات وحرم عليه الخبائث، ونظم له جميع حياته من مهده إلى لحده، وبين له كيفية إقامة وثبات جميع علائقه مع كل النواحي وكل الأفراد، وجعله أهلا للملك والتملك وعلمه ما لم يكن يعلم، مع أنه صور جسمه من الأرض مركز العالم السفلي وركب فيه جميع الشهوات كحب الجاه والرئاسة، ورؤية الفضل على الغير والأخلاق البهيمية كالغضب وحب إشباع الرغبة الغريزية(23/137)
والتفاني في تعاطيها، وهذا النوع هو الإنسان، المسمى بالحيوان الناطق، فهو موضع تجاذب بين أخلاق وطباع العالم السفلي، وبين صفات وصفاء العالم العلوي.
فيحن ذاك لأرضه بتسفل ... ويحن ذا لسمائه بتصعد
فإن غلب عليه اتباع دعاة الحق كالرسل، وتخلق بأخلاق العالم العلوي صعد إلى عليين وما أدراك ما عليون، وفضل العالمين لقهره نفسه وغريزتها الشهوانية، ونصره بسبب جهاده على أعدى عدوه وأشده مكرا وهو الشيطان الرجيم، والسلامة من حبائل الدنيا وزخارفها المشبوهة، وإن نزل بنفسه إلى الانغماس في شهواته بلا حد ومارس أصناف الرذائل وحط نفسه فانحط إلى همزات الشياطين ونزوات الحمر وسفاسف الأمور، وأوحال المآثم وظلمات المظالم، سقط إلى سجين وما أدراك ما سجين، وسفل عن مرتبة ذوات الحوافر فضلا وقيمة وحالا ومآلا.
كالعير ليس له بشيء همة ... إلا اقتضام القضب حول المذوذ
وقال آخر:
وإنك إن أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك نال منتهى الذم أجمعا
3 - عالم سفلي: - ويسمى بالحيوان النامي والمدرك، ويفارق العالم العلوي في جميع مواصفاته المذكورة، فهو حيوان شهواني وغير عاقل ليست فيه أهلية التكليف ولا أهلية العلم ولا الملك ولا التملك ولا غير ذلك، وهذا النوع كالأسد والجمل فدونك أيها الإنسان سعادة أو شقاء، وعلوا أو هبوطا، وعزا أو ذلة، فإذا فهمت هذه المقدمة علمت أن الله تبارك وتعالى حرم على الإنسان الخبائث، ومن أخبثها فاحشة الزنا وجعل عليه عقوبة لم(23/138)
يجعلها على جريمة، وهي الرمي بالحجارة للزاني المحصن مثلا حتى تسيل روحه نفسا نفسا بحضرة ذويه وغيرهم.(23/139)
الأدلة من الكتاب: -
قال تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (1) كما حكم بالمكافأة بين الزنا والشرك.
قال تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (2) .
قال الإمام الفخر الرازي: " من أحسن ما قيل في تفسير هذه الآية أن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا والفسق لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء، وإنما يرغب في فاسقة مثله أو في مشركة، والفاسقة الخبيثة لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها، وإنما يرغب فيها من هو من جنسها من الفسقة والمشركين " (3) .
ويشهد لذلك قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} (4) .
وفي الزنا إماتة روح الإيمان قال صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن (5) » ولا يقبل فاحشة الزنا ذو عقل وافر وهمة عالية، ففي مختصر الفتاوى المصرية لشيخ الإسلام ابن تيمية: -
__________
(1) سورة النور الآية 2
(2) سورة النور الآية 3
(3) التفسير الكبير للإمام الرازي جـ 23 ص 150.
(4) سورة النور الآية 26
(5) متفق عليه.(23/139)
(أن أكثر العقلاء لا يسرقون ولا يزنون حتى في جاهليتهم وكفرهم، فإن أبا بكر رضي الله عنه وغيره قبل الإسلام ما كانوا يرضون أن يفعلوا مثل هذه الأعمال، «ولما بايع النبي صلى الله عليه وسلم هند ابنة عتبة بن ربيعة بيعة النساء، على ألا يسرقن، ولا يزنين قالت هند: أو تزني الحرة؟» ، فما كانوا يعرفون ذلك إلا للإماء) (1) .
ومن ذلك ما وقع لعبد الله بن عبد المطلب، والد النبي صلى الله عليه وسلم، حين دعته امرأة وراودته عن نفسه وفرضت له مالا، قال: -
أما الحرام فالممات دونه ... والحل لا حل فاستبينه
يحمي الكريم عرضه ودينه ... فكيف بالأمر الذي تبغينه
ثم إن فاحشة الزنا حرام بقواطع الأدلة الثلاثة: محكم القرآن، وصحيح السنة، وإجماع الأمة، فالله تبارك وتعالى حرم الزنا، وسماه فاحشة في غير ما آية، وجعله من السبع الموبقات.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (2) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (3) {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (4) .
وقال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (5) .
وقال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} (6) .
__________
(1) مختصر الفتاوى المصرية ص 108.
(2) سورة الفرقان الآية 68
(3) سورة الفرقان الآية 69
(4) سورة الفرقان الآية 70
(5) سورة الأنعام الآية 151
(6) سورة الإسراء الآية 32(23/140)
وقال تعالى في نكاح الولد زوجة أبيه، وهو من أقبح الزنى: -
{إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} (1) فانظر وصفه تعالى فاحشة الزنى بكونها فاحشة ومقتا وسوء سبيل، واعلم أن مراتب القبح ثلاثة: عقلي، وشرعي، وعادي.
فقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} (2) إشارة للقبح العقلي.
وقوله تعالى: ومقتا إشارة للقبح الشرعي.
وقوله تعالى: {وَسَاءَ سَبِيلًا} (3) إشارة للقبح العادي، ومن جمع هذه الوجوه الثلاثة فقد بلغ الغاية في القبح.
__________
(1) سورة النساء الآية 22
(2) سورة النساء الآية 22
(3) سورة النساء الآية 22(23/141)
أدلة السنة على تحريم الزنا:
قوله صلى الله عليه وسلم: - «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة (1) » وأخرج الشيخان أيضا، في التفسير والأدب والتوحيد والديات والمحاربين، ومسلم في الإيمان، والترمذي، والنسائي، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قلت: إن ذلك لعظيم. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك؟ قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك (2) » .
الحليلة: الزوجة:
وأخرج مسلم وأحمد والنسائي: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه الشيخان والترمذي والنسائي.(23/141)
يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر (1) » والعائل: الفقير.
__________
(1) رواه مسلم وأحمد والنسائي.(23/142)
دليل الإجماع: -
قد انعقد الإجماع على تحريم الزنا (1) .
وبعد ثبوت تحريم الزنا بالكتاب والسنة والإجماع صح وثبت أنه من الضروريات التي أجمعت الملل من عهد آدم عليه السلام إلى يومنا هذا على تحريمها، والضروريات عند الأصوليين ما كان حفظهما سببا للسلامة من هلاك البدن أو الدين.
والضروريات مقدمة على الحاجيات ومكارم الأخلاق عند التعارض، وهذه الضروريات هي أصول المصالح وهي المرتبات كما يلي: - الدين، ثم النفس، ثم العقل، ثم النسب، ثم المال، ثم العرض.
الدين: ولأجل حفظه شرع الجهاد وقتل المرتد إن لم يتب.
النفس: ولأجل حفظها شرع حد القصاص.
العقل: ولأجل حفظه شرع حد الخمر وحرم كل مسكر.
النسب: ولأجل حفظه شرع حد الزنا بأفظع عقوبة، وهي الرجم للمحصن كما تقدم.
المال: ولأجل حفظه شرع حد السرقة وحد قاطع الطريق.
العرض: بكسر العين، موضع المدح والذم من الإنسان، ولأجل حفظه شرع حد القذف.
__________
(1) إجماعات ابن المنذر ص 69 مسألة 630.(23/142)
قال في مراقي السعود: -
ثم المناسب عنيت الحكمه ... منه ضروري وجا تتمه
بينهما ما ينتمي للحاج ... وقدم القوي في الرواجي
دين فنفس ثم عقل نسب ... مال إلى ضرورة تنتسب
ورتبن ولتعطفن مساويا ... عرضا على المال تكن موافيا
فحفظها حتم على الإنسان ... في كل شرعة من الأديان(23/143)
ودونك أيها الباحث نبذة من أضرار الزنا الدنيوية والأخروية بأدلتها.
1 - «الزنا يورث الفقر» .
حديث رواه البيهقي ومعناه مجرب، وإن قيل في الحديث ما قيل.
2 - عدم قبول وإجابة دعاء الزاني. روى أحمد والطبراني واللفظ له: «تفتح أبواب السماء نصف الليل، فينادي مناد: هل من داع فيستجاب له؟ هل من سائل فيعطى؟ هل من مكروب فيفرج عنه؟ فلا يبقى مسلم يدعو إلا استجاب الله عز وجل له، إلا زانية تسعى بفرجها أو عشارا (1) » .
3 - الزنا يجر إلى غيره من موبقات الكبائر بل ربما جر إلى الكفر، كما يحكى في تفسير قوله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (2) {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} (3) .
فقد قيل في قصة المشبه به: أن راهبا يسمى برصيصا عبد الله ستين
__________
(1) رواه أحمد والطبراني.
(2) سورة الحشر الآية 16
(3) سورة الحشر الآية 17(23/143)
سنة، وأن الشيطان أراده فأعياه، فعمد إلى امرأة فأجنها ولها إخوة، فقال لإخوتها: عليكم بهذا القس فيداويها. قال: فجاءوا بها إليه فداواها وكانت عنده، فبينما هو يوما عندها إذ أعجبته فأتاها فحملت، فعمد إليها فقتلها، فجاء إخوتها فطلبوه، فقال الشيطان للراهب: أنا صاحبك إنك أعييتني أنا صنعت هذا بك، فأطعني أنجك مما صنعت بك فاسجد لي سجدة، فلما سجد له قال: إني بريء منك، إني أخاف الله. روى هذه القصة ابن جرير بسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (1) .
وكذا روي عن ابن عباس وطاوس ومقاتل.
فانظر كيف جرت صغيرة النظر ونحوه إلى فاحشة الزنا، ثم إلى جريمة القتل ظلما وعدوانا، ثم إلى الكفر والعياذ بالله المفضي إلى السجود لغير الله تعالى.
وانظر أيضا معتبرا مخالفة قصة هذا العاصي لقصة جريج الصادق في خشية الله تعالى وتقواه.
فإن جريجا اتهمته امرأة بغي حامل، اتهمته بحملها وادعت أن حملها منه، ورفعت أمرها إلى ولي الأمر، فأمر به وأنزل من صومعته، وخربت صومعته، وهو يقول: مالكم؟ مالكم؟ قالوا: يا عدو الله فعلت بهذه المرأة كذا وكذا. فقال جريج: اصبروا. ثم أخذ ابنها وهو صغير جدا، ثم قال: يا غلام من أبوك؟ قال: أبي الراعي. وكانت قد أمكنت الراعي من نفسها فحملت منه، فلما رأى بنو إسرائيل ذلك - أي براءته وخرق العادة له - عظموه كلهم تعظيما بليغا، إلى آخر القصة (2) .
4 - نزع الإيمان من مرتكبه، فقد أخرج الحاكم: «من زنا أو شرب
__________
(1) تفسير الآيتين 16، 17 من سورة الحشر لابن جرير الطبري.
(2) تفسير ابن كثير الجزء الرابع تفسير سورة الحشر آية 16، 17.(23/144)
الخمر نزع الله منه إيمانه كما يخلع الإنسان القميص من رأسه (1) » .
5 - ومنها أن الزاني لا يدخل الجنة، فقد أخرج الطبراني من رواية الصباح بن خالد، عن نافع، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة مسكين مستكبر، ولا شيخ زان، ولا منان على الله بعمله (2) » .
ومن المعلوم أن من تاب صدقا فقبل الله توبته لا يدخل في هذا العموم.
6 - لعن الزاني من السماوات السبع والأرضين السبع، فقد روى البزار «أن السماوات السبع والأرضين السبع، ليلعن الشيخ الزاني، وأن فروج الزناة ليؤذي أهل النار نتن ريحها (3) » .
تشبيه المقيم على الزنا بعابد وثن، فقد روى الخرائطي وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المقيم على الزنا كعابد وثن (4) »
أنه سبب لعموم العذاب: -
فقد أخرج أحمد بسند حسن: «لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم الزنا فإذا فشى فيهم الزنا فأوشك أن يعمهم الله بعذاب (5) » .
9 - الزانية ليست من الله في شيء: -
فقد روى أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه «سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين نزلت آية الملاعنة: -
__________
(1) أخرجه الحاكم في مستدركه.
(2) رواه الطبراني.
(3) رواه البزار عن بريدة.
(4) رواه الخرائطي في مساوئ الأخلاق.
(5) رواه أحمد.(23/145)
أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته (1) » .
10 - تقييض الله لمريدي الزنا ثعبانا يوم القيامة: -
فقد روى الطبراني في الأوسط والكبير: «من قعد على فراش مغيبة قيض الله له ثعبانا يوم القيامة (2) » .
11 - أخذ حسنات الزاني في بعض الحالات يوم القيامة: -
فقد أخرج مسلم والنسائي: «حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم، ما من رجل من القاعدين يخلف رجلا من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم إلا وقف له يوم القيامة فيأخذ من حسناته ما شاء حتى يرضى، ثم التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: فما ظنكم؟ (3) » وزاد أبو داود: «إلا نصب له يوم القيامة، فقيل: هذا خلفك في أهلك فخذ من حسناته (4) » ، رواه النسائي وزاد: «أترونه يدع له من حسناته شيئا؟ (5) » .
12 - حجب الزاني عن وجه ربه تعالى فقد جاء في العشر الآيات التي كتبها الله لموسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام: لا تسرق ولا تزن فأحجب وجهي عنك.
13 - في الزنا ست خصال: ثلاث في الدنيا، وثلاث في الآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الناس اتقوا الزنا؛ فإن فيه ست خصال ثلاث في الدنيا، وثلاث في الآخرة
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي وابن حبان.
(2) رواه الطبراني في الكبير والأوسط.
(3) رواه مسلم والنسائي.
(4) رواه أبو داود.
(5) رواه النسائي.(23/146)
أما التي في الدنيا: فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر، وأما التي في الآخرة: فسخط الله وسوء الحساب وعذاب النار (1) » أخرجه ابن حجر الهيثمي معلقا بصيغة قال صلى الله عليه وسلم، وهذا النوع في حكم الصحيح عند المحدثين.
14 - ثقله في كفة السيئات، فقد أخرج ابن حبان في صحيحه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: «تعبد عابد من بني إسرائيل فعبد الله في صومعته ستين عاما، فأمطرت الأرض فاخضرت، فأشرف الراهب من صومعته، فقال: لو نزلت فذكرت الله فازددت خيرا، فنزل ومعه رغيف أو رغيفان، فبينما هو في الأرض لقيته امرأة فلم يزل يكلمها وتكلمه حتى غشيها، ثم أغمي عليه فنزل الغدير؛ ليستحم فجاء سائل فأومأ إليه أن يأخذ الرغيفين، ثم مات، فوزنت عبادته ستين سنة بتلك الزنية فرجحت الزنية بحسناته، ثم وضع الرغيف أو الرغيفان مع حسناته، فرجحت حسناته فغفر الله له (2) » .
وهذه اللمحة من أضرار الزنا تكفي العاقل وإلا فأضراره الدنيوية والأخروية تستوعب مئات الصفحات.
واعلم أن من الزنا ما هو مقصور على بعض الأعضاء، فالنظر بالشهوة إلى المرأة والأمرد زنا كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «زنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، وزنا اليد البطش، وزنا الرجل الخطى، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه (3) » .
ومن الزنا فاحشة قوم لوط، بل هي أقبح من كل قبيح وأخبث من كل خبيث، وقد سماها الله تعالى منكرا وفاحشة وجعلها من الخبائث ومن الفسوق، ووصف مرتكبيها بأنهم قوم سوء.
__________
(1) رواه ابن الجوزي والبيهقي.
(2) رواه ابن حبان.
(3) صحيح البخاري القدر (6612) ، صحيح مسلم القدر (2657) ، سنن أبو داود النكاح (2152) ، مسند أحمد بن حنبل (2/536) .(23/147)
قال تعالى: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} (1) وقال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} (2) .
وأخرج الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم «ما نقض قوم العهد إلا كان القتل بينهم، ولا ظهرت الفاحشة في قوم إلا سلط الله عليهم الموت ولا منع قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر (3) » وروى ابن ماجه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: -
قال: «أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر المهاجرين خمس خصال إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشى فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا (4) » . . الخ الحديث المعروف.
وروى الطبراني: «إذا ظلم أهل الذمة كانت الدولة دولة العدو، وإذا كثر الزنا كثر السباء، وإذا كثرت اللوطية رفع الله عز وجل عن الخلق يده فلا يبالي في أي واد هلكوا (5) » .
وروى الطبراني أيضا والبيهقي: «أربعة يصبحون في غضب الله تعالى ويمسون في سخط الله. قلت: من هم يا رسول الله؟ قال: المتشبهون من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال، والذي يأتي البهيمة، والذي يأتي الرجال (6) » .
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 29
(2) سورة الأنبياء الآية 74
(3) رواه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم.
(4) رواه ابن ماجه.
(5) رواه الطبراني.
(6) رواه الطبراني والبيهقي.(23/148)
وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي بسند صحيح لكن أنكر على بعض رواة هذا الحديث:.
«من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به (1) » .
وروى الترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه: «لا ينظر الله عز وجل إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في دبرها (2) » .
من مراجع هذه الأحاديث كتاب الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن عباس أحمد بن محمد بن حجر المكي الهيثمي الجزء الثاني من صفحة 129 حتى 143.
وكتاب المواهب اللدنية شرح الأربعين النووية الحديث الرابع عشر الذي هو «لا يحل دم امريء مسلم (3) » . . . إلى آخر الحديث.
وكتاب المجالس السنية على الأربعين النووية الحديث المذكور وغيرها.
ومن الكبائر: مساحقة النساء وهو أن تفعل المرأة في المرأة مثل صورة ما يفعل بها الرجل. ومنها وطء الزوجة الحائض.
واعلم وفقنا الله وإياك أن كل من طلب تلذذا غريزيا من غير زوجته أو أمته المستوفيتين شروط الإباحة فهو من العاصين المتعدين حدود الله العادين، أي المجاوزين إلى ما لا يحق لهم.
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي.
(2) رواه الترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه.
(3) صحيح البخاري الديات (6878) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1676) ، سنن الترمذي الديات (1402) ، سنن النسائي تحريم الدم (4016) ، سنن أبو داود الحدود (4352) ، سنن ابن ماجه الحدود (2534) ، مسند أحمد بن حنبل (6/181) ، سنن الدارمي الحدود (2298) .(23/149)
وذلك كالاستمناء باليد، والتلذذ بالأمرد، وإتيان البهيمة، ونكاح المتعة، وغير ذلك.
فالقرآن الكريم يقول: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (1) {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (2) {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (3) .
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 5
(2) سورة المؤمنون الآية 6
(3) سورة المؤمنون الآية 7(23/150)
أما أضرار الزنا الصحية، حسب العلم الحديث فيقول الدكتور الفرنسي عبد المعطي - الذي أسلم حديثا وكان قبل إسلامه طبيبا وقرأ القرآن فوجد فيه عجائب طبية فأسلم.
يقول هذا الطبيب: وحسب الإنسان أن يعلم أن الزنا ينشر أمراضا خطيرة فتاكة كالزهري والسيلان والقرحة الرحوة والقرحة الأكالة.
كل واحدة منها أخطر من غيرها. ويعتقد أن الزهري أخطرها لأنه يقود إلى الشلل، وتصلب الشرايين، والذبحة الصدرية وسقوط الشعر، وفي المرأة الإجهاض، وفي الجنين البله، والضمور العضلي والوراثي، والسيلان، ويؤدي إلى العقم والتهاب الجهاز التناسلي بأجمعه والعمى وروماتزم الشبان (1) .
ونعرض هنا بالتفصيل لبعض الأمراض الناشئة عن انتشار الزنى، ونترك الباقي مقيسا عليها.
أولا: الزهري: - وهو خطير جدا ومعد، وأعراض المرض الأولى تتمثل في قرحة صلبة تكون على الأعضاء التناسلية بعد ثلاثة أسابيع من الإصابة بهذا المرض، وفي مواضع أخرى كالشفة مثلا عقب القبلة وبين الحاجبين وثقب الأنف وفتحة الأذن، ثم يوسع المكروب نطاق هجومه
__________
(1) المصدر التعليق على الطب من الكتاب والسنة.(23/150)
حيث يهاجم القلب والكلى والكبد، فتظهر بقع وردية في أجزاء الجسم وترى بالعين المجردة، وقد تحدث بقع خضر في اللثة والحلق ويصعب المضغ على المصاب.
كما يسبب هذا المرض أمراضا أخرى مثل القرحة الأكالة التي تشوه الجلد وتسبب الشلل والجنون والصرع، وقد يهاجم المكروب العظام وينخر فيها كالسوس ويصيب تارة بالعمى والصمم إذا هاجم الأعين والآذان ويصيب بالذبحة الصدرية إذا هاجم الشرايين والأوردة.
وفي اتصال المريض بزوجته أو غيرها ينقل إليها العدوى ذاتها ويصيبها بإجهاض، أو تكون ذريتها مشوهة وغبية ومنحرفة كأنها لم تولد إلا لإعمار السجون والمستشفيات العقلية والإصلاحيات.
وأخطر من هذا أن الأعراض للمرحلة الثالثة تجيء بدرجات متفاوتة بعد الثانية بأشهر أو سنين ربما وصلت على عشرين سنة.
2 - السيلان وسببه مكروب اسمه (الجنوكوكس) وهو غير وراثي، ولا يصيب إلا الأعضاء التناسلية والمجاري البولية.
وأول شيء يشعر به المريض حرقان في مجرى البول ولا سيما عند التبول، ويزداد الحرقان ويبدأ معه نزول مادة لازجة تتحول بسرعة إلى صديد غزير، ثم يتورم العضو ويلتهب، ويحس المريض بهبوط سريع لصحته العمومية، وترتفع حرارته ويحصل عنده إمساك ويلازم الفراش وينقطع عن العمل تماما.
ثم يزداد المرض شيئا فشيئا ويحس المريض بألم في أسفل البطن، ويكون بوله صديدا تقريبا ويصعب الشفاء جدا.
ثم يمتد في المثانة إلى الحالبين والكلى، ومن خلال الكلى قد يحدث تسمم عام بالجسم، وإذا أزمن هذا المرض تصلبت المفاصل بالروماتزم السيلانية، وقد تصل جراثيم السيلان إلى القلب، وتهاجمه فيموت المصاب، وقد تصيب هذه الجرثومة العين إما عن طريق يد المريض الملوثة أو(23/151)
عن طريق ولادة الطفل إذا كانت أمه مصابة فإنه يأخذ الجرثومة عند ولادته.
لذا فإنه مسبب لنسبة لا يستهان بها من العمى، وعند النساء يصيب الرحم والمبيضين وينشأ عنه العقم والالتهابات التي لا نهاية لها.
3 - الهربس وسببه فيروس يصيب الأجهزة التناسلية، ويستطيع إدخال جيناته الخاصة إلى خلايا الجسم، وتبقى خاملة؛ لأن الجسم أقوى منها، ولكن عند حدوث توتر أو إجهاد للجسم يتحول إلى الطور النشط، ويبدأ بالانقسامات مسببا الفقاقيع والنقط الجسدية، وقد تعود هذه الحالة كل أسبوعين مرة، في بعض الحالات المرضية، وهذا المرض غامض جدا، ولا يمكن الشفاء منه تماما، وإذا شفي المريض منه فإنه شفاء مؤقت، وخطير على النساء إذ يسبب سرطان المهبل.
أما أسباب هذا المرض فتعزى إلى انتشار الفاحشة والإباحية الجنسية والممارسات غير الشرعية، وينتقل الفيروس عقب الاتصال الجنسي المباشر، وهذه الوسيلة العادية لنقله، وقد يصيب بسبب استخدام أدوات المصاب، ومن خطورة هذا المرض أنه ليس له دواء شاف تماما، لذا فاحتمال العدوى به مستمر، وأول ما ظهر هذا المرض ظهر في الولايات المتحدة الأمريكية، وبدأت تصدره للعالم عبر الطلاب والسياح، وعملت شركات الأدوية كثيرا من المحاولات لإنشاء دواء لهذا المرض لكن بدون جدوى حتى الآن.
وهناك دواء يعمل على تطوره يكلف سنويا مليونا ونصف مليون دولار وليس هناك ضمان لنجاحه مع ذلك، وقد أصيب الشارع الأمريكي بالهلع عندما نشرت بعض التحقيقات الرسمية أن 20 مليون أمريكي يحملون فيروسات هذا المرض وأن المصابين به يزدادون سنويا بمعدل مائة ألف.
واللواط ملحق بالزنا وله ما لا يحصى من الأضرار؛ لأن الجهاز التناسلي خلق خاليا من الجراثيم عادة وخلق للاتصال بجهاز مثله خال منها أيضا، ولم يخلق للاتصال بنهاية الأمعاء الغليظة التي تخرج منها الفضلات وتحمل(23/152)
الجراثيم الضارة، ومن المعلوم أن الجهاز التناسلي يرتبط بإفرازات الغدة النخامية التي تتحكم بنشاط أجهزة الجسم المختلفة.
فإذا اتصل الجهاز التناسلي مع الجراثيم التي في الفضلات تدخل هذه الجراثيم في الجهاز الذي ليست له مناعة كافية للقضاء عليها؛ لأنه لم يخلق للاتصال بها، فتنتشر في الجسم عن طريقه إلى الغدد النخامية ويتلف الجسم.
أما المفعول به فتتمزق وتتلف أنسجته، ويفقد السيطرة على البراز فيخرج منه دون إرادته.
إن أصحاب اللواط معرضون أكثر من غيرهم للإصابة بالأمراض العصبية والنفسية واختلال التوازن العقلي نتيجة قلة الإفرازات الداخلية التي تفرزها الغدة الدرقية ومن أمراضه المرض الذي لم يعرف في تاريخ الإنسانية قبل 1981 ميلادية وهو الإيدز الذي ظهر في أمريكا في هذه السنة، ثم صدرته للخارج ولا زال مشكلة طبية عظمى تتحدى العلم؛ لأن سببه غامض حتى الآن.
أما السبب كما قلنا آنفا فليس فيه إلا النظريات التي لم تثبت بعد ولا حاجة لنا بها إذن، والمعروف عنه أنه ينتقل بواسطة الدم والسائل المنوي للشاذين جنسيا.
وقد أصاب كثيرا من الأميركيين وأثار الرعب فيهم وأخرج فروعا إلى الخارج وأول دولة استقبلته بعد أمريكا هي إسرائيل.
وعرف أن المصاب به لا يفارقه حتى يقتله وبسرعة وإن لم يقتله بسرعة يجعله بدون فائدة على المجتمع، وقد قدر في أحسن حالاته أنه يقتل سنويا من(23/153)
المصابين به 80% والعشرين الباقية تلحق بهم قريبا، إلا أنها يمكن أن تتأخر عن نفس السنة التي أصابهم فيها.
وقد حدثت أزمة كبيرة في بنوك الدم بعد اكتشاف هذا المرض لخوف الناس منه وقل المتبرعون بالدم، وفرضت الدول الأوروبية حصارا على الدم المستورد من أمريكا حيث نصح المجلس الأعلى الأوروبي بعدم اعتماده.
وقد اكتشف أخيرا أن المرض ينتقل أيضا عن طريق القبلة أو مجرد اللمس العادي للمريض.
والناس الآن يخافون منه أكثر من السلاح النووي؛ لأن النووي بأيديهم وله علاجات عديدة.
والإيدز ليس بأيديهم وليس له علاجات بل ولا علاج واحد، وهو سريع الانتشار مع ذلك.
والتفسير لكلمة الإيدز باللغة العربية هو فقد المناعة المكتسبة (1) .
__________
(1) راجع كتاب الإسلام والجنس للشيخ عبد الله ناصح علوان.(23/154)
خاتمة وذكرى: -
في ذكر منتهى المطاف لمن جاهد نفسه وتحصن بلباس التقوى توازنا، مع ما تقدم من أنواع الهوان وسوء العاقبة لمن أتبع نفسه هواها وخلع جلباب الحياء، قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} (1) . وقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) . وقال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (3) {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} (4) .
__________
(1) سورة الأعلى الآية 9
(2) سورة الذاريات الآية 55
(3) سورة الحجر الآية 49
(4) سورة الحجر الآية 50(23/154)
وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} (1) {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (2) {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} (3) {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} (4) {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (5) .
وقال صلى الله عليه وسلم: من السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله: «رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله (6) » .
وأخرج الترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه عن ابن عمر رضي الله عنهما: -
قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين حتى عدد سبع مرات، ولكن سمعته أكثر من ذلك: -
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كان الكفل من بني إسرائيل، وكان لا يتورع عن ذنب عمله، فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت، فقال: ما يبكيك؟ أأكرهتك؟ قالت: لا، ولكنه عمل ما عملته قط، وما حملني عليه إلا الحاجة. فقال: تفعلين أنت هذا من مخافة الله، فأنا أحرى، اذهبي فلك ما أعطيتك والله لا أعصيه بعدها أبدا. فمات من ليلته، فأصبح مكتوبا على بابه إن الله قد غفر للكفل، فعجب الناس من ذلك (8) » .
وكحديث أصحاب الصخرة الثلاثة المتفق عليه، الذين توسلوا إلى الله تبارك وتعالى بأعمالهم الصالحة ففرج الله عنهم، ومن بين الثلاثة من قال في دعائه: «اللهم إنه كانت لي ابنة عم، وكانت أحب الناس إلي، فراودتها
__________
(1) سورة النازعات الآية 37
(2) سورة النازعات الآية 38
(3) سورة النازعات الآية 39
(4) سورة النازعات الآية 40
(5) سورة النازعات الآية 41
(6) متفق عليه.
(7) رواه الترمذي وحسنه ابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه.
(8) الجواب: لما حدثتكم به. (7)(23/155)
عن نفسها فامتنعت، حتى ألمت بها سنة من السنين: أي نزل بها حاجة وفقر لشدة القحط، فجاءتني فأعطيتها مائة وعشرين دينارا على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم - أي تطأني - إلا بحقه - أي بالنكاح - فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، فتركت لها الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة (1) » .
وكم من آية كريمة، وحديث شريف، وقصة صحيحة، ومثل سائر، وبيت حكيم، في بيان الفرق بين المطيع والعاصي، وبين المتقي والفاسق، ولكن القلوب في هذه العصور كما قال تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (2) وكما قال: {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) .
ومن كلام الحكماء قول الشاعر:
إن الهوى لهو الهوان بعينه ... فإذا هويت فقد لقيت هوانا
وقال آخر: -
وليس الهوى إلا الهوان المرخم
وقال ابن دريد: -
وآفة العقل الهوى فمن علا ... على هواه عقله فقد نجا
وقال أيضا: -
والحمد خير ما اتخذت عدة ... وأنفس الأذخار من بعد التقى
وقال الأخطل:
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخرا يكون كصالح الأعمال
__________
(1) متفق عليه.
(2) سورة البقرة الآية 74
(3) سورة الأنعام الآية 43(23/156)
وقال لبيد بن ربيعة رضي الله عنه:
رأيت التقى والجود خير تجارة ... وذخرا إذا ما المرء أصبح ناقلا
وقال الحطيئة:
وتقوى الله خير الزاد ذخرا ... وعند الله للأتقى مزيد
والله ولي التوفيق، وقال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} (1) ، وقد قلت مضمنا في بيتي الحطيئة المشهورين: -
وكم أبدى لسان الحال يأسا ... من الذكرى بمختلف البلاد
وأنشد من يروم الوعظ جهرا ... بكل مجمع وبكل ناد
ونارا لو نفخت بها أضاءت ... ولكن أنت تنفخ في رماد
لقد اسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تناد
وفي النهاية يقول الله تعالى: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) .
وقال تعالى: {بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} (3) .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
عبد الله بن محمد بن إسحاق آل الشيخ
__________
(1) سورة الكهف الآية 17
(2) سورة إبراهيم الآية 52
(3) سورة الأحقاف الآية 35(23/157)
صفحة فارغة(23/158)
كتاب
تسلية نفوس النساء والرجال
عند فقد الأطفال
الحافظ عبد الرحمن بن رجب
736 - 795 هـ
بتحقيق الوليد بن عبد الرحمن الفريان
مقدمة: -
يقول الله تبارك وتعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (1) .
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو سعيد الخدري وأبو هريرة رضي الله عنهما: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه (2) » ، وفي حديث آخر من رواية صهيب رضي الله عنه قال: «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له (3) » .
الصبر في قمة الأعمال الصالحة التي وعد الله عليها بالثواب الوافر {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} (4) .
__________
(1) سورة التغابن الآية 11
(2) أخرجه البخاري في الصحيح 10 \ 91 (فتح) واللفظ له، ومسلم في الصحيح 16 \ 13 (نووي) .
(3) أخرجه مسلم في الصحيح 18 \ 125 (نووي) وأحمد في المسند 6 \ 16.
(4) سورة الفرقان الآية 75(23/159)
{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (1) . {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} (2) وأصبر الناس على بلاء الله هم الأنبياء {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (3) .
لأنه في مواقف الضيق والحرج يمتحن الإيمان، وتظهر للناس خبيئته، حيث تتجرع النفس مرارة الألم، وتعبس الدنيا ويكفهر وجهها. هناك تتجلى قيمة الصبر وفضائله، متى استطاع الإنسان بعزيمته الصادقة وتسليمه بقضاء الله، أن يكبح جماح نفسه الشموس، ويأخذ بمجامعها إلى الجادة، فإذا ذاقت حلاوة الصبر وبرد الإيمان، هجعت واطمأنت، وذهب عنها وهج الحزن وكدره، حتى ترجع أصلب ما تكون عودا، وأقوى في مصاولة خطوب الدنيا ونكساتها.
وبهذا الدرع الفريد، يتجاوز المسلم أزماته؛ ليحمل مشعل الحياة الكريمة في دروب الأرض وفجاجها الواسعة، ويقوم بالمهمة التي خلق من أجلها، وليكمل مسيرة الخير تحت راية التوحيد الخالدة، فتتحول المنغصات الخانقة، إلى محرك نشط يدفع بالأمة إلى واجهة التاريخ، ويصقل بخشونته النفوس فتعود أكثر تألقا؛ لتعيش هنيئة راغدة في ظل دوحة الإسلام الوارفة، تتفيا ظلالها وتتقلب في خيراتها.
__________
(1) سورة يوسف الآية 90
(2) سورة الإنسان الآية 12
(3) سورة الأحقاف الآية 35(23/160)
موضوع الكتاب:
غرس الله في قلوب الآباء محبة الأولاد والشغف بهم، فلا تكاد تجد أبا أو أما إلا وهو متعلق بأولاده، كلف بهم، مهما بلغ جفاء قبله وخشونة أخلاقه، وقد أشار إلى ذلك المولى جل وعلا في كتابه الكريم بقوله:(23/160)
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} (1) وقوله: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (2) .
وقال مذكرا خلقه بهذه النعمة وممتنا عليهم بها: {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} (3) . وقال: {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ} (4) . وقال: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} (5) .
حتى بلغت الشفقة بالآباء أن ذهب يعقوب عليه السلام يوصي أولاده بقوله: {يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} (6) . مع أنه {مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} (7) .
وذهب نوح عليه السلام يدعو ابنه إلى الركوب معه في السفينة فقال: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} (8) .
ثم سأل الله تعالى أن يرده إليه: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} (9) .
وابتلى الله إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه ووحيده إسماعيل عليه السلام {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} (10) ؛ ليمتحن صبره وجلده على
__________
(1) سورة آل عمران الآية 14
(2) سورة الكهف الآية 46
(3) سورة الإسراء الآية 6
(4) سورة الشعراء الآية 133
(5) سورة نوح الآية 12
(6) سورة يوسف الآية 67
(7) سورة يوسف الآية 68
(8) سورة هود الآية 42
(9) سورة هود الآية 45
(10) سورة الصافات الآية 102(23/161)
أقدار الله فكان من الصابرين المتحسبين، وقد وصف الله ذلك بأنه بلاء مبين {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} (1) .
من هذا نلمح مدى ما يتمتع به الأولاد من مكانة عالية في نفوس أهليهم، ولذلك فالابتلاء فيهم له وقع شديد على النفوس، وأثر لا تمحوه الأيام، إلا من تذرع بالصبر، وفوض أمره إلى الله كما قال يعقوب عليه السلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} (2) .
وإفراد هذا الموضوع الإنساني بالبحث لفتة بارعة من أبي الفرج تفيض بالحس الرفيع والروح الشفافة.
__________
(1) سورة الصافات الآية 106
(2) سورة يوسف الآية 86(23/162)
المؤلف: -
هو العلامة الحافظ المفسر الفقيه الأصولي الواعظ أبو الفرج زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسين السلامي البغدادي ثم الدمشقي، المعروف بابن رجب الحنبلي ولد ببغداد سنة 736 هـ وتوفي سنة 795 هـ.
والحديث عن أخلاقه ومناقبه وخلاله الجمة، لا تكاد تفي به الصفحات الطوال، وأظن أن أصدق وصف له ما قاله العليمي: اجتمعت الفرق عليه ومالت القلوب بالمحبة إليه (1) .
أما عبادته وزهده وورعه فحدث ولا حرج، يقول الحافظ ابن حجر: كان
__________
(1) المنهج الأحمد ق \ 470.(23/162)
رحمه الله عبادة وتهجد منجمعا عن الناس لا يخالطهم، ولا يتودد إلى أحد من ذوي الولايات (1) .
ولو ذهبنا نستنطق التاريخ ونسأل صفحاته، لظفرنا بما ننوء بحمله ونعجز عن تسطيره. وحسبنا القول الذي ألقي على تراثه، والمحبة التي أشربت بها القلوب.
وهذه المنزلة المرموقة الشامخة لم يكن وصوله إليها ضربا من العبث ولم تأت عفوا، فدونها خرط القتاد، وإنما جاءت تتويجا لأعماله وجهوده ووعيه النادر؛ لأن التاريخ مرآة صادقة يعكس الواقع بتجرد، ويعطي كل ذي حق حقه من غير ادعاء أو تزييف.
فالتأريخ حكم فصل تسقط دونه جميع الأقنعة، وتنكشف أمامه مواطن الضعف ومسارب القصور.
وبالطبع فإننا نقصد به التأريخ الحقيقي - سواء كان منشورا أم لا - البعيد عن المؤثرات البيئية التي ربما كانت سببا في إخفائه أو تشويهه.
ابن رجب: أيها الرجل المعطاء لقد أنصفك التأريخ، وبوأك مكان الصدارة في عالم الفكر ودنيا الثقافة، فلله درك من عالم وهب نفسه لله وأتحف الناس بروائعه، التي لا زالت نبعا صافيا يردونه في كل حين.
__________
(1) إنباء الغمر بأخبار العمر 1 \ 795.(23/163)
الأصل المخطوط: -
وصلتنا صورته ضمن مجموعة خطية، عن أصل محفوظ في مكتبة فاتح تحت رقم 5318، ويقع في ست ورقات، نسخت سنة ثلاث وتسعين وثمان مائة كتبها عيسى بن علي الحوراني (1) ، بقلم نسخي جيد
__________
(1) لم أقف على ترجمته فيما بين يدي من المصادر.(23/163)
ومسطرتها 19 سطرا (ينظر الأنموذج) وسجل في أوله ما نصه: (يتلوه كتاب تسلية نفوس النساء والرجال عند فقد الأطفال. تأليف الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن الشيخ الإمام شهاب الدين أبي العباس الحنبلي الشهير بابن رجب رحمهما الله تعالى) (1) .
وقد حاولت الحصول على نسخ أخرى لأستفيد منها في التحقيق فلم أجد، ولعلي أن أعثر على ذلك في مستقبل الأيام.
__________
(1) سبق أن ذكرت وصفا موسعا للمجموع في العدد السادس عشر من المجلة.(23/164)
التوثيق: -
سلفت الإشارة إلى أن المجموع الذي يضم هذا الكتاب على درجة لا بأس بها من الصحة والإتقان.
وتداول العلماء له بالتملك والوقف، مع اشتماله على رسائل أخرى للمؤلف دليل آخر على صحة نسبة الكتاب إليه، وإذا ما أضفنا إلى ذلك التشابه في الأسلوب بينه وبين مؤلفاته المعروفة، فإننا نصل إلى القناعة بصدق هذه النسبة.
ولا يضر بعد ذلك إهمال المترجمين له في ثبت المؤلفات؛ لأنهم دأبوا على الاكتفاء بالمشتهر دون غيره.(23/164)
منهج التحقيق: -
حرصت على أن يخرج الكتاب كما وضعه مؤلفه. فلم أتصرف في النص إلا بقدر ما تقضي به الضرورة؛ من إضافة أو تعديل، فقمت به ونبهت عليه في موضعه، وعزوت الآيات الكريمة وخرجت الأحاديث الواردة - مع نقل ما قاله أهل العلم في شأن ثبوتها - والآثار التي أسعفتني المصادر(23/164)
بها، وترجمت لمن رأيت أنه بحاجة إلى التعريف به، وفسرت ما حسبته غامضا.
وبعد:
أرجو الله مخلصا أن أوفق إلى متابعة هذا الجهد المتواضع فيما يعود بالخير والنفع المتصل، فمنه نستمد العون ونستلهمه الرشد والسداد.
كتبه الوليد بن عبد الرحمن الفريان
19 \ 6 \ 1407 هـ
الوجه الأول من الورقة الأولى(23/165)
نص الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر يا كريم
الحمد لله رب العالمين، وصلواته وسلامه على سيدنا محمد، وآله وصحبه أجمعين وبعد: -
ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «قال النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوما من نفسك. فواعدهن يوما لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن، فكان فيما قال لهن: ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها، إلا كان لها حجابا من النار. فقالت امرأة: واثنين؟ قال: واثنين (1) » .
هذا يدل على أن مجالس النبي صلى الله عليه وسلم - للفقه في الدين والتذكير ونحو ذلك - لم يكن النساء يحضرنها مع الرجال، وإنما كن يشهدن الصلوات في مؤخر المساجد ليلا، ثم ينصرفن عاجلا، وكن يشهدن العيدين مع المسلمين منفردات عن الرجال من ورائهم، ولهذا «لما خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد رأى أنه لم يسمع النساء، فلما فرغ جاء ومعه بلال إلى
__________
(1) أخرجه البخاري (كتاب الجنائز) (باب فضل من مات له ولد فاحتسب) رقم 1249 (فتح) ، ومسلم في الصحيح (كتاب البر والصلة والآداب) (باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه) رقم 2633، وأحمد في المسند 3 \ 34، 72.(23/166)
النساء، فوعظهن وذكرهن وأمرهن بالصدقة، وأجلس الرجال حتى يفرغ من موعظة النساء (1) » .
وأصل هذا، أن اختلاط النساء بالرجال في المجالس بدعة كما قال الحسن البصري. فلذلك قال له النساء: يا رسول الله، غلبنا عليك الرجال.
وقد روي (182 \ ب) .
من حديث أبي هريرة، «أن النساء قلن: يا رسول الله، إنا لا نقدر على أن نجالسك في مجلسك فقد غلبنا عليها الرجال، فواعدنا موعدا نأتيك. قال: موعدكن بيت فلانة. فأتاهن فحدثهن (3) » .
وقد أمره الله تعالى أن يبلغ ما أنزل إليه: للرجال والنساء، وأن يعلمه الجميع، كما قال له: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (4) . الآية.
وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (5) الآية.
__________
(1) أخرجه البخاري في الصحيح (كتاب العيدين) (باب موعظة الإمام النساء يوم العيد) رقم 978 (فتح) ، ومسلم في الصحيح (كتاب صلاة العيدين) رقم 884، 885 والحميدي في مسنده 1 \ 224، 476، والبيهقي في السنن الكبرى 3 \ 296 والفريابي في أحكام العيدين \ 32.
(2) أخرجه أحمد في المسند 19 \ 138 (الفتح الرباني) ، والبخاري في الأدب رقم 148.
(3) في المسند: بيت فلان. (2)
(4) سورة الأحزاب الآية 59
(5) سورة النور الآية 31(23/167)
فامتثل ما أمره الله تعالى، ووعدهن مجلسا خاصا لهن، في بيت امرأة، ولعل تلك المرأة كانت من أزواجه أو محارمه - والله أعلم بحقيقة ذلك - ثم وفى بموعده لهن، فأتاهن في يوم موعدهن، فوعظهن وأمرهن ونهاهن ورغبهن ورهبهن، فكان من جملة ما بشرهن به أن قال لهن: «ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها لم يبلغوا الحنث إلا كان لها حجابا من النار. فقالت امرأة: واثنين؟ قال: واثنين (1) » . وليس في هذا حد سالم (2) .
وعمومه يدخل فيه من بلغ الحنث ومن لم يبلغه، والمصيبة بمن بلغ أعظم وأشق على النفوس.
والمصيبة بمن لم يبلغ أهون وأخف، وقد جاء تقييده في حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (183 \ أ) : «ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث، إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم (3) » . خرجاه في الصحيحين.
والمراد بالحنث الإثم (4) ، والمعنى أنه لم يجر عليه الإثم ببلوغه العمر الذي يكتب عليه الإثم فيه. وهو ببلوغ الحلم وعلل: بفضل رحمة الله إياهم. يعني أن الله يرحم أطفال المسلمين رحمة تامة، حتى تفضل عنهم، فيدخل آباؤهم في فضل تلك الرحمة. وهذا مما يستدل (به) (5) على أن أطفال المسلمين في الجنة.
__________
(1) أخرجه مسلم في الصحيح عن أبي هريرة رقم 2634 من غير تحديد لمكان الاجتماع.
(2) ما بين الحاصرتين علق في الهامش بخط باهت. وهذا ما استظهرته.
(3) البخاري في الصحيح رقم 1381 (فتح) ، وأحمد في المسند 3 \ 152، والنسائي في المجتبى 4 \ 24، وابن ماجه في السنن رقم 1605، وابن حبان في الصحيح رقم 721 (موارد) ولم يخرجه مسلم من حديث أنس.
(4) ينظر ابن حجر فتح الباري 3 \ 120.
(5) زيادة يقتضيها السياق.(23/168)
وقد قال الإمام أحمد (1) : ليس فيهم اختلاف أنهم في الجنة (2) - وضعف ما روي مما يخالف ذلك أيضا (3) - و (لا) (4) أحد يشك أنهم في الجنة (5) : قال: وإنما اختلفوا في أطفال المشركين (6) .
وقال أيضا: هو يرجى لأبويه فكيف يشك فيه (7) !! يعني أنه يرجى لأبويه دخول الجنة بسببه، فكيف يشك فيه!
ولذلك نص الشافعي (8) على أن أطفال المؤمنين في الجنة (9) ، وروي ذلك عن علي وابن مسعود وابن عباس وكعب.
وخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: أرواح ولدان المؤمنين في أجواف عصافير، تسرح في الجنة حيث شاءت، فتأوي إلى قناديل معلقة في العرش (10) . وخرج البيهقي من رواية ابن عباس عن كعب نحوه (11) .
وفي صحيح مسلم «عن أبي هريرة، أن رجلا قال له: مات لي ابنان
__________
(1) أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، ثقة حافظ فقيه حجة إمام ت 241. التقريب \ 84.
(2) نقله المؤلف من رواية جعفر بن محمد عنه. كتاب الأهوال \ 101.
(3) كتاب الأهوال \ 105.
(4) زيادة يقتضيها السياق.
(5) رواية الميموني عنه. كتاب الأهوال \ 101.
(6) كتاب الأهوال \ 104.
(7) نقله المؤلف عنه في كتاب الأهوال \ 106.
(8) أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المطلبي نزيل مصر. فقيه أصولي محدث ت 204 \ التقريب \ 467.
(9) ينظر المؤلف أهوال القبور \ 101.
(10) ورواه الثوري والأعمش عن أبي قيس عن هذيل من قوله. ذكرهما المؤلف في الأهوال عن ابن أبي حاتم \ 102.
(11) البعث والنشور رقم 206.
(12) الصحيح (كتاب البر والصلة والآداب) رقم 2635، وأخرجه أحمد في المسند 2 \ 477، 510.(23/169)
فما أنت محدثي عن رسول الله (183 \ ب) صلى الله عليه وسلم بحديث تطيب به أنفسنا عن موتانا. فقال: نعم، صغارهم دعاميص (2) الجنة» .
وخرج النسائي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهما الله بفضل رحمته إياهم الجنة. قال: يقال لهم: ادخلوا الجنة. فيقولون: حتى يدخل أبوانا. فيقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم (5) » .
وخرج الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث معاذ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، إن السقط ليجر أمه بسرره إلى الجنة، إذا احتسبته (6) » .
وخرج الإمام أحمد وابن ماجه أيضا من حديث عتبة بن عبد السلمي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء
__________
(1) هو أبو حسان كما في الصحيح. (12)
(2) (1) الجنة، يتلقى أحدهم أباه - أو قال: أبويه - فيأخذ بثوبه - أو قال: بيده - كما آخذ أنا بصنفة ثوبك، فلا يتناهى - أو قال: ينتهي - حتى يدخله الله وإياه في الصحيح: وأباه.
(3) المجتبى 4 \ 25 (مع السيوطي) ، وأخرجه أحمد في المسند 2 \ 510 والبيهقي في السنن 4 \ 68.
(4) في الأصل تعالى وهو تصحيف. (3)
(5) في المجتبى آباؤنا. (4)
(6) المسند 5 \ 241 والسنن رقم 1609 وأخرجه أيضا مسدد وعبد بن حميد في مسنديهما كما في مصباح الزجاجة 1 \ 533 والطبراني في الكبير كما في المجمع 3 \ 9.(23/170)
دخل (1) » .
وفي رواية للإمام أحمد، «أن الله تعالى يقول للوالدان يوم القيامة: ادخلوا الجنة. فيقولون: يا رب حتى يدخل آباؤنا وأمهاتنا. قال: فيأبون. فيقول الله عز وجل: مالي أراهم محبنطيين؟ (3) » . وروى الطبراني من حديث أنس نحوه وزاد (184 \ أ) فيه: «أن يقال لهم في المرة الرابعة: ادخلوا ووالديكم معكم، فيثب كل طفل إلى أبويه فيأخذون بأيديهم، فيدخلونهم الجنة. فهم أعرف بآبائهم وأمهاتهم يومئذ من أولادكم الذين في بيوتكم (4) » .
وخرج الإمام أحمد والنسائي من رواية قرة (5) «أن رجلا كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه ابن له. فقال له: أتحبه؟ قال: أحبك الله كما أحبه. فمات ففقده فسأل عنه، فقال: أما يسرك أن لا تأتي بابا من أبواب الجنة إلا وجدته عندها. يسعى ليفتح لك - زاد الإمام أحمد - فقال رجل: له خاصة أم لكلنا؟ قال: بل لكلكم (7) » .
وخرج الطبراني من حديث ابن عمر نحوه، ولكن قال فيه: فقال له
__________
(1) المسند 19 \ 140 (فتح) والسنن رقم 1604.
(2) المسند 4 \ 105 وقال الهيثمي: ورجاله ثقات، المجمع 3 \ 11.
(3) (2) . ادخلوا الجنة. فيقولون: يارب آباؤنا. فيقول: ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم
(4) أخرجه أبو نعيم من طريق الطبراني كما في برد الأكباد \ 26، وابن شاهين وابن عساكر في ذكر ثواب السقط كما في التسلية للمنبجي \ 127.
(5) قرة بن إياس المزني.
(6) المسند 5 \ 35 ونحوه 4 \ 19، والمجتبى 4 \ 23 واللفظ له، وأخرج طرفا منه ابن حبان في الصحيح رقم 725 (موارد) .
(7) في السنن: عنده. (6)(23/171)
النبي صلى الله عليه وسلم: «أو ما ترضى أن يكون ابنك مع ابني إبراهيم يلاعبه تحت ظل العرش؟ قال: بلى يا رسول الله (1) » .
وفي المعنى أحاديث كثيرة جدا. وقد كان الصحابة يرجون ذلك عند موتهم، كما روي عن أبي ذر أنه لما حضرته الوفاة بكت أم ذر فقال لها: أبشري ولا تبكي؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يموت بين امرأين مسلمين ولدان أو ثلاثة، فيصبران ويحتسبان فيريان النار أبدا (2) » . وقد مات لنا ثلاثة من الولد.
والحديث الذي قبله يدل على أن أطفال المسلمين الموتى يلعبون تحت ظل (184 \ ب) العرش، وفي حديث أبي هريرة أنهم دعاميص الجنة. والدعموص: دويبة صغيرة تكون في الماء. والمعنى أنهم يتربون في أنهار الجنة، ويغتمسون فيها، وفي رواية: ينغمسون في أنهار الجنة (3) . يعني يلعبون فيها.
وقد روي أنه يكفلهم إبراهيم عليه السلام وزوجته سارة عليها السلام.
وخرج ابن حبان في صحيحه والحاكم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) أخرجه في المعجم الكبير من حديث إبراهيم بن عبيد كما في المجمع 3 \ 10.
(2) مسند أحمد بن حنبل (5/155) .
(3) ذكرها ابن ناصر الدين في برد الأكباد \ 23.(23/172)
قال: «ذراري المؤمنين يكفلهم إبراهيم في الجنة (1) » . وخرجه الإمام أحمد مع نوع شك في رفعه، ووقفه على أبي هريرة (2) .
وروي من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا وموقوفا: «أولاد المسلمين في جبل في الجنة، يكفلهم إبراهيم وسارة عليهما السلام، فإذا كان يوم القيامة دفعوا إلى آبائهم» . خرجه البيهقي وغيره مرفوعا، ويشهد لذلك ما في صحيح البخاري، عن سمرة بن جندب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني الليلة آتيان، - فذكر حديثا طويلا وفيه، إن الملكين فسراه له، وأنهما جبريل وميكائيل، وأنه من جملة ما رأى - رجلا طويلا في روضة وحوله ولدان وقالا له: الرجل الطويل في الروضة إبراهيم، والولدان حوله كل مولود مات على الفطرة. فقال رجل. يا رسول الله (185 \ أ) وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين (3) » .
__________
(1) موارد الظمآن للهيثمي رقم 1826 وأما رواية الحاكم فستأتي قريبا بغير هذا اللفظ، وقد أخرجه أيضا أحمد في المسند 24 \ 180 (فتح) وأبو بكر بن أبي داود في كتاب البعث كما في الكنز 14 \ 472.
(2) المسند 2 \ 326 وانظر الأهوال للمؤلف \ 102.
(3) الصحيح رقم 7047 وأحمد في المسند 5 \ 14 - 15.(23/173)
وقد روي أنهم يرضعون من شجرة طوبى. وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن خالد بن معدان (1) قال: «إن في الجنة شجرة يقال لها: طوبى. ضروع كلها. ترضع صبيان أهل الجنة، وإن سقط المرأة يكون
__________
(1) أبو عبد الله الكلاعي الحمصي، ثقة عابد يرسل كثيرا ت 103 تقريب \ 190.(23/173)
في (نهر من) أنهار (الجنة) يتقلب فيه حتى يوم القيامة، فيبعث ابن أربعين سنة (2) » . كذا قال.
وفي حديث المقدام بن معدي كرب المرفوع: «إن ما بين السقط والهرم، يبعثون أبناء ثلاثين سنة (3) » . وفي رواية: «أبناء ثلاث وثلاثين (4) » .
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن خالد بن معدان قال: «إن في الجنة شجرة يقال: لها طوبى كلها ضروع، فمن مات من الصبيان الذين يرضعون يرضع من طوبى. وحاضنهم إبراهيم عليه السلام (5) » . وروى الخلال بإسناده عن عبيد بن عمير: «إن في الجنة شجرة لها ضروع كضروع البقر، يغذى به ولدان أهل الجنة، حتى إنهم يستنون كاستنان البكارة (6) » .
وبعض الأطفال له مرضع في الجنة، مثل «إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لما مات قبل أن يفطم قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن له مرضعا في الجنة تكمل رضاعه فيها (7) » . وفي رواية " ظئرا " (8) . وفي رواية: «إن له
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير كما في بشرى الكئيب \ 89 وذكره المؤلف في الأهوال \ 102.
(2) ساقط من الأصل. (1)
(3) أخرج الترمذي في الجامع رقم 2565 نحوه (عن أبي سعيد الخدري) بلفظ: من مات من أهل الجنة من صغير أو كبير يردون أبناء ثلاثين في الجنة. الخ ورقم 2548 عن معاذ بن جبل بلفظ: يدخل أهل الجنة جردا مردا مكحلين أبناء ثلاثين. . . . الخ.
(4) أخرجه أحمد في المسند 24 \ 200 (فتح) وأبو بكر بن أبي داود كما في حادي الأرواح \ 189.
(5) ذكره السيوطي في بشرى الكئيب \ 88.
(6) ذكره المؤلف في الأهوال \ 102 وأخرجه ابن أبي الدنيا في العري كما في بشرى الكئيب \ 89.
(7) أخرجه البخاري في الصحيح رقم 1382 وأحمد في المسند 4 \ 289 وابن ماجه في السنن رقم 1510 وابن سعد في الطبقات 1 \ 139.
(8) أخرجه ابن سعد في الطبقات 1 \ 140.(23/174)
مرضعين يكملان رضاعه في الجنة (1) » ، «وكان النبي صلى الله عليه وسلم (185 \ ب) قد حضره وهو يكيد بنفسه، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون (3) » . وفي رواية: «ولولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وأنها سبيل مأتية، وأن آخرنا سيلحق بأولنا لحزنا عليك حزنا هو أشد من هذا (4) » .
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب العزاء، من حديث زرارة بن أوفى، «أن النبي صلى الله عليه وسلم عزى رجلا على ابنه فقال الرجل: يا رسول (الله) ، أنا شيخ كبير وكان ابني قد أجزا عنا. فقال: أيسرك، قد نشر لك، أو يتلقاك من أبواب الجنة بالكأس؟ قال: من لي بذاك يا رسول الله؟ قال: الله لك بهن ولكل مسلم مات له ولد في الإسلام (6) » . وبإسناده عن عبيد بن عمير قال: «إذا كان يوم القيامة خرج ولدان المسلمين من الجنة بأيديهم الشراب، فيقول الناس: اسقونا اسقونا. فيقولون: أبوينا أبوينا. حتى السقط محبنطيا بباب الجنة يقول: لا أدخل حتى يدخل أبواي» . وفي المعنى
__________
(1) أخرجه مسلم في الصحيح رقم 2316 وأحمد في المسند من طريق أنس بلفظ إن له لظئرين تكملان. . الخ.
(2) أخرجه البخاري في الصحيح رقم 1303 ومسلم في الصحيح رقم 2315 وأحمد في المسند 22 \ 100 (فتح) واللفظ لهما.
(3) يقارب بها الموت فتح الباري 3 \ 174. (2)
(4) أخرجه ابن سعد في الطبقات 1 \ 38 والطبراني كما في الفتح 3 \ 174 وابن أبي شيبة في المصنف 4 \ 168.
(5) أخرج قريبا منه أحمد في المسند 5 \ 35 والنسائي في المجتبى 4 \ 118 والحاكم في المستدرك 1 \ 384 والبيهقي في السنن 4 \ 59.
(6) زيادة يقتضيها السياق. (5)(23/175)
حديث مرفوع من رواية ابن عمر لكن إسناده لا يصح وهو باطل، قاله أبو حاتم الرازي (1) .
وفي المعنى رؤيا إبراهيم الحربي (2) . المشهورة حتى (86 \ أ) صار يتمنى موت ابنه. ومات قبل البلوغ (3) ، وروى البيهقي بإسناده عن ابن شوذب (4) ، أن رجلا كان له ابن لم يبلغ الحلم، فأرسل إلى قومه: إن لي إليكم حاجة: إني أريد أن أدعو على ابني هذا أن يقبضه الله، وتؤمنون (5) فسألوه عن ذلك، فأخبرهم أنه رأى في نومه كأن الناس جمعوا إلى القيامة، فأصاب الناس عطش شديد، فإذا الوالدان قد خرجوا من الجنة معهم الأباريق، فأبصرت ابن أخ لي فقلت: يا فلان اسقني. فقال: يا عم إنا لا نسقي إلا آباءنا. قال فأحببت أن يجعل الله ولدي هذا فرطا لي (6) . فدعا فأمنوا. فلم يلبث الغلام إلا يسيرا حتى مات.
وفي أكثر الأحاديث ذكر الثلاثة والاثنين. وفي بعضها وأظن لو قلنا وواحدا لقال: وواحدا. خرجه أحمد من حديث جابر (7) .
وقد جاء ذكر الواحد في حديث، خرج الترمذي وغيره من حديث
__________
(1) محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي أحد الحفاظ ت 277 تقريب \ 467.
(2) أبو إسحاق من تلاميذ الإمام أحمد زاهد ورع فقيه محدث ت 285 طبقات الحنابلة 1 \ 86.
(3) ذكرها ابن ناصر الدين في برد الأكباد \ 29.
(4) أبو عبد الرحمن عبد الله الخرساني. صدوق عابد ت 156 تقريب \ 308.
(5) أي على دعائه
(6) يقال: افترط ولدا أي مات ولده قبل الحلم. ترتيب القاموس 3 \ 475
(7) المسند 19 \ 139 قال الهيثمي: ورجاله ثقات المجمع 3 \ 7.(23/176)
ابن مسعود مرفوعا: «من قدم ثلاثة لم يبلغوا الحنث كانوا له حصنا حصينا. فقال أبو ذر: قدمت اثنين. فقال: واثنين. فقال أبي بن كعب: قدمت واحدا. قال: وواحدا، ولكن إنما ذاك عند الصدمة الأولى (1) » . وفي الترمذي عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان له فرطان من أمتي أدخله الله بهما الجنة. فقالت عائشة: ومن كان له فرط من أمتك. قال: ومن (186 \ ب) كان له فرط من أمتي يا موفقة. قالت: فمن لم يكن له فرط من أمتك؟ قال: فأنا فرط أمتي، لن يصابوا بمثلي (4) » ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم في آخر خطبة خطبها: «إني فرطكم على الحوض (5) » يشير إلى أنه يتقدمهم ويسبقهم إلى الحوض، وينتظرهم عنده.
وفي حديث مرسل خرجه ابن أبي الدنيا: «من مات ولم يقدم فرطا لم يدخل الجنة إلا تصريدا فقيل: يا رسول الله، وما الفرط؟ قال: الولد (أ) وولد الولد. والأخ يؤاخيه في الله عز وجل. فمن لم يكن له فرط، فأنا له فرط (8) » .
__________
(1) الجامع رقم 1061 وأخرجه ابن ماجه في السنن رقم 1606 وأحمد في المسند 19 \ 139 وابن خزيمة في صحيحه كما في تعجيل المنفعة \ 377 وقال الترمذي حديث غريب 4 \ 18.
(2) الجامع رقم 1062 وأخرجه أحمد في المسند 19 \ 142 وقال الترمذي: حسن غريب 4 \ 18.
(3) في الأصل: بهم. (2)
(4) في الأصل: قال ومن قال ومن. وهو سهو من الناسخ. (3)
(5) أخرجه مسلم في الصحيح رقم 2296.
(6) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب العزاء عن رجاء بن جميل الأبلي رفعه إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) كما في برد الأكباد \ 21. وأخرج نحوه الطبراني في الأوسط كما في المجمع 3 \ 12.
(7) التصريد: التقليل ترتيب القاموس2 \ 812. (6)
(8) ساقط من الأصل. (7)(23/177)
وفي حديث عبد الرحمن بن سمرة، في ذكر المنام الطويل عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ورأيت رجلا من أمتي خف ميزانه، فجاءته أفراطه الصغار فثقلوا ميزانه (1) » .
وعن داود بن أبي هند (2) . قال: رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت، وكأن الناس يدعون للحساب فقدمت إلى الميزان، فوضعت حسناتي في كفة وسيئاتي في كفة، فرجحت السيئات على الحسنات، فبينا أنا كذلك مغموم، إذ أتيت بشيء كالمنديل أو كالخرقة البيضاء، فوضعت في حسناتي (فرجحت على السيئات) (3) فقيل لي: تدري ما هذا؟ قلت: لا. قال: سقط كان لك. قلت: إنه قد كانت لي صبية ابنة لي. فقيل لي: تيك ليست لك؛ لأنك كنت تتمنى موتها (4) .
وفي (187 \ أ) هذا إشارة إلى أن الميزان إنما يثقل بما يثقل على النفوس: من المصائب ويشق، فأما ما لا يثقل عليها ولا يشق لمن يتمنى موته من أولاده فلا يثقل به الميزان.
قال ابن أسلم (5) : «مات ابن لداود عليه السلام فحزن عليه حزنا شديدا. فأوحى الله (إليه) (6) : ماذا كنت مفتديه؟ قال: بطلاع (7) الأرض ذهبا. قال: فأوحى الله إليه: إن لك عندي من الأجر بحساب
__________
(1) أخرجه الطبراني كما في المجمع 7 \ 180 ونصر بن عبد الرزاق في الأربعين وابن عساكر كما في التسلية \ 98، 115.
(2) أبو بكر القشيري مولاهم البصري، ثقة متقن كان يهم بآخرة ت 140 تقريب \ 200.
(3) ساقط من الأصل.
(4) أخرجه عبد الرحمن بن أبي حاتم كما في التسلية \ 127 وذكره ابن ناصر الدين في برد الأكباد \ 19.
(5) أبو عبد الله زيد بن أسلم العدوي مولى عمر بن الخطاب، ثقة عالم وكان يرسل ت 136 تقريب \ 222.
(6) ساقط من الأصل.
(7) الطلع: المقدار. ترتيب القاموس 3 \ 88.(23/178)
ذلك» . وفي رواية «قال: يا داود ما كان يعدل هذا الولد عندك؟ قال: كان يعدل عندي ملء الأرض ذهبا. قال: فلك يوم القيامة عندي ملء الأرض ثوابا (1) . سبحان من لا يحصي العباد نعمه. وربما كانت نعمه فيما يسوء أكثر من نعمه فيما يسر كما قيل: شعر» . .
إذا مس بالسراء عم سرورها ... وإن مس بالضراء أعقبها الأجر
وما فيهما إلا له فيه نعمة ... تضيق بها الأوهام والبر والبحر
لما كان للمؤمن داران: دار يرتحل منها، ودار ينتقل إليها ويقيم بها أمره أن ينقل من دار ارتحاله إلى دار إقامته؛ ليعمرها من بعض ما أعطاه في دار ترحاله.
وربما أخذ منه كرها ما يعمر به دار إقامته، ويكمل له به عمارتها وإصلاحها، ويقدم له إليها ما يحب من أهل ومال وولد، يسبقونه إليها؛ ليقدم على ما يحب من مال وأهل وولد، وإن كان المؤمن (187 \ ب) لا يشعر بذلك.
فما فرق إلا ليجمع، ولا أخذ إلا ليرد، ولا سلب (إلا) (2) ليهب، ولا استرد العواري إلا ليردها تمليكا ثابتا لا استرجاع فيه بعد ذلك!!
وفي مراسيل الحسن، «أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: لأن أموت قبل أخي أحب إلى. فقال: لأن يكون لك أحب إليك من أن تكون له (3) » .
قال الحسن: علموا أن ما لهم من أهاليهم (إلا) (4) . ما قدموا
__________
(1) ذكره ابن ناصر الدين في برد الأكباد \ 27.
(2) زيادة يقتضيها السياق.
(3) قال يحيى القطان في مراسيل الحسن البصري: ما أرسل من الحديث فليس بحجة. طبقات ابن سعد 7 \ 158.
(4) زيادة يقتضيها السياق.(23/179)
أمامهم (1) . وكذا قال عمر بن عبد العزيز (2) وغيره. ويشهد له حديث: «الرقوب من لم يقدم ولدا (4) » .
سبحان من أنعم على عباده بما خولهم من المال والولد، ثم استرجع بعض ذلك منهم كرها، وعوضهم الصلاة والرحمة والهدى وذلك أفضل مما أخذ كما قيل: شعر. . . . .
عطيته إذا أعطى سرورا ... وإن أخذ الذي أعطى أثابا
فأي النعمتين أجل قدرا ... وأحمد في عواقبها مآبا (5)
أرحمته التي جاءت بكره ... أم الأخرى التي جلبت ثوابا
بل الأخرى وإن نزلت بضر ... أجل لفقد من صبر احتسابا
آخره، والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا (6) .
الوليد بن عبد الرحمن الفريان
__________
(1) أخرج نحوه أبو نعيم في الحلية 2 \ 141.
(2) ابن مروان بن الحكم الأموي، أمير المؤمنين ويعد من الخلفاء الراشدين ت101 تقريب \ 415.
(3) أخرجه أحمد في المسند 1 \ 382، 383 ومسلم في الصحيح رقم 2608.
(4) الرقوب: التي لا يبقى لها ولد أو مات ولدها. ترتيب القاموس 2 \ 372. (3)
(5) في الأصل: مآبا، إيابا.
(6) إلى هنا انتهت الرسالة والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ''.(23/180)
التدابير الزجرية والوقاية
في التشريع الإسلامي
وتطبيقها
الشيخ: إسماعيل بن محمد الأنصاري
أوضحت الشريعة الإسلامية المحرمات ومنعت منها منعا يثير في النفوس شدة الخوف من الإقدام عليها، واتخذت للزجر عنها وللوقاية من أضرارها التدابير التالية: -
(1) سد باب الوسائل والذرائع المفضية إلى ارتكاب تلك المحرمات بتحريم تلك الوسائل والنهي عنها، فإذا حرم الرب تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرم تلك الطرق والوسائل ويمنع منها تحقيقا لتحريمه وتثبيتا له ومنعا أن يقرب حماه، إذ لو أباح الوسائل والذرائع المفضية إلى المحرم كان ذلك نقضا للتحريم وإغراء للنفوس به، وذلك يأباه علمه تعالى وحكمته كل الإباء، كما أوضحه الإمام ابن القيم في (ج3 "إعلام الموقعين" ص 13 ط مكتبة الكليات الأزهرية) وأتبع لك قوله: " بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك؛ فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه عد متناقضا، وحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده، وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه، فما الظن بهذه الشريعة الكاملة؟ التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال.
ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها " وذكر ابن القيم في صفحة 159 أن سد الذرائع(23/181)
هو أحد أرباع التكليف، وأوضح ذلك بقوله رحمه الله: " فإنه - أي التكليف - أمر ونهي، والأمر نوعان: أحدهما مقصود لنفسه، والثاني وسيلة إلى المقصود. والنهي نوعان: أحدهما ما يكون النهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني ما يكون وسيلة إلى المفسدة فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين ". وقد ذكر شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في "إقامة الدليل على إبطال التحليل ج \ 3 من الفتاوى المصرية، ص \ 140 " أن شواهد قاعدة سد باب الذرائع المفضية إلى المحرمات أكثر من أن تحصر، وسرد منها ثلاثين شاهدا، قال صفحة 145 بعد سردها: " لم نذكر من شواهد هذا الأصل إلا ما هو متفق عليه، أو منصوص عليه، أو مأثور عن الصدر الأول ". وذكر تلميذه العلامة شمس الدين ابن القيم في "إعلام الموقعين عن رب العالمين" منها تسعة وتسعين شاهدا منها نهي الشارع عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة، وإن ظلموا أو جاروا ما أقاموا الصلاة؛ سدا لذريعة الفساد والشر الكثير الذي يحصل بقتالهم، وذكر أنه قد حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم أضعاف أضعاف ما هم عليه. قال ابن القيم " والأمة في بقايا تلك الشرور إلى الآن ".(23/182)
(2) إيجاب الكفارة على مرتكب ما يوجبها قال ابن القيم في (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص 153 ط مطبعة أمين عبد الرحمن، شارع محمد علي بمصر) : " شرع - سبحانه وتعالى - الكفارات في ثلاثة أنواع: أحدها ما كان مباح الأصل، ثم عرض تحريمه فباشره في الحالة التي عرض فيها التحريم كالوطء في الإحرام والصيام، وطرده الوطء في الحيض والنفاس بخلاف الوطء في الدبر. ولهذا كان إلحاق بعض الفقهاء له بالوطء في الحيض لا يصح؛ فإنه لا يباح في وقت دون وقت فهو بمنزلة التلوط وشرب المسكر.
النوع الثاني: ما عقد لله من نذر أو ما لله من يمين أو حرمة الله، ثم أراد حله فشرع الله سبحانه حله بالكفارة وسماها تحلة، وليست هذه الكفارة ماحية لهتك حرمة الإثم بالحنث كما ظنه بعض الفقهاء؛(23/182)
فإن الحنث قد يكون واجبا، وقد يكون مستحبا، وقد يكون مباحا، وإنما الكفارة حل لما عقده.
النوع الثالث: ما تكون فيه جابرة لما فات ككفارة قتل الخطأ وإن لم يكن هناك إثم وكفارة قتل صيد الخطأ، فإن ذلك من باب الجوابر، والنوع الأول من باب الزواجر، والنوع الوسط من باب التحلة لما صنعه العقد ". ذكر ابن القيم هذا ثم قال: " لا يجتمع الحد والكفارة في معصية بل كل معصية فيها حد فلا كفارة فيها، وما فيه كفارة فلا حد عليه ". وذكر من النوع الذي تجب فيه الكفارة الظهار.(23/183)
(3) عقوبات مقدرة من الشارع على بعض الجرائم كالجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض في النفوس والأبدان والأعراض والأموال، كالقتل والجراح والقذف والسرقة، وتعرف هذه العقوبات باسم الحد، قال الإمام ابن القيم في كلامه على عقوبات تلك الجنايات في (إعلام الموقعين ج 2 ص 114) : " أحكم سبحانه وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام، وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع، فلم يشرع في الكذب قطع اللسان والقتل ولا في الزنا الخصاء ولا في السرقة إعدام النفس، وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وعدله؛ لتزول النوائب، وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان، ويقتنع كل إنسان بما آتاه مالكه وخالقه فلا يطمع في استلاب غيره حقه، قال: ومعلوم أن لهذه الجنايات الأربع مراتب متباينة في القلة والكثرة، ودرجات متفاوتة في شدة الضرر وخفته، كتفاوت سائر المعاصي في الكبر والصغر وما بين ذلك. ومن المعلوم أن النظرة المحرمة لا يصلح إلحاقها في العقوبة بعقوبة مرتكب الفاحشة، ولا الخدشة بالعود بالضربة بالسيف ولا الشتم الخفيف بالقذف بالزنا والقدح في الأنساب ولا سرقة اللقمة والفلس بسرقة المال الخطير العظيم، فلما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات، وكان من المعلوم أن الناس لو وكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من(23/183)
الجناية جنسا ووصفا وقدرا لذهبت بهم الآراء كل مذهب وتشعبت بهم الطرق كل مشعب ولعظم الاختلاف واشتد الخطب، فكفاهم أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين مؤنة ذلك وأزال عنهم كلفته وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره نوعا وقدرا ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة ويليق بها من النكال، ثم بلغ من سعة رحمته وجوده أن جعل تلك العقوبات كفارات لأهلها وطهرة تزيل عنهم المؤاخذة بالجنايات إذا قدموا عليه، ولا سيما إذا كان منهم بعدها التوبة النصوح والإنابة، فرحمهم بهذه العقوبات أنواعا من الرحمة في الدنيا والآخرة، وجعل هذه العقوبات دائرة على ستة أحوال: قتل، وقطع، وجلد، ونفي، وتغريم مال وتعزير ".
ثم بين ابن القيم حكمة كل عقوبة من تلك العقوبات التي رتبتها الشريعة على كل جناية من تلك الجنايات،(23/184)
وذكر أن الجناية على الدين والطعن فيه والارتداد عنه من الجرائم التي توجب القتل، وقال فيها: " هذه الجناية أولى بالقتل وكف عداون الجاني عليه من كل عقوبة إذ بقاؤه بين أظهر عباده مفسدة لهم، ولا خير يرجى في بقائه ولا مصلحة، فإذا حبس شره وأمسك لسانه وكف أذاه والتزم الذل والصغار وجريان أحكام الله ورسوله عليه وأداء الجزية لم يكن في بقائه بين أظهر المسلمين ضرر عليهم، والدنيا بلاغ ومتاع إلى حين ".
كما استوفى ابن القيم الكلام على جريمة الزنا، وبيان الحكمة فيما رتبه الشرع عليها من العقاب.(23/185)
ومما له صلة بوجوه الزجر الرادعة عنه ما ذكره العلامة القاضي برهان الدين إبراهيم بن علي بن أبي القاسم بن محمد بن فرحون المالكي في كتابه (تبصرة الحكام بمناهج الأقضية وأصول الأحكام " ج 2 بهامش فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك لأبي عبد الله محمد عليش ص 121 - 123) ذكر أن لما شرع من الأحكام للسياسة والزجر ستة أصناف وبينها بقوله:
1 - الصنف الأول شرع لصيانة الوجود كالقصاص في النفوس والأطراف، فمن ذلك قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) . معناه أن القصاص الذي كتبته عليكم إذا أقيم ازدجر الناس عن القتل، قال ابن الفرس في أحكام القرآن: في هذه الآية الكريمة تنبيه على الحكمة في شرع القصاص وإبانة الغرض منه. وقال قتادة: جعل الله تعالى هذا القصاص حياة ونكالا وعظة لأهل الجهل، فكم رجل هم بداهية لولا مخافة القصاص لوقع بها، ولكن القصاص حجز بعضهم عن بعض، وخص أولي الألباب وإن كان الخطاب عاما؛ لأنهم أصحاب العقول الذين ينظرون في العواقب، ثم قال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) يعني الدماء. وأما القصاص في الأطراف فقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (3) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 179
(2) سورة البقرة الآية 179
(3) سورة المائدة الآية 45(23/185)
الآية؛ ليزدجر الناس عن الإقدام على شيء من ذلك.
ومن ذلك قتال الخوارج والمحاربين والكفار، قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} (1) . الآية، وفي قتال الكفار زيادة معنى، وهو إعلاء كلمة الحق ومحو الشرك به.
__________
(1) سورة المائدة الآية 33(23/186)
2 - الصنف الثاني من الأحكام شرع لحفظ الأنساب كحد الزنا قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (1) . وبينت السنة حكم التغريب وحد الزاني الثيب.
__________
(1) سورة النور الآية 2(23/186)
3 - الصنف الثالث من الأحكام شرع لصيانة الأعراض؛ لأن صيانتها من أكبر الأغراض، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (1) . وألحق الشرع بذلك التعزير على السب والأذى بالقول على حسب اجتهاد الإمام في ذلك.
__________
(1) سورة النور الآية 4(23/186)
4 - الصنف الرابع من الأحكام شرع لصيانة الأموال كحد السرقة وحد الحرابة، قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) . ويلتحق بذلك تعزير الغصاب ونحوهم.
__________
(1) سورة المائدة الآية 38(23/186)
5 - الصنف الخامس من الأحكام شرع لحفظ العقل كحد الخمر، وقد نهى الله عنه في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} (1) إلى قوله:
__________
(1) سورة المائدة الآية 90(23/186)
{فَاجْتَنِبُوهُ} (1) ثم قال تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (2) . ووردت السنة بحد الشارب.
__________
(1) سورة المائدة الآية 90
(2) سورة المائدة الآية 91(23/187)
6 - الصنف السادس من الأحكام شرع للردع والتعزير نحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (1) إلى قوله: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} (2) أي: ليذوق جزاء فعله، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} (3) إلى قوله: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} (4) ثم شرع كفارة ذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} (5) إلى قوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} (6) وقوله تعالى:: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} (7) الآية، وقصة الثلاثة الذين خلفوا، وغير ذلك مما ورد به القرآن العظيم وأطال ابن فرحون بعد هذا في إيراد ما ورد في باب الردع والتعزير من السنة وما جاء فيه عن الصحابة رضي الله عنهم.
ذكر ابن فرحون جميع ذلك في فصل عقده للدلالة على مشروعية السياسة العادلة من الكتاب والسنة بعد أن قال: " السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشرع يحرمها، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم، وتدفع كثيرا من المظالم، وتردع أهل الفساد، ويتوصل بها إلى المقاصد الشرعية، فالشريعة توجب المصير إليها والاعتماد في إظهار الحق عليها، وهي باب واسع تضل فيه الأفهام وتزل فيه الأقدام، وإهماله يضيع الحقوق ويعطل الحدود ويجرئ أهل الفساد ويعين أهل العناد، والتوسع فيه يفتح أبواب المظالم الشنيعة ويوجب
__________
(1) سورة المائدة الآية 95
(2) سورة المائدة الآية 95
(3) سورة المجادلة الآية 2
(4) سورة المجادلة الآية 2
(5) سورة المجادلة الآية 3
(6) سورة المجادلة الآية 4
(7) سورة النساء الآية 34(23/187)
سفك الدماء وأخذ الأموال بغير الشريعة، ولهذا سلكت فيه طائفة مسلك التفريط المذموم فقطعوا النظر عن هذا الباب إلا فيما قل، ظنا منهم أن تعاطي ذلك مخالفة للقواعد الشرعية فسدوا من طرق الحق سبيلا واضحة، وعدلوا إلى طريق للعناد فاضحة؛ لأن في إنكار السياسة الشرعية والنصوص الشريفة تغليطا للخلفاء الراشدين، وطائفة سلكت في هذا الباب مسلك الإفراط فتعدوا حدود الله تعالى، وخرجوا عن قانون الشرع إلى أنواع من الظلم والبدع والسياسة - أي غير الشرعية - وتوهموا أن السياسة الشرعية قاصرة عن سياسة الخلق ومصلحة الأمة، وهو جهل وغلط فاحش، فقد قال عز من قائل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (1) فدخل في هذا جميع مصالح العباد الدينية والدنيوية على وجه الكمال، وقال صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا؛ كتاب الله وسنتي (2) » . وطائفة توسطت وسلكت فيه مسلك الحق وجمعوا بين السياسة والشرع فقمعوا الباطل ودحضوه، ونصبوا الشرع ونصروه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ". اهـ.
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) موطأ مالك الجامع (1661) .(23/188)
هذا ومما يجب للتنبه له أن الدافع إلى ارتكاب الجريمة في بعض الأحيان قد يكون عذرا، فلا توقع العقوبة لمرتكبيه لدلالة ذلك الدافع على أن الارتكاب ليس بخبث الطوية وإثارة الفوضى، ومن أدلة ذلك:
(1) ما رواه البيهقي في باب من زنى بامرأة مستكرهة من " السنن الكبرى " ج 8 قال: " أخبرني أبو القاسم زيد بن جعفر بن محمد العلوي بالكوفة وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي بنيسابور، قالا: أنبأنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم، ثنا إبراهيم بن عبد الله العبسي، أنبأنا وكيع، عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بامرأة جهدها العطش فمرت على راع فاستسقت،(23/188)
فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها ففعلت، فتشاور الناس في رجمها، فقال علي رضي الله عنه: هذه مضطرة أرى أن تخلي سبيلها. ففعل ". قال ابن القيم في (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص 48 مطبعة الاتحاد الشرقي) قلت: " والعمل على هذا لو اضطرت المرأة إلى طعام أو شراب عند رجل فمنعها إلا بنفسها وخافت الهلاك فمكنته من نفسها فلا حد عليها ". ثم قال ابن القيم: " فإن قيل: فهل يجوز لها في هذه الحالة أن تمكن من نفسها؟ أم يجب عليها أن تصبر ولو ماتت؟ قلت: هذه حكمها حكم المكرهة على الزنا التي يقال لها: إن مكنت من نفسك وإلا قتلتك، والمكرهة لا حد عليها ولها أن تفتدي من القتل بذلك، ولو صبرت لكان أفضل لها، ولا يجب عليها أن تمكن من نفسها، كما لا يجب على المكره على الكفر أن يتلفظ به، وإن صبر حتى قتل لم يكن آثما، فالمكرهة على الفاحشة أولى.
2 - ما رواه السعدي، قال: حدثنا هارون بن إسماعيل الخراز، ثنا علي بن المبارك، ثنا يحيى بن أبي كثير، حدثني حسان بن زاهر أن ابن حدير حدثه عن عمر قال: (لا تقطع اليد في عذق ولا عام سنة) . قال السعدي: سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال: العذق النخلة وعام سنة المجاعة، فقلت لأحمد: تقول به؟ فقال: أي لعمري. قلت: إن سرق في مجاعة لا تقطعه؟ فقال: لا إذا حملته الحاجة على ذلك والناس في مجاعة وشدة. قال: قال السعدي: وهذا على نحو قضية عمر في غلمان حاطب.
ثنا أبو النعمان عارم، ثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن ابن حاطب (أن غلمة لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فأتى بهم عمر فأقروا، فأرسل إلى عبد الرحمن بن حاطب فجاء فقال له: إن غلمان حاطب سرقوا ناقة رجل من مزينة وأقروا على أنفسهم، فقال عمر: يا كثير بن الصلت اذهب فاقطع أيديهم. فلما ولى بهم ردهم عمر، ثم قال: أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له لقطعت أيديهم، وايم الله إذ لم أفعل لأغرمنك غرامة توجعك، ثم قال:(23/189)
يا مزني، بكم أريدت منك ناقتك؟ قال: بأربعمائة. قال عمر: اذهب فأعطه ثمانمائة) .
وذهب أحمد إلى موافقة عمر في الفعلين جميعا. ففي مسائل إسماعيل بن سعيد الشالنجي التي شرحها السعدي بكتاب سماه المترجم، قال: سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يحمل الثمر من أكمامه، فقال: فيه الثمن مرتين وضرب نكالا. وقال: وكل من درأنا عنه الحد والقود أضعفنا عليه الغرم. وقد وافق أحمد على سقوط القطع في المجاعة الأوزاعي، وهذا محض القياس ومقتضى قواعد الشرع؛ فإن السنة إذا كانت سنة مجاعة وشدة غلب على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد رمقه، ويجب على صاحب المال بذل ذلك له إما بالثمن أو مجانا، على خلاف في ذلك، والصحيح وجوب بذله مجانا لوجوب المواساة وإحياء النفوس مع القدرة على ذلك، والإيثار بالفضل مع ضرورة المحتاج، وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج، وهي أقوى من كثير من الشبه التي يذكرها كثير من الفقهاء بل إذا وازنت بين هذه الشبهة وبين ما يذكرونه ظهر لك التفاوت، فأين شبهة كون المسروق مما يسرع إليه الفساد، وكون أصله على الإباحة كالماء وشبهة القطع به مرة وشبهة دعوى ملكه بلا بينة وشبهة إتلافه في الحرز بأكل أو احتلاب من الضرع، وشبهة نقصان ماليته في الحرز بذبح أو تحريق ثم إخراجه، وغير ذلك من الشبه الضعيفة جدا إلى هذه الشبهة القوية؟ لا سيما وهو مأذون في مغالبة صاحب المال على أخذ ما يسد رمقه، وعام المجاعة يكثر فيه المحاويج والمضطرون، ولا يتميز المستغني منهم والسارق لغير حاجة من غيره، فاشتبه من يجب عليه الحد بمن لا يجب عليه فدرئ، نعم إذا بان أن السارق لا حاجة به وهو مستغن عن السرقة قطع ". كلام ابن القيم في (إعلام الموقعين عن رب العالمين ج 3 ص 10 - 12 مكتبة الكليات الأزهرية) .(23/190)
3 - عقوبات غير مقدرة من الشارع، وإنما يعرض الأمر فيها إلى ولي الأمر، وتعرف هذه العقوبات باسم التعزير، وهو مشروع في كل معصية ليس فيها(23/190)
حد ولا كفارة باتفاق العلماء، قال الإمام ابن القيم في (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص 106 مطبعة الإتحاد الشرقي) وهي: " أي تلك المعصية نوعان: -
ترك واجب، أو فعل محرم، فمن ترك الواجب مع القدرة عليه كقضاء الديون وأداء الأمانات من الوكالات والودائع وأموال اليتامى، والوقوف والأموال السلطانية، ورد المغصوب والمظالم، فإنه يعاقب حتى يؤديها.
وكذلك من وجب عليه إحضار نفس لاستيفاء حق وجب عليها مثل من يقطع الطريق ويلتجئ إلى من يمنعه ويذب عنه، فهذا يعاقب حتى يحضره، فما وجب إحضاره من النفوس أو الأموال استحق الممتنع من إحضاره العقوبة، أما إذا كان إحضاره إلى من يظلمه أو إحضار المال إلى من يأخذه بغير حق فهذا لا يجب بل لا يجوز؛ فإن الإعانة على الظلم ظلم ".
وعد ابن القيم في موضع آخر من (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) سرقة ما لا قطع فيه والنظر إلى الأجنبية من المعاصي التي يستحق صاحبها التعزير، كما ذكر أن اليمين الغموس منها عند أحمد وداود كما مثل في (إعلام الموقعين عن رب العالمين ج 2 ص 118 مكتبة الكليات الأزهرية) " بوطء الأمة المشتركة بينه وبين غيره وقبلة الأجنبية والخلوة بها ودخول الحمام بغير مئزر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير " وأفاد شيخ الإسلام ابن تيمية في (إقامة الدليل على بطلان التحليل) ص 144 ج 3 من الفتاوى المصرية) أن في ارتكاب ما لا تتقاضاه الطباع من المعاصي التعزير ونصه: " لم تشرع الحدود إلا في معصية تتقاضاها الطباع كالزنا والشرب والسرقة والقذف دون أكل الميتة والرمي بالكفر ونحو ذلك فإنه اكتفى فيه بالتعزير " اهـ.
هذا وهناك أمران يتطلب موضوع التعزير البحث فيهما، أحدهما: هل هو كالحد لا يجوز للإمام تركه؟ أم هو راجع إلى اجتهاد الإمام في إقامته وتركه؟
الثاني: هل مقدار التعزير بحسب المصلحة وعلى قدر الجريمة؟ وهل يبلغ بالتعزير في المعصية قدر الحد فيها.
وكيف الجواب لمن يرى الزيادة على عشرة(23/191)
أسواط في التعزير عن حديث: «لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله (1) » .
وقد تناول الإمام ابن القيم جميع ذلك بالبحث، وأجاد فقال في الأمر الأول في كتابه (إعلام الموقعين عن رب العالميين ج 2 ص 118 ط مكتبة الكليات الأزهرية) قال في ارتكاب المعصية التي لا حد فيها ولا كفارة: " فيه التعزير قولا واحدا، لكن هل هو كالحد فلا يجوز للإمام تركه؟ أم هو راجع إلى اجتهاد الإمام في إقامته وتركه؟ كما يرجع إلى اجتهاده في قدره على قولين للعلماء: الثاني قول الشافعي، والأول قول الجمهور ".
وقال في الأمر الثاني المتعلق بمقدار التعزير قال في (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص 107 طبعة مطبعة الاتحاد الشرقي) : " وقد اختلف الفقهاء في مقدار التعزير على أقوال: -
أحدهما: أنه بحسب المصلحة وعلى قدر الجريمة فيجتهد فيه ولي الأمر.
الثاني: وهو أحسنها أنه لا يبلغ في التعزير في معصية قدر الحد فيها فلا يبلغ في التعزير على النظر والمباشرة حد الزنا، ولا على السرقة من غير حرز حد القطع، ولا على الشتم بدون القذف حد القذف. وهذا قول طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد.
والقول الثالث: أنه يبلغ بالتعزير أدنى الحدود إما أربعين أو ثمانين، وهذا قول كثير من أصحاب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة.
والقول الرابع: أنه لا يزاد في التعزيز على عشرة أسواط وهو أحد الأقوال في مذهب أحمد وغيره.
وعلى القول الأول: هل يجوز أن يبلغ بالتعزير القتل؟ في قولان أحدهما: يجوز كقتل الجاسوس المسلم إذا اقتضت المصلحة قتله، وهذا قول مالك وبعض أصحاب أحمد واختاره ابن عقيل. وقد ذكر بعض
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6850) ، صحيح مسلم الحدود (1708) ، سنن الترمذي الحدود (1463) ، سنن أبو داود الحدود (4491) ، سنن ابن ماجه الحدود (2601) ، مسند أحمد بن حنبل (4/45) ، سنن الدارمي الحدود (2314) .(23/192)
أصحاب الشافعي وأحمد نحو ذلك في قتل الداعية إلى البدعة كالتجهم والرفض وإنكار القدر، وقد قتل عمر بن عبد العزيز غيلان القدري؛ لأنه كان داعية إلى بدعته وهذا مذهب مالك رحمه الله، وكذلك قتل من لا يزول إفساده إلا بقتله، وصرح به أصحاب أبي حنيفة في قتل اللوطي، إذا أكثر من ذلك تعزيرا، وكذلك قالوا إذا قتل بالمثقل فللإمام أن يقتله تعزيرا، وإن كان أبو حنيفة لا يوجب الحد في هذا ولا القصاص في هذا، وصاحباه يخالفانه في المسألتين، وهما مع جمهور الأمة.
هكذا استعرض الإمام ابن القيم هذه الأقوال في مقدار التعزير، ثم قال: " والمنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه رضي الله عنهم يوافق القول الأول؛ «فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بجلد الذي وطئ جارية امرأته وقد أحلتها له مائة (1) » ، وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما أمرا بجلد من وجد مع امرأة أجنبية في فراش مائة جلدة. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب الذي زور عليه خاتمه فأخذ من بيت المال مائة ثم في اليوم الثاني مائة ثم في اليوم الثالث مائة.
قال ابن القيم: " وعلى هذا يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد في الثالثة أو في الرابعة فاقتلوه (2) » فأمر بقتله إذا أكثر منه، ولو كان ذلك حدا لأمر به في المرة الأولى ".
وقد أجاد ابن القيم في زاد المعاد الكلام على حديث قتل شارب الخمر في الرابعة أو الخامسة حيث قال: " وصح عنه - أي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بقتله في الرابعة أو الخامسة، واختلف الناس في ذلك فقيل: هو منسوخ وناسخه حديث: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث (3) » . وقيل: هو محكم، ولا تعارض بين الخاص والعام، ولا سيما إذا لم يعلم تأخر العام. وقيل: ناسخه حديث عبد الله بن حمار فإنه أتي به مرارا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلده ولم يقتله. وقيل: قتله تعزيرا حسب المصلحة، فإذا أكثر منه ولم ينهه الحد واستهان به فللإمام قتله تعزيرا لا حدا، وقد صح عن عبد الله بن
__________
(1) سنن الترمذي كتاب الحدود (1451) ، سنن النسائي النكاح (3361) ، سنن أبو داود الحدود (4458) ، سنن ابن ماجه الحدود (2551) ، مسند أحمد بن حنبل (4/276) ، سنن الدارمي الحدود (2329) .
(2) سنن أبو داود الحدود (4485) .
(3) صحيح البخاري الديات (6878) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1676) ، سنن الترمذي الديات (1402) ، سنن النسائي تحريم الدم (4016) ، سنن أبو داود الحدود (4352) ، سنن ابن ماجه الحدود (2534) ، مسند أحمد بن حنبل (1/382) ، سنن الدارمي الحدود (2298) .(23/193)
عمر رضي الله عنهما أنه قال: " إيتوني به في الرابعة فعلي أن أقتله لكم) وهو أحد رواة الأمر بالقتل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم معاوية وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو، وقبيصة بن ذؤيب رضي الله عنهم، وحديث قبيصة فيه دلالة على أن القتل ليس بحد وأنه منسوخ، فإنه قال فيه: «فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده، ورفع القتل وكانت رخصة (1) » رواه أبو داود.
قال ابن القيم: فإن قيل فما تصنعون بالحديث المتفق عليه، عن علي كرم الله وجهه أنه قال: «ما كنت لأرى من أقمت عليه الحد إلا شارب الخمر؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسن فيه شيئا إنما هو شيء قلناه نحن (2) » لفظ أبي داود، ولفظهما: «فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات ولم يسنه (3) » قيل: المراد بذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقدر فيه بقوله تقديرا لا يزاد عليه ولا ينقص كسائر الحدود، وإلا فعلي رضي الله عنه قد شهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضرب فيها أربعين، وقوله: إنما هو شيء قلناه نحن يعني: التقدير بثمانين؛ فإن عمر رضي الله عنه جمع الصحابة رضي الله عنهم واستشارهم فأشاروا بثمانين فأمضاها، ثم جلد علي كرم الله وجهه في خلافته أربعين، وقال: هذا أحب إلي.
ومن تأمل الأحاديث رآها تدل على أن الأربعين حد، والأربعون الزائدة عليها تعزير اتفق عليه الصحابة رضي الله عنهم، والقتل إما منسوخ وإما أنه إلى رأي الإمام بحسب تهالك الناس فيها واستهانتهم بحدها، فإذا رأى قتل واحد؛ لينزجر الباقون فله ذلك، وقد حلق فيها عمر رضي الله عنه وغرب، وهذا من الأحكام المتعلقة بالأئمة وبالله التوفيق ". اهـ. كلام ابن القيم في (زاد المعاد ج 3 ص 210 ط المؤسسة العربية للطباعة والنشر ببيروت) .
ومما يتعلق بالتعزير ما اختاره الإمام العلامة شمس الدين ابن القيم في الجزء الثاني من (إعلام الموقعين عن رب العالمين ص 48) أن التعزير لا يتقدر بقدر معلوم قال: " بل هو يحسب الجريمة في صفتها وكبرها وصغرها، وعمر بن الخطاب قد تنوع تعزيره في الخمر فتارة بحلق الرأس،
__________
(1) سنن أبو داود الحدود (4485) .
(2) صحيح البخاري الحدود (6778) ، سنن أبو داود الحدود (4486) ، سنن ابن ماجه الحدود (2569) .
(3) صحيح البخاري الحدود (6778) ، صحيح مسلم الحدود (1707) ، مسند أحمد بن حنبل (1/130) .(23/194)
وتارة بالنفي، وتارة بزيادة أربعين سوطا على الحد الذي ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وتارة بتحريق حانوت الخمار، وكذلك تعزير الغال، وقد جاءت السنة بتحريق متاعه، وتعزير مانع الصدقة بأخذها وأخذ شطر ماله معها، وتعزير كاتم الضالة الملتقطة بإضعاف الغرم عليه، وكذلك عقوبة سارق ما لا قطع فيه يضعف عليه الغرم، وكذلك قاتل الذمي عمدا، أضعف عليه عمر وعثمان ديته، وذهب إليه أحمد وغيره " اهـ.
وسلك ذلك المسلك في التعزير أيضا العلامة القاضي برهان الدين إبراهيم بن علي بن أبي القاسم بن محمد بن فرحون المالكي، قال في كتابه (تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام ج 2 \ ص 260 - 262) " والتعزير لا يختص(23/195)
بفعل معين، ولا قول معين، فقد «عزر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجر، وذلك في قضية الثلاثة الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن الكريم، فهجروا خمسين يوما لا يكلمهم أحد» ، وقضيتهم مشهورة في الصحاح. وعزر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنفي فأمر بإخراج المخنثين من المدينة ونفيهم، وكذلك الصحابة من بعده، ونذكر من ذلك بعض ما وردت به السنة مما قال ببعضه أصحابنا، وبعضه خارج المذهب، فمنها أمر عمر بن الخطاب بهجر صبيغ الذي كان يسأل عن الذاريات وغيرها، ويسأل الناس عن مشكلات القرآن، فضربه ضربا وجيعا ونفاه إلى البصرة أو الكوفة، وأمر بهجره، فكان لا يكلمه أحد حتى تاب، وكتب عامل البلد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخبره بتوبته، فأذن للناس في كلامه، ومنها أن عمر رضي الله عنه حلق رأس نصر بن حجاج ونفاه من المدينة لما شبب النساء به في الأشعار وخشي الفتنة به.
ومنها ما فعله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين، ومنها «أمره صلى الله عليه وسلم للمرأة التي لعنت ناقتها أن تخلي سبيلها» . ومنها أن أبا بكر رضي الله عنه استشار الصحابة في رجل ينكح كما تنكح المرأة، فأشاروا بحرقه في النار، فكتب أبو بكر رضي الله عنه بذلك إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه، ثم حرقهم عبد الله بن الزبير في خلافته، ثم حرقهم هشام بن عبد الملك، وهو رأي ابن حبيب من أصحابنا، ذكره في مختصر الواضحة.
ومنها أن أبا بكر رضي الله عنه حرق جماعة من أهل الردة، ومنها إباحته صلى الله عليه وسلم سلب الذي يصطاد في حرم المدينة لمن وجده، ومنها أمره صلى الله عليه وسلم بكسر دنان الخمر وشق ظروفها، ومنها أمره لعبد الله بن عمر رضي الله عنه بتحريق الثوبين المعصفرين ومنها «أمره صلى الله عليه وسلم يوم خيبر بكسر القدور التي طبخ فيها لحوم الحمر الأهلية ثم استأذنوه في غسلها فأذن لهم (1) » ، فدل على جواز الأمرين؛ لأن العقوبة بالكسر لم تكن واجبة، ومنها هدمه صلى الله عليه وسلم لمسجد الضرار «ومنها أمره صلى الله عليه وسلم بتحريق متاع الذي غل من الغنيمة» ، ومنها إضعاف الغرم على سارق ما لا قطع فيه من الثمر والكثر.
ومنها إضعاف الغرم على كاتم الضالة، ومنها أخذه شطر مال مانع الزكاة
__________
(1) صحيح البخاري فرض الخمس (3155) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1937) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4339) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2976) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3192) .(23/196)
عزمة من عزمات الرب تبارك وتعالى، ومنها أمره صلى الله عليه وسلم لابس خاتم الذهب بطرحه فلم يعرض له أحد، ومنها أمره صلى الله عليه وسلم بقطع نخيل اليهود إغاظة لهم.
ومنها تحريق عمر رضي الله عنه المكان الذي يباع فيه الخمر، ومنها تحريق عمر رضي الله عنه قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجب فيه عن الرعية وصار يحكم في داره، ومنها مشاطرة عمر بن الخطاب عماله بأخذ شطر أموالهم فقسمها بينهم وبين المسلمين، ومنها أنه رضي الله عنه ضرب الذي زور على نقش خاتمه وأخذ شيئا من بيت المال مائة ثم ضربه في اليوم الثاني مائة ثم ضربه في اليوم الثالث مائة، ومنها أن عمر رضي الله عنه لما وجد مع السائل من الطعام فوق كفايته وهو يسأل أخذ ما معه وأطعمه إبل الصدقة، ومنها أنه رضي الله عنه أراق اللبن المغشوش وغير ذلك مما يكثر تعداده، قال ابن فرحون بعد عرض هذه القضايا الدالة على أن التعزير لا يختص بفعل معين ولا قول معين، قال: " وهذه قضايا صحيحة معروفة، قال ابن قيم الجوزية: وأكثر هذه المسائل شائعة في مذهب أحمد رضي الله عنه، وبعضها شائع في مذهب مالك رضي الله عنه.
ومن قال أن العقوبة المالية منسوخة فقد غلط على مذهب الأئمة نقلا واستدلالا وليس يسهل دعوى نسخها، وفعل الخلفاء الراشدين وأكابر الصحابة لها بعد موته صلى الله عليه وسلم مبطل لدعوى نسخها والمدعون للنسخ ليس معهم كتاب ولا سنة ولا إجماع يصحح دعواهم إلا أن يقول أحدهم: مذهب أصحابنا لا يجوز فمذهب أصحابه عنده عيار على القبول والرد " انتهى.
وأما حديث: «لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله (1) » . فيقول فيه الإمام ابن القيم في (إعلام الموقعين عن رب العالمين ج2 ص48) نتلقاه بالقبول والسمع والطاعة، ولا منافاة بينه وبين شيء مما ذكرنا - أي مما يدل على الزيادة في التعزير على عشرة أسواط - فإن الحد في لسان
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6850) ، صحيح مسلم الحدود (1708) ، سنن الترمذي الحدود (1463) ، سنن أبو داود الحدود (4491) ، سنن ابن ماجه الحدود (2601) ، مسند أحمد بن حنبل (4/45) ، سنن الدارمي الحدود (2314) .(23/197)
الشارع أعم منه في اصطلاح الفقهاء؛ فإنهم يريدون بالحدود عقوبات الجنايات المقدرة بالشرع خاصة، والحد في لسان الشارع أعم من ذلك؛ فإنه يراد به هذه العقوبة تارة، ويراد به نفس الجناية تارة كقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} (1) وقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} (2) فالأول حدود الحرام، والثاني حدود الحلال، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله حد حدودا فلا تعتدوها» وفي حديث النواس بن سمعان الذي تقدم في أول الكتاب: «والسوران حدود الله (3) » ، ويراد به تارة جنس العقوبة وإن لم تكن مقدرة، فقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله (4) » يريد به الجناية التي هي حق الله.
قال - أي ابن القيم - فإن قيل: فأين تكون العشرة فما دونها إذا كان المراد بالحد الجناية؟ قيل: في ضرب الرجل امرأته وعبده، وولده وأجيره للتأديب ونحوه؛ فإنه لا يجوز أن يزيد على عشرة أسواط. فهذا أحسن ما خرج عليه الحديث وبالله التوفيق. اهـ. كلام ابن القيم، وحيث إنه قد أشار فيه إلى هناك تخريجات لحديث: «لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله عز وجل (5) » فقد استحسنا إيرادها، فنقول وبالله التوفيق: قال الحافظ المنذري في (مختصر سنن أبي داود ج6 ص 294 طبعة السنة المحمدية) قال: " تأوله بعض أصحاب الشافعي رحمه الله على أن الزيادة على الجلدات العشر إلى ما دون الأربعين لا يكون بالأسواط لكن بالأيدي والنعال والثياب ونحوها على ما يراه الإمام.
وتأوله غيرهم على أنه مقصور على زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يكفي الجاني منهم هذا القدر، وقيل: المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: «في حد من حدود الله (6) » أي: حق من حقوقه، وإن لم يكن من المعاصي المقدر حدودها؛ لأن المحرمات كلها من حدود الله.
وقال بظاهر الحديث أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأشهب في بعض الروايات عنه أنه لا يزاد في التعزير على عشرة أسواط، ومذاهب العلماء في تقدير التعزير كثيرة. قال: وذكر ابن المنذر أن في إسناد الحديث مقالا، وقال أبو محمد الأصيلي: اضطرب إسناد حديث
__________
(1) سورة البقرة الآية 187
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) مسند أحمد بن حنبل (4/183) .
(4) صحيح البخاري الحدود (6850) ، صحيح مسلم الحدود (1708) ، سنن الترمذي الحدود (1463) ، سنن أبو داود الحدود (4491) ، سنن ابن ماجه الحدود (2601) ، مسند أحمد بن حنبل (4/45) ، سنن الدارمي الحدود (2314) .
(5) صحيح البخاري الحدود (6848) ، صحيح مسلم الحدود (1708) ، سنن الترمذي الحدود (1463) ، سنن أبو داود الحدود (4491) ، سنن ابن ماجه الحدود (2601) ، مسند أحمد بن حنبل (4/45) ، سنن الدارمي الحدود (2314) .
(6) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3475) ، صحيح مسلم الحدود (1688) ، سنن الترمذي الحدود (1430) ، سنن النسائي قطع السارق (4898) ، سنن أبو داود الحدود (4373) ، سنن ابن ماجه الحدود (2547) ، مسند أحمد بن حنبل (6/162) ، سنن الدارمي الحدود (2302) .(23/198)
عبد الرحمن بن جابر فوجب تركه لاضطرابه، وقول ابن المنذر يرجع إلى ما ذكره الأصيلي من الاضطراب؛ فإن رجال إسناده ثقات، والاضطراب الذي أشار إليه هو أنه روي عن عبد الرحمن بن جابر وأبيه جميعا، عمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الطرق كلها مخرجة في الصحيحين على الاتفاق والانفراد.
وروي أيضا عن عبد الرحمن بن جابر، عن رجل من الأنصار، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الاختلاف لم يؤثر عند البخاري ومسلم؛ لأنه يجوز أن يكون سمعه من أبيه عن أبي بردة فحدث به مرة عن هذا ومرة عن هذا. وقوله: " عمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم " يريد به أبا بردة. وقوله: " عن رجل من الأنصار " يريد به أيضا أبا بردة؛ فإنه وإن كان قضاعيا بلويا فإنه حليف للأنصار فنسبه إليهم، وهو مشهور بالنسبة إليهم، وقد ذكر أبو الحسن الدارقطني أن حديث عمر بن الحارث المصري الذي قال فيه: " عن أبيه " صحيح؛ لأنه ثقة وقد زاد رجلا وتابعه أسامة بن زيد. فهذا الدارقطني قد صحح الحديث بعد وقوفه على الاختلاف، وجنح إلى ما جنح إليه صاحبا الحديث رضي الله عنهما والله عز وجل أعلم " أهـ كلام الحافظ المنذري في الحديث، وتتضح به مسالك العلماء في الحديث التي أشار إليها الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى.(23/199)
ومن فوائد إقامة العقوبات الشرعية رفع العقوبات القدرية أو تخفيفها كما أوضحه الإمام ابن القيم في " الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي " حيث قال ص 10: " عقوبات الذنوب نوعان شرعية وقدرية، فإذا أقيمت الشرعية رفعت العقوبات القدرية أو خففتها، ولا يكاد الرب تعالى يجمع على عبده بين العقوبتين إلا إذا لم تف إحداهما برفع موجب الذنب، ولم يكن فيه زوال دائه، وإذا عطلت العقوبات الشرعية استحالت قدرية، وربما كانت أشد من الشرعية وربما كانت دونها، ولكنها تعم والشرعية تمضي؛ فإن الرب تبارك وتعالى لا يعاقب شرعا إلا من باشر الجناية أو تسبب إليها، وأما العقوبة القدرية فإنها تقع عامة وخاصة؛ فإن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها،(23/199)
وإذا أعلنت ضرت الخاصة والعامة، وإن رأى الناس المنكر فاشتركوا في ترك إنكاره أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه ".
وقد أجاد ابن القيم في كتابه المذكور الكلام على العقوبات القدرية، وعلى العقوبات الشرعية، وعلى الآثار القبيحة المذمومة المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة، وأتى في ذلك بما لا يستغنى عنه لولا الإطالة.
هذا وفي نهاية هذا المقال لا يفوتنا إيراد كلمة قيمة للتاج ابن السبكي في كتابه " معيد النعم ومبيد النقم " في إيجاب العمل بالشرع على من يفصل في القضايا لأهميتها فنقول: قال التاج ص 40 - 42 " عليه - أي على على من يفصل في القضايا - رفع الأمور إلى الشرع، وأن يعتقد أن السياسة - أي غير الشرعية - لا تنفع شيئا بل تضر البلاد والرعايا وتوجب الهرج والمرج، ومصلحة الخلق فيما شرعه الخالق الذي هو أعلم بمصالحهم ومفاسدهم، وشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم متكفلة بجميع مصالح الخلق في معاشهم ومعادهم، ولا يأتي الفساد إلا من الخروج عنها، ومن لزمها صلحت أيامه واطمأنت، ولم يقضي رسول الله صلى الله عليه وسلم نحبه حتى أكمل الله لنا ديننا ".
قال التاج: " وقد اعتبرت - ولاينبئك مثل خبير - فما وجدت ولا رأيت ولا سمعت بسلطان ولا نائب سلطان ولا أمير ولا حاجب ولا صاحب شرطة يلقي الأمور إلى الشرع إلا وينجو بنفسه من مصائب هذه الدنيا، وتكون مصيبته أبدا أخف من مصيبة غيره، وأيامه أصلح وأكثر أمنا وطمأنينة وأقل مفاسد، وأنت إذا شئت فانظر تواريخ الملوك والآمراء العادلين والظالمين، وانظر أي الدولتين أكثر طمأنينة وأطول أياما، وكذلك اعتبرت فلم أر ولم أجد من يظن أنه يعلم الدنيا بعقله ويدبر البلاد برأيه وسياسته، ويتعدى حدود الله وزواجره إلا كانت عاقبته وخيمة، وأيامه منغصة منكدة وعيشه قلقا، وتفتح عليه أبواب الشرور ويتسع الخرق على الراقع، فلا يسد ثلمة إلا وتنفتح ثلامات، ولا يرقع فتنة إلا وينشأ بعدها فتن كثيرة وعلى مثله يصدق قول الشاعر:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
وبهذا ينتهي البحث والله ولي التوفيق
إسماعيل الأنصاري(23/200)
ولن ترضى عنك
اليهود ولا النصارى
بقلم \ د \ محمد بن سعد الشويعر
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ونصلي ونسلم على من أرسله ربه رحمة للناس، وهاديا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وعلى آله وصحابته الذين نشر الله على أيديهم الحق في أرجاء المعمورة تحت ظلال السيوف، وبنور العلم، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: -
فقد ذكر ابن كثير رحمه الله في تفسيره عندما مر بهذه الآية الكريمة:
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} (1) الآية. ما يلي: قال ابن جرير: يعني بقوله جل وعلا: وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبدا، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق (2) .
فاليهود والنصارى في الدرجة الأولى، وأصحاب الملل الأخرى لهم تبع، لن ترضى نفوسهم المريضة، وأهواؤهم المتشبعة، وقلوبهم الحاقدة
__________
(1) سورة البقرة الآية 120
(2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1: 163.(23/201)
على الإسلام أو المسلمين حتى يسيروا خلفهم تقليدا ومتابعة؛ لأنهم يريدون الاستعلاء والتسلط بباطلهم، وطمس أنوار الحق الساطعة من عند الله.
وإذا كانوا لن يرضوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صفوة الخلق وأعلاهم منزلة، حيث وقفوا ضد دعوته بالمرصاد عنادا ومكابرة وصدا، فإن أمته صلى الله عليه وسلم لا تستغرب ما تلقى في كل عصر ومكان من اليهود وأعوانهم من أمور تنبئ عن حقدهم على الإسلام وأهله، ترصد ذلك الأحداث التاريخية، وتكشفه ضغائن النفوس.
وفي كل مرة يأتي هدفهم بغاية، أو يسوقونه خلف مقصد: فمرة باسم الأرض والغلات، وأخرى باسم الاقتصاد والمصالح، وثالثة باسم العلم والنظريات، ورابعة تحت مظلات الفكر والمؤتمرات والصداقة، وغير هذا من مسميات متعددة، وغايات ومقاصد متباينة، إلا أنهم لم يظهروا جلية الأمر باسم العقيدة، مع أنها هي المقصد الحقيقي، فهم يخشون عند إعلانها من إثارة الحماسة العقدية في نفوس المسلمين، وتحريكها في جوانحهم؛ لأن الواقع التاريخي والحقيقة المعروفة من الأحداث المرصودة، كما أوضحه لهم كبير المبشرين (المنصرين) الإنجليز في الثلث الأول من هذا القرن الميلادي صموئيل زويمر: بأن المسلمين لا يقبلون من يجابههم باسم المناوأة لدينهم، رغم جهل أكثرهم به، إذا كان المتحدث غربيا، فهم يثورون لذلك حمية، ويتصدون لمقاتلة ذلك المتعرض له بحماسة واستماتة، ولا نستطيع الصمود أمامهما.
ولهذا سيظل اليهود في الدرجة الأولى، ثم النصارى جاهدين في محاربة هذا الدين، كائدين لأبنائه بسبل وغايات مختلفة، فهم متعصبون لعقائدهم، شديدو الحرص على جذب الناس إليها، ويبذلون في هذا السبيل أموالا وجهودا، ولا يتورعون عن سفك الدماء، وتخريب البيوت والديار؛ لتحقيق هدفهم الأسمى، وهو صد الناس عن دين الله، وإماتة(23/202)
جذوته في النفوس، بالتشكيك في تعاليمه، وصلاحها لكل عصر ويسلكون في هذا السبيل طرقا، وينتهجون أساليب، منها الكذب والافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنيل من سيرته، وتفسير أمور كثيرة في التشريع الإسلامي، والتاريخ المواكب لنشره بما يحلو لهم من التلبيس، ووضع الأمور في غير مواضعها، كما اعترف بذلك الدكتور " بجيل كروث " في المؤتمر الذي عقد في عام 1979م في قرطبة بأسبانيا، باسم المؤتمر الثاني للمناظرة بين المسلمين والنصارى عندما قال: " لا يوجد صاحب دعوة تعرض للتجريح والإهانة ظلما على مدى التاريخ مثل محمد ".
وكما يلمس ذلك الضغن منهم كل من يقرأ كتب الاستشراق، ويتعمق في دعوات المبشرين وتقاريرهم، مع أن الجميع ومن قبلهم علماء اليهود وأحبارهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفون حقيقة الرسالة المحمدية، وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الحق، كما أخبر الله عن سالفيهم عند معاندتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1) وانطلاقا من عقيدتهم هذه فإن أعمال يهود في المدينة وفي خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفة حسبما أبان الله عنهم، ووفق ما رصد في السيرة النبوية الكريمة، ثم جاءت المجابهة في محاولة جيوشهم الوقوف بشدة في وجه الزحف الإسلامي على ديار الشام منذ موقعة مؤتة في عام 8 هـ، ثم حاولوا الكيد للمسلمين في عهد الخلفاء الراشدين فالأمويين والعباسيين بكل ما أوتوا من قوة وتدبير، ولكن الله أبطل كيدهم، وأظهر دينه وأعز جنده، فاتسعت دائرة الإسلام، وأصبحت ديار الشام قاعدة إسلامية تخرج منها الجيوش لنصرة دين الله، ودعوة الناس إليه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 146(23/203)
لكنهم كالنار تحت الرماد عندما يجدون مجالا للتحرك تنبعث الشرارة،(23/203)
ففي عام 488 هـ اغنتم البابا أربان الثاني اجتماعا في مجمع كلير مونت عاصمة إقليم أوفرن بفرنسا لأن نقطة ضعف من المسلمين قد حانت، فألقى خطابا أثار حماسة النصارى لحرب المسلمين في سبيل توحيد الكنيستين الشرقية والغربية تحت سيطرته، ودعا للحروب الصليبية ضد المسلمين، ووعد من يحارب بالمحافظة على أموالهم ورعاية أولادهم، علاوة على ما ينتظرهم من مال وشهرة، وصار يطوف البلاد على حماره حاملا الصليب محرضا ومحمسا حتى استجابوا له (1) .
ثم تظهر حقائقهم، عن واقع أعمالهم ضد الإسلام والمسلمين، عندما تلوح لهم بارقة النصر، فقد ذكر ابن الأثير (555 - 630 هـ) في حوادث عام 492هـ في وصف المذبحة التي أحدثها الصليبيون في بيت المقدس عند دخولهم إياه بعد حصار طويل، أمورا شنيعة منها قوله: " وقتل الإفرنج بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفا، منهم جماعة كبيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم، ممن فارق الأوطان، وجاور بذلك الموضع الشريف " (2) .
وحتى لا يكون القارئ متأثرا بمحاولة كثير من كتاب الغرب حول الدعوة لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي، وما فيه من مبالغات وتزويدات، حيث يعتبرون ذكر مثل هذا الرقم من التزويدات، نثبت في هذا المكان ما أورده الكاتب ول ديورانت في موسوعته التي ترجم منها إلى اللغة العربية حتى الآن 42 جزءا، وما نقله عن القس رميند الأجيلي الذي حضر هذه المذبحة بقوله: " وشاهدنا أشياء عجيبة إذ قطعت رءوس عدد كبير من المسلمين، وقتل غيرهم رميا بالسهام، أو أرغموا على أن يلقوا بأنفسهم من فوق الأبراج، وظل بعضهم الآخر يعذبون عدة أيام ثم أحرقوا بالنار، وكنت ترى
__________
(1) راجع كتاب الدولة الإسلامية تاريخها وآثارها ص 248، والحروب الصليبية الأولى ص 19.
(2) الكامل في التاريخ 10: 282.(23/204)
في الشوارع أكوام الرءوس والأيدي والأقدام، وكان الإنسان أينما سار فوق جواده يسير بين جثث الرجال والخيل "، ثم نقل عن شاهد آخر قوله: " إن النساء كن يقتلن بالسيوف والحراب، والأطفال الرضع يختطفون بأرجلهم من أثداء أمهاتهم، ويقذف بهم من فوق الجسور، أو تهشم رءوسهم بدقها بالعمد، وذبح سبعون ألفا من المسلمين الذين بقوا بالمدينة " (1) .
وقد حرص النصارى في حروبهم الصليبية التي استمرت في بلاد الشام قرابة مائتي عام، حاولوا الامتداد فيها إلى الحرمين الشريفين حرصا على تمكين عقيدتهم، والدعوة لها على أنها هي الهدى، ومحاولة قسر الناس عليها، وإبادة من يخالفها، حتى قيض الله حربا على يد صلاح الدين الأيوبي (532 - 589 هـ) غيرت مجرى التاريخ في عام 583هـ، أعلت قدر الإسلام والمسلمين في ذلك الصراع، فمعركة " حطين " تعتبر من المعارك الفاصلة في التاريخ، وقد وصفها المقدسي في كتابه الروضتين قائلا: " غير أن هذه النوبة المباركة كانت للفتح المقدسي مقدمة، ولمعاقد النصر وقواعده مبرمة محكمة (2) ، فتنفس المسلمون الصعداء بعد أن ارتفعت راية الإسلام عالية، معلنة رفع الظلم الواقع على المسلمين ودينهم، وليثأر المسلمون من خصومهم، حيث انفتح لهم أوسع أبواب النصر في الحروب الصليبية، وذلك بإخراج النصارى عن حكم بيت المقدس، والهيمنة عليه، وقد وصف ذلك بالنصر وما جرى في بيت المقدس من فتح، وعدالة في معاملة النصارى، ابن الأثير في تاريخه وصفا ضافيا، مشيرا لذلك اليوم الحافل بالفرحة العامة للمسلمين بدخول القدس، وهو
__________
(1) انظر قصة الحضارة جـ 4: م4 ص 25 عصر الإيمان وبالطبعة العربية ترجمة جامعة الدول العربية 15: 25.
(2) الروضتين 2: 75.(23/205)
يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب عام 583هـ، حيث طهر صلاح الدين المسجد الثالث مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلبانهم، ثم صلى في المسجد الأقصى بمن معه الجمعة التالية بعد انقطاع في 4 شعبان سنة 583هـ، وأظهر تسامح قواد المسلمين عندما ينتصرون، فقد عفا عن البطريك الكبير، وغيره من قادتهم ونسائهم ومنحهم أموالهم يخرجون بها، عدا " ريتشارد قلب الأسد " الذي حلف أن يذبحه بيده تأثرا لجرأته على غزو المدينة المنورة، حيث وصل في حملته إلى ينبع؛ ليعطيهم درسا عمليا عن مكانة الإسلام في تربية أبنائه على الغضب لله ولدينه، وللمحافظة على العهود ورعايتها (1) .
__________
(1) راجع الكامل في التاريخ 11: 529 - 553.(23/206)
وفي الجانب الآخر نجد أن فرديناند وزوجته ايزابيلا التي شاركته الحكم يعملان الأفعال الشنيعة في الأندلس لطمس حضارة الإسلام، وإجبار الناس على ترك دينهم، تحت أشد أنواع العقاب، وإحراق الكتب الإسلامية في ميدان غرناطة منذ تنازل لهم آخر ملوك الأندلس من المسلمين، محمد بن الأحمر - أبو عبد الله (867 - 940هـ) عن ضياعه وسائر أملاكه في غرناطة، وأن يعبر إلى المغرب في موعد أقصاه شهر أكتوبر من عام 1493م الموافق لعام 898 هـ.
واستمرت الكنيسة تواصل تحريضها في محاولة لطرد المسلمين من الأندلس، وإلزام من بقي بالتحول للنصرانية، ومتابعتهم في بيوتهم حتى لا يرتبطوا بالإسلام في المظهر واللباس والطعام والغسل، والنظافة والأسماء أما العبادة وقراءة القرآن فمن باب أولى، وكان العقاب شديدا على من يلاحظ(23/206)
عليه شيء من ذلك، أو يمتنع من الذهاب للكنيسة، أو يتحدث أو يكتب اللغة العربية، وقد وصف المطران " جريرو " " الموريسكيين " وهذا هو الاسم الذي أطلقوه على المسلمين - في عام 1565م الموافق لعام 973هـ في كتاب باللغة الأسبانية، نقله عنه محمد عبد الله عنان بقوله: إنهم خضعوا للتنصير، ولكنهم لبثوا كفرة في سرائرهم، وهم يذهبون للقداس تفاديا للعقاب، ويعملون خفية في أيام الآحاد والأعياد، ويحتفلون يوم الجمعة، أعظم من احتفالهم بيوم الأحد، ويستحمون حتى في ديسمبر، ويقيمون الصلاة خفية، ويقدمون أولادهم للتنصير خضوعا للقانون، ثم يغسلونهم لمحو آثار التنصير، ويجرون ختان أولادهم، ويطلقون عليهم أسماء عربية، وتذهب عرائسهم إلى الكنيسة في ثياب أوربية، فإذا عدن إلى المنزل استبدلنها بثياب عربية، واحتفل بالزواج طبقا للرسوم العربية؟ ويعلق المؤلف على هذا القول بما نصه: والظاهر أن هذه الأقوال تنطوي على كثير من الصدق، ذاك أن الأمة الموريسكية المهيضة بقيت بالرغم مما يصيبها من شنيع العسف والإرهاق متعلقة بتراثها الروحي القديم، وبالرغم مما فرض على الموريسكيين من نبذ دينهم ولغتهم، فقد لبث الكثير منهم مسلمين في سرائرهم، يزاولون شعائرهم خفية، ويكتبون أحكام الإسلام والأدعية والمدائح النبوية بالقشتالية الأصلية أو بالقشتالية المكتوبة بأحرف عربية (1) .
وقد ذكر المقري (992 - 1041هـ) : أن النصارى بالأندلس قد شددوا على المسلمين بها في التنصر، حتى أنهم أحرقوا منهم كثيرا بسبب ذلك، ومنعوهم من حمل السكين الصغير فضلا عن غيرها من الحديد، وقاموا في بعض الجبال على النصارى مرارا، ولم يقيض الله لهم ناصرا إلى أن كان إخراج النصارى إياهم عام 1017 هـ، فخرجت ألوف بفاس، وألوف أخر
__________
(1) نهاية الأندلس 378، 379.(23/207)
بتلمسان ووهران، وخرج جمهورهم بتونس، فتسلط عليهم الأعراب، ومن لا يخشى الله تعالى في الطرقات، ونهبوا أموالهم (1) .
ويعلل الناصري في تاريخه الاستقصاء: أسباب جلاء المسلمين من الأندلس بأنه بعد استيلاء صاحب قشتالة على غرناطة سنة 897 هـ وقد التزم أهلها طاعته، والبقاء تحت حكمه على شروط اشترطوها عليه، وأن عدو الله قد نقض تلك الشروط عروة عروة، وكان أهل الأندلس من أجل ذلك كثيرا ما يهاجرون من بلاد الكفر إلى بلاد الشام أثناء هذه المدة السالفة (2) .
فعندما نستعرض التاريخ وأحداثه في ديار المسلمين؛ الشام والأندلس في الحروب الصليبية، وحتى بعد سقوط آخر معقل للمسلمين بالأندلس، حيث أنشئوا ديوان التحقيق لمتابعة المسلمين والبطش بهم، ثم في أوروبا بعد تحالف دولها للقضاء على الدولة العثمانية؛ لأنها رمز لاجتماع المسلمين تحت مظلة واحدة، تلم شملهم، وتوحد صفوفهم، بالعقيدة الإسلامية.
__________
(1) نفح الطيب 2: 617.
(2) الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى 6: 11.(23/208)
ثم أخيرا بعد غرسهم دولة اليهود في قلب العالم الإسلامي بوعد بلفور في فلسطين، ومساعدتهم بتأسيسها منذ عام 1948م 1367هـ، بهذا وبغيره فإننا نلمس صدق الدلالة القرآنية في غضب اليهود والنصارى من دين الإسلام، وجهودهم لتحويل الناس عنه بطرق مختلفة، تتباين في كل عصر بحسب ما يراه المخططون كفيلا، بنفرة الناس من الإسلام وإبعادهم عن تعاليمه، والدعوة إلى أن دياناتهم هي الحق.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله [1307 - 1376 هـ] في تفسيره عند مروره بالآية الكريمة: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 120(23/208)
الآية: يخبر تعالى رسوله أنه لا يرضى منه اليهود ولا النصارى إلا باتباعه دينهم؛ لأنهم دعاة إلى الدين الذي هم عليه، ويزعمون أنه هو الهدى، فقل لهم: {إِنَّ هُدَى اللَّهِ} (1) الذي أرسلت به: {هُوَ الْهُدَى} (2) وأما ما أنتم عليه فهو الهوى بدليل قوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (3)
فهذا فيه النهي العظيم عن اتباع اليهود والنصارى والتشبه بهم فيما يختص به دينهم، والخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أمته داخلة في ذلك؛ لأن الاعتبار بعموم المعنى لا بخصوص المخاطب، كما أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (4) ، فاليهود والنصارى سيظلون يحاربون دين الإسلام وأهله، ويكيدون لهم بغايات متعددة، وطرق متشعبة، ولن يرضوا عنهم إلا أن يحيدوا عن طريقه السليم، ولا يشرفهم كما قال أحد المبشرين أن يدخلوا النصرانية، بل يهمهم أن يكون المسلمون لهم تبعا، وأن يشككوهم في دينهم؛ لأن النصارى واليهود غير ملتزمين بعقائدهم الأصلية، وفي هذا اتباع للهوى الذي يريده هؤلاء القوم بصرف المسلمين عن عقيدتهم التي أرادها الله لهم حسدا من عند أنفسهم، حتى يتساووا في الظلم؛ لما في هذا المنهج من محاربة لله، ولشرعه.
فاليهود من سماتهم دائما الفساد والإفساد، ونفوسهم مجبولة على هذا وتبعهم النصارى في ذلك المعتقد، متفقين في التصدي لمحمد صلى الله عليه وسلم ودعوته التي جاء بها من عند الله، مع اختلاف الأكاذيب، وتعمد التشويه فيما قاموا به من دراسة للدين الإسلامي وكتبه وتاريخه، والدس بأساليب متنوعة.
ومع هذا فيجب ألا يغرب عن البال اختلافهم فيما بينهم، وتباين
__________
(1) سورة البقرة الآية 120
(2) سورة البقرة الآية 120
(3) سورة البقرة الآية 120
(4) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 1: 133 - 134.(23/209)
طرقهم العقدية كما قال جل وعلا عنهم في محكم التنزيل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} (1) .
ولم يعرف لهم في التاريخ القديم أو الحديث اتفاق إلا في معاداة الإسلام؛ لأن الصراع في العقيدة التي بموجبها العلاقة بالله جل وعلا هي المحك والذي بموجبه تتجلى بواطن النفس ودخائل أعمالها.
يقول سيد قطب في الظلال: تلك هي العلة الأصيلة، ليس الذي ينفعهم هو البرهان، وليس الذي ينقصهم هو الاقتناع بأنك يا محمد على الحق، وأن الذي جاءك من ربك الحق، ولو قدمت إليهم ما قدمت، ولو توددت إليهم ما توددت لن يرضيهم من هذا كله شيء إلا أن تتبع ملتهم، وتترك ما معك من الحق، إنها العقدة الدائمة التي نرى مصداقها في كل زمان ومكان، إنها هي العقيدة، هذه هي حقيقة المعركة التي يشنها اليهود والنصارى في كل أرض، وفي كل وقت ضد الجماعة المسلمة، إنها معركة العقيدة هي المشبوبة بين المعسكر الإسلامي، وهذين المعسكرين اللذين قد يتخاصمان فيما بينهما، وقد تتخاصم شيع الملة الواحدة فيما بينها، ولكنها تلتقي دائما في المعركة ضد الإسلام والمسلمين.
إنها معركة العقيدة في صميمها وحقيقتها، ولكن المعسكرين العريقين في العداوة للإسلام والمسلمين يلونانها بألوان شتى، ويرفعان عليها أعلاما شتى، في خبث ومكر وتورية، إنهم قد جربوا حماسة المسلمين لدينهم وعقيدتهم حين واجهوهم تحت راية العقيدة، ومن ثم استدار الأعداء العريقون فغيروا أعلامهم (2) .
فاليهود وإن قفرت منهم معابدهم، والنصارى وإن تساهلوا في ارتياد
__________
(1) سورة البقرة الآية 113
(2) في ظلال القرآن 1: 142.(23/210)
كنائسهم، سيبقى انتماؤهم العقدي يربطهم بالطريقة التي كانوا عليها هم وآباؤهم. ولن يرضوا التخلي عنه، أو المناقشة من أجل الوصول للحقيقة المجردة من الهوى بل يسعون جاهدين في تثبيت معتقداتهم في الأمم الأخرى، وصرف المستنيرين منهم عن المنافذ المؤدية لإدراك الحقيقة، لأن انصرافهم لدراسة الإسلام والقناعة بتعاليمه أشد عليهم من دفاع المسلمين.
فهم يتبنون أفكارا وآراء تستحوذ على أذهان البسطاء، وتموه على الباحثين عن الحق، وذلك بأهمية قادتهم - أحبارا ورهبانا - في الريادة الفكرية والدينية، مستغلين تأثر كثير من المسلمين ظاهريا، ببهرج حضارة الغرب علميا وعسكريا وصناعيا، وغير ذلك، حسبما فعلته وسائلهم الإعلامية في نفوس كثير من الناس.(23/211)
فكانت الفرصة مواتية لإبراز نماذج من دعواتهم في استقطاب البارزين في العالم، بعد أن اطمأنوا إلى توفر أسماء من رضعوا من لبانهم وتشبعوا بفكرهم؛ تثقيفا وقراءة وتعليما وولاء؛ لاعتقادهم بأن مثل هؤلاء من خيرة من يذيع وجهات نظرهم، ويدافع عن مقاصدهم بدراية أو تقليد.
وقد قيل: الجهل داء قاتل، ثم ينساق خلفهم المقلدون، ونستطيع أن نضع نماذج لتلك الدعوات بما جد في الآونة الأخيرة من عصرنا الحاضر، حتى يستعد المسلمون لمجابهتها، وإعداد العدة المناسبة لمثيلاتها؛ ليكون ذلك مهيئا للنفوس في تخطي ما يهدف إليه أعداء الإسلام، من أمور بعيدة المرمى، نحو ديننا وسلامة عقيدتنا، وتنقية فكرنا مما يخالفه، والمداخل إلى ذلك:
1 - اللقاء الإبراهيمي الذي تبناه المسلم الفرنسي جارودي حيث عقد بقرطبة ما بين 12 - 15 \ 12 \ 1987م، وقد سبق هذا عدة لقاءات وتلاه وسيتلوه اجتماعات أخرى، والمفهوم عن هذا اللقاء حسب إطاره الأصلي بأنه مجرد حوار إسلامي مسيحي، لكن الظاهرة التي أدركها بعض الحضور(23/211)
والمهتمين أنه قد دعي إليه بعض اليهود، وهذا مكسب عظيم لهم ليستغلوا الموقف، ويقولوا: إن خلافنا مع العرب خلاف سياسي لا ديني عقدي، والله جل ثناؤه قد أبان في كتابه الكريم بأنهم أشد أعداء للمسلمين من المشركين عبدة الأوثان فقال جل وعلا: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (1) .
والذي يجب معرفته أن هذا اللقاء لم يكن جديدا، كما دعا إليه الجارودي، ولكنه قديم دعا إليه مفكرو اليهود والنصارى، يلمس هذا في مثل آراء كثير من الفرنسيين وغيرهم ممن تحمسوا لهذا اللقاء؛ ليدسوا من خلاله ما يعن لهم من فكر مثل: -
- لويس سينيون الذي دعا إلى ربط الأديان التوحيدية الثلاثة بنفس الشبكة، وذلك من خلال وصلها بالإيمان الإبراهيمي.
- ميشال حايك في كتاباته العديدة، وضمن ثلاثة كتب له نشرت باللغة الفرنسية عام 1964م - 1972م - 1978م.
- مكسيم رودنسون أستاذ العلوم التاريخية والسلالات في جامعة باريس في كتابه العرب المنشور في باريس عام 1979م الموافق لعام 1400هـ حيث أكد على هذه النظرية.
يقدس اليهود نظرية الإسماعيلية وإدخالها في كتبهم، إذ صارت كلمة إسماعيلي مرادفة لكلمة عربي؛ لأن العرب ينحدرون من إسماعيل بن إبراهيم وأمه هاجر المطرودة من سارة أم إسحاق جد اليهود - حسب عبارتهم.
- اهتمام اليهود ودعوتهم للتقارب العرقي مع العرب؛ لأنهم أبناء عم فإبراهيم يجمعهم نسبا، ويقولون: كلنا نؤمن بإبراهيم مع ما في هذا من مغالطة بتكذيبهم أنبياء الله بعده وعداوتهم معهم حتى بلغ بهم الأمر إلى إيذائهم، أو قتلهم كما قصه القرآن الكريم علينا.
__________
(1) سورة المائدة الآية 82(23/212)
2 - دعا البابا قبل عشر سنوات إلى اجتماع عقد في روما للتقارب بين الأديان وانبثق عن ذلك مؤتمرات للمناظرة بين المسلمين والنصارى، حيث عقد المؤتمر الثاني في قرطبة عام 1979م الموافق لعام 1400 هـ.
وقد نتج عن ذلك حوار بين المسلمين والنصارى في كل مكان من أوروبا، وبدأ في السنوات الأخيرة يدب إلى أمريكا وفي الجامعات بالذات إلا أن الملاحظ في ذلك الحوار تعدي حرية الفكر التي يؤمن بها بعض القوم بعد ضعف الكنيسة، حيث تسرب رجال الدين المتعصبون في الديانة النصرانية لفرض معتقدهم.
وقد استغل اليهود هذا المدخل الفكري لبث سمومهم، مما يعارض المصلحة الإسلامية في الحوار المقنع؛ لأن هؤلاء وهؤلاء ينطلقون مما أبانته الآية الكريمة بطمس العقيدة الإسلامية، والنظرة الشمولية في الفكر والعبادات وحماية الفرد والجماعة، والتعتيم على العدالة الإسلامية التي تتوق إليها النفوس البشرية بعدما استشرى الظلم عندهم وصار الحق لا يأخذه إلا القوي.
3 - وفي العام الماضي 1407هـ تأسست جماعة عالمية للمؤمنين بالله، من منطلق مفهوم النصارى في شهر مارس سنة 1987م، وأعطت نفسها شعارا هو: " المؤمنون متحدون " وقد كان هذا الشعار ثمرة لدعوة البابا عندما دعا في قرية أسيس في 27 \ 10 \ 1986م إلى صلاة مشتركة، قدم نفسه فيها للعالم بأنه القائد الروحي للأديان جميعا، وأنه حامل رسالة السلام للبشرية جمعاء. . وقد كان له ما أراد، فقد لبى حضورها عدد من المسلمين واليهود والبوذيين وغيرهم، وقد توسع شعارهم هذا، فنشأ عن هذه الدعوة ضمن ذلك اللقاء: -
- نادي الشباب المتدين الذي أنشئ صيف عام 1987م 1407 هـ.(23/213)
- الناس متحدون تكونت بعد ذلك بمدة قصيرة في أبريل عام 1987م الموافق رمضان سنة 1407هـ.
- المؤمنون متحدون: الجماعة العالمية للمؤمنين بالله في 21 مارس سنة 1987م الموافق شعبان سنة 1407هـ.
- إلى جانب نداوت ولقاءات في الحوار بين الديانات، ويكسب بحمد الله جواد الإسلام الرهان في الجولة، وتعلو حجته كما في اللقاء مع القساوسة في السودان في محرم سنة 1401 هـ، وحوار أحمد ديدات مع القس المتعصب سويجارت، ففي الأولى أسلم 15 قسا وبإسلامهم أسلم 500 نصراني، وبالثاني ظهرت مكانة الإسلام وقوة حجته.
- الدعوة لإقامة معبد للأديان في سيناء.
- الدعوة لاجتماع المجمع المسكوني القادم في بيت لحم بالأرض المحتلة عام 2000م.
- إقامة الصلاة في مسجد قرطبة في عام 1394هـ ودعي لاحتفال بذلك لتأكيد علاقات الأخوة والمحبة بين أبناء الديانتين: الإسلام والمسيحية.
وقد رد على هذا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز بمقال نشر في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في تلك السنة تحت عنوان: لا أخوة بين المسلمين والكافرين، ولا دين حق غير دين الإسلام.
وقد سبق هذا كما سيتلوه دعوات أخرى تنطلق من نظرتهم في الاستعلاء، وأن الهيمنة يجب أن تتحرك مما بعثوه هم، وحسب تفسيرهم أيضا؛ لكسب الرأي العام في السمعة والمكانة، ويأبون الوصول للحقيقة التي وضحها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل قوله: «نحن معاشر الأنبياء ديننا واحد» رواه البخاري في صحيحه، ذلك أن دين الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم شريعة لأمته، هو دين الإسلام الذي جاءت به جميع الأنبياء،(23/214)
وعلى جميع الثقلين الانصياع لشريعته الكاملة الناسخة لما قبلها والعامة فيما ينفع الناس بمعاشهم ومصادرهم، كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (1) .
فاليهود يريدون خلف هذه الدعوات كسر الطوق الذي فرض عزلتهم في العقيدة؛ لكي يجتمعوا مع المسلمين وقادة المؤسسات الإسلامية بهدف هدم جدار العقيدة، الذي يتحصن المسلمون وراءه شعوبا وجماعات في جهادهم ضد أعدائهم، ذلك أن عزتهم ونصرهم لا يكونان إلا بتوفيق الله، ثم باسم الإسلام عقيدة وعملا، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه (40 ق هـ - 23هـ) : " نحن قوم أعزنا الله بالإسلام ومتى ابتغينا العز بغيره أذلنا الله ".
ومن هذا تدرك محاولة أعداء دين الله في كل زمان بما يناسبه، وضع الشراك للمسلمين لتصيد عثرات منهم، في محاولة لصرفهم عن غايتهم التي خلقوا من أجلها، وللمباعدة بينهم وبين عقيدتهم التي رفعهم الله بها؛ ليكونوا خير أمة أخرجت للناس، ذلك أن الخيرية التي قال الله عنها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (2) ،. لم تكن خاصة لشعب بذاته ولا لطائفة بعينها، ولكن هذا لمن رضي بشريعة الله دينا، واتبع هدي محمد صلى الله عليه وسلم وأدى حق ذلك، حسب الوصف لهذه الخيرية، كما توضحه باقي الآية الكريمة: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (3) ، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إبانة أهداف اليهود والنصارى ونواياهم ضد الإسلام، وفضح أساليبهم ودعاواهم، وألا يشترك معهم في حوارهم
__________
(1) سورة المائدة الآية 48
(2) سورة آل عمران الآية 110
(3) سورة آل عمران الآية 110(23/215)
وندواتهم، إلا من يؤمن عليه من التأثر والانحراف، ويرجى نفعه وتأثيره في الآخرين، وذلك بالمجادلة الحسنة، والبحوث الوافية الغامضة، والدعوة برفق في توضيح حقائق الإسلام، المقرونة بالوقائع، والمعالجة للأوضاع، وبالأسلوب المقنع المريح، حتى يدركوا حقيقة العقيدة المرتبطة بالله، والتي هي محور العمل الإسلامي.
ذلك أن الآية التي أوضحت خيرية هذه الأمة خاطبت عقول أهل الكتاب بما ينفعهم، عندما تتحرك جذوة الخير في نفوسهم، وتنصاع لأمر الله استجابة ورضا بما شرع لعباده على وجه الأرض، حيث يقول جل وعلا: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} (2) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2) سورة آل عمران الآية 111(23/216)
ودين الإسلام لم ينه عن دعوة هؤلاء، ولا عن إبانة الحقيقة لهم، ولا عن مجادلتهم مع أنهم متحمسون لعقائدهم، متشددون في باطلهم.
بل إن منهج هذا الدين الحرص على الدعوة والتوضيح لكل ذي لب، حتى تقوم الحجة، وتبرأ الذمة، ونعى بالذات على أهل الكتاب في مواضع كثيرة بالرفق واللين وحسن المجادلة، ثم المباهلة عندما يشتدون في باطلهم، ويتجاهلون ما لديهم من حقائق يحاولون طمسها مغالطة، كما قال سبحانه:
{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (1) .
لأن الجدال المتشدد في دين الله مما يورث الهزيمة، ويوقع النفوس في أشد
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 46(23/216)
ما نهيت عنه، إذ يوردها المهالك، كما قال سبحانه وتعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} (1) ، وأداء لحق العهد المأخوذ على من عرف شرع الله بتوضيحه للناس حتى لا يقع فيما وقع فيه أهل الكتاب من قبل من كتمان الحق، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (2) . واستجابة لأمر الله وخوفا من وعيده في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (3) ؛ فإن من واجب من يشارك في أمثال هذه اللقاءات، عليه أن يكون متصفا بأمور منها: -
1 - العلم فيما يتحدث عنه، والإحاطة بجوانبه حتى لا تنزلق قدمه بعثرة في لسانه، فتحسب غلطة على الأمة الإسلامية، أو تلصق بالدين نفسه، خاصة عند أمثال هؤلاء الذين يعتبرون ما يصدر عن الأشخاص تعبيرا عن شعور الأمة، وانعكاسا للعقيدة.
2 - الإدراك لما قصدوه في ندواتهم هذه، وما قدموه للملأ من موضوعات؛ لإبانة نظرة الإسلام وتوضيحه للأمور من منطلق المفهوم الإسلامي، حسبما وضح من مصدري التشريع فيه، وفهمه الصفوة الأولى من هذه الأمة، لا من زاوية ادعاءاتهم هم.
3 - الحلم وضبط النفس: فالمناظرات والمداولات تستدعي الإثارة، ومن يغضب يسيء من حيث أراد الإحسان، أما الحليم فإنه يستجر من يناظره برفق ولين حتى يدرك خفايا نفسه، ثم يسيطر على الموقف لاقتران حلمه بالإدراك والعلم.
__________
(1) سورة غافر الآية 4
(2) سورة آل عمران الآية 187
(3) سورة الزخرف الآية 44(23/217)
4 - التواضع ولين الجانب من غير ضعف، وذلك مما يعلي مكانة العلماء، ويحببهم لنفوس الآخرين، مهما كانت الخصومة، ويدعوهم هذا للاستجابة والأخذ عنهم، فقد جاء في الحديث الشريف: «من تواضع لله رفعه (1) » رواه أحمد وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري (2) ، فالكبر يغلف النفس برداء الاحتقار والازدراء.
5 - المثالية في التطبيق؛ لأن ثمرة العلم العمل، وعلم بلا عمل كما قال العلماء: كشجر بلا ثمر. والمثالي يكون قدوة صالحة في نفسه، ونموذجا حيا للاقتداء، ولقد جاء الوعيد الشديد لمن يعمل بخلاف ما يقول، من ذلك قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (3) {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (4) .
على أن يسبق فكرة المشاركة في أي لقاء دراسة جدوى المشاركة، وما يترتب عليها من مصالح، ونوايا المشاركين والداعين والخلفية الفكرية والعقدية عن كل فهم، مع أخذ ذلك بعمق وحيطة، استرشادا بما جاء في كتاب الله عز وجل من كشف نوايا أهل الكتاب - اليهود والنصارى - في مثل هذه الآيات الكريمات، التي تخاطبهم وتدعوهم إلى الحق، وتبين لهم ما وقعوا فيه من العيوب والأخطاء، وتدعوهم إلى كلمة سواء: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (5) {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} (6) {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (7) {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (8) {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (9) .
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2588) ، سنن الترمذي البر والصلة (2029) ، مسند أحمد بن حنبل (2/386) ، موطأ مالك الجامع (1885) ، سنن الدارمي الزكاة (1676) .
(2) انظر كشف الخفاء ومزيل الإلباس 2: 242.
(3) سورة الصف الآية 2
(4) سورة الصف الآية 3
(5) سورة آل عمران الآية 69
(6) سورة آل عمران الآية 70
(7) سورة آل عمران الآية 71
(8) سورة آل عمران الآية 72
(9) سورة آل عمران الآية 73(23/218)
إذ مهمة من يتحدث باسم الإسلام في لقاء خطير كهذا، أن ينطلق من عقيدة الإسلام فكرا وعملا واعتقادا، حتى يحقق الثمرة المرجوة منه.
ولعلنا لو رجعنا إلى دقائق التقارير، والأخبار المرصودة عن تلك الدعوات الموجهة عنوة للمسلمين، وتابعها الغيورون من المسلمين، فإننا سوف نراها تسير في خط مغاير للإسلام هدفا وتشريعا وفكرا للأسباب التالية: -
1 - يعتبرون هنري دومونث مؤسس الصليب الأحمر رمز الإحسان، ودارون صاحب نظرية التطور والارتقاء، والذي يرى أن الإنسان أصله قرد، رمزا للتطور، وكارل ماركس مؤسس الاشتراكية الشيوعية رمز المساواة.
وهؤلاء كلهم يهود الانتماء، ومعلومة أفكارهم ومبادئهم، فهم يعتبرونهم من رموز الإنسانية.
2 - يرون أن كل الأديان بمستوى واحد ويعدون منها اليهودية والنصرانية والإسلام وكذلك البوذية وأيضا الماسونية والمؤمنون الأحرار بإله واحد في النصارى.
3 - يضعون صلاة مشتركة اخترعوها من أنفسهم بصفتها ووقتها يمارسها من ينتمي إلى دعواتهم، أسموها صلاة روح القدس، وكذلك نشيدا يردده الجميع أسموه نشيد الإله الواحد: رب وأب.
4 - اللوائح التي وضعوها داخلية، تسعى لإذابة الفوارق الدينية، ومسخ الشخصية، ويهدفون من ذلك بالدرجة الأولى الشخصية الإسلامية.(23/219)
5 - يعتبرون يوم صلاة البابا في أسيس 27 أكتوبر عيدا لكل الأديان، ويوم أول يناير هو يوم التآخي.
6 - أما شعارهم فيتثمل في راية عليها شعار الأمم المتحدة وقوس قزح وإشارة (7) رمز النصر، وهو اسم أول سفينة اكتشفت القارة الأمريكية، وحملت رسالة النصرانية إلى تلك البلاد.
وكل هذه تختلف شكلا ومضمونا عن المعتقد الإسلامي، وتعمق جذورا ينهى عنها الإسلام، وقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التشبه بأعمال وأفعال المناوئين لشرع الله. . وهذا مما يجب أن يدركه المشارك لهم في اللقاء؛ ليرفضه أو يطلب استبداله في مدخله معهم للحوار كشرط أولي؛ لإشعارهم بفهم المشارك واعتزازه بدينه.
أما غير المعلن من النوايا، فهو ما يهدف دعاة هذه المبادئ من ورائه إلى زعزعة الإسلام من النفوس، ومحاولة تقويض دعائمه لتثبيط الهمم عنه خوفا وحسدا: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (1) خاصة بعد أن أحسوا بعودة جديدة من المسلمين ولا سيما الشباب لدينهم، ورغبة من بعض المفكرين الغربيين الانتماء للإسلام عقيدة أو فكرا أو دراسة.
إن وحدة الأديان التي يدعون إليها ليست جديدة، وإن تغيرت مسمياتها بما يحاول به دعاتها الخداع والمراوغة، ولعل هذا مما يتضح لنا من استقراء الحوار الفكري في القرآن، ومجادلة أهل الكتاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أخذت التسمية الجديدة نمطا خاصا فهي في جوهرها تلتقي مع الأصل في الهدف والغاية، كما مر في الآيات السابقة قولهم: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} (2) إن مشاركة المسلمين في أمثال هذه اللقاءات يجب أن ينطلق من العقيدة الإيمانية والحجة الداحضة، والفهم العميق لما يراد
__________
(1) سورة الأنفال الآية 30
(2) سورة آل عمران الآية 73(23/220)
الدخول فيه، مع النية الصادقة. . وأن تكون الدعوة إلى كلمة سواء، أبانها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في دعوة أهل الكتاب للحق بقوله جل وعلا: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (1) .
- وأن نربطهم بعقيدة التوحيد بالله ربا واحدا لا شريك له وأن محمدا عبد الله ورسوله، فلا تفريق في شرع الله، ولا تفريق بين رسل الله، إذ الإيمان كل لا يتجزأ: بالله، وبملائكته، وبرسله، وبكتبه، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، فندعوهم إلى حقيقة الإيمان، وإلى البراءة مما يخالف أمر الله، وشرعه الذي شرع.
- نشعرهم أن منطلقنا اليوم هو منطلقنا بالأمس حيث اقتفى أسلافنا أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعوا ما جاءهم به، وعندما دخل أهل الكتاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خمسة عشر قرنا من الباب الذي فتحوه اليوم على نطاق أوسع، وبأساليب أخبث؛ لاحتواء الديانات كلها ومنها الإسلام، ومحاولة جعل الهيمنة لهم قياديا وفكريا وعقديا، في تشريع استبدلوه بشرع الله.
- فمهمتنا في أي لقاء أن ندعوهم إلى هدف أسمى، وغاية كبيرة لم تكن من وضع البشر أو مغلفة بمطامع شخصية ونوايا مبيتة نريد أن ندعوهم إلى شيء أراده الله للإنسانية جمعاء، وأرسل به رسله وأنزل به كتبه، وفيه سعادة من اتبعه في الدنيا والآخرة، وشقاوة من عاند وابتعد عنه الأبدية.
إنها دعوة لاتفاق المقصد في العقيدة والعمل، وتحكيم شرع الله
__________
(1) سورة آل عمران الآية 64(23/221)
الذي شرع لعباده، وفق ما أمر الله، وحسبما بلغ به رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم، وجاء على لسان جميع الأنبياء قبله.
- نوضح لهم أننا أقرب إلى إبراهيم الخليل منهم؛ لأنه كان حنيفا مسلما، وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم هي الإسلام الحنيف، وإبراهيم هو سمى محمدا وأصحابه من قبل بالمسلمين، كما قال تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} (1) .
وإبراهيم عليه السلام الذي يدعون الانتماء إليه نسبا هم مخالفون له عقيدة وعملا كما قال تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} (2) .
وقد أبان الله عن تعلقهم الواهي بإبراهيم، مع مخالفتهم له فيما سار عليه هو والأنبياء من بعده بقوله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (3) .
ومع ادعاءاتهم قديما وحديثا بأحقيتهم في إبراهيم فهم بعيدون عنه، مباينون لمنهجه، وهذه الأمة الإسلامية هي أولى منهم بإبراهيم كما قال جل وعلا: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (4) {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} (5) .
__________
(1) سورة الحج الآية 78
(2) سورة البقرة الآية 140
(3) سورة آل عمران الآية 65
(4) سورة آل عمران الآية 67
(5) سورة آل عمران الآية 68(23/222)
ونعرفهم بالحنيفية الصحيحة التي نعتقدها، وهي ملة إبراهيم، فهو لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، وحقيقتها الاتجاه إلى الله بالقلب، وتصديق ذلك بالعمل، فهو واحد أحد فرد صمد لا شريك له، ولا مثيل له ولا نظير كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) .
فمهمة من يشارك تبيين الحقائق، وتوضيح العقيدة الصحيحة، في مواطن الخلاف برفق ولين وأسلوب مقنع ومباهلتهم بالإذعان للحق، إذا استبان طريق الرشد، وعدم المعاندة، والتعصب الأعمى، كما باهل رسول الله صلى الله عليه وسلم نصارى نجران، فرفضوا خوفا من أن يحيق بهم عملهم، ويمحقهم عنادهم، حيث أوضحت ذلك الآية الكريمة في سورة آل عمران:
{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} (2) .
وأوضح ما دار في الموقف ابن كثير في تفسيره والطبري وغيرهما.
- أما إذا رفضوا الانصياع للحق بعد عرضه، واستمروا في دعاواهم وعصبياتهم الباطلة، وتراءى من كل ذلك الإصرار على جذب المسلمين لمصائدهم، وأن خلف هذه الدعاوى أمر مبيت كما يتضح من ظواهر التقارير والأخبار المرصودة، وكما سوف يبرز من مجريات اللقاءات، فيجب عدم الاستمرار في المشاركة ضمن هذه اللقاءات؛ لعدم صدق النوايا لأن المقاطعة رد عملي على جميع ادعاءاتهم الظاهرة والخفية، ويجب أن نشهدهم على تمسكنا بديننا، والتبرؤ مما يدعون إليه؛ لأنها دعوة باللسان، موجهة إعلاميا، سيئة النوايا نحو
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة آل عمران الآية 61(23/223)
الإسلام وأهله، ونبتعد عن دعواتهم هذه، ونقول كما أمر الله ورسوله الكريم من قبل: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} (1) {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} (2) {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} (3) {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} (4) {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (5) .
ثم يبقى دور المسلمين كتابا ومفكرين في توضيح تلك النوايا للناس، عبر الصحافة الإسلامية والإعلام الهادئ الرصين، وتفنيد الفكرة والهدف، وتكريس الغاية لذلك؛ لأن هذا العمل يجب أن يكون حمية لله، ودفاعا عن دينه الحق، حتى لا يغتر بذلك الأسلوب من لا قدرة لديه على التمييز، وحتى يعرف الباحثون عن الحقيقة عندهم بيقظتهم الفكرية، ما تحت الدعوة المغلفة فيبحثون لهم عن طرق تعينهم على فهم الحقيقة وتباعدهم عن هذه الدعوات، إنها لأمانة يجب أن تراعى، وغاية يجب أن تدرك، وسموم يجب التحذير من أخطارها. . . . والله الهادي سواء السبيل.
د \ محمد بن سعد الشويعر
__________
(1) سورة الكافرون الآية 2
(2) سورة الكافرون الآية 3
(3) سورة الكافرون الآية 4
(4) سورة الكافرون الآية 5
(5) سورة الكافرون الآية 6(23/224)
الإعجاز البياني للقرآن الكريم
أركانه ومظاهره
الدكتور: حسين مطاوع الترتوري
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين الذي أنزل القرآن على رسوله الأمين بلسان عربي مبين، وبين فيه ما يحقق سعادة الناس في الدارين، وهو المعجزة الكبرى للرسول عليه الصلاة والسلام، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا، وبعد:
فإن موضوع علم أصول الفقه: الأدلة الكلية الموصلة إلى الفقه وأقسام هذه الأدلة ومراتبها وكيفية استثمار الأحكام الشرعية منها.
وأول هذه الأدلة الكلية وأهمها القرآن الكريم، وهو حجة على الناس وأحكامه واجبة الاتباع، وذلك؛ لأنه من عند الله سبحانه.
والدليل على أن القرآن من عند الله لا من عند البشر إعجازه لهم أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه.
ومن هنا كان مبحث إعجاز القرآن من أشرف المباحث وأجلها، وهو إلى جانب ذلك موضوع يشترك في بحثه علماء الأصول باعتبار أن القرآن أحد الأدلة الكلية بل هو أهمها كما قدمت، ويشترك في بحثه علماء اللغة؛ لأن(23/225)
القرآن نزل بلسان العرب ولغتهم، قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} (1) {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (2) {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (3) فهم القادرون على اكتشاف رفعة أسلوبه وتميزه على سائر كلام العرب وعلو شأنه وعظمته، وكذا فإن مبحث الإعجاز يعتبر من مباحث علوم القرآن ويدخل من جانب آخر في مباحث العقيدة.
وقد استعنت بالله على الكتابة في إعجاز القرآن هذا البحث وسميته: الإعجاز البياني للقرآن الكريم، أركانه ومظاهره.
وأما هدف هذه الدراسة فهو بيان أركان الإعجاز البياني ووجوه هذا الإعجاز ومظاهره، وإبطال القول بمذهب الصرفة الذي قال به النظام المعتزلي.
__________
(1) سورة الشعراء الآية 193
(2) سورة الشعراء الآية 194
(3) سورة الشعراء الآية 195(23/226)
أولا
أركان الإعجاز البياني للقرآن الكريم وهي ثلاثة
الأول: التحدي: وهو طلب المبارزة والمنازلة والمعارضة.
بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا إلى العرب وأعطاه آية وبرهانا على صدقه، القرآن الكريم وقال لهم: إن هذا القرآن من عند الله، فلما كذبه العرب، تحداهم وكان ذلك على عدة مراحل:
تحداهم أن يأتوا بقرآن مثله، قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ} (1) {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} (2) ولكن أنى لهم أن يأتوا بمثله وهو كلام الله المنزه عن كل ما يشوب كلام البشر من نقص، لم يستجب العرب لهذا التحدي، وبعدها تحداهم الله أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (3) ولم يستجيبوا فتحداهم أن يأتوا بسورة فقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (4) وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (5) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (6) .
__________
(1) سورة الطور الآية 33
(2) سورة الطور الآية 34
(3) سورة هود الآية 13
(4) سورة يونس الآية 38
(5) سورة البقرة الآية 23
(6) سورة البقرة الآية 24(23/226)
ومع كل ما سبق من التحدي فلم يأتوا بقرآن مثله ولا بعشر سور مثله ولا بسورة مثله أو من مثله، وعندها آمن من شاء الله له الهداية وكفر من أصر على عناده، وهذا الصنف الأخير بدلا من أن يستجيب للتحدي مع يقينهم بالعجز لجأوا إلى أسلوب العاجز المكابر، فوصفهم الله بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (1) .
لذا سجل القرآن عجز الإنس والجن مهما أوتوا من قوة وبذلوا من جهد، فقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (2)
__________
(1) سورة فصلت الآية 26
(2) سورة الإسراء الآية 88(23/227)
الثاني: وجود المقتضي عند المتحدى لمواجهة التحدي
أما وجود المقتضي فإن محمدا صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى توحيد الله في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وهذا ما جعلهم يقفون في وجه دعوته، خاصة زعماء قريش؛ لأنهم عرفوا أن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم تقضي على امتيازاتهم القبلية ومواقعهم الاجتماعية وتجعل الولاء والتوجه لله وحده، وهذا يفقدهم زعامتهم التي بنيت على اعتبارات جاهلية لم يقرها الإسلام ونفاها، وجعل الميزان الذي يوزن به الناس التقوى، فقال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (1) .
وقد كان العرب يعبدون الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى، فعاب عليهم القرآن فعلتهم هذه وسفه أحلامهم؛ لأن العاقل السوي لا يعبد صنما ينحته بيده أو يصنعه من تمر إذا جاع أكله، بل أكثر من لك فقد سجل القرآن أن كل من وقف في وجه الدعوة عنادا وكفرا أضل من الأنعام وكالدواب
__________
(1) سورة الحجرات الآية 13(23/227)
والكلاب، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (1) وقال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (2) .
وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} (3) {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (4) .
ومن هنا كانت حاجتهم ماسة وحرصهم شديدا على أن يأتوا ولو بسورة من مثله؛ ليبطلوا حجة محمد صلى الله عليه وسلم بأن القرآن من عند الله ويثبتوا أن مسلكهم في العبادات وفي كل حياتهم صحيح، وأن ما وصفهم به القرآن بأنهم كالأنعام والدواب والكلاب وغير ذلك إنما هو باطل، لكن شيئا من ذلك لم يحدث.
يقول الرافعي في وقفة له عند قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} (5) " تأمل نظم الآية تجد عجبا، فقد بالغ في اهتياجهم واستفزازهم؛ ليثبت أن القدرة فيهم على المعارضة كقدرة الميت على أعمال الحياة لن تكون ولن تقع، فقال لهم: " ولن تفعلوا " أي هذا منكم فوق القدرة وفوق الحيلة وفوق الاستعانة وفوق الزمن، ثم جعلهم وقودا ثم قرنهم إلى الحجارة ثم سماهم كافرين، فلو أن فيهم قوة بعد لك لانفجرت ولكن الرماد غير النار " (6)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 179
(2) سورة الأنفال الآية 55
(3) سورة الأعراف الآية 175
(4) سورة الأعراف الآية 176
(5) سورة البقرة الآية 23
(6) الرافعي، إعجاز القرآن ص 192 (هامش) .(23/228)
الثالث: انتفاء المانع عند المتحدى من قبول التحدي
وذلك من ثلاثة وجوه (1) .
__________
(1) عبد الوهاب خلاف: علم أصول الفقه (مصر، مكتبة الدعوة الإسلامية) ص 26.(23/228)
الأول: من الناحية اللفظية.
الثاني: من الناحية المعنوية.
الثالث: من الناحية الزمنية.
أما من الناحية اللفظية، فإن العرب كانوا أهل فصاحة وبيان شهد لهم بذلك أشعارهم وخطبهم وأمثالهم ومقدرتهم على النقد وتمييز الغث من السمين، وكانوا قد برعوا في اللغة ووصلوا إلى مستوى رفيع، وقد وصفهم الرافعي بقوله: " كالعرب أصحاب الفطرة اللغوية والحسن البياني الذين صرفوا اللغة وشققوا أبنيتها وهذبوا حواشيها وجمعوا أطرافها واستنبطوا محاسنها ".
وقد كان العرب على مستوى رفيع من البلاغة والنقد والذوق البياني، خذ مثلا على ذلك، أنه عرض على الخنساء بيتان من الشعر لحسان بن ثابت في سوق عكاظ وهي قوله:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بني العنقاء وابني محرق ... فأكرم بنا خال وأكرم بنا ابنما
1 - فقالت الخنساء: " ضعفت افتخارك وأنزرته في ثمانية مواضع. قال: وكيف؟ قالت: قلت: " لنا الجفنات " والجفنات ما دون العشر، فقللت العدد، ولو قلت الجفان لكان أكثر. وقلت: "الغر " والغرة الباقي في الجبهة، ولو قلت البيض لكان أكثر اتساعا. وقلت: " يلمعن " واللمع شيء يأتي بعد الشيء ولو قلت: يشرقن لكان أكثر؛ لأن الإشراق أدوم من اللمعان. وقلت: " بالضحى " ولو قلت بالعشية لكان أبلغ في المديح؛ لأن الضيف بالليل أكثر طروقا. وقلت: " أسيافنا " والأسياف دون العشر. ولو قلت سيوفنا كان أكثر. وقلت: " يقطرن " فدللت على قلة القتل، ولو قلت يجرين لكان أكثر لانصباب الدم، وقلت دما والدماء أكثر من الدم، وفخرت بمن ولدت ولم تفتخر بمن ولدوك ".(23/229)
وقوم حالهم كما وصفت لك لم يكن عندهم مانع من الإتيان بمثل القرآن الذي نزل بلغتهم إلا العجز، وهذا دليل على أن القرآن ليس من كلام البشر بل هو كلام الله جلت قدرته.
وأما من الناحية المعنوية فإن العرب كانوا على مستوى من رجاحة العقل والفطنة والذكاء بحيث يستطيعون الإتيان بمثل القرآن لو كان من كلام البشر، وقصة الخنساء في نقد شعر حسان خير شاهد لما نقول، لكن أنى لهم وهو كلام الله {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (1) .
وأما من الناحية الزمنية فإن القرآن لم ينزل دفعة واحدة وإنما نزل منجما في ثلاث وعشرين سنة وبقي التحدي قائما، ولو نزل القرآن دفعة واحدة لاعتذروا بأن الوقت قصير، ولطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يمهلهم، لكن الوقت طويل ولم يكن لديهم مانع إلا شعورهم بالعجز.
__________
(1) سورة فصلت الآية 42(23/230)
ثانيا:
مظاهر الإعجاز البياني للقرآن الكريم
وهي سبعة:
الأول: الخصائص العامة للأسلوب القرآني.
الثاني: ضرب الأمثال في القرآن الكريم.
الثالث: الإيجاز في القرآن الكريم.
الرابع: التكرار في القرآن الكريم.
الخامس: الكلمة القرآنية.
السادس: الجملة القرآنية.
السابع: الفاصلة القرآنية.(23/230)
الأول
الخصائص العامة للأسلوب القرآني
2 - القرآن الكريم يجري على نسق غاية في البلاغة والفصاحة، خارج عن المألوف من نظام جميع كلام العرب، فله أسلوب يختص به ويميزه عن سائر الكلام، فلا هو بالشعر ولا بالنثر، لكنك لو قرأت بعض آياته شعرت بالنسق العجيب بينها، وكذا بين الكلمات، وحتى بين الحروف، فتجد تناسقا عجيبا بين الرخو والشديد والمجهور والمهموس والانفتاح والإطباق. . الخ، بحيث إذا قرأت القرآن شعرت بتأثير شديد في نفسك (1) استمع إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (2) {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (3) .
1 - يمتاز القرآن باتساق عباراته وبلاغتها وبديع نظمه على كثرة سوره وطولها وقصرها، من غير أن تختل هذه المزية فيه بخلاف كلام العرب؛ فإنك لا تجد لحكيم ولا لشاعر أو فصيح كلاما بطول القرآن وعلو شأنه، بل قد يبدع أحدهم في بعض قوله ويخفق في آخر، بل قد يناقض نفسه، أما القرآن فهو كما وصفه الله:
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (4) .
3 - الناظر في القرآن يجد فيه القصص والمواعظ، والاحتجاج، والحكم والأحكام، والوعد والوعيد، والتبشير والتخويف، ومع ذلك فهو غاية في الفصاحة وبديع النظم بخلاف كلام البشر من نثر أو شعر، فقد يجيد أحد الشعراء في المدح دون الهجاء أو التأبين دون التقريظ أو
__________
(1) الباقلاني، إعجاز القرآن ص35، البوطي، من روائع القرآن ص 132 سيد الحكيم، إعجاز القرآن ص 72.
(2) سورة الحج الآية 1
(3) سورة الحج الآية 2
(4) سورة النساء الآية 82(23/231)
الوصف دون الغزل، أو عكس ذلك، لكنك لا ترى شاعرا ولا ناثرا يجيد كل ما سبق من الأساليب بنفس القوة. ولذلك ضرب العرب المثل بامرئ القيس إذا ركب والنابغة إذا رهب وزهير إذا رغب (1) .
4 - إن معاني القرآن مصوغة بشكل محكم بديع تصلح لأن يخاطب بها الناس على اختلاف بيئاتهم وتفاوتهم في الثقافة والعلوم بحيث تؤدي الغرض الذي سيقت من أجله، فيتأثر كل سامع لها ويفهم منها مقصدها على اختلاف ثقافة السامعين وعقولهم، استمع معي إلى قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} (2) ، فالعرب في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام فهموا من هذه الآية على قلة علومهم، دليلا على قدرة الله سبحانه، وهو أنه خلق الشمس والقمر يبعثان بالضياء إلى الأرض، وقد غاير الله سبحانه في التعبير بالنسبة لكل منهما تنويعا للفظ، وهذا معنى صحيح تدل عليه الآية، وأما عالم اللغة فيفهم أن الآية سيقت للدلالة على قدرة الله وسمى الله الشمس سراجا؛ لأنها تجمع إلى النور الحرارة، وسمى القمر منيرا؛ لأنه يبعث بضياء دون حرارة، وهذا المعنى صحيح تدل عليه الآية دلالة لغوية واضحة، وأما علماء الفلك في هذه الأيام فقالوا: نعم الآية مسوقة للدلالة على قدرة الله، لكن الله سبحانه غاير بين وصف الشمس وبين وصف القمر، فسمى القمر منيرا لا مضيئا؛ لأنه جسم مظلم يعكس ما يسقط عليه من ضوء الشمس. وهذا صحيح لغة؛ فإننا نقول غرفة منيرة إذا انعكس عليها الضوء من مصباح في وسطها، أما الشمس فإن الحرارة والضوء ينبعثان منها فناسب تسميتها سراجا
__________
(1) الباقلاني، إعجاز القرآن ص 36-37.
(2) سورة الفرقان الآية 61(23/232)
الثاني
ضرب الأمثال في القرآن الكريم
وقد اعتمد الأسلوب القرآني على ضرب الأمثال، وجعله قاعدة أساسية في التعبير عن المعاني.
ومن أساليب ضرب الأمثال المتبعة في القرآن (1) :
أ - إخراج المعاني الذهنية في صورة حسية ترسم في المخيلة حية متحركة، خذ هذا المعنى الذهني المجرد، وهو أن الكفار محرومون من دخول الجنة، وأنهم غير مقبولين عند الله بتاتا، وتأمل كيف عرضه الله في القرآن: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} (2) ، هكذا في صورة حسية ترسم في الخيال صورة تفتح أبواب السماء وصورة ولوج الجمل في سم الخياط. وسواء أكان الجمل هو الحيوان المعروف أم الحبل الغليظ، فقد استقر في مخيلة السامع استحالة دخول الكافرين الجنة (3) .
ومن أمثلة ذلك أيضا أنك لو أردت أن تعرض لمعنى النفور الشديد من دعوة الإيمان بصورته التجريدية تقول: إن القوم ينفرون أشد النفرة من دعوة الإيمان، أما القرآن فقد عرض فيه الأمر بأسلوب تصويري حسي فقال تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} (4) {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} (5) {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} (6) ، فاشترك هنا مع الذهن حاسة البصر وملكة الخيال، وانفعال السخرية من هؤلاء الذين يفرون من الحق كما تفر حمر الوحش من الأسد (7) .
ب - تصوير الحالات النفسية والمعنوية في صورة حسية متخيلة، حية متحركة.
فعندما أراد الله سبحانه أن يفضح ويعري أولئك الذين هيأ لهم
__________
(1) راجع سيد قطب، التصوير الفني في القرآن (بيروت، القاهرة دار الشروق) .
(2) سورة الأعراف الآية 40
(3) سيد قطب، التصوير الفني في القرآن ص 34.
(4) سورة المدثر الآية 49
(5) سورة المدثر الآية 50
(6) سورة المدثر الآية 51
(7) سيد قطب، التصوير الفني في القرآن ص 195.(23/233)
سبيل الهداية لكنهم رفضوا، فأصبحوا في شقاء بما علموا وما جهلوا، فلا هم استراحوا بما هيأ الله لهم من سبيل الخير والرشاد، ولا هم استراحوا بإعراضهم عن هذا الخير، فيصور القرآن حالتهم النفسية والمعنوية هذه في صورة حسية متحركة، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} (1) {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (2) .
يقول سيد قطب: " إنه مشهد من المشاهد العجيبة، الجديدة كل الجدة على ذخيرة هذه اللغة من التصورات والتصويرات، إنسان يؤتيه الله آياته، ويخلع عليه من فضله، ويكسوه من علمه ويعطيه الفرصة كاملة للهدى والاتصال والارتفاع. . . . ولكن ها هو ذا ينسلخ من هذا كله انسلاخا، ينسلخ كأنما الآيات أديم له متلبس بلحمه، فهو ينسلخ من آيات الله، ويتجرد من الغطاء الواقي والدرع الحامي، وينحرف عن الهدى ليتبع الهوى ويهبط من الأفق المشرق فيلتصق بالطين المعتم، فيصبح غرضا للشيطان لا يقيه منه واق، ولا يحميه منه حام، فيتبعه ويلزمه ويستحوذ عليه. . . ثم إذا نحن أولاء أمام مشهد مفزع بائس نكد. . إذا نحن بهذا المخلوق لاصقا بالأرض ملوثا بالطين، ثم إذا هو مسخ في هيئة الكلب يلهث إن طورد ويلهث إن لم يطارد. . كل هذه المشاهد المتحركة تتتابع وتتوالى، والخيال شاخص يتبعها في انفعال وانبهار وتأثر " (3) .
ج - عرض القضايا المنطقية والجدلية في أسلوب ضرب الأمثال، وذلك في معرض الاستدلال على عظمة الخالق وقدرته، فالقرآن يأتي بالدليل المقنع من واقع الناس وما يشاهدونه ويعايشونه، لكنه معروض في صورة مؤثرة، ومن ذلك قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (4) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 175
(2) سورة الأعراف الآية 176
(3) سيد قطب، في ظلال القرآن 3 \ 1396-1397، التصوير الفني ص 39.
(4) سورة الرعد الآية 4(23/234)
ومع أن هذا المشهد كما تلاحظ يتكرر في حياة الناس إلا أنه عرض بأسلوب تصويري، وكأنها لوحة طبيعية رسمت عليها النخيل والأعناب المثمرة (1) .
د - إعطاء الحركة لما من شأنه السكون وخلع الحياة على المواد الجامدة والظواهر الطبيعية والانفعالات الوجدانية، فتصبح كأنها أشخاص بارزة لها عواطفها وخلجاتها الإنسانية، تأمل في قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} (2) ، تجد التعبير بالاشتعال يجعل الخيال يتصور أن للشيب حركة في الرأس كحركة اشتعال النار في الهشيم، مما يضفي على النص الحياة والجمال (3) .
وأما خلع الحياة على المواد الجامدة فمثاله قوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} (4) ، فالصبح مشهد معروف متكرر للناس، لكنه في التعبير القرآني كأنه شخص حي يتنفس كما يتنفس الأحياء، وكذا قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} (5) ، وقوله تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} (6) .
وأما تصوير الانفعالات الوجدانية فهو في غاية الروعة، فالغضب والروع والبشرى انفعالات وجدانية تصبح في التعبير القرآني كأنها حية متحركة، فالغضب يسكت كما في قوله تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ} (7) . والروع يذهب ويزول، والبشرى تجيء كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} (8) .
إلى غير ذلك من أساليب التصوير المتبعة في التعبير القرآني.
وطريقة التصوير التي يتبعها القرآن الكريم في التعبير لها فائدة عظيمة في وصول المعاني إلى النفس بشتى الوسائل؛ لأن المعاني إذا عرضت في صورتها التجريدية خاطبت الذهن فقط، أما إذا عرضت بالأسلوب التصويري فإنها
__________
(1) سيد قطب، التصوير الفني ص 57.
(2) سورة مريم الآية 4
(3) سيد قطب، التصوير الفني ص 66.
(4) سورة التكوير الآية 18
(5) سورة الفجر الآية 4
(6) سورة الكهف الآية 77
(7) سورة الأعراف الآية 154
(8) سورة هود الآية 74(23/235)
تخاطب الذهن والحس والوجدان، وتصل إلى النفس من منافذ شتى " من الحواس بالتخييل، ومن الحس عن طريق الحواس، ومن الوجدان المنفعل بالأصداء والأضواء، ويكون الذهن منفذا واحدا من منافذها الكثيرة إلى النفس لا منفذها المفرد الوحيد " (1) .
__________
(1) سيد قطب، التصوير الفني ص 194.(23/236)
الثالث
الإيجاز في القرآن الكريم
من خصائص الأسلوب القرآني الإيجاز وهو التعبير عن المعاني الكثيرة بألفاظ قليلة تؤدي الغرض من غير إخلال بالمعنى.
والإيجاز نوعان: إيجاز حذف وإيجاز قصر.
أما إيجاز الحذف فهو: إسقاط كلمة للاجتزاء عنها بدلالة غيرها من الحال أو فحوى الكلام (1) .
ومن أمثلة إيجاز الحذف قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (2) ؛ فإن الآية تشير إلى شيوع القول في أهل القرية، وأن القرية كلها تكلمت في ذلك، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} (3) ففي هذه الآية إيجاز حذف وهو حذف الجواب كأنه قيل: لكان هذا القرآن كذا وكذا. . والحذف هنا أبلغ من الذكر؛ لأن النفس تذهب كل مذهب في القصد من الجواب، ولو ذكر الجواب لقصر على الوجه الذي تضمنه البيان.
وأما إيجاز القصر فهو: بنية الكلام على تقليل اللفظ وتكثير المعنى من غير حذف (4) وله أمثلة كثيرة في القرآن حتى أن الشيخ أبا زهرة رحمه الله قال بأن هذا النوع من الإيجاز لا تكاد تخلو منه سورة أو جزء سورة (5) .
ومن أمثلة إيجاز القصر:
__________
(1) الرماني، النكت في إعجاز القرآن ص 76.
(2) سورة يوسف الآية 82
(3) سورة الرعد الآية 31
(4) الرماني، النكت في إعجاز القرآن ص 76.
(5) أبو زهرة، المعجزة الكبرى القرآن ص 293-294.(23/236)
قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (1) .
يقول الباقلاني: " هذه تشمل على ست كلمات، سناؤها وضياؤها على ما ترى، وسلاستها وماؤها على ما تشاهد، ورونقها على ما تعاين، وفصاحتها على ما تعرف.
وهي تشمل على جملة وتفصيل وجامعة وتفسير: ذكر العلو في الأرض باستضعاف الخلق بذبح الولدان وسبي النساء، وإذا تحكم في هذين الأمرين، فما ظنك بما دونهما؟ لأن النفوس لا تطمئن على هذا الظلم والقلوب لا تقر على هذا الجور. ثم ذكر الفاصلة التي أوغلت في التأكيد، وكفت في التظليم، وردت آخر الكلام على أوله وعطفت عجزه على صدره " (2) .
ومن أمثلة إيجاز القصر، قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ} (3) حياة وقد كان العرب يستحسنون بل يعجبون بحكمة قالوها ويعتبرونها قمة البلاغة لما فيها من إيجاز وهي قولهم" القتل أنفى للقتل".
وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (4) يفوق ما استحسنه العرب من أربعة أوجه (5) .
الأول: أن الآية أكثر فائدة، ففيها من المعاني والفوائد ما في قولهم (القتل أنفى للقتل) وزيادة المعاني الحسنة التالية:
أ - إبانة العدل بذكر كلمة القصاص وأن القتل ليس تشفيا من المقتول.
ب - الترغيب في القصاص بذكر الحياة وجعلها نتيجة له.
__________
(1) سورة القصص الآية 4
(2) الباقلاني، إعجاز القرآن ص 193-194.
(3) سورة البقرة الآية 179
(4) سورة البقرة الآية 179
(5) الرماني: النكت في إعجاز القرآن ص 77-78، سيد الحكيم، إعجاز القرآن ص 75.(23/237)
ج- القصاص يشمل النفس والأعضاء بخلاف لفظ القتل، فإنه قاصر على النفس.
ثم إن مفاد الآية مستقيم على إطلاقه لأن الإنسان إذا علم أن اعتداءه على الآخرين يوجب القصاص منه ارتدع عن قتلهم أو جرحهم فكان ذلك سبب حياته وحياة من أراد قتله. أما الحكمة فإن مفادها غير مستقيم على إطلاقه، فليس كل قتل أنفى للقتل كما تقول، بل إن القتل عدوانا أدعى للقتل وليس أنفى له.
الثاني: الآية أوجز عبارة، فإن قوله تعالى: {الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (1) تتكون من عشرة أحرف، أما قولهم " القتل أنفى للقتل" فيتكون من أربعة عشر حرفا.
الثالث: الآية لا تكرار فيها بخلاف حكمة العرب ففيها تكرار لفظ القتل.
الرابع: الآية أحسن تأليفا لملاءمة حروفها بعضها بعضا، يقول الرماني: " وأما الحسن بتأليف الحروف المتلائمة فهو مدرك بالحس وموجود في اللفظ، فإن الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة، لبعد الهمزة عن اللام. وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من الألف إلى اللام " (2) .
ومن أمثلة إيجاز القصر قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} (3) فإن الآية تشير إلى الصراع الدائم بين الخير والشر وبين الحق والباطل وبين الفضيلة والرذيلة. وأن سيطرة الشر والباطل والرذيلة يؤدي إلى فساد في الأرض ولا يزول هذا الفساد إلا بمقاومة الخير والحق والفضيلة له (4) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 179
(2) الرماني، النكت في إعجاز القرآن ص 78.
(3) سورة البقرة الآية 251
(4) انظر مزيدا من الشواهد في، الباقلاني، إعجاز القرآن 192-194، البوطي، من روائع القرآن 181-183.(23/238)
الرابع
التكرار في القرآن الكريم
وهو من أساليب الفصاحة في اللغة العربية لما ينطوي عليه من فوائد في الكلام. فإن كلام البلغاء لا يتكرر عبثا وإنما لفوائد ومعان جديدة. ولما كان هذا حال كلام العرب، فكلام الله أولى بذلك فإنك لا ترى كلمة أو آية تكررت إلا لحكمة وفائدة.
وقد استعمل التكرار في القرآن جريا على عادة العرب في كلامهم، يقول الزركشي: " وقد غلط من أنكر كونه من أساليب الفصاحة، ظنا أنه لا فائدة له، وليس كذلك، بل هو من محاسنها لا سيما إذا تعلق بعضه ببعض، وذلك أن عادة العرب في خطاباتها إذا أبهمت بشيء إرادة لتحقيقه وقرب وقوعه، أو قصدت الدعاء عليه، كررته توكيدا، وكأنها تقيم تكراره مقام المقسم عليه، أو الاجتهاد في الدعاء عليه، حيث تقصد الدعاء، وإنما نزل القرآن بلسانهم ".
وقبل أن أجمل أغراض وفوائد التكرار في القرآن الكريم أسوق للقارئ صورا من التكرار في الشعر الجاهلي لبيان أنه من أساليب العرب المتبعة في الكلام.
مثال ذلك شعر المهلهل بن ربيعة بمناسبة حرب البسوس يصف الأيام التي كانت الدائرة فيها لبني تغلب على بكر:
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا رجف العضاة من الدبور (1)
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا طرد اليتيم عن الجزور
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا ما ضيم جيران المجير
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا خيف المخوف من الثغور
على أن ليس عدلا من كليب ... غداة بلابل الأمر الكبير (2)
__________
(1) رجف: تحرك. والعضاة: كل شجر له شوك.
(2) البلابل: الاضطراب.(23/239)
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا هبت رياح الزمهرير
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا وثب المثار على المثير
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا برزت مخبأة الخدور
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا علنت نجيات الأمور
ومن ذلك قصيدة الحارث بن عباد بمناسبة حرب البسوس التي مطلعها:
كل شيء مصيره للزوال ... غير ربي وصالح الأعمال
ثم يقول في قصيدته:
قربا مربط النعامة مني ... لقحت حرب وائل عن حيال (1)
قربا مربط النعامة مني ... ليس قولي يراد لكن فعالي
قربا مربط النعامة مني ... جد نوح النساء بالإعوال
قربا مربط النعامة مني ... شاب رأسي وأنكرتني العوالي
قربا مربط النعامة مني ... للسرى والغدو والآصال
قربا مربط النعامة مني ... طال ليلي على الليالي الطوال
قربا مربط النعامة مني ... لاعتناق الأبطال بالأبطال
قربا مربط النعامة مني ... واعدلا من مقالة الجهال
قربا مربط النعامة مني ... ليس قلبي عن القتال بسال
قربا مربط النعامة مني ... كلما هب ريح ذيل الشمال
قربا مربط النعامة مني ... لبجير مفكك الأغلال
قربا مربط النعامة مني ... لكريم متوج بالجمال
قربا مربط النعامة مني ... لا نبيع الرجال بيع النعال
قربا مربط النعامة مني ... لبجير فداه عمي وخالي
إلى غير ذلك مما ورد في أشعارهم من تكرار بعض الكلمات أو الجمل (2) أما أهم فوائد التكرار في القرآن فهي:
__________
(1) النعامة: فرس الحارث. والحيال: مصدر حالت الأنثى إذا لم تحمل. والمراد أن حرب وائل هاجت بعد سكون.
(2) انظر الباقلاني، إعجاز القرآن ص 107:106.(23/240)
1 - تقرير المعنى وتوكيده، فإن الكلام إذا تكرر تقرر. وقد ظهر هذا الأمر في المواطن التالية:
أ- في الآيات المسوقة للوعيد والتهديد، كقوله تعالى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (1) {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (2) ، وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} (3) {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} (4) .
ب- في الآيات المسوقة في مقام التعظيم والتهويل أو التعجب، كقوله تعالى: {الْقَارِعَةُ} (5) {مَا الْقَارِعَةُ} (6) ، وقوله تعالى: {الْحَاقَّةُ} (7) {مَا الْحَاقَّةُ} (8) ، وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (9) {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} (10) ، وقوله تعالى: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} (11) {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} (12) .
ج- في الآيات المسوقة في التنبيه على ما ينفي التهمة حتى يتلقى الكلام بالقبول، كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} (13) {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} (14) .
د- في الآيات المسوقة في مقام الاتعاظ، كقوله تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} (15) ، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} (16) .
هـ - في الآيات المسوقة في مقام إنعام الله على عباده وبيان قدرته كقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} (17) وقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} (18) وقوله: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} (19) .
2 - إذا طال الكلام وخشي تناسي الأول أعيد ثانيا تجديدا لعهده، كقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} (20) .
وقوله تعالى في نفس السورة: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (21) ،
__________
(1) سورة التكاثر الآية 3
(2) سورة التكاثر الآية 4
(3) سورة الانفطار الآية 17
(4) سورة الانفطار الآية 18
(5) سورة القارعة الآية 1
(6) سورة القارعة الآية 2
(7) سورة الحاقة الآية 1
(8) سورة الحاقة الآية 2
(9) سورة القدر الآية 1
(10) سورة القدر الآية 2
(11) سورة المدثر الآية 19
(12) سورة المدثر الآية 20
(13) سورة غافر الآية 38
(14) سورة غافر الآية 39
(15) سورة القمر الآية 16
(16) سورة القمر الآية 17
(17) سورة الواقعة الآية 58
(18) سورة الواقعة الآية 63
(19) سورة الواقعة الآية 68
(20) سورة الواقعة الآية 71
(21) سورة النحل الآية 110(23/241)
وغيرها من الأمثلة كثير (1) .
بيان إعجاز القرآن للعرب فإن من عجز عن الإتيان بالمعنى بصورة واحدة فإنه يعجز من باب أولى عن الإتيان بالمعنى الواحد بصور وقوالب لفظية غاية في الفصاحة والبيان.
إفادة معنى جديد فإن بعض الآيات تكررت في كتاب الله وفي كل مرة تكون متعلقة بما قبلها، كقوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (2) كررت هذه الآية في سورة الرحمن إحدى وثلاثين مرة، ثمان مرات عقيب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله وبدائع صنعه ومبدأ الخلق ومعادهم فناسب ذكر الآلاء عقيب كل ذلك. ثم تلتها سبع آيات فيها ذكر النار وأهوال يوم القيامة، فحسن ذكر الآلاء عقيبها لأن في صرف المؤمن عن عذاب النار أكبر نعمة، وبعد هذه السبع ثمان آيات في وصف الجنتين وأهلهما ونعيمهم فيهما فحسن أن يذكر عقيبها نعم الله على المؤمنين أن وفقوا للعمل الصالح فاستحقوا الجنتين، ثم بعد ذلك ثمان آيات للجنتين اللتين دونهما، ومن استحقها بتوفيق الله ناسب ذكر نعمة الله عليه.
__________
(1) الزركشي، البرهان في علوم القرآن 3 \ 14-15.
(2) سورة الرحمن الآية 13(23/242)
الخامس
الكلمة القرآنية
ولا أعني بذلك الكلمة القرآنية المفردة، وإنما مكانة الكلمة في النظم القرآني المعجز لأن قيمة المفردات ليست ذاتية وإنما تعود قيمتها إلى مكانها من النظم المعجز الأخاذ، ومعلوم أن التحدي لم يحصل بالكلمة بل أقل ما حصل بسورة. ويظهر الإعجاز اللغوي في الكلمة القرآنية من عدة وجوه:
الأول: الكلمة في القرآن مسوقة في موقعها المناسب لتؤدي المعنى المراد(23/242)
وتتلاءم من الناحية اللفظية والمعنوية مع ما قبلها وما بعدها خذ مثالا لذلك قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ} (1) {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} (2) {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} (3) {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} (4) {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} (5) ، فلو استبدلت كلمة الفجر بكلمة الصبح أو كلمة الوتر بكلمة الفرد أو كلمة الحجر بكلمة العقل لاختل حسن نظم الكلمات.
وتأمل أيضا كلمة يسر تجد أن الياء حذفت منها للانسجام مع كلمة الفجر، عشر، الوتر، الحجر.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} (6) {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} (7) {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} (8) فلو تقدمت كلمة مني على كلمة العظم لاختل النظم في الآيات ولأحسست بما يشبه الكسر في وزن الشعر (9) .
الثاني: أن الكلمة القرآنية مسوقة في موقعها المناسب بحيث تعطي بمدلولها ما تلقيه من ظلال المعنى المراد بكماله وتمامه مع ما فيه من إيحاءات، ولو استبدلت بغيرها ما استفيد المعنى المراد. وقد تجد كلمة في القرآن الكريم تعبر عن معنى يعجز البشر عن التعبير عنه إلا بعدة كلمات.
خذ مثالا لذلك، كلمة استقاموا في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} (10) ، فقد جمعت هذه الكلمة الإتيان بالخير كله والبعد عن الشر كله (11) .
ومن أمثلة ذلك أننا لو أردنا بيان فوائد النار في حياة الناس نقول: إنها مما يحتاج إليها في الحضر والسفر وفي طهي الطعام عند الجوع ثم ننعم بدفئها في برد الشتاء القارص. كل هذه المعاني ذلك عليها كلمة (المقوين) في قوله تعالى:
__________
(1) سورة الفجر الآية 1
(2) سورة الفجر الآية 2
(3) سورة الفجر الآية 3
(4) سورة الفجر الآية 4
(5) سورة الفجر الآية 5
(6) سورة مريم الآية 2
(7) سورة مريم الآية 3
(8) سورة مريم الآية 4
(9) سيد قطب، التصوير الفني ص 88.
(10) سورة فصلت الآية 30
(11) سيد الحكيم، إعجاز القرآن ص 76.(23/243)
{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} (1) {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} (2) {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} (3) .
إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة في هذا الباب (4) .
الثالث: إن هناك بعض الكلمات يظن القارئ أنها مترادفة، فإذا تأملت استعمالاتها في القرآن رأيت بعضها استعمل في موطن والبعض الآخر في موطن آخر، وفي كل موضع يبلغ التعبير القرآني ذروته في حسن الصياغة ودقة التعبير.
خذ مثالا لذلك، كلمتي (هامدة) ، (خاشعة) استعملت في القرآن للدلالة على الأرض قبل نزول المطر وخروج النبات منها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (5) .
وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (6) {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} (7) {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (8) يقول سيد قطب: " وعند التأمل السريع في هذين السياقين يتبين وجه التناسق في (هامدة) و (خاشعة) . إن الجو في السياق الأول جو بعث وإحياء وإخراج فمما يتسق معه تصوير الأرض بأنها (هامدة) ثم تهتز وتربو، وتنبت من كل زوج بهيج. وإن الجو في السياق الثاني هو جو
__________
(1) سورة الواقعة الآية 71
(2) سورة الواقعة الآية 72
(3) سورة الواقعة الآية 73
(4) انظر سيد قطب، التصوير الفني ص 76-78.
(5) سورة الحج الآية 5
(6) سورة فصلت الآية 37
(7) سورة فصلت الآية 38
(8) سورة فصلت الآية 39(23/244)
عبادة وخشوع، وسجود، يتسق معه تصوير الأرض بأنها "خاشعة" فإذا أنزل عليها الماء اهتزت وربت. . . . " (1) .
ومن أمثلة ذلك التمام والكمال، فالفرق بينهما أن الإتمام لإزالة نقصان الأصل، والإكمال لإزالة نقصان العوارض بعد تمام الأصل، ولذلك كان استعمال كلمة (كاملة) أبلغ من استعمال كلمة (تامة) في قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (2) ، لأن التمام علم من العدد وإنما جاءت كلمة (كاملة) لنفي احتمال نقص في الصفات (3) .
ومن ذلك أيضا القعود والجلوس، فالأول يستعمل لما فيه لبث بخلاف الثاني، ولهذا قال تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} (4) ، إشارة إلى أنه لا زوال لذلك، وقال في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} (5) لأن مثل هذه الجلسات لا تحصل إلا في زمن يسير (6) . إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة (7) .
__________
(1) سيد قطب، التصوير الفني ص 97.
(2) سورة البقرة الآية 196
(3) السيوطي، معترك الأقران في إعجاز القرآن، تحقيق: محمد علي البجاوي (مصر، دار الفكر العربي) 3 \ 605.
(4) سورة القمر الآية 55
(5) سورة المجادلة الآية 11
(6) السيوطي، معترك الأقران 3 \ 605.
(7) انظر الخطابي، بيان إعجاز القرآن ص 29-34، السيوطي، معترك الأقران 3 \ 602-606.(23/245)
السادس
الجملة القرآنية
ما سبق قوله في الكلمة القرآنية نقوله هنا، وهو أن المقصود مكانة الجملة في النظم القرآني المعجز لا الجملة المفردة، لأن قيمة الجملة ليست ذاتية، وإنما تعود قيمتها إلى مكانها من النظم المعجز الأخاذ، لذلك أقل ما وقع به التحدي السورة لا الجملة.
ومظاهر الإعجاز في الجملة القرآنية كثيرة منها:
الأول: أنها مسوقة في موقعها المناسب لتتلاءم مع ما قبلها وما بعدها، وتنبئ عن حسن نظم الكلمات وهي غاية في الإحكام(23/245)
والترابط. ولهذا كان حفظ القرآن أيسر من حفظ سائر أنواع النثر. مثال ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} (1) فلو أخذنا كلمة (النذر) منفصلة عما قبلها في الآية لوجدنا ثقلا في توالي الضمة على النون والذال معا لكن الكلمة جاءت في القرآن متلائمة تماما مع السياق يقول الرافعي: " تأمل مواضع القلقلة في دال (لقد) وفي الطاء من (بطشتنا) وهذه الفتحات المتوالية فيما وراء الطاء إلى واو (تماروا) ، مع الفصل بالمد، ليكون تثقيل لخفة التتابع في الفتحات إذا هي جرت على اللسان، ليكون ثقل الضمة عليه مستخفا بعد ولكون هذه الضمة قد أصابت موضعها كما تكون الأحماض في الأطعمة ثم ردد نظرك في الراء من (تماروا) فإنها ما جاءت إلا مساندة لراء (النذر) حتى إذا انتهى اللسان إلى هذه انتهى إليها من مثلها فلا تجفو عليه ولا تغلظ ولا تنبو فيه، ثم اعجب لهذه الغنة التي سبقت الطاء في نون (أنذرهم) وفي ميمها، وللغنة الأخرى التي سبقت الذال في (النذر) " (2) .
ومثال ذلك أيضا قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (3) .
اشتملت هذه الآية على تسع جمل متلائمة مع ما قبلها وما بعدها وهي في غاية الدقة والإحكام.
أما الجملة الأولى في تلك الآية فهي قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (4) والآية التي قبلها تضمنت أن كل من في السماوات
__________
(1) سورة القمر الآية 36
(2) الرافعي، إعجاز القرآن ص 258.
(3) سورة الرعد الآية 16
(4) سورة الرعد الآية 16(23/246)
والأرض ساجد لله فلزم الإنكار على عبدة الأصنام والتوجه إليهم بهذه الجملة الآمرة بلفظ "قل". ولما كان عبدة الأصنام يقرون توحيد الربوبية ناسب أن يأتي جواب الجملة الأولى على لسان محمد عليه الصلاة والسلام وهو قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ} (1) ولما بين الله سبحانه أنه الرب لكل المخلوقات ناسب أن يسألهم النبي: {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} (2) ومن يعبد جمادات لا تنفع ولا تضر يكون كالأعمى الذي يعيش في الظلمات بخلاف من يهديه الله ولذلك ناسب أن يأتي بعد ذلك قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} (3) ولما كان من البدهي أن الظلمة لا تساوي النور وأن العمى لا يساوي البصر فهم أيضا أن الجاهل الذي يعبد جمادات لا تنفع ولا تضر لا يساوي العالم الموحد لله، لذا أكد الله سبحانه ما تقدم بالجملتين التاليتين: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (4) وقد جاء قوله: {وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (5) متلائما مع ما قبله لأن خالق كل شيء تلائمه وتثبت له صفة الوحدانية والقهر والقوة (6) .
الثاني: أن الجملة القرآنية تدل على معنى واسع يعجز عنه الناس بعبارات كثيرة، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (7) وقد سبق الحديث عن هذه الآية في مبحث الإيجاز في القرآن.
ومن أمثلة ذلك أيضا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} (8) . فقد جمعت هذه الآية كل خير ونهت عن كل شر قال ابن مسعود رضي الله عنه: " إن أجمع آية للخير والشر في سورة النحل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (9) ومن أمثلة ذلك قوله تعالى:
__________
(1) سورة الرعد الآية 16
(2) سورة الرعد الآية 16
(3) سورة الرعد الآية 16
(4) سورة الرعد الآية 16
(5) سورة الرعد الآية 16
(6) محمد بن سعد الدبل، النظم القرآني في سورة الرعد (عالم الكتب) ص 110- 111.
(7) سورة البقرة الآية 179
(8) سورة النحل الآية 90
(9) سورة النحل الآية 90(23/247)
{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (1) . فهذه الآية احتوت على معان كثيرة لو أردنا أن نصوغها بلغتنا مع الحفاظ على ما فيها من المعاني لاحتجنا إلى أضعاف كلماتها (2) .
__________
(1) سورة القصص الآية 4
(2) البوطي، من روائع القرآن ص 182.(23/248)
السابع
الفاصلة القرآنية
اختلف العلماء في تعريف الفاصلة القرآنية.
فقال الرماني: الفواصل حروف متشاكلة في المقاطع توجب حسن إفهام المعاني (1) .
وقال ابن منظور (2) : الفواصل أواخر الآيات في كتاب الله (3) .
وكذا قال الزركشي: الفاصلة كلمة آخر الآية كقافية الشعر وقرينة السجع (4) .
ويرى بعض العلماء أن رءوس الآيات والفواصل مترادفان (5) وهي نهايات الآيات كما قدمت. ويرى آخرون أن الفاصلة أعم، فهي الكلام المنفصل مما بعده. والكلام المنفصل قد يكون رأس آية وغير رأس آية وكذلك الفواصل يكن رءوس آي وغيرها. فكل رأس آية فاصلة ولا عكس (6) .
ومن الفواصل ما هو آية كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ} (7) ، {الْحَاقَّةُ} (8) ومنها ما هو بعض آية وهو الغالب كما سيأتي.
والفواصل بحسب حرف الروي نوعان:
الأول: المتماثلة: وهي التي تماثلت حروف رويتها سواء في الحرف الأخير كقوله تعالى:
__________
(1) الرماني: النكت في إعجاز القرآن ص 97.
(2) ابن منظور هو: محمد بن مكرم بن علي، أبو الفضل ت سنة 711 هـ. إمام لغوي، حجة صاحب لسان العرب.
(3) ابن منظور، لسان العرب، مادة (فصل) .
(4) الزركشي، البرهان في علوم القرآن 1 \ 53.
(5) محمد الحسناوي، الفاصلة القرآنية (سوريا، دار الأصيل للطباعة والنشر) ص 161.
(6) وممن يرى هذا الرأي أبو عمرو الداني. ذكر ذلك الزركشي في البرهان 1 \ 53-54.
(7) سورة الرحمن الآية 1
(8) سورة الحاقة الآية 1(23/248)
{مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} (1) {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} (2) {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا} (3) {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (4) أو في الحرفين الأخيرين كقوله تعالى:
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} (5) {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} (6) {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} (7) {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (8) . أو في الأحرف الثلاثة الأخيرة كقوله تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} (9) {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} (10) ، أو في الأحرف الأربعة الأخيرة كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (11) {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} (12) ، وقد استقلت الفواصل المتماثلة بإحدى عشرة من سور المفصل (13) ومعظمها مكي (14) .
ويسمي البعض الفواصل المتماثلة بالمتجانسة (15) أو ذات المناسبة التامة.
والأصوب عندي أن تسمى المتماثلة لأن التجانس كما هو معلوم عند علماء التجويد يكون بين حرفين اتحدا مخرجا واختلفا صفة. وكذا التماثل أولى من ذات المناسبة التامة لأن المصطلح يفضل أن يكون أقصر بشرط الدلالة على المعنى بتمامه وقد تحقق هنا بقولنا (التماثل) .
الثاني: الفواصل المقاربة:
كالميم مع النون في قوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (16) {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (17) والدال مع الباء في قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} (18) {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} (19)
__________
(1) سورة طه الآية 2
(2) سورة طه الآية 3
(3) سورة طه الآية 4
(4) سورة طه الآية 5
(5) سورة الشرح الآية 1
(6) سورة الشرح الآية 2
(7) سورة الشرح الآية 3
(8) سورة الشرح الآية 4
(9) سورة القلم الآية 2
(10) سورة القلم الآية 3
(11) سورة الأعراف الآية 201
(12) سورة الأعراف الآية 202
(13) أي السور القصار.
(14) محمد الحسناوي، الفاصلة القرآنية ص 172.
(15) ممن سماها بذلك الرماني في رسالته: النكت في إعجاز القرآن ص 97.
(16) سورة الفاتحة الآية 3
(17) سورة الفاتحة الآية 4
(18) سورة ق الآية 1
(19) سورة ق الآية 2(23/249)
والتقارب في الحروف يكون بين حرفين تقاربا مخرجا وصفة كالذال والسين أو تقاربا صفة لا مخرجا كالذال والجيم (1) .
ويلاحظ أن الفاصلة القرآنية تأتي مكملة للمعنى الذي قبلها ومناسبة له بحيث لو تغيرت اختل المعنى. . . يدرك هذا كل من عنده ذوق أدبي.
حكى الأصمعي قال: كنت أقرأ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} (2) والله غفور رحيم " وبجنبي أعرابي فقال: كلام من هذا؟ فقلت: كلام الله. قال أعد فأعدت. فقال ليس هذا كلام الله. فانتبهت فقرأت {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3) فقال: أصبت هذا كلام الله. فقلت أتقرأ القرآن. قال: لا. فقلت: من أين علمت؟ فقال: يا هذا عز فحكم فقطع، ولو غفر فرحم لما قطع ".
وقد يسأل سائل ما الحكمة في أن بعض الفواصل غريبة اللفظ مثل كلمة "ضيزى" في قوله تعالى: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} (4) ، فكلمة ضيزى بمعنى جائرة أو ظالمة، فلماذا عدل عن الكلمات المألوفة إلى الكلمة غير المألوفة.
والجواب على هذا السؤال من وجهين:
الأول: من جهة حسن النظم والتناسق فإن سورة النجم تنتهي فواصلها بالألف المقصورة فناسب أن تكون الفاصلة كلمة ضيزى لا كلمة جائرة أو ظالمة.
الثاني: إن نسبة البنات إلى الله ونسبة الأولاد إليهم أمر في أشد الغرابة فناسب أن يعبر عنه بلفظ غريب تنبيها على غرابة القسمة (5) .
__________
(1) محمد معبد، الملخص المفيد في علم التجويد ص 103.
(2) سورة المائدة الآية 38
(3) سورة المائدة الآية 38
(4) سورة النجم الآية 22
(5) أحمد بدوي، من بلاغة القرآن (القاهرة، مكتبة نهضة مصر، ط 3) ص 87.(23/250)
وقد تختلف الفاصلتان في موضعين والمحدث عنه واحد وذلك لنكتة لطيفة. ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (1) ، وقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) .
ففي الآية الأولى يقول الحق جل وعلا للإنسان إذا حصلت النعم الكثيرة فأنت آخذها وأنا معطيها فحصل لك عند أخذها وصفان: كونك ظلوما وكونك كفارا. وفي الآية الثانية يقول الحق سبحانه للإنسان ولي عند إعطاء النعمة لك وصفان وهما أني: غفور رحيم، أقابل ظلمك بغفراني وكفرك برحمتي.
ثم سؤال آخر يطرحه المرء هنا: ما الحكمة في تخصيص آية النحل بوصف المنعم، وآية إبراهيم بوصف المنعم عليه؟ والجواب أن سياق الآية في سورة إبراهيم في وصف الإنسان وما جبل عليه. فناسب ذكر ذلك عقيب أوصافه. وأما آية النحل فسيقت في وصف الله تعالى وإثبات ألوهيته وتحقيق صفاته، فناسب ذكر وصفه سبحانه.
وختاما، وبعد بيان مظاهر الإعجاز البياني للقرآن الكريم يظهر بطلان القول بالصرفة.
وأول من قال بهذا الرأي النظام المعتزلي، ومراده بالصرفة أن الله سبحانه صرف همم العرب في زمن الرسالة عن معارضة القرآن، والإتيان بمثله. أي أن القرآن ليس معجزا لفصاحة ألفاظه وبلاغته وحسن نظمه وإنما لصرف الله العرب عن الإتيان بمثله. ولولا صرف الله العرب عن الإتيان بمثل القرآن لأتوا بمثله، وهم أهل الفصاحة والبيان.
ويرى النظام أن وجه إعجاز القرآن يكمن في إخباره عن الغيوب (3) ولم يرتض المعتزلة قول النظام وأكثرهم على تكفيره (4) .
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 34
(2) سورة النحل الآية 18
(3) الأشعري، مقالات الإسلاميين 1 \ 271.
(4) البغدادي، الفرق بين الفرق (بيروت، دار الآفاق الجديدة) ص 114-115.(23/251)
وقول النظام بالصرفة يرجع إلى قاعدة الحسن والقبح العقليين عند المعتزلة، وملخصها: أن كل ما رآه العقل حسنا، فهو عند الله حسن ومطلوب الفعل، وكل ما رآه العقل قبيحا فهو عند الله قبيح ومطلوب الترك. ومن وجهة نظر النظام العقل لا يحيل على العرب وهم أهل الفصاحة والبلاغة والبيان، أن يأتوا بمثل القرآن لولا أن الله صرف هممهم. فجعل النظام ما رآه العقل حكما في هذه المسألة وهو الفصل فيها، مع أن مقولته منقوضة بعدة أدلة نقلية وعقلية منها::
قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (1) .
فهذه الآية تدل على بطلان القول بالصرفة لأنه لو كان إعجاز القرآن يكمن في صرف العرب عن الإتيان بمثله لما كان في اجتماع الإنس والجن فائدة.
يلزم القول بالصرفة أن يكون العرب قد تراجعت حالها في البلاغة والبيان وحسن النظم، وأن يكون ما قالوه من شعر زمن الجاهلية أبلغ وأقوى من الشعر الذي قالوه بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وحصول التحدي لهم، وليس الأمر كذلك.
لو حصل نقص في فصاحة العرب وبلاغتهم وحسن نظمهم للكلم، لكان هذا عذرا لهم ولقالوا لمحمد عليه الصلاة والسلام، لقد كان بإمكاننا أن نأتي بمثل القرآن في السابق، لكنك سحرتنا فحلت بيننا وبين الإتيان بمثل القرآن. لكن ذلك لم يحصل، مع حرصهم الشديد على وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأوصاف لا تليق. بل وصفوه بأنه ساحر في كثير من الأمور، لكنهم لم يصفوه بأنه سحرهم في المقدرة على النظم والفصاحة والبيان.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 88(23/252)
- يلزم القول بالصرفة أن يكون العرب بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم قد سلبوا الحكمة وضعفت أذهانهم وتفكيرهم، وليس الأمر كذلك.
- لو كان كلام العرب قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من شعر أو نثر مثل نظم القرآن لما انبهروا بالقرآن الذي سمعوه من محمد صلى الله عليه وسلم، ولما كان له مزية على كلامهم. لكن واقعهم يشهد بخلاف ذلك، فهذا الوليد بن المغيرة يقول: " والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق وإن فرعه لجنات" (1) وكذا عتبة بن ربيعة قال: ". . . . والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة". وكذا يروى في قصة إسلام عمر، قوله عن القرآن: " ما أحسن هذا الكلام وأكرمه" (2) وقوله: " فلما سمعت القرآن رق له قلبي فبكيت ودخلني الإسلام"، (3) ، إلى غير ذلك من القصص الكثيرة التي تدل دلالة قاطعة على أن أسلوب القرآن كان معجزا ولم يكن العرب قد تعودوه أو سمعوا مثله. وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حسين مطاوع الترتروي
__________
(1) ابن هشام، السيرة النبوية 1 \ 289، أبو نعيم الأصفهاني، دلائل النبوة 1 \ 302-303.
(2) ابن هشام، السيرة النبوية 1 \ 370.
(3) ابن هشام، السيرة النبوية 1 \ 372.(23/253)
صفحة فارغة(23/254)
صفحة فارغة(23/255)
صفحة فارغة(23/256)
صفحة فارغة(23/257)
صفحة فارغة(23/258)
صفحة فارغة(23/259)
صفحة فارغة(23/260)
مصادر ومراجع البحث
- الأشعري، أبو الحسن علي بن إسماعيل: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد (مصر، مكتبة النهضة المصرية، ط 1 سنة 1950 م) .
- الأصفهاني، أبو نعيم أحمد بن عبد الله: دلائل النبوة، خرج أحاديثه: عبد البر عباس، حققه: محمد رواس قلعه جي (دمشق، دار ابن كثير، ط 1، 1975 م) .
- الآمدي، علي بن أبي علي بن محمد: الإحكام في أصول الأحكام، تعليق: عبد الرزاق عفيفي (الرياض، مؤسسة النور، ط 1، 1387 هـ) .
- الباقلاني، محمد بن الطيب بن محمد، إعجاز القرآن، تحقيق: السيد محمد صقر (القاهرة: دار المعارف ط 3، 1963 م) . (والنشر، ط 2 سنة 1963) .
- بدوي، أحمد أحمد: من بلاغة القرآن (القاهرة، مكتبة نهضة مصر ط 3، د. ت) .
- البغدادي، عبد القاهر بن طاهر: الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية منهم (بيروت، دار الآفاق الجديدة ط 5 سنة 1982 م) .
- البوطي، محمد سعيد رمضان: من روائع القرآن تأملات علمية وأدبية في كتاب الله عز وجل (دمشق، مكتبة الفارابي، ط 4 سنة 1975م) .(23/261)
- الجرجاني، عبد القاهر بن عبد الرحمن: الرسالة الشافية- مطبوعة ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن - تحقيق: محمد خلف الله، محمد زغلول (القاهرة، دار المعارف، ط 3، سنة 1976م) .
- الحسناوي، محمد: الفاصلة القرآنية (حلب، دار الأصيل للطباعة والنشر، د. ت)
- الحكيم، السيد محمد: إعجاز القرآن (القاهرة، مطبعة دار التأليف، سنة 1978 م) .
- الخطابي، حمد بن محمد إبراهيم، بيان إعجاز القرآن - مطبوع ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن - تحقيق: محمد خلف الله، محمد زغلول (القاهرة، دار المعارف، ط 3 سنة 1976 م) .
- خلاف، عبد الوهاب: علم أصول الفقه (القاهرة، مكتبة الدعوة الإسلامية ط 8، مصورة عن ط 7 سنة 1956 م) .
- دبل، محمد بن سعد: النظم القرآني في سورة الرعد (بيروت، عالم الكتب، د. ت) .
- الرافعي، مصطفى صادق: إعجاز القرآن (القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، ط 8 سنة 1965 م) .
- الرماني، علي بن عيسى: النكت في إعجاز القرآن - مطبوع ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن - تحقيق: محمد خلف الله، محمد زغلول (القاهرة، دار المعارف ط 3، سنة 1976 م) .
- الزرقاني، محمد عبد العظيم: مناهل العرفان في علوم القرآن (القاهرة، مطبعة عيسى البابي الحلبي، د. ت) .
- الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد الله: البرهان في علوم القرآن، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم (القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، ط 1 سنة 1957 م) .
- الزركلي، خير الدين: الأعلام، قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء والمستعربين والمستشرقين (بيروت، دار العلم للملايين، ط 3، سنة 1969 م) .
- أبو زهرة، محمد: المعجزة الكبرى القرآن (القاهرة، دار الفكر العربي، د. ت) .
- السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد الخضيري: الإتقان في علوم القرآن (القاهرة، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، ط 3 سنة 1951 م) .
السيوطي: معترك الأقران في إعجاز القرآن، تحقيق محمد علي البجاوي (مصر، دار الفكر العربي، د. ت) . - الفيروزآبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب: القاموس المحيط (القاهرة، المطبعة الحسينية المصرية، ط 2، 1344 هـ) .
- القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري: الجامع لأحكام القرآن (القاهرة، دار الكتاب العربي سنة 1387 هـ) .(23/262)
- قطب، سيد: التصوير الفني في القرآن، (بيروت، القاهرة، دار الشروق، د. ت) . قطب: في ظلال القرآن (بيروت، دار الشروق، ط 10، سنة 1982 م) .
- ابن القيم، شمس الدين محمد بن أبي بكر: الفوائد المشوق إلى علوم القرآن (بيروت، دار الكتب العلمية، د. ت) .
- الكرماني، محمود بن حمزة بن نصر: أسرار التكرار في القرآن الكريم، دراسة وتحقيق: عبد القادر أحمد عطا (القاهرة، دار الاعتصام ط 2 سنة 1976م) .
- معبد، محمد أحمد: الملخص المفيد في علم التجويد، (المدينة المنورة مكتبة طيبة، ط 1 سنة 1984 م) .
- الملا، عمر الملا جويس: تطور دراسات إعجاز القرآن وأثرها في البلاغة العربية (بغداد، مطبعة الأمة سنة 1972م، ساعدت جامعة بغداد على نشره) .
- ابن منظور، محمد بن مكرم بن علي: لسان العرب (بيروت، دار صادر سنة 1956م) .
- المولى، محمد أحمد جاد ومعه علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم: أيام العرب في الجاهلية (مصر، دار إحياء الكتب العربية، د. ت) .
- ابن هشام، عبد الملك بن هشام الحميري: السيرة النبوية، تحقيق، مصطفى السقا، إبراهيم الأبياري، عبد الحفيظ شلبي (بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط 3 سنة 1971م) .
- ابن يعيش، يعيش بن علي بن يعيش، شرح المفصل (بيروت، عالم الكتب، د. ت) .(23/263)
صفحة فارغة(23/264)
حكمة مشروعية
الاحتساب وحكمه، ووظيفته
وأنواعه ودرجاته وطرقه
للدكتور محمد عثمان صالح
(أ) حكمة مشروعية الاحتساب وحكمه:
شرع الله الاحتساب لحكمة عظيمة، وفائدة لا تخفى على ذوي العقول السليمة، فهم يرون بلا عناء أن للاحتساب أهميته البالغة، ودوره الخطير في إيجاد البناء الاجتماعي القوي المتماسك. لهذا جعله الله منهاج الفلاح، والصلاح للمؤمنين. كما جعله ميزة لخير الأمم، ومناط تفضيلها على العالمين - كما جعله الترياق لكل سموم المعاصي التي قد تهجم على جسد الأمة وتفسد عافيتها.
وقد أجمع العلماء الذين بحثوا في حكم الاحتساب وحكمة مشروعيته على وجوبه. لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الأمة في مجملها وبأدلة من القرآن والسنة المطهرة، وإجماع العلماء.
أما في القرآن الكريم فنجد الأمر به في قوله تعالى:
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (1) فالعرف الذي يؤمر به هو المعروف والعبرة بعموم اللفظ. والدليل الثاني من القرآن قوله تعالى:
__________
(1) سورة الأعراف الآية 199(23/265)
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) .
فالأمر في الآية {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} (2) أمر للوجوب الكفائي خوطب به سائر الأمة. قال بعض المفسرين: "من" في " ولتكن منكم" للتبعيض لأن ما ذكر فرض كفاية. . . وقيل: زائدة (أي لتكونوا أمة) (3) . وقال ابن كثير - رحمه الله - معناه: " أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبا على كل فرد بحسبه. . . (4)
أما من السنة فالأدلة كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (5) » .
وفي رواية أخرى «وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل (6) » ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي لامرئ شهد مقاما فيه حق إلا تكلم به، فإنه لن يقدم أجله، ولن يحرمه رزقا هو له (7) » .
أما الإجماع فقد اتفقت كلمة الأمة كلها قديما وحديثا على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل إن من العلماء من جعله أصلا من الأصول التي بدونها لا يكون إيمان (8) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 104
(2) سورة آل عمران الآية 104
(3) تفسير الجلالين عند تفسير آية 104 آل عمران.
(4) مختصر تفسير ابن كثير للصابوني، ج 1 ص 306.
(5) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .
(6) رواه مسلم والترمذي وغيرهما.
(7) رواه الطبراني والبيهقي.
(8) الحسبة في الإسلام ص 64.(23/266)
فالاحتساب بإجماع أهل الإسلام فرض لازم من الفروض التي إذا تركتها الأمة أثمت، وظلمت، واستحقت عقاب الله لها بشتى ضروب المحن في الدنيا، وبشتى صنوف العذاب في الآخرة. أما إذا قام به من يكفي في ذلك فقد سلمت الأمة، ونجت وتم بناؤها الاجتماعي. فهو إذن فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين ولكنه في أحوال أخرى يكون فرض عين وتفصيلا لهذا الحكم يقول بعض الباحثين:
" إذا كانت الحسبة فريضة في الجملة فإنما ذلك بالنظر إليها لا إلى ما تتعلق به من أقوال وأفعال. إذ يطرأ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحكام مختلفة تبعا لمرتبة ذاك المعروف وذاك المنكر ".
وأضيف إلى هذا منزلة من يقوم به ومكانته. . . الخ. فالمعروف المأمور به قد يكون فرضا. وقد يكون سنة، أو مستحبا. وعندئذ يكون حكم الأمر به تابعا لحكمه ذاته. والمنهي عنه يكون حراما أحيانا. ويكون مكروها تحريميا أو تنزيهيا أحيانا أخرى، وعند ذلك يحكم على النهي بحسب حكم المنهي عنه ذاته، هذا في الحالات الفردية، أما لو ترك المسنون كله في المجتمع، أو ارتكب المكروه عامة في المجتمع فعندئذ يكون حكم الاحتساب فرضا على ذلك، إحياء للسنة، وإماتة للبدعة، وتصحيحا لما قد يسود في المجتمع من مفهوم خاطئ مخالف لشرع الله. وإضافة إلى هذا أقول: قد يكون الاحتساب فرض عين على من شاهد منكرا محرما دون سواه من الناس ومن ذلك النساء اللاتي يطلعن على بعض الأمور التي لا يطلع عليها سواهن فلا بد أن يأمرن وينهين بالحسنى، ومن ذلك المحتسب المعين أو المولى من قبل السلطة فيتعين عليه الأمر والنهي إذا وصل إلى علمه ما يوجب ذلك، ومن ذلك الرفيق في السفر أو العمل أو الدراسة. فعلى الفرد من هؤلاء يتعين الاحتساب.(23/267)
(ب) وظيفة الاحتساب وأثره في البناء الاجتماعي:
وظيفة الاحتساب في المجتمع وظيفة بالغة الخطورة إذ حولها مدار البناء أو الهدم. فهي إذا نهضت بها الأمة فقد رفعت من بنائها ومن شأن "البنائين"، وإذا قصرت عنها فقد أتاحت الفرصة للهدم و"الهدامين". وما المجتمع إلا بناء لا يتم إلا بمنع الهدم فيه. يقول الشاعر:
متى يبلغ البنيان يوما تمامه ... إذ كنت تبنيه وغيرك يهدم
ووظيفة الاحتساب هذه قد وضحها المصطفى صلى الله عليه وسلم أوضح بيان في صورة تمثيلية أخرى هي صورة السفينة التي يركب فيها جمع من الناس، يقول في مثل ضربه لهذا صلى الله عليه وسلم.
«مثل القائم في حدود الله (2) » .
في هذا الحديث أوضح دليل على أن المحتسبين هم صمام الأمان لسفينة المجتمع، مثلما هم البناءون للحضارات؛ أو هم كالخلايا الحية في جسد الأمة فإذا تعطلت وظائفها تعرضت الحياة كلها للهلاك والضياع وأصبحت الأمة في عداد الأحياء وما هي كذلك.
قيل لابن مسعود رضي الله عنه: من ميت الأحياء؟
__________
(1) رواه البخاري.
(2) (1) والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا(23/268)
فقال: الذي لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا.
وهذا هو المفتون الموصوف في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، كما أشار إلى ذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى (1) .
وبتفريط أهل الاحتساب من الدعاة يسود الفاسقون والمترفون وبهم تهلك القرى والأوطان. وتحذيرا من هذا المصير ومن أمثال هؤلاء يقول تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (2) .
ولا شك أن تجنب هذا المصير يوجب على الجميع بحسب مراتبهم وقدراتهم أن يعملوا لإشاعة الخير وإبطال الشر، وأن يؤدوا وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ أن مدارها أن يكون الدين كله لله، وأن يعيش المجتمع في ظل نظام الإسلام، لأن ترك ذلك من أعظم الفتن التي أمر الله تعالى بالقتال لمنع حدوثها- قال جل شأنه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (3) .
وكان علماء الأمة وأمراؤها يدركون خطورة الغفلة عن الاحتساب وترك الأمر فوضى للجهال والعصاة. كان الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز يحذر جلساءه من مصير الغافلين، التاركين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان يقرأ لهم رحمه الله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} (4) .
كما كان غيره من السلف يتلو دائما في مواعظه قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (5) .
__________
(1) الحسبة في الإسلام أو وظيفة الحكومة الإسلامية، دار الكتاب العربي، ص 63.
(2) سورة الإسراء الآية 16
(3) سورة الأنفال الآية 39
(4) سورة الذاريات الآية 50
(5) سورة النور الآية 63(23/269)
(ج) أنواع الاحتساب ودرجاته:
للاحتساب أنواع مختلفة بحسب النظر إلى المحتسب عليهم، أو النظر إلى القائمين بالاحتساب، فإذا نظرنا في تقسيمه من هذا الوجه فيكون على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: دعوة الأمة الإسلامية الأمم الأخرى إلى الإسلام وذلك من مقام الشهادة والريادة الذي جعله الله خاصية لهذه الأمة، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (1) .
والشهادة على الأمم هي دعوتهم إلى الإسلام وإقامة الحجة عليهم ليوم القيامة.
النوع الثاني: الدعوة الخاصة بالمسلمين والتي يقوم بها العلماء والوعاظ والدعاة المربون. ومصدرها قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) .
وقوله تعالى مبينا ما ينبغي أن يكون عليه حال المؤمنين من الطاعة والانقياد: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} (3) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 143
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) سورة النور الآية 51(23/270)
وقوله في وصف المؤمنين الناجين من الخسران: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (1) .
النوع الثالث: الدعوة الجزئية وتكون بين الأفراد بعضهم بعضا وهي أكثر المراتب التصاقا بموضوع الاحتساب، لأن ترك المعروف وإتيان المنكر إنما يظهر أولا في الأفراد، فإذا تمادوا ولم يردعهم رادع، أصبح المنكر معروفا والمعروف منكرا- كما هو مشاهد - والدليل على هذه المرتبة قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} (2) {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} (3) {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى} (4) .
أما درجات الاحتساب فإنها تتفاوت بجسب تحقيق بعض الصفات في المحتسب، كالقدرة أو العجز والقوة أو الضعف، والعلم أو الجهل.
فالدرجة الأولى: وهي أعلاها أن يغير المنكر بيده بمعنى أن يزيله فعلا ولو اقتضى الأمر استعمال القوة، والاستعانة بغيره، وتتأكد هذه الدرجة إذا كان ما يقوم به المحتسب دفع ضرر مباشر كتخليص النفس البريئة، ودفع المعتدي (الصائل) ، والدفاع عن عرض مسلم. وهذه المرتبة يقوى عليها أرباب السلطة، وأصحاب القدرة والجاه، ومن ولته الدولة أمر الاحتساب، والآباء والمربون في منازلهم وفي قراباتهم ونحو ذلك. وقد يقدر عليها العامة برفع الأمر إلى القضاء. أو إلى المحتسب الذي قد تفوض له بعض الصلاحيات في التعزير أو التأديب.
الدرجة الثانية: تغيير المنكر بالقول، وهذه الدرجة يستطيعها أغلب الناس خاصة إذا قوى بعضهم بعضا، بأن استحسن المجتمع فعل من يغير المنكر واستهجن سكوت من أقر الباطل.
والاحتساب بالقول تقوم به الحجة على العامة والخاصة، والسلطان
__________
(1) سورة العصر الآية 3
(2) سورة الأعلى الآية 9
(3) سورة الأعلى الآية 10
(4) سورة الأعلى الآية 11(23/271)
والرعية، ويدخل في القول الكتابة بأنواعها، والخطابة، والشريط المسجل والحوار المباشر ونحوه، ولهذه المرتبة فقه عظيم يلتمس من المصادر التي تناولت موضوع الحسبة ومن الأمور الضرورية التي ينبغي معرفتها اختيار الأسلوب الأمثل الذي يلخصه قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) .
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الدرجة هو مناط الأمر الذي نرمي إليه لينتفع العامة من تصنيف هذا البحث، بمعنى أن دائرة القول متسعة بحيث تشمل نشاط كل الأفراد الذين يحبون أن تشيع أحكام الله تعالى، وتختفي الفواحش والمخالفات، ويسود - في الجملة - شرع الله تعالى، ولا نرى في هذا العصر الذي عمت فيه الصحوة الإسلامية النزول عن هذه الدرجة - بفضل الله - وتوفيقه لهذه الأمة - ثم بفضل الروح العامة التي بثتها السياسة الواعية للولاة والدعاة - يوم أن تعاونوا على تثبيت أحكام شرع الله ورفضوا مقولات من ينسبون أحكام الشريعة إلى حاكم مقهور، أو شهر من الشهور، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
الدرجة الثالثة: الاحتساب بالقلب، وهذا يكون حيث الضعف العام، والعجز التام، في حالة تسلط الفسقة أو الملحدين، أو المتسلطين القاهرين. وبفضل الله تعالى هذه درجة لا يتجاوزها من في قلبه مثقال حبة من إيمان. فالإنكار القلبي للمعاصي والشرور والمظالم يمكن أن يقوم به كل أحد، ولا يعذر في ذلك مكلف. . . . وفائدة هذه الدرجة نقاء قلب المؤمن في
__________
(1) سورة النحل الآية 125(23/272)
حساسيته ورفضه للمنكر (1) . وبقاء العزيمة على التغيير بحيث يظل متربصا حتى إذا سنحت الفرصة، انقض على الباطل. . . وفي تاريخ المسلمين الحديث عظات ودروس من هذا النوع. . . فقد رأينا مصير الذين لم ينكروا المنكر واستمرؤا ما فرضته عليهم زمرة العصاة والطغاة من علمانية ومخالفة ظاهرة لشرع الله.
__________
(1) انظر الدكتور عبد الكريم زيدان، أصول الدعوة مكتبة المنار الإسلامية، بغداد، 1401 هـ.(23/273)
(د) طرق الاحتساب (مراتبه) :
أما طرق الاحتساب التي يعبر عنها بعض العلماء بمراتب الاحتساب فهي متعددة بحسب النظر إلى الأسلوب المختار والطريقة التي يتبعها من يقوم بالأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، وهذه الطرق أو المراتب المتدرجة تصلح كل واحدة منها لحالة من الحالات. فالأسلوب الذي يصلح مع إنسان قد لا يصلح مع آخر، والطريقة المتبعة في حالة معينة قد لا تكون بالضرورة هي العلاج لحالة أخرى.
وهكذا قد يسلك المحتسب طريقا تعليميا رفيقا مع فرد، وطريقا وعظيا تذكيريا مع آخر، أو أسلوبا تقريعيا شديدا مع فئة، أو تهديديا بإنزال العقوبة مع فئة أخرى. وقد يستخدم القوة في منع منكر - إذا كان ذلك تحت دائرة مكنته أو سلطته، أو يرفع الأمر للحاكم لإنزال العقوبة أو التعزير المناسب. وهكذا تختلف طرق الاحتساب وفقا لاختلاف الحالات والأحوال. ولمزيد من التفصيل أقول إن طرق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خمس طرق هي:(23/273)
الأولى: الطريقة التعليمية:
وهي من أفضل الطرق وأنجحها، إذ أن خطاب الله تعالى للناس يبدأ بتعليهم فروض الدين وأركان الإيمان، ومحاسن الأخلاق، والحلال والحرام. وهذه الطريقة هي طريقة "البلاغ" التي أمر الله بها سائر الرسل والنبيين.
{لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} (1) .
والرسول محمد صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إنما بعثت معلما (2) » وكان يقول لأهل مكة من محكم التنزيل: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (3) .
وقد طبق هذه الطريقة عمليا في مواطن كثيرة حين يرى منكرا لا يقدر الآخرون على اختيار الأسلوب المناسب لإزالته، من ذلك مثلا حادثة الرجل الذي لم يحسن صلاته فعلمه كيف يصلي. وحادثة الأعرابي الذي بال في مسجده صلى الله عليه وسلم، فهم به الصحابة - أي أرادوا تأديبه عنفا- فقال صلى الله عليه وسلم - «لا تزرموه (4) » أي لا تقطعوا عليه البول. ثم قال له: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من القذر والبول والخلاء (5) » . وفي رواية أنه قال «دعوه وأريقوا على بوله سجلا- أي دلوا- من ماء فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين (6) » .
وهكذا طبق الصحابة هذه الطريقة التعليمية ومن جاء بعدهم من السلف وكانوا يفترضون في الذي يأمرونه بالمعروف أو ينهونه عن المنكر عدم العلم، فيختارون الأسلوب الأمثل لتعليمه، حتى لا تأخذه العزة بالإثم.
__________
(1) سورة الجن الآية 28
(2) سنن ابن ماجه المقدمة (229) ، سنن الدارمي كتاب المقدمة (349) .
(3) سورة الأنعام الآية 19
(4) صحيح البخاري الأدب (6025) ، صحيح مسلم الطهارة (285) ، سنن النسائي المياه (329) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (528) ، مسند أحمد بن حنبل (3/191) .
(5) صحيح مسلم الطهارة (285) ، مسند أحمد بن حنبل (3/191) .
(6) رواه البخاري، وأحمد بن حنبل.(23/274)
من ذلك حادثة اشتهرت عند الناس، كان المعلمان فيها طفلين صغيرين- وربما هما الحسن والحسين رضي الله عنهما حين رأيا رجلا لا يحسن الوضوء، فقال أحدهما يا عم، زعم أخي هذا أني لا أحسن الوضوء، فانظر إلى وضوئي. فتوضأ كأحسن ما يكون الوضوء ثم قال الآخر انظر إلى وضوئي. فتوضأ كأحسن ما يكون الوضوء فأدرك الرجل عندئذ أنه هو المخطئ في وضوئه. وقال لهما لا شيء في وضوئكما. وإنما وضوئي أنا هو الناقص ".
وهكذا ينبغي أن يسير مريد الحسبة، بعيدا عن الغلظة أو الجفوة أو التعالي أو قذف الناس بالجهل، فينفر القريب، ويتباعد البعيد. . على أنه كان في استطاعته أن يقول لمن يأمره بمعروف أو ينهاه عن منكر " هذه يا أخي فريضة أمر الله بها، أو هذه معصية نهى الله عنها".
" ففي الناس من يقصر في طاعة، ولا يعلم أنه مأمور بها، وفيهم من يفعل معصية ولا يعلم أنه منهي عنها، فلا بد من تعريفه بالحكم أولا " (1) ، ولا ينزل إلى طريقة أخرى إلا إذا تأكد له أن المخاطب غير جاهل بالحكم حينئذ يختار أسلوبا آخر.
__________
(1) بيانوني، الأمر بالمعروف 49.(23/275)
الثانية: الطريقة الوعظية التذكيرية:
وهذه الطريقة التي تنفع مع الناسي أو المتجاهل، أو الكسلان أو العاصي، المستهين بأمر الله تعالى. ويستحسن أن يختار المحتسب مع هؤلاء الأسلوب الأمثل الذي ينفع في كل حالة. فإذا كان المخاطب في جماعة فالأولى أن يكون الخطاب عاما على ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقول: «ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا (1) » . . .
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (4788) .(23/275)
وإذا كان الشخص المخاطب يصلح معه أن يخاطب على انفراد وبعيدا عن الآخرين فيستحسن أن يلجأ معه إلى أسلوب وعظي تذكيري، كأن يقول: يا أخي اتق الله في نفسك. ولا أحب لك إلا ما أحب لنفسي، فإنه حدث منك كذا وكذا ويسوق له الأدلة على الوجوب أو الحرمة أو السنة أو الكراهة، ويذكره بالثواب أو العقاب الأخروي وعاقبة الاستقامة في الدنيا والآخرة. وإن كان من ذوي الحسب ذكره بأن هذا لا يليق من أمثاله. . الخ. ولا يتحول المحتسب عن هذه الطريقة إلى طريقة أخرى إلا إذا علم أن المخاطب لا يفيده هذا الأسلوب.(23/276)
الثالثة: طريقة التعنيف والتقريع:
وهذه الطريقة تصلح لبعض الناس دون سواهم. إن طبائع الناس فيها اختلاف كبير فبعضهم يميل إلى البهيمية إذ فيه من طبع الحيوان قدر غير قليل. . وبعضهم يميل إلى التصابي وإن فرقت السنين أو العقود بينه وبين عهد الطفولة والصبا، وبعضهم يميل إلى الكبرياء والتعالي أو الغفلة والغرور فهذا أو ذاك لا يصلح معهما إلا شيء من الخطاب الزاجر، أو التوجيه الناهي الآمر، أو التعنيف المباشر.
وإذا اقتضى الحال من ذي المروءة والمكانة من المحتسبين أن يوجه التقريع أو اللوم أو شيئا من عنيف القول فلا بأس. مثل أن يقول اتق الله أو يا عدو نفسه. أو ألا تخاف الله. .؟ ولكن لا بد من الحذر الشديد في اختيار هذا الأسلوب مع الغرباء، أو الحمقى ويحسن أن يكون في دائرة الأقربين أو الأولاد أو نحوهم إذ أن الغريب والأحمق قد تأخذهما العزة بالإثم فيحدث ما لا تحمد عقباه.
والقاعدة الفقهية أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وإذا استخدم هذا الأسلوب مع الولاة أو الحكام فينبغي أن يرجح صدق إيمانهم(23/276)
وخوفهم من الله وأن يكون في منتهى القوة والقناعة والزهد معهم. فيكون كشأن عالم أهل مكة المشهور عطاء بن أبي رباح مع الخليفة الأموي عبد الملك:
" عن الأصمعي قال: دخل عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه على عبد الملك بن مروان وهو جالس على سريره، وحواليه الأشراف من كل بطن - أي قبيلة - وذلك بمكة في وقت حجه في خلافته، فلما بصر به قام إليه، وأجلسه معه على السرير وقعد بين يديه، وقال له: يا أبا محمد. ما حاجتك؟ فقال: يا أمير المؤمنين اتق الله في حرم الله وحرم رسوله، فتعاهده بالعمارة، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار، فإنك بهم جلست هذا المجلس. واتق الله في أهل الثغور، فإنهم حصن المسلمين، وتفقد أمور المسلمين، فإنك وحدك المسئول عنهم، واتق الله فيمن على بابك فلا تغفل عنهم، ولا تغلق بابك دونهم.
فقال له: أجل، أفعل.
ثم نهض عطاء وقام فقبض عليه عبد الملك - أي على يده - وقال يا أبا محمد، إنما سألتنا حاجة لغيرك، وقد قضيناها، فما حاجتك أنت؟ قال: ما لي إلى مخلوق حاجة. ثم خرج.
فقال عبد الملك: هذا وأبيك الشرف" (1) .
وإذا أجدت هذه الطريقة مع بعض الناس ولم تجد مع آخرين فإنه يغير الأسلوب ويلجأ إلى طريقة أخرى من الطرق المناسبة.
__________
(1) كلمة تجري على الألسن ولا يقصد بها الحلف كقوله صلى الله عليه وسلم (أفلح وأبيه إن صدق) .(23/277)
الرابعة: طريقة التهديد بإنزال العقوبة البدنية أو المادية:
وهذا أسلوب ينفع من بعض الناس فهؤلاء كالنيام لا يستيقظون إلا إذا حلت بهم صيحة، أو قرع آذانهم نذير الألم والبلاء. فهم من ذوي الأحاسيس ولكنها أحاسيس متجمدة لا يذيبها إلا حر الخوف من العقوبة. ويشترك في هذه الطبيعة بعض الرجال، وبعض النساء، وكثير من الفتيان والصبيان. والمربي الوالد، أو المحتسب المجاهد حين يلجأ لهذا الأسلوب القاسي فإنما يقصد الشفقة والرحمة بالمخاطب يريد نجاته من الخسران في الدنيا والهلاك في الآخرة فهو إذا استخدم التهديد بإنزال العقوبة البدنية أو المادية فإنما يقصد الرحمة للمخاطب. فيكون في هذا كما قال الشاعر:
فقسا ليزدجروا ومن يك راحما ... فليقس أحيانا على من يرحم
وقد باشر هذا الأسلوب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تعرض يوما لمن يتركون صلاة الجماعة فقال: «لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها فآمر بهم فيحرقوا عليهم بحزم الحطب بيوتهم (1) » .
كما درج على نفس الطريقة كثير من الخلفاء والولاة والعلماء. . . . وكان أبرز هؤلاء الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي نشر هيبة الإسلام على سائر الدولة الإسلامية من شدة محاسبته للخاصة والعامة وتهديده بالعقوبة للمتهاونين والعصاة والغافلين.
ومع التهديد بالعقوبة لعله يحسن الهجر والإعراض قبل الانتقال إلى مرحلة تالية ربما كان ذلك خيرا لبعض الوقت، على أنه حين التمادي في ترك المعروف أو الاستحلاء للمنكر ينبغي أن يلجأ إلى الأسلوب الآخر.
__________
(1) رواه مسلم المجلد 3 الجزء 5 ص 153.(23/278)
الخامسة: طريقة المنع بالقوة.
وهذه كما هو معلوم تكون آخر الدواء كالكي بالنار تماما، وهي درجة مخصصة للقادر على التغيير باليد، من الآباء والمربين وذوي الجاه والسلطة أو المكانة العلمية والأدبية التي لا تنازع، أو المحتسب المولى. ففي هذه الحالة للمحتسب أن يستخدم قدرته على كسر أدوات المعصية من أواني خمور، أو أدوات لهو باطل، أو وسائل معصية مقطوع حرمتها.
ولقد كان واقعنا في بعض البلاد الإسلامية تفويض اجتماعي لذوي الجاه والعلم أن يغيروا المنكر بأيديهم في الطرقات أو الأسواق أو في وسائل المواصلات العامة. وكان لكبير السن الهيبة والمنزلة التي بها يستطيع أن يقيم أمر العامة على الجادة دون أن يتعرض لأي مضايقة أو أذى إذا ما استخدم يده في ذلك ولكن اختفت الآن هذه الظاهرة أو كادت أن تختفي فما علينا إلا البحث عن الخلل الذي طرأ في حياتنا الاجتماعية وجعل كثيرا من الناس يحجمون عن أداء واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من هذا الطريق.
ولعل العلاج لهذه الظاهرة هو إشاعة مزيد من الفقه بين المحتسبين لأن هذه المنزلة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد لا ينبغي أن يتصدى لها إلا من هو عالم بما يأمر به أو ينهى عنه، ومطلع أيضا على الطرق بالأساليب التي تتخذ الحكمة رائدا لها.
محمد عثمان صالح(23/279)
صفحة فارغة(23/280)
من هو الخضر صاحب موسى عليه السلام
الشيخ \ يوسف عبد الرحمن البرقاوي
قصة حياة الخضر من القصص التي راجت بين العوام واشتهرت عند الجماعات المتصوفة فأوقع الشيطان الكثير من جهلة هذه الأمة في متاهات لا حدود لها وفي ضلالات سحيقة في أمر الخضر. ونسج الغلاة من أهل الضلال الحكايات الغريبة والخرافات البعيدة عن الحق والصواب واعتبروا ذلك من باب الولاية لهم وكرامة لأمثالهم زاعمين بأن الله تعالى أكرمهم بها.
والحق إنما هي تخرصات وأوهام مبنية على إرهاصات خيالية وحكايات معتمدة على المكاشفات والمنامات والتي هي من وحي الشيطان لبس بها على أوليائه وأتباعه فأضلهم بذلك سواء السبيل. وقد بحث علماء الإسلام هذا الموضوع بحثا وافيا في كتبهم المعتبرة على ضوء ما قررته الأدلة الشرعية وأوضحوا هذا الأمر جليا فمن أراد المزيد من الاطلاع فعليه مراجعة كتاب الإصابة في تمييز الصحابة وفتح الباري وكلاهما لابن حجر العسقلاني والبداية والنهاية لابن كثير وكتاب المنار المنيف لابن القيم وكتاب كشف الخدر عن أمر الخضر للشيخ علي القارئ وكتاب عجالة المنتظر في شرح حال الخضر لأبي الفرج ابن الجوزي. ففي هذه المراجع الجواب الشافي لمن أراد أن يقف على حقيقة الخضر.
وقد جمعت هذا البحث من كتب علماء الإسلام المعتبرة وعزوت كل قول إلى قائله مع بيان المرجع الذي اعتمدت عليه ليكون القارئ على نور(23/281)
وبصيرة من هذا الموضوع الذي روجته حكايات الخرافيين وأساطير المتصوفين.(23/282)
مقتطفات من أقوال العلماء:
جاء في كتاب الإصابة في تمييز الصحابة ص 429 ج 1 قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله: (الخضر صاحب موسى اختلف في نسبه وفي كونه نبيا وفي طول عمره وبقاء حياته وعلى تقدير بقائه إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم وحياته بعده فهو داخل في تعريف الصحابة على أحد الأقوال ولم أر من ذكره منهم من القدماء مع ذهاب الأكثر إلى الأخذ بما ورد من أخباره في تعميره وبقائه وقد جمعت من أخباره ما انتهى إلي علمه مع بيان ما يصح من ذلك وما لا يصح) .
وجاء في كتاب المنار المنيف ص 76 قال ابن القيم رحمه الله:
(الأحاديث التي يذكر فيها الخضر وحياته كلها كذب ولا يصح في حياته حديث واحد) .
وسيأتي ذلك في موضعه وقد أجاد وأفاد ابن القيم في بيان الأدلة على موت الخضر وأبطل مزاعم القائلين بحياته وذلك من عشرة أوجه وأثبت موت الخضر بالأدلة الصحيحة.
(3) وجاء في كتاب الموضوعات لابن الجوزي ص 195 ج 1 قال رحمه الله: (يلتقي الخضر وإلياس كل عام فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه ويتفرقان عن هذه الكلمات.
" بسم الله ما شاء الله لا يسوق الخير إلا الله، ما شاء الله لا يصرف السوء إلا الله، ما شاء الله ما يكون من نعمة فمن الله، ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله.) .(23/282)
فقد اعتبر ابن الجوزي ذلك من الموضوعات التي لا أصل لها من الصحة.(23/283)
نسب الخضر:
فقد نقل ابن حجر العسقلاني في الإصابة في تمييز الصحابة عشرة أقوال في نسب الخضر أسوقها للقارئ كما جاء في الإصابة (ص 429 ج1) .
الأول: قيل هو ابن آدم لصلبه وهذا القول رواه الدارقطني في الأفراد من طريق رواد بن الجراح عن مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس. ورواد ضعيف ومقاتل متروك والضحاك لم يسمع من ابن عباس.
الثاني: إنه ابن قابيل بن آدم ذكره أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين قال: حدثنا مشيختنا منهم أبو عبيدة فذكره وقالوا هو أطول الناس عمرا وهذا معضل وحكى صاحب هذه المقالة أن اسمه خضرون وهو الخضر وقيل اسمه عامر ذكره أبو الخطاب ابن دحية عن حبيب البغدادي.
الثالث: جاء عن وهب بن منبه أنه بليا بن ملكان بن فالح بن شالخ بن عامر بن أرفخشد بن سام بن نوح وبهذا قال ابن قتيبة وحكاه النووي وزاد " كلمان " بدل " ملكان ".
الرابع: جاء عن إسماعيل بن أبي أديس أنه المعمر بن مالك بن عبد الله بن نصر بن الأزد.
الخامس: هو ابن عمائيل بن النون بن العيص بن إسحاق حكاه ابن قتيبة أيضا وكذا سمى أباه عمائيل مقاتل.
السادس: إنه من سبط هارون أخي موسى روي عن الكلبي عن أبي صالح عن أبي هريرة عن ابن عباس وهو بعيد وأعجب منه قول(23/283)
ابن إسحاق أنه أرميا بن خلفيا وقد رد ذلك أبو جعفر ابن جرير.
السابع: إنه ابن بنت فرعون حكاه محمد بن أيوب عن ابن لهيعة وقيل ابن فرعون لصلبه حكاه النقاش.
الثامن: إنه اليسع حكي عن مقاتل أيضا وهو بعيد أيضا.
التاسع: إنه من ولد فارس جاء ذلك عن ابن شوذب أخرجه الطبري بسند جيد من رواية ضمرة بن ربيعة عن ابن شوذب.
العاشر: إنه من ولد بعض من كان آمن بإبراهيم وهاجر معه من أرض بابل حكاه ابن جرير الطبري في تاريخه، وقيل كان أبوه فارسيا وأمه رومية. وقيل العكس كان أبوه روميا وأمه فارسية.
وهذه الأقوال ذكر بعضها ابن كثير في البداية والنهاية ص 326 ج 1 وقد ضعف ابن كثير بعض هذه الروايات.(23/284)
سبب تسميته الخضر:
جاء في كتاب الإصابة في تمييز الصحابة ص 430 ج 1 قال ابن حجر العسقلاني:
(وثبت في الصحيحين أن سبب تسميته الخضر أنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء هذا لفظ أحمد من رواية ابن المبارك عن عمر عن همام عن أبي هريرة قال: والفروة الأرض اليابسة) .
وقال أحمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام عن أبي هريرة رفعه.(23/284)
«إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة فاهتزت تحته خضراء (1) » . والفروة الحشيش اليابس) .
قال عبد الله بن أحمد أظنه تفسير عبد الرزاق، وفي الباب عن ابن عباس من طريق قتادة عن عبد الله بن الحارث ومن طريق منصور عن مجاهد عن النووي كنيته أبو العباس وهذا متفق عليه.
وجاء في فتح الباري شرح البخاري ص 433 ج 6 عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء (2) » رواه البخاري وغيره.
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3402) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3151) ، مسند أحمد بن حنبل (2/318) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3402) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3151) ، مسند أحمد بن حنبل (2/312) .(23/285)
نبوة الخضر:
جاء في تفسير القرطبي ص 16 ج 11 عند قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} (1) الكهف آية 65 قال القرطبي رحمه الله:
(العبد هو الخضر عليه السلام في قول الجمهور وبمقتضى الأحاديث الثابتة. إلى أن قال: والخضر نبي عند الجمهور، وقيل: عبد صالح والآية تشهد بنبوته، لأن بواطن أفعاله لا تكون إلا بوحي. وأيضا فإن الإنسان لا يتعلم ولا يتبع إلا من فوقه، وليس يجوز أن يكون فوق النبي من ليس بنبي، وقيل: كان ملكا أمر الله موسى أن يأخذ عنه مما حمله من علم الباطن) .
وقال القرطبي: (والأول الصحيح والله أعلم. أهـ) .
أقول: هذا القرطبي من أئمة المفسرين يرجح نبوة الخضر فبطلت دعوى من قال إنه ولي أعطاه الله علم الباطن.
__________
(1) سورة الكهف الآية 65(23/285)
الأدلة على نبوة الخضر:
قال ابن كثير في البداية والنهاية ص 328 ج 1 بعد أن ساق قصة موسى عليه السلام مع الخضر قال رحمه الله.
(وقد دل سياق القصة على نبوة الخضر من وجوه: -
أحدها: قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} (1)
الثاني: " قوله تعالى حكاية عن قول موسى للخضر {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} (2) {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} (3) {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} (4) {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} (5) {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} (6) الكهف (66-70) .
قال ابن كثير: (فلو كان وليا وليس بنبي لم يخاطبه موسى بهذه المخاطبة ولم يرد على موسى هذا الرد بل موسى إنما سأل صحبته لينال ما عنده من العلم الذي اختصه الله به دونه، فلو كان غير نبي لم يكن معصوما ولم تكن لموسى وهو نبي عظيم ورسول كريم واجب العصمة كبير رغبة ولا عظيم طلبة في علم ولي غير واجب العصمة ولما عزم على الذهاب إليه والتفتيش عليه ولو أنه يمضي حقبا من الزمان، ثم لما اجتمع به تواضع له وعظمه واتبعه في صورة مستفيد منه دل على أنه نبي مثله يوحى إليه كما يوحى إليه وقد خص من العلوم الكونية والأسرار النبوية مما لم يطلع الله عليه موسى الكليم نبي بني إسرائيل الكريم) .
وقد احتج بهذا المسلك بعينه الرماني على نبوة الخضر عليه السلام.
الثالث: إن الخضر أقدم على قتل الغلام وما ذاك إلا للوحي إليه من الملك العلام وهذا دليل مستقل على نبوته وبرهان ذلك على عصمته، لأن
__________
(1) سورة الكهف الآية 65
(2) سورة الكهف الآية 66
(3) سورة الكهف الآية 67
(4) سورة الكهف الآية 68
(5) سورة الكهف الآية 69
(6) سورة الكهف الآية 70(23/286)
الولي لا يجوز له الإقدام على قتل النفوس بمجرد ما يدور في خلده لأن خاطره ليس بواجب العصمة إذ يجوز عليه الخطأ بالاتفاق ولما أقدم الخضر على قتل ذلك الغلام الذي لم يبلغ الحلم علما منه بأنه إذا بلغ يكفر ويحمل أبويه على الكفر لشدة محبتها له فيتبعانه على الكفر ففي قتله مصلحة عظيمة تربو على بقاء مهجته صيانة لأبويه عن الوقوع في الكفر، وعقوبته دل ذلك على نبوته وأنه مؤيد من الله بعصمته.
وقال ابن كثير: (وقد رأيت أبا الفرج ابن الجوزي طرق هذا المسلك بعينه في الاحتجاج على نبوة الخضر وصححه وحكى الاحتجاج عليه الرماني أيضا) .
الرابع: إنه لما فسر الخضر تأويل تلك الأفاعيل لموسى ووضح له عن حقيقة أمره قال بعد ذلك كله: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} (1) الكهف (82) . يعني ما فعلته من تلقاء نفسي بل أمرت به وأوحي إلي فيه فدلت هذه الوجوه على نبوته، ولا ينافي ذلك حصول ولايته بل ولا رسالته كما قاله آخرون وأما كونه ملكا من الملائكة فغريب جدا. وإذا ثبتت نبوته كما ذكرناه لم يبق لمن قال بولايته وإن الولي قد يطلع على حقيقة الأمر دون أرباب الشرع الظاهر مستند يستندون إليه ولا معتمد يعتمدون عليه.
__________
(1) سورة الكهف الآية 82(23/287)
قول ابن حجر العسقلاني في نبوة الخضر:
جاء في الإصابة في تمييز الصحابة ص 430 ج 1 قال رحمه الله: (باب ما ورد في كونه نبيا) أي في نبوة الخضر. قال الله تعالى في خبره عن موسى حكاية عنه: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} (1) وهذا ظاهره أنه فعله بأمر الله، والأصل عدم الواسطة ويحتمل أن يكون بواسطة نبي آخر لم يذكر وهو بعيد ولا سبيل إلى القول بأنه إلهام لأن ذلك لا يكون من غير النبي وحيا حتى يعمل به
__________
(1) سورة الكهف الآية 82(23/287)
ما عمل من قتل النفس وتعريض الأنفس للغرق فإن قلنا إنه نبي فلا إنكار في ذلك.
وقال ابن حجر وأيضا فكيف يكون النبي تابعا لغير نبي وقد قال الثعالبي هو نبي في سائر الأقوال وكان بعض أكابر العلماء يقول: أول عقد يحل من الزنادقة اعتقاد كون الخضر نبيا، لأن الزنادقة يتذرعون بكونه غير نبي إلى أن الولي أفضل من النبي. كما يزعم قائلهم (بهذا البيت من الشعر) :
مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي
وقال ابن حجر في الإصابة ص 431 ج 1.
(ومما يستدل على نبوته ما أخرجه عبد بن حميد من طريق الربيع بن أنس قال: قال موسى لما لقي الخضر: السلام عليك يا خضر قال: وعليك السلام يا موسى قال: وما يدريك أني موسى قال: أدراني بك الذي أدراك بي) .(23/288)
أقوال العلماء في رسالة الخضر:
وقد اتفق الجمهور على نبوة الخضر عليه السلام كما تقدم ولكن اختلفوا هل كان نبيا رسولا أم كان نبيا؟
جاء في الإصابة في تمييز الصحابة ص 430 ج 1 قال ابن حجر العسقلاني: اختلف من قال إنه كان نبيا هل كان رسولا؟
جاء عن ابن عباس ووهب بن منبه أنه كان نبيا غير مرسل.
وجاء عن إسماعيل بن أبي زياد ومحمد بن إسحاق وبعض أهل الكتاب أنه أرسل إلى قومه فاستجابوا له ونصر هذا القول أبو الحسن الرماني ثم ابن الجوزي.(23/288)
وقال الثعالبي هو نبي على جميع الأقوال معمر محجوب عن الأبصار.
وقال أبو حيان في تفسيره والجمهور على أنه نبي وكان علمه معرفة بواطن أوحيت إليه وعلم موسى الحكم بالظاهر.(23/289)
أقوال المتصوفة في الخضر:
جاء في الإصابة في تمييز الصحابة ص 430 ج1 قال ابن حجر العسقلاني: (وذهب إلى أنه كان وليا جماعة من الصوفية وقال به أبو علي بن موسى من الحنابلة وأبو بكر ابن الأنباري في كتابه الزاهر بعد أن حكى عن العلماء قولين هل كان نبيا أو وليا) .
وقال أبو القاسم القشيري في رسالته المسماة (بالرسالة القشيرية) وهي من كتب الصوفية، قال (لم يكن الخضر نبيا وإنما كان وليا) .
أقول: وهذا القول معلوم لدى الصوفية وذلك لتقوية مذهبهم ودعم أساطيرهم في ترويج القصص الخرافية والحكايات الخيالية التي روجوها بين العوام في أمر الخضر. وقال ابن حجر العسقلاني في الإصابة ص 430 ج 1.
(وحكى الماوردي قولا ثالثا أنه ملك من الملائكة يتصور بصورة الآدميين) .
وقال أبو الخطاب بن دحية.
(لا ندري هل هو ملك أو نبي أو عبد صالح) .(23/289)
تعقيب ابن كثير على قول من قال بأن الخضر ملك أو ولي:
وقد عقب ابن كثير ونعى قول من قال بأنه ملك من الملائكة وقول من قال بأنه ولي من الأولياء كان عنده علم الباطن.
فقد جاء في البداية والنهاية ص 328 ج1 قال ابن كثير: وأما كونه ملكا من الملائكة فغريب جدا وإذا ثبتت نبوته كما ذكرناه لم يبق لمن قال بولايته وأن الولي قد يطلع على حقيقة الأمور دون أرباب الشرع الظاهر مستند يستندون إليه ولا معتمد يعتمدون عليه.
بمعنى ليس للصوفية دليل صحيح يرتكزون عليه ولا مستند يعتمدون عليه بأن الخضر كان وليا وإنما ثبتت نبوته بالأدلة الصحيحة كما تقدم.(23/290)
حياة الخضر والأدلة على ذلك:
هناك من يرى أن الخضر لا يزال حيا وأنه باق إلى أن يقتله الدجال ثم يحييه وتزعم الروايات أنه دفن آدم عليه السلام بعد خروجهم من طوفان نوح وكل ذلك حكايات غير صحيحة لا تقوم بها حجة ولا تثبت بمثلها الأمور الغيبية وقد ردها علماء الإسلام وأبطلها أئمة الحديث وسيأتي ذلك في موضعه.
الأدلة على حياة الخضر:
ذكر ابن حجر العسقلاني في الإصابة أحاديث وحكايات تدل على وجود الخضر إلى يومنا هذا وقد أشار إلى ضعفها ونكارتها ومنها: -
(1) قال ابن حجر العسقلاني في الإصابة ص 431 ج 1: روى الدارقطني عن ابن عباس قال.
(نسئ للخضر في أجله حتى يكذب الدجال) .(23/290)
وقال ابن حجر: وذكر ابن إسحاق في المبتدأ قال حدثنا أصحابنا أن آدم لما حضره الموت جمع بنيه وقال: إن الله منزل على أهل الأرض عذابا فليكن جسدي معكم في المغارة حتى تدفنوني بأرض الشام فلما وقع الطوفان قال نوح لبنيه إن آدم دعا الله أن يطيل عمر الذي يدفنه إلى يوم القيامة فلم يزل جسد آدم حتى كان الخضر هو الذي تولى دفنه وأنجز الله وعده فهو يحيا إلى ما شاء الله أن يحيا.
أقول: ومما يدل على بطلان هذه الحكاية الخيالية فقد وردت آثار صحيحة على أن الذي تولى دفن آدم عليه السلام حين موته هم الملائكة كما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية ص 98 ج 1 قال رحمه الله:
ولما توفي آدم عليه السلام وكان يوم الجمعة جاءته الملائكة بحنوط وكفن من عند الله عز وجل من الجنة، وعزوا فيه ابنه شيثا عليه السلام إلى أن قال: وقد قال عبد الله بن الإمام أحمد حدثنا هدبة بن خالد حدثنا حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عن يحيى بن ضمرة السعدي قال: رأيت شيخا بالمدينة تكلم فسألت عنه فقالوا: هذا أبي بن كعب فقال: إن آدم لما حضره الموت قال لبنيه أي بني إني أشتهي من ثمار الجنة قال فذهبوا يطلبون له فاستقبلتهم الملائكة ومعهم أكفانه وحنوطه ومعهم الفئوس والمساحي والمكاتل فقالوا لهم: يا بني آدم ما تريدون وما تطلبون؟ قالوا: أبونا مريض واشتهى من ثمار الجنة، فقالوا: لهم ارجعوا فقد قضى أبوكم فجاءوا فلما رأتهم حواء عرفتهم فلاذت بآدم فقال إليك عني فإني إنما أتيت من قبلك فخلي بيني وبين ملائكة ربي عز وجل فقبضوه وغسلوه وكفنوه وحنطوه وحفروا له ولحدوه وصلوا عليه ثم أدخلوه قبره فوضعوه في قبره ثم حثوا عليه ثم قالوا: يا بني آدم هذه سنتكم" إسناد صحيح إليه.
وقال ابن حجر في الإصابة ص 432 ج1 قال الحارث بن أبي(23/291)
أسامة في مسنده حدثنا عبد الرحيم بن واقد حدثني محمد بن بهران حدثنا أباه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الخضر في البحر واليسع في البر يجتمعان كل ليلة عند الردم الذي بناه ذو القرنين بين الناس وبين يأجوج ومأجوج ويحجان ويعتمران كل عام ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى قابل» ) .
قال ابن حجر: عبد الرحيم وأبان متروكان.
وقال ابن حجر في الإصابة ص 432 ج1 وقال عبد الله بن المغيرة عن ثور عن خالد بن معدان عن كعب قال الخضر على منبر من نور بين البحر الأعلى والبحر الأسفل وقد أمرت دواب البحر أن تسمع له وتطيع وتعرض عليه الأرواح غدوة وعشية ذكره العقيلي وقال: عبد الله بن المغيرة يحدث بما لا أصل له. وقال ابن يونس: إنه منكر الحديث.
وقال ابن حجر في الإصابة: وقال النووي في تهذيبه قال الأكثرون من العلماء هو حي (يعني الخضر) موجود بين أظهرنا وذلك متفق عليه من الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجوابه ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر. وقال أبو عمرو بن الصلاح في فتاويه هو حي عند جماهير العلماء والصالحين والعامة منهم. قال وإنما شذ بإنكاره بعض المحدثين.
وقال ابن حجر في الإصابة ص 433 ج1 معقبا على كلام النووي وابن الصلاح: قال رحمه الله:
(اعتنى بعض المتأخرين بجمع الحكايات المأثورة عن الصالحين وغيرهم ممن بعد الثلاثمائة والعشرين مع ما في أسانيدها بعضها ممن(23/292)
يضعف لكثرة أغلاطه واتهامه بالكذب كأبي عبد الرحمن السلمي وأبي الحسن بن جهضم) .
وقد أورد ابن كثير في البداية والنهاية أحاديث وروايات عن الصالحين وغيرهم تدل على حياة الخضر إلى آخر الزمان وقد عقب عليها وبين عيبها وعللها وعدم صحتها ومنها ما يلي:
جاء في البداية والنهاية ص 331 ج 1 قال ابن كثير وقد روى ابن عساكر عن أبي داود الأعمى نفيع وهو كذاب وضاع عن أنس بن مالك: أن الخضر جاء ليلة فسمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو ويقول: " اللهم أعني على من ينجيني مما خوفتني وارزقني شوق الصالحين إلى ما شوقتهم إليه فبعث إليه أنس بن مالك فسلم عليه فرد عليه السلام وقال له: إن الله فضلك على الأنبياء كما فضل شهر رمضان على سائر الشهور وفضل أمتك على الأمم كما فضل يوم الجمعة على غيره " الحديث.
قال ابن كثير: وهو مكذوب لا يصح سندا ولا متنا. كيف لا يتمثل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجيء بنفسه مسلما ومتعلما. وهم يذكرون في حكاياتهم وما يسندونه عن بعض مشايخهم أن الخضر يأتي ويسلم عليهم ويعرف أسماءهم ومنازلهم ومحالهم وهو مع هذا لا يعرف موسى بن عمران كليم الله الذي اصطفاه الله في ذلك الزمان على من سواه حتى يتعرف إليه بأن موسى بني إسرائيل.
وقال ابن كثير: وقد قال الحافظ أبو الحسين بن المنادي بعد إيراده حديث أنس هذا وأهل الحديث متفقون على أنه حديث منكر الإسناد سقيم المتن يتبين فيه أثر الصنعة.(23/293)
(2) حديث التعزية:
جاء في البداية والنهاية ص 331 ج 1 قال ابن كثير: فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البيهقي قائلا أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو بكر بن بالويه حدثنا محمد بن بشر بن مطر حدثنا كامل بن طلحة حدثنا عباد بن عبد الصمد عن أنس بن مالك قال.
«لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدق به أصحابه فبكوا حوله واجتمعوا فدخل رجل أشهب اللحية جسيم صبيح فتخطى رقابهم فبكى ثم التفت إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن في الله عزاء من كل مصيبة وعوضا من كل فائت وخلفا من كل هالك فإلى الله أنيبوا وإليه فارغبوا ونظر إليكم في البلاء فانظروا فإن المصاب من لم يجبر وانصرف. فقال بعضهم لبعض تعرفون الرجل؟ فقال أبو بكر وعلي: نعم، هو أخو رسول الله صلى الله عليه وسلم الخضر عليه السلام» .
قال ابن كثير معقبا: وقد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا عن كامل بن طلحة وفي متنه مخالفة لسياق البيهقي ثم قال البيهقي: عباد بن عبد الصمد ضعيف وهذا منكر، قال ابن كثير: قلت: عباد بن عبد الصمد هذا ابن معمر البصري روى عن أنس نسخه، قال ابن حيان والعقيلي: أكثرها موضوع، وقال البخاري: منكر الحديث.
(ب) وقال ابن كثير في البداية والنهاية ص 332 ج 1 وقال الشافعي في مسنده أخبرنا القاسم بن عبد الله وهو العمري.
شيخ الشافعي - بسنده إلى علي بن الحسين قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية سمعوا قائلا يقول: إن في الله عزاء عن كل مصيبة وخلفا من كل هالك ودركا من كل فائت فبالله فثقوا وإليه فارجعوا فإن المصاب من حرم الثواب. قال ابن الحسين أتدرون من هذا؟ هذا الخضر.(23/294)
قال ابن كثير: شيخ الشافعي القاسم العمري متروك. قال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين: " يكذب" زاد أحمد " ويضع الحديث".(23/295)
(3) اجتماع الخضر وإلياس في موسم الحج:
قال ابن كثير في البداية والنهاية ص 333 ج 1 وقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر أنبأني أبو القاسم ابن الحصين إلى أن قال حدثنا الحسن بن زريق عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس مرفوعا قال: «يلتقي الخضر وإلياس كل عام في الموسم فيحلق كل منهما رأس صاحبه ويتفرقان عن هذه الكلمات: بسم الله ما شاء الله لا يسوق الخير إلا الله، ما شاء الله لا يصرف الشر إلا الله، ما شاء الله ما كان من نعمة فمن الله، ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله، وقال ابن عباس من قالهن حين يصبح وحين يمسي ثلاث مرات آمنه الله من الغرق والحرق والسرق، قال وأحسبه قال: ومن الشيطان والسلطان والحية والعقرب» .
قال ابن كثير معقبا على هذا الحديث: قال الدارقطني في الأفراد هذا حديث غريب من حديث ابن جريج لم يحدث به غير هذا الشيخ عنه يعني الحسن بن زريق هذا. وقال الحافظ أبو جعفر العقيلي مجهول وحديثه غير محفوظ وقال أبو الحسن بن المنادي هو حديث واه بالحسن بن زريق.(23/295)
(4) اجتماع الخضر وجبريل في عرفات:
وقال ابن كثير وقد روى ابن عساكر من طريق علي بن الحسن الجهضمي وهو كذاب عن ضمرة بن حبيب المقدسي بسنده إلى أن قال: يجتمع كل يوم عرفة بعرفات جبريل وميكائيل وإسرافيل والخضر وذكر حديثا طويلا موضوعا تركنا إيراده قصدا ولله الحمد.(23/295)
تعقيب ابن كثير:
وقد عقب ابن كثير على الأحاديث الواردة في حياة الخضر في البداية والنهاية ص 334 ج 1 قال رحمه الله: وقد تصدى الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله في كتابه " عجالة المنتظر في شرح حالة الخضر " للأحاديث الواردة في ذلك من المرفوعات فبين أنها موضوعات ومن الآثار عن الصحابة والتابعين فمن بعدهم فبين ضعف أسانيدها ببيان أحوالها وجهالة رجالها وقد أجاد فيذلك وأحسن الانتقاد.(23/296)
موت الخضر والأدلة على ذلك:
قال ابن كثير في البداية والنهاية ص 334 ج 1 وأما الذين ذهبوا إلى أنه قد مات ومنهم البخاري وإبراهيم الحربي وأبو الحسين بن المنادي والشيخ أبو الفرج بن الجوزي وقد انتصر لذلك وألف كتابا سماه (عجالة المنتظر في شرح حالة الخضر) فيحتج لهم بأشياء كثيرة منها: -
قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} (1) فالخضر إن كان بشرا فقد دخل في هذا العموم لا محالة ولا يجوز تخصيصه منه إلا بدليل صحيح انتهى. والأصل عدمه ولم يذكر ما فيه دليل على التخصيص عن معصوم يجب قوله.
وقال ابن كثير: إن الله تعالى قال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (2)
قال ابن عباس ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 34
(2) سورة آل عمران الآية 81(23/296)
وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به وينصرنه ذكره البخاري عنه.
قال ابن كثير: فالخضر إن كان نبيا أو وليا فقد دخل في هذا الميثاق فلو كان حيا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان أشرف أحواله أن يكون بين يديه يؤمن بما أنزل الله عليه وينصره لئلا يصل أحد من الأعداء إليه. لأنه إن كان وليا فالصدق أفضل منه وإن كان نبيا فموسى أفضل منه، وقد روى الإمام أحمد في مسنده بسنده عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني (1) » .
وهذا الذي يقطع به ويعلم من الدين علم الضرورة، وقد دلت عليه هذه الآية الكريمة أن الأنبياء كلهم لو فرض أنهم أحياء مكلفون في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكانوا كلهم أتباعا له وتحت أوامره وفي عموم شرعه. . وأسهب ابن كثير في ذلك. . .
وقال ابن كثير: والمعلوم أن الخضر لم ينقل بسند صحيح ولا حسن تسكن النفس إليه أنه اجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم واحد ولم يشهد معه قتالا في مشهد من المشاهد وهذا يوم بدر يقول الصادق المصدوق فيما دعا ربه عز وجل واستنصره واستفتحه على من كفر به " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض" وتلك العصابة كان تحتها سادة المسلمين يومئذ وسادة الملائكة حتى جبريل عليه السلام كما قال حسان بن ثابت في قصيدة له في بيت يقال إنه أفخر بيت قالته العرب:
وثبير بدر إذ يرد وجوههم ... جبريل تحت لوائنا ومحمد
قال ابن كثير: " فلو كان الخضر حيا لكان وقوفه تحت هذه الراية أشرف مقاماته وأعظم غزواته".
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/387) ، سنن الدارمي المقدمة (435) .(23/297)
سؤال وجواب:
قال ابن كثير في البداية والنهاية ص 335 ج 1 فإن قيل فهل يقال إن الخضر كان حاضرا في هذه المواطن كلها ولكن لم يكن أحد يراه؟؟
فالجواب: أن الأصل عدم هذا الاحتمال البعيد الذي يلزم منه تخصيص العمومات بمجرد التوهمات ثم قال ابن كثير: ما الحاصل له على هذا الاختفاء وظهوره أعظم لأجره وأعلى في مرتبته وأظهر لمعجزته. ثم لو كان باقيا بعده لكان تبليغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحاديث النبوية والآيات القرآنية وإنكاره لما وقع من الأحاديث المكذوبة والروايات المقلوبة والآراء البدعية والأهواء العصبية وقتاله مع المسلمين في غزواتهم وشهودة جمعهم وجماعاتهم ونفعه إياهم ودفع الضرر عنهم ممن سواهم وتسديده العلماء والحكام وتقريره الأدلة والأحكام أفضل ما يقال عنه من كنونه في الأمصار. وجوبه الفيافي والأقطار. واجتماعه بعباد لا يعرف أحوال كثير منهم وجعله لهم كالنقيب المترجم عنهم. وهذا الذي ذكرناه لا يتوقف أحد فيه بعد التفهيم والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. أهـ.(23/298)
الأدلة على موت الخضر:
قال ابن كثير في البداية والنهاية ص 336 ج 1 ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين وغيرهما.
عن عبد الله بن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ليلة العشاء ثم قال: أرأيتم ليلتكم هذه فإنه إلى مائة سنة لا يبقى ممن هو على وجه الأرض اليوم أحد (1) » . وفي رواية عين تطرف قال ابن عمر: فوهل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه وإنما أراد انخرام قرنه ".
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بقليل
__________
(1) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (564) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2537) ، سنن الترمذي الفتن (2251) ، سنن أبو داود الملاحم (4348) ، مسند أحمد بن حنبل (2/88) .(23/298)
أو بشهر «ما من نفس منفوسة أو ما منكم من نفس اليوم منفوسة يأتي عليها مائة سنة وهي يومئذ (1) » رواه أحمد.
(3) وعن جابر بن عبد الله قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بشهر يسألونني عن الساعة وإنما علمها عند الله أقسم بالله ما على الأرض نفس منفوسه اليوم يأتي عليها مائة سنة (2) » . رواه أحمد. وهكذا رواه مسلم من طريق أبي نضرة وأبي الزبير كل منهما عن جابر.
قال ابن كثير: قال ابن الجوزي فهذه الأحاديث الصحاح تقطع دابر دعوى حياة الخضر. قال فالخضر إن لم يكن قد أدرك زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو المظنون الذي يترقى في القوة إلى القطع فلا إشكال، وإن كان قد أدرك زمانه فهذا الحديث يقتضي أنه لم يعش بعد مائة سنة فيكون الآن مفقودا لا موجودا لأنه داخل في هذا العموم والأصل عدم المخصص له حتى يثبت بدليل صحيح يجب قبوله والله أعلم.
__________
(1) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2538) ، مسند أحمد بن حنبل (3/314) .
(2) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2538) ، سنن الترمذي كتاب الفتن (2250) .(23/299)
حكايات في رؤية الخضر والرد عليها:
جاء في البداية والنهاية ص 333 ج 1 قال ابن كثير: وروى ابن عساكر أن الوليد بن عبد الملك بن مروان يأتي جامع دمشق أحب أن يتعبد ليلة في المسجد فأمر القومة أن يخلوه له ففعلوا فلما كان من الليل جاء من باب الساعات فدخل الجامع فإذا رجل قائم يصلي فيما بينه وبين باب الخضراء فقال للقومة: ألم آمركم أن تخلوه؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين هذا الخضر يجيئ كل ليلة يصلي هاهنا.
وقال ابن كثير: وقال ابن عساكر أيضا بسنده أن رباح بن عبيدة قال: رأيت رجلا يماشي عمر بن عبد العزيز معتمدا على يديه فقلت في نفسي إن هذا الرجل حافي قال فلما انصرف من الصلاة قلت من الرجل الذي كان معتمدا على يدك آنفا قال: وهل رأيته يا رباح، قلت: نعم، قال:(23/299)
ما أحسبك إلا رجلا صالحا ذاك أخي الخضر بشرني أني سألي وأعدل أي سيلي الخلافة ويحكم بالعدل بين الرعية.
وعقب على ذلك ابن كثير في البداية والنهاية ص 334 ج1 بعد أن ساق مثل هذه الخرافات قال رحمه الله: وهذه الروايات والحكايات هي عمدة من ذهب إلى حياة الخضر إلى اليوم وكل من الأحاديث المرفوعة ضعيفة جدا لا يقوم بمثلها حجة في الدين والحكايات لا يخلو أكثرها من ضعف في الإسناد.(23/300)
وظيفة الخضر:
تروي الحكايات العجيبة وتزعم الروايات الغريبة بأن الخضر كان وزيرا لذي القرنين وأنه وقف معه على جبل في الهند فاطلع على رسالة آدم عليه السلام الموجهة إلى ذريته يأمرهم فيها بتقوى الله عز وجل ويحذرهم من الشيطان الذي أخرجه من الجنة.
فقد جاء في الإصابة في تمييز الصحابة ص 432 ج1 قال ابن حجر العسقلاني: ويروى عن سليمان الأشج صاحب كعب الأحبار عن كعب الأحبار أن الخضر كان وزير ذي القرنين وأنه وقف معه على جبل في الهند فرأى ورقة فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم من آدم أبي البشر إلى ذريته أوصيكم بتقوى الله وأحذركم كيد عدوي وعدوكم إبليس فإنه أنزلني هنا. قال فنزل ذو القرنين فمسح جلوس آدم فكان مائة وثلاثين ميلا ".
والتعليق عليها يكفي أنها من الإسرائيليات فهي عن كعب الأحبار.
(2) والرواية الثانية تفيد وتصرح بأن الخضر موكل بالبحار كما أن إلياس موكل بالفيافي والقفار كما جاء في الإصابة ص 432 ج 1 قال ابن حجر:(23/300)
" ويروى عن الحسن البصري قال: وكل إلياس بالفيافي ووكل الخضر بالبحور وقد أعطيا الخلد إلى الصيحة الأولى وهما يجتمعان في موسم كل عام ".
ولا شك أن هذا القول أشبه بكلام الصوفية القائلين بأن هناك أربعة أقطاب متدركون ويتصرفون بالكون ومنهم قطب الغوث التي تحيا به العباد والبلاد إلى غير ذلك من الخرافات التي ترفضها العقول السليمة.
فإن الجاهلية قبل الإسلام كانت تترفع عن مثل هذا الاعتقاد فكانوا يقرون بتوحيد الربوبية بأن الله هو الخالق الرزاق مدبر الأمر ومسير الكون والمهيمن على كل شيء. والمؤمن بالله واليوم الآخر يكفر بهذه الأساطير والخرافات التي جرت الأمة إلى الشرك والوقوع في المتاهات. فالمتصرف بالكون هو فاطر السماوات والأرض رب الكون وخالقه الكبير المتعال. وخلق الله ملائكته الأطهار للقيام بالأعمال والمهام بإذنه تعالى وهيأهم لما خلقوا له.
قال تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} (1) {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} (2) {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} (3) {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا} (4) {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} (5) النازعات (1-5) .
وأرجح الأقوال لتفسير هذه الآيات الكريمات أن هذه الأعمال من مهام الملائكة الأطهار كما ذكره الشوكاني في تفسيره فتح القدير ص 377 ج 5.
وهنا يرد علينا سؤال: كيف أعطي إلياس والخضر الخلد في الدنيا وقد نفى القرآن الكريم ذلك بالنسبة للبشر؟؟
قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (6) الأنبياء 34.
__________
(1) سورة النازعات الآية 1
(2) سورة النازعات الآية 2
(3) سورة النازعات الآية 3
(4) سورة النازعات الآية 4
(5) سورة النازعات الآية 5
(6) سورة الأنبياء الآية 34(23/301)
بطلان دعوى حياة الخضر:
وأما الحكايات والروايات والأحاديث التي تفيد وتصرح بحياة الخضر ووجوده ورؤيته أحيانا وظهوره على بعض الخواص ممن يدعي الكرامة والولاية فهي كلها باطلة غير صحيحة وقد ردها أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي في كتابه " الموضوعات ص 193-199 ج 1" وقدح برواتها غيره من أئمة الجرح والتعديل كالحافظ أبي الحسين بن المنادي وأحمد بن حنبل وابن معين وغيرهم من المختصين وذلك ببطلان متونها وجهالة بعض أسانيدها وتجريح رواتها؛ كالرملي والسري بن يحيى والقاسم العمري وعبد الله بن المحرز والحسن بن زريق وأبي داود الأعمى وأبو جعفر العقيلي وأبي عبد الرحمن السلمي وغيرهم ممن لا تقوم بروايته حجة في الدين. وهؤلاء منهم الكذاب أو متهم بالكذب أو مجهول الحال أو به علة قادحة ترد بها روايته كما أشار إلى ذلك ابن كثير في البداية والنهاية بعد أن ساق الروايات التي تدل على وجود الخضر وحياته " من ص 331-334 ج 1" فبين رحمه الله عللها وأثبت بطلانها وعدم صحتها.
وقد ألف في وفاة الخضر الحافظ أبو الحسين بن المنادي المتوفى سنة 336 هـ. وبالمقابل فقد ألف في حياة الخضر " عبد المغيث بن زهير الحربي الحنبلي " المعاصر لابن الجوزي والمتوفى قبله سنة 583 هـ. وألف ابن الجوزي كتابه (عجالة المنتظر في شرح حال الخضر) في نقض كتاب عبد المغيث بن زهير. وكانت وفاة ابن الجوزي سنة 596 هـ.
وكذلك ألف شيخ الإسلام ابن تيمية جزءا في وفاة الخضر كما ذكر ذلك تلميذه ابن القيم في رسالته " أسماء مؤلفات ابن تيمية " ص 22. وكذلك ألف الشيخ علي القاري جزءا في المسألة سماه كشف الخدر عن أمر الخضر وهو مطبوع في روسيا في قازان قديما (1) .
__________
(1) هامش المنار المنيف بتحقيق الأستاذ عبد الفتاح أبو غده.(23/302)
كلام ابن القيم الجوزية في أمر الخضر:
قال ابن القيم في كتابه المنار المنيف ص 67 الأحاديث التي يذكر فيها الخضر وحياته كلها كذب ولا يصح في حياته حديث واحد.
كحديث: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في المسجد فسمع كلاما من ورائه فذهبوا ينظرون فإذا هو الخضر» .
وحديث: «يلتقي الخضر وإلياس كل عام» .
وحديث: «يجتمع بعرفة جبريل وميكائيل والخضر» . الحديث المفترى الطويل ".
قال ابن القيم: سئل إبراهيم الحربي عن تعمير الخضر وأنه باق؟ فقال: من أحال على غائب لم ينتصف منه. وما ألقى هذا بين الناس إلا شيطان.(23/303)
كلام البخاري في الخضر:
قال ابن القيم في المنار المنيف: وسئل البخاري عن الخضر وإلياس هل هما أحياء؟ فقال كيف يكون هذا؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد (1) » (رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما) .
__________
(1) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (601) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2537) ، سنن الترمذي الفتن (2251) ، سنن أبو داود الملاحم (4348) ، مسند أحمد بن حنبل (2/88) .(23/303)
كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في أمر الخضر.
قال ابن القيم في المنار المنيف ص 68 وسئل عنه يعني الخضر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: لو كان الخضر حيا لوجب عليه أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، ويجاهد بين يديه ويتعلم منه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض (1) » . وكانوا ثلاثمائة وثلاثة
__________
(1) صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير (1763) ، سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3081) ، سنن أبو داود الجهاد (2690) .(23/303)
عشر رجلا معروفين بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم، فأين كان الخضر حينئذ؟؟(23/304)
كلام ابن الجوزي في موضوع الخضر:
فقد جاء في المنار المنيف ص 69 قال ابن القيم الجوزية قال أبو الفرج ابن الجوزي: والدليل على أن الخضر ليس بباق في الدنيا أربعة أشياء: القرآن والسنة وإجماع المحققين من العلماء والمعقول. وأخذ رحمه الله يبين ذلك:
أما القرآن: فقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} (1) الصافات فلو دام الخضر كان خالدا. وقد تقدم كلام ابن الجوزي في البداية والنهاية ص 334 ج 1 قال ابن كثير: قال ابن الجوزي " فالخضر إن كان بشرا فقد دخل في هذا العموم لا محالة ولا يجوز تخصيصه منه إلا بدليل صحيح انتهى" ثم قال ابن كثير: والأصل عدمه حتى يثبت ولم يذكر ما فيه دليل على التخصيص عن معصوم يجب قبوله.
(2) وأما السنة: فذكر الحديث: «أريتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى على ظهر الأرض ممن هو اليوم عليها أحد (2) » متفق عليه.
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بقليل: «ما من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة وهي يومئذ حية (3) » .
(3) وأما إجماع المحققين من العلماء: فقد ذكر عن البخاري وعلي بن موسى الرضا: أن الخضر مات؛ وأن البخاري سئل عن حياته فقال: وكيف يكون ذلك؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أرأيتكم ليلتكم فإن على
__________
(1) سورة الصافات الآية 77
(2) صحيح البخاري العلم (116) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2537) ، سنن الترمذي الفتن (2251) ، سنن أبو داود الملاحم (4348) ، مسند أحمد بن حنبل (2/88) .
(3) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2538) ، مسند أحمد بن حنبل (3/385) .(23/304)
رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن على ظهر الأرض أحد (1) » قال: وممن قال إن الخضر مات إبراهيم بن إسحاق الحربي، وأبو الحسين المنادي وهما إمامان وكان ابن المنادي يقبح من يقول إنه حي.
وحكى القاضي أبو يعلى موته عن بعض أصحاب أحمد وذكر عن بعض أهل العلم: أنه احتج بأنه لو كان حيا لوجب عليه أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال: حدثنا أحمد حدثنا شريح بن النعمان حدثنا هشيم أخبرنا مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني (2) » رواه الإمام أحمد في المسند.
فكيف يكون حيا ولا يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة والجماعة ويجاهد معه؟ ألا ترى أن عيسى عليه السلام إذا نزل إلى الأرض يصلي خلف إمام هذه الأمة ولا يتقدم، لئلا يكون ذلك خدشا في نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القيم في المنار المنيف ص 73 قال أبو الفرج: وما أبعد فهم من يثبت وجود الخضر وينسى ما في طي إثباته من الإعراض عن هذه الشريعة.
__________
(1) صحيح البخاري العلم (116) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2537) ، سنن الترمذي الفتن (2251) ، سنن أبو داود الملاحم (4348) ، مسند أحمد بن حنبل (2/88) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/387) ، سنن الدارمي المقدمة (435) .(23/305)
(4) أما الدليل من المعقول فمن عشرة أوجه:
أحدها: أن الذي أثبت حياته يقول إنه ولد آدم لصلبه وهذا فاسد لوجهين: أحدهما: أن يكون عمره الآن ستة آلاف سنة فيما ذكر في كتاب يوحنا المؤرخ. ومثل هذا بعيد في العادات أن يقع في حق البشر.
الثاني: أنه لو كان ولده لصلبه أو الرابع من ولد ولده كما زعموا وأنه(23/305)
كان وزير ذي القرنين فإن تلك الخلقة ليست على خلقتنا بل مفرط في الطول والعرض.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خلق الله آدم طوله ستون ذراعا فلم يزل الخلق ينقص بعد (1) » ، وما ذكر أحد ممن رأى الخضر أنه رآه على خلقة عظيمة وهو من أقدم الناس.
الوجه الثالث (2) : أنه لو كان الخضر قبل نوح لركب معه في السفينة ولم ينقل هذا أحد.
الوجه الرابع: أنه قد اتفق العلماء أن نوحا لما نزل من السفينة مات من كان معه ثم مات نسلهم ولم يبق غير نسل نوح. والدليل على هذا قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} (3) وهذا يبطل قول من قال: إنه كان قبل نوح.
الوجه الخامس: أن هذا لو كان صحيحا أن بشرا من بني آدم يعيش من حين يولد إلى آخر الدهر ومولده قبل نوح: لكان هذا من أعظم الآيات والعجائب، وكان خبره في القرآن مذكورا في غير موضع لأنه من أعظم آيات الربوبية. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى من أحياه ألف سنه إلا خمسين عاما، وجعله آية فكيف بمن أحياه إلى آخر الدهر؟ ولهذا قال بعض أهل العلم ما ألقى هذا بين الناس إلا شيطان.
(وقد تقدم من قول الإمام إبراهيم الحربي) .
الوجه السادس: أن القول بحياة الخضر قول على الله بلا علم وذلك حرام بنص القرآن أما المقدمة الثانية: فظاهرة. وأما الأولى: فإن حياته لو كانت ثابتة لدل عليها القرآن
__________
(1) صحيح البخاري الاستئذان (6227) ، صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) ، مسند أحمد بن حنبل (2/315) .
(2) جاء في هامش المنار المنيف ص74 سقط من الأصل الوجه الثاني.
(3) سورة الصافات الآية 77(23/306)
أو السنة أو إجماع الأمة فهذا كتاب الله تعالى فأين حياة الخضر فيه؟ وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين فيها ما يدل على ذلك بوجه؟ وهؤلاء علماء الأمة هل أجمعوا على حياته؟ .
الوجه السابع: أن غاية ما يتمسك به من ذهب إلى حياته حكايات منقولة يخبر الرجل بها أنه رأى الخضر، فيالله العجب. هل للخضر علامة يعرفها بها من رآه؟ وكثير من هؤلاء يغتر بقوله: أنا الخضر. ومعلوم أنه لا يجوز تصديق قائل ذلك بلا برهان من الله. فأين للرائي أن المخبر له صادق لا يكذب؟ .
الوجه الثامن: أن الخضر فارق موسى بن عمران كليم الرحمن ولم يصاحبه وقال له: " {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} (1) فكيف يرضى لنفسه بمفارقته لمثل موسى ثم يجتمع بجهلة العباد الخارجين عن الشريعة الذين لا يحضرون جمعة ولا جماعة ولا مجلس علم ولا يعرفون من الشريعة شيئا؟ وكل منهم يقول: قال الخضر وجاءني الخضر وأوصاني الخضر.
فيا عجبا له: يفارق كليم الله تعالى ويدور على صحبة الجهال ومن لا يعرف كيف يتوضأ ولا كيف يصلي؟ .
الوجه التاسع: أن الأمة مجمعة على أن الذي يقول: أنا الخضر لو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كذا وكذا لم يلتفت إلى قوله ولم يحتج به في الدين. إلا أن يقال: إنه لم يأت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بايعه، أو يقول هذا الجاهل: إنه لم يرسل إليه وفي هذا من الكفر ما فيه.
الوجه العاشر: أنه لو كان حيا لكان جهاده الكفار ورباطه في سبيل الله ومقامه في الصف ساعة، وحضوره الجمعة والجماعة وتعليمه العلم
__________
(1) سورة الكهف الآية 78(23/307)
أفضل له بكثير من سياحته بين الوحوش في القفار والفلوات وهل هذا إلا من أعظم الطعن عليه والعيب له؟ انتهى كلام ابن الجوزي في المنار المنيف.(23/308)
خلاصة القول:
والحق الذي لا ريب فيه ولا شك أن الأمور الغيبية لا تثبت بالمنامات ولا بالإرهاصات ولا بالمكاشفات، وإنما تثبت بدليل شرعي من كتاب الله سبحانه وتعالى أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم. ولا دليل على وجود الخضر وحياته إلى يوم القيامة كما تدعيه الصوفية وأثبتته بالحكايات الغريبة وبالمنامات والأوهام كل ذلك من نسيج الخيال لبس عليهم الشيطان فأوقعهم في شباكه وحباله. فالخضر عليه السلام مات كسائر الأنبياء والمرسلين فرحمه الله رحمة واسعة وذلك للأدلة التي أوردها علماء الإسلام. وفي ما كتبه هؤلاء الفحول من أئمة المسلمين ما يكفي ويشفي لمن أراد الحق. قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (1) وأسأل الله تعالى أن يهدينا سواء السبيل إنه على كل شيء قدير وصلى الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
يوسف عبد الرحمن البرقاوي
محتويات البحث
من هو الخضر صاحب موسى عليه السلام.
مقتطفات من أقوال العلماء.
نسب الخضر.
سبب تسميته الخضر.
نبوة الخضر والأدلة على ذلك.
قول ابن حجر العسقلاني في نبوة الخضر.
__________
(1) سورة ق الآية 37(23/308)
أقوال العلماء في رسالة الخضر.
أقوال المتصوفة في الخضر.
تعقيب ابن كثير على من قال بأنه ملك أو ولي.
حياة الخضر والأدلة على ذلك.
حديث التعزيه (تعزية الخضر بوفاة النبي حين موته) .
اجتماع الخضر وإلياس في موسم الحج.
اجتماع الخضر وجبريل في عرفات.
تعقيب ابن كثير على ذلك.
موت الخضر.
سؤال وجواب طرحه ابن كثير.
الأدلة على موت الخضر.
حكايات في رؤية الخضر والرد عليها.
وظيفة الخضر ورسالة آدم لذريته.
بطلان دعوى حياة الخضر.
كلام ابن القيم الجوزيه في الخضر (في كتابه المنار المنيف) .
كلام البخاري في الخضر.
كلام ابن الجوزي في أمر الخضر.
إثبات موت الخضر من عشرة أوجه.
خلاصة القول في موضوع الخضر.(23/309)
صفحة فارغة(23/310)
عمر بن عبد العزيز
خامس الخلفاء الراشدين
للأستاذ \ أحمد فهيم مطر.
مقدمة: -
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه وبعد: -
عمر بن عبد العزيز شخصية إسلامية تاريخية نالت حظها من حب الله وحب الناس جميعا وما ذلك إلا لما تميزت به هذه الشخصية من صفات نادرة صارت مضرب المثل، ومن أهم هذه الصفات هو العدل الذي ملأ به الأرض، ورد المظالم إلى أهلها حتى أنهم ليقولون: إن الشياه والذئاب والوحوش كانت ترعى في مكان واحد فلا تعتدي الوحوش على الشياه ولا تقربها.
قال حسن القصاب: رأيت الذئاب ترعى مع الغنم بالبادية في خلافة عمر بن عبد العزيز. فقلت سبحان الله ذئب في غنم لا يضرها؟ فقال الراعي: إذا صلح الرأس فليس على الجسد بأس، وقال مالك بن دينار: لما ولي عمر بن عبد العزيز قالت رعاء الشتاء. من هذا الصالح الذي قام على الناس خليفة عدله كف الذئاب عن شائنا، وقال موسى بن أعين: كنا نرعى الشاء بكرمان في خلافة عمر بن عبد العزيز فكانت الشاة والذئب ترعى في مكان واحد فبينا نحن ذات ليلة إذ عرض الذئب للشاة.(23/311)
فقلت: ما نرى الرجل الصالح إلا قد هلك. فحسبوه فوجدوه مات تلك الليلة (1) .
ومن أهم تلك الصفات التي تميزت بها تلك الشخصية أيضا: هي الزهد والخشية من الله، وتقواه وترك الدنيا بزخارفها وزينتها.
قال مالك بن دينار: الناس يقولون: مالك زاهد، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها (2) .
وقد استحق أن يطلق عليه لقب: خامس الخلفاء الراشدين. فقد روى أبو عبيدة السري بن يحيى بن أخي هناد بن السري قال: سمعت قبيصة بن عقبة يقول: سفيان الثوري يقول: الخلفاء خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم (3) .
وقال حرملة: سمعت الشافعي يقول: الخلفاء خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز (4) .
ولقد استقام الناس في عهده ولزموا جادة الطريق، والناس على دين ملوكهم، فقد كان العامة في زمن الوليد وسليمان يسأل بعضهم بعضا عن المغنيات والقيان والتشييد والبنيان، أما في زمن عمر بن عبد العزيز فقد كان يسأل بعضهم بعضا عن القرآن وحفظه وتلاوته وورده.
رحم الله عمر على ما قدم للإسلام والمسلمين من خير في زمن امتلأ بالمفاسد والشرور ولا عجب في ذلك ولا غرابة فهو من ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه. وإن لذلك قصة:
__________
(1) تاريخ الخلفاء ص 217، 216.
(2) تاريخ الخلفاء ص 217.
(3) ابن الجوزي ص 48.
(4) سير أعلام النبلاء ج 5 ص 131، 130.(23/312)
مولده ونسبه:
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعس ليلا في المدينة يتحسس أحوال الرعية، فتلك هي مسئولية الحاكم المؤمن الذي يخاف عقاب الله ويرجو ثوابه وكثيرا ما رأى في ظلمات الليل من باك مسح له دمعته، ومن حزين خفف عنه حزنه وألمه، ومن مكروب فرج عنه كربته، وفي إحدى الليالي كان يسير ومعه مولاه أسلم، فاستراح إلى ظل حائط، فسمع امرأة تقول لفتاة لها، وقد ظنت ألا يسمعها أحد:
قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء.
فقالت الفتاة:
أو ما علمت أن أمير المؤمنين عمر نهى عن مذق اللبن بالماء.
قالت المرأة:
- قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء فإنك بموضع لا يراك عمر.
قالت الفتاة:
- إن كان عمر لا يراني فإن رب عمر يراني.
وهنا عجب عمر من قولها وقوة إيمانها ومخالفتها أمها التي أرادتها على المعصية مع فقرها وحاجتها إلى المال.
فقال عمر لمولاه أسلم بصوت ضعيف حتى لا يسمعه أحد.
علم الباب يا أسلم واعرف المكان.
وفي الصباح أرسل أسلم ليعرف له القائلة والمقول لها، فأخبره بأنها فتاة من بني هلال تعيش هي وأمها في ذلك البيت وليس لهما من عائل.
فجمع عمر أولاده على الفور وقال لهم:
هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أزوجه؟ ولو كان بأبيكم معل ما سبقه أحد منكم إلى هذه الجارية:(23/313)
فقال له عاصم:
- يا أبت، إنه لا زوجة لي فزوجني.
فقال له عمر:
اذهب يا بني فتزو جها فما أحراها أن تأتي بفارس يسود العرب (1) فتزوجها عاصم فولدت له أنثى أم عاصم، فتربت في بيت الزهد والتقشف فنشأت كما نشأوا وتعلمت رواية الحديث من أبيها وجدها حتى ساقت المقادير عبد العزيز بن مروان للزواج منها، وكان واليا على مصر من قبل أخيه عبد الملك بن مروان فولدت له أربعة أبناء منهم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
إذن فقد ولد عمر بمصر بحلوان قرية بمصر وأبوه أمير عليها سنة إحدى وقيل ثلاث وستين وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (2) .
ونشأ في نعمة أبيه وفي ترفه فقد كان أبوه أخا للخليفة عبد الملك وله ولاية العهد من بعده، وقد اختار لنفسه مدينة هواؤها عليل ونسيمها بليل بعيدة عن العمران تمتاز بالصفاء والهدوء وبعيون مائها المعدنية التي يستشفى بها من كثير من الأمراض وسكن فيها هو وأهله تسمى مدينة حلوان.
تربى عمر بن عبد العزيز في عز من الملك وبحبوحة من العيش وظل من النعيم، ثم ذهب عمر إلى المدينة المنورة مع أمه لزيارة أخواله ومكث ما شاء الله أن يمكث بها، فأرسل عبد العزيز بن مروان إلى زوجته بالقدوم عليه ومعها ابنها إلا أنها استشارت عمها عبد الله بن عمر في ذلك فأشار عليها بالذهاب وحدها وترك عمر في المدينة ليتعلم العلم ويتأدب بأدبها.
__________
(1) شذرات الذهب ص 1 ص 119.
(2) تاريخ الخلفاء ص 212.(23/314)
الرؤيا الصادقة:
كان ابن الخطاب قد رأى رؤيا فقام منها يمسح النوم عن وجهه ويعرك عينيه ويقول: من هذا الذي يكون أشج من ولدي ويسير بسيرتي (1) ويقول: من ولدي رجل بوجهه شجة يملأ الأرض عدلا (2) وكان عجب عمر كبيرا لهذه الرؤيا. فكيف تتحقق وقد حرم أولاده جميعا من الخلافة؟ ومع ذلك فقد قصها على أهله فصدقوها وعلقت بأذهانهم جميعا وانتظروا تأويلها. وكثيرا ما كان عبد الله بن عمر يردد ليت شعري، من هذا الذي من ولد عمر في وجهه علامة يملأ الأرض عدلا (3) ؟
وانتظر هذه الرؤيا كثير من الناس وقلقوا من أجلها. كيف لا وهي بمثابة هدم لهم وتقويض لبنائهم وضياع لمستقبلهم وكان الحجاج بن يوسف يفزع عند ذكر تلك الرؤيا ويخاف أن تتحقق في حياته.
__________
(1) ابن عبد الحكم ص 18.
(2) تاريخ الخلفاء ص 212.
(3) ابن الجوزي ص 7.(23/315)
بوادر الرؤيا:
في إحدى زيارات عمر لأبيه في مصر دخل بصحبة أخ له اصطبل الخيل ينتقل فيه من مكان إلى مكان بين الخيول الكثيرة ورفسته بغلة فشجت جبهته وسال الدم منها غزيرا. فلم يصح أخوه ولم يولول بل ظل يضحك ضحكا عاليا حتى اجتمع الناس حوله وعلموا بالأمر فأسرع أبوه وأمه وأخذا بيده وتعجبوا من ضحك أخيه فانتهره أبوه ولكنه صاح قائلا: الله أكبر هذا أشج بني مروان الذي يملك (1) فتنبه عبد العزيز بن مروان وقال لزوجته أم عاصم فرحا:
__________
(1) ثمار القلوب: ص 88.(23/315)
ويحك إنه أشج بني مروان وإنه لسعيد (1) .
ومنذ ذلك الحين أطلق على عمر أشج بني مروان أو بني أمية أو أشج قريش.
__________
(1) الأغاني ص 8 ص 148.(23/316)
رجوع عمر إلى المدينة: -
ذهب عمر إلى المدينة فقد كان لها محبا وبها كلفا وخالط العلماء وأخذ عنهم وأقبل على حفظ القرآن والحديث وروى عن كثير من الصحابة وأعلام التابعين وكان عالمه المفضل الذي أخذ عنه أكثر من غيره هو ابن عتبة فقد كان يؤثره على غيره ويختلف إلى مجلسه من وقت لآخر.(23/316)
علم عمر:
بعد أن غرف عمر من معين العلم وبلغ فيه مبلغا كبيرا وصل إلى مرتبة الاجتهاد، فأقبل عليه كثير من الفقهاء يأخذون عنه حتى بعض الذين أخذ منهم كانوا يأخذون عنه، وصار حجة في العلم يفتي العلماء والعامة على السواء.
وقد روى الثوري عن عمرو بن ميمون قال: كانت العلماء مع عمر بن عبد العزيز تلامذة (1) .
__________
(1) سير أعلام النبلاء ص 5 ص 120.(23/316)
زواج عمر:
بلغ عمر مبلغ الشباب ففكر في الزواج ولم يصل بعيدا فقد اهتدى إلى عمه عبد الملك بن مروان للزواج من ابنته فاطمة، وكان عبد الملك يفكر(23/316)
ففرح عمر فرحا شديدا وقال:
- وصلك الله يا أمير المؤمنين فقد أجزلت وكفيت.
فسر عبد الملك، وأعجب برده وجوابه وأبدى له استحسانه، وثار الحسد في بعض أولاده فقالوا له:
- هذا كلام تعلمه فأداه.
ولم ير عبد الملك بدا من أن ينتهز فرصة المفاجأة؛ ليظهر أولاده على ذكاء عمر ويخمد غضبهم عليه، وظل يترقب حتى دخل عليه عمر يوما وعنده أولاده فقال:
يا عمر، كم نفقتك؟
فقال عمر:
- الحسنة بين السيئتين يا أمير المؤمنين:
قال:
- وما هي؟
قال:
- {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (1) .
فقال عبد الملك لأولاده: -
- ومن علمه هذا (2) ؟
__________
(1) سورة الفرقان الآية 67
(2) ابن الجوزي ص 27.(23/317)
إمرة المدينة بعد خناصرة:
مات عبد العزيز بن مروان، وكانت له ولاية العهد بعد عبد الملك إلا أن عبد الملك جعل ولاية العهد لابنه الوليد ثم سليمان، فأراد أن يرضي عمر بن عبد العزيز فجعله أميرا على خناصرة سنة خمس وثمانين للهجرة، وهي بلدة(23/317)
من أعمال حلب قريبة من البادية، وظل على إمارتها حتى وفاة عبد الملك، وفي عهد الوليد ولاه المدينة بعد أن عزل عنها إسماعيل المخزومي، ولكن عمر اشترط على الوليد لقبوله الولاية ألا يأخذه بعمل أهل العدوان والظلم، فلم ير الوليد بدا من أن يقبل؛ لأنه كان في حاجة لرضا أهل المدينة.
وتولى عمر إمارة المدينة في شهر ربيع الأول من سنة سبع وثمانين للهجرة، فدخلها في موكب عظيم يتألف من ثلاثين بعيرا، وفرح أهلها بلقائه وحل في دار جده مروان، وسلم الناس عليه بالإمارة ورحبوا به ترحيبا كبيرا فقد عقدوا عليه الأمل في إزاحة الظلم عنهم، فقد كان ابن المدينة وما زال بها قريب العهد.(23/318)
مجلس الشورى:
لقد قرب عمر الفقهاء إليه وكون منهم مجلسا استشاريا يأخذ برأيهم ولا يقطع أمرا دونهم، ويراقبون المظالم ويكونون عونا للحق والعدل، ولم يكن ذلك منه إلا حبا في العدل بين الناس، وحبا لهؤلاء الفقهاء الذين كانوا أساتذة له، ولأنه كان يثق بعلمهم وتقواهم، وكان منهم الفقيه العالم سليمان بن يسار وابن عتبة العالم الناسك، وسالم العالم الزاهد الذي التقى مع هشام بن عبد الملك في الكعبة، وكان وليا للعهد فقال له هشام:
- سلني حاجة.
فقال له سالم:
- إني لأستحي من الله أن أسأل في بيت الله غيره.
فلما خرجا قال له هشام:
- الآن قد خرجت فسلني حاجتك.
فقال له سالم: -
- من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟(23/318)
فقال:
- بل من حوائج الدنيا.
فقال سالم:
- ما سألت من يملكها. فكيف أسأل من لا يملكها (1) ؟
__________
(1) صفة الصفوة ص 2 ص 51.(23/319)
المعدن الأصيل:
كان عمر في فتوته وشبابه ولم يكن بعد قد تزهد ونسك، وكان به ترف ونعيم إلا أنه كان يميل إلى الحق وإلى الخوف والخشية من الله، فإذا وعظه واعظ بكى واستغفر، ولكنه يرجع من جديد إلى ترفه ونعيمه، فقد كان يلبس من الثياب الناعم منها حتى إذا لبسها مرة تركها إلى غيرها، يقول السيوطي: -
كان قبل الخلافة على قدم الصلاح أيضا إلا أنه كان يبالغ في التنعم، فكان الذين يعيبونه من حساده لا يعيبونه إلا بالإفراط في التنعم والاختيال في المشية (1) .
وهذه المشية التي كان يمشيها اشتهر بها، فسميت المشية العمرية، وقلدتها فتيات المدينة إلا أنه أقلع عنها بعد الخلافة.
وكان يتطيب من أحسن الطيب حتى أن الناس كانوا يذهبون إلى المغسلة لغسل ثيابهم مكان ثيابه حتى ينالها من طيبه وعطره، وتلك كانت هي القشرة الظاهرة لعمر، أما بداخله فكان في حاجة إلى أن يوقظه أحد.
وفي يوم من الأيام كان يمر بالمدينة ساحبا ثوبه جارا ذيله، فناداه محمد بن كعب القرظي أحد الفقهاء قائلا:
__________
(1) تاريخ الخلفاء ص 213.(23/319)
- يا عمر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما جاوز الكعبين فهو في النار» . فالتفت إليه عمر مغضبا وأغلظ عليه في الرد وقال له: -
- اتق الله يا كعب، ولا تكن ذبالة تضيء للناس وتحرق نفسها (1) .
ولكن ابن كعب الفقيه كان يعرف حقيقة عمر وصفاء نفسه ومعدنه الأصيل الذي يمتلئ بالتقوى والإيمان، وإن كانت تغطيه تلك القشرة الظاهرية من مظاهر الترف والنعيم الذي تربى فيه.
وما زال الفقهاء بعمر حتى أزاحوا عنه تلك القشرة الخارجية، وكشفوا عن معدنه الأصيل الثمين بالتعاون مع مزاحم مولاه، حتى استيقظ الإيمان في نفسه والخوف من الله سبحانه وتعالى وعقابه حتى لقد قال عمر:
إن أول من أيقظني لهذا الشأن مزاحم، فوالله ما هو إلا أن قال ذلك حتى كشف عن وجهي الغطاء (2) .
__________
(1) ابن عبد الحكم ص 146.
(2) ابن عبد الحكم ص 146.(23/320)
توسعة المسجد النبوي:
انتهز الوليد فرصة إمارة عمر على المدينة وحب الناس له وثقتهم به والتفافهم حوله، وأراد أن يوسع المسجد النبوي وأن يدخل فيه بيوت أمهات المؤمنين، فقد كان يعلم أن ذلك من أصعب الأمور على أهل المدينة؛ لمحاولة عبد الملك قبله التي باءت بالفشل، وقد ضج الناس وفزعوا وبكوا بكاء شديدا كأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمت إلا في ذلك اليوم، فكف عبد الملك عما عزم عليه.
ولكن الوليد يريد أن يصل إلى ما لم يستطع عبد الملك أن يصل إليه، فكتب إلى عمر وهو يثق من قيامه بهذه المهمة خير قيام، فجمع عمر الفقهاء وأعلمهم بما قال الوليد، فوافقوا على قوله، ورضي الناس حين رضي(23/320)
الفقهاء، وأدخلت بيوت أمهات المؤمنين التسعة في المسجد، واشترى عمر ما بجوار المسجد، وتم البناء وزخرف وزين وقدمت القبلة وجوف المحراب ورفعت المنارة، ولما بنيت المئذنة ازدادت المآذن انتشارا تشبها بمآذن الشام.(23/321)
الوليد في المدينة:
قام الوليد بزيارة المدينة، فتلقاه عمر بموكب حافل من وجهاء المدينة وقصد الوليد المسجد ينظر إلى بنائه وتشييده، وكان عمر قد أخلى له المسجد من الناس، ولكنه لم يستطع أن يخليه من الفقيه العالم سعيد بن المسيب الذي أبى الخروج إلا عندما يحين وقت خروجه، وكان يجلس عند المحراب، وكيف يخرج من أجل فرد حتى ولو كان أمير المؤمنين؟ إن نداء الله واجب التلبية على نداء أمير المؤمنين، إذ كان مضى على سعيد تقليد خمسين عاما وعادتها، ولم يناد للصلاة في فريضة مكتوبة إلا وسعيد أسبق الناس إلى المسجد قبل الأذان (1) .
وكان عمر يعلم ضغينة الوليد على سعيد؛ لأنه قد امتنع عن المبايعة له بالخلافة حين أمره عبد الملك بذلك، وعذب وضرب ستين جلدة من قبل الوالي، وطيف به على الناس في تبان من صوف وعليه مسوح (2) وهي ثياب قصيرة.
وحاول عمر أن يعدل بالوليد في ناحية المسجد لئلا يرى سعيدا.
ولكن الوليد التفت وقال:
- من هذا الشيخ؟ أهو سعيد؟
فذهب إليه فقال له:
- كيف أنت أيها الشيخ؟
__________
(1) صفة الصفوة ص 2 ص 44.
(2) الطبري ص 5 ص 209.(23/321)
فوالله ما تحرك سعيد، فقال:
- بخير والحمد لله. فكيف أمير المؤمنين، وكيف حاله؟
قال عمر: ثم انصرف الوليد وهو يقول: هذا بقية الناس. وأنا أقول: أجل يا أمير المؤمنين (1)
__________
(1) اليعقوبي ص 3 ص 19.(23/322)
خوف الحجاج من عمر:
لقد كان الحجاج يخشى من ظهور أشج بني أمية الذي يعدل، ولما تأكد له أنه عمر بن عبد العزيز حقد عليه حقدا شديدا، وصار يتحين الفرصة المناسبة للإيقاع به عند الخليفة، وقد واتته تلك الفرصة، وذلك أنه بعد زيارة الوليد للمدينة غضب أهلها عليه لأسباب كثيرة منها: أنه جرهم وراءه مشيا لدعوتهم إلى الفداء بذي خشب، ومنها أنه أراد إخلاء المسجد من الناس حتى يكون له وحده ساعة دخوله، ومنها أنه وزع الأموال على الأغنياء وترك الفقراء، فعندما علم أهل العراق بغضب أهل المدينة لجئوا إليهم فارين من ظلم الحجاج بن يوسف الثقفي، وزاد الأمور تعقيدا أن الوليد جعل الحجاج أميرا على الحج فكان لا بد من مروره على المدينة وأهل المدينة لا يحتملون رؤيته ففزعوا إلى عمر في ذلك، فكتب إلى الوليد بتنحية الحجاج عن طريق المدينة وعدم مروره عليها فقبل الوليد خوفا من ثورة الناس.
فكانت فرصة الحجاج بأن كتب إلى الوليد بعد ذلك أن كثيرا من أهل العراق ومراقيه قد لجئوا إلى المدينة ومكة وأن ذلك وهن وضعف، وما زال الحجاج بالوليد حتى أوغر صدره على عمر فقرر عزله عن إمارة المدينة.(23/322)
جاءه خبر عزله عن المدينة وأقبل الوالي الجديد الذي سيلي المدينة بعده وهو عثمان بن حيان المري وهو يتهددهم ويتوعدهم وأرسل حراسه يبحثون عن العراقيين ويسوقونهم إلى السجن، أما عمر فقد خرج ليلا من المدينة هو ومزاحم خفية عن أعين الناس وتذكر حين خروجه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده ما خرج أحد من المدينة رغبة عنها إلا أبدلها الله خيرا منه أو ماله (1) » ، وتذكر أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: «المدينة تنفي خبثها (2) » ، فاضطرب وقال: يا مزاحم: نخاف أن نكون ممن نفت المدينة (3) .
وفي الموطأ بلغني أن عمر بن عبد العزيز حين خروجه من المدينة التفت إليها ثم بكى وقال: يا مزاحم: أتخشى (4) أن نكون ممن نفته المدينة (5) .
وواصل رحلته حتى وصل قرب دمشق وأقام بالسويداء بمقاطعة له بعيدا عن الضوضاء.
__________
(1) موطأ مالك الجامع (1641) .
(2) صحيح البخاري الحج (1883) ، صحيح مسلم الحج (1383) ، سنن الترمذي المناقب (3920) ، سنن النسائي البيعة (4185) ، مسند أحمد بن حنبل (3/393) ، موطأ مالك الجامع (1639) .
(3) الطبري ص 51.
(4) في البداية ص 9 ص 195: نخشى.
(5) الموطأ ص 2 ص 889 في الجامع: باب ما جاء في سكن المدينة والخروج منها.(23/323)
كلمة حق عند سلطان جائر:
جلس عمر في مقاطعته بالسويداء وراجع نفسه وما حوله فوجد العالم الإسلامي يموج في بحر متلاطم من الظلم والجور، فالولاة يظلمون الناس وينهبون أموالهم ويأكلونها ظلما وعدوانا ولا رقيب عليهم ولا حسيب، والبلاء يزداد في كل يوم ونار الظلم تشتعل ويشتد أوارها ويندلع لهيبها ولا يصطلي بها إلا الضعفاء من عامة الناس، فيا ويل من قصر في دفع المطلوب منه مهما كان كثيرا، والوليد يسمع ويرى ويعينهم على ظلمهم وبغيهم، وقد أطلق يد الحجاج في قصف رقاب العباد وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.(23/323)
ومن أجل هذا كله فكر عمر ثم رأى من واجبه أن يتحرك وأن ينصح الخليفة فإذا لم يسمع النصيحة ويستجب لها يكون قد أدى ما عليه تجاه دينه، ولا يهمه أغضب الخليفة أم رضي، ما دام قد أوصل كلمة الحق إليه وأعلنها صريحة مدوية ليبرئ ذمته أمام الله يوم القيامة.
فأخذ طريقه إلى دمشق حيث الوليد بن عبد الملك فنصحه في عماله وولاته وعنف عليه في النصح، وذات يوم قال له:
- يا أمير المؤمنين، إن عندي لك نصيحة، فإذا خلا لك عقلك واجتمع فهمك فسلني عنها. قال الوليد:
ما يمنعك الآن؟
قال:
- أنت أعلم. إذا اجتمع لك ما أقول فإنك أحق أن تفهم.
فسكت الوليد أياما، ثم دخل عليه عمر في جماعة من أهل الشام.
فقال الوليد:
- نصيحتك يا أبا حفص.
ولعله أراد بذلك أن يحرجه فيخفف، ولكن عمر لم يخفف من صريح النصح فقال: - إنه ليس بعد الشرك إثم أعظم عند الله من الدم، وإن عمالك يقتلون ويكتبون لك ذنب المقتول، وأنت المسئول عنه والمأخوذ به، فاكتب إليهم ألا يقتل أحد منهم أحدا حتى يكتب إليك بذنبه، ثم يشهد عليه ثم تأمر بأمرك على أمر قد وضح لك. فكتم الوليد غيظه وقال:
- بارك الله فيك يا أبا حفص:
ثم رأى الوليد أن يجرب فكتب إلى الأمصار وخص الحجاج بن يوسف بما في نصيحة عمر، فكان جواب الحجاج أن يرسل إلى الوليد برجل حروري من الخوارج كان يسب الخلفاء من بني أمية ثم يسمو في ذلك صعدا ويزداد سبا حتى يبلغ الوليد فيستوفي له الشتم والسب لأنه يراه أجور الخلفاء وأظلمهم ولا سيما حين استعمل الحجاج(23/324)
على العراق.
وأرسل الوليد إلى عمر في الظهيرة في وقت لم يكن يرسل إليه فيه فحضر فدخل عليه فإذا هو قاطب بين عينيه فقال له:
اجلس هنا. وأشار إلى مجلس الخصوم بين يديه، فجلس عمر وليس عند الوليد إلا الحرسي القاسي القلب خالد بن الريان قائما بسيفه.
فقال الوليد للحروري: -
- ما تقول في فلان وفي فلان من الخلفاء؟ فسبهم الحروري ولعنهم. ثم قال:
- وما تقول في؟ فقال الحروري: ظالم جائر جبار.
فقال الوليد لحارسه خالد بن الريان:
- اضرب عنقه. فضرب الحرسي عنقه.
ثم عاد الوليد على عمر فقال له. كيف ترى فيمن سب الخلفاء؟ أترى أن يقتل؟ فسكت عمر. فانتهره الوليد. وقال: ما لك لا تتكلم؟ فظل ساكتا لا يتكلم. وعاد الوليد واستمر عمر في صمته. ولما برم عمر بالوليد قال: - ينكل به. فازداد غضب الوليد لأنه كان يريد من عمر أن يفتي بقتله. ثم ترك مجلسه ودخل إلى بيته؛ وأشار ابن الريان إلى عمر بالانصراف. قال عمر: فانصرفت وما تهب ريح من ورائي إلا وأنا أظن أنه رسول يردني إليه (1) وكانت منزلة عمر تزداد يوما بعد يوم وحب الناس له يتعاظم ولهذا رأى الوليد أن يستعين بعمر حين فكر في خلع سليمان من ولاية العهد وجعلها في أبنائه فقال له عمر:
__________
(1) ابن عبد الحكم ص 25.(23/325)
- يا أمير المؤمنين إنا بايعنا لكما في عقدة واحدة فكيف نخلعه ونتركك (1) .
__________
(1) ابن الجوزي ص 41.(23/326)
موت الحجاج
كان لعمر رأي في الحجاج بن يوسف الثقفي لظلمه وجبروته وبغيه وسفكه دماء الناس بالظنة والشبهة فكان يقول: " لو أن الأمم تخابثت يوم القيامة فأخرجت كل أمة خبيثها ثم أخرجنا الحجاج لغلبناهم (1) .
ومات هذا الطاغية وجاء خبره إلى الوليد فحزن عليه حزنا شديدا وما لبث أن لحق به جبار آخر وهو قرة بن شريك والي مصر والذي كان متسلطا على رقابها فكان حزن الوليد أشد. فصعد الوليد إلى المنبر وهو حاسر الرأس فنعاهما للناس وقال:
- والله لأشفعن لهما شفاعة تنفعهما:
وكان عمر بين الناس والوليد يهذي بهذا الكلام فسخر من قوله وعجب لضلالته وقال لمن حوله:
- انظروا إلى هذا الخبيث، لا أناله الله شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم وألحقه بهما (2) .
لقد صلى عمر بن عبد العزيز صلاة الشكر لله على خلاص العالم من شرهما، وتنفس الناس الصعداء في الحجاز والعراق ومصر.
ولقد استجاب الله دعوة عمر في الوليد فلم يمض على موت الحجاج إلا القليل حتى مات الوليد بأرض فلسطين وتولى الخلافة بعده سليمان
__________
(1) ابن الجوزي ص 89.
(2) النجوم الزاهرة ص 1 ص18.(23/326)
بن عبد الملك، وقد تولى عمر أخذ البيعة لسليمان بنفسه في اليوم الذي مات فيه الوليد، وكان سليمان أحسن من صاحبه يستجيب للنصيحة، فقرب إليه عمر يستشيره وينصحه إلا أنه لم يستجب له في نصيحة واحدة وهي نهمه إلى الطعام، فقد كان أكولا يلتهم كل ما أمامه من الطعام على كثرته ولا يبقي منه شيئا.
وحج عمر مع سليمان وفي عرفات أبرقت السماء وأرعدت حتى كاد البرق يخطف أبصارهم، فخاف سليمان كما خاف أهل الموقف جميعا إلا أن عمر كان يضحك، فقال له:
- أتضحك يا عمر وأنت تسمع وترى ما تسمع وترى؟
فقال عمر:
- يا أمير المؤمنين هذه رحمة الله قد أفزعتك فكيف لو جاءك عذابه (1) .
__________
(1) ابن الجوزي ص 42، سير أعلام النبلاء ص 5 ص 131.(23/327)
عمر يتولى الخلافة:
مرض سليمان بن عبد الملك فلما أيقن بالموت قال لرجاء بن حيوة:
- إنه منذ مات ابني أيوب لم أجد بعده من يصلح للخلافة من أولادي.
ودنا الموت فقلق سليمان وأمر رجاء بن حيوة أن يعرض عليه أولاده في السيوف ودروع القتال لعله يرى في أحدهم مخايل رجولة أو شجاعة فيوصي له بالخلافة، فقال سليمان:
إن بني صبية صغار أفلح من كان له كبار
فقال له عمر بن عبد العزيز: يقول الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} (1) {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (2) .
__________
(1) سورة الأعلى الآية 14
(2) سورة الأعلى الآية 15(23/327)
وأعاد عمر قول الله تعالى حين أعاد سليمان قوله فاتعظ سليمان، ثم نوى في نفسه ليعقدن عقدا لا يكون فيه للشيطان نصيب (1) .
واستشار سليمان رجاء بن حيوة في عمر بن عبد العزيز فأشار عليه خيرا وامتدح عمر، ولكن سليمان تردد في عدم تنفيذ بني أمية للوصية إن اختار لهم عمر ففكر في الأمر، ثم هداه الله أن يجعل أحدهم بعده فجعل بعده يزيد بن عبد الملك، ولما استقر على هذا الرأي أشار عليه رجاء بكتابة العهد وختمه وأخذ البيعة لمن فيه، فكتب العهد وخطه بيده، ثم ختمه ابن أبي نعيم صاحب الخاتم، ثم طواه سليمان ودعا بأهل بيته من الأمراء وأهل البيعة، فطلب إليهم أن يبايعوا لمن في العهد المطوي المختوم، فبايعوا وأسلمه لرجاء.
ولما مات سليمان بايع الناس مرة أخرى، وعندما أعلن رجاء بن حيوة اسم الخليفة الجديد، وجم بنو مروان وأخذتهم الدهشة، ولكنهم قد بايعوا وانتهى الأمر، ولكن هشاما لم يستطع أن يكظم غيظه فقال: هاه، لا والله لا أبايع: فسل حرسي من أهل الشام سيفه، وقال: تقول لأمر قضاه أمير المؤمنين هاه؟ فقال هشام: نسمع ونطيع إن كان رجلا من بني عبد الملك. فقال له رجاء: إذن أضرب عنقك. فجذبه الناس حتى سقط على الأرض، وقالوا: سمعنا وأطعنا. ولما أعلن رجاء اسم الخليفة الثاني خفف ذلك من حدة التوتر التي أصابت بني أمية.
أما عمر فقد عقر وقال: والله إن هذا الأمر ما سألته قط (2) . ومشى إليه رجاء مسلما بالإمارة طالبا إليه أن يقوم إلى المنبر، فقال عمر: أنشدك الله يا رجاء، فقال له: أناشدك الله أن يضطرب بالناس حبل (3) وأخذ بيده رجاء وأصعده المنبر، فجلس طويلا لا يتكلم
__________
(1) ابن عبد الحكم ص 30.
(2) تاريخ الخلفاء ص 214.
(3) ابن عبد الحكم ص 32.(23/328)
والناس في لهفة ينتظرون. فلما تكلم خلع نفسه وأراد الناس أن يختاروا رجلا آخر، ولكن الناس ضجوا وهاجوا وماجوا وصاحوا قائلين: قد اخترناك ورضينا بك فل أمرنا باليمن والبركة.
وخطب عمر خطبته المشهورة التي كانت أشبه بخطبة أبي بكر الصديق التي قال فيها: أيها الناس إنه لا كتاب بعد القرآن ولا نبي بعد محمد عليه الصلاة والسلام، ألا وإني لست بفارض ولكني منفذ، ولست بمبتدع ولكني متبع، ولست بخير من أحدكم ولكني أثقلكم حملا، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (1) ، وكان ذلك في يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة تسع وتسعين (2) .
__________
(1) تاريخ الخلفاء ص 215.
(2) العقد الفريد ص 3 ص 432.(23/329)
الانقلاب الكبير في الخلافة الإسلامية بعد موت سليمان بن عبد الملك:
كان عمر في حياة سليمان يعايش الظلم ولا يستطيع تغييره، والآن وقد أتته الفرصة لتغييره فماذا يقول لربه حين يلقاه إن سكت عن الظلم أو توانى في رفعه، فكتب من فوره ثلاثة كتب وأنفذها إلى أصحابها: الأول: بعزل أسامة بن زيد صاحب صدقات مصر الذي أنهك أهلها، وحلب الدر حتى انقطع، وكان ظالما غشوما معتديا في العقوبات يقطع الأيدي في خلاف ما يؤمر به.
والكتاب الثاني برجوع جيش مسلمة بن عبد الملك عن بلاد الروم، فقد كاد هذا الجيش يفنى من طول الحصار، والكتاب الثالث: بعزل يزيد بن أبي مسلم عن أفريقية؛ لجبروته وظلمه ومخالفته للحق، وما عجل بذلك إلا لنذر نذره لله تعالى فوفى بنذره، ويهم عمر بمغادرة المسجد بعد انتهاء الخطبة فإذا بموكب الخلفاء ينتظره عند الباب(23/329)
مهرجان كبير، خيول ومراكب، وسرادقات وفرسان وصخب فيشيح عن هذا كله ويقول: إيتوني ببغلتي (1) . ويجتاز الطريق من المسجد صوب الدار فإذا بالطريق مغطى بالفرش والسجاد الذي لم يستعمل من قبل، والذي كان من تقاليد بني مروان أن يضعوه لكل خليفة جديد كي تطأه قدماه أول ما تطأ، فجعل عمر يركله برجله حتى يفضي إلى الحصير ويلتفت إلى مزاحم قائلا: ضم هذا لأموال المسلمين (2) .
ويتقدم إليه أهل سليمان قائلين: هذا لنا وهذا لك. فيجيبهم قائلا: ما هذا لي ولا لسليمان ولا لكم، ولكن يا مزاحم ضم هذا لبيت مال المسلمين (3) .
لقد كان انقلابا كبيرا، وكان على عكس التيار لا يستطيعه إلا من أوتي قوة في العقيدة وصلابة في الحق وإيمانا راسخا، لقد رد الجواري إلى أهلهن وبلادهن، ورد المظالم إلى أهلها، وألغى المجالس التي أشبهت مجالس الأباطرة والقياصرة، وتمسكت بسنن كسرى وقيصر إلى بساطتها الأولى ووضعها الإسلامي، فنهى عن القيام له وابتدأ بالسلام، وأباح دخول المسلمين عليه بغير إذن (4) ، هذا الشاب الذي كان يلبس الحلة بألف دينار ولا يلبسها إلا مرة واحدة، نراه بعد أن تولى الخلافة وتحمل المسئولية لا يلبس إلا قميصا واحدا، وينظر فيرى زوجته فاطمة بنت عبد الملك تلبس عقدا رائعا من جوهر ثمين كان أبوها عبد الملك قد أهداها إياه، فيتقدم إليها ويضعها أمام اختيار صعب.
__________
(1) تاريخ الخلفاء 214.
(2) ابن عبد الحكم سيرة عمر ص 39.
(3) ابن عبد الحكم ص 39 -40.
(4) رجال الفكر والدعوة الإسلامية للندوي ص32، 33.(23/330)
قال: اختاري. إما أن تردي حليك إلى بيت المال، وإما أن تأذني لي في فراقك؛ فإني أكره أن أكون أنا وأنت وهو في بيت واحد.
قالت فاطمة: -
- لا بل أختارك عليه وعلى أضعافه (1) .
تلك هي المرأة التي يقول فيها الشاعر: -
بنت الخليفة والخليفة جدها ... أخت الخلائف والخليفة زوجها
ذلك هو الوفاء، وهذا هو الإيمان، ويمتد ذلك الوفاء وهذا الإيمان إلى ما بعد وفاته فيعرض عليها يزيد بن عبد الملك ما تخلت عنه من الجواهر والحلي فترد قائلة: - لا والله لا أطيب به نفسا في حياته، وأرجع فيه بعد موته (2) .
وينظر عمر فيرى خالد بن الريان الذي قتل الحروري بحضرته أيام الوليد. فيقول له: ضع هذا السيف عنك. وعزله وجعل يقول: اللهم إني قد وضعت لك خالد بن الريان فلا ترفعه أبدا. ثم يتفرس عمر في وجوه الحرس فيرى عمرو بن مهاجر الأنصاري وكان تقيا: فقال له عمر حين رآه: والله إنك لتعلم يا عمرو أنه ما بيني وبينك قرابة إلا قرابة الإسلام، ولكني قد سمعتك تكثر تلاوة القرآن، ورأيتك تصلي في موضع تظن أن لا يراك أحد، فرأيتك حسن الصلاة. خذ هذا السيف. وقد وليتك حرسي (3) .
وقد شمل هذا الانقلاب الكبير كل نواحي الحياة، فتنازل عمر عن كل القطائع والأراضي والمزارع التي أقطعت له، وردها جميعا أو أثمانها إلى بيت مال المسلمين، ثم أمر الأمراء أن يؤدوا ما بأيديهم من حقوق الناس حتى لا يكرههم على ترك ذلك بالقوة، فثقل ذلك عليهم وتبرموا، ولكنهم علموا أن عمر لن يتباطأ في إنزال العقوبة بهم إن امتنعوا عن الأداء، فلجئوا إلى عمة
__________
(1) تاريخ الخلفاء: ص 216.
(2) الكامل: ج 5 ص42، 41، ابن عبد الحكم ص 62.
(3) ابن عبد الحكم ص 171.(23/331)
لهم كانوا يحترمونها وكانت مقدمة عند الخلفاء، فذهبت إلى عمر وهي مغضبة، فقال لها: يا عمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض فترك الناس على ورد مورود، فتولى ذلك الورد رجل فلم يستنقص منه شيئا، ثم تولاه الرجل بعد الرجل حتى ولي معاوية، فشق منه الأنهار، ثم لم يزل الناس يكرون منه حتى تركوه يابسا ليس فيه قطرة؛ وايم الله لئن أبقاني الله لأعيدنه إلى مجراه الأول.
ولما يئست منه عمته انصرفت وأتت القوم فقالت لهم:
- تزوجون ابنكم عبد العزيز من آل عمر بن الخطاب، فإذا نزعوا إلى الشبه جزعتم؟ اصبروا له وذوقوا مغبة أمركم (1) .
__________
(1) الأغاني ج8 ص 146. صفة الصفوة ج 2 ص69.(23/332)
العدالة والتنفيذ:
لم تكن العدالة كلمة تقال أو شعارا ينطق به، بل لقد نفذت تنفيذا عمليا جديا لا محاباة فيه لحاكم أو محكوم مهما علا شأنه وكانت قيمته، وقد جعل للقضاء قدسية وجعل كلمته فوق كلمة الخليفة، وكان يطبق هذا على نفسه وعلى غيره.
جاءه مصري من حلوان يقول له، إن أباه عبد العزيز اغتصب ضيعته في إبان ولايته على مصر، وعنف المصري على عمر فلان له وقال:
نازعني منازعة كريمة، ولا تشتم عرضي فإن لي فيه شركاء وإخوة وأخوات، وهؤلاء لا يرضون أن أرد لك الضيعة بغير القضاء، والرأي أن نذهب إلى القاضي.
واستمع القاضي للمتخاصمين فقضى للمصري، فقال عمر: قد أنفقنا عليها ألف ألف درهم. فنظر القاضي فإذا عمر وأهله قد أخذوا من غلتها بقدر ما أنفقوا: فقال:(23/332)
قد أخذتم منها ما أنفقتم عليها فردوها لصاحبها. فقال عمر:
- بارك الله عليك أيها القاضي. وقام فرد الأرض للمصري (1) .
- وكان عمر يستعجل القاضي فيحكم بالحكم متى علم بالمظلمة ووثق من وقوعها حتى لا يلحق بالمظلوم ضرر من طول مدتها، إلا أن يكون هذا بقطع أو قتل يرجع فيه إلى الخليفة، وكان لا يسمح بالتعذيب أو الإيذاء للحصول على اعتراف من المتهم؛ لأن ذلك ينافي الكرامة الإنسانية، ومنذ الساعات الأولى لتولي عمر الخلافة أعلن للناس بتحديد قاطع لا غموض فيه: أن من أراد أن يصحبنا فليصحبنا بخمس: يوصل إلينا حاجة من لا تصل إلينا حاجته، ويدلنا من العدل إلى ما لا نهتدي إليه، ويكون عونا لنا على الحق، ويؤدي الأمانة إلينا وإلى الناس، ولا يغتب عندنا أحدا، ومن لم يفعل فهو في حرج من صحبتنا والدخول علينا (2) .
وكان عمر يراقب عماله وولاته، فإذا أخطأ بعضهم كان التوبيخ وكان الإنذار، فإذا تمادى العامل أو الوالي في خطئه كان العزل والتنحية عن العمل.
وجعل عمر موسم الحج مؤتمرا عاما لجميع المسلمين يسمع مشورتهم، ويأخذ منهم ويعرف عن طريقهم أحوال بلادهم وولاتهم.
هذه هي العدالة التي توخاها عمر بن عبد العزيز، إنصاف الناس جميعا، رفع الظلم عن المظلومين، وإحقاق الحق، والعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولنسمع إلى صرخاته وهو يطلقها في جموع الحجيج: " أنا معول كل مظلوم، ألا وإن أي عامل من عمالي رغب عن الحق ولم يعمل بالكتاب والسنة فلا طاعة له عليكم (3) . "
__________
(1) المرشد ج 2 ص 129.
(2) ابن عبد الحكم ص 40-41.
(3) ابن الجوزي ص 72، 73.(23/333)
عمر ونشر الدعوة الإسلامية:
عمل عمر جهده وصرف عنايته على نشر الدعوة الإسلامية بتبليغها للناس ودعوتهم إليها بالحسنى، فصار يرسل إلى القادة وإلى الأمراء والحكومات يدعوهم إلى الإسلام، ويرسل الفقهاء لدعوة الناس وتعليمهم الدين الصحيح وحقيقة التوحيد، وقد آتى ذلك ثماره ودخل الناس في دين الله أفواجا، فوضع عمر الجزية عمن أسلم، فكان ذلك دافعا لدخول الناس في الدين الجديد حين علموا صفاءه ونقاءه، وأنه لا يرهق الناس ولا يبخسهم حقهم، ولقد لامه بعض عمال الأقاليم على سياسة وضع الجزية، ولكن عمر يجابهه بالقول الفصل: " ضع الجزية عمن أسلم قبح الله رأيك؛ فإن الله إنما بعث محمدا صلى الله عليه وسلم هاديا ولم يبعثه جابيا، ولعمري لعمر أشقى من أن يدخل الناس كلهم في الإسلام على يديه " (1) .
وفي خراسان أقلق بعض من لهم مصالح خاصة دخول الناس بكثرة في الإسلام، فتقدموا إلى الجراح عاملها أن يمتحن هؤلاء الناس بالختان؛ ليعرف رغبتهم الحقيقية، فنقل الجراح ذلك إلى عمر. فرد عليه ردا حاسما قاطعا: " إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم داعيا ولم يبعثه خائنا " (2) . وتأتي إليه رسالة عامله على البصرة التي يقول فيها: " الناس قد كثروا في الإسلام وخفت أن يقل الخراج ". فيجيبه عمر: " فهمت كتابك، والله لوددت أن الناس كلهم أسلموا حتى نكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا" (3) .
وتوسع عمر في دعوته فأرسل الرسائل إلى جميع ملوك الأرض يدعوهم إلى الدخول في الإسلام، فأرسل إلى الهند وإلى ما وراء النهر، فاستجاب له خلق كثير، ونشط عمال الولايات حين رأوا هذه الرغبة من عمر حتى أنه
__________
(1) طبقات ابن سعد ج 5 ص 283.
(2) الطبري: ج 6 ص 559-560.
(3) ابن الجوزي ص 99-100.(23/334)
ليقال: إنه قد دخل على يد الجراح عامله على خراسان أكثر من أربعة آلاف شخص في الإسلام.(23/335)
عمر وأهل الذمة:
لقد عامل عمر أهل الذمة معاملة طيبة نابعة من صميم الإسلام وتسامحه وعدله وما فيه من مساواة لجميع الأجناس على السواء. وكان الحجاج قد ابتدع أن يختم على بيادرهم حتى يؤدوا الجزية، فكره عمر أن يفعل فعل الحجاج وأن يؤذي كرامة أهل الذمة (1) .
وكان جميع الولاة يعرفون هذا عن عمر، فكانوا يعاملونهم معاملة حسنة تقوم أساسا على تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، وقد خفف عمر الجزية المفروضة على النصارى في كل بلد إسلامي، وقد عزل بعض الولاة لإساءتهم إلى أهل الذمة:
وقد كتب عمر إلى عبد الرحمن بن نعيم: لا تهدموا كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار صولحتم عليه (2) .
__________
(1) ابن الجوزي ص 88.
(2) الطبري ج 5 ص 364.(23/335)
عمر والخوارج:
خرجت خارجة من العراق على الدولة الأموية في سنة مائة من الهجرة، وكان عامل العراق عبد الحميد بن عبد الرحمن، فأمره عمر أن يدعوهم إلى كتاب الله وسنة رسوله فلما لم يستجيبوا بعث إليهم جيشا فهزمتهم الحرورية، وبالرغم من رغبة عمر في السلم إلا أنه لم يقف مكتوف اليدين أمام ذلك العصيان وهذا التمرد، فقام بإرسال مسلمة بن عبد الملك إليهم فاستطاع أن يهزمهم شر هزيمة، ومع ذلك فقد كان يحمل كتابا إلى شوذب(23/335)
الخارجي يسأله فيه عن سبب خروجه ودعوته إلى المناظرة، وكان في خطاب عمر:
إنه بلغني أنك خرجت غضبا لله ولنبيه، ولست بأولى مني بذلك، فهلم أناظرك، فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس، وإن كان في يدك نظرنا في أمرنا (1) .
ويذكر ابن الجوزي أن جماعة من الخوارج دخلوا عليه يوما وأخذوا يناقشونه في بعض القضايا، فأشار إليه بعض أصحابه أن يرعبهم ويتغير عليهم فرفض ذلك، ولم يزل يرفق في نقاشه مع هؤلاء الخوارج حتى أخذ عليهم كل حجة، ورضوا بأن يرزقهم وأن يكسوهم ما دام خليفة، وخرجوا وهم على هذا الاتفاق، وما إن غادروا المكان حتى التفت عمر إلى أحد أصحابه قائلا: " إذا قدرت على دواء تشفي به صاحبك دون الكي فلا تكوينه أبدا " (2) .
__________
(1) الطبري ج 6 ص 555، 556.
(2) ابن الجوزي ص 62.(23/336)
عمر وبدعة سب علي رضي الله عنه:
كان بنو أمية من أيام معاوية بن أبي سفيان يسبون عليا رضي الله عنه فوق المنبر، وكان ذلك متفشيا في جميع البلاد التي تحت إمرتهم، فلما تولى عمر بن عبد العزيز كره ذلك ونهى عنه، وجعل مكانه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (1) .
وفي ذلك يقول كثير عزة:
وليت فلم تشتم عليا ولم تخف ... بريا ولم تتبع مقالة مجرم
تكلمت بالحق المبين وإنما ... تبين آيات الهدى بالتكلم
__________
(1) سورة النحل الآية 90(23/336)
عمر والتكافل الاجتماعي:
لقد عمل عمر ابن عبد العزيز والتكافل الاجتماعي منذ ولايته على تجريد بني أمية من كثير من أملاكهم وإقطاعياتهم التي اقتطعوها بدون حق، وتمزيق صكوكها واحدا بعد الآخر، وإدخالها في بيت مال المسلمين، وصمد عمر لبني أمية، ولم يضعف أمام اعتراضاتهم المتكررة، ورد جميع الأراضي والحقوق التي اغتصبت من الناس لهم، وأعطى كل ذي حق حقه. وبعث إليه والي البصرة برجل اغتصبت أرضه فرد عمر هذه الأرض إليه، ثم قال له: كم أنفقت في مجيئك إلي؟ قال يا أمير المؤمنين تسألني عن نفقتي، وأنت قد رددت علي أرضي وهي خير من مائة ألف؟ فأجابه عمر: إنما رددت عليك حقك. ثم ما لبث أن أمر له بستين درهما كتعويض له عن نفقات سفره (1) .
وعمل عمر على إزالة الضرائب المجحفة، وكانت قد فرضت على الناس قبل ذلك من أجل تنمية موارد الدولة، كأجور ضرابي النقود، وهدايا النيروز والمهرجان، وأجور الفيوج - أي رسول السلطان الذي يسعى بالكتب - وأجور البيوت، ودراهم النكاح (2) .
وأسقطت المكوس وأوضح عمر سبب ذلك بقوله: " أما المكس فإنه البخس الذي نهى الله عنه، فقال: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (3) . غير أنهم كنوه باسم آخر (4) .
وقد سبق أن أصدر أمره برفع الجزية عن كل الذين أسلموا ودخلوا الإسلام، رغم اعتراضات كثيرة من الولاة وأصحاب المصالح.
__________
(1) ابن عبد الحكم ص146، 147.
(2) تاريخ الأمم والملوك ج 6 ص 269.
(3) سورة هود الآية 85
(4) ابن عبد الحكم ص 98، 99.(23/337)
وصار لا يحصل من المسلمين إلا الزكاة مع تقويمها وتخريصها بالحق والعدل، وخوفا من التلاعب أمر بتوحيد المكاييل والموازين في أنحاء الدولة الإسلامية.
ويتجه عمر إلى فكرة الضمان الاجتماعي التي تحقق هذا التكافل الذي يسعى إليه للجميع، فكانت الصدقات تؤخذ من الأغنياء ثم توزع على الفقراء.
ويتحدث ابن جحزم عامل عمر على صدقات بني تغلب قائلا: إنه يأتي إلى الحي ويدعوهم بأموالهم فيقبضها، ثم يدعو فقراءهم ويقسمها فيهم، حتى أنه ليصيب الرجل الفريضتين أو الثلاث، فما أفارق الحي وفيهم فقير، ثم آتي إلى الحي الآخر فأصنع بهم كذلك، فما أنصرف إلى الخليفة بدرهم (1) .
وكان عطاء الرجل لا ينقطع بموته بل ينتقل إلى ورثته، وأمر أن تقام الخانات ومراكز الضيافة في البلاد، وتزويد المسافرين بالطعام ودلالتهم على الطريق، ونراه يوزع العطاء على جميع محاربي الدولة بالعدل الشامل دون تفريق بين عربي وغير عربي، ما دام الجميع يحملون راية لا إله إلا الله، ويعزل واليه على خراسان؛ لأنه منع ألوفا من الموالي الذين كانوا يغزون، منعهم عطاءهم (2) . وقد رفع عمر الجزية عن الرهبان في مصر، ونظر كذلك إلى الكنيسة فألغى الضريبة التي كانت تقوم بدفعها.
وكتب إلى عامله على البصرة أن انظر في أهل الذمة فارفق بهم، وإذا كبر الرجل منهم وليس له مال فأنفق عليه (3) .
وكان جباة الزكاة إذا لم يجدوا فقراء لإعطائهم الزكاة اشتروا بها عبيدا
__________
(1) ابن الجوزي ص 86، 87.
(2) ابن سعد ج 5 ص 277.
(3) ابن سعد ج 5 ص 280.(23/338)
وأعتقوهم، ويبلغ التكافل الاجتماعي ذروته بقضاء الدين عن المدينين، وإعانة من يريد الزواج وتقديم المساعدة إلى من يريد أداء فريضة الحج.
لو اجتمع علماء اقتصاد العالم كله ما استطاعوا أن يوازنوا بين موارد الدولة ومصارفها كما فعل عمر، ومهما تشدق وطبل المطبلون من العلمانيين والشيوعيين، وكل من نادى بفصل الدين عن الدولة، نقول لهم: ها هو المجتمع الإسلامي المتكامل، لا ظلم فيه ولا جور، ولا جائع ولا مسكين ولا محتاج ولا تفرقة فيه ولا محاباة، يقوم أساسا على القيم والأخلاق الإنسانية، ويطبق المبادئ الإسلامية كاملة، وظل كذلك فترة من الزمن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده. وتجدد ذلك في عهد عمر بن عبد العزيز الذي طبق فأحسن التطبيق، فكانت السعادة وكان الرخاء، وكان الأمن والأمان والمساواة الاجتماعية بين جميع الأجناس، والحب الذي خفقت به القلوب، حتى أنهم كانوا يبحثون عن الفقير يعطونه الزكاة فلا يجدونه.(23/339)
عمر والشعراء:
كان الشعراء في عهد الخلفاء من بني أمية يمدحونهم وينالون عطاءهم ونوالهم، وكان الخلفاء يغرفون لهم غرفا ويكيلون لهم كيلا؛ لأنهم يعلمون خطرهم ونفاذ كلامهم في الناس، ولكن عمر بن عبد العزيز والشعراء لا يخاف أحدا ولا يخشى إلا الله، ولا يعطي لأحد إلا ما يستحقه من بيت المال فوقف الشعراء (1) على بابه أياما طوالا لا يأذن لهم حتى شفع لهم عدي بن أرطأة، وقال يا أمير المؤمنين:
إن الشعراء ببابك وأقوالهم باقية، وإن رسول الله قد مدح وأعطى وفيه أسوة لكل مسلم. قال: صدقت، فمن الباب منهم؟ قال: عمر بن أبي ربيعة. فقال عمر: لا قرب الله قرابته ولا حيا وجهه أليس هو القائل:
__________
(1) العقد الفريد ج 1 ص 208 ثمرات الأوراق ج 1 ص71.(23/339)
ويا ليت سلمى في القبور ضجيعتي ... هنالك أو في جنة أو جهنم
والله لا يدخل علي أبدا، فمن بالباب غيره؟ قال: جميل بن معمر العذري. قال: أليس هو القائل:
أظل نهاري لا أراها وتلتقي ... مع الليل روحي في المنام وروحها
والله لا يدخل علي أبدا، فمن بالباب غيره؟ قال: كثير بن عزة. قال: أليس هو القائل:
رهبان مكة والذين عهدتهم ... يبكون من حذر الفراق قعودا
لو يسمعون كما سمعت حديثها ... خروا لعزة ركعا وسجودا
أبعده الله، والله لا يدخل علي أبدا، فمن بالباب غيره؟ قال: الأحوص الأنصاري. قال: لا دخل علي أبدا، أليس هو القائل:
الله بيني وبين سيدها ... يفر عني بها وأتبعه
فمن بالباب غيره؟ قال الفرزدق: قال: أليس هو القائل:
هما ولتاني من ثمانين قامة ... كما انقض باز أقتم الريش كاسره
والله لا يدخل علي أبدا، فمن بالباب غيره؟ فقال: الأخطل. قال: أليس هو القائل:
ولست بصائم رمضان عمري ... ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بقائم كالعبد يدعو ... قبيل الصبح حي على الفلاح
أبعده الله، فوالله لا دخل علي أبدا، ولا وطئ لي بساطا، فمن بالباب غيره؟ قال جرير: قال: أليس هو القائل:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام
فإن كان لا بد فهذا. فأذن له: فدخل جرير وهو يقول:
إن الذي بعث النبي محمدا ... جعل الخلافة في إمام عادل(23/340)
فلما مثل بين يديه، قال له عمر: اتق الله ولا تقل إلا حقا. فأنشأ يقول:
كم باليمامة من شعثاء أرملة ... ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر
نال الخلافة أو كانت له قدرا ... كما أتى ربه موسى على قدر
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
قال: يا جرير: ما أرى لك فيما هاهنا حقا. قال: يا أمير المؤمنين إني ابن سبيل ومنقطع. فقال له: ويحك يا جرير: قد ولينا هذا الأمر ولا نملك إلا ثلاثمائة درهم؛ فمائة أخذها عبد الله، ومائة أخذتها أم عبد الله، يا غلام أعطه المائة الباقية. فأخذها جرير: وقال: والله يا أمير المؤمنين لهي أحب مال اكتسبته. ثم خرج فقال له الشعراء: ما وراءك؟ قال: ما يسوؤكم، خرجت من عند الخليفة يعطي الفقراء ويمنع الشعراء، وإني عنه لراض. وأنشد:
رأيت رقى الشيطان لا تستفزه ... وقد كان شيطاني من الجن راقيا(23/341)
موت عمر
الدنيا دار فناء والآخرة دار بقاء، وعمر يضع الآخرة نصب عينيه، وكان دائما يذكر الموت وكثيرا ما كان يتمثل بقول القائل:
من كان حين تمس الشمس جبهته ... أو الغبار يخاف الشين والشعثا
ويألف الظل كي تبقى بشاشته ... فسوف يسكن يوما جدثا (1)
وذهب عمر في زورة إلى الشمال، وهناك في دير سمعان مرض، ولما أيقن عمر أنها النهاية نام للعلة، وكانت العلة هي السم الذي دسه له بنو أمية حتى يتخلصوا منه، ويعودوا إلى ما تعودوا عليه من الترف والإسراف وإنفاق
__________
(1) الكامل للمبرد ج 1 ص 375.(23/341)
أموال المسلمين على ملذاتهم وشهواتهم، وكان عمر يعرف أن السم من يد الخادم، واعترف له الخادم بذلك وأقر له بالمبلغ الذي تقاضاه، فرد عمر المبلغ إلى بيت مال المسلمين، وأمر الخادم بالذهاب حيث لا يراه أحد، ولما أيقن بالموت نهض يخطب بخناصرة، ويقول: واعلموا إنما الأمان غدا لمن حذر الله وخافه، وباع نافدا بباق، وقليلا بكثير، وخوفا بأمان. فلما انتهى من خطبته رفع طرف ردائه فبكى حتى شهق، وأبكى الناس حوله، ثم نزل فكانت إياها (1) .
ونفس عمر قد تاقت شوقا إلى الله وإلى لقائه، وأحب أن يموت من علته، ولقد كان يقول: إن لي نفسا تواقة لم تتق إلى منزلة إلا تاقت إلى ما هي أرفع منها، حتى بلغت اليوم المنزلة التي ليس بعدها منزلة، وإنها اليوم قد تاقت إلى الجنة (2) .
وحضر أولاد عمر حين علموا بمرضه، فدعاهم فنظر إليهم ثم قال: بنفسي فتية تركتهم ولا مال لهم، أي بني لقد تركتكم وتركت لكم خيرا كثيرا، يا بني إن أباكم مثل بين أمرين: إما أن تستغنوا ويدخل أبوكم النار، أو تفتقروا ويدخل أبوكم الجنة، فكان أن تفتقروا ويدخل الجنة أحب، قوموا يعصمكم الله، قوموا يرزقكم الله (3) .
واشتد المرض على عمر وكان بجانبه زوجته الوفية فاطمة ومسلمة بن عبد الملك ووصيف له يقال له مرثد، وسهروا بجانبه الليلة كلها، قالت فاطمة: اشتد عدم استقراره من الألم الليلة، فسهر وسهرنا معه، فلما أصبحنا أمرت وصيفا له يقال له (مرثد) فقلت له: يا مرثد كن عند أمير
__________
(1) الطبري ج 5 ص 323.
(2) ابن عبد الحكم ص 61.
(3) ابن عبد الحكم ص 117، 127.(23/342)
المؤمنين، فإن كانت له حاجة كنت قريبا منه. ثم انطلقنا فضربنا برؤوسنا لطول سهرنا، فلما انفتح النهار استيقظت فتوجهت إليه، فوجدت مرثدا خارجا من البيت نائما، فأيقظته فقلت: يا مرثد ما أخرجك؟ قال: هو أخرجني قائلا لي: اخرج عني، فوالله إني لأرى شيئا ما هو بإنس ولا جان. فخرجت فسمعته يتلو هذه الآية: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (1) . قال مرثد: فدخلت عليه فوجدته قد وجه نفسه للقبلة وأغمض عينيه وإنه ميت رحمه الله (2) .
وكان ذلك لعشر بقين - وقيل: لخمس بقين - من رجب سنة إحدى ومائة، وله حينئذ تسع وثلاثون سنة وستة أشهر (3) .
وذهب شهيد العدالة والمبادئ السامية التي أقرها الإسلام وأراد تطبيقها كاملة لإسعاد البشرية، وظلت سيرته ماثلة في أذهان الناس وفي قلوبهم، واسمه يملأ الأزمان وشهد له الأعداء قبل الأصدقاء، وحزن عليه المسلمون حزنا شديدا، ورثاه الشعراء، قال جرير بن عطية:
ينعي النعاة أمير المؤمنين لنا ... يا خير من حج بيت الله واعتمرا
حملت أمرا عظيما فاصطبرت له ... وسرت فينا بأمر الله يا عمرا
فالشمس كاسفة ليست بطالعة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا (4)
رحم الله عمر، وكل من سار بسيرته وعدل كعدله وزهد كزهده.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أحمد فهيم مطر
__________
(1) سورة القصص الآية 83
(2) الطبري ج 6 ص 776، ابن عبد الحكم ص 116، 177، ابن سعد ج 5 ص 301.
(3) تاريخ الخلفاء ص 228.
(4) ديوان جرير ص 235.(23/343)
المراجع والمصادر
الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني
البداية والنهاية لعماد الدين أبي الفداء
تاريخ الأمم والملوك لمحمد بن جرير الطبري
تاريخ الخلفاء للحافظ جلال الدين السيوطي
تاريخ اليعقوبي لمحمد بن أبي يعقوب بن واضح
ثمرات الأوراق للشيخ تقي الدين الحموي
ثمار القلوب لأبي منصور الثعالبي
ديوان جرير دار صادر - بيروت
رجال الفكر والدعوة الإسلامية لأبي الحسن الندوي
سير أعلام النبلاء الإمام شمس الدين الذهبي
سيرة عمر بن عبد العزيز لأبي الفرج بن الجوزي
سيرة عمر بن عبد العزيز لأبي محمد بن عبد الحكم
شذرات الذهب لأبي الفرج ابن العماد
صفة الصفوة لأبي الفرج ابن الجوزي
الطبقات لابن سعد
العقد الفريد لابن عبد ربه
الكامل في التاريخ لابن الأثير
الكامل للمبرد
المرشد في الدين الإسلامي لجماعة من الأساتذة المصريين
معجم البلدان لياقوت بن عبد الله الحموي
الموطأ للإمام مالك
النجوم الزاهرة لجلال الدين أبي المحاسن(23/344)
مشروعية قول
(لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير)
بعد صلاة الفجر والمغرب
الشيخ \ فريح بن صالح البهلال
سائل يقول: سألت بعض طلبة العلم عن مشروعية هذا الذكر في هذين الوقتين، فأجاب بأنه غير مشروع، وأنه لا يفعله. ولكني أرى كثيرا من المسلمين يداومون على فعله في دبر هاتين الصلاتين الفجر والمغرب، فهل فعلهم هذا صواب أم تقليد أعمى؟
الجواب: الحمد لله هذا الذكر مشروع بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من قال قبل أن ينصرف ويثني رجليه من صلاة المغرب والصبح لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير عشرات مرات، كتب الله له بكل واحدة عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكانت له حرزا من كل مكروه، وحرزا من الشيطان الرجيم، ولم يحل للذنب أن يدركه إلا الشرك، وكان من أفضل الناس عملا إلا رجلا يفضله يقوله أفضل مما قال (1) » ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. رواه سبعة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: معاذ بن جبل وأبو ذر وأبو أيوب وأبو الدرداء وعمارة بن شبيب السبائي وأم سلمة وعبد الرحمن بن غنم - رضي الله عنهم - بطرق كثيرة. وغالبها حسنة وفيها الضعيفة. وإليك قول أهل العلم في بيان درجة كل طريق منها: -
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/227) .(23/345)
فأما حديث معاذ بن جبل فرواه الطبراني في الكبير (20 \ 65) رقم (119) قال فيه الحافظ المنذري في الترغيب (1 \ 240) : رواه ابن أبي الدنيا والطبراني بإسناد حسن " اهـ. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10 \ 109) : رواه الطبراني: من طريق عاصم بن منصور، ولم أجد من وثقه ولا ضعفه، وبقية رجاله ثقات " اهـ.
قلت: هو في التقريب قال عنه الحافظ: مقبول.
وأما حديث أبي ذر فأخرجه الترمذي (5 \ 515) رقم (3474) ، وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي (9 \ 444) : وأخرجه النسائي والطبراني في الأوسط.
وقال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح.
قلت: وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير. وهو تساهل منه؛ لأن رجاله كلهم ثقات ما عدا شهر بن حوشب، صدوق له أوهام، وهذا لا يقتضي ضعف الحديث بل يكون حسنا. والله أعلم.
قال عبد القادر الأرناؤوط في تخريج جامع الأصول (4 \ 230) ، قد حسنه الحافظ ابن حجر في تخريج الأذكار بعد ذكر طرقه، ولذلك قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب اهـ.
وأما حديث أبي أيوب فأخرجه أحمد (5 \ 415) وابن حبان في صحيحه \ مورد الظمآن ص (582) رقم (2341) وقال المنذري في الترغيب (1 \ 239) : وأخرجه النسائي. اهـ.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10 \ 107) : " رواه أحمد والطبراني باختصار، وفي إسناده أحمد بن محمد بن إسحاق وهو مدلس. وفي إسناد الطبراني محمد بن أبي ليلى وهو ثقة سيء الحفظ. وبقية رجالهما ثقات " اهـ.(23/346)
وأما حديث أبي الدرداء فقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10 \ 108) : رواه الطبراني في الكبير والأوسط. وفيه موسى بن محمد بن عطاء البلقاوي، وهو متروك اهـ.
قلت: وله شواهد كثيرة كما تقدم ويأتي، يكون بها حسنا لغيره.
وأما حديث عمارة بن شبيب السبائي فقال الحافظ المنذري في الترغيب (1 \ 239) : رواه النسائي والترمذي وقال: حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث ليث بن سعد ولا نعرف لعمارة سماعا من النبي صلى الله عليه وسلم اهـ. قلت: هو في الترمذي (5 \ 544) رقم 3534، وقال: حسن غريب.
وأما حديث أم سلمة فأخرجه أحمد (6 \ 298) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10 \ 108) : " رواه أحمد والطبراني بنحوه أخصر منه. وإسنادهما حسن " اهـ.
وأما حديث عبد الرحمن بن غنم فأخرجه أحمد أيضا (4 \ 227) ، وقال الحافظ المنذري في الترغيب (1 \ 241) : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير شهر بن حوشب، وعبد الرحمن بن غنم مختلف في صحبته.
وقد روي هذا الحديث عن جماعة من الصحابة اهـ.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10 \ 108) : " رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير شهر بن حوشب، وحديثه حسن " اهـ.
قلت: والاختلاف في صحبة عبد الرحمن بن غنم لا يقدح في الحديث. وذلك أنه إن لم يكن صحابيا فهو من كبار ثقات التابعين. قاله الحافظ ابن حجر في التقريب عن العجلي.
الحاصل، أن طرق هذا الحديث عن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم كلها حسان ما عدا طريق حديث أبي الدرداء فضعيفة. ومن القواعد المقررة(23/347)
في علم الحديث أن طريق الحديث الحسن إذا تعددت يكون بها صحيحا لغيره، ويكون الحديث حجة يعمل به، وعلى هذا يكون عمل المسلمين من قول هذا الذكر الشريف في دبر صلاة الفجر وصلاة المغرب هو الصواب؛ لأنه مبني على أصل ثابت، وقول المفتي سامحه الله أنه غير مشروع قد جانب الصواب، وقال قولا بلا علم. والعلم عند الله تعالى.
واعلم أن للحديث ألفاظا وروايات غير ما ذكرت كلفظ: «من قال في دبر صلاة الفجر وهو ثاني رجليه قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله (1) » . . الخ، كما في حديث أبي ذر عند الترمذي. وكلفظ: «له الملك وله الحمد، بيده الخير وهو على كل شيء قدير (2) » . . الخ وغيرها.
هذا والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
فريح بن صالح البهلال.
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3474) .
(2) سنن الترمذي الدعوات (3428) ، سنن ابن ماجه التجارات (2235) ، مسند أحمد بن حنبل (1/47) ، سنن الدارمي الاستئذان (2692) .(23/348)
تعريف البدعة
أنواعها وأحكامها
الشيخ \ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
الحمد لله رب العالمين، أمرنا بالاتباع ونهانا عن الابتداع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الذي بعثه الله؛ ليقتدى به ويطاع، وعلى آله وأصحابه وسائر الأتباع - وبعد: فهذه فصول في بيان أنواع البدع والنهي عنها - اقتضى كتابتها واجب النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم:
الفصل الأول
تعريف البدعة - أنواعها وأحكامها
1 - تعريفها:
البدعة في اللغة مأخوذة من البدع، وهو الاختراع على غير مثال سابق. ومنه قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (1) . أي: مخترعها على غير مثال سابق. وقوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} (2) . أي: ما كنت أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد. بل
__________
(1) سورة البقرة الآية 117
(2) سورة الأحقاف الآية 9(23/349)
تقدمني كثير من الرسل، ويقال: ابتدع فلان بدعة يعني ابتدأ طريقة لم يسبق إليها.
والابتداع على قسمين: ابتداع في العادات كابتداع المخترعات الحديثة، وهذا مباح؛ لأن الأصل في العادات الإباحة، وابتداع في الدين وهذا محرم؛ لأن الأصل فيه التوقيف، قال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » . وفي رواية: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » .
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) في صحيح مسلم.(23/350)
2 - أنواع البدع:
البدعة في الدين نوعان؛ النوع الأول بدعة قولية اعتقادية كمقالات الجهمية والمعتزلة والرافضة وسائر الفرق الضالة واعتقاداتهم، النوع الثاني بدعة في العبادات كالتعبد لله بعبادة لم يشرعها، وهي أنواع:
النوع الأول: ما يكون في أصل العبادة، بأن يحدث عبادة ليس لها أصل في الشرع، كأن يحدث صلاة غير مشروعة أو صياما غير مشروع، أو أعيادا غير مشروعة كأعياد الموالد وغيرها.
النوع الثاني: ما يكون في الزيادة على العبادة المشروعة، كما لو زاد ركعة خامسة في صلاة الظهر أو العصر مثلا.
النوع الثالث: ما يكون في صفة أداء العبادة بأن يؤديها على صفة غير مشروعة، وذلك كأداء الأذكار المشروعة بأصوات جماعية(23/350)
مطربة، وكالتشديد على النفس في العبادات إلى حد يخرج عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
النوع الرابع: ما يكون بتخصيص وقت للعبادة المشروعة، لم يخصصه الشرع كتخصيص يوم النصف من شعبان وليلته بصيام وقيام؛ فإن أصل الصيام والقيام مشروع، ولكن تخصيصه بوقت من الأوقات يحتاج إلى دليل.(23/351)
3 - حكم البدعة في الدين بجميع أنواعها:
كل بدعة في الدين فهي محرمة وضلالة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (1) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » . وفي رواية: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3) » فدل الحديث على أن كل محدث في الدين فهو بدعة. وكل بدعة ضلالة مردودة.
ومعنى ذلك أن البدع في العبادات والاعتقادات محرمة، ولكن التحريم يتفاوت بحسب نوعية البدعة، فمنها ما هو كفر صراح؛ كالطواف بالقبور تقربا إلى أصحابها، وتقديم الذبائح والنذور لها، ودعاء أصحابها والاستغاثة بهم.
وكمقالات غلاة الجهمية والمعتزلة، ومنها ما هو من وسائل الشرك؛ كالبناء على القبور والصلاة والدعاء عندها، ومنها ما هو فسق اعتقادي كبدعة الخوارج والقدرية والمرجئة في أقوالهم واعتقادهم المخالفة للأدلة الشرعية، ومنها ما هو معصية كبدعة التبتل والصيام قائما في الشمس، والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع (4) .
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(3) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(4) انظر الاعتصام للشاطبي (2 \ 37) .(23/351)
تنبيه:
من قسم البدعة إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة فهو غالط ومخطئ ومخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: «فإن كل بدعة ضلالة (1) » ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم على البدع كلها بأنها ضلالة، وهذا يقول: ليس كل بدعة ضلالة، بل هناك بدعة حسنة. قال الحافظ ابن رجب في شرح الأربعين: فقوله صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ضلالة (2) » من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد (3) » ، فكل من أحدث شيئا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة، والدين بريء منه.
وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة (4) . انتهى.
وليس لهؤلاء حجة على أن هناك بدعة حسنة إلا قول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح: (نعمت البدعة هذه) . وقالوا أيضا: إنها أحدثت أشياء لم يستنكرها السلف، مثل جمع القرآن في كتاب واحد. وكتابة الحديث وتدوينه.
والجواب عن ذلك أن هذه الأمور لها أصل في الشرع فليست محدثة - وقول عمر: (نعمت البدعة) يريد البدعة اللغوية لا الشرعية، فما كان له أصل في الشرع يرجع إليه إذا قيل إنه بدعة فهو بدعة لغة لا شرعا؛ لأن البدعة شرعا: ما ليس له أصل في الشرع يرجع إليه. وجمع القرآن في كتاب واحد له أصل في الشرع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابة القرآن، لكن كان مكتوبا متفرقا فجمعه الصحابة رضي الله عنهم في مصحف واحد حفظا له.
__________
(1) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(2) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(3) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(4) جامع العلوم والحكم ص 233.(23/352)
والتراويح قد صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ليالي، وتخلف عنهم في الأخير خشية أن تفرض عليهم، واستمر الصحابة رضي الله عنهم يصلونها أوزاعا متفرقين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته إلى أن جمعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه خلف إمام واحد، كما كانوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هذا بدعة في الدين، وكتابة الحديث أيضا لها أصل في الشرع، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة بعض الأحاديث لبعض أصحابه لما طلب منه ذلك، وكان المحذور من كتابته بصفة عامة في عهده صلى الله عليه وسلم خشية أن يختلط بالقرآن ما ليس منه، فلما توفي صلى الله عليه وسلم انتفى هذا المحذور؛ لأن القرآن قد تكامل وضبط قبل وفاته صلى الله عليه وسلم، فدون المسلمون السنة بعد ذلك حفظا لها من الضياع، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا حيث حفظوا كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم من الضياع وعبث العابثين.(23/353)
الفصل الثاني
ظهور البدع في حياة المسلمين والأسباب التي أدت إلى ذلك
1 - ظهور البدع في حياة المسلمين وتحته مسألتان:
المسألة الأولى: وقت ظهور البدع:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: واعلم أن عامة البدع المتعلقة بالعلوم والعبادات إنما وقع في الأمة في أواخر خلافة الخلفاء الراشدين، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من(23/353)
بعدي (1) » (2) .
وأول بدعة ظهرت بدعة القدر وبدعة الإرجاء وبدعة التشيع والخوارج. هذه البدع ظهرت في القرن الثاني، والصحابة موجودون وقد أنكروا على أهلها، ثم ظهرت بدعة الاعتزال وحدثت الفتن بين المسلمين، وظهر اختلاف الآراء والميل إلى البدع والأهواء، وظهرت بدعة التصوف وبدعة البناء على القبور بعد القرون المفضلة، وهكذا كلما تأخر الوقت زادت البدع وتنوعت.
المسألة الثانية: مكان ظهور البدع:
تختلف البلدان الإسلامية في ظهور البدع فيها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فإن الأمصار الكبار التي سكنها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج منها العلم والإيمان خمسة: الحرمان والعراقان. والشام. منها خرج القرآن والحديث والفقه والعبادة وما يتبع ذلك من أمور الإسلام.
وخرج من هذه الأمصار بدع أصولية غير المدينة النبوية. فالكوفة خرج منها التشيع والإرجاء، وانتشر بعد ذلك في غيرها، والبصرة خرج منها القدر والاعتزال والنسك الفاسد، وانتشر بعد ذلك في غيرها، والشام كان بها النصب والقدر، أما التجهم فإنما ظهر في ناحية خراسان وهو شر البدع، وكان ظهور البدع بحسب البعد عن الدار النبوية، فلما حدثت الفرقة بعد مقتل عثمان ظهرت بدعة الحرورية، وأما المدينة النبوية فكانت سليمة من ظهور هذه البدع، وإن كان بها من هو مضمر لذلك فكان عندهم مهانا مذموما إذ كان بها قوم من القدرية وغيرهم، ولكن كانوا مقهورين ذليلين بخلاف التشيع والإرجاء بالكوفة، والاعتزال وبدع النساك بالبصرة، والنصب بالشام فإنه كان ظاهرا، وقد ثبت
__________
(1) سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(2) مجموع الفتاوى (10 \ 354) .(23/354)
في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن الدجال لا يدخلها (1) » ، ولم يزل العلم والإيمان بها ظاهرا إلى زمن أصحاب مالك، وهو من أهل القرن الرابع، فأما الأعصار الثلاثة المفضلة فلم يكن فيها بالمدينة المنورة بدعة ظاهرة البتة، ولا خرج منها بدعة في أصول الدين البتة كما خرج من سائر الأمصار (2) .
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1880) ، صحيح مسلم الحج (1379) ، مسند أحمد بن حنبل (2/331) ، موطأ مالك الجامع (1649) .
(2) مجموع الفتاوى (20 \ 300) .(23/355)
2 - الأسباب التي أدت إلى ظهور البدع:
مما لا شك فيه أن الاعتصام بالكتاب والسنة فيه منجاة من الوقوع في البدع والضلال، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (1) ، وقد وضح ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن مسعود رضي الله عنه قال: «خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا، فقال: هذا سبيل الله. ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، ثم قال: وهذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه. ثم تلا: (3) » فمن أعرض عن الكتاب والسنة تنازعته الطرق المضللة والبدع المحدثة، فالأسباب التي أدت إلى ظهور البدع تتلخص في الأمور التالية: الجهل بأحكام الدين، اتباع الهوى، التعصب للآراء والأشخاص، التشبه بالكفار وتقليدهم، ونتناول هذه الأسباب بشيء من التفصيل:
1 - الجهل بأحكام الدين: كلما امتد الزمن وبعد الناس عن آثار الرسالة
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153
(2) رواه أحمد وابن حبان والحاكم وغيرهم.
(3) سورة الأنعام الآية 153 (2) {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(23/355)
قل العلم، وفشا الجهل كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا (1) » وقوله: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا (2) » فلا يقاوم البدع إلا العلم والعلماء، فإذا فقد العلم والعلماء أتيحت الفرصة للبدع أن تظهر وتنتشر ولأهلها أن ينشطوا.
2 - اتباع الهوى - من أعرض عن الكتاب والسنة اتبع هواه، كما قال تعالى: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (3) ، وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} (4) ، والبدع إنما هي نسيج الهوى المتبع.
3 - التعصب للآراء والرجال يحول بين المرء واتباع الدليل ومعرفة الحق، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} (5) ، وهذا هو شأن المتعصبين اليوم من بعض أتباع المذاهب والصوفية والقبوريين، إذا دعوا إلى اتباع الكتاب والسنة ونبذ ما هم عليه مما يخالفهما
__________
(1) من حديث رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
(2) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1 \ 180) .
(3) سورة القصص الآية 50
(4) سورة الجاثية الآية 23
(5) سورة البقرة الآية 170(23/356)
احتجوا بمذاهبهم ومشائخهم وآبائهم وأجدادهم.
4 - التشبه بالكفار هو من أشد ما يوقع في البدع، كما في حديث «أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى:، لتركبن سنن من كان قبلكم (2) » . ففي هذا الحديث أن التشبيه بالكفار هو الذي حمل بني إسرائيل وبعض أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام أن يطلبوا هذا الطلب القبيح، وهو أن يجعل لهم آلهة يعبدونها ويتبركون بها من دون الله، وهذا هو نفس الواقع اليوم؛ فإن غالب الناس من المسلمين قلدوا الكفار في عمل البدع والشركيات، كأعياد الموالد وإقامة الأيام والأسابيع لأعمال مخصصة، والاحتفال بالمناسبات الدينية والذكريات وإقامة التماثيل والنصب التذكارية وإقامة المآتم وبدع الجنائز والبناء على القبور وغير ذلك.
__________
(1) رواه الترمذي وصححه.
(2) سورة الأعراف الآية 138 (1) {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}(23/357)
الفصل الثالث
موقف الأمة الإسلامية من المبتدعة
ومنهج أهل السنة والجماعة في الرد عليهم
1 - موقف أهل السنة والجماعة من المبتدعة:
ما زال أهل السنة والجماعة يردون على المبتدعة وينكرون عليهم بدعهم ويمنعونهم من مزاولتها، وإليك نماذج من ذلك:
1 - عن أم الدرداء قالت: دخل علي أبو الدرداء مغضبا فقلت له: ما لك؟
فقال: والله ما أعرف فيهم شيئا من أمر محمد إلا أنهم يصلون جميعا (1) .
2 - «عن عمرو بن يحيى قال: سمعت أبي يحدث، عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري. فقال: أخرج عليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا. فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعا. فقال: يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد آنفا أمرا أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيرا. وقال: وما هو؟ قال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قوما حلقا جلوسا ينتظرون الصلاة في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة. فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة. فيهللون مائة،
__________
(1) رواه البخاري.(23/358)
فيقول: سبحوا مائة. فيسبحون مائة. قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء؟ ثم مضى ومضينا معه. حتى أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد. قال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم، هؤلاء أصحابه متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحوا باب ضلالة. قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير. قال: وكم مريد للخير لن يصيبه؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن قوما يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم. وأيم الله لا أدري لعل أكثرهم منكم. ثم تولى عنهم. فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج (1) » .
3 - جاء رجل إلى الإمام مالك بن أنس رحمه الله، فقال: من أين أحرم؟ فقال: من الميقات الذي وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحرم منه. فقال الرجل: فإن أحرمت من أبعد منه؟ فقال مالك: لا أرى ذلك. فقال: ما تكره من ذلك. قال: أكره عليك الفتنة. قال: وأي فتنة في ازدياد الخير. فقال مالك: فإن الله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) .
وأي فتنة أعظم من أنك خصصت بفضل لم يختص به
__________
(1) رواه الترمذي.
(2) سورة النور الآية 63(23/359)
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ (1) وهذا نموذج. ولا زال العلماء ينكرون على المبتدعة في كل عصر، والحمد لله.
__________
(1) ذكره أبو شامة في كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث نقلا عن أبي بكر الخلال، ص 14.(23/360)
2 - منهج أهل السنة والجماعة في الرد على أهل البدع:
منهجهم في ذلك مبني على الكتاب والسنة، وهو المنهج المقنع المفحم، حيث يوردون شبه المبتدعة وينقضونها. ويستدلون بالكتاب والسنة على وجوب التمسك بالسنن، والنهي عن البدع والمحدثات، وقد ألفوا المؤلفات الكثيرة في ذلك، وردوا في كتب العقائد على الشيعة والخوارج والجهمية والمعتزلة والأشاعرة في مقالاتهم المبتدعة في أصول الإيمان والعقيدة، وألفوا كتبا خاصة في ذلك، كما ألف الإمام أحمد كتاب الرد على الجهمية، وألف غيره من الأئمة في ذلك كعثمان بن سعيد الدارمي، وكما في شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيرهم من الرد على تلك الفرق وعلى القبورية والصوفية. وأما الكتب الخاصة في الرد على أهل البدع فهي كثيرة منها على سبيل المثال من الكتب القديمة.
كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي.
كتاب اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية فقد استغرق الرد على المبتدعة جزءا كبيرا منه.
كتاب إنكار الحوادث والبدع لابن وضاح.
كتاب الحوادث والبدع للطرطوشي.
كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة.(23/360)
ومن الكتب العصرية:
كتاب الإبداع في مضار الابتداع للشيخ: علي محفوظ.
كتاب السنن والمبتدعات المتعلقة بالأذكار والصلوات. للشيخ محمد بن أحمد الشقيري الحوامدي.
رسالة التحذير من البدع للشيخ: عبد العزيز بن باز.
ولا يزال علماء المسلمين- والحمد لله- ينكرون البدع ويردون على المبتدعة من خلال الصحف والمجلات والإذاعات وخطب الجمع والندوات والمحاضرات، مما له كبير الأثر في توعية المسلمين والقضاء على البدع وقمع المبتدعين.(23/361)
الفصل الرابع
في بيان نماذج من البدع المعاصرة وهي:
1 - الاحتفال بالمولد النبوي.
2 - التبرك بالأماكن والآثار والأموات ونحو ذلك.
3 - البدع في مجال العبادات والتقرب إلى الله.
البدع المعاصرة كثيرة بحكم تأخر الزمن وقلة العلم وكثرة الدعاء إلى البدع والمخالفات، وسريان التشبه بالكفار في عاداتهم وطقوسهم مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من كان قبلكم (1) » .
__________
(1) رواه الترمذي وصححه.(23/361)
1 - الاحتفال بمناسبة المولد النبوي في ربيع الأول:
ومن هذا التشبه بالنصارى في عمل ما يسمى بالاحتفال بالمولد النبوي، يحتفل جهلة المسلمين أو العلماء المضلين في ربيع الأول من كل سنة بمناسبة مولد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فمنهم من يقيم هذا الاحتفال في المساجد، ومنهم من يقيمه في البيوع أو الأمكنة المعدة لذلك، ويحضره جموع كثيرة من دهماء الناس وعوامهم، يعملون ذلك تشبها بالنصارى في ابتداعهم الاحتفال بمولد المسيح عليه السلام، والغالب أن هذا الاحتفال علاوة على كونه بدعة وتشبها بالنصارى لا يخلو من وجود الشركيات والمنكرات؛ كإنشاء القصائد التي فيها الغلو في حق الرسول صلى الله عليه وسلم إلى درجة دعائه من دون الله والاستغاثة به.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو في مدحه فقال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله (1) » ، والإطراء معناه الغلو في المدح، وربما يعتقدون أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحضر احتفالاتهم، ومن المنكرات التي تصاحب هذه الاحتفالات الأناشيد الجماعية المنغمة وضرب الطبول وغير ذلك من عمل الأذكار الصوفية المبتدعة، وقد يكون فيها اختلاط بين الرجال والنساء مما يسبب الفتنة ويجر إلى الوقوع في الفواحش، وحتى لو خلا هذا الاحتفال من هذه المحاذير واقتصر على الاجتماع وتناول الأطعمة وإظهار الفرح. كما يقولون. فإنه بدعة محدثة «وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (2) » وأيضا هو وسيلة إلى أن يتطور ويحصل فيه ما يحصل في الاحتفالات الأخرى من المنكرات.
__________
(1) رواه الشيخان.
(2) سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(23/362)
وقلنا: إنه بدعة لأنه لا أصل له في الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح والقرون المفضلة، وإنما حدث متأخرا بعد القرن الرابع الهجري أحدثه الفاطميون الشيعة، قال الإمام أبو حفص تاج الدين الفاكهاني رحمه الله: أما بعد فقد تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول ويسمونه المولد، هل له أصل في الدين؟ وقصدوا الجواب عن ذلك مبينا والإيضاح عنه معينا. فقلت وبالله التوفيق: لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطالون. وشهوة نفس اغتنى بها الأكالون (1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وكذلك ما يحدثه بعض الناس، إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيما. . . من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدا مع اختلاف الناس في مولده؛ فإن هذا لم يفعله السلف. . . . ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا؛ فإنهم كانوا أشد محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيما له منا، وهم على الخير أحرص، وإنما كان محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سننه باطنا وظاهرا ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان؛ فإن هذه طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان (2) . انتهى.
__________
(1) رسالة المورد في عمل المولد.
(2) اقتضاء الصراط المستقيم (2 \ 615) بتحقيق الدكتور ناصر العقل.(23/363)
وقد ألف في إنكار هذه البدعة كتب ورسائل قديمة وحديثة. وهو علاوة على كونه بدعة وتشبها فإنه يجر إلى إقامة موالد أخرى كموالد الأولياء والمشايخ والزعماء فيفتح أبواب شر كثيرة.(23/364)
2 - التبرك بالأماكن والآثار والأشخاص أحياء وأمواتا:
التبرك: طلب البركة، وهي ثبات الخير في الشيء وزيادته، وطلب ثبوت الخير وزيادته إنما يكون ممن يملك ذلك ويقدر عليه وهو الله سبحانه فهو الذي ينزل البركة ويثبتها، أما المخلوق فإنه لا يقدر على منح البركة وإيجادها ولا على إبقائها وتثبيتها، فالتبرك بالأماكن والآثار والأشخاص أحياءا وأمواتا لا يجوز؛ لأنه إما شرك إن اعتقد أن ذلك الشيء يمنح البركة، أو وسيلة إلى الشرك إن اعتقد أن زيارته وملامسته والتمسح به سبب لحصولها من الله، وأما ما كان الصحابة يفعلونه من التبرك بشعر النبي صلى الله عليه وسلم وريقه، وما انفصل من جسمه صلى الله عليه وسلم، فذلك خاص به صلى الله عليه وسلم في حال حياته، بدليل أن الصحابة لم يكونوا يتبركون بحجرته وقبره بعد موته، ولا كانوا يقصدون الأماكن التي صلى فيها أو جلس فيها؛ ليتبركوا بها وكذلك مقامات الأولياء من باب أولى - ولم يكونوا يتبركون بالأشخاص الصالحين كأبي بكر وعمر وغيرهما من أفاضل الصحابة، لا في الحياة ولا بعد الموت، ولم يكونوا يذهبون إلى غار حراء؛ ليصلوا فيه أو يدعوا، ولم يكونوا يذهبون إلى الطور الذي كلم الله عليه موسى؛ ليصلوا فيه ويدعوا، أو إلى غير هذه الأمكنة من الجبال التي يقال: إن فيها مقامات الأنبياء أو غيرهم، ولا إلى مشهد مبني على أثر نبي من الأنبياء.
وأيضا فإن المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى فيه بالمدينة النبوية دائما لم يكن أحد من السلف يستلمه ولا يقبله، ولا(23/364)
الموضع الذي صلى فيه بمكة وغيرها، فإذا كان الموضع الذي كان يطؤه بقدميه الكريمتين ويصلي عليه لم يشرع لأمته التمسح به ولا تقبيله، فكيف بما يقال أن غيره صلى فيه أو نام عليه؟ فتقبيل شيء من ذلك والتمسح به قد علم العلماء بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا ليس من شريعته صلى الله عليه وسلم. (1) .
__________
(1) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (2 \ 795 - 802) تحقيق الدكتور ناصر العقل.(23/365)
3 - البدع في مجال العبادات والتقرب إلى الله:
البدع التي أحدثت في مجال العبادات في هذا الزمان كثيرة؛ لأن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع شيء منها إلا بدليل، وما لم يدل عليه دليل فهو بدعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » ، والعبادات التي تمارس الآن ولا دليل عليها كثيرة جدا؛ منها: الجهر بالنية للصلاة، بأن يقول: نويت أن أصلي لله كذا وكذا، وهذا بدعة؛ لأنه ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن الله تعالى يقول: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} (2) .
والنية محلها القلب فهي عمل قلبي لا عمل لساني، ومنها الذكر الجماعي بعد الصلاة؛ لأن المشروع أن كل شخص يقول الذكر الوارد منفردا، ومنها طلب قراءة الفاتحة في المناسبات وبعد الدعاء وللأموات، ومنها إقامة المآتم على الأموات وصناعة الأطعمة واستئجار المقرئين، يزعمون أن ذلك من باب العزاء، أو أن ذلك ينفع الميت، وكل ذلك بدعة لا أصل لها وآصار وأغلال ما أنزل الله بها من سلطان، ومنها الاحتفال بالمناسبات الدينية كمناسبة الإسراء والمعراج ومناسبة الهجرة
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) سورة الحجرات الآية 16(23/365)
النبوية، وهذا الاحتفال بتلك المناسبات لا أصل له من الشرع، ومن ذلك ما يفعل في شهر رجب كالعمرة الرجبية، وما يفعل فيه من العبادات الخاصة به كالتطوع بالصلاة والصيام؛ فإنه لا ميزة له على غيره من الشهور لا في العمرة والصيام والصلاة والذبح للنسك فيه، ولا غير ذلك، ومن ذلك الأذكار الصوفية بأنواعها كلها بدع ومحدثات؛ لأنها مخالفة للأذكار المشروعة في صيغها وهيئاتها وأوقاتها. ومن ذلك تخصيص ليلة النصف من شعبان بقيام ويوم النصف من شعبان بصيام؛ فإنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء خاص به. ومن ذلك البناء على القبور واتخاذها مساجد وزيارتها لأجل التبرك بها، والتوسل بالموتى وغير ذلك من الأغراض الشركية، وزيارة النساء لها مع «أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج (1) » .
وختاما: نقول: إن البدع بريد الكفر، وهي زيادة دين لم يشرعه الله ولا رسوله، والبدعة شر من المعصية الكبيرة. والشيطان يفرح بها أكثر مما يفرح بالمعاصي الكبيرة؛ لأن العاصي يفعل المعصية وهو يعلم أنها معصية فيتوب منها، والمبتدع يفعل البدعة يعتقدها دينا يتقرب به إلى الله فلا يتوب منها، والبدع تقضي على السنن، وتكره إلى أصحابها فعل السنن وأهل السنة، والبدعة تباعد عن الله وتوجب غضبه وعقابه وتسبب زيغ القلوب وفسادها.
ما يعامل به المبتدعة: تحرم زيارة المبتدع ومجالسته إلا على وجه النصيحة له والإنكار عليه؛ لأن مخالطته تؤثر على مخالطه شرا، وتنشر عدواه إلى غيره.
ويجب التحذير منهم ومن شرهم إذا لم يمكن الأخذ على أيديهم، ومنعهم من مزاولة البدع، وإلا فإنه يجب على علماء
__________
(1) سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1574) ، مسند أحمد بن حنبل (3/443) .(23/366)
المسلمين وولاة أمورهم منع البدع والأخذ على أيدي المبتدعة، وردعهم عن شرهم؛ لأن خطرهم على الإسلام شديد.
ثم إنه يجب أن يعلم أن دول الكفر تشجع المبتدعة على نشر بدعتهم، وتساعدهم على ذلك بشتى الطرق؛ لأن في ذلك القضاء على الإسلام وتشويه صورته.
نسأل الله عز وجل أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويخذل أعداءه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
صالح بن فوزان الفوزان(23/367)
صفحة فارغة(23/368)
عبد الله الترجمان الأندلسي
حياته وأعماله
الشيخ \ عبد القيوم محمد شفيع البستوي
قصة إسلام أكبر قسيس أندلسي في القرن الثامن الهجري، كان يبحث عن شخصية " فارقليط " فهداه الله إلى الإسلام وأخرجه من ظلمات التثليث إلى نور التوحيد.
في الوقت الذي كان الصليبيون يكرسون جهودهم في نشر المسيحية المحرفة على يدي شاول، أو البولس - اليهودي - في ربوع الأندلس بعد نفي المسلمين منها، يهدي الله رجلا من أكبر علماء النصارى ورهبانهم، ويشرح صدره للإسلام فآمن واستقام، وجاهد بيده ولسانه وقلمه؛ لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.
وقد ألف هذا الرجل كتابا كشف فيه عن فضائح النصرانية، ومكائد علماء النصارى ومفتريات مؤلفي الأناجيل وأكاذيبهم، وسماه " تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب ".
وقد قمت بتلخيص قصة حياته هذه من كتابه المذكور الذي عقد فيه فصلا خاصا عن حياته وأعماله، وأحوال(23/369)
زمانه، عسى أن ينفع الله به قوما يؤمنون بربهم حق إيمانه، وآخرين لم يؤمنوا به، ولكنهم لو أخلصوا النية في الإيمان بربهم، لكانت حياة هذا الرجل نبراسا لهم بإذن الله وتوفيقه.(23/370)
اسمه:
ذكر الدكتور محمد علي حماية - محقق تحفة الأريب - أن المستشرق الأسباني " أسين بلاثيوس " قال: إن عبد الله الترجمان كان قبل إسلامه قسيسا يدعى " انسلم تورميدا " (1) ، أما المؤلف نفسه فلم يتعرض لاسمه في كتابه.
ولادته ونشأته:
ولد في مدينة " ميورقة " بالأندلس ما بين عام (758 هـ) إلى عام (759 هـ) . إثر سقوط الأندلس على أيدي الصليبيين الحاقدين الغاشمين.
وكان ينتمي إلى أسرة لها منزلة سامية في نفوس النصارى، فكان أبوه ذا شخصية بارزة في المدينة، ولم يكن له ذرية سوى المؤلف،
__________
(1) انظر مقدمة تحفة الأريب ص (1) .(23/370)
ولذلك نشأ في كنف والديه تحت ظل الحب الوافر والعناية البالغة، واهتم والده بتعليمه وتربيته منذ نعومة أظفاره.
فلما بلغ السادسة من عمره أرسله إلى رهبان؛ ليتعلم منهم الإنجيل، فحفظ قرابة نصف الإنجيل عن ظهر قلب في عامين فقط، وواصل دراسته إلى أن تعلم لغة الإنجيل وعلم المنطق في ست سنوات (1) .
__________
(1) انظر تحفة الأريب ص (28) .(23/371)
رحلته لطلب العلم:
بعد ما تعلم مبادئ العلوم الدينية والمنطقية قام برحلة واسعة النطاق في طلب العلم، وكان ينتقل من مدينة إلى مدينة بغية الحصول على مزيد من العلم، إلى أن ألقى عصى الترحال في مدينة " بانولية " التي كان يسميها النصارى مدينة العلم، وقضى في تلك المدينة شطرا من عمره حتى بلغ أمانيه في العلم وانجلت له حقيقة التوحيد، وانكشفت له فضيحة التثليث، فعزم على معرفة الحق وقبوله. كما سيأتي تفصيله.(23/371)
لقاؤه مع أكبر قسيس وملازمته إياه:
وفي الوقت الذي كان مقيما في مدينة " بانولية " التقى براهب كبير السن عظيم المرتبة كان يدعى " نقلاد مارتيل "، وما أن علم المؤلف رتبة هذا الراهب إلا ورغب في ملازمته وتقرب إليه بخدمته وامتثال أوامره، ولما أدرك الشيخ نباهة المؤلف وحرصه الشديد على حصول العلم قام بتشجيعه وإكرامه، فجعله أخص تلاميذه، وسلمه مفاتيح مسكنه وخزائنه.(23/371)
هذا وقد لازم المؤلف ذلك الراهب الكبير عشر سنوات يتعلم منه النصرانية، أصولها وفروعها، حتى برع بين زملائه وفاق أقرانه.
النقاش حول شخصية فارقليط:
ولما طعن الشيخ في السن وأصابه الوهن بدأ يتخلف عن مجلس الدرس، وفي يوم من الأيام إذ كان متخلفا عن مجلس الدرس أثير الكلام حول شخصية " فارقليط " الذي بشر بنبوته عيسى عليه السلام، وقد وقع الخلاف بين أهل المجلس في تعيين هذا النبي وجرى بينهم نقاش طويل في هذا الصدد، وكل أدلى دلوه في غمار البحث، وأبدى رأيه في ضوء مبلغه من العلم والفهم إلا أن المجلس قد تفرق بهم دون أن يصلوا إلى نتيجة معينة رغم كثرة الكلام وطول النقاش.
ولما رجع المؤلف إلى منزل الشيخ سأله عما جرى بينهم من الكلام في غيبته.
فقال: يا سيدي كان موضوع الكلام في مجلس اليوم شخصية " فارقليط ".
وقد وقع بيننا اختلاف كبير في تعيين المراد من هذا النبي، وقد حكى المؤلف أمامه مفصلا ما قاله الحاضرون في هذا الصدد، فسأله الشيخ: وبماذا أجبت أنت؟
فقال: بما قاله القاضي فلان في تفسيره.
فقال: ما قصرت، ويكاد يكون جوابك صحيحا، وأما قول فلان(23/372)
فهو خطأ، وأما قول فلان فهو قريب من الصحة، وجعل يضعف آراء أهل المجلس إلى أن قال:
إن تفسير هذا الاسم المبارك لا يعرفه إلا الراسخون في العلم، وما أن سمع المؤلف هذا الكلام إلا وقد خر على قدميه وقبلهما، ثم قال: " يا سيدي أنت تعلم أني قد جئتك من بلاد نائية لا أقصد إلا العلم، وألازمك منذ عشر سنوات، وقد تعلمت منك في هذه المدة كثيرا من العلوم والحكم، ويسعدني جدا أن يكون ختام فضلك علي وإحسانك إلى أن تعرفني بهذا الاسم المبارك، فلما سمع الشيخ هذا الكلام مني جعل يبكي، وخاطبني قائلا: " يا ولدي والله إنك عزيز علي بما لاحظت منك الإخلاص في العلم، وبما بذلت في الجهد في خدمتي، ووالله إن في معرفة هذا الاسم المبارك لفائدة عظيمة، ولكنني أخشى أنه لو ظهر سر هذا الأمر منك لقام النصارى عليك وقتلوك، فقال: يا سيدي أنا لن أتكلم في هذا الأمر ما لم تأذن لي في ذلك.
فقال الشيخ: لعلك تذكر عندما جئتني كنت قد سألتك عن بلدك وعن بلاد المسلمين، أهم قريب منك؟ وهل يقاتلونكم أم تقاتلونهم؟
وقد كنت سألت عن ذلك لأعرف منك مدى كراهيتك من(23/373)
المسلمين وحقدك عليهم، واعلم يا بني أن " فارقليط "، اسم من أسماء نبي المسلمين.
وقد أنزل عليه الكتاب الرابع، وهو الذي ورد ذكره على لسان دانيال النبي، وقال فيه: إن دينه يكون دين حق وملته ملة بيضاء، وقد بشر به عيسى - عليه السلام - أيضا في الإنجيل.
يقول المؤلف: فقلت لهذا الشيخ: فما رأيك في دين النصارى؟
فقال: يا بني لو كان النصارى على دينهم لكانوا على دين الله؛ لأن دين عيسى ودين جميع الأنبياء دين الله.
فقلت: فما طريق النجاة إذن؟
فقال: أن تدخل في دين الله الإسلام.
فقلت له: يا سيدي إن العاقل لا يختار لنفسه إلا ما يراه خيرا له، فإن كنت تعلم أن الإسلام خير وأفضل فما يمنعك من قبوله؟(23/374)
يقول المؤلف: ولما سمع الشيخ هذا الكلام مني قال: يا بني إن الذي ذكرته لك من فضل الإسلام ومقام نبي المسلمين وفقني الله لمعرفة ذلك بعد ما كبر سني، وضعف جسمي، وقلت حيلتي، هذا ولم يبق لي العذر الآن وإن حجة الله قائمة علي، ولكن لو هداني الله وأنا في سنك لتركت كل شيء ودخلت في دين الحق، ولا يخفى " حب الدنيا رأس كل خطيئة "، وأنت ترى منزلتي عند النصارى، وفي هذا الوقت لو عرفوا مني أنني أميل إلى الإسلام شيئا لقتلوني في حينه، ولو نجوت منهم ولحقت بالمسلمين وقلت لهم: جئتكم مسلما لردوا علي: لا تمنن علينا إسلامك لأنك كسبت لنفسك خيرا، وبذلك سأصبح بينهم شيخا فقيرا في سن التسعين لا أفهم لسانهم، ولا يعرفون حقي فأموت بينهم جوعا.
وأحمد الله على أنني على دين عيسى عليه السلام ومتمسك بما جاء به والله أعلم بذلك مني.
يقول المؤلف: ثم قلت له: وهل تشير علي بأن أذهب إلى بلاد المسلمين، وأدخل في دينهم؟ فأجاب قائلا: إن كنت عاقلا وطالبا للنجاة فبادر إلى ذلك، ستنال به الدنيا والآخرة، وأخذ مني موثقا على أن لا أكشف سر هذا الأمر ثم بدأت أستعد للسفر، ولما عزمت على السفر وجئت لوداعه أعطاني خمسين دينارا لنفقات السفر ودعا لي بالخير، ولما عزم المؤلف على الهجرة إلى بلاد المسلمين رجع أولا إلى بلده(23/375)
" ميورقة " ومكث فيها ستة أشهر، ثم توجه إلى جزيرة صقلية، (1) ومنها في سفينة إلى تونس حيث رحب به النصارى، فأكرموه وأنزلوه في منازلهم، وقد قضى حوالي أربعة أشهر في قراهم قبل أن يعلن إسلامه.
وبعد ما أقام المؤلف أربعة أشهر مع النصارى سأل الناس عن رجل في قصر السلطان يعرف لغة النصارى، فدله بعضهم على رجل كان طبيبا خاصا للسلطان أبي العباس أحمد المتوفى سنة (697هـ) الذي كان أميرا للبلاد آنذاك، فاتصل المؤلف بهذا الرجل وأخبره عما يريده من السفر إلى تونس، ولما علم الطبيب أنه جاء مسلما فرح كثيرا، وذهب به إلى قصر السلطان، ودخل على الأمير فحكى له قصة حياته، واستأذن له بالدخول على الأمير، فأذن له ورحب به.
يقول المؤلف: ولما حضرت مجلسه سألني أولا عن عمري؟ وعما تعلمت من العلوم والفنون؟
فقلت: أنا ابن خمس وثلاثين سنة، وذكرت له ما كنت قد تعلمت.
فقال الأمير: مرحبا بك، وأسلم على بركة الله.
فقلت للأمير: إذا خرج امرؤ عن دينه، فأهل دينه يتهمونه بأمور شتى ويطعنون على شخصيته، فيا حبذا لو أرسلتم إلى بعض علماء النصارى وتجارهم، ثم سألتموهم عني في غيبتي؛ لكي تعرفوا بماذا سيبدون من آرائهم في شأني، ومن هنا أحضر المجلس وأقوم بالإعلان عن إسلامي على رؤوسهم.
__________
(1) صقلية جزيرة في البحر المتوسط وهي الآن تقع تحت سيطرة إيطاليا.(23/376)
فقال السلطان: لقد طلبت مني كما طلب عبد الله بن سلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إسلامه.
فلما حضر علماء النصارى - كما كان اقترح المؤلف - خاطبهم السلطان قائلا: ما رأيكم في هذا القسيس الذي جاءكم قريبا من بلاد الأندلس؟
فقالوا جميعا: هذا أكبر علماء ديننا في عصرنا، ويقول مشايخنا: ما رأينا أحدا يفوقه في العلم والفضل.
فقال السلطان: ما رأيكم لو دخل في الإسلام؟
فقالوا: معاذ الله، إنه لن يفعل ذلك. وما أن سمع السلطان هذا الكلام من النصارى، إلا وأمر المؤلف بالحضور في المجلس، وكان متخفيا في حجرة قريبة من المجلس، فحضر وأعلن عن إسلامه على رؤوس الأشهاد، فبهت الذين كفروا وخروا على وجوههم، وأسروا الندامة قائلين: إنه أقدم على ذلك ليتزوج؛ فإن الرهبان عندنا لا يتزوجون. وقاموا من المجلس وولوا أدبارهم خائبين خاسرين.
وأكرمه السلطان فرتبه بربع دينار يوميا وأعطاه بيتا في دار المختص، وزوجه ببنت الحاج محمد الصفار ورزقه الله ابنا فسماه محمدا تيمنا باسم النبي صلى الله عليه وسلم.(23/377)
بعض الوظائف التي تولاها بعد إسلامه:
ولما مضى خمسة أشهر من إسلامه قدمه السلطان في الديوان لقيادة البحر، وكان يقصد بذلك أن يتعلم المؤلف اللغة العربية؛ لتكرر عمل الترجمة هناك بين النصارى والمسلمين، فتعلم اللغة جيدا في سنة واحدة.(23/377)
ولما احتل الجنويون (1) والفرنسيون مدينة قابس (2) ، هو الذي كان يترجم رسائلهم إلى السلطان، وأخيرا عينه الأمير رئيسا لشؤون الترجمة.
وعندما كان الأمير خارجا لحصار مدينة " قابس " اصطحبه معه، وعينه ناظرا على خزائنه، ولما توفي هذا الأمير في الثالث عشر من شهر شعبان عام (796 هـ) تولى السلطة ابنه الأمير عبد العزيز بن أحمد، وأصدر أمرا بتجديد جميع أوامر أبيه فيما يتعلق بوظائف المؤلف ومناصبه، وبالإضافة إلى ذلك أمر بتعيينه ناظرا لدار المختص.
__________
(1) الجنويون: نسبة إلى '' جنوة '' وهي اسم لمدينة في إيطاليا تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط.
(2) اسم لمدينة معروفة في تونس تقع في وسط البلاد.(23/378)
قصة ابتلائه في إيمانه:
عندما كان المؤلف قائدا للبحر ورئيسا لشؤون الترجمة وقعت حادثة عجيبة لعب المؤلف فيها دورا هاما، كانت سفينة محملة بأموال المسلمين التجارية قد وصلت إلى الميناء وكادت أن ترسي فإذا بها سفينتان جاءتا من صقلية وحاصرتاها، واستولى النصارى على جميع أموال المسلمين التجارية، ولما وصل الأمر إلى الديوان بعث الأمير وفدا من النصارى ليكلمهم في فكاك أموال المسلمين من أيدي النصارى، ولكنه باء بالفشل، ورفض النصارى جميع الاقتراحات التي قدمها الوفد، وكان في قافلة النصارى راهب يدعى " فرنصيص " جاء من صقلية مع النصارى يريد المؤلف - عبد الله الترجمان - وكان صديقا حميما له(23/378)
أيام الدراسة إذ كانا يتعلمان معا، ولما بلغه إسلام صديقه حزن عليه حزنا شديدا، وتأسف على تركه دين النصارى.
فلما كان الوفد على السفينة أرسل " فرنصيص " رسالة إلى المؤلف يناشده فيها صداقته القديمة، ويعرض المناصب العليا عنده؛ ليرجع معه إلى صقلية ويرتد إلى دين النصارى مرة أخرى، ولما وصلت الرسالة إلى الأمير أخفاها عن المؤلف، وأمر بترجمتها قبل أن يسلمها إليه، وبعد ما اطلع على محتوى الرسالة استغرب بما كان يهدف إليه القسيس الصقلي من هذا السفر وبما اقترح على زميله، ثم أراد الأمير أن يختبر المؤلف في دينه وعقيدته، فأمره أيضا بترجمتها متجاهلا عن مضمونها، فوجدها موافقة للترجمة السابقة، ثم سأله عما سيرد به على زميله؟
فقال: يا مولاي أنت تعلم بماذا سأرد به؛ لأني ما أسلمت للجاه والمال، ولكني دخلت في الإسلام بعد ما اقتنعت به.
فلما سمع الأمير هذا الكلام من المؤلف مدحه وأثنى عليه، ولكنه اقترح عليه من باب مخادعة العدو أن يكتب إلى صديقه " فرنصيص ": أنك لو قمت بالسعي والمحاولة في فكاك أموال المسلمين من أيدي النصارى، فسوف أحتال في الخروج إليك مع من يقوم بوزن أموال المسلمين، ثم أهرب معكم ليلا.
فكتب المؤلف كما طلب منه الأمير امتثالا لأمره، وتحقق له ما أراد بهذه الحيلة، قام النصارى بفداء أموال المسلمين، والراهب ينتظر صديقه ويتوقع حضوره في السفينة إلى آخر لحظة وزن الأمتعة والأموال، حتى تنبه للخدعة بعد نجاحها، وانتكس على خيبة أمله. وبهت الذي كفر.(23/379)
وفاته:
لم أعثر على تاريخ وفاته في كتب التراجم إلا أنه كان حيا في عام (823 هـ) ؛ فإنه قد انتهى من تأليف هذا الكتاب في ذلك العام كما صرح بذلك في الكتاب (1) .
هذا آخر ما أردت عرضه من قصة حياة هذا الرجل المجاهد المهاجر إلى الله ورسوله، ويليه التعريف عن كتابه القيم " تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب " وعرض بعض الإفادات العلمية منه بإذن الله وتوفيقه.
__________
(1) انظر تحفة الأريب (ص 25) .(23/380)
كتابه: تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب:
لم يكن صاحبنا- عبد الله الترجمان - كثير التأليف والتصنيف، لم أعثر على كتاب له غير هذا الكتاب الذي نحن بصدد تعريفه. ولعل السبب في ذلك هو اشتغاله بالأمور الإدارية في الدولة - كما سبق التنويه به في قصة حياته.
غير أن المؤلف قد وعد في آخر هذا الكتاب بتأليف كتاب في البشارات الواردة في رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
ولم أقف على أثر لهذا الكتاب، ولا أدري هل وفقه الله عز وجل لتحقيق أمنيته، أم وافته المنية قبل ذلك. والله أعلم. .
أما كتابه: " تحفة الأريب " فهو بلا شك من أكبر التراث العلمي(23/380)
في بابه، فهو من المؤلفات القيمة في دراسة الديانة المسيحية، ونقد أصولها وعقائدها نقدا علميا دقيقا.
والكتاب كما هو واضح من اسمه سلسلة من الدراسات في الأديان التي قام بها العلماء المسلمون عبر القرون؛ لكشف فضائح الشرك والكفر، والبدع والأوهام التي لا تزال تجد طريقها إلى ضعاف العقول - في مظاهر متنوعة وأساليب شتى- على مر العصور.
ولا ريب أن النصرانية المحرفة على يدي شاول وأتباعه، مظهر من مظاهر الشرك، وانحراف عن فطرة الله التي فطر الناس عليها.
وترجع أهمية هذا الكتاب إلى أن مؤلفه - قبل أن هداه الله إلى دين الحق - كان يعتنق النصرانية، وكانت له قدم راسخة في معرفة عقائدها وشرائعها، وتاريخها، فهو من أكبر علماء النصارى في عصره باعتراف من أهله.
ومن هنا كانت دراسة المؤلف للنصرانية، دراسة علمية دقيقة، كما كانت ضربة قوية على بنيان النصرانية؛ لأن المؤلف قام بالمقارنة بين نصوص الأناجيل، والكتب الأخرى المنسوبة إلى أنبياء بني إسرائيل في ضوء خطة منهجية علمية، وكشف النقاب عن فضائح التناقض بين تلك النصوص، وأوضح بطلان ما حكاه مؤلفو الأناجيل من الكذب والافتراء على الله ورسوله عيسى عليه السلام.
منهجه وخطته في هذا الكتاب:
يرى المصنف أنه اتبع في الرد على النصارى منهجا أغفله معظم المؤلفين قبله، وهو الجمع بين الدلائل العقلية والنقلية.(23/381)
فهو يقول في معرض بيان أسباب التأليف لهذا الكتاب:
" وجدت تصانيف علمائنا الإسلاميين - رضي الله عنهم - محتوية على ما لا مزيد عليه إلا أنهم - رحمهم الله - قد سلكوا في معظم احتجاجهم على أهل الكتاب من النصارى واليهود مسلك مقتضيات المعقول، إلا الحافظ أبو محمد ابن حزم - رحمه الله - فإنه قد رد عليهم بالمعقول والمنقول خصوصا ما في كتبهم، وأعرضوا عن الاحتجاج عليهم لمقتضى المنقول إلا في نادر من المسائل، فكنت شديد الحرص على أن أضع في الرد عليهم موضوعا بطريق النقل والقياس، وتتفق عليه العقول والحواس (1) .
هذا، وقد عقد المؤلف في الكتاب ثلاثة فصول:
أما الفصل الأول: فقد ذكر فيه قصة حياته من ولادته إلى هجرته إلى بلاد تونس، وإسلامه على يدي الأمير أبي العباس أحمد المستنصر (ت 796 هـ) وبين فيه ما تولاه من الوظائف في حكمه.
وأما الفصل الثاني: فقد ذكر فيه سيرة الأمير أبي فارس عبد العزيز بن أحمد، وأعماله، وما حصل في أيامه من الأمور والحوادث خاصة مما له علاقة بالمؤلف.
__________
(1) انظر: تحفة الأريب (ص 21 - 22) .(23/382)
وخصص الفصل الثالث: في الرد على النصارى، وهو الغرض الأول من تأليف هذا الكتاب.
وهذا الفصل يشتمل على تسعة أبواب:
الباب الأول: في ذكر مؤلفي الأناجيل الأربعة، وبيان كذبهم.
الباب الثاني: في بيان تفرق النصارى إلى فرق مختلفة.
الباب الثالث: في بيان فساد أصول النصارى، والرد عليها من نصوص أناجيلهم.
الباب الرابع: في بيان عقائد شريعتهم، والرد عليها من أناجيلهم.
الباب الخامس: في إثبات بشرية عيسى عليه السلام، والرد على النصارى في معتقدهم في عيسى عليه السلام.
الباب السادس: في ذكر اختلاف مؤلفي الأناجيل فيما بينهم، وبيان كذبهم.
الباب السابع: في بيان ما نسبه النصارى كفرا وافتراء إلى عيسى عليه السلام.
الباب الثامن: في بيان ما يعترض به النصارى على المسلمين.
الباب التاسع: بيان البشارات الواردة في رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام، وبقاء ملته إلى يوم القيامة.
هذه هي الخطة التي سار عليها المؤلف في تأليف هذا الكتاب، ولكي يعرف القارئ أهمية هذا الكتاب، وقيمته العلمية، أقتبس بعض النماذج مما كتبه في الفصل الثالث.(23/383)
يقول في الباب الأول " في ذكر مؤلفي الأناجيل":
" اعلموا - رحمكم الله - أن الذين كتبوا الأناجيل أربعة، هم:
متى، ماركوس، ولوقا، ويوحنا. وهؤلاء هم الذين أفسدوا دين عيسى، وزادوا ونقصوا وبدلوا كلام الله. . وليس هؤلاء من الحواريين الذين أثنى الله عليهم (تحفة الأريب ص 58) .
وقال في تعريف لوقا: " أما لوقا، فلم يدرك عيسى عليه السلام، ولا رآه أبدا، وإنما تنصر بعد رفع عيسى عليه السلام، وكان تنصر على يد بولس الإسرائيلي، وبولس أيضا لم يدرك عيسى، ولا رآه، وكان من أكبر أعداء النصارى، حتى حصل بيده أمر من ملوك الروم بأنه حيثما وجد نصرانيا يأخذه ويحمله إلى بيت المقدس، ويسجنه هناك. (تحفة الأريب ص 60-61) .
وقال في الباب الثالث " في بيان عقيدتهم في التثليث ": " وعندهم لا يمكن دخول الجنة إلا به على ما شهدت به أئمة الضلال(23/384)
والكفر، والإضلال من أوائلهم، فيؤمنون بأن الله - تعالى عن قولهم - ثالث ثلاثة، وأن عيسى هو ابن الله، وأن الله له طبيعتين: ناسوتيه، ولاهوتيه، وتلك الطبيعتان صارتا شيئا واحدا، فصار اللاهوت إنسانا محدثا تاما مخلوقا، وصار الناسوت إلها تاما خالقا غير مخلوق ".
ويستنكر هذه العقيدة عليهم قائلا: " ولا يشك ذو عقل سليم أن كل من له مسكة من العقل يجب عليه أن يحول نفسه عن اعتقاد هذا الإفك الغثيث البارد، السخيف الرذيل الفاسد، الذي تتنزه عنه عقول الصبيان، ويضحك منه، ومنهم ذوو الأفهام والأذهان، فالحمد لله الذي أخرجني من زمرتهم، وعافاني من بينهم ". (تحفة الأريب ص 76-77) .
هذا وقد رد على هذه العقيدة من نص الإنجيل، وبين أن هذه العقيدة تناقض ما حكاه متى في إنجيله عن المسيح؛ فإنه كتب في الفصل السادس والعشرين: " أن عيسى عليه السلام حين عزم اليهود على أخذه وقتله، تغير في تلك الليلة، وحزن حزنا شديدا ". (انظر: إنجيل متى 26 عدد 37) .
يقول المؤلف: " وكل من يحزن فليس بإله، ولا بابن إله عند كل ذي عقل صحيح، وإن هذا لأشنع من قولهم في هذه القاعدة.
بأن عيسى له طبيعتان: لاهوتية وتاسوتية، وإنهما صارتا شيئا واحدا.
وهذا أقبح ممن يقول: إن الماء والنار صارا شيئا واحدا.
ثم يتساءل منهم ويقول: وأين كان لاهوته لما مات ناسوته؟(23/385)
لا سيما على قولهم: " إنهما اتحدا وتمازجا والتحما " فما الذي فرق بينهما عندما ضرب جسده وناسوته السياط - على زعمهم - وعصب رأسه بالشوك، وصلب على خشبة، وطعن بالرماح حتى مات وهو يصيح جزعا وخوفا؟!
فأين غاب لاهوته عن ناسوته في هذه الشدائد؟ مع الممازجة والالتحام على قولهم؟! (تحفة الأريب ص 79) .
وقال في معرض إثبات بشرية عيسى (عليه السلام) :
قال مرقوس في آخر إنجيله: إن عيسى قال: وهو على خشبة الصلب بزعمهم: " إلهي إلهي لم خذلتني؟ " (انظر: إنجيل مرقوس الأصحاح 15 عدد 34) .
وذلك آخر ما تكلم في الدنيا، وحاشاه أن يكون الله خذله، أو تمكن اليهود من صلبه، وإنما احتججنا على النصارى به؛ لأنهم قد رضوه من نصوص أناجيلهم، وهم مصدقون به ".
وفيه تصريح بأن عيسى قال: " يا إلهي يا إلهي " فأقر بأن له إلها يدعى في الشدائد، وتبرأ من ادعاء الألوهية لنفسه ".
فلزم تكذيب عقائد النصارى ضرورة لا محيد لهم عنها، ولكنهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون.
وفي باب بشارات الأنبياء الواردة في رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال:
ومن ذلك ما جاء في الفصل الثالث والثلاثين من كتاب الخامس من التوراة، أن الرب تعالى جاء من طور سيناء، وطلع إلينا من ساعير،(23/386)
وظهر من جبل فاران، وإن رايات القديسين معه وعن يمينه ".
فقوله: جاء الله من طور سيناء، يريد بمجيئه ظهور دينه، وتوحيده (تبارك وتعالى) بما أوحى إلى موسى بطور سيناء ".
" وطلع من ساعير " يعني جبلان بالشام به كان ظهور دين عيسى (عليه السلام) بما أوحاه الله إليه.
وظهر في جبل " فاران " يريد بما أوحى الله تعالى من دين الإسلام بمكة، والحجاز إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
فإن فاران اسم رجل من ملوك العمالقة الذين اقتسموا الأرض، فكان الحجاز وتخومه لفاران، فتسمى القطر كله باسمه.
وقوله: " إن رايات القديسين معه وعن يمينه ".
فالقديسون، هم الرجال الأولياء الصالحون، والمراد بهم هنا أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم الذين كانوا معه، وعن يمينه، فلم يفارقوه قط رضي الله عنهم.
ثم قال: " ومن ذلك ما اتفق عليه الأربعة الذين كتبوا الأناجيل الأربعة: أن عيسى عليه السلام قال للحواريين حين رفع إلى السماء: " إني أذهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم وأبشر بنبي يأتي من بعدي اسمه " بأرقليط ".
وهذا الاسم الشريف هو باللسان اليوناني، وتفسيره بالعربية " أحمد " كما قال الله تعالى في كتابه العزيز:(23/387)
{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (1) وهو في الإنجيل اللاطيني " براكلتس "، وهذا الاسم الشريف هو الذي كان سبب إسلامي. كما تقدم ذكره في أول هذا الكتاب. (تحفة الأريب ص 137) .
والله أعلم،،،
عبد القيوم محمد شفيع البستوي
__________
(1) سورة الصف الآية 6(23/388)
قرار هيئة كبار العلماء
رقم 146 وتاريخ 11 \ 7 \ 1408 هـ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، وقائد الغر المحجلين وإمام المتقين، نبينا محمد وعلى آله ذوي الصدق والوفاء، وأصحابه أكرم الصحب وأصدق الشرفاء من أتباع الأنبياء. وبعد:
فإن مجلس هيئة كبار العلماء قد اطلع في دورته الحادية والثلاثين المعقودة في مدينة الرياض ابتداء من يوم 3 \ 7 \ 1408 هـ وانتهاء بيوم 11 \ 7 \ 1408 هـ على نتائج مؤتمرات وندوات علماء المسلمين خارج المملكة العربية السعودية في القارة الهندية وغيرها من بلدان المسلمين في آسيا وأفريقيا وفي مصر والسودان وسواها، وتوالت تلك المؤتمرات والندوات تندد وتستنكر وتحذر مما يرتكبه الإيرانيون باسم الإسلام، وهذه المؤتمرات والندوات عقدها هؤلاء العلماء إثر الجريمة النكراء التي قام بها أعوان حكام إيران في موسم الحج عام 1407 هـ، تلك الجريمة التي هزت العالم الإسلامي أجمع، وأقلقت علماء المسلمين في كل مكان، فنددوا بها في حينها، واستنكروها أيما استنكار، ووصفوها بأنها إلحاد في الحرم، وصد عن سبيل الله وجرأة على حرمة الآمن، وإيذاء لحجاج بيته الكريم. ثم بعد عودة الحجاج إلى أوطانهم ونقلهم الفظائع(23/389)
التي عرفوا واقعها، وأطلعوا على نتائجها المسلمين في بلادهم، وما استحله أعوان الخميني من حرمة الحرم، ودماء الحجاج، هب العلماء لتبصير المسلمين بأحوال قادة هذه الفتنة، وبينوا في قراراتهم خبث مقاصد مثيريها وبعدهم عن الإسلام، وأن ذلك من الإلحاد الذي يجب أن يعرفه المسلمون فيكافحوه، وقد صرحت هذه المؤتمرات والندوات بعدوان من أتى هذه الأعمال الشنيعة وإلحاده في حرم الله.
وبعد استعراض مجلس هيئة كبار العلماء لنتائج هذه المؤتمرات والندوات العلمية لعلماء العالم الإسلامي، رأى إصدار قرار بتأييد ما توصلت إليه تلك المؤتمرات والندوات من استنكار وما أرادته من تنبيه المسلمين إلى خطر هذه الفئة المنحرفة، والطائفة المجرمة التي سفكت دماء الإيرانيين في إيران بلا تمييز بين الفرق، وصدرت جرائهما إلى الحرمين الشريفين تريد إخافة المسلمين، وترويع الحجاج الآمنين، ونشر المبادئ التي يعلن عنها الخميني في نشراته الإلحادية الشرسة وسطرها في كتبه العربية والفارسية التي تهدف في النهاية إلى صرف المسلمين عن القرآن الكريم وتعطيل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، والتي نقلها عنه صحابته الكرام رضي الله عنهم، وتسعى هذه الأفكار إلى وصف أكرم هذه الأمة وهم صحابة رسول الله بالنفاق والكفر، وهذا صريح من كلام الخميني وأعوانه، وأن من لم يأخذ بها فدمه هدر عند هؤلاء الطغاة، ولا حرمة لماله أو عرضه.
ولقد سبق أن صدر بيان استنكاري عن هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية فور وقوع الجريمة الخمينية على الحجاج، والتي أرادوا لها أن تفسد على المسلمين حجهم، ولكن الله لطف، فوفق الحكومة السعودية إلى معالجتها بحكمة وحزم، فحج المسلمون آمنين(23/390)
ورجعوا يحملون أبشع صورة لأعمال الخميني وأعوانه، وقد أوضح المجلس في بيانه المذكور استنكاره لأعمال هؤلاء المجرمين، وإظهار صلتهم بأعداء المسلمين السابقين من القرامطة الذين انتهكوا حرمة البلد الحرام في الشهر الحرام. ومؤتمرات حكومة طهران تظهر مقاصد هذه الفئة الباغية، وما تبيته لدول العالم الإسلامي في جزيرة العرب والمغرب الإسلامي لتحولها إلى حكومات خمينية، وترى أن غير هذه الدول أسهل أمرا، ولكن الله سيخيب آمال الخميني وأعوانه كما خيب آمال أسلافه.
إن مجلس هيئة كبار العلماء يرى من أجل فضح هذه الفئة أن يوضح بعض ما ظهر من أعمالها بمناسبة ما تتابع من مؤتمرات وندوات إسلامية، واستنكارات واسعة النطاق، وذلك بما يلي:
لقد سلكت هذه الفئة المخذولة شتى السبل، واستخدمت كافة الوسائل، بهدف إقناع مختلف الأوساط بأن النظام الإيراني هو قائد الحركة الإسلامية، وحامل لواء الجهاد لتصحيح أحوال المسلمين فيما يزعم هؤلاء، وأن الخميني هو إمام المسلمين، وتهدف هذه الحركة في النهاية إلى تحويل المسلمين لمبادئ الخميني وأتباعه، وخصوصا في المناطق التي لا تعرف حقيقة دعوته الضالة.
وقد سلكت هذه الفئة المنحرفة مختلف الطرق لنشر ضلالها، وإحداث الفتن في بلاد المسلمين، ومن أعظم ذلك استغلالهم موسم الحج للدعاية والتشويش، وإزعاج الحجيج وإشغالهم عن أداء مناسكهم بالهتافات السخيفة، والمسيرات المزعجة، والتجمعات الصاخبة ورفع صور زعماء الفتنة والهتاف بأسمائهم، وقد كان من نتائج ذلك تلك الجريمة المروعة، حيث انتهكوا حرمة البلد الحرام، في الشهر الحرام، وحملوا السلاح وقاموا بأعمالهم الإجرامية في اليوم السادس من شهر ذي(23/391)
الحجة من عام 1407 هـ، وقد سقط فيها مئات القتلى والجرحى، وقد سبقهم لمثل هذه الجريمة سلفهم وقدوتهم من القرامطة الملحدين، الذين استباحوا حرم الله وقتلوا حجاج بيته العتيق، وملأوا بئر زمزم بجثث القتلى.
إن مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية إذ يسوق هذه الحقائق لينبه المسلمين إلى خطورة الأمر، وهو أن المجتمع الإسلامي يواجه هجمة شرسة غريبة عليه، هي امتداد لهجمات الإلحاد والإباحية التي قام بها العبيديون والقرامطة الذين لا تخفى آثارهم السيئة على الإسلام والمسلمين، فلينتبه المسلمون إلى الخطر المحدق بهم، وليسلكوا كل طريق لمقاومة هذا العدو الخبيث المتمثل في الخميني ودعاته، وعلى علماء المسلمين وأرباب القلم والفكر المسلمين كشف زيف هؤلاء الدخلاء على الإسلام، والحاقدين عليه، وبيان حقيقتهم، وتحذير المسلمين من الانخداع بزيفهم وبنفاقهم، ويكفي لمعرفة ضلال الخميني الرجوع إلى كتبه، والاطلاع على ما أورده فيها ومن ذلك ما قاله في كتابه (الحكومة الإسلامية) تحت عنوان (الولاية التكوينية) صفحة (52) حيث يقول: (إن للأئمة مقاما محمودا ودرجة سامية، وخلافة تكوينية، وتخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون، وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاما لا يبلغه ملك مقرب، ولا نبي مرسل) .
ويتجاهل في كتابه هذا حكومة الخلفاء الراشدين الثلاثة الذين سبقوا عليا، فيقول صفحة (26) : (لقد ثبت بضرورة الشرع والعقل أن ما كان ضروريا أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي عهد الإمام أمير المؤمنين من وجود الحكومة لا يزال ضروريا إلى يومنا هذا) ويقول صفحة (71) : (وكان الرسول صلى الله عليه وسلم وأمير المؤمنين(23/392)
يقولون ويعملون) . ويقول في موضع آخر من كتابه هذا متهما الصحابي الجليل سمرة بن جندب رضي الله عنه بأنه يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم صفحة (60) : (ففي الرواة من يفتري على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث لم يقلها، ولعل راويا كسمرة بن جندب يفتري أحاديث تمس من كرامة أمير المؤمنين) .
فهذه مقتطفات من كلام الخميني تؤكد عقيدته ببطلان ما عليه المسلمون، وطعنه وتنقصه لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم اعترافه بخلافة الخلفاء الراشدين الثلاثة، وغلوه وتأليهه لبعض المخلوقات.
وإن مجلس هيئة كبار العلماء - بعد هذا الإيضاح- يؤيد حكومة خادم الحرمين الشريفين في جميع الخطوات التي اتخذت لصد الفتنة الخمينية في الحج والقضاء عليها.
كما يرى المجلس أنه يجب على حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز حماية حجاج بيت الله الحرام وتأمين سبلهم، ومنع من تسول له نفسه العبث بأمن الحجيج، ومن لم يلتزم بترك الأذى والشغب والمظاهرات وإيذاء المسلمين، يمنع من دخول الأماكن المقدسة.
وإن المجلس إذ يقرر ذلك يسأل الله سبحانه أن يحفظ لهذه الأمة دينها، ولهذه البلاد المقدسة أمنها وسلامتها، وأن يرد كيد الأعداء في نحورهم، وأن يوفق المسلمين في كل مكان للتمسك بشريعة ربهم، والسير على منهج نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(23/393)
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
عبد الله خياط ... عبد العزيز بن صالح ... عبد الرزاق عفيفي
سليمان بن عبيد ... محمد بن جبير ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
صالح بن غصون ... عبد المجيد حسن ... راشد بن خنين
عبد الله بن منيع ... صالح اللحيدان ... عبد الله بن غديان
حسن بن جعفر العتمي ... عبد الله البسام ... محمد بن صالح العثيمين
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ ... صالح الفوزان(23/394)
النهي
عن عضل البنات
سماحة الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه، أما بعد: فقد بلغني من بعض الثقات أن بعض الناس يمتنع عن تزويج بناته وأخواته من غير أسرته أو قبيلته، وقد كدرني ذلك كثيرا؛ لما فيه من الظلم لهن ومخالفة للشرع المطهر، وقد قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (1) ، «وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكرم الناس؟ فقال: أتقاهم (2) » .
وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنتيه رقية وأم كلثوم رضي الله عنهما على عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو من بني أمية، وزوج صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس القرشية مولاه أسامة بن زيد، وزوج الصديق ابنته أسماء الزبير بن العوام وهو ليس من قبيلته بني تميم. وزوج علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابنته أم كلثوم على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو عدوي وليس من بني هاشم، وزوج عبد الرحمن بن عوف الزهري القرشي أخته بلال بن رباح الحبشي وهو مولى ومن العجم وليس من العرب، والواقعات في هذا كثيرة.
فالواجب عليكم أن تسلكوا مسلك هؤلاء الأخيار وأن تزوجوا بناتكم
__________
(1) سورة الحجرات الآية 13
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3353) ، صحيح مسلم الفضائل (2378) ، مسند أحمد بن حنبل (2/431) .(23/395)
وأخواتكم من الأكفاء من سائر قبائل العرب، ولا تحبسوهن؛ فإن ذلك ظلم لهن ومخالفة ظاهرة لما درج عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم، وليس في حبسهن عزلهن ولا عزلكم، بل هو نقص على الجميع.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما تواضع أحد لله إلا رفعه (1) » . خرجه الإمام مسلم في صحيحه، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أيضا أنه قال: «إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد (2) » . وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر (3) » . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
ولخوفي عليكم ووجوب النصح لكم عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة (4) » ، حررت هذه الرسالة نصحا لكم وخوفا عليكم ورحمة لنسائكم، والله سبحانه سائلكم يوم القيامة عن ظلمكم لهن، وسوف يجازي كلا بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر، كما قال الله سبحانه: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (5) .
وبهذه المناسبة أوصيكم بالتسامح في المهور والولائم وعدم التكلف؛ لأن ذلك مما يعين على إعفاف رجالكم ونسائكم، والله جل وعلا المسؤول أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه، وأن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. . وأن يهدينا جميعا صراطه المستقيم، إنه جواد كريم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2588) ، سنن الترمذي البر والصلة (2029) ، مسند أحمد بن حنبل (2/386) ، موطأ مالك الجامع (1885) ، سنن الدارمي الزكاة (1676) .
(2) صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2865) ، سنن أبو داود الأدب (4895) ، سنن ابن ماجه الزهد (4179) .
(3) صحيح مسلم الإيمان (91) ، سنن الترمذي البر والصلة (1999) ، سنن أبو داود اللباس (4091) ، سنن ابن ماجه المقدمة (59) ، مسند أحمد بن حنبل (1/416) .
(4) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4197) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(5) سورة النجم الآية 31(23/396)
التحذير من إيداع الأموال في البنوك أو غيرها
لغرض الحصول على الربا
سماحة الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد: -
فقد اطلعت على إعلان باللغة الإنجليزية كان قد نشر في جريدة الرياض الصادرة في يوم الأربعاء الموافق 14 \ 10 \ 1407هـ. وقد تضمن الدعاية لإيداع الأموال في البنك الفدرالي للشرق الأوسط الكائن في دولة قبرص؛ للحصول على نسبة أعلى من الفوائد الربوية من البنك المذكور.
ولا يخفى على كل مسلم بصير بدينه أن التعامل بالربا وأكله منكر ومن كبائر الذنوب، كما قال الله عز وجل:
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (2) .
وقد جعل الله سبحانه ذلك محاربة له ولرسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال:
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 276(23/397)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (2) .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء (3) » . والآيات والأحاديث في التحذير من الربا وبيان عواقبه الوخيمة كثيرة جدا، فالواجب على كل من يتعاطى ذلك التوبة إلى الله سبحانه منه، وترك المعاملة به مستقبلا وعدم الانصياع لمثل هذه الدعايات الباطلة طاعة لله سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وحذرا من العقوبات المترتبة على ذلك عاجلا وآجلا، وابتعادا عن الوقوع فيما حرم الله، عملا بقوله سبحانه وتعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4) .
وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (5) . الآية.
وأسأل الله أن يوفقنا وجميع المسلمين للتوبة إليه من جميع الذنوب، وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) صحيح مسلم المساقاة (1598) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) .
(4) سورة النور الآية 31
(5) سورة التحريم الآية 8(23/398)
حديث شريف
عن عقبة بن عامر قال: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض وإني لناظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها. قال: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) »
رواه البخاري
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4042) ، صحيح مسلم الفضائل (2296) ، سنن النسائي الجنائز (1954) ، سنن أبو داود الجنائز (3223) ، مسند أحمد بن حنبل (4/149) .(23/399)
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1)
(سورة التوبة، الآية 60)
__________
(1) سورة التوبة الآية 60(24/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(24/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ـ الرياض
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(24/3)
المحتويات
الافتتاحية:
نصح وإرشاد سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
الرهن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 14
الفتاوى:
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 57
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 95
البحوث:
البدعة وأثرها في الانحراف في الاعتقاد الشيخ / عبد الله بن سليمان المنيع 103
رد أوهام أبي زهرة في حق شيخ الإسلام ابن تيمية وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب الشيخ / صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان 122(24/4)
الأسس المنهجية لموقف أهل السنة من قضية الصفات وضوابطها الدكتور / محمد عبد الله عفيفي 150
شيخ الإسلام ابن تيمية، حامل راية الكتاب والسنة الدكتور / محمد لقمان السلفي 203
أسس اختيار الزوجة. الشيخ / مصطفى عيد الصياصنة 235
عمرو بن حزم الأنصاري الخزرجي اللواء الركن / محمود شيت خطاب 290
رؤية وفكرة تاريخية لرعاية الحرمين الشريفين الدكتور / محمد محمد إبراهيم زغروت 308
علمتني الصلاة الشيخ / منذر الحرير 352
متى تثبت رؤية الهلال ثبوتا شرعيا وجب العمل بها سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 376
تعقيب على فضيلة الشيخ عبد الله كنون سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 382
قرار هيئة كبار العلماء رقم 148 وتاريخ 12 / 1 / 1409هـ 384(24/5)
صفحة فارغة(24/6)
الافتتاحية
نصح وإرشاد
سماحة الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد.
فيا معشر المسلمين:
فمما لا شك فيه لكل ذي عقل سليم أن الأمم لا بد لها من موجه يوجهها ويدلها على طريق السداد، وأمة الإسلام هي أخص الأمم بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والواجب يحتم على كل مسلم بقدر استطاعته وعلى حسب مقدرته أن يشمر عن ساعد الجد في النصح والتوجيه؛ حتى تبرأ ذمته ويهتدي به غيره. قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (1) .
ولا ريب أن كل مؤمن بل كل إنسان في حاجة شديدة إلى التذكير بحق الله وحق عباده، والترغيب في أداء ذلك، وفي حاجة شديدة إلى التواصي بالحق والصبر عليه، وقد أخبر الله سبحانه في كتابه المبين عن صفة الرابحين وأعمالهم الحميدة، وعن صفة الخاسرين وأخلاقهم الذميمة، وذلك في آيات كثيرات من القرآن الكريم، وأجمعها ما ذكره الله سبحانه في سورة العصر حيث قال:
{وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) .
__________
(1) سورة الذاريات الآية 55
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3(24/7)
فأرشد عباده عز وجل في هذه السورة القصيرة العظيمة إلى أن أسباب الربح تنحصر في أربع صفات:
الأولى: الإيمان. والثانية: العمل الصالح. والثالثة: التواصي بالحق. والرابعة: التواصي بالصبر.
فمن كمل هذه المقامات الأربعة فاز بأعظم الربح، واستحق من ربه الكرامة والفوز بالنعيم المقيم يوم القيامة. ومن حاد عن هذه الصفات ولم يتخلق بها باء بأعظم الخسران، وصار إلى الجحيم دار الهوان.
وقد شرح الله سبحانه في كتابه الكريم صفات الرابحين ونوعها وكررها في مواضع كثيرة من كتابه؛ ليعرفها طالب النجاة فيتخلق بها ويدعو إليها. وشرح صفات الخاسرين في آيات كثيرة؛ ليعرفها المؤمن ويبتعد عنها، ومن تدبر كتاب الله وأكثر من تلاوته عرف صفات الرابحين وصفات الخاسرين على التفصيل. كما قال سبحانه ذلك في آيات كثيرة، منها ما تقدم، ومنها قوله جل وعلا:
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (1) وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (3) .
وصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (4) » . وقال -صلى الله عليه وسلم- في خطبته في حجة الوداع على رؤوس الأشهاد يوم عرفة: «إني تارك فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به كتاب الله (5) » فبين الله سبحانه
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) سورة ص الآية 29
(3) سورة الأنعام الآية 155
(4) صحيح البخاري فضائل القرآن (5027) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2907) ، سنن أبو داود الصلاة (1452) ، سنن ابن ماجه المقدمة (211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/69) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338) .
(5) سنن الترمذي المناقب (3788) ، مسند أحمد بن حنبل (3/17) .(24/8)
في هذه الآيات أنه أنزل القرآن ليتدبره العباد ويتذاكروا به ويتبعوه ويهتدوا به إلى أسباب السعادة والعزة والنجاة في الدنيا والآخرة، وأرشد الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى تعلمه وتعليمه، وبين أن خير الناس هم أهل القرآن الذين يتعلمون القرآن ويعلمونه غيرهم بالعمل به واتباعه والوقوف عند حدوده، والحكم به والتحاكم إليه. وأوضح عليه الصلاة والسلام للناس في المجمع العظيم يوم عرفة أنهم لن يضلوا ما داموا معتصمين بكتاب الله سائرين على تعاليمه.
ولما سار السلف الصالح والصدر الأول من هذه الأمة على تعاليم القرآن وسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أعزهم الله ورفع شأنهم ومكن لهم في الأرض تحقيقا لما وعدهم الله به في قوله سبحانه:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (1) .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (2) .
وقال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (3) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (4) .
فيا معشر المسلمين؛ تدبروا كتاب ربكم، وأكثروا من تلاوته، وامتثلوا ما فيه من الأوامر، واجتنبوا ما فيه من النواهي، واعرفوا الأخلاق والأعمال التي مدحها القرآن؛ فسارعوا إليها وتخلقوا بها، واعرفوا الأخلاق والأعمال
__________
(1) سورة النور الآية 55
(2) سورة محمد الآية 7
(3) سورة الحج الآية 40
(4) سورة الحج الآية 41(24/9)
التي ذمها القرآن وتوعد أهلها؛ فاحذروها وابتعدوا عنها، وتواصوا فيما بينكم بذلك، واصبروا عليه حتى تلقوا ربكم، وبذلك تستحقون الكرامة، وتفوزون بالنجاة والسعادة والعزة؛ في الدنيا والآخرة. ومن أهم الواجبات على المسلمين: العناية بسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والتفقه فيها، والسير على ضوئها؛ لأنها الوحي الثاني، وهي المفسرة لكتاب الله، والمرشدة إلى ما قد يخفي من معانيه، كما قال الله سبحانه في كتابه الكريم:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1) .
وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (2) .
وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (3) .
وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4) .
والآيات الدالة على وجوب اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتعظيم سنته والتمسك بها والتحذير من مخالفتها أو التهاون بها كثيرة جدا، يعلمها من تدبر القرآن الكريم وتفقه فيما جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الأحاديث الصحيحة، ولا صلاح للعباد، ولا سعادة، ولا عزة، ولا كرامة، ولا نجاة في الدنيا والآخرة؛ إلا باتباع القرآن الكريم، وسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمهما، والتواصي بهما في جميع الأحوال، والصبر على ذلك، كما قال الله عز وجل:
__________
(1) سورة النحل الآية 44
(2) سورة النحل الآية 89
(3) سورة الأحزاب الآية 21
(4) سورة النور الآية 63(24/10)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (1) .
وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) .
وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (3) .
فأرشد الله سبحانه العباد في هذه الآيات الكريمات إلى أن الحياة الطيبة والراحة والطمأنينة والعزة الكاملة إنما تحصل لمن استجاب لله ولرسوله واستقام على ذلك قولا وعملا، وأما من أعرض عن كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام واشتغل عنهما بغيرهما فإنه لا يزال في العذاب والشقاء، في الهموم والغموم والمعيشة الضنك، وإن ملك الدنيا بأسرها، ثم ينقل إلى ما هو أشد وأفظع وهو عذاب النار وعياذا بالله من ذلك كما قال تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} (4) {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (5) .
وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (6) {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (7) .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 24
(2) سورة النحل الآية 97
(3) سورة المنافقون الآية 8
(4) سورة التوبة الآية 54
(5) سورة التوبة الآية 55
(6) سورة طه الآية 123
(7) سورة طه الآية 124(24/11)
وقال عز من قائل:
{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (1) .
وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (2) {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (3) .
قال بعض المفسرين: إن هذه الآية تعم أحوال الأبرار والفجار في الدنيا والآخرة، فالمؤمن في نعيم في دنياه وقبره وآخرته، وإن أصابه في الدنيا ما أصابه من أنواع المصائب؛ كالفقر والمرض ونحوهما، والفاجر في جحيم في دنياه وقبره وآخرته، وإن أدرك ما أدرك من نعيم الدنيا. وما ذاك إلا لأن النعيم في الحقيقة هو نعيم القلب وراحته وطمأنينته. فالمؤمن؛ بإيمانه بالله، واعتماده عليه، واستغنائه به، وقيامه بحقه، وتصديقه بوعده: مطمئن القلب، منشرح الصدر، مرتاح الضمير. والفاجر؛ لمرض قلبه، وجهله، وشكه، وإعراضه عن الله، وتشعب قلبه في مطالب الدنيا وشهواتها: في عذاب وقلق وتعب دائم، ولكن سكرة الهوى والشهوات تعمي العقول عن التفكير في ذلك والإحساس به.
فيا معشر المسلمين؛ انتبهوا لما خلقتم له من عبادة الله وطاعته، وتفقهوا في ذلك، واستقيموا عليه؛ حتى تلقوا ربكم عز وجل؛ فتفوزوا بالنعيم المقيم، وتسلموا من عذاب الجحيم.
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (4) {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} (5) {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} (6) .
__________
(1) سورة السجدة الآية 21
(2) سورة الانفطار الآية 13
(3) سورة الانفطار الآية 14
(4) سورة فصلت الآية 30
(5) سورة فصلت الآية 31
(6) سورة فصلت الآية 32(24/12)
وقال عز وجل:
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1) {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) .
والله المسؤول أن يجعلنا وإياكم منهم، وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 13
(2) سورة الأحقاف الآية 14(24/13)
الرهن
إعداد: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فبناء على ما تقرر في الدورة السابقة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في الطائف في شعبان عام 1395 هـ بالمحضر رقم 9 وتاريخ 11 \ 8 \ 1395هـ من إدراج اشتراط قبض الرهن في لزومه وعدم اشتراطه أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا مشتملا على العناصر الآتية:
1 - تعريف الرهن لغة واصطلاحا والمناسبة بين المعنيين.
2 - حكم الرهن مع الأدلة والمناقشة.
3 - حكمته.
4 - الخلاف في اشتراط استدامة قبض الرهن في لزومه وعدم اشتراطه مع الأدلة والمناقشة.
5 - الخلاف في اشتراط استدامة القبض وعدم اشتراطها مع الأدلة والمناقشة.
6 - ما يعتبر قبضا للرهن مع الأدلة والمناقشة.
7 - حكم الرهن بعد القبض مع الأدلة والمناقشة.
وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(24/14)
أولا: تعريف الرهن لغة وشرعا والمناسبة بين المعنيين:
أ - تعريفه لغة:
1 -قال أحمد بن فارس بن زكريا في مادة " الرهن ": " الراء والهاء والنون أصل يدل على ثبات شيء يمسك بحق أو غيره، من ذلك الرهن: الشيء يرهن، تقول: رهنت الشيء رهنا، ولا يقال: أرهنت، والشيء الراهن: الثابت الدائم، ورهن لك الشيء: أقام، وأرهنته لك: أقمته. وقال أبو زيد: أرهنت في السلعة إرهانا: غاليت فيها، وهو من الغلاء خاصة، قال: "
عبدية أرهنت فيها الدنانير
":
وعبارة أبي عبيد في هذا شاذة، لكن ابن السكيت وغيره قالوا: أرهنت: أسلفت، وهذا هو الصحيح. قالوا كلهم: أرهنت ولدي إرهانا: أخطرتهم. فأما تسميتهم المهزول من الناس والإبل راهنا فهو من الباب؛ لأنهم جعلوه كأنه من هزاله يثبت مكانه لا يتحرك.
قال:
أما تري جسمي خلا قد رهن ... هزلا وما مجد الرجال في السمن
يقال منه: رهن رهونا. (1) .
2 - قال محمد بن يعقوب الفيروزآبادي في مادة " رهن ": الرهن: ما وضع عندك لينوب مناب ما أخذ منك، والجمع رهان ورهون ورهن ورهين. رهنه الشيء ورهن عنده وأرهنه: جعله رهنا، وارتهن منه: أخذه رهنا. ورهنته لساني، ولا تقل أرهنته، وكل ما احتبس به شيء فرهينه ومرتهنه.
والرهان والمراهنة: المخاطرة والمسابقة على الخيل.
وقرئ: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (2)
__________
(1) معجم مقاييس اللغة 2 \ 452، 453.
(2) سورة البقرة الآية 283(24/15)
(ورهن)
وقيل في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (1) .
أنها بمعنى الفاعل أي ثابتة مقيمة. وقيل: بمعنى المفعول أي كل نفس مقامة في جزاء ما قدم من عمله، ولما كان الرهن يتصور منه حبسه استعير ذلك للمحتبس أي شيء كان، قال تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (2)
3 - وقال محمد بن مكرم المعروف بابن منظور - بعد كلام يتفق مع ما سبق قال: وفي الحديث: «كل غلام رهينة بعقيقته (3) » .
الرهينة: الرهن، والهاء للمبالغة؛ كالشتيمة والشتم، ثم استعملا في معنى المرهون، قيل: هو رهن بكذا ورهينة بكذا. ومعنى قوله: «رهينة بعقيقته (4) » : أن العقيقة لازمة له لا بد منها، فشبهه في لزومها له وعدم انفكاكه منها بالرهن في يد المرتهن. انتهى المقصود.
وقال أيضا: قال ابن عرفة: الرهن في كلام العرب هو الشيء الملزم، يقال: هذا راهن لك أي دائم محبوس عليك. ب- تعريفه شرعا: 1 - تعريفه عند الحنفية: هو جعل الشيء محبوسا بحق يمكن استيفاؤه من الرهن كالديون. ونوقش بأنه تعريف للرهن التام واللازم، وإلا فعلى انعقاد الرهن لا يلزم الحبس بل ذلك بالقبض، ورد بأنه يتحقق بانعقاد الرهن معنى جعل الشيء محبوسا بحق إلا أن للعاقد الرجوع عنه ما لم يقبض المرتهن الرهن، فقبل القبض يوجد معنى الحبس لا بلزومه، فيصدق هذا التعريف على الرهن قبل تمامه ولزومه. ونوقش
__________
(1) سورة المدثر الآية 38
(2) سورة الطور الآية 21
(3) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي: في كتاب العقيقة.
(4) سنن الترمذي الأضاحي (1522) ، سنن النسائي العقيقة (4220) ، سنن أبو داود الضحايا (2837) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3165) ، مسند أحمد بن حنبل (5/8) ، سنن الدارمي الأضاحي (1969) .(24/16)
أيضا بأن قوله " كالدين " إشارة إلى أن الرهن لا يجوز إلا بالدين؛ لأنه هو الحق الممكن استيفاؤه من الرهن لعدم تعينه.
ورد بأن الظاهر المتبادر من الكاف في قوله " كالدين " أنه يجوز الرهن بغير الدين أيضا وأن الكاف ليست للاستقصاء. فإن لم يكن في قوله: (كالدين) إشارة إلى جواز الرهن بغير الدين أيضا - فلا أقل من أن لا يكون فيه إشارة إلى انحصار ما يجوز الرهن به في الدين.
2 - تعريفه عند المالكية: الرهن: إعطاء امرئ وثيقة بحق. واعترض عليه بأنه غير مانع لدخول اليمين ليقضيه إلى أجل كذا ودفع الوثيقة المشهودة بالدين ونحو ذلك.
وأجيب عن ذلك بمنع قبول دخول شيء منها تحته لأن لفظة: (إعطاء) تقتضي حقيقة دفع شيء، ولفظ: (وثيقة) يقتضي صحة رجوع ذلك الشيء لدافعه إذا استوفى ذلك، وذلك لا يصح في الحميل واليمين والأخذ والرد حقيقة، وأما الوثيقة بذكر الحق فهو - وإن صح دفعها - فلا يلزم ردها بعد استيفاء الحق.
وأجيب عن ذلك: بأن لفظة (إعطاء) يقتضي دفع الشيء إلى آخذه، وإن أراد دفعه حسب المحسوس منع؛ لأنه يصح أن يقول: أعطاه عهد الله، والأصل الحقيقة، وإن أراد الأعم منه ومن المعنى دخل ما وقع النقص به، وإن سلم كونه حسيا بطل بإخراج رهن الدين.
وقوله: (لفظة "وثيقة" تقتضي صحة رجوع ذلك الشيء إلى آخذه) المراد به لا يلزم من نفي لزوم ردها نفي صحته، واللازم عنده إنما هو الصحة. واعترض عليه أيضا(24/17)
بأنه لا يتناول الرهن بحال لأنه اسم، والإعطاء مصدر وهما متباينان، أي أن الرهن وإن كان في الأصل مصدرا، ولكن الأغلب في عرف الفقهاء إطلاقه على الشيء المرهون، فكان الأولى أن يقول: معطى، أو ما أشبهه.
وأجيب عن ذلك بأن الرهن كما يطلق في عرف الفقهاء على الشيء المرهون، فكذلك أيضا يطلق على الرهن الذي هو المصدر، كما إذا قالوا: يصح الرهن ويبطل الرهن، ويصح رهن كذا ولا يصح رهن كذا، فاستعمال الرهن بمعنى المصدر شائع في عرف الفقهاء، فلذلك عرف بالتعريف السابق.
3 - تعريفه عند الشافعية: جعل عين مال متمولة وثيقة بدين ليستوفى منها عند تعذر وفائه (1) .
4 - تعريفه عند الحنابلة: المال الذي يجعل وثيقة بالدين ليستوفى من ثمنه إن تعذر استيفاؤه ممن هو عليه (2) .
ج- المناسبة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي:
وأما المناسبة بين المعنى اللغوي وبين المعنى الاصطلاحي فهي: أن المعنى اللغوي في الثبات والدوام واللزوم والحبس، وهذا موجود في المعنى الاصطلاحي، وذلك أن المرهون محبوس عن التصرف فيه حتى يستوفي المرتهن حقه، والحبس في الثبات واللزوم، ولكن المعنى الشرعي قيد بقيود تجعله أخص من المعنى اللغوي كما سبق في التعريف الشرعي.
__________
(1) نهاية المحتاج شرح المنهاج 4 \ 234 ويرجع إلى حاشية قليوبي 2 \ 261 والمجموع شرح المهذب 13 \ 177
(2) المغني والشرح 4 \ 417 ومطالب أولي النهى 3 \ 248 والإنصاف 5 \ 137.(24/18)
ثانيا: حكمه:
اتفق أهل العلم على مشروعيته في السفر واختلفوا في مشروعيته في الحضر فنذكر الخلاف في ذلك مع الأدلة والمناقشة:
القول الأول: أنه مشروع في الحضر كالسفر، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة واستدلوا بالكتاب والسنة والمعنى.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (1) .
وجه الدلالة: أن الله تعالى لما ذكر الندب إلى الإشهاد والكتب لمصلحة حفظ الأموال عقب ذلك بذكر حال الأعذار المانعة من الكتب، وجعل لها الرهن، ونص على السفر الذي هو غالب الأعذار، لا سيما في ذلك الوقت؛ لكثرة الغزو، ويدخل في ذلك المعنى كل عذر، فرب وقت يتعذر فيه الكاتب في الحضر؛ كأوقات أشغال الناس؛ وبالليل، وأيضا فالخوف على خراب ذمة الغريم عذر يوجب طلب الرهن.
وأما السنة: فما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اشترى من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعا له من حديد (2) » . وعن أنس قال: «رهن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- درعا عند يهودي بالمدينة وأخذ منه شعيرا لأهله (3) » . رواه أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجه.
وجه الدلالة: أنه -صلى الله عليه وسلم- رهن في الحضر ولم يكتب.
وأما المعنى: فإنه عقد وثيقة لجانب الاستيفاء، فيعتبر بالوثيقة في طرف الوجوب وهي الكفالة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 283
(2) صحيح البخاري البيوع (2068) ، صحيح مسلم المساقاة (1603) ، سنن النسائي البيوع (4650) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2436) ، مسند أحمد بن حنبل (6/42) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2069) ، سنن الترمذي البيوع (1215) ، سنن النسائي البيوع (4610) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2437) ، مسند أحمد بن حنبل (3/133) .(24/19)
القول الثاني: أنه لا يصح في الحضر، قال القرطبي: ولم يرد عن أحد منعه في الحضر سوى مجاهد والضحاك وداود. وقال ابن حزم: لا يجوز اشتراط الرهن إلا في البيع إلى أجل مسمى في السفر خاصة، وفي السلم إلى أجل مسمى في السفر خاصة، أو في القرض إلى أجل مسمى في السفر خاصة مع عدم الكاتب في كلا الوجهين.
واستدلوا بالكتاب والسنة والاستصحاب.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (1) إلى قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (2) .
وجه الدلالة: ذكر اشتراط السفر في الرهن في حال عدم وجود كاتب، فدل ذلك بمفهومه أنه لا يشرع في الحضر.
ونوقش: بأنه لا مفهوم مخالفة للشرط؛ لأنه منزل على غالب الأحوال، والدليل عليه: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- اشترى في الحضر ورهن ولم يكتب؛ وذلك لأن الكاتب إنما يعدم في السفر غالبا، فأما في الحضر فلا يكون ذلك بحال، ومن القواعد المقررة للأخذ بدليل الخطاب: أن من شروطه أن لا يجري على الغالب، ومن أمثلة ذلك في القرآن قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} (3) الآية.
وأما السنة: فما ثبت عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اشترى من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعه (4) » .
وجه الدلالة: أن الحديث ليس فيه اشتراط الرهن وهم لا يمنعون من الرهن بغير أن يشترط في العقد؛ لأنه تطوع من الراهن حينئذ بما لم ينه عنه حينئذ.
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) سورة البقرة الآية 283
(3) سورة النساء الآية 23
(4) صحيح البخاري الرهن (2509) ، صحيح مسلم المساقاة (1603) ، سنن النسائي البيوع (4650) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2436) ، مسند أحمد بن حنبل (6/42) .(24/20)
ونوقش: بأنه جاء في حديث أبي رافع في بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- إياه إلى اليهودي يسلفه طعاما لضيف نزل به فأبى إلا برهن فرهنه درعه.
وأجيب عنه: بأنه خبر انفرد به موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف، ضعفه ابن القطان وابن معين والبخاري وابن المديني، وقال أحمد بن حنبل: لا تحل الرواية عنه.
وأما الاستصحاب: فهو أن الأصل عدم مشروعيته في الحضر، ولم يرد ما يخرج عن هذا الأصل، فيبقى عدم المشروعية على ما هو عليه.
ويمكن أن يناقش بأن الاستصحاب إنما يعمل به مع عدم الدليل المعارض له، وقد ورد ما يدل على رفعه، وهو ما سبق من الدليل الدال على أنه -صلى الله عليه وسلم- رهن درعه في الحضر من يهودي في طعام أخذه لأهله، وما روى البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة (1) » .
إذا علم ما سبق من مشروعية الرهن في السفر؛ فهل ذلك على سبيل الوجوب في السفر والحضر معا أو أنه ليس بواجب فيهما، أو أنه واجب في السفر دون الحضر؟
وفيما يلي ما تيسر من أقوال أهل العلم في ذلك، مع الأدلة والمناقشة:
القول الأول: أنه ليس بواجب لا في السفر ولا في الحضر، وممن قال بذلك: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.
قال ابن قدامة: والرهن غير واجب لا نعلم فيه مخالفا.
واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والمعنى.
أما الكتاب فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2) إلى قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (3) .
__________
(1) صحيح البخاري الرهن (2512) ، سنن الترمذي البيوع (1254) ، سنن أبو داود البيوع (3526) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2440) ، مسند أحمد بن حنبل (2/472) .
(2) سورة البقرة الآية 282
(3) سورة البقرة الآية 283(24/21)
وجه الدلالة: قال الشافعي رحمه الله: فكان بينا في الآية الأمر بالكتاب في الحضر والسفر، وذكر الله تعالى الرهن إذا كانوا مسافرين ولم يجدوا كاتبا، فكان معقولا - والله أعلم - فيها أنهم أمروا بالكتاب والرهن؛ احتياطا لمالك الحق بالوثيقة والمملوك عليه بأن لا ينسى ويذكر؛ لأنه فرض عليهم أن يكتبوا ولا أن يأخذوا رهنا؛ لقول الله عز وجل:
{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (1) .
فكان معقولا أن الوثيقة في الحق في السفر والإعواز غير محرمة والله أعلم في الحضر وغير الإعواز، ولا بأس بالرهن في الحق الحال والدين في الحضر والسفر، وما قلت من هذا مما لا أعلم فيه خلافا.
ونوقش: بأن الجملة خبرية، ولكنها جارية مجرى الأمر، فإن قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (2)
أي - فارهنوا واقبضوا؛ لأنه مصدر أي مفرده جعل جزاء للشرط بالفاء، فجرى مجرى الأمر؛ كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (3) {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} (4) . وأجيب عن ذلك بأن الأمر في الآية يراد به الإرشاد لا الإيجاب، يدل على ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (5)
وأما السنة: فما سبق من الأدلة الدالة على مشروعية الرهن في الحضر، وليس فيها الأمر به، فدل على أنه ليس بواجب.
وأما المعنى: فإن الرهن وثيقة بالدين؛ فلم يجب كالضمان والكتابة، ولأنه أمر به عند إعواز الكتابة، والكتابة غير واجبة، فكذلك بدلها.
__________
(1) سورة البقرة الآية 283
(2) سورة البقرة الآية 283
(3) سورة النساء الآية 92
(4) سورة محمد الآية 4
(5) سورة البقرة الآية 283(24/22)
القول الثاني: وجوب الرهن في السفر، وبه قال ابن حزم ومن وافقه، واستدل لذلك بالكتاب والسنة.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1) إلى قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (2)
ويمكن أن يقال: إن وجه الاستدلال من الآية: أن جملة {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (3) خبر معناه الأمر، كما سبق في مناقشة الاستدلال بالآية للقول الأول، ويناقش الاستدلال بها على الوجوب بما سبق.
وأما السنة: فقوله -صلى الله عليه وسلم-: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط» .
وجه الدلالة: أن اشتراط الرهن في السفر ورد في كتاب الله مأمورا به فوجب الأخذ به، ولم يرد اشتراطه في الحضر فكان مردودا.
وأجيب بما تقدم من جعل الأمر بالرهن في السفر على الإرشاد، وأن الأصل في عقود المعاملات الإباحة حتى يرد المنع منها، ولم يرد.
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) سورة البقرة الآية 283
(3) سورة البقرة الآية 283(24/23)
ثالثا: حكمته:
من قواعد شريعة الإسلام اليسر والسهولة ورفع المشقة ودفعها، وهذا باب واسع في الشريعة، فإن من تدبرها بتوسع ودقة وإنصاف يجد ذلك واضحا في العبادات والمعاملات، وبيانه فيما نحن فيه: -
أن الشخص تختلف أحواله غنى وفقرا، والمال حبيب إلى النفوس؛ فقد يأتي على الإنسان وقت يكون في أمس الحاجة إلى النقود؛ ليقضي بها حوائجه الضرورية ولا يجد من يتصدق عليه ولا من يقرضه ولا يجد ضمينا ولا(24/23)
كفيلا، فيأتي إلى شخص يطلب منه مالا بثمن في الذمة يتفقان عليه، أو يطلب منه قرضا على أن يجعل عنده مقابل ذلك رهنا يحفظه عنده حتى يرد عليه حقه، فشرع الله الرهن لمصالح الراهن والمرتهن والمجتمع: أما الراهن فيقضي حاجته وفي ذلك تنفيس لكربته، وإزالة ما في نفسه من الغم، وقد يبيع فيه ويشتري ويكون سببا لغناه. وأما المرتهن فيطمئن على حقه، ويحصل له ربح مشروع، وإذا حسنت نيته حصل له الأجر عند الله. وأما المصالح العائدة إلى المجتمع فتوسيع التعامل التجاري، وتبادل المحبة والمودة بين الناس، فهو تعاون على البر والتقوى، وفيه تنفيس للكروب، وتقليل للخصومات، وراحة لولاة الأمور من القضاة والأمراء (1)
__________
(1) رد المختار 5 \ 317 ومواهب البديع في حكمة التشريع 28 وحكمة التشريع وفلسفته 2 \ 221.(24/24)
رابعا: الخلاف في أن قبض الرهن شرط في لزومه أو ليس بشرط بل يلزم بمجرد العقد مع الأدلة والمناقشة.
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين: فمنهم من قال: إن قبض الرهن شرط في لزومه، ومنهم من قال: إنه ليس بشرط؛ بل يلزم بمجرد العقد. وفيما يلي ذكر القولين، وما بني عليه كل قول، وما أورد على مدارك كل منهما في المناقشة.
القول الأول: أن قبض الرهن شرط في لزومه، وممن قال بهذا القول: أبو حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وهو المقدم عند الحنابلة ومذهب الظاهرية، قال المرغيناني: والقبض شرط اللزوم. وقال الكرخي: قال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد والحسن: لا يجوز إلا مقبوضا. وقال: المزني نقلا عن الشافعي: ولا معنى للرهن حتى يكون مقبوضا من جائز الأمر حين رهن وحين قبض. . . ولو مات المرتهن قبل القبض فللراهن تسليم الرهن إلى وارثه ومنعه، وقال ابن قدامة:(24/24)
ولا يلزم الرهن إلا بالقبض. واستدل لهذا القول بالكتاب والمعنى.
أما الكتاب فقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (1)
وتقرير الاستدلال بالآية من وجهين: الوجه الأول ما ذكره الشافعي رحمه الله بعد الاستدلال بهذه الآية قال: فلما كان معقولا أن الرهن غير مملوك الرقبة للمرتهن ملك البيع، ولا مملوك المنفعة ملك الإجارة، لم يجز أن يكون رهنا إلا بما أجازه الله عز وجل به من أن يكون مقبوضا، ولما لم يجز فللراهن ما لم يقبضه المرتهن منعه منه، وكذلك لو أذن في قبضه فلم يقبض المرتهن حتى رجع الراهن في الرهن كان له ذلك؛ لما وصفت من أنه لا يكون رهنا إلا بأن يكون مقبوضا.
وكذلك كل ما لم يقع إلا بأمرين فليس يتم بأحدهما دون الآخر؛ مثل الهبات التي لا تجوز إلا مقبوضة، وما في معناها.
الوجه الثاني: ما ذكره الجصاص بقوله: قوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (2) عطف على ما تقدم من قوله:
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (3) .
فلما كان استيفاء العدد المذكور والصفة المشروطة للشهود واجبا وجب أن يكون كذلك حكم الرهن فيما شرط من الصفة، فلا يصح إلا عليها كما لا تصح شهادة الشهود إلا على الأوصاف المذكورة إذا كان ابتداء الخطاب توجه إليهم بصيغة الأمر المقتضي للإيجاب.
ويمكن أن يناقش ما ذكره الإمام الشافعي في بيان الاستدلال بالآية بأنا وإن سلمنا أنه لا يكون رهنا بالفعل إلا بما ذكر الله من القبض لكن ليس هذا موضوع النزاع بيننا وبين المستدل، إنما موضوعه أنه يلزم المدين
__________
(1) سورة البقرة الآية 283
(2) سورة البقرة الآية 283
(3) سورة البقرة الآية 282(24/25)
بمقتضى العقد أن يسلم ما اتفق عليه أن يكون رهنا إلى الدائن؛ ليكون وثيقة بالدين، وهذا هو المفهوم من كون الآية خبرا بمعنى الأمر؛ إذ التقدير: إذا اتفق المستدين مع الدائن على رهن في الدين لزمه أن يقبضه إياه. وقولكم: كل ما لا يقع إلا بأمرين لا يتم بأحدهما صحيح، ولكن عقد البيع لأجل مثلا بشرط الرهن يتضمن أمرين: الأول: إلزام المدين بدفع الرهن وهذا مبني على الشرط، والثاني: صحة الرهن وهي متوقفة على قبض الدائن، فتبين بهذا أن ليس معنا أمر واحد متوقف وقوعه على أمرين بل أمران، الأول: ويتعلق بالمدين وهو إلزامه بالدفع بناء على الشرط. الثاني: الصحة وهي متوقفة على أمر يتعلق بالدائن وهو القبض.
وأما القياس على الهبة ونحوها فغير صحيح؛ لأن الهبة محض تبرع؛ والرهن حق لازم لا تبرع؛ لكونه تابعا لعقد مفاوضة مشروطا فيه فكان قياسا مع الفارق. ويمكن أن يناقش ما ذكره الجصاص بتسليم عطف الآية على الأمر باستشهاد شاهدين، ووجوب تنفيذ الرهن على الصفة المذكورة في الآية وهي القبض، لكن هذا يقتضي إلزام المدين بإقباضه للدائن وفاء بالشرط وهذا محل النزاع، ولا يلزم الدائن قبضه؛ بدليل قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (1) ولأنه حق له شرع للإرفاق به فمن حقه أن يتنازل عنه؛ بل من حقه أن يتنازل عن أصل الدين، لكن إن قبضه صح واستوفى منه، وإن لم يقبضه بعد عرضه عليه أو تمكينه منه لم يصح واعتبر متنازلا عن حقه في الإرفاق.
وأما المعنى فمن وجهين: الأول: أن الرهن عقد تبرع فيتم بالتبرع كالهبة والصدقة، والقبض شرط اللزوم، الثاني: أنه رهن لم يقبض فلا يلزم إقباضه كما لو مات الراهن.
ويجاب عن الاستدلال بالمعنى: أولا بمنع كون الرهن تبرعا أو كالتبرع، فلا يصح قياسه على عقود التبرع من الهبة ونحوها - وثانيا بأنه إن كان عدم القبض بالفعل لتفريط من الدائن أو تنازل عن الرهن بطل
__________
(1) سورة البقرة الآية 283(24/26)
ولم يلزم الراهن بإقباضه، سواء كان الدائن حيا أو ميتا، وإن كان بغير تفريط من الدائن وإنما كان لمماطلة المدين مثلا، ألزمه بإقباضه إن كان حيا. وألزم ورثته إن كان ميتا. ثم إن الدليل فيه مصادرة لما فيه من الاستدلال بالدعوى على نفسها.
القول الثاني: أن الرهن يلزم بمجرد العقد ولو لم يقبض المرهون وهو مذهب مالك ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله في الرهن إذا كان متعينا.
واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والمعنى.
أما الكتاب فقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (1)
وجه الدلالة: ما ذكره الباجي بقوله: فلنا من الآية دليلان: أحدهما: أنه قال عز من قائل:
{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (2)
فأثبتها رهنا قبل القبض. والآخر: قوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (3) أمر؛ لأنه لو كان خبرا لم يصح أن يوجد رهن غير مقبوض، ومن قولهم أن الراهن لو جن أو أغمي عليه ثم أفاق فسلم فيصح، فيثبت أنه أمر.
ويمكن أن يجاب عن الوجه الأول بأن إثباتها رهانا قبل القبض لا يلزم منه أن يكون الرهن لازما بالعقد؛ إذ يمكن أن يضاف إليها هذا الوصف مع القول بالصحة.
وعن الوجه الثاني: بالتسليم أن الخبر بمعنى الأمر لكن لم يعمل بموجب الأمر الذي هو الوجوب واللزوم في حق نفس الرهن؛ حيث لم يجب الرهن على المديون بالإجماع، فوجب أن يعمل به في شرطه وهو القبض. ونظير ذلك قوله عليه السلام: «الحنطة بالحنطة مثلا بمثل (4) » بالنصب. أي
__________
(1) سورة البقرة الآية 283
(2) سورة البقرة الآية 283
(3) سورة البقرة الآية 283
(4) رواه مسلم في المساقاة، والترمذي والنسائي في البيوع وغيرهم.(24/27)
بيعوا، فلم يعمل الأمر في نفس البيع؛ لأن البيع مباح غير واجب فصرف إلى شرطه وهو المماثلة فيما يجري فيه الربا.
ونوقش هذا الجواب بأوجه: أحدهما: يجوز أن يكون الأمر للإباحة بقرينة الإجماع، فينصرف إلى الرهن لا إلى القبض.
وأجيب عنه: أن الأمر في الوجوب حقيقة كما هو معروف، والإجماع لا يصلح قرينة للمجاز؛ لأن المجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، والإجماع لم يكن حال استعمل هذا اللفظ وإعمال الحقيقة في الرهن غير ممكن فصرف إلى القبض.
الثاني: أن القبض إن كان شرطا للجواز واللزوم وسلم ذلك فقد ارتفع النزاع ولا حاجة إلى الدليل.
وأجيب عنه: بأن الدليل لإلزام مالك - رحمه الله - حيث لا يجعله شرط اللزوم ولا الجواز، وذلك أن الله تعالى وصف الرهن بالقبض كما وصف التجارة بالتراضي، والتراضي وصف لازم في التجارة، فكذا القبض في الرهن، ولا يقال: هذا استدلال بمفهوم الصفة، وهو ليس بصحيح عند من يقول به؛ إما لأنه مذهب الجمهور من الحنفية ومن وافقهم، وإما لأن عدم الصحة إنما يكون إذا لم تكن الصفة مقصودة، وقد سبق أن الوجوب منصرف إليها.
الثالث: أن الآية متروكة الظاهر؛ لأن ظاهرها يدل على أن الرهن إنما يكون في السفر كما قال به مجاهد والضحاك وداود، وقد ترك، ومتروك الظاهر لا يصلح حجة.
وأجيب عنه بعدم التسليم أن متروك الظاهر بدليل ليس بحجة؛ لأن النصوص المؤولة متروكة الظاهر وهي عامة الدلائل.
الدليل الثاني: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) .
وجه الدلالة: أن هذا عقد مأمور بالوفاء به، والأمر يقتضي الوجوب.
__________
(1) سورة المائدة الآية 1(24/28)
الدليل الثالث: قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (1) .
وجه الدلالة: أن هذا عهد أمر بالوفاء به، والأمر يقتضي الوجوب.
ويمكن أن يجاب عن الاستدلال بالآيتين: بأنهما من الأدلة العامة في وجوب الوفاء بالعقود والعهود، وأدلة اشتراط القبض في اللزوم خاص، والأصل يقتضي حمل العام على الخاص واستثناءه منه، ويرد الجواب بأن أدلة اشتراط القبض في اللزوم لا تصلح لتخصيص هذه الأدلة كما تقدم من المناقشة التي لا ينهض معها الاحتجاج.
وأما السنة: فقوله -صلى الله عليه وسلم-: «المؤمنون عند شروطهم (2) » .
وجه الدلالة: أن هذا شرط فيجب الوفاء به.
ويمكن أن يجاب عن ذلك بما تقدم من الإباحة عن الاستدلال بالآيتين.
وأما المعنى: فإنه عقد يلزم بالقبض فلزم قبله كالبيع.
ونوقش: بأنه قياس مع الفارق؛ ذلك أن عقد البيع للتجارة، وعقد الرهن للإرفاق.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 34
(2) رواه البخاري وأبو داود.(24/29)
خامسا: الخلاف في اشتراط استدامة القبض، مع الأدلة والمناقشة.(24/29)
اختلف أهل العلم في اشتراط استدامة القبض: فمنهم من قال: إن استدامة القبض شرط، ومنهم من قال: إنها ليست بشرط. وفيما يلي ذكر القولين مع الأدلة والمناقشة.
القول الأول: أن استدامة القبض شرط. وممن قال بهذا: أبو حنيفة ومالك والإمام أحمد وابن حزم ومن وافقهم من أهل العلم، قال السمرقندي: ومنها - أي شروط جواز الرهن - دوام القبض بما به يكون محوزا في يده. ونقل القرطبي عن أبي حنيفة: أنه إذا رجع بعارية أو وديعة لم يبطل. وقال ابن حزم: يشترط دوام القبض. وقال القرطبي بعد سياقه لرأي ابن حزم أنه شرط؛ قال: هذا هو المعتمد عندنا. وقال ابن رشد: وعند مالك أن من شرط صحة الرهن استدامة القبض، وأنه متى عاد إلى يد الراهن بإذن المرتهن بعارية أو وديعة أو غير ذلك فقد خرج من اللزوم. وقال ابن قدامة: استدامة القبض شرط للزوم الرهن، فإذا أخرجه المرتهن عن يده باختياره زال لزوم الرهن وبقي العقد كأن لم يوجد فيه قبض، سواء أخرجه بإجارة أو إعارة أو إيداع أو غير ذلك، فإذا عاد فرده إليه عاد اللزوم بحكم العقد السابق. قال أحمد في رواية ابن منصور: إذا ارتهن دارا ثم أكراها صاحبها خرجت من الرهن، فإذا رجعت إليه صارت رهنا. انتهى المقصود. وقال المرداوي على قول ابن قدامة " واستدامته شرط في اللزوم " قال: هذا المذهب وعليه أكثر الأصحاب. يعني حيث قلنا لا يلزم إلا بالقبض، وممن قال به من أئمة الدعوة - رحمهم الله - الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب والشيخ عبد الرحمن بن حسن.
واستدل لهذا القول بالكتاب والمعنى.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (1)
وتقرير الاستدلال بالآية من وجهين:
__________
(1) سورة البقرة الآية 283(24/30)
الأول: أنه إذا خرج عن يد القابض لم يصدق عليه ذلك اللفظ لغة، فلا يصدق عليه حكما.
الثاني: أنها إحدى حالتي الرهن فكان القبض فيها شرطا كالابتداء.
وأما المعنى: فإن مقصود الرهن هو الاستحقاق وذلك لا يحصل إلا بهذا.
القول الثاني: أن استدامة القبض ليست بشرط، وممن قال بهذا الإمام الشافعي ومن وافقه من أصحابه وغيرهم، وهو رواية عن أحمد في المتعين. قال الربيع بن سليمان نقلا عن الشافعي: إذا قبض الرهن مرة واحدة فقد تم وصار المرتهن أولى به من غرماء الراهن ولم يكن للراهن إخراجه من الرهن حتى يبرأ مما في الرهن من الحق، ومضى إلى أن قال: وسواء إذا قبض المرتهن الرهن مرة ورده، وعنه أن استدامته في المتعين ليست بشرط، واختاره في الفائق.
واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والمعنى.
أما الكتاب فقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (1)
وجه الدلالة: أن الرهن إذا وجد مرة فقد صح ولزم، فلا يحل ذلك إعارته وغير ذلك من التصرف فيه.
وأما السنة: فقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، والظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة (2) » أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم.
وجه الدلالة: أن الراهن لا يركبها إلا وهي خارجة عن قبض المرتهن.
ونوقش: بأن قوله -صلى الله عليه وسلم-: «وعلى الذي يحلب ويركب النفقة (3) » كلام مبهم ليس في نفس اللفظ منه بيان من يركب ويحلب من الراهن والمرتهن والعدل الموضوع على يده الرهن، فصرفه إلى الراهن يحتاج إلى
__________
(1) سورة البقرة الآية 283
(2) صحيح البخاري الرهن (2512) ، سنن الترمذي البيوع (1254) ، سنن أبو داود البيوع (3526) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2440) ، مسند أحمد بن حنبل (2/472) .
(3) صحيح البخاري الرهن (2512) ، سنن الترمذي البيوع (1254) ، سنن أبو داود البيوع (3526) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2440) ، مسند أحمد بن حنبل (2/472) .(24/31)
دليل.
وأجيب عن ذلك: بأنه ورد ما يدل على أن المقصود به الراهن؛ وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه (1) » رواه الإمام الشافعي في الأم مرسلا ثم وصله عن الثقة عن يحيى ابن أبي أنيسة عن ابن شهاب عن ابن المسيب عن أبي هريرة، وقال الحافظ ابن حجر في البلوغ رواه الدارقطني والحاكم ورجاله ثقات إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله.
وأما المعنى: فقياسه على البيع والهبة فكما يكون البيع مضمونا من البائع، فإذا قبضه المشتري مرة صار في ضمانه فإن رده إلى البائع بإجارة أو وديعة فهو من مال المبتاع ولا ينفسخ ضمانه بما ذكر، فكذلك الرهن، وكما تكون الهبات وما في معناها غير تامة فإذا قبضها الموهوب له مرة ثم أعارها إلى الواهب أو أكراها منه أو من غيره لم يخرجها عن الهبة.
وقد يناقش قياسه على البيع بأنه قياس مع الفارق فإن عقد البيع المستوفي للأمور المشروعة لتحقيقه وانتفاء موانعه ينفك الملك من البائع إلى المشتري نقلا مطلقا، فتكون ذمة البائع مفرغة من تملك هذا البيع، وتكون ذمة المشتري مشغولة بتملكه، فإذا أعاده إلى البائع أو غيره بعارية أو إجارة ونحو ذلك؛ فهذه الإعارة عقد جديد لا صلة له بالعقد الأول، وهذا بخلاف الرهن فإن ملكية الراهن لم تزل عنه وإنما انتقل إلى المرتهن على جهة الرقابة لأجل حفظ حقه، فإذا رجع إليه اختيارا من المرتهن فقد رجع إلى من يملكه.
وأما قياسه على الهبة: فهو قياس مع الفارق، وبيانه أن القبض في ابتدائها بتثبيت الملك فإذا ثبت استغنى عن القبض ثانيا، والرهن يراد للوثيقة ليتمكن من بيعه واستيفاء دينه من ثمنه، فإذا لم يكن في يده لم يتمكن من بيعه ولم تحصل وثيقة
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) .(24/32)
سادسا: ما يعتبر قبضا للرهن مع الأدلة والمناقشة: المرهون إما أن يكون مما لا يمكن نقله أو لا، فالأول كالدور والأرضين، اتفق الفقهاء على أن قبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنه لا حائل دونه. وإن كان مما يمكن نقله: فإما أن يكون مكيلا أو موزونا أو معدودا أو مذروعا أو لا. فالأول قد اتفق الفقهاء على أن قبضه بكيله في المكيل إذا رهن كيلا، ووزنه إذا رهن وزنا، وعده إذا رهن عدا، وذرعه إذا رهن ذرعا، والثاني: كصبرة من طعام بيعت جزافا ونحوها من المنقولات، فهل قبضه لا يتم إلا بنقله أو أن التخلية تكون قبضا؟ قولان.
القول الأول: أنه لا يتم قبض إلا بالفعل، وممن قال بهذا أبو يوسف من الحنفية، وهو المذهب عند الحنابلة، وبه قال ابن حزم، قال الزيلعي: عن أبي يوسف أن القبض في المنقول لا يثبت إلا بالنقل. وقال الخرقي: فإن كان مما ينقل فقبض المرتهن له أخذه له إياه من راهنه منقولا. وقال ابن حزم: وصفة القبض في الرهن وغيره هو: أن يطلق يده عليه فإن كان مما ينقل نقله إلى نفسه. . . . إلخ.
واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والمعنى:
أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (1)
وجه الدلالة: ما ذكره صاحب مجمع الأنهر: أنه أمر بالرهن لأن المصدر متى قرن بإلغاء محل الجزاء يراد به الأمر كما وقع في كثير من القرآن. والأصل أن المنصوص يراعى وجوده على أكمل الجهات.
وناقش ذلك: بأن المنصوص إنما يراعى وجوده على أكمل الجهات إذا نص عليه بالاستقلال، وأما ما ذكر تبعا للمنصوص فلا يجب أن يراعى وجوده كما
__________
(1) سورة البقرة الآية 283(24/33)
ذكر فإن التراضي في البيع منصوص عليه بقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} (1) .
فلو صح ما قال المعترض لبطل بيع المكره ولم يفسد وليس كذلك.
وأجاب عن ذلك: بعدم تسليم هذه الملازمة بل من صحة ما قال المعترض هو ثبوت صحة البيع بالرضا في الجملة على قياس التخلية في الرهن فإنها قبض في الجملة كما في البيع.
وأما السنة: فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: «كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن نبيعه حتى ننقله من مكانه (2) » .
وأما المعنى: فما ذكره أبو يوسف من الحنفية من أن قبض الرهن موجب للضمان ابتداء إذ لم يكن الرهن مضمونا على أحد قبل ذلك فلا يثبت إلا بالقبض حقيقة كالغصب. وناقشه الزيلعي من الحنفية بأن هذا القياس باطل لأن قبض الرهن مشروع فأشبه البيع، والغصب ليس بمشروع فلا حاجة لثبوته بدون قبض حقيقة وهو النقل.
القول الثاني: أن تخلية الراهن بين الرهن وبين المرتهن برفع الموانع والتمكين من القبض قبض حكمي، وبهذا قال جمهور الحنفية ومن وافقهم من أهل العلم.
واستدل لهذا القول بالمعنى:
أولا: قال الزيلعي: إن التخلية عبارة عن رفع الموانع من القبض وهو فعل المسلم دون المتسلم، والقبض فعل المتسلم وإنما يكتفى فيه بالتخلية لأنه في غاية ما يقدر عليه والقبض فعل غيره فلا يكلف به.
__________
(1) سورة النساء الآية 29
(2) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .(24/34)
ثانيا: قال صاحب مجمع الأنهر: إن التخلية في البيع قبض فكذلك في الرهن. وأجاب ابن الهمام عن ذلك بما نقله عن بعض الحنفية بأنه منقوض بصورة الصرف فإنه لا بد فيها من القبض بالبراجم ولا يكتفى بالتخلية مع جريان الدليل.
ورد على ذلك: بأن لزوم النقض بالصرف إنما يثبت بالنص؛ وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: «يدا بيد (1) » كما هو مقرر في موضعه، والقياس يترك بالنص على ما عرف، بخلاف ما نحن فيه فإنه لم يرد فيه نص يقتضي حقيقة القبض وعدم كفاية التخلية فعملنا بموجب القياس
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2061) ، صحيح مسلم كتاب المساقاة (1589) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4575) ، مسند أحمد بن حنبل (4/372) .(24/35)
سابعا: حكم الرهن بعد القبض:
للمرهون أحكام بعد قبضه تتعلق بمؤنته والانتفاع به ونمائه والتصرف فيه واستيفاء الحق منه وضمانه إذا هلك بنفسه، وفيما يلي ذكر ما تيسر من الكلام على ذلك:
أ - مؤنة الرهن: اختلف أهل العلم فيمن تكون عليه مؤنة الرهن، هل تكون على الراهن أو على المرتهن؟ وفيما يلي ذكر الخلاف مع الأدلة والمناقشة.
المذهب الأول: أن مؤنة الرهن من طعام وكسوة ومسكن وحافظ وحرز ومخزن وغير ذلك على الراهن، وبهذا قال مالك والشافعي والإمام أحمد والعنبري وإسحاق ومن وافقهم من أهل العلم واستدلوا بالسنة والمعنى.
أما السنة فقوله -صلى الله عليه وسلم-: «الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه (1) » .
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) .(24/35)
وجه الدلالة: ما ذكره عبد الرحمن بن إبراهيم المقدسي بعد كلامه على أن النفقة على الراهن وذكره لهذا الحديث قال: وهذا - أي الإنفاق - من غرمه لأنه ملكه فكانت عليه نفقته كالذي في يده، ويلزمه كفنه إن مات كما يلزمه في الذي في يده.
وأما المعنى: فما ذكره الشيرازي بقوله: إن الرقبة والمنفعة على ملكه فكانت النفقة عليه.
المذهب الثاني: أن أجرة بيت حفظه وحافظه على المرتهن وأجرة راعيه ونفقة الرهن والخراج على الراهن، وهذا هو المقدم عند الحنفية، قال الزيلعي: والأصل فيه أن ما يحتاج إليه لمصلحة الرهن بنفسه وتبقيته فهو على الراهن سواء كان في الرهن فضل أو لم يكن؛ لأن العين باقية على ملكه، وكذا منافعه مملوكة فيكون إصلاحه ومؤنته عليه كما أن عليه مؤنة ملكه كما في الوديعة، وذلك مثل النفقة من مأكله ومشربه وأجرة الراعي مثله لأنه علف البهائم. ومن هذا الجنس: كسوة الرقيق، وأجرة ظئر ولد الراهن، وكري النهر، وسقي البستان، وتلقيح نخيله وجذاذه، والقيام بمصالحه وكل ما كان لحفظه أو لرده إلى يد المرتهن، أو لرد جزء منه: كمداواة الجرح فهو على المرتهن مثل أجرة الحافظ؛ لأن الإمساك حق له والحفظ واجب عليه، فتكون مؤنته عليه، وكذلك أجرة البيت الذي يحفظ فيه الرهن. انتهى.
ب - الانتفاع بالمرهون: هل ينتفع الراهن بالمرهون أو لا؟ وكذلك المرتهن. وفيما يلي كلام أهل العلم في انتفاع الراهن أو لا، ثم كلامهم في انتفاع المرتهن مع الأدلة والمناقشة:
أولا: انتفاع الراهن بالمرهون: اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه ينتفع به، وممن قال بذلك: الشافعي وابن حزم ومن وافقهما من أهل العلم، واستدلوا بالسنة والمعنى.(24/36)
أما السنة: فقوله -صلى الله عليه وسلم-: «الرهن مركوب ومحلوب» قال الشافعي: ومعنى هذا القول أن من رهن ذات در وظهر لم يمنع من درها وظهرها، وأصل المعرفة في هذا الباب أن للمرتهن حقا في رقبة الرهن دون غيره ومما يحدث مما يتميز منه غيره وكذلك سكنى الدار وزرع الأرضين وغيرها فللراهن أن يستخدم في الرهن عبده، ويركب دوابه، ويؤجرها ويحلب درها ويجز صوفها وتأوي بالليل إلى مرتهنها أو إلى يد الموضوعة على يده. انتهى.
وقد قيد الغزالي والشيرازي والنووي كلام الشافعي رحمه الله بأن انتفاع الراهن بالرهن مشروط بأن لا يضر على المرتهن في رهنه. انتهى.
أما المعنى فما ذكره الشيرازي بقوله: إنه لم يدخل في العقد ولا يضر بالمعقود له فبقي على ملكه وتصرفه كخدمة الأمة المتزوجة ووطء الأمة المستأجرة انتهى.
القول الثاني: أن الراهن لا ينتفع بالمرهون، وبهذا قال أبو حنيفة والثوري ومن وافقهما من أهل العلم، قال ابن رشد: وعمدة هذا المذهب إذا انتفع بالرهن كما إذا أجره بإذن المرتهن كان إخراجا من الرهن؛ لأن الرهن يقتضي حبسه عند المرتهن أو نائبه على الدوام، فمتى وجد عقد يستحق به زوال الحبس زال الرهن.
ويمكن أن يناقش ذلك: أولا بأنا لا نسلم أن مقتضى الرهن الحبس، وإنما مقتضاه تعلق الحق به على وجه تحصل به الوثيقة، وذلك غير مناف للانتفاع به.
وثانيا: سلمنا أن مقتضاه الحبس لكن ذلك لا يمنع من أن يكون المستأجر نائبا عنه في إمساكه وحبسه ومستوفيا لمنفعته لنفسه.
انتفاع المرتهن بالرهن: الرهن إما أن يكون مما لا يحتاج إلى مؤنته كالدور أو يكون مما يحتاج إلى مؤنته. وإذا كان مما لا يحتاج إلى مؤنته: فقد يكون(24/37)
دين الرهن قرضا وقد يكون غير قرض، وإذا كان دين الرهن غير قرض فقد يأذن الراهن للمرتهن وقد لا يأذن. وفي كل ذلك قد يكون بعوض وقد يكون بغير عوض، وإذا كان بعوض: فقد يكون فيه محاباة وقد لا يكون فيه محاباة. وإذا استأجر المرتهن الرهن - مثلا - فهل يؤثر على عقد الرهن أو لا؟ وإذ اشترط الانتفاع عند عقد الرهن فما حكم الشرط؟ وإن كان المرهون مما يحتاج إلى مؤنة فقد ينتفع به بعوض أو بغير عوض؛ بإذن الراهن أو بغير إذنه، وإذا أذن له: فقد يكون الرهن مركوبا ومحلوبا أو غيرهما. وإذا كان غير محلوب ولا مركوب: فقد يكون حيوانا أو غير حيوان. وإذا كان حيوانا: فأنفق عليه بغير نية الرجوع أو بنية الرجوع. وأذن المالك أو لم يأذن: أمكنه أن يستأذنه أو لا، وإذا انتفع المرتهن: فهل يحسب من دينه؟
هذه المسائل التي سبقت تكلم عليها ابن قدامة رحمه الله كلاما مفصلا أحببنا ذكر كلامه بدون تصرف.
قال رحمه الله على قول الخرقي: " ولا ينتفع المرتهن من الرهن بشيء إلا ما كان مركوبا أو محلوبا فيركب ويحلب بقدر العلف ". قال: الكلام في هذه المسألة في حالين:
أحدهما: ما لا يحتاج إلى مؤنة كالدار والمتاع ونحوه فلا يجوز للمرتهن الانتفاع به بغير إذن الراهن بحال لا نعلم في هذا خلافا.
لأن الرهن ملك الراهن فكذلك منافعه فليس لغيره أخذها بغير إذنه.
فإن أذن الراهن للمرتهن في الانتفاع بغير عوض وكان دين الرهن من قرض لم يجز؛ لأنه يحصل قرضا يجر منفعة وذلك حرام، قال أحمد: أكره قرض الدور وهو الربا المحض؛ يعني إذا كانت الدار رهنا في قرض ينتفع بها المرتهن. وإن كان الرهن بثمن مبيع أو أجر دار أو دين غير القرض فأذن له الراهن في الانتفاع جاز ذلك. روي ذلك عن الحسن وابن سيرين وبه قال إسحاق.(24/38)
فأما إن كان الانتفاع بعوض مثل أن يستأجر المرتهن الدار من الراهن بأجرة مثلها من غير محاباة جاز في القرض وغيره؛ لكونه ما انتفع بالقرض بل بالإجارة.
وإن حاباه في ذلك فحكمه حكم الانتفاع بغير عوض لا يجوز في القرض، ويجوز في غيره، ومتى استأجرها المرتهن أو استعارها فظاهر كلام أحمد أنها تخرج عن كونها رهنا، فمتى انقضت الإجارة أو العارية عاد الرهن بحاله. قال أحمد في رواية الحسن بن ثواب عن أحمد: إذا كان الرهن دارا فقال المرتهن اسكنها بكرائها وهي وثيقة بحقي ينتقل فيصير دينا ويتحول عن الرهن، وكذلك إن أكراها للراهن قال أحمد: في رواية ابن منصور إذا ارتهن دارا ثم أكراها لصاحبها خرجت من الرهن فإذا رجعت إليه صارت رهنا، والأولى أنها لا تخرج عن الرهن إذا استأجرها المرتهن أو استعارها؛ لأن القبض مستدام، ولا تنافي بين العقدين. وكلام أحمد في رواية الحسن بن ثواب محمول على أنه أذن للراهن في سكناها كما في رواية ابن منصور؛ لأنها خرجت عن يد المرتهن فزال اللزوم لزوال اليد، بخلاف ما إذا سكنها المرتهن، ومتى استعار المرتهن الرهن صار مضمونا عليه، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا ضمان عليه، ومبنى ذلك على العارية فإنها عندنا مضمونة وعنده غير مضمونة.
فصل: فإن شرط في الرهن أن ينتفع به المرتهن فالشرط فاسد؛ لأنه ينافي مقتضى الرهن. وعن أحمد: أنه يجوز في البيع، قال القاضي: معناه أن يقول: بعتك هذا الثوب بدينار بشرط أن ترهنني عبدك يخدمني شهرا فيكون بيعا وإجارة فهو صحيح، وإن أطلق فالشرط باطل لجهالة ثمنه، وقال مالك: لا بأس أن يشترط في البيع منفعة الرهن إلى أجل في الدور والأرضين، وكرهه في الحيوان والثياب، وكرهه في القرض. ولنا أنه شرط في الرهن ما ينافيه فلم يصح كما لو شرط في القرض.(24/39)
فصل: الحال الثاني. ما يحتاج فيه إلى مؤنة فحكم المرتهن في الانتفاع به بعوض أو بغير عوض بإذن الراهن كالقسم الذي قبله، وإن أذن له في الإنفاق والانتفاع بقدره جاز؛ لأنه نوع معاوضة.
وأما مع عدم الإذن فإن الرهن ينقسم قسمين: محلوبا ومركوبا وغيرهما. فأما المحلوب والمركوب فللمرتهن أن ينفق عليه ويركب ويحلب بقدر نفقته متحريا للعدل في ذلك. نص عليه أحمد في رواية محمد بن الحكم وأحمد بن القاسم، واختاره الخرقي وهو قول إسحاق، وسواء أنفق مع تعذر النفقة من الراهن لغيبته أو امتناعه من الإنفاق أو مع القدرة على أخذ النفقة من الراهن واستئذانه. وعن أحمد رواية أخرى: لا يحتسب له بما أنفق وهو متطوع بها ولا ينتفع من الرهن بشيء، وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه (1) » ولأنه ملك غيره لم يأذن له في الانتفاع به ولا الإنفاق عليه فلم يكن له ذلك كغير الرهن، ولنا ما روى البخاري وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة (2) » فجعل منفعته بنفقته، وهذا محل النزاع. فإن قيل: المراد به أن الراهن ينفق وينتفع، قلنا: لا يصح؛ لوجهين: أحدهما: أنه قد روي في بعض الألفاظ: «إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب ويركب النفقة (3) » فجعل المنفق المرتهن فيكون هو المنتفع. والثاني: أن قوله: (بنفقته) يشير إلى أن الانتفاع عوض النفقة وإنما ذلك حق المرتهن، أما الراهن فإنفاقه وانتفاعه لا بطريق المعاوضة لأحدهما بالآخر. ولأن نفقة الحيوان واجبة، وللمرتهن فيه حق وقد أمكنه استيفاء حقه من نماء الرهن والنيابة عن المالك فيما وجب عليه، واستيفاء ذلك من منافعه فجاز ذلك كما يجوز للمرأة أخذ مؤنتها من مال زوجها عند امتناعه بغير إذنه والنيابة عنه في
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) .
(2) صحيح البخاري الرهن (2512) ، سنن الترمذي البيوع (1254) ، سنن أبو داود البيوع (3526) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2440) ، مسند أحمد بن حنبل (2/472) .
(3) صحيح البخاري الرهن (2512) ، سنن الترمذي البيوع (1254) ، سنن أبو داود البيوع (3526) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2440) ، مسند أحمد بن حنبل (2/228) .(24/40)
الإنفاق عليها، والحديث نقول به، والنماء للراهن، ولكن للمرتهن ولاية صرفها إلى نفقته لثبوت يده عليه وولايته، وهذا فيمن أنفق محتسبا بالرجوع. فأما إن أنفق متبرعا بغير نية الرجوع لم ينتفع به رواية واحدة.
فصل: وأما غير المحلوب والمركوب فيتنوع إلى نوعين: حيوان وغيره.
أما الحيوان: كالعبد والأمة ونحوهما، فهل للمرتهن أن ينفق عليه ويستخدمه بقدر نفقته، ظاهر المذهب أنه لا يجوز، ذكره الخرقي، ونص عليه أحمد في رواية الأثرم، قال: سمعت أبا عبد الله يسأل عن الرجل يرهن العبد فيستخدمه، فقال: الرهن لا ينتفع منه بشيء إلا حديث أبي هريرة خاصة في الذي يركب ويحلب ويعلف.
قلت له: فإن كان اللبن والركوب أكثر؟ قال: لا؛ إلا بقدر، ونقل حنبل عن أحمد أن له استخدام العبد أيضا، وبه قال أبو ثور إذا امتنع المالك من الإنفاق عليه، قال أبو بكر: خالف حنبل الجماعة والعمل على أنه لا ينتفع من الرهن بشيء إلا ما خصه الشرع به، فإن القياس يقتضي أن لا ينتفع بشيء منه تركناه في المركوب والمحلوب للأثر، ففيما عداه يبقى على مقتضى القياس.
النوع الثاني: غير الحيوان؛ كدار استهدمت؛ فعمرها المرتهن، لم يرجع بشيء رواية واحدة، وليس له الانتفاع بها بقدر نفقته، فإن عمارتها غير واجبة على الراهن، فليس لغيره أن ينوب عنه فيما لا يلزمه، فإن فعل كان متبرعا، بخلاف الحيوان فإنه يجب على مالكه الإنفاق عليه لحرمته في نفسه.
فصل: فأما الحيوان إذا أنفق عليه متبرعا لم يرجع بشيء؛ لأنه تصدق به فلم يرجع بعوضه كما لو تصدق على مسكين. وإن نوى الرجوع على مالكه وكان ذلك بإذن المالك رجع عليه؛ لأنه ناب عنه في الإنفاق بإذنه، فكانت النفقة على المالك، كما لو وكله في ذلك.(24/41)
وإن كان بغير إذنه فهل يرجع عليه؟ يخرج على روايتين بناء على ما إذا قضى دينه بغير إذنه لأنه ناب عنه فيما يلزمه.
وقال أبو الخطاب: إن قدر على استئذانه فلم يستأذنه فهو متبرع لا يرجع بشيء، وإن عجز عن استئذانه فعلى روايتين، وكذلك الحكم فيما إذا مات العبد المرهون فكفنه. والأول أقيس في المذهب؛ إذ لا يعتبر في قضاء الدين العجز عن استئذان الغريم.
فصل: وإذا انتفع المرتهن باستخدام أو ركوب أو لبس أو استرضاع أو استغلال أو سكنى أو غيره حسب من دينه بقدر ذلك. قال أحمد: يوضع عن الراهن بقدر ذلك؛ لأن المنافع ملك الراهن فإذا استوفاها فعليه قيمتها في ذمته للراهن فيتقاص القيمة وقدرها من الدين ويتساقطان.
ج - نماء الرهن:
نماء الرهن بعدما كان رهنا: إما أن يكون متصلا أو منفصلا، فإن كان متصلا كالسمن فإنه يدخل في الرهن بلا خلاف بين العلماء، وإن كان منفصلا: فمن أهل العلم من قال إنه يكون تابعا للرهن، ومنهم من قال إنه لا يتبعه، ومنهم من فصل، وفيما يلي ذكر المذاهب مع الأدلة والمناقشة.
المذهب الأول: أن نماء الرهن المنفصل الحادث بعدما كان الرهن بيد المرتهن يكون تابعا للرهن، وممن قال بهذا: أبو حنيفة والإمام أحمد ومن وافقهم من أهل العلم، وعمدتهم أن الفروع تابعة للأصول، فوجب لها حكم الأصل، ولذلك حكم الولد تابع لحكم أمه في التدبير والكتابة.
المذهب الثاني: أنه ليس بتابع للرهن بل هو للراهن، وبهذا قال الإمام الشافعي وابن حزم ومن وافقهما من أهل العلم؛ إلا أن ابن حزم لم يوافق(24/42)
الشافعي على التعميم في المركوب والمحلوب فهو يرى أن الركوب والحلب لمن ينفق، واستدلوا بالكتاب والسنة والمعنى.
أما الكتاب فقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (1) .
وجاء في معنى هذه الآية قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام (2) » وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه (3) »
وجه الدلالة: أن ملك الشيء المرتهن باق لراهنه بيقين، وحق الرهن الذي حدث فيه للمرتهن لم ينقل ملك الراهن عن الشيء المرهون فلا يوجب حدوث حكم في منعه ما للمرء أن ينتفع به من ماله بغير نص بذلك.
وأما السنة فقد استدلوا بأدلة:
الأول: قوله -صلى الله عليه وسلم-: «الرهن مركوب ومحلوب» رواه الدارقطني والحاكم من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة.
وجه الدلالة: ما ذكره الشيرازي بقوله: ومعلوم أنه لم يرد أنه محلوب ومركوب للمرتهن، فدل على أنه أراد به محلوب ومركوب للراهن.
ونوقش هذا الدليل من جهتين: من جهة سنده ومن جهة دلالته:
أما سنده: فإنه موقوف، والموقوف لا تقوم به حجة. وأما دلالته: فليس في الحديث ما يدل على الذي يحلب ويركب فهو دائر بين الراهن والمرتهن والعدل الذي يكون بيده الرهن، وحمله على واحد منها بدون دليل تحكم.
وأجيب عن الأول: بما قاله ابن أبي حاتم قال: قال أبي: " رفعه مرة ثم ترك الرفع " انتهى كلامه، ومن المقرر في علم المصطلح أن الحديث إذا
__________
(1) سورة البقرة الآية 188
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) ذكره صاحب المغني لابن قدامة ج 5 \ 278.(24/43)
دار بين الرفع والوقف فالرفع فيه زيادة علم إذا كان الرافع ثقة فيكون الحديث حجة.
ورد ذلك بأن الدارقطني والبيهقي رجحا رواية من وقفه على من رفعه، وهي رواية الشافعي عن سفيان عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة.
وأما الجواب عن الحديث من جهة دلالته فيقال: إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- علق إباحة الركوب وشرب اللبن على الإنفاق، فمن تولى الإنفاق فله الركوب وشرب اللبن، يدل على ذلك ما أخرجه البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة (1) » .
ورد على ذلك بأن إباحته للمرتهن على خلاف القياس.
وأجاب عن ذلك شيخ الإسلام بقوله: ليس كذلك؛ فإن الرهن إذا كان حيوانا فهو محترم في نفسه، ولمالكه فيه حق وللمرتهن فيه حق، وإذا كان بيد المرتهن فلم يركب ولم يحلب ذهبت منفعته باطلة، وقد قدمنا أن اللبن يجري مجرى المنفعة، فإذا استوفى المرتهن منفعته وعوض عنها نفقته كان في هذا جمع بين المصلحتين وبين الحقين، فإن نفقته واجبة على صاحبه، والمرتهن إذا أنفق عليه أدى عنه واجبا وله فيه حق، فله أن يرجع ببدله، والمنفعة تصلح أن تكون بدلا فأخذها خير من أن تذهب على صاحبها وتذهب باطلا.
وقد تنازع الفقهاء فيمن أدى عن غيره واجبا بغير إذنه كالدين فمذهب مالك وأحمد في المشهور عنه له أن يرجع به عليه، ومذهب أبي حنيفة والشافعي ليس له ذلك، وإذا أنفق نفقة تجب عليه مثل أن ينفق على ولده الصغير أو عبده فبعض أصحاب أحمد قال: لا يرجع، وفرقوا بين النفقة والدين. والمحققون من أصحابه سووا بينهما، وقالوا: الجميع واجب، ولو افتداه من الأسر كان له مطالبته بالفداء وليست دينا، والقرآن يدل على هذا القول فإن الله تعالى قال:
__________
(1) صحيح البخاري الرهن (2512) ، سنن الترمذي البيوع (1254) ، سنن أبو داود البيوع (3526) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2440) ، مسند أحمد بن حنبل (2/472) .(24/44)
{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (1) .
فأمر بإيتاء الأجر بمجرد الإرضاع ولم يشترط عقدا ولا إذن الأب، وكذلك قال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) فأوجب ذلك عليه ولم يشترط عقدا ولا إذنا ونفقة الحيوان واجبة على ربه، والمرتهن والمستأجر له فيه حق، فإذا أنفق عليه النفقة الواجبة على ربه كان أحق بالرجوع من الإنفاق على ولده، فإذا قدر أن الراهن قال: لم آذن لك في النفقة، قال: هي واجبة عليك وأنا أستحق أن أطالبك بها لحفظ المرهون والمستأجر، وإذا كان المنفق قد رضي بأن يعتاض بمنفعة الرهن التي لا يطالبه بنظير النفقة (3) كان قد أحسن إلى صاحبه، فهذا خير محض مع الراهن، وكذلك لو قدر أن المؤتمن على حيوان الغير كالمودع والشريك والوكيل أنفق من مال نفسه واعتاض بمنفعة المال لأن هذا إحسان إلى صاحبه إذا لم ينفق عليه صاحبه.
الدليل الثاني: حديث «لا يغلق الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه (4) » أخرجه ابن حبان في صحيحه والدارقطني والحاكم والبيهقي من طريق زياد بن سعد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا: «لا يغلق الرهن وله غنمه وعليه غرمه (5) » وأخرجه ابن ماجه من طريق إسحاق بن راشد عن الزهري، وأخرجه الحاكم من طرق عن الزهري عن سعيد مرسلا، ورواه الشافعي عن ابن أبي فديك وابن أبي شيبة عن وكيع وعبد الرزاق عن الثوري كلهم عن ابن أبي ذئب كذلك، ولفظه: «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه (6) » .
قال الشافعي: غنمه زيادته وغرمه هلاكه. وصحح أبو داود والبزار
__________
(1) سورة الطلاق الآية 6
(2) سورة البقرة الآية 233
(3) في أعلام الموقعين ج 1 \ 370: بمنفعة الرهن وكان نظير النفقة.
(4) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) .
(5) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) .
(6) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) .(24/45)
والدارقطني وابن القطان إرساله، وله طرق في الدارقطني والبيهقي كلها ضعيفة، وصحح ابن عبد البر وعبد الحق وصله، ونوقش الاستدلال بهذا الحديث بأن قوله: «له غنمه وعليه غرمه (1) » مدرجة من كلام سعيد ابن المسيب. قال ابن عبد البر هذه اللفظة اختلف الرواة في رفعها ووقفها، فرفعها ابن أبي ذئب ومعمر وغيرها مع كونهم أرسلوا الحديث على اختلاف علي ابن أبي ذئب، ووقفها غيرهم، وروى ابن وهب هذا الحديث فجوده وقال: إن هذه اللفظة من كلام سعيد بن المسيب، نقله عنه الزهري.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يغلق الرهن ممن رهنه (2) » قلت للزهري: أرأيت قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا يغلق الرهن (3) » أهو الرجل يقول إن لم آتك بمالك فالرهن لك. قال: نعم، قال معمر: ثم بلغني عنه أنه قال: إن هلك لم يذهب حق هذا، إنما هلك من رب الرهن له غنمه وعليه غرمه.
وأجيب عن ذلك: بأنه رواه ابن حزم من طريق قاسم بن أصبغ حدثني محمد بن إبراهيم حدثني يحيى ابن أبي طالب الأنطاكي وغيره من أهل الثقة حدثني نصر بن عاصم الأنطاكي نا شبابة عن ورقاء عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة ابن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يغلق الرهن لمن رهنه له غنمه وعليه غرمه (4) » . قال ابن حزم هذا سند حسن.
وأجيب عن ذلك: بأنه أخرجه الدارقطني من طريق عبد الله بن نصر الأصم الأنطاكي عن شبابة به وصححها عبد الحق، وعبد الله بن نصر له أحاديث منكرة ذكرها ابن عدي، وظهر أن قوله في رواية ابن حزم: نصر بن عاصم تصحيف، وإنما هو عبد الله بن نصر الأصم، وسقط عبد الله وحرف الأصم بعاصم.
وأما المعنى: فإن النماء زائد على ما رضيه رهنا فوجب أن لا يكون للمرتهن إلا بشرط زائد.
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) .
(2) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) .
(3) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) .
(4) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) .(24/46)
المذهب الثالث: ما كان من نماء الراهن المنفصل على خلقته وصورته فإنه داخل في الرهن كولد الجارية مع الجارية، وأما ما لم يكن على خلقته وصورته فإنه لا يدخل في الرهن ما كان متولدا عنه كثمر النخل أو غير متولد ككراء الدار وخراج الغلام، وبهذا القول قال مالك ومن وافقه من أهل العلم.
وعمدة هذا المذهب: أن الولد حكمه حكم أمه في البيع أي هو تابع له، وفرق بين الثمر والولد في ذلك بالسنة المفرقة في ذلك، وذلك أن الثمر لا يتبع بيع الأصل إلا بشرط وولد الجارية يتبع بغير شرط.
د - التصرف في الرهن قبل حلول أجل الدين: التصرف إما أن يكون من الراهن أو من المرتهن بإذن كل منهما لصاحبه أو لا. فإذا تصرف كل منهم بإذن الآخر صح التصرف؛ لأنه أسقط حقه، وهذا لا خلاف فيه. أما تصرف الراهن فقد قال فيه ابن قدامة: إذا تصرف الراهن في الرهن بغير رضا المرتهن بغير العتق كالبيع والهبة والوقف والرهن ونحوه فتصرفه باطل؛ لأنه تصرف يبطل حق المرتهن من الوثيقة غير مبني على التغليب والسراية، فلم يصح بغير إذن المرتهن كفسخ الرهن. وفي الوقف وجه آخر: أنه يصح لأنه يلزم لحق الله أشبه العتق، والصحيح الأول لأنه تصرف لا يسري إلى ملك الغير فلم يصح كالهبة، فإن أذن فيه صح وبطل الرهن إلا أن يأذن في البيع ففيه تفصيل، انتهى المقصود.
وقال الغزالي: هو ممنوع من كل تصرف قولي يزيل الملك كالبيع والهبة، أو يزاحم حقه كالرهن من غيره، أو ينقص كالتزويج أو يقلل الرغبة كالإجارة التي لا تنقضي مدتها قبل حلول الدين، وبهذا قال الشيرازي والنووي. وأما تصرف المرتهن بالرهن بغير إذن الراهن فهو غير صحيح، وهذا لا خلاف فيه لأنه تصرف في ملك غيره. هـ - استيفاء المرتهن حقه من الرهن: الرهن وثيقة لحق المرتهن بمقتضاه يطمئن المرتهن على رجوع حقه إليه، وقد سبق الكلام على اشتراط(24/47)
استدامة القبض هل هو شرط في لزومه أو ليس بشرط، ولكن خلافهم هناك لا أثر له بالنسبة لكون المرتهن يبيع الرهن بعد تمام الأجل ويستوفي حقه.
وفيما يلي تفصيل كلام أهل العلم في ذلك مع بيان أدلتهم:
قال السمرقندي: فعندنا ملك العين في حق الحبس حتى يكون المرتهن أحق بإمساكه إلى وقت إيفاء الدين، وإذا مات الراهن فهو أحق به من سائر الغرماء فيستوفي منه دينه، فما فضل يكون لسائر الغرماء والورثة.
وقال ابن رشد: أما حق المرتهن في الرهن فهو أن يمسكه حتى يؤدي الرهن ما عليه فإن لم يأت به عند الأجل كان له أن يرفعه إلى السلطان فيبيع عليه الرهن وينصفه منه إن لم يجبه الراهن إلى البيع وكذلك إن كان غائبا.
وقال الشافعي: المرتهن أحق ببيع المرهون وأخذ حقه من ثمنه والحبس ليس بلازم.
وقال النووي: المرتهن مستحق لليد بعد لزوم الرهن ولا تزال يده إلا للانتفاع. وقال أيضا: المرتهن يستحق بيع المرهون عند الحاجة ويتقدم بثمنه على سائر الغرماء. وذكر أيضا أن الراهن إذا أصر على عدم البيع باعه الحاكم.
وقال الخرقي: والمرتهن أحق بثمن الرهن من جميع الغرماء حتى يستوفي حقه حيا كان الراهن أو ميتا. ويدل لذلك الكتاب والسنة والمعنى.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (1)
استدل بهذا الحنفية والمالكية والحنابلة. وتقرير الاستدلال من ثلاثة أوجه: الأول: أن الله تعالى أخبر بكون الرهن مقبوضا، وإخباره سبحانه وتعالى لا يحتمل الخلل فاقتضى أن يكون المرهون مقبوضا ما دام مرهونا. الثاني: أن الرهن في اللغة عبارة عن الحبس، قال الله عز وجل:
{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (2) .
أي حبيس فيقتضي أن يكون المرهون محبوسا ما دام مرهونا، ولو لم يثبت
__________
(1) سورة البقرة الآية 283
(2) سورة الطور الآية 21(24/48)
ملك الحبس لم يكن محبوسا على الدوام فلم يكن مرهونا.
الثالث: أن الله تعالى لما سمى العين التي ورد العقد عليها رهنا، وأنه نهى عن الحبس لغة كان ما دل عليه اللفظ لغة حكما لا شرعا؛ لأن للأسماء الشرعية دلالات على أحكامها كلفظ الطلاق والعتاق والحوالة والكفالة ونحوها.
وأما السنة: فقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يغلق الرهن من صاحبه (1) » الحديث وجه الدلالة أن قوله: «لا يغلق (2) » معناه لا يملك بالدين، كذا قال أهل اللغة؛ غلق الرهن: أي ملك بالدين، وهذا كان حكما جاهليا فرده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وأما المعنى: فإن الرهن شرع وثيقة بالدين فيلزم أن يكون حكمه ما يقع به التوثيق للدين كالكفالة، وإنما يحصل التوثيق إذا كان يملك حبسه على الدوام؛ لأنه يمنعه عن الانتفاع فيحمله ذلك على قضاء الدين في أسرع الأوقات. وـ ضمان الرهن إذا هلك بنفسه: إذا هلك الرهن بنفسه بيد المرتهن فعليه الضمان عند قوم وعدمه عند آخرين، والتفرقة بين ما يغاب عليه وما لا يغاب عليه. وفيما يلي تفصيل الكلام على ذلك مع الأدلة والمناقشة.
المذهب الأول: أن الرهن إذا هلك بنفسه فلا يضمنه المرتهن، وبهذا قال الشافعي والإمام أحمد ومن وافقهما من أهل العلم، واستدل لهذا القول بالسنة والمعنى.
أما السنة: فحديث سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يغلق الرهن من صاحبه له غنمه وعليه غرمه (3) » وجه الدلالة أن المراد بقوله: «له غنمه» - أي له غلته وخراجه - «وعليه غرمه» - أي فكاكه ومصيبته منه - فقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- غرم الرهن على الراهن وإنما يكون غرمه عليه إذا هلك أمانة لأن عليه قضاء دين المرتهن، فإذا هلك مضمونا كان غرمه على المرتهن وسقط حقه لا على
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) .
(2) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) .
(3) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) .(24/49)
الراهن، وهذا خلاف النص.
وقد نوقش الاستدلال بهذا الحديث بأمور: الأول أنه أخرجه أبو وداود في المراسيل، وقال قوله: «له غنمه وعليه غرمه» من كلام سعيد نقله عنه الزهري، وقد سبق الكلام في ذلك.
الثاني: يحتمل أن يكون معنى قوله عليه السلام: «لا يغلق الرهن (1) » أي لا يهلك؛ إذ الغلق يستعمل في الهلاك، كذا قال بعض أهل اللغة، وعلى هذا كان الحديث حجة على أهل هذا القول؛ لأنه يذهب بالدين فلا يكون هالكا معنى.
الثالث: وقيل معناه أي لا يستحقه المرتهن ولا يملكه عند امتناع الراهن عن قضاء الدين، وهذا كان حكما جاهليا جاء الإسلام فأبطله.
وأما المعنى: فإن عقد الرهن شرع وثيقة بالدين، ولو سقط الدين بهلاك المرهون لكان توهينا لا توثيقا؛ لأنه يقع تعريض الحق للتلف على تقدير هلاك الرهن فكان توهينا للحق لا توثيقا له.
ونوقش: بالتسليم بأن عقد الرهن شرع وثيقة بالدين، لكن معنى التوثيق في الرهن هو التوصل إليه في أقرب الأوقات؛ لأنه كان للمرتهن ولاية مطالبة الراهن بقضاء الدين من مطلق ماله، وبعد الرهن حدثت له ولاية المطالبة بالقضاء ومن ماله المعين وهو الرهن بواسطة البيع، فازداد طريق الوصول إلى حقه فحصل معنى التوثيق.
المذهب الثاني: أن الرهن إذا هلك بنفسه فهو من ضمان المرتهن، والذين قالوا بهذا القول انقسموا إلى قسمين:
القسم الأول: ومنهم أبو حنيفة أنه مضمون بالأقل من قيمته وقيمة الدين.
والقسم الثاني: أنه مضمون بقيمته قلت أو كثرت، وممن قال به علي بن أبي طالب وعطاء وإسحاق.
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) .(24/50)
أما القسم الأول فمعناه أن الرهن لو هلك وقيمته مثل دينه صار مستوفيا دينه، وإن كانت أكثر من دينه فالفضل أمانة، وإن كانت أقل صار مستوفيا بقدره ورجع المرتهن بالفضل.
واستدل الأحناف لمذهبهم بالسنة والإجماع والأثر والمعنى.
أما السنة: فإنهم استدلوا بدليلين:
الأول: قوله عليه الصلاة والسلام للمرتهن بعدما نفق الفرس الرهن عنده: «ذهب حقك» وهذا نص في الدلالة على المطلوب.
ونوقش: بأنه أخرجه أبو داود في المراسيل من طريق عطاء: «أن رجلا رهن رجلا فرسا فنفق في يده فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- للمرتهن: ذهب حقك» وأخرجه ابن أبي شيبة أيضا مرسلا، وفي الاحتجاج بالمرسل خلاف.
ونوقش أيضا: بأن المراد به ذهاب الحق في الحبس. وأجيب عنه بمنع ذلك لأنه لا يتصور حبسه فلا يحتاج فيه إلى البيان؛ لأنه عليه الصلاة والسلام بعث لبيان الأحكام لا لبيان الحقائق، ولأن الرهن ذكر معرفا بالإضافة فيعود إلى المذكور.
الثاني: قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا عمي الرهن فهو بما فيه» .
وهذا نص أيضا في محل الخلاف.
ونوقش: بأن الدارقطني رواه عن أنس وقال: لا يثبت ومن بينه وبين شيخنا ضعفاء. وأخرجه من وجه آخر وقال إنه باطل.
وأجيب عنه: بأنه أخرجه أبو داود في المراسيل عن عطاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مثله ورجاله ثقات، قاله ابن حجر، وأخرجه أيضا عن طاوس مرفوعا نحوه.
ونوقش أيضا بما أخرجه أبو داود في المراسيل عن أبي الزناد وقال: إن ناسا يوهمون في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الرهن بما فيه» إذا كان هلك وإنما(24/51)
قال ذلك فيما أخبرنا الثقة من الفقهاء إذا هلك وعميت قيمته. وأخرجه الطحاوي عن أبي الزناد نحوه، وأسند ذلك إلى الفقهاء السبعة وغيرهم أنهم قالوا: الرهن بما فيه، ويرفع ذلك منهم الثقة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الرهن بما فيه» .
وأما الإجماع: فهو أن الصحابة والتابعين أجمعوا على أن الرهن مضمون مع اختلافهم في كيفية الضمان على ثلاثة أقوال فإحداث قول رابع خروج عن الإجماع فلا يجوز.
ويمكن أن يناقش بالمطالبة بثبوت الإجماع. قال ابن حجر: لم أجد ذلك.
وأما الأثر: فما أخرجه البيهقي عن عمر في الرجل يرتهن الرهن فيضيع قال: " إن كان أقل مما فيه رد عليه تمام حقه، وإن كان أكثر فهو أمين " وأخرجه ابن أبي شيبة والطحاوي نحوه.
وأما المعنى فمن وجوه:
أحدهما: أن الثابت للمرتهن يد الاستيفاء وهو ملك اليد والحبس؛ لأن لفظه ينبئ عن الحبس، والأحكام الشرعية تثبت على وفق معانيها اللغوية.
الثاني: أن الرهن وثيقة لجانب الاستيفاء، وهو أن يكون موصلا إليه، ويثبت ذلك بملك اليد والحبس ليقع الأمن من الجحود مخافة جحود المرتهن الرهن، وليكون عاجزا عن الانتفاع فيتسارع إلى قضاء الدين أو الضجره، فإذا ثبت هذا المعنى ثبت الاستيفاء من وجه وقد تقرر بالهلاك، فلو استوفي الدين بعده يؤدي إلى الربا لأنه يكون استيفاء ثانيا، ولا يلزم ذلك حال قيام الرهن لأن الاستيفاء الأول ينقضي بالرد على الراهن فلا يتكرر.
ونوقش: هذان الدليلان بأن المرتهن إنما صار مستوفيا بملك اليد لا بملك الرقبة، وقد بقي حقه في ملك الرقبة فكان له أن يستوفيه ليأخذ حقه(24/52)
كاملا وصار مستوفيا بالمالية دون العين فيكون له الاستيفاء ثانيا ليأخذ حقه في العين كاملا.
وأجيب عن ذلك: بأنه لا وجه إلى استيفاء الباقي وهو ملك الرقبة بدون ملك اليد أو ملك العين بدون ملك المالية؛ إذ لا يتصور ذلك فيسقط للضرورة كما إذا استوفي زيوفا مكان الجياد فإن حقه في الجودة يبطل لعدم استيفاء الجودة وحدها بدون العين، فإذا لم يملك العين بقي ملك الراهن أمانة في يده فتكون نفقته حيا وكفنه ميتا عليه لأنهما مؤونة الملك، ولو اشتراه المرتهن لا ينوب قبض الرهن عن قبض الشراء؛ لأن عينه أمانة فلا ينوب قبضه عن قبض المضمون.
وأما القسم الثاني، فمعناه أن الرهن إن كانت قيمته أقل من الدين رجع المرتهن إلى الراهن فيأخذ منه ما بقي من دينه، وإن كانت قيمة الرهن تساوي الدين لم يرجع المرتهن على الراهن بشيء، وإن كانت قيمة الرهن أكثر من قيمة الدين فإن الزائد يسلمه المرتهن إلى الراهن.
واستدل لهذا بالسنة والأثر والمعنى.
أما السنة فقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يغلق الرهن من صاحبه له غنمه وعليه غرمه (1) » وجه الدلالة أن معنى قوله: «له غنمه» أي ما زاد من قيمة الرهن على قيمة الدين، «وعليه غرمه» أي ما نقص من قيمة الدين عن قيمة الرهن.
وأجيب عنها بجوابين:
الأول: وقد سبق: أنها مدرجة من كلام سعيد بن المسيب.
الثاني: أن المقصود بالغنم الغلة والخراج، والمراد بالغرم الفكاك والمصيبة.
وأما الأثر: فما روي عن علي رضي الله عنه: أنهما يترادان الفضل، أخرجه عبد الرزاق في المصنف، وابن أبي شيبة في المصنف من
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) .(24/53)
طريق الحكم، وفسر التراد هنا بأنه يكون من الجانبين فيرجع واحد منهما على صاحبه بالفضل عند الهلاك.
ونوقش بأمرين:
الأول: أن المقصود بالتراد حالة البيع فإنه روي عنه أنه قال: المرتهن أمين في الفضل.
الثاني: ما أخرجه البيهقي من رواية خلاس عن علي: " إذا كان في الرهن فضل فإن أصابته جائحة فالرهن بما فيه وإن لم تصبه جائحة فإنه يرد الفضل ".
ونوقش هذان الأمران: بأننا لا نسلم أنه في حالة البيع ولا أنه في حالة السلامة لما أخرجه البيهقي من رواية الحارث عن علي رضي الله عنه: إذا كان الرهن أفضل من القرض والقرض أفضل من الرهن فإنهما يترادان الفضل.
وأما المعنى: فإن الزيادة على الدين مرهونة بكونها محبوسة به، فتكون مضمونة كما في قدر الدين.
ونوقش بأن يد المرتهن يد استيفاء فلا توجب الضمان إلا بقدر المستوفى كما في حقيقة الاستيفاء بأن أوفاه دراهم في كيس أكثر من حقه يكون مضمونا عليه، بقدر الدين والفضل أمانة والزيادة مرهونة ضرورة امتناع حبس الأصل بدونها ولا ضرورة في حق الضمان.
المذهب الثالث: التفرقة بين ما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه:
فإن كان مما يغاب عليه من العروض فهو ضامن، وإن كان مما لا يغاب عليه كالحيوان والعقار فليس بضامن. وممن قال بهذا: مالك والأوزاعي وعثمان البتي، بل يضمن على كل حال قامت البينة أو لم تقم، وبقول مالك قال ابن القاسم، وبقول عثمان والأوزاعي قال أشهب، ومستند هذا المذهب الاستحسان،(24/54)
ومعناه أن التهمة تلحق فيما يغاب عليه ولا تلحق فيما لا يغاب عليه.
ونوقش بأن الاستحسان الذي يذهب إليه مالك استحسان بغير دليل فلا حجة فيه. وأجيب عنه بأن معنى الاستحسان عند مالك هو جمع بين الأدلة المتعارضة وإذا كان ذلك فليس هو قول بلا دليل.
هذا ما تيسر، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
المراجع في المذهب الحنفي:
المصادر:
تحفة الفقهاء 3 وبدائع الصنائع 6 \ 145 - 370 وكنز الدقائق وشرحه تبيين الحقائق 6 \ 63 - 68 وفتح القدير 8 \ 194 - 202 وحاشية ابن عابدين 5 \ 318 - 325 وملتقى الأبحر وشرحه مجمع الأنهر 2 \ 586 - 591 والدراية 2 \ 257 - 258 ونصب الراية 4 \ 319 وشرح معاني الآثار 4 \ 98.
وفي المذهب المالكي: المنتقى 5 \ 253 - 255 وبداية المجتهد 2 \ 228 - 230 وشرح الرسالة 2 \ 205 - 210.
وفي المذهب الشافعي: مختصر المزني على هامش الأم 3 \ 126 - 128 والمهذب 1 \ 310 - 316 والوجيز 1 \ 18 - 101 وروضة الطالبين 4 - 111.(24/55)
وفي المذهب الحنبلي: الشرح الكبير 4 \ 409 وما بعدها والمغني 4 \ 490، 494، 499، 503، 513. والمقنع وحاشيته 2 \ 104 - 106 وعمدة الفقه وشرحها 247 - 250 والمجد 1 \ 336 والتوضيح في الجمع بين المقنع والتنقيح والقياس في الشرع الإسلامي 33 وكتاب الرهن من المحلى 8 \ 87 وما بعدها.(24/56)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة
للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شؤونهم الدينية والاجتماعية(24/57)
فتوى برقم 1124 وتاريخ 19 \ 11 \ 1395 هـ
السؤال: شخص يقول: أنا جندي بالشرطة، وأريد الحج بوالدتي، ولم يرخص لي مرجعي، فهل علي إثم إذا حججت بوالدتي بدون إذن من مرجعي؟
الجواب: أنت أجير تستلم مرتبا مقابل ما تؤديه من عمل، وتركك العمل بدون إذن من مرجعك لتحج بوالدتك تصرف في غير محله؛ لأن ذمتك مشغولة بالعمل الوظيفي فلا تشغل هذه الذمة بما يتعارض مع ما هي مشغولة به سابقا إلا بما له حق السبق على ذلك، كما لو كنت أنت ما حججت فرضك فلا مانع أن تحج بدون إذن لأن تعلق الحج في ذمتك سابق لشغل ذمتك بالعمل الحكومي، وبهذا يعلم أنه لا يجوز لك أن تحج بأمك إلا بإذن، وأن الأحوط هو الاستئذان إذا كنت لم تحج فرضك، ومن جهة أمك من الممكن أن يحج بها أحد من محارمها غيرك وتقوم أنت بدفع النفقة إذا أردت ذلك.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(24/58)
فتوى برقم 1307 وتاريخ 24 \ 6 \ 1396 هـ
السؤال: شخص وقف أرضا واسعة جدا في حال صحته لتكون مقبرة ولكن لم يقبر فيها أحد إلى الآن، وقد أحيل الشخص الواقف على التقاعد عام 1386 هـ وليس له أرض غيرها سوى مسكن له ولعياله، فهل يجوز(24/58)
الرجوع فيها أو في بعضها أم لا؟
الجواب: لا يجوز الرجوع فيما وقف من الأرض ولا في بعضه؛ لأنها خرجت من ملك الواقف بالوقف إلا الانتفاع بها فيما جعلت له، فإن احتيج إليها في تلك الجهة للدفن فيها وإلا بيعت وجعل ثمنها في مقبرة في جهة أخرى، ولا يتصرف فيها إلا بمعرفة قاضي تلك الجهة التي فيها الأرض الموقوفة، وضعف حالك بعد إحالتك على التقاعد لا يبرر لك الرجوع في الوقف والله سبحانه وتعالى يأجرك ويخلف عليك خيرا مما أنفقت. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(24/59)
فتوى برقم 1318 وتاريخ 3 \ 7 \ 6 9 هـ
سؤال: رجل يقول أنه كان مرة يتوضأ فلفت نظره أحد الناس إلى لمعة في قدمه وفي مرة أخرى لفت نظره إلى لمعة مشابهة مما أوجب لديه الشك أنه لا يحسن الوضوء قبل ذلك، ويسأل عن حاله السابقة التي يشك في صحة وضوئه فيها، وكذا غسله من الجنابة هل يعيد صلواته أم ماذا يفعل؟
الجواب: كون السائل لفت نظره مرة أو مرتين إلى لمعة في قدمه لم يصلها الماء حينما توضأ لا يعني الحكم على طهاراته الأخرى أنها غير صحيحة لأن الأصل إن شاء الله أنه توضأ وضوءا صحيحا ولا ينتقض الأصل بالشكوك، وكذا الأمر بالنسبة إلى غسله من الجنابة، ونوصي المستفتي وفقه الله أن يترك الشكوك والوساوس جانبا، وألا يلتفت إلا لحقائق يحسها.
وعليه فطهارته السابقة صحيحة وصلواته بها صحيحة إن شاء الله والله الموفق. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(24/59)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(24/60)
فتوى برقم 1395 - وتاريخ 18 \ 10 \ 1369 هـ
السؤال: شخص يقول: إنه يوجد لدينا مسجد صغير بناه المسلمون قبل عشر سنين، وأصبح الآن يضيق، والرغبة الآن متجهة إلى توسعة المسجد، إلا أنه قد لا يتمكن من ذلك، ويريد شراء قطعة أرض كبيرة يقيم عليها المسجد ومدرسة لأبناء المسلمين ومرافق أخرى.
ويسأل هل يجوز بيع أرض المسجد الحالي ليستعان بقيمتها في بناء المسجد الجديد؟
الجواب: إذا كان الأمر كما جاء في الاستفتاء من ضيق المسجد الحالي، وأنه لا مجال لتوسعته، وأن الضرورة تقضي بإيجاد مسجد واسع يتسع للمصلين، ومدرسة لتعليم أولاد المسلمين، ومرافق تخدم ذلك، فإنه لا يظهر لنا مانع من بيع أرض المسجد الحالي وأنقاضه والاستعانة بثمن ذلك في شراء الأرض الواسعة في المكان المناسب وبناء المسجد والمدرسة ومرافقها عليها؛ لما في ذلك من المصلحة العامة، لكن بشرط أن يتولى ذلك من تتوفر فيه الثقة والأمانة والدراية. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(24/60)
فتوى برقم 1409 وتاريخ 15 \ 11 \ 1396 هـ
سؤال: شخص يقول: إن قطعة أرض زراعية جعل إنتاجها وقفا على وجبة إفطار في رمضان فقط، ثم لم يبق ممن يتولى الوقف سواي، وأنا موظف في منطقة بعيدة عن البلد، وليس بالبلد من يقوم عني بتجهيزه لمن يفطر به، ثم إن أهل بلادنا يشتغلون بالرعي في جهات يتعذر علي معرفتها، ولا يجتمعون إلا يوم عيد أو جمعة، وعلى تقدير أني هيأته لا أجد من يأكله، فهل يجوز لي أن أوزعه حبوبا على المستحقين أو أبيعه وأشتري بثمنه تمرا لأوزعه على المستحقين.
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكرت من عدم وجود ولي لهذا الوقف سواك وأنك لا تقوى على مباشرة تجهيزه بنفسك ولا تجد من يقوم مقامك في ذلك، وأنه على تقدير تجهيزه لا يوجد من يأكله في تلك البلاد جاز لك أن توزعه حبوبا في رمضان على المستحقين في بلادكم إن أمكن وإلا ففي أقرب البلاد إلى بلد الوقف، وجاز لك أن تشتري بثمنه تمرا لتوزعه كذلك.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(24/61)
فتوى برقم 1534 وتاريخ 16 \ 4 \ 1397 هـ
السؤال: شخص يقول: والدي مرض في عام 1391 هـ وفي 29 من شهر ذي القعدة من هذه السنة كتب ثلث ماله وقفا وجعله بيدي أنا(24/61)
خوفا من أن مرضه هذا مرض لن يقوم بعده من الفراش، ولكن قدرة الله سبحانه وتعالى جعلته يعيش بعد أن شفي من هذا المرض أربع سنوات بعد المرض، حيث إن الله سبحانه وتعالى اختاره في عام 1395 هـ، وأنا بعد كتابة الوصية وجعل الثلث بيدي وبعد أن شفي الله والدي اعتقدت أن الوصية قد التغت، وعند البحث عنها لم نجدها وعندما تعبنا بالبحث والتفتيش عنها ولم نجدها أهملنا الموضوع، حيث إن الموصي حي يرزق ومعافى ولكن قدر الله جعل المنية تأتيه بتاريخ 2 \ 1 \ 1395 هـ بعد مرض وتوفي ولم يوص قبل مماته رحمه الله. وحيث إن المال الذي بعده يبلغ اثنين وثلاثين ألفا ومائة وثمانية وأربعين ريال (32148) .
ولقد تم توزيع التركة على الورثة: زوجتين وابنتين وأربعة ذكور أولاد وانتهى المال بعد أن أخذ كل وارث نصيبه.
وفي تاريخ 10 \ 8 \ 1396 هـ عثرنا على ورقة الوصية التي قد كتبت في عام 1391 هـ خلال مرضه الأول والذي يوصي بأن يكون من ماله ثلث يكون بيدي أنا، ونحن الآن في حيرة من الأمر، المال قد وزع، ولا ندري ماذا نصنع؟ ونخشى الإثم؛ علما أن المرحوم رزق بأبناء صالحين هدفهم البر بوالديهم، فما الحكم؟
الجواب: إذا كان الأمر كما ذكر فإنه يسترد من الورثة من النقود التي استلموها ما يساوي ثلث أصل النقود ومقداره عشرة آلاف وسبعمائة وستة عشر ريالا يؤخذ من كل واحد ثلث حصته ومجموع المتحصل هو ثلث الميت، ويكون بيد وكيله الشرعي ينفذ على وفق وصيته الشرعية إذا كانت ثابتة البينة الشرعية أو بإقرار الورثة، وبالله التوفيق.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(24/62)
فتوى برقم 1607 وتاريخ 4 \ 7 \ 1397
السؤال الأول: هل يجوز للمسلم أن يدخل الحمام ويذكر اسم الله عز وجل أو أنه بمجرد أن يدخل يتوقف عن ذكر الله؟
الجواب: من آداب الإسلام أن يذكر الإنسان ربه حينما يريد أن يدخل بيت الخلاء أو الحمام بأن يقول قبل الدخول: «اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث (1) » ولا يذكر الله بعد دخوله بل يسكت عن ذكره بمجرد الدخول.
السؤال الثاني: هل يجوز أن يصلي بالبيجاما [السترة والبنطلون] أم لا، سواء كانت الصلاة في البيت أم في المسجد؟ .
الجواب: الأصل في أنواع اللباس الإباحة؛ لأنه من أمور العادات، فلا يحرم من أنواعه ولا يكره إلا ما حرمه الشرع أو كرهه؛ كالحرير للرجال، والذي يصف العورة لكونه شفافا يرى من ورائه لون الجلد، أو ضيقا يحدد الصورة لأنه حينئذ في حكم كشفها، وكشفها لا يجوز، وكالملابس التي هي من سيما الكفار فلا يجوز لبسها لنهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن التشبه بهم.
وعلى هذا فما يسمى من الملابس بالبيجاما لكونه على شكل معين تجوز الصلاة فيها في المساجد وغيرها، إذا لم تحدد العورة ولم تكن خفيفة تشف عما ورائها بأن تكون صفيقة واسعة؛ لأنه لم يرد في الملابس تعيين هيئة أو شكل لما يجوز لبسه دون غيره، فيبقى الأمر فيها على الجواز بناء على الأصل إلا فيما كان من سيما الكفار خاصة فيمتنع بعدا عن التشبه بهم، وليست البيجاما مما يختص بهم بل هي لباس عام في المسلمين والكافرين وإنما تنفر النفوس من لبسها في بعض الجهات لعدم الألفة ومخالفة عادة سكانها في اللباس وإن كانت موافقة لعادة غيرهم من المسلمين، لكن الأولى بالمسلم إذا كان في بلد لم يعتد أهلها لبسها أن
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (142) ، صحيح مسلم الحيض (375) ، سنن الترمذي الطهارة (6) ، سنن النسائي الطهارة (19) ، سنن أبو داود الطهارة (4) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (296) ، مسند أحمد بن حنبل (3/99) ، سنن الدارمي الطهارة (669) .(24/63)
لا يلبسها في الصلاة ولا في المجامع العامة ولا في الطرقات.
السؤال الثالث: شخص يقول: إذا كان بعض الناس لا يصلي ولا يذكر الله بل يعمل فوق ذلك أعمالا سيئة تغضب الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام من كل النواحي فهل يجوز أن يغتاب ليعرف الناس به أم لا؟ .
الجواب: يجب نصح هذا وأمثاله بفعل ما أمر الله به، وينكر عليه فعل ما نهي الله عنه فإن امتثل ولو شيئا فشيئا فيستمر معه في النصيحة حسب الوسع وإلا فيجتنب قدر الطاقة اتقاء للفتنة وبعدا عن المنكر، ثم يذكر بما هو فيه من التفريط في الواجبات وفعل المنكرات عند وجود الدواعي؛ قصدا للتعرف به وحفظا للناس من شره. وقد يجب عليك ذلك إذا استنصحك أحد في مصاهرته أو مشاركته أو استخدامه مثلا أو خفت على شخص أن يقع في حباله ويصاب بشره فيجب عليك بيان حاله إنقاذا لأهل الخير من شره وأملا في ازدجاره إذا عرف كف الناس عنه وتجنبهم إياه، وليس لك أن تتخذ من ذكر سيرته السيئة تسلية لك وللناس وفكاهة تتفكه بها في المجالس؛ فإن ذلك من إشاعة الشر، وبه تتبلد النفوس ويذهب إحساسها باستشياع المنكرات أو يضعفها، وليس لك أن تفتري عليه منكرات لم يفعلها رغبة في زيادة تشويه حاله والتشنيع عليه، فإن هذا كذب وبهتان وقد نهي عنه النبي -صلى الله عليه وسلم -.
السؤال الرابع: ما حكم الجهر بالنية في الصلاة هل يجوز أم لا؟
وكذلك عند الوضوء.
الجواب: النطق بالنية جهرا أو سرا في الصلاة أو الوضوء ونحوهما من العبادات لا يجوز؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يشرعه بقوله ولا بفعله، ولأن النية محلها القلب دون اللسان، وابتداء الصلاة فريضة كانت أو نافلة بكلمة - الله أكبر - وابتداء الوضوء بالتسمية اقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- مع القصد(24/64)
بالقلب إلى العبادة التي يراد الشروع فيها.
السؤال الخامس: هل الصلاة بعد صلاة العصر إلى المغرب ممنوعة بتاتا أم أنها جائزة لفترة معينة؟
الجواب: من نسي إحدى الصلوات الخمس ولم يتذكرها إلا بعد أن صلي العصر وجب عليه أن يصليها حينما يذكرها ولو وقت غروب الشمس؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك (1) » .
ومن دخل المسجد بعد صلاته العصر صلى تحية المسجد فيما بينه وبين غروب الشمس. وكذا سائر ذوات الأسباب من النوافل كركعتي الطواف وصلاة كسوف الشمس؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين (2) » وقوله عليه الصلاة والسلام في الكسوف: «إذا رأيتم ذلك فصلوا أو ادعوا حتى ينكشف (3) » وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «شغل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الركعتين قبل العصر فصلاهما بعد (4) » وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار (5) » رواه أحمد وأصحاب السنن.
أما غير ذوات الأسباب من النوافل وهي المسماة بالنفل المطلق فلا يجوز صلاتها في أوقات النهي.
السؤال السادس: شخص يقول: إذا حلفت يمينا بالله على شيء تافه بمجرد السرعة والغضب وكانت اليمين غير صحيحة. وأنا لم أكن قاصدا في اليمين، فهل أعتبر آثما في هذه الحالة أم لا؟ وماذا يجب علي أن أعمل بعد ذلك؟
الجواب: إن كنت تعلم أو تظن ظنا غالبا حينما حلفت اليمين أنك صادق في يمينك ثم تبين لك أنك كاذب فلا إثم عليك ولا كفارة؛ لقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (6)
__________
(1) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (597) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (684) ، سنن الترمذي الصلاة (178) ، سنن النسائي المواقيت (613) ، سنن أبو داود الصلاة (442) ، سنن ابن ماجه الصلاة (696) ، مسند أحمد بن حنبل (3/269) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (1167) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (714) ، سنن الترمذي الصلاة (316) ، سنن النسائي المساجد (730) ، سنن أبو داود الصلاة (467) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1013) ، مسند أحمد بن حنبل (5/311) ، سنن الدارمي الصلاة (1393) .
(3) صحيح البخاري الجمعة (1044) ، صحيح مسلم الكسوف (901) ، سنن الترمذي الجمعة (561) ، سنن النسائي الكسوف (1474) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1263) ، مسند أحمد بن حنبل (6/168) ، موطأ مالك النداء للصلاة (444) ، سنن الدارمي كتاب الصلاة (1527) .
(4) صحيح البخاري الجمعة (1233) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (834) ، سنن النسائي المواقيت (580) ، سنن أبو داود كتاب الصلاة (1273) ، سنن الدارمي كتاب الصلاة (1436) .
(5) سنن الترمذي الحج (868) ، سنن النسائي مناسك الحج (2924) ، سنن أبو داود المناسك (1894) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1254) ، مسند أحمد بن حنبل (4/84) ، سنن الدارمي المناسك (1926) .
(6) سورة المائدة الآية 89(24/65)
وإن كنت تعلم أو تظن ظنا غالبا حينما حلفت أنك كاذب في يمينك فأنت آثم وعليك كفارة يمين على الصحيح، وكذا إذا كنت شاكا في المحلوف عليه حين الحلف؛ لقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (1) .
والكاذب في يمينه قصدا ممن كسب قلبه، وقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} (2) .
والكاذب في يمينه قصدا ممن عقد اليمين ولعموم قوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (3) .
والكاذب قصدا امتهن اليمين ولم يحفظها، ولما رواه عبد الله بن عمرو قال: «جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله: ما الكبائر فذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- منها اليمين الغموس (4) » . أما إن كنت لم تقصد اليمين ولم ينعقد عليها قلبك بل جرت على لسانك دون قصد فلا إثم عليك ولا كفارة لعموم قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (5)
فينبغي للمسلم أن يحفظ يمين الله فلا يسارع إلى الحلف به، ولا يكثر من الحلف به، وعليه أن يصون لسانه من الكذب، وأن يملك نفسه عند الغضب، ويتوب إلى الله من الذنوب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 225
(2) سورة المائدة الآية 89
(3) سورة المائدة الآية 89
(4) صحيح البخاري استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6920) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3021) ، سنن النسائي تحريم الدم (4011) ، مسند أحمد بن حنبل (2/201) ، سنن الدارمي الديات (2360) .
(5) سورة المائدة الآية 89(24/66)
فتوى برقم 1622 وتاريخ 11 \ 7 \ 97 هـ
السؤال الأول: يدخل رمضان في وقت حر أحيانا وفيه رعاة إبل وغنم لا يجدون راعيا بالأجر، ويتضررون من العطش هل لهم الإفطار أم لا؟
الجواب: إذا احتاج الصائم إلى الفطر في أثناء اليوم، ولو لم يفطر خاف على نفسه الهلاك يفطر في وقت الضرورة، وبعد تناوله لما يسد رمقه يمسك إلى الليل، ويقضي هذا اليوم الذي أفطره بعد انتهاء رمضان؛ لعموم قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) .
وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} (2) .
السؤال الثاني: الرحال من محل إلى محل في أهله ومواشيه هل له الإفطار والقصر أم لا؟
الجواب: يجوز له الفطر والقصر لأنه مسافر، وتتناوله أدلة رخص السفر لكن بشرط أن تكون المسافة بين المحل الذي انتقل منه والمحل الذي يريد الانتقال إليه مسافة قصر.
السؤال الثالث: شخص فاقد بعض مواشيه وسافر في طلبها والبحث عنها يوما أو يومين وبعضهم إلى شهر هل يجوز له الإفطار والقصر أم لا؟
الجواب: هذا الشخص لم يقصد جهة معينة فلا تتناوله أدلة رخصة الفطر وعليه أن يصوم فإن شق عليه الصيام حتى خشي الهلاك أفطر بما يسد رمقه وأمسك بقية يومه وقضى ما أفطره من الأيام كما سبق في
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(2) سورة المائدة الآية 6(24/67)
جواب السؤال الأول، لكن إذا قصد جهة معينة يلتمس فيها ضالته تعتبر مسافة قصر، كالذي يخرج من "الخرج" إلى منطقة " الأفلاج" أو " الوادي" فإنه يعتبر مسافرا، له القصر والفطر.
السؤال الرابع: زكاة الفطر إذا كان في بر بعيد عن البلد وجيرانه مقاربون بالمال، وسط، لا أغنياء ولا فقراء، هل يعطونها بعضهم أم لا؟
الجواب: من الحكم في مشروعية زكاة الفطر سد حاجة الفقراء في ذلك اليوم، فمن لم يكن فقيرا فليس مصرفا لزكاة الفطر، وفي إمكان الشخص أن يعد زكاة الفطر ويوزعها على الفقراء في أقرب بلد إليه، وبإمكانه أن يوكل شخصا ينوب عنه في بلد فيها فقراء يقوم بتوزيعها عليهم في الوقت المحدد لإخراجها.
السؤال الخامس: هل يجوز إعطاء زكاة الفطر فلوسا أم لا؟
والجواب: فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر من البر أو التمر أو الشعير أو الزبيب أو الأقط، ودفعها فلوسا مخالف لسنته -صلى الله عليه وسلم-، وقد ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » وقال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » .
السؤال السادس: بعض البادية يعطي الحضر فلوسا ويقول له إذا جاءت زكاة الفطر اشتر لي زكاة ووزعها بالبلد هل يجوز أم لا؟
والجواب: يجوز ذلك لأنه توكيل ممن وجب عليه الحق في أمر تدخله النيابة. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(24/68)
فتوى برقم 2222 وتاريخ 29 \ 11 \ 1398 هـ السؤال الأول: عندنا مساجد يجتمع فيها أناس في ليلة خمس عشرة من شعبان ويقرءون سورة يس ثلاث مرات، ويقرءون المولد. وهكذا يجتمعون ليلة سبع عشرة من رمضان، ويقرءون سورة يس والمولد في مساجدهم، فهل يجوز أم لا؟
والجواب: هذا من البدع، وقد ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » . وقوله في الحديث: «وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (2) » .
والعبادات مبناها على الأمر والنهي والاتباع، وهذا الأمر لم يأمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يفعله، ولا فعله أحد من الخلفاء الراشدين ولا من الصحابة والتابعين. وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعض ألفاظ الحديث الصحيح: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3) » .
وهذا الأمر ليس عليه أمره -صلى الله عليه وسلم- فيكون مردودا يجب إنكاره لدخوله فيما أنكره الله ورسوله، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (4) .
السؤال الثاني: ما حكم قراءة القنوت في صلاة الصبح، وقراءة القنوت في صلاة الوتر هل هو جائز أم لا؟
والجواب: أما القنوت في الوتر فمستحب؛ لحديث الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: «علمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلمات أقولهن في قنوت الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وأنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت (5) » .
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(3) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(4) سورة الشورى الآية 21
(5) سنن الترمذي الصلاة (464) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1746) ، سنن أبو داود الصلاة (1425) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1178) ، مسند أحمد بن حنبل (1/199) ، سنن الدارمي الصلاة (1591) .(24/69)
رواه الخمسة.
أما القنوت في الصبح وفي غيرها من الصلوات الخمس فلا يشرع بل هو بدعة إلا إذا نزل بالمسلمين نازلة من عدو أو غرق أو وباء أو نحوها، فإنه يشرع القنوت لرفع ذلك؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قنت في الصلوات يدعو على أحياء من العرب قتلوا بعض أصحابه رضي الله عنهم، والأكثر أن ذلك كان منه -صلى الله عليه وسلم- في صلاة الفجر بعد الرفع من الركوع من الركعة الثانية، أما اتخاذه دائما في الصبح فهو بدعة؛ وإن قال به بعض أهل العلم؛ لأن ذلك لم يحفظ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنما جاء في أحاديث ضعيفة، وروى أحمد وأهل السنن بإسناد جيد عن سعد بن طارق الأشجعي قال: «قلت لأبي إنك قد صليت خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخلف أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - أكانوا يقنتون في الفجر فقال: أي بني محدث (1) » .
السؤال الثالث: هل يجوز الدعاء بعد صلاة الفرائض للإمام والناس كلهم مجتمعون؟
والجواب: لقد صدر من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء جواب عن هذا السؤال نصه ما يلي:
العبادات مبنية على التوقيف فلا يجوز أن يقال: إن هذه العبادة مشروعة من جهة أصلها أو عددها أو هيئاتها أو مكانها إلا بدليل شرعي يدل على ذلك، ولا نعلم سنة في ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا من قوله ولا من فعله ولا من تقريره، والخير كله باتباع هديه -صلى الله عليه وسلم- وهديه -صلى الله عليه وسلم- في هذا الباب ثابت بالأدلة الدالة على ما كان يفعله -صلى الله عليه وسلم- بعد السلام، وقد جرى خلفاؤه وصحابته من بعده ومن بعدهم التابعون لهم بإحسان، ومن أحدث خلاف هدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهو مردود عليه، قال -صلى الله عليه وسلم-: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » فالإمام الذي يدعو بعد السلام ويؤمن المأمومون على دعائه والكل رافع يده يطالب بالدليل المثبت لعمله وإلا فهو مردود عليه.
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (402) ، سنن النسائي التطبيق (1080) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1241) ، مسند أحمد بن حنبل (3/472) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(24/70)
إذا علم ذلك فإننا نبين نبذة من هديه -صلى الله عليه وسلم-، فمن ذلك: «أنه إذا سلم استغفر الله ثلاثا ويقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام (1) » . قيل للأوزاعي: كيف الاستغفار؟ قال: يقول: أستغفر الله أستغفر الله. هذه رواية مسلم والترمذي والنسائي إلا النسائي قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا انصرف من صلاته وذكر الحديث. وفي رواية أبي داود: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «كان إذا أراد أن ينصرف من صلاته استغفر الله ثلاث مرات ثم قال: اللهم أنت السلام (2) » وفي رواية أبي داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا سلم قال: «اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام (3) » . وفي رواية لمسلم عن وراد مولى المغيرة بن شعبة قال: أملى علي المغيرة بن شعبة في كتاب إلى معاوية: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- «كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد (4) » .
وفي رواية لمسلم عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه «كان يقول في دبر كل صلاة حين يسلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون (5) » . وقال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يهلل بهن دبر كل صلاة (6) » . وفي رواية لمسلم أيضا: قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من سبح دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين وكبر الله ثلاثا وثلاثين فتلك تسع وتسعون، ثم قال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفر له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر (7) » ومن أراد المزيد من الاطلاع على الأدعية فعليه بالرجوع إلى كتاب الأدعية من كتب الجوامع مثل: جامع الأصول
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (592) ، سنن الترمذي الصلاة (298) ، سنن النسائي السهو (1338) ، سنن أبو داود الصلاة (1512) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (924) ، مسند أحمد بن حنبل (6/235) ، سنن الدارمي الصلاة (1347) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (591) ، سنن الترمذي الصلاة (300) ، سنن أبو داود الصلاة (1512) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (928) ، مسند أحمد بن حنبل (5/280) ، سنن الدارمي الصلاة (1348) .
(3) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (591) ، سنن الترمذي الصلاة (300) ، سنن أبو داود الصلاة (1512) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (928) ، مسند أحمد بن حنبل (5/280) ، سنن الدارمي الصلاة (1348) .
(4) صحيح البخاري الأذان (844) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (593) ، سنن النسائي السهو (1341) ، سنن أبو داود الصلاة (1505) ، مسند أحمد بن حنبل (4/245) ، سنن الدارمي الصلاة (1349) .
(5) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (594) ، سنن النسائي السهو (1340) ، سنن أبو داود الصلاة (1506) ، مسند أحمد بن حنبل (4/4) .
(6) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (594) ، سنن النسائي السهو (1340) ، سنن أبو داود الصلاة (1506) ، مسند أحمد بن حنبل (4/4) .
(7) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (597) ، مسند أحمد بن حنبل (2/238) ، موطأ مالك النداء للصلاة (488) .(24/71)
ومجمع الزوائد، والمطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية وغيرها.
السؤال الرابع: عند الذهاب إلى القبر مع الجنائز يقرأ الناس: "لا إله إلا الله" بالأصوات الجهرية فهل هذا العمل جائز أم لا؟
والجواب: هذه بدعة لا نعلم دليلا شرعيا يستدل به لمشروعيتها، وقد سبق في جواب السؤال الأول ما يدل على بدعيتها.
وبالله التوفيق - وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(24/72)
فتوى برقم 1641 وتاريخ 7 \ 8 \ 97 هـ السؤال: ما حكم الشريعة في اغتسال الجنب في الماء الدائم الذي لا يجري، مع العلم بأنه يوجد في البوادي برك يستمر فيها الماء مدة طويلة لا يغيره إلا المطر في الصيف والخريف، وتوجد برك في المساجد، وما حكم النهي في حديث: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب (1) » وما حكم مرتكب النهي، ثم إن أهل القرى يأتون إلى هذه البرك ويكشفون عوراتهم بعضهم على بعض برفع الإزار إلى ما فوق الركبة.
الجواب: أولا: إقدام الجنب على الاغتسال في الماء الدائم الذي لا يجري لا يجوز؛ لما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب فقيل: كيف يفعل يا أبا هريرة قال يتناوله تناولا (2) » .
ثانيا: إذا بلغ الماء الدائم قلتين فأكثر ولم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه بالاغتسال فيه من الجنابة أجزأ الوضوء والغسل منه، وصلح لتطهير
__________
(1) صحيح مسلم الطهارة (283) ، سنن النسائي الطهارة (220) ، سنن أبو داود الطهارة (70) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (605) .
(2) صحيح مسلم الطهارة (283) ، سنن النسائي الطهارة (220) ، سنن أبو داود الطهارة (70) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (605) .(24/72)
الأخباث والأحداث، وإن تغير بنجاسة لم يصح استعماله في طهارة أحداث ولا أخباث إجماعا، وإن تغير بمجرد تتابع الاغتسال من الجنابة فيه لا بنجاسة ففي طهوريته خلاف، والأحوط ترك استعماله في الطهارة خروجا من الخلاف. وإن كان أقل من قلتين واغتسل فيه جنب: فإن تغير بنجاسة جنب كان على بدنه لم يصح التطهر به من الأحداث ولا الأخباث وإن لم يتغير بنجاسة ففي صحة التطهر به من الأحداث والأخباث خلاف. والأحوط ترك استعماله في الطهارات عند تيسر غيره.
ثالثا: ما جرى عليه عمل بعض الناس من الاغتسال من الجنابة في برك البوادي والمساجد لا يجوز ويجب نصحهم وإرشادهم، فإن استجابوا فالحمد لله؛ وإلا عزرهم ولي الأمر بما يردعهم.
رابعا: ستر الإنسان عورته في خلوته من آداب الإسلام وهو مقتضى الحياء، وسترها بحضرة غير زوجته وأمته واجب، وكشفها حرام، ونظر غير زوجته وأمته إليها حرام إلا لضرورة؛ لما رواه مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد (1) » ، وعلى من رأى أحدا يكشف عورته أن يرشده وينكر عليه، فإن أطاع وإلا عزره ولي الأمر بردعه. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الحيض (338) ، مسند أحمد بن حنبل (3/63) .(24/73)
فتوى برقم 2923 وتاريخ 8 \ 4 \ 1400 هـ
السؤال الأول: اشترى رجل بضاعة من بائع، واتفق معه على مدة للأداء شهرا أو شهرين، ووقع المشتري للبائع ورقة تسمى كمبيالة يعين فيها ثمن الشراء ووقت الأداء واسم المشتري، وبعد ذلك يبيع البائع الكمبيالة للبنك ويسدد البنك قيمة الكمبيالة مقابل ربح يأخذه من البائع، فهل هذا حلال أو حرام؟
الجواب: شراء بضاعة لأجل معلوم بثمن معلوم جائز وكتابة الثمن مطلوبة شرعا؛ لعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1) .
الآية. أما بيع الكمبيالة للبنك بفائدة يدفعها البائع للبنك مقابل تسديده المبلغ ويتولى البنك استيفاء ما في الكمبيالة من مشتري البضاعة فحرام؛ لأنه ربا.
السؤال الثاني: ادعت امرأة أنها مريضة وأن صحتها تتحسن إذا هي لعبت بعض الحركات الرياضية ودخلت حماما جافا ذا حرارة عالية، فهل يجوز لها أن تذهب إلى قاعة مخصصة لذلك خارج بيتها.
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكر من أن صحتها تتحسن إذا لعبت ألعابا رياضية ودخلت حماما جافا حارا جاز لها دخول الحمام وأن تلعب ألعابا رياضية بشرط أن يتوقف تحسن صحتها على ذلك وأن تستر عورتها عمن يحرم نظره إليها، وألا يخلو بها من ليس بمحرم لها وألا يختلط نساء برجال أجانب منهن، وأن يكون هذا المكان آمنا لا خطر فيه على عرضها.
السؤال الثالث: هل يجوز للمرأة أن تسوق السيارة في شوارع مدينة كبيرة يختلط فيها السائقون والسائقات؟
__________
(1) سورة البقرة الآية 282(24/74)
الجواب: لا يجوز للمرأة أن تسوق السيارة في شوارع المدن ولا اختلاطها بالسائقين لما في ذلك من كشف وجهها أو بعضه وكشف شيء من ذراعيها غالبا، وذلك من عورتها، ولأن اختلاطها بالرجال الأجانب مظنة الفتن ومثار الفساد.
السؤال الرابع: هل يجوز للإنسان أن يودع أمواله في صندوق التوفير؟
السؤال الخامس: وهل يجوز لأحد التجار أن يقترض مالا بفائدة من البنك وكيف تكون وضعيته إذا كان ينتظر المال لأداء ما عليه من الديون؟
جواب السؤال الرابع والخامس: أولا: لا يجوز وضع أمواله في البنك أو في صندوق التوفير أو عند تاجر أو نحو ذلك بفائدة معينة أو نسبة معلومة من رأس ماله كسبعة أو تسعة في المائة من رأس المال؛ لأنه ربا، وقد ثبت تحريمه بالكتاب والسنة والإجماع، ولا يجوز أيضا إيداعه فيما ذكر أو نحوه بلا فائدة عند من يتعامل بالربا؛ لما في ذلك من التعاون معه على المحرم إلا إذا اضطر إلى إيداعه لخوف سرقته أو غصبه مثلا فيجوز بلا فوائد.
ثانيا: يحرم اقتراض مبلغ من النقود ونحوها من الأموال الربوية كالبر والتمر ونحوهما من الأطعمة على أن يدفع مقابل ذلك فائدة، سواء كان الاقتراض من بنك أو تاجر أو حكومة.
السؤال السادس: هل يعتبر وجه المرأة عورة؟
السؤال السابع: ما هي الزينة التي أباح الله للمرأة أن تبديها لأقاربها؟
جواب السؤال السادس والسابع: نعم وجه المرأة عورة على الصحيح من قولي العلماء.
أما ما يجوز للمرأة أن تبديه من زينتها لمحارمها غير زوجها فهو وجهها(24/75)
وكفاها وخلخالها وقرطها وأساورها وقلادتها ومواضعها ورأسها وقدماها. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم،،،،
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(24/76)
فتوى برقم 3261 وتاريخ 13 \ 10 \ 1400 هـ
السؤال: شخص يقول: (إننا نعيش في مدينة أهلها لا يتعوذون ولا يبسملون، ولا يقرءون دعاء الاستفتاح، ولا يسكتون في المواضع التي كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يسكت فيها، وكثيرا منهم يحلقون اللحى خصوصا خطباء الجمعة، زيادة على بدع أخرى معادية للإسلام. وقد يعملون أشياء أخرى كالكهانة والفتاوى الباطلة من أجل الإرضاء، مع العلم أننا أبلغناهم ما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ما يخص قضية الصلاة لكنهم رفضوا بكل قوة، وقالوا: حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، وهؤلاء الأئمة لا يراعون طاعة الله في تربية أبنائهم إلا من رحم الله، وقليل ما هم، فمنهم من تخرج فتياتهم سافرات عاريات دون أن يبالين بأن أفعالهن منافية للإسلام. أما الخطباء فهم راضون عن المنكر الذي يعملونه يوم الجمعة من رواية الحديث قبل الخطبة وقراءة القرآن جماعة قبل أن يدخل الخطيب المسجد، ويؤذنون ثلاث مرات يوم الجمعة، وهذه ظاهرة شائعة في بلادنا، وكلهم قد نبهوا من طرق الإخوان السنيين الذين تمسكوا ولا زالوا متمسكين بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
هذه بعض النقط القليلة التي ذكرناها من البدع التي وجدناها على خلاف ما جاء عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-.(24/76)
السؤال: هل يجوز للمسلم أن يصلي وراء هؤلاء الأئمة المبتدعة.
هل المنكر للسنة تجوز الصلاة وراءه، وبعض هؤلاء يعملون الفاتحة: " أي الدعاء جماعة دبر كل صلاة بصوت مرتفع، كما يقرءون الحزب بعد صلاة الفجر وبعد صلاة المغرب جماعة ودوما، ويقرءون القرآن في المكارم والحفلات والأعراس مقابل الدراهم. كما يقرءون في المقابر وفي الجنائز مقابل الدراهم، ويشيعون الجنازة بالذكر، ونريد منكم أن تبينوا لنا بيانا شافيا واضحا حتى نكون على بينة من ديننا) .
الجواب: أولا: الحق مع من يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم عند بدء القراءة، سواء كانت القراءة في الصلاة أم لا؛ لعموم قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (1) .
لكنها يسر بها في الصلاة كالتسمية. والحق أيضا مع من يقرأ البسملة سرا قبل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) في الصلاة، وكذا السكوت بين نهاية القراءة والركوع، ومن قال بذلك فهو مصيب مأجور أجرين، ومن خالف فهو معذور مأجور أجرا واحدا، ويجوز صلاة كل من الفريقين وراء الآخر، والأمر في ذلك واسع، والمشادة أو الخصام فيه لا يجوز.
ثانيا: حلق اللحية حرام لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بإعفائها وإحفاء الشارب ولمخالفته للفطرة.
ثالثا: الكاهن من يزعم أنه يعلم المغيبات أو يعلم ما في الضمير، وأكثر ما يكون ذلك ممن ينظرون في النجوم لمعرفة الحوادث، أو يستخدمون من يسترقون السمع من شياطين الجن، ومثل هؤلاء من يخط في الرمل وينظر في الفنجان أو في الكف ومن يفتح الكتاب؛ زعما منهم أنهم يعرفون بذلك الغيب وهم كفار؛ لزعمهم أنهم شاركوا الله في صفة من صفاته الخاصة به وهي علم الغيب، ولتكذيبهم بقوله تعالى:
__________
(1) سورة النحل الآية 98
(2) سورة الفاتحة الآية 2(24/77)
{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (1) .
وبقوله:
{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} (2) {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} (3) .
وقوله:
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (4) .
ومن أتاه وصدقه بما يقول من الكهانة فهو كافر أيضا؛ لما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (5) » ، ولما رواه أصحاب السنن والحاكم وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى عرافا أو كاهنا فصدقة بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (6) » إلى غير ذلك من الأحاديث في كفر العرافين والكهان ومن صدقهم.
وهؤلاء لا تجوز الصلاة وراءهم ولا تصح، وعلى من صلى وراءهم وهو يعلم أن يستغفر الله ويعيدها.
رابعا: على ولي أمر الأسرة أن يرشدها إلى ما فيه الخير والسعادة لها في دينها ودنياها، وأن يؤدبها بآداب الإسلام فإنها رعيته، وكل راع مسؤول عن رعيته، وقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «كلكم راع ومسؤول عن رعيته (7) » الحديث، وخاصة أئمة المساجد وسائر العلماء، فإنهم قدوة الناس، وإهمالهم في أنفسهم وفي شئون أسرهم يجرئ غيرهم على الإهمال في الدين، وتجاوز حدوده وآدابه، فمن فرط في إرشاد أهله وتأديبهم حتى خرجت امرأته وبناته وأخواته مثلا سافرات
__________
(1) سورة النمل الآية 65
(2) سورة الجن الآية 26
(3) سورة الجن الآية 27
(4) سورة الأنعام الآية 59
(5) صحيح مسلم السلام (2230) ، مسند أحمد بن حنبل (4/68) .
(6) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/429) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .
(7) صحيح البخاري الجمعة (893) ، صحيح مسلم الإمارة (1829) ، سنن الترمذي الجهاد (1705) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2928) ، مسند أحمد بن حنبل (2/121) .(24/78)
متكشفات فحكم الصلاة وراءه كحكم الصلاة وراء الفساق كحالق اللحية.
خامسا: قراءة آية:
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} (1) .
وقراءة حديث التحذير من الكلام وقت الخطبة والأمر بالإنصات بين يدي خطيب الجمعة قبل بدئه الخطبة: من البدع، وكذا قراءة القرآن جماعة يوم الجمعة قبل مجيء الخطيب إلى المسجد، والأذان الأول والثاني بالأدعية والأذكار قبل الأذان الشرعي الذي يؤذن به عند دخول وقت الجمعة: من البدع التي انتشرت في البلاد الإسلامية وسكت عنه كثير من العلماء، كل هذا من الشر والابتداع في الدين وشرع ما لم يأذن به الله.
فنسأل الله العافية، ونرجوه أن يعين أهل السنة على إنكار ذلك وإزالته حتى يعود المسلمون إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم. ونسأله تعالى الأجر والمثوبة لكم على ما قمتم به من إنكار هذه البدع وغيرها من المحدثات في الدين، وأن يثبتكم على الحق ويعينكم على نصر السنة وقمع البدعة؛ فإنه سبحانه مجيب الدعاء، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 56(24/79)
فتوى برقم 3255 وتاريخ 13 \ 10 \ 1400 هـ
السؤال: شخص يقول: والدي في وظيفة ويأخذ الرشوة، ويسب آيات القرآن والأحاديث، ويدعي أن الحجاب تعصب ويصلي أحيانا في المسجد(24/79)
وأحيانا في غيره، وقد يجمع بين الصلوات، أما والدته فيقول بأنها لا تصلي، وله أخوات يصلين، ويسأل هل يحق له أن يعيش معهم، وما حكم الأكل من مال الوالد؟
الجواب: أولا: سب آيات القرآن والأحاديث الثابتة كفر يخرج من الإسلام، وترك الصلاة عمدا كفر أيضا، وأخذ الرشوة من كبائر الذنوب، فعليك أولا أن تنصح لوالديك في أداء الصلوات الخمس في أوقاتها، وأن تنصح الوالد في ضبط لسانه عن السب عامة وعن سب القرآن والحديث والاستهتار بالحجاب خاصة، وبترك الرشوة، فإن استجاب والداك للنصيحة فالحمد لله، وإلا فاهجرهما هجرا جميلا ولا تخالطهما مخالطة تضرك في دينك، ولا تؤذهما بل صاحبهما في الدنيا بالمعروف، وتابع النصيحة لأخواتك خشية أن يصيبهن فتنة بمعاشرتهما.
ثانيا: إن لم يكن لوالدك دخل إلا الكسب الحرام فلا تأكل منه، وإن كان ماله خليطا من الحرام والحلال جاز لك أن تأكل منه على الصحيح من أقوال العلماء، وإن أمكن أن تستعف عنه فهو خير لك. وصلى الله على نبينا وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(24/80)
فتوى برقم 4272 وتاريخ 17 \ 12 \ 1400 هـ
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
السؤال: (إننا في قرية نعيش فترة من القلق بسبب ابتداع أمور ليست في الدين، فنريد منكم جوابا شافيا على ما ابتدع حتى لا نتخبط ونطبق مبادئ الإسلام على صح، ونبذ المبتدعات ونزجرهم، ثم ما هي الكتب(24/80)
الدالة على ذلك، هدانا الله وإياكم إلى ما فيه الخير والهدى.
ثانيا: إننا شباب مقبل على دينه برغم ما يلقاه من تعنت وعسف الآباء الذين طغت عليهم المادية وأهملوا أمور دينهم، فما هي الكتب الصالحة الخالية من المبتدعات والإسهاب، والهادية على طريق الصواب، مع أن الآباء يحرموننا حتى من المصروف بسبب إقبالنا على ديننا وإنكارنا للجهل والتخريف في الدين المبتدع عندهم، فنريد منكم قائمة لذلك إن أمكننا أن نشتري بعضها لنعبد الله على علم، وهل صحيح توجد أحاديث موضوعة وضعيفة، وكيف نعرفها وخصوصا ما أكثر ما نجدها متداولة على ألسنة بعض الأئمة.
ثالثا. ما هي حقيقة هذه الطرق الكثيرة عندنا مثل: الشاذلية والأحمدية والسعدية والبرهانية وغيرها وكيف نرد عليهم، وما الكتب الشافية في ذلك، وهل هم على حق كما يزعمون هم بذلك.
رابعا: نرى أئمة كل على مذهب يخالف الآخر، وغالبا ما ينتهي الموضوع على معركة بينهم تؤدي إلى أن بعض المصلين يتركون الصلاة، فنريد جوابا شافيا كافيا في هذا الموضوع، وهل نتبع مذهبا واحدا، وكيف نوفق بين المذاهب حتى يستقر الأمر.
خامسا: قد يتطاول البعض على كتاب الله فيجعلون تفسير الآيات حسب أهوائهم ليضلوا الناس عن ذلك، مثال ذلك في سورة آل عمران قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (1) .
فيفسرون ذلك على الرقص في الأذكار والهينمة، ويتمتم بكلمات غير مفهومة، ويميل يمينا ويسارا وهو يقول: الله حي. الله حي. هكذا، وأمور أخرى، فيحللون تحديد النسل والغناء للنساء والمدح للرسول، ويستعملون في ذلك آلات الغناء والمجون، فنريد منكم التبصير بأمور ديننا وفهمها على حق، والرد على المبتدعين على الدين والكتب الشافية بذلك.
الجواب: أولا: لم تذكر البدع التي تريد الجواب عنها حتى نذكر
__________
(1) سورة آل عمران الآية 191(24/81)
لك الجواب ولكن نحب أن ننبهك إلى أصل عظيم وهو أن الأصل في باب العبادات المنع حتى يرد الدليل عليها شرعا، فلا يقال إن هذه العبادة مشروعة من أصلها أو من جهة عددها أو هيئتها إلا بدليل شرعي، فمن ابتدع في دين الله ما لم يشرعه فما صدر منه مردود عليه، قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » وفي رواية «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » .
ثانيا: ننصحك بتعلم كتاب الله وكثرة تلاوته وتدبره والعمل به والدعوة إليه، وتتعلم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تدعو الحاجة إليه، فتقرأ صحيح البخاري وصحيح مسلم وغيرهما من كتب السنة، وتسأل أهل العلم عما أشكل عليك.
ثالثا: طريقة الشاذلية والأحمدية والسعدية والبرهانية ونحوها من الطرق طرق ضلال لا يجوز للمسلم أن يتبع واحدة منها، بل الواجب عليه أن يتبع طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه وصحابته من بعده، الذين أخذوا بسنته، وكذا من أخذ بها بعدهم، قال صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله (3) » وقال صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (4) » . . وقال صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي (5) » .
أما الرد عليهم فيحتاج إلى أن تعرف أنت تفاصيل عقائدهم وبدعهم وشبههم، وتعرض ذلك على الكتاب والسنة، ونرى أن تستعين في ذلك بالكتب المؤلفة في ذلك: كالسنن والمبتدعات في مضار الابتداع للشيخ علي محفوظ، وإغاثة اللهفان من مكائد الشيطان للعلامة ابن القيم، وأمثال
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(3) صحيح مسلم الإمارة (1920) ، سنن الترمذي الفتن (2229) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4252) ، سنن ابن ماجه الفتن (3952) ، مسند أحمد بن حنبل (5/279) .
(4) صحيح البخاري الشهادات (2652) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2533) ، سنن الترمذي المناقب (3859) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2362) ، مسند أحمد بن حنبل (1/434) .
(5) سنن ابن ماجه الفتن (3992) .(24/82)
هذه الكتب.
رابعا: الخلاف الموجود في الفروع الفقهية بين أئمة المذاهب الأربعة يرجع إلى الأسباب التي نشأ عنها: ككون الحديث يصح عند بعضهم دون بعض، أو بلوغ الحديث لواحد دون الآخر إلى غير ذلك من أسباب الخلاف، فيجب على المسلم أن يحسن الظن بهم، فكل واحد منهم مجتهد فيما صدر منه من الفقه طالب للحق، فإن كان مصيبا فله أجران: أجر اجتهاده وأجر إصابته، وإن كان مخطئا فله أجر اجتهاده، وخطؤه معفو عنه.
وأما التقليد لهؤلاء الأئمة الأربعة فمن تمكن أن يأخذ الحق بدليله وجب عليه الأخذ بالدليل وإن لم يتمكن فإنه يقلد من وثق أهل العلم عنده حسب إمكانه، وهذا الاختلاف في الفروع لا يترتب عليه منع المختلفين أن يصلي بعضهم خلف بعض، بل الواجب هو أن يصلي بعضهم خلف بعض فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يختلفون في المسائل الفرعية ويصلي بعضهم خلف بعض، وهكذا التابعون وأتباعهم.
خامسا: الطريقة السليمة لتفسير القرآن هي أن يفسر بالقرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، والاستعانة على ذلك بأساليب اللغة ومقاصد التشريع، وأما التفسير الذي ذكرته لقوله تعالى: {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (1)
وأن بعض الناس يفسره بالرقص والأذكار والهمهمة ويتمتم بكلمات غير مفهومة، ويميل يمينا ويسارا وهو يقول: الله حي - ما سبق ذكره في السؤال - فهذا تفسير باطل ليس له أصل مطلقا، ونوصيك بمراجعة تفسير ابن جرير وابن كثير والبغوي وأشباهها في تفسير هذه الآية المذكورة في السؤال وأشباهها لتعرف الحق في ذلك من كلام أهل التفسير المأمونين.
وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 191(24/83)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(24/84)
فتوى برقم 4297 وتاريخ 5 \ 1 \ 1402 هـ
السؤال الأول: هل يوجد في الإسلام طرق متعددة مثل الطريقة الشاذلية والطريقة الخلواتية وغيرهما من الطرق، وإذا وجدت هذه الطرق فما هو الدليل على ذلك، وما معنى قول الحق تبارك وتعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) .
وما معنى قوله أيضا:
{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (2) .
ما هي السبل المتفرقة وما هو سبيل الله، ثم ما معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي رواه عنه ابن مسعود: «أنه خط خطا ثم قال: هذا سبيل الرشد، ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطا ثم قال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه (3) » .
الجواب: أولا: لا يوجد في الإسلام شيء من الطرق المذكورة ولا من أشباهها، والموجود في الإسلام هو ما دلت عليه الآيتان والحديث الذي ذكرت، وما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي (4) » وقوله عليه الصلاة والسلام:
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153
(2) سورة النحل الآية 9
(3) مسند أحمد بن حنبل (1/435) ، سنن الدارمي المقدمة (202) .
(4) سنن ابن ماجه الفتن (3992) .(24/84)
«لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك (1) » والحق هو اتباع القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة الصريحة، وهذا هو سبيل الله، وهو الصراط المستقيم، وهو قصد السبيل، والخط الواضح المستقيم المذكور في حديث ابن مسعود وما سوى ذلك من الطرق والفرق هي السبل المذكورة في قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (2) .
السؤال الثاني: ما هو حكم الشريعة الإسلامية في زيارة المقابر أي مقابر الصالحين حيث يذهب الرجل إلى قبر رجل صالح، ويصحبه في هذه الرحلة أهله وأقاربه بما فيهم النساء، ويأخذون معهم شاة ليذبحوها بجوار القبر، ثم يضعون الطعام ويأكلون ويشربون ويقيمون عند هذا القبر يوما أو بعض يوم وأحيانا إلى الصباح الباكر، وهذا القبر يبعد عن البيت بما لا يقل عن 20 كم أو أكثر أو أقل، ثم ينقلون بعضا من اللحم إلى أصدقاء لهم وأقارب في مكان آخر، يقصد أن هذا اللحم هدية أو صدقة، ومعلوم أن هذه الذبيحة ذكر عليها اسم الله عند ذبحها، وسمعنا من بعض الناس يقولون: إن هذا اللحم مثل لحم الخنزير تماما؛ أي أنه حرام شرعا، والله سبحانه وتعالى يقول:
{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (3) .
مع أن هذه الرحلة من أولها إلى آخرها لم يقصد بها إلا التقرب إلى الله بزيارة قبر هذا الصالح والدعاء عنده والتبرك به والتوسل إلى الله به، وإذا اختلف اثنان يحلفون على قبر هذا الصالح ويقيمون عندهم الموالد سنويا، ومن عادتنا إذا مرض أحد يذهب إلى قبور الصالحين، وإذا أصيب أحدنا بجنون أو مرض شديد يذهب به أقرباؤه إلى قبر الصالح، وأحيانا يبرأ من
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1920) ، سنن الترمذي الفتن (2229) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4252) ، سنن ابن ماجه الفتن (3952) ، مسند أحمد بن حنبل (5/279) .
(2) سورة الأنعام الآية 153
(3) سورة الأنعام الآية 118(24/85)
مرضه أو جنونه بسبب زيارته لذلك الصالح. فما رأي الإسلام في ذلك أفيدونا يرحمكم الله؟
الجواب: أولا: لا يجوز شد الرحال لزيارة القبور لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى (1) » .
ثانيا: تشرع زيارة القبور للرجال دون النساء إذا كانت في البلد أي بدون شد رحل للعبرة والدعاء لهم إذا كانوا مسلمين؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة (2) » واقتداء به صلوات الله وسلامه عليه في زيارته لأهل البقيع والشهداء بأحد والسلام عليهم والدعاء لهم.
ثالثا: دعاء الأموات أو الاستعانة بهم أو طلب المدد منهم أو الذبح لهم والاعتقاد فيهم أنهم يملكون جلب نفع أو دفع ضر أو شفاء مريض أو رد غائب، كل ذلك وأشباهه شرك أكبر يخرج من ملة الإسلام.
رابعا: الذبح لله عند القبور تبركا بأهلها وتحري الدعاء عندها وإطالة المكث عندها رجاء بركة أهلها والتوسل بجاههم أو حقهم ونحو ذلك بدع محدثة بل ووسائل الشرك الأكبر فيحرم فعلها، ويجب نصح من يعمله.
خامسا: أما الذبيحة عند القبور تحريا لبركات أهلها فهو منكر وبدعة، لا يجوز أكلها حسما للشرك ووسائله وسدا لذرائعه.
سادسا: أما ما قد يحصل لبعض المرضى الذي يتصلون أو يجيئون إلى القبور فلا حجة فيه لجواز هذا العمل؛ لأن البرء قد يصادف ذلك الوقت بتقدير الله عز وجل فيظن الجاهلون أنه بسبب الرجل الصالح الذي في القبر، ولأن عباد الأصنام والجن قد تقضى بعض حوائجهم من جهة الشيطان، ولم يكن ذلك دليلا على جواز فعلهم بل فعلهم شرك بالله وإن قضيت حوائجهم؛ لأن
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .
(2) صحيح مسلم الأضاحي (1977) ، سنن النسائي الجنائز (2033) ، سنن أبو داود الأشربة (3698) ، مسند أحمد بن حنبل (5/350) .(24/86)
الشياطين قد تغررهم بذلك على الثبات على الشرك، ولأن ذلك قد يصادف قدرة الله من البرء.
السؤال الثالث: ما هو معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه، حيث قال: «سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من قول خير البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة (1) » فيمن قيل هذا الحديث، وأي زمان الذي أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم.
الجواب: هذا الحديث وما في معناه قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الطائفة المسماة بالخوارج؛ لأنهم يغلون في الدين ويكفرون المسلمين بالذنوب التي لم يجعلها الإسلام مكفرة، وقد خرجوا في زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأنكروا عليه أشياء فدعاهم إلى الحق وناظرهم في ذلك فرجع كثير منهم إلى الصواب وبقي آخرون، فلما تعدوا على المسلمين قاتلهم علي رضي الله عنه وقاتلهم الأئمة بعده؛ عملا بالحديث المذكور وما جاء في معناه من الأحاديث، ولهم بقايا إلى الآن، والحكم عام في كل من اعتقد عقيدتهم في كل زمان ومكان.
السؤال الرابع: هل رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم الصدقة على نفسه وعلى آل بيته حقا أم لا؟ وإذا حرمت على آل بيته فمن هم آل بيته؟ وهل يوجد أحد من آل بيت الرسول في زمننا هذا؟ وإذا وجد أحد منهم فهل الصدقة أو الزكاة لم تزل محرمة عليه أم هي مقتصرة - أي الحرمة - على آل بيته في زمنه فقط؟
الجواب: ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الصدقة المفروضة لا تحل له ولا لآله عليه الصلاة والسلام، وهم في هذا المقام بنو هاشم، قال ابن قدامة رحمه الله في المغني: ولا نعلم خلافا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة
__________
(1) صحيح البخاري استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6930) ، صحيح مسلم الزكاة (1066) ، سنن النسائي تحريم الدم (4102) ، سنن أبو داود السنة (4767) ، مسند أحمد بن حنبل (1/88) .(24/87)
المفروضة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس (1) » أخرجه مسلم وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أخذ الحسن رضي الله عنه تمرة من الصدقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كخ كخ - ليطرحها - وقال: أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة (2) » متفق عليه ا. هـ.
وهذا الحكم قائم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين، فمن عرف في أي وقت أو أي مكان أنه من بني هاشم فإن الصدقة المفروضة لا تحل له، ومن لم يعرف جاز له إذا كان من أهل الزكاة أن يأخذ ما أعطيه منها لسد حاجته.
والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الزكاة (1072) ، سنن النسائي الزكاة (2609) ، سنن أبو داود كتاب الخراج والإمارة والفيء (2985) ، مسند أحمد بن حنبل (4/166) .
(2) صحيح البخاري الزكاة (1491) ، صحيح مسلم الزكاة (1069) ، مسند أحمد بن حنبل (2/476) ، سنن الدارمي الزكاة (1642) .(24/88)
فتوى برقم 4299 وتاريخ 5 \ 1 \ 1401 هـ
السؤال الأول: شخص يقول: أنا أعيش في قرية أغلب سكانها مسلمون ولكنهم يدعون غير الله عند نزول المصيبة والنازلة، وأن هؤلاء القوم يدعون ويعتقدون أن الأنبياء والأولياء والشهداء والصالحين هم المقربون إلى الله ونحن عصاة؛ فبذلك لسنا مؤهلين ولا مستحقين أن نسأل الله بلا وسيلة إليه من الأولياء والشهداء أو الصالحين، وهؤلاء القوم يدعون أن الأولياء يقربوننا إلى الله، وهم يسمعون دعاءنا بعد موتهم فيشفعون لنا عند الله.
أيضا هؤلاء القوم يقيمون الأعياد عند قبور الصالحين ويسمونهم بالعووس أو النذر كما يقيم الكفار عند معابدهم. وليس في محلتي أحد يؤمن بعقيدة السلف إلا أنا وحدي، أنا منفرد في قريتي بعقيدتي السلفية، وكلما دعوتهم إلى عقائد(24/88)
السلفية وهم يردونني بالقول: أنت مبتدع وأنت وهابي؛ نسبة إلى الشيخ المجدد محمد عبد الوهاب رحمه الله.
فهل يجوز الصلاة خلفهم والاقتداء بهم للضرورة أم لا؟ أو الانفراد أفضل في هذا الحال وهل يحل أكل ذبيحتهم أم لا؟
الجواب: من كان واقعه ما وصف لا تجوز الصلاة خلفه ولا تصح لو فعلت؛ لأن أعمالهم شركية تخرجهم من ملة الإسلام، ولا تؤكل ذبيحته؛ لأنه مشرك؛ لما ورد في ذلك من الأدلة الشرعية. ونسأل الله أن يثبتك على الحق وأن يهديهم على يديك حتى يكون لك مثل أجورهم، وأوصيك بالاستمرار في دعوتهم إلى الله وإرشادهم إلى الحق، بالوسائل الحسنة والأسلوب المؤثر الرقيق، والصبر على أذاهم عملا بقول ربنا عز وجل:
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) .
وقوله سبحانه عن لقمان أنه قال لابنه:
{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (2) .
وما جاء في معنى ذلك الآيات والأحاديث.
السؤال الثاني: النذر لغير الله باطل لا ينعقد، فإذا نذر إنسان غنما للشيخ محيي الدين أو عبد القادر الجيلاني مثلا لإنفاق لحومها للفقراء ووصول ثوابه إلى روح الشيخ، ومن ذلك يحصل البركة إلى الناذر من عند الشيخ في اعتقادهم، وهل ينعقد مثل هذه النذور؟ فإن لم ينعقد هل يحل أكل لحم هذه الغنم المنذورة، وهل يدخل هذا المنذور في ضمن قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ} (3) .
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة لقمان الآية 17
(3) سورة المائدة الآية 3(24/89)
لأن الحيوان المنذور حيوان طاهر، وهل يحرم هذا بسبب نذر باطل؟
الجواب: أولا: النذر لله والذبح لله عبادة من العبادات لا يجوز صرف شيء منها لغيره سبحانه وتعالى، فمن نذر لغير الله أو ذبح لغير الله فقد أشرك مع الله في عبادته غيره، ويعظم إثم ذلك ويشتد إذا اعتقد الناذر أو الذابح لميت أنه ينفع أو يضر؛ لكون ذلك شركا في الربوبية مع الشرك في الإلهية.
ثانيا: النذر لغير الله لا ينعقد بل هو باطل، وما نذر لغير الله من أطعمة مباحة أو حيوان مباح الأكل ولم يتم ذبحه فهو لصاحبه، فإن ذبحه لغير الله صار ميتة وحرم عليه وعلى غيره أكله، وهو داخل في عموم الآية المذكورة.
السؤال الثالث: هل يجوز قراءة القرآن عند زيارة القبور، مثل قراءة سورة الفاتحة أو سورة يس أو بعض القرآن.
الجواب: قراءة القرآن عند زيارة القبور لا تجوز، سواء كانت الفاتحة أو سورة يس أو غيرها.
وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(24/90)
فتوى برقم 4501 وتاريخ 30 \ 3 \ 1402 هـ السؤال: ما حكم الذي يحلق اللحى وشعر الرأس، وما حكم الحلاق الذي يحلق اللحى.
الجواب: حلق اللحية حرام، واتخاذه مهنة حرام؛ لأنه تعاون على الإثم(24/90)
والعدوان الذي نهى الله سبحانه وتعالى عنه بقوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) .
وأما حلق الرأس فمشروع ولا إثم على من حلق رأس غيره أو اتخذ حلقه حرفة يتكسب منها.
وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله صحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(24/91)
فتوى برقم 4405 وتاريخ 1 \ 3 \ 1402 هـ
السؤال: شخص يقول: إنه وجد نسخة فيها خرافات وشركيات مع آيات قرآنية، وأن الناس يتهافتون عليها ويعتقدون فيها اعتقادات باطلة، فما الحكم؟
الجواب: هذه النسخة المذكورة اشتملت على آيات وسور من القرآن الكريم، كما اشتملت على ثلاث صفحات تقريبا من كلام مؤلفها في بيان منافع هذه النسخة التي سماها حجاب الحصن الحصين، وعلى خمس صفحات من كلام بعض العارفين عن جده، فيها بيان منافع هذا الحجاب والتوسل في نفعها ببركة النبي العدناني، كما اشتملت على الآيات التي سماها الآيات السبع المنجيات، وعلى دعائها في زعمه، وعلى هذا تكون بدعة منكرة من عدة وجوه:
أولا: اشتمالها على التوسل ببركة النبي صلى الله عليه وسلم لنفع من اتخذها حجابا بتحقيق ما ينفعه أو دفع ما يضره، وهذا ممنوع؛ لكونه ذريعة إلى الشرك.(24/91)
ثانيا: زعم مؤلفها وبعض العارفين: أن هذا الحجاب نافع فيما ذكر من المنافع - ضرب من التخمين وقول بغير علم، ومخالف للشرع؛ لكونه نوعا من الشرك. وكذا زعمه أنه حصن حصين كذب وافتراء، فإن الله تعالى هو الحفيظ، ولا حصن إلا ما جعله حصنا، ولم يثبت بدليل من الكتاب أو السنة إن هذه النسخة حصن حصين.
ثالثا: اتخاذ تلك النسخة حجابا نوع من اتخاذ التمائم، وهي شرك مناف للتوكل على الله أو لكمال التوكل عليه إن كانت من غير القرآن، ومكروهة إن كانت من القرآن، وهذه النسخة ليست قرآنا فقط، بل هي خليط من القرآن وغيره، واتخاذها حجابا ليس مشروعا، فكيف تسمى الحجاب الحصين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(24/92)
فتوى برقم 4582 وتاريخ 15 \ 5 \ 1402 هـ
السؤال: هل ختام الصلاة سرا أو جهرا أم فردا أو جماعة هو صيغته التي يقولها الإنسان في كل وقت على حدة من أوقات الصلاة؟
وفقكم الله إلى ما فيه الخير، ونفعكم لخدمة الدين ونشر دعوة رسول الله.
الجواب: ختام الصلاة التسليم، وما يقال بعده من استغفار وتهليل وتسبيح وتحميد وتكبير يقال فرادى، ولا يجهر به جهرا يشوش به على من حوله.
وسبق أن صدر من اللجنة الدائمة فتوى فيما يقال بعد الصلاة هذا نصها:
(العبادات مبنية على التوقيف، فلا يجوز أن يقال: إن هذه العبادة مشروعة من جهة أصلها أو عددها أو هيئتها أو مكانها إلا بدليل شرعي يدل على ذلك، ولا نعلم سنة في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لا من قوله ولا من فعله ولا من تقريره.(24/92)
والخير كله باتباع هديه صلى الله عليه وسلم، وهديه صلى الله عليه وسلم في هذا الباب ثابت بالأدلة الدالة على ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم بعد السلام، وقد جرى خلفاؤه وصحابته من بعده ومن بعدهم التابعون لهم بإحسان، ومن أحدث خلاف هدي الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مردود عليه، قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » فالإمام الذي يدعو بعد السلام ويؤمن المأمومون على دعائه والكل رافع يده مطالب بالدليل المثبت لعمله وإلا فهو مردود عليه.
وإذا علم ذلك فإننا نبين نبذة من هديه صلى الله عليه وسلم: أنه إذا سلم استغفر الله ثلاثا ويقول: «اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام (2) » . قيل للأوزاعي: كيف الاستغفار؟ قال يقول: أستغفر الله أستغفر الله. هذه رواية مسلم والترمذي والنسائي إلا أن النسائي قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاته. . . وذكر الحديث، وفي رواية أبي داود: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن ينصرف من صلاته استغفر ثلاث مرات ثم قال: اللهم أنت السلام (3) » وفي رواية أبي داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم قال: «اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام (4) » .
وفي رواية لمسلم عن وراد مولى المغيرة بن شعبة قال: أملى علي المغيرة بن شعبة في كتاب إلى معاوية: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد (5) » . وفي رواية لمسلم أيضا عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: «أنه كان يقول في دبر كل صلاة حين يسلم لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. ولا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون (6) » . وقال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهلل بهن دبر كل صلاة (7) » . وفي رواية لمسلم
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (591) ، سنن الترمذي الصلاة (300) ، سنن أبو داود الصلاة (1512) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (928) ، مسند أحمد بن حنبل (5/280) ، سنن الدارمي الصلاة (1348) .
(3) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (591) ، سنن الترمذي الصلاة (300) ، سنن أبو داود الصلاة (1512) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (928) ، مسند أحمد بن حنبل (5/280) ، سنن الدارمي الصلاة (1348) .
(4) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (591) ، سنن الترمذي الصلاة (300) ، سنن أبو داود الصلاة (1512) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (928) ، مسند أحمد بن حنبل (5/280) ، سنن الدارمي الصلاة (1348) .
(5) صحيح البخاري الأذان (844) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (593) ، سنن النسائي السهو (1341) ، سنن أبو داود الصلاة (1505) ، مسند أحمد بن حنبل (4/245) ، سنن الدارمي الصلاة (1349) .
(6) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (594) ، سنن النسائي السهو (1340) ، سنن أبو داود الصلاة (1506) ، مسند أحمد بن حنبل (4/4) .
(7) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (594) ، سنن النسائي السهو (1340) ، سنن أبو داود الصلاة (1506) ، مسند أحمد بن حنبل (4/4) .(24/93)
أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سبح دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمد الله ثلاثا وثلاثين وكبر الله ثلاثا وثلاثين فتلك تسع وتسعون ثم قال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفر له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر (1) » .
ومن أراد المزيد من الاطلاع على الأدعية فعليه بالرجوع إلى كتاب الأدعية والأذكار من كتب الجوامع مثل جامع الأصول ومجمع الزوائد والمطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية وغيرها.
وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (597) ، مسند أحمد بن حنبل (2/238) ، موطأ مالك النداء للصلاة (488) .(24/94)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
أولا:
ثلاثة أسئلة مختلفة
تقدم أحد السائلين بعدة أسئلة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، فأجاب عليها سماحته مشكورا.
السؤال الأول:
قبل عدة سنوات أفطرت شهر رمضان كاملا، وكنت منوما في المستشفى، ومنعني الأطباء من الصيام، ونظرا لأن صحتي لا تسمح لي بالصيام فقد قمت بالإطعام عن الشهر كاملا قبل حلول شهر رمضان التالي، إلا أنني صمت رمضان لعدة سنوات تالية، وقد قضيت عن الشهر الذي أفطرت فيه صيام 23 يوما وبقي علي 7 أيام، فهل يجزئ الإطعام عن الشهر في السابق أم يجب علي قضاء 7 أيام مع أن صحتي بين حين وآخر لا تسمح بالصيام.
الجواب:
يجب عليك أن تقضي الأيام السبعة مع إطعام مسكين عن كل يوم، قدره نصف صاع من قوت البلد من أجل تأخير الصيام عن رمضان الذي يلي رمضان الذي أفطرت فيه، يقول الله سبحانه:
{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 185(24/95)
ولأن جماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أفتوا: من أخر قضاء الصيام بإطعام مسكين عن كل يوم مع القضاء، وفق الله الجميع والسلام.(24/96)
السؤال الثاني:
لي قريب أصيب بعدة أمراض مزمنة، ولا يستطيع العمل، وعنده أولاد منهم أربعة يعملون ويساعدون والدهم في معيشته، إلا أن زوجته تقول لزوجها: لا يحق لك أن تأخذ من الأولاد شيئا، وأن نفقتها تجب على الزوج، وتطلب من زوجها الخروج بدون إذنه، وتعمل ما تشاء، وسبق لها أن طلبت الطلاق، وقالت لزوجها: " إنه محرم عليها كما تحرم أمه عليه ".
الجواب:
الواجب على الزوجة المذكورة السمع والطاعة لزوجها في المعروف، وليس لها الخروج إلا بإذنه إذا كان قائما بحقها من نفقة وكسوة، وليس لها الاعتراض عليه فيما يأخذه من أبنائه، أما تحريمها له فعليها في ذلك كفارة يمين مع التوبة إلى الله سبحانه، وكفارة اليمين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم لكل واحد نصف صاع من قوت البلد من تمر أو أرز وغيرهما، أو كسوة تجزئه في الصلاة، أم طلبها الطلاق فهذا ينظر في سببه، والنظر في ذلك يكون للمحكمة وفيما تراه المحكمة الكفاية إن شاء الله، وفق الله الجميع لما يرضيه والسلام.(24/96)
السؤال الثالث:
قبل أربع سنوات تسلم أحد الأشخاص من أحد المطوفين بدلا عن حاج في الخارج إلا أنه لم يقم بأداء فريضة الحج عن هذا الشخص نظرا لحاجته للمال ولتهاونه، والآن هذا الشخص يريد أن يؤدي فريضة الحج؛ لأنها في ذمته إلا أنه لا يستطيع بسبب مرضه، ولكنه مستعد أن يدفع المال لأحد الأشخاص ويحج عنه، فهل هذا يسد مكانه ويجزئه عن التقصير(24/96)
ويبرئ ذمته، علما بأن المطوف الذي وكله بأداء الحج غير موجود ولا يعلم مكانه.
الجواب:
إذا كان الواقع هو ما ذكره السائل فإنه يجزئ المذكور أن يدفع المال إلى شخص يطمئن إلى دينه وأمانته ليحج به عمن دفعه إليه؛ لقول الله سبحانه:
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) .
وفق الله الجميع لما يرضيه والسلام.
__________
(1) سورة التغابن الآية 16(24/97)
ثانيا:
أسئلة فقهية أجاب عليها
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
السؤال الأول:
رجل غاب عن زوجته أربع سنوات ثم ولدت بعد المدة المذكورة فهل يلحقه الولد، علما بأن زوجته حرة وليست مملوكة؟
الجواب:
إذا كان قد دخل بها فالولد يلحق بالزوج في أصح أقوال أهل العلم؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الولد للفراش (1) » متفق على صحته، وللزوج أن ينفيه إذا علم أنه ليس منه ويلاعنها على ذلك.
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2053) ، صحيح مسلم الرضاع (1457) ، سنن النسائي الطلاق (3484) ، سنن أبو داود الطلاق (2273) ، سنن ابن ماجه النكاح (2004) ، مسند أحمد بن حنبل (6/226) ، موطأ مالك الأقضية (1449) ، سنن الدارمي كتاب النكاح (2236) .(24/97)
السؤال الثاني:
هل كتابة بعض الآيات من القرآن لتعلق جائزة أم لا؟(24/97)
الجواب:
هذا فيه تفصيل، فإن كانت تعلق في جدار المجلس والبيت للعظة والتذكير فلا بأس، أما تعليقها في جدران المسجد فيكره ذلك؛ لما فيه التشويش على المصلين، وأما تعليقها على الصبيان والمرضى على سبيل الحرز عن الجن أو بعض الأمراض، فهذا لا يجوز؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك (1) » ، والمراد بالرقى المذكورة الرقى المجهولة، أو بأسماء الشياطين والجن ونحو ذلك مما لا يعرف معناه أو فيه مأخوذ شرعي. أما الرقى بالآيات القرآنية والأدعية الشرعية فلا بأس بها لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا (2) » . رواه مسلم في صحيحه.
ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رقاه جبرائيل وهو - صلى الله عليه وسلم - رقى بعض أصحابه، ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد - رحمه الله - في المسند عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له (3) » . وفي رواية أخرى: «من تعلق تميمة فقد أشرك (4) » . وهذا عند أهل العلم من الشرك الأصغر إلا أن يعتقد المعلق لها أنها تستقل بالنفع والدفع فإن ذلك يكون من الشرك الأكبر بهذا الاعتقاد.
وقد بسط العلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن - رحمه الله - الكلام في هذه المسائل في كتابه فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، فنوصي بمراجعته لمزيد الفائدة.
__________
(1) سنن أبو داود الطب (3883) ، سنن ابن ماجه الطب (3530) ، مسند أحمد بن حنبل (1/381) .
(2) صحيح مسلم السلام (2200) ، سنن أبو داود الطب (3886) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (4/154) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (4/156) .(24/98)
السؤال الثالث:
بعض الناس يجعلون الورد (بسم الله الرحمن الرحيم) 786 مرة، ويقرءون الواقعة 42 مرة، وسورة الذاريات 60 مرة، وسورة يس 41 مرة، عند الميت وغيره، ويقرءون في الورد (يا لطيف) 16641 مرة،(24/98)
فهل هذا جائز أم لا؟
الجواب:
لا أعلم لهذا العمل أصلا بهذا العدد المعين، بل التعبد بذلك واعتقاد أنه سنة بدعة، وهكذا فعل ذلك على هذا الوجه عند الميت وقت الموت أو بعد الموت، كل ذلك لا أصل له على هذا الوجه، ولكن يشرع للمؤمن الاستكثار من قراءة القرآن ليلا ونهارا، وأن يسمي الله سبحانه عند ابتداء القراءة، وعند الأكل والشرب، وعند دخول المنزل، وعند جماع أهله، وغير ذلك من الشئون التي وردت بها السنة، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر (1) » . وهكذا استعمال (يا لطيف، أو يا الله، أو نحو ذلك) بعدد معلوم يعتقد أنه سنة لا أصل لذلك بل هو بدعة، ولكن يشرع الإكثار من الدعاء بلا عدد معين. كقوله: يا لطيف الطف بنا، أو اغفر لنا، أو ارحمنا، أو اهدنا، ونحو ذلك.
وهكذا يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا غفور، يا حكيم، يا عزيز، اعف عنا، وانصرنا، وأصلح قلوبنا وأعمالنا، وما أشبه ذلك؛ لقول الله سبحانه:
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (2) .
وقوله عز وجل:
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (3) .
ولكن بدون تحديد عدد لا يزيد عليه ولا ينقص. إلا ما ورد فيه تحديد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل قول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في كل يوم مائة مرة (4) » ، فهذا ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم، وهكذا قول سبحان الله وبحمده مائة مرة في الصباح
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (4840) ، سنن ابن ماجه النكاح (1894) .
(2) سورة غافر الآية 60
(3) سورة البقرة الآية 186
(4) صحيح البخاري بدء الخلق (3293) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2691) ، سنن الترمذي الدعوات (3468) ، سنن ابن ماجه الأدب (3798) ، مسند أحمد بن حنبل (2/375) ، موطأ مالك النداء للصلاة (486) .(24/99)
والمساء، وهكذا سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثا وثلاثين مرة بعد كل صلاة من الفرائض الخمس، الجميع تسع وتسعون بعد كل صلاة ويختم المائة بقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير (1) » .
كل هذا قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم، وهكذا كل ما جاء في معناه، وإن قرأ عند المحتضر قبل أن يموت سورة يس أو غيرها من القرآن فلا بأس؛ لأنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على ذلك.
ويستحب تلقينه لا إله إلا الله حتى يختم له بذلك؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله (2) » رواه مسلم في صحيحه، والمراد بالموتى هنا المحتضرون في أصح قولي العلماء؛ ولأنهم الذين ينتفعون بالتلقين.
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (844) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (593، 597) ، سنن النسائي السهو (1341) ، سنن أبو داود الصلاة (1504، 1505) ، مسند أحمد بن حنبل (2/371) ، أول مسند الكوفيين (4/250) ، موطأ مالك النداء للصلاة (488) ، سنن الدارمي الصلاة (1349) .
(2) صحيح مسلم الجنائز (916) ، سنن الترمذي الجنائز (976) ، سنن النسائي الجنائز (1826) ، سنن أبو داود الجنائز (3117) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1445) ، مسند أحمد بن حنبل (3/3) .(24/100)
السؤال الرابع:
يوجد اختلاف بين العلماء في القبض والإرسال أيهما أصح بطريق الكتاب والسنة؟
الجواب:
الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث وائل بن حجر، وسهل بن سعد، - رضي الله عنهما- هو القبض، وهو وضع اليمين على الشمال حال القيام، والأفضل وضعهما على الصدر، ومن أرسل فصلاته صحيحة؛ لكنه ترك الأفضل، ولا ينبغي في هذا النزاع بين الإخوان، بل ينبغي لهم المذاكرة بالحكمة والأسلوب الحسن لطلب الفائدة.
وقد كتبنا في هذه المسألة مقالا موجزا.(24/100)
السؤال الخامس:
رجل صائم في رمضان واشتد به العطش فشرب فما الحكم؟(24/100)
الجواب:
عليه قضاء ولا كفارة عليه في أصح قولي العلماء، وإن كان قد تساهل في ذلك فعليه التوبة إلى الله تعالى مع القضاء.
أما الكفارة فلا تجب إلا على من جامع في نهار رمضان ممن يجب عليه الصيام؛ لأن الحديث ورد في ذلك على الصحيح.(24/101)
السؤال السادس:
من الذي لا صوم عليه؟
الجواب:
المجنون، وفاقد العقل، والصبي والصبية قبل البلوغ.
أما الحائض والنفساء فلا يجوز لهما الصوم في رمضان، وعليهما القضاء، فأما المريض والمسافر فيجوز لهما الصوم، والفطر لهما أفضل، وعليهما القضاء؛ لقول الله سبحانه:
{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) (الآية 185 من سورة البقرة) .
لكن إذا كان المريض لا يرجى برؤه بشهادة الأطباء الثقات؛ فلا يلزمه الصوم ولا القضاء، وعليه أن يطعم مسكينا عن كل يوم، وهو نصف صاع - بالصاع النبوي - من قوت البلد، وهكذا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة اللذان لا يستطيعان الصوم، يطعمان عن كل يوم نصف صاع من قوت البلد ولا صوم عليهما ولا قضاء، وهكذا حال الحامل والمرضع إذا شق عليهما الصيام تفطران وعليهما القضاء كالمريض.
__________
(1) سورة البقرة الآية 185(24/101)
السؤال السابع:
ما حكم الطريقة التيجانية، وما حكم وردهم؟(24/101)
الجواب:
الطريقة التيجانية من الطرق المبتدعة، وهكذا وردهم ورد مبتدع، ولا يجوز من طريقتهم أو أورادهم إلا ما وافق الشرع المطهر، وهكذا غيرهم من أصحاب الطرق الصوفية الأخرى كالقادرية والشاذلية والنقشبندية وغيرها، يجب على المنتسبين لها أن يعرضوها على ما قال الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فما وافق الكتاب والسنة من هذه الطرق شرع الأخذ به، وما خالفهما وجب تركه؛ لقول الله عز وجل:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) (الآية 59 سورة النساء) .
ولقوله سبحانه:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2) (الآية 7 سورة الحشر) .
ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (3) » ، متفق على صحته من حديث عائشة - رضي الله عنها -، وفي رواية عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (4) » ، خرجه الإمام مسلم في صحيحه.
وخرج مسلم في صحيحه أيضا عن جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه كان يقول في خطبة يوم الجمعة: أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (5) » .
ونسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين جميعا، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ومن مضلات الفتن، إنه سميع قريب.
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الحشر الآية 7
(3) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(4) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(5) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/371) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .(24/102)
البدعة وأثرها
في الانحراف في الاعتقاد
الشيخ \ عبد الله بن سليمان المنيع
الحمد لله حمدا كثيرا كما هو أهله، وكما ينبغي لكمال وجهه، والصلاة والسلام على رسوله الهادي إلى صراطه المستقيم بالحكمة والبصيرة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره، واستن بسنته، وسلك سبيله، إلى يوم الدين، وبعد:
لا شك أن الله سبحانه وتعالى أكرمنا - معشر بني آدم - بجلائل النعم، وفضلنا على كثير من خلقه، فلقد أكرمنا أول إكرام بخلقه تعالى أبانا بيديه الشريفتين، قال تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (1) .
وبنفخه سبحانه الروح فيه من روحه، قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (2) .
وبأمره سبحانه وتعالى الملائكة بالسجود له تقديرا لمقامه، ورفعا لذكره، وتعبيرا عن إكرامه وتقديره، قال تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} (3) {إِلَّا إِبْلِيسَ} (4) .
__________
(1) سورة ص الآية 75
(2) سورة ص الآية 72
(3) سورة ص الآية 73
(4) سورة ص الآية 74(24/103)
وبجعله خليفة في أرضه، قال تعالى في حق آدم:
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (1) .
وبخلقه تعالى ما في الأرض جميعا لآدم وبنيه، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (2) .
وبتعليمه أبانا آدم الأسماء كلها، ثم أمره تعالى آدم أن يخبر الملائكة بأسمائهم، ليظهر فضله وعلو مقامه، ودقة حكم الله تعالى فيما يقدره ويقضيه، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (3) {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (4) {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} (5) .
الآية، ثم إن من أكبر فضل الله على آدم وبنيه أن خلقهم في أحسن تقويم، وصورهم فأحسن صورهم، قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (6) .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} (7) {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} (8) {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} (9) .
وأن ميزهم على كثير ممن خلق بعقل يميزون به بين الصالح والطالح، والهدى والضلال، عقل يستطيع به الإنسان أن يدرك وجود الله وتفرده بالخلق والتكوين، وبالتالي إفراده بالعبادة والتعظيم والإجلال.
لقد أكبر العقلاء نعمة العقل حتى تطرف بعضهم فاعتبروه وحده حجة الله على عباده في إفراده تعالى بالعبادة، وأن رسالة الرسل تعني التذكير من الله تعالى بما يدعو إليه العقل من حقوق الله على عباده،
__________
(1) سورة البقرة الآية 30
(2) سورة البقرة الآية 29
(3) سورة البقرة الآية 31
(4) سورة البقرة الآية 32
(5) سورة البقرة الآية 33
(6) سورة التين الآية 4
(7) سورة الانفطار الآية 6
(8) سورة الانفطار الآية 7
(9) سورة الانفطار الآية 8(24/104)
ولهذا يعتبر العقل من أسس التكليف إن لم يكن الأساس الوحيد للتكليف، فإن قلتم: التكليف مرفوع عن ثلاثة أحدهم: المجنون - فاقد العقل -، والثاني: النائم حتى يستقيظ، والثالث: الصغير حتى يبلغ. ولا شك أن الاثنين - النائم والصغير - ليس لديهما عقل مؤهل للتكليف، فرفع عنهما التكليف حتى يكتمل عقل كل واحد منهما.
إننا لو أردنا أن نسلك مسلك إحصاء نعم الله تعالى على آدم وبنيه لركبنا شططا، فنعمه عظيمة لا تحصى، وآلاؤه جليلة لا تعد، والأمر في ذلك ما قاله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:
{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} (1) .
لقد تجبر إبليس على ربه فعصى، وغمر الحقد والحسد إبليس فحسد آدم وحقد عليه؛ فامتنع من الامتثال لأمر الله تعالى حينما أمر الملائكة بالسجود لآدم، فقال:
{أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} (2) {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا} (3) .
نعم، لقد استكثر إبليس على ربه ما تفضل به على آدم من وجه الإكرام والاحترام، وما خصه به من آيات التقدير، فامتنع على رب العالمين حقدا وحسدا لآدم:
{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (4) {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} (5) {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (6) {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} (7) {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (8) {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (9) .
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 34
(2) سورة الإسراء الآية 61
(3) سورة الإسراء الآية 62
(4) سورة الأعراف الآية 12
(5) سورة الأعراف الآية 13
(6) سورة الأعراف الآية 14
(7) سورة الأعراف الآية 15
(8) سورة الأعراف الآية 16
(9) سورة الأعراف الآية 17(24/105)
وقال تعالى عن الشيطان ورغبته الصادقة في إضلال عباد الله:
{لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} (1) {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} (2) .
بعد خلق الله تعالى لآدم وزوجه في أحسن تقويم، وإنعامه عليهما بصنوف النعم وضروب التكريم، أنعم عليهما بإسكانهما الجنة، قال تعالى: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (3) .
ولكن الشيطان قد آلى على نفسه أن يضل من يستطيع إضلاله من بني آدم مبتدئا بآدم نفسه وبزوجه، قال تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} (4) {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} (5) {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} (6) .
فعصى آدم ربه فغوى، فكان ذلك أول غواية لآدم، وكانت هذه الغواية أول شرارة أطلقها الشيطان في تنفيذ مخططه العدواني لآدم وبنيه، وكانت نتيجة ذلك حكم الله تعالى على آدم وزوجه بحرمانهما من الاستمرار في سكن الجنة، وأمره تعالى بإهباطهم إلى الأرض ليتأصل العداء بين الفريقين:
{قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} (7) .
__________
(1) سورة النساء الآية 118
(2) سورة النساء الآية 119
(3) سورة الأعراف الآية 19
(4) سورة الأعراف الآية 20
(5) سورة الأعراف الآية 21
(6) سورة الأعراف الآية 22
(7) سورة الأعراف الآية 24(24/106)
ولكن آدم عنصر فطره الله على فطرة الحق فقد ندم ندما عظيما، واستشعر مع زوجه ثقل المعصية:
{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2) .
فعصم الله آدم وزوجه من الانقياد لوساوس الشيطان، فيئس إبليس من معاودة الكرة عليهما للغواية والإضلال؛ فاتجه إلى ذرية آدم يبدئ ويعيد، غواية وإضلالا، حتى استطاع أن يوجد بين ولدي آدم هابيل وقابيل ما باعد بينهما، فأضمر أحدهما للآخر ما يضمره العدو لعدوه، حتى وصلت عداوتهما إلى أن قتل أحدهما الآخر عمدا وعدوانا وبغيا وانقيادا لوساوس الشيطان ومكايده، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (3) {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (4) {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} (5) {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (6) .
ثم إن الله سبحانه وتعالى تابع على بني آدم نعمه، بإرساله رسله إليهم مبشرين ومنذرين ومحذرين من عداوة الشيطان لهم، فكان أول رسول من الله لعباده نوحا - عليه السلام، فكان من قومه معه العناد والاستكبار حتى يئس من هدايتهم؛ فأغرقهم الله، إلا من هداه الله فاتبع رسوله فأنجاهم الله من الهلاك، ثم إنه كان من هؤلاء رجال امتازوا على غيرهم بالصلاح والاستقامة وقوة الإيمان، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى
__________
(1) سورة الأعراف الآية 23
(2) سورة البقرة الآية 37
(3) سورة المائدة الآية 27
(4) سورة المائدة الآية 28
(5) سورة المائدة الآية 29
(6) سورة المائدة الآية 30(24/107)
خلفهم بأن يصوروا صورهم وينصبوها في مجالسهم ليكون ذلك ذكرى لما هم عليه من التقى والصلاح فتزيد ذكراهم من تذكرهم في العمل الصالح ففعلوا، حتى إذا هلك أولئك الذين صوروا تلك الصور، جاء الشيطان إلى خلفهم ووسوس إليهم أن الغرض من تصوير هذه الصور عبادتهم، فانقادوا لوساوسه فعبدوهم، وفي هذا المعنى جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد. أما ود: كانت لكلب بدومة الجندل، أو ما سواع كانت لهذيل، وأما يغوث: فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجوف عند سبأ، وأما يعوق: فكانت لهمدان، وأما نسر: فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم، وفعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت. اه.
وبذلك حصل الشرك بالله وعبادة الأوثان، ثم تتابعت القرون تلو القرون، وتتابع إرسال الرسل، فجاءت رسل الله بالحق وبالسلطان المبين مبشرين ومنذرين ومبلغين رسالات رب العالمين، فكان منهم هود: إلى عاد، وصالح: إلى ثمود، ولوط: إلى قومه، وإبراهيم وبنوه وأحفاده وأسباطه، وكان الحق في صراع مع الباطل، والشيطان في حرب مستمر مع عباد الله، يضل ويغوي ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، حتى وصلت الرسالة إلى موسى - عليه السلام، فتبعه من بني إسرائيل من تبعه على الرغم مما صار منهم من التعنت والتجبر والاستطالة، والكفر بنعم الله انقيادا لوساوس الشيطان وإيحاءاته، ثم ما برح الشيطان بهم يضلهم ويمنيهم حتى كان منهم من آذى رسل الله بعد موسى بالقتل والتنكيل والاستهزاء والسخرية، وقد كان للشيطان في سبيل الغواية والإضلال طرق مختلفة وخطط ملتوية، فلئن كان هدفه ممن يمكن إضلالهم بالكفر(24/108)
والجحود والتنكر لحقوق الله تعالى زاد في إغوائهم ليصلوا إلى الكفر بالله وبفضله وبنعمه، بل بوجوده، فهذا ضحيته فرعون يقول: ما علمت لكم من إله غيري، وهذا ضحيته الآخر قارون يقول حينما خرج في زينته واغتر بما تحت يده من كنوز تنوء بمفاتيحها العصبة، يقول في كفر وتبجح بالكفر: إنما أوتيته على علم عندي. ولهذين الضحيتين أمثال وأشكال.
ولئن كان هدف الشيطان ممن يريد إضلاله بالانحراف عن دين الله ممن أنار الله بصائرهم بالهدى واتباع سبل الحق، فإن طريقه نحو إضلالهم: الدخول عليهم من باب الغلو في الدين والابتداع في أصوله وقواعده ومقتضياته، فكان من أحبار اليهود ورهبانهم من حرفوا كتاب الله، وغيروا فيه، وأخفوا ما لا يتفق مع أهوائهم ونزعاتهم، وجعلوا لله شركاء في ملكه وربوبيته وألوهيته، فقالوا: عزير ابن الله، حتى جاءت الديانة اليهودية ديانة ممسوخة مشوهة مبنية على التعالي على عباد الله، واستباحة حرماتهم من أموال ونفوس وأعراض، على حد قولهم: ليس علينا في الأميين سبيل، لقد دأب إبليس وما زال في حرصه ودأبه على القيام بما التزم به من احتناك ذرية آدم وإغوائهم وإضلالهم، فلقد أراد الله لعباده الخير وإنقاذهم من المسالك اليهودية في استباحة حرمات الله وحرمات عباده، حيث كانت المجتمعات الإنسانية تئن تحت وطأة مظالم اليهود وتجبرهم وتعاليهم على غيرهم، ومحاولتهم السيطرة على المجتمعات الإنسانية بدعواهم الآثمة الطاغية:
{لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} (1) الآية (75) من سورة آل عمران.
وبدعواهم الكاذبة: نحن أبناء الله وأحباؤه. فأرسل الله عيسي - عليه السلام - رسولا من عند الله مؤيدا بالمعجزات الباهرة، والآيات الدالة على صدقه رسولا من رب العالمين، يدعو الناس إلى إفراد الله بالعبادة والتعامل مع عباد الله بما يحفظ لهم كراماتهم وحقوقهم، وأن لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، وأن الكل عباد الله وخلقه، وأن الله تعالى
__________
(1) سورة آل عمران الآية 75(24/109)
وليهم وحسبهم، فاستجاب لدعوته عدد كبير من عباد الله إلا أن الشيطان غاظته هذه الاستجابة فخطط للفساد والإفساد، والضلال والإضلال، وعامل كل فريق بما يستحقه من أسباب الغواية والكفر والانحراف، فاتجه بثقله إلى أتباع عيسى - عليه السلام -، يوحي إليهم أن عيسى ليس من طينة البشر، فقد جاء من غير أب، وهذا يعني أن الله أبوه، تعالى الله وتقدس، وأنه يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخبر الناس بما يأكلونه وما يدخرونه في بيوتهم، ويخلق من الطين طيرا فينفخ فيه فيكون طيرا، فما يقوم به عيسى ليس من جنس المعجزات الدالة على النبوة والرسالة، وإنما هي من القدرات الإلهية، فهو رب من الأرباب، ينبغي أن يعبد كما يعبد رب الأرباب، فغلا فيه قومه وأتباعه حتى جعلوه معبودا مع الله.
ثم اتجه إبليس إلى اليهود المعاصرين لرسالة عيسى - عليه السلام - ليتمادى بهم في الكفر والضلال، والتجبر والعناد، فكفروا برسالة عيسى - عليه السلام - ورموا أمه العذراء بالإفك والإثم والفجور، وقالوا عن عيسى إنه ابن زنا وسفاح، وناصبوه وأمه وأتباعه العداء، وهموا بقتله، فقتلوا من ظنوه عيسى، ثم قالوا تبجحا وعنادا وطغيانا: إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم. ولكن الأمر كما قال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} (1) {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (2) .
ثم استمر الشيطان في تنفيذ مخططه الغوغائي، فبعد أن استقامت الديانة المسيحية وقتا ما، أوحى الشيطان إلى أحبارها ورهبانها بالوساوس وخواطر السوء، فقاموا بتحريف كتاب الله الإنجيل وتبديله والتغيير فيه،
__________
(1) سورة النساء الآية 157
(2) سورة النساء الآية 158(24/110)
وإخفاء ما فيه إقرار حق أو إيجاب عقوبة، ففعلوا بكتاب الله الإنجيل كما فعل اليهود بكتاب الله التوراة، فانحرفت الديانة المسيحية عن الاتجاه السليم، وانطمست معالمها الأصيلة وأصبحت ديانة لا تعرف مقتضياتها إلا من الأحبار والرهبان، يحلون ما شاءوا، ويحرمون ما شاءوا، باسم الإله، وباسم كتاب الله، وقد انتشرت الديانة المسيحية في بعض الجهات والجزيرة العربية كاليمن ونجران وغيرها. أما الحجاز وقلب الجزيرة العربية فقد كان فيها من تدين بالمسيحية إلا أن عبد الشيطان ووليه عمرو بن لحي استجاب لداعي الشيطان وخواطره، فنقل مجموعة من الأصنام، ودا، وسواعا، ويغوث، ويعوق، ونسرا، وغيرها إلى مكة المكرمة وغيرها، ثم تكاثرت الأصنام في مكة وحول الكعبة حتى بلغ عددها ثلاثمائة وستين صنما، فعكف الناس عليها عبادة وتعظيما وأملا في شفاعتها على حد زعمهم {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (1)
ولكن الله بفضله ورحمته وشمول رعايته خلقه قضى بإنقاذ عباده من مكايد الشيطان ومخططاته، فأرسل رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - على فترة من الرسل، وبعد أن تحولت الديانات السماوية بفعل الأحبار والرهبان إلى ديانات ممسوخة، يمجها العقل، وتأباها الفطر السليمة، سواء ما كان منها متعلقا بعلاقة العبد بربه، أو ما كان متعلقا بعلاقة العباد مع بعضهم، فجاء - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين بشيرا ونذيرا، وسراجا منيرا، ورسولا عاما للثقلين الجن والإنس، مؤيدا بكتاب كريم من رب رحيم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فيه العظة والعبرة، وفيه الحكمة والموعظة، وفيه الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، وفيه التشريع الضامن لأحسن علاقة بين العبد وبين ربه، وبين العباد فيما بينهم ضمن لهم الحفاظ على كامل الحقوق الأساسية - الدين والنفس والعقل والمال والعرض - وعلى كامل ما تفرع عنها مما يعود عليه بالكمال ورفع الحرج.
جاء - صلى الله عليه وسلم - كما وصفه ربه:
__________
(1) سورة الزمر الآية 3(24/111)
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1) (التوبة \ 128) فبلغ - صلى الله عليه وسلم - رسالة ربه، وأمانة من أرسله، ونصح - صلى الله عليه وسلم - للأمة النصح الكامل، ما من خير إلا دل الأمة عليه، وما من شر إلا حذرها منه، فانقاد لدعوته - صلى الله عليه وسلم - صفوة مختارة من عباد الله، آمنوا بالله، وأخلصوا دينهم لله، وجاهدوا مع رسول الله حق الجهاد، مضحين في سبيل الله بأموالهم وديارهم وأهليهم، حتى دخل الناس في دين الله أفواجا، وحطم - صلى الله عليه وسلم - الأصنام التي حول الكعبة وهو يقول:
{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (2) (الإسراء \ 81) .
وكان - صلى الله عليه وسلم - مدركا أن الشيطان حريص على نقض ما أبرمه - صلى الله عليه وسلم - من وحدة إسلامية ترجع في حياتها وفي تكييف علاقاتها إلى كتاب الله وإلي سنة رسول الله، وأن مداخل الشيطان على عباد الله مختلفة ومتنوعة، فمن كان إيمانه ضعيفا انقض عليه بخيله ورجله في التشكيك وطرح الشبهات في أصول الإيمان وفروعه؛ حتى يرتد عن دين الله بالكفر والإلحاد والزندقة. وإن كان إيمانه قويا لا مدخل عليه في التشكيك والزعزعة دخل عليه من باب الابتداع، ومن باب الغلو في الدين وأتباعه كما هي حاله لعنه الله مع الأحبار والرهبان من اليهود والنصارى، حيث انقادوا لوساوس الشيطان ومكايده وضلالالته، فحرفوا كتب الله، وغيروا مقتضيات شرعه، حتى صارت ديانات ممسوخة ليس لها عند الله قبول، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) آل عمران \ 85.
لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدركا طرق غواية الشيطان وإضلاله؛ فركز - صلى الله عليه وسلم - لحماية هذا الدين على أمرين:
أحدهما: التحذير من الغلو والإفراط في الدين ومجاوزة الحد في المدح والثناء إذا كان ذلك لغير الله، ففي الصحيحين عن عمر بن
__________
(1) سورة التوبة الآية 128
(2) سورة الإسراء الآية 81
(3) سورة آل عمران الآية 85(24/112)
الخطاب - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله (1) » .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو (2) » رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه.
ولمسلم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هلك المتنطعون (3) » قالها ثلاثا. وفي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - أن أم سلمة ذكرت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله (4) » .
ولهما عنها قالت: «لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال: وهو كذلك لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم (5) » مساجد يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا.
ولمسلم عن جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (6) » .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «إن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندا قل ما شاء الله وحده (7) » . رواه النسائي وابن ماجه.
ولأبي داود عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال: «جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، نهكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3445) ، مسند أحمد بن حنبل (1/47) .
(2) سنن النسائي مناسك الحج (3057) .
(3) صحيح مسلم العلم (2670) ، سنن أبو داود السنة (4608) ، مسند أحمد بن حنبل (1/386) .
(4) صحيح البخاري الصلاة (434) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (528) ، سنن النسائي المساجد (704) ، مسند أحمد بن حنبل (6/51) .
(5) صحيح البخاري الصلاة (436) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(6) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .
(7) سنن ابن ماجه الكفارات (2117) ، مسند أحمد بن حنبل (1/214) .(24/113)
الأموال فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: سبحان الله، سبحان الله، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك أتدري ما الله؟ إن شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد (1) » .
ولأبي داود بسند جيد عن عبد الله بن الشخير - رضي الله عنه - قال: «انطلقت مع وفد بني عامر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: أنت سيدنا. فقال: السيد الله تبارك وتعالى. فقلنا: وأفضلنا فضلا، وأعظمنا طولا. فقال: قولوا بقولكم، أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان (2) » .
فهذه الأحاديث وغيرها من عشرات الأحاديث ومئات أمثالها كلها تؤكد حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سلامة أمته من وساوس الشيطان وخواطره وإيحاءاته وهمزاته، وتحذر هذه الأمة أن يدخل الشيطان عليها من مداخله على من سبقها من الأمم، من يهودية ونصرانية وغيرهما، فإن أكبر باب للشيطان للضلالة والإضلال هو باب الغلو والابتداع، فلقد نهى - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يتجاوزوا الحد في إطرائه ومدحه وتعظيمه، وحمى جناب التوحيد من أن تدنس مقتضياته أو تطمس معالمه، وأوضح في أكثر من مقام أن ضلال من قبلنا من اليهود والنصارى وغيرهم كان بسبب غلوهم في أنبيائهم وصالحيهم حيث كانوا يتخذون المساجد على قبورهم، فيعظمونها على سبيل العبادة، وكانوا بذلك شرار الخلق عند الله، وكانوا بذلك أبعد الخلق عن الله، وكانوا بذلك أولياء الشيطان وحزبه.
{أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (3) المجادلة \ 19.
ومع هذا الحرص الشديد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتناقل علماء السنة الآثار الواردة في ذلك عنه - صلى الله عليه وسلم - وإشاعتها بين عباد الله؛ إلا أن الشيطان
__________
(1) سنن أبو داود السنة (4726) .
(2) سنن أبو داود الأدب (4806) ، مسند أحمد بن حنبل (4/25) .
(3) سورة المجادلة الآية 19(24/114)
كان دائب الحركة في سبيل الغواية والضلال والإضلال، وقد وجد له من الصوفية والمتصوفة من اتخذهم له أولياء واتخذوه وليا فغلوا في دين الله، وشرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، فاعتقدوا النفع والضر عند غير الله، والمنع والعطاء لدى غير الله، لدى مشايخ الطرق وأدعياء التصوف والدجل والشعوذة أحياء وأمواتا، وصرفوا للمخلوق مما هو محض حق الخالق حقوقا لا تصح نسبتها إلا لله، فهذا البوصيري يقول:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
وهذا البرعي يقول:
يا سيدي يا رسول الله يا أملي ... يا موئلي يا ملاذي يوم تلقاني
فأنت أقرب من ترجى عواطفه ... عندي وإن بعدت داري وأوطاني
وهذا البكري يقول:
وناده إن أزمة أنشبت ... أظفارها واستحكم المعضل
عجل بإذهاب الذي أشتكى ... فإن توقفت فمن أسأل
وهذا رابع يقول:
يا سيدي يا صفي الدين يا سندي ... يا عمدتي بل ويا ذخري ومفتخري
فإنني عبدك الراجي بودك ما ... أملته يا صفي السادة الغرر
وبالرغم من حركات الشيطان في الغواية والإضلال، وقدرته على اصطفاء مجموعة من عباد الله ليكونوا أعوانا في الضلال والإضلال؛ إلا أن الله يأبى إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، فلقد وعد الله تعالى بحفظ كتابه من التحريف والتغيير والتبديل، وتم وعد الله؛ فلقد مضى على نزوله أكثر من أربعة عشر قرنا وهو محفوظ بكل وسائل الحفظ سراجا منيرا ومحجة بيضاء، كما أن الله تعالى قيض لسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - رجالا أتقياء أذكياء صالحين نقلوها إلى الأمة الإسلامية نقية صافية، وبذلك(24/115)
تحقق قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك (1) » ، وقوله: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله وسنة رسوله (2) » .
الأمر الثاني من الأمرين اللذين ركز عليهما - صلى الله عليه وسلم - في حماية الدين: الابتداع في الدين.
لقد عرف العلماء البدعة بأنها طريقة محدثة في الدين يضاهى بها أحد مقتضياته، إلا أن هذه المضاهاة تنطلق من معقول بشري محدود ليس له القدرة على استطلاع حكمة الله في تشريعه، ولا علم الله بما تصلح به أمور عباده، يأتي العقل البشري فيرى حسنا ما ليس بالحسن، ويظن نقصا فيما فيه الكمال، فيقول اجتهادا أو انسياقا وراء هوى أو إغواء شيطان ما ليس في الدين في شيء مما هو محض الإحداث والابتداع.
لقد كان - صلى الله عليه وسلم - حريصا كل الحرص على تجنيب أمته شر الابتداع؛ فأكثر من ذم الابتداع، وحض الأمة على التمسك بسنته - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار (3) » .
وقال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (4) » ، وفي رواية: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (5) » .
وقال: «إن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسول الله، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (6) » .
ولم يكن منه - صلى الله عليه وسلم - ذلك إلا أن التشريع مكتمل، فما من خير إلا ودل الأمة عليه، وما من شر إلا حذرها منه، وقد حكى الله سبحانه وتعالى كمال الدين فقال:
__________
(1) سنن ابن ماجه المقدمة (44) .
(2) موطأ مالك الجامع (1661) .
(3) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(4) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(5) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(6) صحيح البخاري الأدب (6098) ، سنن الدارمي المقدمة (207) .(24/116)
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) المائدة \ 3.
فلقد وقف - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة في حجة الوداع ومعه جمع كبير من أصحابه، فذكرهم ووعظهم، وبين لهم ما على العبد من حقوق لله وحقوق لعباده، وكان - صلى الله عليه وسلم - في كل أمر يقول لهم: ألا هل بلغت، اللهم فاشهد، ثم انتقل - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى بعد أن بلغ الرسالة أتم بلاغ، وأدى الأمانة أتم أداء، ونصح للأمة النصح البالغ، وبين لهم حبائل الشيطان ووساوسه وخواطره ومكائده، ومداخله على العباد.
لا شك أن الابتداع الطريق القصير إلى تشويه الدين، وطمس معالم الإشراق فيه، والتحكم على الله وعلى رسوله، والاشتراك مع الله تبارك وتعالى في التشريع بما لم يأذن به الله، وفضلا عن هذا الأثر السيئ للابتداع؛ فإنه يستلزم أمورا مهينة أهمها ما يلي:
أولا: القول بلسان المقال أو بلسان الحال أن الدين ناقص، وأن هناك جوانب تكميلية ينبغي الأخذ بها تكملة للدين، وفي هذا رد قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2)
كما أن فيه تكذيبا لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك (3) » ، فإن من يبتدع يعترف أن لا سند لبدعته من كتاب ولا سنة، ولكنه يدعي أنها عمل صالح. فما صلاح عمل لم يأمر به الله ولم يفعله رسول الله؟ ! وما صلاح عمل يراد به إكمال ما أكمله الله على أتم وجه ورضيه؟ ! ولكنها وساوس الشيطان وهمزاته.
ثانيا: إن الابتداع يستلزم القدح في إبلاغ رسول الله رسالة ربه، فلقد أرسل الله بالهدى ودين الحق، وأمره بإبلاغ الرسالة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (4) المائدة \ 67،
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة المائدة الآية 3
(3) سنن ابن ماجه المقدمة (44) .
(4) سورة المائدة الآية 67(24/117)
فبلغها - صلى الله عليه وسلم - أتم بلاغ.
فإذا كان المبتدع يرى في بدعته الخير والعمل الصالح، ويعترف أن لا سند لبدعته من كتاب ولا سنة، ولكنها حسنة في نفسها - حسب زعمه - فإن هذا يعني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم حاشاه وكلا - بين أمرين:
إما أن يكون جاهلا بما ينفع الأمة، وأن هناك جملة من جوانب الخير لا يعلمها، فجاء معاصرو القرون المتأخرة فأخروجها للأمة وأضافوها إلى الدين، أو أن يكون - صلى الله عليه وسلم - يعلم حسن هذه الأعمال المبتدعة، إلا أنه كتمها عن الأمة، وهذا يعني تخونه والقدح في أدائه رسالة ربه، وكلا الأمرين شر وقدح في شهادة أن محمدا رسوله، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبرأ عنهما معا.
ثالثا: إن في الابتداع مخالفة صريحة لأوامر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه - صلى الله عليه وسلم - أكد ضرورة التمسك بسنته، والابتعاد عن الابتداع والإحداث في الدين، كما أكد أن الإحداث في الدين مردود، ولا شك أن مخالفته - صلى الله عليه وسلم - مظنة الفتنة. قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) النور \ 63.
ولقد فهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتابعوهم هذا الفهم، ففي الجامع لأبي بكر الخلال أن رجلا جاء إلى مالك بن أنس فقال: من أين أحرم؟ قال: من الميقات الذي وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحرم منه. فقال الرجل: فإن أحرمت من أبعد منه؟ فقال مالك: لا أرى ذلك. فقال الرجل: ما تكره من ذلك؟ قال: أكره عليك الفتنة. قال: وأي فتنة من ازدياد الخير؟ فقال مالك: فإن الله تعالى يقول:
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2)
وأي فتنة أكبر من أنك خصصت بفضل لم يخص به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية: وأي فتنة أعظم من أن ترى أن اختيارك لنفسك خير من اختيار الله، واختيار رسوله!
__________
(1) سورة النور الآية 63
(2) سورة النور الآية 63(24/118)
لقد حرص أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تبليغ الأمة سنة رسول الله من قول أو فعل أو تقرير، وبالغوا في التحذير عما يخالفها من قول أو فعل مهما كان ذلك وعلى أي وجه يكون، ولم يفرقوا في الإنكار بين ما ظاهره الحسن وما ظهر وقولا، فلم يقولوا بتقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة، بل اعتبروا البدعة أمرا منكرا وزورا من القول والعمل، وقولا على الله بلا علم، وتشريعا من الدين بما لم يأذن به الله، حجتهم في ذلك الإيمان بأن الله أكمل دينه، وأن رسوله - صلى الله عليه وسلم - بلغ رسالة ربه، وأدى أمانته، وبين لعباد الله خصائص دينهم ومقتضيات أعمالهم، وأن الأخذ بالبدعة يعني مناقضة ذلك الإيمان باعتبار أن البدعة - في ظن مبتدعيها والآخذين بها - إكمال نقص في الدين، كما أن حجتهم كذلك الامتثال للانتهاء عن الابتداع مطلقا مهما كان، وعلى أي سبيل يقع، يستوي في ذلك حسنه وسيئه للعموم في نفي البدع والابتداع، فقد حذر - صلى الله عليه وسلم - عن الابتداع بلفظ العموم فقال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » ، وبلفظ الاختصاص والحصر، فقال: «إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (2) » .
ومن حججهم - رحمهم الله - في رد الابتداع إدراك أن الابتداع باب الشيطان إلى الغواية والإضلال والضلال، فمنه دخل على الأمم السابقة يضلهم ويمنيهم ويغويهم ويزين لهم أبواب الابتداع حتى غيروا كتب الله، وحرفوها وبدلوها؛ فأحلوا ما حرم الله، وحرموا ما أحل الله.
أدرك أصحاب رسول الله ذلك وكانوا حربا على البدع والابتداع، والإحداث والمحدثات، وفيما يلي مجموعة من الآثار الواردة عن أصحاب رسول الله في محاربة البدعة.
فقد روى محمد بن وضاح القرطبي في كتاب البدع النهي عنها بإسناده، فقال: بلغ ابن مسعود - رضي الله عنه - أن عمرو بن عتبة - في أصحاب له - بنوا مسجدا بظهر الكوفة، فأمر عبد الله بذلك المسجد
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (42) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(24/119)
فهدم، ثم بلغه أنهم يجتمعون في ناحية من مسجد الكوفة يسبحون تسبيحا معلوما، ويهللون ويكبرون، قال: فلبس برنسا ثم انطلق فجلس إليهم، فلما عرف ما يفعلون رفع البرنس عن رأسه ثم قال: أنا أبو عبد الرحمن، ثم قال: لقد فضلتم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - علما، أو لقد جئتم ببدعة ظلما، قال: فقال عمرو بن عتبة: والله، ما فضلنا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - علما، ولا جئنا ببدعة ظلما، ولكننا قوم نذكر ربنا، فقال: بلى والذي نفس ابن مسعود بيده، لئن أخذتم آثار القوم لتسبقن سبقا بعيدا، ولئن حرتم يمينا أو شمالا لتضلن ضلالا بعيدا.
وذكر بإسناده عن بعض أصحاب عبد الله بن مسعود قال: مر عبد الله برجل يقص في المسجد على أصحابه وهو يقول: سبحوا عشرا، وهللوا عشرا، فقال عبد الله: إنكم لأهدى من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أضل، بل هذه، بل هذه، يعني: أضل.
وروي بإسناده عن أبان بن أبي عياش قال: لقيت طلق بن عبد الله بن كرز الخزاعي، فقلت له: قوم من إخوانك من أهل السنة والجماعة، لا يطعنون على أحد من المسلمين، يجتمعون في بيت هذا يوما، وفي بيت هذا يوما، ويجتمعون يوم النيروز والمهرجان ويصومونهما، فقال طلق: بدعة من أشد البدع، والله، لهم أشد تعظيما للنيروز والمهرجان من غيرهما، ثم استيقظ أنس بن مالك فوثبت إليه فسألته كما سألت طلقا فرد علي كما رد علي طلق، كأنما كانوا على ميعاد.
وروى بإسناده قال: ثوب المؤذن في المدينة في زمان مالك، فأرسل إليه مالك فجاءه، فقال له مالك: ما هذا الذي تفعل؟ قال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر فيقوموا. فقال له مالك: لا تفعل، لا تحدث في بلدنا شيئا لم يكن فيه، قد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا البلد عشر سنين، وأبو بكر وعمر وعثمان فلم يفعلوا هذا، فلا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه. فكف المؤذن عن ذلك، وأقام زمانا، ثم إنه تنحنح(24/120)
في المنارة عند طلوع الفجر فأرسل إليه مالك فقال: ما هذا الذي تفعل؟ قال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر. فقال: ألم أنهك لا تحدث عندنا ما لم يكن؟ ! فقال: إنما نهيتني عن التثويب، فقال له مالك: لا تفعل. فكف أيضا زمانا ثم جعل يضرب الأبواب، فأرسل مالك إليه فقال له: ما هذا الذي تفعل؟ فقال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر، فقال له مالك: لا تفعل، لا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه.
وقد ذكر الشاطبي - رحمه الله - تفسير التثويب الذي نهى عنه مالك - رحمه الله - بأن المؤذن كان إذا أذن فأبطأ الناس قال بين الأذان والإقامة: قد قامت الصلاة، حي على الفلاح.
وذكر الشاطبي في كتابه الاعتصام قال: وقال ابن حبيب، أخبرني ابن الماجشون أنه سمع مالكا يقول: من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خان الدين؛ لأن الله تعالى يقول:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1)
وأختتم هذا البحث بما روى أبو داود والترمذي عن أبي نجيح العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها الدموع، فقلت: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: «أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة (2) » . قال الترمذي حديث حسن صحيح.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
عبد الله بن سليمان بن منيع
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (42) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(24/121)
رد أوهام أبي زهرة في حق شيخ
الإسلام ابن تيمية، وشيخ الإسلام
محمد بن عبد الوهاب
رحمهما الله
صالح بن فوزان
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقرارا به وتوحيدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما مزيدا.
أما بعد؛ فإنه كان من الواجب علينا احترام علمائنا في حدود المشروع كما قال تعالى:
{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (1) .
وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (2) .
__________
(1) سورة المجادلة الآية 11
(2) سورة الزمر الآية 9(24/122)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «وإن العلماء ورثة الأنبياء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب (1) » ولا سيما العلماء المجددون لدين الله، والدعاة المخلصون إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن - فكان حقهم علينا الاقتداء بهم، واحترامهم، والترحم عليهم، والدعاء لهم لقاء ما قاموا به من الواجب، وما بينوه من الحق وردوا الباطل - إلا أننا نجد بدلا من ذلك من بعض حملة الأقلام والمتطفلين على العلم والتأليف من يكيل التهم في حقهم ويرميهم بما هم بريئون منه، ويحاول صرف الناس عن دعوتهم بدافع الحقد أو سوء الاعتقاد - أو الاعتماد على ما يقوله أعداؤهم وخصومهم - ومن ذلك أني قد اطلعت على كتاب بعنوان " تاريخ المذاهب الإسلامية في السياسة والعقائد "، " وتاريخ المذاهب الفقهية "، للشيخ محمد أبي زهرة. تعرض فيه لإمامين عظيمين، وداعيين إلى الله مخلصين، هما: شيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمهما الله - ووجه ضدهما نفس التهم التي يروجها ويرددها أعداؤهما المضلون في كل زمان، حيث تروعهما دعوة الإصلاح، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ويريدون أن يبقى الناس في ظلام، ويعيشوا في ضلال، حتى يتسنى لخرافاتهم أن تروج، وما كان يليق بباحث يتحرى الحقيقة مثل الشيخ أبي زهرة أن يعتمد في حق هذين الإمامين الجليلين على كلام خصومهما، بل كان الواجب عليه وعلى كل باحث منصف أن يرجع إلى كلام من يريد أن يقدم للناس معلومات عنه من كتبه، ويوثق ذلك بذكر اسم الكتاب المنقول عنه، مع ذكر الصفحة والسطر، حتى تحصل القناعة التامة من صحة ما يقول؛ لأننا والحمد لله في عصر قد وضعت فيه ضوابط للبحث العلمي، وأصبح لا يقبل فيه إطلاق القول على عواهنه من غير تقيد بتلك الضوابط،
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2682) ، سنن أبو داود العلم (3641) ، سنن ابن ماجه المقدمة (223) ، مسند أحمد بن حنبل (5/196) .(24/123)
وفوق هذه الضوابط هناك وقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى، وسؤال عما يقوله الإنسان ويكتبه في حق غيره من اتهام وكذب، قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (1) .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (2) .
إلا أن الشيخ أبا زهرة تجاهل ذلك كله، ونسب إلى الشيخين الإمامين الجليلين: الشيخ تقي الدين ابن تيمية، والشيخ محمد بن عبد الوهاب ما لا يليق بمقامهما، وما يتنزهان عنه من التهم الباطلة والتهجم السخيف، اعتمادا على ما يقوله عنهما خصومهما، وما يروجه المخرفون ضدهما، غير متقيد بضوابط البحث العلمي، ولا خائف من الوعيد الذي توعد الله به من أقدم على مثل هذا العمل، وإليك بيان هذه التهم مع الرد عليها، سائلين الله تعالى أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 36
(2) سورة الحجرات الآية 6(24/124)
أولا: ما نسبه إلى شيخ الإسلام ابن تيمية:
1 - في صفحة 187 قال: إنه أضاف إلى مذهب السلف أمورا أخرى قد بعثت إلى التفكير فيها.
أقول هذا من الافتراء على شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قد أحدث أمورا من عند نفسه، وزادها على مذهب السلف، وهو اتهام خطير قد برأ الله منه شيخ الإسلام، فإنه لم يزد شيئا ولم يخترع شيئا من عند نفسه، وإنما دعا إلى مذهب السلف، وبينه ودافع عنه بأمانة(24/124)
وإخلاص، يشهد لذلك أن ما في كتبه ورسائله يتطابق تمام التطابق مع ما ذكره الأئمة قبله في كتبهم، وهو إنما ينقل كلامهم ويعزوه إلى مصادره المعروفة من غير زيادة ولا نقصان، وأبو زهرة لم يذكر مثالا واحدا يدل على صدق ما يقول.
2 - في صفحة 193 قال: وعلى ذلك يقرر ابن تيمية أن مذهب السلف هو إثبات كل ما جاء في القرآن الكريم من فوقية وتحتية واستواء على العرش، ووجه ويد ومحبة وبغض، وما جاء في السنة من ذلك أيضا من غير تأويل وبالظاهر الحرفي، فهل هذا هو مذهب السلف حقا، ونقول في الإجابة عن ذلك:
ولقد سبقه بهذا الحنابلة في القرن الرابع الهجري كما بينا وادعوا أن ذلك مذهب السلف.
وناقشهم العلماء في ذلك الوقت وأثبتوا أنه يؤدي إلى التشبيه والجسمية لا محالة، وكيف لا يؤدي إليها والإشارة الحسية إليه جائزة، لهذا تصدى لهم الإمام الفقيه الحنبلي الخطيب ابن الجوزي، ونفى أن يكون ذلك مذهب السلف، ونفى أيضا أن يكون ذلك رأي الإمام أحمد. انتهى كلامه، وفيه من الخلط والكذب ما لا يخفى، وبيان ذلك كما يلي:
(أ) اتهم شيخ الإسلام ابن تيمية واتهم معه الحنابلة بأنهم نسبوا إلى السلف ما لم يقولوه ولم يعتقدوه في صفات الله تعالى، وهذا اتهام ظاهر البطلان فإن ما قاله الحنابلة وقاله شيخ الإسلام موجود في كلام الأئمة الأربعة وغيرهم في كتبهم، وقد نقل ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وعزاه إلى مصادره من كتبهم التي يوجد غالبها في أيدي الناس اليوم، انظر على سبيل المثال ما ذكره عنهم في الرسالة الحموية.(24/125)
(ب) اتهم الشيخ بأنه ينسب إلى السلف وصف الله بالتحتية حيث قال: يقرر ابن تيمية أن مذهب السلف هو إثبات كل ما جاء في القرآن الكريم من فوقية وتحتية، وهذا كذب على القرآن الكريم وعلى الشيخ؛ فإنه لم يرد في القرآن ذكر التحتية في حق الله - تعالى الله عن ذلك - لأنها لا تليق به، ولم يقل الشيخ ذلك ولم ينسبه إلى السلف، لكنه التخبط الأعمى والتخليط العجيب من أبي زهرة.
(ج) اتهم القرآن بأنه جاء بالتشبيه والتجسيم وما لا يليق بالله تعالى، واتهم السلف الصالح بأنهم لا يعتقدون ما جاء القرآن الكريم والسنة النبوية من وصف الله بالفوقية والاستواء على العرش، وأنه له يد ووجه، وأنه يحب ويبغض؛ لأن ذلك بزعمه يؤدي إلى التشبيه والجسمية، وهذا معناه أن القرآن جاء بالباطل، وأن السلف يخالفون الكتاب والسنة في أهم الأمور وهي العقيدة، فماذا بقي بعد ذلك؟!
ما الذي يوافقون فيه الكتاب والسنة، ولم يذكر دليلا على ذلك إلا ما نقله من كلام ابن الجوزي، وكلام ابن الجوزي لا يحتج به من ناحيتين:
- إنه معروف باتجاهه المخالف لعقيدة السلف في الصفات وكلام المخالف لا يحتج به على خصمه.
- إن كلام أئمة السلف ومنهم الإمام أحمد يبطل ما قاله ابن الجوزي، وكلامهم موجود - بحمد الله - في كتبهم المتداولة المعروفة التي نقل منها شيخ الإسلام ابن تيمية.
(د) قال أبو زهرة: وكيف لا يؤدي إليهما والإشارة الحسية إليه جائزة - يعني كيف لا يؤدي إثبات ما دل عليه الكتاب والسنة من صفات الله إلى التشبيه والتجسيم، وقد جاء في الحديث أن الله يشار إليه بالإصبع في جهة العلو، كما أشار إليه أعظم الخلق به - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حجة الوداع، - وهذا بزعم أبي زهرة يؤدي إلى التشبيه(24/126)
والتجسيم فهو باطل -، وهذا مصادمة للحديث الصحيح بسبب توهم باطل، فإن الإشارة إلى الله سبحانه في جهة العلو ووصفه بما ثبت في الكتاب والسنة من صفات الكمال لا يؤديان إلى التشبيه؛ لأن الله ليس كمثله شيء، فله صفات تخصه لا يشاركه فيه أحد، وأما لفظ التجسيم فهو لفظ محدث لم يرد نفيه ولا إثباته في حق الله تعالى، ولم يتكلم فيه السلف، وإنما ورد في الكتاب والسنة تنزيه الله عن التشبيه والتمثيل، وهو الذي ينفيه السلف عن الله تعالى.
- ينسب التفويض إلى شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول في صفحة 195: إن هذا يؤدي عند ابن تيمية إلى أن الأسلم هو التفويض الذي يدعيه وينسبه إلى السلف الصالح فيأخذ الألفاظ بظواهرها الحرفية، ويطلقها على معانيها الظاهرة في أصل الدلالة، ولكنه يقرر أنه ليست كالحوادث ويفوض فيما بعد ذلك ولا يفسر، ويقول: إن محاولة التفسير زيغ، فابن تيمية يعتقد أنه بهذا يجمع بين التفسير والتفويض، فهو يفسر بالمعنى الظاهر وينزه عن الحوادث ويفوض في الكيف والوصف، انتهى المقصود من كلامه، وهو كما ترى فيه من الخلط والركاكة والكذب على الشيخ الشيء الكثير، وهو بين أمرين: إما أنه لم يفهم كلام الشيخ، وإما أنه يفهمه لكنه يحاول الالتواء والتلبيس، فإن الشيخ - رحمه الله - يقرر في سائر كتبه أن مذهب السلف وهو المذهب الذي يعتقده ويدين لله به، وكل مريد للحق يعتقده ويدين به: أن نصوص الصفات تجري على ظواهرها وتفسر بمعناها الذي تدل عليه ألفاظها من غير تأويل ولا تحريف، أما كيفيتها فيجب تفويضها إلى الله سبحانه؛ لأنه لا يعلمها إلا هو، وهذا هو الذي يقرره علماء السلف في كتبهم، وفيما يروى عنهم بالأسانيد الصحيحة أن المعنى معلوم، والكيف مجهول في كل الصفات.(24/127)
فالتفويض إنما هو للكيفية، وأما المعاني فهي معلومة مفسرة لا تفويض فيها ولا غموض، ولا يلزم من إثبات صفات الله بالمعاني التي دلت عليها النصوص تشبيه الله بخلقه؛ لأن لله صفات تخصه وتليق به، وللمخلوقين صفات تخصهم وتليق بهم، ولا يلزم من الاشتراك في المعنى الكلي الموجود في الأذهان بين صفات الله وصفات خلقه الاشتراك في الحقيقة والكيفية الخارجية، وقد أثبت الله لنفسه تلك الصفات، ونفى عن نفسه المماثلة والمشابهة للمخلوقات، فقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) .
فأثبت له السمع والبصر، ونفى عن أن يماثله شيء، وهكذا سائر الصفات، فدل على أن إثبات الصفات لا يلزم من التشبيه كما يقول أبو زهرة وأضرابه، ومن العجب أن يحتج على بطلان ما ذكره شيخ الإسلام من إثبات صفات الله على ما يليق به سبحانه بمخالفة الغزالي والماتريدي وابن الجوزي له، ويرجح مذهبهم فيقول: ولذلك فنحن نرجح منهاج الماتريدي ومنهاج ابن الجوزي ومنهاج الغزالي.
هكذا يرغب أبو زهرة عن مذهب السلف إلى مذهب هؤلاء، - وللناس فيما يعشقون مذاهب -، لكنه استبدل الباطل بالحق.
واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} (2) .
- ينسب القول بالمجاز إلى الصحابة فيقول: إن الصحابة كانوا يفسرون بالمجاز إن تعذر إطلاق الحقيقة، كما يفسرون بالحقيقة في ذاتها، هكذا قال في حق الصحابة، ينسب إليهم القول بالمجاز في تفسير
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة الكهف الآية 50(24/128)
كلام الله، وأنهم يتركون الحقيقة وكأنه بهذا يريد أن ينسب إلى الصحابة نفي الصفات وحمل نصوصها على خلاف الحقيقة، وكفى بهذا تقولا على صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدون دليل ولا برهان، لكنه الهوى والانتصار للباطل.
وهذا تجاوز من اتهام ابن تيمية إلى اتهام الصحابة بما هم بريئون منه، فإنه لم يعرف المجاز إلا متأخرا أحدثه الأعاجم الذين ليسوا حجة في اللغة والتفسير.
- في صفحة 199 نسب إلى الشيخ القول بأن الله لا ييسر الإنسان لفعل الشر، حيث قال: وبهذا يقرر ابن تيمية ثلاثة أمور، ثالثها: أن الله تعالى ييسر فعل الخير ويرضاه ويحبه، ولا ييسر فعل الشر ولا يحبه، وهو في هذا يفترق عن المعتزلة كذا قال.
وهذا كذب على الشيخ؛ لأنه كغيره من أئمة الهدى يرون أن الله قدر الخير والشر، وأنه لا يجري في ملكه ما لا يريد، فالشر يجري على العبد بسبب تصرفاته السيئة، وهو من قبل الله تعالى قدرا وبإرادته الكونية، قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} (1) {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} (2) {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (3) .
- في صفحة 199 - 200 يقول: أما ابن تيمية فيرى أنه لا تلازم بين الأمر والإرادة، فالله سبحانه وتعالى يريد الطاعات ويأمر بها، ولا يريد المعاصي التي تقع من بني آدم وينهى عنها، وإرادته للمعاصي من ناحية إرادة أسبابها. انتهى.
وأقول: في هذا الذي نسبه إلى الشيخ إجمال ينبغي تفصيله، فقوله: لا تلازم بين الأمر والإرادة.
__________
(1) سورة الليل الآية 8
(2) سورة الليل الآية 9
(3) سورة الليل الآية 10(24/129)
الصواب: أن يقال: لا تلازم بين الأمر الشرعي والإرادة الكونية. فقد يأمر شرعا بما لا يريده كونا، مثل الإيمان من الكافر، وقد يريد كونا ما لا يأمر به شرعا مثل الكفر والمعاصي؛ وذلك لأن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة كونية، وإرادة شرعية، والأمر ينقسم إلى قسمين: أمر كوني، وأمر شرعي، فالإرادة الكونية والأمر الكوني ليس من لازمهما المحبة والرضا، وأما الإرادة الشرعية والأمر الشرعي فمن لازمهما المحبة والرضا، وهذا التقسيم هو الذي يتمشى مع منهج الشيخ الذي هو منهج السلف المبني على أدلة الكتاب والسنة، فالله لا يأمر بالمعاصي ولا يريدها ولا يرضاها شرعا، لكنه أرادها وأمر بها كونا وقدرا؛ لأنه لا يقع في ملكه ما لا يريد، قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (1) .
أي أمرناهم بذلك كونا وقدرا، وقال تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} (2) .
{إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (3) .
- في صفحة 201 يختم أبو زهرة مباحثه حول القدر بقوله: هذه نظرات ابن تيمية في مسائل الجبر والاختيار، وتعليل أفعال الله سبحانه وتعالى، وهو يسند دائما ما يراه إلى السلف الصالح من الصحابة والتابعين انتهى.
وكأنه بهذا التعبير يتهم الشيخ في أنه ينسب إلى السلف بمجرد رأيه ما ليس من مذهبهم، وهذه التهمة يبطلها الواقع فإن الشيخ - رحمه لله - لم ينسب إلى السلف إلا ما هو موجود في كتبهم، وما ثبتت روايته عنهم، والشيخ أتقى لله من
__________
(1) سورة الإسراء الآية 16
(2) سورة المائدة الآية 41
(3) سورة هود الآية 34(24/130)
أن يتقول على السلف ما لم يقولوه، لكن أبا زهرة لم يراجع كبت الشيخ، أو أنه يتعمد التلبيس.
- في الصفحات 202 - 206 لما ذكر كلام الشيخ في منع التوسل بالأموات والاستغاثة بهم، ومنع زيارة القبور لقصد التبرك بها وطلب الحاجات من الموتى، ومنع السفر لزيارتها، قال بعد ذلك: ولقد خالف ابن تيمية بقوله هذا جمهور المسلمين، بل تحداهم في عنف بالنسبة لزيارة قبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ونحن نوافق إلى حد ما على قوله في زيارة قبور الصالحين والنذر لها، ولكن نخالفه مخالفة تامة في زيارة الروضة الشريفة؛ وذلك لأن الأساس الذي بني عليه منع زيارة الروضة الشريفة بقصد التبرك والتيمن هو خشية الوثنية، وأن ذلك خوف من غير مخاف، فإنه إذا كان في ذلك تقديس لمحمد فهو تقديس لنبي الوحدانية، وتقديس نبي الوحدانية إحياء لها، إذ هو تقديس للمعاني التي بعث بها. . . إلى أن قال: وإن الحديث الذي رواه ابن تيمية وغيره وهو: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى (1) » يدل على شرف المسجد الذي دفن بجواره، وقد دفن ببيت عائشة الذي كان أقرب بيوت أزواجه إليه، وقد كان متصلا بالمسجد، وأنه لو أريد منع زيارة قبره لدفن في مكان بعيد كالبقيع، ثم قال: وبعد: فإننا نقرر أن التبرك بزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مستحسن، وليس التقرب الذي نقصده عبادة أو قريبا منها، إنما التبرك هو التذكر والاعتبار والاستبصار.
انتهى المقصود من كلامه، وهو يدل على ما عنده من جهل وتخليط وتخبط، وأقول في بيان ذلك ما يلي:
(أ) قوله: ولقد خالف ابن تيمية بقوله هذا - يعني منع التوسل بالموتى والتبرك بالقبور والاستغاثة بالموتى - خالف جمهور المسلمين.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .(24/131)
والجواب: إن الشيخ - رحمه الله - قد وافق في قوله هذا إجماع المسلمين فلم يخالفه واحد منهم، ونعني بالمسلمين أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين والقرون المفضلة ومن تبعهم بإحسان، وإنما خالفه بعض من جاء بعدهم من المخرفين والقبوريين، وهؤلاء لا يعتد بخلافهم، وليسوا جمهور المسلمين وإن سماهم هو بذلك، فالعبرة بالحقائق لا بالتسميات، وإنما هم من الشواذ المنتسبين إلى الإسلام.
(ب) قوله: ونحن نوافق إلى حد ما على قوله في زيارة قبور الصالحين والنذر له، معناه أنه لا يوافق موافقة تامة على منع زيارة قبور الصالحين للتبرك بها والاستغاثة بأصحابها والنذر لها، وهذا يدل على أنه يسمح بشيء من ذلك مع أنه عبادة لغير الله وشرك أكبر، ولا يخفى ما في هذا من التساهل في شأن الشرك، وعدم اهتمامه بالعقيدة.
(ج) وقوله: ولكن نخالف مخالفة تامة في زيارة الروضة الشريفة؛ وذلك لأن الأساس الذي بني عليه منع زيارة الروضة الشريفة بقصد التبرك والتيمن هو خشية الوثنية، وأن ذلك خوف من غير مخاف، فإنه إذا كان في ذلك تقديس لمحمد فهو تقديس لنبي الوحدانية، وتقديس نبي الوحدانية إحياء لها.
والجواب عن ذلك نقول:
أولا: الشيخ - رحمه الله - لا يمنع زيارة الروضة الشريفة بقصد الصلاة فيها، فنسبة المنع إليه غير صحيحة، بل هو يرى استحباب ذلك كغيره من علماء المسلمين عملا بالسنة الصحيحة.
ثانيا: زيارة الروضة الشريفة إنما القصد منها شرعا هو الصلاة فيها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة (1) » ، وليس القصد من زيارتها التبرك والتيمن بها، وتقديس محمد - صلى الله عليه وسلم - كما يزعم أبو زهرة؛ لأن هذا مقصد شركي أو بدعي.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1195) ، صحيح مسلم الحج (1390) ، سنن النسائي المساجد (695) ، مسند أحمد بن حنبل (4/39) ، موطأ مالك النداء للصلاة (463) .(24/132)
ثالثا: التقديس قد يكون غلوا ممنوعا، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - حقه علينا المحبة والمتابعة والعمل بشرعه وترك ما نهى عنه، وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن إطرائه، وهو المبالغة في مدحه، ولما «قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني ندا لله، قل: ما شاء الله وحده (1) » ، وليس تقديس المخلوق تقديسا لله كما يقول: بل قد يكون شركا بالله عز وجل إذا تجاوز الحد.
(د) وقوله: إن حديث: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد (2) » يدل على شرف المسجد الذي دفن بجواره. . .، الجواب عنه: إن شرف المسجد النبوي ليس من أجل كون قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بجواره، فإن فضله ثابت قبل دفن النبي - صلى الله عليه وسلم - بجواره؛ لأنه أول مسجد أسس على التقوى، ولأنه مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة (3) » ، ولم يقل بعد موتي، والمساجد الثلاثة فضلت على غيرها؛ لكونها مساجد الأنبياء لا من أجل القبور أو مجاورة القبور، بل لأنها أسست على التوحيد والطاعة، لا على الشرك والخرافة.
(هـ) قوله: وقد دفن - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - ببيت عائشة الذي كان أقرب بيوت أزواجه إليه - يعني المسجد -، وقد كان متصلا بالمسجد، وأنه لو أريد منع زيارة قبره لدفن في مكان بعيد عن المسجد كالبقيع.
والجواب عنه:
أولا: أن هذا كلام من لا يعرف ما جاء في السنة من الأحاديث الموضحة لملابسات دفنه - صلى الله عليه وسلم - في بيت عائشة - رضي الله عنها - وما هو القصد من ذلك، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لما مرض استأذن أزواجه أن يمرض في بيت عائشة - رضي الله عنها - لمحبته لها، ومحبة قربها منه وتمريضها له، فأذن له في ذلك، ولما توفي - صلى الله عليه وسلم - دفن في المكان الذي توفي فيه؛ لأن الأنبياء يدفنون حيث يموتون كما جاء في
__________
(1) سنن ابن ماجه الكفارات (2117) ، مسند أحمد بن حنبل (1/347) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .
(3) صحيح البخاري الجمعة (1190) ، صحيح مسلم الحج (1394) ، سنن الترمذي الصلاة (325) ، سنن النسائي المساجد (694) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1404) ، مسند أحمد بن حنبل (2/485) ، موطأ مالك النداء للصلاة (461) .(24/133)
الحديث، والقصد من ذلك خشية أن يفتتن بقبره - صلى الله عليه وسلم - لو دفن في مكان بارز فيتخذ مسجدا وعيدا مكانيا، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحذر من ذلك فيقول: «لا تتخذوا قبري عيدا (1) » ، ويقول: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد (2) » ، وقدر روى الشيخان عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا (3) » .
هذا هو القصد من دفنه - صلى الله عليه وسلم - في حجرة عائشة، وهو حماية التوحيد وحماية قبره أن يتخذ مسجدا، وليس القصد ما توهمه الخرافيون أنه دفن في بيت عائشة لأجل القرب من المسجد والتبرك بقبره - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان يحذر من اتخاذ القبور مساجد والتبرك بها، ومن بناء المساجد على القبور؛ لأن هذا من وسائل الشرك؛ فدفنه - صلى الله عليه وسلم - في بيته لمنع هذه الأشياء أن تمارس عند قبره.
ثانيا: زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - الزيارة الشرعية ليست ممنوعة، بل هي مستحبة كزيارة قبر غيره إذا كان ذلك بدون سفر، وكان القصد السلام عليه، والدعاء له - صلى الله عليه وسلم -.
ثالثا: قوله: وأنه لو أريد منع زيارة قبره لدفن في مكان بعيد عن المسجد كالبقيع، أقول معنى هذا الكلام أنه - صلى الله عليه وسلم - دفن في حجرة عائشة لأجل أن يزار ويتبرك بقبره على حد قوله.
وهذا فهم يخالف ما جاء في الحديث الصحيح الذي تقدم ذكره، وهو أنه دفن في بيته لمنع أن يتخذ قبره مسجدا، ثم إن دفنه في البقيع أمكن لزيارة قبره والتبرك به من دفنه في بيته، عكس ما يقوله أبو زهرة، فلو كان ما يقوله مشروعا لدفن في البقيع لتمكين الناس من هذه المقاصد التي قالها.
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (2042) ، مسند أحمد بن حنبل (2/367) .
(2) موطأ مالك النداء للصلاة (416) .
(3) صحيح البخاري الصلاة (436) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .(24/134)
(و) قوله: وإنا لنعجب من استنكاره لزيارة الروضة للتيمن والاستئناس مع ما رواه عن الأئمة الأعلام من تسليمهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما مروا بقبره الشريف، وكانوا يذهبون إليه كلما هموا بسفر، أو أقبلوا من سفر.
الجواب عنه أن نقول:
أولا: لا عجب فيما ذكرت؛ لأن استنكار ذلك هو الحق، فإن زيارة الروضة للتبرك والتيمن مقصد شركي بدعي، لم يشرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما شرع زيارتها للصلاة فيها وعبادة الله فيها.
ثانيا: وأما قوله: إن الأئمة الأعلام يسلمون على النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما مروا بقبره أو هموا بسفر، فهو قول لا أصل له ولا دليل عليه، ولم يروه الشيخ عنهم، وإنما روي عنهم خلافه، وهو أنهم لم يكونوا يترددون على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما دخلوا المسجد؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك فقال: «لا تتخذوا قبري عيدا (1) » أي لا تترددوا عليه وتجتمعوا حوله، وإنما كانوا يسلمون عليه إذا قدموا من سفر، كما كان ابن عمر يفعل ذلك إذا قدم من سفر، ولا يزيد على قوله: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبي، ثم ينصرف، ثم ما علاقة التسليم على الرسول بالروضة؟ لأن الروضة في المسجد، وقبر الرسول كان خارج مسجده في عهد الصحابة - رضي الله عنهم -.
(ز) وقوله: وبعد: فإننا نقرر أن التبرك بزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مستحسن، وليس التبرك الذي نقصده عبادة أو قريبا منها، إنما التبرك هو التذكر والاعتبار والاستبصار.
والجواب عن ذلك أن نقول: أولا التبرك بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من البقاع والأشجار والأحجار أمر مستقبح وليس مستحسنا إلا عند الجهال والقبوريين، وهو شرك بالله لكونه تعلقا على غير الله،
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (2042) ، مسند أحمد بن حنبل (2/367) .(24/135)
وطلبا من غيره، ولما رأى بعض الصحابة وكانوا حدثاء عهد بالإسلام أن المشركين يتبركون بشجرة، وطلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم شجرة مثلها يتبركون بها استنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك استنكارا شديدا، وقال: «قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (2) » ، الأعراف \ 138.
فدل هذا الحديث على أن من يتبرك بشجرة أو حجر أو قبر أو بقعة فقد أشرك بالله واتخذ المتبرك به إلها.
ثاينا: وأما قوله: وليس التبرك الذي نقصده عبادة أو قريبا منها، إنما التبرك هو التذكر والاعتبار والاستبصار.
فالجواب عنه: أن هذا من جهله بمعنى العبادة، وعدم تفريقه بين التبرك وبين التذكر والاعتبار، أو يتجاهل ذلك من أجل التلبيس على الناس، فالعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال، ومنها الرغبة والرهبة والرجاء، ومنها التبرك وهو طلب البركة، يكون بأسمائه سبحانه، فالتبرك بغير الله شرك، إلا التبرك بشعر النبي - صلى الله عليه وسلم - ووضوئه، فهذا خاص به - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الله جعله مباركا، ولا يمكن ذلك إلا في حال حياته ووجوده، ولم يكن الصحابة يتبركون بمنبره ولا بقبره ولا حجرته، وهم خير القرون وأعلم الأمة بما يحل وما يحرم، فلو كان جائزا لفعلوه، وبعد أن انتهينا من رد ما نسبه إلى شيخ الإسلام ابن تيمية ننتقل إلى رد ما نسبه إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب فنقول:
__________
(1) سنن الترمذي الفتن (2180) ، مسند أحمد بن حنبل (5/218) .
(2) سورة الأعراف الآية 138 (1) {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}(24/136)
ثانيا: ما نسبه إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -.
- اعتبر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب نحلة ومذهبا محدثا مستقلا أطلق عليه لفظ الوهابية، وعده من جملة المذاهب الضالة التي أدرجها تحت عنوان مذاهب حديثة، وهي الوهابية والبهائية والقاديانية.
ومن المعلوم وواقع دعوة الشيخ أنه ليس صاحب مذهب جديد، وإنما هو في العقيدة على مذهب السلف أهل السنة والجماعة، وفي الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -، ولم يستقل ولا بمسألة واحدة عن هؤلاء، فكيف يعتبره أبو زهرة صاحب مذهب جديد، ويدرجه ضمن المذاهب الضالة الكافرة، والنحل الفاسدة، قاتل الله الجهل والهوى والتقليد الأعمى، وإذا كان هو يعيب على الوهابية ما توهمه في تكفيرهم للناس، فكيف يبيح لنفسه هذا الذي عابه على غيره؟
- ثم قال: ومنشئ الوهابية هو محمد بن عبد الوهاب، وقد درس مؤلفات ابن تيمية فراقت في نظره، وتعمق فيها، وأخرجها من حيز النظر إلى حيز العمل.
هكذا قال عن مرتبة الشيخ محمد بن عبد الوهاب
العلمية أنه لم يدرس إلا مؤلفات ابن تيمية، وكأنه لم يقرأ ترجمة الشيخ وسيرته، ولم يعرف شيئا عن تحصيله العلمي، أو أنه عرف ذلك وكتمه بقصد التقليل من شأنه، والتغرير بمن لم يعرف شيئا عن الشيخ، ولكن هذا لا يستر الحقيقة، ولا يحجب الشمس في رابعة النهار، فقد كتب المنصفون عن الشيخ - رحمه الله - مؤلفات كثيرة انتشرت في الأقطار، وعرفها الخاص والعام، وأنه رحمه الله تعمق في دراسة الفقه والتفسير والحديث والأصول، وكتب العقيدة التي من جملتها مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية وتليمذه ابن القيم، وقد تخرج(24/137)
علي أيدي علماء أفذاذ، وأئمة كبار في مختلف الفنون في بلاد نجد والحجاز والأحساء والبصرة، وقد أجازوه في مروياتهم وعلومهم، وقد ناظر ودرس وأفتى وألف في الفقه والحديث والعقيدة حتى نال إعجاب من اجتمع به، أو استمع إلى دروسه ومناظراته، أو قرأ شيئا من مؤلفاته، ومؤلفاته تدل على سعة أفقه وإدراكه في علوم الشريعة، وسعة اطلاعه وفهمه، ولم يقتصر فيما ذكر في تلك المؤلفات على كتب ابن تيمية - كما يظن هذا الجاهل أو المتجاهل - بل كان ينقل آراء الأئمة الكبار في الفقه والتفسير والحديث، مما يدل على تبحره في العلوم، وعمق فهمه، ونافذ بصيرته، وهاهي كتبه المطبوعة المتداولة شاهدة بذلك والحمد لله، ولم يكن رحمه الله يأخذ من آراء شيخ الإسلام ابن تيمية ولا من آراء غيره إلا ما ترجح لديه الدليل، بل خالف شيخ الإسلام في بعض الآراء الفقهية.
- ثم قال عمن أسماهم بالوهابية: وإنهم في الحقيقة لم يزيدوا بالنسبة للعقائد شيئا عما جاء به ابن تيمية، ولكنهم شددوا فيها أكثر مما تشدد، ورتبوا أمورا علمية لم يكن قد تعرض له ابن تيمية؛ لأنها لم تشتهر في عهده، ويتلخص ذلك فيما يأتي:
(1) لم يكتفوا بجعل العبادة كما قررها الإسلام في القرآن والسنة، وكما ذكر ابن تيمية، بل أرادوا أن تكون العبادات أيضا غير خارجة على نطاق الإسلام فيلتزم المسلمون ما التزم (1) ، ولذا حرموا الدخان وشددوا في التحريم، حتى إن العامة منهم يعتبرون المدخن كالمشرك، فكانوا يشبهون الخوارج الذين كانوا يكفرون مرتكب الذنب.
__________
(1) كذا قال والعبارة ركيكة ومتناقضة(24/138)
(2) وكانوا في أول أمرهم يحرمون على أنفسهم وما يماثلها، ولكن يظهر أنهم تساهلوا فيها فيما بعد.
(3) إن الوهابية لم تقتصر على الدعوة المجردة بل عمدت إلى حمل السيف لمحاربة المخالفين لهم، باعتبار أنهم يحاربون البدع، وهي منكر تجب محاربته، ويجب الأخذ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(4) أنها كانت كلما مكن لها من قرية أو مدينة أتت على الأضرحة هدما وتخريبا.
(5) أنهم تعلقوا بأمور صغيرة ليس فيها وثنية ولا ما يؤدي إلى وثنية، وأعلنوا استنكارها، مثل التصوير الفوتوغرافي؛ ولذلك وجدنا ذلك في فتاواهم ورسائلهم التي كتبها علماؤهم.
(6) أنهم توسعوا في معنى البدعة توسعا غريبا، حتى إنهم ليزعمون أن وضع الستائر على الروضة الشريفة أمر بدعي، ولذلك منعوا تجديد الستائر عليها، إلى أن قال: وإننا لنجد فوق ذلك منهم من يعد قول المسلم: سيدنا محمد بدعة لا تجوز، ويغلون في ذلك غلوا شديدا، إلى أن قال: وإنه يلاحظ أن علماء الوهابيين يفرضون في آرائهم الصواب الذي لا يقبل التصويب، بل إنهم يعتبرون ما عليه غيرهم من إقامة الأضرحة والطواف حولها قريبا من الوثنية - انتهى ما قاله في حق من سماهم الوهابية، ويظهر أنه قد امتلأ صدره غلا وحقدا وغيظا عليهم فتنفس الصعداء بإفراغ بعض ما عنده - والله سبحانه عند لسان كل قائل وقلبه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (1) .
__________
(1) سورة ق الآية 18(24/139)
وجوابنا عن ذلك من وجوه:
الوجه الأول: قوله: إنهم في الحقيقة لم يزيدوا بالنسبة للعقائد شيئا عما جاء به ابن تيمية، معناه أن ابن تيمية في نظره جاء بعقائد ابتدعها من عنده، وأن الوهابية اعتبروه مشرعا، وقد سبق الجواب عن هذه الفرية وبينا أن شيخ الإسلام ابن تيمية لم يبتدع شيئا من عنده، بل كان على عقيدة السلف الصالح من الصحابة والتابعين والقرون المفضلة، ولم يستحدث شيئا من عنده، وإننا نتحدى كل من يقول مثل هذه المقالة الظالمة أن يبرز لنا مسألة واحدة خالف فيها شيخ الإسلام ابن تيمية من سبقه من سلف الأمة، غاية ما في الأمر أنه جدد عقيدة السلف ونشرها وأحياها بعد ما اندرست ونسيها الكثيرون.
ونقول أيضا: إن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وغيره من أئمة الدعوة لم يقتصروا على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، بل استفادوا منها ومن غيرها من الكتب السليمة المفيدة المتمشية مع منهج السلف، يعرف هذا من طالع كتبهم.
الوجه الثاني: أنه قوله: لم يكتفوا بجعل العبادة كما قررها الإسلام في القرآن والسنة، فرية عظيمة واتهام خطير لعلماء دعوة التوحيد في نجد بأنهم ابتدعوا عبادات لم يشرعها الله ورسوله، ولكن الله فضحه وبين كذبه، حيث لم يجد مثالا لما قال إلا تحريم الدخان، وهذا مما يدل على جهله، فإن تحريم الدخان ليس من قسم العبادات، وإنما هو من قسم الأطعمة والحلال والحرام، وأيضا فإن تحريم الدخان لم يختص به علماء الدعوة في نجد بل حرمه غيرهم من علماء الأمة لخبثه وضرره، وهاهي الآن تقام أنشطة مكثفة للتحذير من شرب الدخان وتوعية الناس بأضراره من قبل المنظمات الصحية العالمية.(24/140)
وقوله: حتى إن العامة منهم يعتبرون المدخن كالمشرك، هذه فرية أخرى، لو صح أن أحدا من العامة حصل منه ذلك، فالعامي ليس بحجة يعاب به أهل العلم، ولكن أهل نجد - والحمد لله - يعرفون من الحق أكثر مما يعرفه علماء الضلال، يعرفون ما هو الشرك، وما هو المحرم الذي لا يعد شركا بما يقرءون ما يسمعون من دروس التوحيد وكتب العقائد الصحيحة.
الوجه الثالث: قوله: كانوا في أول أمرهم يحرمون القهوة وما يماثلها، نقول: هذا كذب ظاهر، ولم يأت بما يثبت ما يقول، وما زال علماء نجد وعامتهم يشربون القهوة في مختلف العصور، وهذه كتبهم وفتاواهم ليس فيها شيء يؤيد ما يقوله، بل فيها ما يكذبه، فإن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن - رحمه الله - أنكر على من قال بتحريم القهوة ورد عليه، وله في ذلك رسالة مطبوعة مشهورة.
الوجه الرابع: قوله: إن الوهابية لم تقتصر على الدعوة المجردة بل عمدت إلى حمل السيف لمحاربة المخالفين لهم، باعتبار أنهم يحاربون البدع.
أقول: أولا قوله: إن الوهابية لم تقتصر على الدعوة المجردة يدل على جهله؛ فإن الدعوة المجردة لا تكفي، مع القدرة على مجاهدة أعداء الإسلام؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء بالدعوة والجهاد في سبيل الله.
ثانيا: قوله: إنهم حملوا السيف لمحاربة من خالفهم، هذا كذب عليهم فإنهم لم يحاربوا خصومهم لمجرد مخالفتهم، بل حاربوهم لأحد أمرين: إما للدفاع عن أنفسهم إذا اعتدى عليهم أحد، وإما لأجل إزالة الشرك إذا احتاجت إزالته إلى قتال، وتاريخ غزواتهم شاهد بذلك، وهو مطبوع متداول في أكثر من كتاب.(24/141)
الوجه الخامس: قوله: إنها كانت كلما مكن لها من قرية أو مدينة أتت على الأضرحة وتخريبها.
أقول: هذا من فضائلهم وإن عده هو وأضرابه من معائبهم؛ لأنهم ينفذون بذلك وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله لعلي - رضي الله عنه -: «لا تدع قبرا مشرفا إلا سويته (1) » ، فأي عيب في ذلك إذا أزالوا مظاهر الوثنية، وعملوا بالسنة النبوية، ولكن أهل الجهل والضلال لا يعلمون، فيعتقدون الحسن قبيحا والقبيح حسنا، والمنكر معروفا والمعروف منكرا، وقد تكاثرت الأدلة على تحريم البناء على القبور؛ لأن ذلك من وسائل الشرك، فلا بد من هدم الأضرحة وإزالة مظاهر الوثنية، وإن غضب أبو زهرة وأضرابه ممن يرون بقاء الأضرحة التي هي منابت الوثنية وأوكارها.
الوجه السادس: قوله: إنهم تعلقوا بأمور صغيرة، ثم مثل لذلك بتحريم التصوير الفوتوغرافي.
والجواب عن ذلك أولا: إن التصوير ليس من الأمور الصغيرة بل هو من كبائر الأمور، للأحاديث الصحيحة في النهي عنه والتحذير منه، ولعن المصورين، والإخبار بأنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة من غير تفريق بين التصوير الفوتوغرافي وغيره، ومن فرق فعليه الدليل، والمحذور في التصوير والتعليل الذي حرم من أجله متحققان في جميع أنواع الصور فوتوغرافية أو غيرها.
وثانيا: قوله: إن التصوير لا يؤدي إلى وثنية قول مردود؛ لأن التصوير من أعظم الوسائل التي تؤدي إلى الوثنية كما حصل لقوم نوح لما صوروا الصالحين وعلقوا صورهم على مجالسهم، وآل بهم الأمر إلى أن عبدوا تلك الصور، كما ورد ذلك في صحيح البخاري وغيره عند تفسير قوله تعالى:
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (969) ، سنن الترمذي الجنائز (1049) ، سنن النسائي الجنائز (2031) ، سنن أبو داود الجنائز (3218) ، مسند أحمد بن حنبل (1/139) .(24/142)
{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (1) .
الوجه السابع: قوله: إنهم توسعوا في معنى البدعة توسعا غريبا، حتى إنهم ليزعمون أن وضع ستائر على الروضة الشريفة أمر بدعي؛ ولذلك منعوا تجديد الستائر عليها.
والجواب عن ذلك أن نقول:
أولا: هو لا يدري ما هي الروضة الشريفة، فيظن أنها الحجرة النبوية، وليس الأمر كذلك فالروضة في المسجد، وهي ما بين منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيته لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة (2) » ، والحجرة النبوية خارج الروضة وكانت خارج المسجد قبل التوسعة.
ثانيا: الروضة لا يمكن وضع ستائر عليها ولا يتصور، وإنما يقصد الحجرة النبوية يريد أن تجعل مثل الأضرحة القبورية فتجعل عليها الستور كما على الأضرحة، وهذا لا يجوز.
أولا: لأنه لم يكن من عمل السلف الصالح من الصحابة والتابعين والقرون المفضلة، فلم يكن عليها ستائر في وقتهم، وثانيا: لأنه وسيلة إلى الشرك، بل ستر سائر الحيطان عموما إسراف لا ينبغي فعله قال في المغني (7 \ 9) :
فأما ستر الحيطان بستور غير مصورة، فإن كان لحاجة من وقاية حر أو برد فلا بأس به؛ لأنه يستعمله في حاجته، فأشبه الستر على الباب، وما يلبسه على بدنه، وإن كان لغير حاجة فهو مكروه، وعذر في الرجوع عن الدعوة - يعني الوليمة - وترك الإجابة، بدليل ما روى سالم بن عبد الله بن عمر قال: أعرست في عهد أبي أيوب فآذن أبي فكان أبو أيوب فيمن آذن وقد ستروا
__________
(1) سورة نوح الآية 23
(2) صحيح البخاري الجمعة (1195) ، صحيح مسلم الحج (1390) ، سنن النسائي المساجد (695) ، مسند أحمد بن حنبل (4/39) ، موطأ مالك النداء للصلاة (463) .(24/143)
بيتي بخباء أخضر، فأقبل أبو أيوب مسرعا فاطلع فرأى البيت مستترا بخباء أخضر، فقال: يا عبد الله، أتسترون الجدر؟ فقال أبي - واستحيا -: غلبتنا النساء يا أبا أيوب، فقال: من خشيت أن يغلبنه فلم أخش أن يغلبنك، ثم قال: لا أطعم لكم طعاما، ولا أدخل لكم بيتا، ثم خرج، رواه الأثرم.
وروي عن عبد الله بن يزيد الخطمي أنه دعي إلى طعام فرأى البيت منجدا فقعد خارجا وبكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا قد رقع بردة له بقطعة أدم، فقال: تطالعت علينا الدنيا، ثلاثا، ثم قال: أنتم اليوم خير أم إذا غدت عليكم قصعة وراحت أخرى، ويغدو أحدكم في حلة ويروح في أخرى، وتسترون بيوتكم كما تستر الكعبة (1) » .
قال عبد الله: أفلا أبكي وقد بقيت حتى رأيتكم تسترون بيوتكم كما تستر الكعبة، وقد روى الخلال بإسناده عن ابن عباس وعلي بن الحسين «عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى أن تستر الجدر» ، وروت عائشة «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرنا فيما رزقنا أن نستر الجدر (2) » انتهى.
الوجه الثامن: قوله: وإنا لنجد فوق ذلك منهم من يعد قول المسلم: " سيدنا محمد " بدعة لا تجوز، ويغلون في ذلك غلوا شديدا.
والجواب عن ذلك أن نقول: هذا كذب من القول، فعلماء الدعوة يثبتون ما ثبت للنبي - صلى الله عليه وسلم - من الصفات الكريمة، ومنها أنهم يعتقدون أنه سيد ولد آدم وأفضل الخلق على الإطلاق، لكنهم يمنعون الغلو في حقه - صلى الله عليه وسلم - عملا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم (3) » ، ويمنعون الابتداع، ومن ذلك أن يقال: سيدنا في المواطن التي لم يرد قول ذلك فيها، كالأذان والإقامة والتشهد في الصلاة وكذا رفع الأصوات قبل الأذان بقول: اللهم
__________
(1) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2476) .
(2) سنن أبو داود اللباس (4153) .
(3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3445) ، مسند أحمد بن حنبل (1/47) .(24/144)
صل وسلم على سيدنا رسول الله، أو بعد أداء الصلوات كما يفعله المبتدعة بأصوات جماعية، وهذا هو الذي أظنه يقصده في كلامه، حيث يراه يفعل عندهم فظنه مشروعا، وهذا هو الذي ينكره علماء الدعوة في المملكة العربية السعودية وينكره غيرهم من أهل التحقيق والعمل بالسنة وترك البدعة في كل مكان؛ لأنه بدعة، وكل بدعة ضلالة، وغلو في حقه - صلى الله عليه وسلم - والغلو ممنوع، أما قول سيدنا رسول الله في غير مواطن البدعة فعلماؤنا لا ينكرونه بل يعتقدونه، ويقولون: هو سيدنا وإمامنا - صلى الله عليه وسلم -.
الوجه التاسع: قوله: وفي سبيل دعوتهم يغلظون في القول حتى إن أكثر الناس لينفرون منهم أشد النفور.
والجواب عن ذلك أن نقول: أولا هذا الكلام من جملة الاتهامات التي لا حقيقة لها، وهذه كتب علمائنا ورسائلهم - والحمد لله - ليس فيها تغليظ إلا فيما يشرع فيه التغليظ، وليس فيها تنفير.
وإنما فيها الدعوة إلى الله بالبصيرة والحكمة والموعظة الحسنة، وكتبهم في ذلك مطبوعة ومتداولة ومنتشرة، وكل من اتصل بهم فإنه يثني عليهم، وقد كتب المنصفون عن الشيء الكثير في تاريخهم الماضي والحاضر من حسن السياسة، وصدق المعاملة، والوفاء بالعهود، والرفق بالمسلمين، وأكبر شاهد على ذلك من يفد إلى مكة المشرفة للحج والعمرة كل عام وما يشاهدونه من العناية بخدمة الحجيج، وبذل الجهود في توفير راحتهم، مما أطلق الألسنة والأقلام بالثناء عليهم وعلى حكومتهم، وكذلك من يفدون إلى المملكة للعمل فيها يشهد أكثرهم بذلك.
ثانيا: وأما قوله: حتى إن أكثر الناس لينفرون منهم أشد النفور، فهو من أعظم الكذب، وخلاف الواقع، فإن الدعوة التي قاموا(24/145)
بها من عهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - إلى هذا العهد، وهي الدعوة إلى الإسلام وإخلاص التوحيد، والنهي عن الشرك والبدع والخرافات، وقد لاقت هذه الدعوة في أرجاء العالم، وانتشرت انتشارا واسعا في كثير من الأقطار، وما هو على صعيد الواقع الآن أكبر شاهد وأعظم دليل على ما ذكرنا، ويتمثل ذلك فيما تبذله الحكومة السعودية - أدام الله بقاءها، وسدد خطاها، بتوجيه من علمائها، ورغبة من حكامها - بفتح الجامعات الإسلامية التي تخرج الأفواج الكثيرة من أبناء العالم الإسلامي على حسابها.
ويتمثل ذلك أيضا في إرسال الدعاة إلى الله في مختلف أرجاء العالم وفي توزيع الكتب المفيدة، وبذل المعونات السخية للمؤسسات الإسلامية، ومد يد العون للمعوزين في العالم الإسلامي، وإقامة المؤتمرات والندوات، وبناء المساجد والمراكز الإسلامية؛ لتبصير المسلمين بدينهم، مما كان له أعظم الأثر والقبول الحسن - والحمد لله، وهذا واقع مشاهد وهو يبطل قول هذا الحاقد: إن أكثر الناس لينفرون منهم أشد النفور، لكن كما قال الشاعر:
لي حيلة فيمن ينم ... ومالي في الكذاب حيلة
من كان يخلق ما يقول ... فحيلتي فيه قليلة
الوجه العاشر: قوله: وإنه يلاحظ أن علماء الوهابيين يفرضون في آرائهم الصواب الذي لا يقبل الخطأ، وفي رأي غيرهم الخطأ الذي لا يقبل الصواب.
والجواب عنه أن نقول: هذا من جنس ما قبله من التهجم الكاذب الذي لا حقيقة له، فهذه كتب علمائنا ومناقشاتهم لخصومهم، ليس فيها شيء مما ذكره، بل فيها ما يكذبه من بيان الحق وتشجيع أهله، ورد الباطل بالحجة والبرهان ودعوة أهله(24/146)
إلى الرجوع إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة، ولم يدعوا لأنفسهم بالعصمة من الخطأ، ويرفضوا ما عند غيرهم من الصواب كما وصفهم بذلك، وهذا إمامهم وكبيرهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - يقول في إحدى رسائله التي وجهها لخصومه: وأرجو أني لا أرد الحق إذا أتاني، بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه إن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلنها على الرأس والعين، ولأضربن الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي حاشا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يقول إلا الحق انتهى. وكلهم - والحمد لله - على هذا المنهج الذي قاله الشيخ.
الوجه الحادي عشر: قوله: بل إنهم يعتبرون ما عليه غيرهم من إقامة الأضرحة والطواف حولها قريبا من الوثنية:
والجواب عنه أن نقول: كلامه هذا يدل على جهله بمعنى الوثنية، لم يدر أنها تتمثل في تعظيم القبور بالبناء عليها، والطواف حولها، وطلب الحوائج من أصحابها، والاستغاثة بهم، فلذلك استغرب استنكار ذلك واعتباره من الوثنية، وكأنه لم يقرأ ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية من استنكار الاستشفاع بالموتى واتخاذهم أولياء ليقربوا إلى الله زلفى، ولم يقرأ نهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن البناء على القبور واتخاذها مساجد، ولعن من فعل ذلك، وإذا لم تكن إقامة الأضرحة والطواف حولها وثنية فما هي الوثنية؟ لكن كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، ألم يكن شرك قوم نوح متمثلا في دعاء الأموات؟! ألم تكن اللات ضريحا لرجل صالح كان يلت السويق للحاج؟! فلما مات عكفوا عند قبره وطافوا حوله، ولو كان هذا الكلام صادرا عن عامي لا يعرف الحكم لهان الأمر؛ لأن العامي جاهل وتأثيره على الناس(24/147)
محدود، لكن الذي يؤسفنا أن يكون صادرا عمن يدعي العلم، وقد صدرت عنه مؤلفات كثيرة، فهذا قد يكون تأثيره على الناس خصوصا محدودي الثقافة شديدا؛ نظرا لكثرة مؤلفاته وسمعته الواسعة وإحسان الظن به، ولكن الحق سينتصر بإذن الله {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} (1) .
والعلم لا يقاس بكثرة الإصدارات، وإنا يقاس بمدى معرفة الحق من الباطل، والهدى من الضلال والعمل بذلك، وإلا فكيف يتصور من مسلم - فضلا عمن ينتسب إلى العلم - أن يتفوه بأن الطواف بالأضرحة ليس من الوثنية، أليس الطواف عبادة، وصرف العبادة لغير الله وثنية وشرك؟! فالطائف بالأضرحة إن كان قصده التقرب إليها بذلك فلا شك أن هذا شرك أكبر؛ لأنه تقرب بالعبادة إلى غير الله، وإن كان قصده بالطواف حول الضريح التقرب إلى الله وحده فهذه بدعة ووسيلة إلى الشرك؛ لأن الله لم يشرع الطواف إلا حول الكعبة المشرفة.
ولا يطاف بغيره على وجه الأرض، هذا وإننا ندعو كل من بلغه شيء من تشويه دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أو قرأ شيئا من الكتب التي تروج هذا التشويه أمثال كتب الشيخ محمد أبي زهرة فعليه أن يتثبت، وأن يراجع كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكتب العلماء الذين جاءوا من بعده، وحملوا دعوته ليرى فيها تكذيب تلك الشائعات، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (2) .
وكتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكتب علماء الدعوة من بعده ميسورة، والحمد لله، وهي توزع على أوسع نطاق، عن طريق
__________
(1) سورة الرعد الآية 17
(2) سورة الحجرات الآية 6(24/148)
الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، ومكاتبها في الداخل والخارج، وفي موسم الحج كل سنة، وهي لا تدعو إلى مذهب معين أو نحلة محدثة، وإنما تدعو إلى العمل بكتاب الله وسنة رسوله، ومذهب أهل السنة والجماعة، ونبذ البدع والخرافات، والاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته وسلف الأمة والقرون المفضلة، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وكتبه صالح بن فوزان(24/149)
الأسس المنهجية لموقف أهل السنة
من قضية الصفات وضوابطها
د. محمد عبد الله عفيفي
الأستاذ المساعد بقسم الدراسات الإسلامية بجامعة الملك سعود
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي أنار سبل الهدى، وكشف مناهج المعرفة، وأبان طرائق الرشد والنضج إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فكان خير سراج، وأعظم هاد ومرشد. وبعد.(24/150)
قضية الصفات وأهميتها:
تعد قضية الصفات وما ثار حولها من أبرز القضايا التي تتعلق بعقيدة التوحيد في الفكر الإسلامي، وبالرغم من أنها كانت مثار جدل محتدم بين مختلف المدارس الفكرية والثقافية في الحضارة الإسلامية، وبالرغم من أن أهل السنة قد تصدوا عن وعي وبصيرة لأولئك الذين حاولوا نفي صفات الله سبحانه بحجة الالتزام بفكرة التوحيد، أو للذين حاولوا نفي بعضها وإثبات بعضها الآخر متعللين بالحجة السالفة نفسها، أقول: بالرغم من هذا فإن القضية لا تزال مطروحة للنقاش طالما رأينا من يحاول إثارتها من جديد، ومن يصر إصرارا أكيدا على تأويل تلك الصفات التي يوصف بها(24/150)
الله سبحانه والتي تدل على القدرة المطلقة للخالق سبحانه في الأفعال وفي التدبير.
وفي هذا الصدد فقد رأينا من يطلع علينا بين حين وآخر ليشيد بموقف المتفلسفة في البيئة الإسلامية، حيث كان منهم من نفى الصفات نفيا تاما، كالفارابي ومدرسته، ومنهم من قبل بعضها وأول بعضها الآخر كابن رشد وغيره من الفلاسفة الإلهيين ومن تابعه، ووجدنا أيضا من يشيد بمواقف بعض المتكلمين الذين لجأ جم غفير منهم إلى قبول بعض الصفات وتأويل بعضها الآخر، بل رأينا من ينادي بإحياء آراء وتصورات بعض المدارس الكلامية، ويرى أنها تمثل المخرج الأوحد من الأزمة الثقافية الخانقة التي يعاني منها الفكر الإسلامي أو العربي المعاصر، كما يحلو لبعضهم أن يسميه.
وحتى لا تتعقد المفاهيم، أو تتشعب الدروب، فإن هذه الدراسة سوف تعنى بوضع قاعدة عامة تراعي الأسس المنهجية لموقف أهل السنة من هذه القضية مع بيان الضوابط العامة لتلك الأسس، الأمر الذي نراه قاضيا على كل خلاف ينشب حولها، كما يقطع الطريق - في نظرنا - على كل منكر للصفات، أو مغرق في تأويلها.
ولعل من نافلة القول أن نذكر أن أهل السنة قد عرضوا لهذه القضية بالبيان المنهجي تحت عنوان " توحيد الأسماء والصفات "، وهذا هو الجانب الذي سوف نبدأ به؛ لنصل في النهاية إلى تفهم المنهجية التي اتبعها أهل السنة في تناولهم لهذه القضية، والتي تستحق من كل منصف في البحث، ومتحر للحقيقة المجردة أن يشيد بها، ويتفهم عن وعي أبعادها.(24/151)
توحيد الأسماء والصفات:
معناه.
حقيقة موقف أهل السنة من هذه القضية.(24/151)
معناه:
ومعنى قولنا: توحيد الأسماء والصفات: إثبات الصفات والأسماء التي وردت في حق الله سبحانه وتعالى وفق النصوص الثابتة في الكتاب والسنة، كذلك فهم هذه الصفات والأسماء حسبما تدل عليه، دون بحث في تكييف أو تحديد حقيقتها، وكذلك دون نفي لأية صفة وردت في حق الخالق سبحانه، ودون تأويلها إذا كانت - من حيث التعبير اللغوي - متشابهة مع بعض صفات المخلوقين، والأمر كذلك فيما يتعلق بالأسماء التي وردت متشابهة.
حقيقة موقف أهل السنة من هذه القضية:
لقد قلنا: إن قضية " الصفات الإلهية " كانت ذات تأثير كبير في مجال الدراسات الإسلامية كما كانت محور جدل مستفيض لدى كثير من الأشخاص والجماعات والفرق في البيئة الإسلامية، وكان النقاش والحوار يدور حول إثبات الصفات لله سبحانه وتعالى، أو نفيها عنه، أو إثبات بعضها ونفي بعضها الآخر.
ومصدر هذا الجدل الحاد والحوار الساخن فيما بينها، أن الله سبحانه وتعالى قد وصف نفسه بصفات، وسمى نفسه بأسماء مشابهة في ظاهر اللفظ لما يوصف به بعض خلقه ويسمى به، مثل القوة، والسمع والبصر، والإرادة، وأنه ذو يدين، وأن له عينين كما قال: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (1) .
وقال:
{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (2) .
__________
(1) سورة طه الآية 39
(2) سورة القمر الآية 14(24/152)
وأنه استوى على العرش، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا، وغير ذلك من الصفات والأسماء الموهمة للتشبيه بين الخالق والمخلوق، مع أنها في حقيقة الأمر ليست كذلك.
أما أهل السنة والجماعة وهم الصحابة والتابعون وتابعوهم وجم غفير من أساطين المحدثين والفقهاء والعلماء المسلمين، فقد أثبتوا هذه الصفات، وتلك الأسماء لله سبحانه وتعالى كما وصف بها نفسه، وكما وصفه بها رسله، دون محاولة منهم لبيان كيفيتها أو شرح طبيعتها، أو كما يقول ابن تيمية: فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات، مع نفي مماثلة المخلوقات: إثباتا بلا تشبيه وتنزيها بلا تعطيل، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) .
ففي قوله:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (2)
رد للتشبيه والتمثيل، وقوله:
{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (3)
رد للإلحاد والتعطيل (4) .
ومعنى هذا: أن الصحابة ومن تابعهم وتابع منهجهم في فهم الصفات الإلهية ودلالتها لم يدر بخلدهم لا من قريب ولا من بعيد أي تفكير حول نفي هذه الصفات والأسماء الإلهية، ومن ثم فقد فهموا قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (5) .
على حقيقته دون تحريف أو تمثيل أو تكييف.
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة الشورى الآية 11
(3) سورة الشورى الآية 11
(4) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية جـ \ 3، ص4.
(5) سورة الفتح الآية 10(24/153)
ودون نفي له أو تأويل، وقد وقف الصحابة ومن تبعهم هذا الموقف؛ لأنهم أدركوا أن تكييف الصفات أو الأسماء ومحاولة تحديد حقيقتها إنما يعني الوقوع في محظور لا يمكن أن يقبل أو يتجاوز عنه، وهو الاعتراف الضمني بمشابهة الله للمخلوقات التي يجري عليها كلها قوانين التكييف والتحديد، ومن ثم فلم يتجهوا إلى التكييف أو التحديد في هذا الجانب، فأثبتوا الصفات والأسماء الإلهية دون تكييف.
ومن ناحية أخرى فإنهم أدركوا كذلك أن نفي التشبيه كلية بين الخالق والمخلوق لا يتطلب نفي هذه الصفات أو الأسماء عن الله سبحانه أو تأويل معناها بما يتفق مع فكرة تنزيه الله سبحانه عن مشابهة المخلوقين؛ ذلك أن النفي أو التأويل إنما يعني تعطيل البارئ سبحانه مما وصف به نفسه، ومما سمى به نفسه من صفات وأسماء، ومما جاء كذلك على ألسنة رسله إلى العالمين، وهذا هو باختصار موقف أهل السنة والجماعة أيضا من قضية الصفات، وهو الموقف الذي تابعوا فيه منهج الصحابة - رضي الله عنهم -، وبعد هذا الإيضاح المبدئي لموقف أهل السنة من هذه القضية فإننا قد نتساءل عن أسس منهجهم وعن ضوابطه حتى نتمكن من فهم أعمق لدوافع الموقف الذي وقفوه.(24/154)
أسس موقف أهل السنة من قضية الصفات وضوابطه:
إننا إذا حاولنا الوقوف على بعض المبررات التي ارتكز عليها أهل السنة في معالجتهم لهذه القضية فسوف نجد أن الفهم الذي فهموه منها، والذي أشرنا إليه كان في الواقع مرتكزا على قاعدتين أو على حقيقتين واضحتين وضوح الشمس في رابعة النهار، الأولى: أن لله تعالى صفات وأسماء قد أخبرنا به القرآن الكريم، وأخبرتنا به أيضا السنة النبوية الصحيحة الموثقة، وقد قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180(24/154)
وقال سبحانه:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) .
ولهذا فلا مفر من الالتزام بما ورد في الكتاب والسنة على أساس أنها حقائق موضوعية لا يجسر أحد على نكرانها، وذلك لثباتها؛ ولأنها موجودة وقائمة بالفعل، ولأن الرسل جميعا - عليهم السلام - قد كلفوا بحمل أمانة تبليغها إلى العالمين، ومن ثم فإنها تعد جزءا بالغ الأهمية من الرسالة التي قاموا بإبلاغها.
وفي هذا الصدد يقول ابن قيم الجوزية: والعلم بمجيء الرسول بذلك يقصد الصفات والأسماء التي وصف الله بها نفسه، ووصفه به رسوله، وإخباره عن ربه إن لم يكن فوق العلم بوجوب الصلاة والصيام، والحج والزكاة، وتحريم الظلم والفواحش والكذب، فليس يقصر عنه، فالعلم الضروري حاصل بأن الرسول أخبر عن الله بذلك وفرض على الأمة تصديقه فيه، فرضا لا يتم أصل الإيمان إلا به. .
ومعنى هذا: أن ابن القيم يقرر أن إثبات الصفات للخالق قضية مفروغ منها، وهي قائمة على أساس علمي ضروري، لا يحتمل الشك فيه، أو الجدل حوله، أو حتى قبول بعضه، وترك بعضه الآخر، أما ذلك الأساس اليقيني فقد بين ابن القيم فيما سبق أنه مبني على الحقائق أو القواعد الآتية:
أولا: إننا نعلم علم اليقين أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد جاء مخبرا عن هذه الصفات الإلهية تماما مثل علمنا اليقيني بما جاء به من أحكام، وأوصاف تتعلق بالصلاة والزكاة والصيام والحج، هذا إن لم يزد عليها.
__________
(1) سورة الحشر الآية 7(24/155)
ثانيا: أن الله سبحانه قد فرض على الأمة تصديق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به، بل أمر باتباعه وجعله لنا الأسوة الحسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر.
ثالثا: أن الله سبحانه وتعالى قد جعل اتباع الرسول من أصول الإيمان التي لا يعد الإيمان كاملا أو تاما إلا بها كما قال سبحانه:
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) .
وإذا كان الأمر كذلك فلا مناص من التصديق بما ورد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أخبار موثقة، تعلمنا بما وصف الله سبحانه به نفسه، وبما وصفه به رسوله، وإلا لكنا واقعين في دائرة البعد عن الإيمان.
وثمة جانب آخر ينبغي أن نضعه نصب أعيننا، هو: أن هذه النصوص التي جاءت بها هذه الصفات لا تحتمل تأويلا، ومن ثم فهي محكمة غاية الإحكام، ومبينة كما يقول ابن القيم: بأقصى غاية البيان، أن الله موصوف بصفات الكمال: من العلم والقدرة والإرادة والحياة والكلام والسمع والبصر والوجه واليدين والغضب والرضا والفرح والضحك والرحمة والحكمة، وبالأفعال: كالمجيء والإتيان والنزول إلى السماء الدنيا ونحو ذلك (2) .
القاعدة الثانية:
أن الله سبحانه وتعالى كما أخبرنا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (3) وهذا ينفي أي شكل أو أية صورة من صور المشابهة بينه وبين خلقه، لا في الذات ولا في الصفات؛ لأنه سبحانه لا يجري عليه ما يجري على البشر، ولا يتعلق به ما يتعلق بعالم الخلق؛ لأنه سبحانه فوق العالم ولا تدركه العقول
__________
(1) سورة النساء الآية 65
(2) إعلام الموقعين ج \ 2 ص294.
(3) سورة الشورى الآية 11(24/156)
والأفكار والتصورات والمقاييس البشرية والكونية؛ لأنه خالقها ومبدعها.
ومن ثم فقد كان منهج الصحابة - رضوان الله عليهم - ومن تبعهم هو فهم النصوص التي قد يظن منها التشابه في ضوء النصوص المحكمة؛ ولهذا فلا يوجد لديهم ما يدعيه بعضهم من تناقض بين النصوص المحكمة والمتشابهة، أو كما يقول ابن القيم:
(وأما طريقة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث كالشافعي والإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة وأبي يوسف والبخاري وإسحاق فعكس هذا الطريق - يقصد أولئك الذين يعارضون المحكم بالمتشابه ويردون المحكم بالمتشابه، أو يستخرجون من المحكم أوصافا متشابهة ليردوا بها المحكم، وهي أنهم يردون المتشابه إلى المحكم، ويأخذون من المحكم ما يفسر لهم المتشابه ويبينه لهم، فتتفق دلالته مع دلالة المحكم، وتوافق النصوص بعضها بعضا، ويصدق بعضها بعضا، فإنها كلها من عند الله، وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ولا تناقض، وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره) (1) .
ويتفرع على هاتين القاعدتين ما يأتي:
- أن البحث عن تجريد الصفات الإلهية أو فهم كيفياتها ليس عملا مفيدا أو مجديا؛ لأن هذا الفهم - أو بعبارة أخرى هذا المسلك - يعد غير داخل في نطاق القدرة البشرية؛ نظرا لما أشرنا إليه من أن ثمة حدودا قاطعة فاصلة بين الله وبين البشر؛ لأن الله ليس كمثله شيء.
- وكذلك فإن البحث عن مخرج لما ورد من ألفاظ وعبارات موهمة للتشبيه عن طريق التأويل يعد بحثا لا مبرر له إذن، وليس ثمة أي داع يدعو إليه، طالما أننا وثقنا بما جاء في هذه النصوص وآمنا به،
__________
(1) إعلام الموقعين ج \ 2 ص294.(24/157)
وصدقناه، وطالما كان المخبر به هو الله الخالق، وسواء أكان هذا الإخبار عن طريق كلام الله المباشر، الذي تنزل وحيا على الأنبياء أم كان إلهاما، وتعليما بطريقة ما، كما نراه في الأحاديث الصحيحة الموثقة التي جاءت على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، كما جاء في سنن الدارمي أن السنة كان ينزل بها جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: أخبرنا محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن حسان قال: «كان جبريل ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسنة كما كان ينزل عليه بالقرآن (1) » . التأويل لا جدوى منه:
ومما يزيد هذه الفكرة وضوحا أن تلقي مثل هذه الصفات والإخبار بها عن طريق موثق يجعل من العبث البحث عن مخرج لفهم ما تشابه منها؛ لأننا هنا نسأل أنفسنا فنقول: لماذا التأويل؟
فهل نحن مطالبون بأن نصل إلى حقيقة معناها؟ .
وهل تحقيق هذا المطلب أو الوصول إلى هذه الغاية يعد أمرا ممكنا؟
وهل ما يوجد في أرجاء الكون المادي وما يمكن أن يتخيل فيه، هو ما يوجد في الملأ الأعلى، أو فيما يتصل بالذات العلية، إذا علمنا علم اليقين أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته؟!
ولعل الإجابة على هذه الأسئلة تبدوا لنا واضحة وضوحا بينا؛ ذلك أننا لسنا مطالبين بأن نكيف هذه الصفات المتشابهة وغير المتشابهة.
__________
(1) سنن الدارمي الجزء الأول، نشر دار إحياء السنة النبوية، ص \ 145 (باب: السنة قاضية على الكتاب) .(24/158)
ولسنا قادرين أبدا - مهما أوتينا من قوة ذهنية، أو عقلية، أو خيالية فذة - على أن نصل إلى علم حقيقة هذه الصفات. ولعلنا نفهم هذه الحقيقة، بل نعلمها علم اليقين، من قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} (1) .
وواضح أنه ليس ثمة سلطان يمكن أيا من الجن والإنس على أن ينفذوا من أقطار السماوات والأرض وهذا يعني عجز كل من الإنس والجن،
__________
(1) سورة الرحمن الآية 33(24/159)
عن تخطي آفاق السماوات والأرض، حقيقة، وتخيلا، ومن أجل هذا، فإن من طبيعة العقل البشري أن يقف عاجزا تماما عن تبين حقائق ما في الملأ الأعلى من المخلوقات التي خلقها الله في السماوات، كما أن علمه بها يتوقف على ما يتلقاه من حقائق العلم الإلهي الذي يلقيه سبحانه على من يصطفيه من عباده ليكون رسوله إلى من أمر بإبلاغهم رسالة ربهم من الجن والإنس.
وإذا كان الأمر كذلك، فما هي الحاجة الحقيقية أو الضرورية إلى الجري وراء تأويل ما ورد من النصوص، وفيه تشابه لفظي في التعبير عن صفات الخالق، وصفات بعض المخلوقات، أو في التعبير عن أسماء الخالق - سبحانه - والتعبير عن أسماء بعض المخلوقين؟ !
وهل هناك مجال للوقوع في تصور التشبيه بين الخالق سبحانه - وبين المخلوق؟ !(24/160)
إن تصور وقوع فكرة " التشابه " بين الخالق والمخلوق - بسبب الاستعمال اللغوي - يبدو أمرا بعيد الحدوث لدى أولئك الذين ينظرون إلى هذه القضية من تلك الزاوية التي نظرنا منها بل أنه يبدو أمرا غير منطقي تماما. ذلك أننا هنا نتساءل قائلين:
- أين التشبيه - إذن - إذا كانت ذات البارئ سبحانه ليست مثل ذوات البشر؟ !
- وأين التشبيه إذا كانت صفات الله مغايرة تماما لما يصدر عن المخلوقين؟ !
- وأين التشبيه إذا كانت قدرة الله العظيم، ومجالاتها، وإمكانياتها، وسلطانها؛ لا حدود لها ولا قيود عليها، على النقيض مما هو حاصل وواقع لدى البشر؟!
وفي هذا الصدد فإنه يكفي أن نشير - على سبيل المثال - إلى ما تدل عليه بعض نصوص العلم الإلهي، وذلك في مجال تصوير بعض جوانب قدرة الله العظيم سبحانه - قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (1) وقال سبحانه:
{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) .
قال ابن كثير في تفسير آية الكهف (109) : (يقول: لو كان البحر مدادا، والشجر كله أقلام، لانكسرت الأقلام، وفني ماء البحر، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء؛ لأن أحدا لا يستطيع أن يقدر قدره،
__________
(1) سورة الكهف الآية 109
(2) سورة لقمان الآية 27(24/161)
ولا يثني عليه كما ينبغي، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه. إن ربنا كما يقول، وفوق ما نقول) .
فهل مع تأمل هذا الإبلاغ العلمي يمكننا أن نتصور وقوع عاقل في توهم التشابه بين الخالق - سبحانه - وبين المخلوق، بسبب الاستعمال اللغوي؟ !
ومما يزيد هذه الفكرة - في تصورنا - وضوحا، أن اللغة التي يفهمنا بها خالقنا ما يتصف به - سبحانه - من صفات، وما يتعلق به - سبحانه - من الأسماء والأفعال لا بد أن تكون لغة بشرية، من شأنها أن تقرب إلينا الدلالات، وتفتح أمامنا آفاق التصورات، دون أن تحدد أو تكيف حقائق ما تدل عليه؛ لأن تحديد أو تكييف هذه الحقائق فضلا عن استحالته كما أشرنا، فإنه لا يتعدى كونه وهما من الأوهام، وخيالا من الخيالات التي لا تليق خلقيا بالإله الخالق جل وعلا.
ومن ناحية أخرى، فإننا نرى أن إعلام الناس بما يتصف به سبحانه، وبما يجوز أن يسمى به، لا ينبغي أن يترك إلى ما تجود به قرائح المفكرين، ولا إلى ما تجيزه عقول ثقاة الباحثين، ذلك أن هؤلاء وهؤلاء قد يقعون في تصورات وخيالات، تجيزها عقولهم، وتستحسنها أذواقهم، وتتقبلها معاييرهم، بينما هي في الواقع مناقضة لحقيقة ما يتعلق به سبحانه، بل لا تليق بذاته سبحانه وتعالى، وحينئذ يكون قبولها، والتلفظ بها عن إيمان، وتصديق بها يعد كفرا، ومخالفة صريحة لأهم ركائز أو قواعد العقيدة الدينية الصحيحة.(24/162)
صفحة فارغة(24/163)
عرض لآراء بعض علماء المسلمين في فهم صفات الله:
1 - ابن الوزير (775 - 840 هـ) :
ولذلك فقد كانت تلك الحقيقة التي أشرنا إليها، واضحة لدى علماء المسلمين الملتزمين بمنهج القرآن والسنة، يقول " ابن الوزير اليمني " (775 - 840 هـ) :
(وأيضا فقد ثبت أن الرحمن مختص بالله تعالى وحده، ويحرم إطلاقه على غيره، ولو كانت الرحمة له مجازا، ولغيره حقيقة، كان العكس أوجب وأولى. وما المانع للمسلم من إثباتها صفة حمد ومدح وثناء، كما علمنا ربنا مع نفي صفات النقص المتعلقة برحمة المخلوقين عنه تعالى، كما أثبتنا له اسم " الحي، العليم، الخبير، المريد " مع نفي نقائص المخلوقين في حياتهم المستمرة؛ لجواز التألم بأنواع الآلام وكذلك ينزه سبحانه عما في عملهم الناقص بدخول الكسب والنظر في مباديه، والاستدلال والاضطرار في منتهاه الذي يستلزم الجسمية، والبنية المخصوصة، والحدوث، ويعرض له التغير والنسيان، والخطأ، والشغل ببعض المعلومات عن بعض) .
والأمر كذلك فيما يتعلق بإرادته، بل في (كل صفة يوصف بها الرب سبحانه، ويوصف بها العبد، وأن الرب يوصف بها على أتم الوصف مجردة عن جميع النقائص، والعبد يوصف بها محفوظة بالنقص. وبهذا فسر أهل السنة نفي التشبيه ولم يفسروه بنفي الصفات كما صنعت الباطنية الملاحدة) .(24/164)
ومن هذا النص السابق ندرك بوضوح أن فكرة المشابهة بين صفات الله، وصفات المخلوقين فكرة مستبعدة تماما لدى أي إنسان مميز عاقل، فضلا عن أن يكون من المفكرين، أو الباحثين، ولذلك فإن " ابن الوزير اليمني " هنا يشير إلى أن النصوص قد تضافرت على وصف الله سبحانه بعديد من الصفات، وعلى تسميته بعديد من الأسماء. ومثال ذلك، أنه سبحانه قد وصف نفسه " بالرحمة " وتسمى " بالرحمن الرحيم " في عديد من الآيات القرآنية، وفي العديد من الأحاديث النبوية الصحيحة. أو كما يقول " ابن الوزير ":
" وعظم الله هذا الاسم الشريف، وبالغ في تعظيمه، حيث قال: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (1) .
وقال حاكيا عن خيار عباده:
{قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} (2) .
وجاءت الصوادع القرآنية مادحة الله تعالى بأعظم صيغ المبالغات في هذه الصفة الشريفة، الحميدة، بأن الله عز وجل، " أرحم الراحمين " و" خير الراحمين " وكرر هذه المبالغة في مواضع من كتابه الكريم ".
ثم يقول: " وكرر الله التمدح بالرحمة مرارا جمة أكثر من خمسمائة مرة من كتابه الكريم، منها باسمه " الرحمن " أكثر من مائة وستين مرة. وباسمه" الرحيم" أكثر من مائتي مرة. وجمعها للتأكيد مائة وست عشرة مرة، وأكد " الرحيم " فجمعه مرارا مع " التواب "، ومرارا مع " الرؤوف ". والرأفة أشد الرحمة، ومرارا مع " الغفور " وهي أكثر وأخبر أنه كتب على نفسه الرحمة مرتين. وأنه " لا عاصم من أمره إلا من رحم " وأن من لم يرحمه يكن من الخاسرين ". إلى غير ذلك من صيغ المبالغات القاضية بأن
__________
(1) سورة الإسراء الآية 110
(2) سورة الملك الآية 29(24/165)
ذلك من أحب الثناء والممادح، والمحامد إليه عز وجل " فالله جل جلاله، يتصف " بالرحمة " ويختص باسم " الرحمن "، ويسمى " بالرحيم ". وكذلك فإننا نصف بعض بني البشر بصفة " الرحمة " كما نقول عن إنسان ما بأنه " رحيم " فهل هذا يعني أن ثمة تشابها بين الخالق والمخلوق؛ لأننا وصفنا الإنسان " بالرحمة " وقلنا عنه - أحيانا - إنه " رحيم "؟!
إن من الأمور البدهية أن تكون " الرحمة الإلهية " مخالفة تمام المخالفة للرحمة البشرية من كل الوجوه، ونؤكد على قولنا من كل الوجوه، فرحمة الله لا تحد، ولا تكيف، ولا يدرك حدودها إلخ على العكس من رحمة بني البشر.
وما قلناه في الرحمة، يقال كذلك في كل الصفات والأسماء التي وصف الله بها - سبحانه - نفسه، أو التي تسمى بها. وقد أقر بهذه الحقيقة كذلك بعض الفلاسفة، كما أشار إلى ذلك ابن رشد " - رغم ما في آرائه الأخرى من مآخذ - وذلك أنه في معرض إثبات الصفات، التي أثبتها لله سبحانه، يشير إلى قاعدة عامة في هذا الصدد، وهي أن صفات الله ينبغي أن تكون مغايرة لما يوصف به الحوادث. ففي صفة " العلم " - مثلا - وهي من أولى الصفات التي عرض لها، يرى أنه (ينبغي أن ينسب إليه - سبحانه - علم أسمى من علم الإنسان، ومن نوع آخر مخالف له كل المخالفة. فعلم الإنسان ليس إلا علما نسبيا؛ لأنه يكتسب على مراحل. فيبدأ بالإحساسات، ثم ينتقل إلى الإدراكات الحسية، ومنها إلى التصور والخيال، ومن الصور الخيالية الجزئية تنتزع أو تجرد المعاني الكلية.
وقد تستخدم هذه المعاني الكلية بدورها في استنباط بعض المعاني الجزئية، غير أنها تؤدي مع ذلك إلى نتائج ناقصة أو خاطئة) " فابن رشد "(24/166)
(520 - 595هـ) يعترف بقصور العلم الإنساني، وبأنه نسبي، وبأن نتائجه يلحقها النقص والخطأ. ويعلل أستاذنا المرحوم الدكتور " محمود قاسم " هذه الفكرة أو يوضحها فيقول: " وليست هذه القضية الأخيرة في حاجة إلى برهان؛ لأننا نرى أن العلم يتقدم مع الزمن، وأن بعض الآراء التي كان يظن أنها صادقة، قد بدت خاطئة، مناقضة لما يقضي به العقل الذي شب عن الطوق ".
2 - إسحاق بن إبراهيم: ومن الأمثلة التي تؤيد ما فهمناه من موقف السلف الواضح في إثباتهم لجميع ما ورد من نصوص صحيحة، فيها نسبة صفة إلى الله، أو نسبة اسم إليه سبحانه، ما ذكره " حرب بن إسماعيل " حيث قال: " سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول: ليس في النزول وصف. قال: وقال إسحاق: لا يجوز الخوض في أمر الله كما يجوز الخوض في أمر المخلوقين؛ لقوله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (1) .
ولا يجوز أن يتوهم على الله بصفاته وفعاله، بفهم ما يجوز التفكر والنظر فيه من أمر المخلوقين، وذلك أنه يمكن أن يكون الله موصوفا بالنزول كل ليلة - إذا مضى ثلثها إلى السماء الدنيا كما شاء، ولا يسأل كيف نزوله؟ لأن الخالق يصنع ما شاء كيف شاء " ومعنى هذا: أن دلالة أو مفهوم كلمة " النزول " التي جاءت في الحديث الصحيح لا يمكن، ولا يجوز أن ننظر إليها من خلال حركات، أو مدلول هذه الكلمة في العالم الإنساني، أو من خلال التجارب البشرية.
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 23(24/167)
فالله سبحانه - إذا - ينزل إلى سماء الدنيا، كل ليلة، إذا مضى ثلثها، هذه حقيقة، ولكن هل ثمة حدود لسماء الدنيا؟ وهل يستطيع علماء الفلك - بما أوتوا من علم، وبما توفر لديهم من أجهزة متقدمة وفائقة الحساسية، هل يستطيعون أن يكشفوا لنا عن حدود كل سماء من السماوات السبع التي ذكرها القرآن الكريم، خبرا علميا كونيا صادرا عن الله الخالق؟ وهل يمكن تحديد أو تكييف النزول الإلهي؟ وهل قوانين هذا النزول الإلهي هي بعينها قوانين ومعايير الحركة، أو الكيفية التي تحدث من قبل البشر أو غيرهم من الحوادث؟ وإذا عجزنا عن التكييف، وإذا عجزنا عجزا تاما - كذلك - حتى عن مطلق التخييل، أو التصور للهيئة أو للكيفية التي يكون عليها النزول الإلهي، فهل يكون هذا العجز الطبيعي، ذريعة إلى إنكار ما ثبت في الإخبار العلمي عن الخالق؟ وهل يكون في إثبات هذه الصفة، أو هذا الفعل " الإلهي شيء من التمثيل أو من التشبيه لله تعالى عن ذلك؟! إنني أعتقد أن ما قاله: " إسحاق بن إبراهيم " في النص السابق كان ذا دلالة بالغة، تكشف عن دوافع أو لنقل ركائز، أو أسس موقف أهل السنة من قضية الصفات، وكيف أنهم أثبتوا ما وردت به النصوص، كما ذكرنا؛ ذلك أنهم كانوا يعلمون علم اليقين - كما قال إسحاق -: أنه (لا يجوز الخوض في أمر الله، كما يجوز الخوض في أمر المخلوقين، ولا يجوز أن يتوهم على الله بصفاته وفعاله، بفهم ما يجوز التفكر والنظر فيه من أمر المخلوقين ".
وهذا الموقف يتطلب منا أن نتلقى بالقبول، والرضا، واليقين، والمهابة، والإجلال، كل الأخبار العلمية، بما يتصف به سبحانه من صفات، وما يتسمى به - جل جلاله - من أسماء، طالما أنها جاءت عن طريق المصدرين الموثقين، وهما الكتاب والسنة. فليصف الله سبحانه نفسه بما شاء، وليسم نفسه - سبحانه - بما شاء، وعلينا أن نؤمن بهذا كله إيمانا صادقا، بل علينا أن نعلمه علم اليقين، في حدود قدراتنا،(24/168)
وإمكانياتنا، ولكن دون أن نقوم بما يمكن أن نسميه عملية " النقل " أو " الإسقاط " من قبلنا، بمعنى أننا نجعل من " الله " سبحانه وتعالى عن ذلك، كائنا ماديا أو بشريا، فنفهم صفاته، وأسماءه في ضوء المفاهيم أو الدلالات للأسماء أو الصفات البشرية، وبالتالي فإننا ننفي ما ننفيه منها تحت ستار التنزيه.
فإذا كان الله سبحانه، منزها أساسا، عن مشابهة المخلوقين، وإذا كان قد وصف نفسه ببعض الصفات، أو سمى نفسه ببعض الأسماء التي تتشابه من حيث " اللفظ اللغوي " مع ما يحدث من الحوادث، فهل نسارع إلى نفي هذه الصفات أو الأسماء، حتى لا نقع في التشبيه، أو حتى لا نخالف مفهوم التوحيد؟!
إننا نفهم أن التنزيه قائم فعلا - حتى مع إثبات هذه الصفات، وتلك الأسماء، التي يظن فيها التشابه، ذلك أن ما ينسب إلى الله مغاير في كيفيته، ومخالف لما ينسب إلى البشر؛ لأنه أخبرنا بذلك. وكما أشرنا إليه من قبل. ومن أجل هذا كان " إسحاق بن راهويه " على درجة من الحذق والفهم في نقاشه لبعض قواد الأمير عبد الله بن طاهر " (ت: 230 هـ) حول هذه القضية. حيث (سئل عن حديث النزول. صحيح هو؟ قال: نعم. فقال له بعض قواد عبد الله: أتزعم أن الله ينزل كل ليلة؟ قال: نعم. قال كيف ينزل؟ قال له إسحاق: أثبته حتى أصف لك النزول. فقال له الرجل: أثبته. قال له إسحاق: قال الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (1) " فقال الأمير عبد الله بن طاهر " يا أبا يعقوب! هذا يوم القيامة. فقال إسحاق: أعز الله الأمير، ومن يجيء يوم القيامة، من يمنعه اليوم؟ ".
__________
(1) سورة الفجر الآية 22(24/169)
الخلاف حول صفات الحركة:
وما يقال عن النزول يقال عن بقية الصفات التي تدل على " الحركة "، وعلى غيرها، شريطة أن يكون معلوما وواضحا وثابتا أن فهم هذه الصفات الإلهية ينبغي أن يكون بعيدا عن التكييف المتعلق بالعالم الكوني، وبعيدا عن أية صورة من صور التمثيل بعالم الحوادث، فهي صفات ذات كيفية خاصة، لا ندري عن كنهها شيئا، ولا نعلم عن طبيعتها - كذلك - أي شيء، وكذلك فإنه ليس في مقدورنا، ولا في مقدور أي كائن، جنا كان أو إنسا، أن يحيط - بأية صفة أو اسم منها - علما، أو يعلم شيئا عن حقيقتها، اللهم إلا من أراد الله أن يطلعه على بعض خفايا علمه المكنون، أو أسراره العظمى، فذلك سر الله في خلقه، ولله في خلقه شؤون.
يقول ابن تيمية بصدد هذه القضية، بعد أن عرض في إيجاز ما دار بين بعضهم من خلاف حول " صفات الحركة "، فمنهم من يثبتها دون تأويل، ومنهم من يؤولها في هذا الجانب المتعلق بالحركة خاصة - يقول ابن تيمية: " وبكل حال، فالمشهور عند أصحاب الإمام أحمد، أنهم لا يتأولون الصفات التي من جنس الحركة، كالمجيء، والإتيان، والنزول، والهبوط، والدنو، والتدلي، كما لا يتأولون غيرها متابعة للسلف الصالح، وكلام السلف في هذا الباب يدل على إثبات المعنى المتنازع فيه " (1) ولذلك فقد قال " الأوزاعي ت: 157 هـ " عندما سئل عن حديث النزول: (يفعل الله ما يشاء) وقال " حماد بن زيد، ت: 179 هـ ": يدنو من
__________
(1) الاستقامة، ج \ 1 ص 76.(24/170)
خلقه كيف شاء) وقال " الفضيل بن عياض، ت: 187 هـ ": (إذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه، فقل: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء) .(24/171)
صفات الحركة في الآخرة:
وبناء على ما أوضحناه من مذهب السلف، وبناء على ما فهمناه من الأسس والقواعد التي بنوا عليها موقفهم في هذه القضية الكبرى - أقول بناء على ذلك، فإنني أرى أنه ليس ثمة داع إلى وقوع خلاف حول " صفات الحركة " التي جاءت بها النصوص الموثقة صفة الله تعالى، طالما أن هذه الصفات خاصة به سبحانه، لا يشركه في تكييفها غيره، ونحن - أيضا - لا ندري ولا نعلم عن كنهها شيئا. فإذا قال الله سبحانه:
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} (1) .
فإن هذا الإتيان نفهمه دون تكييف، ودون تمثيل، تماما كما نفهم قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (2) {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} (3) .
ذلك لأن كل شيء في الكون يومئذ سوف يتغير، وكل المعايير المادية التي نحتكم إليها سوف تتغير كذلك، ومن ثم فإن أوضاع الآخرة وحوادثها، وما يجري فيها سوف يكون مختلفا تمام الاختلاف عما نشهده في عالم اليوم من أحداث، وما يجري فيه من ألوان الحركات، والعلاقات، كل العلاقات التي تنتظم كل الأشياء.
ودليل ذلك ما أخبرنا به الله في القرآن العظيم، بما سوف يحدث في الآخرة لكل الظواهر والأشياء المادية، وغير المادية لا بد أن تكون تبعا لها.
__________
(1) سورة البقرة الآية 210
(2) سورة الفجر الآية 22
(3) سورة الفجر الآية 23(24/171)
ومعنى هذا: أن جميع أخبار الله المتعلقة بما سوف يحدث يوم القيامة لا بد أن تفهم فهما مغايرا - في حقيقته - لما هو واقع بيننا الآن، حتى بالنسبة للأحداث المتعلقة بالبشر، وبالظواهر الكونية، وبالعلاقات الإنسانية، أي ما يتعلق بكل أحداث يوم القيامة، وما يسبقه من وقائع، وظواهر ممهدة.
ودليل ذلك، أن الرب تعالى يخبرنا عن النبأ العظيم إخبارات علمية موثقة وأكيدة وصادقة بما سوف يحدث للأرض وللسماء، وللكون كله. قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (1) .
أما الأرض، فإن الله تعالى يدلنا في القرآن، ويخبرنا بأن ما فيها من جبال سوف تتغير طبيعتها الصامدة الجامدة الراسية الشامخة {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} (2) {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} (3) .
وتصير كالعهن المنفوش ثم إن الأرض سوف ترجف هي والجبال. وتسير سيرا.
{يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} (4) .
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 48
(2) سورة النازعات الآية 32
(3) سورة النبأ الآية 20
(4) سورة المزمل الآية 14(24/172)
ويقول سبحانه:
{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} (1) .
بل إن هذه الجبال التي نضرب بها المثل في الثبات والرسوخ والقوة الصماء، سوف تحمل حملا، وتدك دكا:
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} (2) {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} (3) {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} (4) وهكذا نجد أن الرب تعالى يطلعنا في القرآن العظيم على بعض الظواهر المادية التي سوف تحدث في يوم القيامة، للأرض وما عليها من جبال، وأنهار، وأودية، وخلجان، وبحار.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} (5) {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا} (6) {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} (7) .
وهكذا فالأرض سوف تبدل غير الأرض، ومفهوم هذا التبدل يعني بكل وضوح وتأكيد، أن كل ما يجري فيها من شتى الوقائع والأحداث والعلاقات لن يكون له وجود آنئذ، والتغير سوف يلحق بكل شيء، ويحدث في كل شيء.
وما يحدث للأرض، فسيكون حادثا للسماء أيضا وما فيها، فالسماء سوف تنفطر، والكواكب ستندثر، والسماء سوف تمور أي تضطرب
__________
(1) سورة الكهف الآية 47
(2) سورة الحاقة الآية 13
(3) سورة الحاقة الآية 14
(4) سورة الحاقة الآية 15
(5) سورة طه الآية 105
(6) سورة طه الآية 106
(7) سورة طه الآية 107(24/173)
وتدور، ويحل بها ما شاء الله، وأخبر عنه في محكم علمه، حيث قال:
{وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} (1) {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (2) .
وحيث أخبرنا قائلا:
{وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} (3) {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} (4) {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} (5) {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} (6) {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (7) {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} (8) {يَغْشَى النَّاسَ} (9) .
ومعنى هذا أيضا: أن القوانين والأحكام التي نعتمد عليها في تسيير دفة حياتنا، وفي تنظيم وترتيب أمور معاشنا، والتي نعتمد عليها في إصدار أحكامنا، وفي الكشف عن مزيد من أسرار الكون، ودقائق نظمه، والتي نتخذها أساسا للحديث عن القوانين والنظريات العلمية، ونعدها سندا للبحوث والتجارب في ميادين العلوم المختلفة - كل هذا سوف يزول، وسوف ينفرط عقد نظامه، وتتلاشى مظاهر الوحدة والنظام فيه بمشيئة الله وفعله.
ظواهر جديدة ستحدث يوم القيامة:
وبناء على هذا التغير والتبدل الذي يلف كل أرجاء هذا الكون - كما ذكرنا - فإن ظواهر جديدة تماما سوف تحدث، لم تكن متيسرة في عالم الحياة الدنيا.
ومن هذه الظواهر الجديدة:
__________
(1) سورة الحاقة الآية 16
(2) سورة الحاقة الآية 17
(3) سورة المرسلات الآية 9
(4) سورة النبأ الآية 19
(5) سورة التكوير الآية 11
(6) سورة الفرقان الآية 25
(7) سورة الأنبياء الآية 104
(8) سورة الدخان الآية 10
(9) سورة الدخان الآية 11(24/174)
{وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} (1) .
{يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} (2) .
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} (3) .
وهنا قد يقول بعضهم إن أمثال هذه المشاهد والأحداث يقع نظيره في عالم اليوم، بيد أن هذا الاعتراض، يمكن الرد عليه، بأن مشاهد القيامة وأحداثها مختلفة كما قلنا كيفا وحقيقة، ومظهرا عما هو قائم بيننا اليوم في الحياة الدنيا، ويضاف إلى هذا: أن الحديث هنا عن مشاهد يوم القيامة يمثل الظواهر والأحداث العامة التي لا استثناء فيها إلا بإرادة الله الخالق، الحاكم سبحانه. بينما نجد في عالم اليوم مظاهر لا تحصى من انفراط عقد أحكام العدل والنظام، ودليل هذا، أن آلافا مؤلفة من المجرمين في شتى بقاع العالم يسرحون ويمرحون، بل قد يلقون من آيات التقدير والعرفان، وظواهر الإكبار والثناء، ما لا يجده المخلصون الحقيقيون. أما في يوم القيامة فالأمر مختلف، والعادل الرحيم سوف ينصب الميزان القسط ولن يقع فيها جور ولا حيف بأي حال من الأحوال؛ لأن ربنا العظيم الرحيم، قد أعلمنا، وأخبرنا بأنه:
{لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (4) .
وأخبرنا قائلا:
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} (5) .
وقائلا:
{فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (6) .
والآيات في هذا كثيرة ووفيرة.
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 49
(2) سورة طه الآية 109
(3) سورة المؤمنون الآية 101
(4) سورة غافر الآية 17
(5) سورة الأنبياء الآية 47
(6) سورة يس الآية 54(24/175)
ومن مظاهر هذا التغيير، أيضا: أن ما كان مخفيا عنا في الحياة الدنيا سوف يتكشف في الآخرة، فالملائكة سوف يراهم الناس، كل الناس سواء في الجنة أم في النار، وآيات القرآن في هذا صريحة كل الصراحة:
{يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} (1) [الفرقان: 22] .
وفي غير هذا من آيات القرآن الكريم. ونخلص مما سبق من عرض، أن محاولة " تأويل " الآيات التي يخبرنا فيها الله سبحانه، أنه سوف يجيء ومعه الملائكة، أو غيرها من الآيات التي تنسب إليه سبحانه أفعالا تدل على الحركة يوم القيامة، أقول: إن محاولة تأويل هذه الآيات بدافع " التنزيه " ليس له ما يبرره؛ لأن التنزيه قائم وموجود، مع إثبات المعاني الخاصة بكل هذه الأفعال والصفات وهي معان خاصة به سبحانه، لا يشاركه في حقيقتها أو في كيفيتها أحد غيره سبحانه، فالله سبحانه - منزه - في كل الأحوال والصفات والأفعال عن مشابهة خلقه.
__________
(1) سورة الفرقان الآية 22(24/176)
وفضلا عن هذا فإن حكمنا بالتأويل على حوادث الآخرة يعد حكما لا مبرر له أيضا، اللهم إلا إذا كنا على علم تام بحقيقة، وكيفية، وتفاصيل، ودقائق ما سوف يحدث في الآخرة، ومن ثم فقد تكون هناك شبهة في ضرورة صرف ألفاظ، أو صفات " المجيء " أو " الإتيان " التي يوصف بها الله سبحانه.
وسبب ذلك، أنه بات واضحا لدينا أن أحكام الآخرة، وحوادثها وتفاصيلها، وكيفياتها، وعلاقاتها، سوف تكون مغايرة، ومخالفة تماما لما هو قائم بيننا الآن، فعلى أي أساس يكون - إذا - حكمنا على الصفات الإلهية؟ !
- فهل يكون على أساس المعايير الدنيوية، والمفاهيم والكيفيات التي تحدث فيها؟ ولكن الأمر - كما اتضح لنا اتضاحا كاملا - مخالف لذلك؛ لأن الله سبحانه خارج الحدود والإمكانات البشرية، الزمانية والمكانية، فكيف إذن يحق لنا تفسير كيفياتها، أو يجوز لنا أن نخوض فيها، وهل إذا خضنا فيها يمكننا أن نصل إلى الحقيقة؟ !
- أو يكون حكمنا على أساس معايير الحياة الآخرة وموازينها، وفهم أو معرفة كيفياتها، وحقائق ما يجري فيها، ونحن لا نستطيع أن نتخيل أو نتصور أي شيء يتعلق بأي حادث من الحوادث التي(24/177)
ستقع فيها؛ لأن ما نحن فيه الآن، وما نسميه بأسمائه من أرض وسماء، وما بينهما، وما فيهما سوف تتغير طبيعته، وتتلاشى قوانينه وأنماط تكوينه. وبعبارة أخرى، فهل ما نحتكم إليه اليوم من قوانين الطاقة والحركة والثبات، وما يرتبط بها من مجالات التطبيق في حياتنا، وتسيير أمور معاشنا، وتدبير شؤون حاجاتنا، من القيم والمبادئ، والمعايير وغيرها، هل هذا سيظل ثابتا على ما كان عليه دون تبدل، ومن ثم فإنه يكون ممكنا أن نحكم على أحداث الآخرة بما يحدث في حياتنا الدنيوية رفضا أو قبولا، أو تفسيرا وتأويلا.
لا مفر إذن من التسليم بكل ما أخبر به الله سبحانه عن نفسه، وبما أخبر به الرسل إخبارا صحيحا موثقا عن الله سبحانه، ولا بد من التصديق به، والإيمان به، دون أن نركب شططا في التفسير أو في التأويل الذي لا يقدر أعظم العباقرة في الدنيا على مثله، كما سبق أن أشرنا إليه، وضربنا له من أمثلة.
ولقد كان الشيخ " محمد عبده " مصيبا كبد الحقيقة حين قال في معرض الحديث عن صفات الله، وأسمائه:
(فالذي يوجبه الإيمان، هو أن نعلم أنه موجود لا يشبه الكائنات، أزلي أبدي، حي، عالم، مريد، قادر، متفرد في وجوب وجوده، وفي كمال صفاته، وفي صنع خلقه، وأنه متكلم، سميع، بصير، وما يتبع ذلك من الصفات التي جاء الشرع بإطلاق أسمائها عليه، أما كون الصفات زائدة على الذات، وكون الكلام صفة غير ما اشتمل عليه العلم من معاني الكتب السماوية، وكون السمع والبصر غير العلم بالمسموعات والمبصرات، ونحو ذلك من الشؤون التي اختلف عليها النظار، وتفرقت فيها المذاهب، فمما لا يجوز الخوض فيه؛ إذ لا يمكن لعقول البشر أن تصل إليه. والاستدلال على شيء منه بالألفاظ الواردة، ضعف في العقل، وتغرير بالشرع؛ لأن استعمال اللغة لا ينحصر(24/178)
في الحقيقة. ولئن انحصر فيها فوضع اللغة لا تراعي الموجودات بكنهها الحقيقي. وإنما تلك مذاهب فلسفة إن لم يضل فيها أمثلهم، فلم يهتد فيها فريق إلى مقنع. فما علينا إلا الوقوف عندما تبلغه عقولنا) (1) .
ثم يقول: (ولهذا لم يأت الكتاب العزيز، وما سبقه من الكتب إلا بتوجيه النظر إلى المصنوع، لينفذ منه إلى معرفة وجود الصانع، وصفاته الكمالية، أما كيفية الاتصاف فليس من شأننا أن نبحث فيها) (2) .
وهكذا يتبين لنا أن الخلاف حول " صفات الحركة " وحول غيرها من الصفات، والأسماء الإلهية، خلاف قائم على غير أساس علمي أو عقلي، فليس ثمة شواهد علمية تحتم علينا أن نسلك تجاه الأسماء أو الصفات الإلهية أو مسلك أولئك الذين لم يجروها على ظاهرها بدون تكييف أو تشبيه، ودون نفي أو تعطيل، وإنما اتجهوا تارة إلى النفي، وتارة إلى التأويل بحجة التنزيه.
- أقول ليس ثمة شواهد أو ضرورة تحوج إلى اتباع مثل هذا المنهج؛ لأن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أسمائه.
وفضلا عن هذا: فإن المنهج العقلي المعتدل، البعيد عن الأهواء والمتخلص من الشبهات، يحتم بضرورة الإيمان بهذه الصفات، أو الأسماء دون لجوء إلى التكييف، أو التشبيه، أو التأويل. وقد مر بنا فيما تقدم أن علماء المسلمين المتبحرين في العلم، قاطبة قد وقفوا هذا الموقف، وتابعوا الصحابة والتابعين في الاتجاه إليه.
يقول ابن تيمية: (مذهب أهل الحديث، وهم السلف من القرون الثلاثة، ومن سلك سبيلهم، من الخلف أن هذه الأحاديث تمر كما جاءت، ويؤمن بها، وتصدق، وتصان عن تأويل يفضي إلى تعطيل، وتكييف يفضي إلى تمثيل. وقد أطلق غير واحد ممن حكى إجماع السلف، منهم " الخطابي ": مذهب السلف أنها تجرى على ظاهرها مع نفي الكيفية، والتشبيه عنها،
__________
(1) الإمام محمد عبده، رسالة التوحيد، ص \ 56 - 57.
(2) الإمام محمد عبده، رسالة التوحيد، ص \ 56 - 57.(24/179)
وذلك أن الكلام في " الصفات " فرع عن الكلام في " الذات "، يحتذى حذوه، ويتبع فيه مثاله، فإذا كان إثبات وجود، لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات، إثبات وجود لا إثبات كيفية، فنقول: إن له يدا، وسمعا، ولا نقول: إن معنى اليد: " القدرة "، ومعنى السمع: " العلم ".
وما يقال عن اليد والسمع، يقال كذلك عن: النفس، والوجه، والعلم، والكلام، والخلق، وغير ذلك مما وردت به النصوص الصحيحة ومن ذلك على سبيل المثال: في النفس:
- قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (1)
- قال تعالى: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} (2) {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} (3)
ومن الأحاديث الصحيحة التي وردت في كتب السنة:
- جاء في صحيح البخاري: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله: أنا مع عبدي حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم (4) » .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 54
(2) سورة طه الآية 40
(3) سورة طه الآية 41
(4) أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة: (223 - 311 هـ) ، كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل. مصر، دار الكتب السلفية، ط \ 2 سنة 1403 هـ، ص 4 - 5، والحديث رواه مسلم، والترمذي، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس. انظر تخريج الحديث في تعليق (1) ص \ 5 من المصدر نفسه.(24/180)
- وفي صحيح مسلم، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للسيدة جويرية رضي الله عنها: «قد قلت بعدك أربع كلمات، ولو وزنت بهن لوزنتهن، سبحان الله العظيم وبحمده، عدد خلقه، ومداد كلماته، ورضا نفسه، وزنة عرشه (1) » .
وقد علق ابن خزيمة على هذه النصوص وأمثالها، فأشار إلى أن هذا الإثبات الإلهي الذي جاء في القرآن، والبيان النبوي الذي جاء على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، يقطع في يقين بإثبات هذه الصفات لله تعالى، كما ذكر أن محاولة تأويلها لا تتفق، لا مع السياق، ولا مع العقل، كما بين أن هؤلاء الذين يتأولون " النفس " كما جاءت هنا، بأن إضافة النفس إليه سبحانه، مثل إضافة الخلق إليه، وذلك لأن " النفس " غير الله، كما أن خلقه غيره، بين أن هذا المنهج بعيد عن العقل؛ لأن الله (قد أعلم في محكم تنزيله، أنه كتب على نفسه الرحمة، أفيتوهم مسلم - كما يقول ابن خزيمة - أن الله كتب على غيره الرحمة؟ ! وحذر العباد نفسه؟ ! أفيحل لمسلم أن يقول: إن الله حذر العباد غيره، أو يتأول قوله لكليمه " موسى ":
{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} (2) طه: 41. فيقول: معناه: واصطنعتك لغيري من المخلوق؟ ! أو يقول: أراد روح الله - وهو عيسي ابن مريم - بقوله: {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} (3)
أراد ولا أعلم ما في غيرك؟ ! هذا ما لا يتوهمه مسلم) ومعنى هذا: أن " ابن خزيمة " ومعه علماء المسلمين قاطبة قد أجمعوا على أن الإيمان بالصفات الإلهية كما جاءت في النصوص الشرعية الموثقة، هو
__________
(1) أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة: (223 - 311 هـ) ، كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل. مصر، دار الكتب السلفية، ط \ 2 سنة 1403 هـ، ص \ 5، وانظر ص \ 6 أيضا حيث يذكر ابن خزيمة عددا من الأحاديث التي يذكر فيها النفس صفة لله سبحانه.
(2) سورة طه الآية 41
(3) سورة المائدة الآية 116(24/181)
اتجاه، يتطابق مع الغاية من إخبارنا بهذه النصوص. ويتطابق مع ما تقضي به الأحكام العقلية الصحيحة، البعيدة عن الأهواء وعن مسارب الشبهات.
وفي إقرار هذه الحقيقة، يقول " ابن خزيمة " أيضا، في معرض الحديث عن الآيات التي تثبت الوجه لله سبحانه، مثل قوله:
{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (1)
- يقول:
(فأثبت الله لنفسه وجها، وصفه بالجلال والإكرام، وحكم لوجهه بالبقاء، ونفى الهلاك عنه، فنحن وجميع علمائنا، من أهل الحجاز، وتهامة، واليمن، والعراق، والشام، ومصر مذهبنا: أنا نثبت لله ما أثبته الله لنفسه، نقر بذلك بألسنتنا، ونصدق بذلك بقلوبنا، من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين، وعز عن أن يكون عدما كما قاله المبطلون) .
ومعنى ذكره " ابن خزيمة " أن علماء الأمصار الإسلامية، كانوا مجمعين على هذه القضية، وأن الخلاف الذي دار حولها بين بعض الدوائر في البيئة الإسلامية، ما بين مؤول، وناف لها، إنما حدث بسبب آت من خارج الفكر الإسلامي، وبسبب التأثر بتيارات فكرية وفدت من ثقافات بعيدة عن الإسلام، ومن ثم فإن هذه الثقافات لا يمكن أن تعد - لا من قريب، ولا من بعيد - ممثلة للفكر الإسلامي، أو معبرة عن الثقافة الإسلامية.
بين السلف والخلف:
وبعد؛ فقد بات واضحا أن تلك المقولة التي رددت من قبل بل لا تزال تردد بين كثيرين في مجال الفكر الإسلامي وفي غيره، وهي أن " موقف
__________
(1) سورة البقرة الآية 115(24/182)
السلف أسلم، وموقف الخلف أعلم " مقولة لم يرد بها إلا التشهير بالسلف، وإلا فإن موقفهم كما تبين لنا كان قائما على أساس علمي رصين، وعلى وعي تام، وتفهم كامل لأبعاد القضية، ولما يتفرع عنها، أو يترتب عليها، بحيث يتضح للدارس المتأني، الباحث عن الحقيقة، أن السلف قد توفرت لديهم منهجية علمية مدروسة، وذلك إبان عرضهم لهذه القضية، أو تحليلهم لها.
وقد كان من أبرز الذين تصدروا لتلك المقولة، وحللوا أبعادها، وكشفوا عن مراميها شيخ الإسلام " ابن تيمية " (ت: 728 هـ) . ونحن هنا لن نخوض في تفاصيل موقفه، وإنما نكتفي بالإشارة الموجزة إلى نقطتين فقط في هذا الموقف:
الأولى: المنهج الذي طرحه في تناول هذه القضية، ثم تطبيقه.
الثانية: الأسس أو القواعد التي بنى عليها رفضه لفكرة أن موقف الخلف أعلم، وأن موقف السلف أسلم.(24/183)
منهج وتطبيقه:
والمنهج الذي نشير إليه، مبثوث بكثرة في كتب " ابن تيمية "، ولكننا سوف نستعيض عن هذه الكثرة، بما ذكره في رسالته الرائعة المسماة ب- " الرسالة المدنية في تحقيق المجاز والحقيقة في صفات الله تعالى ". وهذه الرسالة على وجازتها تحمل بين طياتها فيضا غزيرا من علم شيخ الإسلام. ومن ثم فإننا سنعول عليها، على أنها نموذج منهجي يمثل جانبا من جوانب تناول أهل السنة لهذه القضية، من الناحية النظرية والتطبيقية.(24/183)
المنهج: (1) وفي بيان هذا المنهج يذكر ابن تيمية، أن الله سبحانه، إذا وصف نفسه بصفة، أو وصفه بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن صرف تلك الصفة " عن ظاهرها اللائق بجلاله سبحانه وتعالى، وحقيقتها المفهومة منها إلى باطن يخالف الظاهر، ومجاز يخالف الحقيقة، لا بد فيها من أربعة أشياء " (2) :
الأول: أن يكون ذلك اللفظ مستعملا بمعناه المجازي في اللغة العربية، وهي لغة القرآن التي نزل بها. ولغة السنة، ولغة السلف.
الثاني: أ - أن يكون هناك دليل يوجب صرف اللفظ إلى المعنى المجازي، إذا كان اللفظ يستعمل في الحقيقة تارة، وفي المجاز تارة أخرى. والدليل في هذه الحالة القطعية، لا بد أن يكون قطعي الدلالة على الصرف، إما بطريقة عقلية، أو بنص سمعي. أو كما عبر عن هذا شيخ الإسلام بقوله: [ثم إن ادعي وجوب صرفه عن الحقيقة فلا بد من دليل قاطع عقلي أو سمعي يوجب الصرف] (3) .
ب - أما إذا كان اللفظ واضح التأويل، عند المؤول (وليس قطعيا) ، بمعنى: أن جانب التأويل فيه أرجح [فلا بد من دليل مرجح للحمل على المجاز] (4) .
الثالث: أن هذا الدليل، لا بد أن يكون خاليا من أي دليل آخر يعارضه، [فإذا قام دليل قرآني أو إيماني يبين أن الحقيقة مرادة امتنع تركها] . ومن ناحية أخرى، فإن " كان هذا الدليل نصا لم يلتفت إلى نقيضه، وإن كان ظاهرا - أي راجحا - فلا بد من الترجيح " (5) .
__________
(1) سوف نحاول عرض، وشرح، وتلخيص رأي شيخ الإسلام.
(2) الرسالة المدنية، ص \ 6.
(3) الرسالة المدنية، ص \ 7.
(4) الرسالة المدنية، ص \ 7.
(5) الرسالة المدنية، ص \ 7.(24/184)
الرابع: أن الرسول صلى الله عليه وسلم، إذا تكلم بكلام أراد به غير ظاهره، أو غير حقيقته، " فلا بد أن يبين للأمة " ذلك، ويوضحه [سواء عينه، أو لم يعينه] وتبدو هذه الإبانة ضرورية وحتمية، إذا كان الأمر يتعلق بقضايا العقيدة، وبمسائل الدين، وبحقائق العلم الإلهي أو كما قال: [لا سيما في الخطاب العلمي الذي أريد فيه فهم الاعتقاد والعلم، دون عمل الجوارح] (1) .
وسبب هذه الحتمية، ما يلي:
أ - أن الله سبحانه " قد جعل القرآن نورا، وهدى، وبيانا للناس، وشفاء لما في الصدور " من الوساوس، والشكوك، وحبائل الهوى.
ب - وأرسل سبحانه [الرسل لتبين للناس ما نزل إليهم، ولتحكم بينهم فيما اختلفوا فيه] (2) حتى تنقطع بهم الحجة، وتتضح أمامهم السبل.
ج - والنبي صلى الله عليه وسلم [بعث بأفصح اللغات وأبين الألسنة والعبارات] (3) .
د - والأمة التي تلقت عنه، والتزموا نهجه [كانوا أعمق الناس علما، وأنصحهم للأمة، وأبينهم للسنة] (4) .
وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يلزم أن يوضح النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، ومن تبعهم كل ما يتعلق بقضايا الدين، وبمسائل العقيدة وضوحا لا خفاء فيه، ولا لبس معه. ومن ثم [فلا يجوز أن يتكلم هو - النبي صلى الله عليه وسلم - وهؤلاء بكلام يريدون به خلاف ظاهره، إلا وقد نصب دليلا يمنع من حمله على ظاهره] (5) .
- وهذا الدليل: قد يكون إما عقليا ظاهرا وإما سمعيا ظاهرا، ولهذا؛ فإنه لا يجوز أن يبلغ الناس ما أمر به أن يبلغه، ثم يخفي عليهم ما
__________
(1) الرسالة المدنية، ص \ 7.
(2) الرسالة المدنية، ص \ 7.
(3) الرسالة المدنية، ص \ 7.
(4) الرسالة المدنية، ص \ 7.
(5) الرسالة المدنية، ص \ 7.(24/185)
في بعضه من الدلائل الغامضة والأسرار أو المعاني البعيدة عن متناول عقول عامتهم، ثم يطلب منهم في الوقت نفسه أن يؤمنوا به، وأن يعتقدوه، ويطلب منهم كذلك، أن يتدبروا ما فيه، ويعقلوه، ويتفكروا فيه - يذكر ابن تيمية، أنه لا يجوز ذلك؛ لأنه ضد مهمة بعث الرسل، ومناف لأهدافها، ومناقض للغاية من الرسالة نفسها؛ لأن الرسالة للإفهام وللهداية وللإرشاد، وللبيان كما ذكرنا.
وكذلك، فإن الناس ليسوا جميعا على درجة سواء من العلم، أو الفهم، أو الاستنباط، واستخراج الأدلة والبراهين، ذلك أن منهم - كما يقول -[الذكي، والبليد، والفقيه، وغير الفقيه] . وإذا كان ثمة أدلة غامضة، أو خفية تدل على أن المراد غير ظاهر تلك البلاغات، وتلك الأدلة غير متيسرة للعامة ومن في حكمهم من المتعلمين، - إذا كان الأمر كذلك [كان تدليسا وتلبيسا، وكان نقيض البيان وضد الهدى. وهو بالألغاز والأحاجي أشبه، منه بالهدى والبيان] (1) .
هذه هي خطوات المنهج لدى ابن تيمية. والذي جعل منه أساسا للنظر في صفات الخالق جل وعلا، وللتأمل في أسمائه. وهو المنهج الذي عالج من خلاله قضيته للتأويل في هذا المجال.
والآن لننظر كيف طبق شيخ الإسلام هذا المنهج على صفة من الصفات التي جعل منها نموذجا يحتذى.
التطبيق:
أما في مجال تطبيق تلك القواعد التي ذكرناها، فيشير إليه ابن تيمية قائلا: [ونحن نتكلم على صفة من الصفات، ونجعل الكلام فيها أنموذجا يحتذى عليه] (2) .
أما تلك الصفة التي اختارها نموذجا لتطبيق المنهج الذي أشار إليه، والتي تعد مدخلا لفهم قضايا الصفات برمتها، فهي صفة " اليد ".
__________
(1) الرسالة المدنية، ص 7 - 8.
(2) الرسالة المدنية، ص \ 7.(24/186)
وقد جاءت تلك الصفة في القرآن الكريم، وفي السنة الصحيحة كثيرا. وقد قبلها أهل السنة - كما ذكرنا - وأمروها كما هي، دون أن ينفوها، ودون أن يفهموها في إطار الفهم البشري لمدلول كلمة اليد، التي يتصف بها البشر، أو غيرهم من المخلوقات، وإنما فهموا أن لله سبحانه يدا [تناسب ذاته، تستحق من صفات الكمال، ما تستحق الذات] (1) ولعل من أبرز الأسباب التي (تؤخذ مما) يشير إليه شيخ الإسلام، أن المدخل لهذا الفهم المتعلق بقضية الصفات، هو معايير اللغة العربية، وطرائقها في التعبير، ووسائلها في الإبانة والتصوير، وإذا عرفنا، أن القرآن أنزله الله بهذا اللسان العربي، وأنه سبحانه قد وصفه بأنه " مبين "، فإن هذا الإعلام يضع بين أيدينا فكرة منهجية على جانب كبير من الأهمية، هي: أن تكون طرائق فهم القرآن، ومناهج تدبره، وسبل الغوص وراء مراميه، ومعانيه، سائرة حسب قوانين ذلك اللسان المبين، سواء أكان ذلك في الحقيقة أم في المجاز، في الدلالة أم الإشارة، وعلى هذا النحو يكون المضي قدما في طرائق فهم " الصفات الإلهية "، حيث يجب الالتزام التام، بأسس الدلالة في اللغة العربية، وبضوابط أساليب الإفهام فيها.
وهنا ينبغي أن نشير إلى ضرورة الالتفات إلى أن محاولة تناول هذه القضية في ضوء دلالة أية لغة أخرى غير العربية، سوف يكون منهجا بعيدا عن الالتزام العلمي، ومخالفا لقواعد المنهجية العلمية في تناول هذه القضية.
وعلى هذا: فإن صفة " اليد " في مثل قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (2) جاءت مفردة
وجاءت مثناة في مثل قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (3)
__________
(1) الرسالة المدنية، ص \ 10.
(2) سورة الفتح الآية 10
(3) سورة المائدة الآية 64(24/187)
[المائدة: 64] وقوله تعالى: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (1)
[ص: 75] ، وجاءت جمعا في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} (2)
[يس: 71] .
وعند النظر في الدلالة اللغوية والشرعية لهذه الصفة، حسب قوانين اللغة العربية نجد أنها لا تنصرف إلا إلى الحقيقة في هذا المجال. وهذا يعني أن الله سبحانه إنما أراد أن يعلمنا بأن له يدا حقيقية، ولكنها يد إلهية خاصة به، لا تشبيه فيها ولا تكييف. وسبب ذلك: أن " اليد " في اللغة لم تستعمل في معناها المجازي عندما تكون مثناة، ومن ثم فلا يجوز أن يكون معناها: القدرة أو النعمة أو العطية مثلا. وذلك حسب الاستعمال اللغوي العربي المبين. [لأن القدرة واحدة، ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد] (3) .
وكذلك فإن [نعم الله لا تحصى، ولا يجوز أن يعبر عن النعم التي لا تحصى بصيغة التثنية] (4) .
وكذلك لا يجوز أن يكون معناها: [لما خلقت أنا] لأن العرب إذا أرادوا مثل هذا المعنى، يضيفون الفعل إلى اليد كقوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} (5) .
وقوله تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} (6)
[الحج: 1] .
أما عندما يضاف الفعل إلى الفعل، ويعدى الفعل إلى اليد بحرف " الباء " [فإنه نص في أنه فعل الفعل بيده. ولهذا لا يجوز لمن تكلم أو
__________
(1) سورة ص الآية 75
(2) سورة يس الآية 71
(3) الرسالة المدنية، ص \ 7 - 8.
(4) الرسالة المدنية، ص \ 9 - 10.
(5) سورة يس الآية 71
(6) سورة الحج الآية 10(24/188)
مشى أن يقول: فعلت هذا بيدي] (1) .
فإذا قال العرب: [فعلت هذا بيدي، أو فلان فعل بيديه] (2) فإنه يعني: أنه قد فعله بيديه حقيقة.
وكذلك فإنهم إذا قالوا: فعل بيديه، فإن هذا يعني من ناحية أخرى: أن الذي قام بهذا الفعل له يد حقيقية، [ولا يجوز أن يكون لا يد له، أو يكون له يد، والفعل وقع بغيرها] (3) .
هذا فيما يتعلق بالخطوة المنهجية الأولى التي أشرنا إليها.
__________
(1) الرسالة المدنية.
(2) الرسالة المدنية.
(3) الرسالة المدنية.(24/189)
اعتراض وجوابه:
فإن قيل: إن اللغة العربية قد جاء فيها التعبير بالاثنين في مقام الحديث عن الواحد؛ كقوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} (1)
[ق: 24] وهذا خطاب للواحد جاء بلفظ الاثنين. وعلى هذا، فيكون قوله تعالى:
{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (2) ص \ 75.
ليس نصا في إثبات اليدين له، ومن ثم فإنه يمكن تأويله.
ويرد ابن تيمية هذا الاعتراض قائلا: [هذا ممنوع. بل قوله: " ألقيا " قد قيل: تثنية الفاعل كتثنية الفعل، والمعنى: ألق ألق. وقيل: إنه خطاب للسائق والشهيد] (3) .
وأما من قال: إنه خطاب للواحد، فإنه يكون على ما جرت به العادة من أن الشخص يكون معه اثنان، أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، فيقول خليلي: ويوقع خطابه على هذا الأساس، حتى وإن لم يكونا
__________
(1) سورة ق الآية 24
(2) سورة ص الآية 75
(3) في قوله تعالى: (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) ق: 21.(24/189)
موجودين [فقوله: " ألقيا " عند هذا القائل، إنما هو خطاب مع اثنين يقدر وجودهما] .
الجانب الثاني، أو الخطوة المنهجية الثانية:
وهي تقوم على افتراض أنه يجوز أن يكون لليد معنيان، أحدهما على الحقيقة: وهو اليد حقيقة، والثاني على الكناية: وهو القدرة والنعمة. لكن إذا كان الأمر كذلك فليس هناك أي دافع لصرف اللفظ من الحقيقة إلى الكناية، اللهم إلا إذا كان تنزيه الخالق سبحانه عن أن تكون له يد تشبه جوارح المخلوق، وأهل السنة يصرون على ضرورة تأكيد هذه الفكرة، ولا يقولون أبدا بما يناقضها، فليس لله سبحانه يد من جنس أيدي المخلوقين، لكن هذه الحقيقة المقررة، لا تمنع، لا عقلا، ولا شرعا، أن يكون لله سبحانه [يد تناسب ذاته، تستحق من صفات الكمال ما تستحق الذات] (1) .
وأمر اليد هنا مثل أمر الذات. فكما أن ذاته لا تشبه ذوات المخلوقين، فإن هذا لا يتأتى إلا بأن تكون صفاته سبحانه مغايرة تمام المغايرة لصفاتهم، ومن ثم فإن يده ليست مثل أيديهم.
وبذلك يكون الأساس الذي بنى عليه منكرو الصفات، وهو عدم مشابهته للمخلوقين، متحققا، وقائما مع إثبات الصفات، ونفي مشابهتها لصفات المخلوقين نفيا قطعيا، وحاسما.
أما الخطوة المنهجية الثالثة: فإنه عند النظر في صفة " اليد " له سبحانه في ضوئها نلحظ ما يلي:
أ - أنه لم يرد [في كتاب الله، أو في سنة رسوله، أو عن أحد من أئمة المسلمين، أنهم قالوا: إن المراد باليد، خلاف ظاهره] (2) أو قالوا: الظاهر غير مراد.
__________
(1) الرسالة المدنية، ص \ 10.
(2) الرسالة المدنية، ص \ 11.(24/190)
ب - وليس في كتاب الله ما يدل على انتفاء صفة اليد عنه سبحانه، سواء أكانت هذه الدلالة ظاهرة أم خفية.
ج - أن ما ورد في القرآن من آيات تنفي مشابهة الخالق للمخلوقين، مثل قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (1)
[مريم: 65]
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2)
منحصر في نفي التمثيل والتشبيه عنه سبحانه. (أما انتفاء يد تليق بجلاله، فليس في الكلام ما يدل بوجه من الوجوه) (3) .
د - وليس في العقل ما يدل دلالة ظاهرة أو خفية على أن الباري سبحانه لا يتصف بصفة اليد أبدا. وهذا يعني: أن المنطق العقلي لا يمنع - لا من قريب، ولا من بعيد - أن يوصف الله سبحانه بتلك الصفة.
هـ - ويضاف إلى ما سبق: الأمور، أو الظواهر التالية:
1 - أن ذكر " اليد " قد تكرر كثيرا في القرآن، وفي السنة، كما ذكرنا.
2 - ولا يعقل أن يحدث هذا، ولا يقوم النبي - صلى الله عليه وسلم، هو ومن تبعه من الصحابة، وأولي الأمر ببيان حقيقة المراد بتلك الصفة، إذا كان ظاهرها غير مراد، أو كان المراد بها معنى: القدرة أو النعمة أو غير ذلك.
3 - وغير معقول أن يستمر هذا الإبهام من قبل أئمة المسلمين، أو لا يستطيعون أن يهتدوا إلى بيان معناها المراد (حتى ينشأ " جهم بن صفوان " - كما يقول ابن تيمية - بعد انقراض عصر الصحابة، فيبين للناس ما نزل إليهم على نبيهم، ويتبعه عليه " بشر بن غياث المريسي " ومن سلك سبيلهم من كل مغموص عليه بالنفاق) (4) .
__________
(1) سورة مريم الآية 65
(2) سورة الإخلاص الآية 1
(3) الرسالة المدنية، ص \ 11.
(4) الرسالة المدنية، ص \ 11.(24/191)
4 - وكيف يحدث هذا، ونحن نعلم علم اليقين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بين لنا كل شيء، حتى إنه قال: «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك (1) » ؟! .
5 - وكيف يحدث هذا، وتكون النصوص بهذه الكثرة، ويسكت عن بيانها جميع علماء الأمة، مع أن اعتقاد ظاهرها على رأي المؤولين والنافين يؤدي إلى الضلال؟ !!
6 - وكيف يجوز للسلف أن يقولوا: " أمروها كما جاءت "، مع أن معناها المجازي هو المراد، وهو شيء يفهمه الأعراب، حتى يكون أبناء فارس والروم أعلم بلغة العرب من أبناء المهاجرين والأنصار؟ !
*. . الخطوة المنهجية الرابعة: إن هناك أدلة قاطعة تتفق مع المنهج العقلي، تدل على أن لله يدين حقيقة، وذلك من خلال ما يلي:
1 - تفضيله لآدم، حيث خلقه بيديه، وجعل الملائكة تسجد له، فلو كان آدم خلق بقدرة الله أو بنعمته كما يقولون؛ لكان خلق آدم لا يختلف عن خلق إبليس، بل جميع المخلوقات الأخرى، فكان هذا الموقف المرتبط بآدم ذا دلالة أكيدة، وخاصة على أن آدم قد خلقه الله بيديه.
2 - إن أولئك الذين يقولون: إن إضافة خلق آدم إلى الله، من باب التكريم والتشريف، كما في قولنا: " ناقة الله، وبيت الله "، إنما يؤيدون - من حيث لا يشعرون - الفكرة القائلة بأن لله يدين على الحقيقة، حيث كان التكريم الخاص لآدم هو أن الله قد خلقه بيديه، وهذا تشريف له وتكريم. وعلى هذا تكون (إضافة خلق آدم إليه)
__________
(1) سنن ابن ماجه المقدمة (44) .(24/192)
دالة دلالة أكيدة على أنه (خلقه بيده، وأنه قد فعله بيده، وخلق هؤلاء بقوله: " كن فيكون ") (1) .
3 - ويضاف إلى ذلك، أن ثمة فرقا بين قولهم: " بيده الملك " وقولهم: " عملته يداك "، وهو أن التعبير الأول يقع فيه المجاز كثيرا، لكن مع هذا فالتعبيران كلاهما يدلان على معنيين متلازمين، الأول: (إثبات اليد. الثاني: إضافة الملك، والعمل إليهما) (2) .
4 - ومما يؤيد ما ذكرناه: أن العرب لا يطلقون " عملته يداك " إلا لجنس له يد حقيقة، ومن ثم فإنهم (لا يقولون: يد الهواء، ولا يد الماء) (3) ، بل لو سلمنا جدلا (أن قوله:
{بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (4)
قد علم منه أن المراد: بقدرته) (5) ، فإن هذا لا يقبل (إلا لمن له يد حقيقة) (6) .
5 - أما قوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} (7)
فقد جاءت بصيغة الجمع؛ لأن من أساليب اللغة العربية أن يوضع اسم الجمع (موضع التثنية إذا أمن اللبس. كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (8)
[المائدة: 38] ، وقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (9)
[التحريم: 4] (10) .
وهكذا رأينا أن الالتزام بالمنهجية العلمية في تناول هذه القضية من قبل علماء السلف، كان هو الدافع الرئيسي الذي جعلهم يرفضون قطعيا أن
__________
(1) الرسالة المدنية، ص \ 12.
(2) الرسالة المدنية، ص \ 12.
(3) الرسالة المدنية، ص \ 12.
(4) سورة الملك الآية 1
(5) الرسالة المدنية، ص \ 12.
(6) الرسالة المدنية، ص \ 12.
(7) سورة يس الآية 71
(8) سورة المائدة الآية 38
(9) سورة التحريم الآية 4
(10) الرسالة المدنية، ص \ 12.(24/193)
ينكروا بعض صفات الخالق سبحانه، بحجة التنزيه، أو بحجة فكرة أو حقيقة " التوحيد "، وإنما الذي رأيناه من خلال هذا الموقف، أن منطلقهم الأساسي كان من تأكيد فكرة التوحيد، التي تعني في المقام الأول، نفي التشبيه، والند، والنظير، والسمي عن الخالق، في الذات، وفي الصفات معا.
وأما قضية التفرقة بين الذات والصفات فهي فكرة فلسفية، تمتد في جذورها إلى منابت الفلسفة الوثنية، كما أنها في الواقع فكرة تجريدية لا وجود لها في الواقع أبدا، بل هي أشبه بذلك السراب الذي يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، وهكذا لا نعثر في الواقع الفكري والوجودي على تلك الثنائية، التي تفصل فيها الصفة عن الموصوف، والتي تعتبر فيها الصفة وجودا قائما بذاته.
ومن هذا المنطلق رأينا شيخ الإسلام يلفت نظرنا إلى جملة من الحقائق، والتي جعلها مقدمات لإصدار حكمه على منهج السلف، وعلى موقفهم في رفض التأويل في قضية الصفات الإلهية.(24/194)
الأسس أو القواعد التي بنى عليها إقراره بأن السلف أعلم:
والذي ذكره ابن تيمية في هذه القضية كثير جدا، لا يحتمله الموقف الآن، ولكن تتمتها لفكرة المنهجية لدى السلف، فإننا سوف نلمح إلى بعض الأفكار أو القواعد العامة، والتي تعد في الوقت نفسه من بين الأسس المنهجية الضرورية لفهم موقف السلف من الصفات، وللوقوف على دوافعه ومبرراته.
وفي هذا الصدد فإن شيخ الإسلام يشير إلى ما يلي:
بعث الله سبحانه النبي - صلى الله عليه وسلم - ليهدي الناس قاطبة إلى الحق في العقائد، وفي كل ما يتصل بها أو يتفرع عنها من القيم والمبادئ،(24/194)
وفي كل ما يتعلق بتنظيم الحياة الإنسانية، وتخليصها من كل مسببات الفساد والإفساد، وظواهر الانحراف أيا كان حجمها، أو امتدادها في مجالات الحياة.
*. . وقد وصفت هذه الدعوة بصفات لها دلالتها العميقة جدا، كما تدل على مبلغ إسهامها في تغيير الواقع، وعلى أهدافها في كل مجالات الحياة، وذلك مثل: الهدى - البصيرة - النور - السراج المنير - البينة - الصراط المستقيم - المحجة البيضاء. . . إلخ.
*. . وقد حملت هذه الرسالة إلى العالمين كتابا من عند الله، لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه؛ ليكون مرجعا للحكم عند الاختلاف في أي من أمور الدين، وفي أية قاعدة من قواعد العقيدة، أو حقيقة من حقائقها.
*. . ومن المسلم به، أن تحقيق تلك الغاية التي أشرنا إليها، ليس له إلا طريق أوحد ووحيد، وهو الإيمان بالله تعالى، وبما يليق به من الأسماء والصفات التي وردت في القرآن وفي السنة. ومن ثم فإن هذه القضية تعد بيت القصيد في أي منطلق من منطلقات العقيدة الدينية الصحيحة والمصححة.
*. . وعلى هذا، فإن الضرورات العقلية والدينية تقضي بما يلي:
أ - إذا كان هدف الرسالة هو إفهام الناس بأمور العقيدة الصحيحة كما ذكرنا، فمن المستحيل أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم، قد ترك أية قضية من قضايا العقيدة، سواء أكانت متعلقة بها، أم منبثقة منها، دون أن يكون قد أوضحها غاية الوضوح، وبينها غاية البيان.
ب - وإذا كانت قضية الإيمان بالله تعالى، هي أم القضايا، ورأس الأمر، فإنه يصبح من أشد الضرورات تأكيدا، أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد وفاها حقها، ولم يترك فيها لا شاردة ولا واردة إلا وأعطاها حقها من البيان، والتوضيح والشرح. وهذا يتطلب: أن يكون الرسول(24/195)
صلى الله عليه وسلم، قد سد باب الشبهات في هذا المجال سدا محكما، وأغلق كل المسارب التي قد تؤدي إلى البلبلة، أو إثارة الشكوك.
ج - ومن الأمور الواضحات، بل من الحقائق المعلنات: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد علم أمته كل شيء، دون أن يترك صغيرا أو كبيرا، مهما، أو غير مهم. وهذا يعني: أنه صلى الله عليه وسلم قد تناول هذه القضية الكبرى في عقيدة الإسلام، تناولا مستفيضا، شافيا، وكافيا، ولذلك يقول " أبو ذر " رضي الله عنه: [ «لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما (1) » ] . وقال " عمر " رضي الله عنه: [ «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما، فذكر بدء الخلق، حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم. حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه (2) » ] " رواه البخاري ".
د - ومعنى هذا: أن أولئك الذين سمعوا من الرسول، وتلقوا عنه ذلك، ووعوه، وفهموه، وتدارسوه، يعدون - بكل المعايير العقلية، والحسية - أعلم الناس، وأفقه الناس، وأعمق الناس في كل هاتيك القضايا.
يقول ابن تيمية:
[ثم من المحال أيضا: أن تكون القرون الفاضلة - القرن الذي بعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم - كانوا غير عالمين، وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين] (3) وهو يقصد باب الصفات.
*. . ويعلل هذه الظاهرة: بأن هذه القضية لا يسكت عنها من كان في قلبه (أدنى حياة، وطلب للعلم) وذلك حيث يكون [البحث عن هذا
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/153) .
(2) صحيح البخاري بدء الخلق (3192) ، سنن الترمذي المناقب (3951) ، مسند أحمد بن حنبل (4/426) .
(3) فتاوى الرياض: مج \ 5، ص \ 7 - 8.(24/196)
الباب، والسؤال عنه، ومعرفة الحق فيه، أكبر مقاصده، وأعظم مطالبه، أعني: بيان ما ينبغي اعتقاده، لا معرفة كيفية الرب، وصفاته] (1) . . .
ويعللها أيضا: بأن هذه القضية، من القضايا التي تتعلق بالفطرة البشرية، ومن القضايا التي تشغل الإنسان دوما، وإذا كان الأمر كذلك، فمن الأمور المستبعدة، أن يكون الصحابة - مع غزارة علمهم وعمق فقههم، قد أغفلوا معرفة ذلك، أو الوقوف فيه على الحق المبين.
يقول ابن تيمية: [فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضى - الذي هو من أقوى المقتضيات - أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم؟ !! هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق وأشدهم إعراضا عن الله، وأعظمهم إكبابا على طلب الدنيا، والغفلة عن ذكر الله تعالى، فكيف يقع في أولئك؟ !!] (2) .
هـ - ومما يؤيد هذه الفكرة، بل هذه الحقيقة، أن المنهج القرآني كان محيطا بكل المقالات، أو الأفكار الضالة، ومجادلا لها، وكاشفا لمصادر الضلال فيها، ومبينا دوافع الانحراف لديها، وبما أن الصحابة قد فهموا القرآن، وتدبروا آياته وعاشوا معه، وعايشوه آية آية، بل لم يكونوا يدعون عشر الآيات تنزل على رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، حتى يتقنوها علما وعملا، حتى حفظوا القرآن، وأتقنوا العلم والعمل جميعا - أقول: بما أن الأمر كذلك، فإن هؤلاء الصحابة لا بد أن يكونوا في كل هذا أفقه الفقهاء، وأعلم العلماء، فهم مصادر علم الدين وفقهه دون منازع.
[إذا تدبر المؤمن العليم، سائر مقالات الفلاسفة وغيرهم من الأمم، التي فيها ضلال وكفر، وجد القرآن والسنة كاشفين لأحوالهم، مبينين لحقهم، مميزين بين حق ذلك وباطله. والصحابة كانوا أعلم الخلق
__________
(1) فتاوى الرياض: مج \ 5، ص \ 8.
(2) فتاوى الرياض: مج \ 5، ص \ 8.(24/197)
بذلك، كما كانوا أقوم الخلق بجهاد الكفار والمنافقين، كما قال فيهم " عبد الله بن مسعود ": " من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد، كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم] (1) .
ويعلق ابن تيمية على كلام " ابن مسعود " بأنه يخبر عما عرف به الصحابة من كمال بر القلوب، [مع كمال عمق العلم. وهذا قليل في المتأخرين] (2) .
ووبما أن السلف قد نهجوا نهج الصحابة، واتبعوا طريقتهم، وأفادوا من غزارة علمهم، وارتووا من فيض فقههم، فإنهم بذلك لا بد أن يكونوا في موقفهم من الصفات، أعلم، وأحكم، وأسلم.
ز - وعلى هذا فإن فكرة تفضيل موقف الخلف باتجاههم إلى التأويل تارة، أو إلى النفي، على موقف السلف بكفهم عن الخوض في ذلك، تعد فكرة غير سديدة من ناحية. ومن ناحية أخرى، فإنها تؤدي في الواقع، إلى الحكم على أولئك الصحابة ومن اتبع طريقتهم، بأنهم كانوا عاجزين في فهمهم، بل غير قادرين على استيعاب النص القرآني استيعابا تاما. ومن ثم فقد آثروا السلامة، ولم يؤولوا، بل فوضوا معرفة حقائق الصفات إلى مراد الله.
أما الخلف: فقد كسروا هذا الحاجز، وكانوا أعمق علما، وأكثر قدرة على الفهم والاستيعاب، فكشفوا عن مراد الخالق، واتجهوا إلى التأويل.
ولا ريب أن هذا التصور الذي تطرحه تلك المقولة، فيه مجانبة للحقائق الموضوعية، وهو بعيد عن المنهجية العلمية، وهو لا يمثل الواقع لا
__________
(1) فتاوى الرياض: مج \ 4، ص \ 137 - 138.
(2) فتاوى الرياض: مج \ 4، ص \ 138.(24/198)
من قريب ولا من بعيد، بل مقتضاه، كما يقول ابن تيمية بحق: [استجهال السابقين الأولين، واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قوما أميين، بمنزلة الصالحين من العامة، لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله] (1) .
فإذا أضفنا إلى ذلك، أنهم يقصدون من الخلف، أولئك المتكلمين الذين كثر في قضايا الدين جدلهم واضطرابهم، أدركنا مدى خطورة تلك المقولة التي لا تزال تردد على ألسنة طائفة من الدارسين هنا وهناك. وأدركنا أيضا مدى مخالفتها للحق، وللحقيقة كما ذكرنا.
__________
(1) فتاوى الرياض: مج \ 5، ص \ 10.(24/199)
خاتمة:
وبعد؛ فقد تبين لنا أن السلف في موقفهم من قضية الصفات، حين نفوا فيها التأويل، وحين أثبتوها على حقيقتها للخالق سبحانه، دون تشبيه ولا تكييف، كانوا يتبعون أسسا منهجية، ويسيرون وفق قواعد علمية، كما أنهم كانوا يصدرون في موقفهم هذا عن علم جم غزير، وفقه فياض مستنير، بل لم يكونوا مترددين، ولم يكونوا من الأميين، أو من ضعاف العقول، أو محدودي العقل والثقافة والتفكير.
وما أحسن ما قاله صاحب أبي حنيفة، " محمد بن الحسن ":
[اتفق الفقهاء كلهم من الشرق والغرب: على الإيمان بالقرآن، والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل، من غير تفسير، ولا وصف، ولا تشبيه. فمن فسر شيئا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وفارق الجماعة، فإنهم لم يصفوا، ولم يفسروا، ولكن آمنوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا. فمن قال بقول " جهم " فقد فارق الجماعة] (1) .
__________
(1) ابن تيمية، فتاوى الرياض. مج \ 4، ص \ 4 - 5 وانظر ص \ 6 - 8.(24/199)
وقول الشافعي: [حرام على العقول أن تمثل الله تعالى، وعلى الأوهام أن تحده، وعلى الظنون أن تقطع، وعلى النفوس أن تفكر، وعلى الضمائر أن تعمق، وعلى الخواطر أن تحيط، وعلى العقول أن تعقل إلا ما وصف به نفسه، أو على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام] (1) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على النبي الأمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) ابن تيمية، فتاوى الرياض. مج \ 4، ص \ 5 - 6.(24/200)
مراجع البحث ومصادره
التفسير: ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، مصر دار الشعب، محمد بن علي الشوكاني، فتح القدير. بيروت، دار الفكر 1403 \ 1983 م.
المراجع:
- د. إبراهيم بيومي مدكور، الفلسفة الإسلامية والنهضة الأوروبية، بحث ضمن كتاب: أثر العرب والإسلام في النهضة الأوروبية. مصر، الهيئة المصرية العامة للنشر، 1970 م.
- البغدادي، الفرق بين الفرق، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، بيروت. دار المعرفة، بدون تاريخ.
- ابن تيمية، الاستقامة. ج 1 تحقيق د. محمد رشاد سالم. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. ط 1، 1403 \ 1983 م.
- الرسالة المدنية في تحقيق المجاز والحقيقة في صفات الله تعالى. مكة المكرمة. المطبعة السلفية. ط 2، 1351 هـ.
- فتاوى الرياض، مج: 3، 4، 5. مجموعة الرسائل والمسائل. مصر. مطبعة المنار. ط 1 - 1344 هـ.
- ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة (ضمن مجموعة، فلسفة ابن رشد) . بيروت دار الآفاق الجديدة. ط 1، 1402 \ 1982 م.(24/201)
- د. عبد الحميد منصور، علم اللغة النفسي، الرياض، جامعة الملك سعود، ط 1، 1402 هـ \ 1982 م.
- ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين، ج 2، مصر. مكتبة الحاج عبد السلام ابن شقرون، 1388 هـ \ 1968 م.
- أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، كتاب التوحيد، وإثبات صفات الرب عز وجل. مصر. دار الكتب السلفية. ط 2، 1403 هـ.
- أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، سنن الدارمي. دار إحياء السنة النبوية. بدون تاريخ.
- محمد عبده، رسالة التوحيد. مصر. دار المعارف. ط 5، 1977 م.
- محمد مرتضى اليماني، (ابن الوزير) إيثار الحق على الخلق. بيروت. دار الكتب العلمية، ط 1، 1318 هـ.
- د. محمود قاسم، ابن رشد القاهرة. مكتبة الأنجلو المصرية، بدون تاريخ.
* * *(24/202)
شيخ الإسلام ابن تيمية
حامل راية الكتاب والسنة
للدكتور: محمد لقمان السلفي
الحمد لله القدير الذي هدانا إلى سواء السبيل، بكتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أنزله هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وجعله رحمة وهدى وبشرى للذين يعملون الصالحات. وبنبيه الذي بعثه في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. قال تعالى {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (1) وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فمما لا شك فيه عند كل مسلم عالم بموارد الدين الإسلامي ومصادره، أن هذا الدين مبني على أساسين لا ثالث لهما. وهما القرآن والسنة. فالقرآن الكريم هو الأصل الأول الذي يجب على كل مسلم أن يرجع إليه في كل أمر ويحكمه في كل مسألة ويعمل بما ورد فيه من الأحكام الشرعية والأوامر الربانية، ويؤمن بكل ما جاء فيه من المبادئ والعقائد. كما أن السنة النبوية هي الأصل الثاني الذي يفزع إليه المسلم عند كل حادث ويسترشد به في جميع أموره العقدية والشرعية والدينية والدنيوية.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 164(24/203)
والآيات والأحاديث في بيان هذه الحقيقة وتجليتها كثيرة جدا، لا داعي لسردها في هذه العجالة. لذا سوف أكتفي ببعض تلك الآيات والأحاديث:
قال سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (1) .
وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) .
وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به، أو نهيت عنه فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه (4) » .
وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه (5) » .
وقد سلك سبيل التمسك بالكتاب والسنة، الصحابة وتابعوهم وأئمة الهدى، فكانوا إذا وجدوا مسألة في القرآن لم يتحولوا عنه إلى غيره، فإذا لم يجدوا في كتاب الله، أخذوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبلوا منهما بديلا، ولم يعارضوا نص الكتاب والسنة بالاحتمالات العقلية والخيالات النفسية والعصبية المذهبية. وقد وردت آثار كثيرة من الصحابة والتابعين تدل على أنهم لم يرجحوا شيئا على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آية حال من الأحوال.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 36
(2) سورة النساء الآية 65
(3) سورة النور الآية 63
(4) رواه الإمام أحمد في المسند 6 \ 58، وأبو داود، السنة، باب لزوم السنة، رقم 4605 والترمذي: العلم، باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النبي صلى الله عليه وسلم. وابن ماجه: المقدمة، رقم \ 13 والحاكم 1 \ 108، 109. والدرامي: المقدمة؛ 1 \ 117.
(5) رواه أحمد في المسند 4 \ 130 - 133. والدارمي: 1 \ 144 وأبو داود: السنة، رقم \ 4604 والترمذي: العلم رقم \ 2660 وابن ماجه: المقدمة، رقم \ 12 والحاكم: 1 \ 109.(24/204)
فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " اتقوا الرأي في دينكم ". وكان يقول: " إن أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين يسألوا أن يقولوا لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم " (1) .
وقال ابن عباس: " إنما هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فمن قال بعد ذلك برأيه فما أدري أفي حسناته أم في سيئاته " (2) .
واستمرت الأمة تأخذ عقائدها وأحكامها الشرعية من الكتاب والسنة رأسا. وترى فيهما الكفاية والشفاء. ثم جاء بعد ذلك عصر الفتوح واتسعت رقعة الدولة الإسلامية ودخل في الإسلام كثير من أهل الديانات الأخرى واختلطوا بالمسلمين في كل مكان. وسهل هذا الاختلاط على المسلمين الوقوف على ما عند هؤلاء من مذاهب وأفكار ونظريات وتشريع، فتأثروا بها ووجد أناس أخذوا يفسرون بها الإسلام وعقيدته ثم جدت فتن وأحداث سياسية كبرى شقت صفوف المسلمين وفرقت جماعتهم وأثارت بينهم مجادلات سياسية ودينية اصطبغت بمر الزمن بصبغة الدين. وظهرت في الإسلام فرق جديدة كالخوارج والشيعة والمرجئة، وأخذت تتجادل حول بعض المسائل الدينية. كما وجدت مذاهب فقهية عديدة، ووجد لكل منها متعصبون من عامة المسلمين وخاصتهم وتناحروا فيما بينهم وتباغضوا وتعصب كل حزب بما لديه حتى وصل بهم الأمر إلى رفض الكتاب والسنة وجعلهما وراء ظهورهم.
ولكن رغم كل هذه العصبيات والبعد عن المنابع الأصلية للدين، وجد في كل عصر ومصر أئمة مهتدون ومحدثون كبار ومجددون للدين الحنيف، دعوا الأمة الإسلامية إلى التمسك بالكتاب والسنة والعودة إليهما، وبينوا لها أنه لا خلاص لها من أمراضها إلا بالعودة إلى الدين
__________
(1) انظر إيقاظ الهمم ص \ 12.
(2) انظر إيقاظ الهمم، ص \ 13.(24/205)
الصحيح والبعد عن الأفكار المستوردة والمذاهب الهدامة والفلسفات والنظريات التي لا صلة لها بالدين الصحيح.
فلما كان القرن السابع الهجري اشتد الأمر وأصبح الظلام دامسا وافترقت الأمة على فرق ومذاهب وتناحر المسلمون بينهم من أجل عقائد لا صلة لها بالدين. وتعصب كل صاحب مذهب لمذهبه أشد تعصب حتى نسوا القرآن والسنة، وأخذت الأمة ترزح تحت دياجير الظلام الحالك. فأظهر الله في أوائل القرن الثامن الهجري زعيم المجددين وقائد النهضة الإسلامية وحامل راية الكتاب والسنة، شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية الذي حمل مشعل الدعوة إلى الكتاب والسنة والرجوع إليهما في كل حال وفي كل عصر وبلد. وقد كان رحمه الله قويا في إيمانه، مخلصا لدعوته، جريئا في الحق، لا يبالى بما يلقى من الأذى في سبيله، فأعلن مذهب السلف الصالح في جرأة وصراحة، وهاجم جميع الفرق والمذاهب المنحرفة القائمة في عصره، ودعا الناس إلى طريقة السلف الأول من الصحابة والتابعين وحارب كل غريب مستحدث، وخلص الدين مما لحق به من أوضار أو شابه من فساد.
ففي السطور الآتية سوف أحاول أن أكتب عن ناحية مهمة من نواحي حياته العلمية والدعوية، بل هي أهم ناحية في حياته وأساس دعوته، ألا وهو حمله راية الدعوة إلى الكتاب والسنة وإرجاع الإسلام إلى منابعه الصحيحة وإقامة الحجج الدامغة على أن الإسلام لا يعني غير الكتاب والسنة وأن كل ما هو غير ثابت بأحد منهما فهو مردود ومرفوض لا يساوي جناح بعوضة ولا يعادل ذرة من التراب.
حتى استطاع أن يخلص الإسلام من الشوائب وقدمه للأمة الإسلامية في صورته الأصلية البعيدة عن الزيغ والضلال.(24/206)
فأقول وبالله التوفيق:(24/207)
حياته ونشأته:
هو تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن الخضر بن محمد بن تيمية الحراني الدمشقي.
ولد بمدينة " حران " إحدى مدن العراق، وهي الآن في تركيا. وكانت آنذاك مهد العلم والعلماء، ولد في يوم الاثنين الموافق اليوم العاشر من شهر ربيع الأول من سنة إحدى وستين وست مائة للهجرة النبوية. هاجر مع أبيه وعمره سبع سنوات إلى مدينة دمشق بعد أن أغار التتار على حران. وتجشم الصعاب مع أسرته في الطريق. كانوا يسيرون ليلا خوفا من العدو، وهم يحملون متاعهم الثمين وهو الكتب على عجلة، لعدم توافر الدواب. ويكاد العدو يلحقهم، لولا فضل الله ورحمته.
وكان والده من ذوي الفضل والعلم واشتهر أمره في الوعظ والتدريس والإرشاد والتعليم بجامع دمشق الأعظم حيث تولى مشيخة دار الحديث السكرية (1) . توفي والده سنة ستمائة واثنتين وثمانين بدمشق. رحمة الله عليه.
يكاد يجمع المؤرخون على أن ابن تيمية نشأ في عفاف وتقى وصلاح، وعود نفسه على الاقتصاد في الملبس والمأكل. وكان برا بوالديه ورعا، عابدا، ناسكا، صواما، وقافا عند حدود الله، آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر، راغبا في العلم وناهما له، لا يمل من المطالعة ولا يكل من البحث.
كلما دخل بابا من أبواب العلم فتحه الله على مصراعيه، وتفوق على حذاق ذلك الفن وأئمته، كان يحضر المجالس والمحافل العلمية من صغره، فيتكلم ويناظر ويفحم الكبار ويأتي بما يتحير منه أعيان ذلك العلم.
__________
(1) انظر تذكرة الحفاظ، ص \ 1496 والبداية والنهاية 13 \ 303.(24/207)
وكان فصيح اللسان، سريع القراءة، قوي الذاكرة، بل نادرة في الحفظ. وقف حياته للعلم والعلماء، والدعوة إلى كتاب الله وسنة رسوله والجهاد في سبيل إعلاء كلمته. أشغلته مهام الأمور الدينية والعلمية، فلم يتزوج ولا تسرى ولا تملك مالا ولا عقارا. ولم يهتم بأمور الدنيا قط. أخوه شرف الدين هو الذي كان يقوم بمصالحه. ما كان يطلب منه غداء ولا عشاء في أغلب الأحيان.
حج سنة إحدى وتسعين وستمائة وعمره ثلاثون سنة، ورجع وقد انتهت إليه الإمامة في العلم والعمل، وأصبح شيخ الإسلام والمسلمين بشهادة أصدقائه ومعارضيه، رحمة الله عليه.(24/208)
كبار مشايخه:
سمع من خلق كثيرين، من أكثر من مائتين، وسمع غير كتاب على غير شيخ من ذوي الروايات الصحيحة العالية، ومن هؤلاء: الشيخ شمس الدين والشيخ زين الدين أحمد بن عبد الدائم، والشيخ أبو اليسر والكمال ابن عبد الله والمجد بن عساكر والجمال يحيى بن الصيرفي، وأحمد بن أبي الخير، والقاسم، والأربلي، والشيخ فخر الدين بن البخاري والكمال عبد الرحيم وأبو القاسم بن علال وأحمد بن شيبان وزينب بنت مكي.
وأقبل على تفسير القرآن الكريم، وعني بالحديث النبوي، ونظر في الكلام وفي الفلسفة وفي العلوم الأخرى الرائجة في ذلك الوقت، وبرز في كل منها على أصله، وتأهل للفتوى والتدريس وعمره دون العشرين سنة (1) .
__________
(1) العقود الدرية، ص \ 3 وتذكرة الحفاظ، ص \ 1396.(24/208)
براعته في تفسير القرآن الكريم:
أقبل على تفسير القرآن الكريم وغاص في دقيق معانيه بطبع سيال وخاطر وقاد، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها.
قال الذهبي: (ما رأيت أحدا أسرع انتزاعا للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه) . وقال: (كان آية من آيات الله في التفسير(24/208)
والتوسع فيه، لعله يبقى في تفسير الآية المجلس والمجلسين) ، وقال: (حكى لي من سمعته يقول: إني وقفت على مائة وعشرين تفسيرا أستحضر من الجميع الصحيح الذي فيها) (1) ، وقال ابن كثير: (جلس الشيخ تقي الدين المذكور أيضا يوم الجمعة عاشر صفر بالجامع الأموي بعد صلاة الجمعة على منبر قد هيئ له لتفسير القرآن العزيز، فابتدأ من أوله في تفسيره، وكان يجتمع عنده الخلق الكثير والجم الغفير من كثرة ما يورد من العلوم المتنوعة المحررة) (2) .
ولقد أملى في تفسير {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (3) مجلدا كبيرا، وفي قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (4) نحو خمس وثلاثين كراسة (5) .
__________
(1) الوافي بالوفيات 7 \ 15، 16.
(2) البداية والنهاية 13 \ 303.
(3) سورة الإخلاص الآية 1
(4) سورة طه الآية 5
(5) الأعلام العلية، ص24.(24/209)
براعته في علوم السنة:
عني بالحديث النبوي وسمع الكتب الستة والمسند للإمام أحمد مرات، ومعجم الطبراني الكبير وما لا يحصى من الكتب، ونسخ الأجزاء، ودار على الشيوخ، وخرج وانتقى، وبرع في الرجال والطبقات وعلل الحديث وفقهه، وحصل ما لم يحصله غيره، وصار من أئمة النقد، فقل من يحفظ ما يحفظ من الحديث معزوا إلى أصوله وصحابته، وكان شديد الاستحضار للسنة النبوية وقت إقامة الدليل، وفاق الناس في معرفة الفقه واختلاف المذاهب وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث إنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل بما يقوم دليله عليه، وهكذا نصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين، وأوذي في ذات الله من المخالفين، وأخيف في نصر السنن المحمدية، حتى أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له.
كتب الحافظ ابن سيد الناس في جواب سؤالات الدمياطي في حق ابن تيمية: ألفيته ممن أدرك من العلوم حظا، وكان يستوعب السنن والآثار حفظا (1) .
__________
(1) الشهادة الزكية، ص \ 26.(24/209)
وقال الذهبي في تاريخه الكبير بعد ترجمة طويلة بحيث يصدق عليه أن يقال: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث) (1) .
وترجم له ابن الزملكاني ترجمة طويلة، وأثني عليه ثناءا عظيما، وقال: (ما رأينا في عصرنا هذا من تستجلى النبوة المحمدية وسننها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل، يشهد القلب الصحيح أن هذا هو الاتباع حقيقة) (2) .
وقال الحافظ المزي: (ما رأيت أحدا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله ولا أتبع لهما منه) (3) .
وقال أبو حفص البزار: (أما معرفته وبصره بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقواله وأفعاله وقضاياه ووقائعه وغزواته وسراياه وبعوثه وما خصه الله تعالى من كراماته ومعجزاته ومعرفته بصحيح المنقول عنه وسقيمه، والمنقول عن الصحابة - رضي الله عنهم - في أقوالهم وأفعالهم وقضاياهم وفتاويهم، وأحوالهم وأحوال مجاهداتهم في دين الله، وما خصوا به من بين الأمة، فإنه كان - رضي الله عنه - من أضبط الناس لذلك وأعرفهم فيه، وأسرعهم استحضارا لما يريده منه، فإنه قل أن ذكر حديثا في مصنف وفتوى أو استشهد به أو استدل به إلا عزاه في أي دواوين الإسلام هو، ومن أي قسم من الصحيح أو الحسن أو غيرها، وذكر اسم راوية من الصحابة، وقل أن يسأل عن أثر إلا وبينه في الحال، حاله، وحال أمره، وذكره.
ومن أعجب الأشياء في ذلك أنه في محنته الأولى بمصر أخذ وسجن، وحيل بينه وبين كتبه، صنف عدة كتب صغارا وكبارا، وذكر فيها ما احتاج إلى ذكره من الأحاديث والآثار وأقوال الصحابة وأسماء المحدثين والمؤلفين ومؤلفاتهم، وعزا كل شيء من ذلك إلى ناقليه وقائليه بأسمائهم، وذكر أسماء الكتب التي ذكر فيها، وفي أي موضع فيها، كل ذلك بديهة من حفظه؛ لأنه لم يكن عنده حينئذ كتاب يطالعه.
__________
(1) الكواكب الدرية، ص \ 145.
(2) مقدمة علم الحديث لابن تيمية، ص \ 45.
(3) الرد الوافر، ص \ 129.(24/210)
ونقيت واعتبرت فلم يوجد فيها بحمد الله خلل ولا تغيير، ومن جملتها كتاب " الصارم المسلول على شاتم الرسول "، وهذا من الفضل الذي خصه الله تعالى به) (1) .
وقال في مكان آخر: (وأما ما وهبه الله تعالى ومنحه من استنباط المعاني في الألفاظ النبوية والأخبار المروية وإبراز الدلائل على المسائل، وتبيين مفهوم اللفظ ومنطوقه، وإيضاح المخصص للعام، والمقيد للمطلق، والناسخ للمنسوخ، وتبيين ضوابطها ولوازمها وملزوماتها، وما يترتب عليها، وما يحتاج فيه إليها، حتى إذا ذكر آية أو حديثا، وتبين معانيه وما أريد به، يعجب العالم الفطن من حسن استنباطه، ويدهشه ما سمعه أو وقف عليه فيه) (2) .
ولأجل هذا قال الذهبي بعد أن أطال الكلام عن ابن تيمية وأثنى عليه كثيرا: (وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي، والله، لو حلفت بين الركن والمقام أني ما رأيت بعيني مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه لما حنثت) (3) .
وقال الحافظ عماد الدين الواسطي: (والله، ثم والله، لم ير تحت أديم السماء مثل شيخكم ابن تيمية علما وعملا وحالا وخلقا واتباعا وكرما وحلما وقياما في حق الله تعالى عند انتهاك حرماته) (4) .
__________
(1) الأعلام العلية، ص \ 24، 25.
(2) الأعلام العلية، ص \ 31، 32.
(3) ذيل طبقات الحنابلة، 4 \ 390.
(4) العقود الدرية، ص \ 311.(24/211)
دعوته للرجوع إلى الكتاب والسنة:
وقد نهج - رحمة الله عليه - النهج الذي عاد بالإسلام إلى عهد الصحابة في عقائده وأصوله وفروعه، وإذا استيقن أن ما يقوله هو ما كان عليه الصحابة، دافع عنه بالحجة والبرهان واستخدم في هذا السبيل كل ما أوتي من الأسباب العلمية، فأثار إعجاب كبار العلماء وأغضب المبتدعة، واحتسب الأجر، ونال الأذى في هذا السبيل.(24/211)
قال - رحمه الله -: (وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولا عاما، يعتمد مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء من سنته، دقيق ولا جليل، فإنهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (1) .
وقال: (وليس لأحد أن يعارض الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقول أحد من الناس، كما قال ابن عباس - رضي الله عنهما - لرجل سأله عن مسألة فأجابه فيها بحديث، فقال له: قال أبو بكر وعمر، فقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقولون قال أبو بكر وعمر!!) .
وقال: (ثم إننا مع العلم بأن التارك الموصوف معذور بل مأجور، لا يمنعنا أن نتبع الأحاديث الصحيحة التي لا نعلم لها معارضا يدفعها، وأن نعتقد وجوب العمل بها على الأمة، ووجوب تبليغها) (2) .
وقال - رحمه الله -: (قد ذم الله في القرآن من عدل عن اتباع الرسل إلى ما نشأ عليه من دين آبائه، وهذا هو التقليد الذي حرمه الله ورسوله، وهو أن يتبع غير الرسول فيما خالف فيه الرسول، وهذا حرام باتفاق المسلمين على كل أحد؛ فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والرسول طاعته فرض على كل أحد من الخاصة والعامة في كل وقت وكل مكان، في سره وعلانيته، وفي جميع أحواله) .
ثم ذكر - رحمه الله - الآيات التي تدل على أن اتباع الرسول من الإيمان، ثم قال: (وقد أوجب الله طاعة الرسول على جميع الناس في قريب من الأربعين موضعا من القرآن، وطاعته طاعة الله) ، إلى أن قال: (والمقصود هنا أن التقليد المحرم بالنص والإجماع، أن يعارض قول الله ورسوله بما يخالف ذلك، كائنا من كان المخالف لذلك) .
__________
(1) رفع الملام عن الأئمة الأعلام، ص \ 10.
(2) رفع الملام عن الأئمة الأعلام، ص \ 54، 68.(24/212)
وقال: (إن الله سبحانه لما ذكر حال من يقول على الله بلا علم بل تقليد السلف، ذكر حال من يكتم ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس في الكتاب، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) .
فهذا حال من كتم علم الرسول، وذلك حال من عدل عنها إلى خلافها، والعادل عنها إلى خلافها يدخل فيه من قلد أحدا من الأولين والآخرين فيما يعلم أنه خلاف قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - سواء كان صاحبا أو تابعا أو أحد الفقهاء أو غيرهم.
ومن ادعي إجماعا يخالف نص الرسول من غير نص، يكون موافقا لما يدعيه، واعتقد جواز مخالفة أهل الإجماع للرسول برأيهم، وأن الإجماع ينسخ النص، كما تقوله طائفة من أهل الكلام والرأي، فهذا من جنس هؤلاء.
وقال - رحمه الله -: (وكثير من الفقهاء المتأخرين أو أكثرهم يقولون: إنهم عاجزون عن تلقي جميع الأحكام الشرعية من جهة الرسول؛ فيجعلون نصوص أئمتهم بمنزلة نص الرسول ويقلدونهم، ولا ريب أن كثيرا من الناس يحتاج إلى تقليد العلماء في الأمور العارضة التي لا يستقل هو بمعرفتها، ومن سالكي طريق الإرادة والعبادة والفقر والتصوف من يجعل شيخه كذلك، بل قد يجعله كالمعصوم، ولا يتلقى سلوكه إلا عنه، ولا يتلقى عن الرسول سلوكه، مع أن تلقي السلوك عن الرسول أسهل من تلقي الفروع المتنازعة فيها، فإن السلوك هو بالطريق التي أمر الله بها ورسوله من الاعتقادات والعبادات والأخلاق، وهذا كله مبين في الكتاب والسنة، فإن هذا بمنزلة الغذاء الذي لا بد للمؤمن منه.
ولهذا جميع الصحابة يعلمون السلوك بدلالة الكتاب والسنة والتبليغ عن الرسول، ولا يحتاجون في ذلك إلى فقهاء الصحابة) إلى أن
__________
(1) سورة البقرة الآية 174(24/213)
قال: (ولكن كثيرا من أهل العبادة والزهادة أعرض عن طلب العلم النبوي الذي يعرف به طريق الله ورسوله، فاحتاج لذلك إلى تقليد شيخ، وفي السلوك مسائل تنازع فيها الشيوخ، لكن يوجد في الكتاب والسنة من النصوص الدالة على الصواب في ذلك ما يفهمه غالب السالكين، فمسائل السلوك من جنس مسائل العقائد، كلها منصوصة في الكتاب والسنة، وإنما اختلف أهل الكلام لما أعرضوا عن الكتاب والسنة، فلما دخلوا في البدع وقع الاختلاف، وهكذا طريق العبادة عامة ما يقع فيه من الاختلاف، إنما هو بسبب الإعراض عن الطريق المشروع، فيقعون في البدع؛ فيقع فيهم الخلاف، وهكذا الفقه، إنما وقع فيه الاختلاف لما خفي عليهم بيان صاحب الشرع) (1) .
وقال ابن رجب في طبقاته: (وبلغني من طريق صحيح عن ابن الزملكاني أنه سئل عن الشيخ - يعني ابن تيمية - فقال: لم ير من خمسمائة سنة - أو قال أربعمائة سنة، والشك من الناقل، وغالب ظنه أنه قال: من خمسمائة - أحفظ منه) (2) .
وقال ابن فضل الله العمري: (أخمل من القرناء كل عظيم، وأخمد من أهل البدع كل حديث وقديم، ولم يكن منهم إلا من يجفل عنه إجفال الظليم، ويتضاءل لديه تضاؤل الغريم) (3) .
وقال الحسن بن حبيب: (ابن تيمية بحر زاخر في النقليات، وحبر ماهر في حفظ عقائل العقليات، وإمام في معرفة الكتاب والسنة) (4) .
__________
(1) انظر مجموعة الرسائل الكمالية، '' فصل في التقليد '' لشيخ الإسلام ابن تيمية.
(2) الرد الوافر، ص \ 56.
(3) الرد الوافر، ص \ 96.
(4) الرد الوافر، ص \ 96.(24/214)
تجديده لمعالم الدين:
ذكر علماء الإسلام أن أهل الإيمان يمكن تقسيمهم إلى ثلاثة أنواع حسب مدارج الإيمان، ومراتب العلم والعمل الصالح: السابقون الأولون، ثم المقتصدون، ثم ضعفاء الطريق، وهذا الذي أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود قال: قال الرسول(24/214)
صلى الله عليه وسلم -: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له في أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل (1) » .
فقد أشير في هذا الحديث إلى الدرجات الإيمانية الثلاث، والحديث صريح في الدرجات الثلاث بالنسبة للذين يحاربون البدعة ويجاهدون ضد الذين يحاربون الدين وشريعته، ولكن الأمر ليس محصورا في الرد على المبتدعة فقط، بل هو سار في جميع ميادين العلم والعمل، ولكن المجال الأكبر والأوسع لهذا هو الدعوة إلى كتاب الله وسنة رسوله، وتبليغ دين الله إلى البشرية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومواجهة أعداء الله وأصحاب البدع.
والطبقة المثلى من الطبقات الثلاث والدرجة العليا من درجات الإيمان هم الذين اختارهم الله لإصلاح البشرية، ودعوة الشعوب والأقوام إلى الحق الذي لا مرية فيه، وهم الذين يستنيرون بنور النبوة، وينهجون منهج الأنبياء، ويسلكون السبيل الذي هو سبيل الحق والرشاد، وهم ورثة الأنبياء بكل ما تعني الكلمة من المعاني السامية.
ولكن هؤلاء العظماء لا يأتون في كل زمان، ولا يأتون إلا في عدد قليل، إنهم لا يأتون إلا ليصلحوا ما أفسده الناس في عصرهم، وما لم يستطع أن يصلحه كبار ذلك العصر وعلماؤه ومصلحوه ودعاته، إنهم لا يبالون بالعراقيل التي تواجههم في الطريق، ولا يخافون في الله لومة لائم، ولا يخضعون للمصائب والبلايا التي تريد أن تسد عليهم الطريق إلى الأمام، وهم لا يقفلون أبواب بيوتهم على أنفسهم خوفا من الشدائد وحفاظا على أنفسهم، زاعمين أن الفتن ادلهمت، والشرور
__________
(1) رواه مسلم، الإيمان، حديث رقم \ 80 والترمذي: الزهد، باب \ 39 والنسائي: البيعة، باب \ 33.(24/215)
واستولت على الأمور، فلا عليهم إلا أن يحموا أنفسهم من الشرور والفتن، إنهم يأتون في العصر المليء بالفتن والبدع والخرافات، العصر الذي يزعم فيه كبار العلماء أن الحق والدعوة إليه أن لا تتزلزل أقدامهم، وأن لا يقعوا فيما وقع فيه الناس، فيأتي ذلك المجدد الذي لا يبالي بأي شيء في سبيل الإصلاح، ويستقي من نور النبوة، ويتقدم لإصلاح معالم الدين التي أفسدها المفسدون من المبتدعة والملاحدة والمنطقيين والفلاسفة وأهل الأهواء والفرق الضالة، ويصعد في الدرجات العلى حتى يصل إلى المكان الذي لا يمكن أن يتصور الوصول إليه عظماء ذلك العصر.
ولقد كانت نهاية القرن السابع وبداية القرن الثامن الهجري عصرا مليئا بالأحداث السياسية والدينية والفكرية، الأمر الذي هز كيان الأمة الإسلامية، وأبعدها من المنابع الصافية للإسلام، وأشغلها بعقائد وأفكار لم تكن تمت إلى الإسلام بشيء.
دخلت الفلسفة والمنطق إلى حياة الأمة، وجعلت أفكار اليونان تأخذ مكان العقائد الإسلامية، وانعكست القضية حيث أصبح المسلمون في معزل عن الكتاب والسنة، فأخذ المسلمون يستنبطون عقائدهم من الفلسفة والمنطق، كما أخذوا يتغلغلون في القائق والتفريعات الفقهية، بعيدين عن الكتاب والسنة، وأصبح كل صاحب مذهب فقهي يفرح بما لديه من الآراء والأقيسة، ويشنع على الآخرين، واستولي الفكر المذهبي على أذهان الناس، حتى بات الحديث عن الكتاب والسنة حديثا غريبا، وصارت دعوة الرجوع إلى الكتاب والسنة دعوة شاذة، يؤذى صاحبها، ويبتر لسان المنادي بها، وهكذا تغيرت معالم الدين، وكاد أن ينطفئ - لا قدر الله - مشعل القرآن والسنة، لولا أن تداركت رحمة ربنا، فجاء الإمام الرباني شيخ الإسلام والمسلمين تقي الدين أحمد بن تيمية، وقد كانت البلاد الإسلامية بها آلاف من العلماء البارزين والدعاة والمصلحين، ولكن مرتبة العزيمة التي كانت تتطلب نفسا عالية، لم(24/216)
يتأصل لها غير شيخ الإسلام، فقد ذكر القاضي أبو البركات المخزومي أن بلاد الشام فقط كان بها سبعون مجتهدا، والتاريخ يشهد أن الأئمة والحفاظ والنقاد الذين وجدوا في ذلك العصر لم يوجدوا مجتمعين في عصر آخر، منهم: أبو الفتح بن سيد الناس الأشبيلي، وشمس الدين المقدسي، وأبو العلى الأنصاري السبكي، والقاضي الزملكاني، وأبو العباس بن عمر الواسطي، وأبو الفداء عماد الدين، والحافظ ابن قدامة المقدسي، والإمام برهان الدين الفزاري، والحافظ صلاح الدين البعلبكي، والشيخ صفي الدين البغدادي، والحافظ البرزالي الأشبيلي، وتقي الدين السبكي، والحافظ جمال الدين المزي، والإمام تقي الدين ابن دقيق العيد، والحافظ أبو عبد الله الذهبي، وغيرهم كثيرون من الذين ذكر حياتهم وسيرهم الحافظ الذهبي والحافظ ابن حجر العسقلاني في كتبهما.
وأخص منهم بالذكر الحافظ المزي، والحافظ البرزالي، وابن دقيق العيد والحافظ الذهبي، فقد كان كل منهم إماما في الحديث وعلومه، وخاصة الإمام الذهبي فإن أياديه على الأمة عظيمة، ولا يشاركه في هذه الأفضال إلا الحافظ ابن حجر العسقلاني، فقد حفظا على الأمة الإسلامية سنة رسولها، وضبطا ودونا ونقدا وجمعا أحوال الرواة وأخبارهم، وكشفا الصحيح والضعيف، وميزا بين المقبول والمردود، حتى أصبح العمل بالسنة سهلا ميسورا للمسلمين.
فإنه لا يخفى على من لديه إلمام بتاريخ السنة، أنها مرت بعهدين، العهد الأول عهد التدوين، والثاني عهد التنقيح والتمييز، وهما من فرسان العهد الأول بل من رواده، حتى أصبحت السنة وعلومها مدونة ومنقحة وسهلة ميسورة للعمل بها لكل من أراد التمسك بالكتاب والسنة.
ولكن هل تجد أحدا من هؤلاء العظماء استطاع أن يدرك غبار شيخ الإسلام - رحمة الله عليه -؟ الجواب: لا، فإن شيخ الإسلام فاق أقرانه وأهل عصره في جميع العلوم والفنون، ومع ذلك نال درجة لم ينلها غيره،(24/217)
وهي درجة العزيمة في الدعوة إلى الله، ورتبة تجديد معالم الدين، وإعادة الأمة إلى حظيرة الكتاب والسنة، حتى أجمع أهل عصره على القول بأنهم ما رأوا مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه، وقد مرت أقوال الأئمة في عصره للاعتراف بهذا (1) .
ولا بأس أن أذكر هاهنا ملخص ما ذكره الحافظ ابن كثير عما جرى للشيخ عماد الدين الواسطي، فقد ذكر، أن الواسطي هذا كان في أول الأمر من الفقهاء المتكلمين، وكان يغلب عليه الجدل والكلام والرأي، فلما انتقل من مصر إلى بغداد والتقى بأهلها وعلمائها، وتوسعت مداركه، وحاسب نفسه وجدها فارغة عن الطمأنينة؛ فترك سبيل الفقهاء والمتكلمين واتجه إلى التصوف واقترب من المتصوفة، فلما رأى ما رأى عندهم من الغرائب، تكدر طبعه وقرر السفر إلى دمشق، وحضر مجلس شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان الدرس الأول عن المتكلمين والفلاسفة وعن فقدهم طمأنينة القلب، وأن مشاهيرهم اعترفوا بهذا، وشهدوا على أنفسهم بالاضطراب والحيرة اللذين سببهما الكلام والفلاسفة في قلوبهم، فقالوا:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر ... على ذقن أو قارعا سن نادم
أو قالوا:
نهاية أرباب العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
يقول الشيخ عماد الدين ما معناه: إن شيخ الإسلام استمر في كلامه وأوضح أن الدواء الناجع لأمراض القلب، والسبب الوحيد لنيل طمأنينته، هو التمسك بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فانقشع الظلام، وزالت الحيرة، ووجدت نور الحقيقة الذي كنت حيران من أجله.
__________
(1) انظر بحث الشيخ محمد داود الغزنوي بالأردية.(24/218)
قال: فلما اطلع شيخ الإسلام على أحوالي أوصاني بقراءة السيرة النبوية؛ فإنها الوصفة الكافية الشافية من جميع أمراض القلوب (1) .
أقول: وهل تعني السيرة النبوية إلا سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهل السنة إلا تفسير لكتاب الله؟ فتبين بذلك أن شيخ الإسلام أوضح للواسطي ولغيره أنه لا نجاة للأمة الإسلامية من جميع أمراضها إلا في اتباع كتاب الله وسنة رسوله، وهذا عين تجديد معالم الدين ودعوة الرجوع إلى الكتاب والسنة (2) وقد اعترف الشيخ ولي الله الدهلوي لشيخ الإسلام بجميع تلك المزايا والأوصاف التي أهلته ليكون مجددا لمعالم الدين ومحييا للكتاب والسنة.
فقد قال - رحمه الله -:
(وعلى هذا الأصل اعتقدنا في شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - فإنا قد تحققنا من حاله أنه عالم بكتاب الله ومعانيه اللغوية والشرعية، وحافظ لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآثار السلف، عارف لمعانيهما اللغوية والشرعية، أستاذ في النحو واللغة، محرر لمذهب الحنابلة وفروعه وأصوله، فائق في الذكاء، ذو لسان وبلاغة في الذب عن عقيدة أهل السنة، لم يؤثر عنه فسق ولا بدعة، اللهم إلا هذه الأمور التي ضيق عليه لأجلها، وليس شيء منها إلا ومعه دليله من الكتاب والسنة، فمثل هذا الشيخ عزيز الوجود في العلم، أو من يطيق أن يلحق شأوه في تحريره وحديثه، والذين ضيقوا عليه ما بلغوا معشار ما آتاه الله تعالى، وإن كان تضييقه ذلك ناشئا عن اجتهاد، ومشاجرة العلماء في مثل ذلك ما هي إلا كمشاجرة الصحابة - رضي الله عنهم - فيما بينهم، والواجب في ذلك كف اللسان إلا بخير (3) .
__________
(1) انظر بحث الشيخ محمد داود الغزنوي بالأردية، ص 233-235.
(2) انظر العقود الدرية، ص \ 311، 312.
(3) انظر جلاء العينين في محاكمة الأحمدين، ص 46.(24/219)
محاربته للعقائد والأفكار المضادة للكتاب والسنة:
لا يخفى على كل من لديه معرفة بالكتاب والسنة أنهما شملا بيان العقائد والشرائع وجميع ما يحتاج إليه الإنسان في حياته الفردية والاجتماعية، ولكن جدت في الإسلام فتن وأحداث سياسية كبرى ووجدت مذاهب وأفكار اصطبغت بصبغة الدين، كما ظهرت فرق جديدة مثل الخوارج والشيعة والمرجئة وغيرت معالم الدين، واشتدت هذه الفتن ونشطت الفرق الضالة في عصر شيخ الإسلام، وكادت أن تغطي على حقائق الإسلام وصدقه وبهائه، فجاء شيخ الإسلام ليرد إلى الإسلام نضارته، ويدحض الباطل، ويكشف زيغ الفرق الباطلة التي أرادت أن تشوه العقائد الأساسية للإسلام وشريعته السمحاء، وهاجم جميع الفرق والمذاهب المنحرفة عن الكتاب والسنة القائمة في عصره.
واختص الأشعرية من ذلك بالنصيب الأوفر، كما أنه ناقش مناهج الفلاسفة والمتكلمين في بحث الشئون الإلهية ونقدها، وبين أن المناهج التي سلكها هؤلاء وأولئك، كانت بعيدة كل البعد عن الصواب، وأنهم أبعد الناس عن معرفة الأمور الإلهية، وأن أكثر كلامهم فيها خبط وتخليط؛ لأنهم لم يستضيئوا بنور النبوة، فمزجوا الحق الذي أخذوه من الدين بالباطل الذي بنوه على أصولهم الفلسفية الفاسدة، وحاولوا التوفيق بين الدين والفلسفة على حساب الدين، فعمدوا إلى النصوص فأولوها بتأويلات بعيدة ومتكلفة حتى تتلاءم مع قواعدهم الفلسفية.
وهكذا الأشاعرة المتأخرون لجأوا إلى التأويل في الصفات الخبرية كغيرهم من الفلاسفة والمعتزلة، وخلاصة القول عن الفرق الثلاث - أعني الفلاسفة والمعتزلة والأشعرية عند ابن تيمية - أن مناهجهم في العقيدة بعيدة عن الحق؛ لأنهم جميعا سلموا بقضية عامة، وهي أنه إذا تعارض العقل والنقل، وجب تقديم العقل، فحكموا عقولهم في مسائل العقيدة(24/220)
وتلاعبوا بالنصوص، فإذا كانت ثابتة بحيث لا يمكن ردها جعلوها من التشابه، وإلا بادروا إلى إنكارها.
ولكن الأشاعرة في نظره خير من المعتزلة ومن عداهم من سائر الفرق الأخرى؛ لأنهم يوافقون السلف في كثير من المسائل، كما أنهم ردوا على بدع المعتزلة والجهمية والرافضة، وبينوا كثيرا من تناقضاتهم وعظموا الحديث والسنة ومذهب الجماعة (1) .
وقد تصدى لبيان اتجاهه المبني على الكتاب والسنة في العقيدة والأسماء والصفات والتمسك بالكتاب والسنة في مقدمة كتابه الحموية، وأوضح فكرته بكل تفصيل، ومما قال فيها: (من المحال أيضا أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علم أمته كل شيء حتى الخراءة، وقال: «تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك (2) » ، وقال فيما صح عنه أيضا، «ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم (3) » . .
وقال أبو ذر: «لقد توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما (4) » .
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقاما، فذكر بدء الخلق، حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه (5) » . رواه البخاري، محال مع هذا ومع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين وإن دق، أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، ويعتقدون بقلوبهم في ربهم ومعبودهم، رب العالمين) إلى أن قال: (إن هؤلاء المبتدعة الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة، ومن حذا حذوهم على طريق السلف، إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد
__________
(1) انظر منهاج السنة 1 \ 123.
(2) سنن ابن ماجه المقدمة (44) .
(3) صحيح مسلم الإمارة (1844) ، سنن النسائي البيعة (4191) ، سنن ابن ماجه الفتن (3956) ، مسند أحمد بن حنبل (2/191) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (5/153) .
(5) صحيح البخاري بدء الخلق (3192) ، سنن الترمذي المناقب (3951) ، مسند أحمد بن حنبل (4/426) .(24/221)
الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك، بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} (1) .
ومن أحسن ما قرأت في بيان قوة شيخ الإسلام في هذا الجانب، هو ما كتبه تلميذه أبو حفص البزار، فقد قال - رحمة الله عليه -: (وأما ما خصه الله تعالى به من معارضة أهل البدع في بدعتهم، وأهل الأهواء في أهوائهم، وما ألفه في ذلك من دحض أقوالهم، وتزييف أمثالهم وأشكالهم، وإظهار عوارهم وانتحالهم وتبديد شملهم، وقطع أوصالهم، وأجوبته عن شبههم الشيطانية، ومعارضتهم النفسانية للشريعة الحنيفية المحمدية، بما منحه الله تعالى من البصائر الرحمانية والدلائل النقلية، والتوضيحات العقلية، حتى انكشف قناع الحق، وبان فيما جمعه في ذلك وألفه الكذب من الصدق، حتى لو أن أصحابها أحياء ووفقوا لغير الشقاء، لأذعنوا له بالتصديق ودخلوا في الدين العتيق) .
ثم قال: (حدثني غير واحد من العلماء الفضلاء النبلاء الممعنين بالخوض في أقاويل المتكلمين لإصابة الصواب وتمييز القشر من اللباب، أن كلا منهم لم يزل حائرا في تجاذب أقوال الأصوليين ومعقولاتهم، وأنه لم يستقر في قلبه منه قول، ولم يبين له من مضمونها حق، بل رآها كلها موقعة في الحيرة والتضليل، وجلها مذعن بتكافؤ الأدلة والتعليل، وأنه كان خائفا على نفسه، حتى من الله تعالى عليه بمطالعته مؤلفات هذا الإمام أحمد بن تيمية شيخ الإسلام مما أورده من النقليات والعقليات في هذا النظام، فما هو إلا أن وقف عليها وفحصها فرآها موافقة للعقل السليم وعلمها، حتى انجلى ما كان قد غشيه من أحوال المتكلمين من الظلام، وزال عنه ما خاف أن يقع فيه من الشك وظفر بالمرام) (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 78
(2) الأعلام العلية، ص \ 32 - 33.(24/222)
محاربته للتصوف الزائف:
لا شك عند المسلم الصحيح العقيدة أن أي أمر وأي سلوك، إن لم يكن موافقا للشريعة فهو ضلال، وصاحبه ضال ومائل عن الطريق السوي؛ لذلك لم يكن يتوقع من شيخ الإسلام إلا كشف زيغ الصوفية الضلال الذي أغووا الأمة وأضلوها، وجاءوا بعقائد وأعمال وأفكار وأخيلة لا تمت إلى الإسلام بصلة، ولا يخفى على اللبيب أن كلامي لا يشمل السلوك الثابت في القرآن والسنة، إنما الكلام عن الضلال والغواية والكفر والفساد التي جاء بها الصوفية الضلال الذين عادوا القرآن والسنة حينا جهارا وآخر سرا، وعكسوا القضية حيث نبذوا الإسلام الصحيح وأدخلوا فيه كل ما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لمحاربته، ومن تلك الأباطيل والضلالات تنسك الهنود، وعقيدة الحلول والاتحاد، ومذهب وحدة الوجود، وتقسيم الدين إلى الظاهر والباطن، وفتنة الرموز والأسرار، والعلم الدفين، وسقوط التكاليف الشرعية عن الكاملين والواصلين، واستثناؤهم عن الأحكام الشرعية، فقد كانت هذه الأفكار والمعتقدات دخلت فيما سمي بالتصوف.
وكانت الفتنة قد استفحلت في القرنين السابع والثامن، فجاء هذا المجدد العظيم الذي تناول هذه الفئة الباغية على دين الله بهدم كيانها وكشف قناعها، حتى تعرت حقائقها لكل راء ومستمع، إن هؤلاء الصوفية قالوا: بجواز حلول الله في الآدميين، وأظهر من قال بهذا هو الحلاج، ثم جاء ابن عربي فحكم بوحدة الوجود، وأن الوجود واحد تعددت صوره وأشكاله، وأن المخلوق يتحد مع الخالق من حيث المحبة والشوق؛ فيتصل بالله ويعلو إليه، فيكون في درجة فناء ذاته الفانية في ذات الله الباقية، وقد جاءت هذه الفكرة في شعر عمر بن الفارض، الذي أمعن شيخ الإسلام في نقده.(24/223)
وقد ذكر شيخ الإسلام أن ابن عربي ادعى أن أصحاب النار يتنعمون في النار كما يتنعم أهل الجنة في الجنة، وأنه يسمى عذابا من عذوبة طعمه، وهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام (1) .
وقد تكلم طائفة من التصوف في تحقيق التوحيد، فزعموا أن توحيد الربوبية هو الغاية والفناء فيه هو النهاية، وأنه إذا شهد ذلك سقط عن استحسان الحسن واستقباح القبيح، فآل بهم الأمر إلى تعطيل الأمر والنهي، والوعد والوعيد.
وقد حكم عليهم شيخ الإسلام فقال: هذه هو الكفر الصريح. وقد رد على القائلين بوحدة الوجود والحلول والاتحاد فقال: يقول عارفهم: السالك في أول أمره يفرق بين الطاعة والمعصية، أي نظرا إلى الأمر، ثم يرى طاعة بلا معصية، أي نظرا إلى القدر، ثم لا طاعة ولا معصية نظرا إلى أن الوجود واحد.
ثم رد عليهم فقال: (صفات الله توجب مباينة لمخلوقاته، وأنه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2) .
وقد زعم ابن عربي: أن الولاية أساس المرتبة الروحية كلها، وأن النبوة والرسالة تنقطعان؛ لأنهما مقيدتان بالزمان والمكان، أما الولاية فلا تنقطع أبدا؛ لأن المعرفة الكاملة بالله لا تنقطع ولا تحد بزمان أو مكان، كما أن العلم الشرعي يوحى به إلى الرسول على لسان الملك، أما العلم الباطني عند الولي فهو إرث يرثه من منبع الفيض الروحي جميعه.
وقد رد عليه شيخ الإسلام لكون هذه العقيدة خطرا يهدد كيان الإسلام، ولكونها مخالفة للعقل والشرع، وهي بينة الضلال والكفر؛ لأنها تحرر عن الدين والشريعة والعقيدة التي جاء به الرسل جميعا، وخروج على الله، وبغي وفساد في الأرض (3) .
__________
(1) الصفدية، ص 244 - 247.
(2) سورة الإخلاص الآية 1
(3) الصفدية، ص 244 - 248 والفتاوى 2 \ 219 - 228.(24/224)
ولا أريد استقصاء جميع أباطيل الصوفية ورد شيخ الإسلام عليها، إنما أردت عرض بعض النماذج من أفكارهم وخطورتها على الإسلام والمسلمين، حتى يتبين لنا الأسباب الحقيقية لاهتمام شيخ الإسلام بتتبع تلك الضلالات والرد عليها، فشن عليهم حربا شعواء أقضت مضاجعهم، وناقش أقوالهم مناقشة العارف لها، الفاحص لدقائقها العارف لأسرارها.
ومن أعظم ما ألف شيخ الإسلام في هذا الخصوص هو كتابه " الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " فقد فصل فيه القول في الولاية الرحمانية وبيان صفاتها من الكتاب والسنة، وأقوال السلف الصالح، وفرق بين ذلك وبين الولاية الشيطانية الصوفية التي تعتمد على الشعوذات والدجل والكذب وأكل أموال الناس بالباطل، والسماع والغناء والرقص والبدع المنكرة في الدين، والتظاهر بالصلاح والتقوى.
ولقد أجاد شيخ الإسلام أيما إجادة في بيان الكرامة الرحمانية التي هي حق لولي الله، والكرامة الشيطانية التي تجري أحيانا على أيدي هؤلاء كتظاهرهم بالدخول في النيران، وزعموا أنها لا تضرهم، وحملهم الحيات والثعابين، أو ضربهم أنفسهم بالسيوف والسهام، وغير ذلك من أنواع المخاريق التي يزعمون أنها من كراماتهم.
وقد قام شيخ الإسلام بتحدي هؤلاء الصوفية الذين يزعمون هذه الكرامات، وأنه يدخل معهم النار التي يزعمون دخولها، وأنها تحرقهم إن شاء الله ولا تحرقه، شريطة أن يغسلوا أنفسهم أولا بالخل، وذلك لإزالة دهن الضفادع الذي يدهنون به أنفسهم حتى لا تؤثر فيهم النار، فلما كشف حيلهم وتحداهم، وكان ذلك بمحضر السلطان تراجعوا من ذلك وظهر كذبهم ومخاريقهم (1) .
__________
(1) العقود الدرية، ص194، 195، والفتاوى الكبرى، ص \ 445 - 476.(24/225)
استقلاله في أخذ الفقه من الكتاب والسنة:
لا يفوتني أن أوضح نقطة هامة في حياة شيخ الإسلام، وهي استقلاله الفكري وقدرته الاجتهادية المطلقة للاستفادة من كتاب الله(24/225)
وسنة رسوله، فقد وجد في عصره من اشتهروا بالذكاء والذاكرة والتبحر العلمي، ولكنهم كانوا أتباعا للأئمة السابقين ومذاهبهم الفقهية، ولم يقدر أحد منهم أن يستقل بآرائه ويتجرأ على الجهر باختياراته ما دام الكتاب والسنة يؤيدانها، أما شيخ الإسلام فقد درس كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وآثار السلف الصالح بكل شمولية وعمق، ثم اختار ما ترجح بالكتاب والسنة، وجهر به دون أن يبالي بالذي قاله خلافه من الأئمة السابقين، فهو تابع الدليل يدور معه حيثما دار.
وهذا الذي أشار إليه تلميذه أبو حفص البزار عندما قال: (كان لا يذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ويصلي ويسلم، ولا والله ما رأيت أحدا أشد تعظيما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحرص على اتباعه ونصر ما جاء به منه، حتى إذا كان أورد شيئا من حديثه في مسألة، ويرى أنه لم ينسخه شيء غيره من حديثه يعمل به ويقضي بمقتضاه، ولا يلتفت إلى قول غيره من المخلوقين كائنا من كان، وقال - رضي الله عنه -: (كل قائل إنما يحتج لقوله لا به، إلا الله ورسوله) (1) .
وقال ابن الوردي: (له باع طويل في معرفة مذاهب الصحابة والتابعين، قل أن يتكلم في مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب الأربعة، وقد خالف الأربعة في مسائل معروفة، وصنف فيها واحتج لها بالكتاب والسنة) . ثم قال: (وبقي سنين، لا يفتي بمذهب معين، بل بما قام الدليل عليه عنده، ولقد نصر السنة المحضة، واحتج لها ببراهين ومقدمات وأمور لم يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون، وهابوا وجسر هو عليها، حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قياما لا مزيد عليه، وبدعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق المر الذي أدى إليه اجتهاده وحدة ذهنه، وسعة دائرته في السنن والأقوال) (2) .
__________
(1) الأعلام العلية، ص \ 29.
(2) تاريخ ابن الوردي 2 \ 406، 413.(24/226)
وكتب الحافظ ابن كثير عن شيخ الإسلام فقال: (ثم إن الشيخ بعد وصوله إلى دمشق واستقراره بها لم يزل ملازما لاشتغال الناس في سائر العلوم ونشر العلم، وتصنيف الكتب وإفتاء الناس بالكلام، والكتابة المطولة والاجتهاد في الأحكام الشرعية، ففي بعض الأحكام يفتي بما أدى إليه اجتهاده من موافقة أئمة المذاهب الأربعة، وفي بعضها يفتي بخلافهم وبخلاف المشهور في مذاهبهم، وله اختيارات كثيرة في مجلدات عديدة أفتى بما أدى إليه اجتهاده، واستدل على ذلك من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والسلف) (1) .
وهناك أقوال كثيرة أخرى لأئمة عصره، اعترفوا له فيها بالإمامة والاستقلال الفكري والتبحر العلمي، وتفوقه بدرجات كثيرة على معاصريه في علوم القرآن والسنة والشروط التي يجب توافرها للاجتهاد، ولذلك رغم اعترافه الصريح بعلو مكانة الأئمة الأربعة، وحسن اجتهادهم وتفوقهم العلمي على كثير من الأئمة، جاهر بأن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم، وخالف تلك المذاهب الفقهية في كثير من المسائل اتباعا لنصوص الكتاب والسنة، ولم يبال من هو هذا الشخص الذي يخالفه، ما دامت الأدلة من الكتاب والسنة تؤيده.
فهو من أصحاب الاجتهاد المطلق الذي لم ينتسب لمذهب من المذاهب، ولا ينقض هذا القول بما ذكره بعض الناس من استمساكه بالمذهب الحنبلي في أكثر أدواره، وفي أكثر آرائه، وإعلانه أن المذهب الحنبلي خير المذاهب؛ لأن هذا يدل على أن شمولية علم شيخ الإسلام للكتاب والسنة أوصلته إلى معرفة أن المذهب الحنبلي هو خير المذاهب؛ لأن دليله على هذا هو إثبات أن المذهب الحنبلي أقرب المذاهب إلى السنة.
ولا يعني كونه مجتهدا مطلقا أن يخالف الأئمة الأربعة في أكثر المسائل؛ لأن هذا يستدعي إلى القول بأحد الأمرين، إما أن تلك المذاهب غير مؤسسة على القرآن والسنة؛ لأن شيخ الإسلام يمشي مع الدليل
__________
(1) البداية والنهاية، 14 \ 67.(24/227)
من الكتاب والسنة حيثما أوجده، أو أن يكون شيخ الإسلام لم يكتمل فيه شروط الاجتهاد، ومن أهمها استيعاب القرآن والسنة، حتى خالف الأئمة الأربعة على غير بصيرة، وهذا لم يقله أحد، فترجيحه لرأي من الآراء حسب الدليل لا يعني ألبتة أنه مقلد للإمام الذي قال بذلك القول قبل شيخ الإسلام، أو أنه مجتهد منتسب من مجتهدي الحنابلة، فقد اختار من المسائل في الفقه بالدليل، ووافق ما وافق فيه من المسائل لأحد الأئمة الأربعة بالحجة والبرهان.
ومن هذا القبيل رأيه - رحمه الله - في يمين الطلاق، وفيمن طلق زوجته ثلاثا بلفظة واحدة، وكلامه في التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته.
فاختياراته في هذه المسائل وفي غيرها لم تكن إلا مدعمة بالأدلة الواضحة الصريحة من الكتاب والسنة، ولا يسع هذا المقام لذكر التفاصيل لتلك الاختيارات وأدلتها، ولكن الذي لا مرية فيه، أنه رحمه الله كان متبعا للدليل من الكتاب والسنة، وقد علمنا فيما مضى من هو شيخ الإسلام، وما مكانته في معرفة الكتاب والسنة، فإنه لم يشق غباره في هذا الأمر، ولم يكن شاذا في اختياراته؛ فقد قالها الصحابة والأئمة من قبله، فليرجع إلى كتبه - رحمه الله - والكتب الحديثية من أراد التفصيل والاطلاع على تلك الأدلة (1) .
__________
(1) انظر جلاء العينين، ص222، 224، 232، 511.(24/228)
المحن التي ابتلي بها:
لقد خاض شيخ الإسلام معارك ضارية مع معاصريه في منازعات عقائدية وفكرية، فكثر أعداؤه من شتى الطوائف، فكان له خصوم من الصوفية الذين حارب شيخ الإسلام تواكلهم وغلوهم في الزهد، وخروجهم عن منهج الكتاب والسنة، ومن المتكلمين الذين كره تأثرهم بمصادر أجنبية، وإدخالهم في العقيدة الإسلامية من الضلالات التي لا تمت إليها بصلة، ومن الفقهاء الذين جمد تفكيرهم، وركنوا إلى التقليد الجامد، وقفلوا في وجوههم أبواب الكتاب والسنة.(24/228)
تآمر الأعداء والخصوم على شيخ الإسلام فلفقوا له التهم الكاذبة، ولكن إيمانه العميق بالله أمده بصبر شديد على ما ابتلي به من المحن، ومنعه من التدريس والإفتاء وسجنه، فلا يكاد يخرج من السجن إلا ويعود إليه، فقضى سنوات طويلة معاقبا بالحبس في سجون دمشق والقاهرة والإسكندرية، ولم يرحمه أعداؤه حتى في شيخوخته، فلفظ أنفاسه الأخيرة في سجنه بقلعة دمشق، رحمه لله رحمة واسعة، وجزاه بما يجزي به عباده الصالحين البررة المجاهدين في سبيله.(24/229)
زهده في الدنيا ومكارم أخلاقه:
كان - رحمة الله عليه - سيفا مسلولا على المخالفين لدين الله - كما عرفنا - وشجا في حلوق أهل الأهواء والمبتدعة، وإماما قائما ببيان الحق ونصرة الدين، طنت بذكره الأمصار، وضنت بمثله الأعصار، كما قال ابن شاكر الكتبي: (لذا نعته أعداء السنة والمبتدعة بالخشونة ومساوئ الأخلاق، وأنه كان فظا غليظ القلب، لم تطرق الرحمة أبواب قلبه) .
ولا يكون البهت أشنع من هذا، ولا عداوة أشد من هذه العداوة، إذ قلبوا الحقيقة وجعلوا من رجل كله خلق كريم شخصا غليظ القلب سيئ الأخلاق، فلنقرأ ما كتبه ثقات عصره:
قال ابن شاكر: (حج سنة إحدى وتسعين وله ثلاثون سنة، ورجع وقد انتهت إليه الإمامة في العلم والعمل، والزهد والورع، والشجاعة والكرم، والتواضع والحلم، والأناة والعفة، والصيانة وحسن القصد، والإخلاص والابتهال إلى الله، وشدة الخوف منه ودوام المراقبة له، والتمسك بالأثر والدعاء إلى الله تعالى، وحسن الأخلاق ونفع الخلق والإحسان إليهم) (1) .
__________
(1) الوافي بالوفيات، نقلا من كتاب المنجد، ص58.(24/229)
وقال الذهبي: (ما رأيت في هذا العالم أكرم منه، ولا أفرغ منه عن الدنيا والدرهم، لا يذكره، ولا أظنه يدور في ذهنه، وفيه مروءة، وقيام مع أصحابه، وسعي في مصالحهم، وهو فقير لا مال له) (1) .
ونقل الصفدي في الوافي بالوفيات عن الذهبي: (هذا مع ما كان عليه من الكرم الذي لم أشاهد مثله قط، والشجاعة المفرطة، والفراغ عن ملاذ النفس: من اللباس الجميل والمأكل الطيب والراحة الدنيوية) (2) .
وقال الذهبي في ذيل العبر: (وكان رأسا في الكرم والشجاعة، قانعا باليسير) (3) .
وقال الصفدي في أعيان العصر: (هذا إلى كرم يضحك البرق منه على غمامه، وجود ما يصلح حاتم أن يكون في فص خاتمه، وشجاعة يفر منها قسورة، وإقدام يتأخر منه عنترة) (4) .
وقال ابن الوردي: (وكان معظما لحرمات الله، دائم الابتهال، كثير الاستعانة، قوي التوكل، ثابت الجأش، له أوراد وأذكار يديمها، وله من الطرف الآخر محبون من العلماء والصلحاء والجند والأمراء والتجار والكبراء وسائر العامة) (5) .
وقال أبو حفص البزار: (ما رأيناه يذكر شيئا من ملاذ الدنيا ونعيمها، ولا كان يخوض في شيء من حديثها، ولا يسأل عن شيء من معيشتها، بل جعل همه وحديثه في طلب الآخرة، وبالقرب إلى الله) .
وقد عرض عليه قضاء القضاة ومشيخة الشيوخ، فلم يقبل (6) .
وهو ذو القلب الكبير الذي كان يفيض رحمة وعطفا ورقة حتى على خصومه الذين كادوا له، وسعوا في إيذائه وأرادوا به سوءا، فلما
__________
(1) الذيل على طبقات الحنابلة، 4 \ 395.
(2) شيخ الإسلام ابن تيمية، للمنجد، ص \ 27.
(3) ذيول العبر للذهبي، \ 84.
(4) شيخ الإسلام ابن تيمية، للمنجد، ص51.
(5) تاريخ ابن الوردي 2 \ 406.
(6) ترجمة شيخ الإسلام، محمد كرد علي، ص11.(24/230)
قدر عليهم وأصبحوا في قبضة يده الحانية، قال لهم: لا تثريب عليكم يغفر الله لي ولكم.
ومن أحسن ما ورد في هذا، هو الحوار الذي دار بين شيخ الإسلام والسلطان الناصر، فقد أعطى السلطان الخيار الكامل لشيخ الإسلام ليفعل ما يريد في أعدائه الذين آذوه وتسببوا في سجنه وحبسه فعفا عنهم جميعا، وقد ألح عليه السلطان أن يأخذ ثأره من أعدائه، فأصر شيخ الإسلام على العفو.
وقد ذكر القصة الحافظ ابن كثير والحافظ ابن عبد الهادي، وجدير لكل من أراد أن يعرف مدى سمو النفس عند شيخ الإسلام أن يقرأ القصة بكل تفاصيلها عند المؤرخين المذكورين (1) .
__________
(1) البداية والنهاية 14 \ 53 - 55، والعقود الدرية، ص278.(24/231)
وفاته - رحمة الله عليه -:
ذكر المؤرخون: أن الشيخ لما سجن في مصر بحبس القضاة بحارة الديلم، صار الحبس بالاشتغال بالعلم والدين خيرا من كثير من الزوايا والربط والخوانق والمدراس، وصار خلق من المحابيس إذا أطلقوا يختارون الإقامة عنده، وكثر المترددون إليه حتى صار السجن يمتلئ منهم (1) .
وقد ذكر ابن الدردي وغيره: (أنه ورد مرسوم السلطان بسجنه بقلعة دمشق، فأقام فيها ومعه أخوه يخدمه، وأقبل في هذه المدة على العبادة والتلاوة وتصنيف الكتب والرد على المخالفين، وكتب على تفسير القرآن الكريم جملة كبيرة، وظهر بعض ما كتبه واشتهر، وآل الأمر إلى أن منع من الكتابة والمطالعة، وأخرجوا ما عنده من الكتب، ولم يتركوا داوة ولا قلما ولا ورقة، وكتب عقيب ذلك بفحم يقول: إن إخراج الكتب من عنده من أعظم النعم، وبقي أشهرا على ذلك، وأقبل على التلاوة والعبادة والتهجد.
__________
(1) انظر حياة شيخ الإسلام للبيطار، ص \ 26.(24/231)
ومما قال وهو في حبسه: ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري أين رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وقال: المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه (1) وقال ابن القيم وهو يصف حالته في السجن: وعلم الله ما رأيت أحدا أطيب عيشا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعم بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرجاف، وهو مع ذلك أطيب الناس عيشا، وأشرحهم صدرا، وأقواهم قلبا، وأسرهم نفسا، تلوح نضرة النعيم على وجهه (2) .
مرض رحمه الله أياما يسيرة، وتوفي في ليلة الاثنين والعشرين من ذي القعدة، وغسل وكفن وأخرج وصلي عليه أولا بالقلعة، ثم صلي عليه بجامع دمشق عقيب صلاة الظهر، لم يتخلف أحد من الناس فيما قالوا غير أنفس كانوا قد اشتهروا بمعاندته، فاختفوا من الناس خوفا على أنفسهم، ولم ير لجنازة أحد ما رئي لجنازته من الوقار والهيبة والعظمة والجلالة، وتعظيم الناس لها، وتوقيرهم إياها.
ودفن في ذلك اليوم، رثاه كثير من الفضلاء بقصائد متعددة، وتناوب الناس قبره للصلاة عليه من القرى والأطراف والأماكن والبلاد، وصلي عليه في أرض مصر والشام والعراق وتبريز والبصرة وقراها وغيرها (3) .
جزاه الله خيرا عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء، ورزقنا وكافة المسلمين الحياة والموت على الكتاب والسنة حتى نلقاه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
محمد لقمان السلفي
__________
(1) ذيل طبقات الحنابلة 4 \ 402.
(2) ذيل طبقات الحنابلة 4 \ 402 - 403.
(3) تذكرة الحفاظ، ص \ 1496، 1497 والعقود الدرية، ص \ 361، 362، 370، 371.(24/232)
صفحة فارغة(24/233)
أسس اختيار الزوجة
بقلم: مصطفى عيد الصياصنة
إن الإعداد لتكوين الأسرة المسلمة يرجع إلى حقبة السنوات السابقة على إعلان مراسم الزواج، فبمقدار ما يكون كل من الزوجين قد نشئ على الفهم الواعي لمبادئ الإسلام، وربي على تطبيقه لفضائله الرفيعة وآدابه، بمقدار ما يكتب لزواجهما النجاح، ولكيان أسرتهما المرتقب السداد والفلاح، ومن هنا ألح الإسلام على الخاطب ضرورة إعمال أقصى درجات التثبت والتحقق والتحري في اختيار شريكة العمر ورفيقة الدرب، وجعل لذلك أسسا ينبغي على كل مسلم أن يلتزمها - جهد استطاعته - ليضمن لكيانه الجديد أن يبنى على الصلاح والتقوى، وليظفر بالتالي برضوان الله وسعادة الدنيا والآخرة.
ولعل أهم الأسس التي ينبغي مراعاتها في اختيار الزوجة ما يلي:(24/235)
اجتناب المحرمات:
1 - أن لا تكون محرمة حرمة أبدية أو مؤقتة:
وهو أول ما ينبغي أن يضعه المسلم في اعتباره، حين التفكير بالإقدام على اختيار زوجة له.
أولا: والتحريم المؤبد: يمنع المرأة أن تكون زوجة للرجل في جميع الأوقات، وهو إما أن يكون بسبب النسب، أو المصاهرة، أو الرضاع، قال تعالى:(24/235)
{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} (1) {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} (2) .
1 - أوضحت الآية أن المحرمات من النسب سبع: الأمهات، البنات، الأخوات، العمات، الخالات، بنات الأخ، وبنات الأخت.
2 - وأن المحرمات بسبب المصاهرة (أي القرابة الناشئة بسبب الزواج) أربع:
أ - أم الزوجة، وكذا أم أمها، وأم أبيها، وإن علت {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} (3)
ب - ابنة الزوجة المدخول بها، وكذا بنات بناتها، وبنات أبنائها، وإن نزلن، {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} (4)
ج - زوجة الابن وابن الابن، وابن البنت، وإن نزل، {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} (5) والحليلة: الزوجة.
د - زوجة الأب، بمجرد عقد الأب عليها وإن لم يدخل بها، {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (6)
3 - وأما المحرمات بسبب الرضاع فسبع، كالمحرمات من النسب، للحديث الذي روته عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
__________
(1) سورة النساء الآية 22
(2) سورة النساء الآية 23
(3) سورة النساء الآية 23
(4) سورة النساء الآية 23
(5) سورة النساء الآية 23
(6) سورة النساء الآية 22(24/236)
«يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب (1) » وهن:
1 - المرأة المرضعة، باعتبارها أما.
2 - أم المرضعة باعتبارها جدة.
3 - أم زوج المرضعة صاحب اللبن؛ لأنها جدة أيضا.
4 - أخت المرضعة، باعتبارها خالة.
5 - أخت زوجها، باعتبارها عمة.
6 - بنات بنيها وبناتها، باعتبارهن بنات إخوته وأخواته.
7 - الأخت، سواء كانت أختا لأب وأم، (وهي التي أرضعتها الأم بلبان الأب نفسه - سواء أرضعت مع الطفل الرضيع أو رضعت قبله أو بعده) أو أختا لأم، (وهي التي أرضعتها الأم بلبان رجل آخر) أو أختا لأب (التي أرضعتها زوجة الأب) .
(ومن المعلوم أن العدد المقتضي للحرمة من الرضعات خمس، لقول عائشة - رضي الله عنها -: «كان فيما أنزل من القرآن: "عشر رضعات معلومات يحرمن" ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي فيما يقرأ من القرآن (2) » .
والرضاع المحرم للزواج ما كان خلال الحولين الأولين من عمر الطفل، أما إذا كان بعد الحولين فلا اعتبار له؛ لأن الرضيع في هذه المدة يكون صغيرا يكفيه اللبن، وبه ينبت لحمه، وينشز عظمه، فيصير جزءا من
__________
(1) رواه أبو داود (2055) في النكاح، ما يحرم من الرضاعة، والترمذي (1146) في الرضاع، ما جاء يحرم من الرضاع، والبخاري (6 \ 147) في النكاح، (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) ، ومسلم (1444) في الرضاع، ما يحرم من الرضاعة، وأحمد (6 \ 44) والنسائي (6 \ 99) والموطأ (رقم 1287) والبيهقي (7 \ 159) والدارمي (2 \ 156) .
(2) رواه مسلم (1452) في الرضاع، التحريم بخمس، والموطأ (رقم 1289) في الرضاع، ما جاء في الرضاعة، وأبو داود (2062) في النكاح، هل يحرم ما دون الخمس، والترمذي (1150) والنسائي (6 \ 100) وابن ماجه (1942) ، ومعناه: أن النسخ بخمس رضعات تأخر نزوله، حتى إنه - صلى الله عليه وسلم - توفي وبعض الناس يقرأ خمس رضعات، ويجعلها قرآنا متلوا، لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده، فلما بلغهم النسخ بعد، رجعوا عن تلاوته. (حاشية الأرناؤوط على جامع الأصول 11 \ 482) .(24/237)
المرضعة، فيشترك في الحرمة مع أولادها، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا رضاع إلا ما أنشز العظم، وأنبت اللحم (1) » ، «وعن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: يا عائشة، انظرن من إخوانكن فإن الرضاعة من المجاعة (2) » ، وعن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام (3) » ، قال مالك: ما كان من الرضاعة بعد الحولين فإن قليله وكثيره لا يحرم شيئا، وإنما هو بمنزلة الطعام (4) .
ثانيا: أما التحريم المؤقت، فإنه يمنع من التزوج بالمرأة، ما دامت على حالة خاصة، فإن تغيرت تلك الحال زال التحريم، صارت حلالا، ومن المحرم على المسلم حرمة مؤقتة:
1 - الجمع بين الأختين لقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} (5) بالإضافة إلى أن الجمع بينهما يولد الشقاق بين الأقارب، ويعكر صفو الأخوة والمودة، ويمزق ما بين الأرحام من صلات.
__________
(1) أبو داود (2060) النكاح، رضاعة الكبير، ومالك في الموطأ (1282) الرضاع، ما جاء في الرضاعة بعد الكبر.
(2) أبو داود (2058) النكاح، رضاعة الكبير، وابن ماجه (1945) النكاح، لا رضاعة بعد الفصال، والبخاري (9 \ 126) في النكاح، ومن قال: لا رضاعة بعد حولين، مسلم (1455) الرضاع، إنما الرضاعة من المجاعة، والنسائي (6 \ 102) في النكاح.
(3) ابن ماجه (1946) النكاح، لا رضاع بعد الفصال، والترمذي (1152) الرضاع، الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر، وقال: حديث حسن صحيح، واللفظ له، والفطام يكون في الحولين لقوله تعالى: '' والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة '' قال الخطابي في (معالم السنن 3 \ 185) : إن الرضاعة التي تقع بها الحرمة ما كان في الصغر، والرضيع طفل يقوته اللبن ويسد جوعه، أما ما كان منه في الحال التي لا يشبعه إلا الخبز واللحم فلا حرمة له.
(4) الموطأ (1283) .
(5) سورة النساء الآية 23(24/238)
2 - الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، لما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها (1) » .
قال النووي: هذا دليل لمذهب العلماء كافة، أنه يحرم الجميع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها، سواء كانت عمة وخالة حقيقية - وهي أخت الأب، وأخت الأم - أو مجازية - وهي أخت أبي الأب، وأبي الجد وإن علا، أو أخت أم الأم وأم الجدة، من جهتي الأم والأب وإن علت، فكلهن بإجماع العلماء يحرم الجميع بينهما (2) .
3 - زوجة الغير، وذلك رعاية لحق الزوج، لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (3) .
أي: وحرمت عليكم المحصنات من النساء، وهن ذوات الأزواج.
4 - معتدة الغير، وهي التي مات عنها زوجها، أو طلقها طلاقا بائنا، ولا تزال في عدتها، فهذه تحرم خطبتها إلا أن تكون تلميحا فقط، حرم التصريح بخطبتها مراعاة لحزنها وإحدادها ومواساة لشعور أهل الميت في الحالة الأولى؛ ولأن حق الزوج لا يزال متعلقا بها في الثانية، أما إذا كانت في عدة طلاق رجعي فلا يحل لأحد التصريح أو التلميح بخطبتها؛ لأنها لا تزال في ملك زوجها وعصمته، قال تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} (4)
__________
(1) البخاري (9 \ 138) النكاح، لا تنكح المرأة على عمتها، ومسلم (1408) النكاح، تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وأبو داود (2065) النكاح، والترمذي (1126) النكاح، الموطأ (1120) النكاح، والنسائي (6 \ 96) وأحمد (2 \ 462) ، والبيهقي (7 \ 165) ، واستقصى الألباني طرقه في (الإرواء \ 1882) ، وقال: هو صحيح بل متواتر رواه سبعة من الصحابة، قال الإمام الخطابي (معالم السنن 3 \ 189) : يشبه أن يكون المعنى في ذلك ما يخاف من وقوع العداوة بينهن؛ فيكون منها قطيعة الرحم، على هذا تحريم الجمع بين الأختين، وهو قول أكثر أهل العلم.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم (9 \ 190) .
(3) سورة النساء الآية 24
(4) سورة البقرة الآية 235(24/239)
وعن سليمان بن يسار أن طليحة الأسدية كانت تحت رشيد الثقفي، فطلقها، فنكحت في عدتها، فضربها عمر بن الخطاب وضرب زوجها بالمخفقة ضربات، وفرق بينهما ثم قال عمر: أيما امرأة نكحت في عدتها، فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول، ثم كان الآخر خاطبا من الخطاب، وإن كان قد دخل بها، فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم اعتدت من الآخر، ثم لا يجتمعان أبدا) . وقال مالك وسعيد بن المسيب: ولها مهرها بما استحل من فرجها.
5 - الزانية: لقوله تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (1) النور \ 3.
وللحديث الذي رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بغي يقال لها: (عناق) وكانت صديقته، قال: جئت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، أنكح عناق؟؟ قال: فسكت عني، فنزلت،
__________
(1) سورة النور الآية 3
(2) أبو داود (2051) في النكاح، واللفظ له، والنسائي (6 \ 66) فيه: تزويج الزانية، والترمذي (3176) في التفسير، سورة النور، والحاكم (2 \ 396) وصححه، والبيهقي (7 \ 153) ، وذكره الألباني في (الإرواء \ 1886) وصححه.(24/240)
فدعاني فقرأها علي وقال: لا تنكحها (1) » .
وللحديث الذي رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله (2) » .
قال الشوكاني: هذا وصف خرج مخرج الغالب باعتبار من ظهر منه الزنا، وفيه دليل على أنه لا يحل للرجل أن يتزوج بمن ظهر منها الزنا، ويدل على ذلك الآية المذكورة في الكتاب الكريم؛ لأن آخرها: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (3)
فإنه صريح في التحريم (4) ، وقال الشنقيطي: إن أظهر قولي العلماء عندي أن الزانية والزاني إذا تابا من الزنا، وندما على ما كان منهما، ونويا ألا يعودا إلى الذنب، فإن نكاحهما جائز، فيجوز له أن ينكحها بعد التوبة، ويجوز نكاح غيرهما لهما؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، لقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (5) الفرقان \ 70.
فالتوبة من الذنب تذهب أثره، أما من قال: إن من زنى بامرأة لا تحل له مطلقا ولو تاب، فقولهم خلاف التحقيق (6) .
والمسلم الفاضل لا يمكن أن يرضى بالحياة مع زانية، أو يعاشر امرأة غير مستقيمة، والله شرع له الزواج لتكون الزوجة له سكنا، ويكون بينهما مودة ورحمة، فأين المودة التي يمكن أن تحصل بين مسلم فاضل وزانية؟! وهل يمكن لنفسه أن تسكن إلى نفسها الخبيثة الداعرة؟!
__________
(1) سورة النور الآية 3 (2) {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ}
(2) أبو داود (2052) في النكاح، وأحمد (2 \ 324) ، وذكره الحافظ في (بلوغ المرام \ 1029) وقال: إسناده حسن.
(3) سورة النور الآية 3
(4) نيل الأوطار (6 \ 145) .
(5) سورة الفرقان الآية 70
(6) أضواء البيان (6 \ 83) .(24/241)
وقال ابن القيم: " ومما يوضح هذا التحريم أن هذه الجناية من المرأة تعود بفساد فراش الزوج، وفساد النسب الذي جعله الله بين الناس لتمام مصالحهم، فالزنا يفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب، فمن محاسن هذه الشريعة تحريم نكاح الزانية حتى تتوب وتستبرئ " (1) ، وقال رحمه الله: " أما نكاح الزانية فقد صرح الله بتحريمه في سورة النور، وأخبر أن من ينكحها فهو زان أو مشرك، فإنه إما أن يلتزم حكمه سبحانه، ويعتقد وجوبه، أو لا، فإن لم يلتزمه، ولم يعتقده، فهو مشرك، وإن التزمه واعتقد وجوبه وخالفه فهو زان، وأيضا فإنه سبحانه قال: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} (2) النور \ 26.
والخبيثات: الزواني، وهذا يقتضي أن من تزوجهن خبيث مثلهن " (3) .
(6) المشركة: وهي كل امرأة تعبد الوثن، كالبوذية والهندوسية والمجوسية، أو هي على مذهب إلحادي كالشيوعية، أو مذهب إباحي كالوجودية؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} (4) .
وقوله:
{وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} (5) .
ففي الآية الأولى نهي عن نكاح المشركات، وفي الثانية نهي لمن أسلم وظلت زوجه على الشرك أن يبقيها في عصمته.
والكتابيات غير مشمولات بهذا النهي على الأرجح؛ لأن آية المائدة خصصت الكتابيات من هذا العموم، وهي قوله تعالى:
__________
(1) إغاثة اللهفان (1 \ 66) .
(2) سورة النور الآية 26
(3) زاد المعاد (5 \ 114) .
(4) سورة البقرة الآية 221
(5) سورة الممتحنة الآية 10(24/242)
{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (1) المائدة \ 5.
ومما يؤكد ذلك أن سورة البقرة من أول ما نزل من القرآن، في حين أن سورة المائدة من آخر ما نزل، ثم إن لفظ " مشرك " لا يتناول أهل الكتاب، لقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} (2) البينة \ 1
ففرقت الآية بينهما، ولو كانا شيئا واحدا ما فرقت. قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: " لا يصح من أحد أنه حرم ذلك " - يعني الزوج بالكتابيات - وبه وقال: عثمان وطلحة وجابر وحذيفة وابن عباس من الصحابة، ومالك وسفيان والأوزاعي وابن المسيب وابن جبير والحسن وطاوس وعكرمة والشعبي والضحاك، ممن بعدهم، كما حكاه النحاس والقرطبي.
أقول: ولكن آية المائدة اشترطت في الكتابيات أن يكن " محصنات " أي: عفيفات لا يعرف عنهن تبذل أو فاحشة، أو مجاهرة بشرك، كالقول بألوهية المسيح، أو أنه - أو عزير - ابن الله.
يقول رشيد رضا في بيان الفرق بين المشركة والكتابية: " والمشركة ليس لها دين يحرم الخيانة ويوجب الأمانة، ويأمرها بالخير، وينهاها عن الشر، فهي موكولة إلى طبيعتها وما تربت عليه في عشيرتها، وهو خرافات الوثنية وأوهامها، وأماني الشياطين وأحلامها، وتخون زوجها، وتفسد عقيدة ولدها: أما الكتابية فليس بينها وبين المؤمن كبير مباينة؛ فإنها تؤمن بالله وتعبده، وتؤمن بالأنبياء، وبالحياة الأخرى وما فيها من جزاء، وتدين بوجوب عمل الخير وتحريم الشر، والفرق الجوهري بينهما هو الإيمان بنبوة
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) سورة البينة الآية 1(24/243)
محمد - صلى الله عليه وسلم -، والذي يؤمن بالنبوة العامة لا يمنعه من الإيمان بنبوة خاتم النبيين إلا الجهل بما جاء به، ويوشك أن يظهر للمرأة من مباشرة الرجل أحقية دينه، وحسن شريعته، والوقوف على سيرة من جاء بها، وما أيده الله تعالى به من الآيات البينات، فيكمل إيمانها، ويصح إسلامها، وتؤتى أجرها مرتين، إن كانت من المحسنات في الحالين (1) .
ويقول الأستاذ حسين محمد يوسف: " إن الله تعالى بين العلة في تحريم الزواج بالمشركة بقوله:
{أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} (2)
أي أن المشركة بما نشأت عليه من كفر، وما تعودته من رذائل لانعدام أصل الإيمان في قلبها، ضمينة بأن تؤثر في زوجها وأولادها، فيجارونها في بعض أحوالها المنافية للإسلام، فيقودهم ذلك إلى النار، في حين أن الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر، ولذلك فإنه يدعوهم إلى اختيار الزوجة المؤمنة التي تؤسس بها الأسرة على التقوى، في سياج من آداب الإسلام الفاضلة " (3) .
7 - الزيادة على الأربع؛ لقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (4) (النساء \ 3) .
ولما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر من أسلم وتحته أكثر من أربع بمفارقة ما زاد على الأربع:
أ - فعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - «أن غيلان بن سلمة أسلم وعنده عشر نسوة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - أمسك أربعا، وفارق سائرهن (5) » .
__________
(1) تفسير المنار (2 \ 351) .
(2) سورة البقرة الآية 221
(3) اختيار الزوجين في الإسلام \ حسين محمد يوسف ص 25.
(4) سورة النساء الآية 3
(5) أخرجه الترمذي (1128) ، وابن ماجه (1953) ، وابن حبان (1277) ، والحاكم (2 \ 192) ، والبيهقي (7 \ 149) ، وأحمد (2 \ 44) ، وذكره الألباني في (الإرواء \ 1883) وصححه. ورواه الدارقطني (3 \ 270) في النكاح.(24/244)
ب - «عن قيس بن الحارث - رضي الله عنه - قال: أسلمت وعندي ثماني نسوة، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت له ذلك، فقال: اختر منهن أربعا (1) » .
__________
(1) أبو داود (2241) ، وابن ماجه (1952) ، والبيهقي (7 \ 183) ، وذكره الألباني في (الإرواء \ 1885) وحسنه. وقد روى الحديث أيضا الدارقطني (3 \ 270) في النكاح.(24/245)
ذات الدين
2 - أن تكون ذات دين وخلق؛ لقوله تعالى: أ - {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (1) (الحجرات \ 13) .
ب - {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (2) (النور \ 32) .
ج - {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} (3) (النساء \ 34) .
د - {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} (4) (النور \ 26) .
(ولما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحاديث الثابتة التالية:
أ - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك (5) » .
ب - عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة (6) » .
__________
(1) سورة الحجرات الآية 13
(2) سورة النور الآية 32
(3) سورة النساء الآية 34
(4) سورة النور الآية 26
(5) البخاري (9 \ 115) في النكاح، الأكفاء في الدين، ومسلم (1466) الرضاع، استحباب نكاح ذات الدين، وأبو داود (2047) في النكاح، والنسائي (6 \ 68) في النكاح، وابن ماجه (1858) فيه، والدارمي (2 \ 132) ، والبيهقي (7 \ 79) ، والدارقطني (3 \ 302) في النكاح، وأحمد (2 \ 428) ، وتربت يداك: التصقتا بالتراب، لا يريدون به الدعاء على المرء، بل المبالغة في التحريض على الشيء والتعجب منه ونحو ذلك. انظر جامع الأصول (11 \ 430) ، وعون المعبود شرح أبي داود (6 \ 40) .
(6) مسلم (1467) في الرضاع، والنسائي (6 \ 66) في النكاح، وابن ماجه (1855) ، والبيهقي (7 \ 80) النكاح، وأحمد (2 \ 268) .(24/245)
ج - عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاء: الجار السوء، والمرأة السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق (1) » .
د - وعن ثوبان قال: «لما نزل في الفضة والذهب ما نزل، قالوا: فأي المال نتخذ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ليتخذ أحدكم قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على أمر الآخرة (2) » .
(فالدين هو العنصر الأساس في اختيار الزوجة، ذلك أن الزوجة سكن لزوجها، وحرث له، وهي مهوى فؤاده، وربة بيته، وأم أولاده. عنها يأخذون صفاتهم وطباعهم، فإن لم تكن على قدر عظيم من الدين والخلق؛ فشل الزوج في تكوين أسرة مسلمة صالحة، أما إذا كانت ذات خلق ودين كانت أمينة على زوجها في ماله وعرضه وشرفه، عفيفة في نفسها ولسانها، حسنة لعشرة زوجها، فضمنت له سعادته، وللأولاد تربية فاضلة، وللأسرة شرفها وسمعتها، فاللائق بذي المروءة والرأي أن يجعل ذوات الدين مطمح النظر وغاية البغية؛ لأن جمال الخلق أبقى من جمال الخلق، وغنى النفس أولى من غنى المال وأنفس، والعبرة العبرة في الخصال لا الأشكال، وفي الخلال لا الأموال. ومن هنا فضل الإسلام صاحبة الدين على غيرها، ولو كانت أمة سوداء.
«كانت لعبد الله بن رواحة أمة سوداء فلطمها في غضب، ثم ندم، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال: ما هي يا عبد الله؟ قال: تصوم وتصلي وتحسن الوضوء وتشهد الشهادتين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هذه مؤمنة، فقال عبد الله، لأعتقنها ولأتزوجنها،
__________
(1) رواه ابن حبان (111) ، أحمد (1 \ 18) ، وذكره الألباني في (الصحيحة) برقم (282) .
(2) رواه ابن ماجه (1856) في النكاح، وأحمد (5 \ 278) ، والترمذي (3093) التفسير، التوبة، والطبري (التهذيب \ 11662) ، وقد ذكره الألباني في (صحيح الجامع) برقم \ 5231، وقال رواه ابن حبان عن علي والحاكم عن ابن عباس.(24/246)
ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين، وقالوا: نكح أمة، وكانوا يفضلون أن ينكحوا إلى المشركين رغبة في أحسابهم. فنزل قوله تعالى: (2) » .
وعن أبي بردة عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم، والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها، فله أجران (3) » .
نعم إن المرأة إذا كانت صالحة مؤمنة تقية ورعة، كانت كبنت خويلد - رضي الله عنها، التي آمنت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ كفر الناس، وصدقته إذ كذبوه، وواسته بمالها إذ حرموه، فكانت خير عون له في تثبيته أمام الصعاب والشدائد، وكانت كأسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها، مثال المرأة الحرة الأبية، التي دفعت بولدها إلى طريق الشهادة، وحرضته على الصمود أمام قوى الجبروت والطغيان، ليموت ميتة الأحرار الكرام. أو كانت كصفية بنت عبد المطلب التي دفعت بنفسها إلى غمار الوغى، لتدفع يهود عن أعراض المسلمين. أو كانت كالخنساء التي جادت بأولادها الأربعة في سبيل الله، وعندما جاءها نبأ استشهادهم قالت: الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم، وإني لأرجو الله أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.
__________
(1) وقيل إن هذه الآية نزلت في (خنساء) وليدة سوداء كانت لحذيفة بن اليمان، فقال حذيفة: يا خنساء، قد ذكرت في الملأ الأعلى مع دمامتك وسوادك، وأنزل الله ذكرك في كتابه، فأعتقها وتزوجها. انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (3 \ 70) ، وابن كثير (1 \ 377) ، وفتح القدير (1 \ 225) .
(2) سورة البقرة الآية 221 (1) {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}
(3) رواه البخاري (1 \ 35) في العلم، ومسلم (154) في الإيمان، والترمذي (1116) في النكاح، والنسائي (6 \ 115) فيه.(24/247)
الولود
3 - أن تكون ولودا: وذلك لما ورد في الكتاب الكريم والسنة المطهرة، من تحبيب بطلب الذرية الصالحة، وحث على التكاثر في النسل، بما يحقق الغرض الأسمى من الزواج، والمتمثل في استمرار النوع البشري، وإنجاب الذرية، ودوام عمارة الإنسان للأرض، التي هي من الغايات الأساسية التي خلقه الله من أجلها.
ففي القرآن الكريم:
أ - قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (1) الكهف \ 46
ب - وقال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (2) آل عمران \ 14.
ج - وحكى سبحانه على لسان زكريا - عليه السلام - أنه كان يتوجه إلى ربه بهذا الدعاء:
{رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} (3) {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} (4) {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} (5) مريم \ 4 - 6.
د - وقال على لسان إبراهيم:
{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} (6) إبراهيم \ 40.
هـ - وذكر أن طلب الذرية الصالحة من أمنيات المؤمنين، بل هو صفة من صفاتهم.
__________
(1) سورة الكهف الآية 46
(2) سورة آل عمران الآية 14
(3) سورة مريم الآية 4
(4) سورة مريم الآية 5
(5) سورة مريم الآية 6
(6) سورة إبراهيم الآية 40(24/248)
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (1) الفرقان \ 74.
ووحتى الملائكة، إذا أرادت الاستغفار للمؤمن، استغفرت له ولزوجه ولأولاده، وهذا فضل من أفضال الله على عباده المؤمنين:
{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (2) {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} (3) غافر \ 7 - 8.
فقد بينت الآيات الكريمات أن البنين من متع الحياة الدنيا وزينتها، وأن طلب النسل من الأمور التي حببها الله إلى خلقه، وطبعهم على ابتغائه، وجعله جبلة فطرية فيهم، كما وجعله أمنية أجراها على لسان رسله وأنبيائه، وبغية للمؤمنين يحرصون على إدامة الدعاء في طلبها.
وفي السنة المطهرة: عن معقل بن يسار قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال: لا، ثم أتاه الثانية، فنهاه، ثم أتاه الثالثة، فقال: تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم (4) » .
__________
(1) سورة الفرقان الآية 74
(2) سورة غافر الآية 7
(3) سورة غافر الآية 8
(4) رواه أبو داود (2050) في النكاح، والنسائي (6 \ 65) فيه، والبيهقي (7 \ 81) ، وأحمد (3 \ 158) وابن حبان (1228) ، والحاكم (2 \ 162) وصححه، ووافقه الذهبي، وذكره الألباني في (الإرواء \ 1811) بلفظ: فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة. ويقول سيد قطب في التعليق على قوله تعالى: المال والبنون زينة. . إنهما زينة ولكنهما ليسا قيمة، فما يجوز أن يوزن بهما الناس أو يقدروا على أساسهما (الظلال 4 \ 2272) .(24/249)
وتعرف الولود بالنظر إلى حالها من كمال جسمها، وسلامة صحتها من الأمراض التي تمنع الحمل أو الولادة، وبالنظر إلى حال أمها، وقياسها على مثيلاتها من أخواتها وعماتها وخالاتها المتزوجات، فإن كن ممن عادتهن الحمل والولادة كانت - في غالب أمرها - مثلهن.(24/250)
الودود:
4 - أن تكون ودودا، تقبل على زوجها، فتحيطه بالمودة والحب والرعاية، وتحرص على طاعته ومرضاته، ليتحقق بها الهدف الأساسي من الزواج، وهو السكن.
قال تعالى في وصف الحور العين:
{فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} (1) {عُرُبًا أَتْرَابًا} (2) الواقعة \ 36 - 37.
والعروب هي المرأة المتحببة إلى زوجها الودودة، وقد وردت أحاديث عديدة تؤكد على ضرورة مراعاة هذه الصفة في المرأة.
أ - فعن معقل بن يسار، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم (3) » رواه أبو داود (2050) في النكاح، والنسائي (6 \ 65) فيه، والبيهقي (7 \ 81) ، وأحمد (3 \ 158) وابن حبان (1228) ، والحاكم (2 \ 162) وصححه، ووافقه الذهبي، وذكره الألباني في (الإرواء \ 1811) بلفظ: فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة. ويقول سيد قطب في التعليق على قوله تعالى: المال والبنون زينة. . إنهما زينة ولكنهما ليسا قيمة، فما يجوز أن يوزن بهما الناس أو يقدروا على أساسهما (الظلال 4 \ 2272) . .
ب - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه سلم - يقول: «نساء قريش خير نساء ركبن الإبل: أحناه على طفل في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده (4) » ، وفي رواية: «خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش (5) » ، فقد وصفهن - صلى الله عليه وسلم - بالشفقة على أطفالهن، والرأفة بهم والعطف عليهم، وبأنهن يراعين حال أزواجهن، ويرفقن بهم ويخففن الكلف عنهم، فواحدتهن تحفظ مال زوجها وتصونه بالأمانة والبعد عن التبذير، وإذا افتقر كانت عونا له وسندا، لا عدوا وخصما.
__________
(1) سورة الواقعة الآية 36
(2) سورة الواقعة الآية 37
(3) سنن النسائي النكاح (3227) ، سنن أبو داود النكاح (2050) .
(4) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3434) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2431) ، سنن الترمذي الأطعمة (1834) ، سنن النسائي عشرة النساء (3947) ، سنن ابن ماجه الأطعمة (3280) ، مسند أحمد بن حنبل (4/394) .
(5) أخرجه البخاري (9 \ 107) في النكاح، مسلم (2527) في فضائل الصحابة، وأحمد (2 \ 393) ، وذكره الألباني في (الصحيحة \ 1052) .(24/250)
ج - وعن أبي أذينة الصدفي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «خير نسائكم الودود الولود، المواتية، المواسية، إذا اتقين الله (1) » .
د - وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها، وهي لا تستغني عنه (2) » .
هـ - والمرأة الودود تكون مطيعة لزوجها، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي النساء خير؟ قال: التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره (3) » .
والودود هي المرأة التي يعهد منها التودد إلى زوجها، والتحبب إليه، وبذل ما بوسعها من أجل مرضاته؛ لذا تكون معروفة باعتدال المزاج، وهدوء الأعصاب، بعيدة عن الانحرافات النفسية والعصبية، تقدر على الحنو على ولدها، ورعاية حق زوجها. أما إذا لم تكن المرأة كذلك، كثر نشوزها، وترفعت على زوجها، وصعب قيادها لشراسة خلقها، مما يفسد الحياة الزوجية بل ويدمرها، بعد استحالة تحقق السكن النفسي والروحي للزواج بسببها.
__________
(1) أخرجه البيهقي (7 \ 82) ، وذكره الألباني في (الصحيحة رقم \ 1849) وصححه.
(2) أخرجه النسائي في عشرة النساء من السنن الكبرى (1 \ 84 \ 1) والحاكم (2 \ 190) وقال: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي، وذكره الألباني في (الصحيحه \ 289) .
(3) رواه النسائي (2 \ 72) والحاكم (2 \ 161) وأحمد (2 \ 251) والبيهقي (7 \ 82) ، قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في (الصحيحة \ 1838) .(24/251)
البكر
5 - أن تكون بكرا، لتكون المحبة بينهما أقوى، والصلة أوثق، إذ البكر مجبولة على الأنس بأول أليف لها، وهذا يحمي الأسرة من كثير مما ينغص(24/251)
عليها عيشها، ويكدر صفوها، وبذا نفهم السر الإلهي في جعل نساء الجنة أبكارا، في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} (1) {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} (2) {عُرُبًا أَتْرَابًا} (3) (الواقعة \ 35 - 37) .
وقد وردت في الحث على انتقاء البكر أحاديث كثيرة، منها:
أ - «عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه، قال: تزوجت امرأة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم، فلقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا جابر، تزوجت؟ قلت: نعم، قال: بكرا أم ثيبا؟ قلت: ثيبا، قال: فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك (4) » ، وفي رواية لمسلم: قال: «فأين أنت من العذارى ولعابها؟ (5) » ، وفي رواية للبخاري قال: «فهلا جارية تلاعبك؟ قلت: يا رسول الله، إن أبي قتل يوم أحد، وترك تسع بنات، كن لي تسع أخوات، فكرهت أن أجمع إليهن جارية خرقاء مثلهن، ولكن امرأة تمشطهن وتقوم عليهن، قال: أصبت (6) » .
ب - عن عبد الرحمن بن سالم بن عتبة عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بالأبكار؛ فإنهن أعذب أفواها، وأنتق أرحاما، وأرضى باليسير (7) » .
ج - «وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلت يا رسول الله، أرأيت لو نزلت واديا فيه شجر قد أكل منها، ووجدت شجرا لم يؤكل منها، في أيها كنت ترتع بعيرك؟ قال: في التي لم يرتع منها، يعني: أن النبي لم يتزوج بكرا غيرها (8) » .
__________
(1) سورة الواقعة الآية 35
(2) سورة الواقعة الآية 36
(3) سورة الواقعة الآية 37
(4) صحيح البخاري النكاح (5247) ، صحيح مسلم الرضاع (715) ، سنن الترمذي النكاح (1100) ، سنن ابن ماجه النكاح (1860) ، مسند أحمد بن حنبل (3/314) ، سنن الدارمي النكاح (2216) .
(5) صحيح البخاري الجهاد والسير (2967) ، صحيح مسلم الرضاع (715) ، سنن الترمذي النكاح (1100) ، سنن النسائي البيوع (4638) ، سنن ابن ماجه النكاح (1860) ، مسند أحمد بن حنبل (3/376) ، سنن الدارمي النكاح (2216) .
(6) رواه البخاري (9 \ 104) في النكاح، ومسلم (715) في الرضاع، وأبو داود (2048) في النكاح، والترمذي (1100) فيه، والنسائي (6 \ 69) فيه، والبيهقي (7 \ 81) ، وأحمد (3 \ 308) والدرامي (2 \ 146) .
(7) رواه ابن ماجه (1861) في النكاح، والبيهقي (7 \ 81) فيه، وذكره الألباني في (الصحيحة \ 623) وحسنه لمجموع طرقه.
(8) أخرجه البخاري (9 \ 104) في النكاح، والبيهقي (7 \ 81) فيه، وروى مسلم (4 \ 128) في النكاح، عن علقمة قال: كنت أمشي مع عبد الله بن مسعود بمنى، فلقيه عثمان، فقام معه يحدثه، فقال له عثمان: يا أبا عبد الرحمن، ألا نزوجك جارية شابة لعلها تذكرك ببعض ما مضى من زمانك؟؟) ، قال النووي في (شرح مسلم \ 9 \ 174) : فيه استحباب نكاح الشابة؛ لأنها المحصلة لمقاصد النكاح، فإنها ألذ استمتاعا، وأطيب نكهة، وأرغب في الاستمتاع، الذي هو مقصود النكاح، وأحسن عشرة، وأفكه محادثة، وأجمل منظرا، وألين ملسمسا، وأقرب إلى أن يعودها زوجها الأخلاق التي يرتضيها.(24/252)
ومن المعلوم أن في زواج البكر من الألفة التامة، لما جبلت عليه من الأنس بأول إنسان تكون في عصمته، بخلاف الثيب التي قد تظل متعلقة القلب بالزوج الأول؛ فلا تكون محبتها كاملة، ولا مودتها صادقة، مما يدفعها أحيانا إلى النفور من الأخير، أو الفتور في معاملته.
وقد ذكرت الأحاديث التي سقناها مجموعة من الصفات التي تتميز بها البكر، منها:
1 - كثرة ملاطفتها لزوجها، وملاعبتها له، ومرحها معه.
2 - عذوبة ريقها، وطيب فمها، بما يحقق لزوجها متعة عظيمة حين معاشرتها، كما أن عذوبة الأفواه تفيد حسن كلامها، وقلة بذائها وفحشها مع زوجها، وذلك لكثرة حيائها؛ لأنها لم تخالط زوجا قبله.
3 - كونها ولودا، حيث لم يسبق لها الحمل والولادة.
4 - رضاها باليسير، من الجماع والمال والمؤنة ونحو ذلك؛ لكونها - بسبب حداثة سنها - أقل طمعا، وأسرع قناعة؛ فلا ترهق زوجها ما لا يطيق لكثرة مطالبها.
5 - كونها أقل خبا، أي مكرا وخداعا، لما جبلت عليه من براءة القصد، وسذاجة الفكر. فهي - في الغالب - غفل لا تزال على فطرتها، لا تعرف حيلة، ولا تحسن مكرا.
ومع كل، فإنه يجوز للرجل اختيار الثيب إذا توفر لديه من الأسباب ما يدعوه إلى ذلك، قال صاحب عون المعبود في التعليق على حديث جابر: " وفيه دليل على استحباب نكاح الأبكار، إلا المقتضي لنكاح(24/253)
الثيب، كما وقع لجابر، مات أبوه وترك له تسع أخوات يتيمات، يحتجن منه إلى رعاية وعطف وخدمة، فكان من الموائم له أن يتزوج ثيبا، تقوم على أمرهن، وتعنى بشأنهن ". (عون المعبود 6 \ 44) .(24/254)
الجمال
6 - أن تكون جميلة، حسنة الوجه؛ لتحصل بها للزوج العفة، ويتم الإحسان، وتسعد النفس، ومن هنا كانت نساء الجنة اللاتي جعلهن الله تعالى جزاء للمؤمنين المتقين من الحور العين، قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} (1) {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (2) {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} (3) {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} (4) (الدخان \ 51 - 54) .
وقال عنهن القرآن في آية أخرى:
{وَحُورٌ عِينٌ} (5) {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} (6) (الواقعة \ 22 - 23) .
والحور: جمع حوراء، وهي البيضاء، قال مجاهد: سميت الحوراء حوراء لأنه يحار الطرف في حسنها، وقيل: هي من حور العين: وهي شدة بياضها في شدة سوادها، وقال أبو عمرو بن العلاء: الحور أن تسود العين كلها، مثل أعين الظباء والبقر، وليس في بني آدم حور، وإنما قيل للنساء حور؛ لأنهن شبهن بالظباء والبقر، أما العين: فجمع عيناء، وهي الواسعة العين. واللؤلؤ المكنون الذي شبهن به في الآية الثانية، هو اللؤلؤ المصون الذي لم يتعرض للمس والنظر، فلم تثقفه يد، ولم تخدشه عين، وفي هذا - كما يقول سيد قطب - كناية عن معان حسية ونفسية لطيفة في هؤلاء الحور الواسعات العيون.
__________
(1) سورة الدخان الآية 51
(2) سورة الدخان الآية 52
(3) سورة الدخان الآية 53
(4) سورة الدخان الآية 54
(5) سورة الواقعة الآية 22
(6) سورة الواقعة الآية 23(24/254)
وقد أشارت بعض الأحاديث النبوية الشريفة إلى اعتبار عنصر الجمال في المرأة عند الاختيار:
أ - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي النساء خير؟ قال: خير النساء التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره (1) » .
ب - وعن أبي هريرة أيضا، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك (2) » .
ج - وعنه أيضا، «قال: كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنظرت إليها؟ قال: لا، قال: فاذهب فانظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئا (3) » .
قال صاحب عون المعبود: (يؤخذ من الأحاديث استحباب تزوج الجميلة، إلا إذا كانت الجميلة غير دينة، والتي أدنى منها جمالا متدينة، فتقدم ذات الدين، إما تساوتا في الدين فالجميلة أولى (4) .
وفي ذلك يروى عن أكثم بن صيفي أنه قال لبنيه: (يا بني، لا يغلبنكم جمال النساء على صراحة النسب، فإن المناكح الكريمة مدرجة للشرف) (5) .
__________
(1) رواه النسائي (2 \ 72) والحاكم (2 \ 161) وأحمد (2 \ 251) والبيهقي (7 \ 82) ، قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في (الصحيحة \ 1838) .
(2) البخاري (9 \ 115) في النكاح، الأكفاء في الدين، ومسلم (1466) الرضاع، استحباب نكاح ذات الدين، وأبو داود (2047) في النكاح، والنسائي (6 \ 68) في النكاح، وابن ماجه (1858) فيه، والدارمي (2 \ 132) ، والبيهقي (7 \ 79) ، والدارقطني (3 \ 302) في النكاح، وأحمد (2 \ 428) ، وتربت يداك: التصقتا بالتراب، لا يريدون به الدعاء على المرء، بل المبالغة في التحريض على الشيء والتعجب منه ونحو ذلك. انظر جامع الأصول (11 \ 430) ، وعون المعبود شرح أبي داود (6 \ 40) .
(3) رواه مسلم (2424) في النكاح، والنسائي (6 \ 77) فيه، والدارقطني (396) ، والبيهقي (7 \ 84) ، وذكره الألباني في الصحيحة برقم (95) ، ومعنى: فإن في أعين الأنصار شيئا: قيل صغر أو عمش.
(4) انظر (عون المعبود) 6 \ 42، و (فتح الباري \ لابن حجر العسقلاني) 9 \ 135.
(5) عن (إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري \ للقسطلاني) 8 \ 31.(24/255)
فالجمال بالنسبة للمرأة ما لم يكن محصنا بالنشأة الدينية، والتربية القويمة، والأصل العريق، قد يصبح وبالا عليها، إذ يغري الفساق بالطمع فيها، ويهون عليها التفريط بشرفها، مما يؤدي بها إلى التردي في هوة الفاحشة دون مبالاة بما يعود على الأسرة من دمار، وما يلوث سمعتها من عار وشنار.(24/256)
الحسب
7 - أن تكون حسيبة، كريمة العنصر، طيبة الأرومة، ومن حرائر النساء؛ لأن الغالب فيمن اتصفت بذلك، أن تكون حميدة الطباع، ودودة للزوج، رحيمة بالولد، حريصة على صلاح الأسرة وصيانة شرف البيت، وفي كل الأحوال، فإن أصالة الشرف، وحسن المنبت، ونبل الأرومة، أمر مرغوب ومطلب محمود.
أ - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها (1) » . . . .
ب - وعنه أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش: أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده (2) » . .
ج -وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من أراد أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر (3) »
د - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تخيروا لنطفكم، وانكحوا الأكفاء (4) » ، والحسب هو الشرف بالآباء والأقارب، مأخوذ من الحساب؛ لأنهم كانوا إذا تفاخروا، عددوا مناقبهم ومآثر آبائهم وقومهم وحسبوها، فيحكم لمن زاد عدده على
__________
(1) البخاري (9 \ 115) في النكاح، الأكفاء في الدين، ومسلم (1466) الرضاع، استحباب نكاح ذات الدين، وأبو داود (2047) في النكاح، والنسائي (6 \ 68) في النكاح، وابن ماجه (1858) فيه، والدارمي (2 \ 132) ، والبيهقي (7 \ 79) ، والدارقطني (3 \ 302) في النكاح، وأحمد (2 \ 428) ، وتربت يداك: التصقتا بالتراب، لا يريدون به الدعاء على المرء، بل المبالغة في التحريض على الشيء والتعجب منه ونحو ذلك. انظر جامع الأصول (11 \ 430) ، وعون المعبود شرح أبي داود (6 \ 40) .
(2) أخرجه البخاري (9 \ 107) في النكاح، مسلم (2527) في فضائل الصحابة، وأحمد (2 \ 393) ، وذكره الألباني في (الصحيحة \ 1052) .
(3) رواه ابن ماجه (1862) في النكاح. .
(4) رواه ابن ماجه (1968) في النكاح، والدارقطني (416) ، والحاكم (2 \ 163) ، وذكره الألباني في الصحيحة \ 1067.(24/256)
غيره، ويؤخذ من الأحاديث المذكورة أن الشريف النسيب يستحب له أن يتزوج بذات حسب ونسب مثله، إلا أن تعارض نسيبة غير دينة، وغير نسيبة دينة، فتقدم ذات الدين، وهكذا في كل الصفات (1) ، وقد مر قول أكثم بن صيفي: (فإن المناكح الكريمة مدرجة للشرف) .
وبدهي أن الرجل إذا تزوج المرأة الحسيبة المنحدرة من أصل كريم، أنجبت له أولادا مفطورين على معالي الأمور، متطبعين بعادات أصيلة وأخلاق قويمة؛ لأنهم سيرضعون منها لبان المكارم، ويكتسبون خصال الخير.
أما أهل الدنيا فإنهم يجعلون المال حسبهم الذي يسعون إليه، ففضائلهم التي يرغبون فيها، ويميلون إليها، ويعتمدون عليها في النكاح وغيره المال، لا يعرفون شرفا آخر مساويا له، بل مدانيا إياه، فصاحب المال فيهم عزيز كيفما كان، والمقل عندهم وضيع ولو كان ذا نسب رفيع.
هـ - فعن أبي بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أحساب أهل الدنيا الذين يذهبون إليه المال (2) » .
والحق الذي ينبغي أن يصار إليه، أن حسب المرء لا يكون بكثرة ماله ووفرة رعائه، بل بنبالة أصله، وشرف محتده.
__________
(1) انظر: فتح الباري (9 \ 135) ، وعون المعبود (6 \ 42) .
(2) رواه الترمذي (6 \ 64) في النكاح، وابن ماجه (4219) والدارقطني (417) والحاكم (2 \ 163) والبيهقي (7 \ 135) وأحمد (5 \ 10) وذكره الألباني في (الإرواء \ 1870) وصححه.(24/257)
السلامة من العيب
8 - أن تكون سليمة من العيوب المنفرة والأمراض السارية، والعلل المعدية.
أ - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يوردن ممرض على مصح (1) » .
__________
(1) البخاري (7 \ 179) في الطب، ومسلم (7 \ 31) في السلام، وأبو داود (3911) في الطب، وابن ماجه (3541) في الطب، وأحمد (2 \ 406) والممرض: الذي إبله مراض، والمصح الذي إبله صحاح، فنهى أن يورد الأول إبله على الثاني مخافة العدوى.(24/257)
ب - وعنه أيضا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فر من المجذوم كما تفر من الأسد (1) » .
ج - وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ضرر ولا ضرار (2) » .
وقد ذكر العلماء عددا من العيوب التي يفسخ بها الزواج، كالجب، والعنة، والجنون والبرص، والجذام، والقرن - انسداد الفرج، والفتق - انخراق مابين السبيلين، والنتن - في الفرج والفم.
قال ابن القيم - رحمه الله -: " إن كل عيب ينفر أحد الزوجين من الآخر، ولا يحصل به مقصود النكاح من الرحمة والمودة يوجب الخيار، أما الاقتصار على عيبين أو ستة أو سبعة أو ثمانية، دون ما هو أولى منها، أو مساو لها، فلا وجه له، فالعمى والخرس والطرش وكونها مقطوعة اليدين أو الرجلين أو إحداهما، ومن أعظم المنفرات، والسكوت عنه من أقبح التدليس والغش، وهو مناف للدين، والإطلاق إنما ينصرف إلى السلامة، فهو كالمشروع عرفا) (3) .
د - وروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: أيما امرأة غر بها رجل، بها جنون أو جذام أو برص، فلها المهر بما أصاب منها، وصداق الرجل على من غره) .
__________
(1) رواه مالك في (الموطأ \ 1426) في الأقضية، وابن ماجه (2340) في الأحكام، والحاكم (2 \ 57) والبيهقي (6 \ 69) والدارقطني (522) قال النووي: له طرق يقوي بعضها بعضا، وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به، وذكره الألباني في (الصحيحة) برقم \ 250، وصححه لمجموع طرقه.
(2) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .
(3) زاد المعاد (5 \ 182) .(24/258)
وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: " أيما امرأة نكحت، وبها برص أو جذام أو جنون أو قرن، فزوجها بالخيار ما لم يمسها، إن شاء أمسك، وإن شاء طلق، وإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها ".
قال مالك: (وإنما يكون ذلك غرما على وليها لزوجها، إذا كان وليها الذي أنكحها هو أبوها أو أخوها أو من يرى أنه يعلم ذلك منها، أما إذا كان وليها الذي أنكحها ابن عم أو ابن العشيرة ممن يرى أنه لا يعلم ذلك منها؛ فليس عليه غرم، وترد تلك المرأة ما أخذته من صداقها، ويترك لها قدر ما تستحل به) (1) .
__________
(1) الموطأ \ برواية يحيى بن يحيى الليثي، الطبعة الثانية، دار النفائس (ص357) .(24/259)
العفة والاحتشام
9- أن تكون عفيفة محتشمة، ذات أخلاق فاضلة، لا يعرف عنها سفور أو تبرج، بحيث يحجزها حياؤها عن إبراز مفاتن جسدها أمام كل ناظر:
أ - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس - إشارة إلى الحكام الظلمة - ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة. ولا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا (1) » .
__________
(1) رواه مسلم (6 \ 168) في الجنة، ومعنى كاسيات عاريات: أي يلبسن ثيابا رقيقة تصف ما تحتها، فهي في الظاهر كاسية، وفي الحقيقة عارية، مائلات: متبخترات في مشيهن، مميلات يملن أعطافهن وأكتافهن، أسنمة البخت: أسنمة الإبل لما يضنعه في رءوسهن من وصل الشعور ونفشها وتضخيم العمائم (جامع الأصول 11 \ 789) .(24/259)
ب - عن أبي أذينة الصدفي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «شر نسائكم المترجات المتخيلات، وهن المنافقات، لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم (1) » .
ج - وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (إن عندي امرأة هي من أحب الناس إلي، وهي لا ترد يد لامس، قال: طلقها، قال: لا أصبر عنها، قال: استمتع بها (2) »
ومن مظاهر حشمة المرأة وصونها وعدم ابتذالها:
1 - عدم إكثارها الخروج من بيتها، وتجوالها بين الرجال في الأسواق ومجامع الطرق، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المرأة
__________
(1) أخرجه البيهقي (7 \ 82) ، وذكره الألباني في (الصحيحة \ رقم 1846) وصححه.
(2) رواه أبو داود (2049) في النكاح، والنسائي (6 \ 67) فيه، وذكره الحافظ في (بلوغ المرام \ رقم 1132) وقال: رجاله ثقات، كما ذكره ابن كثير في تفسير أول سورة النور (6 \ 11) وجود إسناده، وقال: (المراد أن سجيتها لا ترد يد لامس، لا أن هذا واقع منها، وأنها تفعل الفاحشة، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يأذن في مصاحبة من هذه صفتها، فإن زوجها - والحالة هذه - يكون ديوثا، ولكن لما كانت سبحتها هكذا، ليس فيها ممانعة ولا مخالفة لمن أرادها - لو خلا بها - أمره الرسول بفراقها، فلما ذكر له أنه يحبها، أباح له البقاء معها؛ لأن صحبته لها محققة، ووقوع الفاحشة منها متوهم، فلا يصار إلى الضرر العاجل لتوهم الآجل) . وقال ابن القيم في (روضة المحبين ص 130) : (إن الرجل لم يشك من المرأة أنها تزني، ولو سأل عن ذلك لما أقره الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أن يقيم مع بغي ويكون ديوثا، وإنما شكا إليه أنها لا تجذب نفسها ممن لاعبها ووضع يده عليها، أو جذب ثوبها ونحو ذلك، فإن من النساء من يلن عند الحديث واللعب ونحوه، وهي حصان عفيفة إذا أريد منها الزنا، وهذا كان عادة كثير من نساء العرب، ولا يعدون ذلك عيبا) وقال: (وقد راعى النبي - صلى الله عليه وسلم - دفع إحدى المفسدتين بأدناهما، فإنه لما شكا إليه أنه لا يصبر عنها، ولعل حبه يدعوه إلى معصية، أمره أن يمسكها مداوة لقلبه ودفعا للمفسدة التي يخافها باحتمال المفسدة التي شكا منها) . وقد رجح الحافظ ابن حجر في (التلخيص) أن قوله: (لا ترد يد لامس) أنها لا تمتنع ممن يمد يده ليتلذذ بلمسها، ولو كان كنى به عن الجماع لعد قاذفا، أو أن زوجها فهم من حالها أنها لا تمتنع ممن أراد منها الفاحشة، لا أن ذلك وقع منها) . وقال صاحب عون المعبود (6 \ 46) : والظاهر عندي ما ذكره الحافظ، ثم أورد تصحيح المنذري للحديث وقوله: رجال إسناده محتج بهم في الصحيحين) .(24/260)
عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان (1) » ، واستشرفها: أي تعرض لها واطلع عليها ينظر إليها يحاول غوايتها.
2 - عدم اعتراضها الرجال مستعطرة، فعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن المرأة إذا استعطرت فمرت على القوم ليجدوا ريحها، فهي كذا وكذا، يعني زانية (2) »
3 - أن لا تتشبه بالرجال في لبسها أو حركتها؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل (3) » ، وعن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال، وقال: أخرجوهم من بيوتكم، فأخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلانة، وأخرج عمر فلانا (4) » 4 - أن لا تكون ممن يلبس ثياب شهرة: فعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لبس ثوب شهرة ألبسه الله إياه يوم القيامة، ثم ألهب فيه النار، ومن تشبه بقوم فهو منهم (5) » .
5 - أن لا تكون ممن يتزين بالوشم أو الوصل أو تفليج الأسنان:
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة (6) » ، «وعن عبد الله بن مسعود
__________
(1) رواه الترمذي (1173) في الرضاع، قال الأرناؤوط في تخرج (جامع الأصول 6 \ 665) : إسناده حسن.
(2) رواه أبو داود (4174) في الترجل، والنسائي (8 \ 153) ، والتزمذي (2787) في الأدب، وذكره الألباني في (غاية المرام \ رقم 84) وصححه، كما خرجه في (حجاب المرأة المسلمة) ص \ 64.
(3) رواه أبو داود (4098) في اللباس، وصححه الألباني في (حجاب المرأة المسلمة) ص \ 66.
(4) رواه البخاري (10 \ 280) في اللباس، وأبو داود (4930) في الأدب، والترمذي (2785) في الأدب. .
(5) رواه أبو داود (4030) في اللباس، وأحمد (5664) ، وابن ماجه (3606) في اللباس، وصححه الألباني في (غاية المرام \ رقم 91) وخرجه في (حجاب المرأة ص \ 110) .
(6) البخاري (10 \ 317) في اللباس، ومسلم (2124) فيه، وأبو داود (4168) في الترجل، والترمذي (2784) في الأدب، والنسائي (8 \ 145) في الزنية، والوصل: هو وصل الشعر بشعر آخر ليطول، والوشم: تغيير لون الجلد بزرقة أو خضرة أو سواد، وذلك بغرز الإبرة فيه، وذر النيلج عليه حتى يزرق أثره أو يخضر.(24/261)
- رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلعن المتنمصات والمتفلجات، والمستوشمات، اللاتي يغيرن خلق الله تعالى (1) »
__________
(1) رواه النسائي (8 \ 146) في الزينة، ومسلم (2125) في اللباس، وأبو داود (4169) في الترجل والترمذي (2783) في الأدب، والنمص: نتف شعر الوجه أو الحاجب لترقيقه، والفلج: تباعد ما بين الثنايا، والمتفلجة: التي تتكلف في فعل ذلك بصناعة، وهو محبوب إلى العرب، مستحسن إليهم، فمن فعلت ذلك طلبا للحسن فهو مذموم، أما الحديث الذي أخرجه الطبري عن امرأة أبي إسحاق: (أنها دخلت على عائشة، وكانت شابة يعجبها الجمال، فقالت: المرأة تحف جبينها لزوجها؟ فقالت: أميطي عنك الأذى ما استطعت) فضعيف كما حكم عليه الألباني في (غاية المرام \ رقم 96) ، ورد قول من استدل به على جواز حف الوجه وإزالة ما فيه من شعر للمرأة، وقال: إن ذلك خلاف ما تدل عليه الأحاديث بإطلاقها، وقال: إن ما ذهب إليه النووي من عدم جواز الحف - خلافا لبعض الحنابلة - هو الذي يقتضيه التحقيق العلمي.(24/262)
الغيراء:
10 - أن لا تكون غيراء، والغيرة موجودة في غالب النساء، إلا أن المذموم منها تلك تتأجج في صدر صاحبتها نارا تشعل جيوش الظنون والشكوك كل آن؛ فتحيل حياة الأسرة جحيما لا يطاق:
أ - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - «قالوا: يا رسول الله، ألا تتزوج من نساء الأنصار؟ قال: إن فيهم لغيرة شديدة (1) » .
ب - ولذلك لم يتزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم سلمة - رضي الله عنها - إلا بعد أن دعا أن يذهب الله غيرتها، «عن أم سلمة قالت: لما توفي أبو سلمة استرجعت وقلت: اللهم أجرني في مصيبتي، واخلفني خيرا منه، ثم رجعت إلى نفسي، قلت: من أين لي خير من أبي سلمة؟ فلما انقضت عدتي استأذن علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أدبغ إهابا لي، فغلست يدي من القرظ - ما يدبغ به - وأذنت له، فوضعت له وسادة أدم حشوها ليف، فقعد عليها، فخطبني إلى نفسه، فلما
__________
(1) رواه النسائي (6 \ 69) في النكاح، وقال الأرناؤوط في تخريج (جامع الأصول 11 \ 534) : إسناده صحيح.(24/262)
فرغ من مقالته، قلت: يا رسول الله، ما بي أن لا تكون بك الرغبة في، ولكني امرأة في غيرة شديدة، فأخاف أن ترى مني شيئا يعذبني الله به، وأنا امرأة قد دخلت في السن، وأنا ذات عيال، فقال: أما ما ذكرت من غيرتك فسوف يذهبها الله عز وجل عنك (1) » (وفي رواية النسائي، «فأدعو الله عز وجل فيذهب غيرتك) ، أما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك، وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي: قالت: فقد سلمت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم؛ فتزوجها. قالت أم سلمة: فقد أبدلني الله بأبي سلمة خيرا منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم (2) » -.
ج - أما الغيرة المعتدلة التي لا تتسلط على صاحبتها، فهي مقبولة، بل وقد تستملح أحيانا:
فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند بعض نسائه - وفي رواية عائشة - فأرسلت إليه إحدى أمهات المؤمنين - في رواية أم سلمة، وفي أخرى صفية - بصحفة فيها طعام، فضربت التي هو في بيتها يد الخادم، فسقطت الصفحة فانفلقت، فجمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: " غارت أمكم، غارت أمكم " ثم حبس الخادم، حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها؛ فدفعها إلى التي كسرت صفحتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرتها (3) » .
د - أما الغيرة المحمودة، فهي التي تكون إذا ما ارتكبت محارم الله:
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3511) ، سنن أبو داود الجنائز (3115) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1598) ، مسند أحمد بن حنبل (4/28) .
(2) سنن الترمذي الدعوات (3511) ، سنن أبو داود الجنائز (3115) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1598) ، مسند أحمد بن حنبل (4/28) .
(3) البخاري (9 \ 283) في النكاح، وأبو داود (3567) في البيوع، والترمذي (1359) في الأحكام، والنسائي (7 \ 70) عشرة النساء.(24/263)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وإن غيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه (1) »
__________
(1) رواه البخاري (9 \ 281) في النكاح، ومسلم (2761) في التوبة، والترمذي (1168) في الرضاع.(24/264)
مخطوبة الغير:
11 - أن لا تكون مخطوبة غيره: فقد نهى الشارع الحكيم أن يخطب الرجل على خطبة أخيه؛ لما في ذلك من توريث العداوات، إثارة الإحن، وتأجيج الأحقاد بين الناس:
أ - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا (1) » .
ب - وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، حتى يترك الخاطب قبله، أو يأذن له (2) » .
ج - وعنه أيضا، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه، ولا يبع على بيع أخيه إلا بإذنه (3) » .
د - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك (4) » .
قال الإمام مالك: (وتفسير قوله: «لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه (5) » : أن يخطب الرجل المرأة فتركن إليه، ويتفقان على صداق واحد
__________
(1) البخاري (5143) في النكاح، وأبو داود (4882) في الأدب، والترمذي (1928) في البر والصلة، والموطأ (1641) في حسن الخلق \ المهاجرة، والتجسس بالجيم: طلب الخبر لغيرك، وبالحاء: طلبه لنفسك (جامع الأصول 6 \ 526) .
(2) رواه البخاري (5142) في النكاح، ومسلم (4 \ 128) فيه، والنسائي (6 \ 72) فيه، وأحمد (2 \ 126) .
(3) رواه أبو داود (2081) في النكاح، وابن ماجه (1868) فيه، ومالك في الموطأ (1101) فيه أيضا.
(4) رواه البخاري (3 \ 431) في البيوع، والنسائي (6 \ 72) .
(5) صحيح البخاري النكاح (5142) ، صحيح مسلم النكاح (1412) ، سنن الترمذي البيوع (1292) ، سنن النسائي النكاح (3243) ، سنن أبو داود النكاح (2081) ، سنن ابن ماجه التجارات (2171) ، مسند أحمد بن حنبل (2/42) ، موطأ مالك النكاح (1112) ، سنن الدارمي البيوع (2567) .(24/264)
معلوم، وقد تراضيا، فهي تشترط عليه لنفسها، فتلك التي نهى أن يخطبها الرجل على خطبة أخيه، ولم يعن بذلك إذا خطب الرجل المرأة، فلم يوافقها أمره ولم تركن إليه أن لا يخطبها أحد) (1) .
وقد استدل بعض الفقهاء على أن تحريم خطبة الرجل على خطبة أخيه مشروط بحصول التراضي مع الأول وتسمية المهر، «بحديث فاطمة بنت قيس، حيث قالت: فلما حللت - من العدة - ذكرت له - لرسول الله - أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية صعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد، فكرهته، ثم قال: انكحي أسامة، فنكحته (2) » ، وحجتهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر خطبة بعضهم على بعض، بل خطبها لأسامة (3) .
أما إذا خطب الأول وأجيب طلبه، فقد أجمع الفقهاء على تحريم الخطبة على خطبته، فإذا خطب الثاني ولم يدخل وجب فسخ الخطبة، فإن دخل بها صح زواجه، وكان آثما.
أما إذا كان الأول فاسقا، فقد أجاز بعض الفقهاء خطبة الرجل على خطبته، وقالوا: لا تحرم، ولو ركنت إليه؛ لأن درء المفسدة المترتبة على وقوعها في عصمة الفاسق مقدم على المنفعة المتوقعة من زواجها به، ونقل الحافظ في الفتح (9 \ 200) عن ابن القاسم صاحب مالك قوله: إن الخاطب الأول إذا كان فاسقا جاز للعفيف أن يخطب على خطبته، ثم قال الحافظ - رحمه الله -: وهو متجه فيما إذا كانت المخطوبة عفيفة، فيكون الفاسق غير كفء لها؛ فتكون خطبته كلا خطبة، وقال: وقد رجح قول ابن القاسم ابن
__________
(1) الموطأ (1101) في كتاب النكاح.
(2) رواه مسلم (4 \ 195) في الطلاق، وسيأتي كاملا في الكفاءة للزوج مع تمام تخريجه.
(3) شرح مسلم \ للنووي (9 \ 198) طبعة دار الفكر 1401 هـ.(24/265)
العربي، أما الجمهور لم يعتبروا ذلك إذا صدرت منها علامة القبول، بل وأطلق بعضهم الإجماع على خلافه.(24/266)
خفة المهر:
12 - أن تكون يسيرة المهر: فقد فرض الشارع المهر للزوجة منحة تقدير تحفظ عليها حياءها وخفرها، وتعبيرا عن إكرام الزوج لها ورغبته فيها، إلا أنه - من جانب آخر - حث على يسره وخفته.
أ - عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «خير النكاح أيسره (1) » .
ب - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل نظرت إليها؟ فإن في أعين الأنصار شيئا، قال: قد نظرت إليها، قال: على كم تزوجتها؟ قال على أربع أواق، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - " على أربع أواق. كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه (2) » . . . .
ج - عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أن من يمن المرأة تيسير خطبتها، وتيسير صداقها، وتيسير رحمها (3) » . قال عروة: يعني تيسير رحمها للولادة.
د - عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: «جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، جئت أهب نفسي لك،
__________
(1) رواه أبو داود (2117) في النكاح، وابن حبان (1257) ، وذكره الألباني في (الصحيحة \ 1842) ، وقال: هذا إسناد صحيح، ورجاله ثقات كلهم على شرط مسلم.
(2) رواه مسلم (4 \ 142) في النكاح.
(3) رواه أحمد (6 \ 77) ، والبيهقي (7 \ 235) ، وابن حبان (1256) ، والحاكم (2 \ 181) وقال: حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وذكره الألباني في (الإرواء6 \ 350) وحسنه.(24/266)
فنظر إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصعد النظر فيها وصوبه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست، فقام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله، إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها، فقال: فهل عندك من شيء؟ فقال: لا والله يا رسول الله، فقال: اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا؟ فذهب ثم رجع فقال: لا والله ما وجدت شيئا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: انظر ولو خاتما من حديد، فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتما من حديد، ولكن هذا إزاري فلها نصفه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تصنع بإزارك؟ إن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء، فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام، فرآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موليا، فأمر به فدعي، فلما جاء قال: ماذا معك من القرآن؟ قال: معي سورة كذا وسورة كذا، قال: تقرؤهن عن ظهر قلبك؟ قال: نعم، قال: اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن (1) » .
هـ - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة، فقال: ما هذا؟ قال: يا رسول الله إني تزوجت امرأة من الأنصار، قال: كم سقت إليها؟ قال: زنة
__________
(1) رواه البخاري (9 \ 113) ، ومسلم (1425) ، وأبو داود (2111) ، والترمذي (1114) ومالك (1107) والنسائي (6 \ 113) وابن ماجه (1889) والبيهقي (7 \ 85) والدارقطني (393) كلهم في النكاح، وأحمد (5 \ 330) والدارمي (2 \ 142) . قال النووي في (شرح مسلم 9 \ 213) : فيه دليل على أنه يستحب أن لا ينعقد النكاح إلا بصداق؛ لأنه أقطع للنزاع وأنفع للمرأة، من حيث إنه لو حصل طلاق قبل الدخول وجب نصف المسمى، فلو لم تكن تسمية لم يجب صداق، بل تجب المتعة، فلو عقد النكاح بلا صداق صح لقوله تعالى: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة فهذا تصريح بصحة النكاح والطلاق من غير مهر، وهل يجب المهر بالعقد أم بالدخول؟ فيه خلاف مشهور، وأصحهما الدخول، وهو ظاهر الآية. اهـ.(24/267)
نواة من ذهب، قال: بارك الله لك، أولم ولو بشاة (1) » ، وفي رواية البيهقي: (على وزن نواة من ذهب، قومت خمسة دراهم) .
وعن أبي العجفاء السلمي قال: خطبنا عمر يوما، فقال: ألا لا تغالوا في صدقات النساء، فإن ذلك لو كان مكرمة في الدنيا وتقوى عند الله، كان أولاكم بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم، ما أصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من نسائه، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية) .
ز - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: «سألت عائشة - رضي الله عنها -: كم كان صداق رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان صداقه لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشا، قالت: أتدري ما النش؟ قلت: لا، قالت: نصف أوقية، فذلك خمسمائة درهم (2) » .
ح - عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: «لما تزوج علي بفاطمة - رضي الله عنهما - وأراد أن يدخل بها، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أعطها شيئا " قال: ما عندي شيء، قال: " أين درعك الحطمية؟ " فأعطاها درعه (3) » .
__________
(1) رواه البخاري (5153) ، ومسلم (4 \ 14) ، وأبو داود (2109) ، والترمذي (1094) ، والنسائي (6 \ 137) ومالك (1146) كلهم في النكاح، والبيهقي (7 \ 227) فيه أيضا.
(2) رواه مسلم (1426) ، وأبو داود (2105) ، والنسائي (6 \ 116) ، وابن ماجه (1886) كلهم في النكاح، قال النووي في (شرح مسلم 9 \ 215) : استدل بهذا الحديث على أنه يستحب كون الصداق خمسمائة درهم، والمراد في حق من يحتمل ذلك، فإن قيل: فصداق أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أربعة آلاف درهم (= أربعمائة دينار) فالجواب: إن هذا القدر تبرع به النجاشي من ماله إكراما للنبي - صلى الله عليه وسلم.
(3) رواه أبو داود (2125) ، والنسائي (6 \ 129) في النكاح، وإسناده صحيح، والحطمية: الدرع التي تكسر السيوف، وقيل: إنها منسوبة إلى بطن من عبد القيس يقال له (حطمة بن محارب) كانوا يعملون الدروع.(24/268)
ط - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «تزوج أبو طلحة أم سليم، فكان صداق ما بينهما الإسلام، أسلمت أم سليم قبل أبي طلحة فخطبها، فقالت: إني قد أسلمت، فإن أسلمت نكحتك، فأسلم، فكان صداق ما بينهما (1) » .
يتبين لنا - مما سقنا من أحاديث شريفة - أن السنة في عدم التغالي في الصداق، بل إن خيره أيسره، وأفضله ما كان موافقا صداق نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وبناته الأطهار، وهو ما يعادل خمسمائة درهم، هذا بالنسبة للقادر المستطيع، أما الفقير الضعيف الحال فالأولى أن يكون أقل من ذلك بكثير، فقد زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته لعلي، وطلب إليه - لما علم رقة حاله - أن يصدقها درعه الحطمية، كما زوج عليه الصلاة والسلام المرأة التي وهبت نفسها له من الصحابي الفقير، وجعل صداقها ما يحفظ من القرآن، وتزوجت أم سليم أبا طلحة، وجعلا صداق ما بينهما إسلامه، كما تزوج عبد الرحمن بن عوف بزنة نواة من ذهب، وقال الخطابي: النواة اسم لقدر معروف عندهم، فسروها بخمسة دراهم من ذهب، وقال أبو عبيد: إن أبا عبيدة دفع خمسة دراهم تسمى نواة، كما تسمى الأربعون درهما أوقية (2) .
وقد أنكر عليه السلام على الذي أصدق الأنصارية أربع أواق فضة، وحاله لا تساعده على ذلك، وقال له: كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل.
قال ابن القيم في (زاد المعاد 5 \ 178) : (تضمنت الأحاديث أن الصداق لا يتقدر أقله، وأن المغالاة في المهر مكروهة في النكاح، وأنها من قلة بركته وعسره، وأن المرأة إذا رضيت بعلم الزوج وحفظه للقرآن أو بعضه مهرها جاز ذلك، بل إن رضيت بالعلم والدين وإسلام الزوج وقراءته القرآن، كان من أفضل المهور وأنفعها وأجلها.
__________
(1) رواه النسائي (6 \ 114) في النكاح، قال الأرناؤوط في حاشية جامع الأصول (7 \ 7) : وإسناده صحيح.
(2) انظر: شرح مسلم \ للنووي (9 \ 216) ، وزاد المعاد \ لابن القيم (5 \ 176) .(24/269)
وقال بعضهم: لا يكون الصداق إلا مالا، ولا يكون منافع أخرى، ثم جعلوا لأقله حدا، فقال أبو حنيفة، لا يكون أقل من عشرة دراهم، وقال مالك: لا يكون أقل من ربع دينار (أو ثلاثة دراهم) ، وهي أقوال لا دليل عليها من كتاب ولا سنة ولا قياس ولا قول صاحب، وقد زوج سعيد بن المسيب ابنته على درهمين، وتزوج ابن عوف على خمسة دراهم، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم، ولا سبيل إلى إثبات المقادير إلا من جهة صاحب الشرع) .
ونقل الحافظ ابن حجر في (الفتح 9 \ 209) قول ابن المنذر تعليقا على حديث: «التمس ولو خاتما من حديد (1) » فيه رد على من زعم أن أقل المهر عشرة دراهم، وكذا من قال: ربع دينار، قال: لأن خاتما من حديد لا يساوي ذلك) ثم نقل رحمه الله قول ابن العربي من المالكية: (لا شك أن خاتم الحديد لا يساوي ربع دينار) (الفتح 9 \ 211) .
أما ما يروى من قصة المرأة التي ردت على عمر بن الخطاب، حين دعا إلى عدم التغالي في المهور، بقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (2)
ونصها: (عن مجالد بن سعيد عن الشعبي قال: خطب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ألا لا تغالوا في صدق النساء؛ فإنه لا يبلغني عن أحد ساق أكثر من شيء ساقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو سيق إليه، إلا جعلت فضل ذلك في بيت المال، ثم نزل فعرضت له امرأة من قريش، فقالت: يا أمير المؤمنين، كتاب الله أحق أن يتبع أو قولك؟ قال: بل كتاب الله عز وجل، فما ذلك؟ قالت: نهيت الناس آنفا أن يغالوا في صدق النساء، والله عز وجل يقول:
{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (3)
فقال عمر: كل أحد أفقه من عمر - مرتين أو ثلاثا - ثم رجع إلى المنبر، فقال للناس: إني نهيتكم أن تغالوا في صدق النساء، ألا فليفعل رجل في
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5135) ، صحيح مسلم النكاح (1425) ، سنن الترمذي النكاح (1114) ، سنن النسائي النكاح (3359) ، سنن أبو داود النكاح (2111) ، سنن ابن ماجه النكاح (1889) ، مسند أحمد بن حنبل (5/336) ، موطأ مالك النكاح (1118) ، سنن الدارمي النكاح (2201) .
(2) سورة النساء الآية 20
(3) سورة النساء الآية 20(24/270)
ماله ما بدا له) . فهذه القصة غير ثابتة عن عمر - رضي الله عنه؛ لأن في سندها علتين: الأولى: الانقطاع؛ لأن الشعبي لم يدرك عمر، حيث ولد لست خلون من خلافته.
والثانية: الضعف، من أجل مجالد بن سعيد، إذ ضعفه البخاري والنسائي والدارقطني وابن عدي وابن معين والحافظ في (التقريب) ، هذا بالإضافة إلى نكارة المتن: إذ تخالف ما صح عن عمر من أنه نهى عن المغالاة في المهور - كما ذكرنا في " و " - أولا؛ ولمخالفتها ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحث على عدم المغالاة فيها، وأمره بتيسير الصداق ثانيا؛ ولمخالفتها معنى الآية التي استشهدت بها المرأة، قال القرطبي: (لا تعطي الآية جواز المغالاة؛ لأن التمثيل بالقنطار إنما هو على جهة المبالغة، كأنه قال: وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد، وهذا كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من بنى لله مسجدا، ولو كمفحص قطاة (1) » ومعلوم أنه لا يكون مسجد كمفحص قطاة) ونقل أبو حيان عن الفخر الرازي قوله: (لا دلالة فيها على المغالاة؛ لأن قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ} (2) لا يدل على جواز إيتاء القنطار، ولا يلزم من جعل الشيء شرطا لشيء آخر كون ذلك الشرط في نفسه جائز الوقوع، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين (3) » . . .
__________
(1) سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (738) .
(2) سورة النساء الآية 20
(3) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5 \ 100) ، والبحر المحيط لأبي حيان (3 \ 205) ، أما الآية فإنها تفيد: أن الزوج القادر المستطيع، لو أحب أن يهب لزوجته من ماله تطوعا وعن طيب نفس مالا كثيرا وإكراما لها، فهذا لا ضير فيه، أما أن تطلب هي أو وليها منه المهر العظيم، فهذا هو المنهي عنه. ومفحص القطاة: موضعها الذي تجثم فيه وتبيض.(24/271)
قال ابن تيمية في (الفتاوى 32 \ 194) : (والمستحب في الصداق مع القدرة واليسار أن يكون جميع عاجله وآجله لا يزيد على مهر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بناته، وكان ما بين أربعمائة إلى خمسمائة بالدراهم الخالصة، فهذه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم، من فعل ذلك فقد استن بسنة رسول الله في الصداق، قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: «كان صداقنا - إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم - عشر أواق، وطبق بيديه (1) » ، فذلك أربعمائة درهم، رواه أحمد في مسنده، وهذا لفظ أبي داود في سننه، فمن دعته نفسه إلى أن يزيد صداق ابنته على صداق بنات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللواتي هن خير خلق الله في كل فضيلة، وهن أفضل نساء العالمين في كل صفة، فهو أحمق جاهل، وكذلك صداق أمهات المؤمنين، هذا مع القدرة واليسار، فأما الفقير ونحوه فلا ينبغي له أن يصدق المرأة إلا ما يقدر على وفائه من غير مشقة. والأولى تعجيل الصداق كله للمرأة قبل الدخول إذا أمكن، فإن قدم البعض وأخر البعض فهو جائز، وقد كان السلف الصالح الطيب يرخصون الصداق، والذي نقل عن بعض السلف من تكثير صداق النساء فإنما كان ذلك؛ لأن المال اتسع عليهم، وكانوا يعجلون الصداق كله قبل الدخول، لم يكونوا يؤخرون منه شيئا، ومن كان له يسار ووجد فأحب أن يعطي امرأته صداقا كثيرا فلا بأس بذلك، كما قال تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (2)
وقال أيضا: (ويكره لرجل أن يصدق المرأة صداقا يضر به أن ينقده، ويعجز عن وفائه إن كان دينا، وما يفعله بعض أهل الجفاء والخيلاء والرياء من تكثير المهر للرياء والفخر، هم لا يقصدون أخذه من الزوج، وهو ينوي أن لا يعطيهم إياه، فهذا منكر قبيح، مخالف للسنة، خارج عن الشريعة) .
__________
(1) سنن النسائي النكاح (3348) ، مسند أحمد بن حنبل (2/368) .
(2) سورة النساء الآية 20(24/272)
ويقول الإمام الشوكاني تعليقا على حديث عائشة: «إن أعظم النساء بركة أيسرهن مؤونة» في (نيل الأوطار 6 \ 313) : (فيه دليل على أفضلية النكاح مع قلة المهر، وأن الزواج بمهر قليل مندوب إليه؛ لأن المهر إذا كان قليلا، لم يستصعب النكاح من يريده؛ فيكثر الزواج المرغب فيه، ويقدر عليه الفقراء، ويكثر النسل الذي هو أهم مطالب النكاح، بخلاف ما إذا كان المهر كثيرا، فإنه لا يتمكن منه إلا أرباب الأموال، فيكون الفقراء الذين هم الأكثر في الغالب غير مزوجين، فلا تحصل المكاثرة التي أرشد إليها النبي - صلى الله عليه وسلم) .
وقال الصنعاني في (سبل السلام 3 \ 113) : (أنه لا بد من الصداق في النكاح، وأنه يصح أن يكون شيئا يسيرا، فإن قوله: «ولو خاتما من حديد (1) » مبالغة في تقليله؛ فيصح بكل ما تراضى عليه الزوجان، أو من إليه ولاية العقد مما فيه منفعة، وأنه ينبغي ذكر الصداق في العقد؛ لأنه أقطع للنزاع وأنفع للمرأة، فلو عقد بغير ذكر صداق صح ووجب لها مهر المثل بالدخول، وأنه يستحب تعجيل المهر، ويصح أن يكون منفعة كالتعليم، فإنه منفعة ويقاس عليه غيره، ويدل عليه قصة موسى مع شعيب، وقوله: بما معك من القرآن يحتمل وجهين: أظهرهما أن يعلمها ما معه من القرآن ويكون ذلك صداقا، ويؤيده قوله في بعض طرقه الصحيحة: " فعلمها من القرآن " ويحتمل أن الباء للتعليل، وأنه زوجه بها بغير صداق إكراما له؛ لكونه حافظا لبعض القرآن) .
وقد اعتمد بعض الفقهاء في جعلهم عشرة دراهم حدا أدنى للمهر على حديث جابر: (لا مهر أقل من عشرة دراهم) ، إلا أن هذا الحديث لم يصح، فقد أخرجه الدارقطني في سننه (3 \ 244) وقال: فيه مبشر بن عبيد، متروك الحديث، أحاديثه لا يتابع عليها، كما أخرجه البيهقي من طريقه (7 \ 240) ، ثم ذكر قول أبي علي الحافظ: فيه مبشر بن عبيد، وقد أجمعوا على تركه، وكان أحمد بن حنبل يرميه بوضع الحديث، وذكره
__________
(1) صحيح البخاري فضائل القرآن (5029) ، صحيح مسلم النكاح (1425) ، سنن الترمذي النكاح (1114) ، سنن النسائي النكاح (3280) ، سنن أبو داود النكاح (2111) ، سنن ابن ماجه النكاح (1889) ، مسند أحمد بن حنبل (5/336) ، موطأ مالك النكاح (1118) ، سنن الدارمي النكاح (2201) .(24/273)
الشوكاني في (الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة) برقم \ 343؛ ونقل قول أحمد: مبشر كذاب، يضع الحديث، وقال الشوكاني في (نيل الأوطار 6 \ 311) : (لو صح لكان معارضا لما تقدم من الأحاديث الدالة على أنه يصح أن يكون المهر دونها، ولكنه لم يصح، فإن في إسناده: مبشر بن عبيد وحجاج بن أرطأة، وهما ضعيفان، وقد اشتهر حجاج بالتدليس، ومبشر متروك، وقد روى الحديث البيهقي من طريق آخر، وفي إسناده داود بن زيد الأودي وهو ضعيف بلا خلاف، وثالثة فيها أبو خالد الواسطي، فهذه طرق ضعيفة لا تقوم بها حجة) .
وقاس بعض الفقهاء أقل المهر على أول ما يقطع به يد السارق، وقد رد ابن القيم هذا القياس في (الزاد 2 \ 330) وقال: (وهو من أفسد القياس، وأين النكاح من اللصوصية؟ واستباحة الفرج من قطع اليد؟!) .(24/274)
رضا المخطوبة
13 - أن تكون راضية بالزواج ممن تقدم لخطبتها: فينبغي على ولي البنت أخذ رأيها فيمن رغب فيها، فلا يرغمها على الزواج من رجل لا ترغب فيه، ذلك أن الزواج عقد الحياة؛ فيجب أن تتوافر فيه الإرادة الكاملة، والرضا التام، فلا إكراه لأحد الطرفين على الاقتران بطرف لا يرغب فيه، أما إذا كانت المرأة تحب الراغب في نكاحها وتميل إليه، فالأولى تزويجها منه، إذا كان لها كفؤا، وذلك للأحاديث التالية:
أ - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت (1) » .
__________
(1) رواه البخاري (5136) ، ومسلم (1419) ، وأبو داود (2092) ، والترمذي (1107) ، والنسائي (6 \ 85) ، وابن ماجه (1871) وأحمد (4 \ 203) ، وكلهم رووه في النكاح(24/274)
ب - عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها (1) » .
ج - «عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلت: يا رسول الله، تستأمر النساء في أبضاعهن؟ قال: نعم، قلت: البكر تستأمر فتستحي فتسكت، قال: سكاتها إذنها (2) » .
د - «عن خنساء بنت خذام الأنصارية (أن أباها زوجها وهي ثيب، فكرهت ذلك، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرد نكاحه (3) » .
هـ - عن القاسم بن محمد «أن امرأة من ولد جعفر تخوفت أن يزوجها وليها وهي كارهة، فأرسلت إلى شيخين من الأنصار - عبد الرحمن ومجمع ابني جارية - فقالا: فلا تخشين، فإن خنساء بنت خذام أنكحها أبوها وهي كارهة، فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - نكاحها (4) » .
والأيم باتفاق أهل اللغة تطلق على امرأة لا زوج لها، صغيرة كانت أو كبيرة، بكرا كانت أو ثيبا، وقال الفقهاء كافة: المراد الثيب، واستدلوا أنه جاء في الرواية الثانية للحديث بلفظ الثيب، وبأنها جعلت مقابلة للبكر، وبأن أكثر استعمالها في اللغة للثيب (5) ، والاستئمار:
__________
(1) رواه مسلم (1421) ، ومالك في الموطأ (1103) ، والترمذي (1108) ، وأبو داود (2098) والنسائي (6 \ 84) ، وابن ماجه (1870) ، والبيهقي (7 \ 115) ، والدارقطني (3 \ 238) وكلهم في النكاح، وأحمد (1 \ 261) ، والصمات: السكوت.
(2) رواه مسلم (1420) والنسائي (6 \ 85) في النكاح، وأحمد (2 \ 229) ، وكنى بالأبضاع عن النكاح، وملك فلان بضع فلانة: إذا ملك عقد نكاحها، وهي في الأصل كناية عن موضع الغشيان، والمباضعة: المباشرة.
(3) رواه البخاري (9 \ 166) ، والموطأ (1125) ، وأبو داود (2101) ، والنسائي (6 \ 86) ، وابن ماجه (1873) ، والبيهقي (7 \ 119) كلهم في النكاح، والدارمي (2 \ 139) ، وأحمد (6 \ 328) .
(4) رواه البخاري (9 \ 166) في النكاح، باب إذا زوج ابنته وهي كارهة فنكاحه مردود.
(5) شرح مسلم \ للنووي (9 \ 203) .(24/275)
طلب الأمر من قبلها وأمرها لا يكون إلا بنطق، أما الاستئذان: فهو طلب الإذن، وقد يعلم إذنها بسكوتها؛ لأن السكوت من علامات الرضا.
قال الحافظ في التعليق على حديث أبي هريرة (الفتح 9 \ 191) : (الثيب البالغ لا يزوجها الأب ولا غيره إلا برضاها اتفاقا، والحديث دال على أنه لا إجبار للأب عليها إذا امتنعت، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم، وقد وقع في الحديث التفرقة بين الثيب والبكر، فعبر للثيب بالاستئمار، وللبكر بالاستئذان، فيؤخذ منه فرق بينهما من جهة أن الاستئمار يدل على تأكيد المشاورة، وجعل الأمر إلى المستأمرة؛ ولهذا يحتاج الولي إلى صريح إذنها في العقد، فإذا صرحت بمنعه امتنع اتفاقا، والبكر بخلاف ذلك، والإذن دائر بين القول والسكوت، بخلاف الأمر فإنه صريح في القول، وإنما جعل السكوت إذنا في حق البكر؛ لأنها قد تستحي أن تفصح) .
وحول حديث ابن عباس، قال النووي في (شرح مسلم 9 \ 204) : (واعلم أن لفظة (أحق) هنا للمشاركة، ومعناه أن لها في نفسها - في النكاح - حقا، ولوليها حقا، وحقها أوكد من حقه، فإنه لو أراد تزويجها كفئا وامتنعت لم تجبر) .
وقال الحافظ في (الفتح 9 \ 193) : (البكر التي أمر باستئذانها هي البالغ، إذا لا معنى لاستئذان من لا تدري ما الإذن، ومن يستوي سكوتها وسخطها، واختلفوا في الأب يزوج البكر البالغ بغير إذنها: فقال الأوزاعي والثوري والحنفية ووافقهم أبو ثور، يشترط استئذانها، فلو عقد عليها بغير استئذان لم يصح، وقال الآخرون: يجوز للأب أن يزوجها ولو كانت بالغا بغير استئذان، وهو قول ابن أبي ليلى ومالك والليث والشافعي وأحمد وإسحاق، ومن حجتهم مفهوم الحديث؛ لأنه جعل الثيب أحق بنفسها من وليها، فدل على أن ولي البكر أحق بها منها) .(24/276)
وقال صاحب عون المعبود (6 \ 116) : (والاستئذان عندهم إنما هو على استطابة النفس دون الوجوب، وليس ذلك بشرط في صحة العقد) .
وذهب ابن القيم إلى ترجيح قول أبي حنيفة، من أن البكر لا تجبر على النكاح من غير رضاها؛ لأن ذلك هو الموافق لحكم النبي - صلى الله عليه وسلم
- وقواعد الشرع، ومصالح الأمة، قال - رحمه الله (زاد المعاد 5 \ 96) : (وموجب هذا الحكم أنه لا تجبر البكر البالغ على النكاح، ولا تزوج إلا برضاها، وهذا قول جمهور السلف، ومذهب أبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايات عنه، وهو القول الذي ندين الله به ولا نعتقد سواه، وهو الموافق لحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمره ونهيه وقواعد شريعته ومصالح أمته: أما موافقته لحكمه، فإنه حكم بتخيير البكر الكارهة. وأما موافقة هذا القول لأمره فإنه قال: والبكر تستأذن، وهذا أمر مؤكد؛ لأنه ورد بصيغة الخبر الدال على تحقق المخبر به وثبوته ولزومه، والأصل في أوامره - صلى الله عليه وسلم - أن تكون للوجوب ما لم يقم إجماع على خلافه. أما موافقته لنهيه فلقوله: «لا تنكح البكر حتى تستأذن (1) » ، وهذا إثبات للحكم بأبلغ الطرق، أما موافقته لقواعد شرعه، فإن البكر البالغ العاقلة الراشدة لا يتصرف أبوها في أقل شيء من مالها إلا برضاها، ولا يجبرها على إخراج اليسير منه دون رضاها، فكيف يجوز أن يرقها، ويخرج بضعها منها بغير رضاها إلى من يريده هو، وهي من أكره الناس فيه، وهو من أبغض شيء إليها، ومع هذا ينكحها إياه قهرا بغير رضاها إلى من يريده، ويجعلها أسيرة عنده. أما موافقته لمصالح الأمة، فلا يخفى مصلحة البنت في تزويجها بمن تختاره وترضاه، وحصول مقاصد النكاح لها به، وحصول ضد ذلك بمن تبغضه وتنفر عنه، فلو لم تأت السنة الصريحة بهذا القول لكان القياس الصحيح وقواعد الشريعة لا تقتضي غيره) .
أما إذا كانت البنت أو المرأة تحب المتقدم لخطبتها، وتميل إليه فالأولى تزويجها منه:
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5136) ، سنن الترمذي النكاح (1107) ، سنن النسائي النكاح (3265) ، سنن أبو داود النكاح (2092) ، سنن ابن ماجه النكاح (1871) ، مسند أحمد بن حنبل (2/434) ، سنن الدارمي النكاح (2186) .(24/277)
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - «أن رجلا قال: يا رسول الله، في حجري يتيمة قد خطبها رجل موسر ورجل معدم، فنحن نحب الموسر، وهي تحب المعدم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: لم ير للمتحابين مثل النكاح (1) »
ز - وعنه أيضا، قال: «إن زوج بريرة كان عبدا يقال له " مغيث " كأني أنظر إليه يطوف خلفها ودموعه تسيل على لحيته، يتبعها في سكك المدينة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للعباس: " يا عباس، ألا تعجب من حب مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثا؟!) فقال: يا رسول الله، اشفع له، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لها: يا بريرة اتق الله، لو راجعته، قالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال: إنما أشفع، قالت: فلا حاجة لي فيه (2) » .
أما اليتيمة فإنها تستأذن، فإن أبت فلا جواز عليها ولا تكره:
ح - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اليتيمة تستأمر في نفسها، فإن صمتت فهو إذنها، وأن أبت فلا جواز عليها (3) » .
واليتيمة في الأصل: الصغيرة لا أب لها، ولكن هذا اللفظ قد يطلق ويراد به البكر البالغة التي مات أبوها قبل بلوغها؛ فلزمها اسم اليتم، فدعيت به وهي بالغة، والعرب ربما دعت الشيء بالاسم الأول الذي إنما
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (1847) ، والحاكم (2 \ 160) ، والبيهقي (7 \ 78) في النكاح، وذكره الألباني في (الصحيحة 624) وصححه، كما ذكره السيوطي في (الجامع الصغير) ورمز له بالصحة.
(2) رواه البخاري (9 \ 358) في الطلاق، وأبو داود (2231) فيه أيضا، والترمذي (1156) في الرضاع، والنسائي (8 \ 245) في القضاة، والدرامي (3 \ 293) في النكاح، والبيهقي (7 \ 221) فيه، وأحمد (1 \ 215) ، وكانت بريرة زوجة لمغيث، وكان عبدا، فعتقت تحته، فتركته.
(3) رواه أبو داود (2093) ، والترمذي (1109) ، والبيهقي (7 \ 120) ، والدارقطني (3 \ 221) ، والدارمي (2 \ 138) كلهم في النكاح، وصححه ابن حبان برقم (1238) والحاكم (2 \ 166) ، ووافقه الذهبي.(24/278)
سمي به لمعنى متقدم، ثم ينقطع ذلك المعنى ولا يزول الاسم. ومن هنا اختلف العلماء في جواز نكاح اليتيمة التي لم تبلغ، فذهب سفيان الثوري والشافعي إلى أن نكاحها لا يجوز حتى تبلغ، قال صاحب عون المعبود (6 \ 117) : (والمراد باليتيمة في الحديث البكر البالغة، سماها باعتبار ما كانت، كقوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} (1)
وفائدة التسمية مراعاة حقها والشفقة عليها في تحري الكفاية والصلاح، فإن اليتم مظنة الرأفة والرحمة، ثم هي قبل البلوغ لا معنى لإذنها ولا لإبائها، فكأنه عليه الصلاة والسلام شرط بلوغها، فمعناه: لا تنكح حتى تبلغ فتستأمر أي تستأذن) .
وذهب أحمد وإسحاق إلى جواز نكاحها إذا بلغت تسع سنين ورضيت، واحتجا «بحديث عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنى بها وهي بنت تسع سنين (2) » ، وقولها - رضي الله عنها -: " إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة " وهو ما رجحه الإمام ابن القيم محتجا بالحديث الذي رواه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، قال: «حفظت عن رسول لله - صلى الله عليه وسلم - اثنتين: لا يتم بعد احتلام، ولا صمات يوم إلى الليل (3) » .
ثم قال رحمه الله: (فدل ذلك على جواز نكاح اليتيمة قبل البلوغ، وهذا مذهب عائشة - رضي الله عنها، وعليه يدل الكتاب والسنة، وبه قال أحمد وأبو حنيفة وغيرهما.) (الزاد 5 \ 100) .
__________
(1) سورة النساء الآية 2
(2) صحيح البخاري المناقب (3896) ، صحيح مسلم النكاح (1422) ، سنن أبو داود الأدب (4933) ، سنن ابن ماجه النكاح (1876) ، مسند أحمد بن حنبل (6/211) .
(3) رواه داود (2873) في الوصايا، قال الأرناؤوط في تخريج جامع الأصول (11 \ 642) : هو حسن بشواهده عندي.(24/279)
موافقة الولي
14 - موافقة وليها على زواجها، وذلك للأدلة التالية:
أ - قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (1) (النور \ 32) .
__________
(1) سورة النور الآية 32(24/279)
ب - وقوله:
{وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} (1) (البقرة \ 221) .
فمدلول الآتين أن المرأة لا تنكح نفسها إلا بولي؛ لأن الخطاب فيهما موجه إلى الأولياء، ويشمل ذلك كلا من القاصرة والبالغة على السواء.
ج - عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا نكاح إلا بولي (2) » .
د - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له (3) »
هـ - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها (4) » .
و «وعن معقل بن يسار - رضي الله عنه - قال: كانت لي أخت تخطب إلي، فأتاني ابن عم لي، فأنكحتها إياه، ثم طلقها طلاقا له
__________
(1) سورة البقرة الآية 221
(2) رواه الترمذي (1101) وأبو داود (2085) ، وابن ماجه (1880) ، والبيهقي (7 \ 107) ، والدارمي (2 \ 137) في النكاح، وأحمد (4 \ 394) وابن حبان (1243) والحاكم (1 \ 170) وصححاه، وصححه الألباني في (الإرواء \ 1839) .
(3) رواه أبو داود (2083) ، والترمذي (1102) ، وابن ماجه (1879) ، في النكاح، وكذا البيهقي (7 \ 105) والدارقطني (381) والدارمي (2 \ 137) ، وصححه ابن حبان (1248) والحاكم (2 \ 168) ووافقه الذهبي، وذكره الحافظ في (بلوغ المرام \ 1010) ، وبسط القول عنه في التلخيص (2 \ 156) ، وصححه الألباني في (الإرواء \ 1840) .
(4) رواه ابن ماجه (1882) ، والدارقطني (384) والبيهقي (7 \ 110) ، وذكره الحافظ في (بلوغ المرام \ 1013) وقال: رجاله ثقات، وذكره الألباني في (الإرواء \ 1841) وصححه دون الجملة الأخيرة، ووقفها على أبي هريرة.(24/280)
رجعة، ثم تركها حتى انقضت عدتها، فلما خطبت إلي أتاني يخطبها، فقلت له: والله، لا أنكحتها أبدا، قال: ففي نزلت هذه الآية: فكفرت عن يميني، وأنكحتها إياه (2) » .
وجمهور أهل العلم على أنه لا يصح العقد بدون ولي للأدلة المذكورة، وممن قال بوجوب الولي: علي وعمر، وابن مسعود وابن عمر، وابن أبي ليلى والعترة، وأحمد وإسحاق والشافعي. ونقل عن ابن المنذر أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك، وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يشترط الولي أصلا، ويجوز للمرأة أن تزوج نفسها ولو بغير إذن وليها إذا تزوجت كفئا، واحتج بالقياس على البيع؛ فإنها تستقل به، وبحديث «الثيب أحق بنفسها من وليها (3) » ، وحمل الأحاديث الواردة في اشتراط الولي على الصغيرة، وخص بهذا القياس عمومها (4) .
أما حديث «الثيب أحق بنفسها من وليها (5) » فلا حجة لهم فيه؛ لأن معناه كما قال النووي في (شرح مسلم 9 \ 204) : (أن لها في نفسها حقا، ولوليها حقا، وحقها أوكد من حقه، فإنه لو أراد تزويجها كفئا وامتنعت لم تجبر) ، ونقل صاحب عون المعبود (6 \ 101) عن ابن الجوزي قوله: (إنه أثبت لها حقا، وجعلها أحق؛ لأنه لا يجوز للولي أن يزوجها إلا بإذنها) ، وقال الصنعاني في (سبل السلام 3 \ 119) : (أحقيته الولاية، وأحقيتها رضاها، فحقها آكد من حقه، لتوقف حقه على إذنها) فتأويل الحنفية لهذا الحديث ترده الأخبار الصحيحة المفيدة لاشتراط الولي، أما لجوؤهم إلى القياس مع
__________
(1) رواه البخاري (8 \ 143) في التفسير، والترمذي (3985) فيه، وأبو داود (2087) في النكاح. وقد نقل الصنعاني في (سبل السلام 3 \ 118) عن الشافعي قوله: (هذه الآية هي أصرح آية في اعتبار الولي، وإلا لما كان لعضله معنى، فلو كان لها تزويج نفسها لم يعاتب أخاها على الامتناع، ولكان نزول الآية لبيان أنها تزوج نفسها) .
(2) سورة البقرة الآية 232 (1) {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}
(3) صحيح مسلم النكاح (1421) ، سنن الترمذي النكاح (1108) ، سنن النسائي النكاح (3260) ، سنن أبو داود النكاح (2098) ، سنن ابن ماجه النكاح (1870) ، مسند أحمد بن حنبل (1/274) ، موطأ مالك النكاح (1114) ، سنن الدارمي النكاح (2190) .
(4) انظر: (فتح الباري 9 \ 187) و (عون المعبود 6 \ 101) و (نيل الأوطار 6 \ 251) .
(5) صحيح مسلم النكاح (1421) ، سنن الترمذي النكاح (1108) ، سنن النسائي النكاح (3260) ، سنن أبو داود النكاح (2098) ، سنن ابن ماجه النكاح (1870) ، مسند أحمد بن حنبل (1/274) ، موطأ مالك النكاح (1114) ، سنن الدارمي النكاح (2190) .(24/281)
وجود النص الصحيح الصريح، فهو من أفسد أنواع الأقيسة، قال الحافظ ابن حجر في (الفتح 9 \ 187) : (حديث معقل المذكور رفع هذا القياس، ويدل على اشتراط الولي في النكاح دون غيره؛ ليندفع عن موليته العار باختيار الكفء) .
قال صاحب عون المعبود (6 \ 101) : (والحق أن النكاح بغير الولي باطل كما يدل عليه الحديث) .
وقال ابن تيمية في (الفتاوى 32 \ 21) : (جمهور العلماء يقولون: النكاح بغير ولي باطل، يعزرون من يفعل ذلك اقتداء بعمر بن الخطاب - رضي الله عنه، وهذا مذهب الشافعي، بل طائفة: منهم يقيمون الحد في ذلك بالرجم وغيره) ، وقال أيضا (32 \ 131) : (دل القرآن في غير موضع، والسنة في غير موضع، وهو عادة الصحابة، إنما كان يزوج النساء الرجال، لا يعرف عن امرأة تزوج نفسها، وهذا مما يفرق فيه بين النكاح ومتخذات أخدان؛ ولهذا قالت عائشة: " لا تزوج المرأة نفسها؛ فإن البغي هي التي تزوج نفسها ") .
وقد يحتج بعض الناس على أن الأمر في النكاح للمرأة، وأن الولي ليس له من الأمر شيء، بالحديث التالي، (عن عبد الله بن بريدة «عن عائشة - رضي الله عنها - أن فتاة دخلت عليها فقالت: إن أبي زوجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، وأنا كارهة: قالت: اجلسي حتى يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فأرسل إلى أبيها فدعاه. فجعل الأمر إليها، فقالت: يارسول الله، قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم الناس: أن ليس للآباء من الأمر شيء (1) » .
فهذا الحديث ليس بصحيح، فقد رواه البيهقي في (السنن الكبرى 7 \ 118) وقال عنه: (وهذا مرسل ابن بريده لم يسمع من عائشة - رضي
__________
(1) أخرجه النسائي (6 \ 87) وابن ماجه (1874) كلاهما في النكاح، وأحمد (6 \ 136) .(24/282)
الله عنها - كما رواه الدارقطني (3 \ 232) وقال عنه: (مرسل؛ لأن ابن بريدة لم يسمع من عائشة شيئا) ، ووافقه على ذلك شمس الحق العظيم آبادي في (التعليق المغني على الدارقطني) وقال: (وإن صح فإنما جعل الأمر إليها لوضعها في غير كفء) ، كما ضعفه الألباني في (غاية المرام) برقم \ 217.
وقد اشترط الفقهاء في الولي أن يكون: حرا، عاقلا، بالغا، مسلما إذا كان المولى عليه مسلما، أما العدالة فلا تشترط فيه، إذ إن الفسق لا يسلب أهليته للتزويج، إلا إذا خرج به الفسق إلى حد التهتك؛ فعندها يسلب حقه في الولاية، إذ لا يؤتمن في هذه الحالة على من تحت يده (1) .
__________
(1) انظر: (فقه السنة) السيد سابق 2 \ 125، طبعة دار الكتاب العربي) .(24/283)
الاشتراط:
15 - ألا تشترط على خاطبها طلاق زوجته الأولى إذا كان متزوجا؛ وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -:
أ - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها، لتستفرغ ما في صحفتها، فإنما لها ما قدر لها (1) » .
ب - وعنه أيضا، قال «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع حاضر لباد، ولا تناجشوا، ولا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في صحفتها (2) » .
__________
(1) رواه البخاري (1515) ومسلم (1408) في النكاح، والموطأ (2 \ 900) في القدر، وأبو داود (2176) في الطلاق والترمذي (1190) فيه، والنسائي (7 \ 258) في البيوع.
(2) رواه البخاري (4 \ 295) ومسلم (1515) ، والموطأ (2 \ 683) ، والنسائي (7 \ 258) في البيوع، والترمذي (1134) وأبو داود (2080) في النكاح، وابن ماجه (1272) في التجارات.(24/283)
ج - وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحل أن تنكح امرأة بطلاق أخرى (1) » .
قال النووي في (شرح مسلم 9 \ 193) : (ومعنى هذا الحديث نهي المرأة الأجنبية أن تسأل طلاق زوجته، وأن ينكحها ويصير لها من نفقته ومعروفه ومعاشرته ونحوها ما كان للمطلقة، فعبر عن ذلك بانكفاء ما في الصحفة مجازا، قال الكسائي: أكفأت الإناء كببته، وكفأته وأكفأته أملته، والمراد بأختها غيرها، سواء كانت أختها من النسب، أو أختها في الإسلام، أو كافرة) .
ونقل الحافظ في (الفتح (9 \ 220) عن ابن عبد البر قوله: " الأخت الضرة، وفيه من الفقه أنه لا ينبغي أن تسأل المرأة زوجها أن يطلق ضرتها لتنفرد به ".
وقال الشوكاني في (النيل 6 \ 143) : ومن الشروط التي تنافي مقتضى العقد أن تشترط عليه أن لا يقسم لضرتها أو ينفق عليها، أو يطلق من كانت تحته، فلا يجب الوفاء بشيء من ذلك.
أما غير ذلك من الشروط فلا ضير فيه، ما دام لا يحرم حلالا، ولا يحل حراما؛ لما رواه عقبة بن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أحق الشروط أن توفوا بها، ما استحللتم به الفروج (2) » .
قال ابن القيم في (الزاد 5 \ 106) : (تضمن هذا الحكم وجوب الوفاء بالشروط التي شرطت في العقد، إذا لم تتضمن تغييرا لحكم الله ورسوله، وقد اتفق على وجوب الوفاء بتعجيل المهر أو تأجيله، وعلى عدم الوفاء باشتراط ترك الوطء والإنفاق والخلو من المهر ونحو ذلك، واختلفت في شرط الإقامة في بلد الزوجة، وشرط دار الزوجة، ولا يتزوج عليها) وقال: (وتضمن حكمه - صلى الله عليه وسلم - بطلان اشتراط المرأة طلاق أختها، وأنه لا يجب
__________
(1) رواه أحمد (2 \ 176) .
(2) أخرجه البخاري (5 \ 322) في الشروط، ومسلم (1418) في النكاح) .(24/284)
الوفاء به، فإن قيل: فما الفرق بين هذا وبين اشتراطها أن لا يتزوج عليها حتى صححتم هذا، وأبطلتم شرط طلاق الضرة؟ قيل: الفرق بينهما أن في اشتراط طلاق الزوجة من الإضرار بها، وكسر قلبها، وخراب بيتها، وشماتة أعدائها ما ليس في اشتراط عدم نكاحها ونكاح غيرها، وقد فرق النص بينهما، فقياس أحدهما على الآخر فاسد) .(24/285)
النظر إليها
16 - أن يراها الخاطب وينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها، فيتعرف على جمالها الذي يشده إلى الاقتران بها، أو قبحها الذي قد يصرفه عنها إلى غيرها، فلربما تزوجها دون أن ينظر إليها فوجدها خلاف ما وصفت له؛ فيصاب بخيبة أمل وانقطاع رجاء، فتسوء الحال بينهما، ويحل الخصام محل الوئام، ويكون الفشل والفرقة خاتمة ما بينهما، وهكذا شأن المسلم دوما لا يقدم على أمر حتى يكون على بصيرة منه:
أ - «عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل، قال: فخطبت امرأة فكنت أتخبأ لها، حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها، فتزوجتها (1) » .
ب - «عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كنت عند رسول الله، فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنظرت إليها؟ قال: لا، قال: فاذهب فانظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئا (2) » .
__________
(1) رواه أبو داود (2082) في النكاح، والطحاوي (2 \ 8) ، والبيهقي (7 \ 84) في النكاح، وأحمد (3 \ 334) ، والحاكم (2 \ 165) ، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وذكره الحافظ في (بلوغ المرام \ 1000) ، وقال: رجاله ثقات، وخرجه الألباني في (الصحيحة رقم \ 99) وفي (الإرواء \ 1791) وحسنه
(2) رواه مسلم (1424) ، والنسائي (6 \ 77) ، والبيهقي (7 \ 84) ، كلهم في النكاح، ومعنى (إن في أعين الأنصار شيئا) قيل: عمش، وقيل: صغر، قال الحافظ في (الفتح 9 \ 181) : الثاني وقع في رواية أبي عوانة في مستخرجه فهو المعتمد.(24/285)
ج - «عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - أنه خطب امرأة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما قال: فأتيتها وعندها أبواها، وهي في خدرها، فقلت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرني أن أنظر إليها، قال: فسكتا، قال: فرفعت الجارية جانب الخدر، فقالت: أحرج عليك، إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرك أن تنظر لما نظرت، وإن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرك أن تنظر فلا تنظر، قال: فنظرت إليها، ثم تزوجتها، فما وقعت عندي امرأة بمنزلتها، ولقد تزوجت سبعين أو بضعا وسبعين امرأة (1) » .
د - عن أبي حميد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا خطب أحدكم امرأة، فلا جناح عليه أن ينظر إليها، إذا كان إنما ينظر إليها لخطبته، وإن كانت لا تعلم (2) » .
هـ - «عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
أريتك في المنام ثلاث ليال، جاءني بك الملك في سرقة من حرير، فيقول: هذه امرأتك، فأكشف عن وجهك، فإذا أنت هي، فأقول: إن يك من عند الله يمضه (3) » .
و «قال سهل بن أبي حثمة: رأيت محمد بن مسلمة يطارد بثينة بنت الضحاك فوق إجار لها ببصره طردا شديدا، فقلت: أتفعل هذا وأنت من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: إني سمعت رسول الله
__________
(1) رواه النسائي (2 \ 73) ، والترمذي (1 \ 202) ، وابن ماجه (1866) ، والبيهقي (7 \ 84) ، والدارقطني (3 \ 252) في النكاح، وأحمد (4 \ 144) ، والزيادة لأحمد والبيهقي، وذكره الألباني (في الصحيحة رقم \ 96) .
(2) رواه البيهقي (7 \ 85) في النكاح، وأحمد (5 \ 424) ، وخرجه الألباني في (الصحيحة رقم \ 97) وقال: وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات رجال مسلم.
(3) البخاري (5215) ، والبيهقي (7 \ 85) في النكاح، ومسلم (2438) في فضائل الصحابة، والترمذي (3875) في المناقب، والسرقة: القطعة أو الثوب.(24/286)
- صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا ألقي في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها (1) » .
ز - عن أنس - رضي الله عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يتزوج امرأة، فبعث بامرأة تنظر إليها، فقال: " شمي عوراضها، وانظري إلى عرقوبها "، قال: فجاءت إليهم، فقالوا: ألا نغديك يا أم فلان؟ فقالت: لا آكل إلا من طعام جاءت به فلانة، قال: فصعدت في رف لهم، فنظرت إلى عرقوبها، ثم قالت: قبليني يا بنية، قالت: فجعلت تقبلها، وهي تشم عارضها، قال: فجاءت فأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم» -، والعوارض: الأسنان التي في عرض الفم، لاختبار رائحة النكهة.
ح - وعن محمد بن علي ابن الحنفية، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خطب إلى علي ابنته أم كلثوم، فذكره له صغرها، فقيل له: إن ردك فعادوه، فقال له علي: أبعث بها إليك، فإن رضيت فهي امرأتك، فأرسل بها إليه، فكشف عن ساقيها، فقالت: لولا أنك أمير المؤمنين لصككت عينك) وقد تزوجها، ورزق منها بولديه: زيد ورقية.
نستخلص من استعراض هذه الطائفة من الأحاديث النبوية الشريفة الآتي:
1 - من المندوب أن ينظر الخاطب إلى المرأة التي يرغب في الزواج منها؛
__________
(1) ابن ماجه (1864) في النكاح، وأحمد (4 \ 225) ، والألباني في (الصحيحة) رقم 98، والإجار: السطح الذي ليس حواليه ما يرد الساقط عنه.(24/287)
ليكون على معرفة بصفات من تكون شريكة عمره، وهذا أدعى لقيام الألفة والمحبة بينهما.
2 - ومن الأفضل تقديم النظر على الخطبة، فإن لم تعجبه، وكره منها أمرا، تركها إلى غيرها، ومن غير إيذاء لخفرها وخدش لسمعتها.
3 - يجوز للناظر أن ينظر من مخطوبته ما يدعوه إلى نكاحها، وهذا يعني أكثر من الوجه والكفين، كالنظر إلى الساق والعنق والساعد والشعر، قال الحافظ في (الفتح 9 \ 182) : (قال الجمهور: لا بأس أن ينظر الخاطب إلى المخطوبة، ولا ينظر إلى غير وجهها وكفيها، وقال الأوزاعي: يجتهد وينظر إلى ما يريد منها إلا العورة، وقال ابن حزم: ينظر إلى ما أقبل منها وما أدبر، ولأحمد ثلاث روايات: الأولى كالجمهور، والثانية: ينظر إلى ما يظهر غالبا - وهو ما نرجحه ونميل إليه، والثالثة: ينظر إليها متجردة) .
وقال الصنعاني في (سبل السلام 3 \ 111) : والحديث مطلق، فينظر إلى ما يحصل له المقصود بالنظر إليه، ويدل على فهم الصحابة لذلك ما رواه عبد الرزاق وسعيد بن منصور أن عمر كشف عن ساق أم كلثوم بنت علي لما بعث بها إليه لينظرها.
وقال الألباني في (السلسلة الصحيحة 1 \ 156) : (وظاهر هذه الأحاديث أنه يجوز للخاطب أن ينظر من مخطوبته إلى أكثر من الوجه والكفين، كالنظر إلى الساق والعنق أو الساعد والشعر، وقد أيد هذا فعل الصحابة - رضوان الله عليهم، كما فعله جابر بن عبد الله، ومحمد بن مسلمة، والخليفة الراشد عمر بن الخطاب، أما تقييد الأحاديث بالنظر إلى الوجه والكفين فقط، فهو تقييد بدون نص مقيد، وتعطيل لفهم الصحابة بدون حجة) .
4 - وكما يجوز له إعلامها أنه يريد النظر إليها ورؤيتها، فإنه يجوز له أيضا النظر إليها على غفلة منها، ومن غير أن تعلم، كما ورد في حديث جابر،(24/288)
وكما فعل محمد بن مسلمة - رضي الله عنه - حين كان يطارد بثينة بنت الضحاك ببصره طردا شديدا دون علمها، قال النووي في (شرح مسلم 5 \ 210) : والجمهور أنه لا يشترط في جواز النظر إليها رضاها، بل له ذلك في غفلتها، ومن غير تقدم إعلام؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أذن في ذلك مطلقا، ولم يشترط استئذانها؛ لأنها تستحي غالبا من الإذن؛ ولأن في ذلك تغريرا، فلربما رآها فلم تعجبه فيتركها فتنكسر وتتأذى) .
5 - وإذا لم يتمكن الخاطب - لظروف تمنعه - من النظر إلى مخطوبته، فإنه يستحب له أن يبعث امرأة يثق بها، فتنظر إليها وتخبره بصفتها، «كما فعل عليه الصلاة والسلام حين بعث أم سليم إلى امرأة رغب فيها، وقال لها: " انظري إلى عرقوبها، وشمي عوارضها» .
6 - إن النظر إلى المرغوب فيها، لا يعني بحال الخلوة بها، بل إن مقصوده يتحصل بالنظر إليها في مكان آهل عام، أو بحضور أحد محارمها.
7 - إذا كان المندوب نظر الرجل إلى المرأة قبل إقدامه على الزواج منها، فهل من المندوب أن تنظر هي إليه؟ قال الصنعاني في (سبل السلام 3 \ 111) : (ويثبت مثل هذا الحكم للمرأة، فإنها تنظر إلى خاطبها، فإنه يعجبها منه ما يعجبه منها، كذا قيل ولم يرد به حديث، والأصل تحريم نظر الأجنبي والأجنبية إلا بدليل، كالدليل على جواز نظر الرجل لمن يريد خطبتها) .(24/289)
عمرو بن حزم الأنصاري الخزرجي
الصحابي السفير
اللواء الركن: محمود شيت خطاب
نسبه وأيامه الأولى
هو عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان بن حارثة بن عدي بن زيد بن ثعلبة بن زيد مناة بن حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن جشم بن الحارث بن الخزرج الأنصاري (1) الخزرجي.
وفي رواية أخرى، أنه: عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاري.
وأكثر من ينسبه يتفق مع النسب الثاني؛ لذلك يمكن ترجيحه على النسب الأول.
أول مشاهد عمرو الخندق. وكانت هذه الغزوة في شهر شوال من السنة الخامسة الهجرية، وسبب تأخره عن الجهاد هو صغر سنه لا تخلفه. ولا ذكر له في المشاهد الأخرى، وليس معنى ذلك أنه لم يشهد
__________
(1) تهذيب التهذيب (8 \ 20) والاستبصار (69 \ 74) .(24/290)
غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الخندق، إذ لا يمكن ذكر كل الصحابة في كل غزوة، بل يذكر قسم منهم حسب سير الحوادث وأثرهم فيها. وأرجح أنه كان صغيرا في سنه، فلم يبرز في تلك المشاهد كما برز أصحاب التجربة في القتال، فقد ولاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نجران وهو ابن سبع عشرة سنة، وذلك في السنة العاشرة الهجرية (1) . وهذا على أنه كان صغيرا على تحمل أعباء الغزوات وعلى التأثير في أحداثها.
وقد كانوا لا يفسحون المجال للمسلم أن يشارك في الغزوات قبل الخامسة عشرة من سنه كما هو معلوم، وكانوا يردون الصغار الذين لم يبلغوا الخامسة عشرة ولا يسمحون لهم بخوض غمرات القتال.
وقد كانت غزوة الخندق من الغزوات الدفاعية وكانت حول المدينة المنورة، كما كان المسلمون يدافعون عن مصيرهم ومصير الإسلام تجاه قوات المشركين المتفوقين على المسلمين فواقا ساحقا، إذ كان تعداد المسلمين نحو ثلاثة آلاف مجاهد، وكان تعداد المشركين عشرة آلاف مقاتل عدا يهود المدينة الذين خانوا العهد وانقلبوا على المسلمين وظاهروا المشركين من الأحزاب؛ لذلك حشد النبي - صلى الله عليه وسلم - كل المسلمين؛ ليقاتل القادرون على القتال، وليكثر السواد من غير القادرين على القتال ويعملوا في القضايا الإدارية والحراسات؛ فشهد عمرو غزوة الخندق، ولما يبلغ الخامسة عشرة من عمره.
ومع ذلك، فهناك نص: أنه شهد الخندق وما بعدها (2) ، ولكنه لم تكن له بصمات واضحة في تلك الغزوات التي شهدها؛ لأنه كان صغير السن، قليل التجربة العملية.
__________
(1) (أسد الغابة (4 \ 99) والاستيعاب (3 \ 1173) .
(2) (الإصابة (4 \ 293) .(24/291)
أمه من بني ساعدة (1) ، يكنى: أبا الضحاك (2) .
لقد نال عمرو بن حزم شرف الصحبة، وشرف الجهاد تحت لواء الرسول - عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) الاستيعاب (3 \ 1173) وأسد الغابة (4 \ 98) .
(2) أسد الغابة (4 \ 98) والإصابة (4 \ 293) والاستيعاب (3 \ 1173) .(24/292)
السفير النبوي
بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بني الحارث بن كعب في نجران بعد أن ولى وفدهم عائدا من المدينة إلى نجران، في بقية شهر شوال أو في صدر ذي القعدة من السنة العاشرة من الهجرة، ولى عمرو بن حزم الأنصاري أحد بني النجار؛ ليفقههم في الدين، ويعلمهم السنة ومعالم الإسلام، ويأخذ منهم صدقاتهم.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أرسل خالد بن الوليد في شهر شوال من السنة العاشرة الهجرية (1) إلى بني الحارث بن كعب بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام ثلاثا، فإن أجابوا أقام فيهم وعلمهم شرائع الإسلام، وإن لم يفعلوا قاتلهم. وخرج خالد إليهم في سرية مؤلفة من أربعمائة مجاهد (2) ودعاهم إلى الإسلام، فأجابوا وأسلموا. وأقام خالد فيهم، وكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمه إسلامهم (3) ، وكان نص كتاب خالد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) طبقات ابن سعد (6 \ 169) .
(2) الطبري (3 \ 126) .
(3) ابن الأثير (2 \ 293) .(24/292)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
لمحمد النبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خالد بن الوليد: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.
فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد يا رسول الله صلى الله عليك. بعثتني إلى بني الحارث بن كعب، وأمرتني إذا أتيتهم ألا أقاتلهم ثلاثة أيام، وأن أدعوهم إلى الإسلام، فإن أسلموا قبلت منهم وعلمتهم معالم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه، وإن لم يسلموا قاتلتهم. وإني قدمت عليهم فدعوتهم إلى الإسلام ثلاثة أيام كما أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم، وبعثت فيهم ركبانا قالوا: يا بني الحارث (أسلموا تسلموا، فأسلموا ولم يقاتلوا، وأنا مقيم بين أظهرهم، وآمرهم بما أمرهم الله به، وأنهاهم عما نهاهم الله عنه، وأعلمهم معالم الإسلام وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يكتب إلي رسول الله.
والسلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.
وكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خالد بن الوليد جوابا على رسالته ما نصه.
«بسم الله الرحمن الرحيم)
من محمد النبي رسول الله إلى خالد بن الوليد. سلام عليك.
فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن كتابك جاءني مع رسلك بخبر أن بني الحارث قد أسلموا قبل أن يقاتلوا، وأجابوا
__________
(1) سيرة ابن هشام (4 \ 263) والطبري (3 \ 127) صبح الأعشى للقلقشندي (6 \ 3106) وانظر تفاصيل المصادر والمراجع في مجموعة الوثائق السياسية (101) الوثيقة رقم (80) .(24/293)
إلى ما دعوتهم إليه من الإسلام وشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن قد هداهم الله بهداه، فبشرهم وأنذرهم، وأقبل وليقبل معك وفدهم.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته (1) » .
علامة الختم: محمد رسول الله.
وأقبل خالد بن الوليد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم، وأقبل معه وفد بني الحارث بن كعب وأعلنوا إسلامهم واجتمعوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم عادوا أدراجهم في بقية شوال، أو في صدر ذي القعدة من السنة العاشرة الهجرية (2) ، كما ذكرنا ذلك من قبل.
وقد تعمدت ذكر رسالة خالد بن الوليد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجواب النبي - صلى الله عليه وسلم - على رسالة خالد، وعودة خالد من نجران إلى المدينة المنورة ومعه وفد بني الحارث بن كعب؛ لإعطاء صورة واضحة عن الوضع السائد في نجران عندما توجه إلى أهلها عمرو بن حزم الأنصاري ليفقههم في الدين، ويعلمهم السنة النبوية ومعالم الإسلام، ويأخذ منهم صدقاتهم (3) ، وبعثه عليه الصلاة السلام بعد أن عاد وفد بني الحارث بن كعب إلى نجران (4) ، فغادر المدينة إلى نجران في شهر ذي القعدة من سنة عشر هجرية، ومع عمرو بن حزم كتاب نبوي هذا نصه:
__________
(1) في سيرة ابن هشام (4 \ 263) : تقاتلهم. . . (1)
(2) الطبري (3 \ 128) .
(3) الطبري (3 \ 128) والاستيعاب (3 \ 1173) والاستبصار (74) .
(4) الطبري (3 \ 128) .(24/294)
«بسم الله الرحمن الرحيم "
من محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى: شرحبيل بن عبد كلال، والحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، قيل، ذي رعين، وهمدان (4) ، ما سقت السماء أو كان سيحا أو كان بعلا (5) ، ففيه العشر إذا بلغت خمسة أوسق، وما سقى الرشاء (6) ، والدالية، ففيه نصف عشر إذا بلغ خمسة أوسق.
وفي كل خمس من الإبل سائمة شاة، إلى أن تبلغ أربعا وعشرين، فإن زادت واحدة على أربع وعشرين، ففيها بنت مخاض، فإن لم توجد ابنة مخاض فابن لبون ذكر، إلى أن تبلغ خمسا وثلاثين، فإن زادت على
__________
(1) سنن النسائي القسامة (4853) .
(2) القيل: الملك النافذ القول والأمر. (ج) أقيال، انظر لسان العرب (4 \ 94) . (1)
(3) (2) ، ومعافر
(4) (3) .
أما بعد، فقد رجع رسولكم، وأعطيتم من المغانم خمس الله وما كتب على المؤمنين من العشر في العقار العقار: الأرض التي تزرع.
(5) البعل: الأرض المرتفعة التي لا يسقيها إلا المطر، والزرع يشرب بعروقه فيستغني عن السقي.
(6) الرشاء: الحبل، أو حبل الدلو ونحوها.(24/295)
خمسة وثلاثين واحدة ففيها بنت لبون، إلى أن تبلغ خمسة وأربعين، فإن زادت واحدة على خمسة وأربعين، ففيها حقة - طروقة الفحل - إلى أن تبلغ ستين. فإن زادت واحدة ففيها جذعة، إلى أن تبلغ خمسا وسبعين. فإن زادت واحدة، ففيها ابنتا لبون، إلى أن تبلغ تسعين، ففيها حقتان - طروقتا الفحل - إلى أن تبلغ عشرين ومائة. فما زاد عن عشرين ومائة ففي كل أربعين ابنة لبون، وفي كل خمسين حقة طروقة الفحل.
وفي كل ثلاثين باقورة (1) تبيع، جذع أو جذعة، وفي كل أربعين باقورة بقرة.
وفي كل أربعين شاة سائمة شاة، إلى أن تبلغ عشرين ومائة، فإن زادت واحدة ففيها شاتان، إلى أن تبلغ مائتين. فإن زادت واحدة ففيها ثلاث شياه، إلى أن تبلغ ثلاثمائة، فإن زادت، ففي كل مائة شاة شاة.
ولا تؤخذ في الصدقة هرمة، ولا عجفاء، ولا ذات عوار (2) ، ولا تيس (3) الغنم إلا أن يشاء المصدق.
ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، خشية الصدقة وما أخذ من الخليطين؛ فإنهما يراجعان بالسوية.
وليس في رقيق ولا مزرعة ولا عمالها شيء إذا كانت تؤدي صدقاتها من العشر، وليس في عبد مسلم ولا في فرسه شيء.
__________
(1) الباقورة بلغة أهل اليمن: البقرة، انظر النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (1 \ 107) .
(2) العوار: العيب، والخرق والشق في الثوب.
(3) التيس: الذكر من المعز والظباء والوعول إذا أتى عليه الحول.(24/296)
قال: وكان في الكتاب:
إن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة: الشرك، وقتل النفس المؤمنة بغير حق، والفرار من الجهاد في سبيل الله يوم الزحف، وعقوق الوالدين، ورمي المحصنات، وتعلم السحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم.
وإن العمرة الحج الأصغر، ولا يمس القرآن إلا طاهر، ولا طلاق قبل الإملاك (1) ، ولا عتاق (2) حتى يبتاع، ولا يصلين أحدكم في ثوب واحد ليس على منكبه شيء منه.
وكان في كتاب:
(إن من اعتبط (3) مؤمنا، قتله عن بينة، فإنه قود (4) ، إلا أن يرضى أولياء المقتول.
وإن في النفس الدية، مائة من الإبل، وفي الأنف الذي أوعب (5) جدعه (6) الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجلين الدية، والواحدة نصف الدية. في المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة (7)
__________
(1) أملك المرأة: تزوجها. ولا طلاق قبل الإملاك: قبل الزواج.
(2) أعتق العبد: حرره، ولا عتاق: لا تحرير.
(3) اعتبط مؤمنا: ذبحه بلا جناية ولا جريرة
(4) القود: القصاص، ومعناه أن القاتل يقتل به ويقاد، انظر شرح السيوطي على سنن النسائي (2 \ 252) .
(5) أوعب جدعه: استأصله، قطعه جميعه، انظر شرح السيوطي على سنن النسائي (2 \ 252) .
(6) جدعه: قطعه.
(7) الجائفة: الطعنة التي تبلغ جوف الرأس أو جوف البطن، انظر شرح السيوطي على سنن النسائي (2 \ 252) .(24/297)
ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي كل إصبع من أصابع اليد أو الرجل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي الموضحة (1) خمس من الإبل، وإن الرجل يقتل بالمرأة» .
علامة الختم: محمد رسول الله.
هذا هو الكتاب النبوي، الذي حمله عمرو بن حزم، فيه الفرائض والسنن، والصدقات والديات (2) ، أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان والدرامي (3) ، وكتابه هذا مشهور في كتب السنن، ولم يستوفه أحد منهم، وأكملهم له رواية النسائي (4) بعنوان: (ذكر حديث عمرو بن حزم (5) ، وكتاب عمرو بن حزم مشهور يحتج به العلماء، وشهرته أقوى من الإسناد (6) .
وفي هذا الكتاب النبوي، الذي لم يقتصر أثره وتأثيره في وقته على نجران، بل امتد حتى اليوم، وسيبقى ما بقيت تعاليم الدين الحنيف في كل قطر، وكل مكان فيه مسلمون في أرجاء العالم. وفيه دروس قيمة جدا، ومن
__________
(1) الموضحة: الشجة كشطت عن العظم من موضعه، وهي جراحة بلغت العظم فأوضحت عنه.
(2) أسد الغابة (4 \ 99) والاستيعاب (3 \ 1173) والاستبصار (74) .
(3) الإصابة (4 \ 293) .
(4) تهذيب الأسماء واللغات (2 \ 26) .
(5) سنن النسائي (2 \ 252) .
(6) الاستبصار (74) .(24/298)
دروسه تنظيم جباية الأرض المزروعة السيح منها والتي تروى بالمجهود الذاتي، وزكاة الإبل والبقر والضأن بالتفصيل، ويذكر من يعفى من الزكاة من الرقيق والعبيد؛ لأنهم أحق بالرأفة من غيرهم وأجدر أن يشملهم الإعفاء.
ثم يسلط الضوء على الكبائر، ويعددها ويحذر من اقترافها.
ويشير إلى قسم من العبادات، وقسم من القضايا الاجتماعية المهمة، التي تطهر الفرد وتفيد المجتمع، وتجعله متماسكا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.
وأخيرا ينص على العقوبات الرادعة التي تجعل المسلم الحق لا يقترفها أبدا؛ ليرفل الفرد والمجتمع بالأمان والاطمئنان والسلام.
تلك هي الخطوط العريضة للأهداف الرفيعة الباقية لهذا الكتاب النبوي الكريم الموجه إلى أهل نجران، ثم أصبح للمسلمين كافة في كل مكان ولكل زمان: أفراد وجماعات، وفقراء وأغنياء، وحكاما ومحكومين من أجل تنظيم المجتمع الإسلامي على هدى وبصيرة، فالكل يعرف ما عليه من واجبات تجاه نفسه، وتجاه أخيه المسلم وتجاه كل إنسان، وتجاه المجتمع الإسلامي.
وكما يعرف واجباته يعرف حقوقه على نفسه، وعلى أخيه المسلم. وعلى كل إنسان، وعلى المجتمع الإسلامي. ومن المعلوم أن الفرد والجماعة، والغني والفقير، والحاكم والمحكوم إذا عرفوا ما عليهم من واجبات وما لهم من حقوق، فأدوا واجباتهم كاملة، وأخذوا حقوقهم كاملة أيضا فإن التعاون والمحبة والسلام والسعادة والرخاء والنصر يشمل الفرد والمجتمع في السلام والحرب، وفي مختلف الظروف والأحوال.
لقد أدى عمرو بن حزم واجباته في سفارته خير أداء.(24/299)
الإنسان
بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن حزم بعد انصراف وفد بني الحارث بن كعب من المدينة إلى نجران، وكان انصراف وفدهم في بقية شوال، أو في صدر ذي القعدة من السنة العاشرة الهجرية كما ذكرنا.
وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمرو بن حزم عامله بنجران (1) ، أو على الأصح في منطقة نجران كلها على بني الحارث بن كعب (2) في رواية، وعلى نجران (3) في رواية أخرى، وأرجح الرواية الثانية؛ لأن سير الحوادث التي ستذكر وشيكا تدل على ذلك.
ولما ارتد أهل الردة في اليمن بقيادة ذي الخمار عبهلة بن كعب - وهو الأسود العنسي، وكان الأسود كاهنا شعباذا (4) ، وكان يري من حوله الأعاجيب، ويسبي قلوب من سمع منطقه، فكاتبته مذحج وواعدته نجران، فوثبوا بها وأخرجوا عمرو بن حزم (5) ، كما أخرجوا غيره من عمال النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليمن (6) ، فرجع عمرو إلى المدينة المنورة (7) بعد انتقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى.
واستقر عمرو في المدينة، وكانت داره فيها مجاورة لدار عثمان بن عفان - رضي الله عنه - (8) .
__________
(1) الطبري (3 \ 130) ، وابن الأثير (2 \ 292) .
(2) تاريخ خليفة بن خياط (1 \ 62) .
(3) الطبري (3 \ 130) وابن الأثير (2 \ 292) و (3 \ 336) .
(4) شعباذا: مشعبذا، والشعبذة والشعوذة: أخذ بالسحر، يرى بغير ما عليه أصله في رأي العين.
(5) الطبري (3 \ 185) وابن الأثير (2 \ 337)
(6) الطبري (3 \ 230) وابن الأثير (2 \ 337 - 338) .
(7) الطبري (3 \ 320) و (3 \ 319) .
(8) الطبري (3 \ 379) .(24/300)
وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) خمسة أحاديث (2) قال عمرو بن حزم: «رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قبر فقال: انزل لا تؤذي صاحب هذا القبر (4) » . ووفد عمرو بن حزم إلى معاوية بن أبي سفيان في خلافته، فقال له: " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله لم يسترع عبدا رعية إلا وهو سائله عنها (5) » ، وكلم عمرو معاوية في أمر بيعته ليزيد بكلام قوي (6) ، وروى لمعاوية ولعمرو بن العاص حديث: «يقتل عمارا الفئة الباغية (7) » «وروى لعمرو بن العاص لما قتل عمار بن ياسر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: تقتله الفئة الباغية (8) » .
وقد روى عنه ابنه محمد، وامرأته سودة بنت حارثة، وابن ابنه أبو بكر محمد ولم يدركه، وزياد بن نعيم الحضرمي، والنضر بن عبد الله السلمي.
واستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على نجران وهو ابن سبع عشرة سنة، وقد استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة عشر من الهجرة على نجران كما ذكرنا ذلك في الحديث عن سفارته، ومعنى ذلك أنه ولد سنة سبع قبل الهجرة.
ومات بالمدينة المنورة سنة إحدى وخمسين هجرية، وقيل: سنة ثلاث وخمسين هجرية، وقيل: سنة أربع وخمسين الهجرية.
__________
(1) تهذيب التهذيب (8 \ 20) .
(2) جوامع السيرة - أسماء الصحابة الرواة وما لكل واحد من العدد (289) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (5/223) .
(4) أسد الغابة (4 \ 99) . (3)
(5) تهذيب التهذيب (8 \ 21) رواه أبو يعلى في مسنده.
(6) رواه أبو يعلى في مسنده بسند رجاله ثقاة، انظر الإصابة (4 \ 293) وأسد الغابة (4 \ 99) .
(7) رواه الطبراني، انظر الإصابة (4 \ 293) .
(8) أسد الغابة (4 \ 99) .(24/301)
وجزم خليفة بن خياط في تاريخه، أنه مات سنة إحدى وخمسين الهجرية (1) ، دون أن يذكر مكان موته. كما جزم ابن الأثير في تاريخه، أنه مات سنة ثلاث وخمسين الهجرية (2) ، دون أن يذكر مكان موته أيضا.
وعلى كل حال، فهو قد مات بعد الخمسين، وليس كما ذكرت بعض المصادر بأنه مات في خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه، والصحيح أنه مات بعد الخمسين؛ لأنه وفد على معاوية بن أبي سفيان في أيام خلافته كما ذكرت المصادر التي تحدثت عنه.
فإذا كان عمرو بن حزم، قد ولد سنة سبع قبل الهجرة، وتوفي بعد الخمسين، فمعنى ذلك أنه عاش ثماني وخمسين، أو تسعا وخمسين سنة، أو ستين سنة، أو إحدى وستين سنة قمرية، (7 ق هـ - 51 هـ أو 52 هـ أو 53 هـ أو 54 هـ) .
ذلك هو عمر عمرو بن حزم، بموجب المصادر التي بين أيدينا.
ولكن مصدرا من تلك المصادر (3) ، حين ذكر استعمال عمرو بن حزم على نجران، لم يذكر أنه كان في السابعة عشرة من عمره حين استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على نجران، كما نص على ذلك غيره من المصادر الأخرى، مما يدل على أنه لم يقتنع بأن عمرو بن حزم كان في السابعة عشرة من عمره حقا.
وأنا مع صاحب هذا المصدر، وهو الإمام ابن حجر العسقلاني، وهو من هو علما وورعا وصدقا وتدقيقا وتحقيقا، مع أنه كان متأخرا عن أصحاب أكثر المصادر الأخرى، ولكنه لم ينقل عنها ما نصت عليه حول عمر عمرو بن حزم حين تولى نجران سنة عشر هجرية، بل تغاضى عن نقل ذلك التوقيت، مما يدل على شكه في صحة الخبر.
__________
(1) تاريخ خليفة بن خياط (1 \ 205) .
(2) ابن الأثير (3 \ 496) ، الإصابة (4 \ 293) .
(3) جوامع السيرة (159) .(24/302)
لقد رد النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد أسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعمرو بن حزم وغيرهم، وكان لعبد الله بن عمر بن الخطاب يوم أحد أربعة عشر عاما، وكان سائر من رد معه في هذه السن أيضا.
وأجاز عليه الصلاة والسلام في تلك الغزوة سمرة بن جندب الفزاري، ورافع بن خديج، ولهما خمسة عشر عاما (1) أي أن عمر عمرو بن حزم كان في يوم أحد أربع عشرة سنة. وقد أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين ردهم يوم أحد، بعد ذلك بسنة عام الخندق، أي أن عمر عمرو بن حزم بعد سنة من أحد صار خمس عشرة سنة، فأجيز يوم الخندق كما أجيز أقرانه.
نستنتج أن عمرو بن حزم كان له خمس عشرة سنة يوم الخندق، وكانت غزوة الخندق في السنة الخامسة الهجرية؛ فيصبح عمره في السنة العاشرة الهجرية عشرين سنة، أي أنه ولد في السنة العاشرة قبل الهجرة، وتوفي سنة إحدى وخمسين أو اثنتين وخمسين أو ثلاث وخمسين أو أربع وخمسين الهجرية (10 قه - 51 هـ أو 52 هـ أو 53 هـ أو 54 هـ) ، أي أن عمره يوم توفي كان إحدى وستين أو اثنتين وستين أو ثلاثا وستين أو أربعا وستين سنة، وكان في العشرين حين تولى نجران سنة عشر الهجرية.
إنه إذا تولى نجران في السنة العاشرة الهجرية، وكان له حينذاك سبع عشرة سنة، فمعنى ذلك أنه شهد غزوة الخندق، وكان له اثنتا عشرة سنة، وهذا ما لا يستقيم، كما أن توليه نجران وله سبع عشرة سنة لا يستقيم أيضا، فهو صغير جدا على واجب مهم ثقيل على المسئولين، والقول بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولى أسامة بن زيد قيادة جيش وله عشرون سنة (2) ، هو أن واجب أسامة إجراء غارة خاطفة والانسحاب إلى المدينة، وهذه المهمة تحتاج إلى شاب يتسم بالشجاعة والإقدام وتحمل المشاق، وهذا ما يناسب أسامة المتميز بالشجاعة والإقدام وتحمل المشاق، فهو في ريعان الشباب، وليس
__________
(1) جوامع السيرة (159) .
(2) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 115) .(24/303)
الواجب كواجب عمرو بن حزم السفير الإداري القائد الفقيه، الذي يحتاج إلى الأناة والمرونة والذكاء والصبر في مهمة قد تطول كثيرا فتمتد إلى سنين، يصادف فيها معضلات سياسية وإدارية وحربية وعلمية وتربوية لا حصر لها، فلا يستقيم أن يتولى مثل هذا المنصب الخطير شاب في السابعة عشرة من عمره، حتى ولو كان متميزا بالذكاء الخارق والتفقه بالدين وبالشجاعة والإقدام. كما كان عمرو بن حزم متميزا بكل تلك الصفات.
وحتى لو تولى منصبه على نجران وأهلها ومن حولها في العشرين من عمره؛ فإنه صغير جدا على منصبه الخطير في ظروف التغيير الاجتماعي والعقيدي الخطيرة، ولكنه دليل ملموس على تميزه بالذكاء الخارق، والتفقه بالدين، والشجاعة والإقدام، وبالقابلية الإدارية والقيادية والسياسة الفذة، والدأب على العمل، والمرونة في مواجهة المشكلات، والخلق الكريم الذي يمكن أن يكون أسوة حسنة لأمثاله من الشباب ولغير الشباب أيضا من مختلف الذكور والإناث.
لقد كان عمرو بن حزم مثالا للصحابي الجليل.
السفير
قضى عمرو بن حزم في نجران سفيرا وواليا ومعلما وقائدا وجابيا، خمسة أشهر في منصبه الخطير، منذ التحاقه في مقر عمله بنجران، إلى أن التحق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى، وكان الأسود العنسي قد ارتد، وارتد معه غير قليل من أهل اليمن، فأخرج عمرو بن حزم من نجران قسرا، وعاد إلى المدينة المنورة مضطرا.
وعلى الرغم من قصر المدة التي مكثها عمرو في نجران سفيرا بالإضافة إلى واجباته الأخرى إلا أن سمات سفارته كانت واضحه للعيان، ولو لم يكن يتميز بتلك السمات لما ولاه النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل هذا المنصب الرفيع.(24/304)
وأول سمات سفارته، أنه كان مخلص الانتماء للمجتمع الإسلامي الجديد إخلاصا أخذ بمجامع عقله وقلبه معا، فقد كان في انتمائه لهذا المجتمع جنديا مندفعا إلى أبعد الحدود، يحرص على خدمة الإسلام والمسلمين حرصا لا مزيد عليه، ويجند طاقاته المادية والمعنوية للعمل في سبيل الخدمة العامة للإسلام والمسلمين، بعيدا عن كل مطمع ذاتي أو عائلي، فكان مستعدا أن يبذل كل ما يمكن بذله لتكون كلمة الله هي العليا.
والحافز الأول والأخير لانتماء عمرو للإسلام والمسلمين هو إيمانه الراسخ؛ فقد نشأ في بيت إسلامي من الأنصار، ونشأ وترعرع برعاية النبي - صلى الله عليه وسلم - ورعاية الأنصار والمهاجرين الأولين، فلا عجب أن يكون مؤمنا حقا يسخر طاقاته لخدمة عقيدته، ويرى تلك العقيدة أعز عليه من روحه وماله وولده وأهله وأغلى، ولعل الحديث عن إيمان الصحابة الراسخ لا يحتاج دليل.
لقد كان عمرو يتحلى بالانتماء المطلق والإيمان العميق.
وكان عمرو فصيحا يؤثر في سامعيه أبلغ الأثر؛ فيجذبهم بمنطقه القوي إلى الإسلام، وقد كان فصيحا في عرض الرسالة النبوية، وفي حمل أهل نجران على تنفيذ ما جاء فيها من أحكام نصا وروحا.
وكان عالما بالقرآن والسنة، متفقها بالدين الحنيف، وكان المرجع لمن حوله من أهل نجران في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وكان على جانب عظيم من حسن الخلق، حتى كان أسوة حسنة لغيره من المسلمين باستقامته وورعه وتقواه، وفي قوله الحق الذي يعتقده بكل أمانة وإخلاص، فلا يخاف في الحق لومة لائم.
وكان يتميز بالصبر الجميل، وبالحكمة البالغة في القول والعمل، وفي توجيه الأمور في نجران وما حولها ومن حولها، فعالج المعضلات بأناة وتغلب على المشاكل بالصبر والحكمة.(24/305)
ولولا تصرفه الحكيم؛ لصعب عليه أن ينجو بنفسه بعد احتلال الأسود العنسي لنجران، فاستطاع أن يتخلص من خطر داهم، حتى وصل إلى المدينة المنورة سالما.
وكان واسع الحيلة؛ لأنه كان ألمعي الذكاء، يتحلى بالمرونة، فكان يجد لكل مشكلة حلا، ولكل معضلة مخرجا.
ولا نعلم شيئا عن تمتعه برواء المظهر، وقد يكون المظهر الجذاب ضروريا للسفير في دولة غير عربية، أما بالنسبة للدول العربية فقد لا يكون رواء المظهر ضروريا. ولكنه كان شابا في ريعان الشباب، لا يخلو مظهره من رواء، بالرغم من سكوت المصادر عن مظهره.
تلك هي مجمل سمات سفارة عمرو بن حزم، وهي سمات سهلت له مهماته سفيرا، ومهماته الأخرى واليا وجابيا وقائدا ومعلما، فنجح في تحمل أعباء واجباته في تلك المجالات.
لقد كان عمرو يتحلى بالانتماء والإيمان، وبالفصاحة والعلم وحسن الخلق، وبالصبر والحكمة، وبسعة الحيلة، ورواء المظهر، وتلك هي سمات السفير المتميز في كل زمان ومكان.(24/306)
عمرو بن حزم في التاريخ
يذكر له التاريخ، أنه كان من شباب الأنصار الذين يحرصون على الموت في ميدان الجهاد على الحياة في الميادين الأخرى.
ويذكر له، أنه شهد غزوة الخندق، وما بعدها من الغزوات، وهو في ريعان الشباب.
ويذكر له، أنه كان سفيرا نبويا، وواليا وقائدا وجابيا ومعلما؛ فنهض بكل هذه الواجبات بكل نجاح.(24/306)
ويذكر له أنه كان لا يخاف في الحق لومة لائم، ولا يكتم قوله الحق خوفا من السلطة والسلطان.
ويذكر له أنه نال شرف الصحبة، وشرف الجهاد تحت لواء الرسول القائد عليه الصلاة والسلام.
رضي الله عن الصحابي السفير، القائد الوالي، العالم الجابي، عمرو بن حزم الأنصاري.
محمود شيت خطاب(24/307)
رؤية فكرية وتاريخية
لرعاية الحرمين الشريفين
الدكتور محمد محمد إبراهيم زغروت
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد، وآله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن هذا الموضوع على قدر كبير من الأهمية؛ إذ يمس الدين الإسلامي في الصميم، ويتصل بالرسالة المحمدية خاتمة الرسالات، فقد ظهرت في الأونة الأخيرة بعض النحل الدينية مثل: القاديانية والبهائية، كما ظهر بعض مأفوني العقول ممن ادعوا النبوة، وجميع هذه النحل الضالة تمثل خطرا كبيرا على الإسلام وعلى النبوة المحمدية - على صاحبها الصلاة والسلام، إذ تبين تورط مدعيها بمؤامرات دينية وسياسية خبيثة مع بعض المنظمات الصهيونية، والقوى الأخرى المعادية للإسلام؛ لتشويه العقيدة الإسلامية، وشريعتها الغراء بدعوى تجديدها وكسر جمودها بنبوءات جديدة، وقد وجدت هذه الفرق المضللة أن أقرب الطرق للوصول إلى أهدافهم الخبيثة يكون عن طريق مزاحمة المسلمين في مقدساتهم وشعائرهم، وذلك بتمزيق الرباط الروحي والفكري الذي يربط قلوب المسلمين وعقولهم بالكعبة المشرفة قبلة المسلمين جميعا، وبمسجد النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم.(24/308)
فنرى القاديانيين يعتقدون أن قاديان هي ثالثة المقدسات الثلاثة (مكة والمدينة وقاديان) ، ويدعي صاحب هذه النحلة الضالة أن قاديان تناهض البلد الحرام، وربما تفوقه، وأن السفر إليها يساوي الحج بل يفوق عليه، وقد جاء في إحدى صحفهم: " أن الحج إلى مكة بغير الحج إلى قاديان حج جاف خشيب؛ لأن الحج إلى مكة اليوم لا يؤدي رسالته، ولا يفي بغرضه " (1) ، وإن كانت القاديانية تتخذ اليوم من قاديان، ومن قبر المسيح المزعوم في كشمير أماكن مقدسة تغنيهم عن بيت الله الحرام والمسجد النبوي الشريف؛ فإن البهائية تتخذ أيضا من عكا قبلة لهم في صلاتهم، وأرضا مقدسة يرتبطون ويتجهون إليها. وما أحسب تلك الأماكن المقدسة المزعومة في قاديان وكشمير وعكا، وكذلك مدعي النبوة إلا حلقة جديدة في إطار مخطط كامل رهيب للقضاء على الإسلام وتفتيت وحدة الصف الإسلامي، وقد ركز الحاقدون جل حملاتهم للنيل من الحرمين الشريفين - حفظهما الله من كل سوء، وهذا هو ديدنهم دائما في مواجهة الصحوات الإسلامية بين الحين والحين، إذ يعمدون إلى إحياء القاديانية في القارة الهندية، والبهائية في مصر والشام والشمال الإفريقي بأكمله، وذلك في وقت واحد وتلازم غريب، وليس هذا المخطط بخاف على كل ذي لب غيور على دينه ومقدساته، فهم يهدفون من مخططهم ذلك صرف المسلمين عن مقدساتهم، وذلك بتوزعهم إلى فرق شتى، ونحلات ضالة، حينئذ تشد الرحال إلى غير مقصدها، ويستغني مسلمو آسيا بقاديان وقبر المسيح الموعود عن الحج إلى البيت المعمور، وزيارة مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم، كما يستغني العرب المسلمون في مصر والشام والجزيرة العربية وإفريقيا عن الحرمين الشريفين، بشد الرحال إلى قبلة البهائيين في عكا. إنه لمخطط رهيب قصد منه حصر الحرمين الشريفين - حفظهما الله - وتعطيل رسالتهما - لا قدر الله - بتجميد مشاعر المسلمين نحوهما، والانتقال بها إلى مشاعر أخرى تجاه أماكن أخرى
__________
(1) جريدة المسلمون عدد 63 شعبان 1406هـ، إبريل 1986م.(24/309)
مزعومة، وإذا ما تم ذلك انفصمت عرى العقيدة نهائيا من قلوب المسلمين، وانطفأت جذوة الإيمان التي يؤججها دائما أعمال الحج وزيارة مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم.
إذن القضية هنا ليست قضية فرق منشقة؛ فالتاريخ الإسلامي حافل بأمثال هذه الفرق، وإنما هذه القضية كما يقول العلامة أبو الحسن الندوي: إنها قضية شاذة في التاريخ الإسلامي؛ لأنها دين إزاء دين، وأمة إزاء أمة، وانقلاب خطير على النبوة المحمدية ورسالتها الغراء التي جعلها الله خاتمة الرسالات (1) ، ومن هذا المنطلق جاء هذا الموضوع " رؤية فكرية وتاريخية لرعاية الحرمين الشريفين "، وسوف أستعرض من خلاله القضايا الفكرية التالية:
أولا: المكانة التاريخية والفكرية للحرمين الشريفين.
ثانيا: مواجهة الحرمين الشريفين للحركات المعادية قديما.
أ) مقولات الغزو الفكري حول مكانة الحرمين.
ب) الصليبيون وإعلاء المقدسات المسيحية.
ثالثا: مواجهة الحرمين الشريفين للتحديات المعاصرة.
أ) العزلة الفكرية بين جناحي الأمة الإسلامية.
ب) العلمانية وتجميد المشاعر الدينية نحو المقدسات.
ج) الباطنية ومفرزاتها - البهائية - القاديانية.
1 - البهائية وتحويل قبلة الصلاة.
2 - القاديانية والحج إلى قاديان.
3 - نظرة فاحصة لأصول الفكر الباطني.
أ - الفلسفة اليونانية ورموزها الغامضة.
ب - التأويل الباطني لظاهر النصوص.
ج - الصدور والفيض.
__________
(1) القادياني والقاديانية. توزيع الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ط \ الخامسة 1982 ص 117 - 120.(24/310)
أولا: المكانة التاريخية والفكرية للحرمين الشريفين
اقتضت حكمة الله أن يجمع الموحدين من البشر على قبلة واحدة، فأوحى الله إلى أبي الأنبياء إبراهيم الخليل - عليه السلام - أن يقيم قواعد البيت العتيق ليكون أول بيت يذكر فيه اسمه، وليكون أيضا مثابة للناس وأمنا، تشد الناس إليه الرحال من كل فج عميق.
{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} (1) .
وقد شاء الله تعالى أن يبقى هذا البيت مصدرا للإشعاع والنور الرباني منذ أن أقيمت قواعده إلى أن تقوم الساعة، وجاءت الرسالة المحمدية بحكم أنها خاتمة الرسالات لتقر هذا المعنى وتؤكد هذه الحقيقة، إذ أمر المولى تعالى رسوله الكريم بالتوجه إليه في الصلاة بعد أن توجه إلى بيت المقدس ما يقرب من ستة عشر شهرا؛ وذلك ليعيد لأمة التوحيد متمثلة في الأمة المحمدية قيادة ركب البشرية وهدايتها، يقول الله تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (2) .
فلا غرو بعد هذا أن تكون قبلة أبي الأنبياء " إبراهيم خليل الرحمن " رمزا للتوحيد، ومظهرا حقيقيا للإيمان، تشرئب إليها القلوب، وتتطاول إليها أعناق المسلمين؛ لأنها مظهر وحدتهم، وسر اجتماع كلمتهم، ومحور شعائرهم، وقد أكد القرآن الكريم هذه المعاني في قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (3) .
ومن هذا المنطلق أرسى النبي - صلى الله عليه وسلم - للبيت العتيق رسالته الصحيحة، وسن للمسلمين شعائر حجهم على أكمل وجه، وجعلها ركنا أساسيا من أركان الإسلام لا يكتمل إسلام المرء بدونه.
__________
(1) سورة الحج الآية 28
(2) سورة الحج الآية 78
(3) سورة البقرة الآية 144(24/311)
ومن هذا التاريخ تصدرت مكانة الحرم المكي وأخذت الكعبة المشرفة أهميتها البارزة في عقيدة المسلمين وسائر عباداتهم، ثم عاش النبي - صلوات الله وسلامه عليه - الفترة الباقية من النبوة في المدينة المنورة يرسي قواعد الدولة الإسلامية متخذا من مسجده الشريف مقرا لإدارة الدولة، ومدرسة فكرية لتربية أصحابه، يزاولون فيه شعائر عباداتهم، ويتلقون من نبيهم تعاليم دينهم إلى أن استبان المنهج، واكتملت الرسالة، ولم يعد سوى أن يتابع رجاله السير على هداه، وبعدها لحق رسولنا الكريم بالرفيق الأعلى، تاركا لنا ميراث نبوته في كتاب الله وسنته المشرفة.
ومن هذا المنطلق احتل مسجد الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - في طيبة الطيبة في حياته وبعد مماته مكانته المقدسة في قلوب المسلمين جميعا، وبجواره رقد النبي - صلى الله عليه وسلم - رقدته الأخيرة إلى أن يلقى ربه، وصار المسجد النبوي ثاني الحرمين الذي تشد إليه الرحال من كل فج؛ ليشارك الحرم الأول رسالته السامية في تعميق مشاعر الإيمان في قلوب المؤمنين.
وإيمانا بأهمية رسالة كل من الحرمين الشريفين حرص خلفاء المسلمين ومن جاء بعدهم من الحكام على إبقاء هذه الرسالة حية ومتجددة على الدوام، تؤتي أكلها وثمارها في كل حين، وذلك برعايتهما وصيانتهما من كل حركة معادية أو اتجاه هدام؛ لأن إلحاق الضرر - لا قدر الله، مهما كان نوعه أو درجته يمس الحرمين من قريب أو بعيد - إنما هو ضرر يمس قبل كل شيء عقيدة المسلمين، ويوهن من مشاعرهم وشعائرهم، وتؤدي إلى تمزيق وحدتهم التي من الله عليهم بها في قوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (1) .
وإن كانت خدمات حكام المسلمين من: أمويين وعباسيين وفاطميين وعثمانيين وسعوديين إزاء هذين الحرمين عبر فترات التاريخ الإسلامي قد تنوعت، فشملت السقاية والرفادة وكسوة الكعبة،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103(24/312)
والتوسعة والبناء والترميم، وجميعها بلا شك خدمات جليلة يشهد بها التاريخ في الماضي، ويقرها الواقع اليوم، فإن هناك بجانب هذه الخدمات رعاية أخرى أسمى وأعمق؛ لنواجه بها بكل حزم وقوة تلك الاتجاهات المضللة والنحل الضالة، التي أرادت أن توهن من قدر هذه المقدسات، وأن تبعد أنظار المسلمين عنها إلى أماكن أخرى مزعومة، ومراكز فكرية تبث سمومها الإلحادية ضد معتقد المسلمين، وتغزو عقولهم غزوا فكريا يصعب انتزاعه، وفي اعتقادي أن مثل هذه الرعاية تعد أسمى أنواع الرعايات وأنفعها، وسوف تعود بالخير العميم على الحرمين من جهة، وعلى المسلمين من جهة أخرى، حتى يظل التأثير والتأثر بين الطرفين باقيا، وتظل المناعة الوقائية للحرمين ضد شتى الحملات العدائية قوية وباقية. فإذا تهيأ للحرمين أداء دورهما على هذا النحو انسابت آثارهما قوية في نفوس المؤمنين تعصمهم من كل بدعة أو انحراف، وتصحح المعتقد كلما طرأ عليه من الظواهر والمتغيرات ما يحيد بهم عن المنهج الرباني؛ فإنه لا يسوغ لأحد من أهل التوحيد أن يشد رحاله إلى غير الحرمين والمسجد الأقصى، أو يمكث في الأرض بعيدا عنهما، كما ينبغي أن تمتد حركة التصحيح بوسائلها المختلفة من هذين الحرمين إلى الطوائف المخالفة لهذا الحكم الإسلامي؛ لأن هذين الحرمين مصدران للإشعاع الإيماني الذي يواجه كل باطل وانحراف.
ولم تقتصر رسالة الحرمين على مواجهة النحل الضالة وقطع دابرها من الأرض، وإنما لمن يقوم بخدمتها دور قيادي باعتباره الممثل الشرعي للمسلمين، والجامع لكلمتهم، والمعبر عن آمالهم، وهذا الدور الطليعي ينبغي أن يؤتي ثماره في المجالين الإسلامي والدولي، وعلى كافة محاور الأنشطة الدينية والسياسية والحربية والتعليمية والاجتماعية والاقتصادية، وهذا الدور الطليعي الذي يضطلع به من يقوم بخدمة الحرمين ليس هو وليد اليوم، وإنما هو تكليف شرعي شرف الله به كل(24/313)
من قام بخدمتهما في كل عصر، منذ أن قامت دولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة إلى أن يشاء الله، فإن الحرمين الشريفين ليسا نصبين تذكاريين، وإنما هما معنيان من المعاني الخالدة، ولا تقوم للمسلمين قائمة بدونهما، بل لا تكتمل الشخصية القانونية والشرعية لدولة إسلامية كبرى تجمع المسلمين جميعا، إن لم يكن الحرمان الشريفان رمزا لها، ولنا في رسولنا الكريم والخلفاء الراشدين من بعده الأسوة الحسنة، فقد اتخذوا من مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - مقرا للدولة الكبرى التي أقاموها، وقد أدى المسجد النبوي دوره كاملا دون نقصان إذ انبعثت منه المؤثرات الدينية الصحيحة إلى كافة المسلمين في المشرق والمغرب، ومنه عقدت ألوية المجاهدين الذين انساحوا في الأرض لتمكين منهج الله، وإليه وفدت وفود الأمم ومبعوثوها لعقد المعاهدات والهدن وإبرام الصلح، كما كانت تفد إليه وفود الأمصار الإسلامية برئاسة ولاتها لأداء فريضة الحج وزيارة المسجد النبوي، ثم يلتقون بالخليفة كل على حدة؛ ليتلمس مشكلات المسلمين في بلادهم البعيدة، ويطمئن على عدالة الحكم وإيصال الحقوق إلى أصحابها، إنه بحق دور ريادي لراعي الحرمين ينطلق من المصلحة العليا للمسلمين بصفته الممثل الشرعي لهذه الأمة، والقادر على توصيل هذه المثل إلى جميع المسلمين في بقاع الأرض، والحارس على سلامتها وصحتها من كل بدعة أو اتجاه هدام.(24/314)
ثانيا: مواجهة الحرمين الشريفين للحركات المعادية قديما:
إن الحركات الهدامة التي تعرض لها الحرمان الشريفان قديما كثيرة ومتعددة، بدأت مع أصحاب الفيل قبل الإسلام، ثم مع جماعة عبد الله بن سبأ وغيره من اليهود الذين حقدوا على الإسلام، ولا سيما بعد تغير اتجاه القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، ثم مع الباطنية وفرقها منذ عهد مؤسسها ميمون القداح وابنه عبيد الله، ثم مع حملات الحقد(24/314)
من الصليبيين الذين أرادوا إحياء مقدساتهم في القدس الشريف، وقد حاولوا الهجوم على الحرمين الشريفين أكثر من مرة، وسوف أعرض في عجالة لأهم هذه الحركات وأخطرها.
أ) مقولات من الغزو الفكري حول مكانة الحرمين:
الحقيقة أن هذه قضية من القضايا المهمة التي لها أبعادها في التاريخ الإسلامي لبلاد الحجاز، والتي ينبغي أن يعاد فيها النظر مرة أخرى، فإن ما تردده بعض الأقلام المعاصرة من أن الحجازيين ولا سيما أهل المدينة قد عانوا فراغا سياسيا بعد انتقال عاصمة الدولة الإسلامية من المدينة المنورة إلى دمشق ثم بغداد، ثم القاهرة، ثم الأستانة، وأن هذا الفراغ قد دفع بأهالي المدينة إلى الاستعاضة عن دورهم السياسي بالغناء والطرب، وانتشار شعر الغزل بكافة أنواعه (1) .
إن مثل هذه الروايات في تقديري تعد من قبيل الغزو الفكري الذي ابتلي به المسلمون، وأراد منه المغرضون تشويه التاريخ الإسلامي، ولا سيما تاريخ الأنصار أبناء الصحابة والتابعين وتابعي التابعين.
قد نسلم بأن انتقال عاصمة المسلمين من المدينة المنورة قد أثر على مكانتها السياسية، إذ استحوذت كل من دمشق، ثم بغداد، ثم القاهرة، ثم الأستانة جل الأنشطة السياسية للخلفاء باعتبارها حواضر الدول الإسلامية آنذاك، ولكننا لا نسلم بالفراغ السياسي جملة، كما لا نسلم بأنه أدى إلى انحراف الحجازيين إلى مثل هذه الأنشطة الدنيوية اللاهية.
فمن المعلوم تاريخيا وفكريا أنه على الرغم من خلو المدينة المنورة من مركز الزعامة السياسية، إلا أنها هي ومكة المكرمة حزتا الزعامة الدينية للعالم الإسلامي كما شهدت المدينتان معا ثقلا سياسيا من نوع خاص بجانب زعامتهما الدينية تلك، وإن كان هذا الثقل السياسي
__________
(1) حسن إبراهيم حسن تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، المجلد الأول ص532 - 536.(24/315)
للحجازيين يأتي في إطار علاقتهما بالخلافة الأموية ثم العباسية ثم الحكام الفاطميين في مصر، باعتبارهما وقتئذ ولايتين تابعتين للخلافة، إلا أن الثقل الديني والسياسي لهما قد أوجد نظرية فكرية وسياسية تبلور مفهومهما إبان القرن الرابع الهجري، حين شهدت بلاد الحجاز صراعا من قبل الخلافة العباسية والحكام الفاطميين على الظفر برعاية الحرمين الشريفين، إذ أصبح من المسلم به في الأوساط الرسمية والشعبية أن الخليفة الشرعي الممثل للمسلمين هو من دعي له على منابر مكة والمدينة؛ وبذلك يضفي على خلافته صفتها الشرعية، ويمتلك منبرا قويا للتأثير على مشاعر المسلمين الذين احتشدوا من كل فج عميق لأداء فريضة الحج، ومن يتتبع علاقات الحجازيين بالخلافة العباسية والدولة الفاطمية ثم الدولة البويهية والأيوبية، وأخيرا دولتي: بني رسول وبني نجاح في اليمن - يدرك تماما أهمية تلك النظرية بجانبيها الفكري والسياسي في تأصيل تلك الدول واتخاذها صفة الشرعية السياسية في نظر المسلمين.
ولعل هذه النظرية هي تلك التي ألهبت الصراع بين الدولة العباسية السنية والفاطميين الشيعة منذ أن قامت دولة الفاطميين الأولى في الشمال الإفريقي، فعلى الرغم من تمذهب الفاطميين بالمذهب الإسماعيلي الذي لم يلق اهتماما من المسلمين، إلا أنهم لم يغمضوا جفونهم عن محاولة الاستيلاء على الحرمين، وقد بدأت محاولاتهم الأولى مبكرة في عهد عبيد الله المهدي وابنه القائم، إذ حاول الاثنان أن يستميلا أهل الحجاز، وعندما فشلت محاولاتهما المتكررة أوعزا إلى القرامطة بتأديبهم، فما كان من هؤلاء إلا أن اعتدوا على الحجيج، وامتدت أعمالهم التخريبية إلى الكعبة - صانها الله، وعلى ما يبدو فإن عبيد الله المهدي لم يرقه الظفر برعاية الحرمين بهذا الأسلوب الذي أحنق عليه المسلمين جميعا؛ فنراه يسارع بإظهار الاستياء، وإنكاره الشديد لهذا الحادث، ويبعث برسالة شديدة اللهجة إلى مدبره، قائلا فيها: " سجلت علينا في التاريخ نقطة سوداء لا تمحوها الليالي والأيام "، ثم يقول في موضع آخر من الرسالة:(24/316)
" قد حققت على دولتنا وشيعتنا ودعاتنا اسم الكفر والزندقة والإلحاد بفعالك الشنيعة هذه. . . ".
كما هز هذا الحادث الجلل مشاعر الخليفة عبد الرحمن الناصر الأموي في الأندلس فاستشاط غضبا هو وأهل السنة في بلده لما انتهك من حرمة البيت العتيق، وينعي على الفاطميين اشتراكهم في هذه المؤامرة، وإعاقتهم حجيج الأندلس أثناء مرورهم بالقيروان، ويتوعدهم قائلا في إحدى رسائله إلى بعض أمراء المغرب المتقربين إليه: ". . . وهو الأمر الفادح والكارث الذي لا يحل لأمير المؤمنين ترك الغضب منه والسعي في الانتصار له، والقيام في الذب عنه، والتقرب إلى الله بحماية البيت العتيق وتعظيمه وتهوين من استهان به، والله على الانتصار منهم معين إن شاء الله ".
مما تقدم يتضح أن الحجازيين لم يعانوا من فراغ سياسي كما تردد حولهم، وأن لخدمة الحرمين أثرها الكبير في توطيد أركان الممالك الإسلامية التي قامت آنذاك، ومن ثم انشغل الحجازيون بعلاقات سياسية على أعلى مستوى، كما كان لهم أيضا دورهم الديني في هذا الصدد، إذ تسنموا قمة التوجيه الديني لشعوب العالم الإسلامي، فقد عاش في المدينة أبناء الصحابة - رضوان الله عليهم - وأبناء التابعين، وكانت وفود طلاب العلم من المشرق الإسلامي ومغربه تصل إليهم للتتلمذ على أيديهم، وتدوين أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فيجاورون الحرمين، وينتظمون في حلقات العلم بالمسجد النبوي والمسجد الحرام، وظلت هذه الحلقات تقوم بدورها الكبير في تطوير الأمة الإسلامية فكريا وحضاريا، وربطها بالعقيدة الإسلامية الصحيحة، وكان الإمام مالك - رحمه الله - من أبرز معلمي المسجد النبوي في مطلع القرن الثاني الهجري، إذ تتبع منهاج الرسول - صلى الله عليه وسلم، وسار طلابه على منهاجه، حتى تكونت مدرسته الفكرية الفقهية التي تعرف بمدرسة عالم المدينة، والتي نهجت هي أيضا منهج السلف(24/317)
والجماعة، وابتعدت عن القياس والتأويل، والتزمت بظاهر النص مع معناه الأصيل.
ولم يقف تأثير فكر عالم المدينة على أهالي الجزيرة العربية والمشرق الإسلامي، بل امتد ليؤثر في المغرب والأندلس وشعوب غرب أوروبا؛ وذلك ليحمي أمة بأكملها من زيغ الزائفين وضلالات المضللين، إذ كان لبعد هذه البلاد عن مراكز الإسلام الإشعاعية في المشرق الإسلامي ولا سيما الحرمين الشريفين، كما كان لضعف السلطة المركزية في بغداد في أن تتعقب أصحاب النحل الضالة التي فرت إلى المغرب، قد شجع أصحاب هذه النحل أن تتخذ من بلاد المغرب أوكارا تعشعش فيها دعواتهم المنحرفة.
وشاء الله لهذه البلاد أن تنجو من تلك المهالك إذ هيأ لها رجالا أشداء مخلصين تمذهبوا بمذهب عالم المدينة، وعرفوا منه الدين على أصوله الصافية، إذ كانت رحلة المغاربة إلى المدينة لا تنقطع سواء في مواسم الحج أو طلبا للعلم.
ولم يمض وقت طويل حتى تكونت في بداية القرن الثالث الهجري النواة الأولى لمدرسة القيروان التي لمعت في دراسة الفقه المالكي، وفي تصنيفه، وفي الإفتاء به، ومن أشهر الفقهاء المؤسسين لهذه المدرسة: الإمام سحنون وابنه محمد، وابن عيدروس، وابن الحداد، وغيرهم كثيرون يشهدون بفضل عالم المدينة المنورة، وبعلمه الصحيح.
ولم يقف تأثير فكر عالم المدينة المنورة على الشمال الإفريقي، بل امتد أيضا ليشمل بلاد الأندلس في غرب أوروبا، إذ لمس الأندلسيون عند مرورهم بالقيروان متجهين إلى الحج مدى الازدهار العلمي والثقافي الذي تعيشه القيروان في رحاب فكر عالم المدينة، حينئذ شدوا رحالهم إلى المدينة لتعلم الفقه المالكي، وأخذ العلم من منابعه، ثم عادوا إلى بلادهم(24/318)
يحملون نسخا من الموطأ بعد أن درسوه واستظهروا أحكامه، ولم يمض وقت طويل حتى تأسست مدرسة قرطبة الفقهية (1) التي شاركت أختها القيروانية الفكر الديني، والأخذ بآراء أهل السنة والجماعة، وبادلوهم التأثر والتأثير في كثير من القضايا الفكرية والدينية والسياسية، الأمر الذي أدى إلى تساند أهل السنة في البلدين في إطار الوحدة العقدية لمذهب عالم المدينة للوقوف في مواجهة فتنة المذاهب الدخيلة، ولا سيما المذهب الإسماعيلي الذي ابتلي به البلدان المسلمان.
فقد حاول الفاطميون فرض مذهبهم بشتى الوسائل، وذلك في إطار خطتهم الشاملة لحكم العالم الإسلامي، ولكن أهل السنة في هذه البلاد لم يستسلموا مطلقا، وشرعوا يواجهون دعاة المذهب الإسماعيلي مواجهة سطرها التاريخ بأحرف من نور، إذ انبرى فقهاء المالكية في البلدين يناظرون فقهاء الباطنية مناظرات علمية كتبت لها الظفر والتفوق، ومكنتهم من كشف أضاليلهم أمام الناس، ولم تقتصر المواجهة على المناظرات العلمية، وإنما اتخذت أشكالا أخرى منها المقاطعة الجماعية، والمواجهة العسكرية حتى فشل الفاطميون في نشر مذهبهم في المغرب والأندلس، وكان هذا سببا من الأسباب التي اضطرتهم للرحيل نحو بلاد المشرق واحتلال مصر.
إذن كان الدور الفكري للمسجد النبوي وعالمه مالك كبيرا، إذ امتد تأثيره وإشعاعاته الإيمانية ليصون أمة إسلامية في الشمال الإفريقي والأندلس من خطر النحل الضالة، والاتجاهات الهدامة، فقد ظل ذلك المذهب حتى يومنا هذا قلعة حصينة من قلاع أهل السنة، ومنبرا من أهم منابر الفكر الإسلامي الصحيح في هذه البلاد.
__________
(1) محمد محمد إبراهيم زغروت. رسالته للدكتورة ص228.(24/319)
ب) الصليبيون وإعلاء المقدسات المسيحية:
كان المد الإشعاعي للحرمين الشريفين كما عرفنا بعيدا وعميقا حتى بدد دياجير الظلم والإلحاد في بقاع كثيرة من المعمورة، وأنقذ شعوبا كانت مقهورة تحت سلطان الكنيسة في العصور الوسطى، واعتنقوا الإسلام عن رغبة واقتناع أكيدين، كان من أبرز مظاهره ارتباط تلك الشعوب بالأماكن المقدسة الإسلامية وإعراضهم عن الكنيسة، ومقدساتها المزعومة، مما أوجد قلوب رجال الدين الأوروبيين على الإسلام ومقدساته، مما زاد من غضبتهم الغاشمة ذلك الاحتكاك الثقافي والفكري الذي تأثرت به بعض الشعوب الأوروبية عن طريق الأندلس والشمال الإفريقي وصقلية وجنوب إيطاليا، وحاول هؤلاء المتأثرون إقامة حياتهم في أوروبا على ضوء المفاهيم والقيم والمعارف التي وجدوها عند المسلمين، ولكن الكنيسة وقفت ضد هذه الحركة العلمية التي بدأت تأخذ طريقها إلى سائر الشعوب الأوروبية لسببين:
الأول: خوفها على مكانتها في نفوس الأوروبيين، إذ بانتشار العلم يزداد وعي الشعوب، وتتفتح أعينهم على خرافات رجال الدين المهيمنين على حياة هذه الشعوب آنذاك.
ثانيا: خوفها من انتشار الإسلام مع الحركة العلمية المنقولة عن الجامعات الإسلامية وعلمائها.
ولكي تضع الكنيسة حدا لمؤثرات الإسلام الفكرية والعلمية التي باتت خطرا يهدد مصالحها؛ انبثقت الدعوة للحروب الصليبية، وحشدت لحروب المسلمين أعدادا غفيرة من رجالات الدين والحاقدين على الإسلام من كافة أرجاء القارة الأوروبية، وأضفوا عليها طابعا مقدسا، وسموها بالحروب المقدسة، وقد ظلت تلك الحروب قرابة قرنين من الزمان من القرن الحادي عشر إلى الثالث عشر الميلادي جاثمة بكلكلها على جناحي الأمة الإسلامية في المشرق والمغرب على السواء، وفي آن واحد،(24/320)
استهدفت أول ما استهدفت النيل من مقدسات المسلمين في الحرمين الشريفين، وذلك بانتزاع الأماكن المقدسة المسيحية في القدس من أيدي المسلمين، وإثارة الطوائف المسيحية ضد الإسلام والمسلمين، وبعد أن يتم لهم ذلك ويقيموا مملكتهم في بيت المقدس يباشرون جهودهم في تنصير المسلمين، واقتلاع الإسلام من نفوسهم، وإحلال المسيحية محله، وحينئذ تأخذ المقدسات المسيحية صدارتها، وتتجه أنظار العالم نحوها.
إذن فإن دوافع الحروب الصليبية والتي أطلقوا عليها الحرب المقدسة لم تكن دوافع اقتصادية أو سياسية أو حربية بقدر ما كانت دوافع أملاها الحقد والكراهية والتعصب الأعمى البغيض؛ فهي حرب أمة تجاه أمة، وحرب دين تجاه دين، وتشير أحداث التاريخ إلى محاولات الصليبيين المتكررة لغزو بلاد الحجاز، ففي عام 577هـ قامت المحاولة الأولى بقيادة أرناط صاحب إمارة الكرك، وكان هدفه الأساسي من الغزو هو ضرب المسلمين في مقدساتهم - الحرمين الشريفين - والاستيلاء على طريق الحج البحري والسيطرة عليه، ولكن باءت هذه الحملة بالفشل بعد أن تصدى لها الأيوبيون، ثم تكررت محاولته الثانية في العام التالي إذ تمكن الصليبيون من النزول بأسطولهم على ساحل الحوراء قرب ينبع، وغزوا المناطق المجاورة وجدوا في المسير حتى أصبحوا على بعد مسيرة مرحلة واحدة من المدينة المنورة، يريدون دخولها ونبش قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإخراج جسده الطاهر من قبره، ثم نقله إلى بلادهم ودفنه عندهم حتى لا يستطيع المسلمون زيارته (1) ، إلا أنهم لم يحققوا أهدافهم، وحفظ الله نبيه من كيدهم، وحلت بهم الهزيمة والأسر على أيدي صلاح الدين ورجاله، وجعل منهم عبرة لكل من تسول له نفسه بالاعتداء على الحرمين إذ أمر بنحر بعضهم في منى كما تنحر الهدي، ثم أمر بقتل الباقين بعد أن طيف بهم في شوارع مدينة الأسكندرية عام 578هـ.
__________
(1) أي زيارته من المدينة أو بدون شد رحل، بخلاف الزيارة مع شد الرحل؛ فإن الصحيح عدم جوازها.(24/321)
وقد يخطئ من يظن أن الحقد الصليبي على الإسلام والمسلمين انتهى بانتهاء الحروب الصليبية، وإنما هو باق إلى يومنا هذا، وإن كان قد أخذ شكلا مغايرا لما كان عليه، فإن من أبرز مظاهره اليوم هو تنصير المسلمين، تلك الحركة الخبيثة التي باتت تستشري في بعض بلدان العالم الإسلامي لاستئصال الإسلام نهائيا من النفوس.
يقول المبشر رايد: " إنني أحاول أن أنقل المسلم من محمد إلى المسيح، ومع ذلك يظن المسلم أن لي في ذلك غاية خاصة، أنا لا أحب المسلم لذاته، ولا لأنه أخ لي في الإنسانية، ولولا أنني أريد ربحه إلى صفوف النصارى لما كنت تعرضت له لأساعده ".
ويقول المبشر الألماني " كارل بكر ": " إن الإسلام لما انبسط في العصور الوسطى أقام سدا في وجه انتشار النصرانية، ثم امتد إلى البلاد التي كانت خاضعة لصولجان المسيحية ".
ومن هنا يتضح أن حركة التنصير التي تقوم بها المسيحية اليوم في بلاد المسلمين، ما هي إلا إحدى مفرزات الحركات الصليبية إبان القرون الوسطى، وإن كانت الحروب الصليبية قد استهدفت قديما عداء سافرا وهجوما مباشرا على الحرمين الشريفين، وأثبتت في ذلك فشلا ذريعا، فإن خلفاء الصليبيين اليوم من المبشرين بالمسيحية قد غيروا من هذا الأسلوب المباشر بعد أن ثبت لأسلافهم فشله، وعولوا على اتباع أسلوب أكثر خبثا يتسم بالمرونة والملاينة، فهم لا يودون تهييج المسلمين بالطعن في مقدساتهم، وإنما يخمدون وهجها من قلوبهم بمخطط رهيب ينفذ بكل دقة، ويقوم على مرحلتين أساسيتين: تبدأ الأولى بأعمال التذبذب، ثم تسلم إلى المرحلة الثانية، والتي سموها بأعمال الهدم، ويوضح لنا المبشر الفرنسي " شاتليه " أبعاد هاتين المرحلتين في مقدمة كتابه " الغارة على العالم الإسلامي " يقول عن المرحلة الأولى: " ولا ينبغي أن نتوقع من جمهور العالم الإسلامي أن يتخذ له أوضاعا وخصائص أخرى إذا(24/322)
هو تنازل عن أوضاعه وخصائصه الاجتماعية، إذ الضعف التدريجي في الاعتقاد بالفكرة الإسلامية، وما يتبع ذلك الضعف من الانتقاض والاضمحلال الملازم له سوف يقضي بعد انتشاره في كل الجهات إلى انحلال الروح الدينية من أساسها لا إلى نشأتها بشكل آخر ".
أما عن المرحلة الأخرى وهي الهدم فيقول: ". . . ولكننا نعود فنقول: إنه مهما اختلفت الآراء في نتائج أعمال المبشرين من حيث الشطر الثاني من خطتهم، وهو " الهدم "، فإن نزع الاعتقادات الإسلامية ملازم دائما للمجهودات التي تبذل في سبيل التربية النصرانية، والتقسيم السياسي الذي طرأ على الإسلام سيمهد السبل لأعمال المدنية الأوروبية، إذ من المحقق إن الإسلام يضمحل من الوجهة السياسية، وسوف لا يمضي غير زمن قصير حتى يكون الإسلام في حكم مدينة محاطة بالأسلاك الأوروبية ".
هذا هو الخطر المعادي الثاني، والذي يتمثل في الحقد الصليبي في العصور الوسطى، وما تمخض عنه اليوم من حركات تنصيرية أخذت طريقها في بلاد المسلمين.(24/323)
ثالثا: مواجهة الحرمين الشريفين للتحديات المعاصرة.
يواجه الحرمان الشريفان اليوم تحديات كثيرة، البعض منها يمسها مباشرة، والبعض الآخر يمس الإسلام: عقيدته وشريعته، وتاريخه ولغته ونظمه وثقافته وفكره، والبعض الثالث يستهدف المسلمين أنفسهم؛ لكسر شوكتهم وتمزيق صفهم، وإبعادهم عن دينهم الحنيف، وانتزاعهم من ماضيهم المجيد، وليس بخاف على أحد أن التحديات الثلاثة تعمل جميعها في مخطط واحد، تعاونت قوى الشر والضلال على تنفيذه بكل دقة، فجندت له كل عربيد خارج عن الدين، وشحذت له كل لسان متفوه، واستأجرت له كل قلم مريب، ثم نفخت في كير كل دعوة منشقة عن(24/323)
الإسلام، وقدمت لها الدعم المالي والسياسي في كثير من أرجاء عالمنا الإسلامي.
وقد تسربت هذه التحديات جميعا إلى عقول المسلمين في غفلة منهم، فإن ما تمر به أمتنا الإسلامية اليوم كان حصاد قرن من الزمان، عمل خلاله الاستعمار العسكري الأوروبي بتوجيه الصهيونية العالمية لحسابه، وتمكنت من اقتطاع فلسطين لحسابها، ودبرت الجولات الثلاث مع إسرائيل، حصدت فيها ثلاثة أجيال من الأمة، وأشعلت نار الحرب في أماكن إسلامية أخرى: كحرب الصحراء المغربية، وحرب الصحراء المغربية وحرب الخليج، واحتلال أفغانستان، مع عربدة على الساحة العربية في غزة والضفة الغربية للأردن والجولان، وتهويد بيت المقدس، واحتلال جنوب لبنان، ومذابح صبرا وشاتيلا والبقاع.
وفي ظل العتمة الحالكة التي شغلت المسلمين عن وجودهم المعنوي جاء الغزو الفكري الجائح للموقع الديني برمته: مقدساته وفكره ومعتنقيه، مستهدفين قبل كل شيء ذلك الحصن المنيع الذي يعد مناط الأمة وأساس وجودها وبقائها. فماذا أعدوا لذلك؟
أ - العزلة الفكرية بين جناحي الأمة الإسلامية.
لعبت عوامل كثير في اصطناع هذه العزلة وفرض جدار قوي يحول دون التبادل الثقافي والفكري بين جناحي الأمة الإسلامية في المشرق والمغرب، ومن هذه العوامل ما هو تاريخي يعود إلى جذور شعوبية أو عصبية بغيضة قضى عليها الإسلام بتعاليمه السمحاء، ومنها ما يعود إلى الاستعمار وحلفائه من الصهاينة والماسونية والماركسيين الذين دعوا إلى ظهور الدعوات المختلفة لتعميق الهوة الفاصلة بين رقعة العالم الإسلامي، وترسيب كثير من الرواسب التي ساهمت في إثارة مواقف فكرية مضادة، كان مؤداها ظهور القوميات التي مزقت الكيان الفكري(24/324)
والاجتماعي للأمة الإسلامية، فبرزت القومية الهندية، والفارسية والفرعونية والكردية والبربرية، إلى غير ذلك من دعوات عملت على تعميق الهوة والاختلاف، وإشعال جذوة الصراع الفكري والعقدي بين مسلمي الجناحين؛ فلا يصح في عقل ولا منطق أن تتجاوز كل من القاديانية في قاديان، والبهائية في شيراز حدودهما الجغرافية من بلاد فارس، وما كان دعاتها المؤسسون سوى بقايا الشعوبية الحانقة على الإسلام، فإذا كانت اليهودية العالمية بشهادة الوثائق هي التي بشرت بالبهائية والقاديانية وروجت لهما حتى تكاثرت خلاياهما في عالم اليوم، فكيف استطاعت هاتان النحلتان أن تغزوا فكرنا المعاصر من حيث لا ندري، وقد أعيا اليهود منذ القدم أن تنفذ إليه، فكيف أفلحت إذن كل من هاتين النحلتين الآسيويتين؟ بلا شك أنه عمل صهيوني خطير قصد منه تمزيق أواصر الوحدة الفكرية التي نعم بها المسلمون قرونا طويلة.
وفي إطار تمزيق الوحدة الفكرية الذي بدأ مع ليل الاستعمار البغيض، أصبحت بلاد المسلمين مرتعا خصبا للإرساليات التبشيرية، والبعثات العلمانية الأجنبية من كل جنس وملة، فنشبت أظفارها في ديارنا تتولى أبناء المسلمين منذ نعومة أظفارهم وتتعهدهم بالتربية والتعليم والتثقيف لتخرجهم غرباء من وطنهم، وقد فرطوا في عناصر أصالتهم، وجهلوا حقائق تاريخهم.
ومما يستغرب له حقا أنه حتى بعد رحيل الاستعمار عنا، فإن الإشعاعات الثقافية الغربية ما زالت ماثلة في عقولنا، وما زلنا نستقي العديد منها دون أدنى تمييز بين الصالح والطالح منها، نكرر كلام الأساتذة المستشرقين بدون وعي، ونرجع إليهم فيما ينشرون من أبحاث، ونأخذ عنهم كل ما يقولون، وبين ثنايا الكتب سهاما مسمومة موجهة وجهات معينة، الهدف منها تعميق الهوة بين مفكري الأمة الإسلامية.(24/325)
وليس من المستغرب أيضا أن يكون لبعض مفكرينا دور بارز في هذه العزلة الثقافية، فإن كان في عالمنا العربي والإسلامي مناطق ذات جغرافيات مختلفة، ولكل منطقة ظروفها الخاصة، فإننا لا نخشى من هذه الخصوصيات؛ لأنها أخيرا تصب في مورد واحد، وبالتالي لا ضير من اختلاف المناهج الثقافية إن تعددت مواردها بشرط الاحتفاظ بأصالتها من جهة وبإمكانية انفتاحها على الثقافات الأخرى إن كان اللقاح بينهما سيؤدي في النهاية نتاجا مشتركا يحمل هوية عربية إسلامية، ولكن مما يؤسف له أن بعض مفكرينا لم يأخذ بهذه النظرية وتمسك بأفكار مسبقة أخذت مكانتها في أذهان المفكرين، وكأنها مسلمات أصبح من الصعب انتزاعها مع شعور بالكبر والتعالي حينا، أو شعور بالرضا والقناعة حينا آخر، كل في بيئته قانع بما عنده، ولا يشعر بضرورة الانفتاح الفكري، وتبادل التأثر والتأثير مع غيره في المشرق أو المغرب الإسلاميين.
ومن هنا أصبح من الضروري أن نلتقي للتعرف على أنفسنا، ولا نخش مطلقا من اختلاف الآراء ووجهات النظر للتخلص أولا من العقد المتراكمة في نفوس بعضنا، ومن الرواسب التاريخية والبيئية والقومية التي خلفها لنا الماضي القريب والاستعمار العنيد، ثم ننهض معا بعد ذلك لتلمس أوضاعنا الثقافية والفكرية والدينية التي تعانيها اليوم أمتنا الإسلامية لنجد لها حلولا مناسبة، تعيد إلينا ثقتنا بأنفسنا، وترد إلينا عزتنا وكرامتنا، ونتحول بها تحولا كبيرا، ولا عجب في ذلك، فإن التحولات الكبرى في العالم بدأت من المثقفين وأصحاب الفكر وأرباب الأقلام في كل أمة.
ومما يحمد حقا أن الله قد من على أمتنا بنخبة من المفكرين والمثقفين في شتى مجالات الفكر الإسلامي موزعين في الجناحين: الشرقي والغربي، وجميعهم يمكن أن يناط بهم دور قيادي أمام جماهيرنا العربية والإسلامية، يعملون على هدم الجدار القائم بين هذين الشطرين، ويساعدون على تخفيف العزلة، وتيسير الأوضاع والعقليات في بلادنا.(24/326)
وفي اعتقادي أن للحرمين الشريفين رسالتهما المهمة في تخفيف هذه العزلة الفكرية التي ابتليت بها أمتنا العربية والإسلامية، والتي تعد في نفس الوقت من أخطر الحركات المعادية، فإن موقع الحرمين الشريفين في ملتقى الجناحين الإسلاميين كان بمثابة همزة الوصل الفكري بين مسلمي الشرق والغرب، والمحطم لجدار العزلة الثقافية الذي أقامه الاستعمار منذ أكثر من قرن من الزمان، فقد كانت وفود الحجيج من قارة آسيا وإفريقيا وأوروبا تلتقي جميعها بأفكارها وعقولها ومشاعرها حول شعائر واحدة، متجردين من كل نزعة إقليمية أو جنسية أو مذهبية، متخذين من موسم الحج مؤتمرا إسلاميا يتدارسون فيه أوضاعهم ومشاكلهم، ويتبصرون بالمخاطر التي تحف بهم، وبعقيدتهم وشريعتهم الغراء، ثم يعودون إلى بلادهم وقد ذابت العقد الفكرية تماما، وانفتح مفكرو الشرق على ثقافة أهل الغرب، والتقى الجميع حول معتقدات فكرية واحدة، وأصول ثقافية إسلامية محددة، محافظين على قيم أمتهم الكبرى والصغرى، التي سار عليها المسلمون قرونا متطاولة، بعيدين عن الانبهار بالثقافات الغربية أو اعتقادات أصحاب النحل الضالة.
ب) العلمانية وتجميد المشاعر الدينية نحو المقدسات:
تشكل العلمانية خطرا داهما على الإسلام والمسلمين بوجه خاص، وعلى سائر الديانات بوجه عام، وتكمن خطورة هذه الدعوة في شعارها الذي تنادي به دوما، وهو فصل الدين عن الدولة، والذي ينعكس بالتالي على الإسلام والمسلمين، فهم يرون أن الدين له مجالاته في العبادات والشعائر، بينما للعلم وللعلماء قيادة الركب الحضاري والسياسي في الدولة، ولا يخفى على أحد أن لهذه الدعوة آثارها السلبية في تجميد المشاعر الدينية، والانزواء بها بعيدا عن تيارات الحياة مما أدى إلى تفشي المادية، والاستغراق في اللذات، وغياب القيم الروحية، والانفلات عن كل التزام بدعوى التطور العلمي والتقدم التكنولوجي، وإن كان الأمر يفضي(24/327)
إلى ذلك، فما جدوى الحج وتكبد المشاق في سبيله؟ هل يعود بفائدة على أولئك الذين رانت المادة على قلوبهم وانطفأت معها كل جذوة دينية؟ الإجابة على هذا التساؤل أعتقد أننا نعرفها جيدا؛ لأن الحج ركن من أركان الإسلام، وأن الدين الإسلامي برمته في نظرهم لا مكانة له عند العلمانيين.
ومن الغريب أن تطالعنا العلمانية هذه الأيام بتفسير عصري للقرآن الكريم، تستخدم فيه لغة الكمبيوتر، فنرى العلماني الدكتور محمد رشاد خليفة خبير التنمية الصناعية بالأمم المتحدة، وإمام مسجد مدينة توسان الأمريكية، في طبعة دار الفكر بدمشق لمحاضراته التي ألقاها بالكويت بعنوان " تسع عشرة دلالة جديدة في إعجاز القرآن " قال بعد أن لفت الأنظار إلى أن عدد حروف البسملة تسعة عشر، وأنه عندما تتبع كلماتها وجد أن كل كلمة فيها مضاعفة عن العدد 19 على النحو التالي:
كلمة اسم تتكرر 19 مرة.
لفظ الجلالة (الله) يتكرر في القرآن 2698 مرة، وهو 19 × 142.
كلمة الرحمن تتكرر في القرآن 57 مرة، وهو 19 × 3.
كلمة الرحيم تتكرر في القرآن 114 مرة، وهو 19 × 6.
وبعد أن يقدم هذا الحساب الإلكتروني المذهل يقول: " كيف يمكننا أن نصدق أو نعتقد بأن رجلا أميا يعيش في القرن السابع الميلادي بين البدو في الصحراء دون أن يتعلم من الحساب شيئا من هذا كالنسبة المئوية أو المكررات الحسابية، قال لنفسه: إنني سأكتب كتابا كبيرا تكون الجملة الأولى فيه مكونة من تسعة عشر حرفا، وتتكرر كل كلمة فيه عددا من المرات من أضعاف الرقم تسعة عشر.
وتلقى الناس قوله بانبهار، وخفي عليهم سر الرقم (19) الذي تدور حوله عقيدة البهائيين في قولهم: بنهاية الأمة المحمدية، والتبشير بالبهاء، وبقيام الساعة عام 1709هـ، فالهدف من لغة الكمبيوتر هنا هو غزو(24/328)
الفكر الإسلامي بتأويلات الباطنية؛ لتجوز على المسلمين وصبغتها بصبغة خداعة براقة تخفى منابعها السامة، وينطلي على الناس أنهم يكشفون عن جديد في إعجاز القرآن العلمي، النظري التكنولوجي.
وهكذا نرى تواطؤا كبيرا بين العلمانيين أعداء الدين، وبين أصحاب الفرق الضالة في استخدام الأسلوب العلمي لطمس معالم القرآن الكريم، وهدم الاتجاهات الدينية الصحيحة، والتركيز على أهم دعامتين تقوم عليهما حياة المسلمين في الماضي والحاضر والمستقبل، وهما: انتهاء دور الرسالة المحمدية، ثم زعزعة عقيدة المسلمين في قيام الساعة، فهل يبقى للحرمين الشريفين بعد هذا كله من مكانة في نفوس الناس، والعلمانيون يبثون سمومهم على هذا النحو؟ إذن ما هو سر الرقم (19) الذي شغل به العلمانيون المسلمين عن قضاياهم الأساسية؟
من أقوال المتهمين البهائيين ولا سيما الرسام حسين بيكار يمكن أن نوضح لغز الرقم (19) ، إذ تعلق عليه البهائية أهمية قصوى على النحو التالي.
- البهائي يخرج من ماله 19% من صافي ربحه لبيت العدل في حيفا لتوزيعه على المحافل الدولية.
- السنة تسعة عشر شهرا، والشهر تسعة عشر يوما.
- قيمة صداق النساء في المدن تسعة عشر مثقالا من الذهب الإبريز، وصداق أهل القرى من الفضة، ومن أراد الزيادة حرم عليه.
- تجديد أسباب البيت بعد انقضاء تسعة عشر عاما.
- من يغضب أحدا، عليه أن ينفق تسعة عشر مثقالا من الذهب.
وهكذا ترى العدد (19) ومضاعفاته يدخلان كأساسين في معتقد البهائية، يدخلان في طقوس استقبال وتوديع الميت، ومهور النساء، وتأديب الصبيان، وكفارة إكراه أحد على السفر، ودخول بيت أحد قبل إذنه، وأحكام الصلاة والطهارة من الجنابة ومن الحيض، وطقوس(24/329)
خدمة البيت والهيكل، وعدد أبوابه وتجديده بعد مضي (19) سنة، وحدود السرقة والسلب والنهب، وطقوس الجلوس في الخضرة، وعدد مرات الاستغفار كل يوم، وأحكام الأذان، ودية القتل، إلى غير ذلك من أحكام تدور في فلك العدد (19) ، وضعها الباب في كتاب " البيان ".
وعن طريق مضاعفات الرقم (19) قال الكمبيوتر عن طريق عملية أجراها الدكتور محمد رشاد خليفة يحدد فيها موعد قيام الساعة سنة 1709هـ، وقد قامت جريدة (المسلمون) في عددها الثامن من سنتها الأولى بكشف هذا الادعاء العلماني البهائي تحت عنوان (الكمبيوتر يشترك في مؤامرة الرقم 19، ادعاء بهائي أن العالم ينتهي سنة 1709هـ) ثم نشرت في العدد التاسع تعقيب عدد من السادة العلماء على هذا الادعاء بعنوان: (الرقم 19 آخر فضائح الحركة البهائية) علماء المسلمين يقولون: هدف اللعبة شغل المسلمين عن مشاكلهم الحقيقية.
جـ) الباطنية ومفرزاتها: البهائية - القاديانية
تشكل كل من البهائية والقاديانية اليوم كنحلتين من النحل الإسلامية المنشقة خطرا أكيدا على الإسلام والمسلمين ومقدساتهم التي شرفهم الله بها، وسوف نتعرض في عجالة لأهم أخطار هاتين النحلتين؛ حتى ندرك أبعاد المخطط الصهيوني الذي تلقف دعاتها ومريديها بالدعم المالي والسياسي والتمكين لهم في أرض الإسلام.
1 - البهائية وتحويل قبلة الصلاة:
تتمثل أخطار البهائية فيما أدخلوه على القرآن من تحريفات وتأويلات باطنية، وتبني مفاهيم عقدية تنافي المعتقد الإسلامي الصحيح، وفي صرف المسلمين عن أماكن حجهم ومقدساتهم، كما تشتد خطورتها في(24/330)
ارتباطها منذ نشأتها حتى اليوم مع اليهود والصهيونية والاستعمار، وهذه كلها إثباتات موثقة بالأدلة والبراهين.
- فقد جاء في كتاب الأقدس الذي يزعم البهائيون أنه يحتوي على أحكام البهائية، وهي منزلة على بهاء الله من الله سبحانه وتعالى " لا تحسبن أنا نزلنا لكم الأحكام بل فتحنا ختم الرحيق المختوم بأصابع القدرة والاقتدار، يشهد بذلك ما نزل من قلم الوحي، تفكروا يا أولي الألباب. إذا أردتم الصلاة فولوا وجوهكم شطري الأقدس المقام المقدس، الذي جعله الله مطاف الملأ الأعلى، ومقبل أهل مدائن البقاء، ومصدر الأمر لمن في الأرضين والسماوات) .
ومن يومها تغيرت القبلة في الصلاة من جهة مكة إلى الاتجاه الذي يقيم فيه بهاء الله، ومقامه الأقدس في عكا، وقد أعطوه قدسيته بتأويل الآية الأولى من سورة الإسراء
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (1) الإسراء \ 1.
فالمكان الذي باركه الله حول المسجد الأقصى هو عكا.
- تأويل آيات الله بطريقة عصرية تخدم أغراضهم وأغراض العلمانيين معا، ولنقف على بعض الأمثلة.
فهم يؤولون آية الكرسي على النحو التالي: كرسي الله هو قلب المؤمن، والعقل هو العرش، والجسد هو اللوح المحفوظ الذي يكتب عليه على الجينات الوراثية في خلية الجنين قدر المولود وحياته.
ويؤولون بشرية الرسل في قولهم: " إن بشريتهم هي السر الإلهي ستر الله به النبوة في ثوب بشري عادي تأكل الطعام، وتمشي في الأسواق، حتى لا يبتذل السر بالإظهار والاشتهار.
كما نراهم يؤولون خطاب الله لموسى - عليه السلام -: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} (2) طه \ 12.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 1
(2) سورة طه الآية 12(24/331)
أن المقصود بالنعلين هما: (النفس والجسد، والله يصورهما كنعلين؛ لأنهما القدمان اللتان تغوص بهما الروح في عالم المادة) .
كما أنهم يؤولون عذاب الجحيم للعصاة يوم القيامة فيقولون: (ها هو الله يبين لنا حقيقة جديدة، إذ إنه يورد الألفاظ للتخويف، ولكنه ليس تخويفا من غير أساس، إنه مثل تخويفك لابنك حينما تحذره من إهمال نظافة أسنانه، وتقول له: إذا لم تنظف أسنانك بالفرشاة فإن الفئران سوف تأكل أسنانك، تقوله محبة منك ورحمة بطفلك، وبالطبع لن تأكل الفئران أسنانه، ويفسر الله لنا الحساب، فيقول:
{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (1) الإسراء \ 14.
حتى الحساب هنا يبدو أنه حساب النفس للنفس، تعالى ذو الجلال أن يحاسب أمثالنا، وأن يعذب أمثالنا، وإنما لزم كل واحد علمه كظله ولا خلاص. ولكن هذه المعاني تضيع في النظرة المتعجلة السطحية والوقوف عند الحروف وعند جلجلة الأصوات والألفاظ التي وصف الله بها القيامة، كلها ألفاظ رهيبة ذات جلجلة وصلصلة تقرع الآذان) .
- وإن كانت البهائية نحلة على غير ديننا اعترفت بها المحافل الدولية، وانتشرت محالفها في أوروبا إلا أن خطرها ينصب على الإسلام والمسلمين فقط؛ لأنها مسخرة لتنفيذ مأرب الصهيونية العالمية فبعد مقتل الباب (ميرزا علي محمد الشيرازي) عام 1250م وظهور بهاء الله الذي بشر به الباب، نرى الصيهونية العالمية تلقي بشباكها فتلتقط هذا المدعي الدجال لتسخره في قضاء مآربها، وعلى الرغم من تضييق الدولة العثمانية على نشاط هذا الدعي وإعدادها لقتله حفاظا على الدين، نرى العصابات اليهودية تسارع إلى نقله بعيدا عن خطر الخلافة الإسلامية ليحط رحله في مدينة عكا، وفي هذه المدينة وفي ظل الحماية اليهودية أعلن البهاء خروجه عن الإسلام، واعتبر نفسه نبيا
__________
(1) سورة الإسراء الآية 14(24/332)
ناسخا للديانة الإسلامية، وألقى تعاليمه إلى أتباعه، والتي احتواها كتاب الأقدس.
وليس بغريب بعد أن لقي البهاء دعما من اليهودية والحماية البريطانية أن يعبر عن فرحته بسقوط الخلافة التركية الإسلامية، وأن يعترف بفضل الاحتلال البريطاني لفلسطين الذي مكن له ولليهود من احتلال هذا البلد، إذ اتخذ منه أكبر وكر يجتمع فيه الحلفاء من الصهاينة والبهائيين لشراء الذمم والضمائر، وإحاكة المؤامرات ضد المسلمين، وتأسيس المحافل البهائية، والخلايا السرية لغزو المسلمين في أفكارهم ومعتقداتهم.
- ومما زاد من خطورة هذه النحلة الضالة ارتباطها الأكيد بالماسونية أكبر مفرزات الصهيونية العالمية، ومما يؤكد وجود تلك العلاقة المشبوهة أن تنظيم المحافل البهائية جاء متسقا تماما مع تنظيم المحافل الماسونية؛ فكلاهما يلتزمان طابع السرية التامة في التكتم على أسماء الأعضاء خوفا من أن ينكشف أمرهم أمام المسلمين فيبطش بهم الحكام، كما يهدفون من جهة أخرى إلى بناء الشخصيات القوية في المواقع الحيوية الحساسة في غفلة من المسلمين، ثم توجيهها لصالح كل منهما حتى يتمكنوا من القبض على أزمة الأمور، وتحريكها وفق مخططاتهم وأهدافهم المنشودة.
وكان تأهيلهم لهذه المناصب الحيوية منصبا على الشباب المسلم الذي تحول ظروفه المادية والعلمية عن الالتحاق بالجامعات الإسلامية إذ يسروا لهم منحا دراسية في الجامعات الأمريكية والأوروبية، وصنعوا منهم رجالا مشهورين ذاع صيتهم في المحافل الدولية والمؤتمرات العالمية، حتى إذا عادوا إلى بلادهم عادوا وحولهم هالة كبرى مصطفاة، وقد انتحلوا أسماء غير أسمائهم وجنسيات غير جنسياتهم، ولكن انبهار الأهلين بهم قد أعماهم عن حقيقتهم وأهدافهم التي قد تنكشف إن(24/333)
أراد الله بهم خيرا، كما حدث في قصة الجاسوس اليهودي الذي انتحل صفة مغترب في الأرجنتين، وظهر في سورية باسم (كامل أمين ثابت) ، وبعد أن افتضح أمره تبين أنه الجاسوس الإسرائيلي (كوهين) .
2 - القاديانية والحج إلى قاديان
تنتسب النحلة القاديانية المنحرفة إلى مؤسسها ميرزا غلام أحمد الذي ولد في قاديان بولاية البنجاب بالهند سنة 1839م في الوقت الذي هيمن فيه الإنجليز على قلب الهند، والتوغل إلى أجزاء منها، ولكن البنجاب كانت في أيدي طائفة السيخ، ثم سرعان ما سقطت نهائيا في أيدي الإنجليز، الذين عملوا على جذب ذلك المدعي إليهم، واحتضان دعوته الضالة، والتبشير لها في أرجاء القارة الهندية لتأخذ طابعا قوميا دينيا لعزلة الجناح الهندي الآسيوي عن جسم الأمة الإسلامية.
- يقول الكاتب الهندوسي الدكتور (1) " سنكرداس " في أحد كتبه مخاطبا الهنود: " إن من أهم المسائل التي تواجهها بلادنا الآن هي كيف نستطيع أن ننشئ نعرة القومية في قلوب المسلمين، وقد حاولنا معهم كل المحاولات، محاولات للتحريض والترغيب، ولكن مسلمي الهند لم يتأثروا من هذه الأشياء كلها، وإلى الآن هم يتصورون أنهم شعب مستقل، ويتغنون بأغاني العرب، وإن استطاعوا لجعلوا الهند قطعة عربية، في هذا الظلام الدامس لا يرى محبو الوطن والقوميون الهنود شعاع نور إلا من جانب واحد هو جانب القاديانية، كلما يكثر المسلمون ميولا إلى القاديانية يتصورون القاديان قبلتهم وكعبتهم بدل مكة، وهكذا يقتربون إلى القومية الهندية، فلا يمكن أن يزيل التهذيب العربي والروح الإسلامية إلا ارتقاء القاديانية، فينبغي لنا أن ننظر إلى القاديانية بوجهة القومية الهندية، فيقوم رجل من خطة
__________
(1) جريدة المسلمون عدد 63 لسنة 1406هـ.(24/334)
" بنجاب " هندية، ويدعو المسلمين إلى اتباعه، فمن يتبعه يصير مسلما قاديانيا بعد أن كان مسلما فقط، ويعتقد في الأمور الآتية:
إن الله يرسل حينا بعد حين رسلا لإرشاد الناس وهدايتهم.
فقد أرسل إلى العرب زمن جاهليتهم محمدا رسولا.
ثم احتاج الله سبحانه إلى نبي آخر فأرسل ميرزا غلام أحمد، وعندما سئل عن أهمية ذلك قال: أنه لو أسلم هندوسي ينتقل من " رام "، و" كرشنا " و" جيتا " إلى القرآن والعرب، هكذا وبنفس الطريقة حينما يصير المسلم قاديانيا تتغير وجهته، ويقل حبه لمحمد، وينقل خلافته من الجزيرة العربية وتركيا إلى القاديان. فكل قادياني يقدس الهند؛ لأن القاديان في الهند، وغلام أحمد هندي، وخلفاؤه كلهم هنود، ولأجل هذا ينظر المسلمون إلى القاديانية نظرة شك وريب) .
ويفسر العلامة أبو الحسن الندوي (1) هذا الاتجاه، ويراه قضية شاذة في التاريخ الإسلامي؛ لأنها بهذا المقياس تزاحم الإسلام الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم، ومضت عليه هذه الأمة؛ لأنها تريد أن تحل محله في العقيدة والفكر والعاطفة، وتستولي على نصيبه من الطاعة والحب والاحترام والتقديس، والوصول إلى هذا الغرض، فإنها تقارن بين أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين رفقة غلام أحمد، ثم يربطون بين قاديان ومكة المكرمة في المكانة والقدسية والحج إليها، فلا غرو أن يقول المرزا بشير الدين محمود: " لقد قدس الله هذه المقامات: مكة والمدينة وقاديان " ثم يفسر قوله تعالى {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (2) يصدق على مسجد قاديان.
وخلاصة هذا أن القايادنية هي حركة كغيرها ضالة، تميزت بالعصبية الشعوبية التي حنقت على الإسلام منذ إشراقته في هذه البلاد، فهي تريد أن تخلق لنفسها دينا كالدين، ونبيا كالنبي - صلى الله عليه وسلم، ومقدسات كالمقدسات
__________
(1) القادياني والقاديانية. مرجع سابق، ص117 - 120.
(2) سورة آل عمران الآية 97(24/335)
حتى تعلي من قدرهم وتعوضهم الحرمان والنقص الذي عاشوا به يكيدون للإسلام وللمسلمين، ومما يؤسف له حقا أن هذه النحلة الكافرة قد تمكنت من إيجاد عدة مراكز لها في ثلاث عشرة دولة إسلامية، قد أبانت عنها جريدة المسلمون في عددها الثالث والستين عام 1406م، ويتبع كل مركز عدد من المدارس والمساجد والصحف.
هاتان نحلتان من النحل المنشقة عن الإسلام، والتي تستهدف في المقام الأول مقدسات المسلمين في مكة والمدينة، وكلتا النحلتين من مفرزات الباطنية، إذ إنهما يستقيان معظم الأفكار والمبادئ من تلك الفرقة.
لذا يكون من الأفضل أن نتعرض لتعاليم الباطنية بشيء من الشرح والتفصيل؛ لندرك كنه كل دعوة انشقت أو تنشق فيما بعد عن الإسلام؛ لأنه من المؤكد أنها ستنشق من الباطنية وإن أخذت مسميات أخرى.
3) نظرة فاحصة لأصول الفكر الباطني:
وتعد الباطنية من أخطر الحركات المضادة للإسلام بصفة عامة، ولفريضة الحج بصفة خاصة، وتكمن خطورتها في مبادئها السرية التي تقوم عليها، والتي ما زال يكتنفها الغموض حتى يومنا هذا، إذ ما زالت أمهات كتب المذهب الباطني مجهولة المكان، وما نشر منها حتى الآن يعد قليلا بجانب المفقود منها أو المختفي في جهات سرية. ومن أجل هذا السبب لم تنقطع الدعوة الباطنية عن الظهور بين الحين، وتسمى في كل مرة باسم مجددها أو باعثها كتلك الدعوة المسماة بالقاديانية والبهائية، ومنتحلي النبوة. من أجل هذا يلزمنا أن نقف وقفة متأنية - بقدر ما نعرفه عن الباطنية - تستجلي طبيعة الفكر الباطني، ونتعرف على منابع الفكر حتى يتسنى لنا فهم الدور الخطير الذي تلعبه الآن هذه الفرق في تشويه العقيدة الإسلامية، وتمزيق كيان الأمة.
والباطنية إحدى فرق الشيعة المغالية، التي ظهرت في مطلع القرن الثالث الهجري، والتي تأثرت تأثيرا كبيرا بالفكر الغنوصي، الذي(24/336)
يشكل نظرية مختلطة من عدة مذاهب وعقائد بشرية من ملامحها: القول بوجود إلهين: إله الخير وإله الشر، أو النور والظلام، وتدعو إلى شيوعية النساء والأموال، واستباحة المحرمات، وقد غزت هذه الأفكار العالم آنذاك، وظهرت في ديانة المصريين الفراعنة، والفرس والآشوريين والبابليين، والهنود والصين، وعندما جاءت الديانات السماوية اختلط هذا الفكر بالفكر السماوي، وكان حصيلة هذا الاختلاط تضاربا في المفاهيم لا حدود له، كالقول بالحلول والتجسيد، وقدم العالم، والتناسخ، وعبادة الملائكة، وإنكار بعث الأجساد، ورد الأرواح إلى الأبد، إلى غير ذلك من أفكار غايتها الخروج عن الضوابط والقيم والحدود التي شرعتها الديانات السماوية للعباد (1) .
ويشير الدكتور علي سامي النشار أن كلمة غنوص (تعني المعرفة، ثم اتخذت هذه الكلمة بعد ذلك اصطلاحا خاصا، مؤداه التوصل إلى المعارف العليا بنوع من الكشف، أو محاولة تذوق المعارف الإلهية تذوقا مباشرا، بأن تلقى في النفس إلقاء، وبمرور الوقت تبلورت مبادئ الغنوصية، وصارت تجمع عصارات فكر المذاهب الفارسية والسريانية والأفلاطونية والمانوية والزرادشتية والديصانية والمزدكية) (2) .
وقد قاومت الديانتان اليهودية والمسيحية هجوم الغنوصية، ولكنهما سلمتا منها بل أسهمت في تشكيل أغلب أفكار هاتين الديانتين حتى يومنا هذا، أما الإسلام فقد واجهها بعنف منذ ظهور عبد الله بن سبأ، الذي قال بحلول الإله في بعض عباده، ورجعتهم بعد موتهم الظاهري، قال ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته، وعن الإمام علي، إذ ينكر قتله، ولو أتوه برأسه ميتا سبعين مرة. وعلى الرغم من مقاومة الإسلام والمسلمين لهذا الغنوصي اليهودي إلا أنه أخذ يتنقل بأفكاره تلك بين العراق ومصر والشام، ويؤسس الخلايا السرية لهدم الإسلام، وينضم إليه الكثيرون من الرعاع والحاقدين من اليهود والمجوس والشعوبيين وغيرهم، إلى أن
__________
(1) أنور الجندي. الإسلام والدعوات الهدامة. دار الكتاب اللبناني. بيروت، ط أولى 1974م، ص13.
(2) أنور الجندي. الإسلام والدعوات الهدامة. دار الكتاب اللبناني. بيروت، ط أولى 1974م، ص15 - 16.(24/337)
تضخمت هذه الخلايا إبان القرن الثالث الهجري، واتخذت من سلمية - إحدى بلدان حماة في الشام - وكرا سريا لها.
ويعد ميمون القداح العامل بالقداحة - وهو من اليهود الآخذين بفكر الغنوصية - المؤسس الحقيقي للباطنية، والذي انضم إلى الشيعة من آل البيت ليناصرهم - على حد زعمه، ولكنه دس فيه من السموم والإسرائيليات والتأويلات الباطنية ما أصبح من العسر فهمه، وقد ساعدت فترة الستر التي عاشوها في سلمية على ازدياد ذلك الغموض. وعلى كل حال يمكننا أن نميز ثلاثة أصول قامت عليها الباطنية ومفرزاتها:
الأول: الفلسفة اليونانية وما يتصل بها من مصطلحات ورموز وعلم الإلهيات.
والحقيقة أن علم الإلهيات ذلك ما هو إلا علم الأصنام عند اليونان، إذ فلسفوه وأضافوا إليه بعض الرموز الفنية ثم توارثتها الأجيال، حتى وصلت إلينا مترجمة إلى العربية. وهذه الفلسفة بفروعها تعارض بلا شك قواعد التوحيد الإسلامي؛ لأنها تعارض النبوة والوحي والجزاء، وقد لجأ إليها المترجمون من السريان واليهود إبان عصر ازدهار الترجمة؛ ليتخذوا منها وسيلة لهدم الدين، وإسقاط التكاليف والدعوة إلى الإباحية المطلقة، وقد انعكس ذلك بالتالي على مقدسات المسلمين وتعطيل أعمال الحج وطمس شعائره.
والعجيب أن المسلمين الأوائل كانوا على حذر من هذه الفلسفة عندما أقبلوا على ترجمة علوم اليونان، إذ لم يكن دافعهم الترجمة المطلقة، وإنما أرادوا منها العلوم الطبيعية والرياضيات، وعارضوا بشدة ترجمة الإلهيات والميتافيزيقا اليونانية؛ لأنهم كانوا حريصين على ألا يختلط هذا العلم بعلوم الدين الإسلامي حتى تبقى لهذه العلوم الإسلامية طابعها الإيماني الصحيح.(24/338)
وقد بدأت طلائع غزو الفلسفة اليونانية لفكرنا الإسلامي مع مجيء " عبد الله بن المقفع " الفارسي المجوسي الذي ادعى الإسلام، فهو الذي نقل إلى العربية الفكر المجوسي، وكان تمهيدا لترجمة كتب الإلهيات الوثنية والإغريقية والفارسية، ومن أبرز كتبه التي ترجمها كتاب " ديستاو " وهو كتاب مزدك الذي يحتوي على جملة عقائده وأفكاره، كما يعد كتاب " كليلة ودمنة " من أخطر الكتب التي قام بترجمتها، إذ أضاف إليه بابا من إنشائه سماه " برزويه " أراد به بث سموم المجوسية إلى المسلمين، فنراه في هذا الباب ينقد الدين، ويتكلم عن تعارض الأديان، وعن عدم التوصل إلى اليقين إلا بالعقل وحده، الذي يعد في نظره أعظم وسيلة للمعرفة (1) .
وقد تنبه مفكرو المسلمين الأوائل إلى خطورة هذا العمل الذي قام به ابن المقفع، فنجد البيروني يشير إلى ذلك في كتابه (تحقيق ما للهند من مقولة) (2) ، ويركز بصفة خاصة على الباب الذي أضافه بعنوان " برزويه "، ويشير إلى دهاء ابن المقفع الذي أراد به تشكيك ضعاف الإيمان في دينهم، أو الاتجاه بهم إلى الدعوة المانوية، كما أشار الخليفة العباسي " المهدي " إلى زندقة ابن المقفع قائلا: " وما وجدت كتاب زندقة قط إلا وأصله ابن المقفع " (3) هذا، وعلى الرغم من إحساس المسلمين الأوائل بخطورة هذا الكتاب إلا أنه للأسف الشديد يلقى في هذا الأيام قبولا وإعجابا، بل لم يقف بنا إلى هذا الحد، وإنما يقرر في مدارس بعض البلدان العربية على أنه نموذج من نماذج الأدب الرفيع.
الثاني: التأويل، ويعد من أهم المبادئ التي قامت عليها أفكار الباطنية. إذ قالوا: إن لظواهر القرآن والأحاديث النبوية بواطن، ثم ميزوا بين ظواهرها وبواطنها، وفضلوا الباطن الذي في نظرهم لا يعرفه إلا الإمام أو من ينوب عنه، من هنا فسروا آيات القرآن تفسيرا باطنيا، وحرفوا معانيها تحريفا مقصودا يخدم أغراضهم وأفكارهم، ثم أولوا أركان الشريعة
__________
(1) علي سامي النشار. مناهج البحث عند مفكري الإسلام، أنور الجندي. الإسلام والدعوات الهدامة ص26 - 27.
(2) الإسلام والدعوات الهدامة ص28.
(3) محمود عبد الرحيم صالح. حركة الشعر في دمشق تحت الحكم الفاطمي، رسالة دكتوراة. آداب عين شمس ص114.(24/339)
لمعان أخرى ورموز غريبة، يهيئون بها العامة من الناس للتشكك والتذبذب حتى إذا ما تم لهم ذلك انتقلوا بهم انتقالا عقديا مغايرا تماما لمعتقدهم الإسلامي الصحيح، ألا وهو المعتقد الباطن.
وهذه الفكرة مأخوذة بلا شك من نظرية " المثل والممثول " (1) عند (أفلاطون) ، إذ إنه يرى أن ما في العالم الحسي من أشباح يقابلها في العالم العلوي مثل عليا، وكذلك رأت الباطنية أن في عالم الدين مثلا لممثولات في العالم الروحاني، وسموا ظاهر الدين مثلا، وبواطنها الروحانية ممثولا، وطبقوا هذه النظرية الأفلاطونية على العقيدة الإسلامية وشريعتها الغراء، وجعلوها معتقدهم الباطني، وندع العلامة أبا الحسن الندوي (2) يحدثنا عن خطورة هذه النظرية على الإسلام والمسلمين، يقول: ". . . . . لذلك اختاروا للوصول إلى هدفهم أسلوبا لا يزعج المسلمين ولا يثيرهم، هو الفرق بين الظاهر والباطن عن طريق الصلة القائمة بين الكلمات والمصطلحات الدينية ومعانيها، فإذا انقطعت هذه الصلة بين الكلمات والمعاني الأصلية وفق تأويلاتهم، وأصبحت الكلمات لا تدل على معان خاصة كان يدركها المسلمون تسرب الشك ثم الاختلاف إليها، وأصبحت الأمة الإسلامية بعد ذلك فريسة لكل دعوة وفلسفة ".
وسوف ندلل على ذلك ببعض الأمثلة لما أولوه في أركان الإسلام، عن الأصل الذي سنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد جعلوا أركان الإسلام سبعة بدلا من خمسة على النحو التالي:
1 - الطهارة: يرمز لها إلى إنكار كل المذاهب ما عدا مذهب الإمام، ويكون التطهير في نظرهم من الذنوب والمعاصي بالحكمة والعلم، والماء الذي يتطهرون به هو العلم.
2 - الصلاة: هي رمز للدعوة والاتصال بالإمام والتعلق به، ويعبرون عن الإمام بالقبلة، وعن ظهوره بطلوع الشمس، وعن موته بمغيبها.
__________
(1) محمود عبد الرحيم صالح. حركة الشعر في دمشق تحت الحكم الفاطمي، رسالة دكتوراة. آداب عين شمس ص114.
(2) من كتاب رجال الدعوة والفكر (بتصرف) .(24/340)
3 - الزكاة: هي رمز إلى الحكمة التي ينبغي إيصالها إلى المستحقين وطالبي منهج الحق، والمال الذي يخرجه المزكي هو العلم الذي ينبغي ألا يبخل به الداعي على من يستحقه، وقسموا الأموال المزكاة درجات وفق علم وحكمة الداعي، ولهم في ذلك أقوال كثيرة لا داعي لسردها.
4 - الصيام: هو رمز للإمساك عن كشف الحقائق الخاصة بالمذهب لغير أهلها، وعدم إفشاء أسرار الدعوة، ويرمزون بالإفطار عن ظهور الإمام من وراء أصحابه، وإظهار المعاني الإلهية والسرائر المكنونة، والعلوم المخزونة.
5 - الحج: يرمزون به إلى زيارة إمام الزمان وقصد الأئمة من آل البيت دون سواهم، ويؤولون أركان الحج تأويلا باطنيا على النحو التالي:
- الكعبة هي النبي، وعلي بابها.
- الإحرام: هو الخروج من مذهب الأضداد.
- المزدلفة: هي معرفة قوانين الحكمة.
- النحر والحلق: هما إزالة الباطل وإظهار الحق.
- رمي الجمار هو نفي الشر والظن والوهم من العلوم والأعمال.
- التماس الحجر الأسود: هو قبول الدعوة من الناطق المؤيد.
السعي: هو تميمم الدعوة والوفاء.
وهكذا تلمس التأويل قاعدة أساسية في شتى عقائد الباطنية وتشريعاتها، وفي تناولهم للقرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف.
والتأويل بهذه الصورة يعد الداء العضال الذي منيت به هذه الفرقة، وحاولت أن تنفثه في عقول المسلمين في كل وقت، ولعل أفكار القاديانيين والبهائيين لأكبر دليل على ذلك.
الثالث: نظرية الصدور أو الفيض، وهذه النظرية من النظريات الواضحة في الفكر الباطني.(24/341)
وتعد أحد الأسس التي قامت عليها فكرة الإمامة الدائمة والمطلقة، فهم يعتبرون أن للعالم أدوارا مختلفة، وأن الملة القائمة في كل دور تختلف بسنتها وشكلها عن الملة السابقة، والعالم في نظرهم يمر في سبعة أدوار، وعلى رأس كل دور نبي ناطق حامل رسالة إلهية، والأنبياء الستة هم: آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، وسابع هو المهدي المنتظر، ويرى الباطنية أن لكل نبي من الأنبياء الستة الأوائل عمدة وأساسا يسمونه (الصامت) ، وهو الذي يكشف باطن الشريعة للأشياع؛ لأنه مستودع علم النبوة، ويزعمون أيضا أن كل نبي متبوع بسبعة أئمة يبلغ سابعهم في كل دور أعلى مرتبة الإمامة فيصير ناطقا، وتعمل كل مجموعة سداسية من الأنبياء الصامتين على تدعيم عمل الناطق الذي سبقها، والتمهيد للناطق الجديد الذي يخلفه، وهكذا دواليك حتى تقوم الساعة.
وقد ترتب على فكرة الفيض نتائج خطيرة أدلت بدلوها كمعتقد فكري، ومن أخطر هذه النتائج:
1 - فكرة تعاقب أدوار الأئمة التي لا آخر لها، ما دام الفيض باقيا ومستمرا، فالأئمة الناطقون متعاقبون، وهذا يعني أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن خاتم الأنبياء، ولا آخر من يمثل اكتمال الوحي الإلهي، وهذه النظرية في حد ذاتها وبلا شك تهدم كيان الإسلام، وتطمس معالم الرسالة المحمدية التي اختصها الله بالكمال والتمام، وكانت آخر رسالات السماء {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) .
وفكرة الفيض التي نادى بها الباطنيون قديما هي نفس الفكرة التي تؤمن بها القاديانية والبهائية، يقول المرزا غلام أحمد: ". . . . فكما ذكرت لكم مرارا أن هذا الكلام الذي أتلوه هو كلام الله بطريق القطع واليقين كالقرآن والتوراة، وأنا نبي " ظلي، وبروزي من أنبياء الله، وتجب على كل مسلم إطاعتي " ثم
__________
(1) سورة المائدة الآية 3(24/342)
يضيف قائلا: ". . . إنني صادق كموسى وعيسى وداود ومحمد، وقد أنزل الله لتصديقي آيات سماوية تربو على عشرة آلاف، وقد شهد لي القرآن، وشهد لي الرسول، وقد عين الأنبياء زمان بعثتي، وذلك هو عصرنا هذا، والقرآن يعين عصري ".
والبهائيون أيضا أخذوا بالفكرة الخبيثة في تعاقب الأدوار، ويتضح ذلك من تفسيرهم معنى خاتم النبيين، فقد جاء في كتاب " الراشد والدليل لمعرفة مشارق الوحي ومهابط التنزيل " ما نصه: (أما معنى خاتم النبيين في آية الأحزاب رقم (40) ، فإن خاتم يقرأ بكسر التاء وفتحها، أما قراءته بكسر التاء فمعناه آخر من أنبأ من الأنبياء بحضرة بهاء الله، وبشر به فيما أنزل عليه من القرآن، وتحدث عنه إلى أصحابه فآخر من بشر به من الأنبياء هو محمد؛ فإنه هو خاتمهم.
أما قراءة خاتم بفتح التاء فمعناه ما يتختم به ويتزين، فهذا المعنى أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - بين الأنبياء السابقين حليتهم وزينتهم، وقد بشر بحضرة بهاء الله، فرسالات الله جل جلاله لعباده أبدية مستمرة. فمن آمن بشمس الحقيقة حضرة بهاء الله واتبع ما جاء به، فقد آمن بالله واليوم الآخر) ، وفي هذا تحريف وافتراء لقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (1) .
2) ومن نتائج نظرية الفيض أيضا تأثر الباطنيين بنظريات الفيثاغوريين.
إذ اتخذوا من الرقم (7) صفة مقدسة، ويتضح ذلك مما يلي:
- جعلوا النظام الكوني والحوادث التاريخية أمرا قائما على هذا العدد، فيجمعون التجليات كلها في سبع: الله - العقل الكلي - النفس - المادة الأصلية (الهيولى) - الفضاء - الزمن - عالم الأرضين والبشر.
- جعلوا للعالم سبعة أنبياء مشرعين يسمى كل واحد منهم الناطق، وبين كل نبيين ناطقين سبعة أنبياء صامتين.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 40(24/343)
- جعلوا قواعد الإسلام سبعا هي: الولاية، الطهارة، الصلاة، الصيام، الزكاة، الحج، الجهاد.
وهكذا بنى الباطنية عقائدهم على الأرقام، والتي هي أساس فلسفة فيثاغورث، ثم قابلوا بينها وبين حدود الدين، وهي نفس الفكرة التي بنى عليها البهائيون معتقداتهم من ظهور الباب والتبشير بالبهاء على أنه خاتم نبوة لمرحلة جديدة من مراحل الدين، وعلى تفسير انتهاء أجل الأمة المحمدية وقيام الساعة، وإن كان الباطنية إبان القرنين الثالث والرابع الهجريين قريبة عهد، وأن أدوار الأنبياء الناطقين بها قليلة العدد، إذ لم تتجاوز الدورين أو الثلاثة بعد الإمام علي بن أبي طالب - رحمه الله - لذا كانت أعدادهم في مجملها قليلة ويسيرة وغير معقدة، أما البهائيون فقد تقادم بهم الزمان، وامتدت معهم أدوار الأنبياء الناطقين؛ لذا جاءت أعدادهم كثيرة ومعقدة، مما اضطر بعضهم أن يعتمد على الكمبيوتر في إيجاد قول تقبله العقول فيما ذهبوا إليه، كما وضحنا سابقا.
وقد أبانت الدكتورة بنت الشاطئ في مقال لها بعنوان: (كشف الغطاء) لعبة هذه الأرقام البهائية، إذ حاولوا الاستناد إلى الكمبيوتر في تحديد نهاية الأمة المحمدية، وقيام الساعة بالعدد الأبجدي للحروف النورانية في فواتح السور، ثم ربطت بين هذه اللعبة وبين لعبة يهود بني قريظة الذين حاولوا أيضا تحديد نهاية الأمة بنفس هذه اللعبة، وقد استنبطت هذه اللعبة من كتب البهائية الموثوقة مثل كتاب (الإتقان) لبهاء الله من مطبوعات دار النشر البهائية في البرازيل. طبعة ثالثة معربة عن الفارسية، ومن منشورات مطابع البيان - بيروت طبعة ثالثة في جزء من كتاب (التبيان والبرهان) للنقابة أحمد حمدي آل محمد، وقد جاء في الكتابين:
(من الأدلة والبراهين التي لا شك فيها على زمن ظهور الباب، ما(24/344)
جاء في تفسير العلامة الطبري، بسنده عن جابر بن عبد الله قال: «مر أبو ياسر بن أخطب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتلو فاتحة سورة البقرة {الم} (1) {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} (2) فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من يهود فقال: تعلمون والله، لقد سمعت محمدا فيما أنزل عليه {الم} (3) {ذَلِكَ الْكِتَابُ} (4) فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من اليهود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا محمد، ألم يذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل إليك {الم} (5) {ذَلِكَ الْكِتَابُ} (6) أجاءك بهذا جبريل من عند الله؟ فقال: نعم، قالوا: لقد بعث الله جل ثناؤه قبلك أنبياء، ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه، وما أجل أمته غيرك، وأقبل حيي بن أخطب على من كان معه، فقال لهم: الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون. أتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟» وبعد أن ساق صاحب الكتاب الحديث بطوله قال: (وهذا الحديث مختص بهذه الأمة، ولا تنتهي مدة أمة من الأمم إلا بمجيء رسول جديد) ثم أحصى حروف الفواتح المذكورة في الحديث بحساب أبي جاد، ثم طرح منها سبع سنين ليبقى الحساب 1260 (وهي سنة ظهور السيد الباب وانتهاء الدورة المحمدية. . .) .
وأما الآيات الدالة على ظهور زمن البهاء فإن فاتحة سورة النمل: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} (7) ففي حساب الجمل عندهم أن السين تساوي ستين، وهي تشير إلى نهاية الدورة المحمدية، وظهور الباب سنة 1260هـ، والطاء تسعة، وهي مدة الدورة البابية، ومجموع الحرفين الذي هو 69 يشير إلى سنة 1269هـ، وهي سنة ظهور بهاء الله وبدء دعوته.
فظهور الباب في سنة الستين وظهور البهاء في سنة 69هـ دليل واضح على صدق القرآن، وأنه من عند الله هدى وبشرى للمؤمنين، يهدي المؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الإيمان بهذين
__________
(1) سورة البقرة الآية 1
(2) سورة البقرة الآية 2
(3) سورة البقرة الآية 1
(4) سورة البقرة الآية 2
(5) سورة البقرة الآية 1
(6) سورة البقرة الآية 2
(7) سورة النمل الآية 1(24/345)
الرسولين الكريمين ويبشرهم بهما وبالسعادة التي جاء بها البشر، وفي سورة الأعراف: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} (1)
(ولا شك أن أمة محمد أمة من الأمم لها أجلها المعين، ومدتها المقررة، فإذا انتهت جاء رسول جديد ودين جديد؛ فيجب الإيمان به والانقياد له) . ما بين الحاصرتين منقول من مقالات الدكتورة بنت الشاطئ والتي سبق الإشارة إليها.
3 - نظرية الحلول وهي إحدى النظريات التي تأثر بها الفكر الباطني والقادياني والبهائي على السواء، وقد تأثرت هذه الفرق المذكورة بهذه النظرية من الفكر الغنوصي واليهودي والمسيحي، وهي الفكرة المعروفة في المسيحية بحلول اللاهوت في الناسوت، حيث حل الله في المسيح عليه السلام، وأكسبه صفات الألوهية، وهي نفس الفكرة التي يقول بها الباطنيون، إذ يرون أن العقل الكلي (الله) يمكن أن يحل في أشخاص الأنبياء أو الرسل الذين يسميهم الإسماعيلية النطفاء، وهم في نظرهم كما قلنا في مرتبة الأنبياء، فيرون أن آدم عقل كلي. ومحمدا - صلى الله عليه وسلم - عقل كلي كذلك، كما أنهم يعتقدون أن العقل الكلي يحل أيضا في أشخاص الأئمة. لذا لا ندهش إذا ما سمعنا الشعراء يصفون عبيد الله المهدي الخليفة الباطني الإسماعيلي الأول في المغرب بقولهم:.
حل برقادة المسيح ... حل بها آدم ونوح
حل بها الله ذو المعالي ... وكل شيء سواه ريح
كما جاءت عبارات المرزا غلام أحمد ما يدل على اعتناقه عقيدة التناسخ والحلول، وأن الأنبياء كانت تتناسخ أرواحهم ويتقمص بعضهم روح بعض، فقد جاء في كتابهم (ترياق القلوب) أن مراتب الوجود دائرة، وقد ولد إبراهيم بعادته وفطرته ومشابهته القلبية، وبعد وفاته بنحو ألفي سنة وخمسين في بيت عبد الله بن
__________
(1) سورة يونس الآية 49(24/346)
عبد المطلب، وسمي بمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
ويقول في كتاب آخر: (وتحل الحقيقة المحمدية وتتجلى في متبع كامل. . . وقد مضى مئات من الأفراد تحققت فيهم الحقيقة المحمدية، وكانوا يسمون عند الله عن طريق الظل محمدا وأحمد) .
بل جاء في كلامه ما يصرح بتفوقه على النبي - صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعتقد أن روحانية النبي - صلى الله عليه وسلم - " إنما تجلت في عصره بصفات إجمالية، ولم تكن الروحانيات قد بلغت غايتها وأوجها بعد ذلك (العهد القاصر) ، بل كانت الخطوة الأولى في سبيل ارتقائها وكمالها. وتجلت هذه الروحانية في القرن العشرين في شخص غلام أحمد في أبهى حللها وأرقى مظاهرها ".
ومن إلهاماته في هذه الصدد ادعاؤه بأنه عين النبي (من فرق بيني وبين المصطفى فما عرفني وما رأى) ، ثم يدعي أن الله كان يخاطبه قائلا: (اسمع ولدي) ، (يا قمر يا شمس، أنت مني وأنا منك ظهورك ظهوري) .
وهكذا تجد كل منتحل للنبوة من القاديانيين والبهائيين وغيرهم قد استمدوا أفكارهم تلك من الباطنية التي جمعت بمرور الزمن خليطا من الفكر الغنوصي والمجوسي واليهودي واليوناني، ولما كان فكر الباطنية غريبا عن فكر المسلمين، لم يلق قبولا إلا في أماكن معينة، وبفعل ظروف تاريخية خاصة مما دفع بالباطنيين إلى الظهور حينا والاستتار حينا آخر، وهي في فترات استتارها تظهر على الناس بأسماء مختلفة مثل القاديانية والبهائية، وإن كانتا هما وغيرهما تمتاج جميعها من مورد باطني واحد.
وبعد:
فإنه يمكننا من خلال الرؤية التاريخية والفكرية التي قدمناها لرسالة الحرمين الشريفين الخالدة أن نتبصر أهمية الدور الذي يمكن أن يؤديه خادم(24/347)
الحرمين الشريفين باعتباره الممثل الشرعي للمسلمين، والذاب عن العقيدة والشريعة، والحارس للمقدسات الإسلامية التي تحتل مكانتها المرموقة في شعائرنا وعباداتنا.
وإن كانت عزة المسلمين وكرامتهم تستمد من اعتزازهم بعقيدتهم، ومن التفافهم حول شعائرهم المقدسة، تجمعهم معا على كلمة التوحيد التي من الله بها على أمتنا الإسلامية بقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (1) .
وإن كان أيضا لرسالة الحرمين الشريفين أهميتها على هذا النحو، فما أحوجنا اليوم، ونحن نواجه فتنا كظلام الليل الدامس تكالبت علينا من كل جهة، وزاحمتنا في كل شبر، وصاحبتنا في الغدو والرواح أن ندعم تلك الرسالة لنواجه به شتى ضروب التحدي: " التحدي الفكري الذي أقام حواجز فكرية بين أبناء الأمة الواحدة، التحدي الطائفي لأصحاب القوميات والنعرات التعصبية التي مزقت كيان أفضل أمة قد أخرجت للناس، التحدي العقدي الذي ساعد على سلخ بعض النحل الضالة من الدين الإسلامي فادعت دينا غير الدين، ونبوة غير النبوة، ومقدسات غير المقدسات.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103(24/348)
وخلاصة هذا: أن رسالة الحرمين الشريفين هي رسالة السماء، وهبة الله لعباده المؤمنين، فما أجلها من رسالة، إن اعتصمنا بها سلمنا ونجونا، وإن فرطنا فيها بقيت شماء بحماية ربها، فللبيت رب يحميه، بينما يبقى المفرطون غرباء عنها حيارى ضالين إلى أن تحل كلمة الله ويقع عقابه، يقول الله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} (1) .
محمد محمد إبراهيم زغروت
__________
(1) سورة هود الآية 57(24/348)
صفحة فارغة(24/350)
صفحة فارغة(24/351)
علمتني الصلاة
الشيخ \ منذر الحريري
الصلاة والحياة:
الصلاة عماد الدين، والركن الثاني للإسلام، والمقبولة عند الله ما كانت خالصة له وعلى سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - طاعة لله في إقامتها {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (1) وطاعة لرسول الله في كيفية أدائها «صلوا كما رأيتموني أصلي (2) » .
وهي أول ما يحاسب عليها المسلم، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة المكتوبة (3) » ، فإن قبلت عند الله وحافظ عليها صاحبها تحقيقا لقوله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (4) .
كان له من الله عهد ألا يعذبه. وهي الحد بين الإسلام والكفر، فعن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بين الرجل والكفر ترك الصلاة (5) » .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 72
(2) صحيح البخاري الأذان (631) .
(3) سنن أبو داود الصلاة (864) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1425) ، مسند أحمد بن حنبل (4/103) ، سنن الدارمي الصلاة (1355) .
(4) سورة المؤمنون الآية 9
(5) رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي.(24/352)
وللصلاة تأثيرها على الحياة الدنيا للمسلم، فهي بيان عملي لسلوك المسلمين وتصرفاتهم. ولها جوانب اجتماعية هامة في أمور حياتهم الدنيوية، فالصلاة:
1 - تبدأ باسم الجلالة بالتكبير، وتنتهي أيضا به (السلام عليكم ورحمة الله) ، أو بضمير يعود عليه (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة: «تحريمها التكبير وتحليلها التسليم (1) » .
وكذلك الحياة الدنيا للمسلم تبدأ باسم الجلالة عندما يحمل المولود باتجاه القبلة عقب ولادته ويؤذن في أذنه اليمنى الله أكبر. . .، وتنتهي به عندما يتشهد، وهذا أحد أدلة حسن الختام كما أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أن من كان آخر قوله: لا إله إلا الله، دخل الجنة (2) » .
وكما أن الصلاة المحصورة باسمي الجلالة هي صلة العبد بربه، كذلك الحياة الدنيا للمسلم أو عمره المحصور بين اسمي الجلالة هو تحقيق عبوديته لربه تبارك وتعالى.
وإن الصلاة التي تشترط الطهارة ويمهد لها الغسل والوضوء الذي يبدأ بالتسمية، فلا وضوء بدونها كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه (3) » ، وكذلك حياة المسلم يجب أن تكون طاهرة ونظيفة بكل معاني النظافة سواء المادية أو المعنوية.
1 - وهذه الحياة النظيفة فيها كل السعادة الحقيقية التي في أمس الحاجة إليها عالمنا المتخبط اليوم الذي يفتقد ويتعطش لحياة الطهر والنظافة في جميع مراحل الحياة.
__________
(1) رواه أبو داود \ الصلاة [73] وابن ماجه \ طهارة، وأحمد جـ2 ص122 والترمذي طهارة وقال: هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب.
(2) رواه البخاري في باب الجنائز [1] ، وأبو داود في باب الجنائز [16] .
(3) رواه ابن ماجه وغيره في باب الوضوء.(24/353)
2 - تؤدى هذه الصلاة في أي مكان طاهر «. . وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا (1) » ، ما عدا الحمام والمقبرة، فعن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام (2) » .
كذلك لا تجوز في مرابض الإبل، فعن جابر بن سمرة أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنتوضأ من لحم الغنم؟ قال: إن شئت توضأ، وإن شئت فلا تتوضأ، قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم، توضأ من لحوم الإبل، قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم، قال: أصلي في مرابض الإبل؟ قال: لا (3) » .
وهكذا فالدنيا معدة لطاعة الله وعبادته، وهذا دين الإسلام الذي ارتضاه الله تعالى لعباده المتداخل في الحياة لا ينفصم عنها، فالحياة تقوم عليه، وهو المهيمن عليها في جميع مجالاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية، من عظائم الأمور إلى أدقها.
3 - واتجاه المسلمين في جميع أنحاء الأرض نحو قبلتهم الكعبة يوضح لهم جميعا وحدة الهدف في حياتهم الدنيا ألا وهو رضا الله والجنة، كما أن كيفية الصلاة التي بينها لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيانا عمليا على المنبر وأمرهم بقوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي (4) » ، تبين وحدة الوسيلة للهدف المنشود.
وهكذا تظهر وحدة المسلمين الكاملة الشاملة العميقة في وحدة الغاية والوسيلة، أو وحدة الإخلاص والصواب، وهذا ما تعجز أنظمة البشر وعقائدهم أن تحققه عمليا في واقع الحياة، فالاشتراكية والشيوعية والرأسمالية
__________
(1) رواه البخاري في باب التيمم 1، والصلاة 56، أنبياء 40 والترمذي في الصلاة 119 والنسائي في الغسل 26، مساجد 2، 42 وابن ماجه في الطهارة 90 والدارمي في السير 28، والصلاة 111 وأحمد 5 \ 145، 148، 161، 282.
(2) رواه الخمسة إلا النسائي.
(3) رواه مسلم وأحمد.
(4) رواه البخاري.(24/354)
اليوم لها تفسيرات لعقائدها تختلف من دولة لأخرى، وكذلك النصرانية واليهودية في المذاهب المتعددة المختلفة في التصورات والطقوس والعبادات، ولئن أصاب المسلمين اليوم ما أصاب الأديان السماوية من التفرق، والاختلاف كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا ما كنت عليه أنا وأصحابي (1) » ، وهكذا يتبين أن الفرقة الناجية ما كانت على الكتاب والسنة، وعلى منهج السلف الصالح - رضي الله عنهم - وهي مدار البحث، فهي المقصودة بالمسلمين، وبموجب هذا الحديث لا تعتبر الفرقة المخالفة من الإسلام.
وتوحيد الغاية والوسيلة أو الإخلاص والصواب هو في كل جزئية من جزئيات الإسلام، كما أن في أساس العقيدة في توحيد المرسل بالربوبية والعبودية والصفات وتوحيد المرسل بالاقتداء والاتباع، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (2) .
الأذان: الأذان عبادة الله بين يدي كل صلاة مكتوبة فردية أو جماعية، وهو شعار المسلم يبدأ باسم الجلالة وينتهي به، وما أن يشرع داعي الله بالأذان حتى تتوقف أعمال وواجبات الدنيا والخلق، حيث تبدأ واجبات الخلق وعبادتهم لخالقهم العظيم، فأمور الدنيا لا قيمة لها بجانب أمور الدين: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} (3) {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4) .
وما أن ينتهي المؤذن من كل جملة حتى يردد بعده المستمعون، وهذا ما يبين تجاوب الأمة الإسلامية مع داعي الله قولا بالترديد وفعلا بالمبادرة إلى
__________
(1) رواه أبو داود [1] وغيره.
(2) سورة الأنعام الآية 153
(3) سورة هود الآية 15
(4) سورة هود الآية 16(24/355)
طاعة الله، وهي بيان عملي لتماسك الأمة وتضامنها حاكما ومحكوما في وحدة كاملة كما يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (1) » .
وعندما ينتهي المؤذن تبدو صورة أخرى من وحدة الأمة عندما يصلي كل فرد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويدعو له كما علمنا عليه الصلاة والسلام بقوله «اللهم صل على محمد وعلى آله وذريته، كما صليت على إبراهيم، اللهم بارك على محمد وعلى آله وذريته، كما باركت على إبراهيم، اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته (2) » .
إن المحافظة على هذا الهدي النبوي يكسب صاحبه شفاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهنا يتجلى إخلاص الأمة على اختلاف الأزمنة والأمكنة لقائدها الأعلى، سواء في حياته أو بعد وفاته، واستمرار الإخلاص والمتابعة والصلاة عليه والدعاء له إلى يوم القيامة، وليس هذا إلا لمن أرسل هدى ورحمة للعالمين، وهنا يبدو وجه آخر لتضامن الأمة الإسلامية المتمثل بالتفافها حول قائدها المفدى عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) البخاري أدب [27] ، مسلم بر [66] .
(2) رواه الجماعة إلا (مسلم) .(24/356)
صلاة الجماعة: عند سماع داعي الله مناديا للصلاة يجب على كل مسلم أن يبادر إلى المسجد المجاور؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا صلاة لمن سمع النداء ولم يجب إلا من عذر (1) » أما حديث «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» فضعيف، والأعذار لحضور الجماعة لها اعتبارات اجتماعية، وهي:
1 - المرض: الذي يمنع صاحبه من الحضور أو الذي يخشى من انتقاله بالعدوى للآخرين.
__________
(1) رواه ابن ماجه بلفظ (يأته) في كتاب المساجد والجماعات الباب 17.(24/356)
2 - المطر وما شابهه: وفي هذه الحالة ينادي المؤذن بعد حي على الصلاة حي على الفلاح، الصلاة في الحال مرتين، فلا يستوجب على المصليين في هذه الحالة الحضور للمسجد، بل يصلون في بيوتهم مع أهليهم.
3 - الخوف: إذا كان هناك على الطريق خطر ما يهدد المصلي وطمأنينته وأمنه.
4 - حضور الطعام بشرط عدم تقصد ذلك، للهروب من الجماعة، وإلا فيسقط هذا العذر.
5 - أكل الثوم والبصل مما يؤذي الملائكة والمصلين، وهذا يظهر ضررا آخر للتدخين الذي له نفس أثر الثوم والبصل.
6 - السفر الذي يسقط فرضية حضور الجماعة الراتبة، ويستبدلها بجماعة السفر.
هذه الاجتماعات الخمسة اليومية للرجال دون النساء هو بيان عملي في واقع الحياة؛ أن دور الرجل ومجال نشاطه وفعاليته خارج البيت، وأن دور المرأة ومجال نشاطها وفعاليتها داخل البيت، فلكل منهما دوره واختصاصه حسب مواهبه وفطرته التي فطره الله تعالى عليها، فإن كان الرجل للإنتاج المادي وتنشيطه فالمرأة للإنتاج البشري وتربيته، والإنسان أغلى بكثير من الماديات، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (1) .
وهنا تبدو أهمية دور المرأة وأثرها على جيل الغد، وقد بشر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ينشئ ابنتين تنشئة إسلامية فله الجنة؛ لأن بنت اليوم أم الغد، والمرأة التي تهز السرير بيمينها تهز العالم بشمالها، عندما تنشئ القادة المفكرين والمجددين لعقيدة الأمة والأبطال الميامين الذين تفتخر بهم الأمم، وقد قال الشاعر:
الأم مدرسة إذا أعددتها ... أعددت شعبا طيب الأعراق
__________
(1) سورة الإسراء الآية 70(24/357)
وعندما كانت الأم تقدم أولادها شهداء لرفع كلمة الله عاليا، وتحمد الله على استشهادهم كانت أمتنا خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، وتنصر بالرعب مسيرة شهر، وعندما تدنى دور الأم اليوم فأصبحت تربي ابنها للدنيا وزينتها وليتنعم فيها دون أي هدف أو رسالة، أصبحت أمتنا تهدد من شرذمة المغضوب عليهم والمفسدين في الأرض، فتخسر مقدساتها وتتمزق شر ممزق، وتصبح فريسة سهلة المنال لأعدائها الطامعين، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: إنكم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت (1) » .
وهكذا حدث ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطبق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وذلك عندما أصبحت الأم تنشئ أولادها على حب الدنيا وكراهية الموت.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (2) .
وهناك لقاء أسبوعي يتمثل في صلاة الجمعة حيث تنتقل عدة أحياء إلى المسجد الجامع لتوسع دائرة التعارف والتحابب والتآخي في الله إلى دائرة أوسع وأشمل، وتضيف إليها توجيها واحدا يجعل تكراره وسيلة لتوحيد الأفكار والعلم والثقافة والتصورات الذهنية بين المسلمين، وهذا عامل هام في توحيدهم، فالصورة الذهنية الواحدة وحلولها الصحيحة في أذهان المسلمين تنبثق في المستقبل تطبيقا موحدا في واقع الحياة.
تبقى اللقاءات اليومية والأسبوعية بين صفوف الرجال دون النساء، وعندما تتصعد الصحبة والأخوة بين الرجال نصف المجتمع يضاف النصف
__________
(1) رواه أبو داود في باب الملاحم 5، وأحمد 5 \ 278.
(2) سورة الرعد الآية 11(24/358)
الثاني لهم من النساء ومعهن الصغار؛ حيث يخرج سكان البلدة في مهرجان إسلامي وتظاهرة كبيرة تكبر الله الخالق العظيم وتهتف بتوحيده وتصلي على نبيه الأمين إلى المصلى خارج المدينة لتقيم تجمعات إسلامية في كل مدينة وبلدة مسلمة احتفالا بتأدية عبادة الصيام والقيام في شهر القرآن، أو تجاوبا مع لقاء المسلمين في عرفات واحتفالا بالحج لبيت الله الحرام، فيؤدون صلاة العيد، ويستمعون إلى خطبته، ويشهدون جماعة المسلمين على نطاق البلدة أو المدينة، ويشتركون معهم بالأضاحي، وليست صلاة العيد هي الغاية الوحيدة من الخروج للمصلى؛ فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى الحيض بالخروج إلى المصلى لما له من الفوائد العظيمة، وفي طليعتها المردود الكبير في لقاء المسلمين بعضهم بعضا حيث يتاح لكل فرد لقاء كثير من إخوانه خلال فترة زمنية قصيرة، حيث لا تعوضها أيام ولا شهور لزيارتهم منفردين في البيوت، وهنا تتوسع دائرة الصحبة والأخوة إلى نطاق المدينة كما تتواسع دائرة التوجيه الفكري لتوحيد التصورات والأحاسيس والمشاعر والأحكام والأفكار والحلول في عقولهم ويرتع الصغار بمرحهم وفرحهم لتنطبع في نفوسهم وأفكارهم ذكريات العيد المرتبطة بعبادة الله والتآخي والتحابب بين عباده الصالحين.
وقد أهمل كثير من المسلمين هذا الخير الكبير في هذا التحشد العظيم عندما تقوقعوا في صلاة العيدين في المساجد التي لم يصل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك الآخرون الذين أعرضوا عن الصلاة بالكلية سواء في المصلى أو المساجد، وقصدوا القبور وأحجارها عوضا عن التوجه لطاعة الله، ثم يأتي اللقاء الدولي العظيم للمسلمين مرة على الأقل في العمر في عرفات للمستطيعين ماديا وصحيا وأمنيا وشرعيا.
والاستطاعة الشرعية تشمل دراسة الحج وفهم مناسكه لتأدية هذه العبادة بالشكل الصحيح كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين بقوله وفعله(24/359)
«لتأخذوا عني مناسككم (1) » فالصواب لا بد منه مع الإخلاص في العبادة، وكل عمل ليقبل عند الله ويكون ناجحا في الدنيا، كما تشمل الاستطاعة الشرعية وجود محرم للنساء، فلا يجوز سفر المرآة حتى لو كان السفر لحج أو عمرة دون محرم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرآة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم (2) » .
وفي هذا اللقاء الدولي الواسع تتسع دائرة التعارف والتحابب والتآخي في الله إلى دائرة الإنسانية المسلمة، وتتجاهل الفوارق العرقية والقومية والدولية، ويشهد المسلمون منافع لهم في معرفة أحوالهم وما لديهم من إيجابيات يستفيدون منها، وسلبيات يتعاونون على التخلص منها ويلتقي القادة والموجهون والعلماء والمفكرون لإعادة الدولة المسلمة وتوحيد صفوف الأمة، ونسف الحواجز الفاصلة والمجزئة، والقضاء على الخلافات والفوارق بينها؛ فتعود إلى عز وحدتها وقوة تماسكها، وتتبوأ مكان الصدارة والشهادة بين الناس، وتؤدي رسالتها العالمية في قيادة البشرية الشاردة، وإعادتها لعبودية ربها، وتعاون أممها وتسخير ما خلق لها ربها في حضارة الخير والرشاد والصلاح والوداد لحضارة المادة والروح والعلم والأخلاق؛ فتسعد البشرية وتسعد من حولها ويتحقق قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (3) .
ويتحقق قول رسوله صلى الله عليه وسلم.
«ليبلغ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار (4) » .
__________
(1) رواه أحمد ومسلم والنسائي.
(2) متفق عليه.
(3) سورة الصف الآية 9
(4) مسند أحمد بن حنبل (4/103) .(24/360)
إفشاء السلام: إن توافد الرجال إلى مسجد الحي خمس مرات يوميا لتأدية الصلاة، ولقاء بعضهم بعضا بالابتسامة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم:(24/360)
«تبسمك في وجه أخيك صدقة (1) » ، وتحية بعضهم بعضا بتحية الإسلام، وتحية أهل الجنة: " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته "، فهذه الجملة التي تربط المسلم بالمسلم عليه برباط يبدأ باسم الجلالة، وينتهي به أو بضمير يعود إليه هي رباط إلهي بين مسلمين بأخوة الإسلام، هذا السلام الذي جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد وسائل التحابب في الله عندما حض على إفشائه بين المسلمين. كما أن التحابب في الله أحد النماذج السبعة التي تستظل بظل العرش يوم لا ظل إلا ظله، وقد زهد بتحية الإسلام وهدي نبيه عليه الصلاة والسلام كثير من مسلمي اليوم، وقد أهملوا وسائل التحابب وخيره الوفير، وأجره العظيم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، فحل التباغض والنفور محل المحبة والوئام، والعداوة والبغضاء محل المودة والإخاء واستبدل بعضهم الذي هو أدنى بالذي هو خير، عندما فضل تحية الأمم الأخرى محل تحية الإسلام، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيا بتحية الجاهلية عم صباحا أن يستبدلها بتحية خير منها، ألا وهي تحية الإسلام، كما بين عليه الصلاة والسلام الكيفية عندما سأله أحد الصحابة قائلا: «يلقى أحدنا أخاه أيقبله؟ قال: لا، قالوا: أينحني له؟ قال: لا، قالوا: أيصافحه؟ قال: نعم (2) » .
وكم هو مؤسف ما يتبناه اليوم بعض من ينتسب للإسلام في تحيتهم للمسلمين بتحية غيرهم من الأمم تقليدا لهم وانقيادا وتبعية إليهم في الوقت الذي يجب فيه على المسلم أن يكون أبعد الناس عن التقليد وخاصة في دين العزيز الحكيم الذي جعل العلم والمعرفة فرضا على كل مسلم ومسلمة ما دام منح من خالقه العظيم نعمة العقل ونعمة آيات الله المسطورة والمنظورة؛ لأن التقليد جهل، والعلم والتقليد يتنافران ولا ينشط أحدهما إلا في غياب الآخر، وقد نهى الأئمة - رحمهم الله - أتباعهم عن التقليد وحضوهم على
__________
(1) رواه الترمذي في باب البر 36.
(2) رواه الترمذي في باب الاستئذان 31.(24/361)
التبصر بالأحكام ودراسة الأمور والبحث عن الأدلة واختيار ما صح منها، وما زالت أقوالهم تشهد وتحكم على خطأ كثير ممن ينتسب إليهم اليوم فقد قلبوا الأمور فأباحوا التقليد، بل وأوجبوه عندما قسموا الأمة إلى مجتهدين ومقلدين فقط، وأغلق بعضهم باب الاجتهاد صراحة، وبعضهم جعلوه مستحيلا بالتشديد على شروطه، والأغرب من ذلك أن بعض من تقلد مناصب الإفتاء في بعض بلاد المسلمين أقر على نفسه بالتقليد الذي هو رديف الجهل، فالمقلد هو العامي الجاهل الذي فرض دينه عليه أن يتعلم، وجعل العلم فوق العبادة ليجتاز مرحلة التقليد هذه بسرعة؛ لأنها غير مرغوب بها، وإنما تباح مؤقتا في حالة عدم العلم بأمر الله ورسوله.
وحقيقة الأمر أن الأمة تقسم إلى ثلاث طبقات: المجتهدون والمتبعون والمقلدون، ولا يعقل لمقلد الأمس أن يطفر فيصبح مجتهد اليوم دون أن يمر على مراحل، مرحلة مرحلة، وبعض المراحل قد تستغرق عمره، وهي مرحلة الاتباع التي يأخذ فيها أدلة الأحكام الشرعية من قول الله تعالى وقول وفعل وإقرار رسوله الأمين عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه أجمعين.
وبعضهم عوضا أن يلتقي مع أخيه ويبادره بتحية الإسلام يبادره بقوله تقبل الله، التي لا ضير منها إذا تبعت تحية الإسلام لا أن تحل محلها. وبعضهم وقع في ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخسر أجر إحياء السنة عندما التزم تقبيل الأيدي أو الرأس أو الوجه أو الانحناء، كل هذا صد لقوله عليه الصلاة والسلام «. . . . وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم (1) » . . .، وهي جملة في خطبة الحاجة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح بها خطبه، ونهيب بالإخوة الدعاة وخطباء المساجد والوعاظ تذكير الناس بها عمليا إحياء لهذا السنة المباركة عند افتتاح الخطب عموما وخطب الجمعة والأعياد خصوصا.
أما على أثر السفر فقد ورد عن بعض الصحابة المعانقة والمصافحة بين المسلمين تسبب تساقط ذنوبهم كما تتساقط أوراق الشجر حسب الحديث
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6098) ، سنن الدارمي المقدمة (207) .(24/362)
الصحيح، على أن تكون ضمن الجنس الواحد أو مع المحارم، أما مصافحة الرجال للنساء فهي محرمة لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لأن يطعن رأس أحدكم بمخيط خير له من أن يمس امرأة لا تحل له» ، فلم يصافح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النساء مطلقا واكتفى بأخذ البيعة من نساء بيعة العقبة الثانية شفاها، وقال: «إني لا أصافح النساء (1) » . . . . رواه أحمد بسند صحيح.
وهكذا تتبين لنا الحكمة في أمور متعددة:
1 - عندما جعل الرجل المعلق قلبه في المساجد أحد السبعة تحت ظل العرش، وذلك بسبب سعة صحبته وتحاببه مع إخوانه المصلين.
2 - عندما منع الإسلام المصلي أن يلتزم مكانا خاصا في المسجد؛ لأن ذلك يحد من اختلاط وتعارف المسلمين.
3 - ما نجده لدى بعض المسلمين من تغيير المكان عند صلاته النفل، وهذا له حكمة في إتاحة جوار جديد للمصلي، وزيادة الاختلاط والتعارف بين المصلين، وأن تشهد له الأرض التي صلى عليها يوم القيامة.
في المسجد: وعندما يأتي المسلم لبيت الله يجب عليه اختيار أنظف وأفضل الثياب لقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (2) .
واقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطاعة له في حضه على السواك وحبه للطيب وأمره بالاغتسال كل يوم جمعة كحد أدنى فضلا عن اغتسال الطهارة.
هذه الأمور تجعل المسلم مهتما بنظافة جسمه ولباسه؛ لأنه يتردد على بيوت الله كل يوم خمس مرات، وهكذا الإسلام نظافة المظهر ونظافة القلب إلا أنه يلقى اليوم من بعض أتباعه كل بلاء وإيذاء فلا يدركون هذه الحقائق ولا يمتثلون لها في واقع حياتهم، حيث نجدهم ويا للأسف في بعض بيوت الله
__________
(1) سنن الترمذي السير (1597) ، سنن النسائي البيعة (4181) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2874) ، مسند أحمد بن حنبل (6/357) ، موطأ مالك الجامع (1842) .
(2) سورة الأعراف الآية 31(24/363)
تفوح منهم ومن ألبستهم روائح كريهة تؤذي المسلمين والملائكة في بيوت الله.
ويجب أن يكون المجيء لبيت الله بوقار وسكينة؛ لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أتيتم فعليكم بالسكينة، فما أدركتم فصلوا ومافاتكم فأتموا (1) » .
وكذلك في واقع الحياة يجب أن تكون تصرفات المسلم تتصف بالاتزان والسكينة والوقار؛ لأنه نموذج وقدوة حسنة.
يدخل المسجد مبتدأ باليمنى قائلا: (بسم الله، اللهم صل على محمد، اللهم افتح لي أبواب رحمتك) ، وهذا ما يعلمنا في واقع الحياة التيامن في كل شيء، فنبدأ من اليمين في الضيافة والدخول والخروج والمصافحة حتى لو كان أصغر القوم، وهذه مثالية المساواة التي لم تعرفها حتى الديمقراطية التي يتبجحون بها، وكذلك يعلمنا في واقع الحياة أن نبدأ أمورنا كلها بذكر الله كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أمر وجزئية أن نفتتحه بذكر الله وقد استبدلت، ففي بعض بلاد المسلمين - ويا للأسف - افتتاح المنجزات المادية باسم الشعب أو الوطن أو غيرها. عوضا أن تكون موحدة باسم رب العالمين العزيز الحكيم رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم، المقدر لذلك الأمر والمسهل سبحانه لكل أمر صعب.
إن حضور المصلين إلى المساجد غالبا ما يكون خلال وقت يبدأ بالأذان وينتهي بانتهاء الجماعة مما لا يتيح لهم فرص اللقاء على نطاق واسع، وتبقى في هذا الوقت الذي يسبق قيام الفريضة تحية بيت الله بصلاة ركعتين سنة في جميع الأوقات قبل الجلوس حتى أثناء الخطبة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتى أحدكم والإمام يخطب فليصل ركعتين وليتجوز بهما (2) » .
حتى إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله استثنى سنة تحية المسجد من
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأذان 20.
(2) رواه البخاري في كتاب الجمعة - 33.(24/364)
أوقات الكراهة، وتتوقف كل صلاة نفل عند الإقامة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة (1) » .
وهذا يفيدنا في واقع الحياة تفضيل الأهم الواجب على المهم المندوب عندما يقعان في وقت واحد، ومن يدخل المسجد وقد شرع المصلون في صلاة الفجر فيسرع في صلاة السنة، ثم يلتحق بالفريضة يكون بالإضافة إلى مخالفته للحديث السابق، وتقديم رأيه أو رأي من قلده على الدليل قد حرم نفسه شطرا من صلاة الفريضة في الوقت الذي أدى نفلا في هذا الوقت فضلا عن عدم اطمئنانه في نفله.
أما تحية المسجد في المسجد الحرام فيسبقها الطواف سبعة أشواط حول الكعبة، ولا بد من السلام على المصلين والملائكة بتحية الإسلام، إلا أثناء الخطبة فلا سلام ولا كلام، وإلقاء السلام سنة حتى لو كان المصلون في الصلاة، ورده واجب، وفي هذه الحالة يكون برفع اليد اليمنى موازية للأرض وراحتها للأسفل اقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبسبب جهل كثير من المسلمين لهذه السنة أهملوها بل ولا يردونها وهم في الصلاة، بل إنهم يستنكرون هذه السنة من أصلها بسبب بعدهم عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد حرص الإسلام على لقاء المسلمين عند انتهائهم من صلاة الجماعة في حضه على جعل صلاة النفل في البيوت، وأكد على صلاة الفريضة في المسجد مع الجماعة، فعند انتهائها يخرج المسلمون في وقت واحد، وهذا ما يتيح لهم فرصا أكبر في اللقاء والتعارف والتحاب والتعاون على البر والتقوى، كما أن تأدية السنن في البيت تعلم الصغار الصلاة عمليا من آبائهم وأمهاتهم والكبار، واليوم مع الأسف ترك بعض المصلين صلاة الجماعة الراتبة وجعلوها في بيوتهم في بعض بلاد المسلمين، وبعضهم الآخر أهمل صلاة النفل في البيت وجعله بمثابة المقبرة. ونقل صلاة السنن
__________
(1) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (710) ، سنن الترمذي الصلاة (421) ، سنن النسائي الإمامة (865) ، سنن أبو داود الصلاة (1266) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1151) ، مسند أحمد بن حنبل (2/455) ، سنن الدارمي الصلاة (1448) .(24/365)
إلى المسجد فحرم الصغار فرص التعلم العملي والاقتداء بالآباء فضلا عن مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتركوها مقابر (1) » ، «. . . خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم (2) » . . . .
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (432) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (777) ، سنن الترمذي الصلاة (451) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1598) ، سنن أبو داود الصلاة (1448) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1377) ، مسند أحمد بن حنبل (2/16) .
(2) صحيح البخاري الأدب (6098) ، سنن الدارمي المقدمة (207) .(24/366)
أوقات الصلاة:
{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (1) } .
يبدأ وقت الصلاة بوقت معين يختلف حسب الموقع على الكرة الأرضية، كما يختلف حسب الوقت على مدار السنة، وينتهي وقت الصلاة بوقت معين يختلف أيضا بالنسبة للمكان والزمان، فلا تجوز الصلاة قبل بدء الوقت إلا في حالة الجمع (حيث يباح للمسافر والمريض جمع الظهر والعصر وجمع المغرب والعشاء تقديما أو تأخيرا) كما أن الصلاة لا تجوز بعد انتهاء الوقت بموجب الآية السابقة إلا ما استثناه الحديث الصحيح: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها حين يذكرها لا كفارة لها إلا ذلك (2) » .
فالنوم والنسيان الذي كتبه الله على بني آدم عذران مقبولان يبيحان لصاحبهما عذرا في الصلاة بعد خروج الوقت الطبيعي لها بوقت استثنائي إضافي، فإن بادر عند استيقاظه أو تذكره للطهارة والصلاة كانت صلاته هذه كأنها في وقتها الطبيعي، وإن ماطل وتماهل بها خرج وقتها وضاعت عليه؛ لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتأديتها حين يذكرها فلا كفارة له إلا أن يؤديها ضمن الوقت الاستثنائي وإلا فلا كفارة له إن أهمل تأديتها وأضاعها. هذا بشرط عدم تقصد النوم لإضاعتها؛ لأنها حق من لا تخفاه خافية ومن يعلم السر وأخفى أو أن يسهر عبثا حيث يأوي للنوم في الساعات الأخيرة من الليل فيضيع عليه صلاة الفجر التي قال الله تعالى عنها:
{إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (3) .
__________
(1) سورة النساء الآية 103
(2) رواه البخاري ومسلم، وغيرهما.
(3) سورة الإسراء الآية 78(24/366)
والتي لها مع صلاة العشاء أفضلية خاصة فقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النوم قبل العشاء لعدم إضاعتها؛ حيث تنتهي في منتصف الليل «ووقت العشاء حتى منتصف الليل (1) » . . .) ، كما نهانا عن السهر بعدها لعدم إضاعة الفجر؛ فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تناموا قبل العشاء ولا تسمروا بعدها (2) » إلا إذا كان السهر طلبا للعلم النافع.
وإذا نظرنا إلى حياة المسلمين اليوم ويا للأسف فقد ضرب بعضهم التوجيه النبوي عرض الحائط، حيث أدخل التليفزيون بشروره وأضراره التي تفوق فوائده ليخرق هذا الأمر النبوي، ويعمل على خلافه إلا من رحم الله من المسلمين الملتزمين الذين يحبون الله ورسوله، ويتبعون أوامرهما، ويمتثلون لها، ويسلمون تسليما، فهم عباده الصالحون على الفطرة التي جعل الله فيها النوم باكرا والاستيقاظ باكرا من الشروط الصحية والجسمية والعقلية، كما أيد علم الطب وعلم النفس بأن ساعة من النصف الأول من الليل تعادل ساعتين من النصف الثاني، إنه دين الفطرة التي فطر الناس عليها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بورك لأمتي في بكورها (3) » .
وحيث إن تأدية الصلاة تفضل في أول الوقت بموجب الحديث النبوي الصحيح: «أحب الأعمال إلى الله الصلاة في وقتها، وبر الوالدين، والجهاد في سبيل الله (4) » .
فهذه الدقة في أوقات الصلاة لهي التدريب للمسلمين على الدقة في المواعيد والمحافظة عليها، فالإخلاف في الموعد أحد صفات المنافقين الثلاث كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان (5) » .
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (612) ، سنن النسائي المواقيت (522) ، سنن أبو داود الصلاة (396) ، مسند أحمد بن حنبل (2/210) .
(2) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (568) ، سنن النسائي المواقيت (530) ، سنن أبو داود الصلاة (398) .
(3) رواه الترمذي في كتاب البيوع - 6.
(4) رواه البخاري في مواقيت الصلاة - 28.
(5) رواه البخاري في باب الشهادات.(24/367)
وإذا دققنا أمور المسلمين اليوم فنرى مع الأسف الشديد تخلفا واضحا في المحافظة على دقة المواعيد والوفاء بها، فدينه الذي ينتسب إليه يكرر عليه كل يوم خمس مرات بيانا عمليا للمحافظة على دقة المواعيد.
وهناك من يرى تأدية الصلاة بعد خروج الوقت مطلقا، ويسمي تأديتها قضاء حتى لو لم يكن نوم أو نسيان؛ حيث أعمل الرأي فقاس الصلاة على الدين، واعتبر الصلاة دينا بذمة العبد لربه، وهي أولى بتأديتها؛ لأنها حق الله، ولكن رأيه هذا لا يؤيده الدليل بل يناهضه، وحيث إن القياس هو اجتهاد، ولا اجتهاد في مورد النص. الآية الكريمة التي تجعل الصلاة موقوتة بوقت الدخول ووقت الخروج، تؤيد من يعتقد أنه لا قضاء في الصلاة إلا بحدود الحديث السابق الذي حدد العذر بنوم أو سهو، فإذا أهملها صاحبها عامدا متعمدا فقد ضاعت عليه، وليس له إلا التوبة والندم والحرص على عدم إضاعتها في المستقبل ويكثر من النفل لعل الله تعالى يتقبل منه هذا النفل بدل ما فاته من المكتوبة.
علما أن القضاء في لغة العرب والقرآن يختلف عنه في لغة المتأخرين، فالقضاء في لغة العرب هو إكمال الشيء وإتمامه.
{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} (1) .
أي أكملهن وأتمهن، وقد ذكر الله في كتابه الكريم القضاء بمعنى فعل العبادة في وقتها.
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} (2) .
وقال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} (3) .
__________
(1) سورة فصلت الآية 12
(2) سورة الجمعة الآية 10
(3) سورة البقرة الآية 200(24/368)
الإمام والصفوف:
إن وقوف المسلمين صفوفا مستوية ومتراصة، فالأقدام والركب والأكتاف متراصة كالبينان المرصوص دون ترك أية فرجة للشيطان، ودون أن يقطع الصفوف أي حاجز واصل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من وصل صفا وصله الله، ومن قطع صفا قطعة الله (1) » ، حتى إن بعض المساجد أخذت تطبق في بنائها هذا الحديث فاستغنت عن الأعمدة والصواري التي كان الصحابة الكرام يطردوا من الصلاة بين الصواري طردا لعدم قطع الصف بينما أخذت بعض المساجد تقلل ما أمكن من الأعمدة كحد أدنى. إن هذا التراص في الصفوف ومراعاة جعل الإمام أمامها في منتصفها بحيث يكون جناحه الأيمن يعادل جناحه الأيسر، وعند البدء بصف جديد يبدأ من المنتصف خلف الإمام مباشرة، وهكذا يمينا وشمالا حتى يكمل، وهكذا هو تدريب المسلمين على تراص الصفوف في الجهاد وأمام العدو.
وقد اختلفت طبيعة القتال، فقد كانت صفوف المتحاربين تعتمد على تراص المقاتلين جنبا إلى جنب، أما قتال اليوم وطبيعة الأسلحة فالتراص ليس بالأشخاص وإنما بفعالية الأسلحة، لكن المبدأ يبقى وهو عدم ترك أية فرجة بين المقاتلين يستطيع العدو أن ينفذ خلالها إلى داخل الصفوف، وعندما استطاع العدو أن ينفذ داخل صفوف المقاتلين المصريين في عام 1973، فإن هذا دليل عدم فهم حكمة التراص في الصلاة، التي تتكرر خمس مرات يوميا بالإضافة إلى كونه عدم التزام التراص عمليا كما هو مشاهد اليوم في كثير من بلاد المسلمين إلا من رحم ربك؛ حيث ترى أحيانا حتى عدم تماس بين المصلين، وهذا الأثر يترك مغزى هاما للمتبصر في الأمور بضعف الرابط الأخوي بين المسلمين المصلين فضلا عن العداوة والبغضاء بين أفراد الأمة الإسلامية التي يجب أن تكون كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر
__________
(1) رواه النسائي في كتاب الأمانة - 31.(24/369)
الجسد بالسهر والحمى (1) » ، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الترابط بين تسوية الصفوف وبين الواقع الاجتماعي بقوله عليه والصلاة والسلام.
«لتسون بين صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم (2) » .
والصف الأول له أفضلية؛ لذلك حض الخيرة التقدم إليه بقوله عليه الصلاة والسلام: «ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى (3) » ، وهذا ما يفيدنا في واقع الحياة أن تكون الصفوف الأمامية خيرة المقاتلين، وإلا فإن تغلب العدو على النسق الأول يوقع الوهن، ويحطم المعنويات للأنساق التالية، كما أنه حافز مشجع لمعنويات العدو، وإذا تبين للإمام أنه على غير وضوء فينسحب من الإمامة ويتقدم من خلفه ويؤم القوم، وكذلك في واقع الحياة، فإن تغيير القائد في المعركة لا يغير الواقع بل تستمر على نفس الهدف والوسيلة، كما حدث في تغيير القائد العام لجيوش المسلمين في فتوح الشام عندما استبدل عمر رضي الله عنه خالدا بأبي عبيدة بن الجراح، كذلك في أمور الحكم؛ حيث يتولى أقدر الأمة؛ لأن الإمام له شروط في تولي الإمامة حسب الأكفأ، وليس هي مهنة يتولاها من يعين فيها، وقد يكون خلفه من هو أجدر منه بذلك، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن تساووا فأكبرهم سنا (4) » .
وهذا يفيدنا في تطبيق الآية الكريمة:
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (5) .
حيث إن العلم بالكتاب والسنة على منهج السلف الصالح هو أول ما يميز الناس ومكانتهم ثم الأسبق للهجرة التي هي بناء الدولة المسلمة، ثم الأكبر
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأدب - 27.
(2) رواه البخاري في كتاب الأذان.
(3) رواه مسلم في الصلاة 122، 123، 54.
(4) البخاري في الأذان، والنسائي في الإمامة.
(5) سورة الحجرات الآية 13(24/370)
سنا؛ لأنه أكثر خبرة وعملا. وقد استبدل كثير من المسنين للإسلام اليوم أمورا دنيوية عوضا عن التقوى والعلم النافع؛ فأصبح في تفضيل كثير منهم المال أو الجاه أو المنصب أو المظهر، وهذا الأثر الاجتماعي هو صدى لشروطهم المبتدعة في الإمام، فعوضا عن الامتثال للحديث السابق فقد انقادوا لشروط من آرائهم التي أوجدتها في الأصل عدم العثور على الدليل، إلا أن القاعدة الفقهية: " لا اجتهاد في مورد النص " تبطل كل ما اشترطوه أمام حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكور.(24/371)
الإمام والمؤتمون:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا، وإذا ركع فاركعوا (1) » .
إن هذا بيان عملي في الحياة لمتابعة الإمام والقائد في المعركة، والحاكم في الأمة، وإطاعته هذه الطاعة هي أحد شروط كسب المعركة وتقدم الأمة.
وإذا أخطأ في الصلاة بتلاوة القرآن فيصحح، وإذا أخطأ في عدد الركعات كما لو نهض واقفا عوضا عن جلوسه فينبه من قبل المؤتمين بقولهم: (سبحان الله) ، فإن لم يعد للجلوس بل استمر واقفا فعليهم متابعته، ولا يجوز لهم مخالفته، وتبقى وحدة الإمام والمؤتمين، ويقوم بسجود السهو.
وكذلك في الحياة إن أخطأ الحاكم فينصح من قبل أهل العلم ويبين له الخطأ، فإن عاد عن خطئه فالرجوع للحق خير من التمادي في الباطل، وإن أصر على خطئه فعليهم متابعته، ويحمل تبعة ذلك أمام رب العالمين، ولا يجوز مخالفته ما دام الخطأ يسيرا؛ لأن وحدة الصف تبقى هدفا ساميا في الأمة، ولا يجوز التفرق والانشقاق. أما إذا أمر في معصية لرب العالمين فلا طاعة في معصيته، فحق الحاكم يتوقف عندما يبدأ حق الله، فإطاعته منوطة بإطاعته لله ورسوله، فإن خالف أمرهما فالعالم يبين وينصح، فلا استبداد ولا تسلط ولا
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.(24/371)
ظلم في الإسلام، وكذلك لا تمرد أو عصيان للإمام المسلم كما قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1) .
فأمر الله ورسوله للأمة حكاما ومحكومين. فالإمام العادل ما دام يستمد أوامره من الله ورسوله فإطاعته إطاعة لله ورسوله، وحتى إذا كانت أوامره لا تتعارض مع أوامر الله ورسوله من أمور الدنيا المباحة، فإن إطاعته واجبة بموجب الآية السابقة، وهذا ما يوضحه موقف خالد بن الوليد رضي الله عنه عندما امتثل لأمر خليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسلم الجيش لأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه راضيا صاغرا دون تذمر وتأفف، ولسان حاله يقول:
إنا نقاتل كي يرضى الجهاد بنا ... ولا نقاتل كي يرضى بنا عمر
فقد كانوا ينظرون إلى المناصب، ويدركون مسئوليتها أمام رب العالمين، ويخشون أن تصبح حسرة وندامة يوم القيامة إذا حملت مظالم عباد الله وخلقه، فيسأل عنها ويحاسب عليها الحاكم في ذلك اليوم الذي لا ظلم فيه، ويحاسب الظالم فيه حسابا عسيرا فينتمى أن يعود للدنيا ليحكم بالعدل والقسط ويعمل صالحا حيث لا تنفع حسرة وندامة، ولا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وختم الله تبارك وتعالى رسالة السماء التي ابتدأت بالعلم، واختتمت بالتقوى وتذكيرا باليوم الآخر بقوله جل وعلا:
{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (2) .
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يصلون بكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم (3) » .
إن المساواة الكاملة في صفوف الصلاة بين المصلين التي تشابه صفوف الملائكة دون أي تمييز لحسب ونسب أو جاه وسلطة أو غنى
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة البقرة الآية 281
(3) رواه البخاري في باب الأذان، وأحمد 2، 255، 547.(24/372)
ومال أو لون أو جنس أو لغة وقومية أو دولة وأخرى لهي دروس وعبرة لعالمنا اليوم المتخبط الذي يعاني التمييز بين الشعوب والأمم والدول، بالإضافة إلى التمييز ضمن كل أمة وشعب، فهناك دول تسمي نفسها عظمى تتميز عن غيرها الصغيرة، وهناك تمييز بين الدول الصناعية والدول النامية، وهناك تمييز بين البشر بسبب اللون والجنس والعرق واللغة، كما هناك تمييز بين مواطني دولة ومن يفد عليهم من الخارج، وتمييز بين الحكام والمحكومين وبين أصحاب السلطة وغيرهم، وبين الأغنياء والفقراء بالإضافة إلى التمييز بين الأنساب والقبائل والمناطق، وبين المهن والأعمال. كل هذا التمييز ومقاييسه جاهلية تتعارض مع الإسلام؛ لأن مقياس الله في التمييز هو الإيمان والعمل الصالح، أي التقوى كما يقول تبارك وتعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (1) .
وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا فرق بين عربي وعجمي، ولا بين أبيض وأسود إلا بالتقوى (2) » ، «كلكم من آدم وآدم من تراب (3) » .
لم تعرف البشرية في تاريخها الطويل مساواة بين الناس في أي نظام أو دين إلا في ظل الإسلام، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترك مع أصحابه في بناء المسجد، وحمل الأحجار وحفر الخندق حول المدينة، واشتراكه الفعلي في مقدمة القتال، وهو سيد البشر ورئيس دولة الإسلام. وكان عليه الصلاة والسلام عندما يسير مع أصحابه يقدمهم أمامه، ويسير في الخلف قائلا لهم «دعوا ظهري للملائكة (4) » ، وكان لا يتميز عن أصحابه في المجلس، ويجلس حيث يتوفر المكان ويكره القيام له رغم محبتهم واحترامهم له الذي لم يحظ به أحد من بني آدم، وفي يوم النصر العظيم وفتح مكة دخلها مطرق الرأس تواضعا وحمدا لله تعالى على الفوز المبين، وعندما يمتثل أمامه أعداؤه
__________
(1) سورة الحجرات الآية 13
(2) مسند أحمد بن حنبل (5/411) .
(3) سنن الترمذي المناقب (3955) ، سنن أبو داود الأدب (5116) .
(4) رواه ابن ماجه في المقدمة 21.(24/373)
الذين كادوا له ولأصحابه بعدائهم وظلمهم المرير، يقول لهم ما لم يعرف في العالم مثلا له في السماحة والعفو «اذهبوا فأنتم الطلقاء» .
وكذلك لم تعرف المرأة المساواة مع الرجال في الحقوق والواجبات في الأمم القديمة حتى جاء الإسلام، فكانت تعيش عيشة الهوان والذل والاستعباد في الأمم السابقة كاليونان والرومان والفرس، وكانت توأد حية في التراب عند العرب.
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} (1) {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (2) .
عندما أتى الإسلام ساوى بين الجنسين في الأمور التعبدية، وفي الحقوق والواجبات:
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (3) .
{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (4) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النساء شقائق الرجال (5) » .
__________
(1) سورة النحل الآية 58
(2) سورة النحل الآية 59
(3) سورة الأحزاب الآية 35
(4) سورة البقرة الآية 228
(5) رواه أبو داود في باب الطهارة [94] ، والترمذي في باب الطهارة [82] وغيرهما.(24/374)
للمرأة تبدي مفاتنها إرضاء للرجل الذي استعبدها بشهواته الحيوانية وأخرجها من مملكتها الصغيرة المنزلية وزج بها في المعامل والمكاتب والمتاجر بخدعة مساواتها بالرجل، وأهمل دورها في التربية وإعداد جيل الغد فانحطت الأجيال وانغمست في الشهوات والمخدرات والخمور والإفساد في الأرض، وسفك الدماء وهم يخدعونها بعبارات المساواة والتحرر من الضوابط الخلقية والانقلاب من الأدب والفضيلة ليغمسوها ويدنسوا أنوثتها بوحل القذارة والشهوات البيهيمة التي تنتشر فيها الأمراض الجنسية لتفتك بأنوثتها وتعطل دورها المهم في الإنتاج البشري وإعداده التربوي وتوجيهه الخلقي، حتى أصبحت بعض دول اليوم تعاني نقصا في المواليد عن الوفيات بالإضافة إلى تزايد الجراثيم والانحرافات، والانتحار في الأجيال التي حرمت عطف الأمهات وتربيتهن
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} (1) .
منذر الحريري
__________
(1) سورة طه الآية 124(24/375)
متى ثبتت رؤية الهلال ثبوتا شرعيا وجب العمل بها
،
ولم يجز أن تعارض بكسوف ولا غيره.
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد اطلعت على ما نشرته صحيفة الرياض في عددها 6885 في 3 \ 9 \ 1407هـ بقلم الدكتور أحمد بن عبد العزيز اللهيب عفا الله عنا وعنه من جزمه باستحالة أن يكون يوم الإثنين أول يوم من شعبان، بناء على ما وقع في ليلته من الكسوف وبناء على ما نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمة الله عليهما، وجزمه بأن يوم الإثنين هو تمام الثلاثين لشهر رجب، وأن يوم الثلاثاء هو أول يوم من شعبان بشكل قطعي، وعليه يستحيل على ما ذكره أن يكون يوم الثلاثاء هو أول يوم من رمضان، وبناء على ذلك رأيت أن أوضح للقراء ما في هذا الكلام من الخطر العظيم والجرأة على دين الله ورسوله، ونبذ ما صحت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء الظهر، وتقديم أقوال الحسابين على ما دل عليه كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من تعليق إثبات دخول الشهر وخروجه برؤية الهلال أو إكمال العدة. وحكمه صلى الله عليه وسلم يعم زمانه وما بعده(24/376)
إلى يوم القيامة؛ لأن الله عز وجل بعثه إلى العالمين بشريعة كاملة لا يعتريها نقص بوجه من الوجوه، كما قال الله سبحانه:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) .
وهو سبحانه يعلم ما يقع من الكسوف في كل زمان ولم يخبر عباده بما يجب عليهم اعتباره وقت الكسوف، من جهة إثبات الأهلة، مع أنه سبحانه أخبرهم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بما يشرع لهم وقت الكسوف من صلاة وغيرها، أما قول الفلكيين: إن كسوف الشمس لا يكون إلا في آخر الشهر في ليالي استسرار القمر، فليس عليه دليل يعتمد عليه ويسوغ من أجله أن تخالف الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أيده شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم عفا الله عنهما، فإنهما ليسا معصومين، ويجوز عليهما الخطأ في بعض أقوالهما كما يجوز على غيرهما من أهل العلم، وقد أمر الله عباده عند التنازع أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يردوا ما اختلفوا فيه إلى حكمه وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (2) .
وقال عز وجل:
{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (3) الآية.
وقال سبحانه:
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (4) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة النساء الآية 59
(3) سورة الشورى الآية 10
(4) سورة النساء الآية 65(24/377)
وقد صرح جمع من أهل العلم بأن كسوف الشمس يمكن وقوعه في غير آخر الشهر، وهكذا خسوف القمر يمكن وقوعه في غير ليالي الإبدار، والله سبحانه على كل شيء قدير. وكون العادة الغالبة وقوع كسوف الشمس في آخر الشهر لا يمنع وقوعه في غيره، وقد صحت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجوب اعتماد الرؤية في إثبات الأهلة أو إكمال العدة، وهي أحاديث مشهورة مستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما، وحكمه صلى الله عليه وسلم لا يختص بزمانه فقط، بل يعم زمانه وما يأتي بعده إلى يوم القيامة؛ لأنه رسول الله إلى الجميع. والله سبحانه أرسله إلى الناس كافة، وأمره أن يبلغهم ما شرعه لهم في إثبات هلال رمضان وغيره، وهو العالم بغيب السماوات والأرض، والعالم بما سيحدث بعد زمانه من المراصد وغيرها ويعلم سبحانه ما يقع من الكسوفات.
ولم يثبت عن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنه قيد العمل بالرؤية بموافقة مرصد أو عدم وجود كسوف، وهو سبحانه وتعالى لا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء، لا فيما سبق من الزمان ولا فيما يأتي إلى يوم القيامة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا، وخنس إبهامه في الثالثة، والشهر هكذا وهكذا وهكذا، وأشار بأصابعه العشر (1) » ، يرشد بذلك أمته عليه الصلاة والسلام إلى أن الشهر تارة يكون تسعا وعشرين، وتارة يكون ثلاثين وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة، ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكلموا العدة (2) » ، ولم يأمر بالرجوع إلى الحساب، ولم يأذن في إثبات الشهور بذلك.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة صنفها في هذه المسألة كما في المجلد 25 من الفتاوى صفحة 132: إجماع العلماء على أنه لا يجوز العمل بالحساب في إثبات الأهلة، وهو رحمه الله من أعلم الناس بمسائل الإجماع والخلاف، ونقل الحافظ في الفتح جـ4 ص127
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1913) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2140) ، سنن أبو داود الصوم (2319) ، مسند أحمد بن حنبل (2/43) .
(2) صحيح البخاري الصوم (1914) ، صحيح مسلم الصيام (1082) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2173) ، سنن ابن ماجه الصيام (1655) ، مسند أحمد بن حنبل (2/497) ، سنن الدارمي الصوم (1689) .(24/378)
عن أبي الوليد الباجي: إجماع السلف على عدم الاعتداد بالحساب، وأن إجماعهم حجة على من بعدهم.
والأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها تدل على ما دل عليه الإجماع المذكور. ولست أقصد من هذا منع الاستعانة بالمراصد والنظارات على رؤية الهلال، ولكني أقصد منع الاعتماد عليها أو جعلها معيار للرؤية، لا تثبت إلا إذا شهدت لها المراصد بالصحة، أو بأن الهلال قد ولد، فهذا كله باطل، ولا يخفى على كل من له معرفة بأحوال الحاسبين من أهل الفلك ما يقع بينهم من الاختلاف في كثير من الأحيان في إثبات ولادة الهلال أو عدمها، وفي إمكان رؤيته أو عدمها، ولو فرضنا إجماعهم في وقت من الأوقات على ولادته أو عدم ولادته، لم يكن إجماعهم حجة؛ لأنهم ليسوا معصومين، بل يجوز عليهم الخطأ جميعا. وإنما الإجماع المعصوم الذي يحتج به هو إجماع سلف الأمة في المسائل الشرعية؛ لأنهم إذا أجمعوا دخلت فيهم الطائفة المنصورة التي شهد لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنها لا تزال على الحق إلى يوم القيامة، وأما الاحتجاج بالكسوف فمن أضعف الحجج؛ لأنه لا يوجد نص من كتاب الله عز وجل ولا من سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - يدل على أن الخسوف للقمر، لا يقع إلا في ليالي الإبدار، وأن الكسوف للشمس لا يكون إلا أيام الاستسرار كما يقوله بعض العلماء، بل قد صرح جمع من أهل العلم بأنه يجوز أن يقع في كل وقت كما تقدم. وذكر غير واحد منهم أنه يمكن وقوعه في يوم عيد الفطر وعيد النحر. وهذان اليومان ليسا من أيام الإبدار ولا من أيام الاستسرار، فنقابل قول من قال: إنه لا يقع الخسوف إلا في ليالي الإبدار، ولا كسوف الشمس إلا في أيام الاستسرار بقول من قال: إنه يمكن وقوع ذلك في كل وقت وليس قول أحدهما بأولى من الآخر. وتسلم لنا الأدلة الشرعية ليس لها معارض، وليس في شرع الله سبحانه ولا في قدرته فيما نعلم ما يمنع وقوع الخسوف والكسوف في كل وقت(24/379)
لأن الله عز وجل له القدرة الكاملة على كل شيء، وله الحكمة البالغة في جميع ما يقدره ويشرعه لعباده، وقد أخبر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن كسوف الشمس وخسوف القمر آتيان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، والعباد في أشد الحاجة إلى التخويف، والإنذار من أسباب العذاب في كل وقت. وهذا المعنى نفسه من الأدلة الدالة على صحة، وقول من قال من العلماء بجواز وقوع الخسوف والكسوف في جميع الأوقات، والرؤية لهلال رمضان هذا العام - أعني عام 1407هـ ليلة الثلاثاء (قد ثبتت لدى مجلس القضاء الأعلى في المملكة العربية السعودية بهيئته الدائمة فهي رؤية شرعية) - يجب الاعتماد عليها لموافقتها للأدلة الشرعية وبطلان ما يعارضها، وبموجبها يكون يوم الثلاثاء أول يوم من رمضان للأحاديث السابقة، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون (1) » ، أخرجه الترمذي وغيره بإسناد حسن.
ولو فرضنا أن المسلمين أخطأوا في إثبات الهلال دخولا أو خروجا، وهم معتمدون في إثباته على ما صحت به سنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم، ولم يكن عليهم في ذلك بأس، بل كانوا مأجورين ومشكورين من أجل اعتمادهم على ما شرعه الله لهم، وصحت به الأخبار عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم، ولو تركوا ذلك من أجل قول الحاسبين أو من أجل وقوع الكسوفات مع قيام البينة الشرعية برؤية الهلال دخولا وخروجا لكانوا آثمين وعلى خطر عظيم من عقوبة الله عز وجل؛ لمخالفتهم ما رسمه لهم نبيهم وإمامهم محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - التي حذر الله منها في قوله عز وجل:
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) .
وفي قوله عز وجل:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (3) .
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (697) ، سنن ابن ماجه الصيام (1660) .
(2) سورة النور الآية 63
(3) سورة الحشر الآية 7(24/380)
وقوله سبحانه:
{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (1) .
وأرجو أن يكون فيما ذكرته مقنع لطالب الحق، وكشف للشبهة التي ذكرها الدكتور أحمد بن عبد العزيز اللهيب وغيره ممن يعتمد على أقوال الحاسبين. والله سبحانه المسئول أن يوفقنا والدكتور أحمد وجميع المسلمين لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد والتمسك بشرع الله المطهر، وأن يعيذنا وجميع المسلمين من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ومن القول على الله سبحانه وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بغير علم: إنه ولي ذلك والقادر عليه. وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على رسوله نبينا محمد وآله وصحبه، ومن عظم سنته، واهتدى بهديه إلى يوم الدين. حرر في 7 \ 9 \ 1407هـ.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
ورئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة
__________
(1) سورة النساء الآية 14(24/381)
تعقيب على فضيلة الشيخ
عبد الله كنون
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الصادق الأمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على دربهم إلى يوم الدين. . .
أما بعد:
فقد اطلعت على فتوى لصاحب الفضيلة الشيخ عبد الله كنون قد نشرت في صحيفة الميثاق المغربية حول الإحرام من الطائرة لأهل المغرب وتأخيره إلى جدة. . فاستغربتها كثيرا. . ومع تقديري لعلمه وفضله، فقد رأيت التنبيه على عدم صحة هذه الفتوى، وأن تأخير الإحرام إلى جدة للحاج المغربي أو المعتمر أمر مخالف للأحاديث الصحيحة الدالة على وجوب الإحرام من المواقيت التي وقتها رسول الله - صلى الله عليه وسلم، ومنها الجحفة لأهل مصر والشام والمغرب وسائر دول شمال إفريقيا. ولا يجوز اعتمادها.
بل الواجب على الحاج المغربي أن يحرم إذا حاذى المقيات جوا وبرا وبحرا كما هو نص الحديث الشريف. وكما نص عليه أهل العلم.
والتوقيت من النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس توقيتا لزمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم، بل هو توقيت للمسلمين إلى يوم القيامة.
والله سبحانه وتعالى يعلم أنه سيكون في آخر الزمان طائرات وغيرها، فدل على دخول ركابها في ذلك. وإذا خاف راكبها من تجاوز المقيات قدم الإحرام قبل وصوله المقيات احتياطا.
وما ذكره الأستاذ عبد الله من عدم تمكن المسافر من الاستعداد في الطائرة بالغسل والصلاة؛ فإن بإمكان الحاج أن يستعد في بيته أو بلده قبل ركوبه الطائرة، مع العلم بأن الغسل ليس بواجب، وإنما هو(24/382)
مستحب. وهكذا الوضوء ليس بواجب. فلو أحرم من دون وضوء ولا غسل فإحرامه صحيح.
وهكذا الصلاة قبل الإحرام. ليست واجبة، وإنما هي مستحبة عند الجمهور. وقال بعض أهل العلم لا تستحب لعم الدليل الصحيح الصريح في ذلك.
فلو أحرم الحاج أو المعتمر من دون وضوء ولا غسل فإحرامه صحيح، ولا يجوز تأخير الواجب عن وقته أو مكانه من أجل تحصيل المستحب، بل يجب البدار بالواجب وإن فات المستحب. وهذا أمر واضح لا غبار عليه.
فنصيحتي للأستاذ أخينا الشيخ عبد الله كنون الرجوع عن هذه الفتوى؛ لأن الرجوع للصواب هو الواجب على المؤمن، وهو شرف له، وهو خير من التمادي في فتوى تخالف الدليل. وأسأل الله أن يوفقنا وإياه وسائر لإصابة الحق في القول والعمل، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(24/383)
قرار هيئة كبار العلماء
رقم 148 وتاريخ 12 \ 1 \ 1409هـ
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. وبعد:
فإن مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثانية والثلاثين، والمنعقدة في مدينة الطائف ابتداء من 8 \ 1 \ 1409 إلى 12 \ 1 \ 1409هـ بناء على ما ثبت لديه من وقوع عدة حوادث تخريب ذهب ضحيتها الكثير من الناس الأبرياء، وتلف بسببها كثير من الأموال والممتلكات والمنشآت العامة في كثير من البلاد الإسلامية وغيرها، قام بها بعض ضعاف الإيمان أو فاقديه من ذوي النفوس المريضة والحاقدة، ومن ذلك: نسف المساكن، وإشعال الحرائق في الممتلكات العامة والخاصة، ونسف الجسور والأنفاق، وتفجير الطائرات أو خطفها. وحيث لوحظ كثرة وقوع مثل هذه الجرائم في عدد من البلدان القريبة والبعيدة، وبما أن المملكة العربية السعودية كغيرها من البلدان عرضة لوقوع مثل هذه الأعمال التخريبية؛ فقد رأى مجلس هيئة كبار العلماء ضرورة النظر في تقرير عقوبة رادعة لمن يرتكب عملا تخريبيا، سواء كان موجها ضد المنشآت العامة والمصالح الحكومية، أو موجها لغيرها بقصد الإفساد والإخلال بالأمن. وقد اطلع المجلس على ما ذكره أهل العلم من أن الأحكام الشرعية تدور من حيث الجملة على وجوب حماية الضروريات الخمس والعناية بأسباب بقائها مصونة سالمة، وهي: الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال. وقد تصور المجلس الأخطار العظيمة التي تنشأ عن جرائم الاعتداء على حرمات المسلمين في نفوسهم وأعراضهم وأموالهم، وما تسببه(24/384)
الأعمال التخريبية من الإخلال بالأمن العام في البلاد، ونشوء حالة من الفوضى والاضطراب، وإخافة المسلمين على أنفسهم وممتلكاتهم، والله سبحانه وتعالى قد حفظ للناس أديانهم وأبدانهم وأرواحهم وأعراضهم وعقولهم وأموالهم بما شرعه من الحدود والعقوبات التي تحقق الأمن العام والخاص، ومما يوضح ذلك قوله سبحانه وتعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (1) سورة المائدة \ \ 32، الآية.
وقوله سبحانه:
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (2) سورة المائدة \ 33.
وتطبيق ذلك كفيل بإشاعة الأمن والاطمئنان وردع من تسول له نفسه الإجرام والاعتداء على المسلمين في أنفسهم وممتلكاتهم، وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن حكم المحاربة في الأمصار وغيرها على السواء لقوله سبحانه:
{وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} (3) سورة البقرة \ 204، 205.
ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله في تفسيره، وقال أيضا: المحاربة هي المخالفة والمضادة، وهي صادقة على الكفر وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل، وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر \ اهـ. والله تعالى يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} (4) {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (5)
وقال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} (6) الأعراف \ \ 56.
__________
(1) سورة المائدة الآية 32
(2) سورة المائدة الآية 33
(3) سورة المائدة الآية 33
(4) سورة البقرة الآية 204
(5) سورة البقرة الآية 205
(6) سورة الأعراف الآية 56(24/385)
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض وما أضره بعد الإصلاح، فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد ثم وقع الإفساد بعد ذلك كان أضر ما يكون على العباد؛ فنهى تعالى عن ذلك اهـ.
وقال القرطبي: نهى سبحانه وتعالى عن كل فساد قل أو كثر بعد صلاح قل أو كثر، فهو على العموم على الصحيح من الأقوال اهـ. وبناء على ما تقدم، ولأن ما سبق أيضا حد يفوق أعمال المحاربين الذين لهم أهداف خاصة يطلبون حصولهم عليها من مال أو عرض، وهؤلاء هدفهم زعزعة الأمن وتقويض بناء الأمة واجتثاث عقيدتها، وتحويلها عن المنهج الرباني؛ فإن المجلس يقرر بالإجماع ما يلي:
أولا: من ثبت شرعا أنه قام بعمل من أعمال التخريب والإفساد في الأرض التي تزعزع الأمن بالاعتداء على الأنفس والممتلكات الخاصة أو العامة: كنسف المساكن أو المساجد أو المدارس أو المستشفيات والمصانع والجسور ومخازن الأسلحة والمياه والموارد العامة لبيت المال كأنابيب البترول، ونسف الطائرات أو خطفها ونحو ذلك؛ فإن عقوبته القتل لدلالة الآيات المتقدمة على أن مثل هذا الإفساد في الأرض يقتضي إهدار دم المفسد؛ ولأن خطر هؤلاء الذين يقومون بالأعمال التخريبية وضررهم أشد من خطر وضرر الذي يقطع الطريق فيعتدي على شخص فيقتله أو يأخذ ماله، وقد حكم الله عليه بما ذكر في آية الحرابة.
ثانيا: أنه لا بد قبل إيقاع العقوبة المشار إليها في الفقرة السابقة من استكمال الإجراءات الثبوتية اللازمة من جهة المحاكم الشرعية وهيئات التمييز ومجلس القضاء الأعلى براءة للذمة واحتياطا للأنفس، وإشعارا بما عليه هذه البلاد من التقيد بكافة الإجراءت اللازمة شرعا لثبوت الجرائم وتقرير عقابها.(24/386)
ثالثا: يرى المجلس إعلان هذه العقوبة عن طريق وسائل الإعلام، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.
مجلس هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة
عبد العزيز بن صالح
عبد الله خياط ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
سليمان بن عبيد ... محمد بن جبير ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
صالح بن غصون ... عبد المجيد حسن ... راشد بن خنين
عبد الله بن منيع ... صالح اللحيدان ... عبد الله بن غديان
حسن بن جعفر العتمي ... عبد الله البسام ... محمد بن صالح العثيمين
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ ... صالح الفوزان(24/387)
حديث شريف
" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح حريص، تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان (1) »
رواه البخاري
__________
(1) صحيح البخاري الوصايا (2748) ، صحيح مسلم الزكاة (1032) ، سنن النسائي الزكاة (2542) ، سنن أبو داود الوصايا (2865) ، مسند أحمد بن حنبل (2/250) .(24/388)