وقال سبحانه في سورة الأنعام: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) .
وقال في سورة الإسراء: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (2) .
وقال في سورة ص: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (3) .
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقال سبحانه في سورة النساء لما ذكر تفصيل الميراث: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (4) {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (5) .
وقال فيها أيضا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} (6) .
فأمر سبحانه في هذه الآية العظيمة بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد بين أهل العلم أن الرد إليه سبحانه هو الرد إلى كتابه الكريم، وأن الرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إليه في حياته وإلى سنته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته. وأخبر عز وجل أن هذا الرد خير للعباد في دنياهم وأخراهم وأحسن تأويلا أي عاقبة وبهذا يعلم أن الواجب على جميع أهل الإسلام أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل أمورهم وأن يردوا ما تنازعوا فيه إليهما وأن ذلك
__________
(1) سورة الأنعام الآية 155
(2) سورة الإسراء الآية 9
(3) سورة ص الآية 29
(4) سورة النساء الآية 13
(5) سورة النساء الآية 14
(6) سورة النساء الآية 59(21/15)
خير لهم وأحسن عاقبة في العاجل والآجل أما طاعة أولي الأمر فهي واجبة في المعروف كما صحت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الموضع من المواضع التي قيد فيها مطلق الكتاب بما صح في السنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه هو المبلغ عنه والدال على شريعته بأمره سبحانه، كما قال عز وجل في سورة النحل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1) .
وقال فيها سبحانه: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (2) وقال سبحانه في سورة النساء أيضا: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (3) .
وبين سبحانه في سورة الأعراف أن أنصاره وأتباعه هم المفلحون، وبين عز وجل أن الهداية معلقة بأتباعه صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (4) {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (5) .
وقال في سورة الأنفال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} (6) .
__________
(1) سورة النحل الآية 44
(2) سورة النحل الآية 64
(3) سورة النساء الآية 80
(4) سورة الأعراف الآية 157
(5) سورة الأعراف الآية 158
(6) سورة الأنفال الآية 20(21/16)
إلى أن قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (1) الآية.
وسبق أن هذه الآية العظيمة تدل على أن الحياة بالاستجابة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، وأن من لم يستجب لله ورسوله فهو من الأموات وإن كان حيا بين الناس حياة البهائم، وقال عز وجل في سورة النور: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِين} (2) .
فأبان سبحانه في هذه الآية الكريمة أن الهداية في طاعته واتباع ما جاء به، ولا شك أن طاعته صلى الله عليه وسلم طاعة لله عز وجل واتباع لكتابه العظيم كما قال سبحانه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (3) الآية.
وقال في آخر هذه السورة: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4) .
وهذا وعيد شديد لمن حاد عن أمره صلى الله عليه وسلم واتبع هواه، وقال في سورة الفتح: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} (5) وقال سبحانه في سورة الحشر: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (6) .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 24
(2) سورة النور الآية 54
(3) سورة النساء الآية 80
(4) سورة النور الآية 63
(5) سورة الفتح الآية 17
(6) سورة الحشر الآية 7(21/17)
والآيات في الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم واتباع كتاب الله عز وجل والاهتداء به كثيرة جدا وقد ذكرنا منها بحمد الله ما فيه الكفاية والمقنع لمن وفق لقبول الحق، وأما الأحاديث في ذلك فهي كثيرة أيضا، فنذكر منها ما تيسر، ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني (1) » والمراد بطاعة الأمير طاعته في المعروف كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن السنة يقيد مطلقها بمقيدها كما أن الكتاب العزيز يفسر المطلق فيه بالمقيد ويفسر مطلقه أيضا بمقيد السنة، كما سبق التنبيه على ذلك عند ذكر قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (2) الآية، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى (3) » .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والحاكم بإسناد صحيح عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه (4) » . وخرج أبو داود وابن ماجه بسند صحيح عن ابن أبي رافع عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه (5) » . وعن الحسن بن جابر قال: سمعت المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه يقول: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر أشياء ثم قال: «يوشك أحدكم أن يكذبني
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2957) ، صحيح مسلم الإمارة (1835) ، سنن النسائي الاستعاذة (5510) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2859) ، مسند أحمد بن حنبل (2/387) .
(2) سورة النساء الآية 59
(3) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) .
(4) سنن الترمذي العلم (2664) ، سنن أبو داود السنة (4604) ، سنن ابن ماجه المقدمة (12) .
(5) سنن الترمذي العلم (2663) ، سنن أبو داود السنة (4605) ، سنن ابن ماجه المقدمة (13) ، مسند أحمد بن حنبل (6/8) .(21/18)
وهو متكئ يحدث بحديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا إن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله (1) » . أخرجه الحاكم والترمذي وابن ماجه بإسناد صحيح وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه كان يوصي أصحابه في خطبته أن يبلغ شاهدهم غائبهم ويقول لهم: «رب مبلغ أوعى من سامع (2) » .
ومن ذلك ما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب الناس في حجة الوداع في يوم عرفة وفي يوم النحر قال لهم: «فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى له ممن سمعه (3) » . فلولا أن سنته حجة على من سمعها وعلى من بلغته، ولولا أنها باقية إلى يوم القيامة لم يأمرهم بتبليغها، فعلم بذلك أن الحجة بالسنة قائمة على من سمعها من فيه عليه الصلاة والسلام وعلى من نقلت إليه بالأسانيد الصحيحة.
وأسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وسائر المسلمين للتمسك بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والعمل بهما والتحاكم إليهما ورد ما تنازع فيه المسلمون إليهما وأن يوفق حكام المسلمين وقادتهم لاتباع كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والحكم بهما في جميع الشئون وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق وينصرهم على أعدائهم كما أسأله سبحانه أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويخذل أعداءه ويوفق المجاهدين في سبيله لما فيه رضاه ويجمع كلمتهم على الحق ويؤلف بين قلوبهم وينصرهم على أعدائهم أعداء الإسلام إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة
ورئيس المجلس الأعلى العالمي للمساجد. والرئيس العام لإدارات
البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2664) ، سنن ابن ماجه المقدمة (12) ، سنن الدارمي المقدمة (586) .
(2) سنن الترمذي كتاب العلم (2657) ، سنن ابن ماجه المقدمة (232) .
(3) صحيح البخاري الحج (1741) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، سنن ابن ماجه المقدمة (233) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37) ، سنن الدارمي المناسك (1916) .(21/19)
موضوع العدد
حكم دخول الكافر المساجد والاستعانة به في عمارتها
إعداد: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. .
فبناء على البرقية الخطية العاجلة رقم 5334 \ 4 \ 2 وتأريخ 29 \ 6 \ 1400هـ الواردة من وكيل وزارة الأشغال العامة بالنيابة والتي يطلب فيها موافاته إن كان هناك ما يمنع من الناحية الشرعية أن يقوم غير المسلمين بالاشتراك في تنفيذ مشاريع المساجد والإشراف عليها وبناء على موافقة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على عرض الموضوع على هيئة كبار العلماء في الدورة السادسة عشرة لما له من صفة العموم وذلك من اختصاص الهيئة.
ونظرا إلى الرغبة في اطلاع مجلس الهيئة على ما ذكره أهل العلم من حكم دخول الكافر المساجد والاستعانة به في عمارتها إلخ. .
جمعت اللجنة ما تيسر من النقول عن الجصاص ومحمد بن الحسن الشيباني والقرطبي وابن كثير وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والبرسوي ومحمد رشيد رضا وابن حزم والشوكاني وفي هذه النقول مذاهب الفقهاء وخاصة الأئمة الأربعة وأدلتهم وفيما يلي ذكر النقول مرتبة على حسب ترتيب الناقلين لها. . . وبالله التوفيق.
قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (1) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 28(21/20)
قال الجصاص: إطلاق اسم النجس على المشرك من جهة أن الشرك الذي يعتقده يجب اجتنابه كما يجب اجتناب النجاسات والأقذار فلذلك سماهم نجسا والنجاسة في الشرع تنصرف على وجهين: أحدهما: نجاسة الأعيان والآخر نجاسة الذنوب وكذلك الرجس والرجز ينصرف على هذين الوجهين في الشرع قال تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (1) ، وقال في وصف المنافقين: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ} (2) ، فسماهم رجسا كما سمى المشركين نجسا، وقد أفاد قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ} (3) وقوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (4) قد تنازع معناه أهل العلم، فقال مالك والشافعي: لا يدخل المشرك المسجد الحرام. قال مالك: ولا غيره من المساجد إلا لحاجة، من نحو الذي يدخل إلى الحاكم في المسجد للخصومة، وقال الشافعي: يدخل كل مسجد إلا المسجد الحرام خاصة، وقال أصحابنا: يجوز للذمي دخول سائر المساجد، وإنما معنى الآية على أحد وجهين؛ إما أن يكون النهي خاصا في المشركين الذين كانوا ممنوعين من دخول مكة وسائر المساجد لأنهم لم تكن لهم ذمة، وكان لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف وهم مشركو العرب، وأن يكون المراد منعهم من دخول مكة للحج ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء يوم النحر في السنة التي حج فيها أبو بكر فيما روى الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن أبا بكر بعثه فيمن يؤذن يوم النحر بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك فنبذ أبو بكر إلى الناس فلم يحج في العام الذي حج فيه النبي صلى الله عليه وسلم مشرك فأنزل الله تعالى في العام الذي نبذ فيه أبو بكر إلى المشركين
__________
(1) سورة المائدة الآية 90
(2) سورة التوبة الآية 95
(3) سورة التوبة الآية 28
(4) سورة التوبة الآية 28(21/21)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (1) الآية، وفي «حديث علي حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبلغ عنه سورة براءة نادى: ولا يحج بعد العام مشرك (2) » ، وفي ذلك دليل على المراد بقوله: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} (3) ويدل عليه قوله تعالى في نسق التلاوة: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} (4) وإنما كانت خشية العيلة لانقطاع تلك المواسم بمنعهم من الحج لأنهم كانوا ينفقون بالتجارات التي كانت تكون في مواسم الحج فدل ذلك على أن مراد الآية الحج، ويدل عليه اتفاق المسلمين على منع المشركين من الحج والوقوف بعرفة والمزدلفة وسائر أنفال الحج وإن لم يكن في المسجد، ولم يكن أهل الذمة ممنوعين من هذه المواضع، تثبت أن مراد الآية هو الحج دون قرب المسجد لغير الحج لأنه إذا حمل على ذلك كان عموما في سائر المشركين وإذا حمل على دخول المسجد كان خالصا في ذلك دون قرب المسجد، والذي في الآية: النهي عن قرب المسجد، فغير جائز تخصيص المسجد به دون ما يقرب منه
وقد روى حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص «أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم قبة في المسجد، فقالوا: يا رسول الله، قوم أنجاس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه ليس على الأرض من أنجاس الناس شيء، إنما أنجاس الناس على أنفسهم» . وروى يونس عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن أبا سفيان كان يدخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وهو كافر غير أن ذلك لا يحل في المسجد الحرام لقول الله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} (5)
قال أبو بكر: فأما وفد ثقيف فإنهم جاءوا بعد فتح مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والآية نزلت في السنة التي حج فيها أبو بكر وهي سنة تسع، فأنزلهم النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد وأخبر أن كونهم أنجاسا لا يمنع دخولهم المسجد وفي ذلك دلالة على أن نجاسة الكفر لا تمنع الكافر من دخول المسجد، وأما أبو سفيان فإنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم لتجديد الهدنة وذلك قبل الفتح، وكان أبو سفيان مشركا حينئذ والآية وإن
__________
(1) سورة التوبة الآية 28
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4655) ، صحيح مسلم الحج (1347) ، سنن النسائي مناسك الحج (2958) ، سنن أبو داود المناسك (1946) ، مسند أحمد بن حنبل (2/299) ، سنن الدارمي الصلاة (1430) .
(3) سورة التوبة الآية 28
(4) سورة التوبة الآية 28
(5) سورة التوبة الآية 28(21/22)
كان نزولها بعد ذلك فإنما اقتضت النهي عن قرب المسجد الحرام ولم تقتض المنع من دخول الكفار سائر المسجد، فإن قيل: لا يجوز للكافر دخول الحرم إلا أن يكون عبدا أو صبيا أو نحو ذلك لقوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} (1) ولما روى زيد بن يثيع عن علي رضي الله عنه أنه نادى بأمر النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الحرم مشرك» . قيل له: إن صح هذا اللفظ فالمراد أن لا يدخله للحج، وقد روي في أخبار عن علي أنه نادى أن لا يحج بعد العام مشرك وكذلك في حديث أبي هريرة، فثبت أن المراد دخول الحرم للحج وقد روى شريك عن أشعث عن الحسن عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقرب المشركون المسجد الحرام بعد عامهم هذا إلا أن يكون عبدا أو أمة لحاجة به» إذ لم يفرق أحد بين العبد والحر، وإنما خص العبد والأمة - والله أعلم - بالذكر لأنهما لا يدخلانه في ألاغلب الأعم للحج.
وقد حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني، قال: أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} (2) قال عطاء: المسجد الحرام الحرم كله، قال ابن جريج: وقال لي عمرو بن دينار مثل ذلك، قال أبو بكر: والحرم كله يعبر عنه بالمسجد إذا كانت حرمته متعلقة بالمسجد، وقال الله تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (3) والحرم كله مراد به، وكذلك قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (4) قد أريد به الحرم كله لأنه في أي الحرم نحر البدن أجزأه، فجائز على هذا أن يكون المراد بقوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} (5) الحرم كله للحج، إذ كان أكثر أفعال المناسك متعلقا بالحرم كله
__________
(1) سورة التوبة الآية 28
(2) سورة التوبة الآية 28
(3) سورة الحج الآية 25
(4) سورة الحج الآية 33
(5) سورة التوبة الآية 28(21/23)
في حكم المسجد لما وضعنا نعبر عن الحرم بالمسجد وعن الحج بالحرم، ويدل على أن المراد بالمسجد منها الحرم قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} (1) ومعلوم أن ذلك بالحديبية وهي على شفير الحرم، وذكر المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أن بعضها من الحل وبعضها من الحرم، فأطلق الله تعالى عليها أنها عند المسجد الحرام، وإنما هي عند الحرم، وإطلاقه تعالى اسم الجنس على المشركين يقتضي اجتنابهم وترك مخالطتهم إذا كانوا مأمورين باجتناب الأنجاس، وقوله تعالى: {بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (2) قال قتادة: ذكر أن المراد العام الذي حج فيه أبو بكر الصديق فتلا علي سورة براءة وهو لتسع مضين من الهجرة وكان بعده حجة الوداع سنة عشر (3) .
قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّه} (4) عمارة المسجد تكون بمعنيين أحدهما زيارته والسكون فيه، والآخر ببنائه وتجديد ما استرم منه وذلك لأنه يقال: اعتمر إذا زار، ومنه العمرة لأنها زيارة البيت وفلان من عمار المساجد إذا كان كثير المضي إليها والسكون فيها، وفلان يعمر مجلس فلان إذا أكثر غشيانه له، فاقتضت الآية منع الكفار من دخول المساجد ومن بنائها وتولي مصالحها والقيام بها لانتظام اللفظ للأمرين (5) .
3 - ذكر عن الزهري أن أبا سفيان بن حرب كان يدخل المسجد في الهدنة وهو كافر غير أن ذلك لا يحل في المسجد الحرام قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} (6) الآية.
__________
(1) سورة التوبة الآية 7
(2) سورة التوبة الآية 28
(3) أحكام القرآن للجصاص ج4 ص278، 279، 281 المتوفى سنة 370 هـ.
(4) سورة التوبة الآية 17
(5) أحكام القرآن للجصاص ج4 ص278، المتوفى سنة 370هـ
(6) سورة التوبة الآية 28(21/24)
والمراد بالهدنة الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة يوم الحديبية، وقد جاء أبو سفيان إلى المدينة لتجديد العهد بعدما نقضوا هم العهود وخشوا أن يغزوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل المسجد لذلك، فهذا دليل لنا على مالك رضي الله عنه فإنه يقول: لا يمكن المشرك من أن يدخل شيئا في المساجد، والدليل على ذلك «أن وفد ثقيف لما جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بأن يضرب لهم قبة في المسجد فقيل: هم أنجاس. قال: ليس على الأرض من نجاستهم شيء» .
ثم أخذ الشافعي رضي الله عنه بحديث الزهري فقال: يمنعون من دخول المسجد الحرام خاصة للآية. فأما عندنا فلا يمنعون من ذلك كما لا يمنعون من سائر المساجد ويستوي في ذلك الحربي والذمي، وتأويل الآية: الدخول على الوجه الذي كانوا اعتادوا في الجاهلية ما روي أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة.
والمراد القرب من حيث التدبير والقيام بعمارة المسجد الحرام وبه نقول: إن ذلك ليس إليهم ولا يمكنون منه بحال (1) .
4 - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (2)
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (3) ابتداء وخبر، واختلف العلماء في وصف المشرك بالنجس، فقال قتادة ومعمر بن راشد وغيرهما: لأنه جنب إذ غسله من الجنابة ليس بغسل. وقال ابن عباس وغيره: بل معنى الشرك هو الذي نجسه. قال الحسن البصري من صافح مشركا فليتوضأ. والمذهب كله على إيجاب الغسل على الكافر إذا أسلم إلا ابن عبد الحكم فإنه قال: ليس بواجب لأن الإسلام يهدم
__________
(1) شرح السير الكبير لمحمد بن الحسن الشيباني ج14 - 135
(2) سورة التوبة الآية 28
(3) سورة التوبة الآية 28(21/25)
ما كان قبله بوجوب الغسل عليه، قال أبو ثور وأحمد: وأسقطه الشافعي، وقال: أحب إلي أن يغتسل ونحوه لابن القاسم ولمالك قول: إنه لا يعرف الغسل، رواه عنه ابن وهب وابن أبي أوسي وحديث ثمامة وقيس بن عاصم يرد هذه الأقوال رواها أبو حاتم البستي في صحيح مسنده. وأن النبي صلى الله عليه وسلم «مر بثمامة يوما فأسلم، فبعث به إلى حائط أبي طلحة، فأمره أن يغتسل فاغتسل وصلى ركعتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حسن إسلام صاحبكم (1) » وأخرجه مسلم بمعناه، وفيه «أن ثمامة لما من عليه النبي صلى الله عليه وسلم انطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل (2) » ، وأمر قيس بن عاصم أن يغتسل بماء وسدر فإن كان إسلامه قبيل احتلامه فغسله مستحب، ومتى أسلم بعد بلوغه لزمه أن ينوي بغسل الجنابة، هذا قول علمائنا وهو تحصيل المذهب، وقد أجاز ابن القاسم للكافر أن يغتسل قبل إظهاره للشهادة بلسانه إذا اعتقد الإسلام بقلبه، وهو قول ضعيف في النظر مخالف للأثر، وذلك أن أحدا لا يكون بالنية مسلما دون القول، هذا قول جماعة أهل السنن في الإيمان: إنه قول باللسان وتصديق بالقلب ويذكر بالعمل قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (3) .
قوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} (4) {فَلَا يَقْرَبُوا} (5) نهي، ولذلك حذفت منه النون المسجد الحرام هذا اللفظ يطلق على جميع الحرم وهو مذهب عطاء، فإذن يحرم تمكين المشرك من دخول الحرم أجمع، فإذا جاءنا رسول منهم خرج الإمام إلى الحل ليسمع ما يقول ولو دخل مشرك الحرم مستورا لنبش قبره وأخرجت عظامه فليس لهم الاستيطان ولا الاجتياز، وأما جزيرة العرب وهي مكة والمدينة واليمامة واليمن ومخاليفها، فقال مالك: يخرج من هذه المواضع كل من كان
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/483) .
(2) صحيح البخاري الصلاة (462) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1764) ، سنن النسائي الطهارة (189) ، سنن أبو داود الجهاد (2679) ، مسند أحمد بن حنبل (2/452) .
(3) سورة فاطر الآية 10
(4) سورة التوبة الآية 28
(5) سورة التوبة الآية 28(21/26)
على غير الإسلام ولا يمنعون من التردد بها مسافرين، وكذلك قال الشافعي رحمه الله، غير أنه استثنى من ذلك اليمن، ويضرب لهم أجل ثلاثة أيام كما ضربه لهم عمر رضي الله عنه حين أجلاهم، ولا يدفنون فيها ويلجئون إلى الحل. انتهى.(21/27)
اختلف العلماء في دخول الكفار المساجد والمسجد الحرام على خمسة أقوال:
1 - فقال أهل المدينة: الآية عامة في سائر المشركين وسائر المساجد، وبذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله، ونزع في كتابه بهذه الآية، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (1) ودخول الكفار فيها مناقض لترفيعها، وفي صحيح مسلم وغيره: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والقذر (2) » الحديث.
والكافر لا يخلو عن ذلك. وقال صلى الله عليه وسلم: «لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب (3) » والكافر جنب. وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (4) فسماه الله تعالى نجسا، فلا يخلو أن يكون نجس العين أو مبعدا عن طريق الحكم. وأي ذلك كان فمنعه من المسجد واجب لأن العلة وهي النجاسة موجودة فيهم، والحرمة موجودة في المسجد يقال: رجل نجس، وامرأة نجس ورجلان نجس، وامرأتان نجس، ورجال نجس، ونساء نجس لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر، فأما النجس بكسر النون وجزم الجيم، فلا يقال إلا إذا قيل معه: رجس، فإذا أفرد قيل: نجس بفتح النون وكسر الجيم، ونجس بضم الجيم. وقال الشافعي رحمه الله: الآية عامة في سائر المشركين خاصة في المسجد الحرام ولا يمنعون من دخول غيره. فأباح دخول اليهودي والنصراني في سائر المساجد. قال ابن العربي: وهذا جمود منه على الظاهر
__________
(1) سورة النور الآية 36
(2) صحيح مسلم الطهارة (285) ، مسند أحمد بن حنبل (3/191) .
(3) سنن أبو داود الطهارة (232) .
(4) سورة التوبة الآية 28(21/27)
لأن قوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (1) تنبيه على العلة بالشرك والنجاسة، فإن قيل: فقد ربط النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة في المسجد وهو مشرك قيل له: أجاب علماؤنا عن هذا الحديث وإن كان صحيحا بأجوبة:
أحدها: أنه كان متقدما على نزول الآية.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد علم بإسلامه فلذلك ربطه.
الثالث: أن ذلك قضية عين فلا ينبغي أن تدفع بها الأدلة التي ذكرناها لكونها مقيدة حكم القاعدة الكلية وقد يمكن أن يقال: إنما ربطه في المسجد لينظر حسن صلاة المسلمين وإجماعهم عليها وحسن آدابهم في جلوسهم في المسجد فيستأنس بذلك ويسلم وكذلك كان.
ويمكن أن يقال: إنهم لم يكن لهم موضع يربطونه فيه إلا في المسجد، والله أعلم. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يمنع اليهود والنصارى من دخول المسجد الحرام ولا غيره، ولا يمنع دخول المسجد الحرام إلا المشركون وأهل الأوثان وهذا قول يرده كل ما ذكرناه من الآية وغيرها.
قال الكيا الطبري: ويجوز للذمي دخول سائر المساجد عند أبي حنيفة من غير حاجة، وقال الشافعي: تعتبر لحاجة. ومع الحاجة لا يجوز دخول المسجد الحرام. وقال عطاء بن أبي رباح: الحرم كله قبلة ومسجد، فينبغي أن يمنعوا من دخول الحرم لقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} (2) وإنما رفع من البيت أم هانئ وقال قتادة: لا يقرب المسجد الحرام مشرك إلا أن يكون صاحب جزية أو عبدا كافرا لمسلم، وروى إسماعيل بن إسحاق حدثنا يحيى بن عبد الحميد قال: حدثنا شريك، عن أشعث
__________
(1) سورة التوبة الآية 28
(2) سورة الإسراء الآية 1(21/28)
عن الحسن، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقرب المسجد مشرك إلا أن يكون عبدا أو أمة فيدخله لحاجة» وبهذا قال جابر بن عبد الله فإنه قال: العموم يمنع المشرك عن قربان المسجد الحرام وهو مخصوص في العبد والأمة (1) .
5 - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (2)
أمر الله تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينا وذاتا بنفي المشركين الذين هم نجس دينا عن المسجد الحرام وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الآية وكان نزولها في سنة تسع، ولقد «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا بصحبة أبي بكر رضي الله عنهما عامئذ وأمره أن ينادي في المشركين أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان (3) » ، فأتم الله ذلك وحكم به شرعا وقدرا وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (4) إلا أن يكون عبدا أو أحدا من أهل الذمة، وقد روي مرفوعا من وجه آخر فقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا شريك، عن الأشعث - يعني ابن سوار - عن الحسن عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل مساجدنا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد وخدمهم (5) » تفرد به الإمام أحمد مرفوعا والموقوف أصح إسنادا، وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي: كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين وأتبع نهيه قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (6)
وقال عطاء: الحرم كله مسجد لقوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (7) ودلت هذه الأية الكريمة على نجاسة المشرك
__________
(1) تفسير القرطبي ج8 ص103، 104، 105، 106 المتوفى سنة 671هـ
(2) سورة التوبة الآية 28
(3) صحيح البخاري تفسير القرآن (4655) ، صحيح مسلم الحج (1347) ، سنن النسائي مناسك الحج (2958) ، سنن أبو داود المناسك (1946) ، مسند أحمد بن حنبل (2/299) ، سنن الدارمي الصلاة (1430) .
(4) سورة التوبة الآية 28
(5) مسند أحمد بن حنبل (3/392) .
(6) سورة التوبة الآية 28
(7) سورة التوبة الآية 28(21/29)
كما ورد في الصحيح «المؤمن لا ينجس (1) » وأما نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم، وقال أشعث عن الحسن: من صافحهم فليتوضأ. رواه ابن جرير (2) .
6 - قال شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى ج22.
وأما إذا كان دخله ذمي لمصلحة فهذا فيه قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد رحمه الله، أحدهما: لا يجوز، وهو مذهب مالك لأن ذلك هو الذي استقر عليه عمل الصحابة. والثاني: يجوز وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وفي اشتراط إذن المسلم وجهان في مذهب أحمد وغيره (3) .
7 - قدوم وفد نجران على الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران بالمدينة، فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال: " لما قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلوا عليه مسجده بعد العصر، فحانت صلاتهم فقاموا يصلون في مسجده فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم فاستقبلوا الشرق فصلوا صلاتهم " (4) .
قال ابن القيم في زاد المعاد: إنه يؤخذ من هذه القصة أمور منها:
(1) جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين (5) .
8 - قال البرسوي في تفسيره المسمى بـ ((تفسير روح البيان)) .
قال الواحدي: دلت الآية على أن الكفار ممنوعون من عمارة مسجد
__________
(1) صحيح البخاري الغسل (285) ، صحيح مسلم الحيض (371) ، سنن الترمذي الطهارة (121) ، سنن النسائي الطهارة (269) ، سنن أبو داود الطهارة (231) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (534) ، مسند أحمد بن حنبل (2/235) .
(2) تفسير ابن كثير ج2 ص346، المتوفى سنة 774 هـ.
(3) الفتاوى لشيخ الإسلام ج22 ص194
(4) زاد المعاد ج3 ص79، 80، 87، لابن قيم الجوزية المتوفى سنة 752 هـ.
(5) زاد المعاد ج3 ص79، 80، 87، لابن قيم الجوزية المتوفى سنة 752 هـ.(21/30)
المسلمين. ويمنع من دخول المساجد فإن دخل بغير إذن مسلم استحق التعزير وإن دخل بإذنه لم يعزر، والأولى تعظيم المساجد ومنعها منهم (1) .
والآية هي قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (2) .
وقال البرسوي واعلم أن عمارة المساجد تعم أنواعا منها البناء وتجديد ما تهدم منها (3) . .
9 - قال رضا في تفسير المنار: وقد اختلف الفقهاء في دخول غير المشركين من الكفار المسجد الحرام وغيره من المساجد وبلاد الإسلام وقد لخص أقوالهم البغوي في تفسير الآية ونقله عنه الخازن ببعض تصرف وبغير عزو، فقال: وجملة بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام:
أحدها: الحرم فلا يجوز لكافر أن يدخله بحال ذميا كان أو مستأمنا لظاهر هذه الآية، وبه قال الشافعي وأحمد ومالك، فلو جاء رسول من دار الكفر والإمام في الحرم فلا يأذن له في دخول الحرم، بل يخرج إليه بنفسه أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم، وجوز أبو حنيفة وأهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم.
الثاني: من بلاد الإسلام الحجاز وحده ما بين اليمامة واليمن ونجد والمدينة الشريفة قيل: نصفها تهامي ونصفها حجازي، وقيل: كلها حجازي، وقال الكلبي: حد الحجاز ما بين جبلي طيئ وطريق العراق، سمي الحجاز لأنه حجز بين تهامة ونجد، وقيل: لأنه حجز بين نجد والسراة وقيل: لأنه
__________
(1) تفسير البرسوي المسمى تفسير روح البيان ج3 ص398، المتوفى سنة 1137هـ
(2) سورة التوبة الآية 18
(3) تفسير البرسوي المسمى تفسير روح البيان ج3 ص398، المتوفى سنة 1137هـ(21/31)
حجز بين نجد وتهامة والشام. قال الحربي: وتبوك من الحجاز، فيجوز للكافر دخول أرض الحجاز بالإذن ولكن لا يقيمون فيها أكثر من مقام المسافر وهو ثلاثة أيام. روى مسلم عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلا أترك فيها إلا مسلما (1) » زاد فيه رواية لغير مسلم وأوصى فقال: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب (2) » فلم يتفرغ لذلك أبو بكر وأجلاهم عمر في خلافته وأجل لمن يقدم على تجارة ثلاثا.
عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب (3) » أخرجه مالك في الموطأ مرسلا. وروى مسلم، عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم (4) » . قال سعيد بن عبد العزيز: جزيرة العرب ما بين الوادي إلى أقصى اليمن إلى تخوم العراق إلى البحر. وقال غيره: حد جزيرة العرب من أقصى عدن إلى ريف العراق في الطول، ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام عرضا.
الثالث: سائر بلاد الإسلام فيجوز للكفار أن يقيم فيها بعهد أمان وذمة ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن المسلم.
وقد ذكرنا الأحاديث الصحيحة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج المشركين وأهل الكتاب من جزيرة العرب، وأن لا يبقى فيها دينان مع بيان حكمة ذلك في خاتمة الكلام على معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لليهود في السلم والحرب وإجلائهم من جواره في المدينة وإجلاء عمر ليهود خيبر وغيرهم ونصارى نجران عملا بوصيته في مرض موته صلى الله عليه وسلم (5) .
__________
(1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1767) ، سنن الترمذي السير (1607) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3030) ، مسند أحمد بن حنبل (1/29) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (3053) ، صحيح مسلم الوصية (1637) ، مسند أحمد بن حنبل (1/222) .
(3) موطأ مالك الجامع (1651) .
(4) صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2812) ، سنن الترمذي كتاب البر والصلة (1937) ، مسند أحمد بن حنبل (3/354) .
(5) تفسير المنار لمحمد رشيد رضا ج10 ص275، 276، 277(21/32)
10 - قال ابن حزم في المحلى:
ودخول المشركين في جميع المساجد جائز. حاشا حرم مكة كله، المسجد وغيره فلا يحل البتة أن يدخله كافر.
وهو قول الشافعي وأبي سليمان.
وقال أبو حنيفة: لا بأس أن يدخله اليهودي والنصراني ومنع منه سائر الأديان.
وكره مالك دخول أحد من الكفار في شيء من المساجد.
قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (1) الآية.
قال علي: فخص الله المسجد الحرام فلا يجوز تعديه إلى غيره بغير نص، وقد كان المحرم قبل بنيان المسجد وقد زيد فيه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا (2) » .
فصح أن حرم مكة هو المسجد الحرام.
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله، ثنا إبراهيم بن أحمد، ثنا الجريري، ثنا البخاري، ثنا عبد الله بن يوسف، ثنا الليث، ثنا سعيد بن أبي سعيد أنه سمع أبا هريرة قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت؟ ذكر الحديث.
وأنه عليه السلام أمر بإطلاقه في اليوم الثالث فانطلق إلى نخل قريب
__________
(1) سورة التوبة الآية 28
(2) سنن الترمذي الصلاة (317) ، سنن أبو داود الصلاة (492) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (745) .(21/33)
من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، يا محمد والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدين إلي (1) » . . . وذكر الحديث. فنص قول مالك.
وأما قول أبي حنيفة فإنه قال: إن الله تعالى قد فرق بين المشركين وسائر الكفار، فقال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} (2) .
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} (3) .
قال: والمشرك هو من جعل لله شريكا، لا من لم يجعل له شريكا. قال علي: لا صحة له غير ما ذكرنا.
فأما ما تعلق في الآيتين فلا صحة له فيهما لأن الله تعالى قال: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} (4) والرمان من الفاكهة.
وقال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} (5) وهما من الملائكة.
وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} (6) وهؤلاء من النبيين (7) .
__________
(1) صحيح البخاري الخصومات (2422) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1764) ، سنن النسائي المساجد (712) ، سنن أبو داود الجهاد (2679) ، مسند أحمد بن حنبل (2/452) .
(2) سورة البينة الآية 1
(3) سورة الحج الآية 17
(4) سورة الرحمن الآية 68
(5) سورة البقرة الآية 98
(6) سورة الأحزاب الآية 7
(7) ابن حزم المحلى جـ 4 ص245، 246، 247، المتوفى سنة 456هـ.(21/34)
11 - قوله: «إن المسلم لا ينجس (1) » تمسك بمفهومه بعض أهل الظاهر، وحكاه في البحر عن الهادي والقاسم والناصر ومالك، فقالوا: إن الكافر نجس عين، وقووا ذلك بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (2) وأجاب عن ذلك الجمهور بأن المراد فيه أن المسلم طاهر الأعضاء لاعتياده مجانبة النجاسة بخلاف المشرك لعدم تحفظه عن النجاسة وعن الآية بأن المراد أنهم نجس في الاعتقاد والاستقذار وحجتهم على صحة هذا التأويل أن الله أباح نساء أهل الكتاب، ومعلوم أن عرقهن لا يسلم منه من يضاجعهن ومع ذلك فلا يجب من غسل الكتابية إلا مثل ما يجب عليهم من غسل المسلمة، ومن جملة ما استدل به القائلون بنجاسة الكافر حديث إنزاله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف المسجد وتقريره لقول الصحابة: قوم أنجاس، لما رأوه أنزلهم المسجد، وقوله لأبي ثعلبة لما قال له: «يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم؟ قال: إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها (3) » وسيأتي في باب آنية الكفار.
وأجاب الجمهور عن حديث إنزال وفد ثقيف بأنه حجة عليهم لا لهم لأن قوله: «ليس على الأرض من أنجاس القوم شيء، إنما أنجاس القوم على أنفسهم» بعد قول الصحابة: قوم أنجاس صريح في نفي النجاسة الحسية التي هي محل نزاع، ودليل على أن المراد نجاسة الاعتقاد والاستقذار. وعن حديث أبي ثعلبة بأن الأمر بغسل الآنية ليس لكونها برطوباتهم بل لطبخهم الخنزير وشربهم الخمر فيما يدل على ذلك ما عند أحمد وأبي داود من حديث أبي ثعلبة أيضا بلفظ: «إن أرضنا أرض أهل كتاب، وإنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر، فكيف نصنع بآنيتهم وقدورهم (4) » ؟ وسيأتي.
ومن أجوبة الجمهور عن الآية ومفهوم حديث الباب بأن ذلك تنفير عن الكفار وإهانة لهم، وهذا وإن كان مجازا فقرينته ما ثبت في الصحيحين
__________
(1) صحيح البخاري الغسل (283) ، صحيح مسلم الحيض (371) ، سنن الترمذي الطهارة (121) ، سنن النسائي الطهارة (269) ، سنن أبو داود الطهارة (231) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (534) ، مسند أحمد بن حنبل (2/235) .
(2) سورة التوبة الآية 28
(3) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5478) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1930) ، سنن الترمذي الأطعمة (1797) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4266) ، سنن أبو داود الأطعمة (3839) ، سنن ابن ماجه الصيد (3207) ، مسند أحمد بن حنبل (4/193) ، سنن الدارمي السير (2499) .
(4) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5488) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1930) ، سنن الترمذي الأطعمة (1797) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4266) ، سنن أبو داود الأطعمة (3839) ، سنن ابن ماجه الصيد (3207) ، مسند أحمد بن حنبل (4/194) ، سنن الدارمي السير (2499) .(21/35)
من أنه صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة، وربط ثمامة بن أثال وهو مشرك بسارية من سواري المسجد وأكل من الشاة التي أهدتها له يهودية من خيبر وأكل من الجبن المجلوب من بلاد النصارى كما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر وأكل من خبز الشعير والإهالة لما دعاه إلى ذلك يهودي، وما سلف من مباشرة الكتابيات والإجماع على جواز مباشرة المسبية قبل إسلامها وتحليل طعام أهل الكتاب ونسائهم بآية المائدة، وهي آخر ما نزل وإطعامه صلى الله عليه وسلم وأصحابه للوفد من الكفار من دون غسل للآنية ولا أمر به ولم ينقل توقي رطوبات الكفار عن السلف الصالح، ولو توقوها لشاع، قال ابن عبد السلام: ليس من التقشف أن أشتري من سمن المسلم لا من سمن الكفار، لأن الصحابة لم يلتفتوا إلى ذلك وقد زعم المقبلي في المنار أن الاستدلال في الآية المذكورة على نجاسة الكافر وهم، لأنه حمل لكلام الله ورسوله على اصطلاح حادث، وبين النجس في اللغة وبين النجس في عرف المتشرعة عموم وخصوص من وجه، فالأعمال السيئة نجسة لغة لا عرفا، والخمر نجس عرفا، وهو أحد الأطيبين عند أهل اللغة، والعذرة نجس في العرفين، فلا دليل في الآنية انتهى. ولا يخفاك أن مجرد تخالف اللغة والاصطلاح في هذه الأفراد لا يستلزم عدم صحة الاستدلال بالآية على المطلوب والذي في كتب اللغة أن النجس ضد الطاهر. قال في القاموس: النجس بالفتح وبالكسر وبالتحريك وككتف وعضد ضد الطاهر انتهى (1) .
هذا ما تيسر إيراده من النقول. . . وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
__________
(1) نيل الأوطار للشوكاني ج1 ص25، 26، المتوفى سنة 1255هـ(21/36)
قرار رقم 28 وتاريخ 21 \ 10 \ 1400هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. . . وبعد:
ففي الدورة السادسة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الطائف ابتداء من الثاني عشر من شهر شوال حسب تقويم أم القرى عام 1400 هـ. حتى الحادي والعشرين منه، نظر المجلس في حكم دخول الكفار مساجد المسلمين والاستعانة بهم في عمارتها. . . بناء على البرقية الخطية الواردة لسماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من سعادة وكيل وزارة الأشغال العامة والإسكان لشئون الأشغال العامة بالنيابة برقم 5334 \ 2 وتاريخ 29 \ 6 \ 1400هـ ونصها ما يلي:
" نفيدكم أن أحد المقاولين قد تقدم إلينا لاعتماد المهندس المنفذ من قبله لأحد المساجد ونظرا لأن المهندس المذكور مسيحي الديانة، فإننا نأمل موافاتنا إن كان هناك ما يمنع من الناحية الشرعية أن يقوم غير المسلمين بالاشتراك في تنفيذ مشاريع المساجد والإشراف عليها " اهـ.
ولما اطلع المجلس على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الموضوع واستمع إلى كلام أهل العلم فيه رأى بالإجماع أنه لا ينبغي أن يتولى الكفار تعمير المساجد حيث يوجد من يقوم بذلك من المسلمين، وأن لا يستقدموا لهذا الغرض أو غيره تنفيذا لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم في أن لا يجتمع في الجزيرة دينان، وعملا بما يحفظ لهذه البلاد دينها وأمنها واستقرارها وإبعادا لها عن الخطر الذي أصاب البلدان المجاورة بسبب إقامة الكفار فيها وتوليهم لكثير من أمورها، ولأن الكفار لا يؤمنون من الغش عند تصميم مخططات المساجد أو تنفيذها فقد يصمموها على هيئة قريبة أو مشابهة لهيئة الكنائس كما حدث من(21/37)
بعضهم وقد يغشون كذلك في التنفيذ والبناء لأنهم أعداء لهذا الدين، ولمن يدين به من المسلمين.
ويوصي المجلس بأن ينبه على الجهات الحكومية في وزارة الأشغال ووزارة الحج والأوقاف وغيرها ممن يتولى عمارة المساجد والإشراف عليها أن تلاحظ ذلك بدقة وعناية وأن تشترط في كل العقود التي تبرمها لإقامة المساجد مع المقاولين أن لا يستعيوا في التصميم أو التنفيذ بأحد من غير المسلمين.
والله ولي التوفيق. . . وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة
عبد الرزاق عفيفي
عبد الله خياط ... عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
سليمان بن عبيد ... عبد العزيز بن صالح ... محمد بن علي الحركان
راشد بن خنين ... محمد بن جبير ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
عبد الله بن غديان ... صالح بن غصون ... عبد الحميد حسن
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن منيع ... صالح بن لحيدان(21/38)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث
العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة
واستفتاءات تهم المسلمين في شئونهم الدينية
والاجتماعية(21/39)
فتوى برقم 327 وتاريخ 21 \ 11 \ 1392هـ
السؤال الأول: ما حكم من صبغ لحيته بأشد صبغ أسود وهل يأثم من فعل ذلك أو لا وما الفرق بين حلقها وتسويدها؟
الجواب: تغيير الشيب بصبغ شعر الرأس واللحية بالحناء والكتم ونحوها جائز، وتغييره بالصبغ الأسود لا يجوز، وقد وردت بهذا الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «جيء بأبي قحافة يوم الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأن رأسه ثغامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به إلى بعض نسائه لتغيير هذا الشيب وجنبوه السواد (1) » رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وفي رواية لأحمد قال صلى الله عليه وسلم: «لو أقررت الشيخ في بيته لأتيناه تكرمة لأبي بكر (2) » . فأسلم ولحيته ورأسه كالثغامة بياضا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غيروهما وجنبوه السواد (3) » وقال صلى الله عليه وسلم: «إن أحسن ما غيرتم به هذا الشيب الحناء والكتم (4) » رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وصححه الترمذي، وأما الفرق بين حلق اللحية وصبغ شيبها فكلاهما وإن كان ممنوعا إلا أن حلق اللحية أشد منعا من صبغها بالسواد. .
السؤال الثاني: قرأت وسمعت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من استمع إلى قينة صب في أذنيه الآنك - أي الرصاص المذاب - يوم القيامة» . فهل هذا الحديث صحيح كما قرأت وسمعت حديث: «الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء العشب (5) »
__________
(1) صحيح مسلم اللباس والزينة (2102) ، سنن النسائي الزينة (5076) ، سنن أبو داود الترجل (4204) ، سنن ابن ماجه اللباس (3624) ، مسند أحمد بن حنبل (3/316) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/160) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (3/160) .
(4) سنن الترمذي اللباس (1753) ، سنن أبو داود الترجل (4205) ، سنن ابن ماجه اللباس (3622) .
(5) سنن أبو داود الأدب (4927) .(21/40)
فهل هذا الحديث صحيح؟ وما حكم من استمع لهذه الأغاني المشتملة على جميع أنواع الطرب إذا كان استماعها في غير منزله كالسيارات والمجالس التي لا يستطيع التحكم فيها؟
الجواب: الاستماع للصوت يتضمن معنى الميل له والإصغاء إليه فاستماع الأغاني فيه معنى الميل لها والإصغاء إليها أما السماع فقد يكون عن قصد وإصغاء فيسمى استماعا أيضا ويأخذ حكمه وقد يكون عن غير قصد ولا إصغاء للصوت فلا يسمى استماعا ولا يحكم له بحكمه وعلى ذلك فالاستماع إلى ما ذكر السائل من الأغاني المشتملة على جميع أنواع الطرب محرم على كل من أصغى إليها رجلا كان أم امرأة في بيته أو في غير بيته كالسيارات والمجالس العامة والخاصة لما له في ذلك من الاختيار والميل إلى المشاركة فيما حرمته الشريعة، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (1) .
وما ذكر السائل من الغناء هو من لهو الحديث فإنه فتنة للقلب يستهويه إلى الشر ويصرفه عن الخير ويضيع على الإنسان وقته دون جدوى، فيدخل في عموم لهو الحديث، ويدخل من غنى ومن استمع إلى تلك الأغاني في عموم من اشترى لهو الحديث ليصرف نفسه أو غيره عن سبيل الله، وقد نهى عن ذلك وتوعد من فعله بالعذاب المهين وكما دل القرآن بعمومه على تحريم الغناء والاستماع إليه دلت السنة عليه، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم
__________
(1) سورة لقمان الآية 6(21/41)
بسارحة يأتيهم - يعني الفقير - لحاجة فيقولون: ارجع إلينا غدا فيسلبهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة (1) » رواه البخاري وغيره من أئمة الحديث، المعازف اللهو وآلاته ومن ذلك الغناء والاستماع إليه، فذم رسول الله صلى الله عليه وسلم من يستحلون الزنا ولبس الحرير وشرب الخمر وآلات اللهو والاستماع لها،، وقرن المعازف بما قبلها من الكبائر، وتوعد في نهاية الحديث من فعل ذلك بالعذاب، فدل على تحريم العزف بآلات اللهو والاستماع إليها، أما السماع دون قصد ولا إصغاء كسماع من يمشي في الطريق غناء آلات اللهو في الدكاكين أو ما يمر به من السيارات ومن يأتيه وهو في بيته صوت الغناء من بيوت جيرانه دون أن يستهويه ذلك - فهذا مغلوب على أمره لا إثم عليه وعليه أن ينصح وينهى عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، ويسعى في التخلص مما يمكنه التخلص منه وسعه وفي حدود طاقته، فإن الله لا يكلف نفسا إلى وسعها
وقد جرى جماعة من العلماء على أن يستدلوا على مطلوبهم بالأدلة الصحيحة ثم يتبعوا ذلك بأحاديث فيها شيء من الضعف في سندها أو في وجه دلالتها على دعواهم وهذا لا يضرهم في ثبوت أصل مطلوبهم فإنهم ذكروا ذلك على سبيل الاستئناس والاستشهاد لا على سبيل الاحتجاج والاعتماد من ذلك ما يذكره بعض العلماء من الأحاديث في مقام تحريم الغناء والاستماع إليه بعد إثباته بالأدلة الصحيحة، فلا يضر الطعن فيما ذكر تبعا في ثبوت التحريم بما استدلوا به أولا وأصالة من الأدلة الصحيحة فمن ذلك ما رواه الحكيم الترمذي عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن يستمع الروحانيين في الجنة» والثاني ما رواه ابن عساكر عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من استمع إلى قينة صب في أذنيه الآنك يوم القيامة» وما رواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي عن ابن مسعود من
__________
(1) سنن أبو داود اللباس (4039) .(21/42)
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل (1) » وما رواه البيهقي عن جابر من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع (2) » . فهذه الأحاديث ضعيفة لكن لا يؤثر ضعفها في تحريم الغناء والاستماع إليه لثبوت التحريم بأدلة أخرى صحيحة من الكتاب والسنة، والله الموفق.
السؤال الثالث: لي أخ يملك أموالا كثيرة وقد جعل أمواله في عمائر ومحلات تجارية وأراضي وكلها تثمر، ونصحته بأن يخرج زكاة كل ما يملك أصل ماله وثمرته، فأخبرني أنه لا يجب عليه إلا زكاة الأجرة إذا حال عليها الحول دون أصل ماله، ولو وضع الأجرة كلما قبضها في عمارة لم تجب عليه الزكاة فيها ولا في أصلها إلا إذا دار الحول على الأجرة قبل أن يضعها في عمارة، ولأخي هذا نظراء يفعلون مثله، فهل يجيز الإسلام مثل هذا الفعل ولا يأثم الفاعل وما العقار الذي لا تجب الزكاة في أصله ولا ثمرته حتى يحول عليه الحول وهل له حد يقف عنده أو يستوي في ذلك القليل والكثير؟
الجواب: المال الذي يملكه الإنسان أنواع، فما كان منه نقودا وجبت فيه الزكاة إذا بلغ نصابا وحال عليه الحول، وما كان أرضا زراعية وجبت الزكاة في الحبوب والثمار يوم الحصاد، لا في نفس الأرض، وما كان منه أرضا تؤجر أو عمارة تؤجر وجبت الزكاة في أجرتها إذا حال عليها الحول لا في نفس الأرض أو العمارة، وما كان منه أرضا تؤجر أو عمائر تؤجر أو عروضا أخرى للتجارة وجبت الزكاة فيه إذا حال عليه الحول، وحول الربح فيها حول الأصل إذا كان الأصل نصابا، وما كان منه من بهيمة الأنعام - وجبت فيه الزكاة إذا بلغت نصابا وحال عليها الحول إذا كانت
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (4927) .
(2) سنن أبو داود الأدب (4927) .(21/43)
سائبة غالب الحول. وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(21/44)
فتوى برقم 515 وتاريخ 16 \ 7 \ 1393هـ
السؤال الأول: هل يجوز للرجل أن يجمع بين أكثر من أربع زوجات أو لا وما الدليل؟
الجواب: لا يجوز للرجل أن يجمع بين أكثر من أربع زوجات لقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (1) وهذا في لغة العرب نظير قولهم: سيروا مثنى وثلاث ورباع، بمعنى يسيروا صفوفا، في كل صف اثنان أو ثلاثة أو أربعة، وليس معناه في لغة العرب ولا في عرف الاستعمال أن يجتمع في الصف الواحد حين المسير تسعة منهم، فمعنى الآية: فإن خفتم ألا تعدلوا إذا تزوجتم باليتامى فاعدلوا عنهن إلى التزوج بغيرهن، ولمن أراد التعدد منكم أن يتزوج اثنتين أو ثلاثا أو أربعا، وحيث جعل الحد الأعلى في مقام الامتنان بالتعدد والترغيب في الصرف عن اليتامى إلى الزواج بغيرهن أربع
__________
(1) سورة النساء الآية 3(21/44)
زوجات دل ذلك على أنه لا يجوز الجمع بين ما زاد عليهن، وفي الحديث «أن قيس بن الحارث أسلم وتحته ثمان زوجات، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعا، ويفارق باقيهن (1) » ، رواه أبو داود وابن ماجه.
السؤال الثاني: هل يجوز الاسترقاق اليوم وليس فيه حروب شرعية، أو هذا خاص بزمن النبي صلى الله عليه وسلم لوجود الحروب الشرعية، وما الدليل؟
الجواب: لا شك أن الحروب التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الكفار كانت حروبا شرعية، وقد استرق بعض من أسر فيها من الكفار، وجرت حروب شرعية بين المسلمين والكفار زمن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم زمن القرون الثلاثة المشهود لها بالخير، وكان العمل عندهم في أسرى الكفار على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من المن على من أسر أو قبول الفداء أو الاسترقاق أو القتل حسب ما يراه الإمام مصلحة للمسلمين عملا بالقرآن، واتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل جرى العمل في الأسرى بعده على ما كان عليه في زمنه بإجماع الأئمة، فإن وجدت اليوم حروب شرعية بين المسلمين والكفار وكتب النصر فيها للمسلمين وأسروا بعض الكفار فلإمام المسلمين الحكم فيمن أسر بالمن أو بالفداء أو القتل أو الاسترقاق حسب ما يراه مصلحة للمسلمين عملا بالكتاب والسنة، وإن لم توجد حروب شرعية فلا يجوز إنشاء استرقاق وابتداؤه، أما من ثبت رقه من قبل في حرب شرعية واستمر رقه بالتوالد والتوارث فهو على رقه حتى تتاح له فرصة التحرير والله الموفق.
السؤال الثالث: هل شرب الدخان حرام أو لا، وما الدليل؟
الجواب: شرب الدخان حرام لأنه من الخبائث، وقد حرم الله ورسوله الخبائث، وقال تعالى في صفة النبي صلى الله عليه وسلم: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (2)
__________
(1) سنن أبو داود الطلاق (2241) ، سنن ابن ماجه النكاح (1952) .
(2) سورة الأعراف الآية 157(21/45)
ولما فيه من الضرر بالصحة وتلف المال، وقد جاءت الشريعة بوجوب حفظ الأبدان وحفظ الأموال وجعل العلماء قديما وحديثا حفظهما من الضروريات الخمس التي لا بد منها في حفظ كيان الأمة وقيام أمرها على وجه ينتظم به شأنها، وثبت في الحديث النهي عن إضاعة المال، ولا شك أن إنفاقه في شراء الدخان إنفاق فيما لا جدوى فيه، بل إنفاق له فيما فيه مضرة لشاربه وللمجتمع، فكان من إضاعة المال. والله الموفق.
السؤال الرابع: ما حكم كتابة آية من القرآن وتعليقها على العضد مثلا، أو محو هذه الكتابة بالماء ونحوه ورش البدن أو غسله بهذا الماء هل هو شرك أو لا، وهل يجوز أو لا؟
الجواب: كتابة آية من القرآن وتعليقها أو تعليق القرآن كله على العضد ونحوه، تحصينا من ضر يخشى منه أو رغبة في كشف ضر نزل، من المسائل التي اختلف السلف في حكمها، فمنهم من منع ذلك، وجعله من التمائم المنهي عن تعليقها، لدخوله في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك (1) » رواه أحمد وأبو داود، وقالوا: لا مخصص يخرج تعليق التميمة إذا كانت من القرآن، وقالوا أيضا: إن تعليق تميمة من القرآن يفضي إلى تعليق ما ليس من القرآن، فمنع تعليقه سدا لذريعة تعليق ما ليس منه، وقالوا ثالثا: إنه يغلب امتهان ما يعلق على الإنسان، بأنه يحمله حين قضاء حاجته واستنجائه وجماعه ونحو ذلك، ومن قال هذا القول عبد الله بن مسعود وتلاميذه وأحمد بن حنبل في رواية عنه اختارها كثير من أصحابه وجزم بها المتأخرون، ومن العلماء من أجاز تعليق التمائم
__________
(1) سنن أبو داود الطب (3883) ، سنن ابن ماجه الطب (3530) ، مسند أحمد بن حنبل (1/381) .(21/46)
التي من القرآن وأسماء الله وصفاته ورخص في ذلك، كعبد الله بن عمرو بن العاص، وبه قال أبو جعفر الباقر وأحمد في رواية أخرى عنه وحملوا حديث المنع على التمائم التي فيها شرك، والقول الأول أقوى حجة وأحفظ للعقيدة، لما فيه من حماية حمى التوحيد والاحيتاط له، وما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما إنما هو في تحفيظ أولاده القرآن وكتابته في الألواح، وتعليق هذه الألواح في رقاب الأولاد لا يقصد أن تكون تميمة يستدفع بها الضرر أو يجلب بها النفع وإنما علقها ليحفظوها، وأما إزالة هذه الكتابة بالماء ونحوه ورش البدن أو غسله بهذا الماء فلم يصح في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يكتب كلمات من القرآن والذكر، ويأمر بأن تسقى من به داء، ولكنه لم يصح ذلك عنه، وروى الإمام مالك في الموطأ «أن عامر بن ربيعة رأى سهل بن حنيف يغتسل، فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة، فلبط سهل، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: يا رسول الله، هل لك في سهل بن حنيف، والله ما يرفع رأسه، فقال: هل تتهمون له أحدا، قالوا: نتهم عامر بن ربيعة. فتغيظ عليه، وقال: علام يقتل أحدكم أخاه، ألا بركت، اغتسل له. فغسل عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح ثم صب عليه، فراح سهل مع الناس ليس به بأس (1) » . وفي رواية: «إن العين حق فتوضأ له (2) » فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس. وقد روى هذه القصة أيضا الإمام أحمد والطبراني، فمن أجل هذا توسع بعض العلماء فأجازوا كتابة القرآن والذكر، ومحوه ورش المريض أو غسله به إما قياسا على ما ورد في قصة سهل بن حنيف وإما عملا بما نقل عن ابن عباس من الأثر في ذلك، وإن كان الأثر ضعيفا، وقد ذكر جواز ذلك ابن تيمية في الجزء الثاني من مجموع الفتاوى وقال: نص أحمد وغيره على جوازه
__________
(1) سنن ابن ماجه الطب (3509) ، مسند أحمد بن حنبل (3/487) ، موطأ مالك الجامع (1747) .
(2) سنن ابن ماجه الطب (3509) ، مسند أحمد بن حنبل (3/486) ، موطأ مالك الجامع (1746) .(21/47)
وذكر ابن القيم في الطب النبوي من كتابه زاد المعاد أن جماعة من السلف أجازوا ذلك منهم ابن عباس ومجاهد وأبو قلابة، وعلى كل حال لا يعتبر مثل هذا العمل شركا، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(21/48)
فتوى برقم 1216 في عام 1396 هـ
السؤال: ما حكم اللحم الذي يوجد في الأسواق وقد ذبح في الخارج هل يجوز الأكل منه أو لا؟
الجواب: إن كان مذكي الأنعام أو الطيور غير كتابي ككفار روسيا وبلغاريا وما شابهها في الإلحاد ونبذ الديانات فلا تؤكل ذبيحته سواء ذكر اسم الله عليها أم لا؛ لأن الأصل حل ذبائح المسلمين فقط واستثنى ذبائح أهل الكتاب بالنص وإن كان من ذكاها من أهل الكتاب اليهود أو النصارى، فإن كانت تذكيته إياها بذبح رقبتها أو نحر في لبتها وهي حية وذكر اسم الله عليها أكلت اتفاقا، لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1) وإن لم يذكر اسم الله عليها عمدا ولا اسم غيره ففي جواز أكلها خلاف، وإن ذكر اسم غير الله عليها لم تؤكل وهي ميتة لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (2) وإن ضربها في رأسها بمسدس أو سلط عليها تيارا كهربائيا
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) سورة الأنعام الآية 121(21/48)
مثلا فماتت من ذلك فهي موقوذة، ولو قطع رقبتها بعد ذلك لأن التذكية لا تأثير لها في الميتة وقد حرمها الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ} (1) إلا إذا أدركت حية بعد ضرب رأسها مثلا وذكيت فتؤكل لقوله تعالى في آخر هذه الآية: {وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} (2) فاستثنى سبحانه من المحرمات ما ذكي منها إذا أدرك حيا، أما ما خنق منها حتى مات أو سلط عليه تيار كهربائي حتى مات فلا يؤكل بالاتفاق، وإن ذكر اسم الله عليه حين خنقه أو تسليط الكهرباء عليه أو عند أكله، أما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سموا الله وكلوا (3) » فإنه كان في ذبائح ذبحها قوم أسلموا، لكنهم حديثوا عهد بجاهلية ولم يعلم أذكروا اسم الله عليها أم لا، فأمر المسلمين الذين شكوا في تسمية هؤلاء على ذبائحهم أن يفعلوا ما عليهم وهي التسمية عند الأكل وأن يحملوا أمر هؤلاء الذابحين على ما عهد في المسلمين من التسمية عند الذبح.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. . .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة المائدة الآية 3
(3) صحيح البخاري البيوع (2057) ، سنن النسائي الضحايا (4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976) .(21/49)
فتوى برقم 1405 وتاريخ 7 \ 11 \ 1396هـ
السؤال: كلنا حريص على أن يقتدي بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقد أمرنا(21/49)
بإعفاء اللحى من الحلاقة، والسؤال هل قص الرسول صلى الله عليه وسلم لحيته وخففها بالطريقة التي نشاهد بها أغلب الملتحين؟
الجواب: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا قولية وفعلية، فثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر بإعفاء اللحى وتوفيرها وتركها وافية، فروى البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انهكوا الشوارب وأعفوا اللحى (1) » وفي رواية: «خالفوا المشركين وفروا اللحى وحفوا الشوارب (2) » وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس (3) » . ومعنى إعفاء اللحية تركها لا تقص حتى تعفو أي تكثر، هذا هديه في القول، أما هديه في الفعل فإنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أخذ من لحيته، وأما الحديث الذي أخرجه الترمذي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها (4) » ، فقد قال فيه الترمذي: هذا حديث غريب، انتهى كلام الترمذي وهذا الحديث في سنده عمر بن هارون وهو متروك كما قال الحافظ ابن حجر في التقريب، وبذلك يعلم أنه حديث لا يصح ولا تقوم به حجة في معارضة الأحاديث الصحيحة الدالة على وجوب إعفاء اللحى وتوفيرها وإرخائها، أما ما يفعله بعض الناس من حلق اللحية أو أخذ شيء من طولها وعرضها فإنه لا يجوز لمخالفة ذلك لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره بإعفائها والأمر يقتضي الوجوب حتى يوجد صارف لذلك عن أصله، ولا نعلم ما يصرفه عن ذلك.
وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. . .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5893) ، صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن النسائي الطهارة (15) ، سنن أبو داود الترجل (4199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/16) .
(2) صحيح البخاري اللباس (5892) ، صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن النسائي الطهارة (12) ، سنن أبو داود الترجل (4199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/118) .
(3) صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن النسائي الزينة (5224) ، سنن أبو داود الترجل (4199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/16) ، موطأ مالك الجامع (1764) .
(4) سنن الترمذي الأدب (2762) .(21/50)
فتوى برقم 1955 وتاريخ 6 \ 6 \ 1398هـ
السؤال: ما حكم من أتى كاهنا أو عرافا أو ساحرا لأجل العلاج أيا كان نوعه؟
الجواب: الذهاب إلى الكاهن والعراف لا يجوز وإن صدقهم كان أعظم إثما لقوله صلى الله عليه وسلم: «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما (1) » رواه مسلم ولما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في مسلم أيضا من حديث معاوية بن الحكم السلمي من النهي عن إتيان الكاهن، ولما روى أصحاب السنن والحاكم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (2) » ولأحاديث أخرى في هذا الباب.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/476) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .
(2) صحيح مسلم السلام (2230) ، مسند أحمد بن حنبل (4/68) .(21/51)
فتوى برقم 2037 وتاريخ 3 \ 8 \ 1398هـ
السؤال: ما حكم الدعاء بصورة جماعية بعد قراءة القرآن مباشرة، يدعو شخص والباقون يؤمنون على دعائه وهكذا في كل درس بدون انقطاع وعند تذكيرهم ومطالبتهم بالدليل استدلوا بقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (1) الآية.
__________
(1) سورة غافر الآية 60(21/51)
الجواب: الأصل في الأذكار والعبادات التوقيف وألا يعبد الله إلا بما شرع وكذلك إطلاقها أو توقيتها وبيان كيفياتها وتحديد عددها فيما شرعه الله من الأذكار والأدعية وسائر العبادات مطلقا عن التقييد بوقت أو عدد أو مكان أو كيفية لا يجوز لنا أن نلتزم فيه بكيفية أو وقت أو عدد بل نعبده به مطلقا كما ورد. وما ثبت بالأدلة القولية أو العملية تقييده بوقت أو عدد أو تحديد مكان له أو كيفية، عبدنا الله به على ما ثبت من الشرع له، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا أو تقريرا الدعاء الجماعي عقب الصلوات أو قراءة القرآن مباشرة أو عقب كل درس، سواء كان ذلك بدعاء الإمام وتأمين المأمومين على دعائه أم كان بدعائهم كلهم جماعة ولم يعرف ذلك أيضا عن الخلفاء الراشدين وسائر الصحابة رضي الله عنهم، فمن التزم بالدعاء الجماعي عقب الصلوات أو بعد كل قراءة للقرآن أو بعد كل درس فقد ابتدع في الدين وأحدث فيه ما ليس منه وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » وقال: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد (2) » .
وأما استدلال من ذكرتهم فأبوا بقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (3) الآية، فلا حجة لهم في ذلك لأنه استدلال بنص مطلق ليس فيه تعيين بالكيفية التي التزمها من سألت عن دعائهم والمطلق ينبغي أن يراعى في العمل به إطلاقه دون التزام بحالة خاصة ولو كان التزام كيفية معينة مشروعا لحافظ عليها النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده وقد تقدم أنه لم يثبت ذلك عنه ولا عن أصحابه رضي الله عنهم
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(3) سورة غافر الآية 60(21/52)
والخير كل الخير في اتباع هديه صلى الله عليه وسلم وهدي خلفائه الراشدين رضي الله عنهم، والشر كل الشر في مخالفة هديهم واتباع المحدثات التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (1) » وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (42) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(21/53)
فتوى برقم 2139 وتاريخ 16 \ 10 \ 1398هـ
السؤال: هل إعفاء اللحية وقص الشارب سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من المستحبات التي رغب فيها؟
الجواب: إعفاء الرجل لحيته واجب لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وحلقها حرام لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن حلقها وأمره بمخالفة المشركين في ذلك. والأصل في الأمر الوجوب، وفي النهي التحريم، وأما قص الشارب أو إحفاؤه فمن سنن الفطرة ولا يجوز للمسلم إطالته لقوله صلى الله عليه وسلم: «من لم يأخذ من شاربه فليس منا (1) » ولعموم الأحاديث الآمرة بالقص. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي الأدب (2761) ، سنن النسائي الزينة (5047) .(21/53)
فتوى برقم 2171 وتاريخ 28 \ 10 \ 1398هـ
السؤال الأول: شخص يقول: هل يجوز لنا الجمع بين الصلاتين ونحن مقيمون بالمدينة في حالة وجود حصص دراسية لا نستطيع الخروج منها، استنادا إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في المدينة جمعا من غير سفر ولا مطر ولا مرض أو يجب علينا ترك الحصة والخروج إلى الصلاة؟
الجواب: عليك أن تؤدي الصلوات الخمس المفروضة في أوقاتها، ولا تعتبر الدراسة عذرا لك يرخص لك من أجله في تأخير أي صلاة منها عن وقتها الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الحديث الذي أشرت إليه فعمل الرسول صلى الله عليه وسلم المتواتر المستمر على خلافه، فعليك أن تنسق بين دراستك وأداء الصلوات في أوقاتها.
السؤال الثاني: هل يجوز إبدال سيارتي القديمة بأخرى جديدة، وأدفع الفرق بين السيارتين لصاحب السيارة الجديدة، فالذي يحدث في هذه البلاد أن يذهب صاحب السيارة القديمة إلى شركة السيارات ويعلمهم برغبته، فيقدرون قيمة كل من السيارتين فيدفع الفرق ويأخذ الجديدة بدلا من سيارته، مع العلم بأنهم لا يشترون القديمة إلا إذا اشترى منهم الجديدة فهل هذا البيع صحيح أم لا؟
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكرت جاز لك أن تدفع سيارتك القديمة إلى الشركة مثلا لتأخذ بدلا منها سيارة جديدة وتدفع الفرق بين القيمتين، وليس هذا من باب بيعتين في بيعة بل هو بيع سيارة بأخرى مع المقاصة بين قيمتها وليس في ذلك ربا، لأن السيارات ليست من الأنواع الربوية.(21/54)
السؤال الثالث: يقول: ما الحكم في المسائل الخلافية، هل نتبع القول الأرجح والدليل الأقوى أو نتبع الأسهل والأيسر انطلاقا من مبدأ التيسير لا التعسير؟
الجواب: إذا كان في المسألة دليل شرعي بالتخيير كان المكلف في سعة فله أن يختار الأيسر، انطلاقا من مبدأ التيسير في الشريعة مثل الخصال الثلاث في كفارة اليمين، الإطعام والكسوة والعتق لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه (1) » ، أما إن كانت مجرد أقوال للمجتهدين فعليه أن يتبع القول الذي يشهد له الدليل أو الأرجح دليلا إن كان عنده معرفة بالأدلة صحة ودلالة، وإن كان لا خبرة له بذلك فعليه أن يسأل أهل العلم الموثوق بهم لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2) فإن اختلفوا عليه أخذ بالأحوط له في دينه وليس له أن يتبع الأسهل من أقوال العلماء فيعمل به، فإن تتبع الرخص لا يجوز.
السؤال الرابع: هل يعتبر باب الاجتهاد في الأحكام الإسلامية مفتوحا لكل إنسان، أو هناك شروط لا بد أن تتوفر في المجتهد، وهل يجوز لأي إنسان أن يفتي برأيه دون معرفته بالدليل الواضح، وما درجة الحديث القائل «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار (3) » أو ما في معناه.
الجواب: باب الاجتهاد في معرفة الأحكام الشرعية لا يزال مفتوحا لمن كان أهلا لذلك بأن يكون عالما بما يحتاجه في مسألته التي يجتهد فيها من الآيات والأحاديث قادرا على فهمها والاستدلال بهما على مطلوبه، عالما بدرجة ما يستدل به من الأحاديث وبمواضع الإجماع في المسائل
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3560) ، صحيح مسلم الفضائل (2327) ، سنن أبو داود الأدب (4785) ، مسند أحمد بن حنبل (6/130) ، موطأ مالك الجامع (1671) .
(2) سورة النحل الآية 43
(3) سنن الدارمي المقدمة (157) .(21/55)
التي يبحثها حتى لا يخرج على إجماع المسلمين في حكمه فيها، عارفا من اللغة العربية القدر الذي يتمكن به من فهم النصوص ليتأتى له الاستدلال بها والاستنباط منها وليس للإنسان أن يقول في الدين برأيه، أو يفتي الناس بغير علم، بل عليه أن يسترشد بالدليل الشرعي ثم بأقوال أهل العلم ونظرهم في الأدلة وطريقتهم في الاستدلال بها والاستنباط، ثم يتكلم أو يفتي بما اقتنع به ورضيه لنفسه دينا.
أما حديث: أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار. فقد رواه عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي في سننه عن عبد الله بن أبي جعفر المصري مرسلا.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(21/56)
فتوى برقم 2238 وتاريخ 18 \ 12 \ 1398هـ
السؤال الأول: شخص يقول: أدينا صلاة التراويح خلال شهر رمضان المبارك في أمريكا وحصل خلاف حول القراءة من المصحف الكريم حيث إن بعض الإخوان قالوا بأنه لا تجوز القراءة من المصحف في صلاة التراويح، وقال بعضهم: تجوز، نظرا لعدم وجود أحد من الإخوة هنا يحفظ القرآن الكريم كله.
الجواب: إذا كان الواقع لديكم كما ذكر جاز أن يقرأ إمامكم في التراويح من المصحف بل ذلك في مثل حالتكم مندوب إليه شرعا، لأن صلاة(21/56)
التراويح مرغب في تطويل القراءة فيها، ولا يتأتى ذلك لأمثالكم إلا بقراءة إمامكم في المصحف وقد روى أبو داود في كتاب المصاحف من طريق أيوب عن ابن أبي مليكة أن عائشة رضي الله عنها كان يؤمها غلامها ذكوان في المصحف، وقال ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة أنها أعتقت غلاما لها عن دبر، فكان يؤمها في رمضان من المصحف.
السؤال الثاني: في أول أيام عيد الفطر المبارك صلى بعض المسلمين في أمريكا صلاة العيد يوم الأحد عام 1398هـ حيث إن المملكة العربية السعودية والدول الإسلامية صلت العيد هذا اليوم، وبعض المسلمين هنا جعلوا العيد يوم الاثنين، وقالوا: لا نفطر إلا بمشاهدة الهلال، ولم ير الهلال هنا، ولذا أكملوا رمضان ثلاثين يوما، وصلوا العيد يوم الاثنين، فهل يجوز للمسلمين الذين أفطروا يوم الأحد ولم تقم صلاة العيد أن يصلوا العيد مع المسلمين الذين أفطروا يوم الاثنين أم لا؟
الجواب: يجب على المسلمين أن يتراءوا الهلال لبدء صيام رمضان ونهايته، وإن على أمثالكم من الجاليات الإسلامية التي تعيش في بلاد الكفار أن يتراءوا الهلال، فمن رأوه وجب عليهم أن يبلغوا قيادتهم المسئولة عنهم في تلك البلاد، ثم على هذه الجهة المسئولة عنهم أن تعمم على الجاليات هناك ثبوت رؤية الهلال ووجوب الصوم وبذلك يرتفع الخلاف في بدء رمضان ونهايته وفي يوم العيد، وإذا لم يروه فعلى القيادة المسئولة عنهم أو ما يسمى بالاتحاد أن يختار لهم أحد أمرين إما إكمال الشهر ثلاثين يوما، وإما العمل برؤية دولة من الدول الإسلامية التي رأت الهلال ويعمم ذلك على الجاليات لتعمل بما رآه، وبذلك يرتفع الخلاف أيضا.(21/57)
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(21/58)
فتوى برقم 2294 وتاريخ 22 \ 2 \ 1399هـ
السؤال: ما حكم الوقوف للداخل وتقبيله؟
الجواب: أولا: بالنسبة للوقوف للداخل فقد أجاب عنه شيخ الإسلام ابن تيمية إجابة مفصلة مبنية على الأدلة الشرعية رأينا ذكرها لوفائها بالمقصود قال: رحمه الله تعالى: ((لم تكن عادة السلف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أن يعتادوا القيام كلما يرونه عليه الصلاة والسلام كما يفعله كثير من الناس، بل قال أنس بن مالك: لم يكن شخص أحب إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلمون من كراهته لذلك. ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقيا له كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قام لعكرمة وقال للأنصار لما قدم سعد بن معاذ: «قوموا إلى سيدكم (1) » وكان قد قدم ليحكم في بني قريظة لأنهم نزلوا على حكمه.
والذي ينبغي للناس أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم خير القرون، وخير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يعدل أحد عن هدي خير الورى وهدي خير القرون إلى ما هو دونه. وينبغي للمطاع أن لا يقر ذلك مع أصحابه بحيث إذا رأوه لم يقوموا له إلا في اللقاء المعتاد.
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3043) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1768) ، سنن أبو داود الأدب (5215) ، مسند أحمد بن حنبل (3/22) .(21/58)
وأما القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقيا له فحسن، وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ولو ترك لاعتقد أن ذلك لترك حقه أو قصد خفضه ولم يعلم العادة الموافقة للسنة، فالأصلح أن يقام له لأن ذلك أصلح لذات البين وإزالة التباغض والشحناء، وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة فليس في ترك ذلك إيذاء له وليس هذا القيام المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار (1) » فإن ذلك أن يقوموا له وهو قاعد ليس هو أن يقوموا لمجيئه إذا جاء، ولهذا فرقوا بين أن يقال: قمت إليه وقمت له، والقائم للقادم ساواه في القيام بخلاف القائم للقاعد.
وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم قاعدا من مرضه صلوا قياما أمرهم بالقعود وقال: «لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضا (2) » وقد نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد لئلا يتشبه بالأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود.
وجماع ذلك كله الذي يصلح اتباع عادات السلف وأخلاقهم والاجتهاد عليه بحسب الإمكان. فمن لم يعتقد ذلك ولم يعرف أنه العادة وكان في ترك معاملته بما اعتاد من الناس من الاحترام مفسدة راجحة فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما كما يجب فعل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما. انتهى كلام شيخ الإسلام ومما يزيد ما ذكره إيضاحا ما ثبت في الصحيحين في قصة كعب بن مالك لما تاب الله عليه وعلى صاحبيه رضي الله عنهم جميعا، وفيه أن كعبا لما دخل المسجد قام إليه طلحة بن عبيد الله يهرول فسلم عيه وهنأه بالتوبة ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على جواز القيام لمقابلة الداخل ومصافحته والسلام عليه ومن ذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل على ابنته فاطمة قامت إليه وأخذته بيده وأجلسته مكانها وإذا دخلت عليه قام إليها وأخذ بيدها وأجلسها مكانه حسنه الترمذي.
__________
(1) سنن الترمذي الأدب (2755) ، سنن أبو داود الأدب (5229) ، مسند أحمد بن حنبل (4/100) .
(2) سنن أبو داود الأدب (5230) ، مسند أحمد بن حنبل (5/253) .(21/59)
ثانيا: وأما التقبيل فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على مشروعيته فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فأتاه فقرع الباب، فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم عريانا يجر ثوبه، وإني ما رأيته عريانا قبله ولا بعده فاعتنقه وقبله رواه الترمذي وقال: حديث حسن، ومعنى عريانا أي ليس عليه سوى الإزار فهذا الحديث يدل على مشروعية فعل ذلك مع القادم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قبل النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي، فقال الأقرع بن حابس: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من لا يرحم لا يرحم (1) » متفق عليه.
فهذا الحديث يدل على مشروعية التقبيل إذا كان من باب الشفقة والرحمة، وأما التقبيل عند اللقاء العادي فقد جاء ما يدل على عدم مشروعيته بل يكتفى بالمصافحة، فعن قتادة رضي الله عنه قال: «قلت لأنس: أكانت المصافحة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم (2) » . رواه البخاري، وعن أنس رضي الله عنه قال: «لما جاء أهل اليمن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد جاء أهل اليمن وهم أول من جاء بالمصافحة (3) » رواه أبو داود بإسناد صحيح.
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا (4) » رواه أبو داود ورواه أحمد والترمذي وصححه. وعن أنس رضي الله عنه قال: «قال رجل: يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه وصديقه أينحني له؟ قال: لا. قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا. قال: فيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم (5) » رواه الترمذي وقال: حديث حسن، كذا قال وإسناده ضعيف لأن فيه حنظلة السدوسي وهو ضعيف عند أهل العلم لكن لعل الترمذي حسنه لوجود ما يشهد له في الأحاديث الأخرى، وروى أحمد والنسائي والترمذي
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (5997) ، صحيح مسلم الفضائل (2318) ، سنن الترمذي البر والصلة (1911) ، سنن أبو داود الأدب (5218) ، مسند أحمد بن حنبل (2/514) .
(2) صحيح البخاري الاستئذان (6263) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2729) .
(3) سنن أبو داود الأدب (5213) ، مسند أحمد بن حنبل (3/212) .
(4) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2727) ، سنن أبو داود الأدب (5212) ، سنن ابن ماجه الأدب (3703) ، أحمد (4/289) .
(5) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2728) ، سنن ابن ماجه الأدب (3702) .(21/60)
وغيرهم بأسانيد صحيحة وصححه الترمذي عن صفوان بن عسال «أن يهوديين سألا النبي صلى الله عليه وسلم عن تسع آيات بينات فلما أجابهما عن سؤالهما قبلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبي (1) » . الحديث.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3144) ، سنن ابن ماجه الأدب (3705) .(21/61)
فتوى برقم 2450 وتاريخ 28 \ 5 \ 1399هـ
السؤال الأول: هناك أناس يذبحون على قبر من مات في بلادهم في الزمن القديم ويقولون بزعمهم: ولي الله فلان بن فلان، وقد يجعلون لهؤلاء نصيبا في مواشيهم وحرثهم قاصدين في ذلك التماس البركة وإبعاد البلاء عن عيالهم وما ينتفعون به في معيشتهم.
الجواب: الذبح عند القبور وتخصيص شيء من المواضع ليذبح عندها والمزروع ليطعم عندها من الأعمال التي حرمها الإسلام وتعتبر شركا أكبر إذا قصد بها التقرب إلى الولي أو غيره من المخلوقات رجاء جلب نفع أو دفع ضر أو رجاء شفاعته عند الله أو نحو ذلك مما يقصده عباد القبور.
السؤال الثاني: ما حكم السجود على المقابر والذبح عليها؟
الجواب: السجود على المقابر والذبح عليها وثنية جاهلية وشرك أكبر فإن كلا منهما عبادة، والعبادة لا تكون إلا لله وحده، فمن صرفها لغير الله فهو مشرك. قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163(21/61)
وقال الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (1) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (2) إلى غير هذا من الآيات الدالة على أن السجود والذبح عبادة وأن صرفهما لغير الله شرك أكبر. ولا شك أن قصد الإنسان إلى المقابر للسجود عليها أو الذبح عندها إنما هو لإعظامها وإجلالها بالسجود وبالقرابين التي تذبح أو تنحر عندها، وروى مسلم في حديث طويل في باب تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال فيه: «حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا، لعن الله من غير منار الأرض (3) » .
وروى أبو داود في سننه من طريق ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: «نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا. فقال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا في ما لا يملك ابن آدم (4) » . فدل ما ذكر على لعن من ذبح لغير الله وعلى تحريم الذبح في مكان يعظم فيه غير الله من وثن أو قبر أو مكان فيه اجتماع لأهل الجاهلية اعتادوه وإن قصد بذلك وجه الله. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الكوثر الآية 1
(2) سورة الكوثر الآية 2
(3) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .
(4) سنن أبو داود الأيمان والنذور (3313) .(21/62)
فتوى برقم 2742 وتاريخ 15 \ 12 \ 1399هـ
السؤال الأول: هل يجوز إخراج زكاة الحلي بمقدار القيمة التي اشترى بها الحلي أو لا بد من وزنه عند إخراج زكاته وتزكيته حسب قيمة وزنه؟
الجواب: لا تخرج زكاة الحلي حسب ثمن شرائه، بل يزكى حسب قيمة وزنه حينما يحول عليه الحول وتجب فيه الزكاة.
السؤال الثاني: كم نصاب الذهب وكم يساوي من الريالات السعودية؟ وكم نصاب الفضة، وكم يساوي من الريالات السعودية؟
الجواب: نصاب الذهب الذي تجب الزكاة فيه عشرون دينارا، ويساوي ذلك عشرين مثقالا ومقدار ذلك بالجنيه السعودي أحد عشر جنيها وثلاثة أسباع جنيه ونصاب الفضة الذي تجب فيه الزكاة مائتا درهم، ويساوي مائة وأربعين مثقالا ومقدارها بالريال السعودي الفضي 56 ريالا أو ما يعادلها من العملة الورقية.
السؤال الثالث: من أراد العمرة ولم يرد حينذاك حجا، مثلا اعتمر في رمضان، فهل عليه أن يطوف طواف الوداع أو لا؟
الجواب: من اعتمر فقط وأراد الخروج من مكة يسن له أن يطوف طواف الوداع إلا إذا كان خروجه من مكة عقب سعيه أو تأخر يسيرا بعد سعيه لها فيكفيه طواف عمرته عن طواف الوداع. سواء أراد الحج من عامه أم لم يرد.
السؤال الرابع: لقد بلغنا من بعض الناس أن الصور حرام وأن الملائكة لا تدخل البيت الذي توجد به الصور هل هذا صحيح وهل القصد من هذه الصورة المحرمة المصورة كهيئة الآدمي أو الحيوان يعني المجسمة(21/63)
أم هي تشمل جميع التصاوير كالصورة الموجودة في الحفيظة والموجودة في الفلوس إذا كان التحريم يشمل هذا كله فما هو الحل من إخلاء البيت من هذه كلها.
الجواب: نعم إن جميع صور جميع الأحياء من آدمي وحيوان سواء كانت مجسمة أم رسوما وألوانا في ورق ونحوه أم نسيجا في قماش أو صورا شمسية، وإن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة، لعموم الأحاديث الصحيحة التي دلت على ذلك ويرخص فيما دعت إليه الضرورة كصورالمجرمين والمشبوهين لضبطهم، والصور التي في جوازات السفر وحفائظ النفوس، ونرجو ألا تكون هذه وأمثالها مانعة من دخول الملائكة البيت لضرورة حفظها وحملها. والله المستعان وهكذا الصور التي تمتهن كالتي في الفراش والوسائط، ومن الأحاديث الواردة في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم (1) » رواه البخاري وروي أيضا عن أبي جحفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله ولعن المصور.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5181) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2107) ، مسند أحمد بن حنبل (6/246) ، موطأ مالك الجامع (1803) .(21/64)
فتوى برقم 3910 وتاريخ 4 \ 9 \ 1401هـ
السؤال: أفتى بعض المشايخ في بلدنا المسلمين بأن النساء لا تجوز صلاتهن في المسجد وأنهن نجسات لا يجوز لهن أن يدخلن المساجد. وقد أحدث هذا الأمر شقاقا بين المسلمين.
الجواب: الإنسان ليس بنجس ذكرا كان أم أنثى حيا كان أم ميتا فللمرأة(21/64)
أن تدخل المسجد إلا أن تكون جنبا أو حائضا فلا تدخل إلا إذا كانت عابرة سبيل مع التحفظ خشية سقوط دم بالمسجد لقوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (1) وقد كان نساء النبي صلى الله عليه وسلم يزرنه وهو معتكف بالمسجد، وقد كان بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم أمة تجمع قمامة المسجد وتنظفه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم الرجال عن منع النساء من الصلاة في المسجد فقال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله (2) » وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها (3) » رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وهذا بيان لموقفهن من صفوف الرجال بالمسجد في صلاة الجماعة.
وثبت عنه أيضا أنه قال: «إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن (4) » رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي. وقد صدرت فتوى من اللجنة الدائمة في صلاة المرأة مع الجماعة في المسجد هذا نصها: (يرخص للمرأة أن تأتي إلى المساجد لصلاة الجمعة ولأداء سائر الصلوات في الجماعة ولا يجوز لزوجها أن يمنعها من ذلك وصلاتها في بيتها أفضل، وعليها أن تراعي في ذلك آداب الإسلام فتلبس من اللباس ما يستر عورتها وتجتنب الملابس الشفافة والتي تحدد عورتها لضيقها ولا تتطيب لخروجها ولا تخالط الرجال في صفوفهم بل تصف خلف صفوفهم. فقد كان النساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرجن إلى المساجد متلفعات بمروطهن يصلين خلف الرجال، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله (5) » وقال: «خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها (6) » .
__________
(1) سورة النساء الآية 43
(2) صحيح البخاري الجمعة (900) ، صحيح مسلم الصلاة (442) ، سنن الترمذي الجمعة (570) ، سنن النسائي المساجد (706) ، سنن أبو داود الصلاة (568) ، سنن ابن ماجه المقدمة (16) ، مسند أحمد بن حنبل (2/16) ، سنن الدارمي المقدمة (442) .
(3) صحيح مسلم الصلاة (440) ، سنن الترمذي الصلاة (224) ، سنن النسائي الإمامة (820) ، سنن أبو داود الصلاة (678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1000) ، مسند أحمد بن حنبل (2/340) ، سنن الدارمي الصلاة (1268) .
(4) صحيح البخاري الأذان (865) ، صحيح مسلم الصلاة (442) ، سنن الترمذي الجمعة (570) ، سنن النسائي المساجد (706) ، سنن أبو داود الصلاة (568) ، سنن ابن ماجه المقدمة (16) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) ، سنن الدارمي المقدمة (442) .
(5) صحيح البخاري الجمعة (900) ، صحيح مسلم الصلاة (442) ، سنن الترمذي الجمعة (570) ، سنن النسائي المساجد (706) ، سنن أبو داود الصلاة (568) ، سنن ابن ماجه المقدمة (16) ، مسند أحمد بن حنبل (2/16) ، سنن الدارمي المقدمة (442) .
(6) صحيح مسلم الصلاة (440) ، سنن الترمذي الصلاة (224) ، سنن النسائي الإمامة (820) ، سنن أبو داود الصلاة (678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1000) ، مسند أحمد بن حنبل (2/340) ، سنن الدارمي الصلاة (1268) .(21/65)
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(21/66)
فتوى برقم 3969 وتاريخ 11 \ 10 \ 1401 هـ
السؤال: هل يحل للمؤمنين الموحدين ذبيحة النصرانيين الذين يعبدون الأصنام ويعظمونها ويركعون لها ويصورون صورة عيسى ومريم ويصورون الملائكة كجبريل وميكائيل بصورة النساء ويعبدونهم وتارة يعبدون الأحجار والأشجار ويقولون: نحن أهل كتاب وكتابنا إنجيل ويقولون عند ذبائحهم: باسم أب ولد منفس قودوس ومعناه أب أبو عيسى وولد عيسى ومنفس قودوس جبريل ونفسه وهم أهلوا عليه ثلاثة أسماء قال الله تعالى في تحريم ما ذكر عند ذبحه غير اسم الله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (1) وبين أن طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم أم يخص إحداها الأخرى؟ وهل يحل لنا نكاح نسائهم مع موافقتهم بجاهلية العرب قبل مبعث النبي بأقوالهم وأفعالهم ولا شبهة لهم بأهل كتاب إلا شرب الخمر ولدعواهم نحن أهل كتاب قال تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (2) وعن نافع أن ابن عمر كان إذا سئل عن
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة البقرة الآية 221(21/66)
نكاح النصرانية واليهودية قال: إن الله حرم المشركات على المؤمنين ولا أعلم من الإشراك شيئا أكبر من أن تقول المرأة ربها عيسى وهو عبد من عباد الله، وهذا في أهل الكتاب، وأما نساء الحبشيات النصرانيات عبدة وثن وأصنام وأحجار وأشجار. وهل تحل لنا ذبيحة الكهرباء؟
الجواب: كان اليهود يقولون: عزير ابن الله، والنصارى يقولون: المسيح ابن الله، ويقولون: إن الله ثالث ثلاثة، ويعبدون غير الله والنبي محمد صلى الله عليه وسلم حي آن ذاك والقرآن ينزل عليه من الله وهو سبحانه عليم بذلك منهم، ومع ذلك أباح ذبائحهم للمسلمين إذا ذكروا اسم الله عليها وأباح الحرائر العفيفات منهن للمسلمين بقوله سبحانه: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} (1) وذلك في سورة المائدة التي هي من آخر سور القرآن نزولا وفيها نفسها ذكر الله تعالى قول النصارى: المسيح ابن الله وعبادتهم غير الله وقد أكل النبي صلى الله عليه وسلم من ذبائح اليهود وهم يقولون: عزير ابن الله.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 5(21/67)
فتوى برقم 4009 وتاريخ 20 \ 10 \ 1401هـ
السؤال: جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم «أن المرأة إذا بلغت المحيض لا يجوز أن يظهر منها إلا الكفان والوجه (1) » فهذا هو الحجاب فهل هناك أحاديث تدل على النقاب؟
الجواب: هذا الحديث رواه أبو داود في باب فيما تبدي المرأة من زينتها من سننه، قال: حدثنا يعقوب بن كعب الأنطاكي ومؤمل بن الفضل الحراني، قالا: حدثنا الوليد، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن خالد قال يعقوب بن دريك عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا (2) » وأشار إلى وجهه وكفيه، وهو حديث مرسل لأن خالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي الله عنها، وفي سنده سعيد بن بشير الأزدي ويقال: البصري أيضا لأن أصله من البصرة وثقه بعض علماء الحديث وضعفه أحمد وابن معين وابن المديني والنسائي والحاكم أبو أحمد وأبو داود، وقال محمد بن عبد الله بن نمير: منكر الحديث ليس بشيء، وليس بقوي الحديث، يروي عن قتادة المنكرات، وقال ابن حبان: كان رديء الحفظ فاحش الغلط يروي عن قتادة ما لا يتابع عليه، وقال الساجي: حدث عن قتادة بمناكير، وقد روى هذا الحديث عن قتادة ثم إن قتادة مدلس، وقد روي هذا الحديث عن خالد بن دريك يعني وفيه الوليد وهو ابن مسلم، وكان يدلس تدليس التسوية، وكان رفاعا وبذلك يتضح ضعف هذا الحديث من وجوه.
__________
(1) سنن أبو داود اللباس (4104) .
(2) سنن أبو داود اللباس (4104) .(21/68)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(21/69)
فتوى برقم 4039 وتاريخ 23 \ 10 \ 1401هـ
السؤال: يوجد في بعض الأماكن مسابح خاصة بالنساء وكذلك للرجال وكلاهما منفصل عن الآخر وحيث إن المرأة في هذه الحالة لا تخلو من أن ترتدي بعض الملابس القصيرة والتي لا تستر إلا العورة ((السوءتين)) وهي مع عدد من النساء على هذا الحال حيث ترى من زميلاتها ما يرين منها، فما الحكم الشرعي في نظر المرأة إلى المرأة في هذه الحال وكذلك ما الحكم الشرعي بالنسبة للرجال؟
الجواب: الواجب على المرأة أن تستر ما بين السرة والركبة ويكون الساتر صفيقا لا شفافا واسعا لا ضيقا يصف حجم العورة وهذا إذا كانت بين النساء كما ذكر في السؤال وهكذا يجب على الرجل مع الرجال أن يستر ما بين السرة والركبة هذا هو الذي دلت عليه الأدلة الشرعية. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(21/69)
فتوى برقم 4088 وتاريخ 4 \ 11 \ 1401هـ
السؤال الأول: شخص يقول ما معنى القدر مع التفصيل الشامل؟
الجواب: معناه أن الله سبحانه وتعالى علم الأشياء كلها قبل وجودها وكتبها عنده وشاء ما وجد منها وخلق ما أراد خلقه وهذه هي مراتب القدر الأربع التي يجب الإيمان بها ولا يكون العبد مؤمنا بالقدر على الكمال حتى يكون مؤمنا بها كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أجاب جبريل لما سأله عن الإيمان قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره (1) » رواه مسلم في صحيحه. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت أنه قال لي: «إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيب (2) » . الحديث وقد أوضح هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الواسطية نوصيك بمراجعتها وحفظها.
السؤال الثاني: ما حكم من سهى في الصلاة؟ هل يطالب بصلاة أخرى أم سقط عنه الفرض؟
الجواب: إذا كان ما أسقطه من صلاته ركنا أو واجبا فإن صلاته تبطل بذلك إذا كان ذاكرا عامدا. أما إذا كان ناسيا فعليه سجود السهو عن ترك الواجب كالتشهد الأول وتسبيح الركوع والسجود وعليه أن يأتي بالركن الذي تركه سهوا وما بعده ويسجد للسهو قبل السلام أو بعده وفي ذلك تفصيل يعلم من الأحاديث الواردة في سجود السهو ومن كلام أهل العلم في باب سجود السهو.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/27) .
(2) سنن الترمذي القدر (2155) ، سنن أبو داود السنة (4700) .(21/70)
السؤال الثالث: يقول: ما حكم الصورة إجمالا؟ أي للضرورة وغير الضرورة.
الجواب: تصوير ذوات الأرواح حرام سواء كان فوتوغرافيا أو نقشا بيد أو آلة ونحو ذلك واقتناء الصور حرام وإذا اضطر الإنسان إلى شيء من ذلك بدون محض اختياره كأن تطلب منه صورة لجواز سفر أو لمنحه التابعية ونحوه جاز له ذلك مع كراهة قلبه للتصوير.
السؤال الرابع: يقول: إنني طالب بالمدينة وأردت العمرة فلم أجد سيارة إلى مكة مباشرة وإنما ذهبت إلى جدة أولا فأحرمت في جدة فما يجب علي؟ وهل يصح أن أحرم من جدة؟
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكرت من أنك أردت العمرة وأنت في المدينة وذهبت إلى جدة وأحرمت منها فقد أخطأت بتجاوزك لميقات أهل المدينة بدون إحرام وعليك أن تستغفر الله وألا تعود لمثلها وتجبر نقص إحرامك بتجاوزك الميقات بدون إحرام بذبح رأس من الغنم يجزئ في الأضحية في أي وقت في مكة المكرمة يوزع على فقراء الحرم ولا تأكل منه شيئا. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(21/71)
فتوى برقم 4137 وتاريخ 11 \ 11 \ 1401هـ
السؤال: ما هو حكم من يستهزئ بمن ترتدي الحجاب الشرعي وتغطي وجهها وكفيها؟
الجواب: من يستهزئ بالمسلمة أو المسلم من أجل تمسكه بالشريعة الإسلامية فهو كافر سواء كان ذلك في احتجاب المسلمة احتجابا شرعيا أم في غيره. لما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما «قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء. فقال رجل: كذبت ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن، فقال عبد الله بن عمر: وأنا رأيته متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (1) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} (2) » فجعل استهزاءه بالمؤمنين استهزاء بالله وآياته ورسوله.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة التوبة الآية 65
(2) سورة التوبة الآية 66(21/72)
فتوى برقم 4285 وتاريخ 1 \ 1 \ 1402هـ
السؤال الأول: شخص يقول: عندي ابنة تبلغ من العمر واحدا وعشرين عاما يوجد عندها أصبع سادس في اليد اليمنى وهذا الأصبع كامل بعظمه وأظافره وهي متضايقة منه جدا وتلح علي في استئصاله وقد حصل لها أن تملكت وطلقها الخاطب قبل الدخول بها وبعد الملاك علمنا أن الزوج عنده خبر بحالها وعلى ما يظهر لي أنها تخشى عزوف الزوج عنها لهذا السبب فهل يجوز لنا استئصاله إذا قرر الطبيب أن ما على صحتها خطر من ذلك؟
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكرت جاز استئصال الأصبع الزائد إذا أمن الخطر ولا حرج في ذلك.
السؤال الثاني: عندي قطعة أرض للتجارة وأقوم بدفع الزكاة عليها منذ اشتريتها منذ ثلاث سنوات ولكن اشتريت قطعتين من أراضي مدينة أخرى، واحدة للسكن والثانية سأعمرها للاستثمار من البنك حيث لا يوجد عندي نفقة البناء فأصبحت مطالبا بقيمة الأراضي التي في البلد الآخر علما بأن قيمتها أكثر من قيمة الأرض الأولى فهل أستمر في دفع زكاة قطعة الأرض الأولى أو تسقط عني حيث إنني مطالب بأكثر من قيمتها فما الحكم؟
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكرت فعليك أن تدفع زكاة الأرض الأولى ما دامت مقصودا بها التجارة حسب قيمتها وقت وجوب الزكاة كل سنة ولا يمنع الدين الزكاة كل سنة ولا يمنع الدين الزكاة في الأرض المذكورة.
السؤال الثالث: دخل رجل الصلاة فوجد مجموعة من الشباب أكبرهم(21/73)
يبلغ من العمر اثنتي عشرة سنة فهل تصح إمامة هذا الشاب الذي يبلغ من عمره اثنتي عشرة سنة؟
الجواب: تصح إمامة الصبي الذي يعقل الصلاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله (1) » الحديث، ولما ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن سلمة الجرمي قال: قدم أبي من عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا حضرت الصلاة فليؤمكم أكثركم قرآنا قال: فنظروا فلم يجدوا أحدا أكثر مني قرآنا فقدموني، وأنا ابن ست أو سبع سنين (2) » . وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (673) ، سنن الترمذي الصلاة (235) ، سنن النسائي الإمامة (780) ، سنن أبو داود الصلاة (582) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (980) ، مسند أحمد بن حنبل (4/121) .
(2) صحيح البخاري المغازي (4302) ، سنن النسائي الأذان (636) ، سنن أبو داود الصلاة (585) ، مسند أحمد بن حنبل (5/30) .(21/74)
فتوى برقم 4381 وتاريخ 24 \ 2 \ 1402هـ
السؤال: هل يجوز حلق اللحية إذا كان الرجل يعتقل ويسجن بسببها، أم لا؟
الجواب: إعفاء اللحية واجب وحلقها حرام كما هو معروف من الأحاديث النبوية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز للمسلم أن يحلقها لمجرد القول بأن من يعفيها متطرف أو متعصب أو الخوف من اعتقاله أو القبض عليه وليس القبض على المسلم لمجرد إعفائه للحيته فإذا حلقها فهو آثم لكن إن قدر أنه قبض عليه وحلقت لحيته دون اختياره فلا إثم عليه، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (2)
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 3(21/74)
ونسأل الله التوفيق والصواب في القول والعمل وفي الدعوة إلى الحق وطريقها السليم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(21/75)
فتوى برقم 4671 وتاريخ 26 \ 6 \ 1402هـ
السؤال الأول: أنا طالب في كلية الطب وفي السنة القادمة يكون مقررا علينا إن شاء الله مادة أمراض النساء والتوليد وعلى هذا أسأل في الآتي:
هل يجوز أن أحضر الدراسة العملية التي ربما ينكشف فيها جسد المرأة؟
وهل يجوز للطبيب أن يتخصص في طب النساء والتوليد أم يقتصر هذا على الطبيبات؟
وهل يجوز للمرأة المريضة بأي مرض غير أمراض النساء والتوليد أن تذهب لطبيب عيون أو أنف وأذن مثلا - علما بوجود طبيبات متخصصات في هذه الفروع؟
وهل يجوز للمرأة الطبيبة أن تكشف على الرجل المريض؟
الجواب: أ - ب: إذا كان هناك من يكفي من المتخصصات في طب النساء والولادة اقتصر عليهن ولم يجز لك أن تدرس فيه ولا أن تطلع على عورة المرأة بالتدريب في كشف عليها أو إجراء عملية لها وإن كان(21/75)
من تخصص في طب النساء والولادة من النساء غير كاف للقيام بالواجب في هذا الجانب ودعت حاجة المسلمين إلى تخصصك فيه جاز لك أن تدرس فيه، ورخص لك في رؤية ما تدعو الضرورة إلى كشفه من جسد المرأة لإجراء كشف أو عملية.
ج- إذا تيسر للمرأة أن يشخص مرضها ويعالجها طبيبة خبيرة في نوع مرضها لم يجز لها أن تكشف أو تعالج عند طبيب وإلا جاز لها ذلك.
د- يجوز لها أن تكشف وتعالج المريض من الرجال إذا دعت الحاجة إلى ذلك ولم يتيسر من يقوم بذلك من الرجال وإلا امتنع وتعين أن يتولى علاجه طبيب.
السؤال الثاني: هل يجوز للرجل أن ينظر إلى الأجنبية أكثر من نظر الفجأة وإذا كان لا يجوز فهل يجوز للطلاب الرجال أن يحضروا محاضرة تلقيها امرأة متبرجة أو تلبس ملابس لصيقة على جسمها بحجة التعليم؟
الجواب: لا يجوز له النظر إليها أكثر من نظر الفجأة إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك كما في حالة الإنقاذ من غرق أو حريق أو هدم أو نحو ذلك أو في حالة كشف طبي أو علاج مرض إذا لم يتيسر من يقوم بذلك من النساء. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(21/76)
فتوى برقم 5167 وتاريخ 2 \ 1 \ 1403هـ
السؤال: يقال: إن صوت المرأة عورة فهل هذا صحيح؟
الجواب: المرأة موضع قضاء وطر الرجال فهم يميلون إليها بدافع غريزة الشهوة فإذا تغنجت في كلامها زادت الفتنة ولذلك أمر الله المؤمنين إذا سألوا النساء حاجة أو متاعا أن يسألوهن من وراء حجاب فقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (1) ونهى النساء إذا خاطبن الرجال أن يخضعن بالقول لئلا يطمع الذي في قلبه مرض كما في قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} (2) .
فإذا كان هذا هو الشأن والمؤمنون في قوة إيمانهم وعزته فكيف بهذا الزمان الذي ضعف فيه الإيمان وقل التمسك بالدين فعليك الإقلال من مخالطة الرجال الأجانب وقلة التحدث معهم إلا في حاجة ضرورية مع عدم الخضوع واللين في القول للآية المذكورة.
وبهذا تعلمين أن الصوت المجرد والذي ليس معه خضوع ليس بعورة لأن النساء كن يكلمن النبي صلى الله عليه وسلم ويسألنه عن أمور دينهن وهكذا كن
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 53
(2) سورة الأحزاب الآية 32(21/77)
يكلمن الصحابة في حاجتهن، ولم ينكر ذلك عليهن. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(21/78)
فتوى برقم 5175 وتاريخ 7 \ 1 \ 1402هـ
السؤال: هل يجوز للرجل إذا فكر في الزواج من فتاة أن يطلع عليها أو على صورتها قبل العقد؟
الجواب: يشرع لمن أراد الزواج بامرأة أن ينظر إليها لما روى أحمد وأبو داود عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل (1) » . وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن أبو داود النكاح (2082) ، مسند أحمد بن حنبل (3/334) .(21/78)
فتوى برقم 6142 وتاريخ 10 \ 10 \ 1403هـ
السؤال: هل يجوز التصفيق من الرجل لمداعبة طفله أو أن يطلب من التلاميذ في الفصل التصفيق لتلميذ آخر وذلك لتشجيعه؟(21/78)
الجواب: لا ينبغي هذا التصفيق وأقل أحواله الكراهة الشديدة لكونه من خصال الجاهلية ولأنه أيضا من خصائص النساء للتنبيه في الصلاة عند السهو. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(21/79)
فتوى برقم 6245 وتاريخ 27 \ 10 \ 1403هـ
السؤال: شخص يقول: لم أجد في أسماء الله وصفاته اسم الموجود، وإنما وجدت اسم الواجد وعلمت في اللغة أن الموجود على وزن مفعول ولا بد أن يكون لكل موجود موجدا كما أن لكل مفعول فاعلا، ومحال أن يوجد لله موجد. ورأيت أن الواجد يشبه اسم الخالق، والموجود يشبه اسم المخلوق، وكما أن لكل موجود موجدا فلكل مخلوق خالقا - فهل لي بعد ذلك أن أصف الله بأنه موجود؟
الجواب: وجود الله معلوم من الدين بالضرورة وهو صفة لله بإجماع المسلمين، بل صفة لله عند جميع العقلاء حتى المشركين لا ينازع في ذلك إلا ملحد دهري ولا يلزم من إثبات الوجود صفة لله أن يكون له موجد لأن الوجود نوعان: الأول: وجود ذاتي وهو ما كان وجوده ثابتا له في نفسه لا مكسوبا له من غيره وهذا هو وجود الله سبحانه وصفاته.
فإن وجوده لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1)
__________
(1) سورة الحديد الآية 3(21/79)
الثاني: وجود حادث وهو ما كان حادثا بعد عدم فهذا الذي لا بد له من موجد يوجده وخالق يحدثه وهو الله سبحانه قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (1) {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (2) وقال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} (3) {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (4) وعلى هذا يوصف الله تعالى بأنه موجود ويخبر عنه بذلك في الكلام فيقال: الله موجود وليس الوجود اسما بل صفة. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الزمر الآية 62
(2) سورة الزمر الآية 63
(3) سورة الطور الآية 35
(4) سورة الطور الآية 36(21/80)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
أولا: مسائل في أهل الكتاب، ومن هم الخلفاء الراشدون؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد: فقد سألني بعض الإخوان عن أربع مسائل وهذا نص السؤال الأول والجواب:
الأولى: ما حكم ذبائح أهل الكتاب؟
الثانية: نكاح نسائهم؟
الثالثة: من هم أهل الكتاب؟
الرابعة: من هم الخلفاء الراشدون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وهذا نص الجواب. . والله الموفق سبحانه لا إله غيره ولا رب سواه وهو حسبنا ونعم الوكيل.
المسألة الأولى: ما حكم ذبائح أهل الكتاب؟
الجواب: حكمها الحل والإباحة بالإجماع ما لم تعلم أنها ذبحت على غير الوجه الشرعي كالخنق ونحوه لقول الله سبحانه: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (1) الآية من سورة المائدة قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية ما نصه: (لما ذكر تعالى ما حرمه على عباده المؤمنين من الخبائث
__________
(1) سورة المائدة الآية 5(21/81)
وما أحله لهم من الطيبات قال بعده: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (1) ثم ذكر حكم ذبائح أهل الكتابين من اليهود والنصارى فقال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (2) قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وعطاء والحسن ومكحول وإبراهيم النخعي والسدي ومقاتل بن حيان: يعني ذبائحهم وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء أن ذبائحهم حلال للمسلمين لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عنه تعالى وتقدس، وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: أدلي بجراب من شحم يوم خيبر فحضنته وقلت: لا أعطي اليوم من هذا أحدا، والتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يبتسم، فاستدل به الفقهاء على أنه يجوز تناول ما يحتاج إليه من الأطعمة ونحوها من الغنيمة قبل القسمة وهذا ظاهر واستدل به الفقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة على أصحاب مالك في منعهم أكل ما يعتقد اليهود تحريمه من ذبائحهم كالشحوم ونحوها مما حرم عليهم، فالمالكية لا يجوزون للمسلمين أكله لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (3) قالوا: وهذا ليس من طعامهم، واستدل عليهم الجمهور بهذا الحديث وفي ذلك نظر لأنه قضية عين، ويحتمل أن يكون شحما يعتقدون حله كشحم الظهر والحوايا ونحوهما والله أعلم، وأجود منه في الدلالة ما ثبت في الصحيح أن «أهل خيبر أهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مصلية وقد سموا ذراعها، وكان يعجبه الذراع، فتناوله فنهش منه نهشة فأخبره الذراع أنه مسموم، فلفظه وأثر ذلك في ثنايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبهره، وأكل معه منها بشر بن البراء بن معرور فمات، فقتل اليهودية التي سمتها وكان اسمها زينب، فقتلت ببشر بن البراء (4) » ، ووجه الدلالة منه أنه عزم على أكلها ومن معه ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أم لا، وفي الحديث الآخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي على خبز شعير وإهالة سنخة يعني ودكا زنخا انتهى
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) سورة المائدة الآية 5
(3) سورة المائدة الآية 5
(4) سنن أبو داود الديات (4510) ، سنن الدارمي كتاب المقدمة (68) .(21/82)
المقصود من كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله وفيه الدلالة على أن ذبائح أهل الكتاب حلال للمسلمين بالإجماع وهكذا شحم ذبائحهم وإن كان محرما عليهم فهو حل لنا للأحاديث المذكورة آنفا وهو قول جمهور أهل العلم خلافا لأصحاب مالك رحمهم الله جميعا.(21/83)
المسألة الثانية: ما حكم نكاح نسائهم؟
والجواب: حكم ذلك الحل والإباحة عند جمهور أهل العلم لقول الله سبحانه في الآية السابقة من سورة المائدة: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) والمحصنة هي الحرة العفيفة في أصح أقوال علماء التفسير، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية ما نصه.
وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} (2) أي وأحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات وذكر هذا توطئة لما بعده وهو قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (3) فقيل: أراد المحصنات الحرائر دون الإماء حكاه ابن جرير عن مجاهد وإنما قال مجاهد: المحصنات الحرائر، فيحتمل أن يكون أراد ما حكاه عنه، ويحتمل أن يكون أراد بالحرة العفيفة كما في الرواية الأخرى عنه وهو قول الجمهور هاهنا، وهو الأشبه لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل: حشف وسوء كيل، والظاهر من الآية أن المراد بالمحصنات العفيفات عن الزنا كما قال تعالى في الآية الآخرى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} (4)
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) سورة المائدة الآية 5
(3) سورة المائدة الآية 5
(4) سورة النساء الآية 25(21/83)
ثم اختلف المفسرون والعلماء في قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (1) هل يعم كل كتابية عفيفة سواء كانت حرة أو أمة حكاه ابن جرير عن طائفة من السلف ممن فسر المحصنة بالعفيفة، وقيل: المراد بأهل الكتاب هاهنا الإسرائيليات وهو مذهب الشافعي، وقيل: المراد بذلك الذميات دون الحربيات لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} (2) الآية، وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية ويقول: لا أعلم شركا أعظم من أن تقول: إن ربها عيسى، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (3) الآية، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن حاتم بن سليمان المؤدب، حدثنا القاسم بن مالك - يعني المزني - حدثنا إسماعيل بن سميع عن أبي مالك الغفاري قال: نزلت هذه الآية: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (4) قال: فحجز الناس عنهن حتى نزلت الآية التي بعدها: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (5) فنكح الناس نساء أهل الكتاب، وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى، ولم يروا بذلك بأسا أخذا بهذه الآية الكريمة: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (6) فجعلوا هذه مخصصة للتي في سورة البقرة: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (7) إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها، وإلا فلا معارضة بينها وبينها لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع كقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} (8) وكقوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} (9) الآية، انتهى المقصود من كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله.
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) سورة التوبة الآية 29
(3) سورة البقرة الآية 221
(4) سورة البقرة الآية 221
(5) سورة المائدة الآية 5
(6) سورة المائدة الآية 5
(7) سورة البقرة الآية 221
(8) سورة البينة الآية 1
(9) سورة آل عمران الآية 20(21/84)
وقال أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة الحنبلي رحمه الله في كتابه المغني ما نصه: ليس بين أهل العلم بحمد الله اختلاف في حل حرائر نساء أهل الكتاب، وممن روي عنه ذلك عمر وعثمان وطلحة وحذيفة وسلمان وجابر وغيرهم، قال ابن المنذر: ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك، وروى الخلال بإسناده أن حذيفة وطلحة والجارود بن المعلى وأذينة العبدي تزوجوا نساء من أهل الكتاب، وبه قال سائر أهل العلم، وحرمته الإمامية تمسكا بقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (1) ، {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} (2) ، ولنا قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (3) إلى قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (4) وإجماع الصحابة فأما قوله سبحانه: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} (5) فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نسخت بالآية التي في سورة المائدة، وكذلك ينبغي أن يكون ذلك في الآية الأخرى لأنهما متقدمتان، والآية التي في المائدة متأخرة عنهما.
وقال آخرون: ليس هذا نسخا فإن لفظ المشركين بإطلاقه لا يتناول أهل الكتاب بدليل قوله سبحانه: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} (6) وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} (7) وقال: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (8) وقال: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ} (9) وسائر القرآن يفصل بينهما فدل على أن لفظة
__________
(1) سورة البقرة الآية 221
(2) سورة الممتحنة الآية 10
(3) سورة المائدة الآية 5
(4) سورة المائدة الآية 5
(5) سورة البقرة الآية 221
(6) سورة البينة الآية 1
(7) سورة البينة الآية 6
(8) سورة المائدة الآية 82
(9) سورة البقرة الآية 105(21/85)
المشركين بإطلاقها غير متناولة لأهل الكتاب، وهذا معنى قول سعيد بن جبير وقتادة، ولأن ما احتجوا به عام في كل كافرة وأيقنا خاصة في حل أهل الكتاب، والخاص يجب تقديمه، إذا ثبت هذا فالأولى أن لا يتزوج كتابية لأن عمر رضي الله عنه قال للذين تزوجوا من نساء أهل الكتاب: طلقوهن. فطلقوهن إلا حذيفة، فقال له عمر: طلقها قال: تشهد أنها حرام؟ قال: هي خمرة طلقها. قال: تشهد أنها حرام؟ قال: هي خمرة. قال: قد علمت أنها خمرة ولكنها إلي حلال. فلما كان بعد طلقها، فقيل له: ألا طلقتها حين أمرك عمر. قال: كرهت أن يرى الناس أني ركبت أمرا لا ينبغي لي. ولأنه ربما مال إليها قلبه فتفتنه وربما كان بينهما ولد فيميل إليها انتهى كلام صاحب المغني رحمه الله.
والخلاصة مما ذكره الحافظ ابن كثير وصاحب المغني رحمة الله عليهما أنه لا تعارض بين قوله سبحانه في سورة البقرة: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (1) الآية وبين قوله عز وجل في سورة المائدة: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (2) الآية لوجهين أحدهما: أن أهل الكتاب غير داخلين في المشركين عند الإطلاق لأن الله سبحانه فصل بينهم في آيات كثيرات مثل قوله عز وجل: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} (3) الآية، وقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} (4) الآية، وقوله عز وجل: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} (5) الآية، إلى غير ذلك من الآيات المفرقة بين أهل الكتاب والمشركين وعلى هذا الوجه لا تكون المحصنات من أهل الكتاب داخلات في المشركات المنهي عن نكاحهن في سورة البقرة فلا يبقى بين
__________
(1) سورة البقرة الآية 221
(2) سورة المائدة الآية 5
(3) سورة البينة الآية 1
(4) سورة البينة الآية 6
(5) سورة البقرة الآية 105(21/86)
الآيتين تعارض، وهذا القول فيه نظر، والأقرب أن أهل الكتاب داخلون في المشركين والمشركات عند الإطلاق رجالهم ونساؤهم، لأنهم كفار مشركون بلا شك، ولهذا يمنعون من دخول المسجد الحرام لقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (1) الآية، ولو كان أهل الكتاب لا يدخلون في اسم المشركين عند الإطلاق لم تشملهم هذه الآية ولما ذكر سبحانه عقيدة اليهود والنصارى في سورة براءة قال بعد ذلك: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) فوصفهم جميعا بالشرك لأن اليهود قالوا: عزير ابن الله والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، ولأنهم جميعا اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وهذا كله من أقبح الشرك والآيات في هذا المعنى كثيرة والوجه الثاني أن آية المائدة مخصصة لآية البقرة والخاص يقضي على العام ويقدم عليه كما هو معروف في الأصول وهو مجمع عليه في الجملة، وهذا هو الصواب، وبذلك يتضح أن المحصنات من أهل الكتاب حل للمسلمين غير داخلات في المشركات المنهي عن نكاحهن عند جمهور أهل العلم بل هو كالإجماع منهم لما تقدم في كلام صاحب المغني، ولكن ترك نكاحهن والاستغناء عنهن بالمحصنات من المؤمنات أولى وأفضل لما جاء في ذلك عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابنه عبد الله وجماعة من السلف الصالح رضي الله عنهم. ولأن نكاح نساء أهل الكتاب فيه خطر ولا سيما في هذا العصر الذي استحكمت فيه غربة الإسلام وقل فيه الرجال الصالحون الفقهاء في الدين وكثر فيه الميل إلى النساء والسمع والطاعة لهن في كل شيء إلا ما شاء الله فيخشى على الزوج أن تجره زوجته الكتابية إلى دينها وأخلاقها
__________
(1) سورة التوبة الآية 28
(2) سورة التوبة الآية 31(21/87)
كما يخشى على أولادهما من ذلك والله المستعان فإن قيل: فما وجه الحكمة في إباحة المحصنات من أهل الكتاب للمسلمين وعدم إباحة المسلمات للرجال من أهل الكتاب، فالجواب عن ذلك والله أعلم أن يقال: إن المسلمين لما آمنوا بالله وبرسله وما أنزل عليهم ومن جملتهم موسى بن عمران وعيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام ومن جملة ما أنزل على الرسل التوراة المنزلة على موسى والإنجيل المنزل على عيسى لما آمن المسلمون بهذا كله أباح الله لهم نساء أهل الكتاب المحصنات فضلا منه عليهم وإكمالا لإحسانه إليهم، ولما كفر أهل الكتاب بمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من الكتاب العظيم وهو القرآن حرم الله عليهم نساء المسلمين حتى يؤمنوا بنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، فإذا آمنوا به حل لهم نساؤنا وصار لهم ما لنا وعليهم ما علينا، والله سبحانه هو الحكم العادل البصير بأحوال عباده العليم بما يصلحهم الحكيم في كل شيء تعالى وتقدس وتنزه عن قول الضالين والكافرين وسائر المشركين. وهناك حكمة أخرى وهي أن المرأة ضعيفة سريعة الانقياد للزوج فلو أبيحت المسلمة لرجال أهل الكتاب لأفضى بها ذلك غالبا إلى دين زوجها فاقتضت حكمة الله سبحانه تحريم ذلك.(21/88)
المسألة الثالثة: من هم أهل الكتاب؟
والجواب: هم اليهود والنصارى كما نص على ذلك علماء التفسير وغيرهم، أما المجوس فليسوا من أهل الكتاب عند الإطلاق ولكنهم يعاملون معاملتهم في أخذ الجزية منهم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذها منهم، أما نساؤهم وذبائحهم فحرام على المسلمين عند الأئمة الأربعة وغيرهم وهو كالإجماع من أهل العلم، وفي حلهما قول شاذ لا يعول عليه عند أهل العلم وممن نص على ما ذكرنا من العلماء أبو محمد بن قدامة رحمه الله في كتابه المغني(21/88)
قال ما نصه:
فصل: وأهل الكتاب الذين هذا حكمهم هم أهل التوراة والإنجيل قال الله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} (1) فأهل التوراة اليهود والسامرة وأهل الإنجيل والنصارى ومن وافقهم في أصل دينهم من الإفرنج والأرمن وغيرهم إلى أن قال رحمه الله: فصل وليس للمجوس كتاب ولا تحل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم نص عليه أحمد وهو قول عامة العلماء إلا أبا ثور، فإنه أباح ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب (2) » ولأنه روي أن حذيفة تزوج مجوسية ولأنهم يقرون بالجزية فأشبهوا اليهود والنصارى، ولنا قول الله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} (3) وقوله: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} (4) فرخص من ذلك في أهل الكتاب فمن عداهم يبقى على العموم ولم يثبت أن للمجوس كتابا وسئل أحمد أيصح عن علي أن للمجوس كتابا؟ فقال: هذا باطل، واستعظمه جدا ولو ثبت أن لهم كتابا فقد بينا أن حكم أهل الكتاب لا يثبت لغير أهل الكتابين، وقوله عليه السلام: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب (5) » دليل على أنه لا كتاب لهم وإنما أراد به النبي صلى الله عليه وسلم في حقن دمائهم وإقرارهم بالجزية لا غير وذلك أنهم لما كانت لهم شبهة كتاب غلب ذلك في تحريم دمائهم فيجب أن يغلب حكم التحريم لنسائهم وذبائحهم، فإننا إذا غلبنا الشبهة في التحريم فتغليب الدليل الذي عارضته الشبهة في التحريم أولى، ولم يثبت أن حذيفة تزوج مجوسية وضعف أحمد رواية من روى عن حذيفة أنه تزوج مجوسية، وقال أبو وائل: يقول: يهودية وهو أوثق ممن روى عنه أنه تزوج مجوسية، وقال ابن سيرين: كانت امرأة حذيفة نصرانية ومع تعارض الروايات لا يثبت حكم إحداهن إلا بترجيح على أنه لو ثبت ذلك عن حذيفة فلا يجوز الاحتجاج به مع مخالفة الكتاب وقول سائر العلماء وأما إقرارهم
__________
(1) سورة الأنعام الآية 156
(2) موطأ مالك الزكاة (617) .
(3) سورة البقرة الآية 221
(4) سورة الممتحنة الآية 10
(5) موطأ مالك الزكاة (617) .(21/89)
بالجزية فلأننا غلبنا حكم التحريم لدمائهم، فيجب أن يغلب حكم التحريم في ذبائحهم ونسائهم انتهى المقصود من كلام صاحب المغني رحمه الله والله أعلم.(21/90)
المسألة الرابعة: من هو الخليفة الأول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يتلوه بالتسلسل إلخ.
والجواب: قد أجمع أهل السنة والجماعة على أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعا وهذه مراتبهم في الفضل والخلافة، وقد فضل بعض أهل السنة عليا على عثمان رضي الله عنهما، ولكن جمهور أهل السنة قدموا عثمان على علي، لأن الصحابة رضي الله عنهم قدموه عليه في الخلافة، وجاءت آثار كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على ذلك، وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في عقيدته المشهورة التي نقل فيها عقيدة أهل السنة والجماعة ما نصه: ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان، ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا لأبي بكر الصديق رضي الله عنه تفضيلا له وتقديما على جميع الأمة، ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم لعثمان رضي الله عنه، ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون انتهى.
قال الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله في كتابه المسمى بالمقالات في حكاية مذهب أهل السنة والجماعة ما نصه: وجملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يردون من ذلك شيئا(21/90)
وأن الله إله واحد فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله تعالى على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) وأن له عينين بلا كيف كما قال سبحانه: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (2) وأن له يدين بلا كيف كما قال سبحانه: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (3) وأن له وجها جل ذكره كما قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (4) إلى أن قال رحمه الله: ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ويأخذون بفضائلهم ويمسكون عما شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم ويقدمون أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليا رضي الله تعالى عنهم ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون وأنهم أفضل الناس كلهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم انتهى المقصود من كلامه رحمه الله وبه يعلم أن أصحاب الحديث وأهل السنة جميعهم يقدمون أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليا، رضي الله عنهم جميعا في الفضل والخلافة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الواسطية التي ذكر فيها عقيدة أهل السنة والجماعة ما نصه: ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله بذلك في قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (5) ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة من فضائلهم ومراتبهم إلى أن قال رحمه الله: ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن غيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ويثلثون بعثمان ويربعون بعلي رضي الله عنهم كما دلت عليه الآثار
__________
(1) سورة طه الآية 5
(2) سورة القمر الآية 14
(3) سورة المائدة الآية 64
(4) سورة الرحمن الآية 27
(5) سورة الحشر الآية 10(21/91)
وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي رضي الله عنهما بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر أيهما أفضل فقدم قوم عثمان وسكتوا وربعوا بعلي، وقدم قوم عليا، وقوم توقفوا، لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي وإن كانت هذه المسألة - مسألة عثمان وعلي - ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة لكن التي يضلل فيها هي مسألة الخلافة وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله والنقول عن أهل السنة في هذا الباب كثيرة ونرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاية لطالب الحق.
وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا وأن يهدينا صراطه المستقيم إنه جواد كريم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(21/92)
ثانيا: (معنى لا إله إلا الله)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فقد اطلعت على الكلمة التي كتبها أخونا في الله العلامة الشيخ عمر بن أحمد المليباري في معنى لا إله إلا الله، وقد تأملت ما أوضحه فضيلته من أقوال الفرق الثلاث في معناها، وهذا بيانها:
الأول: أنه لا معبود بحق إلا الله.
الثاني: لا مطاع بحق إلا الله.
الثالث: لا رب إلا الله.
والصواب هو الأول كما أوضحه فضيلته، وهو الذي دل عليه كتاب الله سبحانه في مواضع من القرآن الكريم مثل قوله سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) [سورة الفاتحة الآية 5] .
وقوله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (2) ، وقوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (3) ، وقوله سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (4) .
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهو الذي فهمه المشركون من هذه الكلمة حين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إليها، وقال: «يا قومي قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا (5) » . فأنكروا ذلك، واستكبروا عن قبوله، لأنهم فهموا أن ذلك
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 5
(2) سورة الإسراء الآية 23
(3) سورة الذاريات الآية 56
(4) سورة الحج الآية 62
(5) مسند أحمد بن حنبل (3/492) .(21/93)
يخالف ما عليه آباؤهم من عبادة الأصنام والأشجار والأحجار، وتأليههم لها، كما ذكر الله ذلك عنهم عز وجل في قوله سبحانه في سورة ص: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} (1) {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (2) .
وقال سبحانه وتعالى في سورة الصافات عن المشركين: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (3) {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (4) فعلم من ذلك أنهم فهموا معناها بأنها تبطل آلهتهم وتوجب تخصيص العبادة لله وحده، ولهذا لما أسلم من أسلم منهم، ترك ما هو عليه من الشرك، وأخلص العبادة لله وحده، ولو كان معناها: لا رب إلا الله، أو لا مطاع إلا الله، لما أنكروا هذه الكلمة، فإنهم يعلمون أن الله ربهم وخالقهم، وأن طاعته واجبة عليهم فيما علموا أنه من عنده سبحانه، ولكنهم كانوا يعتقدون أن عبادة الأصنام والأنبياء والملائكة والصالحين والأشجار ونحو ذلك على وجه الاستشفاع بها إلى الله، ورجاء أن تقربهم إليه زلفى كما ذكر الله ذلك عنهم سبحانه في قوله الكريم: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (5) .
فأبطل الله ذلك ورده عليهم بقوله سبحانه: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (6) ، وفي قوله عز وجل: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (7)
__________
(1) سورة ص الآية 4
(2) سورة ص الآية 5
(3) سورة الصافات الآية 35
(4) سورة الصافات الآية 36
(5) سورة يونس الآية 18
(6) سورة يونس الآية 18
(7) سورة الزمر الآية 1(21/94)
{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (1) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (2) .
والمعنى أنهم يقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فرد الله عليهم ذلك بقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (3) .
فبين سبحانه بذلك أنهم كاذبون في زعمهم أن آلهتهم تقربهم إلى الله زلفى، كافرون بهذا العمل.
والآيات في هذا المعنى كثيرة، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) سورة الزمر الآية 2
(2) سورة الزمر الآية 3
(3) سورة الزمر الآية 3(21/95)
تحقيق الإسلام لأمن المجتمع
الدكتور: صالح بن فوزان
الحمد لله رب العالمين، جعل تحقيق الأمن مقرونا بالإيمان الخالص من الشرك فقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (1) والصلاة والسلام على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. . . وبعد:
فإن الأمن مطلب نبيل تهدف إليه المجتمعات البشرية، وتتسابق لتحقيقه السلطات الدولية بكل إمكانياتها الفكرية والمادية، وموضوع حديثنا الآن هو تحقيق الإسلام لأمن المجتمع، وقبل الدخول فيه نريد أن نعرف ما هو الإسلام وما هو الأمن حتى يتبين لنا وجه الارتباط بينهما:
فالإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك والبراءة من الشرك وأهله، وإذا تحقق الإسلام في المجتمع بهذا المعنى تحقق له الأمن.
والأمن في اللغة: ضد الخوف، وهو سكون القلب.
والأمانة: ضد الخيانة، وآمن به إيمانا: صدقه.
والإيمان: هو الثقة وإظهار الخضوع وقبول الشريعة، وأمن البلد
__________
(1) سورة الأنعام الآية 82(21/96)
اطمأن به أهله فهو آمن وأمين.
ولما كنا أيضا بصدد بيان تحقيق الإسلام لأمن المجتمع فلا بد أن نعرف ما كان عليه الناس عموما والعرب خصوصا قبل بعثة نبي الإسلام محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وما كان عليه الأمر بعد البعثة وظهور الإسلام، لأن الأشياء تعرف بأضدادها، وبضدها تتميز الأشياء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: اعلم أن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الخلق على فترة من الرسل وقد مقت أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ماتوا أو أكثرهم قبيل مبعثه، والناس إذ ذاك أحد رجلين؛ إما كتابي معتصم بكتاب، وإما مبدل وإما منسوخ، أو بدين دارس بعضه مجهول وبعضه متروك.
وإما أمي من عربي وعجمي مقبل على عبادة ما استحسنه وظن أنه ينفعه من نجم أو وثن أو قبر أو تمثال أو غير ذلك.
والناس في جاهلية جهلاء من مقالات يظنونها علما وهي جهل وأعمال يحسبونها صلاحا وهي فساد، وغاية البارع منهم علما وعملا أن يحصل قليلا من العلم الموروث عن الأنبياء المتقدمين، قد اشتبه عليهم حقه بباطله، أو يشتغل بعمل القليل منه مشروع وأكثره مبتدع لا يكاد يؤثر في صلاحه إلا قليلا أو أن يكدح بنظره كدح المتفلسفة فتذوب مهجته في الأمور الطبيعية والرياضية وإصلاح الأخلاق حتى يصل - إن وصل - بعد الجهد الذي لا يوصف إلى نزر قليل مضطرب لا يروي ولا يشفي من العلم الإلهي، باطله أضعاف حقه إن حصل، وأنى له ذلك مع كثرة الاختلاف بين أهله والاضطراب وتعذر الأدلة عليه، فهدى الله الناس ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من البينات والهدى هداية جلت عن وصف الواصفين وفاقت معرفة العارفين حتى حصل لأمته المؤمنين عموما ولأولي العلم منهم خصوصا من العلم النافع والعمل الصالح(21/97)
والأخلاق العظيمة، والسنن المستقيمة ما لو جمعت حكمة سائر الأمم علما وعملا الخالصة من كل شوب إلى الحكمة التي بعث بها لتفاوتا تفاوتا يمنع قدر النسبة بينهما. فلله الحمد كما يحب ربنا ويرضى. . . انتهى كلام الشيخ رحمه الله في وصف حال الجاهلية وهو وصف عام لكل الشعوب، وإذا أردنا تفصيله تطلب منا وقتا أوسع ولكن نخص حالة العرب في هذه الحقبة التاريخية لجزيرة العرب لأنها الموطن الذي ظهرت فيه الرسالة فنقول:(21/98)
1 - حالتهم الدينية:
كانت حالتهم الدينية من أسوأ الحالات وأشدها اضطرابا، فكانوا يعبدون الأوثان، وكان أقدم أوثانهم اللات في الطائف، والعزى بوادي نخلة، ومناة بين مكة والمدينة، وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها، بل كان لأهل كل دار بمكة صنم في دارهم يعبدونه، وإذا أراد أحدهم سفرا أو قدم منه تمسح به، بل كان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربا وجعل الثلاثة الباقية أثافي لقدره، وكانوا إذا لم يجدوا أحجارا يجمعون الرمل ثم يحلبون عليه الشاة ثم يطوفون به تبركا به وتعظيما له، وبلغ بهم الأمر أنهم يقتلون أولادهم تقربا إلى الأصنام ويسيبون كثيرا من أموالهم لها، كما قال الله تعالى عنهم: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} (1) .
2 - أما حالتهم السياسية:
فكانت أسوأ حالة أيضا حيث تسودها الفوضى والاضطراب وتسلط القوي على الضعيف وغارات القبائل بعضها على بعض بالنهب والسلب، وقيام الحروب الطاحنة لأتفه الأسباب، وفريق منهم دخل تحت السلطة
__________
(1) سورة الأنعام الآية 140(21/98)
الفارسية أو الرومية، وأكثرهم تحكمهم السلطات القبلية المختلفة، فكانوا مشتتين لا رابطة تجمعهم.
3 - وأما حالتهم الاقتصادية:
فإنما تقوم على السلب والنهب والمعاملات الربوية وأكل الخبائث فكانوا يستحلون ما حرم الله من الميتة والدم، ويحرمون ما أحل الله، حيث حرموا أنواعا من بهيمة الأنعام وهي البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، فرد الله عليهم بقوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} (1) .
4 - وأما حالتهم الأسرية:
فكانوا يئدون بناتهم خشية العار، ويقتلون أولادهم تقربا إلى الأصنام أو يقتلونهم خشية الفقر، وكان أحدهم يتزوج ما شاء من النساء دون تقيد بعدد ولا التزام بحقوق الزوجية، وكانوا يحرمون النساء والصغار من الميراث، بل كانوا يرثون زوجة الميت من بعده كما يرثون ماله. . . هذا مجمل حال جاهلية العرب.
__________
(1) سورة المائدة الآية 103(21/99)
تحقيق الإسلام للأمن ووسائل توفره:
ولما بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم انجابت هذه الظلمات، وأخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، كما قال سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (1) .
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 1(21/99)
وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (1) ، وقال سبحانه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (2) ، وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} (3) .
وبذلك تحول مجتمع العرب الذين دخلوا في هذا الدين إلى مجتمع يسوده الأمن ويحكمه الوحي الإلهي، وتوجهه العقيدة السليمة وتظلله راية التوحيد. وقد بين الله سبحانه مقومات هذا الأمن وأسبابه التي يتحقق بتوفرها ويزول بزوالها وهي كما يلي:
إصلاح العقيدة بإخلاص العبادة لله وترك عبادة ما سواه والبراءة منها ومن أهلها وملازمة العمل الصالح قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4) فربط سبحانه حصول هذه المطالب العالية، الاستخلاف في الأرض، والتمكين من الدين، وإبدال الخوف بالأمن، ربطها بتحقق شيئين هما: عبادة الله سبحانه، وترك الإشراك به. وقد بعث الله بذلك جميع الرسل كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ} (5)
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 107
(2) سورة آل عمران الآية 164
(3) سورة آل عمران الآية 103
(4) سورة النور الآية 55
(5) سورة النحل الآية 36(21/100)
{رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) وهما حق الله على عباده. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا (2) » .
ومن مقومات الأمن وأسبابه بعد التوحيد إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (3) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (4) فربط سبحانه حصول النصر على الأعداء الذي يتوفر به الأمن للمسلمين لأن من انتصر على عدوه فقد أمن شره ربط ذلك بإقام الصلوات الخمس التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام وإيتاء الزكاة التي هي الركن الثالث من أركان الإسلام، وخصص هذين الركنين لما لهما من الأهمية؛ لأن الأول إحسان فيما بين العبد وبين ربه بإخلاص العبادة له، وهذا هو الأساس الذي ينبني عليه الدين كله.
والثاني: إحسان فيما بين العبد وبين إخوانه، ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين يتحقق بهما نصرة دين الله، وقدم إقام الصلاة وإيتاء الزكاة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا بد أن يكون عاملا بما يأمر به ومتجنبا لما ينهى عنه وصالحا في نفسه قبل أن يكون مصلحا لغيره.
هذا وكما أن هذه الأمور هي أهم مقومات الأمن وأسباب النصر في الدنيا فهي كذلك أسباب الأمن في الدار الآخرة قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} (5) أي لم يخلطوا عبادتهم بشرك
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2856) ، صحيح مسلم الإيمان (30) ، سنن الترمذي الإيمان (2643) ، سنن ابن ماجه الزهد (4296) ، مسند أحمد بن حنبل (5/238) .
(3) سورة الحج الآية 40
(4) سورة الحج الآية 41
(5) سورة الأنعام الآية 82(21/101)
{أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (1) وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} (2) {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (3) وقال تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} (4) وقال تعالى: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} (5) فنالوا الأمن بالجنة بسبب إيمانهم في الدنيا وإخلاصهم العبادة لله وابتعادهم عن الشرك، قال الإمام ابن كثير: هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده ولم يشركوا به شيئا هم الآمنون يوم القيامة المهتدون في الدنيا والآخرة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة: الشرك، وظلم العباد، وظلمه لنفسه بما دون الشرك. كان له الأمن التام والاهتداء التام، ومن لم يسلم من ظلمه لنفسه كان له الأمن والاهتداء المطلق. بمعنى أنه لا بد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك في الآية الأخرى، يعني قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (6) {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} (7) ، وقد هداه الله إلى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة، ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه لنفسه. . . انتهى.
ومن أسباب الأمن اجتماع الكلمة وطاعة ولاة الأمور بالمعروف، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (8) وقال تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (9) فالاجتماع قوة والفرقة تضعف كيان المجتمع.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 82
(2) سورة الدخان الآية 51
(3) سورة الدخان الآية 52
(4) سورة الحجر الآية 46
(5) سورة سبأ الآية 37
(6) سورة فاطر الآية 32
(7) سورة فاطر الآية 33
(8) سورة آل عمران الآية 103
(9) سورة الأنفال الآية 46(21/102)
ومن مقومات الأمن شكر النعمة ومن أسباب زواله كفر النعمة، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (1) . وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (2) ، وقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (3) وقال عن سبأ: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} (4) {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} (5) {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} (6) {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} (7) {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} (8) . وهكذا نجد في هذه الآيات أن استقرار الأمن مربوط بشكر النعمة وأن زواله مقرون بكفرها، كما نجد أن توفر الأمن لا بد أن يسبق توفر الغذاء، مما يدل على أن الضرورة إليه أشد من الضرورة إلى الغذاء لأنه لا يمكن التلذذ بالغذاء لو توفر مع عدم الأمن والاستقرار، ولهذا كان في دعاء الخليل عليه السلام تقديم طلب الأمن على طلب الرزق كما ذكر
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 7
(2) سورة الأنفال الآية 53
(3) سورة النحل الآية 112
(4) سورة سبأ الآية 15
(5) سورة سبأ الآية 16
(6) سورة سبأ الآية 17
(7) سورة سبأ الآية 18
(8) سورة سبأ الآية 19(21/103)
الله عنه في قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} (1) وقد امتن الله على قريش بتوفير هاتين النعمتين وأمرهم أن يفردوه بالعبادة شكرا له على ذلك فقال: بسم الله الرحمن الرحيم {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} (2) {إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} (3) {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} (4) {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (5) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 126
(2) سورة قريش الآية 1
(3) سورة قريش الآية 2
(4) سورة قريش الآية 3
(5) سورة قريش الآية 4(21/104)
وسائل حفظ الأمن في الإسلام:
ولما كان توفر الأمن ضرورة من ضروريات المجتمع التي تفوق ضرورة الغذاء اهتم الإسلام بتوفير الأسباب الجالبة للأمن وذلك ببناء الإنسان عقيدة وأخلاقا وسلوكا، لأن الأمن لا يتوفر بمجرد البطش والإرهاب وقوة الحديد والنار، وإنما يتوفر بتهذيب النفوس وتطهير الأخلاق وتصحيح المفاهيم حتى تترك النفوس الشر رغبة عنه وكراهية له.
كما يقول الشاعر:
ولا تنته الأنفس عن غيها ... ما لم يكن لها من نفسها زاجر
فإذا فقد المجتمع هذه المقومات التي جاء الإسلام بها فإنه يفقد أمنه واستقراره قال الشاعر:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ولهذا نجد الأمم التي تفقد هذه المقومات من أفلس الناس من الناحية الأمنية، وإن كانت تملك الأسلحة الفتاكة والأجهزة الدقيقة؛ لأن الإنسان لا يحكم بالآلة فقط، وإنما يحكم بالشرع العادل والسلطان القوي، كما قال تعالى(21/104)
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1) ويفهم الأمن من مفهوم الإسلام؛ لأن الإسلام هو الاستسلام لله بالخضوع له وامتثال أوامره واجتناب منهياته، وقد نهى الله عن التعدي على الناس في أعراضهم وأموالهم وأبدانهم. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده (2) » . ومن دخل في الإسلام دخل في نطاق الأمن لقوله صلى الله عليه وسلم: «من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم دمه وماله وحسابه على الله (3) » . وقال عليه الصلاة والسلام: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه (4) » .
فإذا تحقق الإسلام والإيمان توفرت أسباب الأمن، لكن قد يكون هناك شذوذ لم يتمكن الإسلام والإيمان من قلوبهم فتحصل منهم نزوات تخل بالأمن، وهنا وضع الله سبحانه زواجر وروادع لهؤلاء تكف عدوانهم وتصون الأمن من عبثهم، فشرع سبحانه الحدود الكفيلة لردعهم وتحذير غيرهم من أن يفعلوا مثل فعلهم، فشرع حد المرتد لحفظ الدين، وشرع القصاص لحفظ الدين، وشرع القصاص لحفظ النفوس، وشرع حد الزنا وحد القذف لحفظ العرض والنسب، وشرع حد المسكر لحفظ العقل، وشرع حد السرقة لحفظ الأموال، وشرع حد قطاع الطريق لحفظ السبل وتأمين المواصلات، وشرع قتال البغاة لحفظ السلطة الإسلامية ومنعا لتفريق الكلمة واختلاف الأئمة.
1 - فالمرتد يقتل لحفظ الدين والعقيدة من عبث العابثين؛ لأن المرتد ترك الحق بعد معرفته واعتدى على العقيدة التي هي أقوى أسباب الأمن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه (5) » وقال عليه الصلاة
__________
(1) سورة الحديد الآية 25
(2) صحيح البخاري الإيمان (10) ، صحيح مسلم الإيمان (40) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4996) ، سنن أبو داود الجهاد (2481) ، مسند أحمد بن حنبل (2/160) ، سنن الدارمي الرقاق (2716) .
(3) صحيح مسلم الإيمان (23) ، مسند أحمد بن حنبل (6/394) .
(4) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564) ، مسند أحمد بن حنبل (2/277) .
(5) صحيح البخاري الجهاد والسير (3017) ، سنن الترمذي الحدود (1458) ، سنن النسائي تحريم الدم (4060) ، سنن أبو داود الحدود (4351) ، سنن ابن ماجه الحدود (2535) ، مسند أحمد بن حنبل (1/282) .(21/105)
والسلام: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة (1) » فالمرتد يقتل لتبديله الدين وتركه له ومفارقة جماعة المسلمين حتى لا يكون الدين ألعوبة للملاحدة والزنادقة فيغتر بهم غيرهم من ضعاف الإيمان، ولسد الطريق على العابث الذي يدخل في الدين خداعا ثم يخرج منه للتنفير منه، كما حاول بعض اليهود هذه الخدعة زمن النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله فيهم قوله تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (2) . أي لعل المسلمين إذا رأوا ذلك يرجعون عن دينهم.
2 - والقصاص من القاتل فيه حماية للنفوس البريئة وضمانا للأمن بين الناس، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (3) فإذا عرف من يريد قتل إنسان أنه سيقتل به امتنع عن القتل. فكان في هذا حفظ لحياته وحياة غيره، وإذا أقدم على القتل فاقتص منه كان في هذا ردع للآخرين فلا يقدمون على مثل جريمته لئلا يكون مصيرهم كمصيره. فقتل نفس واحدة بالقصاص حصل به نجاة أنفس كثيرة، كالعضو الفاسد يقطع لحفظ بقية الجسم وبذلك يأمن الناس على حياتهم.
3 - وحد الزنا بجلد البكر مائة جلدة وبمحضر عام من المؤمنين وتغريبه عن وطنه عاما كاملا، وبرجم الزاني المحصن وهو الذي سبق أن جامع زوجته بنكاح صحيح، فيرجم بالحجارة حتى يموت، كما قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ} (4)
__________
(1) صحيح البخاري الديات (6878) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1676) ، سنن الترمذي الديات (1402) ، سنن النسائي تحريم الدم (4016) ، سنن أبو داود الحدود (4352) ، سنن ابن ماجه الحدود (2534) ، مسند أحمد بن حنبل (6/181) ، سنن الدارمي الحدود (2298) .
(2) سورة آل عمران الآية 72
(3) سورة البقرة الآية 179
(4) سورة النور الآية 2(21/106)
{عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (1) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم (2) » . وذلك ليأمن الناس على أعراضهم من الاعتداء عليها وليأمنوا على أنسابهم من الاختلاط. ولردع المضيعين لأعراضهم التي أمرهم الله بحفظها في قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} (3) ، وقوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (4) ، وبذلك يقضى على جريمة الزنا التي تدمر المجتمعات البشرية والتي قال الله تعالى محذرا منها: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} (5) .
وبتطبيق هذا الحد يأمن الناس من هذا الخطر المدمر الذي يلوث المجتمع ويهدد الإنسانية، وينشر الأمراض الخطيرة.
4 - ولشناعة جريمة الزنا وحرمة عرض المسلم، صان الله أعراض الأبرياء أن تدنس بنسبة هذه الجريمة إليها، وكف الألسنة البذيئة أن تتطاول على عرض المسلم فتقذفه بارتكاب فاحشة الزنا زورا وبهتانا، فأمر بجلد القاذف الذي لا يستطيع إقامة البينة على ما يقول بأن يجلد ثمانين جلدة، ولا تقبل له شهادة أبدا وأنه يعتبر فاسقا ساقط العدالة ما لم يتب من هذه الجريمة. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (6) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} (7) ، وبهذا الحد
__________
(1) سورة النور الآية 2
(2) صحيح مسلم الحدود (1690) ، سنن الترمذي الحدود (1434) ، سنن أبو داود الحدود (4415) ، سنن ابن ماجه الحدود (2550) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) ، سنن الدارمي الحدود (2327) .
(3) سورة النور الآية 30
(4) سورة النور الآية 31
(5) سورة الإسراء الآية 32
(6) سورة النور الآية 4
(7) سورة النور الآية 5(21/107)
الرادع وسحب الثقة من القاذف تصان الأعراض البريئة، وتسكت الأفواه البذيئة، وتتوارى آثار هذه الجريمة، ويصبح الناس في مأمن منها ومن ذكرها حتى تتوارى من المجتمع نهائيا.
5 - ولما كان العقل أعظم ما يمتاز به الإنسان عن غيره من الحيوانات لأنه يميز به بين الضار والنافع والحسن والقبيح ويدفع صاحبه إلى فعل الفضائل واجتناب الرذائل، ولذا سمي عقلا، لأنه يعقل صاحبه عن فعل القبائح، وسمي حجرا لأنه يحجره كذلك عما لا يليق، وسمي نهى ولبا، وكلها أسماء تدل على شرف العقل وقيمته، لأن فيه أمانا للإنسان في خاصة نفسه من أن يناله أذى من غيره، وأمانا لغيره أن يناله أذى منه، فمن تعاطى شيئا من الأشربة والمأكولات أو المشمومات المسكرة التي تغطي هذا العقل وتعطله عن أداء مهمته والقيام بوظيفته فإنه في هذه الحالة لا يؤمن أن يفعل ما يضر بنفسه أو بغيره؛ لأنه فقد صمام الأمان، فأصبح خطرا يهدد المجتمع.
لذلك شرع الله ردعه بإقامة الحد عليه بالجلد المؤلم حتى يذوق وبال أمره، وليتعظ به غيره، وقد حذر الله عباده عن شرب المسكرات وبين خطرها وضررها، فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (2) وكذا تعاطي المخدرات؛ لأنها أشد ضررا من الخمر لأنها تضر بالعقل والجسم وتفقد الرجولة وتغري بفعل الفاحشة والدياثة، وتغري متعاطيها بالإدمان بحيث لا يصبر عنها، ويتحول من الإنسانية إلى
__________
(1) سورة المائدة الآية 90
(2) سورة المائدة الآية 91(21/108)
البهيمية، فهي أشد فتكا في المجتمعات من الأمراض الوبائية، لذا يجب على ولاة الأمور التنكيل بمن يتعاطى المخدرات أو يروجها؛ لأنه من أعظم المخربين والساعين في الأرض بالفساد، فيجب أخذهم بالقوة حفاظا على أمن المجتمعات، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر حفاظا على العقول وصيانة لأمن المجتمع المسلم من أن تعبث به المسكرات والمخدرات.
6 - ولما كان المال قوام الحياة والحفاظ عليه من الضروريات كما قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} (1) وقد حرم الله أخذ أموال الناس بغير حق والاستيلاء عليها بغير مبرر، فالاعتداء على مال الغير كالاعتداء على دمه وعرضه في الحرمة كما تدل عليه الآيات والأحاديث، ومن أشد أنواع الاعتداء على أموال الناس أخذها بالسرقة، وهي أخذ المال خفية من حرز مثله، وجزاء من فعل ذلك قطع يده، هذه اليد الخائنة التي امتدت إلى ما لا يحل لها وعبثت بالأمن وروعت المجتمع جزاؤها البتر، قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) والسرقة أشد خطورة من اغتصاب المال مجاهرة؛ لأن المجاهرة تمكن مدافعتها وعمل الاحتياطات المانعة من شرها، أما السرقة فإنها مكر خفي، وغدر سيئ، يؤخذ بها الإنسان من مأمنه وتدل على جرأة المجرم حيث لم تمنع منه الحروز والحصون فكان جزاؤه بتر يده وتعطيلها عليه ردعا له وعظة لغيره، وبهذا يتوفر الأمن للمجتمع ويطمئن الناس على أموالهم في بيوتهم ومستودعاتهم، ويقضى على الجريمة.
__________
(1) سورة النساء الآية 5
(2) سورة المائدة الآية 38(21/109)
7 - ولما كان ربط البلدان والأقاليم بعضها ببعض عن طريق المواصلات البرية والبحرية والجوية لنقل البضائع وتنقلات المسافرين للتجارة وغيرها من الأغراض التي تتم بها مصالحهم، لذلك احتاج المجتمع إلى تأمين السبل بردع المجرمين الذين يحاولون قطعها ويروعون المارة، ولأجل ذلك شرع سبحانه حد قطاع الطريق، وهم الذين يعرضون للناس بالسلاح فيغصبونهم المال مجاهرة. وهذا الحد هو ما ذكره الله تعالى بقوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) .
وبتطبيق هذه العقوبة على قطاع الطريق تأمن السبل وتنتظم المصالح ويتوفر الأمن في البر والبحر والحاضرة والبادية وتنتظم المواصلات بين البلدان والأقاليم، ويسهل نقل البضائع والتبادل التجاري مما فيه صلاح العمران البشري وتوفر الإنتاج، ولهذا وصف الله من يحاول تعطيل هذه المصالح بأنه محارب لله ورسوله وساع في الأرض بالفساد.
8 - ولما كان لا بد للمسلمين من قيادة تجتمع كلمتهم بها وتحل مشاكلهم وتكف الظالم منهم عن ظلمه وتدفع العدو الخارجي عنهم وترعى شئونهم وتنفذ أحكام الله فيهم - لما كان الأمر كذلك وأكثر - شرع الله تنصيب الإمام وطاعته بالمعروف وإعانته على الخير قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (3) وحرم الله ورسوله معصية ولي الأمر إذا لم يأمر بمعصية؛ لما
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) سورة المائدة الآية 34
(3) سورة النساء الآية 59(21/110)
في ذلك من المفاسد، وحرم الله ورسوله الخروج على إمام المسلمين وتفريق الكلمة وأمر بردع من فعل ذلك حتى يكف ويلتزم بالطاعة، فإن كان من يحاول شق عصا الطاعة وتفريق الجماعة شخصا واحدا وجب قتله لقوله صلى الله عليه وسلم: «من بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر (1) » رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه (2) » رواه مسلم، وإن كان من يحاول ذلك جماعة لهم شوكة ومنعة تهدد المسلمين وتريد تفريق كلمتهم فهم بغاة ظلمة ويجب أولا: مناصحتهم وإزالة الشبهة التي يتعلقون بها، فإن لم ينكفوا عن بغيهم وجب قتالهم إلى أن يرجعوا للطاعة ولزوم الجماعة؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (3) .
وبهذا يتبين وجوب احترام السلطة الإسلامية ووجوب مناصرتها ومناصحتها لما يترتب على وجودها من المصالح وانتفاء المفاسد واستتباب الأمن، وما يترتب على انعدام السلطة من المفاسد العظيمة التي من أعظمها انعدام الأمن.
وأخيرا: نتبين من هذا العرض الموجز ما حققه الإسلام من أمن المجتمع حين عجزت كل نظم البشر وأسلحتهم الفتاكة وأجهزتهم الدقيقة أن تحقق أقل القليل من هذا الأمن الذي حققه الإسلام، وصدق الله العظيم حيث يقول: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (4) ثم إن هذا الأمن الذي حققه الإسلام لا يعتمد
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1844) ، سنن النسائي البيعة (4191) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4248) ، سنن ابن ماجه الفتن (3956) ، مسند أحمد بن حنبل (2/191) .
(2) صحيح مسلم الإمارة (1852) ، سنن النسائي تحريم الدم (4020) ، سنن أبو داود السنة (4762) ، مسند أحمد بن حنبل (4/341) .
(3) سورة الحجرات الآية 9
(4) سورة المائدة الآية 50(21/111)
على العقوبة وشدة البطش بأصحاب الجرائم، وإنما يعتمد على غرس الإيمان في القلوب وزرع الخشية الإلهية في النفوس حتى تترك الإجرام رغبة عنه وكراهية له، بل تقوم بمقاومته والنهي عنه، ثم يتبع ذلك الوعظ والتذكير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأجل تعليم الجاهل وتذكير الغافل والأخذ على يد السفيه عن الوقوع في الجرائم، ثم يتبع ذلك تطبيق العقوبات الشرعية على من لم تجد فيه الموعظة ولم تؤثر فيه النصيحة ولم يأتمر بالمعروف وينته عن المنكر فالعقوبة آخر مرحلة كما يقال:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى
فالذين يظنون أن الأمن في الإسلام يقوم على مجرد العقوبة بقطع الأيدي والرقاب والجلد قد أساءوا الظن ولم يفهموا واقع الإسلام، وهم إما جهلة أو مغرضون يريدون تشويه الإسلام؛ لأن الإسلام لا يلجأ إلى العقوبة إلا كحل أخير وبشروط دقيقة إذا توفرت تحتم إيقاع العقوبة، وتكون حينئذ واقعة موقعها اللائق ولا يقوم غيرها مقامها، وحينئذ لا تجوز الحيلولة دون إقامتها بشفاعة أو رأفة بالمجرم قال الله تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (1) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله عز وجل (2) » رواه أبو داود، كما لا تجوز المعاوضة عن الحد بالغرامة المالية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولا يحل تعطيله (أي الحد) لا بشفاعة ولا هدية ولا غيرها ولا تحل الشفاعة فيه، ومن عطله لذلك وهو قادر على إقامته فعليه لعنة الله.
__________
(1) سورة النور الآية 2
(2) سنن أبو داود الأقضية (3597) ، مسند أحمد بن حنبل (2/70) .(21/112)
وقال أيضا: ولا يجوز أن يؤخذ من السارق والزاني والشارب وقاطع الطريق ونحوه مال يعطل به الحد لا لبيت المال ولا لغيره، وهذا المال المأخوذ لتعطيل الحد سحت خبيث، وإذا فعل ولي الأمر ذلك جمع بين فسادين عظيمين: تعطيل الحد وأكل السحت، وترك الواجب وفعل المحرم. اهـ كلامه.
وذلك أن الغرامة المالية مهما بلغت لا تنكأ المجرم ولا تقطع دابر الجريمة كما يحصل ذلك بإقامة الحد الشرعي، ومثل الغرامة المالية الاعتياض عن إقامة الحد بسجن المجرم، كل هذا لا يروي غليلا ولا يشفي عليلا، فإقامة الحدود الشرعية فيها من المصالح العظيمة لمن تقام عليه وللمجتمع الذي تقام فيه ما هو مشاهد ومحسوس، وبها صلاح العباد والبلاد وتوفر الأمن واستقراره، قال صلى الله عليه وسلم: «لحد يقام في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا ثلاثين صباحا (1) » رواه النسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه.
وفي رواية ابن ماجه وابن حبان: «خير من أن يمطروا أربعين صباحا (2) » فكما أن المطر فيه صلاح الأرض ومصالح العباد، فإقامة الحد أكثر نفعا من المطر؛ لأن به تطهيرهم من الرذيلة وتوفير أمنهم واستقرارهم.
ولهذا نرى أن المجتمع الذي يحكم بشريعة الله وتقام فيه الحدود يكون مضرب المثل في الأمن والاستقرار وانخفاض معدل الجرائم، ونجد أن المجتمع الذي يحكم بغير شريعة الله وتعطل فيه الحدود يصبح مضرب المثل في الفوضى والخوف والقلق، ولو كان من أرقى دول العالم صناعيا وماديا، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم (3) » رواه ابن ماجه.
ذلك هو الإسلام الذي شهد الله له بالكمال وأتم علينا به النعمة كما
__________
(1) سنن النسائي قطع السارق (4904) ، سنن ابن ماجه الحدود (2538) ، مسند أحمد بن حنبل (2/402) .
(2) سنن النسائي قطع السارق (4904) ، سنن ابن ماجه الحدود (2538) .
(3) سنن ابن ماجه الفتن (4019) .(21/113)
قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) ، وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) والحمد لله رب العالمين. . . والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة آل عمران الآية 85(21/114)
حقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثرها في العالم الإسلامي
للدكتور \ محمد بن عبد الله السلمان
الدكتور محمد بن عبد الله السلمان.
ولد عام 1374 هـ \ 1953م في مدينة عنيزة بالقصيم.
نال شهادة الماجستير عام 1399هـ \ 1979 م في التاريخ الإسلامي الحديث بتقدير ممتاز.
نال الدكتوراة مع مرتبة الشرف الأولى في التاريخ الحديث من كلية العلوم الاجتماعية بالرياض جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1406 \ 1986م.
يعمل حاليا أستاذا مساعدا في التاريخ الحديث بكلية العلوم العربية والاجتماعية بالقصيم ورئيسا لقسم التاريخ فيها.
من مؤلفاته:
رشيد رضا ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
الأحوال السياسية في القصيم في عهد الدولة السعودية الثانية.
دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثرها في العالم الإسلامي.(21/115)
تمهيد:
الحديث عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب حديث طويل لا يفي حقه هذه الصفحات ولكن نلم بالموضوع باختصار يقتضينا ذلك أن نركز على ثلاثة جوانب هامة في الموضوع، حتى نخرج بصورة كاملة عن هذه الدعوة الإصلاحية.
الجانب الأول: أحوال ما قبل الدعوة السياسية والدينية في العالم الإسلامي عامة، وفي بلاد نجد خاصة، والتي دفعت الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى القيام بدعوته مع التعريف بصاحب هذه الدعوة وترجمته باختصار.
الجانب الثاني: حقيقة هذه الدعوة ومبادئها الرئيسية.
والجانب الثالث: أثر هذه الدعوة وانتشارها في العالم الإسلامي.
وسنتكلم عن كل جانب بحدة.(21/116)
أولا: ما قبل الدعوة (سياسيا ودينيا)
أ- في العالم الإسلامي: كانت تتزعم العالم الإسلامي سياسيا في شرقه أثناء القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) ثلاث دول هامة هي: الدولة العثمانية، والدولة الصفوية في فارس، والدولة المغولية في الهند (1) .
__________
(1) عبد المتعالي الصعيدي: المجددون في الإسلام من القرن الأول إلى القرن الرابع عشر الهجري ص416.(21/116)
أما الدولة العثمانية: فقد كان سلاطينها في ذلك الوقت من الضعف بمكان بحيث لم يكن لهم من أمر الدولة شيء بل كان الأمر بيد وزرائهم ورؤساء الجيش الإنكشاري الذين لا يعرفون من أمور السياسة شيئا وأما الولاة على أقاليم الدولة فقد ساءت إدارتهم، فهمهم الأكبر جمع الأموال من شعوب ولاياتهم، ومما زاد حال الدولة سوءا التدهور العسكري الذي منيت به في ذلك العصر (1) ، فقد أخذت دول أوروبا تتألب عليها من كل جانب، وظهر ما يسمى عند المؤرخين بـ (المسألة الشرقية) أي تقسيم ممتلكات الدولة العثمانية بين الدول الأوربية الطامعة (2) .
أما الدولة الصفوية في فارس: (من 906هـ = 1500م - 1135هـ =1722م) فبعد نهايتها عام 1135هـ خلفها أمراء من الأفغان حتى قضى عليهم (نادر شاه) عام 1142هـ (1729م) فنادى بنفسه ملكا ثم أخذ يوسع أملاكه حتى امتدت دولته من الخليج العربي إلى بلاد الهند (3) ولم يلبث أن قتل سنة 1160هـ (1747م) وبمقتله اضطرب أمر بلاد فارس واستمر هذا الاضطراب حتى قيام الدولة القاجارية سنة 1203هـ (1788م) (4)
__________
(1) أحمد السعيد سليمان: محاضرات في تاريخ الدولة العثمانية ص4.
(2) جلال يحيى: العالم العربي الحديث (المدخل) ص84.
(3) عبد المتعالي الصعيدي: المجددون في الإسلام من القرن الأول إلى القرن الرابع عشر الهجري ص350، 417.
(4) حسين مؤنس: الشرق الإسلامي في العصر الحديث ص 21.(21/117)
أما الدولة المغولية في الهند: والتي قامت عام 909هـ (1505) فما إن حل القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي) حتى اضطرب أمرها وأصبحت مرتعا للحروب الداخلية بين أمراء الولايات المختلفة مما سهل على شركة الهند الشرقية الإنكليزية الاستيلاء عليها ولاية بعد ولاية عام (1274هـ =1856 م) .
أما المغرب الإسلامي: فلم تكن حالته السياسية بأحسن حظا من مشرقه فتونس والجزائر تابعة للعثمانيين ودولتهم الضعيفة، وفي مراكش توجد دولة السعديين، والتي لم تكن من القوة بحيث تقف أمام حملات الأسبان والبرتغال عليها، إضافة إلى وجود فتن داخلية بين العرب والبربر، وبين قبائل (الهوسا) مع بعضها وبينها وبين قبائل (الغولان) .
هذه لمحة موجزة عن حالة العالم الإسلامي السياسية في مشرقه ومغربه وبالجملة فهي حالة سيئة تدل على ما يعانيه العالم الإسلامي في تلك الحقبة من فساد سياسي عام. أما حال المسلمين على الحدود والثغور الإسلامية فهي بلا شك أشد سوءا وألما بكثير.
أما عن الحالة الدينية في العالم الإسلامي: فالواقع أن انحطاط الحياة الدينية لدى المسلمين لم يكن وليد هذا العصر فحسب وإنما يسبقه بعدة قرون، حينما دخل بالإسلام - في الظاهر - عناصر من أصحاب الملل والحضارات السابقة التي قضى عليها المسلمون في عصورهم الزاهرة، وقد استهدفت هذه العناصر من دخولها الإسلام الكيد له والدس عليه(21/118)
فنشأت بذلك الفرق والمذاهب الدينية المختلفة (1) وعندما دخلت الدولة العثمانية دور الانحطاط في القرن الثاني عشر الهجري - كما سبق - ازدادت الحالة الدينية سوءا بين المسلمين، ومما زاد في ذلك جمود علماء المسلمين في تلك الفترة وتمسكهم بالقديم أيا كان خاصة علماء الأستانة وعلماء الأزهر، وقد شجعهم على هذا كره أصحاب السلطة في تلك الفترة للإصلاح أيا كان نوعه، وكثيرا ما يعدون صاحبه كافرا. كما فعلت الدولة العثمانية مع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب حينما عدت دعوته وحركته الإصلاحية خارجة عن الدين (2) ، وبعكس ذلك أطلق أصحاب السلطة العنان لأهل البدع والمتصوفين والبلهاء حتى علا شأنهم عند العامة اعتقدوا فيهم الولاية، (3) وكان لأصحاب الطرق الصوفية منزلة عظيمة عند العامة وأصحاب السلطة، فنشروا بذلك بدعهم بين الناس، ووصل قوة نفوذ أصحاب الطرق الصوفية أن تولى عدد منهم مشيخة الأزهر فترة من الوقت (4) هذا إلى جانب ما كان منتشرا بين عامة الناس في كافة أرجاء الدولة العثمانية، وفي غيرها من بقاع المسلمين من بدع أصابت عقيدة التوحيد في الصميم، فقد انتشرت في البلاد المختلفة قبور الأولياء والصالحين التي بنيت عليها القباب والتي يتجه إليها الناس بأشياء لا يجوز صرفها إلا لله تعالى كالدعاء والاستغاثة والذبح والنذر والشفاعة ونحوها، وكثيرا ما كانت تقام عند هذه القبور المنكرات والمفاسد، وقد انتشرت هذه القبور في مختلف البلاد الإسلامية سواء في الحجاز أو اليمن
__________
(1) عبد الله يوسف الشبل: محاضرات في تاريخ الدولة السعودية ص26، 27.
(2) Nicholson، R. A.، Alileiary history of the Arabs P 467.
(3) عبد الرحمن الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار ج1 حوادث عام 1172 هـ.
(4) عبد المتعالي الصعيدي: المجددون في الإسلام من القرن الأول إلى القرن الرابع عشر الهجري ص423.(21/119)
أو الشام أو العراق أو مصر (1) وكذا الحال في المغرب الإسلامي أو غرب أفريقية، وأصبح عناية المسلمين تنصب على الاهتمام بتلك الأمور البدعية والشركية، وفي هذا الصدد يقول (لوثروب ستودارد) في كتابه حاضر العالم الإسلامي: (وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء فألبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة الناس سجفا من الخرافات وقشور الصوفية، وخلت المساجد من أرباب الصلوات، كثر عدد الأدعياء الجهلاء يوهمون الناس بالباطل والشبهات ويرغبونهم في الحج إلى قبور الأولياء ويزينون للناس التماس الشفاعة من دفناء القبور) (2) اهـ.
__________
(1) حسين بن غنام: روضة الأفكار والأفهام ج1 ص10 (ط أبا بطين) .
(2) لوثروب ستودارد: حاضر العالم الإسلامي ترجمة عجاج نويهض تعليق شكيب أرسلان ج1 ص259 و 260.(21/120)
ب - في بلاد نجد:
في القرن الثالث الهجري قامت في منطقة نجد دولة مستقلة عن دولة الخلافة العباسية يطلق عليها (الدولة الأخيضرية) والتي أسسها (محمد الأخيضر) سنة 253هـ (867م) واستمرت حتى منتصف القرن الخامس الهجري حيث سقطت تلك الدولة وبسقوطها أصحبت بلاد نجد مجزأة إلى إمارات صغيرة يرتبط بعضها بالدويلات التي قامت في منطقة الأحساء، أما الدولة العثمانية فلم تكن سياستها في ذلك الوقت تهتم بإخضاع نجد لحكمها وكل ما يهمها هو (الحجاز) حيث الأماكن المقدسة الإسلامية، بالإضافة إلى السواحل الغربية والشرقية في الجزيرة العربية خصوصا بعد أن تعرضت هذه السواحل لحملات البرتغاليين في أثناء القرن الخامس عشر الميلادي.(21/120)
والواقع أنه منذ القرن الخامس الهجري أصبحت بلاد نجد مقسمة إلى إمارات صغيرة ضعيفة متفرقة متنازعة، ومن يطلع على تاريخ نجد في تلك الفترة - على اختصاره - تواجهه حقيقة مرعبة وهي أن القوم كانوا في عراك مستمر ومرابطة دائمة وثأر لا ينقطع، يتربص بعضهم ببعض الدوائر ويتحين أهل كل قرية الفرصة للإيقاع بأهل القرية الأخرى، (1) ، لقد كانت هذه الإمارات والقرى لا تعرف السكينة والأمن والحرية إلا قليلا، ففي الحرب يقتل أبناؤها، ويدمر بناؤها، ويحرق نخيلها، ويتلف زرعها وفي فترات السلم يحبس الناس في بلدانهم فلا يستطيعون الابتعاد عنها إلا بمغامرة، فكانت إمارات نجد في تلك الفترة تجسيدا لقصة ملوك الطوائف في الأندلس (2) بل لقد وصل الحال بإحدى هذه الإمارات أن قسمت أرباعا بين أربعة رؤساء. كل رئيس ترأس في ربعها (3) .
أما الحالة الدينية في بلاد نجد: فلم تكن أسعد حظا من باقي أقطار العالم الإسلام، فقد جرفها تيار الانحراف عن الدين الإسلامي الصحيح من شرك وبدع وخرافات كالدعاء والنذر والذبح، وصرف أنواع العبادات الأخرى لغير الله، لكنها لم تصل في انحرافها أن تناسى أهلها شعائر الإسلام من صلاة وزكاة وصيام وحج، كما يزعم بلجريف - وخاصة أهل الحاضرة وعندما قام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بدعوته في بلاد نجد كان الخلاف بين الشيخ وبين مخالفيه على أساس التوحيد أما
__________
(1) عبد العزيز الخويطر: مقدمة تاريخ أحمد بن منقور ص22.
(2) منير العجلاني: تاريخ البلاد السعودية ج1 ص36.
(3) انظر عثمان بن بشر: عنوان المجد في تاريخ نجد ج2 ص228، 229 وأحمد بن منقور: تاريخ ابن منقور ص63.(21/121)
بقية أعمال الإسلام فإنه لم يعارضه أحد بشأنها وقد فصل المؤرخ (حسين بن غنام) مظاهر الانحراف عن الإسلام الصحيح في نجد ومثل لها بتعظيم الناس. . . للقبور مثل قبر (ضرار بن الأزور) وللأشجار (مثل شجرة الذيب والفحال) وللأحجار (مثل غار بنت الأمير) وللأولياء (مثل تاج الأعمى) هذا في الحاضرة.
أما البادية فهي أسوأ حالا ذلك أن طبيعة الحياة الصحراوية بجفائها ورهبتها وتفرق سكانها بالإضافة إلى انتشار الأمية بينهم وعدم قيام دولة ذات سلطان تحمل الناس على الحق كل هذه العوامل جعلت من البادية مرتعا خصبا لأنواع الشرك والبدع والخرافات كما ذكر ذلك المؤرخ ابن بشر.
ومهما يكن من شيء فإنه كلما مرت الأعوام والأيام ازدادت الحالة سوءا في الحاضرة والبادية حتى أذن الله بانبلاج فجر جديد حين قام الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - بدعوته الإصلاحية المباركة على حين فترة دعوات المصلحين فأشرقت الجزيرة العربية بنور هذه الدعوة وتبدلت فيها مظاهر الحياة كلها.(21/122)
الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
نشأته ورحلاته:
هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي من المشارقة(21/122)
أحد فروع الوهبة من قبيلة تميم ولد في بلدة (العيينة) - شمال غرب مدينة الرياض - سنة 1115هـ (1703م) ونشأ بها، ويصفه ابن غنام بأنه حاد الذهن ذكي نبيه فطن فصيح اللفظ سريع الحفظ، حفظ القرآن ولم يبلغ العاشرة من عمره (1) ، وكانت بيئته التي نشأ فيها بيئة علمية دينية صالحة فجده (سليمان بن علي) عالم من علماء نجد في عصره انتهت إليه الفتيا في نجد، وألف منسكا مشهورا، وأبوه (عبد الوهاب) بن سليمان بن علي، تولى قضاء بلدتي (العيينة) ثم (حريملاء) وعمه (إبراهيم بن سليمان) كان عالما قديرا (2) ، وقد تلقى الشيخ العلم في البداية على يد والده حيث درس عليه كتب الفقه الحنبلي ثم أخذ يزيد في معلوماته بالقراءة الخاصة حيث أخذ يقرأ في كتب التفسير والحديث والأصول، وقد ساعده حبه للقراءة أن يطلع على كل ما يقع في يده من كتب الدين وخاصة كتب الحنابلة نظرا لانتشار المذهب الحنبلي في نجد منذ القرن العاشر الهجري. واهتم الشيخ بصورة خاصة بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم حتى إنه أخذ ينسخ كثيرا منها. وتوجد في المتحف البريطاني بلندن حتى الآن كتب لشيخ الإسلام ابن تيمية بخط الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
ولما أكمل الشيخ تعليمه في بلدة (العيينة) على أساتذته وقراءاته
__________
(1) حسين بن غنام: روضة الأفكار والأفهام ج1 ص25 (ط أبا بطين) .
(2) محمد بن عبد الله بن حميد: السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة (مخطوط) ص8 و 103.(21/123)
الشخصية عزم على الارتحال إلى البلدان المجاورة طلبا للعلم والزيادة فيه - كعادة السلف الصالح- فبدأ بحج بيت الله الحرام للمرة الثانية ثم اتجه من (مكة) إلى (المدينة) وأقام فيها حينا أخذ العلم فيها على الشيخ (عبد الله بن سيف النجدي) والشيخ (محمد حياة السندي) ثم خرج الشيخ من المدينة - مارا ببلاد نجد - إلى (البصرة) فتلقى العلم فيها على عدد من العلماء منهم الشيخ (محمد الجموعي) . وقد درس على هؤلاء العلماء علوم الشريعة وعلوم اللغة العربية، وقد اضطر الشيخ إلى الخروج من (البصرة) بسبب مضايقات تلقاها من أناس كان قد دعاهم إلى إخلاص التوحيد لله تعالى ونبذ أنواع الشركيات، فقصد بلاد الشام لولا أن نفقته ضاعت في الطريق فقفل راجعا إلى نجد، ومر في طريقه بالأحساء ونزل على الشيخ (عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الشافعي الأحسائي) وأخذ عنه في التفسير والحديث ثم اتجه من الأحساء إلى (حريملاء) وكان أبوه قد انتقل إليها من (العيينة) لخلاف مع حاكمها.
هذه مجمل رحلات الشيخ عند عمدتي مؤرخي نجد (ابن غنام وابن بشر) . أما ما ذكره صاحب كتاب (لمع الشهاب) من أن الشيخ زار بلدانا أخرى (مثل فارس، وبلاد الشام ومصر) وأنه درس فيها علوما أخرى (مثل علم الهيئة، والمنطق، والفلسفة، والهندسة والتصوف والرياضيات واللغة التركية وغيرها) (1) فيكفي في تخطئة هذا الرأي أننا لا نجد لما ذكره أي أثر في مؤلفات الشيخ ورسائله ولا في مؤلفات علماء الدعوة ومؤرخيها وهم أدرى بحياة الشيخ من غيرهم، إضافة إلى أننا لا نجد لما ذكره من العلوم
__________
(1) مؤلف مجهول: ألمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب ص9 - 13.(21/124)
أي أثر في كتابات الشيخ خاصة المنطق الذي لو درسه لظهر أثره في جدله ومناظراته وردوده. وكذا الحال فيما ذكره (نيبور) في رحلاته من أن الشيخ زار بلاد فارس.
ومهما يكن من أمر فقد فتحت هذه الرحلات أمام الشيخ تفكيره ووسعت مداركه وعلومه فاطلع على الفساد الديني والسياسي اللذين يعيشهما العالم الإسلامي حينذاك (1) فعاد إلى بلده وكله عزيمة وأمل بأن يقوم بإصلاح هذا الفساد بقدر ما يسعه جهده وعلمه.
__________
(1) Nicholson: P466.(21/125)
ثانيا: الدعوة: حقيقتها مبادئها:
مراحل الدعوة: عندما وصل الشيخ إلى (حريملاء) أخذ يجهر بدعوته وينكر ما يفعله الجهال من البدع والشركيات في الأقوال والأفعال لكنه لم يلبث أن قرر الخروج من (حريملاء) لعدم صلاحيتها لنشر الدعوة فيها بسبب فقدان الأمن نتيجة لانقسام أهلها وانقسام الحكم فيها حتى كادت أن تتم حادثة اغتيال للشيخ فيها (1) فعاد الشيخ إلى (العيينة) مسقط رأسه فأهلها يعرفهم وحكمها مستقر أكثر من (حريملاء) فرحب به حاكمها حينذاك (عثمان بن معمر) وفتح صدره للدعوة ولتطبيق مبادئها فانتقلت الدعوة بذلك إلى المرحلة العلمية في تطبيق مبادئ الدعوة فهدمت القباب المقامة على القبور في العيينة وما جاورها وقطعت أشجار كان يتبرك بها العامة، ورجمت زانية محصنة أقرت بالزنا عند الشيخ أربع مرات (2) . ولم يعكر صفو هذا النجاح للدعوة سوى تهديد حاكم
__________
(1) حسين بن غنام: روضة الأفكار والأفهام ج1 ص30 (ط أبا بطين) .
(2) عثمان بن بشر: عنوان المجد في تاريخ نجد ج1 ص22 و 23.(21/125)
الأحساء حينذاك من بني خالد (سليمان بن محمد بن عريعر) لحاكم العيينة (ابن معمر) - وكان للأول ما يشبه النفوذ السياسي على الثاني - وأذعن ابن معمر لتهديده وأمر الشيخ بالخروج من البلد، فاختار الشيخ الدرعية واتجه إليها لما يعرفه من سيرة لحاكمها (محمد بن سعود) إضافة إلى استقلاله وعدم خضوعه لسيطرة أجنبية، لهذا رحب (محمد بن سعود) بالشيخ وتعاهد معه على نصرة الدعوة وحمايتها وتم بينهما ما يعرف تاريخيا بـ (اتفاق الدرعية) - عام 1157هـ (1744) والذي كان بحق نقطة تحول هامة في تاريخ تلك الدعوة وفي حياة الجزيرة العربية الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية بل وفي تاريخ اليقظة العربية والإسلامية الحديثة (1) .
وبقي الشيخ سنتين يدعو الناس بالحكمة والموعظة الحسنة وذلك برسائله ومناظراته مع أهل البلدان المجاورة فمنهم من قبل واتبع الحق ومنهم من أبى وعارض وحارب الدعوة فأمر الشيخ حينئذ أتباعه بالجهاد (2) دفاعا عن النفس من ناحية ونشرا للدعوة الإسلامية من ناحية أخرى فانتقلت الدعوة إلى المرحلة الجديدة الثالثة وهي (مرحلة الجهاد) .
__________
(1) محمد عزة دروزه: نشأة الحركة العربية الحديثة ج1 ص75.
(2) حسين بن غنام: روضة الأفكار والأفهام ج1 ص33 (ط أبا بطين) .(21/126)
حقيقة الدعوة ومصادرها:
قبل الدخول في تفاصيل الدعوة وأفكارها نحب أن نشير إلى أمرين هامين:
أولهما: أن لقب (الوهابية) لقب لم يختره أتباع الدعوة لأنفسهم لكنه أطلق من قبل خصومهم على اختلافهم تنفيرا للناس منهم وإيهاما للسامع(21/126)
أنهم جاءوا بمذهب خامس يخالف المذاهب الإسلامية الأربعة الكبرى، واللقب الذي يرضونه ويسمون به هو (السلفيون) ودعوتهم (الدعوة السلفية) .
وثانيهما: أن هذه الدعوة السلفية ليست ذات مذهب خاص بها، وإنما هي الدعوة إلى الإسلام بكل مبادئه وتعاليمه الخالصة من شوائب الشرك والوثنية والبدع، وكما قال الدكتور طه حسين: إن تعاليم الدعوة جديدة وقديمة معا، فهي جديدة بالنسبة للمعاصرين، ولكنها قديمة في حقيقة الأمر لأنها ليست إلا الدعوة القديمة إلى الإسلام الخالص النقي المطهر من كل شوائب الشرك والوثنية (1) .
ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب قامت وهي تهدف إلى تصحيح العقيدة الإسلامية في نفوس أتباعها وتطهيرها مما علق بها من أدران الشرك والبدع والخرافات بحيث يعترف المخلوق بسلطان الخالق عليه في جميع الأمور فلا يتوجه إلا إليه ولا يتعلق إلا به، كما تهدف إلى تطبيق أحكام الإسلام وشعائره وحدوده وإقامة مجتمع إسلامي يؤمن بالإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة.
وقد اعتمد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في دعوته على ثلاثة مصادر (2) هامة:
أولها: القرآن الكريم: المصدر الأول للتشريع الإسلامي، ويظهر
__________
(1) طه حسين: الحياة الأدبية في جزيرة العرب ص13 وما بعدها.
(2) محمد بن عبد الله السلمان: دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - تاريخها، مبادؤها، أثرها ص34-38.(21/127)
اهتمام الشيخ به أنه حفظه وهو صغير، ومن يطلع على مؤلفات ورسائل الشيخ يدرك اهتمام الشيخ وتقديره لكتاب الله تعالى من حيث تقديمه على جميع الأدلة النقلية والعقلية واستشهاده به دائما.
ثانيها: السنة النبوية: وهي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي. وقد اهتم الشيخ بدراسة السنة النبوية منذ صغره، ومؤلفات الشيخ ورسائله تدل على اهتمام الشيخ بالسنة النبوية، ويكفي أنه اختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ليسهل على أتباعه قراءتها.
ثالثها: آثار السلف الصالح: من الصحابة والتابعين وتابعيهم وخاصة الأئمة الأربعة (أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل) . ولكن تأثر الشيخ انصب على ثلاثة من علماء السلف الصالح وهم (الإمام أحمد بن حنبل، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ محمد ابن قيم الجوزية) حيث اهتم بمؤلفاتهم، وتأثر بآرائهم وأفكارهم.
وإذا كانت آراء الباحثين والمؤرخين قد اختلفت في حقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هل هي حركة دينية (1) أم سياسية (2) أم للأمرين معا (3) ، فالواقع أن الدعوة جامعة للأمور الدينية والسياسية معا؛ لأن الإسلام بطبيعته دين ودولة. والإصلاح الذي نادت به الدعوة لم يكن الغرض منها دينيا محضا - كما زعم بعض الباحثين (4) ، حقيقة أن الدعوة اهتمت بالإصلاح الديني أكثر من اهتمامها بالإصلاح الفكري ولكن ذلك يرجع إلى أن الانحراف الديني في العالم الإسلامي في ذلك
__________
(1) Qeyamuddin،. Ahamad. The wahabi Movement in India p 22.
(2) توفيق الطويل: ضمن كتاب الفكر العربي في مائة سنة ص277.
(3) صلاح العقاد: دعوة حركة الإصلاح السلفي. المجلة التاريخية المصرية ج7 ص90.
(4) عبد المتعالي الصعيدي: المجددون في الإسلام من القرن الأول إلى القرن الرابع عشر الهجري ص439.(21/128)
الوقت يفوق تدهوره السياسي، وفوق هذا وذاك فإن إصلاح العقيدة الإسلامية في نفوس المجتمع الإسلامي أساس كل إصلاح، ومن هنا نستطيع أن نرد على أولئك الباحثين الآخرين الذين ينقدون ويعيبون على الدعوة الإصلاحية في نجد عدم الاهتمام بالتقدم الحضاري الذي يشهده العالم وقت ظهورها (1) فمبادئ الدعوة - تبعا للإسلام الحق - لا تتنافى مع التقدم الحضاري النافع إذا سار بهدي القرآن والسنة النبوية وآثار السلف الصالحين، ولعل الظروف الصعبة التي أحاطت بالدعوة وأتباعها في تاريخها الطويل هو الذي صرفها عن الأخذ بتلك الحضارة، أما أن ينسب إلى الحضارة وأدواتها أنها ربما قامت عوائق في طريق الدعوات الدينية الإصلاحية السليمة، ومن أجل ذلك تفاداها محمد بن عبد الوهاب، فإن ذلك غير صحيح، إذ ربما كانت هذه الحضارة أيسر تسخيرا في التوصل السريع والنشر العاجل (2) .
وحينما عارض بعض (جماعة الإخوان) المتزمتين في عهد الملك عبد العزيز - رحمه الله - دخول بعض أسباب الحضارة كالسيارة والتلغراف ونحوها قام علماء الدعوة في ذلك الوقت بإبطال اعتراضهم وبيان الحق في ذلك (3) . وأيا كان الأمر فإن مبادئ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم تقف في يوم من الأيام حائلا أمام الأخذ بما ينفع في التقدم الحضاري بشرط ألا يكون ذلك مخالفا لأحكام الإسلام وتعاليمه (4) ولعل ما تشهده المملكة العربية السعودية من تقدم حضاري - في هذا الوقت - في جميع مجالات الحياة خير شاهد على ما نقول.
__________
(1) حسين مؤنس: الشرق الإسلامي في العصر الحديث ص194.
(2) عبد العزيز سيد الأهل: داعية التوحيد محمد بن عبد الوهاب ص11.
(3) رشيد رضا (جامع) : (مجموعة رسائل وفتاوى في مسائل مهمة تمس إليها حاجة العصر) ط المنار 1346هـ.
(4) محمد خليل هراس: الحركة الوهابية ص47 - 51.(21/129)
مبادئ الدعوة:
سنحاول أن نلقي ضوءا شاملا على المبادئ الأساسية لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب والتي من أجلها وقع الاختلاف بينه وبين معاصريه من العلماء - حينذاك - ويمكن حصرها في مسائل هي:
1 -التوحيد:
يمكن القول: إن مسألة التوحيد هي أهم المسائل التي قامت من أجلها دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكل ما عداها من المسائل فهو منضو تحتها أو فرع منها، ويعرف الشيخ محمد بن عبد الوهاب التوحيد بقوله: (هو إفراد الله بالعبادة وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده) (1) ويرى بأن (توحيد الألوهية) هو الذي وقع فيه الانحراف وهو توحيد الله بأفعال العباد التي تعبدهم بها وشرعها لهم مثل الدعاء والنذر والاستعانة والاستغاثة والتوكل وقد أخذ الحديث عن توحيد الألوهية القسم الأكبر من مؤلفات ورسائل الشيخ وعلماء دعوته ولا غرو فقد كان هذا القسم هو مثار الجدال بينهم وبين أعدائهم المخالفين لهم، ويرى الشيخ أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل فإن من عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما، وقد ألف الشيخ كتابا يبحث في هذا الصدد أسماه (كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد) جمع فيه آيات وأحاديث في بيان التوحيد والترغيب
__________
(1) محمد بن عبد الوهاب: كشف الشبهات ضمن مجموعة التوحيد النجدية ص69.(21/130)
فيه وبيان الشرك والتحذير منه. بل إنه ألف رسالة جمع فيها الأمور الشركية التي يزاولها الناس في عصره أسماها (المسائل التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية) .
ويرد الشيخ على من حاول تبرير شركياته كدعاء الأنبياء والأولياء والاستغاثة بهم بأنه طلبا لشفاعتهم وجاههم عند الله يرد عليه بقوله: (إن هذا وقول الكفار سواء بسواء واقرأ عليه قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (1) وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (2) .
__________
(1) سورة الزمر الآية 3
(2) سورة يونس الآية 18(21/131)
2 - الشفاعة: يقسم الشيخ محمد بن عبد الوهاب الشفاعة إلى قسمين:
شفاعة مثبتة، وشفاعة منفية. فالمنفية هي الشفاعة للكافر والمشرك قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (1) وشفاعة مثبتة أثبتها القرآن الكريم وهي خالصة لأهل التوحيد وقيدها تعالى بأمرين: الأول إذنه للشافع أن يشفع كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (2) والثاني رضاه عن المشفوع له قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} (3)
__________
(1) سورة المدثر الآية 48
(2) سورة البقرة الآية 255
(3) سورة الأنبياء الآية 28(21/131)
وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد. وقد أثبت الشيخ وعلماء الدعوة الشفاعة للأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال لورودها إما في القرآن أو في السنة الصحيحة (1) كما أثبتوا الشفاعة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة لأنها ثابتة في السنة الصحيحة، ويقرر علماء الدعوة بأن سبب الحصول عليها هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بما جاء به قولا وعملا واعتقادا. ولا يجوز طلبها من الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه وإنما تطلبها من الله تعالى فتقول في دعائك: (اللهم لا تحرمني شفاعة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم) أو (اللهم شفعه في) (2) ونحو ذلك.
__________
(1) سليمان بن سحمان: الهدية السنية والتحفة الوهابية النجدية ص42.
(2) محمد بن عبد الوهاب: كشف الشبهات ص75.(21/132)
3 - زيارة القبور والبناء عليها:
وهذه المسألة كانت أهم المسائل التي كانت مثار الخلاف بين الشيخ ومعاصريه ولا غرو فقد كانت أكثر مظاهر الوثنية انتشارا في العالم الإسلامي في عصر الشيخ تقديس العامة الجهلة لقبور الأولياء والصالحين وغيرهم واتجاههم إليهم بالعبادة أو ما يقرب من العبادة (1) . وفي (كتاب التوحيد) يورد الشيخ أن سبب كفر بني آدم من أول الخليقة هو الغلو في قبور الصالحين، ويذكر الوعيد الشديد فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده. كما يتحدث عن تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم عن الغلو في
__________
(1) منير العجلاني: تاريخ البلاد السعودية ص269.(21/132)
قبره حيث قال صلى الله عليه وسلم: «لا تتخذوا قبري عيدا (1) » ويرى الشيخ أن مشركي زمانه أشد شركا من المشركين الأولين لأمرين:
أولهما: أن المشركين الأولين لا يشركون إلا في الرخاء أما في الشدة فيخلصون الدين لله كما قال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (2) بينما مشركوا زمانه يتجهون إلى أصحاب القبور في الشدة والرخاء.
وثانيهما: أن الأولين يدعون مع الله أناسا مقربين عند الله إما أنبياء أو أولياء أو ملائكة أو يدعون أحجارا وأشجارا مطيعة لله ليست عاصية، بينما بعض مشركي زمانه يدعون مع الله أناسا من أفسق الناس وممن يحكون عنهم الفجور من الزنا والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك (3) .
وليس معنى ذلك أن علماء الدعوة يمنعون زيارة القبور مطلقا بل يرون أنها قد تكون مستحبة ومشروعة إذا قصد الزائر بها تذكر الآخرة والترحم على الميت والدعاء له بالمغفرة (4) . أما البناء على القبور فيرى الشيخ أنها بدعة محرمة لأنها وسيلة إلى تعظيم صاحب القبر ثم عبادته، ولكنها لا تصل إلى الشرك الأكبر كما يعتقد بعض الناس، ولهذا لم يرد عن الشيخ شيء عن القبة المقامة على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، بل كتب في إحدى رسائله أنه يستحسن هدمها ويأمر به (5) ، ولعل السبب في عدم التعرض لها بالهدم - من بين القباب - أن أصحاب الدعوة رأوا
__________
(1) محمد بن عبد الوهاب: كتاب التوحيد ص26 - 30.
(2) سورة لقمان الآية 32
(3) محمد بن عبد الوهاب: كشف الشبهات ص77 و 78.
(4) محمد بن عبد الوهاب وآخرون: مجموعة الرسائل والمسائل النجدية ج4 ص279.
(5) حسين بن غنام: تاريخ نجد تحقيق الدكتور \ ناصر الدين الأسد ص527 و 540.(21/133)
في هدمها شرا مستطيرا على العالم الإسلامي يزيد في اختلافه وتنازعه (1) .
والحق أن موقف الدعوة من أصحاب القبور ليس خدمة لفكرة التوحيد فحسب وإنما هي دفاع عن وحدة المسلمين السياسية (2) ذلك أن أصحاب هذه القبور متفرقون، كل فرقة تعظم قبرا لا تعظمه الفرقة الأخرى، بينما أهل التوحيد يعبدون الله وحده ويتجهون إليه بكل أمورهم، فإذا ما انضم المجتمع الإسلامي كله إلى صف أهل التوحيد قويت وحدته الدينية والتي على أساسها تقوم كل وحدة.
__________
(1) رشيد رضا: الوهابيون والحجاز ص56، ومسعود الندوي: محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم مفترى عليه ص220.
(2) منير العجلاني: تاريخ البلاد السعودية ص271.(21/134)
4 - البدع:
وهي عند الشيخ وعلماء الدعوة كل الأمور المحدثة في الدين، ويركزونها في العبادات دون العادات كالملبس والمأكل (1) ويذكرون لها أنواعا متعددة مثل رفع الصوت بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان، وبدعة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وبدعة التوسل بجاه النبي أو الحلف به وغيرها.
أما حكم هذه البدع في نظر علماء الدعوة فهي مذمومة على كل حال، ويختلف الحكم عليها باختلاف نوعها والقصد الذي أراده فاعلها، فإذا كان بعض هذه الأنواع محرما فإن بعضها قد يصل إلى درجة الشرك مثل الحلف بغير الله إذا قصد المقسم بحلفه التعظيم (2) ويمكن
__________
(1) انظر محمد أبو زهرة: ابن تيمية عصره وحياته ص530، 531 ومنير العجلاني: تاريخ البلاد السعودية ص288.
(2) عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: ضمن مجموعة التوحيد ص413.(21/134)
القول: إن هناك بعض البدع يجد الباحث تركيز علماء الدعوة في الحديث عنها في كثير من المناسبات وأهمها:
بدعة الاحتفال بالمولد النبوي: فهي بدعة محدثة في الدين لأنها لم ترد عن سلف هذه الأمة وخاصة الصحابة رضي الله عنهم الذين لا شك أنهم أكثر حبا منا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو كان في الاحتفال بمولده خير لفعلوه.
بدعة المحمل: وهو جمل ينصب عليه هودج يحمل كسوة الكعبة المشرفة ويزين بأنواع الزينة ويجعلونها في مقدمة قافلة الحج من مصر ويأتي في موكب من الطبول والزمورالذي لا يتفق مع قدسية المكان، وجعلوا ذلك كالسنة المتبعة أو الفريضة الشرعية حتى توهم العامة أنه جزء من الحج وبالغوا في تعظيمه والتمسح به.(21/135)
5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
لقد جعلت الدعوة كل مسلم مسئولا عن تطبيق أوامر الدين الإسلامي واجتناب نواهيه في المجتمع الإسلامي وذلك حسب استطاعته وهذا ما أطلق عليه اسم (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ، وهو دليل على عدم وجود فجوة بين المجال النظري للدعوة وبين التطبيق العملي للمؤمنين بها (1) ، وهذا النظام لم تنكره الدعوة، وإنما هو إرث وتقليد قديم، إذ كان يطلق عليه نظام (الحسبة) ويسمى صاحبه (المحتسب) وعمله تطبيق قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان معه أعوان يراقبون أمور العبادة والأخلاق العامة والتجار وأرباب الحرف والأسعار والموازين، وهو مماثل لنظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند
__________
(1) محمد خليل هراس: الحركة الوهابية ص69.(21/135)
الدعوة إلى حد كبير، وإن كان النظام ينصب عند الدعوة على الاهتمام بأمور العبادات والأخلاق العامة.
ويحرص الشيخ محمد بن عبد الوهاب على توجيه أتباعه نحو آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيذكر أنه إذا صدر منكر من مسلم أمير أو غيره ينصح برفق خفية فإن وافق وإلا أرسل إليه من ينصحه، فإن لم يفلح أنكر عليه ظاهرا إلا إذا كان صاحب المنكر أميرا فيرفع الأمر إلى ولي الأمر الأكبر خفية. وكان هذا التوجيه من الشيخ حرصا منه على إجماع الأمة وعدم الفرقة (1) .
__________
(1) حسين بن غنام: تاريخ نجد تحقيق الدكتور \ ناصر الدين الأسد ص411، 412.(21/136)
6 - التكفير والقتال:
اقتضت الرغبة في نشر مبادئ الدعوة امتشاق الحسام - كما مر - وذلك دفاعا عن الدعوة وحماية لها ولأصحابها من أعدائهم من ناحية، ونشرا لها من ناحية أخرى، وليس معنى ذلك أن الدعوة انتشرت بحد السيف، ولكن العكس هو الصحيح، فقد كانت الدعوة في معظم الأحوال تسبق الغزوات ثم تكون مهمة الغزوات بعد ذلك لحماية أنصار الدعوة والراغبين في الدخول فيها.
لقد سلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب في سبيل نشر دعوته عدة طرق ووسائل يأتي (الجهاد والقتال) في آخرها فسلك أساليب (الوعظ والتدريس، والخطابة، والرسائل والمناظرات وتأليف الكتب) ثم إذا(21/136)
لم تفد كل هذه الوسائل يأتي دور (الجهاد والقتال) حماية للدعوة ونشرا لها؛ لأن الدعوة لم تقم أصلا على تكفير المسلمين الذين لا يوافقون على الإيمان بمبادئها - كما يزعم أعداؤها - ولهذا يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في إحدى رسائله: (وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول ثم بعدما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله فهذا الذي أكفره وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك) وأما القتال فلم نقاتل أحدا إلى اليوم إلا دون النفس والحرمة، وهم الذين أتونا في ديارنا ولا أبقوا ممكنا ولكن قد نقاتل بعضهم على سبيل المقابلة {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (1) وكذلك من جاهر بسب دين الرسول بعدما عرفه، ويذكر في رسالة أخرى أن علماء المسلمين أجمعوا على أن من صدق الرسول في شيء وكذبه في شيء آخر فهو كافر حلال الدم والمال وإخلاص التوحيد لله تعالى أهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فكيف نقاتل من ينكر الصلاة والزكاة ولا نقاتل من ينكر إخلاص التوحيد لله (2) .
ولهذا فإن علماء الدعوة في رأيهم هذا لم يأتوا بجديد، بل هم يطالبون أصحاب المذاهب الإسلامية الأخرى (كالشافعية والحنفية والمالكية) بالتمسك بأقوال أئمتهم في إخلاص التوحيد، ولو أن الإمام الشافعي - مثلا - وجد اليوم ما يفعله الناس عند قبره لكان أشد أتباع الدعوة ردعا لهؤلاء وغضبا لروح التوحيد (3) .
__________
(1) سورة الشورى الآية 40
(2) محمد بن عبد الوهاب: كشف الشبهات ص79 - 85.
(3) محب الدين الخطيب: الوهابية - مجلة الزهراء المجلد الثالث صفر 1345 هـ ص96 و 97.(21/137)
7 - الاجتهاد والتقليد:
لقد أدرك الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن(21/137)
سبب انحراف المسلمين عن إسلامهم الصحيح هو انشغالهم بكتب المتأخرين عن النظر في القرآن الكريم والسنة النبوية (1) ، وكان ذلك راجعا إلى اعتقاد الناس استحالة وصولهم إلى مرتبة الاجتهاد، وبهذا آمن الشيخ وعلماء دعوته بأنه لا سبيل إلى إصلاح الأمة إلا بتحطيم قيود التقليد والعودة إلى النظر في القرآن والسنة. وليس القرآن بمستعصي المعنى وليست السنة بمستعصية على طالبي فهمها.
والشيخ وعلماء دعوته يصرحون بأن مذهبهم في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة وفي الفروع مذهب الإمام أحمد بن حنبل. ويذكرون أن أصول الدين لا اجتهاد فيها أما الفروع فهم لا يلتزمون بمذهب الإمام أحمد وإنما يقبلون كلمة الحق من أي إمام كان، لذلك نجدهم لا يتعصبون للمذهب الحنبلي ولا يقدمونه على نص قاطع، فنجدهم ينقلون أقوال الأئمة الأربعة ليقرروا بعد ذلك الرأي المرجح عندهم.
ولا يقال: إن تأثر الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأحمد بن حنبل وابن تيمية وتلميذه ابن القيم (2) - كما سبق - تقليد لهما، وإنما هو موافقة الحق للحق. إن معنى التقيلد أن تؤخذ قضايا الأولين مسلمة من غير نظر في الأدلة، وأما الإيمان بها عن دليل وإقناع فلا يسمى ذلك تقليدا (3) - لذلك فالشيخ وعلماء الدعوة لا ينكرون على أحد اتباعه أحد المذاهب
__________
(1) حسين بن غنام: تاريخ نجد تحقيق الدكتور \ ناصر الدين الأسد ص361.
(2) محمد أبو زهرة: ابن حنبل حياته وعصره ص390.
(3) محمد خليل هراس: الحركة الوهابية ص37 و 38، وزكريا البري: أصول الفقه الإسلامي ص323 - 325.(21/138)
الأربعة دون غيرهم لعدم ضبط المذاهب الأخرى، وهم يرون أنه لا يوجد أحد يستحق مرتبة (الاجتهاد المطلق) ، أما الاجتهاد في بعض المسائل فلا مانع عندهم. لذلك نجد للشيخ وبعض علماء الدعوة اجتهادات في بعض المسائل مع مخالفتها لمذهب الحنابلة كإرث الجد والأخوة فهم يقدمون الجد بالإرث ومثل جواز صلاة المنفرد خلف الصف. بل للشيخ اجتهادات أكثر تحررا مثل جعل دية المسلم ثمانمائة ريال بدل مائة ناقة وهكذا.
ولهذا يقرر كثير من الباحثين أن من أبرز معطيات دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب العودة بعلماء المسلمين إلى الاجتهاد في الفروع بعد أن كان ذلك معدوما أو شبه معدوم. وبعد: فتلك هي نظرة عامة على المبادئ الأساسية التي حرصت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب على إقرارها، وهي كما رأينا مبادئ الإسلام بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وهذا ما قرره المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي في تاريخه حينما أورد بعض رسائل علماء الدعوة المتضمنة بيان عقيدتهم فقال ما نصه " أقول: إن كان كذلك، فهذا ما ندين لله به أيضا وهو خلاصة لباب التوحيد وما علينا من المارقين والمتعصبين " (1) .
__________
(1) عبد الرحمن الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار ج2 ص591 في حوادث محرم عام 1218هـ.(21/139)
وقبل أن ننهي حديثنا عن مبادئ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب يحسن بنا أن نقول: إن دعوة الشيخ تتلخص في مبدأين (1) رئيسيين:
أولهما: الدعوة إلى توحيد الله تعالى في عبادته وإخلاص العبادة لله تعالى قولا وعملا والبعد عن كل ما ينافي ذلك. ويندرج تحت الدعوة إلى هذا المبدأ جميع المبادئ الستة السابقة.
ثانيهما: الدعوة إلى الاجتهاد ومحاربة التقليد الأعمى كما فصلناه سابقا.
__________
(1) أحمد عبد الرحيم مصطفى: حركة التجديد الإسلامي في العالم العربي الحديث ص32.(21/140)
ثالثا: أثر الدعوة في العالم الإسلامي
عوامل انتشارها: من أجل الرغبة في نشر مبادئ الدعوة والدفاع عنها أمام خصومها قامت معارك عمت معظم أجزاء شبه الجزيرة العربية نقلتها من حال إلى حال، حولتها من الانقسام إلى الوحدة ومن الانحراف والجهالة والعصيان إلى التوحيد والعلم والعبادة وأصلحتها في أخلاقها ومعاملاتها وكانت عاقبتها خيرا للإسلام والمسلمين في الدين والدنيا. هي صراع بين الحق والباطل انتهت بانتصار دعوة الحق وأصحابها (1) وقامت دولة إسلامية عزيزة الجانب مرهوبة الأركان وحدت الإمارات المتناحرة تحت لوائها وامتدت من البحر الأحمر غربا إلى الخليج العربي شرقا ومن الشام شمالا إلى اليمن جنوبا (2) . توفرت لها كل مقومات الدولة في
__________
(1) علي الطنطاوي: محمد بن عبد الوهاب ص34 - 40 وحسن خزعل: حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص338.
(2) عبد الله الشبل: الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب حياته ودعوته ص62.(21/140)
مفهوم ذلك العصر وعرفت - تاريخيا - باسم (الدولة السعودية الأولى) حتى إذا سقطت تلك الدولة على يد محمد علي باشا والي مصر من قبل العثمانيين عام (1233هـ - 1818م) - قامت بعدها (الدولة السعودية الثانية) من عام 1238 - 1309هـ (= 1823- 1891م) ثم الدولة السعودية الثالثة على يد الملك عبد العزيز آل سعود عام 1319هـ (1901م) وقد سرى روح الدفاع عن الدعوة السلفية الإصلاحية في الدولتين السعوديتين الثانية (1) والثالثة كما سرى ذلك في الأولى. لكن إذا كانت الدعوة السلفية قد وطدت أقدامها في مساحات واسعة من شبه الجزيرة العربية - دينيا وسياسيا - في ظل الدولة السعودية بجميع أدوارها فإنها تعدت في انتشارها إلى بلاد داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها حتى أنارت عقول الأمة الإسلامية من سومطرة شرقا إلى نيجيريا غربا. هذه الميزة تدفعنا إلى البحث عن عوامل نجاحها، وأسباب انتشارها وخاصة في آسيا وأفريقيا، ويمكن تلخيصها بما يلي:
طبيعة الدعوة وكون مبادئها توافق الفطرة السليمة وهذا عامل في انتشارها فهي سهلة الفهم بعيدة عن التعقيدات والأمور الفلسفية لأنها هي الإسلام بعينه. صاحب الدعوة (الشيخ محمد بن عبد الوهاب) وقوة إيمانه بدعوته وجهاده في سبيلها مهما بلغ الثمن، وتعددت التضحيات.
القوة السياسية للدعوة وهي التي تمثل أنصار الدعوة من (آل سعود) وما بذلوه من التضحية بأنفسهم وأموالهم في سبيل نجاح هذه الدعوة وإقرارها.
__________
(1) عبد الفتاح أبو عليه: الدولة السعودية الثانية ص24.(21/141)
بيئة الدعوة (نجد) من حيث بساطة أهلها وتقشفهم أعدهم لتحمل مشاق نشر الدعوة، بالإضافة إلى بعد (نجد) عن عصا الدولة العثمانية ونفوذ رجال الدين والمتصوفين وفقهاء المذاهب المختلفة الذين سيحاربون الدعوة - بعد ذلك - خوفا على مراكزهم.
دور علماء الدعوة وما قاموا به من نشر مبادئها في كثير من المناطق بأنفسهم أو بمؤلفاتهم ورسائلهم.
عصر الدعوة: من حيث ما أصاب المسلمين فيه من انحراف ديني وتدهور سياسي بالإضافة إلى تقهقره الاجتماعي، وتخلفه الاقتصادي جعل من الدعوة أمام الناس المنقذ الوحيد لهم.
موسم ومكان الحج: فهو أكبر وسيلة لنشر مبادئ الدعوة خاصة في وقت خضوع الحجاز لدولة الدعوة من سنة 1217هـ - 1228هـ (= 1802 - 1813م) وما امتاز به من أمن واستقرار وتطبيق لمبادئ الإسلام على الوجه الصحيح، وكذا الحال حينما دخلت الحجاز في ظل الدولة السعودية الثالثة عام 1343هـ، فآمن كثير من الحجاج بالدعوة بسبب ذلك وعادوا إلى أوطانهم داعين لها بحماس.
العلاقات التجارية: سواء كانت علاقات فردية يقوم بها أتباع الدعوة مع غيرهم أو علاقات دولية تقوم بها الدولة السعودية مع جيرانها. كان لهذه العلاقات دور في نشر مبادئ الدعوة إلى حد كبير.
كما يجب ألا ننسى دور خصوم الدعوة وبخاصة المفكرين منهم(21/142)
فإنهم روجوا للدعوة ولفتوا الأنظار إليها من حيث لا يريدون كما قال الشاعر:
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت ... أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف فضل طيب العود (1)
باجتماع هذه العوامل وتكاتفها صار للدعوة رصيد كبير من الأنصار والمؤيدين بل والتابعين المتأثرين بأفكارها ومبادئها.
ولما كان العالم الإسلامي الذي انتشرت فيه الدعوة يتركز في قارتي آسيا وأفريقية فإن انتشار الدعوة تركز تبعا لذلك في القارتين المذكورتين، وإذا وجد تأثير لها في خارج محيط العالم الإسلامي- كدول أوروبا (2) مثلا - فهم مع قلتهم ذوو أثر طفيف.
أولا: في قارة آسيا: كانت أهم المناطق التي تأثرت بالدعوة في آسيا هي:
أ- اليمن وأطراف الجزيرة: ففي اليمن وجد مجموعة من العلماء تأثروا بالدعوة وأهمهم الشيخ الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني (1099- 1182هـ) (3) والشيخ محمد بن علي الشوكاني (1172 - 1250هـ) (4) . وفي أطراف الجزيرة انتشرت الدعوة في قطر والبحرين والمنطقة الشمالية الغربية من عمان.
__________
(1) حسين بن غنام: روضة الأفكار والأفهام ج1 ص34.
(2) أحمد عبد الغفور عطار: محمد بن عبد الوهاب ص208.
(3) عبد الله محمد حبشي: تاريخ الدعوة الوهابية من مخطوط. يمني، مجلة العرب (رجب عام 1392هـ) .
(4) أحمد أمين: زعماء الإصلاح في العصر الحديث ص21 و 22.(21/143)
وعند القبائل التابعة لبعض مشايخ الساحل العماني خاصة القواسم (1) والقبائل المنتشرة في بادية الشام. بل وجد في العراق عند أهل السنة من يعتبرون أتباعا للدعوة السلفية ومؤيدين لها وعلى رأسهم الشيخ (محمود شكري الألوسي 1273 - 1342هـ) (2) .
ب - في الهند وباكستان: انتشرت الدعوة هناك على يد الزعيم الهندي المسلم (أحمد بن عرفات الباريلي 1201 - 1246 هـ = 1786 - 1831م) الذي حج إلى مكة عام 1236هـ والتقى ببعض دعاة الدعوة هناك فتأثر بهم وعاد لوطنه داعيا لها فاصطدم مع (السيخ) الوثنيين. وجاهد في القضاء على البدع والخرافات عند قومه المسلمين حتى أسس دولة مستقلة في (البنجاب) لم تلبث أن اصطدمت مع الاستعمار الإنجليزي الذي تعاون مع (السيخ) فقضى عليها. ولكن بقيت دعوته الإصلاحية في أتباعه، ومن المؤيدين للدعوة في الهند وباكستان (أحمد خان) (1237- 1316 = 1817 - 1898م) الذي كان له جهود في محاربة البدع والخرافات عند المسلمين هناك كما كان له جهود علمية من أهمها تأسيس (كلية عليكرة) ولقد أجمع أكثر المؤرخين على أن لأتباع الدعوة السلفية في بلاد الهند دروا كبيرا في ظهور (الثورة الهندية الاستقلالية) والتي نالت بها الهند استقلالها عام 1367هـ (1947 م) (3) .
جـ - في أندونيسيا: تركز انتشار الدعوة في أندونيسيا على جزيرة (سومطرة) ويرجع تاريخ ذلك الانتشار إلى أوائل القرن الثالث عشر الهجري
__________
(1) انظر صالح محمد العايد: دور القواسم في الخليج العربي ص157 (ط بغداد 1976م) .
(2) عبد الرحمن عبد اللطيف آل الشيخ: مشاهير علماء نجد وغيرهم ص468.
(3) لوثروب ستودارد: حاضر العالم الإسلامي ترجمة عجاج نويهض تعليق شكيب أرسلان ج1 ص263(21/144)
(التاسع عشر الميلادي) حينما حج ثلاثة أشخاص من مسلمي أندونيسيا إلى مكة واتصلوا هناك بدعاة الدعوة السلفية وعلمائها فتأثروا بهم وعادوا إلى أوطانهم يدعون للدعوة بحماسة حتى صار لهم أتباع كثيرون فاصطدموا بقوات الاستعمار الهولندي فدامت الحروب بينهم ستة عشر عاما (1) . وهي وإن كانت قد انتهت بتغلب قوات الاستعمار، إلا أن أتباع الدعوة ظلوا متمسكين بأفكارهم فاستطاعوا نشرها بالطرق السلمية ولاقوا نجاحا كبيرا تبدو آثاره واضحة حتى الآن، ولقد كان لانتشار مجلة المنار التي أسسها الشيخ (رشيد رضا) وأفكارها أثر في انتشار الدعوة بشكل أكبر.
د - في التركستان: ففي سنة 1288هـ (1871م) ظهر داعية للدعوة اسمه (صوفي بارال الخوقندي) من (قوقند) بالتركستان الغربية. الذي اعتنق دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتحمس لنشرها بين المسلمين هناك. وتزعم الثورة ضد روسيا القيصرية، فهاجم حاميتها قرب (طشقند) إلا أن القوات الروسية تغلبت عليه وعلى أتباعه في نهاية الأمر، فاقتصر نشاط أتباعه على الدعوة السلمية.
هـ - في الصين: فقد ظهر في مقاطعة (فالصو) في الصين داعية إسلامي اسمه (الشيخ فوح ماكويوان) في عام 1311هـ (1894م) حيث اعتنق دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعد أدائه لفريضة الحج. فحارب البدع والشركيات عند المسلمين هناك فاجتمع حوله الأنصار والأتباع وتسموا بـ (الإخوان) وصار لهم نشاط إصلاحي كبير. واستمر
__________
(1) توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام ترجمة حسن إبراهيم حسن وآخرون ص410(21/145)
ذلك حتى قيام الثورة الشيوعية في الصين عام 1949م (1) .
ثانيا: في قارة أفريقية: فأهم المناطق التي تأثرت بالدعوة فيها ما يأتي:
أ- في مصر: قامت في مصر حركة إصلاحية على يد عالمين يعتبران من قادة الفكر الإسلامي في العصر الحديث وهما (السيد جمال الدين الأفغاني 1255 - 1315هـ = 1839 - 1897م) و (الشيخ محمد عبده 1266 - 1323هـ = 1840 - 1905م) وقد قام جمال الدين الأفغاني برحلات عديدة إلى أقطار العالم الإسلامي ومنها مصر التي بث فيها أفكاره القائمة على مكافحة الاستعمار الأجنبي عن بلاد المسلمين عن طريق عودة المسلمين إلى إسلامهم الصحيح، وتنقية عقيدة المسلمين مما شابها من بدع وخرافات وانحراف وفساد وكان من أبرز تلاميذه في مصر الشيخ محمد عبده الذي تحمس لأفكاره ودعا إليها.
كما دعا إلى الاجتهاد ومحاربة التقليد الأعمى الذي ران على علماء المسلمين في ذلك الوقت (2) . وبهذا يقرر كثير من الباحثين تأثرهما بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبرز ذلك في (مجلة العروة الوثقى) . التي أسساها في باريس عام 1300 هـ (1883م) ثم ظهر الشيخ (محمد رشيد رضا 1282 - 1354هـ = 1865 - 1935م) الذي هاجر من الشام إلى مصر عام 1315هـ (1897م) وهو يعتبر شخصية سلفية من تلاميذ (الأفغاني ومحمد عبده) وكان بحق أكبر مناصر وداع لحركة الدعوة
__________
(1) فهمي هويدي: المسلمون في الصين وعصابة الأربعة، مجلة العربي، العدد 265 ديسمبر 1981 م ص87
(2) Kerr.M.Islamic Reform PP 154-153، aoust. I Bid، P 559(21/146)
السلفية في مصر خاصة والعالم الإسلامي عامة في العصر الحديث، فقد ألف عدة كتب مناصرة لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأسس (مجلة المنار) في مصر عام 1315هـ والتي استمرت في الصدور حتى وفاته عام 1354 هـ (1935م) وكانت أكبر مناصر للدعوة هناك. كما طبعت مطبعة المنار بمصر عددا من مؤلفات علماء الدعوة السلفية في نجد وناشريها (1) . وقد كان لنشاط رشيد رضا السلفي نجاح كبير في مصر وغيرها من بلدان العالم الإسلامي، وظهر أتباع عديدون مؤيدون للدعوة السلفية، كما ظهرت جمعيات عديدة تدين بالولاء والتبعية للدعوة السلفية ومن أبرزها في مصر (جمعية أنصار السنة المحمدية) التي أسسها (محمد حامد الفقي) تلميذ رشيد رضا في مصر - وتصدر هذه الجمعية حتى الآن مجلة شهرية باسم (التوحيد) .
ب- في ليبيا: ظهرت دعوة إصلاحية في ليبيا بزعامة (محمد بن علي السنوسي 1202 - 1276 = 1787- 1859م) الذي ذهب في إحدى رحلاته إلى مكة للحج عام 1253هـ والتقى هناك بدعاة الدعوة وعلمائها فتلقى منهم مبادئ الدعوة واقتنع بها وبنى عليها أساس دعوته الإصلاحية، فحارب البدع والخرافات التي توجد في مسلمي بلاده، كما دعا إلى الاجتهاد وحارب التقليد، وإن كان شاب دعوته بعض مبادئ التصوف كالزوايا، كما أن دعوته كانت سليمة خالصة انتشرت بالطرق السلمية ولاقت نجاحا كبيرا وكان لأتباع السنوسي دور كبير
__________
(1) محمد بن عبد الله السلمان: رشيد رضا ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص335 وما بعدها(21/147)
في محاربة الاستعمار الإيطالي والفرنسي في شمال أفريقيا.
ج- في الجزائر: فإن الوجه السلفي لها يتمثل في (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) بزعامة (عبد الحميد بن باديس 1305 - 1359 = 1887-1940) الذي اطلع على مبادئ الدعوة السلفية حينما أدى فريضة الحج إلى مكة، كما اجتمع ببعض علماء الدعوة وقادة الفكر والإصلاح في المشرق العربي. وقد أسس ابن باديس جمعيته على أساس من المبادئ السلفية فدعا إلى إصلاح عقيدة الجزائريين من أنواع البدع والخرافات. ودعا إلى الاجتهاد ومحاربة التقليد والجمود الفكري. وذلك بالتعميق في القرآن الكريم والسنة النبوية. وقد كان لجمعيته دور كبير في محاربة الاستعمار الفرنسي والذي نال الجزائر بها استقلاله عام 1382هـ (1962م) .
د- في السودان: ظهرت حركة إصلاحية في السودان أطلق عليها اسم (الحركة المهدية) وتزعمها (محمد عبد الله أحمد 1845 - 1885) الذي دعا إلى محاربة الفساد والبدع والخرافات عند المسلمين كما أعلن الجهاد لتحرير بلاده من الاستعمار الإنجليزي. وقد ضمن دعوته كثيرا من مبادئ التصوف وهو ما تنكره دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتحاربه - كما سبق - ورغم ذلك يصر بعض من الباحثين على تأثر(21/148)
المهدي بالدعوة السلفية في نجد خاصة في دعوته إلى محاربة البدع في الدين وأنواع الفساد وقد توفي مهدي السودان في الخرطوم عام 1885م دون أن يتعدى تأثير دعوته السودان نفسها.
هـ - في غرب أفريقيا: ظهر تأثير الدعوة السلفية في منطقة غرب أفريقيا في قبيلة إسلامية كبيرة اسمها قبيلة (الفلبي) وكان ذلك في مطلع القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي) وذلك على يد الداعية المسلم (عثمان دانفوديو) الذي عاد من مكة حاجا بعد أن التقى بدعاة السلفية فيها وتأثر بآرائهم وعاد إلى بلاده وكله حماسة وغيرة من أجل إصلاح عقيدة المسلمين هناك على أساس الإسلام الخالص من كل شوائب الشرك والفساد والخرافات. ونجح في ذلك وصار له أتباع كثيرون حارب بهم قبائل الهوسة الوثنية عام 1217هـ (1802) وأسس مملكة (سوكوتو) الإسلامية هناك والتي قدرت مساحتها بأربعمائة ألف كيلو متر مربع وسكانها عشرة ملايين من الأنفس وقد استمرت هذه المملكة حتى بعد وفاة مؤسسها (عثمان دانفوديو) سنة 1231هـ (1816م) ، لكن لم تلبث أن اصطدمت بقوات الاستعمار البريطاني. وانتهى ذلك بقيام الإدارة البريطانية في (نيجيريا) عام 1318هـ (1900م) بينما بقي أتباعها متحمسين للدعوة ناشرين لها سلميا ومن أبرز هؤلاء الأتباع الداعية المسلم (أحمد بللو) الذي اغتيل في رمضان عام 1385هـ (1966م) بعد عودته من مكة معتمرا رحمه الله (1) .
__________
(1) محمود شاكر: نيجيريا ص88 وأحمد عبد الغفور عطار: محمد بن عبد الوهاب ص217(21/149)
وبعد: فقد رأينا مدى انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية في أصقاع مختلفة من العالم الإسلامي. وقد أثبتت الدعوة نجاحها في أكثر البلدان التي دخلتها من ناحية تصحيح عقيدة المسلمين من شوائب الشرك والبدع والخرافات والتي كادت أن تشوه الإسلام وتفسد جماله وتذهب بروعته. ولا يستطيع منصف ينظر في حال المجتمع الإسلامي خلال القرنين الماضيين ويغفل دور هذه الدعوة المباركة في نشر الوعي الإسلامي بين المسلمين ثم دورها في إيقاظ شعلة الحركات التحريرية ضد الاستعمار الأوروبي، ثم أيضا أثرها الكبير على اليقظة الفكرية والنشاط العلمي بين المسلمين الذي برزت آثاره عن طريق ما يقع بين أنصار الدعوة وخصومها من محاجات ومناقشات علمية نافعة حتى التقى المجتمع الإسلامي أخيرا مع هذه الدعوة عن طريق العلم الذي لا تقف أمامه الأباطيل والأكاذيب والمفتريات من ناحية، وعن طريق التعمق والبحث بأمور الدين ودراستها دراسة عميقة من ناحية أخرى.
وإذا كانت الدعوة نجحت من ناحية تصحيحها عقيدة أتباعها فإن دورها في هذه الناحية لا يزال في طريقه إلى التمام، فلا زال في العالم الإسلامي مجتمعات تعيش في ظلام القرون الماضية وبحاجة إلى توجيهها نحو الدعوة السلفية وتعاليمها المباركة. وهو واجب علماء المسلمين اليوم.
وعلى الله قصد السبيل.(21/150)
(المصادر والمراجع)
أولا: المصادر والمراجع العربية:
- أرنولد، توماس: الدعوة إلى الإسلام، ترجمة الدكتور إبراهيم حسن وآخرون، الطبعة الثالثة 1970م.
- أمين، أحمد: زعماء الإصلاح في العصر الحديث، الطبعة الثالثة عام 1971م.
- الأهل، عبد العزيز سيد: داعية التوحيد محمد بن عبد الوهاب - دار العلم للملايين بيروت، الطبعة الأولى 1974م.
- ابن بشر، عثمان: عنوان المجد في تاريخ نجد. طبع وزارة المعارف السعودية، الطبعة الثانية 1391هـ.
- ابن تيمية، أحمد: الواسطة بين الخلق والحق. الطبعة الأولى المطبعة السلفية بمصر 1397هـ.
- ابن تيمية، أحمد: قاعدة جليلة في التوفي والتوسل والوسيلة. طبع لاهور بباكستان 1397هـ.
- الجبرتي، عبد الرحمن: عجائب الآثار في التراجم والأخبار - دار الجيل ودار الفارس بيروت (بدون تاريخ) .
- جمعه، محمد كمال: انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب خارج الجزيرة العربية، طبع دارة الملك عبد العزيز بالرياض 1397هـ.
- ابن حسن، عبد الرحمن آل الشيخ: قرة عيون الموحدين ضمن مجموعة التوحيد النجدية مكة المكرمة، مطبعة الحكومة 1391هـ.
- ابن حسن، عبد الرحمن آل الشيخ: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد تحقيق محمد حامد الفقي الطبعة السابعة 1377هـ.
- حسين، طه (الدكتور) الحياة الأدبية في جزيرة العرب، الطبعة الأولى دمشق 1354هـ (1935م) .(21/151)
- الحصري، ساطع: الدولة العثمانية والبلاد العربية بيروت دار العلم للملايين (بدون) .
- ابن حميد، محمد بن عبد الله: السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة - مخطوط في معهد المخطوطات العربية رقم 1095 (تاريخ) .
- الخطيب، عبد الكريم: محمد بن عبد الوهاب الطبعة الأولى بالقاهرة.
- ابن خميس، عبد الله: راشد الخلاوي حياته وشعره نشر دار اليمامة بالرياض 1392هـ.
- ابن خلدون، عبد الرحمن: العبر وديوان المبتدأ والخبر - بيروت.
- درويش، كمال السيد: محمد بن عبد الوهاب والدعوة الوهابية - رسالة ماجستير لم تنشر - كلية الآداب جامعة الإسكندرية.
- رضا، محمد رشيد: الوهابيون والحجاز. مطبعة المنار بمصر الطبعة الأولى 1344هـ.
- الزحيلي، وهبة (الدكتور) الاجتهاد في الشريعة الإسلامية من بحوث مؤتمر الفقه الإسلامي بالرياض عام 1396هـ. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
- الزركلي، خير الدين: الأعلام (قاموس تراجم) الطبعة الثالثة (بدون تاريخ) .
- أبو زهرة، محمد: ابن حنبل حياته وعصره وآراؤه وفقهه - دار الفكر العربي (بدون تاريخ) .
- أبو زهرة، محمد: ابن تيمية، حياته وعصره وأراؤه وفقهه - دار الفكر (بدون تاريخ) .
- ستودارد، لوثروب: حاضر العالم الإسلامي ترجمة عجاج نويهض تعليق شكيب أرسلان دار الفكر العربي 1394هـ.(21/152)
- ابن سحمان، سليمان: الهدية السنية والتحفة الوهابية النجدية. تعليق محمد رشيد رضا مطبعة المنار عام 1344هـ.
- سليمان، أحمد السعيد (الدكتور) : محاضرات في تاريخ الدولة العثمانية (لم تنشر) كلية العلوم الاجتماعية بالرياض 1398هـ.
- الشبل، عبد الله يوسف (الدكتور) : محاضرات في تاريخ الدعوة الإصلاحية والدولة السعودية (لم تنشر) كلية العلوم الاجتماعية 1398هـ.
- الشبل، عبد الله يوسف (الدكتور) : الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب حياته ودعوته. الطبعة الأولى 1400هـ.
- الشيال، جمال الدين (الدكتور) : محاضرات عن الحركات الإصلاحية ومراكز الثقافة في الشرق الإسلامي الحديث ج1 1957م.
- آل الشيخ، عبد الرحمن بن عبد اللطيف: مشاهير علماء نجد وغيرهم. الطبعة الثانية نشر دار اليمامة 1394هـ بالرياض.
- الصعيدي، عبد المتعالي، المجددون في الإسلام من القرن الأول إلى القرن الرابع عشر دار الحمامي بالقاهرة (بدون) .
- الطويل، توفيق (الدكتور) : الفكر الديني الإسلامي في العالم العربي إبان المائة عام الأخيرة ضمن كتاب الفكر العربي في مائة سنة، بحوث مؤتمر هيئة الدراسات العربية عام 1966م الجامعة الأمريكية ببيروت.
- الطنطاوي، علي: محمد بن عبد الوهاب. سلسلة أعلام التاريخ (7) الطبعة الأولى عام 1381هـ.
- عبد الرحيم، عبد الرحيم عبد الرحمن: الدولة السعودية الأولى. الطبعة الأولى القاهرة 1969م.
- ابن عبد الوهاب، عبد الله بن محمد (آل الشيخ) رسالة عامة عند دخول جيوش الدعوة مكة ضمن الهدية السنية لابن سحمان.(21/153)
- ابن عبد الوهاب: محمد (الشيخ) .
- عدة رسائل ضمن تاريخ نجد لابن غنام تحقيق الدكتور ناصر الدين الأسد مطبعة المدني القاهرة 1381هـ.
- عدة رسائل ضمن الدرر السنية والتحفة الوهابية النجدية جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم الطبعة الأولى 1352هـ.
- عدة رسائل ضمن مجموعة التوحيد النجدية - مكة المكرمة - مطبعة الحكومة عام 1391هـ.
- المسائل التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية. تعليق محمود شكري الألوسي المطبعة السلفية بمصر 1394هـ.
- ابن عبد الوهاب، محمد (الشيخ، وآخرون) .
- مجموعة الرسائل والمسائل النجدية - مطبعة المنار بمصر عام 1349هـ.
- مجموعة التوحيد النجدية - مكة المكرمة، مطبعة الحكومة 1391هـ.
- مجموعة رسائل وفتاوى في مسائل مهمة تمس إليها حاجة العصر لعلماء نجد الأعلام. . . جمع رشيد رضا مطبعة المنار 1346هـ.
- الدرر السنية في الأجوبة النجدية. جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم الطبعة الأولى عام 1352هـ.
- ابن عبد الوهاب، سليمان: الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية، طبع استانبول (بدون تاريخ) .
- العجلاني، منير (الدكتور) : تاريخ العربية السعودية الجزء الأول. الدولة السعودية الأولى دار الكتاب العربي. بيروت.
- العابد، صالح محمد (الدكتور) : دور القواسم في الخليج العربي 1747 - 1820 بغداد 1976م.
- عطار، أحمد عبد الغفور: محمد بن عبد الوهاب. الطبعة الثانية بيروت عام 1392هـ (1972م) .(21/154)
- العقاد، عباس محمود: الإسلام في القرن العشرين. دار الكتاب العربي. بيروت 1969م.
- علي، أحمد: آل سعود بيروت 1957م.
- أبو عليه، عبد الفتاح حسن (الدكتور) : الدولة السعودية الثانية الطبعة الأولى. مطبعة المدينة بالرياض 1394هـ. - العثيمين، عبد الله الصالح (الدكتور) الشيخ محمد بن عبد الوهاب حياته وفكره الطبعة الأولى 1399هـ.
- ابن غنام، حسين: روضة الأفكار والإفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام، طبع بابطين 1368هـ.
- ابن غنام، حسين: تاريخ نجد - حرره وحققه الدكتور ناصر الدين الأسد، الطبعة الأولى 1381هـ.
- الفقي، محمد حامد: أثر الدعوة الوهابية في الإصلاح الديني والعمراني في جزيرة العرب الطبعة الأولى القاهرة 1354هـ.
- ماضي، محمد عبد الله (الدكتور) : النهضات الحديثة في جزيرة العرب الجزء الأول. الطبعة الثالثة 1952هـ.
- مؤلف مجهول: لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب كتبه محمد جمال الريكي. تعليق عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ. مطبوعات دارة الملك عبد العزيز.
- مؤنس، حسين (الدكتور) : الشرق الإسلامي في العصر الحديث. الطبعة الثانية 1938م.
- مصطفى، أحمد عبد الرحيم (الدكتور) : حركة التجديد الإسلامي في العالم العربي الحديث طبع 1971م.
- المنقور، أحمد بن محمد: تاريخ الشيخ أحمد بن محمد المنقور تحقيق ونشر الدكتور عبد العزيز الخويطر الطبعة الأولى 1390هـ.
- الندوي، مسعود: محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه(21/155)
ترجمة وتعليق عبد الحليم عبد العظيم البستوني مراجعة الدكتور محمد تقي الدين الهلالي. الطبعة الأولى 1397هـ (1977م) .
- هراس، محمد خليل (الدكتور) : الحركة الوهابية - رد على تعال للدكتور محمد البهي في نقد الوهابية، دار الكتاب العربي - بيروت.
- يحيى، جلال (الدكتور) : العالم العربي (المدخل) دار المعارف بمصر 1966م.
ثانيا: الدوريات:
- الجاسر، حمد: ملاحظات مجلة العرب السنة الرابعة الجزء التاسع والعاشر (1390هـ) دار اليمامة بالرياض.
- رشيد، منصور: قضاة نجد أثناء العهد السعودي. مجلة الدارة العدد الثاني السنة الرابعة رجب 1398هـ.
- رابح، تركي (الدكتور) : ابن باديس ونشأة الحركة الإصلاحية الجزائرية مجلة الأصالة عدد 24 نقلا عن عبد الحليم عويس مجلة كلية العلوم الاجتماعية العدد الخامس.
- السروجي، محمد محمود (الدكتور) : موقف مصر إزاء بعض مشاكل الجزيرة العربية. المجلة التاريخية المصرية المجلد السابع 1958م.
- السلمان، محمد عبد الله: أثر الدعوة السلفية في العالم الإسلامي مجلة كلية العلوم الاجتماعية بالرياض العدد الأول 1397هـ.
- الشطي، إسماعيل: شخصيات في الميزان مجلة المجتمع الكويتية العدد 218 رمضان 1394هـ.
- آل الشيخ، حسن عبد الله: الوهابية وزعيمها محمد بن عبد الوهاب مجلة العربي الكويتية العدد 147 فبراير 1971م.
- ابن فوزان، صالح (الدكتور) : تعقيب على كتاب الدعوة الوهابية(21/156)
لعبد الكريم الخطيب، مجلة كلية أصول الدين بالرياض، العدد الأول 1397هـ.
- العثيمين، عبد الله الصالح (الدكتور) : نيبور ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب مجلة كلية العلوم الاجتماعية بالرياض العدد الثاني 1398هـ.
- العقاد، صلاح (الدكتور) : دعوة حركات الإصلاح السلفي. المجلة التاريخية المصرية المجلد السابع عام 1958م.
- عويس، عبد الحليم (الدكتور) : أثر دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب في الفكر الإسلامي الإصلاحي في الجزائر مجلة كلية العلوم الاجتماعية العدد الخامس (1401هـ) .
- مسعد، مصطفى (الدكتور) : أثر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب على حركة عثمان دانفوديو مجلة كلية العلوم الاجتماعية بالرياض العدد الخامس (1401هـ) .
- منصور، عثمان (الدكتور) : الوهابية أو الكفاح ضد الوثنية الجديدة. مجلة الخفجي العدد الرابع المجلد الخامس 1975م.
- هويدى، فهمي: المسلمون في الصين وعصابة الأربعة. مجلة العربي العدد 265 محرم 1401هـ ديسمبر 1980م.
- النشمي، عجيل (الدكتور) : دولة الخلافة والحركة الوهابية مجلة المجتمع العدد 510 صفر 1401هـ.
ثالثا: المراجع الأجنيبة:
1 -Ahmad، Qeyamudin: The Wahabi Movement in Indea، Calucutta 1966.
2- Akdes، Mumet Kurat: The Cambridge History volume l، Cambridge 1970.(21/157)
3 -Kerr، Malcolm، H، Islamic Reform- The Political and Legal theories of Mohammad Aplug and Rashid Rida- University of California-press Barkley and Los Angeles-1966.
4- Laoust، Henri: Sociales et Politiques de take-d-din Ahmad-B. Taimiya 1939.
5- Nicholson، R. A،. A Literary History of the Arabs، Cambridge 1969
6- Niebuhr. C، Travels through Arabia and other countries in the east Edinburgh. 1792 Vol. 2.
7- Palgrave. W. G: Narrative of A Year، s Journey through Central and Eastern Arabia (1863-1862) London 1865.(21/158)
الظاهرة الحضارية في القرآن والسنة
الدكتور \ عبد الحليم عويس
بين الوجود التاريخي والوجود الحضاري:
إن ميلاد الحضارة لا يعني أن أمة ما قد ظهرت - فجأة - في التاريخ، فإن هذا الوجود التاريخي للأمم إنما هو فعل قدري بحت لا يملكه إلا خالق الوجود سبحانه وتعالى.
وإنما يقصد بميلاد الحضارة ظهور إرادة بشرية وجدت لديها عناصر الانطلاق والإبداع، فسعت إلى أن تقوم بدور حضاري، مستعلية على مجرد وجودها التاريخي الذي تشترك فيه معها سائر الكائنات النباتية والحيوانية.
إن هذا الوجود التاريخي هو وجود عام لا فضل فيه للإنسان، وهو لا يحتاج في استمراريته في المستوى الأدنى إلا لتعبير غريزي عن الحاجات الضرروية يشبه أن يكون في مستوى التعبير الحيواني عن حاجاته، وأساليب الإنسان قد لا تختلف كثيرا عن أساليب الحيوان في توفير هذه الحاجات والاستجابة لها.
أما الوجود الحضاري فهو وجود مختلف تماما عن هذا الوجود سواء في إطار (درجاته) أو في إطار (أساليب) التعبير عن هذه الحاجات والاستجابة لها.(21/159)
إن هذا الوجود الحضاري يقوم بدرجة أساسية على الإنسان نفسه، فإليه - بإرادته ووعيه، وحركته - يعزى الفضل الأول في القيام بأية حضارة إنسانية، وذلك - بالطبع - بعد عون الله وإذنه.
إن الحضارة الإنسانية هي تعبير فطري عن حاجة إنسانية يتميز بها الإنسان من سائر الكائنات، ففي داخل كل إنسان - فردا أو جماعة - حاجة تلح عليه وتؤكد له. . . عبر عدد من النوازع والسلوكيات أنه شيء متميز عن الكائنات الأخرى إنه يحس باختلافه عن مستواها، ويحس بأنه قادر على ما لا تستطيع هي أن تقدر عليه، ويحس بأنه يستطيع أن (يسمو) لدرجة لا تستطيع الكائنات التي تشاركه في الأرض أن تصل إليها.
- ليكن هذا الشيء المتميز روحا تشعره بالعلو. . . وبنفحة إنسانية خاصة، أو ليكن هذا الشيء عقلا يعقل ويتسع لرؤية الماضي واستشراق المستقبل حيث لا يستطيع غيره من الكائنات أن يمد الطرف إلى الماضي أو المستقبل.
- ليكن هذا أو ذاك، فالمهم أن (الحضارة) - أي الاستعلاء فوق الوجود المادي التاريخي - هي شيء فطري يحس به الإنسان في كيانه الداخلي، ولعلي ألمح هذا الشيء - بصورة ما - في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} (1) وقوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 72
(2) سورة الأنعام الآية 165(21/160)
منظومة بناء الحضارة وعناصرها الثلاثة:
إن بناء الحضارة هو قرار إنساني يعتمد على الإنسان والفكر، ثم الأشياء، وبالتالي فصناعة الإنسان للحضارة - عندما تتوافر لديه الإرادة والوعي - تحتاج لثلاثة عناصر أساسية لا غنى لواحد منها عن الآخر:
1 - (إنسان) مؤهل للقيام بالدور الحضاري المطلوب، معد نفسيا وأخلاقيا لتحمل المسئولية، ويدخل في عنصر الإنسان (الزمان) باعتبار الإنسان حقيقة زمانية، لا تنفصل عن الزمان، ووجوده وجود زماني بدرجة كبيرة.
2 - (فكر) يقود خطوات الإنسان ويلهمه ويدفعه إلى التضحية والإيثار وقد يسمي بعضهم هذا الفكر بالعقيدة، ويسميه آخرون بالثقافة، أو الجانب المعنوي للحضارة.
3 - (أشياء) يستطيع الإنسان أن يجد فيها المواد الخام المادية التي يبرز من خلالها فكره، وقد يسمي بعضهم هذه الأشياء بالجانب المادي في الحضارة، أو يطلق عليها بعضهم مصطلح (المدنية) ويسميها بعضهم (بالأرض أو التراب) (1) .
وهكذا فلا حضارة إنسانية إلا بهذه المنظومة الثلاثية (2) :
1 - إنسان (كينونة وزمان) .
2 - فكر (عقيدة وثقافة) .
3 - أشياء (التراب ورأس المال وشتى العوامل المادية) .
وهذه المنظومة بعناصرها الثلاثة تحتاج - لكي تبقى فاعلة ومؤثرة - إلى أن تتوازن النسب بينها، ويعطى كل عنصر قدره في المرحلة التاريخية
__________
(1) انظر مالك بن نبي شروط النهضة، فصل التراب
(2) انظر بتصرف مالك بن نبي: ميلاد المجتمع(21/161)
التي تمر بها الحضارة. . . ولا تسقط الحضارات لأنها خلو من هذه العناصر، بل إنما تسقط الحضارات عندما تطغى نسبة عنصر على عنصر، فعندما يعبد الإنسان الفرد، ويصبح هو الهدف، وتصاغ الحياة - بوسائلها وأهدافها - من أجل استمتاعه يقع الخلل، وأيضا عندما يطغى الفكر ويذوب الإنسان فيه على حساب (الإنسان) أو (الأشياء) فيترك العمل، ويصبح الفكر لمجرد الفكر، ويريد بعضهم أن يصوم فلا يفطر، ويقوم آخر فلا ينام، ويترهبن ثالث فلا يتزوج (1) . هنا يطغى تألق (الفكرة وتهدد الحياة بالخلل، ويجب تقويم الميزان، وتحقيق العدل بين العناصر.
ومن الغريب أن أحد المفكرين المعروفين أنشأ كتابا أسماه (التفسير القرآني للتاريخ) (2) . ومع ذلك فإنه لم يتكلم في كتابه هذا إلا عن عنصر واحد هو (الأشياء) فتحدث - فقط - عن الجوانب المادية من أرض واقتصاد وثروة وعمل ورأسمال وتنظيم وتخطيط وسياسة زراعية وتجارة وادخار واستثمار وموضوعات فرعية تتصل بها، فإذا علمنا أن هذا المفكر هو الدكتور راشد البداوي، الذي ترجم (رأس المال) لكارل ماركس إلى العربية، فضلا عن كتب أخرى تدور كلها حول (الاقتصاد) ، والمذاهب الاشتراكية، والقاموس الاقتصادي.
إذا علمنا هذا أدركنا - مع أنا قد نبرئ الرجل من الفكر الاشتراكي العلمي - كم يضيع (الإنسان) ويضيع (الفكر والمعتقد) وتطغى (الأشياء) في الفقه الحضاري حتى لدى مفكرين من أمثال هذا المفكر!!
إن الحديث عن الآيات القرآنية التي تحث على الزراعة أو التجارة أو الصناعة إنما هو حديث في التفصيلات والتطبيقات والثمار
__________
(1) إشارة إلى الحديث الشريف المعروف
(2) للدكتور راشد البداوي، نشر دار النهضة العربية القاهرة ط2 \ 1976(21/162)
الحضارية. لكن عناصر إبداع الحضارة ليست هي هذه (الماديات) التي تنشأ تلقائيا وتزدهر في الطور الثاني للحضارة، حيث تتجاوز الحضارة مرحلة الميلاد والتكون، وتزيح كل أخطار الميلاد، وتقف على أقدامها فتية قوية، وتبدأ في إفراز بعض قوتها من خلال عدد من المجالات الاقتصادية والمادية:
وعند توافر عنصر الانطلاق لأمة من الأمم في طريق التحضر، حتى ولو كانت الأمة ذات سابقة حضارية فإن عليها أن تهتم بتوفير العناصر الثلاثة الأساسية - محافظة على الترتيب والنسب- حتى تضع قطارها أولا فوق القضبان الصحيحة.
قال الله تعالى في الآية الكريمة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) ففي الآية يوجد (الإنسان) الذي (يعمل صالحا) وهو مؤمن (بالعقيدة والفكرة) . فمثل هذا الإنسان العامل (كل عمل صالح مادي أو عقلي أو روحي) عن إيمان ومنهج وفكر، وهو الإنسان الذي يستطيع أن يصل إلى الحياة الطينية اللائقة بالإنسان، ولقد تحدث الله في كتابه المنزل عبر مئات الآيات، كما تحدثت السنة الشريفة عن تفصيلات العناصر الثلاثة وكيفية الوصول إلى الوضع الصحيح لكل منها.
__________
(1) سورة النحل الآية 97(21/163)
الإنسان في القرآن:
أما العنصر الأول وهو (الإنسان) فقد حظي بكثير من الاهتمام من القرآن ومن سنة الرسول الفعلية (بخاصة) حيث عاش الرسول جزءا كبيرا من فترة رسالته يبني هذا الإنسان، ويصنعه في مكة، ثم في المدينة، حتى تكون أفضل جيل عرفته البشرية على الإطلاق.
ويبين الله في كتابه الوظيفة الحضارية المنوطة بالإنسان على الأرض(21/163)
فيقول: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (1) . ويقول: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (2) . إن هذا الإنسان المخلوق من: {مَاءٍ دَافِقٍ} (3) {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (4) هو الإنسان الذي كرمه الله واختاره لصناعة الحضارة: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (5) إنه هو نفسه الذي سجدت له الملائكة: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} (6) . وهو الذي تعلم الأسماء كلها: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (7) وهو الحر الذي يختار طريقه بإرداته: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (8) {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} (9) .
على أن الإنسان بالرغم من كل هذه المكانة التي أعطاها له الله تعالى، ومن كل الأسلحة التي زوده بها - لن يستطيع الإسهام الصحيح في فعل إيجابي وخالد إلا إذا حافظ على عبوديته لله والالتزام بمنهجه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (10) فإذا ارتكس وسار في طريق الانحراف والضلال فإنه يهبط إلى أسفل سافلين: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} (11) . ومن هنا نفهم من كتاب الله تعالى أن
__________
(1) سورة البقرة الآية 30
(2) سورة النور الآية 55
(3) سورة الطارق الآية 6
(4) سورة الطارق الآية 7
(5) سورة الإسراء الآية 70
(6) سورة البقرة الآية 34
(7) سورة البقرة الآية 31
(8) سورة البلد الآية 10
(9) سورة البقرة الآية 148
(10) سورة التين الآية 4
(11) سورة التين الآية 5(21/164)
الحياة الإنسانية تقوم على دعامتين توازن كل منهما الأخرى حتى لا ينحدر الإنسان إلى حضيضها، وينهك قواه في أشيائها، فالحياة الدنيا في جانب: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} (1) .
{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} (2) ، {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} (3) لكن هذه الدنيا في جانب آخر: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (4) ، {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (5) . والحقيقة أن كلا من الجانبين يقوم بمثابة الروح التي تبعث الحياة في الجانب الآخر، فكل منهما عندما ينفصل عن الآخر ويصبح بمعزل عنه يغدو باطلا من الأمر وخارجا عن معنى الحياة وحقيقتها (6) ، فضلا عن أن فقدان أحد الجانبين لنسبته يزيغ بصيرة الإنسان ويضل خطواته على درب الفعل الحضاري الرشيد.
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 64
(2) سورة النساء الآية 77
(3) سورة الكهف الآية 45
(4) سورة القصص الآية 77
(5) سورة النحل الآية 97
(6) د \ محمد سعيد رمضان البوطي منهج الحضارة الإنسانية. بيروت 73(21/165)
2 - الفكرة أو المنهج:
إن المعالم الواجبة التحقق في الفكر المبدع للحضارة معالم كثيرة وأهمها هي (إيجابيته) وحركته (ديناميكيته) فالفكر السكوني السلبي أو الانعزالي لا يصنع حضارة مهما كانت أخلاقيته أو مثاليته.
وهذا الفكر من أبرز واجباته أن يقدم تقنينا سليما لعلاقة الإنسان(21/165)
بمبدع الكون، ثم يقدم تفسيرا لعلاقة الإنسان بالكون، ولعلاقته بأخيه الإنسان.
فثمة مهمة محددة للفكرة الحضارية المؤهلة لإطلاق طاقات الإنسان نحو فعل حضاري حركي إيجابي - أهمها بإيجاز:
1 - تقديم تفسير لعلاقة الإنسان بالإنسان (تشريعيا وأخلاقيا) وفي الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة حديث عن العقيدة الإسلامية والشريعة والأخلاق- وهو يستغرق حيزا كبيرا - موجها لتغطية هذا الجانب.
2 - وتقديم تفسير لعلاقة الإنسان بالكون، وهل هي علاقة تسخير إذلالي أو هي علاقة تسخير فطري ودود، كما هي وجهة النظر الإسلامية، فالكون قد هيأه الله أصلا ليسخره الإنسان، وأعطاه العقل القادر - بعون الله - على التسخير.
3 - تقديم تفسير لعلاقة الإنسان بخالق الكون، وواجبات الإنسان نحو خالقه وكيف يحقق عبوديته له، ويمثل جانب (العبادات) والشروط المطلوب توافرها في (المعاملات) وتوجيه (المعاملات) - أي التعاملات الدنيوية - إلى حيث يرضى الله ويحب يمثل هذان الجانبان أبرز الوسائل لأداء الإنسان واجبه نحو الله سبحانه وتعالى.
إن قيمة (الفكرة) في المصادر الإسلامية الأصلية لا نستطيع التعبير عنه - بتفصيل - في هذا البيان الوجيز، فهو مما يحتاج إلى بحث خاص، لكننا نقول: إن مرحلة الفكرة هذه عنصر أساسي في مرحلة الحضارة، والأفكار المطروحة قادرة على القفز بالأمم من كل مراحل السقوط، وعندما تسقط الحضارة في ذروة من التاريخ، وتكون الأفكار سليمة وموجودة على النمو الذي تتكفل به المصادر الإسلامية فإن(21/166)
إمكانية إقلاع الأمة من جديد يكون أمرا ميسورا. مهما كانت ضآلة الأشياء التي تملكها، ومهما كانت خسائرها - إبان مرحلة السقوط - في عالم الأشياء، فالأفكار تبقى هي الرصيد المخزون للأمة عندما تفقد الأشياء لقد كانت الفكرة الإسلامية هي التي أطلقت قطار الحضارة الإسلامية، وضمنت له الاضطراد في التاريخ، وكان الإنسان المسلم المعبأ بهذه الفكرة عن يقين جازم، والذي يحس بأنه مبتعث بها في التاريخ ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله - كما قال ربعي بن عامر في وجه رستم - كانت الفكرة وكان إنسانها هما اللذان أنجزا ميلاد الحضارة الإسلامية (ولقد واصل المجتمع المسلم بالفكرة تطوره، وأكمل سبكه روابطه الداخلية بقدر امتداد إشعاع هذه الفكرة في العالم) (1) .
4 - ولقد مرت بالأمة الإسلامية هزائم كثيرة وتعرضت لصنوف من الاحتلال التتري والصليبي والاستعماري لكنها استطاعت تجاوز المحنة بفضل الله ثم بفضل الفكر الذي كان يقودها، ومن هنا تبدو خطورة (غزو الأفكار) - بواسطة التنصير والشيوعية واليهود - في العالم الإسلامي، وهو ما عمد إليه الاستعمار بعد أن أدرك عدم جدوى الغزوات العسكرية التي لم يكسب منها شيئا إلا ما تعلمه في جامعات المسلمين ومدارسهم، وهو يغزوهم أو يحاربهم، ورجع به إلى بلاده، فالأفكار هي الرصيد الصحيح الذي تلجأ إليه الأمم، وهي الوقود المخزون في الباطن والأعماق إذا انتهت البضائع من أسواق (الأشياء) في مراحل الاستهلاك أو الاستنزاف الحضاري!!
__________
(1) انظر بتصرف مالك بن نبي شروط النهضة 68 طبع بيروت(21/167)
3 - الأشياء وقيمتها الحضارية:
إن قيمة الأرض في الإبداع الحضاري قيمة لا تنكر، فهي مناط(21/167)
الزراعة، وهي مناط الرعي، وهي - بدرجة ما - مرتبطة بالتصنيع. وبقدر ما يستطيع الإنسان استغلال الأرض الاستغلال الأمثل، وتطوير عطائها وتوجيهه بقدر ما يستطيع إبداع حضارة إنسانية موجهة.
- وأمامنا أمثلة حية في عصرنا، حيث تقهر الحضارة في ميلادها وفي دورتنا الحالية في التاريخ بتأثير القهر الاستعماري الأمريكي الذي يفرض على السودان وعلى مصر وغيرهما عدم زراعة القمح بصورة تكفيهما أو تكفي للتصدير، وتبقى الأرض في بلاد كثيرة في العالم الإسلامي في مرحلة بدائية الاستغلال بينما يزرع الياباني الأراضي التي فوق الجبال، وبينما يزرع الشخص الأمريكي وحده ألف هكتار، بينما هذا. . . تحرم الأمم المستعمرة (وإن حملت اسم الاستقلال) من تطوير زراعتها، ويستأجر الاستعمار رجالا يضمنون الحفاظ على تخلفها، ويضمنون أيضا إجهاض الفكر وإنهاك الإنسان.
لقد حث الله تعالى وجاءت السنة بمئات الآيات والأحاديث التي تحث على (العمل) وعلى استغلال الأرض، وعلى الصيد والزراعة والصناعة والتجارة.
{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (1) .
{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ} (2) .
{أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} (3) .
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا} (4) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة النحل الآية 5
(3) سورة النازعات الآية 31
(4) سورة يس الآية 80(21/168)
{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (1) .
{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} (2) .
{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} (3) .
{ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} (4) .
{وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} (5) {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} (6) .
{وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} (7) .
{وَمِنْ أَصْوَافِهَا} (8) (أي أصواف الأنعام) {وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (9) .
{وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} (10) .
{وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا} (11) (أي في الجنة) {حَرِيرٌ} (12) .
{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا} (13) .
{وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} (14) .
{مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} (15) .
__________
(1) سورة الحديد الآية 25
(2) سورة النحل الآية 14
(3) سورة هود الآية 37
(4) سورة هود الآية 41
(5) سورة القمر الآية 13
(6) سورة القمر الآية 14
(7) سورة النحل الآية 81
(8) سورة النحل الآية 80
(9) سورة النحل الآية 80
(10) سورة الغاشية الآية 16
(11) سورة الحج الآية 23
(12) سورة الحج الآية 23
(13) سورة الإنسان الآية 15
(14) سورة النحل الآية 81
(15) سورة الإنسان الآية 13(21/169)
{أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} (1) .
{وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} (2) {فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ} (3) .
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (4) .
{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} (5) {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} (6) .
{وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} (7) {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} (8) .
{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (9) {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} (10) .
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} (11) .
ولعل حديث الرسول الكريم «إن قامت القيامة وبيد أحدكم فسيلة فليغرسها (12) » من أقوى الأدلة على احترام الإسلام لاستغلال الأرض وعالم الأشياء الموجهة للخير والمتناسقة مع حاجات الإنسان وأهدافه من الحياة.
وعندما يزهد الإسلام في الدنيا - في بعض الآيات كما ذكرنا -
__________
(1) سورة آل عمران الآية 49
(2) سورة الرحمن الآية 10
(3) سورة الرحمن الآية 11
(4) سورة لقمان الآية 20
(5) سورة الحجر الآية 19
(6) سورة الحجر الآية 20
(7) سورة الأعلى الآية 4
(8) سورة الأعلى الآية 5
(9) سورة النازعات الآية 30
(10) سورة النازعات الآية 31
(11) سورة النحل الآية 10
(12) مسند أحمد بن حنبل (3/184) .(21/170)
ويجعلها (متاع الغرور) فإنما يوجه الإنسان إلى أن يبقى هو القائد للأشياء، والموجه لها ولا يصبح موقعه منها مثل موقع الإنسان المعاصر من التكنولوجيا التي أصبحت تقوده إلى المجهول، (كما يوضح رينيه دوبو في كتابه إنسانية الإنسان) ، وبالتالي تختل النسبة بين الإنسان والفكر والأشياء ويقع الانهيار.
- ومن الغريب الجدير بالذكر أن عوامل ميلاد الحضارة أو بنائها هي كذلك عوامل سقوطها، فعندما ينحل الإنسان ويفقد الرؤية يتحول هو نفسه (بالظلم أو بالترف أو بهما) إلى عامل هدم لنفسه ولمجتمعه وحضارته، وكذلك تتوارى الفكرة الصائبة وتحل محلها الفكرة النفعية التبريرية، وفي النهاية تطغى الأشياء وتصبح هي السمة الحضارية الطاغية، بل ينظر إليها من خلال مظاهر الترف والاستمتاع على أنها هي الحضارة، بينما هي في هذه المرحلة وبهذا الطغيان السرطان الذي دخل إلى جسم الحضارة.(21/171)
سقوط الحضارة من منظور إسلامي
دائما تسقط الحضارات من داخلها، إن الغزو الخارجي إنما يأتي كما تأتي العاصفة، لا تقتلع إلا الأشجار التي لا جذور لها، أو التي تمتد جذورها امتدادا هشا، أو التي تتمتع بجذور قوية لكنها مريضة الجسم، فينكسر الجسم وقد تبقى الجذور مؤهلة - بعد ذلك - لبناء جسم آخر، والبروز مرة أخرى.
والقرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة عندما يتحدثان عن سقوط الحضارات يركزان على هذا التداعي الداخلي الذي هو العامل الأول والجوهري في سقوط الحضارات، إن المهمة التي تقوم بها (الذنوب) - أي الفواحش والآثام سواء على مستوى الفرد أو الجماعة - إنما هي تمزيق(21/171)
الانسجام بين خلايا المجتمع.
ولا تكثر الذنوب والآثام والموبقات إلا يوم يختل تصور الأمة وينحرف منهجها، إن أخطاء الطائعين مقبولة، وهي تدور في المستوى البشري المعهود والناس على امتداد تاريخهم ليسوا ملائكة، فتاريخهم تاريخ بشر، وفعلهم فعل بشري قابل للصواب والخطأ، ولم توجد جماعة بشرية دون أخطاء والمعادلة التي نحب تأكيدها من خلال التصور القرآني أن كثرة الفواحش والآثام تأتي (نتيجة) - أو مرحلة ثانية وسطى - في مراحل السقوط الحضاري، وهي ليست السبب الأول أو المرحلة المتقدمة، أما الأخطاء العادية البسيطة فهي حتمية وليست من باب التراكم الذي يؤدي للسقوط.(21/172)
المرحلة الأولى: فساد الفكر:
ففي البداية يكون فساد الفكر واختلال العلاقة بين الإنسان والناموس الكوني سواء كان الاختلال في علاقته بخالق الكون أم في منهج علاقته بالكون والإنسان وانحرافه عن الحق والكمال والخير.
إن كل التجارب الحضارية تؤكد لنا عبر تطورها أن ثمة درجتين للانحطاط: الأولى درجة الانقلاب النفسي والذهني إلى الأدنى، الثانية هي درجة الانقلاب العملي والخلقي بناء على الانقلاب الذهني والنفسي المتدني فالتغيير الداخلي (فكريا ونفسيا) هو المرحلة الأولى في أي سقوط، كما أن تغييره إلى الأعلى والأدنى هو المرحلة الأولى في أي(21/172)
تقدم إن فساد الفكر والنفس هو البيئة التي تنمو فيها جراثيم الانحطاط الأخلاقي.
قال الله تعالى عن مرحلة (الانهيار الفكري) و (الظلام العقدي) : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (1) {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (2) .
فهي مرحلة (انغلاق فكري) و (فساد منهج) ، ولعل الآية الأخرى توضح هذه الحقيقة الحضارية على نمو أكثر مباشرة::
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (3) {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} (4) .
وقال تعالى في آية أخرى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (5) .
وفي آية أخرى يوضح الله تعالى مرحلة (الفكرة) كمنطلق للحياة على الأرض، وقيام الحضارة (على أساس المنهج القويم) وسقوط أخرى (على أساس الانحراف الفكري) : {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (6) {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (7) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 6
(2) سورة البقرة الآية 7
(3) سورة النحل الآية 112
(4) سورة النحل الآية 113
(5) سورة الأعراف الآية 96
(6) سورة طه الآية 123
(7) سورة طه الآية 124(21/173)
وقد يأتي الضلال الفكري عن طريق اتباع الطواغيت من الأصنام البشرية أو المذاهب الفكرية المنحرفة أو المترفين:
{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} (1) {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} (2) .
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (3) .
وتقدم لنا السنة النبوية عددا من الآثار التي تتصل بهذه المرحلة الأساسية في سقوط الحضارات، حيث ينغلق الفكر، ويختلط الحق بالباطل، وينتشر الكفر العقلي والانحراف العاطفي، ويسود الهوى، وتروج النظريات الفاسدة ويتحزب الناس أحزابا بين أدعياء دجالين، ويحسب كل منهم أنه على الحق، وتزين لهم أعمالهم، وتختلط الأوراق، وتضيع المعالم الكبرى في المسيرة الحضارية.
ففي حديث أبي هريرة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل، ولا يدري المقتول على أي شيء قتل (4) » . وفي حديث جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض (5) » .
والكفر هنا كفر فكري أي ضلال وانحراف، وقد يظن صاحبه معه أنه مسلم، أو أنه على الحق، مع أنه يرتكب الكبائر، وينتهك أساسيات الإسلام ولربما يفعل ذلك باسم الإسلام!!
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 67
(2) سورة الأحزاب الآية 68
(3) سورة سبأ الآية 34
(4) رواه مسلم.
(5) رواه مسلم وابن ماجه.(21/174)
قال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى يصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه (1) » .
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد (2) » وهكذا فعندما يضيع معنى (الإيمان) ، ويتبدد توهجه، وتخبو أنواره، ويقع الغبن في العقل والقلب، هنا - فقط - تتسلل الذنوب في غيبة حاجز الإيمان، فيزني الزاني، ويسرق السارق!!
وقد روى ابن ماجه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خط خطا، وخط عن يمينه خطين، وخط خطين عن يساره، ثم وضع يده في الخط الأوسط فقال: هذا سبيل الله، ثم تلا هذه الآية: (4) » .
وفي مرحلة التيه الفكري هذه تظهر طبقة من المثقفين المضلين (المتشدقين) الذين يخدعون الناس بنوع من الكلمات المبهمة ويقودونهم - بهذه الكلمات الرمزية والشعارات المدوية - إلى الهاوية، فعن أبي سعيد الخدري وأنس بن مالك رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سيكون في أمتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القيل ويسيئون
__________
(1) صحيح مسلم باب 65
(2) صحيح مسلم كتاب 1 \ باب 24
(3) سنن ابن ماجه 1 \ باب اتباع سنة رسول الله.
(4) سورة الأنعام الآية 153 (3) {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}(21/175)
الفعل، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، لا يرجعون حتى يرتد السهم على فوقه، هم شر الخلق والخليقة، طوبى لمن قتلهم وقتلوه، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء من قاتلهم كان أولى بالله منهم. قالوا: يا رسول الله ما سيماهم؟ قال: التحليق (1) » .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه تخلل البقرة بلسانها (2) » .
وفي الحديث الذي رواه أبو داود يأتي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن ربي زوى لي الأرض؛ فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، وأعطيت الكنز الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، ولا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم - جماعتهم - وإن ربي قال لي: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، ولا أهلكهم بسنة عامة، ولا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها - أو قال: بأقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، وحتى يكون بعضهم يسبي بعضا، وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي
__________
(1) سنن أبي داود كتاب السنة ص123 الطبعة الأولى عام 1394هـ دار الحديث، حمص، سورية.
(2) سنن أبي داود 5 \ 274، من كتاب الأدب، باب ما جاء في التشدق في الكلام، والمتشدقون هؤلاء من عناصر الإضلال الفكري يحسبهم الجاهل مثقفين من التشدق، وهم جهلاء لا خلاق لهم.!!(21/176)
كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله (1) » .
روى ابن ماجه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ستكون فتن يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا. إلا من أحياه الله بالعلم (2) » .
وروى ابن ماجه أيضا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كيف بكم بزمان يوشك أن يأتي، يغربل الناس فيه غربلة، وتبقى حثالة من الناس، قد مرجت عهودهم وأماناتهم فاختلفوا وكانوا هكذا؟ (وشبك بين أصابعه) قالوا: كيف بنا يا رسول الله إذا كان ذلك؟ قال: تأخذون بما تعرفون. وتدعون ما تنكرون. وتقبلون على خاصتكم وتذرون أمر عوامكم (3) » .
ويغربل الناس غربلة (أي يذهب خيارهم وعقلاؤهم ويبقى أشباه مثقفيهم وحملة الشهادات بلا معلومات، الذين يستعملون المعميات والرموز تعمية على الناس) .
وروى ابن ماجه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء (4) » (حيث يسود الفسقة في معظم الأنحاء، ويحس الأتقياء بأنهم شواذ في مجتمعهم، ولا يصل إلى المناصب إلا من يبيعون ضمائرهم ويكونون مع رئيسهم أشبه بالتلاميذ في حضرة أستاذهم) .
__________
(1) سنن أبي داود، كتاب الفتن والملاحم 4 \ 451 وقد أورد الترمذي حديثا مختصرا عن ظهور دجالين كذابين قريب من ثلاثين ومعروف أن القيد بالثلاثين لمجرد الكثرة لا الحصر
(2) ابن ماجه - السنن - ج2 كتاب الفتن - باب ما يكون من الفتن ص1305 وقد أورده البخاري بلفظ آخر
(3) ابن ماجه - السنن - ج2 كتاب الفتن - باب التثبت من الفتنة ص1307
(4) السنن ج2 كتاب الفتن - باب بدأ الإسلام غريبا ص1319(21/177)
وروى ابن ماجه أيضا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة (1) » إنه التخبط الفكري والجدل العقيم وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وكأن التفرق هو الأصل، والتوحد هو الشاذ؛ لغياب القاعدة الفكرية الواحدة.
روى ابن ماجه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا (2) » .
وروى ابن ماجه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «سيأتي على الناس سنوات خداعات. يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه في أمر العامة (3) » .
وهكذا يقف أئمة الضلال ومحترفو الجدل قادة لمرحلة الضياع الفكري، ويؤازرهم المنافقون المتشدقون الذين يستخدمون علمهم في تبرير الأوضاع والتماس الأعذار للسقوط والساقطين، وفي تحريم الحلال وإباحة الحرام، وخلط الحقائق حتى لا تكاد جمهرة الأمة تعرف المعروف من المنكر ويتصدر هؤلاء الساحات المختلفة، وميادين العمل المتقدمة، فيحجبون الحق، ويظهرون الباطل، وتزوى النماذج الصالحة، وتتألق النماذج الهابطة جاها وسلطانا ومالا وتغدق عليها الأموال والألقاب والمناصب، فلا يكاد ينفذ أصحاب الحق إلى الحق ولا
__________
(1) السنن ج2- كتاب الفتن - باب بدء افتراق الأمم ص1322.
(2) ابن ماجه - السنن ج1 باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ص3
(3) سنن ابن ماجه - كتاب الفتن - باب شدة الزمان ط2 \ ص1339 وما أكثر التافهين الذين ينطقون في عصور التخلف والسقوط.(21/178)
يكاد القابضون على الأمر يحسون بما يعانيه أهل الحق القابضون على الجمر، وتنقطع الجسور بين أولي العلم وأولي الأمر، فلا يبقى إلا الصراع الخافت والظاهر، وتتعرض السفينة الاجتماعية كلها للضلال والضياع.
إن التمزق الفكري الداخلي للأفراد أو للأمم هو أول داء تصاب به، وعن طريق هذا الخلل الفكري تدخل صنوف الخلل السلوكية نتيجة حتمية لخلل الفكر؛ لأن سلامة الفكر هي الضامن لسلامة السلوك، وهي السور الذي يحجز ويمنع، أو كما يقول أحد الفلاسفة: (إذا لم يكن الله موجودا فكل شيء مباح) .
ولن تستطيع الحواجز القانونية أو عوامل التخويف الأخرى أن تقف طويلا أمام عواصف الغرائز، بل إن هذه القوانين البشرية سوف تضعف وتضعف لدرجة أنها - في مرحلة من المراحل - لن يكون لها عمل إلا أن تبرر الفساد وتقننه بل وتجعله حقا من حقوق الفرد وتعبيرا من تعبيراته عن حريته (الحيوانية) !! .(21/179)
المرحلة الثانية: فساد السلوك:
إن الآيات القرآنية حاسمة الدلالة في ترتيب السلوك السيئ على الفكر السيئ، كما أنها حاسمة الدلالة على أن شيوع الآثام ليس سببا، وإنما هو عقوبة يصيب الله بها الأمم والأفراد تمهيدا لأخذها وهلاكها، إنه الاستدراج الإلهي الذي يحقق الله به ناموسه الكوني في أن لا يأخذ الناس بظلم وهم مصلحون، ولا يأخذهم إلا بعد أن يمتعهم بنصيبهم المقدر من المتعة؛ حيث تتاح الفرصة لمن يريد أن يتمادى وتعميه فرص المتعة المتاحة، وتتاح الفرصة أيضا لمن يبصر من وراء الحجب المادية والاجتماعية الحقيقة الأزلية فيئوب إلى رشده، ويعود إلى(21/179)
الحق قبل اللحظة الفاصلة.
إن الله تعالى يجيبنا بوضوح على (السبب الأساسي) لظهور الفساد في الأرض يقول تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (1) .
فبسبب ما كسبه الناس من جنوح عن العدل وميل إلى الظلم انتشرت موجبات الفساد والانحراف عقوبة لهم، تمهيدا للساعة المرتقبة ويقول تعالى في آية أخرى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (2) .
ويقول تعالى في آية ثالثة: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (3) .
والسؤال الوارد هنا: لماذا يريد الله إهلاك القرية؟ والإجابة أن أهلها - بالضرورة - قد أصبحوا أهلا لإرادته تلك بما استوجبوه من ضلال في فكرهم، وتبرير لترفهم وشعور منهم بأنهم إنما أوتوا ما أوتوا على علم عندهم، (كما هي فلسفة قارون) وليس بفضل الله وعونه، أو كما توضح آية قرآنية آخرى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (4) فهذه هي عادة المترفين في التاريخ، إنها مواجهة الهداة (بالكفر) ، وعند ذلك يستدرجهم الله إلى المرحلة الثانية وهو (الفسق) الذي ولغوا فيه معتمدين على الأموال والأولاد التي يملكونها: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} (5) !!
__________
(1) سورة الروم الآية 41
(2) سورة الأنفال الآية 53
(3) سورة الإسراء الآية 16
(4) سورة سبأ الآية 34
(5) سورة سبأ الآية 35(21/180)
وذلك دون استفادة من دروس التاريخ الماضية، فضلالهم الفكري يعميهم عن رؤية كبريات الحقائق الكونية والتاريخية::
{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} (1) .
وفي آية أخرى يكرر القرآن المعنى نفسه مقدرا معطيات جديدة: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (2) .
وهذه الآية تعالج بإيجاز المعالم الكبرى لمرحلة (الفسوق) وما يعتورها من فتن وأخلاق، ثم تنتهي إلى المصير الحتمي الذي يئول إليه أمر هذه المرحلة، وهو الإحباط الكامل، والخسران الدائم.
ويقدم لنا (القصص القرآني) - الذي لم يفقهه المسلمون الفقه الحضاري الكامل - عددا من التجارب البشرية التي دخلت مسيرتها إلى مرحلة (الذنوب) فكانت عاقبتها وخيمة.
فقوم نوح: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} (3) وحتى ابنه أصابه الغرق لأنه: {عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} (4) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 6
(2) سورة التوبة الآية 69
(3) سورة نوح الآية 25
(4) سورة هود الآية 46(21/181)
وعاد قوم هود أصابهم الريح العقيم حتى صاروا موتى كأنهم أعجاز نخل خاوية لأنهم: {جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} (1) .
وثمود قوم صالح أرسل الله عليهم الصيحة بسبب عصيانهم أمر نبيهم وعقرهم الناقة خلافا لأمره: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} (2) ، {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} (3) .
وجريمة قوم لوط التي عرفوا بها، معروفة، وهي من الخبائث المنكرة التي لا تليق بالجنس البشري، بل إن الحيوانات تعف - بفطرتها - عنها، وقد أثبت الطب الحديث الآثار المدمرة لهذه الجريمة وعلى رآس آثارها الصحية مرض (الإيدز) أي فقدان المناعة الجسدية، أما أمراضها الحضارية - اجتماعيا وأخلاقيا - فهي لا تقل خطورة عن (الإيدز) إذ هي تفقد الحضارة مناعتها - أيضا - في تحمل أعباء صناعة الحضارة، وفي خلق (الرجولة) و (الجد) اللازمين للبناء، يقول القرآن عن قوم لوط: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} (4) {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} (5) {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} (6) .
وأما مدين قوم نبي الله شعيب فقد ابتلوا بذنب آخر، لقد كان دأبهم بخس الناس أشياءهم ونقص المكيال والميزان، وهو ظلم مبين، وقد حاول شعيب إصلاحهم لكنهم رفضوا فحقت عليهم عقوبة الله:
__________
(1) سورة هود الآية 59
(2) سورة هود الآية 65
(3) سورة هود الآية 67
(4) سورة هود الآية 78
(5) سورة هود الآية 82
(6) سورة هود الآية 83(21/182)
{وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} (1) {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} (2) .
وكانت عاقبة فرعون وأتباعه الغرق لكفرهم وانغماسهم في المعاصي، ويعقب القرآن على هذه الأمم وما أصابها بعد أن تسردها علينا سورة هود في إيجاز وتعاقب تاريخي بليغين يعقب القرآن (بالعبرة) العامة التي انتهت بهذه الأمم وتجاربها إلى نهاية واحدة، هي السقوط في هاوية الهلاك الشامل والدمار الكامل، يقول القرآن: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} (3) {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} (4) {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (5) .
إن السلوك الأخلاقي المنحرف هو طريق الانهيار الحضاري، وليس الضعف المادي أو (التقني) ، فالأخلاق القائمة على أساس عقدي وفكري سليم - وليس الأخلاق النفعية (البرجماتذم) - هي الطريق الصحيح للحضارة، ولقد أشار العلامة ابن خلدون إلى هذا الأمر، وذكر أن رقي الأمم لا يتحقق بتوافر القوة المادية أو رقي العقل (العلمي أو العملي عن المرتبط بفكرة أخلاقية) بل بتوافر الأخلاق الحسنة (6) .
ويوضح الفيلسوف (غوستاف لوبون) قيمة المعيار الأخلاقي فيقول: إن الانقلاب يحدث في حياة الأمم بالأخلاق وحدها، وعلى الأخلاق يؤسس مستقبل الأمة وحياتها الحاضرة، وخط العقل والقلب في بقاء الأمة أو سقوطها قليل جدا، وعندما تذوى أخلاق الأمة تموت مع وجود العقل والقلب اللذين ربما يكونان متقدمين في نواح عملية كثيرة. . . فعلى
__________
(1) سورة هود الآية 94
(2) سورة هود الآية 95
(3) سورة هود الآية 100
(4) سورة هود الآية 101
(5) سورة هود الآية 102
(6) المقدمة(21/183)
الأخلاق وحدها يقوم نظام الجماعة الإنسانية، وهي - أي الأخلاق - أساس الدين.
وقد ساق الدكتور (لوبون) عددا من الأمثلة لبيان تأثير الأخلاق في قيامها أو سقوطها، من بينها حال الأمة الرومانية التي سقطت وهي أقوى من أسلافها في الناحية العقلية إلا أنها أضعف في النواحي الأخلاقية.
وأيضا فقد استطاع الإنجليز بجيش قدره ستون ألفا استعباد ثلاثمائة مليون هندي لاستقامة أخلاقهم [فيما بينهم فقط!!] مع أن كثيرا من سكان الهند كانوا يشبهون الهنود في النواحي العقلية، بل كان البعض يرجمهم في المباحث الفلسفية، [بل والدينية] .
وقد نسي (لوبون) أن يقدم النموذج الإسلامي الذي قضى على الروم وفارس، ولم يكن له من سلاح في النصر إلا إيمانه ورسالته الأخلاقية، أما حالته العقلية (أي التقدم المادي والفني) فلم يكن يصل إليهم بالتأكيد. . .
ويذكر لنا أحد علماء الهند (1) الأفاضل الفرق بين الأخلاق التي يقصدها (غوستاف لوبون) وبين الأخلاق الإسلامية. . . فالأخلاق القرآنية التي يريد الإسلام إحداثها في الأمة لا ينحصر أثرها في نطاق تلك الأمة، بينما تعامل الأمم الأخرى بوحشية، بل على الإنسانية العامة والرحمة الشاملة.
وفي هذه المرحلة. . . . مرحلة (الذنوب والفسوق) كثيرا ما تكون هناك
__________
(1) محمد تقي الأميني (كتاب رقي الأمم وسقوطها)(21/184)
فسحة من الزمان كي تعطي الأمة أو الجماعة فرصة الرجوع إلى الحق، وتعالج أسباب انهيارها. . . . فإذا ظهر أنها وصلت إلى مرحلة الانغلاق الكامل، والطمس على القوى الواعية فيها، واختلاط المعايير في أيديها. . . فقد تعطي فرصة أخرى استدراجية لتقع أكثر في الأوحال، وتستحق الأخذ الأليم الشديد.
ويعبر القرآن عن هذه الحالة. . . يقول الله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} (1) .
{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (2) .
{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} (3) .
وتتميز سلوكيات هذه المرحلة ببعض الأخلاقيات المسيطرة على الناس:
* فمن أخلاقيات هذه المرحلة (عدم التفرقة يبن الحلال والحرام) . . . «يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم من الحرام (4) » .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 44
(2) سورة آل عمران الآية 178
(3) سورة الأنعام الآية 6
(4) رواه البخاري (كتاب البيوع) .(21/185)
* ومن الأخلاقيات السائدة (محاباة الكبار) وعدم خضوعهم لشريعة الله العادلة وكثرة الوساطات والرشاوي «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد (1) » .
* ومن الأخلاقيات السائدة (التجرؤ على الفتوى) في دين الله بلا علم ولا هدى «يأتي آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من قول خير البرية يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم (2) » .
* ومن أخلاقيات هذه المرحلة العكوف على (وسائل الترف) واستحلالها «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف (3) » .
* ومن الظواهر الشائعة (عدم البركة في الأعمار) والأوقات وقلة الإنتاج والشح والاستهانة بالدماء الإسلامية حتى تكون أرخص الدماء في الأرض «يتقارب الزمان وينقص العمل ويلقى الشح ويكثر الهرج. قالوا: وما الهرج؟ قال: القتل القتل (4) » .
* ومن الظواهر (سيادة بعض المجرمين) السفهاء الذين ينتسبون إلى قريش، ويعتبرون هذه النسبة سندا يملكون به الأمة الإسلامية ويلعبون بحاضرها ومستقبلها «هلكة أمتي على يدي غلمة من قريش (5) » .
__________
(1) رواه البخاري (كتاب بدء الخلق)
(2) البخاري باب علامات النبوة
(3) البخاري كتاب الأشربة
(4) البخاري كتاب الأدب
(5) البخاري كتاب الفتن(21/186)
* ومن الظواهر (الإعلان) بالخمور والزنا - تحت حماية القانون الوضعي السائد - وارتفاع كفة الجهلاء وانزواء العلماء «من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل ويشرب الخمر ويظهر الزنا (1) » .
* ومن الظواهر بروز (السناء متبرجات) سافرات مستعلنات بالإثارة «أيما امرأة استعطرت فخرجت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية (2) » .
إن هذه المرحلة هي المرحلة التي يقل فيها العمل ويكثر الجدل، وتقل فيها الصراحة والوضوح، ويسود الملق والنفاق ومظاهر الشرك المختلفة، ويكون اتباع الباطل وأهله هو الغالب حتى على كبار العلماء والمفكرين، إذ إنهم يخضعون لضغوط المناصب والأموال. . .
إن الناس جميعا قد يسلمون بصحة أصولهم الفكرية لأمتهم لكن لا يوجد لديهم اليقين القلبي ولا الاستعداد للتضحية، إنهم أقرب إلى النفاق، وهم يريدون إيمانا لا يدفعون له أي ثمن ولا يعوقهم عن أي مصلحة مادية أو معنوية (3) . . . وإلا فالصمت أو ممالأة الفاسقين والضالين هو الطريق. . . أو البحث عن مخرج لوضعهم بإخضاع النصوص للباطل، وتلفيق آراء وتبريرات لوضعهم المزري، وهكذا تظهر صور كثيرة من سيطرة العادات والتقاليد القديمة، واتباع هوى النفس والتعلق باللذات الدنيوية وعدم الانضباط والتذبذب الدائم بين القول والفعل. . . وهذه الحالة أشار إليها الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق ولو صلى وصام وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر (4) » .
__________
(1) البخاري، كتاب العلم
(2) رواه النسائي
(3) محمد تقي الأميني، سنن الله في الرقي والانحطاط (بالأوردية)
(4) رواه مسلم(21/187)
ولئن كانت المرحلة الأولى (وهي مرحلة الفساد الفكري والخلل العقدي) تتميز بالضلال وظهور أئمة الفساد الذين يدعون الناس إلى الباطل ويبررون كل منكر ويخضعون مبادئ الصراط القويم للمسار المنحرف بواسطة التأويل. . . فإن مرحلة الذنوب تتميز بأنها مرحلة انتشار وسائل الترف. وخضوع الأفكار للأشياء، وبروز العوامل المادية التي تهوي بالمجتمع إلى قاع الاستهلاك، حتى تصبح الثانويات والكماليات جزءا أساسيا في حياته.
وفي هذه المرحلة يتبلد الإحساس: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ} (1) وتنغمس القيادات والشعوب في ترف مزر، وتتحول العلاقة بين الحكام والمحكومين إلى (علاقة مادية مطلقة) فما دام الحكام يوفرون للشعوب حاجاتها التي يطمعون فيها فهي عنهم راضية حتى ولو دمروا الأخلاق وكانوا يمشون سيرة معوجة. . . وفي مثل هذه الحياة المترفة يكثر المفلسفون للفساد والمبررون له. . . وأكثر الفلسفات التي تنتشر تؤيد إشباع الغرائز، وتدعو إلى الانفتاح على الترف المادي، وتزين للناس توفير كل سبل الحياة المادية، ولا مكان في هذه الحياة للآخرة، ولا لعالم القيم العليا، ولا لدعوات التسامي والتضحية والإيثار والجهاد بل تقف الماديات وحدها هي الأمل وهي القيم العليا والغاية المرجوة، يقول القرآن مصورا هذه الحياة المادية بكل أبعادها.
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} (2) .
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (3) {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} (4) .
__________
(1) سورة يونس الآية 101
(2) سورة آل عمران الآية 14
(3) سورة سبأ الآية 34
(4) سورة سبأ الآية 35(21/188)
إنها مرحلة (سيطرة الأشياء على القيم والأفكار) ، وهي مرحلة التردد والتذبذب في كل شيء، فالحق قد يكون معروفا بوضوح، لكن الأمة المنغمسة في الترف لا تعطي الحق إلا بعض الكلمات في بعض المناسبات، أو تجعله أشبه ما يكون (بالشعارات) ، لكنه بعيد عن عالم التطبيق، إن ضغط (الأشياء) وشتى مظاهر الترف على العقول والسلوكيات تحول دون تطبيق الحق المعروف، وإن السواعد المترفة تضعف عن تحمل واجبات الحق المعروف والواضح، وتظهر في الطريق فلسفات تحاول تبرير هذا الوضع، بل والنظر إليه على أنه (التقدم) فتصبح المهرجانات والمباريات والمسابقات والاحتفالات وما يصحبها من صور البذخ والإسراف واللهو وتمجيد التافهين. . تصبح أكبر وسيلة للتعبير عن حالة (التحضر) ، وقد يخدع بعض العقلاء أنفسهم فيحاولون مهادنة هذه الأوضاع أو الرضا بها وتبريرها، وتعلمنا مسيرة الرومان أن حضارتهم في عصر النشأة والقوة كانت تتميز بقلة الرغبات والحاجات، وكانت عقيدتهم قوية لدرجة أن كل أفرادهم كانوا مستعدين للتضحية؛ لأن قيمة الحياة (مع قلة الحاجات والرغبات) تصبح لعينة، وترتفع أسهم القيم العليا. . .
ومن خصائص هذا الوضع جفاف منابع الإرادة، وقلة الخيال السامي الذي يحدو بناة الأمم عادة وصناع الحضارات، وتنحصر الآمال في (اللحظة) وفي إطار (العمر الممدود) الذي يراد الاستفادة منه في المتعة إلى أقصى الحدود دون تفكير في المستقبل، حتى في المستقبل القريب، ودون تفكير حتى في الأقطار المحيطة بالأمة، والتي عادة ما تكون قوية جدا في مثل هذه الظروف.
(لنتذكر حالة ملوك الطوائف في الأندلس وتربص نصارى الشمال الأسباني بهم ولنتذكر قبلهم حالة الرومان كما صورها جيبون أثناء سقوط(21/189)
الإمبراطورية الرومانية، وإحاطة الحرمان بها، ولنتذكر حالة معاصرة وهي حالة العرب والمسلمين الآن وإحاطة القوى اليهودية والصليبية والشيوعية والهندوسية بهم) .
ومن السمات المميزة لهذه الحالة أيضا ظهور فجوة كبيرة بين الطبقات، ففي ظل الترف تظهر طبقة تصل إلى تكديس معظم الثروة، ويبدو الفرق شاسعا بينها وبين سائر المجتمع، وتظهر طبقة قادرة على أن تعيش بلا عمل طول حياتها، لأن تكديس الثروة ينتهي إلى أن هناك أجيالا من أبناء أو أتباع المترفين تكون قادرة - ومقبلة - على الحياة المترفة دون جهد لعشرات السنين أو لأكثر من ذلك.
ومثل هذه الثروة لا يمكن أن تمتلك بالعمل، بل تكون لها طرق من الحيل الشرعية المبغوضة أو غير الشرعية، وهي تجنح إلى الاكتناز أو التكديس (وأكل الأموال بالباطل) على غرار ما كان يفعله الأحبار والرهبان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) .
ومن خصائص هذه المرحلة ذهاب روح الإخلاص والصدق، وفقدان قوة الإرادة واستسهال الطريق السريعة الوصول، صحيحة كانت أو غير صحيحة، ومع ذهاب الإخلاص والإرادة يغلب الشكل على المضمون، ويصبح المجتمع مهتما بالنواحي الشكلية على حساب الجوانب الحقيقية، وحتى التدين يصبح شكلا ومظهرا أكثر منه حقيقة ومخبرا، بل يصبح وسيلة لكسب الدنيا وليس لإصلاحها، وتظهر النواحي الطائفية (2) ، ولا تصبح العقيدة والعمل النافع هما ميزان الخير
__________
(1) سورة التوبة الآية 34
(2) سنن الله في التقدم والتخلف، محمد تقي الأميني (بالأوردية)(21/190)
والشر، بل يصبح الانتماء الطائفي أو العرقي أو الحزبي أو العنصري أو الوطني هو الأصل، وهو يغفر لأصحابه كل زلاتهم وإهمالهم.
ومن آثار مرحلة الترف على الكيان الإنساني تدمير العاطفة البشرية والابتلاء بقسوة القلب وغلظته، وعندما تصل القلوب في أمة إلى مرحلة غلظة القلوب وقسوتها تفقد الأمة كثيرا من وشائج الرحمة وأواصر التراحم، ولا يستجيب الناس للحق إلا على مطارق الموت لغرورهم وفساد قلوبهم، ويتجرأ السفلة القساة على المصلحين الهداة، ولربما يبحثون لهم عن مثالب وتهم يسكتونهم بها، وينتشر العناد والمكابرة ومظاهر الصراع الغليظة، وينزوي الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وتصبح (القوة) و (الثروة) و (الأنانية الفردية) و (الأثرة) هي القيم المسيطرة، ويضطر الضعفاء - وهم الغالبية تحت ضغط هذه القيم الغابية - إلى الملق والنفاق والكذب والسلبية.
وهذه هي قيم (الوهن) التي يدفع إليها هذا الوضع المزري، وتدفع إليها غريزة «حب الدنيا وكراهية الموت (1) » كما ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) فتسود المجتمع روح الاستهانة والاستكانة وكراهية العمل، ويصبح أفراد المجتمع «غثاء كغثاء السيل (3) » ولا ينجو أحد - إلا قلة قليلة - من هذه الروح العامة، حتى العلماء والمفكرون لا يتورع بعضهم عن تطويع الدين لتبرير الأموال وتحريف الكلم عن مواضعه، وهكذا تصبح النظرة (المادية والنفعية والحسية) هي سمة هذه المرحلة البارزة، وهي الروح العامة المهيمنة على الحياة الفردية والاجتماعية، وتحاصر - في المقابل - الاتجاهات الأخلاقية والروحية، ولربما سخر الناس من
__________
(1) سنن أبو داود الملاحم (4297) ، مسند أحمد بن حنبل (5/278) .
(2) رواه أبو داود
(3) سنن أبو داود الملاحم (4297) ، مسند أحمد بن حنبل (5/278) .(21/191)
أصحابها، أو نظر إليهم على أنهم جاءوا في غير زمانهم أو أنهم الطبقة الدنيا في المجتمع.
وقد يدفع هذا بعض العاملين في حقول الغير إلى أن يتلمسوا لأنفسهم طرقا في الحياة تقربهم من الوضع الاجتماعي والاقتصادي الذي يتمتع به أنصار النظرية المادية، وبهذا التلمس يفقدون مكانتهم النفسية والفكرية، وتخلع عنهم أردية القيادة الصالحة، ويحار الناس بين قوى مادية قوية مستعلية، وقوى روحية ضعيفة مستخزية، وتصل الحضارة إلى مرحلة الانحطاط الفكري والأخلاقي والاجتماعي الشامل.(21/192)
المرحلة الثالثة: مرحلة الانهيار:
في هذه المرحلة تبدأ الحياة الاجتماعية بالتعرض للضربات الداخلية والخارجية نتيجة اختلال نسيجها الداخلي وتمزق كيانها الفكري والنفسي.
لقد ظن الناس أنهم سيفلتون من الناموس الكوني، أو أنهم - لمجرد أنهم يهود أو نصارى أو مسلمون - لن يتعرضوا للجزاء الحتمي، ولربما تمنوا أن يكونوا - وحدهم في سلسلة الحضارات - الحلقة التي لا تخضع للناموس الكوني، لكن حركة التاريخ تمضي بقدر الله إلى غايتها متجاوزة أمانيهم التافهة: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (1) .
لقد أصبح البناء الاجتماعي هشا يقوم على أسس فاسدة، فلا أمل بالتالي في علاجه، بل لا بد من إسقاطه: {أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (2)
__________
(1) سورة النساء الآية 123
(2) سورة التوبة الآية 109(21/192)
ولقد اختل النسيج كله واختلطت المعايير، وتقطعت خيوط الأخلاق: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (1) ، فلم يبق إلا أن تتهاوى الضربات من الخارج ومن الداخل.
وللإشارة إلى الضربات التي تهوي من الخارج يقول الحديث النبوي الشريف: «توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: أومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت (2) » .
وأما الضربات من الداخل فتتمثل في الفتن والمشكلات التي تقع بين المسلمين من الداخل، حيث تتفتت وحدتهم، وينقسمون شيعا وأحزابا، تتوزعهم الأفكار والمذاهب والأطماع وتظهر لهم الأقليات المعادية للإسلام حقيقتها فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى يكثر الهرج. قالوا: وما الهرج يا رسول الله؟ قال: القتل القتل (3) » ، ويصبح (القتل) هو الشيء الشائع في كل الأيام حتى لا يدري الناس فيم يقتلون أو فيم يقتلون «والذي نفسي بيده ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل ولا يدري المقتول على أي شيء قتل (4) » .
__________
(1) سورة الرعد الآية 25
(2) رواه أبو داود
(3) رواه مسلم
(4) رواه مسلم(21/193)
وهكذا تتعاون ضربات الداخل والخارج على إزهاق هذه الحضارة التي فقدت شروط البقاء، وفقدت فيها الروح مكانتها، وضاع العقل، واختل الميزان في يد الإنسان، وانهارت الحقوق الآدمية للفرد، وطغت الجماعة ممثلة في حزب أو دولة وأصبحت الأخلاق بلا رجال يحمونها وأصبحت الحضارة في مجموعها وفي عناصرها الأساسية غير مؤهلة للبقاء.(21/194)
ما وقع في القرآن الكريم من الظاء
لسليمان بن أبي القاسم التميمي السرقوسي
تحقيق الدكتور \ علي حسين البواب
الدكتور علي حسين البواب
* فلسطيني، ولد بمدينة يافا في فلسطين المحتلة سنة 1367هـ - 1947م.
* حصل على الثانوية العامة في مدينة غزة سنة 1964م، وواصل تعليمه في القاهرة إلى أن نال درجة الدكتوراة في علم اللغة من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة سنة 1978م 1398هـ.
* عمل مدرسا بوزارة المعارف في الكويت من عام 68- 78م ثم في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية حيث يعمل أستاذا مشاركا في كلية اللغة العربية بالرياض.
* حقق مجموعة من كتب التراث في علوم القرآن واللغة، منها: شرح كفاية المتحفظ لابن الطيب الفاسي، والتمهيد في علم التجويد لابن الجزري، وتذكرة الأريب في تفسير الغريب لابن الجوزي، وقنعة الأريب لابن قدامة، ونور المسرى لأبي شامة.
كما أعد فهارس المخطوطات ومعثورات اللغة والنحو والصرف والعروض بجامعة الإمام.(21/195)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وبعد.
فقد حرص المسلمون على إتقان تجويد كتاب الله تعالى، وإخراج كل صوت من مخرجه، ولما كان بعض الأصوات يلتبس ببعض، ويختلط الواحد منها بغيره، اعتنى علماء المسلمين بهذه الأصوات، وفرقوا بينها.
وكان صوتا الضاد والظاء مما نالا عناية العلماء؛ فالضاد من أصوات العربية العسيرة النطق كما وصفه أئمة العربية، وهو قد أصابه كثير من التغير، واختلط بغيره، وكان إحدى صور هذا الخلط نطق الضاد ظاء، ولما كان هذا غير جائز في اللغة، فما بالك في كتاب الله تعالى، فكيف يقرأ قارئ: {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} (1) : ظل. . .؟!
ورغم كثرة ما ألف علماء العربية في الضاد والظاء، فإن ما أفرد للقرآن وظاءاته قليل، من هذه الرسالة التي نقدم لها (2) .
وقد سعى مؤلف هذه الرسالة إلى جمع ما ورد في القرآن الكريم من حرف الظاء، ليعلم أن غيره بالضاد. وجعل ظاءات القرآن الكريم في إحدى وعشرين كلمة، على منهج اللغويين في رد تصاريف الكلمة
__________
(1) سورة الإسراء الآية 67
(2) ينظر مقدمة الاعتماد 5-12، ومقدمة الظاءات القرآنية 5-12.(21/196)
واستعمالاتها ومعانيها إلى أصل أو جذر واحد، فـ (ظلم) يدخل تحته الظلم والظلام. و (نظر) يدخل تحته النظر، والإنظار، والانتظار. . .
والمؤلف يعرض لنظائر الظاء من الضاد، ففي الحديث عن الناظر يذكر الناضر، وفي ظل يذكر ضل، وفي ظن يتحدث عن ضن، ليبين الفرق بين الاستعمالين والأصلين، وهو يستشهد مع كل كلمة يذكرها ببعض الآيات القرآنية، وقد يعرض لبعض الاستعمالات اللغوية. والمؤلف قدم للرسالة بنظم الأصول في ثلاثة أبيات، تيسيرا للحفظ، وهو منهج سلكه علماء العربية في الظاءات وغيرها (1) .
أما مؤلف الكتاب فهو الشيخ الإمام المقرئ، أبو الربيع، سليمان بن أبي القاسم التميمي السرقوسي، كما ورد في أول المخطوطات، ولم أقف على ترجمة له على ما بذلت من جهد في ذلك، ولكني أرجح أن يكون من أهل القرن السادس اعتمادا على أقدم نسخة مخطوطة للكتاب كتبت سنة 591هـ، ورغم عدم معرفتي بمؤلفها رأيت أنها تستحق التحقيق والنشر.
أما مخطوطات الكتاب التي وقفت عليها فثلاث، أوجز الحديث عنها:
الأولى: كتبت بخط معتاد واضح سنة 591هـ، ضمن مجموع كتبه محمد بن سعد؛ وألفاظ الظاء بخط كبير، والمخطوط في تشستر بيتي - دبلن رقم 3925، وهو في سبع صفحات (151- 154 ب) وفي كل صفحة سبعة عشر سطرا وقد جعلت هذه النسخة الأصل الذي حققت عنه الكتاب.
__________
(1) ينظر الظاءات القرآنية 11(21/197)
الثانية: مخطوطة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض - قسم المخطوطات، رقم 1073 - وهي في آخر المجموع في أربع ورقات، كتبت بخط نسخي، وهي غير مؤرخة، والورقة الأخيرة تمزق أعلاها، ففقد منها حوالي سطرين من وجه الورقة، ومثلها من ظهرها. وعدد الأسطر في كل صفحة واحد وعشرون سطرا، ورمزت لها بالرمز (م) .
الثالثة: من مخطوطات دار الكتب المصرية - 397 تفسير - تيمور، وهي في عشر صفحات من ص 43 - 52، وعدد الأسطر في الصفحة الواحدة ثلاثة عشر سطرا، وخطها معتاد متأخر. وقد رمزت لها بالرمز (ت) .
وقد جعلت الأولى أصلا أثبت نصا، ولم أحد إلى غيره إلا قليلا، وأثبت ما أخذته عن النسختين بين معقوفين، وأشرت إلى الخلافات المهمة بين النسخ.
وقد كتبت أسماء السور وأرقام الآيات بين معقوفين في الكتاب، وإذا ذكر المؤلف اسم السورة كتبت بين معقوفين رقم الآية، وفعلت ذلك لتقليل حواشي البحث، وقد علقت على ما يحتاج إلى تعليق، وأحلت على بعض المراجع. وبعد.
فهذه رسالة تمثل جهدا من جهود علماء المسلمين الكبيرة في خدمة لغة القرآن، وهي مفيدة إن شاء الله، ميسرة للتفريق بين الظاء والضاد في القرآن الكريم - وما أكثر الخلط بينهما، نسأل الله تعالى أن ينفع بها المسلمين وأن يثيبنا عليها.
والحمد لله رب العالمين.(21/198)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين.
الحمد لله حق حمده، وصلى الله على محمد رسوله وعبده، وعلى آله وصحبه من بعده، ذكر جميع ما وقع في كتاب الله سبحانه من الظاء مجموعا في ثلاثة أبيات، وما سواه وقع بالضاد، مما عني بتأليفه وشرحه الشيخ الإمام المقرئ النحوي أبو الربيع سليمان بن أبي القاسم التميمي السرقوسي رحمه الله:
فأما الأبيات فهي:
ظفرت بحظ من ظلوم تعاظمت ... ظواهره للناظر المتيقظ
ظمئت فلم تحظر علي ظلالها ... فظاظة ألفاظ ولا غيظ وعظ (1)
ظنون تلظى للكظيم شواظها ... تغلظ عتب الظاعن المتحفظ
وأما الشرح فهو
__________
(1) سقط من م (وعظ)(21/199)
الظافر والضافر (1) :
فأما الظافر بالظاء فهو الغالب، وفي القرآن من ذلك موضع (2) ، في (الفتح) [الآية 24] قوله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} (3) ومنه رجل مظفر، وجيش مظفر، وقد يسمى الرجل مظفرا (4) .
__________
(1) ينظر الظاءات للداني 45، 46 والتمهيد لابن الجزري 210، 219، والاعتماد لابن مالك 41.
(2) في م، ت (موضع واحد)
(3) سورة الفتح الآية 24
(4) ينظر القاموس - ظفر.(21/199)
والأظفار بالظاء أيضا، وفي القرآن من ذلك موضع في (الأنعام) [الآية 146] في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} (1)
وأما الضافر بالضاد فهو ضافر الحرير والشعر وغير ذلك من كل شيء مضفور، ومنه ضفائر المرأة.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 146(21/200)
الحظ والحض (1) :
فأما الحظ فهو النصيب والبخت، فأما النصيب فقوله عز وجل: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (2) [النساء 11] وما أشبه ذلك. وأما البخت فقوله إخبارا عن (قارون) : {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (3) [القصص 79] أي بخت وجد ومنه رجل محظوظ: إذا كان مبخوتا ومجدودا.
وأما الحض بالضاد فهو التحريض على طلب الأشياء، وفي القرآن من ذلك (4) ثلاثة مواضع: في (الحاقة) [الآية 34] ، وفي سورة (الماعون) [الآية 3] : {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} (5) وفي (الفجر) [الآية 18] : ولا يحضون على طعام المسكين.
__________
(1) الظاءات 29، والتمهيد 211، والاعتماد 32
(2) سورة النساء الآية 11
(3) سورة القصص الآية 79
(4) في ت (منه) وسقط من م
(5) سورة الماعون الآية 3(21/200)
الظلم والظلام:
وما تصرف من ذلك بالظاء، أصل يطرد، نحو: {فَقَدْ ظَلَمَ} (1) [البقرة 231] ، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (2) [فصلت 46] و: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} (3) [الأنبياء 87] و: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} (4) [الزمر 6] وما أشبه ذلك (5) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 231
(2) سورة فصلت الآية 46
(3) سورة الأنبياء الآية 87
(4) سورة الزمر الآية 6
(5) (ذلك) من م(21/201)
العظم والعظام:
وما تصرف من ذلك بالظاء، أصل مطرد، نحو: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ} (1) [البقرة 259] ، {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} (2) [المؤمنون 14] ، {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} (3) [يس 78] وما أشبه ذلك، إلا عضم القوس (4) ، فإنه بالضاد (5) .
قال الشاعر:
قوس السهم ولم يرم به ... وعلى العضم من القوس قبض (6)
__________
(1) سورة البقرة الآية 259
(2) سورة المؤمنون الآية 14
(3) سورة يس الآية 78
(4) انتقل نظر ناسخ ت من كلمة (القوس) إلى كلمة (القوس) في البيت
(5) الاعتماد (46) ، واللسان والقاموس - عضم
(6) لم أقف على البيت(21/201)
الظاهر والظهر والظهر والمظاهر:
وما تصرف من ذلك، أصل يطرد بالظاء (1) ، نحو قوله عز وجل: {وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} (2) [الحديد 3] ، و: {مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (3) [الأعراف 172] و: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (4) [الروم 41] ، و: {أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} (5) [غافر 26] ، و: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ} (6) [غافر 29] ، و: {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ} (7) [البقرة 85] ، {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} (8) [هود 92] ، و: {يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (9) [المجادلة 3] ، وما أشبه ذلك وإن اختلفت معانيه فهو كله بالظاء إلا ضهر الجبل فإنه بالضاد (10) .
__________
(1) (بالظاء) من م. أما في ت فسقط جزء من النص، ووردت هكذا (الظاهر والظهر أصل يطرد..)
(2) سورة الحديد الآية 3
(3) سورة الأعراف الآية 172
(4) سورة الروم الآية 41
(5) سورة غافر الآية 26
(6) سورة غافر الآية 29
(7) سورة البقرة الآية 85
(8) سورة هود الآية 92
(9) سورة المجادلة الآية 3
(10) ضهر الجبل: صخرة فيه تخالف لونه. الاعتماد 39، والقاموس ضهر(21/202)
الناظر والناضر:
فأما الناظر بالظاء فهو من نظر العين، نحو قوله عز وجل: {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ} (1) و: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا} (2) [ق6] و: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (3) [القيامة 23] وما أشبه ذلك، وكذلك الانتظار بالظاء أيضا، نحو: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} (4) [يونس 102] و: {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} (5)
__________
(1) سورة محمد الآية 20
(2) سورة ق الآية 6
(3) سورة القيامة الآية 23
(4) سورة يونس الآية 102
(5) سورة الأعراف الآية 71(21/202)
وكذلك الإنظار بمعنى التأخير نحو قوله: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (1) {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} (2) [الحجر 36، 37] .
وأما الناضر بالضاد فهو الناعم، وفي القرآن من ذلك ثلاثة مواضع: في (القيامة) [الآية 22] {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} (3) أي ناعمة. وأما (4) {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (5) [القيامة 23] فهو بالظاء كما قدمته لك؛ لأنه من نظر العين. وفي سورة (الإنسان) [الآية 11] : {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} (6) وفي (المطففين) [الآية24] : {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} (7) وقد تسمى المرأة ناضرة: أي ناعمة (8) .
__________
(1) سورة الحجر الآية 36
(2) سورة الحجر الآية 37
(3) سورة القيامة الآية 22
(4) سقط من م (أما.. من نظر العين)
(5) سورة القيامة الآية 23
(6) سورة الإنسان الآية 11
(7) سورة المطففين الآية 24
(8) الاعتماد 54، والقاموس نضر(21/203)
اليقظة (1) :
وما تصرف منها بالظاء، أصل يطرد، وفي القرآن من ذلك موضع واحد، في سورة (الكهف) [الآية 18] : {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} (2)
__________
(1) الظاءات 45، والتمهيد 217
(2) سورة الكهف الآية 18(21/203)
الظمأ (1) :
وما تصرف من ذلك أصل يطرد، وهو العطش، نحو (2) قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ} (3) [التوبة 120] ، {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} (4) [طه 119] .
__________
(1) الظاءات 43، والتمهيد 215، وقد سقط من ت (الظمأ.. يطرد)
(2) في الأصل (نحو بأنهم..) ، وما أثبت من ت، م
(3) سورة التوبة الآية 120
(4) سورة طه الآية 119(21/203)
الحاظر والحاضر (1) :
فأما الحاظر بالظاء فهو المانع، وفي القرآن من ذلك موضعان، في (بني إسرائيل) [الآية 20] : {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} (2) أي ممنوعا، وفي (القمر) [الآية31] : {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} (3) ومنه الحظائر التي تصنع للماشية وغيرها، أصلها المنع.
وأما الحاضر بالضاد فهو الشاهد، نحو قوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً} (4) [البقرة 282] ، {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} (5) [النساء 8] ، و {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} (6) [النساء 18] ، {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} (7) [المؤمنون 98] وما أشبه ذلك.
__________
(1) الظاءات 44، والتمهيد 244، والاعتماد 29
(2) سورة الإسراء الآية 20
(3) سورة القمر الآية 31
(4) سورة البقرة الآية 282
(5) سورة النساء الآية 8
(6) سورة النساء الآية 18
(7) سورة المؤمنون الآية 98(21/204)
الظل والظلة والظلال (1) :
وما تصرف من ذلك بالظاء، أصل يطرد، نحو قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} (2) [الفرقان 45] ، {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} (3) [الشعراء 189] ، {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} (4) [الزمر 16] ، {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ} (5) [يس 56] وما أشبه ذلك (6) .
ومنه ظل بمعنى صار، وفي القرآن تسعة مواضع، في (الحجر) [الآية 14] : {فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} (7) وفي (النحل) [الآية 58] ، و (الزخرف) [الآية 17] : {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} (8) وفي (طه) [الآية 97] : {ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} (9) وفي (الشعراء) [الآية 4] : {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} (10)
__________
(1) الظاءات 33، 37، والتمهيد 214، 215
(2) سورة الفرقان الآية 45
(3) سورة الشعراء الآية 189
(4) سورة الزمر الآية 16
(5) سورة يس الآية 56
(6) ومنها في القرآن الكريم أربعة وعشرون موضعا، على اختلاف تصرفاتهم ومعانيها
(7) سورة الحجر الآية 14
(8) سورة الزخرف الآية 17
(9) سورة طه الآية 97
(10) سورة الشعراء الآية 4(21/204)
وفيها أيضا [الآية 71] : {فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} (1) وفي (الروم) [الآية 51] : {لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} (2) وفي (الشورى) [الآية 33] : {فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} (3) وفي (الواقعة) [الآية 65] : {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} (4)
وأما ضل بمعنى حار فهو بالضاد (5) نحو: {وَلَا الضَّالِّينَ} (6) [الفاتحة 7] ، و: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا} (7) [الأنعام 56] ، و {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} (8) [الإسراء 67] ، ومنه: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ} (9) [السجدة 10] ، لأنه بمعنى البطلان والذهاب.
__________
(1) سورة الشعراء الآية 71
(2) سورة الروم الآية 51
(3) سورة الشورى الآية 33
(4) سورة الواقعة الآية 65
(5) ينظر المفردات - ظل 470، والاعتماد 34
(6) سورة الفاتحة الآية 7
(7) سورة الأنعام الآية 56
(8) سورة الإسراء الآية 67
(9) سورة السجدة الآية 10(21/205)
الفظ والفض (1) :
فأما الفظ بالظاء فأصله قساوة القلب وغلظ الطبع، وفي القرآن من ذلك موضع، في قوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ} (2) [آل عمران 159] .
وأما الفض بالضاد فأصله التفرقة والتكسير، نحو قوله عز وجل: {لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (3) [آل عمران 159] ، و {انْفَضُّوا إِلَيْهَا} (4) [الجمعة 11] ، و {حَتَّى يَنْفَضُّوا} (5) [المنافقون 7] وما أشبه ذلك (6) ومنه انفض الجيش والجمع، وفضضت ختام الكتاب.
__________
(1) الظاءات 45، والتمهيد 217، والاعتماد 49، وينظر المفردات فض، فظ 573، 575
(2) سورة آل عمران الآية 159
(3) سورة آل عمران الآية 159
(4) سورة الجمعة الآية 11
(5) سورة المنافقون الآية 7
(6) أي في اللغة، لأنه ليس في القرآن الكريم غير هذه الثلاث الآيات(21/205)
اللفظ (1) :
وما تصرف من ذلك بالظاء، أصل يطرد، وفي القرآن من ذلك موضع واحد، في قوله عز وجل: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} (2) [ق18] .
__________
(1) الظاءات 46، والتمهيد 217
(2) سورة ق الآية 18(21/205)
الغيظ والغيض (1) :
فأما الغيظ بالظاء فهو الامتلاء والحنق، وهو شدة الغضب، نحو قوله: {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} (2) [آل عمران 119] ، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} (3) [آل عمران 134] ، و {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} (4) {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} (5) [الملك 8] ، وما أشبه ذلك.
وأما الغيض بالضاد فهو من النقص، وفي القرآن من ذلك موضعان في (هود) [الآية 44] {وَغِيضَ الْمَاءُ} (6) وفي (الرعد) [الآية 8] : {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} (7) وفيه غاض الكرام غيضا؛ أي: نقصوا.
__________
(1) الظاءات 28، والتمهيد 212، والاعتماد 48، وينظر المفردات 553
(2) سورة آل عمران الآية 119
(3) سورة آل عمران الآية 134
(4) سورة الفرقان الآية 12
(5) سورة الملك الآية 8
(6) سورة هود الآية 44
(7) سورة الرعد الآية 8(21/206)
الوعظ (1) :
وما تصرف من ذلك بالظاء، أصل يطرد، وأصله التنبيه والتخويف، نحو قوله عز وجل: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ} (2) [البقرة 232] ، وقال: {فَعِظُوهُنَّ} (3) [النساء 34] و: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ} (4) [النور 17] ، {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} (5) [الشعراء 136] وما أشبه ذلك.
وأما قوله عز وجل في (الحجر) [الآية 91] : {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} (6) فهو بالضاد، لأنه بمعنى التفريق، لأنهم فرقوه فجعلوه أجزاء، وقالوا: هو سحر وكهانة وشعر (7) .
__________
(1) الظاءات 27، والتمهيد 216، ومجموع ما ورد من المادة في الكتاب العزيز خمس وعشرون مرة
(2) سورة البقرة الآية 232
(3) سورة النساء الآية 34
(4) سورة النور الآية 17
(5) سورة الشعراء الآية 136
(6) سورة الحجر الآية 91
(7) ينظر المفردات عضه 506، والقرطبي 10 \ 58، والقاموس عضا. وكلمة سحر من م، ت(21/206)
الظن والضن:
فأما الظن بالظاء فهو بمعنى العلم واليقين، نحو قوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} (1) [البقرة 46] ، {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} (2) [الأعراف 171] ، {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} (3) [الكهف 53] ، {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} (4) [الحاقة 20] ، {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} (5) [القيامة 28] .
ويكون الظن بمعنى الشك والتهمة، قال الله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} (6) [النساء157] ، {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا} (7) [الجاثية 32] .
واختلف في (التكوير) [الآية 24] في قوله: (وما هو على الغيب بظنين) فقرئ (8) بالظاء على معنى التهمة، وقرئ بالضاد على معنى البخيل، {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} (9) أي ببخيل.
__________
(1) سورة البقرة الآية 46
(2) سورة الأعراف الآية 171
(3) سورة الكهف الآية 53
(4) سورة الحاقة الآية 20
(5) سورة القيامة الآية 28
(6) سورة النساء الآية 157
(7) سورة الجاثية الآية 32
(8) في م (فيقرأ بالظاء على خلاف رسمها على معنى التهمة، ويقرأ بالضاد، أي: ليس ببخيل
(9) سورة التكوير الآية 24(21/207)
التلظي (1) :
وما تصرف منه بالظاء، وهو أصل يطرد، وفي القرآن منه موضعان: في (المعارج) [الآية 15] : {إِنَّهَا لَظَى} (2) وفي سورة (الليل)
__________
(1) الظاءات 46، والتمهيد 216
(2) سورة المعارج الآية 15(21/207)
[الآية 14] : {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} (1) وأصله اللزوم والإلحاح، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «ألظوا بياذا الجلال والإكرام (2) » أي: ألزموا أنفسكم بها للدعاء.
__________
(1) سورة الليل الآية 14
(2) الحديث في سنن الترمذي 5 \ 201، قال الترمذي: حديث غريب. وينظر جامع الأصول 4 \ 296(21/208)
الكظيم والكظم (1) :
بالظاء، أصل يطرد، وأصله الحبس، قال الله عز وجل: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} (2) [آل عمران 134] ، {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} (3) [يوسف 84] .
__________
(1) الظاءات 36، والتمهيد 212
(2) سورة آل عمران الآية 134
(3) سورة يوسف الآية 84(21/208)
الشواظ (1) :
بالظاء أصل يطرد، وهو اللهب، قال الله عز وجل: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} (2) [الرحمن 35] ، يعني بالنحاس: الدخان (3) .
__________
(1) الظاءات 246، والتمهيد 211
(2) سورة الرحمن الآية 35
(3) ينظر في معنى الآية الطبري 27 \ 81، والقرطبي 17 \ 171(21/208)
الغلظة (1) :
بالظاء، أصل يطرد، نحو قوله عز وجل: {عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ} (2) [التحريم 6] ، وقوله: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (3) [التوبة 73] ، وما أشبه ذلك (4) .
__________
(1) الظاءات 43، والتمهيد 216
(2) سورة التحريم الآية 6
(3) سورة التوبة الآية 73
(4) وفي القرآن منه ثلاثة عشر موضعا(21/208)
الظعن (1) :
بالظاء، أصل يطرد، وهو السفر بالنساء، واحدتهن ظعينة، قال الله عز وجل: {تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} (2) [النحل 80] والسفر ضد الإقامة.
__________
(1) الظاءات 45، والتمهيد 213
(2) سورة النحل الآية 80(21/209)
الحفظ والحفيظ والمحافظة (1) :
وما تصرف من ذلك بالظاء، أصل يطرد، والحفظ ضد النسيان، قال الله عز وجل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} (2) [البقرة 238] ، وقال: {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} (3) [المطففين 33] و: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (4) [البروج 22] ، وما أشبه ذلك (5) .
فهذا جميع ما وقع في كتاب الله من الظاء والضاد. والحمد لله رب العالمين وصلواته على خاتم النبيين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وسلم تسليما إلى يوم الدين
__________
(1) الظاءات 34، والتمهيد 215
(2) سورة البقرة الآية 238
(3) سورة المطففين الآية 33
(4) سورة البروج الآية 22
(5) وهي أربعة وأربعون موضعا(21/209)
المصادر
القرآن الكريم:
الأضداد - لأبي بكر بن الأنباري - تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - وزارة الإعلام - الكويت 1960م.
الأضداد - لأبي الطيب اللغوي - تحقيق د \ عزة حسن - مجمع اللغة العربية - دمشق 1963م.
الاعتماد في نظائر الظاء والضاد - لابن مالك - تحقيق د \ حاتم صالح الضامن - مؤسسة الرسالة - بيروت 1404هـ.
تفسير القرآن الكريم للطبري (جامع البيان) بولاق - القاهرة 1323هـ
تفسير القرآن الكريم للقرطبي (الجامع لأحكام القرآن) دار الكاتب العربي - القاهرة 1967م.
التمهيد في علم التجويد - لابن الجزري - تحقيق د \ علي حسين البواب - مكتبة المعارف - الرياض 1405هـ.
جامع الأصول في أحاديث الرسول - لابن الأثير - تحقيق عبد القادر الأرناؤوط - مكتبة الحلواني - دمشق 1389هـ.
السبعة في القراءات - لأبي بكر بن مجاهد - تحقيق د \ شوقي ضيف - دار المعارف القاهرة 1980م.
سنن الترمذي (بشرح السيوطي) دار الفكر - بيروت 1398هـ.
الظاءات القرآنية - لأبي عمرو الداني - تحقيق د \ علي حسين البواب - مكتبة المعارف - الرياض 1406هـ.
القاموس المحيط للفيروزآبادي - المطبعة المصرية - القاهرة 1935م.(21/210)
المعجم المفهرس لألفاظ القرآن - إعداد محمد فؤاد عبد الباقي - مطابع الشعب - القاهرة.
المفردات في غريب القرآن - للراغب الأصبهاني تحقيق د \ محمد أحمد خلف الله - مكتبة الأنجلو- القاهرة 1970م.
النشر في القراءات العشر - لابن الجزري - مصورة دار الكتب العلمية - بيروت.(21/211)
فتح المعين بتصحيح حديث عقد التسبيح باليمين
الشيخ فريح بن صالح البهلال
تقديم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فقد اطلعت على المقال الذي كتبه الابن العلامة الشيخ فريح بن صالح البهلال وسماه " فتح المعين بتصحيح حديث عقد التسبيح باليمين " فألفيته مقالا جيدا مفيدا قد اعتنى فيه المؤلف بطرق الحديث المذكور، مع بيان الأحاديث الواردة في أنواع الذكر بعد الصلاة وعند النوم وعزوها إلى مخرجيها، ولقد أجاد وأفاد وأحسن، فجزاه الله خيرا وزاده من العلم والتوفيق، وإني أنصح إخواني طلبة العلم بقراءة هذا المقال والاستفادة منه لعظم فائدته مع إيجازه، وأسأل الله أن يوفقنا جميعا للفقه في الدين والثبات عليه، وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن مضلات الفتن، إنه سميع قريب، قاله ممليه الفقير إلى الله تعالى عبد العزيز بن عبد الله بن باز سامحه الله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(21/212)
الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على سيد المرسلين وبعد:
فإليك - يا أخي المسلم - حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في عقد التسبيح باليد اليمين قد فتشت عنه في مصادر الحديث وفي كلام أهل العلم فظهر لي أن الحديث صحيح لا غبار عليه بوجه من الوجوه.
وقد جمعت ما توصلت إليه من البحث فيه ليسهل علي الرجوع إليه عند الحاجة، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وبه اعتصمت، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(21/213)
وهذا هو:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح بيده (1) » . وفي رواية: بيمينه، رواه الإمام أحمد والنسائي والبخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والترمذي وابن أبي شيبة وابن حبان وابن ماجه والحاكم وعبد الرزاق والبيهقي والبغوي.
فالإمام أحمد والبخاري وابن ماجه وعبد الرزاق رووه مطولا.
والنسائي وأبو داود والترمذي وابن حبان والبغوي رووه مختصرا ومطولا.
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3411) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (926) .(21/213)
وابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي رووه مختصرا.
ففي مسند الإمام أحمد ج2 \ ص 160: ثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلتان من حافظ عليهما أدخلتاه الجنة، وهما يسير، ومن يعمل بهما قليل. قالوا: وما هما يا رسول الله؟ قال: أن تحمد الله وتكبره وتسبحه في دبر كل صلاة مكتوبة عشرا عشرا، وإذا أتيت مضجعك تسبح الله وتكبره وتحمده مائة مرة، فتلك خمسون ومائتان باللسان، وألفان وخمسمائة في الميزان، فأيكم يعمل باليوم والليلة ألفين وخمسمائة حسنة؟ قالوا: كيف من يعمل بهما قليل. قال: يجيء أحدكم الشيطان في صلاته فيذكره حاجة كذا وكذا فلا يقولها، ويأتيه عند منامه فينومه فلا يقولها. قال: ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدهن بيده (1) » .
وفي المسند أيضا قال الإمام أحمد ج2 \ ص 205: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن عطاء به، وساقه إلى أن قال: «فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدهن في يده (2) » .
وفي الأدب المفرد ص (417) قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن عطاء به، وساقه إلى أن قال: «فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يعقدهن بيده» .
__________
(1) جرير هو ابن عبد الحميد الكوفي ثقة \ تقريب \ عطاء بن السائب ثقة، وقيل: صدوق اختلط \ تقريب. والسائب هو ابن مالك أو ابن زيد والد عطاء ثقة \ تقريب. وعبد الله بن عمرو هو الصحابي الجليل المشهور
(2) سنن الترمذي الدعوات (3410) ، سنن النسائي السهو (1348) ، سنن أبو داود الصلاة (1502) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (926) ، مسند أحمد بن حنبل (2/205) .(21/214)
وفي سنن ابن ماجه ج1 \ ص (299) قال رحمه الله: حدثنا أبو كريب، ثنا إسماعيل ابن علية ومحمد بن فضيل وأبو يحيى التيمي وأبو الأجلح، عن عطاء بن السائب به، وساقه إلى أن قال: «فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدها بيده (1) » .
وفي مصنف عبد الرزاق ج2 \ ص (233) قال رحمه الله: عن الثوري، عن عطاء بن السائب به، إلى أن قال: «ولقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يعد هكذا وعد بأصابعه» (2) .
وفي سنن النسائي ج3 \ ص (74) قال رحمه الله: أخبرنا يحيى بن حبيب بن عربي، قال: حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب به، وساقه إلى أن قال: «وأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدهن بيده (3) » (4) .
وفي سنن النسائي أيضا ج3 \ ص (79) - مختصرا قال رحمه الله: أخبرنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني والحسين بن محمد الذارع - واللفظ له - قالا: حدثنا عثام بن علي، قال: حدثنا الأعمش، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح (5) » .
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3410) ، سنن النسائي السهو (1348) ، سنن أبو داود الأدب (5065) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (926) .
(2) تقدم التعريف برجاله
(3) سنن الترمذي الدعوات (3410) ، سنن النسائي السهو (1348) ، سنن أبو داود الأدب (5065) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (926) ، مسند أحمد بن حنبل (2/161) .
(4) يحيى بن حبيب بن عربي هو البصري \ ثقة \ تقريب \ وحماد هو ابن زيد البصري ثقة ثبت فقيه \ تقريب
(5) سنن الترمذي الدعوات (3411) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (926) .(21/215)
وفي سنن الترمذي \ تحفة الأحوذي ج9 \ ص (355) قال - رحمه الله -: حدثنا أحمد بن منيع، أخبرنا إسماعيل ابن علية، أخبرنا عطاء بن السائب. . به. . إلى أن قال: «فأنا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعقدها بيده (1) » وقال: هذا حديث حسن صحيح، ورواه شعبة والثوري عن عطاء.
وفي سنن الترمذي أيضا \ تحفة الأحوذي ج9 \ ص (459) قال الترمذي - رحمه الله -: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، أخبرنا عثام بن علي، عن الأعمش، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعقد التسبيح بيده (2) » . هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث الأعمش عن عطاء بن السائب، وروى شعبة والثوري هذا الحديث عن عطاء بن السائب بطوله (3) .
وفي سنن أبي داود ج4 \ ص (316) قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر، ثنا شعبة، عن عطاء بن السائب. . . به، وفيه: «فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعقدها بيده (4) » .
وفي سنن أبي داود أيضا ج2 \ ص (81) قال - رحمه الله -: حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة ومحمد بن قدامة في آخرين. قالوا: حدثنا عثام، عن الأعمش، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعقد التسبيح (5) » - قال ابن قدامة: بيمينه (6) .
__________
(1) أحمد بن منيع هو أبو جعفر الأصم البغدادي \ ثقة حافظ \ تقريب. وإسماعيل ابن علية البصري \ ثقة حافظ \ تقريب.
(2) سنن الترمذي الدعوات (3411) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (926) .
(3) محمد بن عبد الأعلى الصنعاني \ ثقة \ تقريب.
(4) حفص بن عمر هو ابن الحارث البصري \ ثقة ثبت \ تقريب.
(5) سنن الترمذي الدعوات (3411) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (926) .
(6) عبيد الله بن عمر بن ميسرة هو البصري \ ثقة ثبت \ تقريب، ومحمد بن قدامة هو المصيصي \ ثقة \ تقريب.(21/216)
وفي موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان للهيثمي ص (143 \ 583) قال ابن حبان: أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحي، حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب الجمحي، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا عطاء بن السائب. . به. . إلى أن قال: قال عبد الله: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعقدهن بيده (1) » .
وفي موارد الظمآن أيضا ص (143 \ 582) قال - رحمه الله -: أخبرنا أبو يعلى، حدثنا أبو خيثمة، حدثنا جرير وابن علية، عن عطاء بن السائب. . . فذكر نحوه.
وفيه أيضا ص (580) قال ابن حبان: حدثنا محمد بن يحيى بن زهير، حدثنا أحمد بن المقدام العجلي، حدثنا عثام بن علي، عن الأعمش، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعقد التسبيح بيده (2) » .
وفي شرح السنة للبغوي ج5 \ ص (47) قال - رحمه الله -: " باب عقد التسبيح باليد ".
حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي، (نا) أبو معاذ الشاه بن عبد الرحمن المزني، نا أبو الحسن علي بن عبد الله بن مبشر الواسطي، نا أبو الأشعث أحمد بن المقدام العجلي، نا عثام بن علي، نا الأعمش، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: «رأيت رسول الله
__________
(1) الفضل بن الحباب الجمحي \ إمام ثقة محدث البصرة \ تذكرة الحفاظ، وعبد الله بن عبد الوهاب الجمحي - الصواب الحجبي بفتح الحاء والجيم، بصري ثقة \ تقريب. وتقدم حماد بن زيد.
(2) محمد بن يحيى بن زهير لم أقف عليه. وأحمد بن المقدام العجلي هو أبو الأشعث البصري \ صدوق \ تقريب.(21/217)
- صلى الله عليه وسلم - يعقد التسبيح (1) » . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث الأعمش عن عطاء بن السائب.
ورواه البغوي في مصابيح السنة \ مشكاة المصابيح ج2 \ ص (743) مطولا وفيه: «فأنا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعقدها بيده (2) » .
وفي سنن البيهقي الكبرى ج2 \ ص (187) قال البيهقي - رحمه الله -: وحدثنا أبو الحسن علي بن عبد الله الخسرو جردي، أنبأنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي، ثنا أبو حفص عمر بن الحسن الحلبي، ثنا محمد بن قدامة بن أعين، ثنا عثام، عن الأعمش، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعقد التسبيح بيمينه (3) » .
وفي الكتاب المصنف لابن أبي شيبة ج2 \ ص (390) قال - رحمه الله -: حدثنا محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعقده بيده (4) » . يعني التسبيح (5) .
وفي مستدرك الحاكم ج1 \ ص (547) قال - رحمه الله -: حدثنا عبد الرحمن بن الحسن القاضي، ثنا إبراهيم بن الحسن بن المثنى، ثنا عفان، ثنا شعبة، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعقد التسبيح. قال الحاكم: رواه الأعمش
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3411) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (926) .
(2) سنن الترمذي الدعوات (3410) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (926) .
(3) سنن الترمذي الدعوات (3411) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (926) .
(4) سنن الترمذي الدعوات (3410) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (926) .
(5) محمد بن فضيل هو ابن غزوان الضبي الكوفي \ صدوق \ تقريب.(21/218)
عن عطاء بن السائب. أخبرناه أبو الطيب محمد بن أحمد بن الحسن الحيري، ثنا محمد بن عبد الوهاب الفراء، ثنا علي بن عثام بن علي العامري، ثنا أبي، ثنا الأعمش، عن عطاء، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعقد التسبيح.(21/219)
درجة هذا الحديث
هذا الحديث جمع - كما مر - بين الغرابة وبين الاشتهار، فإن إسناده غريب في طرفه الأول، مشهور في طرفه الآخر. وذلك أنه لم يروه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -، ولم يروه عن عبد الله إلا السائب والد عطاء، ولم يروه عن السائب إلا عطاء بن السائب، ثم رواه عن عطاء الجم الغفير من الثقات الحفاظ. فقد رواه عن عطاء عشر أنفس أو أكثر وهم كالتالي: -(21/219)
وروايتهم له عن عطاء وردت بألفاظ مختلفة، فأكثرهم عبر بلفظ " عن عطاء " وبعضهم عبر " حدثنا عطاء "، وهو إسماعيل بن علية، عند الترمذي، وبعضهم عبر " بأخبرنا عطاء "، وهو حماد بن زيد عند ابن حبان.
ثم إنه تناقله الناس عن هؤلاء إلى أن دون في كتب أئمة المسلمين - كما أسلفنا - وهذا يدل على أن الحديث صحيح بالنسبة إلى من بعد عطاء لشهرته واستفاضته، بل لتواتره، ويبقى النظر الآن في طريق الغرابة منه، وهو تفرد عطاء بن السائب به عن أبيه، وتفرد أبيه به عن عبد الله بن عمرو، وتفرد عبد الله به عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما تفرد عبد الله بن عمرو به فلا يضر لأنه صحابي جليل مشهور، وأما تفرد السائب به فلا يقدح فيه لأنه تقدم أنه ثقة.
وأما تفرد عطاء به فقد يتطرق إليه احتمال الضعف؛ لأنه قد اختلط في آخره، ولكن هذا الاحتمال غير وارد هنا؛ لأن عطاء ثقة، قال فيه الإمام أحمد: " ثقة ثقة، رجل صالح، ومن سمع منه قديما كان صحيحا وكان يختم كل ليلة ". وقال البخاري: "أحاديث عطاء بن السائب القديمة صحيحة". وقال النسائي: ثقة في حديثه القديم. "وقال أبو حاتم: محله الصدق قبل أن يختلط ".
فقد اتفق أهل العلم بالحديث على أن الرواية عنه قبل الاختلاط صحيحة، وبعد الاختلاط ضعيفة، وقد صرح علماء الجرح والتعديل بأن رواية سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد والأعمش عن عطاء صحيحة؛ لأنها قبل الاختلاط، فكل هؤلاء الأربعة روى عنه هذا الحديث ويضم إليهم بقية من رواه عنه وهم ستة فيزيد بهم قوة على قوة ويكون الحديث صحيحا لا غبار عليه.(21/220)
" ذكر من صحح هذا الحديث من أهل العلم "
هذا الحديث صححه الترمذي وابن حبان (1) وأيوب السختياني (2) والبغوي والنووي والذهبي (3) والحافظ ابن حجر والألباني وشعيب الأرناؤوط (4) والسيوطي (5) .
__________
(1) انظر موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان ص (143 \ 582) .
(2) قاله النووي في الأذكار ص (35) .
(3) قال الذهبي في تلخيصه لمستدرك الحاكم: ''صحيح''.
(4) قال شعيب الأرناؤوط في تعليقه على شرح السنة (5 \ 47) : وهو حديث صحيح.
(5) انظر فيض القدير (3 \ 442) فقد رمز له السيوطي ''بصح''.(21/221)
بيان أن عقد التسبيح في هذا الحديث يكون باليد اليمين
اعلم أن معنى عقد التسبيح عده، كما جاء صريحا في رواية البخاري بلفظ: " يعد التسبيح بيده ".(21/221)
وقد اختلف لفظ عقد التسبيح بواسطة نقل الرواة له في هذا الحديث، فجاء مطلقا مثل لفظ " يعقد التسبيح " كما عند النسائي والبغوي والحاكم.
أي أن إطلاقه يتناول عقده بالحصى والنوى واليد وغير ذلك، ولكن جاء تقييده بعقده بيده - صلى الله عليه وسلم - كما عند أحمد والبخاري والنسائي والترمذي وابن ماجه وابن أبي شيبة وابن حبان والبغوي بلفظ "يعدهن بيده "، " ويعقدهن بيده "، "يعقدهن في يده "، "يعقدها بيده "، "يعقد التسبيح بيده ".
وكونه قيد عقد التسبيح بيده فإنه مطلق أيضا في اليد؛ لأنه يتناول أنه يعقدهن بيديه معا، فجاء تقييده بعقده باليد اليمين عند أبي داود والبيهقي بلفظ " يعقد التسبيح بيمينه ".
والمراد يعد التسبيح بأصابع اليد اليمين أو بأناملها، فقد ورد في بعض ألفاظ هذا الحديث عند عبد الرزاق: " يعد هكذا وعد بأصابعه ".
وجاء في حديث يسيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهن أن يراعين بالتكبير والتقديس والتهليل، وأن يعقدن بالأنامل، فإنهن مسئولات مستنطقات رواه أبو داود وغيره. وفيه هانئ بن عثمان الجهني وحميضة بنت ياسر، قال الحافظ في التقريب: إنهما مقبولان، وبقية رجاله ثقات.
ولا يرد على رواية عقد التسبيح باليمين كون الأعمش - وهو مدلس - تفرد بروايتها لأمور:
الأول: - أن الأعمش ثقة حافظ إمام، وقد قال الحافظ في طبقات المدلسين: " إنه ممن احتمل الأئمة تدليسه، وأخرجوا له في الصحيح لإمامته وقلة تدليسه في جنب ما روى ".
الثاني: - أن الأعمش قد عاصر عطاء بن السائب في بلد واحد(21/222)
فالعصر واحد والبلد واحد، وهو الكوفة، توفي عطاء سنة (136هـ) ، وتوفي الأعمش سنة (148هـ) ، وهذا يدل على صحة سماع الأعمش من عطاء.
الثالث: - أن الأعمش لم ينفرد برواية هذا الحديث عن عطاء حتى يتطرق إليه احتمال التدليس فيه، بل قد رواه عن عطاء الجم الغفير من الحفاظ الثقات من أئمة المسلمين، أمثال شعبة، وسفيان الثوري، وحماد بن زيد، وإسماعيل بن علية وغيرهم، كلهم روى هذا الحديث عن عطاء، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " يعقد التسبيح بيده ". فعقد التسبيح باليد ثابت قطعا، ورواية الأعمش هذه بينت المراد باليد، وهي اليمين.
الرابع: - أن التسبيح معناه: تنزيه الله عن النقص والعيب، ولا يليق بالمسلم أن يعقد ما ينزه الله به باليد الشمال التي تزال بها الأقذار كالمخاط والاستنجاء ونحو ذلك.
الخامس: - أن جعل اليد اليمين للأشياء الطيبة مطلوب شرعا، فقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله (1) » .
السادس: - أن الحافظ ابن حجر قال في هذا الحديث: رجاله كلهم ثقات إلا عطاء بن السائب اختلط، ورواية الأعمش عنه قديمة، فإنه من أقرانه، نقله الألباني عن الحافظ في تعليقه على الكلم الطيب لشيخ الإسلام ابن تيمية ص (69) أي أن رواية الأعمش هذه عن عطاء صحيحة لقدمها قبل الاختلاط وبعدها عن التدليس.
إذا تقرر هذا فإن السنة أن يعد المسبح التسبيح بأصابع يده اليمنى كما تقدم في رواية عبد الرزاق: " يعد هكذا وعد بأصابعه "، وفي سنن أبي داود من حديث حميضة بنت ياسر: " واعقدن بالأنامل " وتقدم.
وأما عده بالحصى والنوى وغير ذلك فجائز، لفعل بعض السلف - رضي
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (168) ، صحيح مسلم الطهارة (268) ، سنن الترمذي الجمعة (608) ، سنن النسائي الغسل والتيمم (421) ، سنن أبو داود اللباس (4140) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (401) ، مسند أحمد بن حنبل (6/188) .(21/223)
الله عنهم -، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في مجموع الفتاوى لابن القاسم (22 \ 506) : وعد التسبيح بالأصابع سنة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للنساء: «سبحن واعقدن بالأصابع، فإنهن مسئولات مستنطقات (1) » ، وأما عده بالنوى والحصى ونحو ذلك فحسن، وكان من الصحابة - رضي الله عنه - من يفعل ذلك. وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أم المؤمنين تسبح بالحصى، وأقرها على ذلك، وروي أن أبا هريرة كان يسبح به.
وأما التسبيح بما يجعل في نظام من الخرز ونحوه، فمن الناس من كرهه، ومنهم من لم يكرهه، وإذا حسنت فيه النية فهو حسن غير مكروه.
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3583) ، سنن أبو داود الصلاة (1501) ، مسند أحمد بن حنبل (6/371) .(21/224)
ذكر اختلاف الروايات في عدد الذكر بعد الصلاة المكتوبة
اعلم أخي المسلم أنه روي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في عدد التسبيح والتحميد والتكبير بعد الصلاة أحاديث متباينة في عدده، فروي أن عدده ثلاثون، لكل فرد عشر، وروي ثلاث وثلاثون، لكل فرد إحدى عشرة، وروي تسع وتسعون، لكل فرد ثلاث وثلاثون، وتمام المائة تكبيرة واحدة، وروي كذلك تسع وتسعون لكل فرد، وتمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وروي خمس وسبعون، لكل فرد خمس وعشرون، وزيادة خمس وعشرين متممات مائة، وإليك أدلة ذلك: -(21/224)
الثلاثون لكل فرد عشر
تقدم حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - بلفظ: «يسبح أحدكم في دبر كل صلاة مكتوبة عشرا، ويحمد عشرا، ويكبر عشرا، فتلك مائة وخمسون باللسان وألف وخمسمائة في الميزان (1) » الحديث، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تسبحون في دبر كل صلاة عشرا، وتحمدون عشرا، وتكبرون عشرا (2) » رواه البخاري في صحيحه (8 \ 86) .
قال الحافظ في الفتح (2 \ 329) : وقد وجدت لرواية العشر شواهد، منها عن علي عند أحمد، وسعد بن أبي وقاص عند النسائي، وعن عبد الله بن عمرو عنده، وعند أبي داود والترمذي، وعن أم سلمة عند البزار، وعن أم مالك الأنصارية عند الطبراني.
الثلاث والثلاثون لكل فرد إحدى عشرة
جاء في بعض ألفاظ حديث أبي هريرة في التسبيح بعد الصلاة عند الإمام مسلم (2 \ 97) يقول سهيل: إحدى عشرة، فجميع ذلك كله ثلاثة وثلاثون.
قال الحافظ في الفتح (2 \ 328) : لكن لم يتابع سهيل على ذلك، بل لم أر في شيء من طرق الحديث كلها التصريح بإحدى عشرة إلا في حديث ابن عمر عند البزار وإسناده ضعيف.
التسع والتسعون، لكل فرد ثلاث وثلاثون، وتمام المائة تكبيرة واحدة
جاء فيها حديث كعب بن عجرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3410) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (926) .
(2) صحيح البخاري الدعوات (6329) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (595) ، سنن أبو داود الصلاة (1504) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (927) ، مسند أحمد بن حنبل (2/371) ، موطأ مالك النداء للصلاة (488) ، سنن الدارمي الصلاة (1353) .(21/225)
قال: «معقبات لا يخيب قائلهن أو فاعلهن دبر كل صلاة مكتوبة، ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة (1) » رواه مسلم (2 \ 98) . ورواه أحمد من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - بلفظ: «تسبح خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وتحمد ثلاثا وثلاثين، وتكبر أربعا وثلاثين (2) » ج (5 \ 158 \ 190) ، ورواه أيضا من حديث أبي الدرداء ج (6 \ 446) بلفظ: «أن تكبروا الله أربعا وثلاثين، وتسبحوه ثلاثا وثلاثين، وتحمدوه ثلاثا وثلاثين في دبر كل صلاة (3) » .
التسع والتسعون لكل فرد ثلاث وثلاثون، وتمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
ورد فيها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بلفظ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبر الله ثلاثا وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال: تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير غفرت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر (4) » رواه مسلم (2 \ 98) .
الخمس والسبعون لكل فرد خمس وعشرون، وزيادة خمس وعشرين تهليلة يتممن المائة
عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: «أمرنا أن نسبح في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، ونحمد ثلاثا وثلاثين، ونكبر أربعا وثلاثين. فأتي رجل في منامه، فقيل له: أمركم محمد - صلى الله عليه وسلم - أن تسبحوا في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وتحمدوا ثلاثا وثلاثين، وتكبروا أربعا وثلاثين؟ قال: نعم، قال: اجعلوها خمسا وعشرين، واجعلوا فيها التهليل،
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (596) ، سنن الترمذي الدعوات (3412) ، سنن النسائي السهو (1349) .
(2) سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (927) ، مسند أحمد بن حنبل (5/158) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (6/446) .
(4) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (597) ، سنن أبو داود الصلاة (1504) ، مسند أحمد بن حنبل (2/371) ، موطأ مالك النداء للصلاة (488) .(21/226)
فلما أصبح أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فافعلوه (1) » . رواه النسائي (3 \ 76) وابن حبان \ موارد الظمآن ص (581) ، واللفظ له. ولفظ النسائي: قال: " اجعلوها كذلك ". والإمام أحمد (5 \ 184) بنحوهما.
وروى النسائي (3 \ 76) له شاهدا بنحوه من حديث ابن عمر، إلا أن فيه: تمام المائة التكبير.
وذكر ابن علان في الفتوحات الربانية على الأذكار النووية (2 \ 42) أن الحافظ صحح كلا الحديثين؛ حديث زيد وابن عمر هذين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في مجموع الفتاوى لابن القاسم ج (22 \ 509) : " وقد روي في الصحيحين أنه يقول: كل واحدة خمسة وعشرين، ويزيد فيها التهليل " أهـ.
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3413) ، مسند أحمد بن حنبل (5/184) .(21/227)
" قول أهل العلم في الجمع بين اختلاف هذه الأعداد الوارة في الذكر بعد الصلاة "
قال الحافظ في الفتح (2 \ 329) : " وجمع البغوي في شرح السنة بين هذا الاختلاف باحتمال أن يكون ذلك صدر في أوقات متعددة أولها عشرا عشرا، ثم إحدى عشرة إحدى عشرة، ثم ثلاثا وثلاثين ثلاثا وثلاثين، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل التخيير أو يفترق بافتراق الأحوال " أهـ.
وقال النووي في شرح مسلم (5 \ 94) : وأما قول سهيل: إحدى عشرة إحدى عشرة. فلا ينافي رواية الأكثر: ثلاثا وثلاثين. بل معهم زيادة يجب قبولها.(21/227)
وفي رواية: «تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير (1) » .
وفي رواية: أن التكبير أربع وثلاثون، وكلها زيادات من الثقات يجب قبولها، فينبغي أن يحتاط الإنسان فيأتي بثلاث وثلاثين تسبيحة ومثلها تحميدات، وأربع وثلاثين تكبيرة، ويقول معها: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. . . إلى آخرها، ليجمع بين الروايات أهـ.
والأظهر عندي أن يعمل المسلم بالأكثر لأنه أحوط - كما قال النووي في غالب أحواله، ويعمل بالأقل في بعض الأحوال إعمالا للسنة، كدعاء الاستفتاح والتشهد ونحوهما. والله أعلم.
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (597) ، سنن أبو داود الصلاة (1504) ، مسند أحمد بن حنبل (2/371) ، موطأ مالك النداء للصلاة (488) .(21/228)
" كيفية عد التسبيح والتحميد والتكبير "
لم يرد في الأدلة تصريح بكيفية معينة، لذا قيل: يؤتى به جمعا بالعطف بالواو، فيقال: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر. . . إلخ العدد المحدد.
وقيل: يؤتى به بالإفراد، فيقال: سبحان الله، سبحان الله. . . إلخ العدد المحدد، الحمد لله، الحمد لله. . . إلخ العدد المحدد، الله أكبر الله أكبر. . . إلى آخر العدد المحدد.
قال النووي في شرح مسلم (5 \ 93) : " قوله في كيفية عد التسبيحات والتحميدات والتكبيرات أن أبا صالح - رحمه الله تعالى - قال: يقول: -
الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله ثلاثا وثلاثين، وذكر بعد هذه الأحاديث من طرق غير طريق أبي صالح، وظاهرها أنه يسبح ثلاثا وثلاثين مستقلة، ويكبر ثلاثا وثلاثين مستقلة، ويحمد كذلك، وهذا ظاهر(21/228)
الأحاديث، قال القاضي عياض: وهو أولى من تأويل أبي صالح " أهـ.
وقال الحافظ في الفتح (2 \ 329) : "ورجح بعضهم الجمع للإتيان فيه بواو العطف، والذي يظهر أن كلا من الأمرين حسن، إلا أن الإفراد يتميز بأمر آخر، وهو أن الذكر يحتاج إلى العدد، وله على كل حركة لذلك - سواء كان بأصابعه أو بغيرها - ثواب، لا يحصل لصاحب الجمع منه إلا الثلث " أهـ.
والراجح عندي - والله أعلم - هو الإتيان به جمعا معطوفا بالواو لأمرين: -
أحدهما: أن في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الوارد في هذا الذكر ما يدل عليه، وهو ما رواه مسلم في صحيحه (2 \ 97) أن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن أحد رواة الحديث حدث أهله بحديث أبي هريرة - أي بالإتيان بهذا الذكر جمعا - فقالوا له: وهمت، إنما قال - أي الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو الراوي - " تسبح الله ثلاثا وثلاثين، وتحمد الله ثلاثا وثلاثين، وتكبر الله ثلاثا وثلاثين فعند ذلك رجع سمي إلى شيخه أبي صالح وهو ذكوان الزيات أحد رواة الحديث، فأخبره بالخلاف الذي حصل مع أهله في كيفية الذكر، فأخذ أبو صالح بيد سمي وقال: الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله. . الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله. . . إلخ، فأتى به بالجمع معطوفا بالواو، والراوي أعلم بما روى، فهذا سمي وشيخه أبو صالح اللذان رويا الحديث أخبرا بأن كيفيته الجمع.
لكن قال الحافظ في الفتح (2 \ 329) والعيني في عمدة القاري (6 \ 130) : إن مسلما - رحمه الله - لم يصل " قول سمي: فحدثت بعض أهلي هذا الحديث. فقال: وهمت. . . إلخ، ورواية البخاري لحديث أبي هريرة هذا في صحيحه (1 \ 202) يدل ظاهرها على الإتيان به جمعا أيضا، لأن فيه أنهم اختلفوا في كيفيته، والظاهر أنهم الصحابة، حيث قال أبو هريرة:(21/229)
" فاختلفنا بيننا ". فقال بعضنا: نسبح ثلاثا وثلاثين، ونحمد ثلاثا وثلاثين، ونكبر أربعا وثلاثين، فرجع أبو هريرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بذلك، فعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - كيفيته بقوله: «تقول سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر (1) » . . . . الحديث، وقول أبي هريرة: " قال: تقول. . . إلخ، يدل على أنه رفع هذه الكيفية إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي علمهم هذه الكيفية، وهذا هو الأقرب، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية (22 \ 515) مجموع الفتاوى لابن القاسم: وفي الصحيح أيضا أنه يقول: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر ثلاثا وثلاثين ".
واستظهر هذا شراح الحديث؛ الحافظ ابن حجر والعيني وغيرهما.
الأمر الثاني: - أنه ورد على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحاديث في فضل هذا الذكر، ظاهرها يدل على الإتيان به جمعا، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -.
«إن سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، تنفض الخطايا كما تنفض الشجرة ورقها (2) » رواه أحمد (3 \ 152) من حديث أنس - رضي الله عنه -.
«قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله (3) » رواه أحمد (4 \ 352) من حديث ابن أبي أوفى.
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (843) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (595) ، سنن أبو داود الصلاة (1504) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (927) ، مسند أحمد بن حنبل (2/238) ، موطأ مالك النداء للصلاة (488) ، سنن الدارمي الصلاة (1353) .
(2) سنن الترمذي الدعوات (3533) ، مسند أحمد بن حنبل (3/152) .
(3) صحيح البخاري الجمعة (1154) ، سنن الترمذي الدعوات (3414) ، سنن أبو داود الأدب (5060) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3878) ، مسند أحمد بن حنبل (5/313) ، سنن الدارمي الاستئذان (2687) .(21/230)
" فصل في عدد كلمات هذا الذكر عند المنام "
قد ورد أن عدده مائة: ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة، وهذا نص حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -، وهذا لفظه: «وإذا أوى إلى فراشه يسبح ثلاثا وثلاثين، ويحمد ثلاثا وثلاثين، ويكبر أربعا وثلاثين، فتلك مائة باللسان، وألف في الميزان. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فأيكم يعمل في يومه وليلته ألفين وخمسمائة سيئة؟ قال(21/230)
عبد الله: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعقدهن بيده. قال: قيل: يا رسول الله كيف لا يحصيها؟ قال: يأتي أحدكم الشيطان وهو في صلاته فيقول: اذكر كذا، اذكر كذا. ويأتيه عند منامه فينومه (1) » . هذا لفظ ابن حبان.
وروى هذه الكيفية الإمام أحمد (1 \ 96) ، والبخاري في الصحيح (7 \ 84) ، ومسلم (8 \ 84) ، وأبو داود (4 \ 315) كلهم من حديث علي وزوجه فاطمة - رضي الله عنهما -، وكذا رواه الترمذي \ تحفة الأحوذي (9 \ 353) .
فلفظ أحمد: «إذا أخذتما مضجعكما سبحتما الله ثلاثا وثلاثين، وحمدتما ثلاثا وثلاثين، وكبرتما أربعا وثلاثين (2) » .
ولفظ البخاري: «إذا أخذتما مضاجعكما أو أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وكبرا أربعا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم (3) » .
ولفظ أبي داود مثل لفظ البخاري هذا.
وفي رواية للبخاري: «تسبحين الله عند منامك ثلاثا وثلاثين، وتحمدين الله ثلاثا وثلاثين، وتكبرين الله أربعا وثلاثين (4) » .
ولفظ مسلم: «أن تكبرا الله أربعا وثلاثين (5) » . . . إلخ، وفيه: «إذا أخذتما مضجعكما من الليل (6) » .
وفي لفظ لمسلم أيضا من حديث أبي هريرة: «تسبحين ثلاثا وثلاثين، وتحمدين ثلاثا وثلاثين، وتكبرين أربعا وثلاثين حين تأخذين مضجعك (7) » .
وفي فتح الباري في باب التكبير والتسبيح عند المنام في شرح حديث علي هذا بلفظ: «فكبرا أربعا وثلاثين (8) » . . . الحديث. قال الحافظ: " كذا هنا بصيغة الأمر والجزم بأربع في التكبير "، وفي رواية بدل مثله ولفظه
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3410) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (926) .
(2) صحيح البخاري فرض الخمس (3113) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2727) ، سنن الترمذي الدعوات (3408) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2988) ، مسند أحمد بن حنبل (1/96) ، سنن الدارمي الاستئذان (2685) .
(3) صحيح البخاري النفقات (5361) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2727) ، سنن الترمذي الدعوات (3408) ، سنن أبو داود الأدب (5062) ، مسند أحمد بن حنبل (1/136) ، سنن الدارمي الاستئذان (2685) .
(4) صحيح البخاري النفقات (5362) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2727) ، سنن الترمذي الدعوات (3408) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2988) ، مسند أحمد بن حنبل (1/107) ، سنن الدارمي الاستئذان (2685) .
(5) صحيح البخاري فرض الخمس (3113) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2727) ، سنن الترمذي الدعوات (3408) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2988) ، مسند أحمد بن حنبل (1/107) ، سنن الدارمي الاستئذان (2685) .
(6) صحيح البخاري فرض الخمس (3113) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2727) ، سنن الترمذي الدعوات (3408) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2988) ، مسند أحمد بن حنبل (1/107) ، سنن الدارمي الاستئذان (2685) .
(7) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2728) .
(8) صحيح البخاري فرض الخمس (3113) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2727) ، سنن الترمذي الدعوات (3408) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2988) ، مسند أحمد بن حنبل (1/107) ، سنن الدارمي الاستئذان (2685) .(21/231)
" فكبرا الله "، ومثله للقطان، لكن قدم التسبيح وأخر التكبير ولم يذكر الجلالة، وفي رواية عمرو بن مرة عن ابن أبي ليلى، وفي رواية السائب كلاهما مثله، وكذا في رواية هبيرة عن علي ". أهـ.
واعلم أن حديث علي وفاطمة - رضي الله عنهما - هذا روي بغير ما تقدم في كيفية هذا الذكر عند المنام، ففي صحيح البخاري (8 \ 87) في باب التكبير والتسبيح عند المنام روي بلفظ: «فكبرا ثلاثا وثلاثين، وسبحا ثلاثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين (1) » . . . إلخ.
واعتمد العيني في عمدة القاري (22 \ 288) عليها في الشرح، إلا أن الحافظ في الفتح (11 \ 119) جرى على أنها بلفظ: «فكبرا أربعا وثلاثين (2) » . . . الحديث، وقررها بقوله (11 \ 122) : " كذا هنا بصيغة الأمر والجزم بأربع في التكبير " أهـ.
وقال البخاري في الصحيح (8 \ 87) بسنده، وقال ابن سيرين: التسبيح أربع وثلاثون. قال الحافظ في الفتح (11 \ 123) : " هذا موقوف على ابن سيرين من قوله " أهـ.
وفي الفتح الباري (11 \ 122) قال الحافظ - رحمه الله -: " وفي رواية الطبري من طريق أبي أمامة الباهلي عن علي في الجميع: «ثلاثا وثلاثين، واختماها بلا إله إلا الله (3) » . وله من طريق محمد بن الحنفية عن علي: «وكبراه وهللاه أربعا وثلاثين (4) » ، وله من طريق أبي مريم عن علي: «واحمدا أربعا وثلاثين (5) » ، وكذا في حديث أم سلمة، وله من طريق هبيرة أن التهليل أربع وثلاثون، ولم يذكر التحميد، وقد أخرجه أحمد من طريق هبيرة كالجماعة، وما عدا ذلك شاذ " أهـ.
قلت: فلا منافاة بين هذه الروايات وبين ما قبلها لأن كون البخاري - رحمه الله - روى في باب التكبير والتسبيح عند المنام أن التكبير ثلاث
__________
(1) صحيح البخاري الدعوات (6318) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2727) ، سنن الترمذي الدعوات (3408) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2988) ، مسند أحمد بن حنبل (1/107) ، سنن الدارمي الاستئذان (2685) .
(2) صحيح البخاري فرض الخمس (3113) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2727) ، سنن الترمذي الدعوات (3408) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2988) ، مسند أحمد بن حنبل (1/107) ، سنن الدارمي الاستئذان (2685) .
(3) سنن أبو داود الصلاة (1504) ، موطأ مالك النداء للصلاة (488) ، سنن الدارمي الصلاة (1353) .
(4) صحيح البخاري فرض الخمس (3113) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2727) ، سنن الترمذي الدعوات (3408) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2988) ، مسند أحمد بن حنبل (1/147) ، سنن الدارمي الاستئذان (2685) .
(5) صحيح البخاري النفقات (5361) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2727) ، سنن الترمذي الدعوات (3408) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2988) ، مسند أحمد بن حنبل (1/107) ، سنن الدارمي الاستئذان (2685) .(21/232)
وثلاثون فإنه يسوغ الجمع بحمل هذه الرواية على رواية الأربع والثلاثين التي رواها هو وغيره من الأئمة، لاحتمال أن بعض النساخ أخطأ في كتابتها فكتبها "ثلاثا "، يؤيد هذا الاحتمال أن الحافظ أثبتها " أربعا "، وقررها - كما تقدم -. ولأن البخاري ذكر الحديث نفسه في غير موضع - كما تقدم - بتربيع التكبير، وأما تربيع التحميد فظاهر كلام الحافظ المتقدم الحكم عليه بالشذوذ.
قال شراح الحديث كالحافظ في الفتح (11 \ 123) والعيني في العمدة (22 \ 289) والقسطلاني في إرشاد الساري (9 \ 186) قالوا: " واتفاق الرواة على أن الأربع للتكبير أرجح "، وأما ختم هذا الذكر بلا إله إلا الله في بعض الروايات فينظر في السند، فإن صح أخذ بها؛ لأن الأخذ بالزائد في هذا الباب حسن، وإلا اقتصر على الثابت وهو الختم بالتكبير والله أعلم.
فائدة: قال ابن القيم - رحمه الله - في الوابل الصيب ص (176) : "وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه -: بلغنا أن من حافظ على هذه الكلمات لم يأخذه إعياء فيما يعانيه من شغل وغيره".
وتعقبه الحافظ في الفتح (11 \ 125) بقوله: " وفيه نظر، ولا يتعين رفع التعب، بل يحتمل أن يكون من واظب عليه لا يتضرر بكثرة العمل، ولا يشق عليه، ولو حصل له التعب والله أعلم " أهـ.
ولا وجه لاعتراض الحافظ هذا لأنه نفى الضرر بكثرة العمل والمشقة عليه مع حصول التعب، والتعب ضرر كما هو معلوم.
وقول شيخ الإسلام حق لأنه نفى الإعياء وهو العجز عن العمل أو الجهل به أو ببعضه، ولا تستغرب هذا، فإن من امتلأ من خشية الله - عز وجل - فنزه الله بالتسبيح وأثنى عليه بالحمد وعظمه بالتكبير، وغذى قلبه بمعاني هذا الذكر الكريم، ورطب لسانه بمروره عليه في وقته المشروع له، فإن الله(21/233)
بمنه وكرمه - يمده بعون خاص منه على قضاء حوائجه وشغله بأيسر الأسباب وأسهل الطرق، فلا يعيى ولا يعجز، ولقد ثبت في صحيح البخاري (7 \ 131) ومسند الإمام أحمد (6 \ 256) أن العبد إذا تقرب إلى الله بأداء الفرائض وواظب على التقرب إليه بالنوافل، فإن الله يحبه، فإذا أحبه الله أمده بتوفيقه وإعانته، بحيث يكون سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سأل الله أعطاه، وإن استعاذ به أعاذه، فمن كان في معية الله الخاصة يبعد أن يأخذه إعياء فيما يعانيه من شغل وغيره، ألا ترى أن الله أخبر عن المعرض عن ذكره بتنغيص حياته وضنك معيشته قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} (1) .
وكون الإعياء يحصل لبعض الناس، فإنه لا ينفي عدم الحصول للبعض الآخر، وذلك لتخلف سبب من أسبابه أو وجود مانع، مصداق ذلك أن كثيرا من عباد الله يتلفظ بكلمة التوحيد لا إله إلا الله، وتجده يبارز الله بالمعاصي بأقواله وأفعاله واعتقاده، ولو عرف معناها حقا لامتنع عن مخالفتها إذا كان مسلما، أو لامتنع عن قولها إذا كان غير مسلم، كحال المشركين إذا خوطبوا بها وطلب منهم قولها امتنعوا استكبارا، قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (2) .
فالأعمال الصالحة لها تأثير عجيب في سلوك العبد وتوفيقه للهداية
__________
(1) سورة طه الآية 124
(2) سورة الصافات الآية 35(21/234)
وحفظه وإعانته، ولها ثمار دينية ودنيوية فوق ما يتصور بعض الناس مثال ذلك: -
المجاهدة في الله تثمر معية الله الخاصة للعبد وهدايته: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (1) .
وإقام الصلاة يثمر الانتهاء عن الفحشاء والمنكر، وإقامة ذكر الله أكبر: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (2) .
وتقوى الله والقول السديد يورثان العلم والفرقان وإصلاح الأعمال ومغفرة الذنوب والفوز العظيم: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} (3) ، {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} (4) ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (5) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (6) .
والاستغفار من الذنوب يثمر إدرار السماء والإمداد بالأموال والبنين والجنات والأنهار: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} (7) {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} (8) {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} (9) .
وصلة الرحم تثمر بسط الرزق وتأخير الأجل. يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «من سره أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره، فليصل رحمه (10) » رواه
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 69
(2) سورة العنكبوت الآية 45
(3) سورة البقرة الآية 282
(4) سورة الأنفال الآية 29
(5) سورة الأحزاب الآية 70
(6) سورة الأحزاب الآية 71
(7) سورة نوح الآية 10
(8) سورة نوح الآية 11
(9) سورة نوح الآية 12
(10) صحيح البخاري البيوع (2067) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2557) ، سنن أبو داود الزكاة (1693) ، مسند أحمد بن حنبل (3/247) .(21/235)
البخاري (3 \ 70) و (8 \ 6) ومسلم (8 \ 8) .
والدعاء يرد القضاء ويزيد في العمر، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر (1) » رواه الترمذي \ تحفة الأحوذي (6 \ 348) وقال الترمذي: حديث حسن غريب، "وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي (6 \ 348) ، وأخرجه ابن حبان والحاكم، وقال: صحيح الإسناد" وغير ذلك مما يفوت الحصر.
الحاصل: أنه تبين من هنا معنى الخيرية التي أثبتها الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهذا الذكر وهو إمداد الله وإعانته لمن حافظ على هذا الذكر بالعلم والبصيرة والتوفيق والنصر، وما في معنى ذلك على شئون حياته فلا يأخذه إعياء فيما يعانيه من شغل وغيره، ولا ريب أنه خير من خادم والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ومن سلك طريقه إلى يوم الدين.
__________
(1) سنن الترمذي القدر (2139) .(21/236)
الوحدة الإسلامية
أسسها ووسائل تحقيقها
للدكتور \ أحمد بن سعد الغامدي (1)
قال تعالى:
{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيم} (2) (آية 163 سورة البقرة) .
{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُون} (3) (آية 22 - سورة المؤمنون) .
__________
(1) ورد للكاتب ترجمة في العدد الثاني عشر صفحة 245.
(2) سورة البقرة الآية 163
(3) سورة المؤمنون الآية 52(21/237)
"المقدمة "
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين. . وبعد:
فإن إحساس الأمة المسلمة بحاجتها إلى اللقاء والتعاون إحساس منطقي وواقعي. . وذلك لأنها قد أضرت بها الخلافات. . وأنهكتها النزاعات التي كانت سببا لضعفها وضياع حقوقها في عصر لم يعد يسمع فيه صوت الضعفاء ولا أنين الجرحى.
قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (1) .
فارتفاع الأصوات المسلمة هنا وهناك تنادي بضرورة وحدة الأمة واجتماع كلمتها - أصوات صادقة ينبغي أن تتجاوب لها الأقطار الإسلامية لتنقذ نفسها وتحمي حقها.
قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (2) .
ولكنه لا بد للأمة المسلمة - وهي تلم شعثها وتوحد صفوفها - لا بد لها من إدراك صحيح للأسباب التي كانت وراء هذا الواقع السيئ الذي تعيشه والأسس التي ينبغي أن تلتقي عليها، والوسائل التي يمكن أن تتحقق بها تلك الأسس، وذلك لئلا تنتقل من واقع منحرف إلى واقع آخر منحرف.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 46
(2) سورة آل عمران الآية 103(21/238)
وإنني إذ أكتب هذا البحث لآمل أن ينفع الله به - عز وجل - الأمة المسلمة وهي تتجه إلى الله - عز وجل - وتعمل على توحيد كلمتها إنه سميع مجيب.
وعنوان البحث: (الوحدة الإسلامية: أسسها ووسائل تحقيقها) .
وقد تضمن أربعة أقسام وخاتمة، وذلك على النحو التالي:
القسم الأول: واقع الأمة الإسلامية:
أولا: في العقيدة.
ثانيا: في العبادة.
ثالثا: في الشريعة.
القسم الثاني: أسباب هذا الواقع:
أولا: الجهل بدين الله - عز وجل -.
ثانيا: الغزو العسكري لبلدان المسلمين.
ثالثا: الغزو الفكري.
القسم الثالث: أسس وحدة الأمة الإسلامية:
أولا: وحدة الغاية.
ثانيا: وحدة العقيدة.
ثالثا: وحدة القيادة.
رابعا: وحدة التشريع.
القسم الرابع: وسائل تحقيق أسس الوحدة:
أولا: التعليم الموجه.
ثانيا: الإعلام الملتزم.
ثالثا: الاقتصاد المستقل.(21/239)
رابعا: العمل على الاكتفاء الذاتي.
خامسا: إيجاد مراكز علمية.
الخاتمة:
وأخيرا أسأل الله - عز وجل - أن يهيئ أسباب وحدة الأمة وأن يجمع كلمتها على الله إنه سميع مجيب.(21/240)
(القسم الأول)
"واقع الأمة الإسلامية "
أولا: في العقيدة:
أ- انحرافات إلحادية.
ب- انحرافات في الجانب النظري - العلمي - من العقيدة.
ج- انحرافات طائفية قديمة.
د- انحرافات طائفية حديثة.
ثانيا: في العبادة:
أ- الغلو المفرط في أدائها.
ب- الإهمال المطلق لها.
ج- عدم الالتزام بالأداء الصحيح لها.
ثالثا: في الشريعة:
أ- محاربة الشريعة واستبدال القوانين الوضعية بها.
ب- محاولة التوفيق بين الشريعة الإسلامية والأنظمة الوضعية.(21/240)
(القسم الأول)
"واقع الأمة الإسلامية "
واقع الأمة الإسلامية واقع مكشوف لا يكاد يجهله أحد، فقد تعرض لأمراض متعددة وانحرافات متنوعة بحيث لا يكاد يسلم جانب من جوانبه - لا في العقيدة، ولا في العبادة، ولا في الشريعة.
وسأحاول فيما يأتي الإشارة إلى هذا الواقع بشيء من الإيجاز.
أولا: في العقيدة:
إن أخطر الانحرافات التي تعرضت لها الأمة المسلمة هي الانحرافات في العقيدة ولا نستطيع هنا استيعابها وتفصيلها، ولكننا سنكتفي هنا بالتنبيه على بعضها.
أ- انحرافات إلحادية:
هدف أصحابها استبدال المبادئ الكافرة بعقيدة الإسلام، وهم طوائف متعددة ويسلكون طرقا متنوعة.
يقول الأستاذ مصطفى صبري: (ومن البلية أن الحركات التي تثار في الأزمنة الأخيرة ترمي إلى محاربة الإسلام في بلاده بأيدي أهله والتي لا شك أنه الكفر وأخبث أفانين الكفر. . .) (1) .
ويقول في مكان آخر: (لكن البلاد الإسلامية عامة ومصر خاصة
__________
(1) موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين 4 \ 281- الحاشية.(21/241)
مباءة اليوم لفئة تملكوا أزمة النشر والتأليف ينفثون من أقلامهم سموم الإلحاد غير مجاهرين بها وربما يتظاهرون بالدين) (1) .
ويقول الدكتور محمد محمد حسين بعد عرضه للدعوات الهدامة: (كانت هذه الدعوات تسلك إلى أهدافها مسالك متباينة وتلبس أثوابا مختلفة ولكنها جميعا ترمي في آخر الأمر إلى توهين أثر الإسلام في النفوس وتفتيت وحدته التي استعصت على القرون الطوال) (2) .
__________
(1) موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين 4 \ 287
(2) الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر 2 \ 305(21/242)
ب- انحرافات في الجانب النظري - العلمي من العقيدة:
وذلك فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته وأفعاله.
فقد وجدت الاتجاهات المنحرفة التي تتنكر لهذا الجانب أو لبعضه، فأولت الآيات القرآنية والأحاديث المتواترة وردت الأحاديث الأخرى والتي تعرف الناس بربهم - عز وجل -.
وكان أول من أظهر هذه البدعة الضالة - بدعة الحديث في أسماء الله وصفاته وتأويلها - الجعد بن درهم، فأول الاستواء والكلام لله - عز وجل - (1) وتبعه على ذلك المعتزلة الذين أصبحوا فيما بعد فرقة مستقلة في منهجها وفهمها تقابل أهل السنة.
قال الشهرستاني: (الفريقان من المعتزلة والصفاتية متقابلان تقابل تضاد) (2) .
وقد أتى القوم من ضلال عقولهم القاصرة وظنهم أن إثبات تلك الصفات الواردة في كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - يقتضي التشبيه بالمخلوق.
__________
(1) راجع الفتاوى 5 \ 20، ولوامع الأنوار البهية 1 \ 23.
(2) الملل والنحل 1 \ 43.(21/242)
وينتج عن هذا المذهب أن القرآن الكريم والسنة النبوية لم يستطيعا بيان مراد الله - عز وجل - من خلقه من أقرب الطرق.
فتعددت بذلك الفرق، وانقسم المسلمون إلى متابع لهذه الطائفة ومخالف لها، وحدثت في تاريخ الأمة الإسلامية بسببها حوادث ومشكلات، ولا زالت آثار هذه الطائفة قائمة في المجتمع الإسلامي إلى اليوم.(21/243)
ج- انحرافات طائفية قديمة:
لا زالت قوية ونشطة رغم انحرافها وفساد معتقداتها. ومن تلك الطوائف: (طائفتا الشيعة والصوفية) .
فالأولى تقوم على عقيدة تخالف عقيدة الإسلام التي جاء بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فمن ذلك إسباغ صفات الألوهية على أئمتهم وادعاؤهم أنهم يعلمون الغيب وأنهم يتلقون الوحي من السماء، وفي كلا الأمرين إساءة إلى الله - عز وجل - وتكذيب لدينه.
وأخيرا فإنهم يتهمون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخيانة والردة عن الإسلام، وهذا يؤدي إلى إبطال الإسلام.
فأما ادعاؤهم علم الغيب لأئمتهم فقد ورد في أهم مصادرهم بألفاظ صريحة في أبواب مستقلة.
فقد ورد في كتاب: (أصول الكافي) - وهو أهم كتاب عندهم - عناوين تؤكد ذلك.(21/243)
منها: (باب إن الأئمة يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيارهم) (1) .
ومنها: (باب إن الأئمة إذا شاءوا أن يعلموا علموا) (2) .
ومنها: (باب إن الأئمة - عليهم السلام - يعلمون ما كان وما يكون، وأنه لا يخفى عليهم الشيء) (3) .
وأما ادعاء نزول الوحي على الأئمة فيذكرون عن جعفر الصادق أنه قال وهو يتحدث عن مصادر علم الأئمة -: (وأما النقر في الأسماع فأمر الملك) (4) أي صوت الملك.
فعلم الغيب لا يظهر الله - عز وجل - عليه إلا أنبياءه ورسله كما جاء ذلك في كتاب الله - عز وجل - حيث يقول: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} (5) {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} (6) .
ولذلك فإن الشيعة تعتقد أن الأئمة يأتيهم خبر السماء كما روى ذلك الكليني مؤلف أصول الكافي فقال: (إن المفضل سأل أبا عبد الله - أي جعفر الصادق - بقوله: جعلت فداك، يفرض الله طاعة عبد على العباد ويحجب عنه خبر السماء؟
قال: لا، الله أكرم وأرحم وأرأف بعباده من أن يفرض طاعة عبد
__________
(1) أصول الكافي 3 \ 232.
(2) أصول الكافي 3 \ 271.
(3) أصول الكافي3 \ 240.
(4) أصول الكافي 3 \ 248.
(5) سورة الجن الآية 26
(6) سورة الجن الآية 27(21/244)
على العباد ثم يحجب عنه خبر السماء صباحا ومساء) (1) ويعلق الشارح على هذا القول: (ولذلك الإمامية ذهبوا إلى أن الإمامة لا تصلح إلا لمن له منزلة النبوة) (2) .
هذه بعض عقائدهم المنحرفة والتي تجعل لهم اتجاها آخر ودينا يخالف دين المسلمين.
وأما الصوفية فقد ابتدعت تقديس الأفرد ورفع التكاليف عن بعض الناس كما أعادت إلى الأذهان تلك الطقوس الكنسية التي أفسدت الدين النصراني حيث اتخذت من البشر وسائط عند الله بها تقضى الحاجات وتغفر الزلات إلى عشرات أخرى من الانحرافات.
فأما دعوة سقوط التكاليف فإنهم يزعمون أن للإنسان درجة إذا وصل إليها سقط عنه التكليف.
قال ابن تيمية - رحمه الله -: (ومن هؤلاء - أي الصوفية - من يحتج بقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (3) ويقول معناها: اعبد ربك حتى يحصل لك العلم والمعرفة فإذا حصل ذلك سقطت العبادة، وربما قال بعضهم: اعمل حتى يحصل حال فإذا حصل لك حال تصوفي سقطت عنك العبادة) (4) .
ويقول عنهم كذلك: والغالبية في المشايخ قد يقولون: إن الولي محفوظ، والنبي معصوم، وكثير منهم إن لم يقل ذلك بلسانه فحاله حال من يرى أن الشيخ أو الولي لا يخطئ ولا يذنب) (5) .
__________
(1) أصول الكافي 3 \ 241
(2) أصول الكافي3 \ 244
(3) سورة الحجر الآية 99
(4) الفتاوى 11 \ 417.
(5) منهاج السنة 1 \ 44.(21/245)
ويقول الدكتور إبراهيم هلال وهو يتحدث عن نتائج غلو الشيعة والصوفية في ذكر فضائل الأولياء: (ولعل أبرز مظاهر هذا التفضيل ما يدعيه بعض الصوفية من حلول الله فيهم أو اتحادهم به مما يتضمن القول بألوهيتهم وتصرفهم في الأكوان وفي الناس) (1) .
ولعل هذا هو السبب وراء التقديس وصرف العبادة إلى الأولياء المتمثل في بناء القباب على قبورهم والطواف حولها ودعاء أصحابها والذبح والنذر لهم إلى غير ذلك من صور العبادات التي لا يكاد يسلم منها بلد من بلدان المسلمين إلا من رحم الله - عز وجل -.
وقد كان هذا الانحراف في الفكر الصوفي من الأسباب المباشرة لظهور الشرك في الأمة بتقديس الأموات وطلب الحاجات منهم واتخاذ قبورهم مزارات وأماكن عبادة فزاحم تعظيم الأموات توحيد الله - عز وجل - في القلوب، فكثرت الأضرحة وتعددت الفرق والأحزاب لكل حزب ضريح به يستغيثون وعنده ينيخون وإليه عند نزول الحوادث يلجئون.
__________
(1) ولاية الله والطريق إليها \ 187 \.(21/246)
د- انحرافات طائفية حديثة:
تتمثل في طوائف مستقلة - كالبهائية والقاديانية - ونحوها من الطوائف التي خرجت على عقيدة الإسلام بدعوى النبوة لزعمائها ونزول الوحي عليهم وهي تتستر في كثير من البلدان باسم الإسلام وهي خارجة عليه لمخالفته لعقيدة: (ختم النبوة) التي هي جزء من عقيدته.
فإن زعيم البهائية: (حسين بن علي المازندراني) يزعم أنه نزل عليه الوحي وجمعه في كتاب سماه: (الأقدس) (1) وقد ورد في هذا الكتاب
__________
(1) هذا الكتاب مطبوع مع كتاب: (خفايا الطائفة البهائية) .(21/246)
ما يلي: (لا تحسبن أنا أنزلنا لكم الأحكام بل فتحنا ختم الرحيق المختوم بأصابع القدرة والاقتدار يشهد بذلك ما نزل من قلم الوحي تفكروا يا أولي الأفكار) (1) فهو يزعم بهذا أنه قد فتح باب النبوة وفض ختمها ليوحي إلى البهاء، وهو ما صرح به في كتاب آخر من كتبه حيث ذكر أنه: (فك ختم النبيين) (2) .
وكذلك زعيم القاديانية: (غلام أحمد بن غلام مرتضى) له كتاب اسمه: (تذكرة وحي مقدس) (3) يزعم أنه أوحي به إليه وقد كتب بأربع لغات وهي: العربية، الفارسية، والأردية، والإنجليزية.
وقد ورد فيه ما يلي: (إنا أرسلنا أحمد إلى قومه فأعرضوا وقالوا: كذاب أشر) (4) و (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق وتهذيب الأخلاق) (5) .
وليست هاتان الطائفتان هما الوحيدتان في ادعاء نزول الوحي، بل هناك طوائف أخرى وأشخاص آخرون ادعوا نزول الوحي كزعيم البلاليين: (اليجا محمد علي) في أمريكا وغيره.
__________
(1) ص141.
(2) ذكره محيي الدين الخطيب في كتابه: ''البهائية '' ص27.
(3) وهو مطبوع في الهند.
(4) ص403.
(5) ص406.(21/247)
ثانيا في العبادة:
لقد تعرضت العبادات إلى انحرافات أخرى متعددة نورد طرفا منها:
أ- الغلو المفرط في أدائها:
والذي كان يتمثل فيما سبق في طائفتي الخوارج والصوفية حيث(21/247)
كان لكل منهما غلو مفرط في جانب أو جوانب منها.
فالخوارج شددوا على أنفسهم وحملوها فوق طاقتها من قيام بالليل وصيام بالنهار حتى ظهر ذلك على ملامح وجوههم ومظاهر أجسادهم.
وقد وصفهم ابن عباس بعد زيارة لهم فقال: فدخلت على قوم لم أر قط أشد منهم اجتهادا، جباههم قرحة من السجود، وأياديهم كأنها ثفن (1) وعليهم قمص مرحضة (2) مشمرين مسهمة (3) وجوههم من السهر. .) (4) .
وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الطائفة بقوله: «يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم ولا تجاوز صلاتهم تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية (5) » . . . رواه مسلم وأبو داود (6) .
وأما الصوفية فقد بالغوا في الذكر والزهد وعاشوا في ظلمات الخلوات للوصول إلى (درجة اليقين) التي تسقط عندها عنهم كل التكاليف الشرعية - بزعمهم - (7) .
وقد أنكر ابن عقيل - رحمه الله - عليهم هذه الأهواء والبدع فقال: (ما أعجب أموركم في التدين: إما أهواء متبعة أو رهبانية مبتدعة) (8) .
__________
(1) الثفن: جمع ثفنة: ركبة البعير ونحوها مما يحصل فيه غلظ من أثر البروك.
(2) مرحضة: وصف للملابس القديمة التي بليت من كثرة استعمالها وغسلها.
(3) مسهمة: أي متغيرة.
(4) تلبيس إبليس ص 205.
(5) صحيح البخاري كتاب المناقب (3611) ، صحيح مسلم الزكاة (1066) ، سنن النسائي تحريم الدم (4102) ، سنن أبو داود السنة (4767) ، مسند أحمد بن حنبل (1/160) .
(6) رواه مسلم ح \ 1066، وأبو داود ح: 4768 وما بعده.
(7) الفتاوى 11 \ 417.
(8) نقله ابن الجوزي في تلبيس إبليس ص206.(21/248)
ب- الإهمال المطلق للعبادات والاكتفاء بالتلفظ بالشهادتين:
وهذا الانحراف كان من ثمرات الإرجاء الذي لا يعطي للعمل اهتماما إذ إن الإيمان يثبت عند المرجئة بالقول فقط - عند بعضهم - وبالاعتقاد عند البعض الآخر.
وكان جهم بن صفوان هو أول من زعم أن: (الإيمان هو المعرفة بالله تعالى فقط، والكفر هو الجهل به فقط) (1) .
وذكر البغدادي أن المرجئة: (إنما سموا مرجئة لأنهم أخروا العمل عن الإيمان) (2) .
ج- عدم التزام كثير من المسلمين بالأداء الصحيح للعبادات:
فترى أحدهم يؤدي هذه العبادات ولا يلتزم فيها بشروطها وواجباتها وأوقاتها.
__________
(1) مقالات الإسلاميين 1 \ 214.
(2) الفرق بين الفرق 211- 212.(21/249)
ثالثا: في الشريعة:
لم تقتصر الانحرافات على الجانبين السابقين بل شملت - كذلك - حتى جانب الشريعة حيث تعرضت في الآونة الأخيرة التي تمزقت فيها الأمة وتحطمت فيها الخلافة الإسلامية، تعرضت إلى انحراف وفساد، بل إلى حرب وعداء في كثير من البلدان الإسلامية نعرض طرفا منه:
أ- محاربة الشريعة واستبدال القوانين الوضعية بها:
وهذا من آثار الاستعمار العسكري والفكري الذي فرق الأمة وأفسد عقليتها بحضارته وصناعته وكفره وجحوده. . فوجد في المسلمين(21/249)
من يتحمس لقوانينه وفكره ويدعوا إلى تطبيقها ومتابعتها.
وقد حظيت هذه الفئة بعناية الاستعمار ورعايته وسلم له زمام المجتمعات التي كان يسيطر عليها فخلفها فيها وقام على تطبيقها وتنفيذها بكل دقة.
ولعل الشروط التي فرضتها دول الاستعمار على مصطفى كمال أتاتورك تبين المخطط الاستعماري لحرب الإسلام ومحاولة فصل الأمة عنه.
يقول الأستاذ محمد محمود الصواف: (وهذه هي الشروط الأربعة المشئومة التي فرضتها دول الاستعمار على تركيا:
1 - إلغاء الخلافة الإسلامية نهائيا من تركيا.
2 - أن تقطع تركيا كل صلة مع الإسلام.
3 - أن تضمن تركيا تجميد وشل حركة جميع العناصر الإسلامية الباقية في تركيا.
4 - أن يستبدلوا الدستور العثماني القائم على الإسلام بدستور مدني بحت.
فقبل مصطفى كمال هذه الشروط ونفذها بحذافيرها فتركته دول الاستعمار) (1) .
ب- محاولة التوفيق بين الشريعة الإسلامية والأنظمة الوضعية:
فيؤخذ من الشريعة ما يتعلق بالأمور الشخصية وتكمل بقية الجوانب من القوانين الوضعية.
__________
(1) المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام ص128.(21/250)
وقد ذكر الأستاذ محمد الخضر الحسين عن أسلوب دعاة هذا المبدأ فقال: (فاخترع هؤلاء طريقا حسبوه أقرب إلى نجاحهم وهو: أن يدعوا أن الإسلام: توحيد وعبادات ويجحدوا أن يكون في حقائقه ما له مدخل في القضاء والسياسة، وجمعوا على هذا ما استطاعوا من الشبه لعلهم يجدون في الناس جهالة أو غباوة فيتم لهم ما بيتوا) (1) .
ويقول الأستاذ مصطفى صبري عن هذه المحاولة والتي تعني فصل الدين عن الحكم والسياسة: (لكن حقيقة الأمر أن هذا الفصل مؤامرة بالدين للقضاء عليه وقد كان في كل بدعة أحدثها العصريون المتفرنجون في البلاد الإسلامية كيد للدين ومحاولة الخروج عليه لكن كيدهم في فصله عن السياسة أدهى وأشد من كل كيد في غيره فهو ثورة حكومية على دين الشعب) (2) .
هذا عرض موجز لواقع المسلمين الذي قد أصيب في كل جانب من جوانبه مما كان له أسوأ الأثر على وحدة الأمة واجتماع كلمتها. . فقد أصيبت الأمة في عقائدها. . وعباداتها. . وشريعتها. .
وما لم يصحح هذا الواقع على ضوء التوجيهات الواردة في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلن تقوم للأمة قائمة ولن تجتمع لها كلمة.
__________
(1) رسائل الإصلاح 1 \ 105 -106.
(2) موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين 4 \ 281.(21/251)
(القسم الثاني)
"أسباب هذا الواقع "
لقد كانت هناك أسباب متعددة وراء ذلك الواقع نذكر أهمها:
أولا: جهل الأمة بدينها:
فقد انتشر الجهل في الأمة قيادات وشعوبا حتى أصبح كثير منهم لا يعرف من دينه إلا اسمه، فلا يعرف أحكامه وعقائده، ولا أخلاقه وآدابه، فسهل على أعداء الله - عز وجل - أن ينشروا ضلالهم، وأن يبثوا سمومهم، بل وسهل عليهم أن يصنعوا لهم عملاء من أبناء المسلمين يحاربون عقيدة المسلمين وينشرون الضلال في صفوفهم.
قال الأستاذ محمد كرد علي: (أصبح الناس بعد المائة السادسة تفتر هممهم شيئا فشيئا في طلب العلم، ورغبوا عن الافتتان بفنونه، وحصروا نطاقه، وعفوا بعض معالمه، فأصبحت مجاهل وكثرت البدع، وكثر الدعاة إليها والتعويل عليها) (1) .
ويذكر الأستاذ الندوي وهو يتحدث عن الجهل الذي أصاب تركيا (أنه لم يكن الجمود العلمي والكلال الفكري مقتصرين على تركيا وأوساطها العلمية والدينية فحسب، بل كان العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه مصابا بالجدب العلمي وشبه شلل فكري قد أخذه الإعياء والفتور واستولى عليه النعاس) (2) .
__________
(1) الإسلام والحضارة العربية 2 \ 45.
(2) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص151.(21/252)
ثانيا: الغزو العسكري لبلدان المسلمين:
كانت الأمة الإسلامية أمة واحدة تستظل براية واحدة، وتخضع لقيادة واحدة، فكانت ذات شوكة ومنعة، ثم لم تلبث أن سرت فيها أمراض فتاكة خلخلت بناءها وأفسدت أبناءها فضعفت قوتها وذلت عزتها، فسهل على أعدائها القضاء عليها وتمزيقها إلى دويلات وإمارات استولت على كثير منها فترات طويلة استطاعت فيها أن تفسد عقائدها وأخلاقها وتغير ولاءها.
يقول برنارد لويس: (وفي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين تعدلت وتغيرت الولاءات التي كانت قائمة للخلافة الإسلامية القديمة والتي كانت تحكم العرب والعجم والترك، وحلت محلها أفكار ممزقة مبعثرة وأوروبية، هي مزيج من الوطنية والقومية ونظريات خيالية عن الوطن والقوم، حجبت الحقائق القديمة الواقعية في الدولة والعقيدة) (1) .
فأصبحت بعد ذلك الأمة الواحدة أمما مختلفة ومجتمعات متعددة لكل منها شعاره ومذهبه فتمزقت وحدة الأمة وتعددت ولاءاتها بحسب شعاراتها ومذاهبها.
وكان هذا كله بسبب الغزو العسكري الذي احتل بلاد المسلمين فترات متفاوتة ركز خلالها على إفساد عقيدة الأمة وأخلاقها وقسمها بعد ذلك إلى دول ومناطق أقام لكل واحدة منها حاكما مستقلا.
__________
(1) الغرب والشرق ص110.(21/253)
ثالثا: الغزو الفكري:
لم يكتف الاستعمار بتحطيم الخلافة الإسلامية وتفريق الأمة إلى دول وشعوب. . ونهبوا خيراتها وشتتوا ولاءاتها. . بل أضافوا إلى ذلك غزوا(21/253)
للعقول والقلوب بشعارات ومبادئ جديدة تفسد العقول وتخرب القلوب ليبقى لهم السيطرة والنفوذ ما دامت هذه الشعارات والمبادئ تحكم هذه البلاد.
وقد ذكر الأستاذ محمد محمود الصواف عن وسائل الاستعمار في غزو المسلمين والجبهات التي تشترك في ذلك الغزو، وأكد أن جميع تلك الجبهات تعمل: (سرا وجهرا لأهداف الاستعمار التي يرمي من ورائها إلى إيقاف الوعي الإسلامي وصد المسلمين عن دينهم إبقاء لسيطرته ونفوذه في بلاد المسلمين، وليتمتع هو وجنوده الأبالسة في خيرات بلاد المسلمين ويسعون في سرقة ثرواتهم والسيطرة عليهم فكريا وسياسا واقتصاديا.
لذا أخذ المستعمرون يبذلون كل الجهود لإشاعة الفساد في المجتمع الإسلامي العظيم وزرع الشكوك في العقول الإسلامية وقتل الطموح في نفوس المسلمين وبث الفرقة والشقاق في الصف الإسلامي حتى تعاونت جميع أجهزة الاستعمار من دعائية وسياسية وفكرية واقتصادية لتحقيق أهداف الاستعمار) (1) .
وقد شارك اليهود الاستعمار الصليبي في تصدير الأفكار والمذاهب المنحرفة إلى بلاد المسلمين. . بل لعل اليهود أكثر حماسا وحقدا على الإسلام، والتاريخ يؤكد هذه الحقيقة حيث كان اليهود هم أول من وقف في وجه الإسلام وحاولوا القضاء عليه، ولكن الله - عز وجل - رد كيدهم في نحورهم وحفظ دينه وأعلى كلمته.
فعبد الله بن سبأ " يهودي " أظهر الإسلام لإفساد الإسلام ودعاة
__________
(1) المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام 99-100.(21/254)
الإلحاد وزعماؤه اليوم "يهود " أرادوا إفساد العالم:
كارل ماركس الشيوعي "يهودي" (1) .
وفرويد "يهودي" (2) .
ودوركايم "يهودي" (3) .
وهؤلاء هم زعماء المذاهب المنحرفة في الاقتصاد والأخلاق والاجتماع وقد أثرت مذاهبهم في المجتمعات البشرية عموما وفي المجتمعات الإسلامية على وجه الخصوص.
يقول الأستاذ أنور الجندي: (ولا ريب أن اليهودية العالمية هي التي أثارت في العالم الإسلامي تمزيق وحدة العروبة والإسلام للحيلولة دون الوحدة وعملا على تعميق التجزئة الإقليمية.
ولما كانت وحدة العرب والمسلمين لها جذورها الضخمة البعيدة المدى في الفكر الإسلامي وفي القرآن نفسه، فقد طرحت عشرات المذاهب والقضايا والدعوات والأنظمة والنماذج التي طرحت في أوروبا لإفساد المفهوم الإسلامي الجامع للعرب والإسلام (4) .
ويعترف اليهود بذلك في (بروتوكولاتهم) حيث يقول البرتوكول التاسع: (ولقد خدعنا الجيل الناشئ من الأميين وجعلناه فاسدا متعفنا بما علمناه من مبادئ ونظريات معروف لدينا زيفها) (5) .
__________
(1) مذاهب فكرية معاصرة ص101.
(2) مذاهب فكرية معاصرة ص107.
(3) مذاهب فكرية معاصرة ص114.
(4) الإسلام والعالم المعاصر ص427.
(5) بروتوكولات حكماء صهيون ص128.(21/255)
وكان من جراء هذا الغزو المشترك أن ظهرت في بلاد المسلمين اتجاهات منحرفة تتبنى تلك العقائد الضالة وتحاول نشرها في المجتمعات الإسلامية، ولعل الصورة التي يعرضها اللورد كرومر للجيل المصري الجديد -كما تصورها هو- تنطبق إلى حد ما على مجموعات من أبناء المسلمين الذين أثر فيهم الغزو الفكري الغربي.
يقول: (إن المجتمع المصري في مرحلة الانتقال والتطور السريع وكان من نتيجته الطبيعية أن وجدت جماعة من أفرادهم "مسلمون " ولكنهم متجردون عن العقيدة الإسلامية والخصائص الإسلامية، وإن كانوا "غربيين" فإنهم لا يحملون القوة المعنوية والثقة بأنفسهم، وأن المصري الذي خضع للتأثير الغربي فإنه وإن كان يحمل الاسم الإسلامي، لكنه في الحقيقة ملحد وارتيابي، والفجوة بينه وبين عالم أزهري لا تقل عن الفجوة بين عالم أزهري وبين عالم أوروبي) (1) .
هذه هي ثمار الغزو الفكري في بلاد المسلمين.
__________
(1) ذكره الأستاذ الندوي في الصراع بين الفكرة الغربية والفكرة الإسلامية ص 114.(21/256)
(القسم الثالث)
" أسس الوحدة الإسلامية "
إن الأمة الإسلامية تملك أسسا مشتركة تستطيع بها أن تجمع شتاتها وتوحد كلمتها. . فهي أمة واحدة. . ذات دين واحد. . وكتاب واحد. . ورسول واحد. . وهذه هي الأصول والأسس التي تشترك فيها الأمة الإسلامية.
فإذا ما أدركت جيدا والتزمت بمقتضياتها فإن ذلك يجعل منها أمة واحدة تلتقي على:
أولا: وحدة الغاية.
ثانيا: وحدة العقيدة.
ثالثا: وحدة القيادة.
رابعا: وحدة التشريع.
وبهذا تصبح الشعوب الإسلامية " أمة واحدة " تذوب فيها جميع الأجناس والتجمعات شعارها: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (1) . فتحقق للأمة الإسلامية عزتها وقوتها المنشودة.
وفيما يلي نبين بإيجاز تلك الأسس:
أولا: وحدة الغاية:
إن لهذا الإنسان الذي يعيش على ظهر هذه الأرض "غاية" يؤديها أثناء وجوده، إذا عرفها وتمثلها في حياته سعد في دنياه وآخرته، وإذا جهلها
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 52(21/257)
أو أعرض عنها فإنه يشقى في الدنيا والآخرة.
هذه الغاية حددها الله - عز وجل - بنفسه وبينها في كتبه. . من أجلها خلق الإنسان. . ألا وهي: "عبادة الله عز وجل " كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) .
والمسلمون ولله الحمد يدركون هذه الغاية ويعرفونها، ولكنهم فرطوا في القيام بها والعمل بمقتضاها مما كان له أسوأ الأثر في حياتهم.
فلا بد من العودة الصادقة إلى تحقيق هذه الغاية والالتزام بمقتضياتها ليحقق المسلمون لأنفسهم السعادة في الدنيا والآخرة.
السعادة في الدنيا باجتماع الكلمة ووحدة الأمة وطمأنينة النفس واستقامة الحياة، وهي آمال يحلم بها جميع شعوب العالم، ولكنهم لم يهتدوا إلى أسبابها ووسائلها.
ولكن تعدد الغايات وتنوعها يفتت الأمة ويشتت كلمتها ويجعل كل فئة من الأمة لها غاية تخالف غاية الفئة الأخرى تسعى لتحقيقها والوصول إليها.
فغاية اقتصادية. . وغاية سياسية. . وغاية شهوانية. . وهكذا غايات متعددة تنتهي بهم إلى فئات متصارعة وسبل متفرقة.
قال - عز وجل -: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) .
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة الأنعام الآية 153(21/258)
ثانيا: وحدة العقيدة:
إن التفرق الذي ابتليت به الأمة في عقيدتها - كما رأينا طرفا منه في أول البحث - لا يمكن أن يكون معه اجتماع للأمة ولا تعاون ولذلك فإنه لا بد أولا من علاج لذلك التفرق برد الملحدين إلى الله - عز وجل - وتصحيح عقائد المنحرفين لتتوحد القلوب وتتألف النفوس.
فأما الذين ابتلوا بمرض الإلحاد فقد كان ذلك في غيبة من الوعي الإسلامي في وقت الانبهار بالحضارة الغربية التي تمردت على الدين بل حملت لواء الحرب ضده.
والآن وقد بدأ المسلمون يدركون حقيقة الحضارة الغربية وما تحمله من سلبيات وثمرات فاسدة. . بدأ الوعي يدب في صفوفهم ويدركون قيمة هذا الدين وأنه لا سعادة للإنسان في هذه الحياة بدون أن يلتزم بعقيدته وتوجيهاته.
يقول الأستاذ محمد محمود الصواف: (وفي يقيني أن الزمن الذي كان يسمى فيه الإسلام "رجعية " و "تزمتا " قد مضى وانقضى حيث تعرى خصوم الإسلام وانكشفوا وظهر زيف دعواتهم الباطلة من قومية واشتراكية وحزبية قاتلة وغيرها من فتن هذا العصر المضللة، ورأى الناس خيبتها وخسرانها وتضييعها للأوطان وتدميرها وعبثها بحقوق الإنسان، ورأوا عن كثب ويلاتها على العرب الذين ابتلوا بها، بل ويلاتها على الجنس البشري في جميع أنحاء الأرض ومن دعاتها من رأى ذلك بأم عينه، ولكنه معاند مكابر لا يعترف بإخفاقه ولا يريد الخضوع أمام غيره.
ولم يعد الإسلام " رجعية " كما كانوا يسمونه وتسميه إذاعاتهم بأصواتها المنكرة المبحوحة. . بل عاد الإسلام والناس يتلمسونه في الميدان(21/259)
ويسألون عنه في كل مكان، ونادى به اليوم من لم يكن يعرفه بالأمس ولم يعرف عنه النداء باسمه من قبل، وامتلأت المساجد بالوافدين الجدد وآب الكثيرون إلى الله سبحانه يسألونه العز والنصر والفرج القريب لهذه الأمة المنكوبة برجالها وشبابها وقادتها في هذا الجيل المخفق الخاسر الذي هو جيل الهزيمة المنكرة. . فإذا كثر سواد الصالحين وزاد عدد المؤمنين فبشر الأمة بالنصر المبين (1) .
فالوعي الديني استيقظ في الأمة وهو في حاجة إلى من يوجهه وجهة صحيحة ليكون أساسا واحدا لجمع كلمة الأمة ويقضي على المذاهب المنحرفة والعقائد الضالة المتسللة إلى مجتمعات المسلمين.
وأما الإنحرافات الأخرى التي طرأت على عقائد المسلمين سواء في التوحيد العملي أو في التوحيد العلمي فإن ذلك يستدعي جهودا مخلصة وأقلاما صادقة تعالج تلك الانحرافات بحكمة وموعظة حسنة إذ أن أصحابها أو كثير منهم لم يتعمد الانحراف ولا يرضى به لو كشف له، لذلك فإن مخاطبتهم يجب أن تكون بأسلوب لين وبجدال حسن.
فإذا قدر للأمة أن تجتمع في عقيدتها فإن ذلك سيفسح المجال للاجتماع والوحدة الإسلامية.
__________
(1) معركة الإسلام ص26-27(21/260)
ثالثا: وحدة القيادة:
للمسلمين قيادة واحدة على مدار الزمن واختلاف المكان وتعدد المذاهب. . وكل قيادة سواها إنما تستمد شرعيتها من متابعتها لهذه القيادة والالتزام بمنهجها والسير على طريقها.(21/260)
هذه حقيقة يقوى وضوحها في أذهان المسلمين كلما صفت العقيدة وقوي الإيمان.
وهي حقيقة قررها الله - عز وجل - في كتابه وأكدها في مواطن كثيرة لئلا تغفل عنها الأمة الإسلامية.
قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) .
وقال عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (2) .
وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3) .
وهكذا تكرر التأكيد على هذه الحقيقة في عشرات المواضع من القرآن الكريم.
فإذا ما اتضحت هذه الحقيقة وتقررت في أذهان المسلمين فإنه يمكن أن تتحد كلمتهم وتجتمع صفوفهم.
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - هو " القائد "، والجميع أتباع له وأنصار به يتأسون ولحكمه يخضعون وإلى سنته يتحاكمون. . هذا أصل لا يمكن أن تتوحد الأمة بدون إدراكه والالتزام به. . وهذا ما يقتضيه الإيمان بالله - عز وجل -
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة النساء الآية 115
(3) سورة الحشر الآية 7(21/261)
وإلا فإن الإيمان يبقى دعوى بدون دليل.
وكل قيادة أخرى تحاول أن تلغي هذه القيادة أو تقلل من شأنها فإنها قيادة خارجة عن الإسلام محاربة له. . بل كل قيادة تتمرد هي في ذات نفسها عن هذه القيادة أو تنحرف عن متابعتها فهي قيادة منحرفة.(21/262)
رابعا: وحدة التشريع:
من الأسباب الرئيسية لتمزق الأمة الإسلامية تعدد التشريعات وتنوعها، تلك التشريعات التي لا صلة لها بها ولا علاقة لها بدينها، بل هي مضادة لدينها محاربة لعقيدتها. . فوقعت الفجوة بين التشريعات والواقع. . وبين القيادات والشعوب. . بل بين القيادات أنفسها. . فانعكست تلك الخلافات على الأمة الإسلامية.
وما لم يوحد التشريع الذي يحكم الأمة فيكون تشريعا مستمدا من دينها القويم فإن كل محاولة لوحدة الأمة أو لجمع شتاتها فإنها محاولة فاشلة.
فإنه ليس هناك مكان لتشريعات أخرى في المجتمع الإسلامي، وليس لأحد من البشر حق وضع تشريع يحكم الحياة في المجتمع الإسلامي، فالحق لله - عز وجل - وحده وليس لأحد من خلقه أن يتلقى تشريعاته من غيره سبحانه.
قال عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (1) .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 36(21/262)
فالنفس البشرية ذات طبيعة معقدة ومعرفة ضوابط إصلاحها أو أسباب فسادها أمر لا يعلمه إلا الله - عز وجل - وقد اعترف علماء الغرب بذلك وأكدوا أن العلوم البشرية لم تستطع أن تبين حقيقة الإنسان.
وأشهر من أعلن هذه الحقيقة هو الطبيب الفرنسي: (الكسيس كاريل) حيث يقول: (فمن الواضح أن جميع ما حققه العلماء من تقدم فيما يتعلق بدراسة الإنسان ما زال غير كاف وإن معرفتنا بأنفسنا ما زالت بدائية في الغالب) (1) .
فإذا كانت معلومات الإنسان عن نفسه رغم ما يملكه من وسائل المعارف المذهلة التي لم يكن يحلم بوجودها الإنسان في الزمن الماضي - إذا كانت رغم كل ذلك بدائية. . فهل يمكن أن يضع تشريعا يحكم حياته ويقوده إلى إنسانيته؟!
ولهذا فإن العودة إلى شريعة الله - عز وجل - أمر ضروري. . ضروري؛ لأنه أمر أوجبه الله - عز وجل -.
وضروري لأن الإنسان ليس له قدرة وضع التشريع المناسب.
وضروري لأن الأمة لا تجتمع وتشريعاتها مختلفة. . إذ للتشريع أثر في حياة الإنسان. . في مفاهيمه. . في تصوراته. . في موازينه. . فلا بد من وحدة التشريع لتتحد مفاهيمه وتصوراته وموازينه. . ومن ثم تتحقق له وحدته المنشودة.
__________
(1) الإنسان ذلك المجهول ص19.(21/263)
(القسم الرابع)
" وسائل تحقيق الوحدة "
عرضنا في القسم السابق أسس الوحدة الإسلامية التي لا بد من تحقيقها لتوحيد الأمة الإسلامية، وهي وإن كانت شرطا في تحقيق إيمان المسلم، فلا يكون مسلما بدونها، فإنها شرط في تحقيق الأمة واجتماع كلمتها كذلك.
ولكن هذه الأسس - كما رأينا من قبل - قد تعرضت للفساد والانحراف واختفت أو تشوهت في كثير من المجتمعات الإسلامية، فكان لا بد من إظهار ما اختفى منها وتصحيح ما تشوه.
وهذا أمر يحتاج إلى وسائل متعددة وجهود مكثفة للقيام بذلك الدور ورعايته في المجتمعات الإسلامية.
ومن تلك الوسائل ما يلي:
أولا: التعليم الموجه.
ثانيا: الإعلام الملتزم.
ثالثا: الاقتصاد المستقل.
رابعا: الاكتفاء الذاتي.
خامسا: إيجاد مراكز علمية.
ونذكر ما يتعلق بهذه الوسائل فيما يلي:
أولا: التعليم الموجه:
إن المناهج التعليمية من أخطر الوسائل وأكثرها تأثيرا في المجتمع إذ(21/264)
أنها طريق للغالبية من المجتمع أو لجميع أفراده بحسب مستوى المجتمع وحرصه على التعليم.
فالمدارس الرسمية والأهلية تحتوي على مناهج تعليمية إجبارية، وكل منتسب إليها لا بد له من هضمها واستيعابها، وبالتالي فلا بد من حصول التأثر بها خاصة وهي ترافق الفرد في كل مراحل حياته.
ولقد عرف المستعمرون وأعوانهم من مبشرين أهمية " التعليم الموجه " فأنشئوا المدارس المختلفة لإفساد أبناء المسلمين عن طريقها.
يقول اليسوعيون: (إن المبشر الأول هو المدرسة) (1) .
ويقول جب: (إن مدارس البنات في بلاد الإسلام هي بؤبؤ عيني لقد شعرت دائما أن مستقبل الأمر في سوريا إنما هو بمنهج تعليم بناتها ونسائها) .
فالتعليم له شأنه وخطره، وعدم تصحيح مناهجه وتوجيه أبنائه إلى الغاية الصحيحة في جميع بلاد المسلمين فإنه لا يمكن توحيد المفاهيم والتصورات والموازين التي لا تكاد تلتقي على أمر واحد في بلاد المسلمين اليوم ولا زالت تسير وفق المخططات التي رسمها لها أعداء الإسلام - إلا ما رحم ربك -.
(فإذا أراد العالم الإسلامي أن يستأنف حياته ويتحرر من رق غيره وإذا كان يطمح إلى القيادة فلا بد إذن من الاستقلال التعليمي بل لا بد من الزعامة العلمية وما هي بالأمر الهين، إنها تحتاج إلى تفكير عميق وحركة
__________
(1) انظر التبشير والاستعمار ص71.(21/265)
التدوين والتأليف الواسعة وخبرة إلى درجة التحقيق والنقد بعلوم العصر مع التشبع بروح الإسلام والإيمان الراسخ بأصوله وتعاليمه إنها لمهمة تنوء بالعصبة أولي القوة، إنما هي شأن الحكومات الإسلامية فتنتظم لذلك جمعيات وتختار لها أساتذة بارعين في كل فن، فيضعون منهاجا تعليميا يجمع بين محكمات الكتاب والسنة وحقائق الدين التي لا تتبدل وبين العلوم العصرية النافعة والتجربة والاختبار ويدونون العلوم العصرية للشباب الإسلامي على أساس الإسلام وبروح الإسلام. . .) (1) .
وبذلك يمكن أن تصحح المفاهيم وتقوم الموازين في الأمة فتتحد في أفكارها وعقائدها وتلتقي على أسس مشتركة من العلم والمعرفة.
__________
(1) ماذا يخسر العالم بانحطاط المسلمين ص276.(21/266)
ثانيا: الإعلام الهادف الملتزم:
ونعني به أن يكون الإعلام في بلاد المسلمين بكل أنواعه المسموعة والمرئية والمقروءة إعلاما هادفا له رسالة يسعى لتحقيقها من خلال ما يبثه أو يكتبه، وتلك الرسالة هي: " تحقيق العبودية لله في أرضه "، وهي الغاية التي من أجلها خلق الإنسان ويعمل لها المسلمون بكل طبقاتهم.
فيكون للإعلام في بلاد المسلمين رسالة يتمثلها عند كل خطوة يخطوها وكل كلمة يبثها أويكتبها.
وقد فطن اليهود إلى قوة تأثير الصحافة عندما برزت وخططوا لاستغلالها.
فقد ورد في كتاب " بروتوكولات حكماء صهيون ": إن الأدب والصحافة هما أعظم قوتين خطيرتين (1) .
__________
(1) ص142.(21/266)
وفي كتاب: " التبشير والاستعمار في البلاد العربية " نقلا عن مصادر تبشيرية أجنبية: (إن الصحافة لا توجه الرأي العام فقط أو تهيئه لقبول ما تنشر عليه، بل هي تخلق الرأي العام) (1) .
وبعد ظهور " التلفاز " والذي لا يكاد يخلو منه بيت فإن خطره يكون أكبر وتأثيره أعظم. . فإذا كانت الصحف لا يقرؤها إلا المتعلمون، فإن " التلفاز " يراه ويشاهده كل إنسان وليس خاصا بنوعية معينة.
لذا فإن توجيه الإعلام والتزامه بـ: " هدف " أمر ضروري، ولا يمكن أن تتحد الأمة وإعلامها إعلام ضائع لا هوية له ولا هدف. . بل في كثير من بلدان المسلمين قد وجه لإفساد الأمة وخلخلة عقائدها.
فإصلاح الإعلام وتصحيح مساره ضرورة، بل واجب شرعي تأثم الأمة بإهماله وتضييعه. . ثم تخسر عقيدتها وعزتها. . ولا تتحقق لها وحدة واجتماع، وهذه الوسائل تسير مسارا عشوائيا وتخريبيا.
ووسائل الإعلام في كثير من البلدان الإسلامية غير ملتزمة بالمنهج الإسلامي الذي يبث الخير وينشر الفضيلة ويحذر من الشر والأخلاق الرذيلة بل إن بعض تلك الوسائل تحارب الإسلام وتسيء إلى أهله بما تنشره من البرامج السيئة والحلقات المنحرفة. . وهذا كله مضاد لدين الأمة ومفرق لجمعها، وهادم لأسس الوحدة التي تقوم عليها.
ولن يكون هناك لقاء أو اتحاد وإعلام المسلمين أو بعضه بهذه الصورة فلا بد إذن من إعادة البناء الإعلامي بناء صحيحا بحيث يكون قادرا على توجيه الأمة وتعميق العقيدة في نفوسها وتذكيرها بغايتها في هذه الحياة، وتبرز المنهج الذي اختاره الله - عز وجل - لها كما تبين إلى جانب
__________
(1) ص213.(21/267)
ذلك وحدة القيادة للأمة الإسلامية، وأنه لم يعد هناك مجال لظهور قيادات أخرى تنازع هذه القيادات المحمدية أو تزاحمها، وأن القيادات الموجودة تستمد شرعيتها في حق الطاعة على الأمة بمتابعتها لتلك القيادة.
فإذا استطاع الإعلام في البلدان الإسلامية أن يثبت هذه القضايا الأساسية في نفوس الأمة، فإنه عندئذ يكون قد أدى دوره الصحيح في المجتمع، وساهم في وحدة الأمة. . وإلا فلا وحدة ولا اجتماع. .
ويتحقق ذلك بالاختيار الأمين للعاملين في الإعلام فيختار الكفاءات المؤمنة التي تدرك أهداف الأمة وغايتها.(21/268)
ثالثا: الاقتصاد المستقل:
إن التشابك المعقد في العلاقات الدولية اليوم واختلاف الأنظمة الاقتصادية في العالم قد انعكس أثره على أكثر المجتمعات الإسلامية، فتعددت فيها الأنظمة الاقتصادية تبعا للاتجاه الذي يغلب على كل بلد، فكان له آثاره السلبية على وحدة الأمة الإسلامية.
والاقتصاد العالمي اليوم في قبضة " اليهود " فهم يتحكمون فيه كما يشاءون، وقد جاء في كتاب: " بروتوكولات حكماء صهيون " موضوع خاص لبيان كيفية التحكم في اقتصاد العالم والوسائل التي يجب أن تتخذ لتنفيذ هذا المخطط نورد بعضا من فقراته.
فقد وضعوا في حسبانهم إيجاد الأزمات الاقتصادية المفتعلة لزيادة ثرواتهم ويبين ذلك قولهم: (إن الأزمات الاقتصادية التي دبرناها بنجاح باهر في البلاد الأمية - قد أنجزت عن طريق سحب العملة من التداول فتراكمت ثروات ضخمة. . .) (1) .
__________
(1) ص174.(21/268)
وعن سحب الذهب من العالم ورد فيه: (وأظنكم تعرفون أن العملة الذهبية كانت الدمار للدول التي سارت عليها لأنها لم تستطع أن تفي بمطالب السكان، ولأننا فوق ذلك قد بذلنا أقصى جهدنا لتكديسها وسحبها من التداول) (1) .
فالاقتصاد جانب مهم في حياة المجتمع، ولهذا فقد عني به القرآن الكريم والسنة الشريفة بتنظيمه وبيان جوانبه المباحة والمحرمة إضافة إلى خطورة ارتباطه بأنظمة غير مسلمة لا تفرق بين الحلال والحرام ولا تألوا جهدا في إضعاف الأمة المسلمة وتمزيق وحدتها.
لذا فإن العناية به أمر مطلوب شرعا ولا بد للأمة وهي تحاول العودة إلى دينها ووحدتها من التحرر من تلك الأنظمة الدخيلة على المجتمعات الإسلامية والعودة إلى النظام الاقتصادي الإسلامي الذي هو جزء من الشريعة الإسلامية الواجب اتباعها.
ولا بد من إيجاد اقتصاد إسلامي ليس مرتبطا بأي نظام آخر لئلا يبقى بين الأمة فجوات تحول دون وحدتهم.
ويتم ذلك بإيجاد أسواق مشتركة وعملة موحدة وهيئة اقتصادية تشرف على ذلكم الاقتصاد الإسلامي المستقل.
وبهذا تستقل عن التبعية الاقتصادية الضارة وتقيم لها وحدة اقتصادية قوية على أسس إسلامية.
والاقتصاد في الحقيقة هو جزء من "الشريعة الإسلامية المتكاملة والتي تعتبر أساسا ثابتا لوحدة الأمة. . والذي أريده هنا هو إيجاد أسواق
__________
(1) ص175.(21/269)
مشتركة وعملة موحدة تعطي للأمة شخصيتها المستقلة وتمهد السبيل لوحدة الأمة وعزتها.(21/270)
رابعا: الاكتفاء الذاتي:
للأمة مطالب متنوعة لا تستطيع الاستغناء عنها، وتلك المطالب تشتمل على كل جوانب الحياة.
مطالب ثقافية وسياسية.
ومطالب اقتصادية.
ومطالب عسكرية. .
ومطالب صناعية مختلفة.
هذه المطالب لا يجوز بقاء الأمة عالة على أعدائها فيها، كل بلد إسلامي له وجهة يوليها ويشحذها، بل لا بد من الاستغناء والاكتفاء في هذه الجوانب بالإنتاج الإسلامي في بلاد المسلمين وبأيد مسلمة.
فالعمل على اكتفاء الأمة بإنتاج نفسها من أقوى الوسائل لاستقلالها وقوتها وبالتالي لوحدتها واجتماعها، إذ انقسام الأمة إلى أجزاء تابعة للبلدان المصنعة لن يمكنها من توحيد صفوفها ولا استقلالها، فلا بد من هذا الاكتفاء ولو على المدى الطويل.(21/270)
خامسا: إيجاد مراكز علمية:
لما كانت هذه الوسائل المتقدم ذكرها لا بد لها من إعداد وتخطيط بحيث تتحقق بالصورة الصحيحة، كان لا بد من إيجاد مراكز علمية متخصصة في كل جوانب الحياة، تكون مهمتها التخطيط الدقيق والدراسة المتأنية لتحديد الوسائل والضوابط لتحقيق المطلوب.
وهذه المراكز متعددة الأغراض تمثل هيئات استشارية وتخطيطية(21/270)
تشترك فيها جميع البلدان الإسلامية تضم في داخلها كفاءات علمية من أبناء الأمة الذين يؤمنون بعقيدتها ويسعون إلى تحقيق أهدافها.
وبهذا كله يمكن للأمة أن يجتمع شملها، وتتحد كلمتها، وتتحقق لها مكانتها التي أرادها الله لها - عز وجل - ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، وما ذلك على الله بعزيز.(21/271)
"الخاتمة "
بعد هذا العرض الموجز لواقع الأمة والأسس التي يجب تحقيقها لوحدة الأمة وتصحيح واقعها والوسائل التي يمكن أن تعين على تحقيق الهدف المطلوب، يتبين لنا عدة أمور نجملها فيما يلي:
إن واقع الأمة واقع مؤلم ولا يرضي الله عز وجل.
وإن هذا الواقع لا يمكن أن تتوحد الأمة مع استمراره.
وإن وحدة الأمة مرهونة بتغيير هذا الواقع على ضوء الكتاب والسنة.
وإن هناك أسسا لهذه الوحدة تعتبر قاعدة ضرورية لوحدة الأمة.
وإن التغيير المطلوب يحتاج إلى وسائل متعددة لتحقيقه.
هذا واجتماع كلمة المسلمين حلم يراود أفرادها وجماعاتها المخلصة التي يحزنها أن ترى أن القيادة والريادة مكبلة بسلاسل الجهل والمعاصي والانحطاط، وتترقب اليوم الذي تعتز فيه الأمة وتحتل مكانها الصحيح.
أمة هادية.
أمة رائدة.
أمة قائدة.(21/271)
وإن كانت هناك عقبات في هذا الطريق وعراقيل يضعها أعداء الله فيه، ولكن الأمل في الله - عز وجل - عظيم أن يحيي نفوس هذه الأمة ويوقظ عقولها ويقوي عزمها ويومئذ تتحطم كل عقبة، وتتلاشى كل السدود، ويرتفع صوت الحق، وينصب ميزان العدل، وتستظل البشرية بظلال الخير والسعادة.
وصلى الله وسلم على سيدنا وإمامنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه.(21/272)
"فهرس المراجع "
1 - القرآن الكريم.
2 - الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر.
للدكتور محمد محمد حسين، طبعة دار الإرشاد.
3 - الإسلام والحضارة.
لمحمد كرد علي، مطبعة لجنة التأليف والترجمة.
4 - الإسلام والعالم المعاصر.
أنور الجندي، دار الكتاب اللبناني.
5 - أصول الكافي.
لمحمد بن إسحاق الكليني، مطبعة النجف 1376هـ.
6 - الأعلام.
خير الدين الزركلي، الطبعة الثانية.
7 - الأقدس.
لبهاء حسين بن علي المازندراني، طبعة النهضة العربية.
8 - الإنسان ذلك المجهول.
الكسيس كاريل، مؤسسة المعارف.
9 - بروتوكولات حكماء صهيون.
ترجمة محمد خليفة السوسي، الطبعة الخامسة.
10 - البيان.
لمحمد بن علي الشيرازي، طبعة دار النهضة العربية.
11 - التبشير والاستعمار في البلاد العربية.
الدكتور مصطفى خالدي والدكتور عمر فروخ، المكتبة العصرية.(21/273)
12 - تذكرة وحي مقدس.
لغلام أحمد القادياني، طبعة دار الطليعة.
13 - تلبيس إبليس.
لابن الجوزي، دار الوعي العربي.
14 - الحلول المستوردة.
للدكتور يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة.
15 - وسائل الإصلاح.
لمحمد الخضر حسين، دار الإصلاح.
16 - صحيح مسلم.
تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
17 - الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية.
لأبي الحسن الندوي، الدار الكويتية.
18 - سنن أبي داود.
مطبعة السعادة.
19 - الغرب والشرق الأوسط.
برنارد لويس، ترجمة الدكتور نبيل صبحي.
20 - الغزو الفكري.
بحوث مقدمة لمؤتمر الفقه الإسلامي بجامعة الإمام لعام 1396 هـ مطابع الجامعة.
21 - الفتاوى.
لابن تيمية، الطبعة الأولى.
22 - الفرق بين الفرق.
البغدادي، مطبعة المعارف.(21/274)
23 - لوامع الأنوار البهية.
محمد بن أحمد السفاريني، طبعة آل ثاني.
24 - ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين.
لأبي الحسن الندوي، دار الكتاب العربي.
25 - المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام.
محمد محمود الصواف، الطبعة الأولى.
26 - مذاهب فكرية معاصرة.
محمد قطب، دار الشروق.
27 - معجم المؤلفين.
عمر رضا كحالة، مطبعة الترقي.
28 - معركة الإسلام.
لمحمد محمود الصواف، الطبعة الأولى.
29 - مقالات الإسلاميين.
لأبي الحسن الأشعري، الطبعة الثانية - تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد.
30 - الملل والنحل.
للشهرستاني، مؤسسة الحلبي.
31 - منهاج السنة.
لابن تيمية، مطبعة بولاق.
32 - موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين.
لمصطفى صبري، دار إحياء التراث العربي.
33 - واقع المسلمين وسبيل النهوض بهم.
لأبي الأعلى المودودي، دار الفكر.
34 - ولاية الله والطريق إليها.
للشوكاني، تحقيق إبراهيم هلال، الطبعة الأولى.(21/275)
العز بن عبد السلام مفسرا
الدكتور عبد الله بن إبراهيم الوهيبي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحابته أجمعين، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وأستمد من الله العون والسداد والتوفيق إنه سميع مجيب وبعد:
فالعز بن عبد السلام علم من أعلام الإسلام، ومن كبار المفكرين في القرن السابع الهجري، وأحد سلاطين العلماء الذين حاربوا الظلم والطغيان، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر وغيروه، وهانت عليهم أنفسهم في سبيل إعزاز الدين ونصرة المظلومين، فهو القائل:
" ينبغي لكل عالم إذا أذل الحق وأخمل الصواب أن يبذل جهده في نصرهما، وأن يجعل نفسه بالذل والخمول أولى منهما، وإن عز الحق فظهر الصواب أن يستظل بظلهما، وأن يكتفي باليسير من رشاش غيرهما " (1) .
__________
(1) راجع: طبقات الشافعية لابن السبكي (8 \ 245) .(21/276)
وقد اشتهر العز عند الباحثين بذلك، كما اشتهر بأنه فقيه مجتهد، أما كونه مفسرا فغير مشهور مع أن له تفسيرين:
أحدهما: اختصار تفسير الماوردي " النكت والعيون " وقد قمنا بتحقيقه.
والآخر: ألفه ابتداء في تفسير القرآن الكريم ولا يزال مخطوطا.
ومن هنا تأتي أهمية هذا البحث الذي يكشف الجانب التفسيري من حياة العز بن عبد السلام العلمية، وقبل الشروع في ذلك نمهد له بترجمة موجزة عن العز تتناول نسبه ومولده وأعماله ومواقفه وشخصيته العلمية.(21/277)
ترجمة العز بن عبد السلام:
نسبه:
هو أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن بن محمد بن مهذب السلمي المغربي الأصل الدمشقي ثم المصري الشافعي، الملقب بسلطان العلماء، وقد اشتهر بالعز بن عبد السلام.(21/277)
مولده:
ولد بدمشق سنة (577هـ) وقيل: سنة (578 هـ) ، وتوفي بالقاهرة سنة (660هـ) .
أعماله ومواقفه:
بعد أن تعلم العز ونضج، بدأ يزاول حياته العملية في التدريس والإفتاء والقضاء والخطابة آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر، فكان لا يخشى في الله لومة لائم، وقد اشتهر بمواقفه العظيمة في إقامة الحق وتغيير المنكر. فكانت له مواقف مع حكام عصره، فقد أنكر على حاكم دمشق الصالح إسماعيل بن الكامل تحالفه مع الصليبيين ضد أخيه نجم الدين أيوب حاكم مصر، وتسليمه لهم بعض حصون المسلمين ليساعدوه في محاربة أخيه الذي كان يريد أن ينتزع دمشق منه، فأنكر الشيخ عليه وعرض به في الخطبة ولم يدع له كالعادة. فلما علم الصالح إسماعيل بذلك أمر بعزله عن الخطابة واعتقاله، ثم أفرج عنه بعد محاورات ومراجعات، فاتجه العز بعد ذلك إلى مصر، فوصلها سنة 639 هـ فرحب به حاكمها نجم الدين أيوب، فولاه الخطابة والقضاء فبدأ العز نشاطه في مصر بإقامة السنة ومحاربة البدعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر العلم، وكانت له مواقف عظيمة مشهورة منها بيعه لأمراء المماليك الذين كان يستعملهم الملك نجم الدين في خدمته وجيشه وتصريف أمور الدولة، فأبطل العز تصرفهم بالبيع والشراء؛ لأن المملوك لا ينفذ تصرفه شرعا(21/278)
وقد ضايقهم ذلك وعطل مصالحهم فراجعوه، فقال: لا بد من إصلاح أمركم بأن يعقد لكم مجلس فتباعوا فيه، ويرد ثمنكم إلى بيت مال المسلمين، ثم يحصل عتقكم بطريق شرعي فينفذ تصرفكم، فلما سمعوا هذا الحكم ازدادوا غيظا وقالوا: كيف يبيعنا هذا الشيخ ونحن ملوك الأرض، ورفعوا الأمر للملك فغضب، وقال: هذا ليس من اختصاص الشيخ، وليس له شأن به فلما علم العز بذلك عزل نفسه عن القضاء وقرر الرحيل من مصر إلى الشام، فتبعه العلماء والصلحاء والتجار والنساء والصبيان، وجاء من همس في أذن الملك قائلا " متى راح الشيخ ذهب ملكك "، فخرج الملك مسرعا ولحق بالعز وأدركه في الطريق وترضاه، وطلب منه أن يعود وينفذ حكم الله. فرجع العز ونفذ شرع الله بأن باع أمراء المماليك ورد ثمنهم إلى بيت مال المسلمين. فهذا الموقف العظيم قد خلد ذكره وأقام منار الحق، وأخضع الملك والأمراء المتكبرين على الشعب لحكم الله، وحقق المساواة بين الحاكم والمحكوم أمام شرع الله. وقد اعتزل العز القضاء سنة (640هـ) وتفرغ للإفتاء والتدريس والتأليف. وقد تخرج عليه طلاب كثيرون. منهم شيخ الإسلام ابن دقيق العيد مجدد القرن الثامن، فقد تأثر به في عمله وسلوكه. وهو الذي لقبه "بسلطان العلماء ". ومنهم جلال الدين الدشناوي، وكان زاهدا ورعا وقد انتهت إليه رئاسة المذهب الشافعي بقوص إحدى مدن صعيد مصر. ومنهم أبو شامة المقدسي المؤرخ الكبير الجامع بين فنون العلم، فقد لازم العز كثيرا وسافر معه وسجل كثيرا من أخباره.
شخصيته العلمية:
نبغ العز في علوم متعددة فترك فيها مؤلفات كثيرة غالبها رسائل(21/279)
صغيرة وهو من الذي قيل فيهم: علمهم أكثر من تصانيفهم.
قال الذهبي: " وقرأ الأصول والعربية ودرس وأفتى وصنف، وبرع في المذهب، وبلغ رتبة الاجتهاد، وقصده الطلبة من الآفاق، وتخرج به أئمة وله التصانيف المفيدة والفتاوى السديدة " (1) . وقد ترك لنا مؤلفات متنوعة في الفقه وقواعده تدل على سعة علمه وبعد نظره ودقة ملاحظته وكثرة اطلاعه. قال أكثر مترجميه: إنه بلغ رتبة الاجتهاد، وقال ابن الحاجب: إنه أفقه من الغزالي (2) ، وذكرت كتب التراجم أنه أول من ألقى التفسير دروسا في مصر (3) .
فيظهر من هذا أن تدريس التفسير توقف فترة من الزمن بمصر واقتصر فيه على التأليف، فأعاد العز تدريسه، فكان أول من ألقاه دروسا بجانب العلوم الأخرى.
وقد اشتهر العز عند الباحثين بأنه فقيه مجتهد ولم يشتهر بالتفسير مع أنه ترك لنا ثروة عظيمة في التفسير احتوتها مؤلفاته المتعددة في التفسير وعلومه، فله تفسير كامل للقرآن الكريم، كما قام باختصار تفسير الماوردي " النكت والعيون " الذي أنا بصدد دراسته، وألف في مجاز القرآن كتابه " الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز "، أبرز فيه ما اشتمل عليه كتاب الله من فنون البيان والمعاني، وحقق ما فيه من إعجاز لم يستطع العرب الفصحاء أن يأتوا بمثله رغم ما كانوا يجيدون من فنون القول.
__________
(1) راجع: النجوم الزاهرة (7 \ 208)
(2) راجع: طبقات الشافعية لابن السبكي (8 \ 214) .
(3) راجع: حسن المحاضرة للسيوطي (1 \ 315) وطبقات الشافعية للأسنوي (2 \ 199) .(21/280)
كما ألف في متشابه القرآن كتابه " فوائد في مشكل القرآن " أجاب فيه على إشكالات قد ترد على بعض الآيات، وجل هذه الإشكالات لغوية أو نحوية أو بلاغية.
والدارس لمؤلفات العز في التفسير وعلومه يلحظ تضلعه في اللغة وتمكنه من علم المعاني والبيان وسعة علمه بذلك، لذا عني بالمعاني البيانية واللغوية، وقد يستطرد فيذكر أصول الكلمات اللغوية، ويستشهد عليها بالشعر، فهو يرى أن تفسير القرآن يتوقف على معرفة اللغة، وقد أوضح ذلك في كتابه "الإشارة إلى الإيجاز" فقال "ص279 ": وتتوقف معرفة القرآن على معرفة اللغة والإعراب.
قال ابن عباس: إذا أشكل عليكم شيء من القرآن فالتمسوه في الشعر، فإنه ديوان العرب. فما كان موجبا للعمل جاز أن يستدل عليه بالآحاد والبيت والبيتين من الشعر، وما كان موجبا للعلم فلا يستدل عليه بمثل ذلك.
هذا وهناك ضروب أخرى للتفسير، وقواعد للترجيح ذكرها في الفصول التي ختم بها كتابه "الإشارة إلى الإيجاز " من ص259 إلى آخر الكتاب. تركت إيرادها خشية الإطالة، وكلها تدل على سعة علم العز بالتفسير وتمكنه منه وبعد نظره فيه، والذي أعانه على ذلك تمكنه من اللغة وعلم المعاني والأصول، ولكن يلاحظ عليه أنه لم يطبق تلك القواعد في تفسيره المختصر فاكتفى بسرد أقوال المفسرين، وبيان المعاني التي يحتملها اللفظ دون ترجيح إلا في حالات قليلة كما سيأتي بيانه.(21/281)
التعريف بتفسيره المختصر
هو اختصار لتفسير الماوردي " النكت والعيون " ولم يبين العز سبب اختصاره، ولا منهجه في الاختصار.
ولعل سبب اختصاره ما يلي:
1 - قيمة تفسير الماوردي العلمية وأهميته ونفاسته.
2 - ما فيه من تطويل يحتاج إلى اختصار وتهذيب.
3 - مجاراة للعصر الذي عاش فيه العز، فقد كثرت فيه المختصرات؛ لأن العلوم قد كملت تقريبا ونضجت، فالمطلع على مؤلفات العز يجد أن بعضها مختصرات حتى أنه اختصر كتابه " قواعد الأحكام " في كتاب " القواعد الصغرى ".
وقد بدأ تفسيره بمقدمة ذكر فيها أسماء القرآن ومعنى السورة والآية والأحرف السبعة والإعجاز بكلام موجز، ثم شرع في تفسير القرآن الكريم سورة سورة من الفاتحة إلى آخر سورة الناس، ولا يوجد لهذا التفسير - حسب علمي - إلا نسخة واحدة بدار الكتب المصرية برقم (32 - تفسير) ومكتوب على الورقة الأولى منها العنوان التالي (تفسير القرآن للشيخ الإمام سلطان العلماء عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي الدمشقي الشافعي اختصار النكت والعيون للماوردي - رضي الله عنهما -) . ويقع في مجلد كبير عدد أوراقه (230) ورقة أي (460) صفحة من القطع الكبير، وفي الورقة (23) سطرا، وكلمات السطر(21/282)
تترواح فيما بين (10) كلمات إلى (13) كلمة، وخطه رديء غير مشكول وغير معجم غالبا، والآيات القرآنية وأسماء السور مكتوبة بالمداد الأحمر. وليس عليها اسم الناسخ، ولا تاريخ النسخ، وخطها يشبه خطوط القرن الثامن، ورقها جيد إلا أن الورقات الأولى منها فيها خروم مرممة، وكذا الورقات الأخيرة، وقد سقط منها ورقة تقريبا، وتمتاز هذه النسخة بقلة الأخطاء، وقد قمت بتحقيقه وهو تحت الطبع.(21/283)
دراسة تفسيره
إن دراسة منهج أي مفسر تعني معرفة مصادره التي اعتمد عليها في تفسيره وطريقة استفادته من هذه المصادر والأسلوب الذي اتبعه في عرض هذه المعلومات والجانب الذي غلب على تفسيره، فبعض المفسرين يعتني بذكر أقوال السلف المأثورة، فيغلب على تفسيره الأثر، وبعضهم يعتني بذكر اجتهادات العلماء المتأخرين بجانب أقوال السلف، فيغلب على تفسيره الرأي، كما أن المفسر يتأثر تفسيره بالعلم الذي تخصص فيه من حديث أو عقيدة أو فقه أو لغة أو بلاغة أو نحو أو تأريخ وغير ذلك من العلوم، فعلى الدارس للتفسير أن يبرز هذا الجانب في دراسته ومدى ظهور اختصاص المفسر على تفسيره، وتلون هذا التفسير بذلك الاختصاص.
وأن يتعرف على موقف المفسر من القصص الإسرائيلية التي استهوت بعض المفسرين، فأخذوا يسطرونها في تفاسيرهم حبا لمعرفة المجهول، أو متابعة لمن سبقهم من المفسرين، وقد اختلفت اتجاهات المفسرين في هذه(21/283)
الأخبار بين مكثر منها بدون تمحيص أو تعقيب، وبين من نقلها مع بيان ما فيها من علل الإسناد وبطلان المعنى، ومنهم من أضرب عنها صفحا فلا ترد في تفسيره إلا قليلا.
كما أن الدارس عليه أن يتابع مناقشات المفسر للأقوال التي ينقلها ومدى تمحيصه لها وما يرجحه من الأقوال ليتبين من هذا قوة شخصية المفسر وظهورها في تفسيره، أو عدم ذلك، كما هو حاصل في التفاسير التي تجمع الأقوال بدون مناقشة، أو ترجيح إلا في حالات قليلة. هذه من أهم الأمور التي ينبغي مراعاتها عند دراسة منهج أي مفسر، وسأحاول أن أتابع هذه الأمور في اختصار العز لتفسير الماوردي، مع المقارنة بينهما ليتضح ما امتاز به أحدهما على الآخر، وستكون هذه الدراسة مطبقة على تفسيره من سورة مريم إلى سورة النور في المباحث الآتية:(21/284)
مصادر تفسير العز
وحيث إن تفسير العز اختصار لتفسير الماوردي، فمصادره هي نفس مصادر الماوردي، وقد جمع الماوردي مادة تفسيره من مصادر كثيرة ومتنوعة، منها مصادر في التفسير بالمأثور كتفسير الطبري (ت310هـ) فقد اعتمد عليه كثيرا. ومصادر جمعت بين اللغة والنحو ولها صلة وثيقة بالنص القرآني كالكتب التي ألفت في معاني القرآن وغريبه ومجازه ككتاب " معاني القرآن للفراء (ت207هـ) والأخفش (ت210هـ) وثعلب (ت291هـ) والزجاج (ت311هـ) كما نقل عن كتاب "إعراب القرآن " لمحمد بن المستنير المعروف بقطرب (ت206هـ)(21/284)
ومجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت210هـ) وعن ابن قتيبة (ت276هـ) وله كتاب " غريب القرآن " و "تأويل مشكل القرآن "، وعن محمد بن السائب الكلبي (ت146هـ) ، وله تفسير "القرآن "، وعن مقاتل بن سليمان (ت150هـ) ، وله تفسير كامل للقرآن طبعت بعض أجزائه، وعن محمد بن إسحاق بن يسار (ت151هـ) صاحب السيرة، وعن عيسى بن علي الرماني (ت384هـ) وهو من المعتزلة وله " الجامع لعلم القرآن " وعن ابن بحر وهو أبو مسلم الأصفهاني (ت322هـ) وهو من المعتزلة، وعن سهل بن عبد الله التستري (ت283 هـ) وله تفسير صوفي مختصر مطبوع.
هذه أهم المصادر التي جمع منها الماوردي تفسيره، وهي كما تلاحظ مصادر أصيلة لقدمها، وأصالة هذه المصادر تضفي على تفسير الماوردي أهمية كبيرة حيث إنه سطر في تفسيره آراء نخبة من العلماء الأعلام حتى أن بعض هذه الكتب قد فقدت، أو لم تحظ بالتحقيق والنشر فأصبح تفسير الماوردي مصدرا لهذه الآراء التي احتوتها تلك الكتب، كما أن قدم مؤلف هذا التفسير حيث توفي سنة (450هـ) جعل تفسيره مصدرا هاما لمن جاء بعده من المفسرين، فلا يكاد يخلو تفسير من التفاسير التي جاءت بعده من النقل عنه. فمنهم من اقتبس منهجه في حصر الأقوال في عدد ثم تفصيلها مع نسبة كل قول إلى قائله كابن الجوزي (ت597هـ) .
فقد نقل كثيرا من أقوال الماوردي، فتارة ينسبها إليه، وأخرى لا يفعل ذلك، كما استفاد منه القرطبي المتوفى سنة (671هـ) فنقل كثيرا من آرائه في تفسيره، وممن نقل عنه - أيضا - ابن عطية (ت 541هـ) والفخر الرازي (ت606هـ) وغيرهم من المفسرين.(21/285)
طريقة عرضه للقراءات
لا يخفى ما للقراءات من أثر في تفسير القرآن الكريم وفهم معناه واستنباط الأحكام الشرعية، لذا اهتم المفسرون بذكرها في تفاسيرهم، وقد اختلفت طرقهم في عرضها، فمنهم من يعتني بذكر القراءة ونسبتها إلى من قرأ بها مع مناقشتها وبيان معناها والترجيح بين القراءات فهو يعرضها عرضا سريعا، فيشير إليها مع ذكر معناها وقليلا ما ينسبها إلى من قرأ بها بالإضافة إلى ذكر معناها وإليك أمثلة توضح ذلك.
1 - قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} (1) قال العز في تفسيره هذه الآية: " (وولدا) وولدا " واحد كعدم وعدم، أو بالضم جمع وبالفتح واحد لغة لقيس. " وقال الماوردي: " (وولدا) قرأ حمزة والكسائي (وولدا) بضم الواو، وقرأ الباقون بفتحها، فاختلف في ضمها وفتحها على وجهين (أحدهما) أنهما لغتان معناهما واحد، يقال: ولد وولد، وعدم وعدم، وقال الحارث بن حلزة:
ولقد رأيت معاشرا ... قد ثمروا مالا وولدا (2)
والثاني: أن قيسا تجعل الولد بالضم جمعا، والولد بالفتح واحدا ".
فنلاحظ أن العز قد ضبط شكل القراءتين وبين معناهما، ولكنه لم يشر إلى أنهما قراءتان، وهذا نقص في عرض القراءة، بينما نجد الماوردي بين هاتين القراءتين ونسب كل قراءة إلى من قرأ بها بالإضافة إلى بيان معنى كل قراءة، فهو أكمل وأوفى من تفسير العز، ولا يشفع للعز
__________
(1) سورة مريم الآية 77
(2) راجع تفسيره (2 \ 535) .(21/286)
هنا أنه يقصد بهذا الاختصار لأن ما تركه لازم حتى في حالة الاختصار، وليس في ذكره تطويل يحتاج إلى الاختصار.
2 - قال تعالى: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} (1) قال العز في تفسير هذه الآية: " وسوى بالضم والكسر واحد، أو بالضم المنصف وبالكسر العدل ".
وقال الماوردي: " ويقرأ سوى بضم السين وكسرها، وفيهما وجهان (أحدهما) أن معناهما واحد وإن اختلف لفظهما. (والثاني) أن معناهما مختلف، فهو بالضم المنصف وبالكسر العدل (2) " فنلاحظ أن العز ضبط شكل القراءتين وبين معناهما ولم يشر إلى أنهما قراءتان، بينما أشار الماوردي إلى ذلك ولم ينسب كل قراءة إلى من قرأ بها فهو أكمل منه، فقراءة الضم قرأ بها ابن عامر وعاصم وحمزة، وقرأ بقية القراء بكسر السين (3) .
وراجع: تفسير العز للآية (63، 81، 130) من سورة طه، والآية (58، 95) من سورة الأنبياء، والآية (67، 110) من سورة المؤمنين، والتعليق عليها.
3 - قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} (4) .
قال العز في تفسير هذه الآية: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} (5) وقودها أو حطبها، أو يرمون فيها كما ترمى الحصباء فكأنها تحصب بهم و: حضب جهنم
__________
(1) سورة طه الآية 58
(2) راجع: تفسيره 3 \ 18.
(3) راجع تعليقنا على هذه الآية من تفسير العز
(4) سورة الأنبياء الآية 98
(5) سورة الأنبياء الآية 98(21/287)
بالإعجام يقال: حضبت النار إذا خبت وألقيت فيها ما يشعلها من الحطب.
وقال الماوردي: وقرأ ابن عباس: (حضب جهنم) بالضاد معجمة، قال الكسائي: حضبت النار بالضاد المعجمة إذا أججتها فألقيت فيها ما يشعلها من الحطب (1) .
فنلاحظ أن العز قد ضبط هذه القراءة ولم يبين أنها قراءة، بينما بينها الماوردي ونسبها إلى ابن عباس، وهي قراءة شاذة، وقد أوضحنا ذلك في تعليقنا على هذه الآية من تفسير العز.
4 - قال تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} (2) . قال العز في تفسير هذه الآية: {صَوَافَّ} (3) مصطفة أو قائمة تصف بين أيديها بالقيود أو معقولة، قرأ الحسن (صوافي) أي خالصة لله تعالى من الصفوة، ابن مسعود (صوافن) معقولة إحدى يديها فتقوم على ثلاث؛ صفن الفرس ثنى إحدى يديه وقام على ثلاث.
ففي هذا المثال ذكر العز ثلاث قراءات، الأولى قراءة الجمهور كما في المصحف، والثانية نسبها إلى الحسن، وهي شاذة وكذلك الثالثة (4) وقد نسبها إلى ابن مسعود. وبين معاني هذه القراءات ذاكرا الخلاف في ذلك، ومن هذا يتضح أنه قد يشير إلى القراءة وينسبها ولكنه قليل، وقد قمت بتوثيق القراءات التي ذكرها ونسبتها إلى من قرأ بها، وبينت حكمها من حيث الصحة والشذوذ.
__________
(1) راجع: تفسيره [3 \ 62]
(2) سورة الحج الآية 36
(3) سورة الحج الآية 36
(4) راجع: تعليقنا على هذه الآية من تفسير العز(21/288)
جمعه بين أقاويل السلف والخلف
مما امتاز به تفسير العز جمعه للأقوال الكثيرة في تفسير الآية، فبعض هذه الأقوال مأثورة كتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو قليل، أو تفسيرات الصحابة والتابعين، وبعض هذه الأقوال اجتهادات للعلماء الذين جاءوا بعدهم من علماء السنة والمعتزلة والصوفية، فيرتب هذه الأقوال عاطفا بعضها على بعض بأو، وقد ترك نسبة كثير منها إلى قائليها، وهذا مما يؤخذ عليه، لأنه يوقع في اللبس وعدم التمييز بين القول الصحيح والضعيف، كما أنه لا يرجح بين الأقوال إلا قليلا. وقد امتاز عليه الماوردي بنسبة الأقوال إلى قائليها إلا في حالات قليلة، كما أنه يحصر الأقوال في عدد ثم يفصلها الأول فالثاني فالثالث. . . وهكذا، وإليك أمثلة توضح ذلك.
1 - قال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} (1) .
قال العز في تفسير هذه الآية: {الْمُخْبِتِينَ} (2) المطمئنين إلى ذكر الله تعالى، أو المتواضعين، أو الخاشعين، الخشوع في الأبدان والتواضع في الأخلاق، أو الخائفين، أو المخلصين، أو الرقيقة قلوبهم، أو المجتهدين في العبادة، أو الصالحين المقلين، أو الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا، قاله الخليل.
ذكر العز في معنى {الْمُخْبِتِينَ} (3) تسعة أقوال ولم ينسبها إلى قائليها عدا القول الأخير نسبه إلى الخليل بن أحمد، بينما نسب الماوردي هذه الأقوال إلى قائليها، فالأول: نسبه إلى مجاهد، والثاني: إلى قتادة.
__________
(1) سورة الحج الآية 34
(2) سورة الحج الآية 34
(3) سورة الحج الآية 34(21/289)
والثالث: إلى الحسن، وقال عن الرابع: إنه معنى قول يحيى بن سلام.
ونسب الخامس إلى إبراهيم النخعي، والسادس: إلى الكلبي. والسابع: إلى الكلبي ومجاهد. والثامن إلى مجاهد (1) . وهذه الأقوال متقاربة.
2 - قال تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} (2) .
قال العز في تفسير هذه الآية: الإنسان آدم خلق بعجل يوم الجمعة آخر الأيام الستة قبل غروب الشمس، أو لما نفخ الروح في عينيه ولسانه بعد إكمال صورته سأل ربه أن يعجل تمام خلقه وإجراء الروح في جسده قبل الغروب، أو العجل الطين، قال:
والنبع في الصخرة الصماء منبتة ... والنخل ينبت بين الماء والعجل
أو الإنسان الناس كلهم فخلق الإنسان عجولا، أو خلق على حب العجلة أو خلقت العجلة فيه، والعجلة تقديم الشيء قبل وقته والسرعة تقديمه في أول أوقاته.
فيلاحظ أن العز ذكر في المراد بالإنسان في الآية قولين: القول الأول: أن المراد به آدم. وقد اختلف في معنى (عجل) على هذا القول، فذكر العز ثلاثة أقوال بدون نسبة، وقد نسب الماوردي القول الأول إلى مجاهد والسدي، والثاني إلى الكلبي (3) .
والقول الثاني: الذي ذكره العز في المراد بالإنسان أنه الناس كلهم، وذكر في معنى (العجل) على هذا ثلاثة أقوال بدون نسبة، وقد نسب الماوردي القول الأول إلى قتادة، والثالث إلى ابن قتيبة (4) . فقد ذكر العز
__________
(1) راجع: تفسير الماوردي (3 \ 80)
(2) سورة الأنبياء الآية 37
(3) راجع تفسيره (3 \ 45)
(4) راجع تفسيره (3 \ 45)(21/290)
هنا في المراد بخلق الإنسان من عجل ستة أقوال لجماعة من السلف والخلف ولم ينسب واحدا منها بينما نسب الماوردي أربعة منها فهو أكمل. ولم يناقش العز هذه الأقوال ولم يرجح بينها تبعا للماوردي.
فكان الأولى به أن يفعل ذلك؛ ليتضح الصواب ويزول اللبس فلا يقع القارئ لهذه الأقوال في حيرة. لذا نجد الطبري لما ساق هذه الأقوال ناقشها ورجح قول من قال: إن الإنسان خلق عجولا، أي: طبع على العجلة في أموره مستدلا على ذلك بقوله تعالى في آخر الآية: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} (1) وقوله في آية الإسراء (11) : {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} (2) وكذلك فعل القرطبي في تفسيره راجع تعليقنا على هذه الآية من تفسير العز.
1 - قال تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ} (3) قال العز في تفسير هذه الآية: التنور تنور الخبز، أو أحر مكان في دارك أو طلوع الفجر، أو عبر به عن شدة الأمر كقولهم: حمي الوطيس. فالعز ذكر في المراد بالتنور أربعة أقوال بدون نسبة. وقد نسب الماوردي القول الأول إلى الكلبي، والثاني إلى أبي الحجاج، والثالث إلى علي رضي الله عنه. والرابع إلى ابن بحر. ولم يرجح العز بين هذه الأقوال تبعا للماوردي وكان الأولى به أن يبين القول الراجح ليتضح الصواب، والراجح من هذه الأقوال أن المراد بالتنور تنور الخبز؛ لأنه المعروف من كلام العرب، وكلام الله لا يحمل إلا على الأغلب والأشهر من معاني الكلام عند العرب، ولا يصرف إلى غيره إلا بدليل يدل عليه، وبه قال أكثر المفسرين راجع: تعليقنا على هذه الآية من تفسير العز.
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 37
(2) سورة الإسراء الآية 11
(3) سورة المؤمنون الآية 27(21/291)
4 - قال تعالى: {كهيعص} (1) .
ذكر العز في المراد بها ستة أقوال، ولم ينسب هذه الأقوال، عدا القول الأخير فقد نسب جزءا منه إلى الربيع بن أنس، وقد نسب الماوردي هذه الأقوال (2) ، ولم يرجح العز قولا من هذه الأقوال هنا ولا عند تفسير {الم} (3) من سورة البقرة حينما أورد فيها سبعة أقوال فلم يتبين لنا رأيه في فواتح السور، وهي مسألة كثر كلام المفسرين حولها وكثرت أقوالهم فيها حتى إن الفخر الرازي في تفسيره (2 \ 3-8) أوصلها إلى إحدى وعشرين قولا، فالمفسرون لم يجمعوا فيها على معنى واحد ولم يرو فيها عن الصادق المعصوم معنى، فيتعين المصير إليه، فهي محتملة لمعاني كثيرة، فمن ظهر له من المفسرين قول من الأقوال بدليل فله اتباعه، وإلا فالوقف حتى يتبين. والأولى عندي أن المراد بهذه الحروف الدلالة على إعجاز القرآن حيث إنه مركب من جنس هذه الحروف التي يتكلم بها العرب ومع ذلك عجزوا عن الإتيان بمثله كما قرره الزمخشري في تفسيره {الم} (4) من سورة البقرة. وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين، ورجحه ابن كثير في تفسيره (1 \ 38) ونقل ترجيحه عن شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ المزي.
__________
(1) سورة مريم الآية 1
(2) راجع: تفسيره 2 \ 514
(3) سورة البقرة الآية 1
(4) سورة البقرة الآية 1(21/292)
نقله لأقوال الصوفية
:
والعز ينقل عند تفسير بعد الآيات أقوالا للصوفية في حالات قليلة بينما نجد الماوردي يكثر من ذلك ويصدرها بقوله. قال أصحاب الخواطر(21/292)
أو المعارف أو الإشارة أو المتعمقة أو يسمي من نقل عنه كالتستري، أو بشر بن الحارث الحافي، فيذكر هذه الأقوال دون تعقيب، وتارة يتعقبها إذا كانت بعيدة عن معنى الآية، أما العز فإنه لا يذكر هذه الأقوال إلا في حالات قليلة، فعدم ذكره لها يحتمل أنه من قبيل الاختصار، أو عدم الاقتناع بها. وإليك أمثلة توضح ذلك.
1 - قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (1) .
قال العز في تفسير هذه الآية: {وَجِلَةٌ} (2) خائفة، قيل: وجل العارف من طاعته أكثر من وجله من مخالفته؛ لأن التوبة تمحو المخالفة والطاعة تطلب بتصحيح الغرض.
وقال الماوردي: {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} (3) أي خائفة، قال بعض أصحاب الخواطر: وجل العارف من طاعته أكثر من وجله من مخالفته؛ لأن المخالفة تمحوها التوبة، والطاعة تطلب لتصحيح الغرض (4) .
2 - قال تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (5) .
قال العز في تفسير هذه الآية: {لَيِّنًا} (6) لطيفا رفيقا، أو كنياه وكنيته أبو مرة أو أبو الوليد، قيل: كان لحسن تربية موسى، فجعل الله - تعالى - رفقه به مكفأة له لما عجز موسى عن مكافأته.
وقال الماوردي: بعد أن ذكر القولين السابقين: ويحتمل (ثالثا) أن يبدأه بالرغبة قبل الرهبة، ليلين بها فيتوطأ بعدها من رهبة ووعيد، قال بعض
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 60
(2) سورة المؤمنون الآية 60
(3) سورة المؤمنون الآية 60
(4) راجع تفسيره (3 \ 100)
(5) سورة طه الآية 44
(6) سورة طه الآية 44(21/293)
الصوفية: يا رب هذا رفقك لمن عاداك، فكيف رفقك بمن والاك (1) .
3 - قال تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} (2) .
قال العز في تفسير هذه الآية: {وَالْبُدْنَ} (3) الإبل عند الجمهور، أو الإبل والبقر، أو ذوات الخف من الإبل والبقر والغنم حكاه ابن شجرة سميت بدنا لأنها مبدنة بالسمن.
بعد أن ذكر الماوردي ما سبق في معنى (البدن) قال: (وتعمق بعض أصحاب الخواطر فتأول البدن أن تطهر بدنك من البدع والشعائر أن تستشعر بتقوى الله وطاعته، وهو بعيد) (4) . ذكر الماوردي في كل آية من هذه الآيات الثلاث قولا للصوفية ورد القول الأخير بقوله: وهو بعيد. بينما اقتصر العز على قول واحد كما في الآية الأولى، فذكره لأقوال الصوفية التي يوردها الماوردي عند تفسير بعض الآيات قليل.
__________
(1) راجع تفسيره (3 \ 15)
(2) سورة الحج الآية 36
(3) سورة الحج الآية 36
(4) راجع تفسيره (3 \ 81)(21/294)
ترجيحه لبعض الأقوال
مما سبق يتضح أن العز يجمع الأقوال الكثيرة في تفسير الآية، بدون ترجيح، ولكنه قد يرجح في حالات قليلة بألفاظ مقتضبة على طريقة الفقهاء في مختصراتهم، ولعل هذا من أثر تخصصه في الفقه فتجده يرجح(21/294)
بقوله: هذا أصح، أو أصوب، أو أظهر، أو أشبه، ويرد بعض الأقوال بقوله: وهذا شاذ، أو غير ظاهر أو بعيد، ولا يوجه ما يقول إلا نادرا ولذا لم تبرز شخصيته في تفسيره، وإليك أمثلة تبين ذلك:
1 - قال تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} (1) .
قال العز: {فَأَشَارَتْ} (2) إلى الله تعالى، فلم يفهموا إشارتها، أو إلى عيسى على الأظهر، ألهمها الله - تعالى - ذلك (3) بأنه سيبرئها، أو أمرها به.
فالعز ذكر في مرجع الضمير في (إليه) قولين أحدهما أنه يعود إلى الله تعالى، والثاني أنه يعود إلى عيسى عليه السلام، وقد رجح القول الأخير تبعا للماوردي (4) . لأنه هو الظاهر من كلام وسياق الآيات، أما القول الأول فبعيد ولا دليل في الكلام عليه. راجع تعليقنا على هذه الآية من تفسير العز.
2 - قال تعالى: {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} (5) .
قال العز في تفسير هذه الآية سلام توديع وهجر، أو سلام إكرام وبر، قابل جفوته بالإحسان رعاية لحق الأبوة وهو أظهر.
3 - قال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} (6) .
__________
(1) سورة مريم الآية 29
(2) سورة مريم الآية 29
(3) هكذا في الأصل بياض بمقدار كلمتين
(4) راجع: تفسير الماوردي (2 \ 524)
(5) سورة مريم الآية 47
(6) سورة الأنبياء الآية 79(21/295)
قال العز في تفسير هذه الآية: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} (1) لأنه أوتي الحكم في صغره وأوتيه داود في كبره، وهذا شاذ، أو أخطأ داود وأصاب سليمان على قول الجمهور.
فالعز ذكر في سبب تخصيص الله سليمان بالفهم قولين. فحكم على القول الأول بأنه شاذ، وقد نسبه الماوردي للمتكلمين، ونسب العز القول الثاني إلى الجمهور، فهو يرجح القول الثاني لأنه رد القول الأول، وهو في ذلك متابع للماوردي، وراجع: تفسير العز للآية (94) من سورة طه، حيث ذكر فيها ثلاثة أقوال، فتعقب القول الثاني بالرد، ورجح الثالث بقوله: وهو الأشبه.
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 79(21/296)
عنايته باللغة وأسلوبه في التعبير
العلم باللغة شرط من شروط التفسير؛ لأن القرآن منزل بلسان عربي مبين، فلا يوصل إلى معرفة معانيه ومقاصده وتدبر ما فيه إلا بمعرفة لغة العرب، والمطلع على تفسير العز يدرك من قراءته تمكن العز من اللغة وتعمقه في معرفة معانيها، وإدراكه للفروق الدقيقة بين الألفاظ المتقاربة، وعلمه بأصول الكلمات، فكان لهذا أثر كبير في تفسيره حيث صاغه بأسلوب سهل واضح ولغة فصيحة، وعبارة دقيقة مشرقة متوخيا في ذلك الدقة والاختصار، فعبر عما في تفسير الماوردي بعبارة مختصرة تدل على المقصود بألفاظ قليلة، فجمع بين الاختصار وحسن العرض مع الاستشهاد بالشعر لتوضيح معاني بعض الكلمات لأن الشعر ديوان العرب كما قال ابن عباس رضي الله عنهما (1) ، ولم يكثر من ذلك
__________
(1) راجع: الإشارة إلى الإيجاز للعز بن عبد السلام ص279(21/296)
كالماوردي لأنه بصدد الاختصار، كما أنه قد يشير إلى بعض الوجوه النحوية وإليك أمثلة توضح المقصود.
الوجه الأول: أمثلة على بيان لأصول بعض الكلمات واشتقاقها:
1 - قوله تعالى: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} (1) .
قال العز في معنى: {سَرِيًّا} (2) عيسى، السروات: الأشراف، أو السري: النهر بالنبطية، أو بالعربية من السراية لأن الماء يسري فيه، قيل: يطلق السري على ما يعبره الناس من الأنهار وثبا. فلاحظ بيانه لمعنى السروات، وهم الأشراف وبيانه بأن السري (النهر مأخوذ من سراية الماء فيه) ، وبيانه بأن (السري) يطلق على النهر الصغير الذي يعبره الناس وثبا، فهذه معان دقيقة عبر عنها بعبارة وجيزة واضحة.
2 - قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} (3) .
قال العز في معنى: {لُدًّا} (4) فجارا، أو أهل لجاج وخصام من اللدود للزومهم الخصام كما يحصل اللدود في الأفواه، أو الجدل في الباطل من اللدد وهو شدة الخصومة. فيلاحظ أنه فسر لدا بأنهم أهل لجاج وخصام على أن لدا مشتق من اللدود وهو ما سقي الإنسان في أحد شقي الفم. أو أنه مأخوذ من اللدود وهو شدة الخصومة، فبين أن اشتقاق هذه الكلمة محتمل لأمرين والمعنى واحد. راجع: تعليقنا على هذه الآية من تفسير العز.
__________
(1) سورة مريم الآية 24
(2) سورة مريم الآية 24
(3) سورة مريم الآية 97
(4) سورة مريم الآية 97(21/297)
3 - قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} (1) .
قال العز في معنى: تترا منون متواترين يتبع بعضهم بعضا (ع) ، أو متقطعين بين كل اثنين دهر طويل، تترا: اشتق من وتر القوس لاتصاله بمكانه منه، أو من الوتر لأن كل واحد يبعث فردا بعد صاحبه، أو من التواتر.
فلاحظ الأصول الثلاثة التي ذكرها لاشتقاق كلمة (تترا) وإليها يرجع القولان اللذان ذكرهما في بيان المراد بإرسال الرسل تترا.
وراجع: تفسير العز للكلمة {زُرْقًا} (2) من الآية (102) سورة طه، و {حَدَبٍ} (3) من الآية (96) من سورة الأنبياء و {مَنْسَكًا} (4) من الآية (34) من سورة الحج، وراجع أيضا تفسيره للآية (36) من سورة الحج.
الوجه الثاني: أمثلة على ذكره للفروق بين الألفاظ المتقاربة.
1 - قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (5) .
قال العز في معنى: {خَلْفٌ} (6) بالسكون إذا خلفه من ليس من أهله، وبالفتح إذا كان من أهله، أو بالسكون في الذم وبالفتح في الحمد.
لاحظ تفريقه بين معاني (خلف) حسب اختلاف حركة اللام منها بين السكون والفتح.
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 44
(2) سورة طه الآية 102
(3) سورة الأنبياء الآية 96
(4) سورة الحج الآية 34
(5) سورة مريم الآية 59
(6) سورة مريم الآية 59(21/298)
2 - قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} (1) .
قال العز في تفسير هذه الآية: {أُخْفِيهَا} (2) لا أظهر عليها أحدا، فيكون {أَكَادُ} (3) بمعنى أريد، أو أخفيها من نفسي (ع) مبالغة في تبعيد إعلامه بها، أو أخفيها أظهرها، أخفيته كتمته وأظهرته من الأضداد، وأسررته كتمته وأظهرته أيضا، أو المعنى آتية أكاد آتي بها، فحذف للعلم به ثم استأنف: {أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ} (4) قال:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
أي وكدت أقتله.
ذكر العز في معنى {أُخْفِيهَا} (5) أربعة أقوال عرضها عرضا بديعا بعبارة موجزة ودقيقة مع توجيه كل قول، ثم ذكر أن الإخفاء والإسرار من الأضداد يأتيان بمعنى الإظهار والكتم، ووجه القول الرابع على أن في الكلام محذوفا، وقدره واستدل عليه ببيت من الشعر. وهو يستشهد على بعض الوجوه النحوية، ومعاني الكلمات بالشعر ولا يكثر من ذلك كالماوردي، وقد أجريت بينهما مقارنة فأحصيت ما استشهد به العز في سورة طه فكان خمسة أبيات بينما استشهد فيها الماوردي بسبعة وعشرين بيتا. ويؤخذ على العز أنه في بعض الأحوال قد يستشهد بأجزاء من أبيات ويدمجها في التفسير دون التنبيه على أنها جزء من بيت، وهذا فيه تلبيس وخلط في الكلام، ومن أمثلة ذلك راجع: تفسيره {غَيًّا} (6) من الآية: 59 سورة مريم. وتفسيره {يَسْتَحْسِرُونَ} (7) من الآية: 19 سورة الأنبياء، وتفسيره {يَنْسِلُونَ} (8) من الآية: 96 سورة
__________
(1) سورة طه الآية 15
(2) سورة طه الآية 15
(3) سورة طه الآية 15
(4) سورة طه الآية 15
(5) سورة طه الآية 15
(6) سورة مريم الآية 59
(7) سورة الأنبياء الآية 19
(8) سورة الأنبياء الآية 96(21/299)
الأنبياء، وتفسيره {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} (1) من الآية: 20 سورة المؤمنين.
3 - قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} (2) {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} (3) .
قال العز في تفسير هاتين الآيتين: {وَمَا تِلْكَ} (4) سؤال تقرير، وجوابه {هِيَ عَصَايَ} (5) ولكنه أضافها إلى ملكه، ليكفي الجواب إن سئل عنها، ثم ذكر احتياجه إليها لئلا يكون عابثا بحملها. {وَأَهُشُّ} (6) أخبط ورق الشجر، والهش والهس واحد، أو المعجم خبط الشجر، وغير المعجم زجر الغنم {مَآرِبُ} (7) حاجات، نص على لوازم الحاجات، وكنى عن عارضها من طرد السباع، أو قدح النار واستخراج الماء، أو كانت تضيء له بالليل.
لاحظ توجيه العز للاستفهام في قوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} (8) إلى المعنى المجازي وهو التقرير، ولاحظ إشارته الدقيقة إلى معنى الإضافة في {عَصَايَ} (9) وتفريقه بين الهش والهس، وتعبيره عن معنى {مَآرِبُ} (10) وصياغته لبعض الأقوال الإسرائيلية في المراد بمآربه الأخرى في العصا، فقد صاغ هذه الأقوال بعبارة موجزة، ولم يستطرد في ذكر الأخبار الإسرائيلية التي يذكرها أكثر المفسرين في عصا موسى عليه السلام (11) . فقارن ما سبق بتفسير الماوردي يتبين لك أسلوبه في الاختصار وصياغته لتفسير الماوردي في ثوب جديد.
وراجع تفسير العز لقوله تعالى: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} (12) .
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 20
(2) سورة طه الآية 17
(3) سورة طه الآية 18
(4) سورة طه الآية 17
(5) سورة طه الآية 18
(6) سورة طه الآية 18
(7) سورة طه الآية 18
(8) سورة طه الآية 17
(9) سورة طه الآية 18
(10) سورة طه الآية 18
(11) راجع: تعليقنا على هذه الآية من تفسير العز
(12) سورة مريم الآية 32(21/300)
وتفسير العز لكلمة {يَفْرُطَ} (1) من الآية [45: طه] ، وتفريقه بين النفش والهمل كما في الآية [78: الأنبياء] .
__________
(1) سورة طه الآية 45(21/301)
طريقة عرضه لآيات الأحكام
أكثر العز من ذكر أقوال العلماء عند تفسير آيات الأحكام بدون نسبة الأقوال إلا في حالات قليلة، فلذا لم تتضح أقوال أئمة المذاهب، وفي عرضه لهذه الأقوال لا يرجح بينها غالبا، ولا يستطرد في عرض التفاصيل الجزئية، كما يفعل القرطبي في تفسيره والفخر الرازي وغيرهما ممن اعتنوا بتفسير آيات الأحكام واختصوها بالتأليف كالجصاص الحنفي المذهب، وابن العربي المالكي والكيا الهراس الشافعي، فقد تأثر تفسيرهم بالصبغة المذهبية بل إن بعضهم يتعصب لمذهبه ويأول الآية على ما يوافق مذهبه، ويشنع على من خالفه، ولم يظهر شيء من ذلك على تفسير العز لآيات الأحكام مع أنه إمام من أئمة الشافعية فلم ينتصر لمذهبه بل عرض الأقوال دون مناقشة ولا استطراد رغبة في الاختصار، وعدم تشتيت ذهن القارئ لتفسير آيات الله، ولكن يؤخذ عليه عدم بيان القول الراجح بدليله إيضاحا للحق ودفعا للبس، وكذا عدم نسبة الأقوال، وإليك أمثلة توضح ذلك:
1 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (1) .
ذكر العز في المراد بالمسجد الحرام قولين: الأول أن المراد به نفس المسجد، فعلى هذا معنى استواء العاكف وهو المقيم به، والبادي وهو الوافد إليه في حكم المسجد، أو حكم النسك.
__________
(1) سورة الحج الآية 25(21/301)
والقول الثاني: أن المراد به جميع الحرم، فعلى هذا استواؤهما في الأمن في الحرم وأن لا يقتلا به صيدا، أو استواؤهما في دوره ومنازله فعلى هذا لا يجوز بيع دور مكة ولا كرائها على خلاف بين الفقهاء، وممن قال بذلك أبو حنيفة وخالفه الشافعي. فقال بجواز بيع دور مكة وكرائها وله أدلة على ذلك ليس هذا مكان بسطها.
فيلاحظ من هذا أن العز عرض الأقوال عرضا سريعا بدون نسبة ولا مناقشة وترجيح، ولو رجعنا إلى تفسير الفخر الرازي (23 \ 24) لوجدنا أنه يفصل الخلاف في هذه المسألة ذاكرا الأدلة ومرجحا قول الشافعي مع التوجيه.
2 - قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} (1) قال العز في تفسير هذه الآية: {وَالْبُدْنَ} (2) الإبل عند الجمهور، أو الإبل والبقر، أو ذوات الخف من الإبل والبقر والغنم حكاه ابن شجرة، سميت بدنا لأنها مبدنة بالسمن {شَعَائِرِ اللَّهِ} (3) معالم دينه أو فروضه {فِيهَا خَيْرٌ} (4) أجر، أو ركوبها عند الحاجة وشرب لبنها عند الحلب.
ثم ذكر معاني: {صَوَافَّ} (5) ثم قال: {وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} (6) سقطت إلى الأرض، وجب الحائط سقط، وجبت الشمس: غربت {فَكُلُوا} (7) يجب الأكل من المتطوع به أو يستحب عند الجمهور ولا يجب، كانوا في الجاهلية يحرمون أكلها على أنفسهم.
__________
(1) سورة الحج الآية 36
(2) سورة الحج الآية 36
(3) سورة الحج الآية 36
(4) سورة الحج الآية 36
(5) سورة الحج الآية 36
(6) سورة الحج الآية 36
(7) سورة الحج الآية 36(21/302)
ذكر العز في معنى البدن ثلاثة أقوال الأول نسبه للجمهور، والثاني لم ينسبه.
وقد نسبه الماوردي إلى جابر وعطاء (1) والثالث نسبه العز إلى ابن شجرة وحكم عليه الماوردي بالشذوذ، ولو رجعنا إلى تفسير القرطبي لوجدناه قد فصل القول في هذه المسألة وذكر فيها رأي أئمة المذاهب، فنقل عن الشافعي أنه قال بالقول الأول، وعن مالك وأبي حنيفة أنهما قالا بالقول الثاني، وذكر أدلة كل مذهب وثمرة الخلاف في ذلك، ورجح قول الشافعي لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح في يوم الجمعة: «من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة (2) » الحديث. فتفريقه عليه السلام بين البقرة والبدنة يدل على أن البقرة لا يقال عليها: بدنة، والله أعلم، وأيضا قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} (3) يدل على ذلك، فإن الوصف خاص بالإبل. والبقر يضجع ويذبح كالغنم، على ما يأتي (4) .
وذكر العز الخلاف في حكم الأمر في قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} (5) فأورد فيه قولين للعلماء، نسب الثاني منهما إلى الجمهور، بينما نجد القرطبي في تفسيره يفصل القول في هذه المسألة فينقل عن الشافعي أن الأكل مستحب، والإطعام واجب، فإن أطعم جميعها أجزاه، وإن أكل جميعها لم يجزه، وهذا فيما كان تطوعا، فأما واجبات الدماء فلا يجوز أن يأكل منها شيئا حسبما تقدم بيانه (6) .
__________
(1) راجع: تفسيره (3 \ 81)
(2) صحيح البخاري الجمعة (881) ، صحيح مسلم الجمعة (850) ، سنن الترمذي الجمعة (499) ، سنن النسائي الجمعة (1388) ، سنن أبو داود الطهارة (351) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1092) ، مسند أحمد بن حنبل (2/460) ، موطأ مالك النداء للصلاة (227) ، سنن الدارمي الصلاة (1543) .
(3) سورة الحج الآية 36
(4) راجع: تفسيره (12 \ 61)
(5) سورة الحج الآية 36
(6) راجع: تفسيره (12 \ 64) .(21/303)
من ذلك يتضح الفرق بين طريقة العز في تفسير آيات الأحكام حيث يورد الأقوال دون مناقشة، وطريقة القرطبي حيث يناقش الأقوال ويرجح بينها غالبا، فهو أكمل من العز وإن كان يؤخذ عليه الاستطراد في تفصيل الخلاف وذكر جزئيات المذاهب مما يشتت ذهن القارئ عن تدبر معنى الآية وما تقصد إليه.
ونكتفي بهذين المثالين خشية الإطالة، وللمزيد من ذلك يمكن مراجعة تفسير العز لقوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} (1) الآيتان (78، 79) من سورة الأنبياء، ومراجعة تفسيره للآيات (28) إلى (34) من سورة الحج، مع مقارنة ذلك بالتفاسير التي تعنى بآيات الأحكام.
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 78(21/304)
موقفه من الإسرائيليات
الإسرائيليات هي الأخبار والأساطير التي تروى عن أهل الكتاب في أخبار الأولين وقصص الأنبياء والمرسلين، وغالبا ما تكون هذه الأخبار كاذبة وباطلة؛ لأن أكثرها ينقل من التوراة والإنجيل وقد أصابهما التحريف، وقد اختلفت مواقف المفسرين من هذه الأخبار، فبعضهم يكثر منها كالطبري والثعلبي، ومنهم من ينقل منها على حذر ويتعقبها بالرد والنقد كابن عطية وابن كثير، أما العز فقد قلل منها تبعا للماوردي بل إنه حذف بعض الأخبار التي أوردها الماوردي واختصر ما ذكره منها، وإليك أمثلة توضح ذلك:
1 - قوله تعالى: {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (1) .
__________
(1) سورة طه الآية 66(21/304)
قال العز عند تفسير هذه الآية في عدد السحرة: وكانوا سبعين ألف ساحر، أو تسعمائة: ثلاثمائة من العريش، وثلاثمائة من الفيوم، ويشكون في الثلاثمائة من الإسكندرية، أو اثنين وسبعين، اثنان من القبط، وسبعون من بني إسرائيل، كانوا أول النهار سحرة وآخره شهداء.
ذكر العز في عدد سحرة فرعون ثلاثة أقوال؛ فالقول الأول رواه الطبري في تفسيره (16 \ 184) عن القاسم بن أبي بزة. والقول الثاني عن ابن جريج، وفي هذين القولين تفاصيل لم يذكرها العز هنا كما أن الطبري روى أخبارا أخرى في عددهم لم يذكرها العز عنه، أما القول الثالث فنسبه الماوردي في تفسيره (3 \ 21) إلى أبي صالح عن ابن عباس، وذكره الثعلبي في كتابه (قصص الأنبياء) (ص164) عن مقاتل. ولم يرد خبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تحديد عددهم، وهذه الأخبار التي ذكرها العز أخبار إسرائيلية وهي كما ترى متناقضة ولا فائدة من ذكرها، ولو كان في ذلك فائدة تعود على المكلف في دينه أو دنياه لأخبر بها القرآن، وظاهر القرآن أنهم كانوا كثيرين.
قال تعالى: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} (1) {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} (2) والله أعلم بعددهم.
فنلاحظ من هذا أن العز قد أورد هذه الأخبار الإسرائيلية باختصار وبدون تعقيب بينما نجد الطبري وابن كثير قد توسعا فيها ولم يعقبا عليها أيضا وكان الأولى بالعز أن يتعقب هذه الأخبار بالرد، أو ينزه تفسيره
__________
(1) سورة الشعراء الآية 36
(2) سورة الشعراء الآية 37(21/305)
منها لئلا تشغل القارئ لتفسير كتاب الله عن تدبر معانيه ومعرفة مقاصده وهداياته راجع التعليق على هذه الآية من تفسير العز.
2 - قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (1) .
قال العز في قصة بلاء أيوب: كان ذا مال وولد فهلك ماله ومات أولاده، ثم بلي في بدنه فقرح وسعى فيه الدود واشتد بلاؤه فطرح على مزبلة بني إسرائيل، ولم يبق أحد يدنو منه إلا امرأته.
ذكر الماوردي هذه القصة في تفسيره عن الحسن مطولة في إحدى وعشرين سطرا، وقد رواها الطبري عنه في ثلاثة وأربعين سطرا، كما رواها عن وهب بن منبه مطولة جدا في حدود ثمان صفحات من القطع الكبير، وذكرها أكثر المفسرين في تفاسيرهم مطولة، ولم يعقبوا عليها بالرد مع أن أكثر ما ورد فيها كذب وباطل لا يليق أن ينسب إلى الأنبياء.
وقد اختصرها العز هنا في سطرين تقريبا، وما ذكره العز هنا من رمي أيوب عليه السلام على مزبلة بني إسرائيل ونفور الناس منه أمر لا دليل عليه من القرآن، ولم يرد به خبر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو أمر لا يليق بنبي من أنبياء الله أن يصل إلى هذا المستوى من المهانة بأن يرمى على المزبلة وينفر الناس عنه، فأين عشيرته عنه أن تواسيه وتداويه وأين أتباعه المؤمنون به، فالله تبارك وتعالى يبتلي رسله بالمرض والألم وغير ذلك من صنوف البلاء، ولكن لا يبتليهم بما ينفر الناس عنهم فكان
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 83(21/306)
الأولى بالعز أن يرد على مثل هذا الباطل أو ينزه تفسيره منه، والصواب في قصة بلاء أيوب أن نقف على ما أخبر الله به عنه في هذه السورة، وسورة (ص) ، فقد ابتلاه الله في ماله وولده وجسده فصبر على ذلك الابتلاء بما استحق عليه الثناء من الله تعالى، وصار مضرب المثل، فكشف الله عنه ذلك وأثابه أعظم الثواب، فلا يجوز لنا أن نتزيد على ما أخبر به القرآن عنه مما لم يثبت به خبر صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر ما روي في تلك القصة من أباطيل بني إسرائيل مما لا تجوز حكايته، فكان الأولى بمن ذكرها من المفسرين أن يبين بطلانها، أو يعرض عنها لئلا يشغل الدارس لتفسير القرآن عن تدبر معاني آياته والعمل بما فيها، فإن مثل هذه الحكايات الباطلة تثير اللبس والشكوك، نسأل الله العافية من ذلك، وقد ذكر هذه القصة القرطبي في تفسيره، ونقل كلاما طويلا للقاضي ابن العربي في مناقشتها وإبطالها (1) .
وراجع ما ذكره العز من الإسرائيليات في مآرب عصا موسى عليه السلام وتعليقنا على ذلك عند تفسير الآية (18) من سورة طه، وما ذكره عند تفسير الآية (69) من هذه السورة، وما ذكره من تفسير الآية (94) من هذه السورة أيضا، وتعقبه بالرد. وتعقيبه على الإسرائيليات قليل جدا.
__________
(1) راجع: تعليقنا على هذه القصة عند تفسير العز لهذه الآية(21/307)
نتيجة هذه الدراسة
بعد هذه الدراسة المختصرة.
يتلخص مما سبق أن تفسير العز يمتاز بالأمور التالية:
1 - رجوعه إلى مصادر أصيلة وقديمة في التفسير.
2 - جمعه لأقوال السلف والخلف الكثيرة في تفسير الآية مع ترجيحه لبعض الأقوال.
3 - عنايته باللغة بذكر أصول الكلمات واشتقاقها والفرق بين الألفاظ المتقاربة مع الاستشهاد بالشعر في بعض المواضع.
4 - أسلوبه الواضح السهل في تفسير الكلمات وصياغة الأقوال بعبارة موجزة مع الدقة.
5 - أنه لم يستطرد في تفسير آيات الأحكام.
6 - أنه لم يكثر من الأخبار الإسرائيلية مع اختصار ما ذكره منها.
7 - تنبيهه على المكي والمدني في أول كل سورة.
ويؤخذ عليه ما يلي:
1 - أنه لم يعتن بالقراءات حيث يذكرها بدون إشارة إلى أنها قراءة، وبدون نسبة إلى من قرأ بها في مواضع قليلة.
2 - ترك كثيرا من الأقوال بدون نسبة وترجيح.
3 - أنه لم يخرج الأحاديث التي يستشهد بها ولم يعقب على الإسرائيليات والأقوال الضعيفة إلا في حالات نادرة.
4 - أنه قد يستشهد بأجزاء من أبيات ويدمجها في التفسير دون التنبيه على أنها جزء من بيت، وهذا يوقع في الاشتباه والخلط في الكلام.(21/308)
المصادر
1 - الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز للعز بن عبد السلام (ت660هـ) طبع دار الفكر بدمشق.
2 - البداية والنهاية لابن كثير (ت774هـ) ط: 1 سنة 1966م - مكتبة المعارف- بيروت، ومكتبة النصر - الرياض.
3 - تفسير ابن الجوزي (508- 597هـ) - زاد المسير في علم التفسير: تسعة أجزاء - طبع المكتب الإسلامي بدمشق - ط \ 1.
4 - تفسير الطبري (ت310 هـ) جامع البيان عن آي القرآن - تحقيق أحمد شاكر وأخيه محمود - طبعة دار المعارف المصرية، وهي ناقصة، كما رجعت إلى طبعة مصطفى الحلبي الثالثة [1388هـ - 1968م] وهي كاملة في ثلاثين جزءا. وعند الرجوع إلى طبعة دار المعارف أنبه عليها.
5 - تفسير العز بن عبد السلام (ت660هـ) - بتحقيقنا تحت الطبع.
6 - تفسير الفخر الرازي (ت606هـ) - 32 جزءا - طبع عبد الرحمن محمد - بالقاهرة.
7 - تفسير القرطبي (ت 671 هـ) : الجامع لأحكام القرآن -20 جزءا - طبعة مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية - 1387هـ - 1967م.
8 - تفسير ابن كثير (ت774 هـ) - أربعة أجزاء - طبع عيسى الحلبي بمصر.
9 - تفسير الماوردي (ت450 هـ) : النكت والعيون - بتحقيق السيد خضر محمد خضر.(21/309)
نشر وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت (4 أجزاء - 1402هـ) .
10 - حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة للسيوطي (ت911هـ) تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم -جزءان- طبع عيسى الحلبي بمصر ط: 1 [1967م - 1387هـ] .
11 - الذيل على الروضتين لأبي شامة المقدسي (ت 665 هـ) طبع دار الجيل بيروت - ط: 2 - 1974 م.
12 - طبقات الشافعية للأسنوي (ت772 هـ) تحقيق عبد الله الجبوري - جزءان - مطبعة الإرشاد بغداد - ط \ 1 - 1391 هـ - 1971 م.
13 - طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (727 - 771 هـ) تحقيق محمود الطناحي وعبد الفتاح الحلو - عشرة أجزاء - طبع عيسى الحلبي - ط \ 1.
14 - طبقات المفسرين للداودي (ت945هـ) بتحقيق علي محمد عمر - جزءان - مطبعة الاستقلال الكبرى بمصر ط \ 1- 1392هـ - 1972م.
15 - العز بن عبد السلام حياته وآثاره ومنهجه في التفسير د. عبد الله إبراهيم الوهيبي - المطبعة السلفية بالقاهرة - 1399هـ.
16 - فوات الوفيات لابن شاكر الكتبي (ت764هـ) تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد - جزءان - مطبعة السعادة بمصر - 1951م.
17 - قصص الأنبياء لأبي إسحاق الثعلبي (ت427هـ) طبع عيسى الحلبي.(21/310)
الإسلام وعلاقته بالديانات الأخرى
للشيخ عثمان بن جمعة ضميرية (1)
دعوة عالمية بلغت ذروة الكمال:
شاء الله عز وجل أن تكون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة الرسالات السماوية، والتي اختصت عرفا بمدلول كلمة الإسلام كما أن كلمة (اليهودية) أو (الموسوية) تخص شريعة موسى عليه السلام، وما اشتق منها، وكلمة (النصرانية) أو (المسيحية) تخص شريعة عيسى عليه السلام وما تفرع عنها.
وهذه الرسالة التي أنزلها الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بلغت ذروة الكمال، وجاءت دعوة إنسانية عالمية، لا تخاطب قوما بأعيانهم، ولا جنسا بذاته، رضيها الله تعالى للناس دينا، فكانت هي (الدين) الكامل الذي أتم الله تعالى به علينا نعمته: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2) .
وبعد أن كان الموكب الكريم من الرسل والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يرفع راية التوحيد، ويهتف كل بقومه: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} (3)
__________
(1) ورد للكاتب ترجمة في العدد السادس عشر، صفحة 297
(2) سورة المائدة الآية 3
(3) سورة نوح الآية 2(21/311)
{يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (1) . . . إلخ، جاء خاتم النبيين وجامع كلمة المرسلين فجمع الرايات كلها تحت راية واحدة، وجعل ينادي الناس جميعا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (3) ، {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} (4) ، بل هو بلاغ لكل من بلغه خبره وانتهى إليه أمره في عصره وفي سائر العصور إلى يوم القيامة: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (5) ، والجن والإنس في هذا الخطاب والبلاغ سواء: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} (6) .
وقد فصل الله تعالى في القرآن الكريم سمات هذه الدعوة العالمية العامة، وعرضها على أعين الناس في كثير من آياته، فقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (7)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 59
(2) سورة البقرة الآية 21
(3) سورة النساء الآية 174
(4) سورة إبراهيم الآية 52
(5) سورة الأنعام الآية 19
(6) سورة الأنعام الآية 130
(7) سورة الأعراف الآية 158(21/312)
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (1) ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (2) ، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (3) .
وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عموم بعثته وعالمية دعوته فقال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض طيبة وطهورا ومسجدا، فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة (4) » .
وقال عليه الصلاة والسلام: «فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون (5) » .
__________
(1) سورة سبأ الآية 28
(2) سورة النساء الآية 170
(3) سورة الفرقان الآية 1
(4) أخرجه البخاري، 1 \ 436، في التيمم ومسلم، واللفظ له، 1 \ 370 كتاب المساجد، وفي رواية أخرى بلفظ: وأرسلت إلى الخلق كافة. والنسائي 1 \ 210 - 211 في الغسل، والدارمي 1 \ 322 في الصلاة، والآجري في الشريعة 498، وانظر مجمع الزوائد 8 \ 258، 259.
(5) أخرجه مسلم 1 \ 371 في المساجد، والترمذي 3 \ 56 في السير، وأحمد في المسند 2 \ 412، وانظر: إرواء الغليل للألباني 1 \ 315 - 317(21/313)
خاتم النبيين:
ومن ثم كان محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء والمرسلين، وكانت(21/313)
رسالته خاتمة الرسالات جميعا: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (1) .
ويصور الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ختم رسالته للرسالات السابقة، وكيف أتم البناء الذي تعاقبت عليه رسل الله الكرام، فيقول: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتا، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين (2) » .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 40
(2) أخرجه البخاري 6 \ 558 في المناقب، ومسلم 4 \ 1790 في الفضائل، والترمذي 4 \ 225 في الأمثال، وأحمد في المسند 2 \ 137. والآجري في الشريعة 457، والطبراني في الأوسط، مجمع الزوائد 8 \ 269. ولأبي الأعلى المودودي كتاب ختم النبوة في ضوء الكتاب والسنة، وللندوي: النبي الخاتم(21/314)
ودعوته ناسخة للرسالات السابقة:
وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم قد أرسل من عند الله تعالى بدين بلغ ذروة الكمال الذي لا كمال بعده، وتوجه الخطاب فيه للعالمين كافة، وختم الله به الرسالات، فإن النتيجة المنطقية اللازمة لهذا الكمال ولتمام النعمة أنه تنقطع صلة الإنسانية عن سائر الرسالات والنبوات السابقة في طاعتها واتباعها - مع الإيمان بأصولها المنزلة - لا بما آلت إليه بعد التحريف على يد الأتباع.
فكل ما جاء به الأنبياء السابقون وعرضوه على الإنسانية ودعوها إلى اتباعه، قد نسخ برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وما من شك أن الإيمان بنبوتهم وصدق دعوتهم على وجه الإجمال لازم لا بد منه، إذ ما كانوا إلا دعاة(21/314)
إلى الإسلام، وما التصديق بدعوتهم إلا تصديق بالإسلام ولكن مع ذلك فقد انقطعت عنهم صلة الإنسانية في طاعتها واتباعها فعلا، وإنما ارتبطت برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وتعليمه وأسوته الحسنة، لأن الذي يقتضيه المبدأ:
أولا: أن لا تعود الإنسانية بحاجة إلى الناقص بعد أن جاءها الكامل.
وثانيا: أنه قد لعبت يد التحريف والإهمال بسيرة وتعاليم الأنبياء السابقين مما لم يعد من الممكن لأجله أن تتبعهم الإنسانية فعلا.
ومن هنا، فإن القرآن الكريم حيثما يأمر بطاعة الرسول واتباع أحكامه وأوامره، لا يأتي بكلمة (الرسول) و (النبي) إلا معرفتين بالألف واللام؛ لتكونا خاصتين بمحمد صلى الله عليه وسلم.
يقول الله تعالى مثلا: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) . ويقول: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (2) . ويقول أيضا: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (3) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 132
(2) سورة النساء الآية 59
(3) سورة النساء الآية 80(21/315)
والقرآن الكريم مهيمن على الكتب السابقة:
وكذلك فإن القرآن الكريم قد جعله الله تعالى مهيمنا على ما سبقه(21/315)
من الكتب السماوية، وهو كلمة الله الأخيرة لهذه البشرية، التي يجب أن يفيء إليها الناس كلهم حتى يكونوا مؤمنين، ومن ثم فكل اختلاف يجب أن يرد إلى هذا الكتاب ليفصل فيه، سواء كان هذا الاختلاف في التصور الاعتقادي بين أصحاب الديانات السماوية، أو في الشريعة التي جاء هذا الكتاب بصورتها الأخيرة، أو كان هذا الاختلاف بين المسلمين أنفسهم، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (1) .
وكما استعمل الله تعالى كلمتي (الرسول) و (النبي) معرفتين عند الأمر بطاعتهما، لتكون خاصة بمحمد صلى الله عليه وسلم ودالة على كماله، كذلك جاء لفظ (الكتاب) في هذه الآية للدلالة على القرآن الكريم الدلالة نفسها، فهو الكتاب الكامل الجدير بأن يسمى كتابا، وأن ينصرف إليه معنى الكتاب الإلهي الكامل الصادق عند الإطلاق، لحيازته جميع الأوصاف الكمالية لجنس الكتاب السماوي، وتفوقه على بقية أفراده، بعد أن استعمل في الآيات السابقة لهذه الآية لفظ التوراة والإنجيل للكتابين اللذين أنزلهما الله على موسى وعيسى عليهما السلام (2) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 48
(2) انظر: الظلال 6 \ 902، تفسير أبي السعود 2 \ 67، تفسير المنار لرشيد رضا 6 \ 410(21/316)
معنى هيمنة القرآن على ما سبقه:
وقد تنوعت عبارات المفسرين من السلف ومن بعدهم رحمهم الله تعالى في التعبير عن معنى هذه الهيمنة، فقالوا:
مهيمنا: أي مؤتمنا وشاهدا ورقيبا، وحاكما وقاضيا، ودالا ومصدقا، فالقرآن الكريم أمين على كل كتاب قبله، في أصله المنزل(21/316)
وهو بهذا حافظ لهذا الأصل لأنه يبين ما طرأ عليه من انحراف وما وافقه من الكتب المتداولة فهو حق، ويجوز أن تكون نسبته إلى الله تعالى صحيحة، وما خالفه وناقضه فهو باطل، ولا تكون نسبته إلى الله تعالى صحيحة، ويكون قد طرأ على الكتاب الذي فيه تلك المخالفة والتناقض تبديل وتحريف. وما جاء في القرآن الكريم، ولم يكن في الكتب المتداولة في أيديهم، المنسوبة إلى الله تعالى، فيكون ما جاء في القرآن هو الحق.
والقرآن الكريم شاهد على ما في تلك الكتب، يشهد لأصولها المنزلة بالصدق، ويشهد عليها وعلى أصحابها بما وقعوا فيه من نسيان حظ عظيم وإضاعته، وتحريف كثير مما بقي وتأويله، والإعراض عن العمل بها، كما نصت على ذلك آيات كثيرة في القرآن الكريم، وستأتي إشارات لذلك.
والقرآن الكريم رقيب على سائر الكتب السماوية المحفوظة عن التغيير، حيث يشهد لها بالصحة والثبات، ويقرر أصول شرائعها وما يتأبد من فروعها، ويعين أحكامها المنسوخة ببيان انتهاء مشروعيتها المستفادة من تلك الكتب وانقضاء وقت العمل بها.
ولا ريب في أن تمييز أحكامها الباقية على المشروعية أبدا عما انتهى وقت مشروعيته وخرج عنها من أحكام: هو معنى من معاني الهيمنة(21/317)
عليها فالقرآن حاكم على ما في تلك الكتب وقائم عليها وقاض عليها بالحق.
وهذه الأقوال في معنى الهيمنة متقاربة المعنى، فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله، جعل الله تعالى هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها وأشملها وأعظمها وأكملها، حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره، وهو الكتاب الذي لا ينسخ ولا يغير، ولهذا جعله الله تعالى شاهدا وأمينا وحاكما على ما سبقه من الكتب، وتكفل - سبحانه - بحفظه، وإذا كان بهذه المثابة، كانت شهادته على التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب المنزلة: حقا وصدقا (1) .
__________
(1) ابن كثير 2 \ 66، تفسير الخازن 2 \ 49- 50، الفخر الرازي 12 \ 16(21/318)
وجوه هذه الهيمنة:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فالسلف كلهم متفقون على أن القرآن هو المهيمن، المؤتمن الشاهد على ما بين يديه من الكتب، ومعلوم أن المهيمن على الشيء أعلى منه مرتبة. ومن أسماء الله تعالى (المهيمن) ، ويسمى الحاكم على الناس، القائم بأمورهم (المهيمن) . وقال بعض أهل اللغة: الهيمنة، القيام على الشيء والرعاية له، وأنشد:(21/318)
ألا إن خير الناس بعد نبيهم ... مهيمنه التاليه في العرف والنكر
يريد: القائم على الناس بالرعاية لهم.
وهكذا القرآن، فإنه:
أ- قرر ما في الكتب المتقدمة من الخبر عن الله وعن اليوم الآخر وزاد ذلك بيانا وتفصيلا.
ب- وبين الأدلة والبراهين على ذلك.
ج- وقرر نبوة الأنبياء كلهم ورسالة المرسلين.
د- وقرر الشرائع الكلية التي بعثت بها الرسل.
هـ- وجادل المكذبين بالكتب والرسل، جادلهم بأنواع الحجج والبراهين.
ووبين عقوبات الله لهم، ونصره لأهل الكتب المتبعين لها.
ز - وبين ما حرف منه وبدل، وما فعله أهل الكتاب في الكتب المتقدمة، وبين أيضا ما كتموه مما أمر الله ببيانه، وكل ما جاءت به النبوات بأحسن الشرائع والمناهج التي نزل بها القرآن، فصارت له الهيمنة على ما بين يديه من الكتب من وجوه متعددة.
فهو شاهد بصدقها، وشاهد بكذب ما حرف منها، وهو حاكم بإقراره ما أقره الله، ونسخ ما نسخه، فهو شاهد في الخبريات، حاكم في الأمريات.
وكذلك معنى (الشهادة) و (الحكم) يتضمن إثبات ما أثبته الله من صدق ومحكم، وإبطال ما أبطله من كذب ومنسوخ، وليس الإنجيل مع التوراة ولا الزبور بهذه المثابة، بل هي متبعة لشريعة التوراة إلا يسيرا(21/319)
مما نسخه الله بالإنجيل، بخلاف القرآن. ثم إنه معجز في نفسه، لا يقدر الخلائق أن يأتوا بمثله، ففيه دعوة الرسول، وهو آية الرسول وبرهانه على صدقه ونبوته، وفيه ما جاء به الرسول، وهو نفسه برهان على ما جاء به.
ولهذا لم تحتج الأمة مع رسولها وكتابها إلى نبي آخر وكتاب آخر، فضلا عن أن تحتاج إلى شيء - لا يستقل بنفسه - غيره (1) .
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 17 \ 43 - 45(21/320)
ليظهره على الدين كله:
وقد أخبر الله سبحانه ووعد بإظهار هذا الدين على سائر الأديان، فقال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (1) . فالله تعالى يعلي هذا الدين ويرفع شأنه على جميع الأديان بالحجة والبرهان والهداية والعرفان، والعلم والعمران، وكذا السيادة والسلطان، ولم يكن لدين من الأديان مثل هذا التأثير الروحي والقعلي والمادي والاجتماعي والسياسي إلا للإسلام (2) . ولقد صح عن النبي عليه الصلاة والسلام الوعد بإظهار الدين ونصره والتمكين لأهله (3) ، وقد تحقق هذا الوعد الصادق بإذن الله.
__________
(1) سورة التوبة الآية 33
(2) انظر تفسير المنار لرشيد رضا 10 \ 175
(3) ذكر الإمام ابن كثير جملة من هذه الأحاديث في التفسير 2 \ 250 - 251(21/320)
دعوة أهل الكتاب للإيمان بمحمد:
ولأجل هذا فإن الله تعالى يأمر بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وطاعته(21/320)
واتباع شريعته، حتى الأمم المؤمنة برسالة نبي من الأنبياء السابقين فإن القرآن يوجه إليها هذا الخطاب أيضا، يقول الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (1) {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2) ، ويقول سبحانه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (4) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 15
(2) سورة المائدة الآية 16
(3) سورة الأعراف الآية 157
(4) سورة الأعراف الآية 158(21/321)
تهديد ووعيد. . .
ثم يأتي التهديد والوعيد الشديد لمن يعرض منهم عن الإيمان بما نزل الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} (1) .
وتأتي سورة البينة لتقرر ما كان عليه أهل الكتاب والمشركون الذين كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم من الانحراف عن دين الله ومنهجه، وتقرر
__________
(1) سورة النساء الآية 47(21/321)
أنهم يعلقون تحولهم وانفكاكهم عما هم عليه من الانحراف والكفر على بينة واضحة، هي بعثة نبي جديد، تكون سبب هدايتهم وتحويلهم عما هم عليه من ضلال وانحراف. ولكن عندما جاءتهم الهداية ممثلة بالكتاب المنزل؛ القرآن الكريم، والنبي المرسل محمد صلى الله عليه وسلم - كفروا بهما، فاستمروا على كفرهم وانحرافهم، واستحقوا أن يدفعهم القرآن الكريم بأنهم: {هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} (1) {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (2) .
وجاءت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تبين هذا المعنى، وتوجب على كل من يسمع به أن يؤمن به ويتبعه ويترك ما كان من شريعة سابقة انتهى العمل بها بعد مجيء محمد خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، فقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة - يهودي أونصراني - ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار (3) » .
ودخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما على النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب فيه مواعظ من التوراة، فقال: هذه كنت أصبتها مع رجل من أهل الكتاب. فقال: فاعرضها علي. فعرضتها، فتغير وجهه تغيرا شديدا، ثم قال: «لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم، أنا حظكم من النبيين وأنتم حظي من الأمم (4) » .
__________
(1) سورة البينة الآية 7
(2) سورة البينة الآية 8
(3) أخرجه مسلم 1 \ 134 في الإيمان، والطبراني والبزار وأحمد، مجمع الزوائد للهيثمي 8 \ 262
(4) أخرجه أحمد في المسند 3 \ 471، والدارمي والبيهقي في الشعب، مجمع الزوائد 1 \ 173- 174، البيان والتعريف لابن حمزة الحسيني 1 \ 172. واستقصى الشيخ ناصر الدين الألباني طرق الحديث، وقال: هو على أقل تقدير حديث حسن. والله أعلم، انظر إرواء الغليل 6 \ 34- 37(21/322)
ومؤمن أهل الكتاب الذي يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم له أجره مرتين، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب، آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم، فآمن به واتبعه وصدقه، فله أجران، وعبد مملوك أدى حق الله تعالى وحق سيده، فله أجران، ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثم أدبها فأحسن أدبها، ثم أعتقها وتزوجها، فله أجران (1) » .
وعندما ينزل عيسى عليه السلام في آخر الزمان بين يدي الساعة، ينزل حاكما بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فما عذر أهل الكتاب في عدم إيمانهم به واتباعهم له صلى الله عليه وسلم؟ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية (3) » .
__________
(1) أخرجه البخاري 1 \ 190 في العلم، ومسلم 1 \ 134- 135 في الإيمان والترمذي 2 \ 392 في النكاح والنسائي 6 \ 115 في النكاح
(2) البخاري 4 \ 414 في البيوع، ومسلم 1 \ 135 - 136 في الإيمان، والترمذي 3 \ 344 في الفتن، وابن ماجه 2 \ 1363 في الفتن أيضا، وأحمد في المسند 2 \ 240 وفي مواضع أخرى، والبغوي في التفسير 1 \ 300.
(3) (2) ويفيض المال حتى لا يقبله أحد(21/323)
مواقف إيجابية حكاها القرآن الكريم:
ولكن فريقا من أهل الكتاب، من الذين فتح الله قلوبهم للحق والإيمان، وأبصارهم للهدى والنور، فأدركوا حقيقة الدعوة التي(21/323)
انتظروها والنبي الذي كانوا يستفتحون به، هذا الفريق قد آمن فعلا بمحمد صلى الله عليه وسلم واتبعه، ولم لا يؤمنون وقد قامت الأدلة كلها على صدق هذا النبي، بعد أن بشرت به كتبهم ورأوا أعلام نبوته - صلى الله عليه وسلم - وقد حكى الله تعالى ذلك وسجله فقال: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} (1) {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} (2) {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (3) ، وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} (4) {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} (5) {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (6) {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (7) ، {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (8) . . . إلخ آيات كثيرة في هذا المعنى، وسيأتي بعضها أيضا في مناسبات أخرى.
وحفظها الواقع التاريخي:
ويحفظ لنا الواقع التاريخي تصديق ذلك، بإسلام أكثر أهل العقول والأحلام والعلوم ممن لا يحصيهم إلا الله، من أولئك الذين عرفوا الحق
__________
(1) سورة الإسراء الآية 107
(2) سورة الإسراء الآية 108
(3) سورة الإسراء الآية 109
(4) سورة القصص الآية 52
(5) سورة القصص الآية 53
(6) سورة القصص الآية 54
(7) سورة القصص الآية 55
(8) سورة آل عمران الآية 199(21/324)
من أهل الكتاب، فرقعة الإسلام إنما انتشرت في الشرق والغرب بإسلام أكثر الطوائف، فدخلوا في دين الله أفواجا، حتى صار الكفار معهم تحت المذلة والصغار، والذين أسلموا من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين أكثر من الذين لم يسلموا وإنما بقي منهم أقل القليل، وقد دخل في دين الله من ملوك الطوائف ورؤسائهم في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلق كثير (1) .
ونحن نجتزئ هنا بأمثلة من أولئك الرؤساء والمقدمين في دين النصرانية واليهودية، نشير إليها إشارات سريعة لتكون عنوانا ودليلا على ما سواها:
أ- فهذا النجاشي ملك النصارى على إقليم الحبشة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لما تبين له أنه رسول الله آمن به، ودخل في دينه، وآوى أصحابه ومنعهم من أعدائهم، ولما مات أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالساعة التي توفي فيها، ثم خرج بهم إلى المصلى وصلى عليه، وقصته مشهورة ومعروفة.
ب- وعدي بن حاتم، كان من رؤساء النصارى الذين دخلوا في الإسلام لما تبين أنه الحق، وقد كان عدي رئيسا مطاعا في قومه يأخذ المرباع من غنائمهم، وقد وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - ودخل في الإسلام.
__________
(1) هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن القيم: 498 ضمن مجموعة الجامع الفريد(21/325)
ج- وسلمان الفارسي: رضي الله عنه، كان قبل إسلامه من أعلم النصارى بدينهم؛ لأنه فر من دين المجوسية ولحق بنصارى الشام، وخالط كبار رجال النصرانية عن كثب، وعرف الصالح منهم ورجل السوء، حتى انتهى إلى آخر واحد في عمورية من رجال الدين النصراني، ولما حضر أمر الله أوصى سلمان فقال: يا بني ما أعلمه أصبح على مثل ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفى، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل. وقد كان ذلك، وأدرك سلمان - رضي الله عنه - نبوة محمد عليه السلام وأسلم (1) .
د- وكذلك: ابنا الجلندى: جيفر وعبد، ملكا عمان وما حولها من ملوك النصارى يومئذ، لما دعاهما النبي عليه الصلاة والسلام إلى الإسلام، أسلما وصدقا النبي صلى الله عليه وسلم (2) .
هـ - وكان هرقل، ملك الشام، أحد أكابر علمائهم بالنصرانية، قد عرف أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رسول الله حقا، وعزم على الإسلام، فأبى عليه عباد الصليب، فخافهم على نفسه وضن بملكه مع علمه بأنه سينقل عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته، وقصته معروفة مشهورة.
__________
(1) مسند أحمد: 5 \ 438 و441، سيرة ابن هشام: 1 \ 142-144
(2) طبقات ابن سعد 1 \ 262- 263(21/326)
ووكذلك كان ملك دين النصرانية بمصر - المقوقس - عرف أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي صادق ولكن منعه من اتباعه أيضا ملكه، وأن عباد الصليب لا يتركون عبادة الصليب، وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: «ضن الخبيث بملكه ولا بقاء لملكه (1) » .
ز - وقصة إسلام عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - معروفة مشهورة، وقد كان حبرا من أحبار يهود، وكان سيدهم وابن سيدهم، وعالمهم وابن عالمهم باعترافهم له بذلك وشهادتهم له.
ح - وتذكر كتب السيرة مقالة حيي بن أخطب، وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم مقدمه من مكة إلى المدينة، وفيها أنه هو - صلى الله عليه وسلم - النبي المنتظر وأنه يعرفه ويثبته، ولكن الحسد والحقد أمليا عليه موقف العداوة أبدا (2) .
ولما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن شعبة وأسد بن سعية وأسيد بن عبيد ومن أسلم من اليهود، فآمنوا وصدقوا، ورغبوا في الإسلام، قال من كفر من اليهود: ما آمن بمحمد ولا اتبعه إلا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره. فأنزل الله عز وجل في ذلك (3) :
__________
(1) طبقات ابن سعد 1 \ 260، تاريخ الطبري 2 \ 645- 246، نصب الراية للزيلعي 4 \ 421 - 422، والوثائق السياسية للدكتور محمد حميد الله: 135 - 139
(2) سيرة ابن هشام مع الروض الأنف 2 \ 26
(3) تفسير الطبري 7 \ 120- 121 تحقيق محمود شاكر، روح المعاني للآلوسي 4 \ 33(21/327)
{لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (1) {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} (2) .
وفي العصر الحديث:
وفي العصور الحديثة نجد أمثلة كثيرة على ذلك، من أولئك الذين يدخلون في دين الإسلام ولا يستكبرون عن عبادة الله، وهم من المقدمين في قومهم النصارى؛ فيهم علماء دينهم، ورجال الدولة والسياسة، وفيهم العلماء ورجال الفكر الثاقب، وفيهم الكتاب والأدباء والمصلحون والوعاظ ورجال الاجتماع وغيرهم.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 113
(2) سورة آل عمران الآية 114(21/328)
لا يتحقق إيمان اليهود والنصارى إلا بإيمانهم بمحمد عليه السلام:
ولا يتحقق أصلا إيمان اليهود والنصارى إلا بإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباعه في دينه الذي أنزله الله، وإلا فما هم بمؤمنين ولا مسلمين، فاليهود الذين آمنوا بموسى عليه السلام وصدقوا بكتابه، أو آمنوا بالرسل قبله كانوا مسلمين لله حتى أنزل الله شريعة عيسى، فوجب عليهم - ليحققوا إيمانهم - أن يؤمنوا به ويتبعوه وينفكوا عن الشريعة السابقة، وكلاهما عند بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - وجب عليهم ليكونوا مسلمين أن يؤمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، فإن لم يفعلوا فما هم بمؤمنين ولا مسلمين، وذلك أنهم أنكروا نبوة رسول من عند الله تعالى ورفضوا الإيمان برسالة أنزلها الله تعالى.(21/328)
الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم شرط للإيمان بنبوة الأنبياء جميعا:
فالإيمان بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - شرط للإيمان بنبوة الأنبياء جميعا عليهم السلام، إذ لا يمكن الإيمان بنبي من الأنبياء أصلا مع جحود نبوة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن جحد نبوته فهو لنبوة غيره من الأنبياء أشد جحدا. وهذا يتبين بوجوه:
الوجه الأول: أن الأنبياء المتقدمين بشروا بنبوته، وأمروا أممهم بالإيمان به، فمن جحد نبوته فقد كذب الأنبياء قبله فيما أخبروا به، وخالفهم فيما أمروا وأوصوا به من الإيمان به. والتصديق به لازم من لوازم التصديق بهم، وإذا انتفى اللازم انتفى ملزومه قطعا، وبيان الملازمة هي الوجوه الكثيرة التي تلي هذا مباشرة، وهي تفيد بمجموعها القطع على أنه صلى الله عليه وسلم قد ذكر في الكتب الإلهية على ألسن الأنبياء.
الوجه الثاني: أن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم هي دعوة جميع المرسلين قبله، من أولهم إلى آخرهم، فالمكذب بدعوته مكذب بدعوة إخوانه كلهم، وهذا التكذيب كفر، فوجب الإيمان بدعوته عليه السلام واتباعه.
الوجه الثالث: أن الآيات والبراهين التي دلت على صحة نبوته وصدقه - عليه الصلاة والسلام - أضعاف أضعاف آيات من قبله من الرسل، فليس لنبي من الأنبياء آية توجب الإيمان به إلا ولمحمد صلى الله عليه وسلم مثلها أو ما هو في الدلالة مثلها، وإن لم يكن من جنسها، فآيات نبوته عليه الصلاة والسلام أعظم وأكبر، والعلم بنقلها قطعي، لقرب العهد وكثرة النقلة واختلاف أمصارهم وأعصارهم واستحالة تواطئهم على(21/329)
الكذب، فالعلم بآيات نبوته كالعلم بنفس وجوده وظهوره، فإذا جاز القدح في ذلك كله، فالقدح في وجود عيسى وموسى وآيات نبوتهما أشد جوازا، وإن امتنع القدح فيهما وفي آيات نبوتهما فامتناعه في محمد صلى الله عليه وسلم وآيات نبوته أشد (1) .
__________
(1) هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن القيم 659 - 660، وانظر: الجواب الصحيح 1 \ 350(21/330)
ولو لم يظهر محمد لبطلت نبوة الأنبياء:
ولو لم يظهر محمد صلى الله عليه وسلم لبطلت نبوة سائر الأنبياء، فظهور نبوته تصديق لنبواتهم وشهادة لها بالصدق، فإرساله من آيات الأنبياء قبله، وقد أشار الله سبحانه إلى هذا المعنى بعينه في قوله: {جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} (1) ، فإن المرسلين بشروا به وأخبروا بمجيئة، فمجيئه هو نفس صدق خبرهم، فكان مجيئه تصديقا لهم، إذ هو تأويل ما أخبروا به، ولا تنافي بين هذا وبين القول الآخر: إن تصديقه المرسلين شهادته بصدقهم وإيمانه بهم، فإنه صدقهم بقوله ومجيئه، فشهد بصدقهم بنفس مجيئه، وشهد بصدقهم بقوله، ومثل هذا قول المسيح فيما حكاه الله تعالى في القرآن الكريم عنه: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (2) . فإن التوراة لما بشرت به وبنبوته كان نفس ظهوره تصديقا لها، ثم بشر برسول يأتي من بعده، فكان ظهور الرسول المبشر به تصديقا له، كما كان ظهوره تصديقا للتوراة، فعادة الله في رسله أن السابق يبشر باللاحق، واللاحق يصدق السابق، فلو لم يظهر محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبعث لبطلت نبوة الأنبياء قبله (3)
__________
(1) سورة الصافات الآية 37
(2) سورة الصف الآية 6
(3) هداية الحيارى لابن القيم 634- 635.(21/330)
عهد وميثاق
ومن حكمة الله سبحانه أنه ما بعث نبيا إلا وقد أخذ عليه وعلى أتباعه العهد أن يؤمنوا بالنبي الذي يأتي بعده ويصدقوه وينصروه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (1) {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2) . فقد أخبر الله تعالى أنه أخذ الميثاق من أنبيائه بتصديق بعضهم بعضا، وأخذ الأنبياء على أممهم وأتباعهم الميثاق بنحو الذي أخذ عليها ربها من تصديق أنبياء الله ورسله بما جاءتها به، لأن الأنيباء عليهم السلام أرسلوا بذلك إلى أممهم، ولم يدع أحد ممن صدق المرسلين أن نبيا أرسل إلى أمة بتكذيب أحد من أنبياء الله عز وجل وحججه في عباده، بل كلها - وإن كذب بعض الأمم بعض أنبياء الله بجحودها نبوته - مقرة بأن من ثبتت صحة نبوته فعليها الدينونة بتصديقه، فذلك ميثاق مقر به جميعهم (3) .
آتى الله أحدهم من كتاب وحكمة وبلغ أي مبلغ، ثم جاء رسول من بعده لا بد أن يؤمن به ولينصره، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده ونصرته، وها قد بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم، وجاء مصدقا لما بين يديه من الكتاب وقد أخذ الله
__________
(1) سورة آل عمران الآية 81
(2) سورة آل عمران الآية 82
(3) تفسير الطبري 6 \ 557 بتحقيق محمود شاكر(21/331)
الميثاق والعهد على أهل الكتاب أن يؤمنوا به، فوجب الوفاء بذلك الميثاق والعهد، واكتفى - سبحانه - بذكر الأنبياء في الآية لأن العهد على المتبوعين عهد على الأتباع، ولأنه إذا وجب على الأنبياء الإيمان به ونصره فوجوب ذلك على من اتبعهم أولى وأحرى.
وهذا هو معنى ما روي عن علي بن أبي طالب وابن عباس - رضي الله عنهما - حيث قالا: ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بعث الله محمدا وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته: لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه.(21/332)
بشارات الكتب السابقة بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام:
وليس لأهل الكتاب أي عذر في عدم إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد بشرت كتبهم بنبوته وأشارت إلى ذلك، نجد هذا حكاية عنهم في القرآن الكريم، ونجد له شاهدا من الواقع التاريخي منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتفق هذا كله مع النصوص في كتبهم التي يعتمدون هم عليها، سواء في العهد القديم أوالجديد. وإليك شيئا من البيان لذلك كله:
حكى الله تعالى ذلك في القرآن الكريم:
أما القرآن الكريم، فقد حكى الله تعالى أن التوراة والإنجيل قد احتوى كل منهما على إشارات إلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته وصفته وصفة(21/332)
أصحابه. فقال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) . {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (2) . {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (3) .
وهم يعلمون صدقه - عليه الصلاة والسلام - وصدق الكتاب الذي أنزل عليه، فترى علماءهم الصادقين يقرون بذلك، وإنهم ليعلمون أنه الحق من ربهم فيصدقونه، وإذا تلا عليهم الآيات تراهم يخرون للأذقان سجدا: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (4) . {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} (5) {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} (6) {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (7) .
وهذه صفته عليه الصلاة والسلام وصفة أصحابه عندهم في كتبهم، كما حكاها الله تعالى في القرآن الكريم:
__________
(1) سورة الأعراف الآية 157
(2) سورة البقرة الآية 89
(3) سورة الشعراء الآية 197
(4) سورة المائدة الآية 83
(5) سورة الإسراء الآية 107
(6) سورة الإسراء الآية 108
(7) سورة الإسراء الآية 109(21/333)
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (1) .
وحكى الله تعالى بشارة عيسى عليه السلام بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فقال: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (2) .
وتجمعت هذه الشواهد كلها لتعطي أهل الكتاب علما يقينيا بمعرفة نبوته صلى الله عليه وسلم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (3) .
ولكن فريقا منهم يكتمون هذا الحق والعلم اليقيني مع علمهم بأنه حق، وفي هذا ما فيه من البشاعة والجحود، فقال الله تعالى عنهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (4) .
وبعد شهادة الله تعالى ليس هناك شهادة، فهو سبحانه أصدق القائلين وخير الشاهدين.
__________
(1) سورة الفتح الآية 29
(2) سورة الصف الآية 6
(3) سورة الأنعام الآية 20
(4) سورة البقرة الآية 146(21/334)
ولهذه البشارات شواهد سجلها التاريخ:
ولتقوم الحجة على أهل الكتاب أكثر نستدعي شهودا منهم، وهم أولئك الذين سجل التاريخ شهاداتهم واعترافاتهم بأنهم ينتظرون نبيا سوف يبعثه الله، وقد بشرت به كتبهم، فقد سبقت آنفا الإشارة إلى عدد من رؤساء النصارى الذين أسلموا في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام لما بلغتهم دعوته، لأنهم عرفوها أولا وعرفوا نبيها من كتبهم التي بشرت به، فما كانوا يرجمون الغيب، بل يعترفون بحق وجدوه مجسدا في كتبهم:
فهذا إمبراطور الروم يكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في جوابه لكتاب النبي الذي يدعوه فيه إلى الإسلام: " وإني أشهد أنك رسول الله، نجدك عندنا في الإنجيل، بشرنا بك عيسى ابن مريم ". وفي كتاب آخر يقول: " قد كنت أعلم أنه خارج، ولكن لم أظنه منكم، ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه " (1) .
وهذه الحجة يقيمها المسلمون على النجاشي من الإنجيل، فلا يعترض على ذلك ولا يرده، فقد قال له عمرو: ". . . وقد أخذنا الحجة عليك من فيك، الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد وقاض لا يجور، وفي ذلك موقع الحز وإصابة المفصل، وإلا فأنت في هذا النبي كاليهود في عيسى ابن مريم ". فقال النجاشي: أشهد بالله إنه للنبي الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب، وإن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل، وإن العيان ليس بأشفى من الخبر " (2) .
__________
(1) انظر الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة د. محمد حميد الله 111-114
(2) انظر فيما سيأتي البشارة الثالثة في كتاب أشعياء من العهد القديم(21/335)
وهذا المقوقس عظيم القبط في مصر يقول في كتابه للرسول صلى الله عليه وسلم: وقد علمت أن نبيا قد بقي وكنت أظن أنه يخرج بالشام (1) . فما الذي أعلمه بذلك؟ هل كان يرجم الغيب ويتبع الظنون والأوهام؟
وهذا (مري) حاجب الحارث بن أبي شمر الغساني يقول لشجاع بن وهب رضي الله عنه: " إني قرأت في الإنجيل، وأجد صفة هذا النبي بعينه، فكنت أراه يخرج بالشام، فأراه قد يخرج بأرض العرب. وهذه الشهادة صريحة في أنه وجد صفة النبي بعينه في الإنجيل.
وذاك رجل الدين النصراني في عمورية الذي لازمه سلمان بوصية من سلفه الذي هو على دينه، يقول عندما حضرته الوفاة: " ولكنه قد أظلك زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض بين حرتين فيهما نخل، به علامات لا تخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة.
وخالدة بنت الحارث اليهودية عمة عبد الله بن سلام تقول له وتسأله لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة: يا ابن أخي أهو النبي الذي كنا نبشر به أنه يبعث مع نفس الساعة؟ قال: فقلت لها: نعم، ثم أسلمت. فقولها: نبشر به، دليل على أن هناك بشارة، فمن أين جاءت إن لم تكن في كتبهم يعرفها علماؤهم؟
وذاك أيضا أبو ياسر بن أخطب يقول لقومه بعد أن سمع من النبي وحادثه: يا قوم أطيعوني، فإن الله عز وجل قد جاءكم بالذي كنتم تنتظرون، فاتبعوه ولا تخالفوه.
__________
(1) الوثائق السياسية، 136.(21/336)
فهذه شهادتهم القولية، وتلك شهادتهم الواقعية، اتفقتا معا على تأكيد ما نجد من إشارات إلى بعثته عليه الصلاة والسلام في كتبهم التي بين أيديهم اليوم رغم كل ما أصابها من تحريف وتزوير، ورغم الكتمان لكثير منها.(21/337)
ملاحظات بين يدي البشارات:
ونحن نجتزئ من هذه البشارات ببعضها - ليكون ذلك عنوانا على غيرها - ونقدم بين يدي هذه البشارات بعض الملاحظات المتعلقة بهذه البشارات وطبيعتها وتفسيرها:
1 - مع إيماننا بأن ما بين أيدي أهل الكتاب من اليهود والنصارى من الكتب ليس هو الكتاب الذي أنزله الله تعالى وحيا على موسى وعيسى عليهما السلام، ورغم ما وقع فيهما على أيدي الأتباع من كتمان وتحريف، فهم يلبسون الحق بالباطل ويخلطونه به بحيث لا يتميز الحق من الباطل، ويكتمون الحق ويخفونه ويحرفون الكلم عن مواضعه لفظا ومعنى، ويلوون ألسنتهم بالكتاب ليلبسوا على السامعين اللفظ المنزل بغيره، رغم هذا كله فإن إشارات كثيرة لا تزال بين طيات هذه الكتب، تحمل النبوءات والبشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكأن الله تعالى أبقاها ليخزيهم ويظهر ما هم عليه من باطل ولتقوم عليهم الحجة من كتبهم التي يقدسونها، ولما كثرت هذه البشارات وما استطاعوا كتمانها كلها(21/337)
أخذوا يحرفون فيها ويؤولون تأويلات باردة ليصرفوها عن معناها الحقيقي الدال على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وليجعلوا بعضها خاصا بعيسى عليه السلام!
2 - هذه البشارات على نوعين:
منها ما يكون إشارات مجملة -غالبا- ولا تنطق باسمه صلى الله عليه وسلم واسم بلده مثلا، بل تذكر صفته ونعته ونعت أمته ومخرجه، وشيئا من صفات دعوته ورسالته وثمراتها، ويكون في هذا أبلغ دلالة على المطلوب من ذكره باسمه الصريح، فإن الاشتراك قد يقع في الاسم فلا يحصل به التعريف والتمييز، ولا يشاء أحد، يسمى بهذا الاسم، أن يدعي أنه هو إلا فعل، إذ الحوالة إنما وقعت على مجرد الاسم، وإن كان هذا الإخبار مجملا غير واضح عند العوام من الناس فإنه يصير عند الخواص جليا بواسطة القرائن التي تحف به وقد يبقى خفيا عليهم أيضا لا يعرفون مصداقة إلا بعد ادعاء النبي اللاحق أن النبي المتقدم أخبر عنه صدق ادعائه بظهور علامات النبوة والمعجزات على يديه.
ومن هذه البشارات ما يكون تفصيلا تاما بالاسم الصريح للنبي وبلده. . . إلخ، وهذا يتفق مع ما حكاه الله تعالى على لسان بعض أنبيائه في القرآن الكريم من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وسيأتي أمثلة على كلا النوعين إن شاء الله تعالى.
3 - قد يدعي بعض أهل الكتاب أنهم ما كانوا ينتظرون نبيا آخر غير عيسى وإيلياء، ولذلك - بزعمهم - لا تنطبق البشارات على محمد عليه الصلاة والسلام، إذ عيسى عندهم خاتم الأنبياء، وهذا زعم باطل وادعاء لا أصل له، بل كانوا ينتظرون نبيا جديدا غيرهما، يدل على ذلك ما جاء في إنجيل يوحنا: " وهذه هي شهادة يوحنا حين أرسل(21/338)
اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه: من أنت؟ فاعترف ولم ينكر، واعترف: إني لست أنا المسيح، فسألوه: إذن ماذا، أإيليا أنت؟ فقال: لست إياه. فسألوه: أنت النبي؟ فأجاب: كلا. فقالوا له: من أنت؟ لنعطي جوابا للذين أرسلونا، ماذا تقول عن نفسك؟ قال: أنا صوت صارخ في البرية، قوموا طريق الرب كما قال أشعياء النبي " (1) .
فعلماء اليهود المعاصرين لعيسى عليه السلام سألوا يحيى عليه السلام: أولا هل أنت المسيح؟ ولما أنكر سألوه: أنت إيلياء؟ ولما أنكر سألوه: أنت النبي؟ أي النبي المعهود الذي أخبر به موسى، فعلم أن هذا النبي كان منتظرا قبل المسيح وإيلياء، وكان مشهورا بحيث لم يكن محتاجا إلى ذكر الاسم، بل الإشارة إليه كافية.
وإذا كانوا ينتظرون نبيا آخر غير عيسى وإيلياء، فيعلم من هذا قطعا أن عيسى عليه السلام ليس خاتم الأنبياء، ثم إنهم يعترفون بنبوة الحورايين وبولس، بل بنبوة غيرهم أيضا، فكيف يكون عيسى خاتم الأنبياء بزعمهم (2) .
4 - الأخبار والبشارات التي نقلها المسيحيون في حق عيسى عليه السلام، لا تصدق عليه بناء على تفاسير اليهود وتأويلاتهم لها، ولذلك فهم ينكرونه أشد الإنكار، وعلماء المسيحية لا يلتفتون إلى تفسيرات اليهود في هذا الشأن وتأويلاتهم، ويفسرونها بحيث تصدق على عيسى عليه السلام، ولئن كانت هذه التأويلات بنظر المسيحيين غير صحيحة
__________
(1) إنجيل يوحنا، الفصل الأول، رقم 19- 23 طبع الكاثوليكية بيروت، ص155
(2) راجع: إظهار الحق للشيخ رحمة الله 505 - 507(21/339)
وغير لائقة، كذلك تأويلات المسيحيين في الإخبارات التي هي في حق محمد صلى الله عليه وسلم مردودة غير مقبولة، وسيظهر أن الإخبارات أو البشارات التي ستأتي في حق محمد صلى الله عليه وسلم أظهر صدقا من تلك التي نقلها الإنجيليون في حق عيسى عليه السلام (1) .
ومن هنا قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فالمسلمون يؤمنون بالمسيح الصادق الذي جاء من عند الله بالهدى ودين الحق، الذي هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. والنصارى إنما تؤمن بمسيح دعا إلى عبادة نفسه وأمه، وأنه ثالث ثلاثة، وأنه الله وابن الله، وهذا هو أخو المسيح الكذاب لو كان له وجود، فإن المسيح الكذاب يزعم أنه الله. والنصارى - في الحقيقة - أتباع هذا المسيح، كما أن اليهود ربما ينتظرون خروجه، وهم يزعمون أنهم ينتظرون النبي الذي بشروا به (2) ، فالنصارى آمنوا بمسيح لا وجود له، واليهود ينتظرون المسيح الدجال!
5 - من عادة أهل الكتاب، سلفا وخلفا، أنهم يترجمون - غالبا - الأسماء في تراجمهم ويوردون بدلها معانيها، وتارة يزيدون شيئا بطريق التفسير في الكلام، دون إشارة إلى هذه الزيادة، وهذا يجعل الأسماء المترجمة محرفة وغامضة، وفي كتبهم شواهد كثيرة على ذلك، فلا عجب إذن أن يحرفوا ويبدلوا اسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم بلفظ آخر، بحيث يخل ذلك بالاستدلال، جريا على عادتهم السالفة وعنادا وجحودا.
ولذلك لم تكن النسخ المتداولة لكتبهم متفقة، إذ قد يوجد في
__________
(1) إظهار الحق للشيخ رحمة الله 507 - 508
(2) هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن القيم 540(21/340)
نسخة ما لا يوجد في غيرها، ومن هنا نجد نقولات من تراجم كتبهم التي كانت متداولة في العصور السالفة، نقلها علماء أعلام من المسلمين ليحاجوا أهل الكتاب، قد لا نجدها موافقة في بعض الألفاظ أو في كثير منها للتراجم المشهورة الآن، بسبب ذلك التغيير في الترجمة والتحريف فيها.
فمثلا، ناقش الإمام ابن حزم النصارى ونقل نصوصا كثيرة عنهم من الأناجيل، في كتابه الفصل في الملل. ليبين تضاربها وتناقضها مع بعضها، وكذلك فعل شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم، والإمام الغزالي والقرطبي، وأبو عبيدة الخزرجي، وغيرهم من العلماء، نقلوا نصوصا من كتب النصارى قد لا نجدها موافقة في ألفاظها للإنجيل الموجود عندهم حاليا، وبالطبع لو أن أحدا من أولئك العلماء المسلمين قد غير أو كذب فيما نقل لبين النصارى ذلك وردوه.
وبعد هذه الملاحظات التمهيدية، نعرض بعضا من تلك الإشارات لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب السابقة، مجتزئين بما هو واضح الدلالة منها على مطلوبنا ونختارها من كتب متعددة بما فيها الأناجيل الحالية.(21/341)
البشارة الأولى:
جاء في التوراة: " أقبل الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير [ساعير] وتجلى من جبل فاران، وأتى من ربى القدس، وعن يمينه قبس شريعة لهم ".(21/341)
وهذه البشارة واضحة الدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوة عيسى وموسى عليهما السلام. فمجيء الرب أو تجليه من طور سيناء، هو إنزاله التوراة على موسى عليه السلام من طور سينا، وإشراقه من ساعير، وهي جبال بفلسطين، هو إنزاله الإنجيل على عيسى عليه السلام وتجليه أو استعلانه من جبال فاران، إنزاله القرآن الكريم على محمد صلى الله عليه وسلم.
وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة، وقد جاء في التوراة أيضا أن إبراهيم عليه السلام أسكن هاجر وإسماعيل " فاران "، فأي نبي بعد عيسى عليه السلام نزل عليه كتاب واستعلن له الله من فاران غير محمد صلى الله عليه وسلم؟
فالمراد باستعلان الرب من " فاران " هو إرسال محمد صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر سبحانه إنزال الكتب الثلاثة بهذا الترتيب: التوراة ثم الإنجيل ثم القرآن، وكان مجيء التوراة مثل طلوع الفجر أو ما هو أظهر من ذلك، ونزول الإنجيل مثل إشراقة الشمس، ازداد به النور والهدى.
وأما نزول القرآن، فهو بمنزلة ظهور الشمس في السماء، ولهذا قال: واستعلن من جبال فاران - في إحدى التراجم - فإن النبي صلى الله عليه وسلم ظهر به نور الله وهداه في مشرق الأرض ومغربها، أعظم مما ظهر(21/342)
بالكتابين المتقدمين كما يظهر نور الشمس إذا استعلنت في مشارق الأرض ومغاربها، ولهذا سماه الله سراجا منيرا، وسمى الشمس سراجا وهاجا.
وهذه الأماكن الثلاثة أقسم الله تعالى بها في القرآن، في قوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} (1) {وَطُورِ سِينِينَ} (2) {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} (3) فأقسم الله تعالى بالتين والزيتون، أي بالأرض المقدسة التي ينبت فيها ذلك، ومنها بعث المسيح وأنزل عليه فيها الإنجيل. وأقسم بطور سيناء، وهو الجبل الذي كلم الله فيه موسى وناداه من واديه الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة، وأقسم بالبلد الأمين، وهي مكة، والبلد الذي أسكن إبراهيم فيه ابنه إسماعيل وأمه.
__________
(1) سورة التين الآية 1
(2) سورة التين الآية 2
(3) سورة التين الآية 3(21/343)
البشارة الثانية:
قال داود في الزبور في نبوءة أشعياء: " سبحوا لله تسبيحا جديدا، وليفرح بالخالق من اصطفى الله له أمته وأعطاه النصر، وسدد الصالحين منهم بالكرامة، يسبحونه على مضاجعهم، ويكبرون الله بأصوات مرتفعة، بأيديهم سيوف ذات شفرتين، لينتقم بهم من الأمم الذين لا يعبدونه ".(21/343)
وهذه الصفات إنما تنطبق على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته؛ فالتسبيحة الجديدة هي العبادة على النهج الجديد في الشريعة الإسلامية، وتعميمها على سكان الأرض، قاصيها ودانيها، إشارة إلى عموم نبوته صلى الله عليه وسلم والمسلمون هم الذين يكبرون الله تعالى بأصوات مرتفعة في أذانهم للصلوات الخمس على الأماكن العالية، في الأذان وفي العيدين وعقيب الصلوات في أيام منى، وعلى القرابين والأضاحي، وعند رمي الجمار، وعلى الصفا والمروة، وعند محاذاة الحجر الأسود. والمسلمون هم الذين يسبحون الله ويذكرونه قياما وقعودا وعلى جنوبهم، وهم الذين بأيديهم سيوف ذات شفرتين ينتقم الله بهم من الأمم بالجهاد، وليس ذلك لليهود ولا النصارى، فإن اليهود يجمعون الناس بالبوق والنصارى بالناقوس، ولا يرفعون أصواتهم بالتكبير لله تعالى، وقد كانوا مغلوبين بين الأمم، ولم يكن الجهاد مطلوبا من النصارى، على ما قال المسيح في كتبهم: (من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر) (1) . ومن هي هذه الأمة التي سيوفها ذات شفرتين ينتقم الله بها من الأمم الذين لا يعبدونه؟ إنها الأمة المسلمة.
وفي ترجمة كتاب أشعياء إلى الأوردية، التي ترجمها القسيس أوسكان الأرمني، تصريح باسمه عليه الصلاة والسلام في الباب الثاني والأربعين، وقد جاءت هكذا: (سبحوا الله تسبيحا جديدا، وأثر سلطنة على ظهره، واسمه أحمد) . وهذه الترجمة موجودة عند الأرامن
__________
(1) إنجيل متى 5 \ 39، 5 \ 40-44(21/344)
البشارة الثالثة:
وقالوا في نبوءة أشعياء: (فإنه هكذا قال لي السيد: اذهب أقم الرقيب وليخبر بما يرى، فرأى ركبا أزواج فرسان، ركاب حمير وركاب جمال، فأصغى إصغاء شديدا ثم صرخ كأسد: أيها السيد إني قائم على المرصد دائما في النهار وواقف علىالمحرس طوال الليالي، فإذا بركب من الرجال وأزواج فرسان قد أتوا، ثم عادوا قال: سقطت بابل (1) وحطمت إلى الأرض جميع منحوتات آلهتها.) (2) .
فراكب الحمار هو المسيح عليه السلام، وراكب الجمل هو محمد صلوات الله وسلامه عليه، وهو أشهر بركوب الجمل من المسيح بركوب الحمار. وبمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته سقطت بابل وعبادة الأصنام فيها، لا بالمسيح ولا بغيره، ولم يزل في إقليم بابل من يعبد الأوثان من عهد إبراهيم الخليل عليه السلام إلى زمان محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، وبهما وبدعوته سقطت هذه الأصنام وانتهت (3) .
__________
(1) انظر: معجم البلدان لياقوت 1 \ 309-311
(2) نبوءة أشعياء فصل 21 \ 6-9 وهي بألفاظ أخرى في كتاب أبي عبيدة الخزرجي 276.
(3) انظر: الجواب الصحيح 3 \ 323، هداية الحيارى 546، بين الإسلام والمسيحية 277(21/345)
البشارة الرابعة:
في إنجيل يوحنا: " إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي، وأنا أسأل الأب فيعطيكم فارقليط آخر ليثبت معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع أن يقبله العالم؛ لأنه لم يره ولم يعرفه، أما أنتم فتعرفونه. . . وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم كل ما قلته لكم، قد سمعتم أني قلت لكم: إني ذاهب(21/345)
ثم آتي إليكم، فلو كنتم تحبوني لكنتم تفرحون بأني ماض إلى الآب؛ لأن الآب هو أعظم مني. والآن قد قلت لكم قبل أن يكون حتى متى كان تؤمنون) (1) .
وليس معنى الفارقليط هنا: الروح، ولا الروح القدس أو المعزي، وإنما تعني الحمد أو أفعل التفضيل من الحمد، وهو (أحمد) ويكون ذلك مطابقا مطابقة حرفية لبشارة عيسى عليه السلام التي حكاها الله تعالى في سورة الصف. يقول الدكتور محمد توفيق صدقي في كتابه: (دين الله في كتب أنبيائه) :
هذا اللفظ (الفارقليط) يوناني، ويكتب بالإنكليزية هكذا (Paraclete) أي (المعزي) ويتضمن أيضا معنى المحاج، كما قال بوست في قاموسه. وهناك لفظ آخر يكتب هكذا (Pericltee) ومعناه: رفيع المقام، سام - جليل، مجيد، شهير. وهي كلها معان تقرب من معنى محمد وأحمد ومحمود.
ولا يخفى أن المسيح كان يتكلم بالعبرية، فلا ندري ماذا كان اللفظ الذي نطق به الكلام، ولا ندري إن كانت ترجمة مؤلف هذا الإنجيل له بلفظ (Paraclete) صحيحة أو خطأ؟ ولا ندري إن كان هذا اللفظ هو الذي ترجم به من قبل أم لا؟ لأننا نعلم أن كثيرا من الألفاظ والعبارات وقع فيها التحريف من الكتاب سهوا أو قصدا كما اعترفوا به في جميع كتب العهدين، فإذا كان اللفظ الأصلي (بيرقليط) فلا يبعد أنه تحرف عمدا أو سهوا إلى (بارقليط) حتى يبعدوه عن معنى
__________
(1) إنجيل يوحنا، الفصل 14 \ 16-29 طبع الكاثوليكية وفيه: فيعطيكم معزيا بدل فارقليط.(21/346)
اسم النبي صلى الله عليه وسلم، ومما يسهل عليهم ذلك تشابه أحرف هذه الكلمة في اللغة اليونانية.
وعلى كل حال أيا كان معنى هذه الكلمة وأصلها، فمعنى كل منهما ينطبق على محمد صلى الله عليه وسلم، فهو معز للمؤمنين على عدم إيمان الكافرين، وعلى عدم وجود الشر في هذا العالم بإيضاح أن هذه هي إرادة الله. . . وهو صلى الله عليه وسلم كان يحاج الكفار والمشركين وغيرهم. والعبارات في إنجيل يوحنا لا تنطبق إلى على محمد صلى الله عليه وسلم.(21/347)
بشارات إنجيل برنابا:
وهذا الإنجيل الذي لا يعترف به النصارى، مع أنه يفوق الأناجيل الأخرى ثبوتا وقانونية - كما يقولون - يحتوي على بشارات كثيرة فيها التصريح باسم محمد صلى الله عليه وسلم وباسمه الشريف (أحمد) ، وقد يستنكر الباحثون لذلك لكون البشارات عادة تكون بالكنايات والإشارات. ولكن لا داعي لهذا الاستغراب، فإن البشارات قد تكون إشارات وقد تكون صريحة بالاسم، والعريقون في الدين لا يرون مثل ذلك مستنكرا في خبر الوحي، وقد نقل الشيخ محمد بيرم عن رحالة إنجليزي أنه رأى في دار الكتب البابوية في الفاتيكان نسخة من الإنجيل مكتوبة بالقلم الحميري قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها يقول المسيح: (ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) وذلك موافق لنص القرآن بالحرف.
ولكن لم ينقل عن أحد من المسلمين أنه رأى شيئا من هذه الأناجيل(21/347)
التي فيها هذه البشارات الصريحة، فيظهر أن في مكتبة الفاتيكان من بقايا تلك الأناجيل والكتب التي كانت ممنوعة في القرون الأولى، ما لو ظهر لأزال كل شبهة عن إنجيل برنابا وغيره.(21/348)
فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به بغيا وحسدا:
وإذن، فما كان جحود اليهود والنصارى لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا بغيا وحسدا، فاستحقوا اللعنة على كفرهم، وللكافرين عذاب مهين: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (1) {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} (2)
علاقة الإسلام بالأديان الأخرى:
عرفنا فيما سبق أن الإسلام بمعناه العام هو دين الأنبياء جميعا، عليهم الصلاة والسلام، فإذا أخذنا كلمة الإسلام بهذا المعنى (نجدها لا تدع مجالا للسؤال عن العلاقة بين الإسلام وبين سائر الأديان السماوية، إذ لا يسأل عن العلاقة بين الشيء ونفسه، فهنا وحدة لا انقسام فيها ولا أثنينية) .
ولكن السؤال هنا عن الإسلام بمعناه الخاص، وهو الدين الذي
__________
(1) سورة البقرة الآية 89
(2) سورة البقرة الآية 90(21/348)
أنزله الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم، أي العلاقة بين المحمدية وبين الموسوية والمسيحية:
وللإجابة على هذا السؤال ينبغي أن نقسم البحث إلى مرحلتين:.
المرحلة الأولى: في علاقة الشريعة المحمدية بالشرائع السماوية السابقة، وهي في صورتها الأولى لم تبعد عن منبعها، ولم يتغير فيها شيء بفعل الزمان ولا بيد الإنسان.
وهنا يعلمنا القرآن الكريم: أن كل رسول يرسل، وكل كتاب ينزل، قد جاء مصدقا ومؤكدا لما قبله، فالإنجيل مصدق ومؤيد للتوراة، والقرآن مصدق ومؤيد للإنجيل والتوراة، ولكل ما بين يديه من الكتاب. إذ هناك تشريعات خالدة لا تتبدل ولا تتغير بتغير الأصقاع والأوضاع. وهناك تشريعات أخرى جاءت موقوتة بآجال طويلة أو قصيرة، فهذه تنتهي بانتهاء وقتها، وتجيء الشريعة التالية بما هو أوفق وأرفق بالأوضاع الناشئة الطارئة. وقد جاء القرآن الكريم فغير الله تعالى فيه بعض الأحكام التي جاءت في التوراة والإنجيل، وقوفا بها عند وقتها المناسب وأجلها المقدر لها في علم الله سبحانه وتعالى، وما كان فيها من الأحكام صحيحا موافقا لقواعد السياسة الدينية لا يغيره، بل يدعو إليه ويحث عليه. وما كان سقيما قد دخله التحريف فإنه يغيره بقدر(21/349)
الحاجة، وما كان حريا أن يزاد فإنه يزيده على ما كان في الشرائع السابقة (1) .
وعلى هذا، فإن الإسلام قد اعترف بالشرائع السابقة كما نزلت على الرسل السابقين، على أنها شرائع، وديانات توحيد في الذات والصفات والألوهية، فالله سبحانه وتعالى واحد أحد، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وهو المتفرد بالعبادة، وهو الخالق لكل شيء، العليم بكل شيء، السميع البصير اللطيف الخبير، الموصوف بكل صفات الكمال المنزه عن كل صفات النقص.
فالنصرانية التي اعترف بها القرآن الكريم هي التي تعتبر المسيح عليه السلام عبدا لله ورسولا من عنده ليس إلها ولا ابن إله، وهي التي يقول الله تعالى على لسان نبيها عليه السلام: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (2) .
والنصرانية التي اعترف بها القرآن الكريم هي التي تبشر كتبها بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتطالب الذين حضروا دعوته من بعدها: أن يؤمنوا بها، كما جاء في القرآن الكريم على لسان المسيح عليه السلام.
واليهودية التي اعترف بها الإسلام هي التي جاء بها موسى عليه السلام، ديانة توحيد، تؤمن بالله وباليوم الآخر، ولا تبيح قتل النبيين، والتي توجب الإيمان بالكتب التي اشتملت على بيانها الشريعة المطهرة،
__________
(1) حجة الله البالغة للدهلوي 1 \ 90- 91، و122- 133.
(2) سورة المائدة الآية 117(21/350)
وتؤمن برسل الله أجمعين. وفيها إيمان بالله تعالى وطاعة له وعبودية خالصة، وتنزيه للرسل عن المعاصي وعصمتهم من الخطايا.
تلك هي الديانات التي يعترف بها الإسلام ويقرها ويمدحها القرآن الكريم ويمدح معتنقيها، قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام، إذ هي الإسلام الذي أنزله الله. فلما جاءت شريعة محمد كانت هي الرسالة الخاتمة وهي الإسلام الذي ينبغي أن يفيء إليه الجميع ليكونوا مسلمين حقا.
المرحلة الثانية: أما المرحلة الثانية في بحث العلاقة بين الشريعة المحمدية والشرائع السماوية، بعد أن طال عليها الأمد، فنالها من التغيير والتحريف والتبديل والكتمان ما كان كفيلا بتحويلها عن أصلها من ديانة توحيد إلى ديانات وثنية لا تمت إلى أصلها المنزل إلا بخيط أوهى من خيط العنكبوت أو بنسبة لا حقيقة لها.
وهنا نرى أن القرآن الكريم قد أضاف إلى موقفه منها في المرحلة الأولى صفة أخرى وهو أنه جاء مهيمنا على كتبها وشريعتها - وقد سبق ذلك آنفا - أي حارسا وأمينا عليها، ومن شأنه ألا يكتفي بتأييد ما فيها من حق وخير، بل عليه فوق ذلك أن يحميها من الدخيل الذي عساه أن يضاف إليها بغير حق، وأن يبرز ما تمس إليه من الحقائق التي عساها أن تكون قد أخفيت منها.
وهكذا كان من مهمة القرآن الكريم أن يتحدى من يدعي وجود تلك الإضافات التي اخترعوها في تلك الكتب: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (1) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 93(21/351)
وبالتالي فالإسلام لا يعترف بدعوة ترفع عيسى عليه السلام إلى مرتبة الألوهية وتنحرف عن التوحيد الخالص لتعتنق التثليث وتؤمن بالخطيئة والكفارة والصلب. . . متأثرة بالوثنية التي كانت سائدة وقت نشر النصرانية في الدول الرومانية، ثم هي تنكر نبوة نبي بعثه الله تعالى وبشرت به كتبها أصلا، كما لا يعترف بدعوة يزعم أهلها في حق الله ما يزعمون من كذب وإفك وكفر، ويصفون أنبياء الله - عليهم الصلاة والسلام بما تقشعر منه الأبدان وترتجف له القلوب - ومن وصف الله سبحانه بالإفك لا يستغرب منه أي كفر بعد.(21/352)
نصيحة إلى حجاج بيت الله الحرام
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه من المسلمين وفقهم الله لما فيه رضاه آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:
فقد أوجب الله عز وجل التعاون على البر والتقوى والنصيحة لكل مسلم وقد أبلغني بعض الإخوان أنه يوجد من بعض الحجاج الموجودين في منى من يؤذي جيرانه بالتدخين والأغاني. ولا ريب أن إيذاء المسلمين من المحرمات المعلومة من الدين كما قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (1) وإذا كان الإيذاء بالتدخين أو بفتح الراديو أو المسجلات على الأغاني كان الأذى أكبر والإثم أعظم لأن الغناء محرم وهكذا التدخين من المحرمات المضرة بالدين والدنيا والصحة.
وقد قال الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (2) الآية قال أكثر العلماء: المراد بلفظ الحديث الغناء وآلات اللهو.
وقال الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (3) وقال في وصف نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (4)
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 58
(2) سورة لقمان الآية 6
(3) سورة المائدة الآية 4
(4) سورة الأعراف الآية 157(21/353)
فبين المولى سبحانه أنه لم يحل لعباده إلا الطيبات وأن نبيه صلى الله عليه وسلم إنما أصل لأمته الطيبات وهي الأشياء النافعة بلا مضرة، والدخان من الأشياء الضارة الخبيثة. وقد أجمع العارفون به من الأطباء وغيرهم على أنه مضر بالصحة خبيث العاقبة خبيث الرائحة.
وفق الله الجميع للفقه في الدين والثبات عليه وأعاذ الجميع من نزغات الشيطان.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(21/354)
قرار هيئة كبار العلماء رقم 138
في حكم مهرب ومروج المخدرات
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد:
فإن مجلس هيئة كبار العلماء في دورته التاسعة والعشرين المنعقدة بمدينة الرياض بتأريخ 9 \ 6 \ 1407هـ وحتى 20 \ 6 \ 1407هـ قد اطلع على برقية خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز -حفظه الله - ذات الرقم س \ 8033 وتأريخ 11 \ 6 \ 1407هـ. والتي جاء فيها: (نظرا لما للمخدرات من آثار سيئة، وحيث لاحظنا كثرة انتشارها في الآونة الأخيرة ولأن المصلحة العامة تقتضي إيجاد عقوبة رادعة لمن يقوم بنشرها وإشاعتها، سواء عن طريق التهريب أو الترويج. . . نرغب إليكم عرض الموضوع على مجلس هيئة كبار العلماء بصفة عاجلة، وموافاتنا بما يتقرر) .
وقد درس المجلس الموضوع، وناقشه من جميع جوانبه في أكثر من جلسة، وبعد المناقشة والتداول في الرأي واستعراض نتائج انتشار هذا الوباء الخبيث القتال تهريبا واتجارا وترويجا واستعمالا المتمثلة في الآثار السيئة على نفوس متعاطيها وحملها إياهم على ارتكاب جرائم الفتك وحوادث السيارات والجري وراء أوهام تؤدي إلى ذلك وما تسببه من إيجاد طبقة من المجرمين شأنهم العدوان وطبيعتهم الشراسة وانتهاك الحرمات(21/355)
وتجاوز الأنظمة وإشاعة الفوضى لما تؤدي إليه بمتعاطيها من حالة من المرح والتهيج واعتقاد أنه قادر على كل شيء فضلا عن اتجاهه إلى اختراع أفكار وهمية تحمله على ارتكاب الجريمة. كما أن لها آثارا ضارة بالصحة العامة، وقد تؤدي إلى الخلل في العقل والجنون نسأل الله العافية والسلامة لهذا كله. فإن المجلس يقرر بالإجماع ما يلي:
أولا: بالنسبة للمهرب للمخدرات فإن عقوبته القتل لما يسببه تهريب المخدرات وإدخالها البلاد من فساد عظيم لا يقتصر على المهرب نفسه وأضرار جسيمة وأخطار بليغة على الأمة بمجموعها، ويلحق بالمهرب الشخص الذي يستورد أو يتلقى المخدرات من الخارج فيمون بها المروجين.
ثانيا: أما بالنسبة لمروج المخدرات فإن ما أصدره بشأنه في قراره رقم (85) وتأريخ 11 \ 11 \ 1401هـ كاف في الموضوع ونصه كما يلي: (الثاني: من يروجها سواء كان ذلك بطريق التصنيع أو الاستيراد بيعا وشراء أو إهداء ونحو ذلك من ضروب إشاعتها ونشرها، فإن كان ذلك للمرة الأولى فيعزر تعزيرا بليغا بالحبس أو الجلد أو الغرامة المالية أو بها جميعا حسبما يقتضيه النظر القضائي وإن تكرر منه ذلك فيعزر بما يقطع شره عن المجتمع ولو كان ذلك بالقتل لأنه بفعله هذا يعتبر من المفسدين في الأرض وممن تأصل الإجرام في نفوسهم، وقد قرر المحققون من أهل العلم أن القتل ضرب من التعزير قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (ومن لم يندفع فساده في الأرض إلا بالقتل قتل مثل قتل المفرق لجماعة المسلمين الداعي للبدع في الدين) إلى أن قال: وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل رجل تعمد الكذب عليه.(21/356)
وسأله ابن الديلمي عن من لم ينته عن شرب الخمر فقال: من لم ينته عنها فاقتلوه. وفي موضع آخر قال رحمه الله في تعليل القتل تعزيرا ما نصه: (وهذا لأن المفسد كالصائل وإذا لم يندفع الصائل إلا بالقتل قتل) اهـ.
ثالثا: يرى المجلس أنه لا بد قبل إيقاع أي من تلك العقوبات المشار إليها في فقرتي (أولا، وثانيا) من هذا القرار من استكمال الإجراءات الثبوتية اللازمة من جهة المحاكم الشرعية وهيئات التمييز ومجلس القضاء الأعلى براءة للذمة واحتياطا للأنفس.
رابعا: لا بد من إعلان هذه العقوبات عن طريق وسائل الإعلام قبل تنفيذها إعذارا وإنذارا.
هذا وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة
إبراهيم بن محمد آل الشيخ
عبد العزيز بن صالح ... عبد الرزاق عفيفي
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... محمد بن جبير
سليمان بن عبيد ... عبد الله خياط
صالح بن غصون ... عبد المجيد حسن
راشد بن خنين ... عبد الله بن منيع
صالح اللحيدان ... عبد الله بن غديان(21/357)
حديث شريف
قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار (1) »
رواه مسلم
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (16) ، صحيح مسلم الإيمان (43) ، سنن الترمذي الإيمان (2624) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4988) ، سنن ابن ماجه الفتن (4033) ، مسند أحمد بن حنبل (3/172) .(21/358)
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} (1)
سورة الأنعام الآية 70
__________
(1) سورة الأنعام الآية 70(22/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(22/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ـ الرياض
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(22/3)
المحتويات
الافتتاحية:
وجوب لزوم السنة والحذر من البدعة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
موضوع العدد
نقل دم أو عضو أو جزء من إنسان إلى آخر اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 17
الفتاوى
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 59
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 109(22/4)
البحوث:
موقف الشريعة الإسلامية من ربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعار الشيخ عبد الله بن سليمان المنيع 119
حقيقة التصوف وموقف الصوفية من أصول العبادة الشيخ / صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان 143
النفقة الواجبة على المرأة لحق الغير الدكتور / عبد الله بن عبد المحسن الطريقي 169
أحوال التربية الإسلامية في أمريكا الدكتور / كمال كامل عبد الحميد النمر 239
الاستقامة والإحسان من مكارم الأخلاق في الإسلام الأستاذ صلاح أحمد الطنوبي 285
أساليب المنصرين للوصول إلى أهدافهم في المجتمعات الإسلامية الدكتور / مهدي رزق الله أحمد 297
التنبيه على نشرات في عقوبة تارك الصلاة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 329
الصوم والإفطار لرؤية الهلال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 322(22/5)
صفحة فارغة(22/6)
الافتتاحية
وجوب لزوم السنة والحذر من البدعة
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الداعي إلى طاعة ربه، المحذر عن الغلو والبدع والمعاصي صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واتبع هداه إلى يوم الدين. أما بعد:
فقد اطلعت على المقال الذي نشر بجريدة (إدارت) الأردوية الأسبوعية الصادرة من مدينة كانغور الصناعية بولاية أترابراديش الهندية في صفحتها الأولى، والمتضمن حملة إعلامية ضد المملكة العربية السعودية وتمسكها بعقيدتها الإسلامية ومحاربتها للبدع، واتهام عقيدة السلف التي تسير عليها الحكومة بأنها ليست سنية؛ مما يهدف به كاتبه إلى التفرقة بين أهل السنة وتشجيع البدع والخرافات.
وهذا لا شك تدبير سيئ وتصرف خطير يراد به الإساءة إلى الدين الإسلامي، وبث البدع والضلالات، ثم إن هذا المقال يركز بشكل واضح على موضوع إقامة الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم وجعله منطلقا للحديث عن(22/7)
عقيدة المملكة وقيادتها؛ لذا رأيت التنبيه على ذلك، فأقول مستعينا بالله تعالى:
لا يجوز الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا غيره بل يجب منعه؛ لأن ذلك من البدع المحدثة في الدين، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولم يأمر به لنفسه أو لأحد ممن توفي قبله من الأنبياء أو من بناته أو زوجاته أو أحد أقاربه أو صحابته، ولم يفعله خلفاؤه الراشدون ولا غيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ولا التابعون لهم بإحسان، ولا أحد من علماء الشريعة والسنة المحمدية في القرون المفضلة. وهؤلاء هم أعلم الناس بالسنة وأكمل حبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومتابعة لشرعه ممن بعدهم ولو كان خيرا لسبقونا إليه.
وقد أمرنا بالاتباع ونهينا عن الابتداع؛ وذلك لكمال الدين الإسلامي والاغتناء بما شرعه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتلقاه أهل السنة والجماعة بالقبول من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » . متفق على صحته. وفي رواية أخرى لمسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » ، وقال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (3) » ، وكان يقول في خطبته يوم الجمعة: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (4) » . ففي هذه الأحاديث تحذير شديد من إحداث البدع وتنبيه بأنها ضلالة تنبيها للأمة على عظيم خطرها وتنفيرا لهم عن اقترافها والعمل بها. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (5)
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(3) سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(4) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2954) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/371) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(5) سورة الحشر الآية 7(22/8)
وقال عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) ، وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (2) .
وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3) ، وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (4) .
وهذه الآية تدل دلالة صريحة على أن الله سبحانه وتعالى قد أكمل لهذه الأمة دينها وأتم عليها نعمته، ولم يتوف نبيه عليه الصلاة والسلام إلا بعد ما بلغ البلاغ المبين وبين للأمة كل ما شرعه الله لها من أقوال وأعمال، وأوضح أن كل ما يحدثه الناس بعده وينسبونه إلى الدين الإسلامي من أقوال وأعمال فكله بدعة مردودة على من أحدثها ولو حسن قصده. وقد ثبت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن السلف الصالح بعدهم التحذير من البدع والترهيب منها، وما ذاك إلا لأنها زيادة في الدين وشرع لم يأذن به الله وتشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى في زيادتهم في دينهم وابتداعهم فيه ما لم يأذن به الله، ولأن لازمها التنقص للدين الإسلامي واتهامه بعدم الكمال، ومعلوم ما في هذا من الفساد العظيم والمنكر الشنيع والمصادمة لقول الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (5) والمخالفة الصريحة لأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام المحذرة من البدع والمنفرة منها.
__________
(1) سورة النور الآية 63
(2) سورة الأحزاب الآية 21
(3) سورة التوبة الآية 100
(4) سورة المائدة الآية 3
(5) سورة المائدة الآية 3(22/9)
وإحداث مثل هذه الاحتفالات بالمولد ونحوه يفهم منه أن الله سبحانه وتعالى لم يكمل الدين لهذه الأمة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ ما ينبغي للأمة أن تعمل به حتى جاء هؤلاء المتأخرون فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به الله، زاعمين أن ذلك مما يقربهم إلى الله، وهذا بلا شك فيه خطر عظيم واعتراض على الله سبحانه وتعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه قد أكمل لعباده الدين، وأتم عليهم النعمة، والرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين، ولم يترك طريقا يوصل إلى الجنة ويباعد من النار إلا بينه لأمته، كما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم (1) » . رواه مسلم في صحيحه، ومعلوم أن نبينا عليه الصلاة والسلام هو أفضل الأنبياء وخاتمهم وأكملهم بلاغا ونصحا، فلو كان الاحتفال بالموالد من الدين الذي ارتضاه الله سبحانه لعباده؛ لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة أو فعله في حياته أو فعله أصحابه رضي الله عنهم، فلما لم يقع شيء من ذلك علم أنه ليس من الإسلام في شيء، بل هو من المحدثات التي حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منها أمته كما تقدم ذلك في الأحاديث السابقة.
وقد صرح جماعة من العلماء بإنكار الموالد والتحذير منها عملا بالأدلة المذكورة وغيرها، ومعلوم أن القاعدة الشرعية أن المرجع في التحليل والتحريم ورد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (2)
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1844، 1844) ، سنن النسائي البيعة (4191، 4191) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4248) ، سنن ابن ماجه الفتن (3956، 3956) ، مسند أحمد بن حنبل (2/191، 2/191) .
(2) سورة النساء الآية 59(22/10)
وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (1) .
وإذا رددنا هذه المسألة وهي الاحتفال بالموالد إلى كتاب الله سبحانه وتعالى وجدناه يأمرنا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، ويحذرنا عما نهى عنه، ويخبرنا بأن الله سبحانه قد أكمل لهذه الأمة دينها، وليس هذا الاحتفال مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون ليس من الدين الذي أكمله الله لنا وأمرنا باتباع الرسول فيه.
وإذا رددناه أيضا إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم نجد فيها أنه فعله ولا أمر به ولا فعله أصحابه رضي الله عنهم، فبذلك نعلم أنه ليس من الدين، بل هو من البدع المحدثة ومن التشبه الأعمى بأهل الكتاب من اليهود والنصارى في أعيادهم، وبذلك يتضح لكل من له أدنى بصيرة ورغبة في الحق وإنصاف في طلبه أن الاحتفال بجميع الموالد ليس من دين الإسلام في شيء، بل هو من البدع المحدثات التي أمرنا الله سبحانه ورسوله عليه الصلاة والسلام بتركها والحذر منها.
ولا ينبغي للعاقل أن يغتر بكثرة من يفعله من الناس في سائر الأقطار، فإن الحق لا يعرف بكثرة الفاعلين وإنما يعرف بالأدلة الشرعية، كما قال تعالى عن اليهود والنصارى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (2) ، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (3) . الآية.
__________
(1) سورة الشورى الآية 10
(2) سورة البقرة الآية 111
(3) سورة الأنعام الآية 116(22/11)
ثم إن غالب هذه الاحتفالات - مع كونها بدعة - لا تخلو في أغلب الأحيان وفي بعض الأقطار من اشتمالها على منكرات أخرى كاختلاط النساء بالرجال واستعمال الأغاني والمعازف وشرب المسكرات والمخدرات وغير ذلك من الشرور، وقد يقع فيها ما هو أعظم من ذلك وهو الشرك الأكبر؛ وذلك بالغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأولياء، ودعائه والاستغاثة به وطلب المدد منه، واعتقاد أنه يعلم الغيب ونحو ذلك من الأمور التي تكفر فاعلها، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين (1) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله (2) » . أخرجه البخاري في صحيحه، ومما يدعو إلى العجب الاستغراب أن الكثير من الناس ينشط ويجتهد في حضور هذه الاحتفالات المبتدعة، ويدافع عنها، ويتخلف عما أوجب الله عليه من حضور الجمع والجماعات، ولا يرفع بذلك رأسا، ولا يرى أنه أتى منكرا عظيما، ولا شك أن ذلك من ضعف الإيمان وقلة البصيرة وكثرة ما ران على القلوب من صنوف الذنوب والمعاصي. نسأل الله العافية لنا ولسائر المسلمين.
وأغرب من ذلك أن بعضهم يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر المولد، ولهذا يقومون له محيين ومرحبين، وهذا من أعظم الباطل وأقبح الجهل؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة، ولا يتصل بأحد من الناس ولا يحضر اجتماعاتهم، بل هو مقيم في قبره إلى يوم القيامة، وروحه في أعلا عليين عند ربه في دار الكرامة كما قال الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} (3) {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (4) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أول
__________
(1) سنن ابن ماجه المناسك (3029) ، مسند أحمد بن حنبل (1/215) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3445) ، مسند أحمد بن حنبل (1/47) .
(3) سورة المؤمنون الآية 15
(4) سورة المؤمنون الآية 16(22/12)
من ينشق عنه القبر يوم القيامة، وأنا أول شافع وأول مشفع (1) » ، فهذه الآية والحديث الشريف وما جاء بمعناهما من الآيات والأحاديث كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأموات إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة، وهذا أمر مجمع عليه بين علماء المسلمين ليس فيه نزاع بينهم، فينبغي لكل مسلم التنبه لهذه الأمور والحذر مما أحدثه الجهال وأشباههم من البدع والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان.
أما الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي من أفضل القربات ومن الأعمال الصالحات، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا (3) » وهي مشروعة في جميع الأوقات ومتأكدة في آخر كل صلاة، بل واجبة عند الكثير من أهل العلم في التشهد الأخير من كل صلاة، وسنة مؤكدة في مواضع كثيرة؛ منها ما بعد الأذان وعند ذكره صلى الله عليه وسلم، وفي يوم الجمعة وليلتها، كما دلت على ذلك أحاديث كثيرة. هذا ما أردت التنبيه عليه نحو هذه المسألة وفيه كفاية إن شاء الله لمن فتح الله عليه وأنار بصيرته.
وإنه ليؤسفنا جدا أن تصدر مثل هذه الاحتفالات البدعية من مسلمين متمسكين بعقيدتهم وحبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقول لمن يقول بذلك: إن كنت سنيا ومتبعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهل فعل ذلك هو أو أحد من صحابته الكرام أو التابعين لهم بإحسان؟ أم هو التقليد الأعمى لأعداء الإسلام من اليهود والنصارى ومن على شاكلتهم؟
__________
(1) صحيح مسلم الفضائل (2278) ، مسند أحمد بن حنبل (2/540) .
(2) سورة الأحزاب الآية 56
(3) صحيح مسلم الصلاة (384) ، سنن الترمذي المناقب (3614) ، سنن النسائي الأذان (678) ، سنن أبو داود الصلاة (523) ، مسند أحمد بن حنبل (2/168) .(22/13)
وليس حب الرسول صلى الله عليه وسلم يتمثل فيما يقام من الاحتفالات بمولده، بل بطاعته فيما أمر به وتصديقه فيما أخبر به واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع، وكذا بالصلاة عليه عند ذكره وفي الصلوات وفي كل وقت ومناسبة.
وليست الوهابية حسب تعبير الكاتب بدعا في إنكار مثل هذه الأمور البدعية بل عقيدة الوهابية: هي التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والسير على هديه وهدي خلفائه الراشدين والتابعين لهم بإحسان، وما كان عليه السلف الصالح وأئمة الدين والهدى؛ أهل الفقه والفتوى في باب معرفة الله، وإثبات صفات كماله ونعوت جلاله التي نطق بها الكتاب العزيز وصحت بها الأخبار النبوية. وتلقتها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبول والتسليم. يثبتونها ويؤمنون بها ويمرونها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل، ويتمسكون بما درج عليه التابعون وتابعوهم من أهل العلم والإيمان والتقوى وسلف الأمة وأئمتها، ويؤمنون بأن أصل الإيمان وقاعدته في شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وهي أصل الإيمان بالله وحده وهي أفضل شعب الإيمان.
ويعلمون بأن هذا الأصل لا بد فيه من العلم والعمل والإقرار بإجماع المسلمين، ومدلوله وجوب عبادة الله وحده لا شريك له والبراءة من عبادة ما سواه كائنا من كان، وأن هذا هو الحكمة التي خلقت لها الجن والإنس، وأرسلت لهم الرسل وأنزلت بها الكتب، وهي تتضمن كمال الذل والحب، وتتضمن كمال الطاعة والتعظيم، وأن هذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله دينا سواه لا من الأولين ولا من الآخرين؛ فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام وبعثوا بالدعوة إليه، وما يتضمن من الاستسلام لله وحده فمن استسلم له ولغيره أو دعاه ودعا غيره كان مشركا، ومن لم يستسلم له كان مستكبرا عن عبادته قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1)
__________
(1) سورة النحل الآية 36(22/14)
وعقيدتهم مبنية أيضا على تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبذ البدع والخرافات وكل ما يخالف الشرع الذي جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا هو الذي يعتقده الشيخ - محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى ويدين الله به ويدعو إليه، ومن نسب إليه خلاف هذا فقد كذب وافترى إثما مبينا وقال ما ليس له به علم، وسيجزيه الله ما وعد به أمثاله من المفترين، وأبدى رحمه الله تعالى من التقارير المفيدة والأبحاث الفريدة والمؤلفات الجليلة على كلمة الإخلاص والتوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع من نفي استحقاق العباد والإلهية عما سوى الله وإثبات ذلك لله سبحانه وتعالى على وجه الكمال المنافي للشرك دقيقه وجليله، ومن عرف مصنفاته وما ثبت عنه وعرف واشتهر من دعوته وأمره وما عليه الفضلاء والنبلاء من أصحابه وتلامذته تبين له أنه على ما كان عليه السلف الصالح وأئمة الدين والهدي من إخلاص العبادة لله وحده ونبذ البدع والخرافات، وهذا هو الذي قام عليه حكم السعودية، وعلماؤها يسيرون عليه والحمد لله.
وليست الحكومة السعودية متصلبة إلا ضد البدع والخرافات المخالفة للدين الإسلامي والغلو المفرط الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم.
والعلماء والمسلمون بالسعودية وحكامهم يحترمون كل مسلم احتراما شديدا ويكنون لهم الولاء والمحبة والتقدير من أي قطر أو جهة كان، وإنما ينكرون على أصحاب العقائد الضالة ما يقيمونه من بدع وخرافات وأعياد مبتدعة وإقامتها والاحتفال بها مما لم يأذن به الله ولا رسوله، ويمنعون ذلك؛ لأنه من محدثات الأمور وكل محدثة بدعة، والمسلمون مأمورون بالاتباع لا(22/15)
بالابتداع؛ لكمال الدين الإسلامي واغتنائه بما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتلقاه أهل السنة والجماعة بالقبول من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ومن نهج نهجهم.
وليس منع الاحتفال البدعي بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم وما يكون فيه من غلو أو شرك ونحو ذلك عملا غير إسلامي أو إهانة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو طاعة له وامتثال لأمره حيث قال: «إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين (1) » ، وقال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله (2) » .
وهذا ما أردت التنبيه عليه في المقال المشار إليه. والله المسؤول أن يوفقنا وسائر المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه، وأن يمن على الجميع بلزوم السنة والحذر من البدعة إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن ابن ماجه المناسك (3029) ، مسند أحمد بن حنبل (1/215) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3445) ، مسند أحمد بن حنبل (1/47) .(22/16)
موضوع العدد
نقل دم أو عضو أو جزئه
من إنسان إلى آخر
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
فبناء على ما اقترحه مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة الحادية عشرة المنعقدة بالطائف في شهر شوال عام 1397هـ من إعداد بحث في نقل دم أو عضو أو جزئه من إنسان إلى آخر مشتمل على ما يلي: -
1 - هل الإنسان يملك نفسه أو أن نفسه ملك لله فقط؟ وعلى كلا التقديرين: هل يجوز له التصرف في نفسه، فيسمح بنقل عضو منها إلى جسم آخر، إذا كان ذلك لمصلحة غيره بدون ضرر على المتبرع؟
2 - إذا قيل: يجوز إيثار الإنسان لأخيه المسلم بما تتوقف عليه حياته مثل القليل من الماء ونحو ذلك، فهل يقاس عليه جواز نقل ما تتوقف عليه حياة المريض من بدن إنسان آخر إليه مثل الكلية ونحوها بدون ضرر محقق يلحق المتبرع؟
3 - إذا قيل: إن إذن الإنسان بأخذ جزء من جسده لمصلحة جسده جائز شرعا، فهل يقاس على ذلك إذنه بأخذ جزء من جسده لمصلحة أخيه المسلم بدون ضرر يلحق المتبرع؟(22/17)
4 - هل يجوز نقل الدم من جسم إنسان إلى جسم آخر مع مراعاة عدم الضرر للجسم المنقول منه، وهل يثاب على ذلك؟
- بناء على ذلك أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك على الترتيب فيما يلي:
الموضوع
أولا: هل الإنسان يملك نفسه أو نفسه ملك لله؟ وعلى كلا التقديرين هل يجوز له التصرف في نفسه بنقل عضو منه إلى جسم آخر إذا كان ذلك لمصلحة الغير بدون ضرر على المتبرع؟
ثبت في نصوص الكتاب والسنة ما هو صريح في أن الله تعالى خالق كل شيء وربه ومليكه لا مالك له سواه، يتصرف فيه كيف يشاء ويحكم فيه بما يريد، قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (1) {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (2) .
وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (3) .
وقال تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} (4) .
إلى أن قال: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (5) .
وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (6) {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (7) .
__________
(1) سورة الزمر الآية 62
(2) سورة الزمر الآية 63
(3) سورة آل عمران الآية 26
(4) سورة الأنعام الآية 12
(5) سورة الأنعام الآية 13
(6) سورة المؤمنون الآية 84
(7) سورة المؤمنون الآية 85(22/18)
إلى قوله: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (2) .
وقال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (3) {مَلِكِ النَّاسِ} (4) ، وقال: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (5) ، وقال تعالى: {أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} (6) {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} (7) .
وثبت في الأذكار النبوية الصحيحة المشهورة «أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أمته أن يقولوا في الحج وفي أدبار الصلوات المكتوبة وغير ذلك: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير (8) » . وثبت عنه في الأدعية «أنه علمهم أن يقولوا: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك ماض في حكمك، عدل في قضاؤك (9) » . إلخ الدعاء. وثبت «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتهجد قال: اللهم لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لك ملك السماوات والأرض ومن فيهن (10) » . الحديث.
وثبت «أن النبي صلى الله عليه وسلم علم الصحابة رضي الله عنهم أن يقولوا في الإهلال بالحج أو العمرة: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك (11) » . إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الصحيحة التي دلت على أن الله تعالى وحده رب كل شيء ومليكه المدبر له والحاكم فيه كونا وقدرا،
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 88
(2) سورة المؤمنون الآية 89
(3) سورة الناس الآية 1
(4) سورة الناس الآية 2
(5) سورة الرعد الآية 15
(6) سورة النجم الآية 24
(7) سورة النجم الآية 25
(8) صحيح البخاري كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7292) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (593) ، سنن النسائي السهو (1341) ، سنن أبو داود الصلاة (1505) ، مسند أحمد بن حنبل (4/245) ، سنن الدارمي الصلاة (1349) .
(9) مسند أحمد بن حنبل (1/391) .
(10) صحيح البخاري الجمعة (1120) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (769) ، سنن الترمذي الدعوات (3418) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1619) ، سنن أبو داود الصلاة (771) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1355) ، مسند أحمد بن حنبل (1/308) ، موطأ مالك النداء للصلاة (500) ، سنن الدارمي الصلاة (1486) .
(11) صحيح البخاري اللباس (5915) ، صحيح مسلم الحج (1184) ، سنن النسائي مناسك الحج (2683) ، سنن أبو داود المناسك (1747) ، سنن ابن ماجه المناسك (3047) ، مسند أحمد بن حنبل (2/120) .(22/19)
وأمرا ونهيا، وقد أجمعت عليه الأمة وعلم من الدين بالضرورة فلا يحتاج إلى الإبانة عنه ولا إلى إقامة الدليل عليه.
لكن الله تعالى كرم بني آدم فسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض جميعا فضلا منه ورحمة، وجعل لهم العينين واللسان والشفتين وسائر ما يحتاجون إليه من الأعضاء لتحقيق مصالحهم ودفع الآفات والغوائل عن أنفسهم حكمة منه وعدلا، وشرع لهم الشرائع نورا وهدى؛ ليتبين لهم الحق من الباطل ويتميز الطيب من الخبيث إعذارا إليهم؛ لئلا يكون لأحد منهم حجة بعد البيان والبلاغ، فوجب عليهم أن يهتدوا بهداه ويتبعوا صراطه المستقيم، وأن يستغلوا ما آتاهم الله من الأعضاء وما سخر لهم من الكونيات فيما أحله لهم دون ما حرم عليهم؛ أدبا مع الله وشكرا لنعمه؛ ليحفظها لهم ويزيدهم من فضله، وتقييدا لها خشية أن تزول عنهم بعصيانهم من وهبها لهم، وقد أوجب الله عليهم المحافظة على أنفسهم وأعضائهم، وحرم عليهم الاعتداء عليها والإضرار بها. قال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) ، وأوجب القصاص في النفس والأعضاء أو الدية حسب اختلاف أحوال الاعتداء، وحرم الانتحار، «وقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم النحر في حجة الوداع: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا (2) » . الحديث. وقال: «كسر عظم الميت ككسره حيا (3) » . إلى غير ذلك من النصوص التي تقدم ذكرها في موضوع التشريح وموضوع نقل القرنية وما في معناها من الأدلة الدالة على وجوب المحافظة على حرمة المسلم ومن في حكمه حيا وميتا.
وإذا ثبت أن جميع بني آدم ملك لله حقيقة، وأنه تعالى أوجب عليهم المحافظة على أنفسهم وأعضائهم وحرم عليهم الإضرار بها اعتبر هذا
__________
(1) سورة البقرة الآية 195
(2) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .
(3) سنن أبو داود الجنائز (3207) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616) ، مسند أحمد بن حنبل (6/105) .(22/20)
أصلا لا يجوز العدول عنه إلا بدليل شرعي يقتضي الاستثناء منه الخروج عنه. ولم يثبت نص شرعي قولا أو فعلا أو تقريرا يبيح نقل عين أو قرنيتها أو عضو آخر من إنسان إلى غيره، أو يعطي الحق لإنسان أن يسمح بنقل ذلك منه إلى أخيه المسلم في حالة اختيار أو اضطرار، وغاية ما يرجع إليه الباحث في معرفة الحكم في ذلك مقاصد الشريعة العامة وقواعدها الكلية والقياس على النظائر.
أما القاعدة الكلية فهي ما تقدم في مبحث التشريح ونقل القرنية من أنه إذا تعارضت مصلحتان قدم أقواهما تحقيقا لزيادة المنفعة، وإذا تعارضت مفسدتان ارتكب أخفهما تفاديا لأشدهما، ومسألتنا داخلة في هذه القاعدة على كل حال؛ فإن مصلحة كل من الحي السليم والميت مسلما كان أم ذميا قد تعارضت مع مصلحة إنقاذ من أصيب في عضو من أعضائه مما أصابه وتيسير طريق انتفاعه وانتفاع الأمة به في نطاق أوسع علما وعملا في ميدان الحياة، وقد حث الشرع على تخليص النفوس من الأمراض وعلى التداوي مما أصابها، ولا شك أن في هذا مصلحة للمصاب أولا وجبرا لنقصه، ومصلحة الأمة ثانيا وسيرا مع ما قضت به سنة الله شرعا وقدرا، وإذا تعارضت مصلحتان نظر أيتهما أرجح ليبنى الحكم عليها منعا أو إباحة. وقد يقال بالنسبة لنقل عضو صحيح من حي أن مصلحة الحي الذي يراد نقل العضو منه أرجح؛ لأنه متيقن صلاحه والانتفاع به إذا أبقي في محله بشهادة الواقع ومشكوك أو مظنون صلاحه، والانتفاع به إذا نقل من إنسان لآخر.
وقد يصاب من أخذ منه العضو بخطر؛ لأن نجاح العملية في أخذه من الصحيح ونجاح زرعها في المصاب موقوف حسب الأسباب العادية على مهارة الطبيب في هذا الفن وملاءمة العضو لمن زرع فيه وخاضع لطول الفترة وقصرها بين أخذ العضو(22/21)
وزرعه ولظروف من أجريت فيه العملية الجراحية وأحواله من حدوث مضاعفات وعدم حدوثها إلى غير هذا من الطوارئ التي قد تعرض لمن أخذ منه العضو أو من زرع فيه، فكان بقاؤه في مكانه أرجح وأضمن في تحقيق المصلحة والانتفاع به من زرعه من إنسان آخر. أما بالنسبة لعلم الله العواقب، وما جرى به قلمه سبحانه في كتابه، وبالنسبة لنفاذ مشيئته وعظيم قدرته فكل ذلك قريب، لا راجح ولا مرجوح، ولكن ذلك غيب، فلا تبنى على مثله الأحكام، إنما تبنى على ما جعله الله من الأسباب العادية مؤثرا في مسببه بقدرته سبحانه لا استقلالا منها بذلك. وأما بالنسبة لأخذ عضو من ميت سواء كان مسلما أم ذميا وسواء كان العضو عينا أم كلية أم نحوهما لزرعه في جسم مسلم حي إبقاء على حياته أو رغبة في نفعه وانتفاع الأمة به، فقد يقال: إنه جائز أو واجب إذا رجي نجاح عملية زرعه في الحي ولم تخش فتنة ولا حدوث خطر من جانب أهل الميت الذي يراد أخذ العضو منه إيثارا لحق الحي على الميت وإبقاء لحياة شخص أو تحقيقا لمنفعة عضو دون أن يترتب على ذلك فوات نفس أو منفعة لذلك العضو بالنسبة لمن أخذ منه، وليس ببعيد في النظر الاجتهادي أن تكون هذه المصلحة أرجح من مصلحة المحافظة على حرمة الميت، وأن تكون رعايتها في الحكم وبناؤه عليها أقوى وأولى.
أما قياس نقل عضو من إنسان حي تتوقف عليه حياته إلى إنسان آخر على الإيثار بماء مضطر إليه، فسيأتي الكلام عليه في القسم الثاني من البحث - إن شاء الله.
ثانيا: إذا قيل بجواز إيثار الإنسان لأخيه المسلم بما تتوقف عليه حياته مثل القليل من الماء، فهل يقاس عليه الإيثار بنقل ما تتوقف عليه(22/22)
حياة المريض من بدن إنسان آخر إليه مثل الكلية أو العين بدون ضرر محقق يلحق المتبرع؟
تقدم في مبحث نقل قرنية العين ذكر نصوص من الكتاب والسنة الصحيحة في إثبات الإيثار المرغب فيه شرعا، وذكر نقول عن العلماء في ذلك أيضا يتبين منها ضابط الإيثار المرغب فيه شرعا، وليس فيما ذكر ما يصلح دليلا على الإيثار بنقل عضو صحيح من مسلم أو ذمي حي إلى آخر، ولكن ذكر بعض علماء التفسير والسيرة والتاريخ منقبة في الإيثار لثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم أصيبوا في موقعة أجنادين أو اليرموك وجيء إلى أحدهم بماء فآثر به أخاه، فلما عرض على الثاني آثر به الثالث فما وصل إليه الماء حتى مات، فلما أعيد إلى الثاني وجد ميتا، ولما أعيد إلى الأول وجد ميتا أيضا. وفيما يلي نقول في تفصيل هذه القصة تمهيدا للحديث عن ثبوتها، وفي الاستدلال بالقياس على ما جاء في متنها من الإيثار على تقدير ثبوتها: -
قال القرطبي في تفسير سورة الحشر:
السابعة: قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (1) ، في الترمذي عن أبي هريرة: أن رجلا بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: نومي الصبية وأطفئي السراج وقربي للضيف ما عندك، فنزلت هذه الآية {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (2) ، قال: هذا حديث حسن صحيح. خرجه
__________
(1) سورة الحشر الآية 9
(2) سورة الحشر الآية 9(22/23)
مسلم أيضا. وخرج عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. ثم أرسل إلى الأخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا، والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. فقال: من يضيف هذا الليلة رحمه الله؟ فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني. قال: فعلليهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل. فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه. قال: فقدموا وأكل الضيف فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد عجب الله - عز وجل - من صنيعكما بضيفكما الليلة (1) » . وفي رواية عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضيفه فلم يكن عنده ما يضيفه فقال: ألا رجل يضيف هذا رحمه الله؟ فقام رجل من الأنصار يقال له: أبو طلحة فانطلق به إلى رحله (2) » . . . .
وساق الحديث بنحو الذي قبله. وذكر فيه نزول الآية. وذكر المهدوي عن أبي هريرة، أن هذا نزل في ثابت بن قيس ورجل من الأنصار - نزل به ثابت - يقال له: أبو المتوكل، فلم يكن عند أبي المتوكل إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: أطفئي السراج ونومي الصبية، وقدم ما كان عنده إلى ضيفه. وكذا ذكر النحاس قال: قال أبو هريرة: نزل برجل من الأنصار - يقال له: أبو المتوكل - ثابت بن قيس ضيفا ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: أطفئي السراج ونومي الصبية، فنزلت: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (3) إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (4) وقيل: إن
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3798) ، صحيح مسلم الأشربة (2054) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3304) .
(2) صحيح البخاري المناقب (3798) ، صحيح مسلم الأشربة (2054) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3304) .
(3) سورة الحشر الآية 9
(4) سورة الحشر الآية 9(22/24)
فاعل ذلك أبو طلحة.
وذكر القشيري أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم، وقال ابن عمر: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال: إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا، فبعثه إليهم، فلم يزل يبعث به واحدا إلى آخر حتى تداولها سبعة أبيات حتى رجعت إلى أولئك فنزلت: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} (1) ذكره الثعلبي عن أنس قال: أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة، وكان مجهودا فوجه به إلى جار له، فتداولته سبعة أنفس في سبعة أبيات، ثم عاد إلى الأول فنزلت: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} (2) الآية. وقال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم بني النضير: «إن شئتم قسمت للمهاجرين من دياركم وأموالكم وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم نقسم لكم من الغنيمة شيئا. فقال الأنصار: بل نقسم لإخواننا من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة. فنزلت {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} (3) الآية» . والأول أصح. وفي الصحيحين عن أنس: «أن الرجل كان يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم النخلات من أرضه حتى فتحت عليه قريظة والنضير، فجعل بعد ذلك يرد عليه ما كان أعطاه (4) » . لفظ مسلم.
وقال الزهري: عن أنس بن مالك: لما قدم المهاجرون من مكة إلى المدينة قدموا وليس بأيديهم شيء، وكان الأنصار أهل الأرض والعقار، فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام ويكفونهم العمل والمؤونة، وكانت أم أنس بن مالك تدعى أم سليم، وكانت أم عبد الله بن أبي طلحة كان أخا لأنس لأمه. وكانت أعطت أم أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاقا (5) لها، فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مولاته، أم أسامة بن زيد. قال ابن شهاب: فأخبرني أنس بن مالك، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما
__________
(1) سورة الحشر الآية 9
(2) سورة الحشر الآية 9
(3) سورة الحشر الآية 9
(4) صحيح مسلم الجهاد والسير (1771) .
(5) العذاق: بكسر العين جمع عذق بفتحها ومعناها النخلات.(22/25)
فرغ من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المدينة، رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم. قال: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمي عذاقها وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مكانهن من حائطه (1) » . خرجه مسلم أيضا.
الثامنة: الإيثار، هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية؛ رغبة في الحظوظ الدينية. وذلك ينشأ عن قوة اليقين وتوكيد المحبة والصبر على المشقة. يقال: آثرته بكذا، أي: خصصته به وفضلته. ومفعول الإيثار محذوف، أي: يؤثرونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم، لا عن غنى بل مع احتياجهم إليها، حسب ما تقدم بيانه. وفي موطأ مالك: أنه بلغه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن مسكينا سألها وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف، فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه. فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه؟ فقالت: أعطيه إياه. قالت: ففعلت. قالت: فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت - أو إنسان - ما كان يهدي لنا: شاة وكفنها، فدعتني عائشة فقالت: كلي من هذا، فهذا خير من قرصك. قال علماؤنا: هذا من المال الرابح والفعل الزاكي عند الله تعالى يعجل منه ما يشاء ولا ينقص ذلك مما يدخر عنده. ومن ترك شيئا لله لم يجد فقده. وعائشة رضي الله عنها في فعلها هذا من الذين أثنى الله عليهم بأنهم يؤثرون على أنفسهم مع ما هم فيه من الخصاصة، وأن من فعل ذلك فقد وقي شرح نفسه وأفلح فلاحا لا خسارة بعده. ومعنى (شاة وكفنها) فإن العرب - أو بعض العرب أو بعض وجوههم - كان هذا من طعامهم يأتون إلى الشاة أو الخروف إذا
__________
(1) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2630) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1771) .(22/26)
سلخوه غطوه كله بعجين البر وكفنوه به ثم علقوه في التنور فلا يخرج من ودكه شيء إلا في ذلك الكفن، وذلك من طيب الطعام عندهم.
وروى النسائي عن نافع، أن ابن عمر اشتكى واشتهى عنبا، فاشتري له عنقود بدرهم، فجاء مسكين فسأل، فقال: أعطوه إياه. فخالف إنسان فاشتراه بدرهم، ثم جاء به إلى ابن عمر فجاء المسكين فسأل فقال: أعطوه إياه. ثم خالف إنسان فاشتراه بدرهم، ثم جاء به إليه فأراد السائل أن يرجع فمنع. ولو علم ابن عمر أنه ذلك العنقود ما ذاقه؛ لأن ما خرج لله لا يعود فيه.
وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا محمد بن مطرف قال: حدثنا أبو حازم، عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع، عن مالك الدار، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار فجعلها في صرة ثم قال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح، ثم تلكأ ساعة في البيت حتى تنظر ماذا يصنع بها. فذهب بها الغلام إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك. فقال: وصله الله ورحمه. ثم قال: تعالي يا جارية، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفذها. فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل، وقال: اذهب بها إلى معاذ بن جبل وتلكأ في البيت ساعة حتى تنظر ماذا يصنع. فذهب بها إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك. فقال: رحمه الله ووصله. وقال: يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، وبيت فلان بكذا. فاطلعت امرأة معاذ فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا. ولم يبق في الخرقة إلا ديناران قد جاء بهما إليها. فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فسر بذلك عمر وقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض. ونحوه عن عائشة رضي الله عنها في إعطاء معاوية إياها وكان عشرة آلاف، وكان المنكدر دخل عليها. فإن قيل: وردت أخبار صحيحة في النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء. قيل له: إنما كره ذلك في حق من لا(22/27)
يوثق منه الصبر على الفقر، وخاف أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه، فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم بالإيثار على أنفسهم فلم يكونوا بهذه الصفة، بل كانوا كما قال الله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} (1) ، وكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك.
والإمساك لمن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار، وروي «أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل البيضة من الذهب فقال: هذه صدقة. فرماه بها وقال: " يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به، ثم يقصد يتكفف الناس (2) » . والله أعلم.
التاسعة: - والإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس. ومن الأمثال السائرة: "
الجود بالنفس أقصى غاية الجود
ومن عبارات الصوفية الرشيقة في حد المحبة أنها الإيثار، ألا ترى أن امرأة العزيز لما تناهت في حبها ليوسف عليه السلام آثرته على نفسها فقالت: أنا راودته عن نفسه. وأفضل الجود بالنفس الجود على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح «أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم فيقول له أبو طلحة: لا تشرف يا رسول الله، لا يصيبونك، نحري دون نحرك. ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت» .
وقال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي - ومعي شيء من الماء - وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته. فإذا أنا به فقلت له: أسقيك؟ فأشار برأسه أن نعم، فإذا أن برجل يقول: آه آه. فأشار إلى ابن عمي أن انطلق إليه، فإذا هو هشام
__________
(1) سورة البقرة الآية 177
(2) سنن أبو داود الزكاة (1673) ، سنن الدارمي الزكاة (1659) .(22/28)
ابن العاص فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم. فسمع آخر يقول: آه آه، فأشار هشام أن انطلق إليه، فجئته فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات. وقال أبو يزيد البسطامي: ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ قدم علينا حاجا فقال لي: يا أبا يزيد، ما حد الزهد عندكم؟ فقلت: إن وجدنا أكلنا وإن فقدنا صبرنا. فقال: هكذا كلاب بلخ عندنا. فقلت: وما حد الزهد عندكم؟ قال: إن فقدنا شكرنا وإن وجدنا آثرنا.
وسئل ذو النون المصري: ما حد الزاهد المنشرح صدره؟ قال: ثلاث: تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار عند القوت. وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلا بقرية من قرى الري ومعهم أرغفة معدودة لا تشبع جميعهم، فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج وجلسوا للطعام، فلما رفع فإذا الطعام بحاله، لم يأكل منه أحد شيئا؛ إيثارا لصاحبه على نفسه.
العاشرة: قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (1) الخصاصة: الحاجة التي تختل بها الحال، وأصلها من الاختصاص وهو الانفراد بالأمر. فالخصاصة: الانفراد بالحاجة، أي: ولو كان بهم فاقة وحاجة، ومنه قول الشاعر:
أما الربيع إذا تكون خصاصة ... عاش السقيم به وأثرى المقتر
وقال تقي الدين الفاسي المكي: (2) وذكر ابن عبد البر، أن عكرمة كان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأبوه، وكنى النبي صلى الله عليه وسلم أباه بأبي جهل وكان يكنى أبا الحكم، وكان عكرمة فارسا مشهورا أسلم وحسن إسلامه، وكان مجتهدا في قتال المشركين مع
__________
(1) سورة الحشر الآية 9
(2) ص 121 - 132 من ج 6 من العقد الثمين.(22/29)
المسلمين، واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حج على هوازن بصدقتها، ووجهه أبو بكر إلى عمان، وكانوا ارتدوا فظهر عليهم. ثم وجهه أبو بكر إلى اليمن، وولى عمان حذافة القلعان. ثم لزم عكرمة الشام مجاهدا حتى قتل يوم اليرموك في خلافة عمر. هذا قول ابن إسحاق.
واختلف في ذلك قول الزبير بن بكار فقال: قتل يوم اليرموك شهيدا، وقال في موضع آخر: استشهد يوم أجنادين. وقيل: إنه قتل يوم مرج الصفر، وكانت أجنادين ومرج الصفر في عام واحد سنة ثلاث عشرة في آخر خلافة أبي بكر رضي الله عنه.
وروى الزبير عن محمد بن الضحاك (1) بن عثمان عن أبيه: أن عكرمة لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم أن يستغفر له فاستغفر له. فقال عكرمة: والله لا أدع نفقة كنت أنفقها في صد عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله. ثم اجتهد في العبادة حتى قتل في زمن عمر رضي الله عنه. وروى الزبير بسنده إلى الأعمش، عن أبي إسحاق نحوه، وقال: فلما كان يوم اليرموك نزل فترجل وقاتل قتالا شديدا فقتل، فوجد به بضع وسبعون من بين طعنة وضربة ورمية.
وقال الزبير (2) : حدثني عمي (3) عن جدي عبد الله بن مصعب قال: استشهد يوم اليرموك الحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو، وأتوا بماء وهم صرعى فتدافعوه، كلما دفع إلى رجل منهم قال: اسق فلانا.
__________
(1) هو الضحاك بن عثمان، صدوق، مات سنة 180 هـ.
(2) هو ابن بكار.
(3) هو مصعب بن عبد الله بن مصعب، ثقة.(22/30)
حتى ماتوا ولم يشربوا. قال: طلب عكرمة الماء فنظر إلى سهيل ينظر إليه. فقال: ادفعه إليه. فنظر سهيل إلى الحارث ينظر إليه فقال: ادفعه إليه. فلم يصل إليه حتى ماتوا كلهم رضي الله عنهم. وذكر هذا الحديث محمد بن سعد إلا أنه جعل مكان سهيل عياش بن أبي ربيعة، وذكر ابن سعد أنه ذكره للواقدي فقال: هذا وهم، روينا عن أصحابنا أهل العلم والسير، أن عكرمة بن أبي جهل قتل يوم أجنادين شهيدا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه لا خلاف بينهم في ذلك. انتهى.
وذكر الحسن بن عثمان الزيادي، أنه استشهد بأجنادين وهو ابن اثنتين وستين سنة) اهـ.
وقال تقي الدين الفاسي أيضا:
قال المدائني: قتل سهيل بن عمرو باليرموك. وقيل: بل مات في طاعون عمواس. وقال النووي: استشهد باليرموك، وقيل: بمرج الصفر، وذكر القول بوفاته في طاعون عمواس.
وقال أيضا: قال محمد بن عمر: وشهد الحارث بن هشام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غنائم حنين مائة من الإبل. قال: وقال أصحابنا: لم يزل الحارث بن هشام مقيما بمكة بعد أن أسلم حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غير مغموص عليه في إسلامه، فلما جاء كتاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه يستنفر المسلمين إلى غزو الروم قدم الحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو على أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالمدينة، فأتاهم في منازلهم فرحب بهم وسلم عليهم وسر بمكانهم، ثم خرجوا مع المسلمين غزاة إلى الشام. فشهد الحارث فحل وأجنادين ومات بالشام في طاعون عمواس. فتزوج عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابنته أم حكيم بنت الحارث بن هشام، وهي أخت عبد الرحمن بن(22/31)
الحارث، فكان عبد الرحمن يقول: ما رأيت ربيبا خيرا من عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقال أيضا: قال محمد بن سعد: عن محمد بن عمر الواقدي، حدثنا يزيد بن فراس عن سنان بن أبي سنان الديلي عن أبيه قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقدم عليه سهيل بن عمرو والحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل، فأرسل إلى كل واحد منهم بخمسة آلاف وفرس. قال الواقدي: هذا أغلط الأحاديث، إنما قدموا على أبي بكر وكان أول الناس ضرب خيمة في عسكر أبي بكر رضي الله عنه، فكيف يكون في خلافة عمر رضي الله عنه؟ هذا لا يعرف. وأما سهيل بن عمرو والحارث بن هشام فقد شهدا أجنادين، الحارث بن هشام يحمل راية المسلمين يوم أجنادين، فكيف يكون مع عمر رضي الله عنه، ومات بالشام في طاعون عمواس؟
وقال محمد بن عبد الله الأنصاري: عن أبي يونس القشيري، حدثني حبيب بن أبي ثابت، أن الحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وعياش بن أبي ربيعة ارتثوا يوم اليرموك فدعى الحارث بماء ليشربه، فنظر إليه عكرمة فقال الحارث: ادفعوه إلى عكرمة. فنظر إليه عياش بن أبي ربيعة فقال عكرمة: ادفعوه إلى عياش. فما وصل إلى عياش ولا إلى أحد منهم حتى ماتوا وما ذاقوه. رواه محمد بن سعد عن الأنصاري. وقال في آخره: فذكرت هذا الحديث لمحمد بن عمر فأنكره، وقال: هذا وهل، روايتنا(22/32)
عن أصحابنا جميعا من أهل العلم والسير أن عكرمة بن أبي جهل قتل يوم أجنادين شهيدا في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، لا اختلاف بينهم في ذلك. وأما عياش بن أبي ربيعة فمات بمكة. وأما الحارث بن هشام فمات بالشام في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة. وهكذا ذكر غير واحد في تاريخ وفاته. وقد روي أنه بقي إلى زمن عثمان رضي الله عنه. .) اهـ من ص 34 - 35 من جـ 4 من الدر الثمين.
وقال أيضا (1) : عياش بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، اختلف في تاريخ وفاته، فقيل: قتل يوم اليمامة في خلافة أبي بكر رضي الله عنهما، وقيل: يوم اليرموك. قاله موسى بن عقبة. وقيل: في خلافة عمر رضي الله عنه. وقيل: مات بمكة. قاله أبو جعفر الطبري.
وقال ابن حجر (2) رحمه الله: قال ابن أبي خيثمة: مات سهيل بالطاعون سنة ثماني عشرة، ويقال: قتل باليرموك. وقال خليفة: بمرج الصفر، والأول أكثر، وأنه مات بالطاعون، وأخرجه ابن سعد بإسناد له إلى أبي سعد بن فضالة وكانت له صحبة، قال: اصطحبت أنا وسهيل بن عمرو إلى الشام فسمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مقام أحدكم في سبيل الله ساعة من عمره خير من عمله عمرة في أهله (3) » . قال سهيل: فإنما أرابط حتى أموت ولا أرجع إلى مكة. قال:. . فلم يزل مقيما بالشام حتى مات في طاعون عمواس.
__________
(1) ص 452، 453 من جـ 6 من العقد الثمين
(2) الإصابة في تمييز الصحابة جـ 3 ص 146، ص 147.
(3) سنن الترمذي فضائل الجهاد (1650) ، مسند أحمد بن حنبل (2/524) .(22/33)
وقال ابن قتيبة:
وروى عبد الله بن بكر السهمي، عن حاتم بن أبي صغيرة، عن حبيب بن أبي ثابت أن الحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وعياش بن أبي ربيعة جرحوا يوم اليرموك حتى انبتوا، فدعا الحارث بن هشام بماء ليشربه. فنظر إليه عكرمة. فقال: ادفعه إلى عكرمة. فنظر إليه عياش. فقال عكرمة: ادفعه إلى عياش، فما وصل إلى عياش حتى مات. ولا عاد إليهم حتى ماتوا، فسمي هذا حديث الكرام.
وهذا عندي موضوع؛ لأن أهل السيرة يذكرون أن عكرمة قتل يوم أجنادين وعياش مات بمكة والحارث مات بالشام في طاعون عمواس. انتهى من عيون الأخبار جـ 1 ص 339 - 340.
وقال العلامة شمس الدين ابن مفلح المقدسي في تعليقه على حديث إكرام الأنصاري ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم: وفيه الاحتيال والتلطف بإكرام الضيف على أحسن الوجوه، والحديث محمول على أنه لم يكن الأنصاري وأولاده في حاجة إلى الأكل بحيث يحصل الضرر بتركه وإلا لوجب تقديمهم شرعا على حق الضيف، وفيه الإيثار ممن لم يتضرر بأمور الدنيا (1) .
__________
(1) ص 194 ج 3 الآداب الشرعية.(22/34)
قال الحافظ الهيثمي رحمه الله: (1) .
وعن خبيب بن أبي ثابت، أن الحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وعياش بن أبي ربيعة أصيبوا يوم اليرموك فدعا الحارث بشراب فنظر إليه عكرمة فقال: ادفعوه إلى عكرمة. فدفع إليه فنظر إليه عياش بن أبي ربيعة فقال عكرمة: ادفعوه إلى عياش. فما وصل إلى أحد منهم حتى ماتوا جميعا وما ذاقوه. رواه الطبراني وخبيب لم يدرك اليرموك، وفي إسناده من لم أعرفه) . اهـ.
وقال أيضا: (2) .
وعن أنس بن مالك، «عن نبي الله صلى الله عليه وسلم: سلك رجلان مفازة عابد والآخر به رهق، فعطش العابد حتى سقط، فجعل صاحبه ينظر إليه وهو صريع فقال: والله لئن مات هذا العبد الصالح عطشا ومعي ماء لا أصبت من مال الله خيرا، ولئن سقيته مائي لأموتن. فتوكل على الله وسقاه وعزم، فرش عليه من مائه وسقاه فضله، فقام فقطعا المفازة، فيوقف الذي به رهق للحساب فيؤمر به إلى النار فتسوقه الملائكة، فيرى العابد فيقول: يا فلان، أما تعرفني؟ فيقول: ومن أنت؟ قال: أنا فلان الذي آثرتك على نفسي يوم المفازة. فيقول: بلى، أعرفك، فيقول للملائكة: قفوا. فيقفوا، فيجيء حتى يقف فيدعو ربه عز وجل فيقول: يا رب، قد عرفت يده عندي وكيف آثرني على نفسه، يا رب، هبه لي. فيقول: هو لك. فيجيء فيأخذ بيد أخيه فيدخله الجنة» . فقلت لأبي ظلال: أحدثك أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. رواه الطبراني في الأوسط، وأبو ظلال وثقه البخاري وابن حبان، وفيه كلام. اهـ.
__________
(1) ص 213 من جـ 6 مجمع الزوائد ومنبع الفوائد.
(2) ص 132 - 133 من جـ 3 من مجمع الزوائد ومنبع الفوائد.(22/35)
وقال ابن حجر رحمه الله: (1) .
(خت ت) هلال بن أبي هلال، ويقال: ابن أبي مالك واسم أبيه ميمون، ويقال: سويد، ويقال: يزيد، ويقال: زيد، أبو ظلال القسملي البصري الأعمى، روى عن أنس بن مالك، وعن حماد بن سلمة، وعبد العزيز بن مسلم، وجعفر بن سليمان، وسلام بن مسكين، ومروان بن معاوية، ويحيى بن المتوكل، وشعيب بن بيان، ويزيد بن هارون، وغيرهم.
قال معاوية بن صالح عن أبي معين: أبو ظلال اسمه هلال ليس بشيء. وقال الدوري عن ابن معين: أبو ظلال هو هلال القسملي، ضعيف ليس بشيء. وقال البخاري. . . مقارب الحديث. وقال الآجري: سألت أبا داود عنه فلم يرضه وغمزه. وقال النسائي: ضعيف. وقال مرة: ليس بثقة. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابعه عليه الثقات. وذكره ابن حبان في الثقات، قلت: إنما ذكر ابن حبان في الثقات هلال بن أبي هلال، ويروي عن أنس وعنه يحيى بن المتوكل، وأما أبو ظلال فقد ذكره في الضعفاء، فقال: شيخ مغفل لا يجوز الاحتجاج به بحال؛ يروي عن أنس ما ليس من حديثه. وقد فرق البخاري في التاريخ بينه وبين أبي ظلال، وكلام المزي يقتضي أنهما واحد؛ فلذلك ذكر يحيى بن المتوكل في الرواة عن أبي ظلال، وقال البخاري: أبو ظلال عنده مناكير. وقال يعقوب بن سفيان: لين الحديث. وقال أبو الفتح الأزدي: ضعيف. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. وقال النسائي في الكنى: ثنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا مروان، ثنا أبو ظلال هلال القسملي وليس بشيء) . اهـ.
__________
(1) ج 11 من تهذيب التهذيب.(22/36)
وقال العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله: (1)
(فصل) ومنها كمال صحبة الصديق له وقصده التقرب إليه والتحبب بكل ما يمكنه؛ ولهذا ناشد المغيرة أن يدعه هو يبشر النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم وفد الطائف ليكون هو الذي سره وفرحه بذلك، وهذا يدل على أنه يجوز للرجل أن يسأل أخاه أن يؤثره بقربة من القرب، فإنه يجوز للرجل أن يؤثر أخاه، وقول من قال من الفقهاء: لا يجوز الإيثار بالقرب. لا يصح، وقد آثرت عائشة عمر بن الخطاب بدفنه في بيتها جوار النبي صلى الله عليه وسلم، وسألها عمر ذلك، فلم تكره له السؤال ولا لها البذل، وعلى هذا فإذا سأل الرجل غيره أن يؤثره بمقامه في الصف الأول لم يكن يكره له السؤال ولا لذلك البذل ونظائره، ومن تأمل سيرة الصحابة وجدهم غير كارهين لذلك ولا ممتنعين منه، وهل هذا إلا كرم وسخاء وإيثار على النفس بما هو أعظم محبوباتها تفريجا لأخيه المسلم وتعظيما لقدره وإجابة له إلى ما سأله وترفيها له في الخير، وقد يكون ثواب كل واحد من هذه الخصال راجحا على ثواب تلك القربة، فيكون المؤثر بها ممن تاجر، فبذل قربة وأخذ أضعافها، وعلى هذا فلا يمتنع أن يؤثر صاحب الماء بمائه أن يتوضأ به ويتيمم هو إذا كان لا بد تيمم أحدهما، فآثر أخاه وحاز فضيلة الإيثار وفضيلة الطهر بالتراب، ولا يمنع هذا كتاب ولا سنة ولا مكارم أخلاق، وعلى هذا فإذا اشتد العطش بجماعة وعاينوا التلف ومع بعضهم ماء فآثر به على نفسه واستسلم للموت كان ذلك جائزا، ولم يقل أنه قاتل لنفسه ولا أنه فعل محرما، بل هذا غاية الجود والسخاء، كما قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (2) وقد جرى هذا بعينه لجماعة من الصحابة في فتوح الشام
__________
(1) ص 200 من جـ 2 من زاد المعاد.
(2) سورة الحشر الآية 9(22/37)
وعد ذلك من مناقبهم وفضائلهم، وهل إهداء القرب المجمع عليها والمتنازع فيها إلى الميت إلا إيثار بثوابها، وهو عين الإيثار بالقرب، فأي فرق بين أن يؤثره ليحرز ثوابها وبين أن يعمل ثم يؤثره بثوابها؟ وبالله التوفيق. اهـ.
مما تقدم يتبين ما يأتي:
أولا: أن قصة الصحابة الثلاثة - رضي الله عنهم - الذين آثر بعضهم بعضا بالماء القليل حتى ماتوا ولم يشربوا، لم تثبت فيما نعلم حتى تكون نوعا من الإيثار المعتبر شرعا، وأصلا يقاس عليه غيره. فإن بعض العلماء ذكرها بلا إسناد كالقرطبي في تفسيره ولا حجة في نقل لا إسناد له.
وبعضهم رواها بإسناد غير متصل مع ما في بعض رواته من الطعن الذي لا يقبل معه نقله. وبيان ذلك: إن الزبير بن بكار رواها، عن عمه مصعب بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، عن جده، عن عبد الله بن مصعب بن ثابت قال: استشهد يوم اليرموك الحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو، وأتوا بماء وهم صرعى فتدافعوه. . . إلى آخر القصة. وعبد الله بن مصعب بن ثابت ضعيف ومع ذلك لم يشهد واقعة اليرموك؛ فإنه ولد عام 111هـ، بل لم يدركها والده مصعب؛ لأنه ولد عام 84 هـ وواقعة اليرموك كانت عام 15 من الهجرة على الصحيح.
وروى القصة أيضا محمد بن سعد، عن محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أبي يونس القشيري، وهو حاتم بن أبي صغيرة عن حبيب بن أبي ثابت، وذكرها أيضا ابن قتيبة، عن عبد الله بن(22/38)
بكر السهمي، عن حاتم بن أبي صغيرة، عن حبيب بن أبي ثابت، أن الحارث وعكرمة بن أبي جهل وعياش بن أبي ربيعة جرحوا يوم اليرموك. . . إلى آخر القصة، وقد ذكر غير واحد أن حبيب بن أبي ثابت مدلس، وقال ابن حجر في التقريب: إنه ثقة فقيه جليل، وكان كثير الإرسال والتدليس. اهـ، ولم يصرح بأنه شهد واقعة اليرموك، بل الغالب أنه لم يدركها؛ فإنه توفي عام 119هـ وكانت الواقعة عام 15هـ.
ثانيا: في متن القصة اختلاف في تعيين الثلاثة الذين آثر بعضهم بعضا بالماء، واضطراب في تاريخ وفاتهم ومكانه، وفي السبب الذي مات كل منهم به، وهذا مما يؤيد عدم صحة القصة، ولهذا حكم ابن قتيبة عليها بالوضع.
ثالثا: إنه على تقدير صحة هذه القصة سندا وسلامة متنها من الاضطراب لا يتعين فيها أن يكون كل آثر غيره بالماء القليل مع علمه أو غلبة ظنه أنه يموت بسبب هذا الإيثار؛ لاحتمال أن يكون آثر أخاه بالماء وهو يرجو لنفسه الحياة دون شربه، ويرى أخاه أحوج إليه منه، أو يكون قد غلب على ظنه بالأمارات أن الماء لا ينقذه من الموت؛ لأن الجراح قد أثبتته وأنفذت مقاتله، ورأى أن ينقذ أخاه حسب الأسباب العادية فآثره به على نفسه، ومع هذه الاحتمالات لا يتم الاستدلال بالقصة على المطلوب.
رابعا: ما ذكره القرطبي في تفسير سورة الحشر من سائر الأحاديث والآثار في بيان فضيلة الإيثار، وكذا ما ذكر بعده في ذلك لا يدل على جواز الإيثار بما يفضي إلى هلاك المؤثر أو إصابته بضرر أو(22/39)
خطر فادح بل غايته أن يدل على إيثار من هو أحوج بشيء يصاب المؤثر من جرائه بجهد ومشقة اتقاء لأشد الضررين بأخفهما مع إمكانه استدراك ما فاته بالأخذ بالأسباب العادية من غذاء ونحوه.
خامسا: أن حفظ النفس والأعضاء من الضروريات الخمس، فلا يجوز لإنسان أن يؤثر غيره بشيء منها إلا إذا كان من الضروريات في مرتبة أعلى كحفظ الدين بالجهاد في سبيل الله مثلا.
ثالثا: إذا قيل أن إذن الإنسان بأخذ جزء من جسده لمصلحة جسده جائز شرعا، فهل يقاس على ذلك إذنه بأخذ جزء من جسده لمصلحة أخيه المسلم من غير ضرر يلحقه؟
الجزء الذي يراد أخذه من جسد إنسان لزرعه فيه من أجل مصلحته أو لزرعه في جسم أخيه المسلم من أجل مصلحته قد يكون عضوا كالقلب والكلية والعين والرئة، أو جزء من عضو كالقرنية أو قطعة من اللحم أو العظم، والأول: لا يتصور في الإنسان الواحد أو يبعد فيه على الأقل، وعلى هذا لا يصح أن يعتبر أصلا يقاس عليه أخذ عضو من إنسان ليزرع في أخيه المسلم لمصلحة أخيه.
أما الثاني: وهو أخذ جزء من عضو إنسان لزرعه فيه بمكان آخر من جسمه، فهو محل نظر واجتهاد، فقد يقال: إنه جائز إذا كان هناك ضرورة أو شدة حاجة تدعو إلى هذه العملية، وأمن من الخطر في نقل الجزء وزرعه، وغلب على ظن الخبراء في هذا النوع من الطب نجاح زرعه في الجسم؛ لأن في ذلك تحقيق مصلحة في العضو الذي زرع فيه هذا الجزء ودفع خطر عنه أو عمن هو فيه(22/40)
دون حدوث خطر في المحل المنقول منه أو مع حدوث ضرر فيه، لكنه مرجوح بالنسبة للخطر الذي دفع عن المحل المنقول إليه، وقد يزول ما حدث من الضرر عن المحل الذي نقل منه الجزء بنموه من تناول الأغذية ونحوها على مر الأيام، مثال ذلك أخذ جزء من عظم إنسان بمكان من الجسم لا خطر فيه لزرعه مكان عظم متهشم في مكان خطير أو أخذ جزء من لحم إنسان بمكان خفي لا خطر فيه لترقيع موضع آخر فيه؛ تجميلا له أو دفعا لخطر عنه، ففي هذا مراعاة لمقاصد الشريعة، وبناء على ما تقرر من القاعدة المعروفة من تقديم أقوى المصلحتين تحقيقا لزيادة المصلحة وارتكاب أخف الضررين تفاديا لأشدهما.
أما إذا كان ينشأ عن أخذ جزء من العضو خطر أو كان لا يرجى نجاح زرعه أو لم تكن هناك ضرورة أو حاجة، فلا يجوز هذا الإجراء لعدم المقتضى له أو لوجود المانع من الخروج عن الأصل، وهو وجوب المحافظة على النفس والأعضاء.
وعلى هذا يمكن أن يقال: إن أخذ جزء من عضو إنسان حي وزرعه على آخر مسلم يشبه أخذه من الإنسان وزرعه فيه نفسه، فيجري فيه التفصيل المتقدم في الحكم بالجواز عملا بقاعدة المصلحة المعروفة وتحقيقا لمعنى الإيثار فيما لا يعود على المؤثر منه خطر أو هلاك، بل مع إمكانه استدراك ما فقده بنماء المحل الذي أخذ منه الجزء.
وقد يقال: إن ذلك ممنوع لوجود الفارق بين ضرورة الإنسان أو حاجته إلى إجراء مثل هذه العملية لمصلحة نفسه وضرورة(22/41)
إجرائها فيه لمصلحة غيره، فإنه على تقدير فوات المصلحة أو حصول خطر في صورة المقيس عليه لا يتعدى ذلك نفسا واحدة أو عضوا منها، وفي صورة المقيس قد يتعدى إلى نفسين أو عضوين كل منهما في شخص. وقد سبق ذكر فتوى في هذا الموضوع من فضيلة الشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي رحمه الله (1) ، هذا بالنسبة لأخذ جزء عضو من إنسان حي معصوم النفس والأعضاء، أما بالنسبة لأخذ عضو أو جزئه من ميت مسلم أو ذمي فقد سبق بيانه في آخر القسم الأول من هذا البحث (2) .
وقد سبق ذكر فتوى لفضيلة مفتي الديار المصرية - سابقا - الشيخ حسنين محمد مخلوف في مبحث نقل قرنية العين (3) .
وسبق أيضا في ص 18 نقل من المغني لابن قدامة رحمه الله مع تلخيص له تحت عنوان مدى ملك الإنسان التصرف في نفسه أو في عضو من أعضائه يعتبر أصلا في الموضوع. وللدكتور عبد الكريم زيدان كلمة في استعمال أعضاء الميت في معالجة الحي نذكرها فيما يلي:
قال الدكتور عبد الكريم زيدان:
(استعمال أعضاء الميت في معالجة الحي) .
قد تكون هنا ضرورة لاستعمال أعضاء الميت في علاج المريض
__________
(1) ص 19 من مبحث القرنية.
(2) ص 4.
(3) ص 16 - 18.(22/42)
كترقيع قرنية بقرنية ميت حديث الوفاة أو بانتزاع أي جزء آخر من ميت واستعماله في علاج مريض يخشى عليه الهلاك أو تلف عضو من أعضائه، فهل يجوز ذلك لضرورة المرض أم لا؟
الظاهر لي الجواز قياسا على ما ذهب إليه فريق من الفقهاء من إباحة أكل الميت للمضطر في المخمصة؛ لأنه إذا جاز أكل الميت لضرورة الجوع جاز الانتفاع ببعض أجزائه لدفع الهلاك عن المريض أو عن جزء من أجزائه. وقد يقال هنا: إن إباحة أكل الميت للمضطر في المخمصة لكونه يدفع عنه الجوع يقينا، وليس الأمر كذلك في المعالجة باستعمال بعض أجزاء الميت، والجواب هو ما قلناه سابقا من أن غلبة الظن بالنجاة والشفاء تكفي. وقد يقال أيضا: إذا جاز استعمال أجزاء الميت لدفع الهلاك عن نفس المريض، فكيف يجوز لدفع تلف عضو من أعضائه؟
والجواب أن حرمة الأعضاء كحرمة النفس تبعا لها كما قال الفقهاء، ولذلك كان التهديد بإتلاف عضو من الإنسان إكراها ملجئا، كتهديده بإتلاف نفسه ويبيح للمكره فعل المحظور.
هذا وإن ما استظهرته من إباحة استعمال أعضاء الميت في معالجة المريض يشترط فيه قيام حالة ضرورة المرض وعدم وجود مباح يقوم مقامه، وأن يغلب على الظن حصول الشفاء في غالب الظن على ما يقرره أهل الخبرة العدول.
وقد كتب الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد إلى عدة جهات علمية في الدول الإسلامية يطلب منها ما لديها من البحوث في حكم نقل عضو أو قرنية عين من إنسان وزرعه في آخر، فجاء الجواب من وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية بجمهورية الجزائر(22/43)
بأن بعض الأطباء المسلمين في مستشفيات الجزائر سأل عن حكم الشرع في نقل الدم من صحيح إلى مريض، وفي نقل بعض أعضاء من إنسان وزرعها في إنسان آخر كالكلية والقلب والعين، فأجابت لجنة الفتوى عن ذلك، وفيما يلي ذكر ما ورد من ذلك: -
نص الفتوى التي أصدرتها لجنة الإفتاء التابعة للمجلس الإسلامي الأعلى في الجزائر بتاريخ 6 من ربيع الأول عام 1392 هـ (20 إبريل 1972م) حول " نقل الدم وزرع الأعضاء ".
لقد كانت وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية قد تلقت استفتاء واردا عليها من بعض الأطباء المسلمين يعملون في مستشفيات الدولة الجزائرية. ويسألون عن حكم الشرع في نقل الدم من صحيح إلى مريض، وفي زرع بعض الأعضاء كالكلية والقلب والعين (ترقيع القرنية) . وبعض هذه الأعضاء قد تؤخذ من الحي وبعضها إنما تؤخذ من الميت.
وقد اجتمعت لجنة الفتوى وأحيل إليها الاستفتاء، واستدعت لحضور اجتماعها بعض الأطباء المسلمين الموثوق بعلمهم وخبرتهم المهنية الفنية، وبأمانتهم وديانتهم وتمسكهم بالتعاليم الدينية، وطلب منهم بيانات حول الموضوع.
وقد شرحوا أمام اللجنة فنيات هذه العمليات، وأن الدم ينقل من حي صحيح سليم الجسم من الأمراض إلى مريض في حاجة ملحة إلى الدم لنزيف حصل له، أو لتعسر غذائه، أو لعملية جراحية ضرورية لإنقاذه من خطر، خصوصا وأن العمليات الجراحية قد ينزف من جرائها جزء كبير(22/44)
من دم المريض ويتعرض لخطر شديد، فلا بد من نقل الدم إليه من صحيح لينجو من الخطر. وقد بينوا أن الدم لا ينقل إلا بعد احتياطات كبيرة من فحص الدم وسلامته من الأمراض، ومعرفة نوعه وموافقته لدم المريض والتأكد من قبول جسمه له.
وأما (الكلية) فإنها قد تنقل من جسم شخص حي سليم من الأمراض يتبرع بها عن طوع واختيار، وتزرع في جسم مريض انتهت - طبيا - وظيفة كليته المريضة وعرضته لخطر شديد. ويستطيع المتبرع أن يعيش أمدا طويلا بكلية واحدة عيشة عادية.
وأما القلب فإنما يؤخذ من (ميت) حديث الموت سليم القلب من الأمراض بعد أن يحكم الأطباء بموته وانتهاء حياته ويتيقنوا أنه يستحيل - طبيا - أن يكون قد بقي أمل في استعادة حياته الدنيا. ومثل القلب أخذ العين من ميت ومعالجة عين مريض يتأكد استعادته بها للرؤية.
وقد شرح الأطباء أن هذه العمليات قد نجحت طبيا نجاحا باهرا، وأن ملايين المرضى ينتفعون بها، وخصوصا في نقل الدم، ومئات الآلاف في جراحة العين، والآلاف في جراحة الكلية والقلب.
وكان ذلك يقع بتبرع من الأصحاء كنقل الدم والكلية، وأما العين والقلب فإن الميت قد يكون تبرع بقلبه أو عينه قبل وفاته وأوصى أن تنفذ إرادته بعد موته أو يتبرع وليه بعد وفاته.(22/45)
رأي لجنة الفتوى في نقل الدم وزرع الأعضاء:
بعد أن سمعت لجنة الفتوى بيان الأطباء، وبعد مناقشة بين العلماء،(22/45)
أصدرت البيان التالي: -
أولا: إن حفظ النفوس من الكليات المتفق عليها بين القوانين الوضعية والشرائع السماوية، ومن أغراض الشريعة الإسلامية حفظ الأنفس والأموال والأعراض والدين والعقل. ومن أجل هذا كان قتل النفس بغير حق من أشد الجرائم التي تعرض مرتكبيها إلى غضب الله وسخطه، فمن قتل مؤمنا متعمدا بغير موجب استحق الخلود في النار بنص القرآن الكريم، كما أن إحياء النفوس يعتبر من أعظم القربات، يشهد لذلك قوله تعالى في قصة ابني آدم وقد قتل أحدهما أخاه بغير حق: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (1) .
وإحياء النفس بحفظها من هلاك أشرفت عليه. قال الشوكاني في تفسيره " فتح القدير ": (روي عن مجاهد أن إحياءها إنجاؤها من غرق أو حرق أو تهلكة. حكاه عنه ابن جرير وابن المنذر) ثم قال: (الإحياء هنا عبارة عن الترك والإنقاذ من هلكة فهو مجاز؛ إذ المعنى الحقيقي مختص بالله عز وجل، والمراد بهذا التشبيه، في جانب القتل، تهويل أمر القتل وتعظيم أمره في النفوس حتى ينزجر أهل الجراءة والجسارة، وفي جانب الإحياء الترغيب إلى العفو عن الجناة واستنقاذ المتورطين في الهلكات) (اهـ) .
وقال الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار: (أي من كان سببا لحياة نفس واحدة بإنقاذها من موت كانت مشرفة عليه، فكأنما أحيا
__________
(1) سورة المائدة الآية 32(22/46)
الناس جميعا؛ لأن الباعث على إنقاذ الواحدة - وهو الرحمة والشفقة، ومعرفة قيمة الحياة الإنسانية، واحترامها، والوقوف عند حدود الشريعة في حقوقها - تندغم فيه جميع حقوق الناس عليه، فهو دليل على أنه إذا استطاع أن ينقذهم كلهم من هلكة يراهم مشرفين على الوقوع فيها لا يني في ذلك ولا يدخر وسعا، ومن كان كذلك لا يقصر في حق من حقوق البشر عليه. . .) .
ثم قال: " الآية تعلمنا ما يجب من وحدة البشر، وحرص كل واحد منهم على حياة الجميع، والقيام بحق الفرد من حيث إنه عضو من النوع ". (اهـ.) .
ومن هذين النقلين نرى أن علماء التفسير، من لدن مجاهد إلى محمد رشيد رضا، يرون أن الآية تدل على عموم الإحياء، مما يشمل إنقاذها من تهلكة أشرفت عليها، ويدخل في أسباب الهلاك بلا شك إشرافها بالمرض الميؤوس من شفائه إلا بواسطة نقل دم أو زرع عضو مما يحفظ الحياة، أو يعيد النظر إلى من فقد نوره وعدم الإبصار.
ومن المعلوم من قواعد الدين أن إنقاذ المشرف على الهلاك، أو الوقوع في مضرة شديدة من فروض الكفاية على كل من استطاعه، فإن قام به بعضهم سقط عن الباقين وأثيب على فعله من قام به، وإن تركه الجميع أثموا جميعا.
ثانيا: حيث إن هذا الإنقاذ يتم بتبرع الإنسان بجزء من دمه أو جزء من جسمه، يتطوع بذلك عن اختيار واحتساب، دون أن يخاف ضررا أو هلاكا - كما هو الحال في نقل الدم، أو زرع الكلية - فإنه يعتبر من باب الإحسان وعمل البر، والإيثار على النفس،(22/47)
وقد أمر الله بذلك، ومدح الذين يؤثرون على أنفسهم، وقد نزلت آية الإيثار في الأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبل المهاجرين: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (1) .
وقد جاء في أسباب النزول أن بعضهم آثروا إخوانهم على أنفسهم بطعام ورد عليهم، وكانوا في شدة الحاجة إليه، فتحملوا ألم الجوع وضرره في أنفسهم وعيالهم، فاستحقوا هذا المدح الرباني والنص القرآني.
فإذا كان من أحيا أخاه بلقمة من طعام أو جرعة من شراب يستحق مثل هذا الثناء، فكيف بمن يؤثر أخاه بجزء من دمه، أو ببعض أعضائه لإنقاذه من هلاك وشفائه من داء وإنهاء محنته وآلامه، وتمكينه من استعادة صحته، فالظاهر أن النقل من حي صحيح سالم برضا منه وتبرع بعيد عن كل إلزام وإكراه، ليس فيه على صحته وحياته خطر محقق أو مظنون، مما لا ينبغي أن يتوقف فيه ويشك في جوازه، بل هو من عمل البر المرغب فيه، ومن الفروض الكفائية على جماعة المسلمين.
ثالثا: في حالة زرع القلب أو عملية ترقيع العين، تستعمل أعضاء إنسان قد مات، ولا يمكن في حالة القلب بالخصوص استعمال قلب إنسان حي، ولو رضي بذلك؛ لأن انتزاع القلب يوجب وفاته ولا يجوز قتل إنسان لحفظ حياة آخر؛ لأن في ذلك جريمة لا تقرها الشرائع.
__________
(1) سورة الحشر الآية 9(22/48)
واستعمال أعضاء من مات لا يخلو من أحوال ثلاثة:
(1) أن يتبرع المنقول منه بعضوه في حال حياته، بحيث يوصي أن يؤخذ منه بعد وفاته، ويأذن في تشريح جثته ليزرع عضوه في جسم شخص معين أو لفائدة المجموع. في هذه الحال لا مانع من إمضاء تبرعه وتنفيذ وصيته، ولا يعتبر تشريح جثته مثلة به حصلت بعد عجزه عن الدفاع عن نفسه؛ لأنه كان يعلم ذلك ورضيه، وآثر أخاه المسلم بقلب قد استغنى عنه بموته، ليستمر أخوه في استعماله مدة، ويستريح به من قلب منهوك يعرضه للخطر والآلام في كل حين، ومثله من تبرع بعينه السليمة - التي استغنى عنها بموته - لفائدة أخيه الذي أصابه العمى، وفقد النور ليسترجع بها نعمة الإبصار، وقد يسهر بها في خدمة العلم والتلاوة وعبادة الله.
(2) أن يتبرع بعضو الميت وليه الشرعي، ويأذن في تشريح جثته وأخذه منه، مع أن الميت لم يأذن في تشريح جثته وأخذ عضو منه ولم يعرف موقفه في ذلك.
والظاهر أن للولي أن يفعل ذلك في حال المصلحة الراجحة بإنقاذ مسلم من هلاك يتهدده في قلبه، أو بإرجاع بصر لمن يستعمله في طاعة الله، والقيام بالعمل المثمر المفيد، ولا شك أن إرجاع البصر لعالم يتمكن به من مواصلة نشر علمه، أو لطبيب يتمكن من إنقاذ آلاف من الناس من أوجاعهم وآلامهم أفضل من ترك عين ميت لم يعد يستطيع استعمالها، تفنى بفناء جسمه.
ويمكن في هذا الموضوع أن نستأنس بعمل فعله أحد الصحابة الكرام، وأقره عليه من كان معه منهم، رضوان الله عليهم أجمعين. ففي(22/49)
فتوح الشام كان عمرو بن العاص رضي الله عنه يقود المجاهدين، وبينما كانت المعركة حامية استشهد أخوه هشام بن العاص رضي الله عنه وسقط في مكان ضيق يمر به الجيش فسده، وتهيب المسلمون أن يدوسوه بخيلهم ورجلهم، وأعجلتهم مطاردة العدو عن نقله، فأمرهم قائدهم عمرو، وهو ولي أخيه وأمير الجيش، أن يدوسوا جثته ويستمروا في قتالهم، ففعلوا رضوان الله عليهم. وبعد الانتصار وانتهاء المعركة، جمع أشلاء أخيه ودفنه. . . فهذا عمل عمرو وأقره عليه الصحابة، ونستفيد منه أن المصلحة الراجحة تستدعي الإذن فيما لا يجوز في الرخاء والوسع.
(3) إذا لم يكن إذن من الميت في حال حياته، ولم يأذن بذلك وليه بل أباه ورفضه، فالظاهر المنع، إلا إذا ظهر لولي المسلمين أن المصلحة العامة تستوجب الإذن في تشريح جثث الموتى، والانتفاع بمثل هذه الأجزاء منها.
حالة هذا الإذن العام مما ينبغي أن يبحثه العلماء ويولوه اهتماما.
(4) في حالة نقل الدم أو العضو من الحي لا بد من التأكد أن ذلك برضى تام من المنقول منه، وأن ذلك النقل لا يلحق به ضررا، أو يتسبب في هلاك، فإن خيف الضرر أو الهلاك فلا يجوز النقل ولو رضي لأنه انتحار.
أما في حالة نقل عضو من ميت فلا يجوز إلا إذا تحقق الأطباء والمختصون من الوفاة وتيقنوا أن الهالك لم يبق أثر للحياة في جسمه، وإن وقع مجرد شك في بقاء شيء من الحياة فيه، فلا يجوز الإقدام على تشريح جثته؛ إذ ما دامت الحياة فيه فليس لأحد أن يبادر بإنهائها باجتهاد(22/50)
منه، ولو تيقن - حسب القواعد الطبية - أنه لم يبق أمل في استمرار حياته؛ لأن الإقدام على تشريح جثة بها رمق أو شك نوع من القتل المتعمد. والله أعلم.
لجنة الإفتاء المركزية
وجاء من فضيلة الشيخ عبد الله كنون في الموضوع نفسه ما يأتي:
بسم الله الرحمن الرحيم
طنجة في 6 جمادى الأولى عام 1398 هـ. .
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز المحترم.
رئيس الإدارة العامة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية، دام حفظه.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته - وبعد. . .
فقد وصلني خطابكم الكريم مساء أمس ولم يصلني قبله أي خطاب آخر في موضوع نقل قرنية العين والأعضاء الأخرى، وجوابا عنه أن الموضوع كان قد طرح في المؤتمر الإسلامي الدولي المنعقد بماليزيا في إبريل سنة 1969م وكنت أنا رئيس اللجنة التي بحثته والتي قدم إليها تقرير علماء ماليزيا الذي توقف عن الحكم البات إلى انعقاد المؤتمر، كما قدم إليها فتويان إحداهما لمفتي مصر الشيخ الهريدي والثانية لمفتي ليبيا، وبعد قراءة كل منهما لفتواه أسفرت المناقشة عن النتيجة المدرجة طيه وهي الجواز المقيد بالشروط المذكورة فيها.(22/51)
ومع الأسف الشديد أني لا أملك نص الفتويين فقد كنت أعرتهما لأحد الإخوان الذي ذهب إلى مؤتمر عقد في مدريد بأسبانيا في هذا الموضوع بالذات للاستيناس بهما فلم يرجعهما إلي، وقد حكى لي أن مندوبي الدول المسيحية التي حضرت المؤتمر كانت متحفظة في الأمر إلا أن المؤتمرين في الأخير انتهوا إلى الجواز وأعجبوا برأي علماء المسلمين، وهذا المؤتمر كنت أنا المرشح لحضوره إلا أني اعتذرت عنه.
هذا مع تحياتي لهيئة كبار العلماء واحتراماتي - والسلام. . .
عبد الله كنون
موضوع نقل الأعضاء
. . .
اتفقت الآراء في هذا المؤتمر على أن نقل الأعضاء من الجسد الميت لزراعتها في الجسد الحي أمر مسموح به في الإسلام، على أن تؤخذ الشروط التالية في الاعتبار: -
أ - في حالات الحاجة العاجلة والضرورات المتوقفة على زرع العضو.
ب - في حالة نقل القلب يجب التأكد من موت صاحبه.
ج - يجب الحصول على إذن من واهب العضو قبل عملية النقل في حالة الموت الطبيعي أو من أهله في الحوادث.
د - يجب أن تتوفر الاحتياطات اللازمة للتأكد من أنه لن يكون هناك قتل أو تجارة في أعضاء الجسد.
رابعا: هل يجوز نقل الدم من جسم إنسان إلى جسم إنسان آخر مع مراعاة عدم الضرر للجسم المنقول منه؟ وهل يثاب على ذلك؟(22/52)
أ - دم الإنسان فيه شبه العضو أو جزء عضوه في أن كلا منهما جزء من الإنسان غير أن استخلاصه من الجسم وفصله منه أيسر من فصل العضو أو جزئه منه. وتحديد الكمية المراد أخذها من الصحيح أدق وأسهل وإجراءات أخذه وإعطائه آمن عاقبة أو أقل خطورة.
كما أن في الدم الذي يبذل من إنسان لآخر شبها بالمنافع التي يبذلها قوي ماهر لإنقاذ آخر من غرق أو حريق أو في حمل ضعيف وإغاثة ملهوف في أن كلا منهما فيه استهلاك طاقة يمكن أن يعوض عنها من فقدها بالتغذية بطعام ونحوه، لكن قد يقال: إن شبهه بالمنافع التي تبذل لمنفعة الغير أقرب من شبهه بعضو أو جزء يؤخذ من إنسان ويزرع في آخر لمصلحته، فيلحق بالمنافع في حكم البذل والتبرع به جوازا أو ندبا أو وجوبا حسب مقتضيات الأحوال.
ب - إن أخذ الدم من قوي صحيح وحقنه في مريض أو ضعيف مثلا يشبه الدواء في اتخاذه وسيلة للعلاج كما أنه يشبه التغذية بالطعام ونحوه للحصول على قوة وكسب مقاومة إلا أنه إلى الثاني أقرب منه إلى الأول وبه أشبه، فيلحق بالمضطر الذي يجوز له أو يجب عليه أن يتناول مما حرم عليه بقدر ما ينقذ به نفسه مما أصابه.
وعلى هذا يمكن أن يقال: إذا مرض إنسان أو اشتد ضعفه أو احتاج إلى دم لكسب قوة ومقاومة من أجل إجراء عملية جراحية له مثلا جاز أن(22/53)
يؤخذ له دم من غيره ويحقن به تحقيقا لمصلحته ودفعا لحاجته أو ضرورته إذا تعين ذلك طريقا لإنقاذه وغلب على ظن أهل الخبرة في الطب انتفاعه بذلك وأمن من إصابة من أخذ منه بضرر فادح لا يمكن تعويضه عنه.
وقد صدرت فتوى من سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية - رحمه الله تعالى - في حكم نقل الدم من إنسان لآخر جوابا عن سؤال: وفيما يلي نصهما: -
" السؤال والجواب "
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم عبد الرحمن الحماد العمر، سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: -
بالإشارة إلى خطابك لنا الذي تسأل فيه عن مسألة وهي:
هل يجوز تزويد دم المسلم بدم غيره من بني الإنسان إذا احتيج لذلك كما في حالة النزيف أو الإصابة بالجراح ونحو ذلك أم لا؟
والجواب على هذا السؤال يستدعي الكلام على ثلاثة أمور:
الأول: من هو الشخص الذي ينقل إليه الدم.
الثاني: من هو الشخص الذي ينقل منه الدم.
الثالث: من هو الشخص الذي يعتمد على قوله في استدعاء نقل الدم.
أما الأول فهو أن الشخص الذي ينقل إليه الدم هو من توقفت حياته إذا كان مريضا أو جريحا على نقل الدم، والأصل في هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 173(22/54)
وقال سبحانه في آية أخرى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) ، وقال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) ، وقال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (3) .
وجه الدلالة من هذه الآيات: أنها أفادت أنه إذا توقف شفاء المريض أو الجريح وإنقاذ حياته على نقل الدم إليه من آخر بأن لا يوجد من المباح ما يقوم مقامه في شفائه وإنقاذ حياته جاز نقل هذا الدم إليه، وهذا في الحقيقة من باب الغذاء لا من باب الدواء.
وأما الثاني فالذي ينقل منه الدم هو الذي لا يترتب على نقله منه ضرر فاحش لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار (4) » .
وأما الثالث فهو أن الذي يعتمد على قوله في استدعاء نقل الدم هو الطبيب المسلم، وإذا تعذر فلا يظهر لنا مانع من الاعتماد على قول غير المسلم يهوديا كان أو نصرانيا إذا كان خبيرا بالطب ثقة عند الإنسان، والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح أن «النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر استأجر رجلا مشركا هاديا خريتا (5) » . (ماهرا) .
قال ابن القيم في كتابه بدائع الفوائد ما نصه: في استئجار النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أريقط الديلي هاديا في وقت الهجرة وهو كافر، دليل على جواز الرجوع إلى الكافر في الطب والكحل والأدوية والكتابة والحساب والعيوب
__________
(1) سورة النحل الآية 115
(2) سورة المائدة الآية 3
(3) سورة الأنعام الآية 119
(4) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .
(5) صحيح البخاري المناقب (3906) .(22/55)
ونحوها ما لم يكن ولاية تتضمن عدالة، ولا يلزم من مجرد كونه كافرا ألا يوثق به في شيء أصلا، فإنه لا شيء أخطر من الدلالة في الطريق ولا سيما في مثل طريق الهجرة.
وقال ابن مفلح في كتابه الآداب الشرعية نقلا عن شيخ الإسلام ابن تيمية ما نصه: إذا كان اليهودي والنصراني خبيرا بالطب ثقة عند الإنسان جاز له أن يستطب، كما يجوز له أن يودعه ماله وأن يعامله كما قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} (1) . الآية. وفي الصحيح «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر استأجر رجلا مشركا هاديا خريتا (ماهرا) وائتمنه على نفسه وماله (2) » . وكانت خزاعة عيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمهم وكافرهم. (العيبة) : موضع السر. وقد روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يستطب الحارث بن كلدة» وكان كافرا، وإذا أمكنه أن يستطب مسلما فهو كما لو أمكنه أن يودعه أو يعامله، فلا ينبغي أن يعدل عنه، وأما إذا احتاج إلى ائتمان الكتابي واستطبابه فله ذلك ولم يكن من ولاية اليهود والنصارى المنهي عنها (انتهى كلامه) .
وهذا مذهب المالكية، وقال المروذي: أدخلت على أبي عبد الله نصرانيا فجعل يصف وأبو عبد الله يكتب ما وصفه ثم أمرني فاشتريت له، والسلام عليكم.
انتهت الفتوى
هذا ما تيسر، والله الموفق، وصلى الله على نبينا وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 75
(2) صحيح البخاري المناقب (3906) .(22/56)
ملاحظة: سبق أن بت المجلس في حكم نقل الدم من إنسان إلى آخر، ولكنه كان قد اقترح في الدورة الحادية عشرة إعداد بحث في نقل الدم وفي نقل عضو من إنسان إلى آخر، فكتب فيه هنا ليكون البحث متكاملا وتحقيقا لاقتراح المجلس وتتميما للفائدة.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(22/57)
صفحة فارغة(22/58)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شؤونهم الدينية والاجتماعية.(22/59)
فتوى برقم 338 في 8 \ 1 \ 1393هـ
السؤال الأول: شخص توفي والده ويذكر أنه سبق أن طلق والدته طلاق السنة ولم يسبقه طلاق، وأن الدم متوقف عن والدته منذ ثمانية عشر عاما، ويسأل هل عليها عدة وفاة أم لا؟
الجواب: إذا كان الأمر كما ذكر في السؤال من أن والده طلق أمه طلاق السنة ولم يكن آخر ثلاث تطليقات، فإذا لم يكن على عوض وكانت كما ذكره آيسة من المحيض فعدتها ثلاثة أشهر، وحيث إن والده توفي قبل ثلاثة أشهر من الطلاق حسب ما ذكره، فإنها تترك عدة الطلاق وتستأنف عدة الوفاة؛ لكون طلاقها رجعيا حيث إن المطلقة طلاقا رجعيا تعتبر في حكم الزوجة حتى تخرج من العدة.(22/60)
السؤال الثاني: يذكر السائل فيه أن خالته (زوجة أبيه) حامل، فهل تعتد لوفاة أبيه عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا أم تعتد حتى تضع حملها؟
الجواب: وبدراسة اللجنة له أجابت بأن عليها أن تعتد حتى تضع حملها. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن سليمان المنيع ... عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي(22/60)
فتوى برقم 599 في 22 \ 11 \ 1393 هـ
السؤال: تزوجت امرأة من رجل ثم توفي عنها وليس له منها أولاد، ولا يوجد في بلد الزوج أقارب لها، فهل يجوز لها أن تنتقل من بلد زوجها إلى بلد وليها لتقضي مدة الحداد عنده أم لا؟
الجواب: يجوز لهذه الزوجة أن تنتقل إلى بيت وليها أو إلى أي جهة أخرى تأمن على نفسها فيها لتقضي بقية مدة حدادها على زوجها إذا خافت على نفسها أو انتهاك حرمتها، ولم يوجد عندها من يحافظ عليها، أما إذا كانت في أمن من الاعتداء عليها وإنما تريد أن تكون قريبة من أهلها، فلا يجوز لها الانتقال بل عليها أن تمكث في مكانها حتى تقضي مدة حدادها، ثم تسافر مع محرمها إلى حيث ترى.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن سليمان المنيع ... عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي(22/61)
فتوى برقم 4543 وتاريخ 18 \ 4 \ 1402 هـ
السؤال الأول: امرأة تقول: بلغت في سن الثانية عشرة من عمري قبل رمضان بشهر، وصمت في سن الرابعة عشرة، فهل يلحقني صيام تلك السنين السابقة أم لا؟(22/61)
الجواب: يجب عليك قضاء جميع الأيام التي أفطرتيها في رمضان - وأنت قد بلغت الحلم - متفرقة أو متتابعة، وأن تستغفري الله وتتوبي إليه من ارتكابك معصية الإفطار في رمضان بدون عذر مشروع، عسى الله أن يتوب عليك ويغفر لك ما فرط منك، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) ، ويقول سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (2) .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة طه الآية 82(22/62)
السؤال الثاني: إني أكلت حبوب المنع في رمضان، هل أنا أصوم الأيام التي أكلت فيها الحبوب في رمضان مع أني أصوم وأصلي مع الناس وآكلهن؟ هل يلحقني منهن شيء أم لا؟
الجواب: يجوز للمرأة أن تتناول ما يؤخر العادة عنها من أجل مناسبة حج أو عمرة أو صيام رمضان، وليس عليك قضاء تلك الأيام التي ارتفع دمها بسبب الحبوب وصمتيها مع الناس.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(22/62)
السؤال الثالث: لي أطفال وتوضيت وغسلت نجاسة أطفالي، هل ينقض الوضوء أم لا؟
الجواب: لا ينتقض الوضوء بغسل نجاسة على بدن المتوضئ أو غيره إلا إذا كنت لمست فرج الطفل فإنه ينتقض الوضوء بذلك، كما لو لمس الإنسان فرج نفسه. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(22/62)
فتوى برقم 1710 وتاريخ 29 \ 12 \ 1397 هـ
السؤال الأول: ما حكم من حلق لحيته من غير رضى منه، كأن يكون نظام العسكرية يجبره على ذلك؟
الجواب: حلق اللحية حرام، وإعفاؤها حتى يكثر شعرها ويطول واجب؛ لما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنهكوا الشوارب وأعفوا اللحى (1) » . وفي رواية: «خالفوا المشركين وفروا اللحى واحفوا الشوارب (2) » . وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جزوا الشوارب وارخوا اللحى، خالفوا المجوس (3) » . فأمر صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحى وتوفيرها وبجز الشوارب وإحفائها مخالفة للمجوس وسائر المشركين، فمن حلقت لحيته كرها أو أكره على حلقها فلا حرج عليه؛ لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (4) ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه (5) » . ولو فرضنا أن النظام أو الرئيس المباشر يلزم الجند بحلقها لم يكن ذلك عذرا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الطاعة في المعروف (6) » ، وقوله: «لا طاعة لمخلوق في معصية الله (7) » . وفي إمكانه أن يستقيل أو يلتمس عملا آخر، فإن لم تقبل استقالته وألزم بالحلق فهو معذور لما تقدم من الأدلة، وعليه أن يكره ذلك بقلبه ويعزم على توفير لحيته عند الاستطاعة، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/365) .
(2) صحيح البخاري اللباس (5892) ، صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن النسائي الطهارة (12) ، سنن أبو داود الترجل (4199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/118) .
(3) صحيح مسلم الطهارة (260) ، مسند أحمد بن حنبل (2/366) .
(4) سورة البقرة الآية 286
(5) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الحج (1337) ، سنن الترمذي العلم (2679) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .
(6) صحيح البخاري الأحكام (7145) ، صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/82) .
(7) صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/131) .(22/63)
السؤال الثاني: ما حكم من غير اسم أبيه جهلا لمصلحة دنيوية؟
الجواب: تغيير الإنسان اسم أبيه لمصلحة دنيوية لا يجوز؛ لأن ما ظنه مصلحة إما أن يكون لكسب وجاهة بمن انتسب إليه وترفعا عن الانتساب لأبيه، وذلك كبيرة من الكبائر لما فيه من الكذب والزور واحتقار أبيه وازدرائه بالإعراض عن الانتساب إليه، وإما أن يكون لكسب مال من إرث أو حكومة أو غير ذلك وهو كبيرة من الكبائر أيضا؛ لما فيه من الكذب والخداع والتغرير بالناس وأكل الأموال بالباطل، ثم فيه تغيير الأنساب أو يقضي إلى تغيير الأنساب والتلبيس فيها، ويترتب تحريم ما أحل الله وإحلال ما حرم الله من النكاح والأموال وغيرها، وذلك فيه فساد كبير، وقد ثبت عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر (1) » .
وثبت عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام (2) » . وثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ترغبوا عن آبائكم، فمن رغب عن أبيه فهو كافر (3) » . رواه البخاري ومسلم. فتوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى غير أبيه وشدد في ذلك حتى حكم عليه بالكفر وحرم عليه الجنة، فعلى من حصل منه ذلك أن يقلع عنه ويتوب منه إلى الله ويستغفره مما فرط منه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3508) ، صحيح مسلم الإيمان (61) ، مسند أحمد بن حنبل (5/166) .
(2) صحيح البخاري الفرائض (6767) ، صحيح مسلم الإيمان (63) ، سنن أبو داود الأدب (5113) ، سنن ابن ماجه الحدود (2610) ، مسند أحمد بن حنبل (1/169) ، سنن الدارمي السير (2530) .
(3) صحيح البخاري الفرائض (6768) ، صحيح مسلم الإيمان (62) ، مسند أحمد بن حنبل (2/526) .(22/64)
السؤال الثالث: ما حكم من أراد أن يضحي لنفسه ثم حلق شعره أو قلم أظفاره في الأيام العشر من شهر ذي الحجة بغير رضا منه؟
الجواب: لا يجوز لمن كانت عنده ذبيحة جعلها أضحية ودخل شهر ذي الحجة أن يأخذ من شعره أو أظفاره شيئا حتى يضحي؛ لما رواه مسلم في صحيحه عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(22/64)
«من كان له ذبح يذبحه، فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذن من شعره ولا أظفاره شيئا حتى يضحي (1) » . فإن خالف وأخذ شيئا من شعره أو أظفاره استغفر الله تعالى ولا تلزمه فدية ولو فعل ذلك عمدا. . .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الأضاحي (1977) ، سنن الترمذي الأضاحي (1523) ، سنن النسائي الضحايا (4362) ، سنن أبو داود الضحايا (2791) ، سنن ابن ماجه الأضاحي (3150) ، مسند أحمد بن حنبل (6/311) ، سنن الدارمي الأضاحي (1947) .(22/65)
فتوى برقم 4657 وتاريخ 17 \ 6 \ 1402 هـ
السؤال: هل الإنسان مسير أو مخير؟
الجواب: ثبت أن الله تعالى وسع كل شيء رحمة وعلما. وكتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة وعمت مشيئته وقدرته على كل شيء، بيده الأمر كله، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ولا راد لما قضى، وهو على كل شيء قدير. وقد دل على ذلك وما في معناه نصوص الكتاب والسنة، وهي كثيرة معروفة عند أهل العلم، ومن طلبها من القرآن ودواوين السنة وجدها، من ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) ، وقوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (2) ، وقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (3) ، وقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (4) ، وقوله:
__________
(1) سورة التوبة الآية 115
(2) سورة الرعد الآية 16
(3) سورة القمر الآية 49
(4) سورة الإنسان الآية 30(22/65)
{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (1) ، وقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (2) ، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (3) ، وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (4) . الآية.
وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ما حث على الذكر به عقب الصلاة من قول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد (5) » ، وكذا ما جاء في حديث عمر رضي الله عنه من «سؤال جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره (6) » . فهذه النصوص وما في معناها تدل على كمال علمه تعالى بما كان وما هو كائن، وعلى تقديره كل شؤون خلقه، وعلى عموم مشيئته وقدرته، ما شاءه سبحانه كان وما لم يشأ لم يكن.
وثبت أن الله حكيم في خلقه وتدبيره وتشريعه، رحيم بعباده، وأنه تعالى أرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام وأنزل الكتب وشرع الشرائع وأمر كلا منهم أن يبلغها أمته، وأنه تعالى لم يكلف أحدا إلا وسعه؛ رحمة منه وفضلا، فلا يكلف المجنون حتى يعقل ولا الصغير حتى يبلغ وعذر النائم حتى يستيقظ
__________
(1) سورة الرعد الآية 39
(2) سورة الحديد الآية 22
(3) سورة يونس الآية 99
(4) سورة السجدة الآية 13
(5) صحيح البخاري الأذان (844) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (593) ، سنن النسائي السهو (1341) ، سنن أبو داود الصلاة (1505) ، مسند أحمد بن حنبل (4/245) ، سنن الدارمي الصلاة (1349) .
(6) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/27) .(22/66)
والناسي حتى يذكر والعاجز حتى يستطيع ومن لم تبلغه الدعوة حتى تبلغه رحمة منه تعالى وإحسانا.
وثبت عقلا وشرعا الفرق بين حركة الصاعد على سلم مثلا والساقط من سطح مثلا، فيؤمر الأول بالمضي إلى الخير وينهى عن المضي إلى الشر والاعتداء. بخلاف الثاني فلا يليق في شرع ولا عقل أن يوجه إليه أمر أو نهي، وثبت الفرق أيضا بين حركة المرتعش لمرضه وحركة من ليس به مرض، فلا يليق شرعا ولا عقلا أن يوجه إلى الأول أمر ولا نهي لكونه ملجأ مضطرا بل يرثى لحاله ويسعى في علاجه، بخلاف الثاني فقد يحمد كما في حركات العبادات الشرعية وقد ينهى كما في حركات العبادة غير الشرعية وحركات الظلم والاعتداء، فتكليف الله عباده ما يطيقون فقط وتفريقه في التشريع والجزاء بين من ذكروا وأمثالهم دليل على ثبوت الاختيار والقدرة والاستطاعة لمن كلفهم دون من لم يكلفهم.
ثم إن الله تعالى حكم عدل علي حكيم، لا يظلم مثقال ذرة، جواد كريم يضاعف الحسنات ويعفو عن السيئات، ثبت ذلك بالفعل الصريح والنقل الصحيح، فلا يتأتى مع كمال حكمته ورحمته وواسع مغفرته أن يكلف عباده دون أن يكون لديهم إرادة واختيار لما يأتون وما يذرون، وقدرة على ما يفعلون، ومحال في قضائه العادل وحكمته البالغة أن يعذبهم على ما هم إلى فعله ملجئون وعليه مكرهون، وإذن فقدر الله المحكم العادل وقضاؤه المبرم النافذ من عقائد الإيمان الثابتة التي يجب الإذعان لها وثبوت الاختيار للمكلفين وقدرتهم على تحقيق ما كلفوا من القضايا التي صرح بها الشرع وقضى بها العقل، فلا مناص من التسليم بها والرضوخ لها، فإذا اتسع عقل الإنسان لإدراك السر في ذلك فليحمد الله على توفيقه وإن عجز عن ذلك فليفوض(22/67)
أمره لله وليتهم نفسه بالقصور في إدراك الحقائق، فذلك شأنه في كثير من الشؤون، ولا يتهم ربه في قدره وقضائه وتشريعه وجزائه؛ فإنه سبحانه هو العلي القدير الحكيم الخبير، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وليكف عن الخوض في ذلك الشأن خشية الزلل والوقوع في الحيرة، وليقنع عن رضى وتسليم بجواب النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم لما حاموا حول هذا الحمى فقالوا: «يا رسول الله، أفلا نتكل؟ فقال لهم: اعملوا فكل ميسر لما خلق له (1) » .
روى البخاري من طرق عن أبي عبد الرحمن السلمي عن «علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بقيع الغرقد في جنازة فقال: ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار. فقالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له. ثم قرأ قوله تعالى: إلى قوله تعالى: (6) » ، ورواه أيضا مسلم وأصحاب السنن، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4949) ، صحيح مسلم القدر (2647) ، سنن الترمذي القدر (2136) ، سنن أبو داود السنة (4694) ، سنن ابن ماجه المقدمة (78) ، مسند أحمد بن حنبل (1/157) .
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4945) ، صحيح مسلم القدر (2647) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3344) ، سنن أبو داود السنة (4694) ، سنن ابن ماجه المقدمة (78) ، مسند أحمد بن حنبل (1/129) .
(3) سورة الليل الآية 5 (2) {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}
(4) سورة الليل الآية 6 (3) {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}
(5) سورة الليل الآية 7 (4) {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}
(6) سورة الليل الآية 10 (5) {لِلْعُسْرَى}(22/68)
فتوى برقم 6773 وتاريخ 29 \ 3 \ 1404 هـ
السؤال: شخص يقول: إن في بلادنا التي نحن فيها مشايخ كثيرون وهم يفعلون الأشياء التالية:
يضربون الدفوف، ويذهبون إلى القبور ويذبحون عليها الأغنام والإبل والبقر ويطبخون الطعام، هل هذا شيء حرام أم لا؟
ويبنون قبة خارج المدينة ويضربون فيها الدفوف والطبل، وهناك ترتفع أصواتهم قائلين: أغثنا يا شيخنا جيلاني. وغيره من المشايخ الآخرين. ويمشون بين الناس ويأخذون المال ويقولون: زيارة شيخ ابن فلان. إلى آخره. وإذا مرض أحد من الناس يأخذونه إليهم ويقرأون عليه الآيات، ويقولون: تأتي بكبش أو ثور أو ناقة أو غير ذلك من المواشي، وفي السنة يدفع الناس مالا كثيرا ويذهبون إليهم، فهل هذا شيء محرم أم لا؟ وبعض الناس يقتلون بعضا ولا يأخذون منه شيئا، ولكن يطلبون من قبيلته دفع القصاص ولو كان مسكينا، ولا ينظرون إليه فإن أبى أن يدفع المال يأخذون من ماله بقوة. فما حكم ذلك؟
الجواب:
أولا: لا يجوز ذبحهم الإبل والبقر والغنم ونحوها على القبور، بل هو شرك يخرج من ملة الإسلام إذا قصد التقرب إليها رجاء بركتها؛ لأن التقرب بذلك لا يكون إلا لله، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2) ، وكذا لا يجوز الضرب بالدفوف للرجال مطلقا
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163(22/69)
ويجوز الضرب عليها للنساء في النكاح؛ لإعلانه.
ثانيا: الاستغاثة بالأموات والغائبين من الأحياء من جن وملائكة وإنس ودعائهم لجلب نفع أو دفع ضر شرك أكبر، يخرج من ملة الإسلام، قال الله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (1) {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (2) .
وأما الضرب على الطبول فلا يجوز لا للرجال ولا للنساء.
ثالثا: زيارة مشايخ الطرق الصوفية وأتباعهم لمريديهم لأخذ أموال منهم تسول وأكل للمال بالباطل، وينبغي لمن يقدر على نصحهم والأخذ على أيديهم أن يقوم بذلك، وأن يقوم بنصح المريدين حتى لا يدفعوا لهم الأموال إلا بحقها الشرعي.
رابعا: رقية المريض بقراءة القرآن والأذكار النبوية الثابتة عنه عليه الصلاة والسلام مشروعة، أما الذهاب إلى من ذكرت؛ ليقرأ عليه أبياتا ويأمره بذبح كبش أو ثور مثلا، فهذا لا يجوز؛ لأن ذلك رقية بدعية وأكل للمال بالباطل، وقد يكون شركا إذا ذبح ما ذكر للجن أو للأموات ونحو ذلك.
خامسا: القتل العمد العدوان يوجب القصاص إلا أن يعفو أولياء الدم أو بعضهم فيرجع إلى الدية، والقتل يوجب الدية والكفارة إلا أن
__________
(1) سورة يونس الآية 106
(2) سورة يونس الآية 107(22/70)
يتنازل الورثة عن الدية أو بعضهم عن نصيبه منها، فيسقط ما تنازلوا عنه، وإن حصل نزاع رجع إلى المحكمة. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(22/71)
فتوى برقم 5226 وتاريخ 17 \ 1 \ 1403 هـ
السؤال الأول: ما هي الدعوة الناجحة؟ ومن أين تستنبط؟ وما هي الشروط التي يجب أن تتوفر في الداعية إلى الله؟ مع ذكر بعض الكتب التي تتحدث عن هذا المجال.
الجواب: أولا: الدعوة الناجحة هي الدعوة إلى الله تعالى على علم وبصيرة، قال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) ، وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (2) . الآية.
ثانيا: تستنبط الدعوة الناجحة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتطبيق الصحابة والتابعين، واتباعهم لذلك على الوجه الصحيح.
__________
(1) سورة فصلت الآية 33
(2) سورة يوسف الآية 108(22/71)
ثالثا: من الشروط التي يجب أن تتوافر في الداعية إلى الله ما جاء ذكرها في قصة شعيب، قال الله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (1) ، ففي هذه الآية بيان شروط العلم والكسب الحلال وامتثاله لما يدعو إليه، فيجتنب ما نهى الله عنه ويتمثل ما أمر الله به، والنية الحسنة، وتفويض الأمر إلى الله تعالى والتوكل عليه وأنه هو الذي بيده التوفيق والإلهام.
ومن الشروط أيضا ما ذكره الله تعالى بقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) ، ومنها التحلي بالصبر، قال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} (3) ، وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (4) .
رابعا: الكتب التي تتحدث عن هذا المجال: القرآن الكريم، فعليك حفظه والإكثار من تلاوته وتدبره والعناية بالعمل به والدعوة إليه، وتضم إليه سنة رسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنها تفسر القرآن وتبينه، ومن كتب السنة: الصحيحان
__________
(1) سورة هود الآية 88
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة النحل الآية 127
(4) سورة الكهف الآية 28(22/72)
للبخاري ومسلم، وموطأ مالك، ومسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود، وسنن الترمذي، وسنن النسائي، وسنن الإمام ابن ماجه، وغيرها من كتب السنة، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وكتب أئمة الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(22/73)
السؤال الثاني: ما نوع التكفير المذكور في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (1) ؟
الجواب: نوع التكفير في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (2) كفر أكبر، قال القرطبي في تفسيره: قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد رحمه الله: (ومن لم يحكم بما أنزل الله ردا للقرآن وجحدا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر) . انتهى.
وأما من حكم بغير ما أنزل الله وهو يعتقد أنه عاص لله لكنه حمله على الحكم بغير ما أنزل الله ما يدفع إليه من الرشوة أو غير هذا أو عداوته للمحكوم عليه أو قرابته أو صداقته للمحكوم له ونحو ذلك، فهذا لا يكون كفره أكبر بل يكون عاصيا لله، وقد وقع في كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 44
(2) سورة المائدة الآية 44(22/73)
السؤال الثالث: هل الأستاذ الذي يدرس في قسم مختلط بنات وذكور أو بنات فقط ولكنهن في سن المراهقة يأثم إذا نظر إليهن؟
الجواب: يجب على الرجل أن يغض بصره عن النظر إلى النساء، قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (1) ، وأخرج الإمام مسلم وأبو داود وغيرهما عن
__________
(1) سورة النور الآية 30(22/73)
جرير بن عبد الله قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فقال: اصرف بصرك (1) » . واللفظ لأبي داود، ولا يجوز الاختلاط بين الذكور والإناث في التعليم؛ لأن ذلك من وسائل وقوع الفاحشة بينهم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الآداب (2159) ، سنن الترمذي الأدب (2776) ، سنن أبو داود النكاح (2148) ، مسند أحمد بن حنبل (4/361) ، سنن الدارمي الاستئذان (2643) .(22/74)
السؤال الرابع: شخص يقول في ثكنتنا: يرغم الملتحي على حلق لحيته. فهل يدخل في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (1) أم لا؟ ثم إنه يعمل أحيانا في ساعة الجمعة، فهل يجوز له أن يصليها ظهرا؟ وهل صحيح أن الجمعة لا تجوز في وقتنا الحاضر لانتفاء شروطها: الخليفة الأعظم والمصر، والمسجد الجامع؟
الجواب: أولا: الأصل وجوب إعفاء اللحية، وقد صدر جواب من اللجنة في ذلك هذا نصه: (إعفاء اللحية واجب شرعا لورود الأدلة الدالة على الأمر بإعفائها كقوله صلى الله عليه وسلم: «جزوا الشوارب واعفوا اللحى (2) » والأمر يقتضي الوجوب كما أنه يقتضي النهي عن ضده الذي لا يجامعه، وبناء على ذلك فحلق اللحية حرام ومرتكب الحرام آثم ويعزر إذا كان عالما بالحكم ابتداء أو كان جاهلا وعلم فأصر، والقاعدة العامة في التعزير أن تقديره يرجع إلى نظر الحاكم الشرعي على حسب اختلاف ما يحيط بكل واقعة يستحق صاحبها تعزيرا من الظروف والملابسات والأمكنة والأحوال والأشخاص) . اهـ.
وأما إذا أكرهه على حلقها من يخشى عقوبته من ولي أمر جائر وكانت المصلحة أرجح في حلقها حسب علم من يحلقها رخص له في حلقها؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
ثانيا: من كان في عمل لمصلحة المسلمين وقت صلاة الجمعة وإذا ذهب
__________
(1) سورة النحل الآية 106
(2) صحيح مسلم الطهارة (260) ، مسند أحمد بن حنبل (2/366) .(22/74)
ليؤديها جماعة مع المسلمين حصل على الناس ضرر من تركه للمحل الذي جعل فيه كالحارس فإنه يصليها ظهرا بعد دخول الوقت؛ لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.
ثالثا: تقام صلاة الجمعة في المدن والقرى وليس الخليفة ولا المصر ولا المسجد الجامع شرطا في إقامتها بل يكفي أن يكون المقيمون لها جماعة مستوطنين في قرية صيفا وشتاء.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(22/75)
السؤال الخامس: هل تجوز الصلاة وراء إمام غير ملتحي؟ وهل يجوز الأخذ من اللحية من عرضها وطولها أم لا؟
الجواب: حلق اللحية حرام فلا يجوز الأخذ من طولها ولا من عرضها، ومن حلقها يكون فاسقا آثما إذا كان يعلم الحكم، وإذا كان لا يعلم فإنه يبين له الحكم فإن قبل وأعفاها وإلا فهو فاسق.
وأما إمامة من يحلق لحيته ويشرب الدخان فقد صدر من اللجنة جواب في ذلك هذا نصه (حلق اللحية حرام لما رواه أحمد والبخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «خالفوا المشركين وفروا اللحى وأحفوا الشوارب (1) » ولما رواه أحمد ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس (2) » .
والإصرار على حلقها من الكبائر فيجب نصح حالقها والإنكار عليه، ويتأكد ذلك إذا كان في مركز قيادي ديني، وعلى هذا إن كان إماما لمسجد ولم ينتصح وجب عزله إن تيسر ذلك ولم تحدث فتنة وإلا وجبت الصلاة وراء غيره من أهل الصلاح على من تيسر له ذلك زجرا له وإنكارا عليه إن لم يترتب على ذلك فتنة، وإن لم يتيسر الصلاة وراء غيره شرعت الصلاة وراءه تحقيقا لمصلحة الجماعة وإن خيف من الصلاة وراء غيره حدوث فتنة صلى
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5892) ، صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن أبو داود الترجل (4199) .
(2) صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن النسائي الزينة (5224) ، سنن أبو داود الترجل (4199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/16) ، موطأ مالك الجامع (1764) .(22/75)
وراءه؛ درءا للفتنة وارتكابا لأخف الضررين) ا. هـ.
وأما ما رواه الترمذي عن أبي هريرة «عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها» فهو حديث موضوع لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن في إسناده عمر بن هارون البلخي، وهو متهم بالكذب، وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(22/76)
فتوى برقم 4762 وتاريخ 1 \ 8 \ 1402 هـ
السؤال الأول: هل يؤاخذ الله سبحانه عز وجل حالق اللحية ويعاقبه لمخالفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لقوله: «خالفوا المشركين وفروا اللحى واحفوا الشوارب (1) » ؟ وهل اللحية شرط من الإيمان الكامل للمسلم يؤاخذ الله عليها ويعاقب حالقها مع هذا الحديث الصحيح أم لا؟
الجواب: حلق اللحية حرام وهو ينافي كمال الإيمان الواجب وحالقها يستحق التعزير في الدنيا والعذاب يوم القيامة إلا أن يتوب قبل موته، فإن تاب توبة صادقة وأعفى لحيته تاب الله عليه؛ لقوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (2) . وإن أصر على حلقها حتى توفي استحق العقاب، وهو في مشيئة الله تعالى، إن مات على الإيمان إن شاء
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5892) ، صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن النسائي الطهارة (12) ، سنن أبو داود الترجل (4199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/118) .
(2) سورة طه الآية 82(22/76)
عفا عنه وإن شاء عاقبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(22/77)
السؤال الثاني: هل اللحية من خصال التهلكة التي أهلك الله بها قوم لوط والله قص علينا في كتابه ما عاقبهم الله بها والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به (1) » . ولم يذكر فيه اللحية.
الجواب: إنما عاقب الله قوم لوط عليه السلام بتكذيبهم رسولهم وارتكابهم فاحشة اللواط بإتيانهم الذكور وتركهم ما خلق لهم ربهم من الإناث، كما هو صريح في قصص القرآن ولا ذكر للحية في الحديث عن إهلاكهم لا في كتاب الله تعالى ولا فيما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي الحدود (1456) ، سنن أبو داود الحدود (4462) ، سنن ابن ماجه الحدود (2561) ، مسند أحمد بن حنبل (1/300) .(22/77)
السؤال الثالث: هل هناك حديث تثبت صحته يدل على أن الصلاة خلف حالق اللحية باطلة.
الجواب: ليس هناك دليل صحيح يدل على بطلان صلاة من صلى خلف إمام حالق اللحية فيما نعلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(22/77)
السؤال الرابع: هل قوله تعالى: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} (1) يدل على حلق اللحية.
الجواب: نعم حلق اللحية يدخل في عموم ما ذكره الله تعالى في كتابه عن إغواء الشيطان كثيرا من الناس؛ فإن حلقها تغيير للخلق وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعفاء اللحى وإحفاء الشوارب. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة النساء الآية 119(22/77)
فتوى برقم 8059 وتاريخ 4 \ 2 \ 1405 هـ
السؤال الأول: ما حكم النذر في الإسلام؟ حيث إن بعض الناس متمسكين به من آبائهم وأجدادهم يذبحون ذبيحة فيقولون: إنها على نية محمد - صلى الله عليه وسلم - علما أنهم يضعون هذا النذر في أوقات معينة من السنة والأكثر منهم يضعون في شهر رمضان المبارك، فما حكم هذا في الإسلام؟
الجواب: نذر القربات من ذبائح وصلاة نفل وصيام تطوع ونحو ذلك عبادة، فمن نذر ذلك لزمه الوفاء لقوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} (1) وقوله: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} (2) فمدح سبحانه الموفين بالنذر ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه (3) » . ومن نذر ذلك لغير الله من نبي أو ملك أو ولي فشرك لصرفه قربة وعبادة لغير الله فيجب عليه التوبة إلى الله والاستغفار مما حصل منه من الشرك.
والذبح للرسول - صلى الله عليه وسلم - أو لغيره من الخلق تقربا إليه وتعظيما له شرك لما فيه من عبادة غير الله فتجب التوبة من ذلك والاستغفار.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 270
(2) سورة الإنسان الآية 7
(3) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696) ، كتاب الأيمان والنذور (6700) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526) ، سنن النسائي كتاب الأيمان والنذور (3806) ، الأيمان والنذور (3807) ، كتاب الأيمان والنذور (3808) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2126) ، مسند أحمد بن حنبل (6/224) ، باقي مسند الأنصار (6/36) ، كتاب باقي مسند الأنصار (6/41) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1031) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338) .(22/78)
السؤال الثاني: شخص يقول: لقد أصبت بمرض في شهر رمضان المبارك ولم أستطع الصوم في ذلك الوقت ونويت أن أصوم في شهر آخر إن أمد الله في عمري، وبعد ذلك أتى شهر الحج فأردت أن أحج في نفس العام، فهل يجوز لي ذلك الحج بدون الصيام أم لا؟(22/78)
الجواب: يجوز لك الحج وإن كنت لم تقض ما عليك مما فاتك من صيام شهر رمضان، لكن لا يجوز أن تؤخر القضاء حتى يدخل الذي بعده ما دمت قادرا على القضاء وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(22/79)
فتوى برقم 3068 وتاريخ 25 \ 6 \ 1400 هـ
سؤال: شخص يقول: نرى جماعة من المسلمين قد تغالوا في حب الموتى، يدعونهم ويطلبون منهم حاجاتهم، ويشتكون إليهم مصائبهم معتقدين أنهم يحضرون في مجالسهم إذا دعوهم ويفرجون كروبهم، ومن العادات المنتشرة بينهم أن يجتمع الناس في ليلة من الليالي في غرفة مظلمة ويدعون عبد القادر الجيلاني ألف مرة، معتقدين أنه أمرهم بذلك، وأنه يحضرهم ويقضي حاجاتهم إذا فعلوا ذلك ويستدلون على ذلك بالأبيات التالية ويقرءونها بكل خضوع وخشوع، وبكل حب وإذلال، ومن هذه الأبيات ما يلي:
يا قطب أهل السماء والأرض غوثهما ... يا فيض عيني وجوديهم وغيثهما
يا ابن العلميين قد أحرزت ارثهما ... يا خير من كان يدعى محيي الدين
يا غوث الأعظم كل الدهر والحين ... أعلى ولي بتحكيم وتمكين
أولى فقير إلى المولى ومسكين ... أنت الذي الدين سمى محيي الدين
وقد أتاك خطاب الله مستمعا ... يا غوث الأعظم كن بالقرب مجتمعا
أنت الخليفة لي في الكون ملتمعا ... سميت باسم عظيم محيي الدين(22/79)
ومنها أيضا:
ومن ينادي اسمي ألفا بخلوته ... عزما بهمة صرما لغفوته
أجبته مسرعا من أجل دعوته ... فليدع يا عبد القادر محيي الدين
يا غوث الأعظم عبد القادر السرعة ... يا سيدي احضرني يا محيي الدين
ومنها أيضا:
يا سيدي سندي غوثي ويا مددي ... كن لي ظهيرا على الأعداء بالمدد
مجير عرضي وخذ يدي مدى مددي ... خليفة الله فينا محيي الدين
كيف اللهيف أمان قلب حائر ... مأوى الضعيف ضمان قصد ناذر
غوث الذي كان في البحر كان كعاثر ... يا سيد السادات عبد القادر
ويقرءون هذه الأبيات ثم يدعون محيي الدين عبد القادر ألف مرة.
وعندنا يوجد قبر ولي في بلدة (الناهور) والمسلمون ينادونه بكل خشوع وخضوع في المجالس كالتالي:
يا صاحب الناهور كن لي ناصر ... في السمع والأعضاء وحسن الباصر
ويطول عمر لا يعمر قاصر ... يا مجمع الخيرات عبد القادر
كن لي ملازم يوم فخر الفاخر ... لشدائد الدنيا ويوم آخر
ومثل هذه الأبيات توجد كثيرة جدا، ولا يخلو بيت من البيوت منها - ولو خلا من المصحف ويقرءون هذه الأبيات في كل المناسبات والحفلات، ويشترك فيها من ينتسب إلى العلوم الدينية ويجوزونها. فما حكم ما يلي:
أولا: هل يجوز لمسلم أن يقرأها وأمثالها من الأبيات تعبدا ويعتقد ما فيها من المعاني؟
ثانيا: هل يجوز لمسلم أن ينادي عبد القادر الجيلاني ألف مرة في غرفة مظلمة بكل خشوع وخضوع ويطلب حضوره؟
ثالثا: ما حكم من فعل ذلك في الإسلام؟
رابعا: هل يجوز لمسلم أن يصلي وراء من يعتقد بهذه الاعتقادات ويشترك في هذه الحفلات؟ وما واجب المسلمين نحوهم؟(22/80)
الجواب:
أولا: دعاء غير الله من الأموات والغائبين والاستعانة بهم في كشف غمة أو تفريج كربة أو شفاء مريض أو نحو ذلك شرك؛ لأن هذا الدعاء وهذه الاستغاثة عبادة وقربة فالتوجه بها إلى الله وحده توحيد، وصرفها لغيره شرك أكبر، ومن ذلك قراءة ما في السؤال من الأدعية وأمثالها، واعتقاد ما فيها فهو شرك أكبر يخرج من ملة الإسلام - والعياذ بالله - قال الله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (1) {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (2) وقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (3) وقال: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (4) إلى غير ذلك من الآيات التي دلت على اختصاص الله بالاستغاثة والدعاء، وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله (5) » . . الحديث.
ثانيا: على ذلك لا يجوز أن ينادي المسلم الشيخ عبد القادر الجيلاني ولا غيره سواء كان نبيا أو صالحا ليحضر أو ليغيث ملهوفا أو يفرج كربة أو لينال الحاضرين بركته أو لغير ذلك من الأغراض، بل نداؤه شرك أكبر وهو بريء ممن دعاه ولا يسمعه ولا يستجيب له، كما قال تعالى بعد ذكر آيات ربوبيته:
__________
(1) سورة يونس الآية 106
(2) سورة يونس الآية 107
(3) سورة الجن الآية 18
(4) سورة المؤمنون الآية 117
(5) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2516) ، مسند أحمد بن حنبل (1/308) .(22/81)
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (1) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (2) .
ثالثا: يعلم مما تقدم أن من فعل ذلك ممن ينتسبون للإسلام فإنه يكون بذلك مشركا شركا أكبر بنص كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
رابعا: وبناء عليه لا تصح الصلاة وراءه؛ لأنه مشرك شركا أكبر يخرج من ملة الإسلام.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة فاطر الآية 13
(2) سورة فاطر الآية 14(22/82)
فتوى برقم 5802 وتاريخ 7 \ 7 \ 1403 هـ
السؤال الأول: شخص يقول: حدثني أحد المشايخ فقال: جاء شيخنا المتوفى إلى والده في الرؤيا وإلى رجل آخر وقال لوالده: ابن لي ضريحا (مقام) ففعل، ووجد جسمه سليما، ومعلوم أن هذه الأضرحة مزار للناس، وقد تعرضهم للشرك كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية إذ أن الناس يطوفون بها ويتوسلون عندها. وحدثني بعض الصوفية فقال: إن الشيخ إذا مات إذا لم يظهر كرامة جاء إلى أحد كبار الناس وأمره ببناء ضريح. وهذا غير جائز شرعا كما قال السلف، فهل الذي يأتي في الرؤيا الشيخ أم الشيطان؟ وهل يصدق الكلام ويفعل ما أمر به أم لا؟(22/82)
الجواب: ليست هذه رؤيا. وإنما هي حلم. والحلم من الشيطان، وذلك لمخالفتها الشرع، فإن البناء على القبور وإقامة القباب عليها من كبائر الذنوب وذرائع الشرك، فقد ثبت عن أبي الهياج أنه قال: قال لي علي: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته (1) » رواه مسلم. فيجب العمل بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويحرم العمل بهذا الحلم وأمثاله.
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (969) ، سنن الترمذي الجنائز (1049) ، سنن النسائي الجنائز (2031) ، سنن أبو داود الجنائز (3218) ، مسند أحمد بن حنبل (1/139) .(22/83)
السؤال الثاني: من الناس من تلبس بهم الجن فيقال: عليه أسياد، أو: عليه شيخ. ويكون من الجان وقد يكون كافرا أو نصرانيا فيأمر المتلبس بأشياء مخالفة للشرع مثل عدم الصلاة أو الذهاب للكنيسة أو بعمل أشياء لا يطيقها وإن لم يفعل فإنهم يعذبوه. ما هي الطريقة الشرعية للتخلص من هؤلاء؟
الجواب: مس الجن الإنسان صحيح. وإذا أمر الجني من مسه بمحرم وجب على المصاب أن يتمسك بما شرع الله، وأن يعصي الجني في أمره بمعصيته الله وإن آذاه الجني. وعليه أن يتعوذ بالله من شره ويحصن نفسه بقراءة القرآن وبالرقية الشرعية بالأذكار الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - منها الرقية بقراءة سورة الفاتحة ومنها قراءة سورة قل هو الله أحد، والمعوذتين، ثم ينفث في يديه ويمسح بهما وجهه وما استطاع من بدنه ثم يقرأ هذه السور الثلاث مرة ثانية وينفث في يديه ويمسح بهما وجهه وما استطاع من بدنه ثم يقرأها مرة ثالثة وينفث في يديه ويمسح بهما وجهه وما استطاع من بدنه إلى غير ذلك من الرقية بسور القرآن وآياته وبالأذكار الثابتة مع اللجوء إلى الله في طلب الشفاء والحفظ من شياطين الجن والإنس، واشتر كتاب الكلم الطيب لابن تيمية وكتاب الوابل الصيب لابن القيم والأذكار للنووي ففيها بيان كثير من أنواع الرقية.(22/83)
السؤال الثالث: هل إذا اختلفت نية المأموم مع الإمام تجوز الصلاة. أي: أن المأموم يصلي الظهر بينما الإمام يصلي العصر أو العكس؟
الجواب: في هذه المسألة خلاف بين العلماء، والصواب القول بالجواز.(22/84)
السؤال الرابع: أفتى بعض العلماء في بعض الدول الإسلامية بجواز الصلاة في المساجد التي فيها قبور على عكس ما ذكره شيخنا الألباني في تحذير الساجد، فما وجه الصواب؟
الجواب: لا يجوز الصلاة في المساجد التي بها قبور.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(22/84)
فتوى برقم 2001 وتاريخ 2 \ 7 \ 1398 هـ
السؤال الأول: هل تبول الإنسان واقفا حرام أو حلال؟
الجواب: لا يحرم تبول الإنسان قائما، لكن يسن له أن يتبول قاعدا؛ لقول عائشة رضي الله عنها: «من حدثكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبول قائما فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعدا (1) » رواه الترمذي وقال: هذا أصح شيء في الباب، ولأنه أستر له وأحفظ له من أن يصيبه شيء من رشاش بوله.
وقد رويت الرخصة في البول قائما عن عمر وعلي، وابن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم؛ لما رواه البخاري ومسلم عن حذيفة - رضي الله عنه - عن
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (12) ، سنن النسائي الطهارة (29) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (307) .(22/84)
النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتى سباطة قوم فبال قائما. ولا منافاة بينه وبين حديث عائشة رضي الله عنها؛ لاحتمال أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك لكونه في موضع لا يتمكن فيه من الجلوس، أو فعله ليبين للناس أن البول قائما ليس بحرام وذلك لا ينافي أن الأصل ما ذكرته عائشة رضي الله عنها من بوله - صلى الله عليه وسلم - قاعدا، وأنه سنة لا واجب يحرم خلافه.(22/85)
السؤال الثاني: هل يحرم التسبيح باليد اليسرى أو لا؟
الجواب: لا يحرم التسبيح باليد اليسرى، ولكن التسبيح باليمنى أفضل من التسبيح باليسرى.(22/85)
السؤال الثالث: هل يعتد المأموم بالركعة التي لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب أو لا؟
الجواب: يعتد بها على الصحيح.(22/85)
السؤال الرابع: هل الصلاة في الخفين مشروعة؟ وإن كان المسجد مفروشا أو لا؟
الجواب: تشرع الصلاة في الخفين وفي النعلين ويجب على لابسهما أن يزيل ما بهما من أذى ونجاسة عند دخول المسجد.
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية الإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(22/85)
فتوى برقم 4962 وتاريخ 20 \ 9 \ 1402 هـ
السؤال الأول:
أ - ما الحكم في إزالة المرأة لشعر جسمها؟ وإن كان جائزا فمن يسمح له بالقيام بذلك؟
ب - ما نوع الذهب المحرم على المرأة لبسه؟
ج - هل يجوز للمرأة وضع الميكياج على وجهها أمام محارمها؟
د - هل يجوز للمرأة لبس البنطلون أمام محارمها؟
هـ - هل يجوز للمرأة إظهار شعرها أمام غير محارمها من النساء المسلمات وهل يجوز للمرأة لبس القفاز؟
الجواب:
أ - يجوز لها ذلك ما عدا شعر الحاجب والرأس فلا يجوز لها أن تزيلهما ولا شيئا منهما، وتتولى ذلك بنفسها أو زوجها أو أحد محارمها فيما يجوز أن يطلع عليه من جسمها، أو امرأة فيما يجوز لها أن تطلع عليه من جسمها أيضا.
ب - كل أنواع الذهب يجوز للمرأة أن تلبسه.
ج - يجوز لها ذلك لتتزين به لزوجها ويجوز أن تظهر به أمام محارمها.
د - لا يجوز لها أن تلبس البنطلون؛ لما فيه من تشبه النساء بالرجال.
هـ - لا يجوز لها أن تكشف شعرها أمام غير محارمها من الرجال ويجوز أن تكشفه للنساء مطلقا ويجوز لها أن تلبس القفازين.(22/86)
السؤال الثاني:
أ - هل تجب الزكاة على ذهب المرأة التي تلبسه؟
ب - هل تجب الزكاة على راتب العامل؟
ج - ما حكم المبلغ المتوفر من أجرة المنزل المرهون لصندوق التنمية العقاري إذا بلغ نصابا وحال عليه الحول، هل تجب فيه الزكاة أم لا؟(22/86)
الجواب:
أ - تجب الزكاة فيما تلبسه المرأة من حلي الذهب والفضة إذا بلغ نصابا وحال عليه الحول على الصحيح من أقوال العلماء.
ب - تجب فيما توفر منه إذا بلغ نصابا وحال عليه الحول.
ج - ما توفر من أجرة المنزل وكان نصابا وحال عليه الحول من تاريخ استحقاق الأجرة تجب فيه الزكاة وما أنفق قبل الحول أو دفع في قضاء دين قبل الحول أو نقص عن النصاب لا تجب فيه الزكاة.(22/87)
السؤال الثالث:
أ - شخص يقول أعيل والدتي وإخواني (بالغي الرشد) وأخواتي بعد وفاة والدي رحمه الله ونسكن سويا بالإضافة لزوجتي في منزل واحد، وتقوم زوجتي بمساعدة أخواتي بخدمتنا جميعا، مما ينتج عن ذلك اختلاطنا جميعا دون أن يخلو أحد إخواني بزوجتي فهل يجوز ذلك؟
ب - لدينا خادمة منزلية مسلمة تؤدي فروضها الدينية كاملة إلا أنها لا تحجب شعرها، فهل يجب علي إرشادها لذلك؟
ج - كنت في السابق أحلف اليمين لعمل كذا وكذا، ولا أنفذ ذلك وأريد أن أعمل كفارة لذلك، فهل تكفي كفارة واحدة؟ علما بأنني حلفت عدة مرات ولكني لا أتذكر عددها؟
د - نذرت بأن أقيم حفلة طرب حين يرزقني الله عز وجل بمولود، وأنا حاليا لا أريد تنفيذ هذا النذر حيث إنه من أنواع اللهو، فما الحكم لذلك علما بأنني لم أرزق حتى الآن بمولود؟
هـ - ما حكم الاحتفاظ بصور الأهل والأقارب للذكرى؟ وإن كان لا يجوز فما الواجب علي فعله بالصور التي لدينا حاليا؟ وما حكم الاحتفاظ بصور الأطفال لكي يشاهدون أنفسهم وهم أطفال حين يكبرون؟
ويكاد لا يخلو منزل من جريدة أو مجلة، وبالطبع تحتوي هذه المجلات والجرائد على بعض الآيات القرآنية واسم الله عز وجل والصور. ما هي(22/87)
الطريقة السليمة لحفظها مثلا للضرورة أو إتلافها؟
ز - ما حكم النظر للمرأة الأجنبية بالنسبة للرجل؟ والنظر للرجل بالنسبة للمرأة أثناء مشاهدة التلفزيون؟
ح - في منطقة العمل لا يوجد طبيبة مسلمة لمعالجة النساء مما يضطرنا لمراجعة الطبيب، فما حكم ذلك خصوصا المراجعة في شؤون طبية ليست لأمراض خطيرة تستدعي السرعة؟
ط - هل ملاطفة الزوج لزوجته عراة دون الإنزال تلزمه الطهارة والاستحمام أم لا؟
الجواب:
أ - تجوز سكناكم في منزل واحد ما لم ينشأ عن ذلك خلوة أحد من إخوانك البالغين بزوجتك أو كشف عورة كل واحد للآخر.
ب - يجب عليكم أمرها بستر شعرها ووجهها وسائر عورتها حذرا من الفتنة وانتشار الفساد.
ج - اجتهد في تقدير عدد أيمانك التي حنثت فيها تقديرا تقريبيا ثم أخرج كفارات على عددها التقريبي إذا كانت على أمور مختلفة وما كان منها على شيء واحد مثل والله لا أزور زيدا والله لا أزور زيدا فكفارة واحدة.
د - يحرم عليك أن تقيم ذلك الحفل وعليك عن ذلك كفارة يمين ويسن لك أن تذبح شاتين عن المولود إذا كان ذكرا وشاة واحدة إذا كان أنثى وذلك في اليوم السابع من تاريخ الولادة وتدعو من الأقارب والأصدقاء والجيران فقراء وأغنياء ليأكلوا منه ولك أن توزعه لحما نيئا على هؤلاء على أن يكون ما يذبح من الشياه مما يجزئ أضحية.
هـ - لا يجوز تصوير ذوات الأرواح مطلقا ولا الاحتفاظ بها لغرض إلا إذا كانت لتابعية أو جواز سفر أو نحو ذلك فيرخص فيها تصويرا أو إبقاء عليها للضرورة.(22/88)
وما يوجد في الجرائد من صور الأحياء ومن أسماء الله أو آيات من القرآن هو من الأمور التي عمت بها البلوى وينبغي للإنسان أن يصون ما به الآيات أو ذكر الله وأن يتخلص من هذه الجرائد إما بتحريقها أو دفنها أو طمس معالم ما فيها من صور أو بيعها على أرباب مصانع الورق ليعيدوها ورقا آخر أو غير ذلك مما يصون الآيات ونحوها ويقضي على الصور والله المستعان.
ز - لا يجوز لأن الغالب على من يظهر في التلفزيون من النساء التبرج وكشف بعض العورة ومن الرجال أن يكون مثال الزينة والجمال وذلك مثار فتنة وفساد غالبا.
ح - إذا كان الواقع كما ذكر جاز.
ط - لا يلزمه بمجرد المداعبة واللمس دون إيلاج في الفرج ولا إنزال وضوء ولا غسل على الصحيح من أقوال العلماء وإن غيب الحشفة في الفرج وجب الغسل ولو لم ينزل وإن نزل منه مني وجب عليه الغسل ولو لم يولج في الفرج وإن أمذى فقط وجب غسل الفرج والإليتين ثم الوضوء. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(22/89)
فتوى برقم 3633 وتاريخ 15 \ 5 \ 1401 هـ
السؤال الأول: ما هو موقف الإسلام من التعليم في جامعات بعض الدول الإسلامية حيث يوجد بها من الفجور والفسق والكفر الكثير؛ ففيها(22/89)
الفتيات العاريات تماما والشباب المنحل المنحرف الضال والاختلاط العلني وبشكل فاضح وفاحش لا يرضاه الإسلام بل يشجع ذلك هيئة التدريس في الجامعات، وبعض الكليات في هذه الجامعات لا يوجد بها حتى المسجد لكي يسجد فيه لله وحده وفرض الزي الرسمي وهو زي المشركين من أوروبا ولا يسمح لأي طالب بدخول الامتحان بدون هذا الزي مثل القميص والعمامة لأن هذا عندهم تأخر وجهل فما الحكم؟
الجواب: أولا: تعلم العلوم النافعة من فروض الكفاية، فيجب على الأمة وخاصة ولاة أمورها أن يهيئوا جماعة منها رجالا ونساء لتعلم ما تحتاج إليه من أنواع العلوم وتيسر لهم طريقه حتى تنهض بالأمة في المحافظة على ثقافتها وعلاج مرضاها، وتجنبها مواطن الخطر فإن تم ذلك برئت الذمة، ورجي الثواب، وإلا خشي وقوع البلاء، وحقت كلمة العذاب.
ثانيا: اختلاط الطلاب بالطالبات والمدرسين بالمدرسات في دور التعليم محرم لما يفضي إليه من الفتنة وإثارة الشهوة والوقوع في الفاحشة، ويتضاعف الإثم، وتعظم الجريمة، إذا كشفت المدرسات أو التلميذات شيئا من عوراتهن، أو لبسن ملابس شفافة تشف عما وراءها، أو لبسن ملابس ضيقة تحدد أعضاءهن، أو داعبن الطلاب أو الأساتذة ومزحن معهم أو نحو ذلك مما يفضي إلى انتهاك الحرمات والفوضى في الأعراض.
فعلى ولاة الأمور أن يخصصوا للطلاب معاهد ومدارس وكليات وكذا الطالبات، محافظة على الدين، ومنعا لانتهاك الحرمات والأعراض والفوضى في الحياة الجنسية وبذلك يتمكن ذوو الغيرة والدين من الانتظام في سلك التعليم والتعلم دون حرج أو مضايقات. وإذا لم يقم ولاة الأمور بواجبهم، ولم يتم فصل الذكور عن الإناث في دور التعليم، ولا الأخذ على أيدي(22/90)
الكاسيات العاريات لم يجز الانضمام في سلك هؤلاء إلا إذا رأى الشخص من نفسه القدرة على تقليل المنكر، وتخفيف الشر ببذل النصح والتعاون في ذلك مع أمثاله من الزملاء والأساتذة، وأمن على نفسه من الفتنة.(22/91)
السؤال الثاني: حديث " تغيير المنكر " هل المقصود لكي يتغير المنكر أن نترك المكان الذي به منكر أم نظل ونكرهه وننكره بقلوبنا؟
الجواب: المسلمون في إنكار المنكر درجات، منهم من يجب عليه إنكار المنكر بيده كولي الأمر ومن ينوب عنه ممن أعطي صلاحية لذلك، وكالوالد مع ولده والسيد مع عبده والزوج مع زوجته إن لم يكف مرتكب المنكر إلا بذلك. ومنهم من يجب عليه إنكاره بالنصح والإرشاد والنهي والزجر والدعوة بالتي هي أحسن دون اليد والتسلط بالقوة خشية إثارة الفتن وانتشار الفوضى. ومنهم من يجب عليه الإنكار بالقلب فقط، لضعفه نفوذا ولسانا، وهذا أضعف الإيمان، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في قوله «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (1) » وإذا كانت المصلحة في بقائه في الوسط الذي فشا فيه المنكر أرجح من المفسدة ولم يخش على نفسه الفتنة بقي بين من يرتكبون المنكر مع إنكاره حسب درجته، وإلا هجرهم محافظة على دينه.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .(22/91)
فتوى برقم 4015 وتاريخ 20 \ 10 \ 1400 هـ
السؤال الأول: ما حكم الصلاة وراء الديوث؟
الجواب: الصلاة وراءه صحيحة لكن إن وجد غيره ممن هو خير منه فهو أولى بالإمامة كسائر أهل المعاصي.(22/92)
السؤال الثاني: هل سحر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهل نفذ فيه السحر؟
الجواب: الرسول - صلى الله عليه وسلم - من البشر معرض أن يصيبه ما يصيب البشر من الأوجاع والأمراض وتعدي الخلق عليه وظلمهم إياه كسائر البشر إلى أمثال ذلك مما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها، ولا كانت الرسالة من أجلها فغير بعيد أن يصاب بمرض أو اعتداء أحد عليه بسحر ونحوه يخيل إليه بسببه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له؛ كان يخيل إليه أنه وطئ زوجاته وهو لم يطأهن أو أنه يقوى على وطئهن حتى إذا جاء إحداهن فتر ولم يقو على ذلك لكن الإصابة أو المرض أو السحر لا يتجاوز ذلك إلى تلقي الوحي عن الله تعالى ولا إلى البلاغ عن ربه إلى العالمين لقيام الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة على عصمته - صلى الله عليه وسلم - في تلقي الوحي وبلاغه وسائر ما يتعلق بشؤون الدين. والسحر نوع من الأمراض التي أصيب بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم حتى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي لكنه دعا ودعا ثم قال: يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه ما وجع الرجل فقال مطبوب قال من طبه(22/92)
قال لبيد بن الأعصم (1) » قال في أي شيء قال في مشط ومشاطه وجف طلع نخلة ذكر قال أين هو قال في بئر ذروان فأتاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناس من أصحابه فجاء فقال يا عائشة كأن ماءها نقاعة الحناء وكأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين قلت: يا رسول الله أفلا استخرجته قال: قد عافاني الله فكرهت أن أثير على الناس فيه شرا فأمر بها فدفنت) رواه البخاري ومسلم.
ومن أنكر وقوع ذلك فقد خالف الأدلة وإجماع الصحابة وسلف الأمة متشبها بشبه وأوهام لا أساس لها من الصحة فلا يعول عليها وقد بسط القول في ذلك العلامة ابن القيم في كتابه زاد المعاد وابن حجر في فتح الباري.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5763) ، صحيح مسلم السلام (2189) ، سنن ابن ماجه الطب (3545) ، مسند أحمد بن حنبل (6/57) .(22/93)
فتوى برقم 4278 وتاريخ 1 \ 11 \ 1402 هـ
السؤال الأول: شخص يقول: أنا الآن في انتظار الخدمة العسكرية وعندنا في الجيش حلق اللحية إجباري ومن لم يحلقها يؤذي إيذاءا شديدا ويسجن ومنهم من تنتف لحيته كما حدث لبعض الأخوة الذين أصروا على عدم حلقها وبإذن الله قد عزمت عزما أكيدا على عدم حلقها مهما كلفني ذلك وسألت في ذلك فقيل لي إذا لم تحلقها فتكون بذلك مخطئا لأنه يجوز أن تفتن في مثل هذا الجو من الإيذاءات في السجن فماذا أفعل هل لو تركتها أكون قد أخطأت خطا شرعيا أم لا؟(22/93)
الجواب: لو أجبر المسلم على حلق لحيته ولو أنه أعفاها لترتب على ذلك قتله أو قطع عضو من أعضائه أو إزالة منفعة من المنافع كحاسة السمع أو البصر أو نحو ذلك جاز له حلقها درءا لهذا الضرر عن نفسه.(22/94)
السؤال الثاني: يقول: علمت بعض الشيء عن ورع الأئمة في مسألة الطعام مثل الإمام الشافعي والإمام أحمد الذي امتنع عن أخذ مال ولده الذي اشتغل بالقضاء لأنه شك في المال الذي سيتقاضاه ولده من الدولة منذ أن علمت ذلك امتنعت عن تناول أي طعام غير الطعام الذي أتناوله في بيتي من مال والدي أو الذي أعرف مصدره وقد سبب لي ذلك بعض المشاق وأغضب كثيرا من الأخوة الذين عزموا علي بتناول حتى ولو تمرة فكثيرا ما يأتي بيتنا ضيوف وهم يضعون الفاكهة أو أي شيء يؤكل وأمتنع عن تناوله وامتناعي عن تناوله ليس لثقتي في أن مصدره حرام ولكن لعدم معرفة الحكم الشرعي فهل من الشرع أن أسأل إذا دعيت إلى طعام عن مصدر المال الذي جيء به هذا الطعام وإذا سافرت إلى بلد عند قريب أو صديق فهل أسأله عن مصدر هذا الطعام الذي أتناوله عنده والهدية إذا كانت طعاما هل أسأل عن مصدر المال الذي اشتراه به أم لا؟
الجواب: ليس السؤال عن ذلك من هدي محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ولا من هدي خلفائه وصحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين ولأن السؤال عن ذلك قد يورث جفوة أو ضغينة أو قطيعة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(22/94)
فتوى برقم 1760 وتاريخ 29 \ 12 \ 1397 هـ
السؤال الأول: إذا أراد المسلم أن يصلي على النبي وقال {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) هل هذه بدعة أم لا؟
الجواب: إن قرأ المسلم هذه الآية ليرشد من حوله إلى فضيلة الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - وينبههم إلى ذلك حتى يحرصوا على العمل بهذه الفضيلة رجاء الثواب فليس ببدعة بل هو مشكور ومأجور وإذا صلى المخاطبون عليه - صلى الله عليه وسلم - كان له مثل أجرهم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (2) » . رواه مسلم في الصحيح.
وإن كان اتخذ قراءة هذه الآية عادة له عند رغبته في الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا العمل لم يكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا في عهد الصحابة ولم يعرف عن أئمة السلف فينبغي تركه.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 56
(2) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .(22/95)
السؤال الثاني: إذا قال المسلم بعد الأذان (اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد) فهل قوله في ذلك إنك لا تخلف الميعاد بدعة أم لا؟
الجواب: الأصل في الأذكار وسائر العبادات الوقوف عند ما ورد من عباراتها وكيفياتها في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لما رواه البخاري وغيره عن البراء بن عازب - رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أتيت مضجعك(22/95)
فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل اللهم أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة واجعلهن آخر ما تتكلم به) قال: فرددتها على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما بلغت (اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت قلت: ورسولك قال لا: ونبيك الذي أرسلت)) (1) » فأبى النبي - صلى الله عليه وسلم - على البراء بن عازب أن يضع كلمة ورسولك مكان كلمة ونبيك في الذكر والدعاء عند النوم. وكلمة إنك لا تخلف الميعاد وإن لم ترد في دعاء طلب الوسيلة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الأذان في دواوين السنة الستة ولكن رواها البيهقي في سننه من طريق علي بن عياض قال حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وذكر الحديث وزاد في آخره (إنك لا تخلف الميعاد) وعلى هذا لا تكون زيادتها في دعاء طالب الوسيلة بعد الأذان للنبي - صلى الله عليه وسلم - بدعة.
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (247) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2710) ، سنن الترمذي الدعوات (3574) ، سنن أبو داود الأدب (5046) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3876) ، مسند أحمد بن حنبل (4/290) ، سنن الدارمي الاستئذان (2683) .(22/96)
السؤال الثالث: إذا قال المسلم بعد الانتهاء من الصلاة (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام وزاد فيها (وإليك يعود السلام) فهل هذه الزيادة بدعة؟
الجواب: تقدم في الجواب عن السؤال الثاني أن الأصل في الأذكار وسائر العبادات الوقوف عند ما ورد من عباراتها وكيفياتها فلا ينقص منها ولا يزاد عليها ولا يغير في كيفياتها والذي ثبت في كتب السنة من الذكر بهذه الصيغة «اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام (1) » وفي رواية «تباركت ذا الجلال والإكرام (2) » ولم ترد زيادة «وإليك يعود السلام» ولا زيادة «وإليك السلام» فيما نعلم إلا في سنن البيهقي من
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (591) ، سنن الترمذي الصلاة (300) ، سنن أبو داود الصلاة (1512) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (928) ، مسند أحمد بن حنبل (5/280) ، سنن الدارمي الصلاة (1348) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (591) ، سنن الترمذي الصلاة (300) ، سنن أبو داود الصلاة (1512) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (928) ، مسند أحمد بن حنبل (5/280) ، سنن الدارمي الصلاة (1348) .(22/96)
طريق داود بن رشيد قال: حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي عن أبي عمار عن أبي أسماء فذكر الحديث وفيه «وإليك السلام» وفي سنده الوليد بن مسلم القرشي من رجال السنة حافظ متقن إلا أنه كان يدلس تدليس التسوية قال الدارقطني: كان الوليد يرسل يروي عن الأوزاعي عن شيوخ ضعفاء عن شيوخ قد أدركهم الأوزاعي فيسقط أسماء الضعفاء ويجعلها عن الأوزاعي عن نافع وعن عطاء. وقال صالح بن محمد سمعت الهيثم بن خارجة يقول قلت للوليد قد أفسدت حديث الأوزاعي قال كيف؟ قلت تروي عن الأوزاعي عن نافع وعن الأوزاعي عن الزهري ويحيى بن سعيد وغيرك يدخل بين الأوزاعي وبين نافع عبد الله بن عامر وبين الأوزاعي وبين الزهري إبراهيم بن مرة وقرة وغيرهما فما يحملك على هذا؟ قال: أقبل الأوزاعي عن هؤلاء؟ قلت: فإذا روي الأوزاعي عن هؤلاء وهؤلاء وهم ضعفاء أحاديث مناكير فأسقطتهم أنت وصيرتها من رواية الأوزاعي عن الثقات، ضعف الأوزاعي. قال: فلم يلتفت إلى قولي. وعلى هذا لا يصح الاستدلال به وتكون زيادة هذه الجملة في هذا الذكر بعد الصلاة بدعة. .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(22/97)
فتوى برقم 5124 وتاريخ 17 \ 12 \ 1402 هـ
السؤال الأول: أ - هل يجوز بذل الأموال في انتخاب الإمام لحصول منصب الإمامة.(22/97)
ب - إذا علمنا أن الإمام بذل أمواله في حصول الإمامة هل يجوز اتباعه في الصلاة وهل نعتبره فاسقا أم لا؟
ج - ـ هل يحرم أخذ تلك الأموال؟
د - هل تكون تلك الأموال صدقة أو رشوة؟
الجواب:
أ - لا يجوز للمسلم أن يبذل مالا للمسؤولين عن انتخاب إمام للصلاة لينجح في ذلك الانتخاب ويعين إماما للناس في الصلاة.
ب - من علم من المصلين أن إنسانا بذل مالا ليفوز بالإمامة كره له أن يصلي وراءه إذا أمكنه تغييره أو أمكنه أن يصلي وراء من هو خير منه من الأئمة دون أن تحدث فتنة أو ضرر لأن ذلك الإمام فاسق بدفعه المال ليفوز بالإمامة.
ج - يحرم أخذ ما بذل من المال للغرض المذكور.
د - المال المبذول للغرض المذكور ليس صدقة بل هو رشوة.(22/98)
السؤال الثاني: هل يجوز للمسلم الحضور إلى حفلة ترميد الموتى البوذيين إذا دعي إليها؟
الجواب: لا يجوز للمسلم أن يحضر حفلة ترميد موتى البوذيين سواء دعي إليها أم لم يدع لما في ذلك من مشاركتهم في شعارهم المنكر إدخال السرور عليهم والرضا بصنيعهم.(22/98)
السؤال الثالث: هل يجوز دفن ولد كافر في مقابر المسلمين إذا أخذه المسلم متبنيا له ثم مات قبل أن يبلغ؟
الجواب: لا يجوز دفن كافر في مقابر المسلمين سواء كان متبنى لمسلم أم لا وسواء بلغ أم لم يبلغ لكن إذا وجد منه ما يدل على إسلامه دفن في مقابر(22/98)
المسلمين علما بأنه يحرم التبني في الإسلام لقوله تعالى {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} (1) .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 5(22/99)
السؤال الرابع: هل تكون الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الدعاء من فراغ الصلاة المكتوبة سنة أو بدعة؟
الجواب: تشرع الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهد في الركعة الثانية والأخيرة من الصلاة وقبل السلام سواء كانت الصلاة فريضة أم نافلة أما بعد السلام فلا حرج فيها إذا كانت في نفسه بغير جهر كسائر الدعاء لأن الجهر بها لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(22/99)
فتوى برقم 2726 وتاريخ 2 \ 12 \ 1399 هـ
السؤال الأول: ما حكم حلق اللحية وما حكم الأخذ منها؟
الجواب: حلق اللحية والأخذ منها حرام لشمول الجميع بنصوص السنة الواردة في ذلك مثل قوله عليه الصلاة والسلام «أرخوا اللحى (1) » وقوله «وأعفوا اللحى (2) » وتوفيرها وإعفاؤها تركها بدون حلق أو أخذ منها وسبق أن ورد إلى اللجنة الدائمة سؤال مماثل لهذا السؤال أجابت عنه بالفتوى رقم
__________
(1) صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن النسائي الزينة (5224) ، سنن أبو داود الترجل (4199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/16) ، موطأ مالك الجامع (1764) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/365) .(22/99)
1693 الآتي نصها " حلق اللحية حرام لما رواه البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «خالفوا المشركين وفروا اللحى وأحفوا الشوارب (1) » ولما رواه مسلم وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس (2) » والإصرار على حلقها من الكبائر فيجب نصح حالقها والإنكار عليه ويتأكد ذلك إذا كان في مركز قيادي ديني ".
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5892) ، صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن أبو داود الترجل (4199) .
(2) صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن النسائي الزينة (5224) ، سنن أبو داود الترجل (4199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/16) ، موطأ مالك الجامع (1764) .(22/100)
السؤال الثاني: ما حكم الثوب الذي هو أطول من الكعبين؟
الجواب: سبق أن ورد إلى اللجنة الدائمة سؤال مماثل لهذا السؤال أجابت عنه بالفتوى رقم 1583 الآتي نصها: " إسبال الإزار والقميص والسراويل ونحوها من الملابس وسدلها حتى تكون أسفل من الكعبين حرام مطلقا سواء قصد الخيلاء والإعجاب بالنفس أم لا، لكونه مظنة لذلك ولعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار (1) » رواه أحمد والبخاري ولا يدخل في ذلك ما كان من الإزار ونحوه فوق الكعبين إلا أنه يسترخي أحيانا حتى يصير أسفل الكعبين إذا غفل عنه لابسه ولم يتعاهده لأنه ليس مظنة الخيلاء والبطر فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فقال أبو بكر إن أحد شقي إزاري يستخري إلا أن أتعاهد ذلك منه فقال إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء (2) » رواه أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي والترمذي.
وخص بعض العلماء تحريم إسبال الإزار ونحوه وسدله تحت الكعبين بما إذا فعله الإنسان بقصد الخيلاء لوروده مقيدا بذلك في قصة أبي بكر رضي الله عنه وفي حديث لأبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا (3) » رواه أحمد والبخاري ومسلم والصواب تعميم
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5787) ، سنن النسائي الزينة (5331) ، مسند أحمد بن حنبل (2/461) .
(2) صحيح البخاري المناقب (3665) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2085) ، سنن الترمذي اللباس (1731) ، سنن النسائي الزينة (5335) ، سنن أبو داود اللباس (4085) ، سنن ابن ماجه اللباس (3569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/67) ، موطأ مالك الجامع (1696) .
(3) صحيح البخاري اللباس (5788) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2087) ، مسند أحمد بن حنبل (2/409) ، موطأ مالك الجامع (1698) .(22/100)
التحريم لعموم الأحاديث الصحيحة في ذلك ولما تقدم في قصة الصديق - رضي الله عنه -.(22/101)
السؤال الرابع: ما حكم قراءة الجريدة داخل المسجد؟
الجواب: الجرائد كغيرها من الكتب تجوز قراءتها في المسجد ولكن إذا كانت تحمل تصاوير لذوات الأرواح فلا يجوز قراءتها أو استعمالها في المسجد ولا غيره إلا بعد طمس رؤوس الصور بسترها بحبر ونحوه.
وبالله التوفيق وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(22/101)
فتوى برقم 4338 وتاريخ 21 \ 1 \ 1402
السؤال الأول: هل صبغ شعر اللحية والشارب حرام أم لا؟
الجواب: صبغ شعر اللحية والشارب بالسواد الفاحم لا يجوز وتغييره بغير ذلك مشروع.(22/101)
السؤال الثاني: لعب الورق إذا كان لا يلهي عن الصلاة ومن دون فلوس هل هو حرام أم لا؟
الجواب: اللعب بالورق لا يجوز ولو كان بدون عوض لأن الشأن فيه أنه يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة وإن زعم أنه لا يصد عن ذلك ثم هو(22/101)
ذريعة إلى الميسر المحرم بنص القرآن، قال تعالى {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) . وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 90(22/102)
فتوى برقم 1084 وتاريخ 8 \ 9 \ 1395 هـ
السؤال الأول: امرأة معها ابنة تبلغ من العمر سنتين وجلست وابنتها وعندها بالمجلس دلة قهوة وإبريق شاي وذهبت الابنة تلعب والتفتت والدتها إلى جهة غير الجهة التي ذهبت لها وذلك لأنها تغسل الفناجيل وفجأة جاءت الابنة الصغيرة إلى الدلة وأمسكت بها وسقطت عليها وكانت القهوة ساخنة جدا فعندما سقطت الابنة دخلت القهوة في أحشائها الداخلية وبعد أربع وعشرين ساعة ماتت الابنة وتسأل المرأة تقول هل عليها كفارة أم لا. وما كفارة ذلك؟
الجواب: السائلة هي أدرى بالظروف والملابسات المحيطة بهذه المسألة فإن غلب على ظنها أنها مفرطة في ترك البنت حتى حصل عليها ما حصل، وكانت الأم سببا في ذلك فعليها الكفارة، والكفارة عتق رقبة فإن لم تستطع فإنها تصوم شهرين متتابعين.(22/102)
السؤال الثاني: سائق سيارة كبيرة ناقلة يسافر دائما هل يحق له الجمع بالصلاة أم يحق له القصر وهل يصح له المسح ثلاثة أيام أم لا؟
الجواب: إذا كان سائق هذه السيارة الكبيرة له بلد معين يسكن فيها في الوقت الذي لا يسافر فيه فإنه يترخص برخص السفر إذا كان سفره مباحا لعموم أدلة الرخص في السفر وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(22/103)
فتوى برقم 1207 وتاريخ 8 \ 3 \ 1396 هـ
السؤال: شخص يقول: سمعت بعض طلبة العلم يقول في الحرم المدني أن استئجار من يدرس القرآن على نية الميت ليس بمشروع. وبما أن هذا منتشر في بعض البلدان فكيف يعمل بالمال الذي أوصى به الميت في درس قرآن على نيته؟
الجواب: استئجار من يقرأ قرآنا على نية الميت تنفيذا لوصيته التي أوصى بها من الأمور المبتدعة فلا يجوز ذلك ولا يصح لقوله - صلى الله عليه وسلم - «من عملا عملا(22/103)
ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » وقوله عليه الصلاة والسلام «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » .
أما المال الذي أوصى به هذا الميت ليدفع أجرة لقارئ على نيته فتصرف غلته في وجوه الخير فإن كان له ذرية فقراء تصدق عليهم منه بقدر ما يدفع حاجتهم، وهكذا من يحتاج إلى المساعدة من متعلمي القرآن وطلبة العلم فإنهم جديرون بالمساعدة من هذا المال وهكذا بقية وجوه الخير وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(22/104)
فتوى برقم 3507 وتاريخ 12 \ 3 \ 1401 هـ
السؤال الأول: شخص يقول: بعد التخرج نقضي فترة تدريبية في جميع أقسام الطب العامة (جراحة - باطنية - أطفال - نساء وولادة) والحمد لله قضيتها كلها ما عدا قسم النساء والولادة فأنا لا يرتاح صدري لهذا العمل خاصة بعد ما علمت ما به من شبهات ولكن مدة التدريب شهرين فقط وبعد انتهاء فترة التدريب (الامتياز) أشرف على وحدة صحية إما وحدي أو مع طبيب آخر وأمارس جميع أنواع الطب ومن يدري لعل بعض النساء تحضر بمرض خطير أو ولادة متعسرة فيكون أمرها في هذه الحالة ضرورة والله أعلم ولعلني أكون وحيدا أو معي نصراني كافر أو مسلم فاسق فكيف(22/104)
يتسنى لي علاجها وأنا لم أتدرب هذين الشهرين؟ فأنا في حيرة ولا أعلم أيهما أصح؟
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكر من أنه قد يعين في وحدة صحية بالقرى وحده أو يكون معه كافر أو مسلم فاسق فعليه أن يتدرب على ما بقي من أنواع الطب كأمراض النساء والولادة حتى يستعد للقيام بواجبه على الكمال ولو كان كشفا على امرأة أو توليدها إذا ادعت الضرورة إلى ذلك إذا لم يوجد طبيبات يقمن بذلك وكان وحده أو معه طبيب كافر أو مسلم فاسق لكن ليس له أن يخلو بها عند الكشف والعلاج أو الولادة لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك.
السؤال الثاني: بالنسبة لبقية فروع الطب بعيدا عن النساء والولادة ما هي الشروط التي يمكن بموجبها للطبيب المسلم الكشف على المرأة المسلمة.
الجواب: أن لا توجد طبيبة مسلمة تكفي للكشف عليها وعلاجها، وأن يكون من يكشف عليها مسلما دينا، وأن لا يخلو بها لما تقدم وقد صدرت فتوى من اللجنة الدائمة في حكم كشف الطبيب على المرأة وعلاجها هذا نصها:
الأصل وجوب ستر العورة من الرجال والنساء وعورة الرجل من السرة إلى الركبة والحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها في الصلاة والإحرام وإذا كانت ترى الرجال الأجانب ويرونها وجب عليها ستر وجهها وبدنها سواء كانت في الصلاة أو في إحرام حج أو عمرة ويجوز كشف العورة إذا دعت الحاجة إلى ذلك ويجوز الإطلاع عليها إذا اقتضت المصلحة الشرعية ذلك ومن ذلك إطلاع الطالبات والطلاب على النساء في أثناء إجراء عمليات تتعلق بأمراض النساء والولادة وذلك من أجل حصولهم على درجات النجاح في هذه المادة(22/105)
من أجل الانتقال إلى المرحلة التالية وهكذا حتى يتخرج الطالب والطالبة. والمصلحة الشرعية المترتبة على القول بجواز ذلك هي توفير عدد كاف من الأطباء والطبيبات من المسلمين وإذا منع ذلك في المسلمين نشأ عنه الاحتياج إلى الأطباء والطبيبات من غير المسلمين وهذا فيه من المفاسد الشيء الكثير وقد جاءت الشريعة الإسلامية بجلب المصالح ودرء المفاسد.
السؤال الثالث: ما الذي يحل للزوج من زوجته بعد عقد القران وقبل البناء بها؟
الجواب: يحل له منها ما يحل للزوج من زوجته التي دخل بها من نظر وقبلة وخلوة وسفر بها وجماع. . الخ.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(22/106)
فتوى برقم 3111 وتاريخ 21 \ 7 \ 1400 هـ
السؤال الأول: امرأة بها العادة الشهرية وطلب منها زوجها الجماع عن طريق الغصب فما حكم ذلك؟ مبينا ما عليه أي الزوج وما عليها وهل يختلف الحكم عن طريق الرضا إذا كانت الزوجة راضية.
الجواب: يحرم على الزوج جماع زوجته الحائض، وله أن يستمتع بما شاء من جسدها سوى الجماع بعد أن تلبس إزارا فإن جامعها في فرجها فعليه أن(22/106)
يتصدق بنصف دينار كفارة لذلك وعليها أيضا نصف دينار إن طاوعته، وإلا فلا شيء عليها.(22/107)
السؤال الثاني: امرأة تتناول حبوب منع الحمل في شهر رمضان بغرض منع العادة الشهرية حتى لا تأتيها في شهر رمضان وكذلك في أيام الحج إذا أرادت الحج فما الحكم؟
الجواب: يجوز لها أخذ الحبوب لما ذكر من التمكن من الصيام وأداء النسك إذا كان تناولها لا يضر بها.(22/107)
السؤال الثالث: هل حلي المرأة من رشرش وغوائش وخماخم وقلب ونحوه إذا كانت المرأة تلبسه لغرض الزينة فيه زكاة أم لا؟
الجواب: نعم تجب فيه الزكاة على الصحيح من قولي العلماء.(22/107)
السؤال الرابع: بعض نساء البادية يضعن عليهن حجابا عن أزواج بناتهن ويمتنعن من السلام عليهم مصافحة فهل يجوز لهن ذلك أم لا؟
الجواب: زوج ابنة المرأة من محارمها بالمصاهرة، يجوز له أن يرى منها ما يجوز أن يراه من أمه وأخته وابنته وسائر محارمه فسترها وجهها أو شعر رأسها أو ذراعها ونحو ذلك من زوج ابنتها من الغلو في الحجاب، والامتناع من مصافحته عن اللقاء غلو أيضا في التحفظ وقد يوجب ذلك نفرة وقطيعة فينبغي لها أن تترك الغلو في ذلك إلا إذا أحست منه ريبة أو وجدت منه عينا خائنة فهي محسنة فيما فعلت.(22/107)
السؤال الخامس: يلجأ بعض الرجال إلى مصافحة النساء القريبات وهن لسن محارم له ولكن عن طريق قرابة وجيران فما حكم ذلك، وهل يكفي لو تضع المرأة على يدها قطعة قماش لغرض التستر.(22/107)
الجواب: لا يجوز للرجل أن يصافح امرأة أجنبية منه ولو وضعت خرقة على يدها عند المصافحة وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(22/108)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
أولا: أسئلة حول تربية اللحية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد. فقد سألني بعض الإخوان عن الأسئلة التالية:
1 - هل تربية اللحية واجبة أو جائز.
2 - هل حلقها ذنب أو إخلال بالدين.
3 - هل حلقها جائز مع تربية الشنب.
والجواب عن هذه الأسئلة: أن نقول: قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «احفوا الشوارب ووفروا اللحى خالفوا المشركين (1) » وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس (2) » . وخرج النسائي في سننه بإسناد صحيح عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لم يأخذ من شاربه فليس منا (3) » قال العلامة الكبير والحافظ الشهير أبو محمد بن حزم: اتفق العلماء أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض. والأحاديث في هذا الباب وكلام أهل العلم فيما يتعلق بإحفاء الشوارب وتوفير اللحى وإكرامها وإرخائها كثير لا يتيسر استقصاء الكثير منه في هذه الرسالة ومما تقدم من الأحاديث وما نقله ابن حزم من الإجماع تعلم الجواب عن الأسئلة الثلاثة وخلاصته أن تربية اللحية وتوفيرها
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5892) ، صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن أبو داود الترجل (4199) .
(2) صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن النسائي الزينة (5224) ، سنن أبو داود الترجل (4199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/16) ، موطأ مالك الجامع (1764) .
(3) سنن الترمذي الأدب (2761) ، سنن النسائي الزينة (5047) .(22/109)
وإرخاءها فرض لا يجوز تركه لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك وأمره على الوجوب كما قال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) وهكذا قص الشارب واجب وإحفاؤه أفضل أما توفيره أو اتخاذ الشنبات فذلك لا يجوز لأنه يخالف قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «قصوا الشوارب (2) » «أحفوا الشوارب (3) » «جزوا الشوارب (4) » «من لم يأخذ من شاربه فليس منا (5) » وهذه الألفاظ الأربعة كلها جاءت في الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي اللفظ الأخير وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - «من لم يأخذ من شاربه فليس منا (6) » وعيد شديد وتحذير أكيد وذلك يوجب للمسلم الحذر مما نهى الله عنه ورسوله والمبادرة إلى امتثال ما أمر الله به ورسوله ومن ذلك تعلم أيضا أن إعفاء الشارب واتخاذ الشنبات ذنب من الذنوب ومعصية من العاصي وهكذا حلق اللحية وتقصيرها من جملة الذنوب والمعاصي التي تنقص الإيمان وتضعفه ويخشى منها حلول غضب الله ونقمته. وفي الأحاديث المذكورة آنفا الدلالة على أن إطالة الشوارب وحلق اللحى وتقصيرها من مشابهة المجوس والمشركين والتشبه بهم منكر لا يجوز فعله لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «من تشبه بقوم فهو منهم (7) » وأرجو أن يكون في هذا الجواب كفاية وإقناع.
والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/229) .
(3) صحيح البخاري اللباس (5893) ، صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2763) ، سنن النسائي الطهارة (15) ، سنن أبو داود الترجل (4199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/16) ، موطأ مالك الجامع (1764) .
(4) صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن النسائي الزينة (5224) ، سنن أبو داود الترجل (4199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/16) ، موطأ مالك الجامع (1764) .
(5) سنن الترمذي الأدب (2761) ، سنن النسائي الزينة (5047) .
(6) سنن الترمذي الأدب (2761) ، سنن النسائي الزينة (5047) .
(7) سنن أبو داود اللباس (4031) .(22/110)
ثانيا: أهمية الغطاء على وجه المرأة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم، وفقه الله لكل خير آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده: كتابكم المؤرخ بدون وصل وصلكم الله بهداه وهذا نصه؛ أرجو من فضيلتك إجابتي عن أهمية الغطاء على وجه المرأة، وهل هو واجب أوجبه الدين الإسلامي وإذا كان كذلك فما هو الدليل على ذلك إنني أسمع الكثير وأعتقد أن الغطاء عم استعماله في الجزيرة على عهد الأتراك ومنذ ذلك الوقت سار التشديد على استعماله حتى أصبح يراه الجميع أنه فرض على كل امرأة، كما قرأت أنه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد الصحابة الراشدين كانت المرأة تشارك الرجل في الكثير من الأعمال كما تساعده في أيام الحروب فهل هذه الأشياء حقيقة أم أن فهمي غلط لا أساس له. إنني أنتظر الإجابة من فضيلتك لفهم الحقيقة وحذف ما هو مشوه. انتهى.
الجواب: الحجاب كان أول الإسلام غير مفروض على المرأة وكانت تبدي وجهها وكفيها عند الرجال، ثم شرع الله سبحانه الحجاب للمرأة وأوجب ذلك عليها صيانة لها وحماية لها من نظر الرجال الأجانب إليها وحسما لمادة الفتنة بها وذلك بعد نزول آية الحجاب وهي قوله تعالى في سورة الأحزاب {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (1)
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 53(22/111)
الآية، والآية المذكورة وإن كانت نزلت في زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - فالمراد منها هن وغيرهن من النساء لعموم العلة المذكورة والمعنى، وذلك مثل قوله سبحانه في السورة نفسها: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) . الآية، فإن هذه الآية تعمهن وغيرهن بالإجماع، ومثل قوله عز وجل في سورة الأحزاب أيضا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (2) الآية، وأنزل الله في ذلك أيضا آيتين أخريين في سورة النور وهما قوله تعالى {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} (3) . الآية، والبعولة هم الأزواج، والزينة هي المحاسن والمفاتن والوجه أعظمها، وقوله سبحانه {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (4) المراد به الملابس في أصح قولي العلماء كما قاله الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - لقوله تعالى {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} (5) . الآية ووجه الدلالة من هذه الآية على وجوب تحجب النساء وهو ستر الوجه وجميع
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 33
(2) سورة الأحزاب الآية 59
(3) سورة النور الآية 31
(4) سورة النور الآية 31
(5) سورة النور الآية 60(22/112)
البدن عن الرجال غير المحارم، أن الله سبحانه رفع الجناح عن القواعد اللاتي لا يرجون نكاحا وهن العجائز إذا كن غير متبرجات بزينة، فعلم بذلك أن الشابات يجب عليهن الحجاب وعليهن جناح في تركه، وهكذا العجائز المتبرجات بالزينة عليهن أن يتحجبن لأنهن فتنة، ثم إنه سبحانه أخبر في آخر الآية أن استعفاف القواعد غير المتبرجات خير لهن وما ذاك إلا لكونه أبعد لهن من الفتنة، وقد ثبت عن عائشة وأختها أسماء رضي الله عنهما ما يدل على وجوب ستر المرأة وجهها عن غير المحارم ولو كانت في حال الإحرام كما ثبت عن عائشة وأختها أسماء رضي الله عنهما ما يدل على وجوب ستر المرأة وجهها عن غير المحارم ولو كانت في حال الإحرام كما ثبت عن عائشة رضي الله عنها ما يدل على أن كشف الوجه للمرأة كان في أول الإسلام ثم نسخ بآية الحجاب وبذلك تعلم أن حجاب المرأة أمر قديم من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - قد فرضه الله سبحانه، وليس من عمل الأتراك، أما مشاركة النساء للرجال في كثير من الأعمال على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كعلاج الجرحى وسقيهم في حال الجهاد ونحو ذلك فهو صحيح مع التحجب والعفة والبعد عن أسباب الريبة كما «قالت أم سليم رضي الله عنها كنا نغزو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فنسقى الجرحى ونحمل الماء ونداوي المرضى» ، هكذا كان عملهن لا عمل نساء اليوم في كثير من الأقطار التي يدعي أهلها الإسلام اللائي اختلطن بالرجال في مجالات الأعمال متبرجات متبذلات فآل الأمر تفشي الرذيلة، وتفكك الأسر وفساد المجتمع ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ونسأل الله أن يهدي الجميع صراطه المستقيم وأن يوفقنا وإياك وسائر إخواننا للعلم النافع والعمل به إنه خير مسؤول.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،،(22/113)
ثالثا: تنبيه سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
حول محاورة نشرتها مجلة اقرأ بين أرسطو وأرسطوقان
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فقد اطلعت على كلمة نشرتها مجلة اقرأ في عددها (604) الصادرة في 22 \ 5 \ 1407 هـ عن محاورة بين أرسطوا وأرسطوقان. جاء فيها ما نصه " الطبيعة تخطئ والإنسان يصحح " وهذا الإطلاق منكر عظيم وكفر صريح. ومعلوم أن الفلاسفة لا يؤمنون بإله خالق مدبر له الكمال المطلق يفعل لحكمة ويترك لحكمة وهو منزه عن الخطأ في أفعاله وأقواله عز وجل ومن أجل عدم إيمانهن بالخالق العظيم الكامل في أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى ينسبون الحوادث إلى الطبيعة وهذا من جهلهم وبعدهم عما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام فالواجب عدم الاغترار بأقوالهم فيما يتعلق بالإلهيات والشرائع لجهلهم بها وعدم إيمانهم ولا شك أن ما يقع في العالم من أمراض وحوادث وتشويه خلقة أو غير ذلك كلها تقع بمشيئة الله سبحانه وله فيها الحكمة البالغة والحجة الدامغة وإن جهلها الخلق كما قال عز وجل {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (1) . وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (2)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 83
(2) سورة النساء الآية 11(22/114)
وقال عز وجل: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (1) وما ذاك إلا لكمال حكمته وعلمه تبارك اسمه وتقدس عن قول الظالمين والكافرين والجاهلين وتعالى علوا كبيرا. ولواجب النصح لله ولعباده جرى التنبيه، والله ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 23(22/115)
رابعا: إجابة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز على أسئلة تقدمت بها جريدة عكاظ
س1: فضل الله سبحانه وتعالى شهر رمضان المبارك عن بقية الأشهر، ولياليه العشر الأخيرة عن ليالي العام وليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.
هل ليلة القدر محددة التاريخ أم أنها خلال العشر الأواخر من شهر رمضان الكريم؟
س2: ارتبط نزول القرآن الكريم بهذه الليلة المباركة. . وكتاب الله دستورنا الذي نهتدي بنهجه القويم. . هل ترى أن حالة التشتت والتمزق التي يعاني منها عالمنا الإسلامي في المرحلة الراهنة هو ابتعاده وعدم تمسكه بكتاب الله؟
س3: ما هي أمنيات سماحتكم في هذه الليلة المباركة على المستوى المحلي والعربي والإسلامي؟(22/115)
ج1: ليلة القدر أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها في العشر الأخيرة من رمضان وبين عليه الصلاة والسلام أن أوتار العشر آكد من أشفاعها فمن قامها جميعا أدرك ليلة القدر. وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (1) » والمعنى أن من قامها بالصلاة وسائر أنواع العبادة من قراءة ودعاء وصدقة وغير ذلك إيمانا بأن الله شرع ذلك واحتسابا للثواب عنده لا رياء ولا لغرض آخر من أغراض الدنيا غفر الله له ما تقدم من ذنبه.
وهذا عند جمهور أهل العلم مقيد باجتناب الكبائر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما لم تغش الكبائر (2) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه.
فنسأل الله أن يوفق المسلمين جميعا في كل مكان بقيامها إيمانا واحتسابا إنه جواد كريم.
ج2: لا شك أن ما أصاب المسلمين من تفرق واختلاف ومصائب متنوعة، كل ذلك بأسباب ما كسبت أيديهم من الذنوب والمعاصي وأعظم ذلك عدم تحكيم الشريعة الإسلامية بين أكثر المسلمين. وعدم التزام قادتهم بذلك كما قال الله عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (3) . فنسأل الله أن يوفق المسلمين حكاما وشعوبا للالتزام بشريعته والحكم بها والاستقامة على دينه قولا وعملا وعقيدة، وترك ما
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1901) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (760) ، سنن الترمذي الصوم (683) ، سنن النسائي الصيام (2202) ، سنن أبو داود الصلاة (1372) ، مسند أحمد بن حنبل (2/241) ، سنن الدارمي الصوم (1776) .
(2) صحيح مسلم الطهارة (233) ، سنن الترمذي الصلاة (214) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1086) ، مسند أحمد بن حنبل (2/400) .
(3) سورة الشورى الآية 30(22/116)
يخالف ذلك إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ج3 أمنيتي وأمنية كل مسلم بصير بدينه أن يوفق المسلمين للالتزام بشريعته قولا وعملا وأن يؤدوا ما فرض الله عليهم ويتركوا ما حرم الله عليهم، وأن يعتصموا بحبله جميعا وأن يكونوا متحابين في الله متعاونين على البر والتقوى وبذلك ينصرهم الله ويحفظهم من كل سوء. كما قال سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (1) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (2) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3) . وقال عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (4) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (5) . وقال عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (6) . الآية.
والآيات في هذا المعنى كثيرة ونسأل الله أن يحقق للمسلمين وقادتهم كل ما فيه صلاحهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة إنه سميع قريب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) سورة العصر الآية 1
(2) سورة العصر الآية 2
(3) سورة العصر الآية 3
(4) سورة الحج الآية 40
(5) سورة الحج الآية 41
(6) سورة النور الآية 55(22/117)
صفحة فارغة(22/118)
موقف الشريعة الإسلامية
من ربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعار
الشيخ \
عبد الله بن سليمان المنيع (1)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه وبعده:
لا شك أن الالتزام بالحق سواء كان التزاما بدين نقدي أم بمال عيني كديون السلم أم بعمل كعقود المقاولات والإجارات الخاصة أو المشتركة أو بتوثيق كعقود الكفالات والضمان. إن الالتزام بالحق يعني تعلق ذلك الحق بذمة من التزم به سواء كان ذلك الملتزم شخصا اعتباريا أو شخصا طبيعيا. ولا شك أن الحق اللازم في الذمة قد تحدد بعقد الالتزام به قدره ونوعه وصفته وأجل الوفاء به إن كان له أجل، وأن توثيق الالتزام به يعني عقدا جرى التعهد بالالتزام به والوفاء بمقتضاه وبما نص عليه من شروط وقيود وتعهدات. وهذا يعني أن عقدا جرى تعيين الالتزام بما فيه بمقدار معين وصفة معينة فإن مقتضى العقد يوجب أن هذا الحق لا يجوز أن يتغير بزيادة ولا نقصان إلا باتفاق طرفيه طبقا للمقتضيات
__________
(1) ورد للكاتب ترجمة في العدد السابع، صفحة 290(22/119)
الشرعية إلا ما اقتضى إعطاؤه حكما شرعيا استثنائيا يتفق مع العدل ودفع الظلم وآثاره.
وهذا هو الأصل في العقود طبقا للنصوص الشرعية من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2) {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} (3) {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} (4) {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (5) وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (6) وقال تعالى: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} (7) .
وفي المنتقى عن عمرو بن عوف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما (8) » قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي كتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي كتبه إلى أبي موسى الأشعري: المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا.
ولا شك أن عقود الالتزام عقود تراض مشتملة على شروط اتفقت إرادتا طرفي العقد على الأخذ بها وبما اشتملت عليه من شروط وقيود
__________
(1) سورة المائدة الآية 1
(2) سورة البقرة الآية 282
(3) سورة البقرة الآية 282
(4) سورة البقرة الآية 282
(5) سورة البقرة الآية 283
(6) سورة المؤمنون الآية 8
(7) سورة الأنعام الآية 152
(8) سنن أبو داود الأقضية (3594) .(22/120)
وتعهدات فلا يجوز تغييرها بزيادة أو نقص من إرادة منفردة إلا بما لا يضر الطرف الآخر.
بهذا يتضح أن الالتزام بالحق يعني ثباته نوعا وقدرا وصفة وأمدا وأن محاولة التدخل في تغيير الالتزام بدون إرادة طرفيه يعني ترتيب مظالم على الذمم المختصة بهذا الالتزام فالمنتفع بهذا التغيير ظالم والمتضرر به مظلوم ومحتوى الالتزام متغير إلى ما يمكن أن يعتبر من ضروب الربا أو من أكل المال بالباطل أو من القروض التي تجر نفعا.
توضيح ذلك أن الحق موضوع الالتزام إذا طرأ عليه من التقلبات الاقتصادية ما يعتبر جنسه مهيأ للزيادة أو النقص في وقت سداده مما يوجب الضرر لأحد طرفيه بذلك فإن هذا الضرر قد يكون أحد طرفي الالتزام سببا في حصوله على الطرف الآخر كمماطلته في الوفاء بهذا الالتزام حتى تغيرت الأسعار وترتب عليها الضرر، وقد لا يكون لأحد طرفيه سبب في ذلك إلا أن هناك جائحة قضائية من الله أو يكون الالتزام من طرف واحد لآخر كمن يغصب حقا لشخص طبيعي أو اعتباري فيتغير سعر مثل ذلك الحق بما يعتبر نقصا على المغصوب في وقت تسليم ذلك الحق المغتصب.
هذه الحالات الثلاث، للفقه الإسلامي نظر في ربط تغير الأسعار بالالتزام وسيأتي الحديث عن وجهة النظر في ذلك الربط.
أما ما عدا الحالات الثلاث فمنذ زاول الإنسان نشاطه الاقتصادي فإنتاجه عرضة للزيادة والنقصان تزيد قيم السلع باختلال ميزان العرض على الطلب بالنقص وتنقص قيمها بعكس ذلك، ومن عوامل هذه التغيرات الاقتصادية تنشأ الأرباح والخسائر ويتحقق ما وصفه - صلى الله عليه وسلم - من(22/121)
أن التجارة غارات المؤمنين.
وبالاجتهاد في الأخذ بأسباب الأرباح وتجنب الخسائر دون الحركة الاقتصادية وبالتالي تتوفر وسائل أكثر لتحصيل العمل وتقليل البطالة وتوفير وسائل الحياة الأفضل.
ولهذا نجد الإسلام يضيق دائرة التعامل بالأثمان على سبيل المصارفة المتمثلة في بيع وشراء لما في حركتها والتحرك من حبس الأثمان التي هي وسيلة التقويم والتقدير عن وظيفتها وجعلها سلعا تباع وتشتري فينتج من ذلك التقليل من الحركة الاقتصادية المتمثلة في الإنتاج والتسويق والاستهلاك.
كما أن الإسلام يحرم المكاسب المضمونة والمبيعات غير المملوكة وتعيين قدر معين من المضاربة في التجارة أو المغارسة أو المخابرة كما أنه يحرم الاحتكار وتلقي الركبان ويقف من قضايا الغش والتدليس والغرر والجهالة والغبن مواقف حازمة كمواقفه الحكيمة في إنكار المكاسب عن طريق الرهان والقمار والميسر، ويدعو الإسلام إلى السعي في الأرض والضرب في الأسواق، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} (1) وقال تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (2) وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (3) .
__________
(1) سورة الملك الآية 15
(2) سورة المزمل الآية 20
(3) سورة الجمعة الآية 10(22/122)
فالإسلام يعتبر المخاطرة في التجارة عنصرا ذا أثر فعال في إنعاش الحركة الاقتصادية لما تستلزمه المخاطرة من الحيطة والحذر والحرص والتدبر والمراقبة المستمرة للتقلبات الاقتصادية وبالتالي الأخذ بنتائج ذلك من بيع وشراء وإنتاج وتسويق، فإذا قلنا بربط الحقوق المؤجلة بمستوى الأسعار ولم يكن لمن ترتبت عليه هذه الالتزامات سبب في التضرر بتغير الأسعار فإن هذا يعني معالجة الضرر بضرر ودفع خسارة طرف من أطراف والالتزامات بظلم طرفه الملتزم فضلا عما في ذلك من تشجيع الاستثمارات البنكية والتقليل من عنصر المخاطرة في التجارة حينما يعلم طرفا الالتزام أن العبرة بقيمة الحق موضوع الالتزام هو سعر يوم سداده وما يترتب على ذلك من الجهالة في مقدار الحق بالرغم من تقديره وقت الالتزام بقدر معين، فملتزم بمليون دولار مثلا لزيد من الناس بعد عام يحل أجل السداد في وقت تكون القيمة الشرائية للدولار قد انخفضت بمقدار 40% في المائة مثلا فربط الحق بسعر يوم سداده يعني أن مليون الدولار تتحول إلى مليون وأربعمائة دولار، فالملتزم بالحق يعرف أن التزامه بمليون دولار، ولكنه لا يعرف وقت سدادها مقدار ما يسدده فقد يزيد مبلغ الالتزام وقد ينقص وهكذا في أموال عقود السلم ومضاربات البورصات وأجور العمال والالتزامات التوثيقية.
وبهذا يتضح لنا أن الأخذ بمبدأ ربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعار مصادم للمقتضيات الشرعية في الشريعة الإسلامية وللتوجيهات الإسلامية للاقتصاد الإسلامي الحر وللطمأنينة الموجبة للثقة في أن الحق الملتزم به هو الحق قدرا نوعا وصفة وأجلا، فلا يخشى صاحب الحق نقص حقه ولا يخشى الملتزم به تغيره عليه بزيادة. كما أن الأخذ بذلك موجب لظلم أحد طرفي العقد وأكل الظالم منهما مالا بدون(22/123)
حق فضلا عما في ذلك من الجهالة وتشجيع البنوك على مضاعفة نشاطاتها الربوية وتثبيط التجارة بما يعطي التاجر التردد في إجراء صفقات تجارية، فيها التزامات بحقوق مؤجلة حيث لا يدري وهو يسوق بضائعه عن ربحه أو خسارته بالرغم من معرفته مقدار قيمة شراء بضاعته ومقدار قيمة بيعها لأنه لا يعرف الزيادة المحتملة على ما التزم به طبقا لربط هذا الالتزام بسعر يوم سداده فقد تأتي هذه الزيادة على ربح محسوس حققته صفقته التجارية.
وقبل دخولي في نقاش القائلين بوجاهة ربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعار أرغب إبداء ما عندي في وجود حالات استثنائية توجب ربط الالتزام بمستوى الأسعار حتى تكتمل الصورة ويتضح الاتجاه ويتحرر موضوع النقاش.
أولى هذه الحالات ما إذا كان الالتزام بالحق حال الأداء وكان الملتزم مليئا غنيا، إلا أنه صار يماطل صاحب الحق حتى تغيرت الأسعار سواء انخفضت القيمة الشرائية للنقد موضع الالتزام، أم انخفض سعر العين المالية موضوعة الالتزام كديون السلم. فمماطلة من عليه الحق لمن له الحق ظلم وعدوان موجبة لحل عرضه وعقوبته كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «مطل الغني ظلم (1) » . رواه الشيخان في صحيحهما. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لي الواجد يحل عرضه وعقوبته (2) » . رواه أهل السنن. ومن العقوبة أن يربط الحق بسعر يوم سداده إذا كان فيه نقص على صاحبه، فالزيادة على المماطل بأداء الحق، عقوبة يستحقها بسبب ليه ومطله، وإعطاء صاحب الحق هذه الزيادة يعتبر من العدل والإنصاف لأن مماطلة خصمه أضرت به بمقدار هذه الزيادة.
__________
(1) صحيح البخاري الحوالات (2287) ، صحيح مسلم المساقاة (1564) ، سنن الترمذي البيوع (1308) ، سنن النسائي البيوع (4691) ، سنن أبو داود البيوع (3345) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2403) ، مسند أحمد بن حنبل (2/380) ، موطأ مالك البيوع (1379) ، سنن الدارمي البيوع (2586) .
(2) سنن النسائي البيوع (4689) ، سنن أبو داود الأقضية (3628) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2427) ، مسند أحمد بن حنبل (4/388) .(22/124)
لقد اختلف الفقهاء رحمهم الله في تقدير الحق المغتصب المماطل في أدائه بسعر يوم سداده، قال في منتهى الإرادات، ولا يضمن نقص سعر. اهـ (1) كما اختلفوا في تعيين العقوبة التي يستحقها فذهب جمهورهم إلى عدم الزيادة على الحق بشيء مطلقا، كما مر النقل من المنتهى وأن العقوبة المقصودة في الحديث «لي الواجد يحل عقوبته (2) » ، ما يوقعها ولي الأمر أو نائبه على المماطل بأداء الحق من عقوبة تعزيرية بحبس أو جلد أو بهما معا. وذهب بعضهم إلى أن العقوبة هي تكليف المماطل بضمان ما خسره صاحب الحق في سبيل المطالبة بتحصيل حقه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن مطل صاحب الحق حتى أحوجه إلى الشكاية فما غرمه بسبب ذلك فهو على الظالم المبطل إذا كان غرمه على الوجه المعتاد (3) .
وذهب بعض المحققين من أهل العلم إلى القول بضمان نقص السعر قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: قال الأصحاب: وما نقص بسعر لم يضمن. أقول: وفي هذا نظر فإن الصحيح أنه يضمن نقص السعر وكيف يغصب شيئا يساوي ألفا وكان مالكه يستطيع بيعه بالألف ثم نقص السعر نقصا فاحشا فصار يساوي خمسمائة أنه لا يضمن النقص فيرده كما هو؟ اهـ (4) .
وهذا القول هو ما يقتضيه العدل الذي أمر الله به وهو في نفس الأمر عقوبة للظالم أقرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «لي الواجد يحل عقوبته (5) » ولا شك أن المماطل في حكم الغاصب بمماطلته أداء الحق الواجب عليه إلا
__________
(1) شرح منتهى الإرادات ج ـ 2 ص 408.
(2) سنن النسائي البيوع (4689) ، سنن أبو داود الأقضية (3628) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2427) ، مسند أحمد بن حنبل (4/388) .
(3) انظر الاختيارات ص 136.
(4) الفتاوى السعدية ص 429
(5) سنن النسائي البيوع (4689) ، سنن أبو داود الأقضية (3628) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2427) ، مسند أحمد بن حنبل (4/388) .(22/125)
أن تقدير الزيادة عليه يجب أن يراعى في تعيينها العدل فلا يجوز دفع ظلم بظلم ولا ضرر بضرر، فمثلا زيد من الناس قد التزم لعمرو بمبلغ مائة ألف دولار مثلا يحل أجلها في غرة شهر محرم عام 1407، وكان سعر الدولار بالين الياباني وقت الالتزام مائتين وأربعين ينا وفي أول يوم من شهر محرم عام 1407 انخفض سعره إلى مائتين وعشرين ينا فطلب صاحب الحق حقه من الملتزم زيد فماطله إلى وقت انخفض سعر الدولار إلى مائة وخمسين ينا، فما بين سعر الدولار وقت الالتزام بالحق وبين سعره وقت الاستعداد بالسداد نقص مقداره تسعون ينا في الدولار الواحد فإذا قلنا بضمان النقص للمماطلة فإن الفرق بين سعره وقت الحلول ثم المماطلة وبين سعره وقت الاستعداد بالوفاء هو سبعون ينا، فالعدل أن يقتصر الضمان على هذا المقدار سبعين ينا عن كل دولار. أما التغير بزيادة فيتصور تضرر المدين بهذا التغير إلا أن الدائن ليس سببا في هذا الضرر ولهذا فضرره كضرر غيره من عموم من يتضرر بهذا التغير وانتفاع الدائن بهذا التغير كانتفاع غيره ممن ينتفع بهذا التغير من العموم، وتأسيسا على هذا فليس للمدين حق ضمان ما يصيبه من ضرر لقاء تغير السعر بزيادة لانتفاء السبب الخاص بذلك.
الحال الثانية: أن لا يكون للملتزم بالحق سبب في خسارة صاحب الحق بنقص حقه وإنما يرجع ذلك إلى أسباب قهرية لا دخل لأي من طرفي العقد بها، فهذه الحال إن كانت الخسارة على أحد أطراف العقد تزيد عن الثلث فقد تقاس على قاعدة وضع الجوائح وإن كان القائلون بها يرون قصرها على الثمار على أصولها مما تم بيعها ولم تقبض فأصابها جائحة سماوية قضت عليها أو على بعضها إلا أن المسألة محل نظر في اجتماع القضيتين في حصول خسارة فاحشة ليس لأحد طرفي العقد سبب(22/126)
في حصولها، وتنفرد إحداهما عن الأخرى في أن قضيتنا حق تم الالتزام به وجرى تعيين موجبه في غالب مسائله.
وعلى أي حال فهذه المسألة تحتاج إلى إفرادها ببحث تستقصى فيه مبررات الحكم فيها.
الحال الثالث: إذا كان الالتزام بدين نقدي من عملة ورقية معينة ثم انخفضت قيمة هذه العملة الورقية انخفاضا فاحشا ولم يحل أجل سدادها، ونمثل بالليرة اللبنانية ونضرب مثلا لهذه الحال: خالد من الناس التزم لمحمد بمائة ألف ليرة قيمة بضاعة جرى قبضها في مجلس العقد، وتم الاتفاق على تأجيل دفعها إلى عام، وكانت قيمة الليرة وقت الالتزام تعادل ريالا سعوديا وبعد حلول أجل الدفع انخفضت قيمة الليرة حيث صارت قيمة مائة ليرة ثلاثة ريالات سعودية، فهل يسلم خالد لمحمد مائة ألف ليرة لبنانية بغض النظر عن انخفاض قيمتها وفي هذا خسارة بالغة على محمد أم يلزم خالد بقيمتها وقت الالتزام لأن الليرة الآن في حكم السكة المنقطعة يمكننا أن نرجع في حكم هذه المسألة إلى ما ذكره الفقهاء رحمهم الله.
فقد ذكر الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله عن الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله بعد أن ذكر أن الدائن يرجع على مدينه بقيمة ما عليه من دين نقدي إذا أبطل السلطان التعامل به، أما إذا زادت قيمته أو نقصت فليس له إلا ما في ذمة مدينه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل له على رجل دراهم مكسرة فسقطت المكسرة أو الفلوس. قال يكون عليه قيمتها من الذهب.
وقد نص في القرض على أن الدراهم المكسرة إذا منع التعامل بها(22/127)
فالواجب القيمة فيخرج من سائر المتلفات، وكذلك في الغصب والقرض فإنه معلوم أنه ليس المراد عين الشيء المعين فإنه ليس هو المستحق وإنما المراد عيب النوع، والأنواع لا يعقل عيبها إلا بنقصان قيمتها فإذا أقرضه أو غصبه طعاما فنقصت قيمته فهو نقص النوع فلا يجبر على أخذه ناقصا فيرجع إلى القيمة وهذا هو العدل فإن المالين يتماثلان إذا استوت قيمتهما وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل، فعيب الدين إفلاس المدين، وعيب العين المعينة خروجها عن الكمال بالنقص. اهـ (1) .
وقال ابن مفلح في الفروع: وقيل إن رخصت فله القيمة كالمكان (2) .
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: قوله وكذلك المغشوشة وعندهم أنها مثلية، فيكفي ردها لكن فيما إذا وجد نقصا فإنه يلزمه المثل عندهم وعلى أصل الشيخ، الظاهر أنه يلزمه القيمة ثم هذا في القرض ونص عليه أحمد واختار الشيخ أن هذا يجري في سائر الديون - قال الشيخ: وهذا هو الذي ينبغي لما على كل من النقص. اهـ (3) .
وقال الرهوني: ظاهر كلام غير واحد من أهل المذهب وصريح كلام آخرين فهم أن الخلاف السابق محل إذا قطع التعامل بالسكة القديمة جملة. أما إذا تغيرت بزيادة أو نقص فلا، وممن صرح بذلك أبو سعيد بن لب، قلت: وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر جدا حتى يصير
__________
(1) الدرر السنية ج ـ 5 ص 110 ـ 111.
(2) الفروع ج ـ 4 ص 203.
(3) فتاوى ورسائل للشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله ج ـ 7 ص 205.(22/128)
القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه، لوجود العلة التي علل بها المخالف. اهـ (1) .
وقال الشوكاني في كتابه نيل الأوطار:
فائدة قال في البحر: مسألة الإمام يحيى لو باع بنقد ثم حرم السلطان التعامل به قبل قبضه فوجهان يلزم ذلك النقد إذا عقد عليه، الثاني يلزم قيمته إذا صار لكساده كالعرض. انتهى. قال في المنار: وكذلك لو صار كذلك يعني النقد لعارض آخر، وكثيرا ما وقع هذا في زماننا لإفساد الضربة لإهمال الولاة النظر في المصالح والأظهر أن اللازم القيمة لما ذكره المصنف. اهـ (2) .
قوله: وكذلك لو صار لعارض آخر يفهم منه أن النقص الفاحش أو الزيادة الفاحشة موجبة للأخذ بالقيمة قياسا على منع السلطان التعامل بالسكة موضوعة الالتزام.
بقي علينا أن نعرف ما مقدار الفحش في الزيادة أو النقص.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في تحديد ما يوجب اعتبار الجائحة ما نصه:
(. . فلا فرق بين قليل الجائحة وكثيرها في أشهر الروايتين. . والثانية أن الجائحة الثلث فما زاد كقول مالك؛ لأنه لا بد من تلف بعض الثمر في العادة فيحتاج إلى تقدير الجائحة فتقدر بالثلث كما قدرت به
__________
(1) حاشية الرهوني ج ـ 5 ص 121.
(2) نيل الأوطار ج ـ 5 ص 236(22/129)
الوصية والنذر ومواضع في الجراح وغير ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الثلث والثلث كثير (1) .
وخلاصة القول في هذه المسألة أن جمهور أهل العلم ذهبوا إلى وجوب قيمة عملة جرى الالتزام بها ثم أبطل السلطان التعامل بها قبل قبضها وأن جمهورهم ذهبوا إلى عدم اعتبار نقص العملة أو زيادتها وأن من التزم لآخر بنقد جرى فيه النقص أو الزيادة أنه لا يلزمه غير مثله وأن بعضهم ذهب إلى اعتبار النقص والزيادة كاعتبار منع السلطان التعامل بها في وجوب القيمة فيها، وبعضهم توسط فاعتبر النقص الفاحش، والزيادة الفاحشة موجبة لأخذ القيمة ثم اختلفوا في تقدير الفحش في الزيادة والنقص، فقال بعضهم: إن ذلك يرجع إلى العرف والعادة وبعضهم قال: إن ذلك مقدر بالثلث فما فوقه.
وما جرى استعراضه في الحالات الثلاث وما في أحكامها من أقوال لأهل العلم تدور بين الاعتبار وعدمه يعطي تصورا واضحا إلى أن القول بربط الحقوق والالتزامات الآجلة بالأسعار موضع تحفظ بالغ في الشريعة الإسلامية. فحتى إذا ظهرت المبررات للأخذ به فإن هناك من يرفضه أخذا بمبدأ الالتزام والاحتفاظ بقدره ونوعه وأمده طالما أن لموضوع الالتزام قيمة معتبرة وإن نقصت عن قيمتها الحقيقة وقت الالتزام.
وبعد هذا يمكن أن ننتقل إلى نقاش مبررات القول بربط الحقوق الآجلة بالأسعار فنقول وبالله التوفيق وعليه الاعتماد:
أولى هذه المبررات القول بأن الإسلام دين العدل والإنصاف،
__________
(1) مجموع الفتاوى الكبرى ج ـ 30 ص 279(22/130)
والتضخم الاقتصادي يأتي على هذه القاعدة حيث إن التضخم سبب في تكدس الثروات بأيدي ش من الناس وتبقى الكثرة الكاثرة فهم يعانون قلة ذات اليد. وربط الالتزامات الآجلة بمؤشرات الأسعار يحقق العدل ويقضي على التضخم.
والإجابة على هذا التسليم بأن الإسلام دين العدل والإنصاف وأنه ضد التضخم وتجمع الثروات في أيدي قلة من الناس، قال تعالى في تبرير الإنفاق على المحتاجين دون الأغنياء: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} (1) وهو يهدف من تشريعاته الصائبة إلى إشاعة المال بطرق مشروعة ومختلفة وتفتيت الثروات وإعادة توزيعها على أكبر عدد ممكن. فهو يحض على الإنفاق في سبيل الله، وسبل الله غير محصورة في جهة معينة فكل طريق من طرق الخير يعتبر سبيلا لله ويوجب في الأموال حقوقا معينة كالزكوات وحقوقا غير معينة كالنفقات الواجبة، وفي الأثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن في المال حقا سوى الزكاة (2) » .
والإسلام حينما يحارب التضخم الاقتصادي فهو يحاربه بتحريمه جملة من المعاملات التجارية كبيوع الغرر والغبن والجهالة والاسترسال وبيع ما لا يملك أو لم يقبض وبيوع الربا بنوعيه ربا الفضل وربا النسيئة وينهى عن تلقي الركبان وعن الإحتكار، كما أنه ينهى عن التسعير ما لم توجد له أسباب ضوابطه عن الظلم وينهى عن التصرف في سكة المسلمين بما يعود عليهم بالضرر فقد نهى - صلى الله عليه وسلم - أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس. ومما يعود على المجتمعات والدول بالتضخم المتاجرة بالأثمان - العملات النقدية - فقد اتجه كثير من علماء الإسلام ومحققيهم إلى
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) سنن الترمذي الزكاة (660) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1789) ، سنن الدارمي الزكاة (1637) .(22/131)
التحذير من ذلك فقد قال الإمام الغزالي في كتابه " الإحياء " ما نصه:
من نعم الله خلق الدراهم والدنانير وبهما قوام الدنيا وهما حجران لا منفعة في أعيانهما - إلى أن قال - فإذن خلقهما الله تعالى لتتداولهما الأيدي ويكونا صالحين بين الأموال بالعدل، ولحكمة أخرى وهي التوصل بهما إلى سائر الأشياء - إلى أن قال - فهذه هي الحكمة الثانية وفيهما أيضا حكم يطول ذكرها فكل من عمل فيهما عملا لا يليق بالحكم بل يخالف الغرض المقصود للحكم فقد كفر بنعمة الله تعالى فيهما، فإن من كنزهما فقد ظلمهما وأبطل الحكمة فيهما، وكان كمن حبس حاكم المسلمين في سجن يمتنع عليه الحكم لسببه وكل من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير فقد كفر بالنعمة وظلم لأنهما خلقا لغيرهما لا لأنفسهما إذ لا غرض في عينهما فإذا اتجر في عينهما فقد اتخذهما مقصودا على خلاف وضع الحكمة إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم. اهـ (1) .
ويقول ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين ما نصه:
فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقديم الأموال فيجب أن يكون محدودا مضبوطا لا يرتفع ولا ينخفض إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن لنعتبر به المبيعات بل الجميع سلع - ثم ذكر أسباب فساد المعاملات ومنها اتخاذ الأثمان سلعا فقال: كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت سلعة تعد للربح فعم الضرر وحصل الظلم - إلى أن قال - فالأثمان لا تقصد لأعيانها بل يقصد التوصل بها إلى السلع فإذا صارت
__________
(1) انظر الورق النقدي تأليف عبد الله بن منيع ص 105 ـ 107.(22/132)
في أنفسها سلعا تقصد لأعيانها فسد أمر الناس وهذا معنى معقول يختص بالنقود لا يتعدى إلى سائر الموزونات. اهـ (1) .
وجاءت المقتضيات الشرعية بتضييق دائرة التعامل بالأثمان متاجرة ومصارفة فحرمت الزيادة في الجنس الواحد وضرورة التقابض في مجلس العقد سواء اتفق الجنس أو اختلف.
ولا يخفى أن في المتاجرة في النقود جملة سلبيات منها انصراف رجال الأعمال عن الإسهام في المشروعات التنموية وتجميد مدخراتهم النقدية في البنوك للمتاجرة بها فينتج عن ذلك ظهور بطالة سببها انكماش السوق الصناعية بانكماش الإنفاق عليها للمتاجرة بالنقد نفسه وصرفه عن وظيفته الأساسية " تقييم السلع وواسطة التبادل ". وبهذا يتضح موقف الإسلام من التضخم ومن أسباب التضخم، وأنه يحارب التضخم بتشريعات في الأخذ بها حماية المجتمع من التضخم وصيانة الأسواق التجارية عن التضخم وليس من تشريعاته تغيير الالتزامات الآجلة بنقص أو بزيادة وذلك بربطها بمؤشرات الأسعار إذ لا شك أن في هذا أثرا عكسيا في اعتباره أحد عوامل الكساد الاقتصادي والتضخم النقدي، أما وجه اعتباره أحد عوامل الكساد الاقتصادي فإن من يلتزم لغيره بحق ففي حال الأخذ بربط الالتزام بمؤشرات الأسعار فإنه لا يدري عن ميزان التزامه ولا عن مردود حركته الاقتصادية فقد يخطط لمشروع تنموي يظهر له من مخططه توفر الثقة لديه في نجاح مشروعه إلا أن الأخذ بربط الالتزام بالأسعار قد يأتي على ما يراه ربحا محققا في مشروعه وهذا في حد ذاته عامل قوي في إحجامه عن القيام بذلك المشروع الذي يرى
__________
(1) الورق النقدي ص 104 ـ 105.(22/133)
ربحه محققا فيه إلا أنه غير مطمئن إلى تغير التزامه بما يأتي على ذلك الربح.
وأما وجه اعتباره عاملا من عوامل التضخم فإن التضخم معناه ظهور سوق نقدي لا يتناسب حجمه العام مع المثمنات المتاحة من سلع وخدمات، وتغير الالتزامات الآجلة وربطها بسعر أجل سدادها، وفي ظروف تقلبات اقتصادية لا تحكمها قواعد واضحة ولا تصورات جلية يعطي المزيد من مضاعفة الالتزامات وبالتالي تتيح المجال لهروب النقد إلى ما فيه ضمان نمائه وهذا يعني ظهور فئات تتكدس في أيديها الثروات وقد تكون البنوك أوضح مثال لهذه الفئات يستوي في ذلك ما تملكه أو تستودع إياه للحفظ، أو الاستثمار. وبهذا يتضح أن ربط الالتزامات الآجلة بمؤشرات الأسعار يعتبر من عوامل التضخم المالي والانكماش الاقتصادي، لا أنه من عوامل محاربة التضخم.
المبرر الثاني: لا ضرر ولا ضرار، الضرر يزال، قاعدتان شرعيتان، والتضخم يوجب الضرر والإضرار وليس للدائن أو المدين سبب في هذا الضرر إلى آخر التوجيه.
والإجابة عن هذا، أن الضرر لا يزال بالضرر، وأن الظلم لا يزال بظلم، فطالما أن المدين لم يكن له سبب في انخفاض قيمة ما التزم به والمسعر هو الله سبحانه وتعالى، والالتزام بالحق طالما أن الحق مثلي وفي الذمة وهو معلوم القدر والصفة وأجل الوفاء به، فإن الزيادة في قدره وطبقا لتغير الأسعار ظلم محقق في حق من التزم به وضرر بالغ عليه لم يكن السبب في حصول موجبه وإن كان موجب تغير الأسعار النقص، فإن الدائن مظلوم ومتضرر من تخفيض حقه الملتزم له به قدرا وصفة وأمدا. ولا يخفى أن الآثار الشرعية المعتبرة والمترتبة على تغير الالتزامات(22/134)
بزيادة أو نقص لا تتجاوز أسبابها أطراف الالتزام فإن كانت الأسباب خارجة عن مقدورهم فلا اعتبار لها في زيادة الالتزام أو نقص إلا بما ذكرناه من الحالات الاستثنائية.
والقول بأن ربط الالتزام بتغير الأسعار يصون طرفي الالتزام والضرر غير صحيح، فالضرر على أحدهما محقق والظلم من أحدهما على الآخر واقع.
المبرر الثالث: الاستدلال على ذلك بقوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} (1) . وإن من إيفاء الكيل والوزن بالقسط ربط الالتزامات بمؤشرات الأسعار.
والإجابة على هذا أن الاستدلال بذلك ظاهر التعسف فيه، فليس في الآية دليل على ذلك ولو صح الاستدلال بها لكان الاستدلال بها على رفض هذا المبدأ أولى وأوضح لأن الحق إذا تعين مقداره كان من القيام بالقسط الوفاء به قدرا ونوعا وصفة وأصلا، قال تعالى في معرض مدح المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (2) .
وليس من الوفاء بالعهد والميثاق القول بتغير الالتزام طبقا لتغير الأسعار فإن الأسعار بيد الله وتغير الأسعار بالزيادة أو النقص من أسباب رزق الله الناس بعضهم ببعض وفي الأثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض (3) » .
وليس من القسط ولا من العدل أن يكون لي على إنسان مائة ألف
__________
(1) سورة الأنعام الآية 152
(2) سورة المؤمنون الآية 8
(3) صحيح مسلم البيوع (1522) ، سنن الترمذي البيوع (1223) ، سنن أبو داود البيوع (3442) ، سنن ابن ماجه التجارات (2176) ، مسند أحمد بن حنبل (3/392) .(22/135)
ريال وعند حلول أجل سدادها أطلب منه مائة وعشرين ألفا لتغير القيمة الشرائية بل إن هذه الزيادة قد لا نجد أحدا من علماء الإسلام يعتبرها مشروعة وقد لا نجد أحدا من علماء الإسلام لا يعتبر هذه الزيادة من الربا الصريح الجلي.
المبرر الرابع: الاستدلال على القول بمبدأ ربط الالتزام بتغير الأسعار بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) وهذا الاستدلال أكثر تطرفا وبعدا من الاستدلال السابق على ذلك بقوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} (2) فعقد جرى بين زيد وعمرو استلزم ذلك العقد حقا لأحدهما على الآخر هل يكون من الوفاء بهذا العقد أن يرتب على الملتزم بالحق للملتزم له به زيادة عليه أو العكس، لا شك أن الوفاء بالعقد يعني تأديته ما يقتضيه العقد دون زيادة أو نقص إلا فيما تراضيا عليه مما لا محذور في اعتباره شرعا.
المبرر الخامس: أن الحنفية، أجازوا أخذ الفرق بين قيمة النقد والدين وهذا هو ربط تغيرات الأسعار بالالتزامات.
وكم يكون ناقل هذا القول مؤكدا لقوله لو أورد نصوصا عن الحنفية تؤيد قوله عنهم، فإن المنقول عنهم يخالف ذلك فلقد وجد الاختلاف بينهم فيما إذا كانت الفلوس ثمنا في الذمة ثم كسد بانقطاع التعامل به.
قال الكاساني:
لو اشترى بفلوس نافقة ثم كسدت قبل القبض انفسخ العقد عند أبي حنيفة رحمه الله، وعلى المشتري رد المبيع إن كان قائما وقيمته أو
__________
(1) سورة المائدة الآية 1
(2) سورة الأنعام الآية 152(22/136)
مثله إن كان هالكا وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يبطل البيع والبائع بالخيار إن شاء فسخ البيع وإن شاء أخذ قيمة الفلوس كما إذا كان الثمن رطبا فانقطع قبل القبض ولأبي حنيفة أن الفلوس بالكساد خرجت عن كونها ثمنا لأن ثمنيتها تثبت باصطلاح الناس فإذا ترك الناس التعامل بها عددا فقد زال عنها صفة الثمن ولا بيع بلا ثمن فينفسخ العقد ضرورة اهـ (1) .
المبرر السادس: نفي وجود نص من الكتاب أو السنة يحرم هذا النظام لا شك أن الدائن حينما يكون دينه مؤجلا بزمن ومعينا بقدر فإن الزيادة على هذا المقدار بعد أن تعين تعتبر زيادة على الملتزم به بمعنى أن زيدا من الناس له عند بكر مائة ألف ريال مدة عام وفي نهاية العام تغيرت القيمة الشرائية لمائة الألف إلى مائة وعشرين ألفا، وربط الالتزام بالأسعار يعني أن على بكر تسليم مائة وعشرين ألف ريال والله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (2) ثم إن حقا تعين مقداره في الذمة فإن الزيادة عليه تعتبر ظلما وعدوانا على المدين، ولا شك أن النصوص من كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - في تحريم الظلم أكثر من أن تحصر والمطالبة بوجود نص من كتاب أو سنة على تحريم هذا النظام كالمطالبة بوجود نص على تحريم الظلم والعدوان.
المبرر السابع: القول بأن هذا النظام لا يتعارض مع قوله - صلى الله عليه وسلم - " مثلا بمثل " فإن القيمة الحقيقية للالتزام وقت السداد هي القيمة الحقيقية وقت الإلتزام.
__________
(1) بدائع الصنائع جـ 5 ص 242 ـ الطبعة الثانية ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت عام 1394 هـ
(2) سورة البقرة الآية 279(22/137)
والجواب عن هذا أن العبرة بما تعين مقداره لا بما اختلفت قيمته فطالما أن ما تم الالتزام به موجود مثله فلا يجوز تغييره بنقص أو بزيادة إذا كان مالا ربويا وإن لم يكن مالا ربويا فلا يجوز إلا بتوافق الطرفين ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المبلغ عن رب العالمين شرعه لعباده وله - صلى الله عليه وسلم - من الفصاحة والقدرة على البيان ما لا يعجزه البيان للأمة فيما يرونه عدلا وإنصافا ومع ذلك فقد قال صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة مثلا بمثل بيد سواء بسواء (1) » . فجملة مثلا بمثل المؤكدة لكلمتي سواء بسواء تعني إرادة النص وإرادة مدلوله، ولو كان من العدل والإنصاف الأخذ بطريقة الالتزام بقيمته وقت السداد لبينه - صلى الله عليه وسلم - ولكنه أعطى نصا صريحا عاما شاملا في وجوب التماثل في الجنس ونصوصا أخرى في تحريم مال المسلم وتحريم الظلم بين المسلمين. فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء (2) » رواه أحمد والبخاري. ووجه الاستدلال بهذا أن كلا من طرفي عقد الالتزام قد وقعا في الربا، وجه ذلك أن المستقر في الذمة مثلا مائة ريال فإذا دفع الطرف الملتزم للطرف الملتزم له مائة وعشرين ريالا فقد خالف المماثلة والمساواة في المعين قدرا وجنسا فالملتزم زاد والملتزم له استزاد وبالتالي وقعا في الربا كما قال - صلى الله عليه وسلم - " فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء ".
المبرر الثامن: أن إنكار هذا النظام منع للقرض الحسن.
والإجابة على هذا أن الزيادة على القرض قرض جر نفعا وفي الأثر
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2176، 2202) ، صحيح مسلم المساقاة (1584، 1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241، 1241) ، سنن النسائي البيوع (4565، 4565) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (3/50، 3/97) ، موطأ مالك البيوع (1324، 1324) .(22/138)
مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه «نهى عن قرض جر منفعة» . وروي موقوفا على ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس وفضالة بن عبيد رضي الله عنهم. وفي صحيح البخاري عن أبي بردة بن أبي موسى قال: قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال لي: إنك بأرض، الربا فيها فاش فإذا كان لك على رجل حق فأهدي إليك حمل تين أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا. ومن هذا يتضح أن الذي يقرض ألف ريال مثلا ثم يأخذ بطريق الإلزام ممن أقرض ألفا ومائتين سدادا للألف التي أقرضه إياها فهو أولى بالإنكار واعتبار الزيادة ربا. وأن القول بأن المقرض قرضا حسنا يتضرر من نقص القيمة الشرائية لما أقرضه عما كانت عليه وقت الإقراض فالإجابة عن هذا أن الغرض من القروض الحسنة التقرب إلى الله تعالى بتيسير أمور عباده وفي الإقراض من الأجر عند الله ما يهون هذا النقص. فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقتها مرة (1) » . رواه ابن ماجه.
أما إذا قضى المقترض من أقرضه بما هو أكثر مما أقترضه من غير طلب من المقرض ولا تشوف فلا بأس بذلك. ففي الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان لي عليه دين فقضاني وزادني (2) » . وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «كان لرجل على النبي - صلى الله عليه وسلم - سن من الإبل أعطوه فطلبوا سنه، فلم يجدوا إلا سنا فوقه فقال أعطوه. فقال أوفيتني أوفاك الله فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن خيركم أحسنكم قضاء (3) » .
وبهذا يتضح أن إلزام الملتزم بزيادة على التزامه سواء كان قرضا أو
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2430) .
(2) صحيح البخاري الصلاة (443) .
(3) صحيح البخاري الوكالة (2305) ، صحيح مسلم المساقاة (1601) ، سنن الترمذي البيوع (1316) ، سنن النسائي البيوع (4618) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2423) ، مسند أحمد بن حنبل (2/456) .(22/139)
غيره من الربا وأن الانتفاع من المقترض قبل سداد القرض من ذلك وأن الوفاء بالقرض زيادة عنه من غير طلب من المقرض أو تلميح بذلك لا بأس به وأن القرض عمل إرفافي تدعو إليه مكارم الأخلاق واحتساب ما عند الله وبهذا يندفع القول بأن منع هذا النظام منع القرض الحسن.
المبرر التاسع: أن هذا النظام يساعد على حصول القروض الأجنبية للبلدان الإسلامية المتخلفة.
والإجابة عن هذا: أن روح هذا النظام هو المحافظة على القيمة الشرائية بحق الملتزم به وقت سداده، بمعنى أن صاحب الحق لا يستفيد إلا ضمان حقه عن النقص عند سداده فكيف يكون في هذا النظام إغراء للمؤسسات المالية الأجنبية بإقراض الدول الإسلامية المتخلفة. بل إننا نستطيع القول بأن الأخذ بهذا النظام سيضاعف الالتزام على هذه الدول المقترضة من المؤسسات المالية الأجنبية بفوائد حينما تراعي القيمة الشرائية وقت السداد فيكون على الملتزم للبنوك الأجنبية الفوائد الربوية وفرق القيمة عند ربط الالتزام بمؤشرات الأسعار. وبهذا يتضح أن هذا التبرير غير ظاهر وأن التبرير به لرد هذا النظام متجه.
المبرر العاشر: ربط تغيرات الأسعار يشبه الإضافة التي يضيفها البائع على ما يبيعه بالدين.
والإجابة عن هذا تتضح بمزيد من التأمل فإن الفرق بين الصورتين واضح فالزيادة التي يحصل عليها من يبيع بالدين يحصل عليها قبل الالتزام فإذا تم الالتزام بمائة ألف ريال مثلا فإن الدائن لا يستطيع الحصول على هللة واحدة زيادة على حجم الالتزام الذي التزم به، وما حصل عليه من زيادة هي في الواقع من رأس ماله فيما باعه قيمة ما جرى عليه الاتفاق(22/140)
بين طرفي الالتزام قيمة للبضاعة. أما الزيادة في الالتزام بعد تمامه واستقراره في الذمة فإنها أبشع من الزيادة الربوية أتقضي أم تربي، يوضح ذلك أن المعاملة الربوية أتقضي أم تربي تكمن الزيادة فيها في حال الاتفاق على تأجيل الدفع بعد حلوله وأما في صورة ربط الالتزام بتغير الأسعار فإن الزيادة على الملتزم حتمية في حال الاستعداد لسداد مقدار الالتزام، وبهذا يتضح أن الصورتين مختلفتان وأن الجمع بينهما جمع بين متباينين وبقية المبررات تكاد تكون مكررة للمبررات التي جرى التعليق عليها.
وإذا كان لنا مجال في معالجة التضخم الاقتصادي ولنا قدرة في الإسهام في ذلك فينبغي تشخيص أسباب التضخم والتعرف على تلك الأسباب بما في ذلك زيادة الطلب على العرض والتساهل في التقيد بمؤشرات الاعتدال في إصدار النقود وإحجام رؤوس الأموال عن الدخول في مشروعات تنموية وتقويم العملات النقدية وجعلها سلعا تباع وتشتري وانكماش الإنفاق الحكومي على المرافق الحيوية في البلاد ولو قلنا بربط الالتزامات الآجلة بمستوى الأسعار لكان الأخذ بذلك أحد أسباب التضخم في البلاد وقد مر فيما سبق ذكره.
هذه ملاحظات عابرة وتعليقات اقتضاها المقام أحببت إبرازها لتسهم في توضيح الموقف السلبي من مبدأ ربط الالتزامات الآجلة بمستوى الأسعار والله ولي التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
عبد الله بن سليمان بن منيع(22/141)
صفحة فارغة(22/142)
حقيقة التصوف وموقف الصوفية من أصول العبادة والدين
الشيخ \ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
مقدمة في بيان ضوابط العبادة الصحيحة
الحمد لله رب العالمين، أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا، وأمرنا بالتمسك إلى الممات، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) .
وتلك وصية إبراهيم ويعقوب لبنيه.
{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) .
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه
__________
(1) سورة آل عمران الآية 102
(2) سورة البقرة الآية 132(22/143)
أجمعين، وبعد:
فإن الله خلق الجن والإنس لعبادته، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) .
وفي ذلك شرفهم وعزهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، لأنهم بحاجة إلى ربهم، لا غنى لهم عنه طرفة عين، وهو غني عنهم وعن عبادتهم، كما قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} (2) .
وقال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} (3) . . .
والعبادة حق لله على خلقه وفائدتها تعود إليهم، فمن أبى أن يعبد الله فهو مستكبر، ومن عبد الله وعبد معه غيره فهو مشرك، ومن عبد الله وحده بغير ما شرع فهو مبتدع، ومن عبد الله وحده بما شرع فهو المؤمن الموحد.
ولما كان العباد في ضرورة إلى العبادة، ولا يمكنهم أن يعرفوا بأنفسهم حقيقتها التي ترضي الله سبحانه وتوافق دينه لم يكلهم إلى أنفسهم بل أرسل إليهم الرسل وأنزل الكتب لبيان حقيقة تلك العبادة كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (4) .
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة الزمر الآية 7
(3) سورة إبراهيم الآية 8
(4) سورة النحل الآية 36(22/144)
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (1) .
فمن حاد عما بينته الرسل ونزلت به الكتب من عبادة الله وعبد الله بما يلي عليه ذوقه وما تهواه نفسه وما زينته له شياطين الإنس والجن فقد ضل عن سبيل الله ولم تكن عبادته في الحقيقة عبادة الله، بل هي عبادة لهواه:
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (2) .
وهذا الجنس كثير في البشر وفي طليعتهم النصارى، ومن ضل من فرق هذه الأمة، كالصوفية فإنهم اختطوا لأنفسهم خطة في العبادة مخالفة لما شرعه الله في كثير من شعاراتهم. وهذا يتضح ببيان حقيقة العبادة التي شرعها الله على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبيان ما عليه الصوفية اليوم من انحرافات عن حقيقة تلك العبادة.
إن العبادة التي شرعها الله سبحانه وتعالى تنبني على أصول وأسس ثابتة تتلخص فيما يلي:
أولا: أنها توقيفية - بمعنى أنه لا مجال للرأي فيها - بل لا بد أن يكون المشروع لها هو الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى لنبيه:
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا} (3) .
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 25
(2) سورة القصص الآية 50
(3) سورة هود الآية 112(22/145)
وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (1) .
وقال عن نبيه:
{إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} (2) .
ثانيا: لا بد أن تكون العبادة خالصة لله تعالى من شوائب الشرك، كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (3) .
فإن خالط العبادة شيء من الشرك أبطلها كما قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4) .
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (5) {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (6) .
ثالثا: لا بد أن يكون القدوة في العبادة والمبين لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (7) وقال تعالى
__________
(1) سورة الجاثية الآية 18
(2) سورة الأحقاف الآية 9
(3) سورة الكهف الآية 110
(4) سورة الأنعام الآية 88
(5) سورة الزمر الآية 65
(6) سورة الزمر الآية 66
(7) سورة الأحزاب الآية 21(22/146)
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » وفي رواية «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (3) » . وقوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي (4) » وقوله: «خذوا عني مناسككم (5) » إلى غير ذلك من النصوص.
رابعا: أن العبادة محددة بمواقيت ومقادير لا يجوز تعديها وتجاوزها كالصلاة مثلا، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (6) .
وكالحج قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (7) .
وكالصيام، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (8) الآية.
خامسا: لا بد أن تكون العبادة قائمة على محبة الله تعالى والذل له وخوفه ورجائه، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ} (9)
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) الحديث رواه مسلم
(3) متفق عليه
(4) متفق عليه
(5) رواه مسلم
(6) سورة النساء الآية 103
(7) سورة البقرة الآية 197
(8) سورة البقرة الآية 185
(9) سورة الإسراء الآية 57(22/147)
{رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} (1) ،
وقال تعالى عن أنبيائه
{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (2) .
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (4) .
فذكر سبحانه علامات محبة الله وثمراته - أما علامتها فاتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وطاعة الله وطاعة الرسول.
أما ثمراتها فنيل محبة الله سبحانه ومغفرة الذنوب والرحمة منه سبحانه.
سادسا: أن العبادة لا تسقط عن المكلف من بلوغه عاقلا إلى وفاته، قال تعالى: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (5) .
وقال:
{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (6) . . .
__________
(1) سورة الإسراء الآية 57
(2) سورة الأنبياء الآية 90
(3) سورة آل عمران الآية 31
(4) سورة آل عمران الآية 32
(5) سورة آل عمران الآية 102
(6) سورة الحجر الآية 99(22/148)
أ - حقيقة التصوف:
لفظ التصوف والصوفية لم يكن معروفا في صدر الإسلام وإنما هو محدث بعد ذلك أو دخيل على الإسلام من أمم أخرى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى: أما لفظ الصوفية فإنه لم يكن مشهورا في القرون الثلاثة، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ، كالإمام أحمد بن حنبل وأبي سليمان الداراني وغيرهما، وقد روي عن سفيان الثوري أنه تكلم به، وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصري، وتنازعوا في المعنى الذي أضيف إليه الصوفي فإنه من أسماء النسب كالقرشي والمدني وأمثال ذلك، فقيل: إنه نسبة إلى أهل الصفة، وهو غلط، لأنه لو كان كذلك، لقيل: صفي، وقيل نسبة إلى الصف المقدم بين يدي الله - وهو أيضا غلط، فإنه لو كان كذلك لقيل: صفي، وقيل نسبة إلى الصفوة من خلق الله - وهو غلط لأنه لو كان كذلك لقيل: صفوي، وقيل نسبة إلى صوفة بن بشر بن أد بن بشر بن طابخة - قبيلة من العرب كانوا يجاورون بمكة من الزمن القديم ينسب إليهم النساك - وهذا وإن كان موافقا للنسب من جهة اللفظ فإنه ضعيف أيضا، لأن هؤلاء غير مشهورين ولا معروفين عند أكثر النساك ولأنه لو نسب النساك إلى هؤلاء لكان هذا النسب في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أولى. ولأن غالب من تكلم باسم الصوفي لا يعرف هذه القبيلة ولا يرضى أن يكون مضافا إلى قبيلة في الجاهلية لا وجود لها في الإسلام - وقيل وهو المعروف إنه نسبة إلى الصوف، فإنه أول ما ظهرت الصوفية في البصرة.(22/149)
وأول من ابتنى دويرة الصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد، وعبد الواحد من أصحاب الحسن، وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك ما لم يكن في سائر أهل الأمصار. . . وقد روى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده عن محمد بن سيرين أنه بلغه أن قوما يفضلون لباس الصوف، فقال: إن قوما يتخيرون لباس الصوف يقولون إنهم يتشبهون بالمسيح ابن مريم، وهدي نبينا أحب إلينا، وكان صلى الله عليه وسلم يلبس القطن وغيره، أو كلاما نحوا من هذا، ثم يقول بعد ذلك: وهؤلاء نسبوا إلى اللبسة الظاهرة وهي لباس الصوف فقيل في أحدهم صوفي، وليس طريقهم مقيدا بلبس الصوف ولا هم أوجبوا ذلك ولا علقوا الأمر به - لكن أضيفوا إليه لكونه ظاهر الحال.
إلى أن قال: فهذا أصل التصوف ثم إنه بعد ذلك تشعب وتنوع - وكلامه (1) رحمه الله يعطي أن التصوف نشأ في بلاد الإسلام على يد عباد البصرة نتيجة لمبالغتهم في الزهد والعبادة ثم تطور بعد ذلك - والذي توصل إليه بعض الكتاب العصريين - أن التصوف تسرب إلى بلاد المسلمين من الديانات الأخرى كالديانة الهندية والرهبانية النصرانية - وقد يستأنس لهذا بما نقله الشيخ عن ابن سيرين أنه قال: إن قوما يتخيرون لباس الصوف يقولون إنهم يتشبهون بالمسيح ابن مريم، وهدي نبينا أحب إلينا. فهذا يعطي أن التصوف له علاقة بالديانة النصرانية -. . .
ويقول الدكتور صابر طعيمة في كتابه (الصوفية معتقدا ومسلكا) : ويبدو أنه لتأثير الرهبنة المسيحية التي كان فيها الرهبان يلبسون الصوف وهم في أديرتهم كثرة كثيرة من المنقطعين لهذه الممارسة على امتداد
__________
(1) مجموع الفتاوى (11 \ 5 - 7، 16، 18) .(22/150)
الأرض التي حررها الإسلام بالتوحيد أعطى هو الآخر دورا في التأثر الذي بدا على سلوك الأوائل (1) . . وقال الشيخ إحسان إلهي ظهير رحمه الله في كتابه: (التصوف، المنشأ والمصادر) عندما نتعمق في تعاليم الصوفية الأوائل والأواخر وأقاويلهم المنقولة منهم والمأثورة في كتب الصوفية القديمة والحديثة نفسها نرى بونا شاسعا بينها وبين تعاليم القرآن والسنة، وكذلك لا نرى جذورها وبذورها في سيرة سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام البررة خيار خلق الله وصفوة الكون، بل بعكس ذلك نراها مأخوذة مقتبسة من الرهبنة المسيحية والبرهمة الهندوكية وتنسك اليهودية وزهد البوذية (2) .
ويقول الشيخ: عبد الرحمن الوكيل رحمه الله في مقدمة كتاب: (مصرع التصوف) : إن التصوف أدنأ وألأم كيدا ابتدعه الشيطان ليسخر معه عباد الله في حربه لله ولرسوله، إنه قناع المجوس يتراءى بأنه رباني، بل قناع كل عدو صوفي للدين الحق فتش فيه تجد برهمية وبوذية وزرادشتية ومانوية وديصانية، تجد أفلاطونية وغنوصية، تجد فيه يهودية ونصرانية ووثنية جاهلية (3) .
ومن خلال عرض آراء هؤلاء الكتاب المعاصرين في أصل الصوفية. وغيرهم مما لم نذكره، كثيرون يرون هذا الرأي. يتبين أن الصوفية دخيلة على الإسلام، يظهر ذلك في ممارسات المنتسبين إليها - تلك
__________
(1) ص 17
(2) ص 28.
(3) ص 19.(22/151)
الممارسات الغريبة على الإسلام والبعيدة عن هديه، وإنما نعني بهذا المتأخرين من الصوفية حيث كثرت وعظمت شطحاتهم.
أما المتقدمون منهم فكانوا على جانب من الاعتدال، كالفضيل بن عياض والجنيد وإبراهيم بن أدهم وغيرهم. . . .(22/152)
ب- موقف الصوفية من العبادة والدين:
للصوفية - خصوصا - المتأخرين منهم منهج في الدين والعبادة يخالف منهج السلف ويبتعد كثيرا عن الكتاب والسنة. فهم قد بنوا دينهم وعبادتهم على رسوم ورموز واصطلاحات اخترعوها وهي تتلخص فيما يلي:
1 - قصرهم العبادة على المحبة، فهم يبنون عبادتهم لله على جانب المحبة ويهملون الجوانب الأخرى كجانب الخوف والرجاء، كما قال بعضهم: أنا لا أعبد الله طمعا في جنته ولا خوفا من ناره - ولا شك أن محبة الله تعالى هي الأساس الذي تبنى عليه العبادة. ولكن العبادة ليست مقصورة على المحبة كما يزعمون، بل لها جوانب وأنواع كثيرة غير المحبة كالخوف والرجاء والذل والخضوع والدعاء إلى غير ذلك، فهي كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. . .
ويقول العلامة ابن القيم:
وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذلك عابده هما قطبان وعليهما فلك العبادة دائر ما دار حتى قامت القطبان(22/152)
ولهذا يقول بعض السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد.
وقد وصف الله رسله وأنبياءه بأنهم يدعون ربهم خوفا وطمعا، وأنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه، وأنهم يدعونه رغبا ورهبا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولهذا قد وجد في نوع من المتأخرين من انبسط في دعوى المحبة حتى أخرجه ذلك إلى نوع من الرعونة والدعوى التي تنافي العبودية، وقال أيضا: وكثير من السالكين سلكوا في دعوى حب الله أنواعا من الجهل بالدين، إما من تعدي حدود الله، وإما من تضييع حقوق الله. وإما من ادعاء الدعاوى الباطلة التي لا حقيقة لها (1) ، وقال أيضا: والذين توسعوا من الشيوخ في سماع القصائد المتضمنة للحب والشوق واللوم والعذل والغرام كان هذا أصل مقصودهم، ولهذا أنزل الله آية المحبة محنة يمتحن بها المحب، فقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (2) .
فلا يكون محبا لله إلا من يتبع رسوله، وطاعة الرسول ومتابعته لا تكون إلا بتحقيق العبودية، وكثير ممن يدعي المحبة يخرج عن شريعته وسنته صلى الله عليه وسلم ويدعي من الخيالات ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، حتى يظن أحدهم سقوط الأمر - وتحليل الحرام له، وقال أيضا: وكثير من الضالين الذين اتبعوا أشياء مبتدعة من الزهد والعبادة على غير علم ولا
__________
(1) العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 90 طبعة الرئاسة العامة للإفتاء.
(2) سورة آل عمران الآية 31(22/153)
نور من الكتاب والسنة وقعوا فيما وقع فيه النصارى من دعوى المحبة لله مع مخالفة شريعته وترك المجاهدة في سبيله ونحو ذلك، انتهى.
فتبين بذلك أن الاقتصار على جانب المحبة لا يسمى عبادة قد يؤول بصاحبه إلى الضلال بالخروج عن الدين.
2 - الصوفية في الغالب لا يرجعون في دينهم وعبادتهم إلى الكتاب والسنة والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يرجعون إلى أذواقهم وما يرسمه لهم شيوخهم من الطرق المبتدعة، والأذكار والأوراد المبتدعة، وربما يستدلون بالحكايات والمنامات والأحاديث الموضوعة لتصحيح ما هم عليه بدلا من الاستدلال بالكتاب والسنة، هذا ما ينبني عليه دين الصوفية.
ومن المعلوم أن العبادة لا تكون عبادة صحيحة إلا إذا كانت مبنية على ما جاء في الكتاب والسنة - قال شيخ الإسلام ابن تيمية ويتمسكون (يعني الصوفية) في الدين الذي يتقربون به إلى ربهم بنحو ما تمسك به النصارى من الكلام المتشابه والحكايات التي لا يعرف صدق قائلها، ولو صدق لم يكن معصوما، فيجعلون متبوعيهم وشيوخهم شارعين لهم دينا، كما جعل النصارى قسيسيهم ورهبانهم شارعين لهم دينا. . انتهى.
ولما كان هذا مصدرهم الذي يرجعون إليه في دينهم وعباداتهم - وقد تركوا الرجوع إلى الكتاب والسنة صاروا أحزابا متفرقين - كما قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (1) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153(22/154)
فصراط الله واحد لا انقسام فيه ولا اختلاف عليه، وما عداه فهو سبل متفرقة تتفرق بمن سلكها، وتبعده عن صراط الله المستقيم، وهذا ينطبق على فرق الصوفية فإن كل فرقة لها طريقة خاصة تختلف عن طريقة الفرقة الأخرى. ولكل فرقة شيخ يسمونه شيخ الطريقة يرسم لها منهاجا يختلف عن منهاج الفرق الأخرى، ويبتعد بهم عن الصراط المستقيم، وهذا الشيخ الذي يسمونه شيخ الطريقة يكون له مطلق التصرف وهم ينفذون ما يقول ولا يعترضون عليه بشيء - حتى قالوا: المريد مع شيخه يكون كالميت مع غاسله. وقد يدعي بعض هؤلاء الشيوخ أنه يتلقى من الله مباشرة ما يأمر به مريديه وأتباعه.
3 - من دين الصوفية التزام أذكار وأوراد يضعها لهم شيوخهم فيتقيدون بها ويتعبدون بتلاوتها، وربما فضلوا تلاوتها على تلاوة القرآن الكريم، ويسمونها ذكر الخاصة.
وأما الذكر الوارد في الكتاب والسنة فيسمونه ذكر العامة. فقول لا إله إلا الله عندهم هو ذكر العامة، وأما ذكر الخاصة - فهو الاسم المفرد: الله؛ وذكر خاصة الخاصة (هو) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن زعم أن هذا - أي قول لا إله إلا الله ذكر العامة وأن ذكر الخاصة - هو الاسم المفرد، وذكر خاصة الخاصة (هو) أي الاسم المضمر فهو ضال مضل. واحتجاج بعضهم على ذلك بقوله:
{قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (1) من أبين غلط هؤلاء، بل من تحريفهم للكلم عن مواضعه، فإن الاسم
__________
(1) سورة الأنعام الآية 91(22/155)
- الله - مذكور في الأمر بجواب الاستفهام في الآية قبله وهو قوله: {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} (1) إلى قوله:
{قُلِ اللَّهُ} (2)
أي الله هو الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى.
فالاسم - الله - مبتدأ خبره دل عليه الاستفهام كما في نظائر ذلك - تقول: من جارك؟ فيقول: زيد، وأما الاسم المفرد مظهرا ومضمرا فليس بكلام تام ولا جملة مفيدة ولا يتعلق به إيمان ولا كفر ولا أمر ولا نهي، ولم يذكر ذلك أحد من سلف الأمة ولا شرع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعطي القلب نفسه معرفة مفيدة، ولا حالا نافعا، وإنما يعطيه تصورا مطلقا لا يحكم فيه بنفي ولا إثبات - إلى أن قال: وقد وقع بعض من واظب على هذا الذكر بالاسم المفرد وبـ: " هو " في فنون من الإلحاد وأنواع من الاتحاد، وما ذكر عن بعض الشيوخ في أنه قال: أخاف أن أموت بين النفي والإثبات، حال لا يقتدى فيها بصاحبها، فإن في ذلك من الغلط ما لا خفاء به إذ لو مات العبد في هذه الحال لم يمت إلا على ما قصده ونواه، إذ الأعمال بالنيات، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتلقين الميت لا إله إلا الله. وقال «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة (3) » ، ولو كان ما ذكره محظورا لم يلقن الميت كلمة يخاف أن يموت في أثنائها موتا غير محمود. بل كان ما اختاره من ذكر الاسم المفرد - والذكر بالاسم المضمر أبعد عن السنة وأدخل في البدعة وأقرب إلى إضلال الشيطان، فإن من قال: يا هو
__________
(1) سورة الأنعام الآية 91
(2) سورة الأنعام الآية 91
(3) سنن أبو داود الجنائز (3116) ، مسند أحمد بن حنبل (5/233) .(22/156)
يا هو، أو هو هو، ونحو ذلك لم يكن الضمير عائدا إلا إلى ما يصوره قلبه، والقلب قد يهتدي وقد يضل - وقد صنف صاحب الفصوص (1) كتابا سماه كتاب " ألهو " - وزعم بعضهم أن قوله:
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} (2) معناه: وما يعلم تأويل هذا الاسم الذي هو الهو - وهذا مما اتفق المسلمون بل العقلاء على أنه من أبين الباطل - فقد يظن هذا من يظنه من هؤلاء. حتى قلت لبعض من قال شيئا من ذلك لو كان هذا كما قلته لكتبت الآية وما يعلم تأويل هو منفصلة (3) - أي كتبت (هو) منفصلة عن: (تأويل) . . .
4 - غلو الصوفية في الأولياء والشيوخ خلاف عقيدة أهل السنة والجماعة. فإن عقيدة أهل السنة والجماعة موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه - قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (4) ،
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (5) وأولياء الله هم المؤمنون المتقون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ويجب علينا محبتهم والاقتداء بهم واحترامهم - وليست الولاية وقفا على أشخاص معينين. فكل مؤمن تقي فهو ولي لله عز وجل،
__________
(1) يعني ابن العربي
(2) سورة آل عمران الآية 7
(3) رسالة العبودية ص 117- 118 طبعة الإفتاء.
(4) سورة المائدة الآية 55
(5) سورة الممتحنة الآية 1(22/157)
وليس معصوما من الخطأ، هذا معنى الولاية والأولياء، وما يجب في حقهم عند أهل السنة والجماعة - أما الأولياء عند الصوفية فلهم اعتبارات ومواصفات أخرى، فهم يمنحون الولاية لأشخاص معينين من غير دليل من الشارع على ولايتهم، وربما منحوا الولاية لمن لم يعرف بإيمان ولا تقوى، بل قد يعرف بضد ذلك من الشعوذة والسحر واستحلال المحرمات، وربما فضلوا من يدعون لهم الولاية على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كما يقول أحدهم:
مقام النبوة في برزخ ... فريق الرسول ودون الولي
ويقولون: إن الأولياء يأخذون من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول ويدعون لهم العصمة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكثير من الناس يغلط في هذا الموضع فيظن في شخص أنه ولي لله - ويظن أن ولي الله يقبل منه كل ما يقوله، ويسلم إليه كل ما يقوله. ويسلم إليه كل ما يفعله، وإن خالف الكتاب والسنة. فيوافق ذلك الشخص. ويخالف ما بعث الله به رسوله الذي فرض الله على جميع الخلق تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر - إلى أن قال وهؤلاء مشابهون للنصارى الذين قال الله فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (1) .
وفي المسند وصححه الترمذي عن عدي بن حاتم في تفسير هذه الآية، «لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها، فقال: ما عبدوهم، فقال النبي
__________
(1) سورة التوبة الآية 31(22/158)
صلى الله عليه وسلم: أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم وكانت هذه عبادتهم إياهم (1) » - إلى أن قال: ونجد كثيرا من هؤلاء: في اعتقاد كونه وليا لله، أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض التصرفات الخارقة للعادة، مثل أن يشير إلى شخص فيموت أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها، أو يمشي على الماء أحيانا أو يملأ إبريقا من الهواء، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاءه فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما سرق لهم أو بحال غائب لهم أو مريض أو نحو ذلك - وليس في هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولي لله.
بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يغتر به حتى ينظر متابعته للرسول صلى الله عليه وسلم وموافقته لأمره ونهيه.
وكرامات أولياء الله أعظم من هذه الأمور - وهذه الأمور الخارقة للعادة وإن كان قد يكون صاحبها وليا لله فقد يكون عدوا لله فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين وتكون لأهل البدع وتكون من الشياطين، فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه ولي لله.
بل يعتبر أولياء الله بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة، ويعرفون بنور الإيمان والقرآن وبحقائق الإيمان الباطنة وشرائع الإسلام الظاهرة. مثال ذلك أن هذه الأمور المذكورة وأمثالها قد توجد في أشخاص ويكون أحدهم لا يتوضأ ولا يصلي الصلوات المكتوبة، بل يكون ملابسا للنجاسات معاشرا للكلاب يأوي إلى الحمامات والقمامين والمقابر والمزابل، رائحته خبيثة لا يتطهر الطهارة الشرعية ولا يتنظف. إلى أن قال: فإذا كان الشخص مباشرا للنجاسات والخبائث
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3095) .(22/159)
التي يحبها الشيطان، أو يأوي إلى الحمامات والحشوش التي تحضرها الشياطين، أو يأكل الحيات والعقارب والزنابير وآذان الكلاب التي هي خبائث وفواسق أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التي يحبها الشيطان، أو يدعو غير الله فيستغيث بالمخلوقات ويتوجه إليها أو يسجد إلى ناحية شيخه، ولا يخلص الدين لرب العالمين، أو يلابس الكلاب أو النيران أو يأوي إلى المزابل والمواضع النجسة أو يأوي إلى المقابر ولا سيما إلى مقابر الكفار من اليهود والنصارى والمشركين، أو يكره سماع القرآن وينفر عنه ويقدم عليه سماع الأغاني والأشعار ويؤثر سماع مزامير الشيطان على سماع كلام الرحمن، فهذه علامات أولياء الشيطان، لا علامات أولياء الرحمن (1) . . . انتهى.
ولم يقف الصوفية عند هذا الحد من منح الولاية لأمثال هؤلاء بل غلوا فيهم حتى جعلوا فيهم شيئا من صفات الربوبية، وأنهم يتصرفون في الكون ويعلمون الغيب. ويجيبون من استغاث بهم بطلب ما لا يقدر عليه إلا الله. ويسمونهم الأغواث والأقطاب والأوتاد، يهتفون بأسمائهم في الشدائد، وهم أموات أو غائبون ويطلبون منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، وأضفوا عليهم هالة من التقديس في حياتهم وعبدوهم من دون الله بعد وفاتهم، فبنوا على قبورهم الأضرحة وتبركوا بتربتهم وطافوا بقبورهم، وتقربوا إليهم بأنواع النذور، وهتفوا بأسمائهم في طلباتهم، هذا منهج الصوفية في الولاية والأولياء.
5 - من دين الصوفية الباطل تقربهم إلى الله بالغناء والرقص وضرب الدفوف والتصفيق ويعتبرون هذا عبادة لله.
__________
(1) مجموع الفتاوى (11 \ 210- 216)(22/160)
قال الدكتور صابر طعيمة في كتابه: الصوفية معتقدا ومسلكا: أصبح الرقص الصوفي الحديث عند معظم الطرق الصوفية في مناسبات الاحتفال بموالد بعض كبارهم أن يجتمع الأتباع لسماع النوتة الموسيقية التي يكون صوتها أحيانا أكثر من مائتي عازف من الرجال والنساء، وكبار الأتباع يجلسون في هذه المناسبات يتناولون ألوانا من شرب الدخان، وكبار أئمة القوم وأتباعهم يقومون بمدارسة بعض الخرافات التي تنسب لمقبوريهم، وقد انتهى إلى علمنا من المطالعات أن الأداء الموسيقي لبعض الطرق الصوفية الحديثة مستمد مما يسمى " كورال صلوات الآحاد المسيحية ".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية مبينا وقت حدوث هذا. وموقف الأئمة منه ومن الذي أحدثه:. . . . اعلم أنه لم يكن في عنفوان القرون الثلاثة المفضلة لا بالحجاز ولا بالشام ولا باليمن ولا مصر ولا المغرب ولا العراق ولا خراسان من أهل الدين والصلاح والزهد والعبادة من يجتمع على مثل سماع المكاء والتصدية لا بدف ولا بكف ولا بقضيب وإنما أحدث هذا بعد ذلك في أواخر المائة الثانية فلما رآه الأئمة أنكروه فقال: الشافعي رضي الله عنه: خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه (التغبير) يصدون به الناس عن القرآن، وقال يزيد بن هارون: ما يغبر إلا فاسق، ومتى كان التغبير؟ . . . .
وسئل الإمام أحمد فقال: أكرهه هو محدث، قيل: أتجلس معهم، قال: لا. وكذلك سائر أئمة الدين كرهوه، وأكابر الشيوخ الصالحين لم يحضروه، فلم يحضره إبراهيم بن أدهم، ولا الفضيل بن عياض، ولا معروف الكرخي، ولا أبو سليمان الداراني، ولا أحمد بن أبي الحواري، والسري السقطي وأمثالهم.(22/161)
والذين حضروه من الشيوخ المحمودين تركوه في آخر أمرهم، وأعيان المشايخ عابوا أهله كما فعل ذلك عبد القادر والشيخ أبو البيان، وغيرهما من المشايخ، وما ذكره الشافعي رحمه الله من أنه من إحداث الزنادقة، كلام إمام خبير بأصول الإسلام فإن هذا السماع لم يرغب فيه ويدع إليه في الأصل إلا من هو متهم بالزندقة كابن الراوندي والفارابي وابن سينا وأمثالهم - إلى أن قال: وأما الحنفاء أهل ملة إبراهيم الخليل الذي جعله الله إماما، وأهل دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينا غيره، المتبعون لشريعة خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم فليس فيهم من يرغب في ذلك ولا يدعو إليه، وهؤلاء هم أهل القرآن والإيمان والهدى والسعد والرشاد والنور والفلاح وأهل المعرفة والعلم واليقين والإخلاص لله، والمحبة له، والتوكل عليه والخشية له والإنابة إليه. إلى أن قال: ومن كان له خبرة بحقائق الدين وأحوال القلوب ومعارفها وأذواقها ومواجيدها عرف أن سماع المكاء والتصدية لا يجلب للقلوب منفعة ولا مصلحة إلا وفي ضمن ذلك من الضرر والمفسدة ما هو أعظم منه فهو للروح كالخمر للجسد، ولهذا يورث أصحابه سكرا أعظم من سكر الخمر فيجدون لذة بلا تمييز، كما يجد شارب الخمر، بل يحصل لهم أكثر وأكبر مما يحصل لشارب الخمر ويصدهم ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة أعظم مما يصدهم الخمر، ويوقع بينهم العداوة والبغضاء أعظم من الخمر.
وقال أيضا: وأما الرقص فلم يأمر الله به ولا رسوله ولا أحد من الأئمة، بل قد قال الله في كتابه:
{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} (1) .
__________
(1) سورة لقمان الآية 19(22/162)
وقال في كتابه:
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} (1) .
أي بسكينة ووقار، وإنما عبادة المسلمين الركوع والسجود.
بل الدف والرقص لم يأمر الله به ولا رسوله ولا أحد من سلف الأمة، وقال: وأما قول القائل هذه شبكة يصاد بها العوام - فقد صدق فإن أكثرهم إنما يتخذون ذلك شبكة لأجل الطعام والتوانس على الطعام، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (2) .
ومن فعل هذا فهو من أئمة الضلال الذي قيل في رؤوسهم:
{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} (3) {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} (4) .
وأما الصادقون منهم فهم يتخذونه شبكة لكن هي شبكة مخرقة يخرج منها الصيد إذا دخل فيها، كما هو الواقع كثيرا، فإن الذين دخلوا في السماع المبتدع في الطريق ولم يكن معهم أصل شرعي شرعه الله ورسوله - أورثهم أحوالا فاسدة. . . انتهى كلامه (5) .
فهؤلاء الصوفية الذين يتقربون إلى الله بالغناء والرقص يصدق عليهم قول الله تعالى: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا} (6) .
__________
(1) سورة الفرقان الآية 63
(2) سورة التوبة الآية 34
(3) سورة الأحزاب الآية 67
(4) سورة الأحزاب الآية 68
(5) مجموع الفتاوى (11 \ 569 - 574)
(6) سورة الأعراف الآية 51(22/163)
6 - ومن دين الصوفية الباطل ما يسمونه بالأحوال التي تنتهي بصاحبها إلى الخروج عن التكاليف الشرعية نتيجة لتطور التصوف، فقد كان أصل التصوف - كما ذكره ابن الجوزي: رياضة النفس ومجاهدة الطبع برده عن الأخلاق الرذيلة وحمله على الأخلاق الجميلة من الزهد والحلم والصبر والإخلاص والصدق.
قال: وعلى هذا كان أوائل القوم فلبس إبليس عليهم في أشياء ثم لبس على من بعدهم من تابعيهم، فكلما مضى قرن زاد طمعه في القرن الثاني فزاد تلبيسه عليهم إلى أن تمكن من المتأخرين غاية التمكن، وكان أصل تلبيسه عليهم أن صدهم عن العلم وأراهم أن المقصود العمل، فلما أطفأ مصباح العلم عندهم تخبطوا في الظلمات، فمنهم من أراه أن المقصود من ذلك ترك الدنيا في الجملة فرفضوا ما يصلح أبدانهم وشبهوا المال بالعقارب. ونسوا أنه خلق للمصالح وبالغوا في الحمل على النفوس حتى إنه كان فيهم من لا يضطجع، وهؤلاء كانت مقاصدهم حسنة غير أنهم على غير الجادة، وفيهم من كان لقلة علمه يعمل بما يقع إليه من الأحاديث الموضوعة وهو لا يدري، ثم جاء أقوام فتكلموا لهم في الجوع والفقر والوساوس والخطرات وصنفوا في ذلك مثل الحارث المحاسبي، وجاء آخرون فهذبوا مذهب الصوفية وأفردوه بصفات ميزوه بها من الاختصاص بالمرقعة والسماع والوجد والرقص والتصفيق. ثم ما زال الأمر ينمى، والأشياخ يضعون لهم أوضاعا ويتكلمون بمواقعاتهم - وبعدوا عن العلماء ورأوا ما هم فيه أو في العلوم حتى سموه العلم الباطن وجعلوا علم الشريعة العلم الظاهر، ومنهم من خرج به الجوع إلى الخيالات الفاسدة فادعى عشق الحق والهيمان فيه. فكأنهم تخايلوا شخصا مستحسن الصورة فهاموا به. . . وهؤلاء بين الكفر والبدعة(22/164)
ثم تشعبت بأقوام منهم الطرف ففسدت عقائدهم فمن هؤلاء من قال بالحلول، ومنهم من قال بالاتحاد، وما زال إبليس يخبطهم بفنون البدع حتى جعلوا لأنفسهم سننا. انتهى (1) .
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن قوم داوموا على الرياضة مرة فرأوا أنهم قد تجوهروا فقالوا لا نبالي الآن ما علمنا، وإنما الأوامر والنواهي رسوم العوام، ولو تجوهروا لسقطت عنهم، وحاصل النبوة يرجع إلى الحكمة والمصلحة والمراد منها ضبط العوام ولسنا نحن من العوام فندخل في حجر التكليف لأنا قد تجوهرنا وعرفنا الحكمة فأجاب: لا ريب عند أهل العلم والإيمان أن هذا القول من أعظم الكفر وأغلظه وهو شر من قول اليهود والنصارى. فإن اليهودي والنصراني آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض. وأولئك هم الكافرون حقا، كما أنهم يقرون أن لله أمرا ونهيا، ووعدا ووعيدا وأن ذلك متناول لهم إلى حين الموت، هذا إن كانوا متمسكين باليهودية والنصرانية المبدلة المنسوخة، وأما إن كانوا من منافقي أهل ملتهم كما هو الغالب على متكلميهم ومتفلسفتهم كانوا شرا من منافقي هذه الأمة، حيث كانوا مظهرين للكفر ومبطنين للنفاق فهم شر ممن يظهر إيمانا ويبطن نفاقا.
والمقصود أن المتمسكين بجملة منسوخة فيها تبديل خير من هؤلاء الذين يزعمون سقوط الأمر والنهي عنهم بالكلية، فإن هؤلاء خارجون في هذه الحال من جميع الكتب والشرائع والملل، لا يلتزمون لله أمرا ولا نهيا بحال، بل هؤلاء شر من المشركين المتمسكين ببقايا من الملل كمشركي العرب الذين كانوا متمسكين ببقايا من دين إبراهيم عليه
__________
(1) تلبيس إبليس صفحة 157 - 158.(22/165)
السلام فإن أولئك معهم نوع من الحق يلتزمونه. وإن كانوا مع ذلك مشركين، وهؤلاء خارجون عن التزام شيء من الحق بحيث يظنون أنهم قد صاروا سدى لا أمر عليهم ولا نهي - إلى أن قال: ومن هؤلاء من يحتج بقوله:
{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (1) .
ويقول معناها: اعبد ربك حتى يحصل لك العلم والمعرفة فإذا حصل ذلك سقطت العبادة، وربما قال بعضهم: اعمل حتى يحصل لك حال فإذا حصل لك حال تصوفي سقطت عنك العبادة، وهؤلاء فيهم من إذا ظن حصول مطلوبه من المعرفة والحال استحل ترك الفرائض وارتكاب المحارم. وهذا كفر كما تقدم إلى أن قال: فأما استدلالهم بقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (2) فهي عليهم لا لهم - قال الحسن البصري: إن الله لم يجعل لعمل المؤمنين أجلا دون الموت، وقرأ قوله:
{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (3) .
وذلك أن اليقين هنا الموت وما بعده باتفاق علماء المسلمين وذلك مثل قوله:
{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} (4) {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} (5) .
إلى قوله:
{وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} (6) {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} (7) {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} (8) .
فهذا قالوه وهم في جهنم وأخبروا أنهم كانوا على ما هم عليه من ترك الصلاة والزكاة والتكذيب بالآخرة والخوض مع الخائضين حتى أتاهم
__________
(1) سورة الحجر الآية 99
(2) سورة الحجر الآية 99
(3) سورة الحجر الآية 99
(4) سورة المدثر الآية 42
(5) سورة المدثر الآية 43
(6) سورة المدثر الآية 45
(7) سورة المدثر الآية 46
(8) سورة المدثر الآية 47(22/166)
اليقين. . ومعلوم أنهم مع هذا الحال لم يكونوا مؤمنين بذلك في الدنيا ولم يكونوا مع الذين قال الله فيهم:
{وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (1) .
وإنما أراد بذلك أنه أتاهم ما يوعدون وهو اليقين. . انتهى (2) .
فالآية تدل على وجوب العبادة على العبد منذ بلوغه سن التكليف عاقلا: إلى أن يموت. وأنه ليس هناك حال قبل الموت ينتهي عندها التكليف كما تزعمه الصوفية.
الخاتمة:
وبعد: فهذا هو دين الصوفية قديما وحديثا وهذا موقفهم من العبادة ولم ننقل عنهم إلا القليل مما تضمنته كتبهم وكتب منتقديهم وما تدل عليه ممارساتهم المعاصرة ولم أتناول إلا جانبا واحدا من جوانب البحث حولهم هو جانب العبادة وموقفهم منها، وبقيت جوانب أخرى تحتاج إلى محاضرات ومحاضرات كموقفهم من التوحيد وموقفهم من الرسالات وموقفهم من الشريعة والقدر، إلى غير ذلك. . .
هذا وأسأل الله عز وجل أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه،،،
صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
__________
(1) سورة البقرة الآية 4
(2) مجموع الفتاوى (11 \ 401- 402، 417- 418) .(22/167)
صفحة فارغة(22/168)
النفقة الواجبة على المرأة لحق الغير
الدكتور \ عبد الله بن عبد المحسن بن منصور الطريقي
الحمد لله الذي بنعمته تتم الطيبات ويحصل بفضله رعاية الحقوق والواجبات والصلاة والسلام على الكريم الجواد هادي الأنام إلى كل خصلة من خصال الفضائل والأعمال. وبعد:
فإن المرء مثل ما له حق على الآخرين فعليه لهم مثله.
وقد بين الإسلام ذلك من خلال ما شرعه من النفقات وغيرها وجعل الإنفاق حقا للمحتاج من زوج أو قريب أو لملك.
وبما أن أصل الإنفاق لازم على الرجل تجاه الآخرين ممن يلزمه الإنفاق عليهم - من رجال ونساء وغيرهم إلا أن هذا الأصل لا يكون قاعدة ثابتة فقد تلزم المرأة بالإنفاق على الآخرين لأسباب سنذكرها بين ثنايا هذا البحث - الذي أسميته " النفقة الواجبة على المرأة لحق الغير " وفق ضوابط معينة اقتضتها لوازم الإنفاق ولا يعني ذكري وجوب الإنفاق على الرجل خروجي عن موضوع البحث وإنما ذكرته للتلازم في الإنفاق بين الرجل والمرأة من خلال مشاركتهما فيه أو لبيان أن وجوبها على أحدهما فقط سقوط عن الآخر.(22/169)
وقد شجعني على الكتابة فيه أنني لم أعلم فيما اطلعت عليه أن أحدا أفرده ببحث مستقل فآثرت جمعه وترتيبه وإبرازه خدمة للعلم وطالبيه.
وهذا البحث يتضمن عرضا لآراء المذاهب الأربعة وقد أذكر غيرهم وعملت على ترجيح ما ظهر لي ترجيحه وحسبي أنني أقصد الحق وأسعى إليه ومن الله أرجو أن أنال الجزاء وحسن الثواب والحمد لله رب العالمين.(22/170)
معنى النفقة
- النفقة لغة تأتي بمعنى راح وبمعنى نقص (1) .
- وفي الاصطلاح: كفاية من يمونه خبزا أو أدما وكسوة وسكن وتوابعها (2) .
__________
(1) انظر لسان العرب مادة نفق ج10 ص357 دار صادر.
(2) انظر كشاف القناع عن متن الإقناع ح5 ص459 الناشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض.(22/171)
أنواع النفقة الواجبة على المرأة لحق الغير
- النفقة الواجبة على المرأة لحق الغير تتكون من أربعة موضوعات:
الموضوع الأول: نفقة الأقارب.
الموضوع الثاني: نفقة خادم المرأة.
الموضوع الثالث: نفقة الرقيق.
الموضوع الرابع: نفقة البهائم والجمادات.(22/171)
الأسباب الموجبة لبعض تلك النفقات
نفقة الأقارب
سبب وجوب النفقة هي القرابة المحرمة للقطع لأنه إذا حرم قطعها حرم كل سبب مفض إليه، وترك الإنفاق من ذي الرحم المحرم مع قدرته وحاجته تفضي إلي قطع الرحم، فيحرم الترك وإذا حرم الترك وجب الفعل ضرورة (1) .
نفقة الرقيق
سبب وجوب هذه النفقة الملك الموجب للاختصاص بالمملوك انتفاعا وتصرفا ليكون به صلاحه ودوامه ومن ملك منفعة شيء لزمته مؤنته إذ الخراج بالضمان، ولأن الرقيق لا مال له وما في يده لمولاه فلا يجوز للرقيق أن ينفق على نفسه من مال غيره مما يجعل الإنفاق واجبا على سيده (2) .
__________
(1) انظر بدائع الصنائع ج4 ص16، 31 الطبعة الثانية 1402هـ.
(2) انظر بدائع الصنائع ج4 ص39 الطبعة الثانية سنة 1402هـ وانظر المغني لابن قدامة ج7 ص585.(22/171)
نفقة البهائم والجمادات
سبب وجوب هذه النفقة هو أن تركها تجويعا للحيوان والتجويع تعذيب له وهو محرم لما له من حرمة في نفسه ولعدم جواز الإضرار به ولأن البهائم والجمادات المملوكة مال والمال يلزم استصلاحه واستبقاؤه ومن أراد ضياعه وجب الحجر عليه.
وفيما يلي نتحدث عن تلك الموضوعات بشيء من البيان فنقول وبالله التوفيق:(22/172)
الموضوع الأول: نفقة الأقارب
وفيه ثلاث فصول:
الفصل الأول: نفقة الفروع وهم الأولاد.
الفصل الثاني: نفقة الأصول وهم الآباء والأمهات.
الفصل الثالث: نفقة القرابة من غير الأصول والفروع وهم الأخوة والأخوات ومن في حكمهم.
الفصل الأول: نفقة الفروع من الأولاد
وسبب وجوب هذه النفقة هو الولادة لأن به تثبت الجزئية والبعضية والإنفاق على المحتاج إحياء له ويجب على الإنسان إحياء كله وجزئه.
ولأنها قرابة يحرم قطعها وإذا حرم القطع حرم كل سبب مفض إليه وترك الإنفاق من ذي الرحم المحرم مع قدرته وحاجة المنفق عليه تفضي إلى قطع الرحم فيحرم الترك وإذا حرم الترك وجب الفعل (1) مما يدل على وجوب الإنفاق على الأولاد.
__________
(1) انظر بدائع الصنائع ج4 ص31 الطبعة الثانية سنة 1407هـ.(22/172)
وحال الأولاد تكون على نوعين:
النوع الأول: الأولاد الصغار
النوع الثاني: الأولاد الكبار
ولكل منهم حكمه المستنبط من الأدلة الشرعية كما سيأتي(22/173)
النوع الأول: نفقة الأولاد الصغار
وفيه عدة مباحث:
المبحث الأول: وجوب نفقة الولد الصغير على أبيه.
الأصل في نفقة الطفل الحر الفقير على أبيه للإجماع على ذلك ويؤيده قوله تعالى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (1) وهو أمر للأزواج يقضي بوجوب إعطاء المرأة أجرة الرضاع المستلزمة وجوب المؤنة عموما من رضاع وغيره (2) .
وقوله تعالى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (3) فلفظ المولود له يعم الوالد وسيد العبد ويبين أن الولد لأبيه لا لأمه والآية توجب رزق الرضيع على أبيه دون غيره (4) .
ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه «أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: عندي دينار؟ فقال أنفقه على نفسك قال: عندي آخر؟ فقال أنفقه على ولدك، قال: عندي آخر؟ قال أنفقه على أهلك قال: عندي آخر قال أنفقه على خادمك قال: عندي آخر قال: أنت أعلم به (6) » ففي هذا الحديث أمر صلى الله عليه وسلم بالإنفاق على الولد بما فضل عن كفاية النفس والأمر للوجوب مما يدل على وجوب إنفاق الأب على أولاده.
__________
(1) سورة الطلاق الآية 6
(2) انظر مغني المحتاج ج3 ص447 طبع دار إحياء التراث العربي.
(3) سورة البقرة الآية 233
(4) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج34 ص105 تصوير الطبعة الأولى سنة 1398هـ.
(5) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة باب في صلة الرحم وقد سكت عنه، عون المعبود سنن أبي داود ج5 ص110 الطبعة الثالثة سنة 1399هـ. وأخرجه النسائي عن جابر في كتاب الزكاة باب أي الصدقة أفضل \ سنن النسائي ج5 ص70 طبع دار إحياء التراث العربي. وأخرجه أحمد في مسنده ج2 ص251 الناشر لمكتب الإسلامي. قال أحمد البناء في سنده عند أحمد '' وأقره الذهبي '' الفتح الرباني ج9 ص191 وأخرجه الحاكم في كتاب الزكاة باب الإعطاء للأقرباء أعظم الأجر وقال هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه \ المستدرك ج1 ص415 طبعة دار الفكر.
(6) انظر المجموع شرح المهذب ج17 ص172 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة. (5)(22/173)
وما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لهند «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف (2) » وهذا يقتضي لزوم نفقة الولد على أبيه وإلا لما كان لها الأخذ بالمعروف.
ولأن للأب ولاية على ابنه مما يدل على استحقاقه النفقة من أبيه (3) ولأن ولد الإنسان بعضه فكما يجب على الإنسان أن ينفق على نفسه فيجب عليه أن ينفق على ولده (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب النفقات باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف \ فتح الباري شرح صحيح البخاري ج9 ص507 المطبعة السلفية. وأخرجه مسلم في كتاب الأقضية باب قضية هند \ انظر صحيح مسلم بشرح النووي ج12 ص7 طبع بالمطبعة المصرية. وأخرجه أبو داود في كتاب البيوع باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده \ عون المعبود شرح سنن أبي داود ج9 ص447 الطبعة الثالثة سنة 1399هـ. وأخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات باب ما للمرأة من مال زوجها \ سنن ابن ماجه ج2 ص769 طبعة دار إحياء التراث العربي. وأخرجه الدرامي في كتاب النكاح باب في وجوب نفقة الرجل على أهله \ سنن الدرامي ج2 ص159 توزيع دار الباز للنشر والتوزيع. وأخرجه أحمد في مسنده ج6 ص39، الناشر المكتب الإسلامي.
(2) (1)
(3) انظر المجموع شرح المهذب ج17 ص172 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة.
(4) انظر المغني لابن قدامة ج7 ص583 الناشر مكتبة الرياض الحديثة.(22/174)
المبحث الثاني: نفقة الأب على ابنه من اليسار والإعسار
أوجب الحنفية إنفاق الأب على ابنه يسارا وإعسارا ويرجع على الأب إذا أيسر) وهو قول عند الشافعية (1) خلافا للمالكية الذي يرون سقوطها مع الإعسار واليسار شرط النفقة عند الشافعية في قولهم الآخر لأنها مواساة فاعتبر يسار المنفق معها وهو شرط عند الحنابلة في وجوب النفقة أما إذا عجز الأب عن الإنفاق فيرى الحنفية في قول لهم أنه يتكفف (2) وينفق على ابنه وفي قول آخر لهم ينفق عليه من بيت المال.
وقالوا في قول ثالث إن عجز الأب فالأولى أن لا يتكفف مع وجود قريب ينفق عليهما كالزوجة الموسرة والتي تعد أولى من غيرها بالإنفاق على زوجها وابنه من سائر الأقارب بما فيهم الجد لأب وترجع على الأب إذا أيسر.
ويرى الحنابلة أن الأم إذا أنفقت على ابنها، وهو في حضانتها وهي تنوي الرجوع على الأب فلها أن ترجع عليه بالنفقة، وهذا ظاهر مذهب أحمد الذي عليه قدماء أصحابه، فإن من أصلهما إن أدى عن غيره واجبا رجع عليه، وإن فعله بغير إذنه مثل أن يقضي دينه، أو ينفق على
__________
(1) انظر مغني المحتاج ج3 ص447 دار إحياء التراث العربي.
(2) أي يسأل الناس.(22/174)
عبده، وقد قال الله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (1) فأمر بإيتاء الأجر بمجرد الإرضاع ولم يشترط عقدا ولا إذنا من الأب بذلك.
أما إذا تبرعت الأم بالنفقة بدون نية الرجوع فليس لها أن ترجع على الأب بالنفقة (2) .
وفي قول آخر أن الأب إذا أعسر بالنفقة وجبت على الأم دون أن ترجع بها عليه إن أيسر لأن من وجب عليه الإنفاق بالقرابة لم يرجع على أحد (3) .
والقول في الرجوع بالنفقة على الأب إذا أيسر عند الحنفية باعتبار أن النفقة واجبة على الأب وحده في ظاهر الرواية عندهم وأنه لا يشاركه أحد في النفقة على الطفل لا أمه ولا غيرها لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (4) فهذه الآية صريحة في إيجاب نفقة النساء لأجل الأولاد، مما يدل على أن النفقة واجبة على الأب من باب أولى حيث النسب له.
وفي رواية لأبي حنيفة أن النفقة على الأب والأم أثلاثا بحسب ميراثهما من الولد (5) والحنابلة في قولهم بالرجوع على الأب باعتبار المذهب عندهم أن النفقة على الأب وحده لقوله تعالى {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (6) فهذه الآية أوجبت نفقة الولد حملا ورضيعا بواسطة الإنفاق على الحامل والمرضع فإنه لا يمكن رزقه بدون رزق حامله ومرضعته. أما نفقة الولد على أبيه بعد فطامه فقد دل عليه النص تنبيها فإنه إذا كانت النفقة واجبة على الأب - حال اختفاء الطفل أثناء
__________
(1) سورة الطلاق الآية 6
(2) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج34 ص134 تصوير الطبعة الأولى.
(3) انظر المغني لابن قدامة ج7 ص583 الناشر مكتبة الرياض الحديثة.
(4) سورة البقرة الآية 233
(5) انظر المبسوط للسرخسي ج 5 ص 222 طبع دار المعرفة.
(6) سورة الطلاق الآية 6(22/175)
الحمل - بالإنفاق على أمه فالإنفاق عليه بعد فصاله مباشرة من باب أولى.
وقد تضمن الخطاب بأن الحكم المسكوت أولى منه في المنطوق مما يدل على وجوب النفقة على الأب دون الأم وأنها ترجع عليه بالنفقة (1) .
__________
(1) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج34 ص106.(22/176)
المبحث الثالث: إرضاع الأم لولدها
يرى الحنفية: أن القاضي لا يحق له إجبار أم الطفل على إرضاعه حكما. لأنها غير ملزمة إلا بتسليم نفسها لزوجها لغرض الاستمتاع فقط غير أنها تؤمر بذلك ديانة، لأنه من باب الاستخدام ككنس البيت والطبخ وغسل الثياب والخبز ونحو ذلك، مما يجب عليها ديانة (1) .
والمشهور عند المالكية: أنه يجب على الأم أن ترضع ولدها إلا أن يكون مثلها لا يرضع لسقم وقلة لبن، أو لكون مثلها لا يرضع باعتبار العرف والعادة، فعلى الزوج أن يستأجر له من يرضعه وفي قول آخر لهم: لا يلزمها إرضاعه وهو من فقراء المسلمين (2) لأنها ليست عصبة لولدها (3) .
وعند الشافعية: لا يلزم الأم التبرع بإرضاع ولدها (4) غير أنه يجب عليها إرضاعه اللبن (5) لأن الولد لا يعيش بدونه غالبا وغيرها لا يغني عنها فيه. خاصة وأن اللبن يشد بنيته ويقوي جسمه وتسقيه حتى يروى منه (6) .
ويرى الحنابلة: أن رضاع الولد على الأب وحده، وليس له إجبار أمه على رضاعه سواء أكانت ممن يرضع عادة أم ليس ممن يرضع عادة
__________
(1) انظر المراجع السابقة عدا الفتاوى الهندية.
(2) انظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج2 ص96 طبع سنة 1332هـ.
(3) انظر المغني لابن قدامة ج7 ص583 الناشر مكتبة الرياض الحديثة.
(4) انظر مغني المحتاج ج3 ص449 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر نهاية المحتاج ج7 ص222 مطبعة الحلبي.
(5) اللبأ هو اللبن النازل أول الولادة.
(6) انظر مغني المحتاج ج3 ص449 وانظر نهاية المحتاج ج7 ص221.(22/176)
وسواء أكانت في حبال الزوج أم مطلقة لقوله تعالى {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} (1) وإذا اختلفا فقد تعاسرا، والرضاع ليس من حق الزوج، لأنه لا يملك إجبار زوجته لإرضاع ولده من غيرها ولا من حق الولد لأنه لو كان من حقه للزمها بعد الفرقة، فصار الإرضاع مما يلزم الأب خاصة.
والفقهاء في إزاء عدم إجبار الأم على إرضاع ولدها لم يتركوا الطفل دون رعاية وحفظ فجعلوا رعايته على أبيه ولم يجردوا أمه من مسؤوليتها إذا تعين عليها الأمر وأصبح الإرضاع عليها لازما.
فيرى الحنفية إجبار الأم على إرضاع ولدها إذا تعين عليها الإرضاع بأن لا يجد الأب من يرضعه، أو كان الابن لا يأخذ ثدي غيرها، أو لم يكن له مال والأب معسر فحينئذ تجبر الأم على إرضاعه صيانة له عن الضياع. وهذا عليه المذهب عندهم وبه تكون الفتوى.
وهو مذهب المالكية والشافعية الذين جعلوا لها إزاء ذلك أخذ الأجرة من ماله أو ممن تلزمه نفقته (2) والقول بالإجبار إذا تعين على الأم هو المذهب عند الحنابلة.
وذلك لقوله تعالى {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} (3) والامتناع عن إرضاعه وهو لا يجد غيرها مضارة له، وهو لا يجوز مما يدل على وجوب إرضاعها له إذا تعين عليها.
ولأنه إذا وجبت على الأب نفقته وولادته له من جهة الظاهر فوجوب نفقته على الأم إذا تعين عليها أولى. لأن ولادتها له من جهة القطع (4) وهذا هو الأولى خلافا لظاهر رواية الحنفية أن الأم لا تجبر على إرضاعه لإمكانية تغذيته بغير لبنها والقول بالوجوب هو الراجح عندهم.
__________
(1) سورة الطلاق الآية 6
(2) انظر مغني المحتاج ج3 ص449 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر نهاية المحتاج ج7 ص222 مطبعة الحلبي.
(3) سورة البقرة الآية 233
(4) انظر المجموع شرح المهذب ج17 ص172 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة.(22/177)
وقالوا: إذا لم يكن للأب ولا للولد مال فيجبر الأم على إرضاعه عند الكل. وقيل: تجعل الأجرة دينا على الأب (1) وقال بهذا المالكية.
وذهب الحنفية أنه إذا لم يكن للولد أب أو جد فتجبر الأم بالاتفاق على الإنفاق على ولدها دون أن ترجع بالنفقة على أحد.
وإلى هذا ذهب الحنابلة، لأنها أحد الوالدين فأشبهت الأب ولأن بينهما قرابة توجب رد الشهادة ووجوب العتق فأشبهت الأب (2) وإيجاب الإرضاع على المرأة إنما هو باعتبار أن المرأة الموسرة تجبر على ما يجبر عليه الرجل من نفقة الأقارب، لأن هذا الاستحقاق إنما يكتسب بطريق الصلة فيستوي فيه الرجال والنساء كالعتق عند الدخول في الملك.
والمالكية لا يجب عندهم على الأم نفقة لولدها - في غير الرضاع مع وجود الأب ولا مع عدمه فقيرة كانت أم غنية وشذ عنهم ابن المواز فأوجب النفقة على الأم في الرضاع وغيره (3) .
أما في الرضاع فقالوا: إن لم يكن لها لبن فإنها تستأجر من يرضعه. وكذا لو كان لها ولا يكفي الطفل، أو مرضت وانقطع لبنها أو حملت لأنه لما كان عليها الإرضاع مجانا فعليها خلفه فإن لم يكن لها مال في تلك الحالة فمن مال الأب فإن لم يكن له مال فمن مال الابن.
كما تلزم الأم النفقة عند الحنفية إذا كان معها غير وارث للولد كالجد لأم مثلا فتلزمها النفقة وحدها لترجحها بالأرث ولقربها (4) .
__________
(1) انظر حاشية ابن عابدين ج3 ص618 الطبعة الثانية سنة 1386هـ.
(2) انظر المغني لابن قدامة ج7 ص583 الناشر مكتبة الرياض الحديثة.
(3) انظر حاشية العدوي ج2 ص124 مطبعة الحلبي.
(4) انظر حاشية ابن عابدين ج3 ص613 - 615، 625 الطبعة الثانية سنة 1386هـ.(22/178)
المبحث الرابع: بذل الأجرة للمرضع ولدها بعصمة زوجها
الرضاع حق على الزوج وهو من مسؤولياته تجاه طفله إذا تخلت المرأة التي يلزمه الإنفاق عليها عن إرضاعه وسبق أن تقرر أن الزوج(22/178)
لا يحق له إجبار زوجته على إرضاع طفله وأنها غير ملزمة برضاعه إلا إذا تعين عليها.
فهل إذا تعين عليها وهي بعصمة زوجها لها أن تأخذ الأجرة؟ وهل لها أن تأخذها ولو لم يتعين عليها؟ للجواب على هذا أقول: للعلماء في ذلك قولان:
القول الأول: ذهب الحنفية إلى أن المرأة التي بعصمة زوجها ولم تكن معتدة بطلاق بائن لا يجوز للزوج استئجارها لترضع ولدها، ولو استأجرها فلا تستحق لذلك أجرة. لأن الإرضاع مستحق عليها ديانة لقوله تعالى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (1) وهو أمر بصيغة الخبر وهو آكد، واستئجار الشخص لأمر مستحق عليه لا يجوز، ولهذا لا يجوز أن تأخذ الأجرة على خدمة البيت من الكنس وغيره وإنما لا تجبر على الرضاعة لاحتمال عجزها فعذرت فإذا أقدمت عليه ظهر قدرتها فلا تعذر.
وبهذا قال المالكية لأن عرف المسلمين على توالي الأعصار في سائر الأمصار جار على أن الأمهات يرضعن أولادهن من غير طلب أجرة على ذلك (2) وهذا القول قال به الشافعية لاستحقاق الزوج الاستمتاع بها ولا يجوز أن يعقد عليها عقدا آخر يمنعه استيفاء حقه.
وإلى هذا القول ذهب بعض الحنابلة لاستحقاق الزوج منافعها للخدمة (3) فلا يجوز أن يستأجر منها ما هو أو بعضه حق له (4) .
والقول الثاني: أن الأم إذا طلبت إرضاعه بأجر مثلها فهي أحق به سواء أكانت في حبال الزوجية أو بعدها وسواء وجد الأب مرضعة متبرعة أم لم يجد، لأن الإرضاع عقد إجارة فكما يجوز من غير الزوج إذا أذن
__________
(1) سورة البقرة الآية 233
(2) انظر حاشية العدوى ج2 ص117 مطبعة الحلبي.
(3) انظر الإنصاف ج9 ص406 وانظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج34 ص65 تصوير الطبعة الأولى.
(4) انظر المغني لابن قدامة ج7 ص628 الناشر مكتبة الرياض الحديثة.(22/179)
فيه فيجوز معه كإجارة نفسها للخياطة أو الخدمة وهذا هو ما عليه المذهب عند الحنابلة وعليه جماهيرهم.
واختار هذا القول الحنفية في رواية لهم وهو قول عند المالكية إن كان مثلها لا يرضع (1) وقول عند الشافعية لقوله تعالى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (2) والأم أحق بالرضاعة من غيرها مما يدل على أن استئجار الزوج لها جائز إذ أن الرضاعة لو كانت محتمة على الأم لم يكن على الأب أجرة ولهذا قال الله تعالى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (3) ومن المعروف بذل الأجرة للأم إذا رغبت في إرضاعه بأجر ولو كانت في عصمة الزوج.
وأجاب أصحاب هذا القول عن استدلال أصحاب القول الأول بأن عقد الرضاعة يمنع الزوج من استيفاء حقه من الاستمتاع: بأن الاستئجار رضى بترك حقه في الاستمتاع خاصة إذا كان الرضاع لا يمنعه من الاستمتاع ولا ينقصه حقه (4) ثم إنه إذا استأجرها فقد أذن لها في إجارة نفسها فصح كما يصح من الأجنبي (5) .
وأجابوا عن استدلال أصحاب القول الأول بكون المنافع مملوكة للزوج غير صحيح لأن الزوج لو ملك منفعة الحضانة لملك إجبارها عليها، ولم تجز إجارة نفسها لغيره بإذنه ولكانت الأجرة له (6) .
قلت وهذا يختلف عن الإرضاع إذ أنه يتعين على المرأة في بعض الحالات كما سبق (7) بخلاف تأجير نفسها للغير فلا يتعين عليها البتة لانشغالها بخدمة زوجها والرضاع جزء من هذه الخدمة.
والزوج كيف له أن يؤجرها لإرضاع ولدها في الوقت الذي يقوم بالإنفاق عليها وقوله تعالى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (8)
__________
(1) انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 ص525 مطبعة الحلبي.
(2) سورة الطلاق الآية 6
(3) سورة البقرة الآية 233
(4) انظر مغني المحتاج ج3 ص450 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر نهاية المحتاج ج7 ص222 مطبعة الحلبي.
(5) انظر المغني لابن قدامة ج7 ص628 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
(6) انظر المغني لابن قدامة ج7 ص628 الناشر مكتبة الرياض الحديثة.
(7) ص12.
(8) سورة الطلاق الآية 6(22/180)
فهذه الآية خاصة بالمطلقات إذ أن الزوج لا ينفق عليها مما يوجب لها الأجرة أثناء الرضاع أما الزوجات اللاتي بعصمة الزوج فأوجب القرآن لهن الرزق والكسوة بالمعروف ولا زيادة على ذلك وتدخل نفقة الطفل ضمن نفقة أمه لكونه يتغذى بغذائها سواء كانت حاملا أم مرضعا (1) وهذا يؤكد أن المرأة بعصمة زوجها لا تستحق أجرة لرضاع ولدها وأن القول الأول أرجح.
__________
(1) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج34 ص64، 65 تصوير الطبعة الأولى.(22/181)
المبحث الخامس: بذل الأجرة للمطلقة البائن
بذل الأجرة للمطلقة البائن لا يخلو إما أن يكون البذل لها في العدة أو بعدها ففي جواز استئجار المعتدة البائن لإرضاع طفلها روايتان عند الحنفية.
فظاهر الرواية أنه يجوز لأن النكاح قد زال فهي كالأجنبية وقد حكى ابن تيمية اتفاق العلماء على استحقاق المعتدة البائن أجر الرضاع كما قال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (1) .
غير أن هذا الاتفاق ينظر فيه بما صحح في الجوهرة وفي رواية الحسن أنه لا يجوز عند الحنفية استئجار المرأة المعتدة من طلاق بائن لإرضاع طفلها لأن حكم النكاح باق في حق بعض الأحكام (2) .
أما بعد العدة فيجوز استئجارها بالاتفاق لزوال النكاح بالكلية لإجماع العلماء الذي دل عليه قوله تعالى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (3) .
__________
(1) سورة الطلاق الآية 6
(2) انظر لسان العرب مادة نفق د10 ص357 دار صادر.
(3) سورة الطلاق الآية 6(22/181)
المبحث السادس: نفقة المرأة على أولادها
المرأة إذا كانت أمة مكاتبة ولها أولاد دخلوا معها الكتابة فيرى الحنفية(22/181)
أن نفقتهم واجبة عليها لتبعيتهم لها في الكتابة ولأن كسبه وإرش الجناية عليه وإرثه لها (1) وإلى هذا ذهب المالكية (2) والحنابلة (3) .
مسألة:
يرى الحنفية إجبار المرأة الحرة إذا كانت موسرة بالإنفاق على أولادها إذا كان أبوهم عبدا.
__________
(1) انظر المبسوط للسرخسي ج5 ص199، 209 طبع دار المعرفة.
(2) انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2 ص525 مطبعة الحلبي.
(3) انظر المغني لابن قدامة ج7 ص599 الناشر مكتبة الرياض الحديثة.(22/182)
المبحث السابع: مشاركة الأب والأم أو غيرهما في نفقة الطفل
الطفل كائن حي اعتني فيه وروعيت حاجاته ومتطلباته من خلال الإلزام بنفقته سواء على أسرته أو بيت مال المسلمين.
والأسرة قد تكون أما وأبا وقد يكون غيرهما، لذا نرى الحنفية يقررون وجوب نفقة الطفل على أصوله الوارثين له كالأم والجد لأب أو الأم والعم أو الأم والأخ فعلى ظاهر الرواية عندهم تلزمهما النفقة على قدر ميراثهما أثلاثا لقوله تعالى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} (1) فقد اعتبر صفة الوراثة في حق غير الأب فدل على أن النفقة تجب على الورثة حسب الميراث.
ولقد لاحظ الفقهاء منهم حالة اليسر والعسر فبعضهم لم يوجب على العم مع الأم نفقة أثناء فترة الرضاع باعتبار أن الأم موسرة باللبن والعم معسر به في هذه الفترة لكن ظاهر الرواية أن قدرة العم على تحصيل اللبن بما له يجعله موسرا به ولهذا كان عليهما أثلاثا.
أما إذا كان العم فقيرا والأم غنية فالرضاع والنفقة على الأم لأن النفقة مستحقة على العم في ماله لا في كسبه والمعسر ليس له مال فلا يلزمه شيء من النفقة وتكون بهذا لازمة على الأم (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 233
(2) انظر المبسوط للسرخسي ج5 ص209 طبع دار المعرفة.(22/182)
وحيث ما قالوا بالوجوب قالوا يرجعا على الأب إذا أيسر (1) .
وقال في البحر إن الوجوب على الأب المعسر إنما هو إذا أنفقت الأم الموسرة وإلا فالأب كالميت والوجوب على غيره لو كان ميتا ولا رجوع عليه في الصحيح (2) والجد لأب لا يطالب عند الحنفية بالنفقة مع وجود الأب إلا إذا كانت الأم معسرة. كما تلزم الجد النفقة إذا مات والد الطفل أو كان والده زمنا (3) فهنا تلزم الجد النفقة بالاتفاق لأن نفقة الأب واجبة على الجد بالاتفاق فكذا نفقة صغاره. والأم لا تشارك الجد النفقة لو كان معها أخ عاصب أو ابن أخ أو عم لأن الجد يحجب هؤلاء عن الإرث لتنزيله معهم منزلة الأب حيث لا يرثون بوجوده فكذا الجد هنا تلزمه النفقة وحده دون مشاركة الأم له.
أما إذا لم يكن معها أحد من هؤلاء بل صار للولد الفقير أم وجد لأب فقط فإن الجد لم ينزل منزلة الأب. لذا يجب النفقة عليهما أثلاثا في ظاهر الرواية (4) كما سبق آنفا.
وهم يقولون بسقوط النفقة عن المحجوب عن الميراث فإن كان للطفل أم وأخ لأب وعم وهم أغنياء فالرضاع على الأم والأخ لأب أثلاثا بحسب الميراث ولا شيء من ذلك على العم لأنه ليس بوارث مع الأخ، والغرم مقابل الغنم والنفقة تجب على من يكون الغنم له إذا مات الولد.
وهم يوجبون النفقة بعد الأب على ذي الرحم المحرم الغني حسب الميراث وتسقط عن الفقير فإن كانت الأم فقيرة وللولد عمة وخالة غنيتان فالنفقة عليهما أثلاثا على العمة الثلثان وعلى الخالة الثلث لأن الأم الفقيرة كالمعدومة والميراث بين العمة والخالة أثلاثا فكذا النفقة عليهما أثلاثا ولا تلزم الوارث من غير ذي الرحم المحرم فلو كان للطفل ابن عم يرثه
__________
(1) انظر لسان العرب مادة نفق د10 ص357 دار صادر.
(2) انظر حاشية ابن عابدين ج3 ص615 الطبعة الثانية سنة 1386هـ.
(3) الزمن هو من به مرض يمنعه عن الكسب. حاشية ابن عابدين ج3 ص614 الطبعة الثانية سنة 1386هـ.
(4) انظر حاشية ابن عابدين ج3 ص625 الطبعة الثانية سنة 1386هـ.(22/183)
فإنه ليس بذي رحم فلا شيء عليه من النفقة ويلزم بها العمة والخالة أثلاثا وإن كان الميراث لابن العم (1) . ولو كان مع الأم وارث من الحواشي كأخ عاصب أو ابن أخ أو عم فعلى الأم ثلث النفقة وعلى العصبة الثلثان (2) .
والمالكية لا يوجبون النفقة على جد ولا على جدة من قبل الأب أو الأم ولا على أحد من الأخوة وسائر ذوي المحارم وذلك باعتبار أن الجد ليس بأب حقيقي (3) وغيره لا يقوم مقامه في وجوب النفقة.
أما الشافعية:
فيرون أن الطفل إذا كان له أم وجد لأب موسران فالنفقة على الجد لأن له ولادة وتعصيبا فقدم على الأم كالأب (4) .
ولأن الأحفاد ملحقون بالأولاد لقوله تعالى {يَا بَنِي آدَمَ} (5) فولد الولد يقع عليه مسمى ابن مما يدل على وجوب النفقة على الأجداد (6) لهذا نرى الشافعية يجعلون الجد لأب مع الأم كالأب في وجوب النفقة على الأصح عندهم (7) .
والأجداد والجدات إن أولى بعضهم ببعض فالأقرب منهم فالأقرب تلزمه النفقة لكون القرب أدلى بالاعتبار.
وإن لم يدل بعضهم ببعض فبالقرب يعتبر لزوم النفقة.
وقيل يعثر بالإرث. وقيل بولاية المال لأنها تشعر بتفويض التربية إليه باعتبار أنها الجهة التي لها حق الولاية.
وهم يرون أن النفقة لا تجب على من عدا المولودين فلا تلزم النفقة الأخوة ولا الأعمام ولا غيرهم (8) .
__________
(1) انظر المبسوط للسرخسي ج5 ص209 طبع دار المعرفة وانظر بدائع الصنائع ج4 ص33 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
(2) انظر حاشية ابن عابدين ج3 ص625 الطبعة الثانية سنة 1386هـ.
(3) انظر المغني لابن قدامة ج7 ص583 الناشر مكتبة الرياض الحديثة.
(4) انظر المجموع شرح المهذب ج17 ص181 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة.
(5) سورة الأعراف الآية 31
(6) انظر المجموع شرح المهذب ج17 ص172 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة.
(7) انظر مغني المحتاج ج3 ص451 طبع دار إحياء التراث العربي.
(8) انظر المجموع شرح المهذب ج17 ص172 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة.(22/184)
والحنابلة: يوجبون النفقة على الأجداد والجدات وإن علوا لقوله تعالى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} (1) ولأن الطفل يدخل في مطلق اسم الولد في قوله تعالى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (2)
ولأن بينهما قرابة توجب العتق ورد الشهادة فأشبه الولد والوالد القريبين. والحنابلة يشترطون في المنفق أن يكون وارثا لأن بين المتوارثين صلة تقتضي كون الوارث أحق بمال الموروث من سائر الناس فينبغي أن يختص بوجوب صلته بالنفقة دونهم، فإن لم يكن وارثا لعدم القرابة لم تجب عليه النفقة لذلك.
ويرى الحنابلة سقوط النفقة عن المحجوب عن الميراث إلا إذا كان الحاجب له معسرا فقيل تجب عليه النفقة لعسر حاجبه ففي أب معسر وجد موسر النفقة على الجد وفي أم معسرة وجدة موسرة النفقة على الجدة وهذا بشرط أن يكون المحجوب من عمودي النسب إما إذا كان من غير عمودي النسب فلا تجب النفقة عليه والرواية الثانية سقوط النفقة عن المحجوب ولو كان من عمودي النسب وهي المذهب عندهم (3) .
أما ذوو الأرحام الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب فلا نفقة عليهم إن كانوا من غير عمودي النسب فالخالة والعمة لا نفقة عليهما رواية واحدة وهي المذهب وذلك لأن قرابتهما ضعيفة حيث يأخذون المال عند عدم الوارث فهم كسائر المسلمين. وقيل تلزمهم النفقة عند عدم العصبات وذوي الفروض لأنهم وارثون في تلك الحال.
أما عمودا النسب فذكر القاضي ما يدل على أنه يجب الإنفاق عليهم سواء أكانوا من ذوي الأرحام كابن البنت أو كانوا محجوبين أو
__________
(1) سورة البقرة الآية 233
(2) سورة النساء الآية 11
(3) انظر الإنصاف ج9 ص398.(22/185)
وارثين وذلك لأن قرابتهم قرابة جزئية وبعضية تقتضي رد الشهادة وتمنع جريان القصاص على الوالد بقتل الولد وإن سفل فأوجبت النفقة على كل حال كقرابة الأب الأدنى.
وحاصله أن الصبي الفقير في ظاهر المذهب إن لم يكن له أب أجبر وارثه الموسر على نفقته على قدر ميراثه منه.
فإذا كان للولد أم وجد فعلى الأم ثلث النفقة وعلى الجد ثلثاها وحكي عن أحمد في الصبي المرضع لا أب له ولا جد نفقته وأجرة رضاعه على الرجال دون النساء وقيل إن نفقته على العصبات.(22/186)
النوع الثاني: نفقة الأولاد الكبار
يرى الحنفية أن نفقة البنت البالغة التي لم تتزوج وليس لها مال والابن البالغ الزمن الفقير على الأب خاصة في ظاهر الرواية وعليه الفتوى. وهو مذهب المالكية في البنت البالغة والابن البالغ المجنون أو العاجز لمرض ونحوه على المشهور عندهم.
وهو قول للشافعية استصحابا لوجوبها عليه في الصغر.
وهو قول عند الحنابلة وعليه المذهب سواء كان الولد زمنا أو صحيحا مكلفا وهو لا حرفة له فنفقته واجبة لعجزه عن الكسب.
وقال بعض الحنفية (1) على الأب ثلثاها وعلى الأم الثلث باعتبار الإرث ولأنه ليس للأب ولاية على الكبير فتشاركه الأم في النفقة (2) .
وهم يرون أن من تجب عليه نفقة الكبار وأعسر في نفقتهم ولزمت غيره وأنفق فلا يرجع على من كانت النفقة واجبة عليه، لأنها لا تجب مع الإعسار وبهذا الرأي قال المالكية (3) .
__________
(1) الحسن والخصاف.
(2) انظر لسان العرب مادة نفق د10 ص357 دار صادر.
(3) انظر الكافي في فقه أهل المدينة ج2 ص629 الناشر مكتبة الرياض الحديثة.(22/186)
ويرى الشافعية في قول لهم أن نفقة الكبار على الأب والأم لاستوائهما في القرب ولأن الولاية ولاية الأب قد زالت بكبر الولد (1) وهل يسوى بين الأب والأم في وجوبها؟ أم يجعل بينهما أثلاثا بحسب الإرث؟ وجهان أرجحهما الثاني (2) .
والولد الكبير البالغ لا تجب نفقته على أحد إذا كان غنيا مكتسبا صحيح الجسم (3) سوى من لا يستأجره الناس لمنزلته الرفيعة بينهم أو لكونه لا يحسن العمل.
ومن يشتغل في طلب العلم ويمنعه عن الكسب فيعد في حكم العاجز ويجبر من تلزمه نفقته بالإنفاق عليه كأبيه.
ويرى المالكية في قول لهم أن نفقة الصغير تنتهي ببلوغه كالصحيح.
__________
(1) انظر مغني المحتاج ج3 ص451 طبع دار إحياء التراث العربي.
(2) انظر مغني المحتاج ج3 ص451 طبع دار إحياء التراث العربي.
(3) انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3 ص62 طبع سنة 1313هـ.(22/187)
الفصل الثاني
نفقة الأصول
وفيه عدة مباحث:
المبحث الأول: في وجوب نفقة الآباء والأمهات
نفقة الآباء والأمهات واجبة على أولادهم من الذكور والإناث لقوله تعالى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (1) وليس من المعروف أن يعيش الولد في نعم الله ويتركهما يموتان جوعا ومن المعروف القيام بكفايتهما عند حاجتهما.
ولقوله تعالى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (2) ومن الإحسان أن ينفق عليهما عند حاجتهما للإنفاق.
__________
(1) سورة لقمان الآية 15
(2) سورة الإسراء الآية 23(22/187)
وقوله تعالى {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} (1) ففي هذه الآية نهي عن التأفيف لمعنى الأذى ومنع النفقة عند حاجتهما يكون به معنى الأذى وأكثر ولهذا يلزمه نفقتهما وإن كانا قادرين على الكسب لأن معنى الأذى في الكد والتعب أكثر منه في التأفيف (2) . ولما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه فكلوا مما كسب أولادكم (4) » .
ففي هذا الحديث بيان وأمر بالأكل من مال الولد مما يدل على أن نفقة الآباء واجبة في مال الولد.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن أولادكم هبة لكم يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور وأموالهم لكم إذا احتجتم إليهم (6) » .
ففي هذا الحديث جعل الرسول صلى الله عليه وسلم مال الولد هبة للوالد إذا احتاج إليه مما يدل على وجوب نفقة الوالد على ولده.
وقال ابن المنذر: وأجمع أهل العلم على أن نفقة الوالدين اللذين لا كسب لهما ولا مال واجبة في مال الولد.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) انظر المبسوط للسرخسي ج5 ص212 طبع دار المعرفة.
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الإجارة باب الرجل يأكل من مال ولده وقد سكت عنه وقال المنذري وهو حديث حسن \ عون المعبود شرح سنن أبي داود ج9 ص445 الطبعة الثالثة سنة 1399 هـ. وأخرجه النسائي في كتاب البيوع باب الحث على الكسب \ سنن النسائي ج7 ص241 طبع دار إحياء التراث العربي. وأخرجه الترمذي في كتاب الأحكام باب ما جاء في أن الوالد يأخذ من مال ولده \ قال أبو عيسى هذا الحديث حسن صحيح \ السنن للترمذي ج3 ص639 طبع دار إحياء التراث العربي. وأخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات باب الحث على المكاسب \ سنن ابن ماجه ج2 ص723 طبع دار إحياء التراث العربي. وأخرجه الدارمي في كتاب البيوع باب في الكسب وعمل الرجل بيده \ سنن الدرامي ج2 ص247 توزيع دار الباز للنشر والتوزيع. وأخرجه أحمد في مسنده ج6 ص173 الناشر المكتب الإسلامي. وأخرجه الحاكم في كتاب البيوع - ولد الرجل من كسبه \ قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأخرجه من طريق آخر عن عائشة وصححه الذهبي \ المستدرك على الصحيحين ج2 ص46 طبع دار الفكر ببيروت.
(4) (3)
(5) أخرجه الحاكم في كتاب التفسير - أولادكم هبة الله وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه \ المستدرك على الصحيحين ج2 ص284 طبعة دار الفكر سنة 1398هـ. وأخرجه البيهقي في كتاب النفقات باب نفقة الأبوين. قال البيهقي وهو بهذا الإسناد غير محفوظ. وذلك لزيادة إذا احتجتم إليهم وقال سفيان هذا وهم من حماد وقال عبد الله بن المبارك سألت أصحاب سفيان عن هذا الحديث فلم يحفظوا. السنن الكبرى للبيهقي ج7 ص480 الطبعة الأولى وقال أبو داود: حماد بن أبي سليمان زاد فيه إذا احتجتم إليهم وهو منكر \ عون المعبود شرح سنن أبي داود ج9 ص445 الطبعة الثالثة سنة 1399هـ.
(6) انظر فتح القدير لابن الهمام ج4 ص223 طبع دار إحياء التراث العربي. (5)(22/188)
المبحث الثاني: في وجوب نفقة الأجداد والجدات
نفقة الأجداد والجدات وإن علوا واجبة على أبنائهم عند جمهور العلماء خلافا للمالكية الذين لا يرون وجوب نفقة الجد على ابن الابن لوجوب نفقته على ابنه فلا تنتقل إلى بنيه (1) .
واستدل الجمهور بقوله تعالى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} (2) وولد الولد يرث الجد جملة فوجبت عليه نفقته.
__________
(1) انظر حاشية العدوى ج2 ص124 مطبعة الحلبي.
(2) سورة البقرة الآية 233(22/188)
ولأن الجد يدخل في مطلق اسم الوالد في قوله تعالى {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} (1) وفي قوله تعالى {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (2) ولأن الأجداد والجدات من الآباء والأمهات وملحقون بهم وإن لم يدخلوا في عموم ذلك كما ألحقوا بهم في العتق والملك وعدم القود ورد الشهادة وغير ذلك فأشبهوا الوالد القريب ثم إنهم قد تسببوا في إحيائه فاستوجبوا عليه الإحياء كالأبوين (3) مما يوجب نفقتهم على أولادهم وإن نزلوا.
ووجوب نفقة الأجداد والجدات على أولادهم وإن نزلوا هو الأولى لتأكد عجزهم في الغالب عن العمل لكبر سنهم ولاحتمال عجز أبنائهم لكبر أو عدم مقدرة على الكسب ولأن الإسلام يحث على التكافل بين المسلمين عموما والأجداد أولى بذلك.
__________
(1) سورة النساء الآية 11
(2) سورة الحج الآية 78
(3) انظر تبيين الحقائق ج3 ص63 طبع سنة 1313هـ.(22/189)
المبحث الثالث: شرط وجوب نفقة الأصول
والنفقة الواجبة هذه إنما تكون بالشروط التالية:
يسار المنفق يسارا يحرم الصدقة عليه عند الحنفية واكتفى الشافعية بيسار المنفق لأنها مواساة فاعتبر فيها اليسار (1) .
والمالكية جعلوا اليسار بما زاد عن حاجة النفس ولا يلزم المنفق الكسب لأجل الإنفاق على أصوله.
والحنابلة جعلوا يسار المنفق بما زاد عن حاجة نفسه.
ويرى الخصاف من الحنفية عدم اليسار في نفقة الأصول بل يكفي القدرة على الكسب والمعتمد عندهم خلافه (2) .
أن يكون المنفق عليه فقيرا سواء كان قادرا على الكسب أم غير قادر عليه في ظاهر الرواية عند الحنفية ويرى المالكية أن النفقة هذه
__________
(1) انظر مغني المحتاج ج3 ص447 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر نهاية المحتاج ج7 ص218 مطبعة الحلبي.
(2) انظر حاشية ابن عابدين ج3 ص622 الطبعة الثانية سنة 1386هـ.(22/189)
تكون للفقير ولا يشترط عجزه عن الكسب وبذلك قال الشافعية لأنه يقبح على الإنسان أن يكلف قريبه الكسب مع اتساع ماله (1) . ولتأكيد حرمة الأصل (2) . ولأن الفرع مأمور بمعاشرة أصله بالمعروف وليس منها تكليفه الكسب مع كبر سنه (3) .
وأوجب الحنابلة النفقة على فقير لا مال له ولا كسب يستغني به عن إنفاق غيره عليه.
ويرى الحلواني من الحنفية أن الابن الكاسب لا يجبر على نفقة الأب الكاسب لأنه كان غنيا باعتبار الكسب فلا ضرورة من إيجاب النفقة على الفقير (4) واشترط اللخمي من المالكية عجز الوالدين عن الكسب في وجوبها على الولد (5) .
أن لا يكون المنفق عليه مرتدا أو حربيا إذ لا حرمة لهما لأنه مأمور بقتلهما (6) ولأن النفقة تستحق بالصلة وقد انقطعت معهما (7) .
وزاد الحنابلة على ذلك بعدم وجوب النفقة مع اختلاف الدين وبه قال المالكية في قول لهم (8) .
__________
(1) انظر مغني المحتاج ج3 ص448 وانظر نهاية المحتاج ج7 ص220 مطبعة الحلبي.
(2) انظر مغني المحتاج ج3 ص448 وانظر حاشية الشرقاوي ج2 ص349.
(3) انظر مغني المحتاج ج3 ص448 وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2 ص140 وانظر نهاية المحتاج ج7 ص220.
(4) انظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج1 ص499.
(5) انظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج2 ص98، 99.
(6) انظر مغني المحتاج ج3 ص447 وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2 ص140 وانظر قليوبي وعميرة ج4 ص84.
(7) انظر المبسوط للسرخسي ج3 ص228 طبع دار المعرفة وانظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3 ص63 طبع دار المعرفة.
(8) انظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج2 ص98 طبع سنة 1333هـ.(22/190)
المبحث الرابع: كيفية وجوب نفقة الأصول بين الأولاد
ذهب الحنابلة إلى أن النفقة تجب حسب الميراث فلو اجتمع ابن وبنت فالنفقة بينهما أثلاثا كالميراث وإن كانت بنت وابن ابن فالنفقة بينهما نصفين وإن كانت له بنت وابن بنت فالنفقة على البنت باعتبار الإرث لقوله تعالى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} (1) ولأن إيجابها على
__________
(1) سورة البقرة الآية 233(22/190)
ابن البنت خلاف النص لكونه ليس بوارث ولا عاصب فلا معنى لإيجابها عليه دون البنت الوارثة (1) غير أنهم يرون أن نفقة الجد تجب مع الحجب إن كان الحاجب معسرا وهو الصحيح من المذهب.
وهذا القول في وجوب النفقة حسب الميراث قول عند الحنفية عند تساويهما في اليسار والشافعية إذا تساويا في القرب وعند المالكية إذا تساويا في اليسار في نفقة الأب والأم.
وذهب الحنفية على ظاهر الرواية والصحيح عندهم إلى أن النفقة تجب بين البنت والابن بالسوية ولو أحدهما فائق في اليسار لتعلق الوجوب بالولادة وهو يشملهما بالسوية بخلاف غير الولادة فإن الوجوب منه علق بالإرث حيث المعتبر في نفقة الأصول القرب والجزئية لا الإرث فلو كان له بنت وابن ابن فالنفقة كلها على البنت لأنها أقرب مع أن إرثه لهما نصفان، ولو كان له بنت بنت وأخ فنفقته كلها على بنت البنت لأنها جزء جزئه مع استوائهما في القرب مع أن كل إرثه للأخ لأنها محجوبة حجب حرمان عن الإرث بالأخ وهو قول المالكية إذا كان الأولاد موسرين.
وهذا القول هو الصحيح عند الشافعية لأن القرب أولى بالاعتبار وذهب المالكية في الراجح من أقوالهم (2) والحنفية في قول لهم إلى أن النفقة تجب على الموسرين على قدر يسارهم.
وللمالكية قول آخر بوجوب النفقة على الموسر من الأولاد دون غيرهم (3) .
مع ملاحظة أنهم لا يوجبون نفقة المرأة على أحد سوى أبويها الفقراء.
__________
(1) انظر المغني لابن قدامة ج7 ص591 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
(2) انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2 ص524 مطبعة الحلبي.
(3) انظر القوانين الفقهية لابن جزي ص148 وانظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2 ص523 مطبعة الحلبي.(22/191)
الفصل الثالث
نفقة القرابة من غير الفروع والأصول
نفقة القرابة من غير الفروع والأصول اختلف العلماء في وجوبها على قولين:
القول الأول:
وجوب النفقة لكل ذي رحم محرم صغيرا كان، أو أنثى ولو كانت بالغة صحيحة، أو كان الذكر بالغا مع عجزه عن الكسب بنحو زمانه أو مرض أو لأي سبب مشروع يمنعه من الكسب (1) وإلى هذا ذهب الحنفية والحنابلة. غير أن الحنابلة جعلوا النفقة على الأقارب غير عمودي النسب حسب الإرث لا الرحم وألزموا بالنفقة من يرث بالفرض أو التعصيب سواء ورثه الآخر أو لا كعمته وعتيقه وهذا هو المذهب (2) .
وهل يشترط عند الحنابلة الإرث بالحال قيل يشترط وهو الصحيح فلا نفقة على بعيد موسر " يحجبه " قريب معسر.
وقيل يشترط ذلك جملة لكن إن كان يرثه بالحال ألزم بها مع اليسار دون الأبعد وإن كان فقيرا جعل كالمعدوم ولزمت الأبعد الموسر (3) .
والحنفية يرون أن الوارث المعسر لا يحجب غيره عن النفقة فيصير كما لو كان ميتا.
واشترطوا فيمن تجب له النفقة أن يكون فقيرا عاجزا عن الكسب يستغني به عن إنفاق غيره فإن كان موسرا بمال أو كسب يستغني به فلا
__________
(1) انظر حاشية ابن عابدين ج3 ص628 الطبعة الثانية سنة 1386هـ.
(2) انظر الإنصاف ج9 ص393.
(3) انظر الإنصاف ج9 ص394.(22/192)
نفقة له لأنها تجب على سبيل المواساة والموسر مستغن عن المواساة.
كما اشترط الحنفية اليسار فيمن تجب عليه النفقة وإن كان قادرا على الكسب لأن وجوب هذه النفقة عن طريق الصلة، والصلات تجب على الأغنياء لا الفقراء (1) . وحد اليسار الذي يتعلق به وجوب هذه النفقة توفر نصاب الزكاة. وقيل ما فضل عن نفقة شهر له ولعياله. وقيل حد اليسار من كان له كسب دائم وهو غير محتاج إلى جميعه فما زاد عن كفايته وجب صرفه إلى أقاربه (2) واكتفى الحنابلة في وجوب النفقة بوجود ما يفضل عن نفقة نفسه إما من ماله وإما من كسبه فأما من لا يفضل عنه شيء فليس عليه شيء. واشترط الحنفية (3) والحنابلة لوجوب نفقة القرابة من غير الفروع والأصول اتفاق الدين.
__________
(1) انظر بدائع الصنائع ج4 ص35 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
(2) انظر المرجع السابق.
(3) انظر ص36 رقم 1 من كتب المذهب الحنفي.(22/193)
القول الثاني:
أن نفقة القرابة من غير الفروع والأصول غير واجبة ولا يلزم الإنسان أن ينفق على أحد من الإخوة أو الأخوات ولا سائر ذوي المحارم وإلى هذا ذهب المالكية والشافعية.
واستدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه في «الرجل الذي معه دينار وآخر حتى قال صلى الله عليه وسلم " وأنت أعلم به (1) » ولم يأمره أن ينفق على أقاربه فدل على عدم وجوب نفقة الأقارب.
واعترض على ذلك بعدم ذكر نفقة الوالد مع وجوبها.
وأجيب عن ذلك بأن النص على نفقة الولد يكفي لوجوب نفقة الوالد لأنه آكد حرمة من الولد (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم عن جابر في كتاب الزكاة باب الابتداء في النفقة بالنفس ثم الأهل ثم الأقارب \ صحيح مسلم بشرح النووي ج7 ص83 المطبعة المصرية وأخرجه النسائي عن أبي هريرة في كتاب الزكاة باب الصدقة عن ظهر غنى \ سنن النسائي ج5 ص62 طبع دار إحياء التراث العربي.
(2) انظر المجموع شرح المهذب ج17 ص177 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة.(22/193)
ويرد على ذلك بأن ترك ذكر النفقة لا يعني عدم شرعيتها لاحتمال تقرير ذلك في موضع آخر كما هو في نفقة الوالد.
ولاحتمال معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا الرجل لا أقارب له وبالتالي أخبره بحاله فقط دون الإشارة إلى بيان إنفاقه على أقاربه.
واستدلوا أيضا بأن الشرع أورد إيجاب نفقة الوالدين والمولودين، ومن سواهم لا يلحق بهم في الولادة وأحكامها فلم يلحق بهم في وجوب النفقة (1) .
ويجاب عن ذلك بأن هذا القياس مع الفارق لأن النفقة صلة والإنسان مأمور بصلة أقاربه ومنع الموسر نفقته على أقاربه وهم محتاجون إليه فيه توريث للقطعية والشحناء في النفوس المنهي عنها فدل ذلك على أن شرعية النفقة لا تثبت بأحكام الولادة وإنما تثبت بالقرابة الموجبة للصلة وعدم القطعية.
والنفقة من المنفق كالإرث من المورث فيها غرم ونقل للمال من شخص لآخر فكذا النفقة فيها غنم للمنفق عليه كغنم الوارث للمال من مورثه فوجبت على القريب الوارث نفقة قريبه.
ولهذا استدل الحنفية والحنابلة بوجوب هذه النفقة بقوله تعالى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} (2) فكما هو يغنم هو يغرم أيضا وتلزمه بذلك نفقة أقاربه الذين يحق له إرثهم.
وأجاب المانع لهذه النفقة بأن المراد من هذه الآية نفي المضارة كما أوضح ذلك ابن عباس وهو أعلم بكتاب الله.
ويجاب عن ذلك بأن هذا معطوف على قوله تعالى
__________
(1) انظر المرجع السابق ج17 ص172، 177.
(2) سورة البقرة الآية 233(22/194)
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (1) فقال قتادة والسدي والحسن وعمر بن الخطاب رضي الله عنه هو وارث الصبي أن لو مات قلت: والوارث قد لا يكون من الفروع أو الأصول مما يوجب نفقة مثل هؤلاء على أقاربهم الوارثين لهم.
ونفقة الأقارب عموما هي جزء من الصلات المشروعة بين الأقرباء وإذا انقطعت نفقة الأغنياء الموسرين عن أقربائهم المحتاجين فأي صلات تبقى وأي رحم يوصل.
إن في مثل هذه النفقات لتمييزا بارزا للمسلمين عن غيرهم من الأمم الأخرى التي لا تعنى بأوجه الصلات المحمودة ولذا أوجبها بعض العلماء مع اختلاف الدين ومنعها آخرون فإذا كانت تجب لغير المسلمين وفق ضوابطها لكونها صلة فوجوبها مع اتحاد الدين أولى لتقرير تلك الصلة المشروعة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 233(22/195)
مقدار النفقة الواجبة للقريب من غير الفروع والأصول.
هذه النفقة تجب بقدر الإرث لأن الله تعالى رتب النفقة على قدر الإرث في قوله تعالى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} (1) فوجب أن يرتب مقدار النفقة على قدر الإرث.
فمن يرث المال كله يجب عليه جميع النفقة. وأما من يرث جزءا منه فعليه النفقة بمقدار الجزء الموروث وهكذا.
__________
(1) سورة البقرة الآية 233(22/195)
الموضوع الثاني: نفقة خادم المرأة.
يرى الحنفية أنه يجب على الزوج الموسر نفقة خادم المرأة المتفرغ لخدمتها إذا لم يكن للخادم عمل غير ذلك خلافا لمحمد الذي(22/195)
يوجب النفقة للخادم مع اعتبار الزوج والأول أصح.
واختلفوا في هذا الخادم فقيل هي جارية مملوكة لها وإن كانت غير مملوكة لا تستحق النفقة في ظاهر الرواية عندهم ذلك أن استحقاق النفقة بسبب الملك له فإذا لم يملك لم تجب نفقته.
والقول الثاني عندهم على الزوج نفقة الخادم ولو حرا إذا كانت الزوجة حرة.
وإلى وجوب نفقة الخادم ذهب المالكية إذا كان الزوج ذا سعة وهي ذات قدر ليس شأنها الخدمة أو هو ذا قدر تزري خدمة زوجته به فتستحق الإخدام بهذا المعنى سواء أكان بأجرة أو بشراء.
وبالوجوب في إخدام الزوجة ذهب الشافعية فأوجبوا على الزوج إخدام زوجته الحرة إذا كانت لا يليق بها إخدام نفسها بأن كانت تخدم في بيت أبيها أو لا يخدم مثلها إلا أنها تحتاج للخدمة لمرض أو زمانة ونحو ذلك.
وقرر الحنابلة ذلك إذا احتاجت المرأة إلى من يخدمها لكون مثلها لا تخدم نفسها بلا خلاف عندهم في هذا لمرض فيها على الصحيح من المذهب واشترطوا لذلك قدرة الزوج على تلك النفقة.
واستدلوا على مشروعية الإخدام والإنفاق عليه بقوله تعالى {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (1) والإتيان بخادم يخدمها والإنفاق عليه من المعاشرة بالمعروف ولأنه لا بد لها من خادم يقوم بخدمتها ويهيئ لها أمر بيتها حتى تتفرغ لحوائجه وقياسا على وجوب نفقتها عليه فتجب نفقة خادمها بجامع أن نفقة كل واحد منهما لمنفعة تعود إليه (2) .
__________
(1) سورة النساء الآية 19
(2) انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3 ص53 طبع سنة 1313هـ.(22/196)
ولأن الزوج محتاج إلى القيام بحوائجها وأقرب ذلك إصلاح الطعام لها وخادمها ينوب عنها في ذلك (1) . .
فمما سبق نرى أن ظاهر الرواية عن الحنفية تلزم المرأة بالإنفاق على خادمها إن كانت غير مملوكة لها أو كان الزوج غير موسر.
والمالكية جعلوا نفقة خادم المرأة عليها إن لم يكن الزوج ذا سعة ورغبت المرأة في إخدام نفسها.
والحنفية لم يلزموا الزوج بإخدام زوجته إذا كانت لا تستحق الإخدام لكون مثلها لا يخدم (2) أو أنها لا تخدم زوجها في الطبخ والخبز وأعمال البيت فإذا امتنعت عن مثل ذلك فلا نفقة لمن يخدمها عندهم (3) وإذا رغبت في الإخدام فيلزمها هي دون غيرها.
وبهذا قال المالكية إذا لم تكن المرأة أهلا للخدمة أو كان الزوج غير ذي قدر أو كانت أهلا والزوج فقير (4) .
وإلى هذا القول ذهب الحنابلة. والشافعية لم يوجبوا الخدمة على الزوج إذا كانت زوجته تخدم نفسها ولا علة أو حاجة لها في الإخدام (5) .
والحنفية يرون أنه لا يفرض لها أكثر من خادم واحد عند أبي حنيفة ومحمد وأبي يوسف في المشهور عنه.
وقال أبو يوسف في غير المشهور عنه يفرض لها خادمين أحدهما لمصالح داخل البيت والآخر لمصالح خارجه. والقول بالخادم الواحد هو المذهب عند الحنفية (6) .
__________
(1) انظر المبسوط للسرخسي ج5 ص181 طبع دار المعرفة.
(2) انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3 ص54 طبع سنة 1313هـ.
(3) انظر حاشية ابن عابدين ج3 ص589 الطبعة الثانية سنة 1386هـ.
(4) انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2 ص511 مطبعة الحلبي وانظر حاشية العدوي ج2 ص124 مطبعة الحلبي.
(5) انظر مغني المحتاج ج3 ص432، 434 وانظر الإقناع ج2 ص146 وانظر نهاية المحتاج ج7 ص197.
(6) انظر حاشية ابن عابدين ج3 ص590 الطبعة الثانية سنة 1386هـ.(22/197)
وعن أبي يوسف أن المرأة إذا كانت فائقة في الغنى وزفت إلى الزوج بخدم كثر استحقت نفقة الجميع (1) .
ويرى المالكية أنه إذا لم يكف خادمة واحدة لزم الزوج أكثر من خادمة وفي قول لهم أن الزوج لا يلزمه أكثر من خادم واحد (2) .
والقول بالخادم الواحد ذهب إليه الشافعية (3) إلا إذا كانت الزوجة مريضة وتحتاج لأكثر من واحد فيجب بقدر الحاجة (4) والقول بالخادم الواحد ذهب إليه الحنابلة. واستدل من يقول بوجوب خادم واحد فقط بأن الواحد يقوم بالأمرين فلا حاجة لآخر لكفاية الأول عنه، ولأن الثاني للزينة ووجوب النفقة باعتبار الكفاية لا باعتبار الزينة والتجمل ولذا لو قام بخدمتها بنفسه كان يكفي ولم يلزمه نفقة الخادم (5) ولو فرض لها خادمين لفرض لها أكثر من ذلك فيؤدي إلى ما لا يتناهى (6) حيث إن اعتبار الخادمين ليس أولى من الثلاثة أو الأربعة لذا يقدر بالأقل وهو الواحد (7) لأن المستحق خدمتها في نفسها وذلك يحصل بخادم واحد فعلى قول من يقول بوجوب خادم واحد فقط يتعين على المرأة إذا رغبت في أكثر من خادم أن تقوم بالإنفاق عليه دون أن يلزم الزوج بذلك.
__________
(1) انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3 ص54 وانظر مجمع الأنهر ج1 ص487 وانظر حاشية ابن عابدين ج3 ص590.
(2) انظر حاشية الدسوقي ج2 ص510 وانظر شرح الرسالة ج2 ص100.
(3) انظر مغني المحتاج ج3 ص432 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر نهاية المحتاج ج7 ص197 مطبعة الحلبي.
(4) انظر نهاية المحتاج ج7 ص197 مطبعة الحلبي.
(5) انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3 ص54 طبع سنة 1313هـ وانظر المبسوط للسرخسي ج5 ص181 طبع دار المعرفة.
(6) انظر المبسوط للسرخسي ج5 ص181 طبع دار المعرفة.
(7) انظر بدائع الصنائع ج4 ص24 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.(22/198)
الموضوع الثالث: نفقة الرقيق.
يجب على الملاك ذكورا أو إناثا النفقة على مماليكهم بالمعروف سواء أكان المملوك صحيحا أم سقيما أو أعمى أو زمنا أو مدبرا أو مستولدا أو مستأجرا أو معارا أو قنا أو مشتركا أو مبعضا أو صغيرا أو كبيرا بخلاف المكاتب فنفقته لا تجب على سيده لاستقلاله بالكسب.(22/198)
ووجوب نفقة الرقيق بسبب الملك الذي يوجب الاختصاص بالمملوك انتفاعا وتصرفا هو نفس الملك فإذا كانت منفعته للمالك كانت مؤنته عليه إذ الخراج بالضمان.
وقد دل الكتاب والسنة والإجماع والمعقول على وجوب تلك النفقة أما الكتاب فقوله تعالى {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} (1) .
ففي هذه الآية أمر بالإحسان على المماليك ومطلق الأمر يحمل على الوجوب لأن الإنفاق عليهم من الإحسان بهم فكان واجبا. غير أنه قد يرد أن الأمر ليس للوجوب حيث يكون للندب.
ويجاب على ذلك بأنه لو سلم بذلك لكان الأمر بالإحسان إليهم على وجه الندب لغرض توسيع النفقة بعد وجوب أصلها لأن المرء لا يترك أصل النفقة على مملوكه إشفاقا ومحافظة على بقاء ملكه وقد أمر بالإنفاق عليه حتى لا يقتر النفقة عليه لكونه مملوكا في يده فأمر الله عز وجل السادات بتوسيع النفقة على مماليكهم شكرا لما أنعم عليهم من جعل من هو في جوهرهم وأمثالهم في الخلقة يقومون بخدمتهم (2) .
أما السنة:.
فما روي عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم (4) » .
__________
(1) سورة النساء الآية 36
(2) انظر المرجع السابق.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب المعاصي من أمر الجاهلية \ فتح الباري شرح صحيح البخاري ج1 ص84 المطبعة السلفية. وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب صحبة المماليك \ صحيح مسلم بشرح النووي ج11ص133، 134 المطبعة المصرية. وأخرجه أبو داود في كتاب الأدب باب في حق المملوك \ عون المعبود شرح سنن أبي داود ج14 ص67 الطبعة الثالثة سنة 1399هـ.
(4) (3)(22/199)
ففي هذا الحديث أمر بالإنفاق على الرقيق والأمر للوجوب مما يدل على وجوبه نفقة الرقيق على مالكه.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف من العمل ما لا يطيق (2) » .
ففي هذا الحديث أمر بإعطاء المملوك حقه من النفقة والأمر للوجوب مما يدل على وجوب نفقته على مالكه ذكرا كان أو أنثى.
ولما روى علي رضي الله عنه قال: «كان آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم " الصلاة الصلاة. اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم (4) » .
وفي رواية لأنس رضي الله عنه قال: كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة وهو يغرغر بنفسه «الصلاة وما ملكت أيمانكم (6) » .
ففي هذا الحديث قرن الرسول صلى الله عليه وسلم بالإنفاق على المماليك ليعلم أن القيام بالإنفاق عليهم واجب على من ملكهم وجوب الصلاة التي لا سعة في تركها (7) .
وعن ابن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت (9) » وفي رواية «كفى بالمرء أن يحبس عمن يملك قوته (10) » .
ففي هذا الحديث بيان أن التقصير بالنفقة على من تلزمه موجب للإثم ونفقة الرقيق واجبة على مالكه ومنعه منها موجب للإثم عليه.
أما الإجماع:.
فلقد أجمع العلماء على وجوب نفقة المملوك على سيده.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب صحبة المماليك صحيح مسلم بشرح النووي ج11 ص134 المطبعة المصرية. وأخرجه مالك في كتاب الاستيذان في باب الأمر بالرفق المملوك \ موطأ الإمام مالك ص695 الناشر رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالرياض وأخرجه أحمد في مسنده ج2 ص247 الناشر لمكتب الإسلامي.
(2) (1)
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب باب في حق المملوك \ عون المعبود شرح سنن أبي داود ج14 ص64 الطبعة الثالثة سنة 1399هـ. وأخرجه ابن ماجه في كتاب الوصايا باب هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم \ سنن ابن ماجه ج2 ص901 طبع دار إحياء التراث العربي. وأخرجه أحمد في مسنده ج1 ص78 الناشر المكتب الإسلامي.
(4) انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3 ص65 طبع سنة 1313هـ. (3)
(5) أخرجها ابن ماجه في كتاب الوصايا باب هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الزوائد إسناده حسن لقصور أحمد بن المقدام عن درجة أهل الضبط وباقي رجاله على شرط الشيخين \ سنن ابن ماجه ج2 ص901 طبع دار إحياء التراث العربي.
(6) (5)
(7) انظر عون المعبود شرح سنن أبي داود ج14 ص64 الطبعة الثالثة سنة 1399هـ.
(8) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة باب في صلة الرحم وقد سكت عنه قال المنذري وأخرجه النسائي \ عون المعبود شرح سنن أبي داود ج5 ص111 الطبعة الثالثة سنة 1399هـ. وأخرجه أحمد في مسنده ج2 ص160 الناشر المكتب الإسلامي. وأخرجه الحاكم في كتاب الزكاة باب كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت وصحح إسناده الحاكم وصححه الذهبي أيضا \ المستدرك ج1 ص415.
(9) انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3 ص65 طبع سنة 1313هـ. (8)
(10) انظر مغني المحتاج ج3 ص460 طبع دار إحياء التراث العربي.(22/200)
غير أنه قد يرد على الإجماع مخالفة الشعبي ويجاب عن ذلك بأن الأولى حمل مخالفة الشعبي على ما إذا كان المملوك قادرا على الكسب فنفقته على نفسه أو ينفق عليه سيده من كسبه (1) .
أما المعقول:
فالعبد مملوك لا يقدر على شيء فلو لم تجعل نفقته على مولاه لهلك (2) لأنه لا بد له من نفقة وهي تلزم من يستفيد من منافعه وهو أخص الناس به (3) . وإن أبى المولى الإنفاق عليه لعجزه أو غيره أنفق عليه من كسبه إن كان له كسب وإن لم يكن له كسب بأن كان زمنا أو أعمى أو صغيرا أو جارية لا يؤجر مثلها لحسنها ويخشى عليها من الفتنة، أمر ببيعه لأن المملوك صاحب حق وفي البيع إيفاء لحقه وليس فيه إبطال لحق المولى لأن الثمن يقوم مقامه ولأن بقاء ملكه عليه مع الإخلال بسد حاجته إضرار به وإزالة الضرر واجبة فوجبت إزالته ببيعه.
فإن امتنع عن بيعه أو هبته أو إعتاقه أو إجارته باعه القاضي أو أجره عليه فإن تعذر فكفايته في بيت المال ثم على المسلمين.
__________
(1) انظر فتح القدير لابن الهمام ج4 ص229 طبع دار إحياء التراث العربي.
(2) انظر بدائع الصنائع ج4 ص39 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
(3) انظر المغني لابن قدامة ج7 ص630 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.(22/201)
الموضوع الرابع: النفقة على البهائم والجمادات.
وهذا فيه فصلان:
الفصل الأول: في النفقة على البهائم.
وفيه عدة مباحث:
المبحث الأول: في وجوب الإنفاق عليها.
الحيوان المحترم كائن حي له روح ترغب للحياة وتتشوف إليها وتلك(22/201)
الروح لها حرمة يجب مراعاة حقها بإشفاق وعطف خاصة إذا كانت عاجزة عن الوصول إلى غذائها بحبس أو جدب ونحو ذلك.
ولتأكيد هذا الحق نال الحيوان تقريرا شرعيا بالحفاظ على حقه وإلزام المالك ذكرا كان أو أنثى بالإنفاق عليه.
ولهذا ذهب علماء الحنفية إلى أن من ملك بهيمة لزمه علفها وسقيها (1) .
وأوجب المالكية على صاحب الدواب علفها أو رعيها فإن أجدبت الأرض تعين علفها.
وقال الشافعية يجب على صاحب الدواب المحترمة من دواب البر والبحر علفها وسقيها أو تخليتها للرعي وورود الماء إن اكتفت به فإن لم تكتف به كجدب الأرض ونحوه أضاف إليها ما يكفيها.
وذهب الحنابلة إلى أن من ملك بهيمة لزمه وجوب القيام بها والإنفاق عليها بلا نزاع (2) .
واستدلوا لذلك بما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعا فلا هي أطعمتها ولا أرسلتها تأكل من خشاش الأرض (4) » .
ففي هذا الحديث بيان لتعذيب المرأة جزاء حبسها هرة والعذاب لا يكون إلا في مقابلة إثم والإثم نتيجة لمخالفة الواجب أو فعل الحرام فدل هذا على وجوب الإنفاق على الحيوانات المحترمة.
ولحديث ابن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كفى بالمرء أن يحبس عمن يملك قوته (6) » .
__________
(1) انظر الفتاوى الهندية ج1 ص573، الطبعة الثالثة سنة 1400هـ.
(2) انظر الإنصاف ج9 ص414.
(3) سبق تخريجه.
(4) (3)
(5) سبق تخريجه.
(6) انظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج2 ص101 طبع سنة 1332 بالمطبعة الجمالية بمصر (5)(22/202)
والحيوان المملوك تلزم المالك نفقته ومنعها عنه موجب للإثم لأن الإثم لا يكون إلا على ترك واجب مما يدل على وجوب نفقة الحيوانات على مالكيها.
ولما روي من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تعذبوا خلق الله عز وجل (2) » .
ومنع النفقة عن الحيوان المملوك تعذيب له والتعذيب منهي عنه والنهي يقتضي التحريم مما يدل على وجوب النفقة على الحيوان.
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله كره لكم ثلاثا قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال (4) » .
ففي هذا الحديث بيان لكره الله تعالى إضاعة المال والحيوانات المملوكة من الأموال التي يلزم حفظها ورعايتها، وعدم الإنفاق عليها ضياع لها مما يدل على وجوب الإنفاق عليها.
ولأن الحيوان كائن حي له روح تسري في جسده ولهذه الروح حرمة ثبتت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال «بينما رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش. فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي. فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له. قالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجرا؟ قال في كل كبد رطبة أجر (5) » قال ابن حجر في معنى «في كل كبد رطبة أجر (6) » : " أي كل كبد حية والمراد رطوبة الحياة ". .
__________
(1) أخرجه أبو داود من حديث لأبي ذر رضي الله عنه في كتاب الأدب باب في حق المملوك وقد سكت عنه \ عون المعبود شرح سنن أبي داود ج14 ص66 الطبعة الثالثة سنة 1399هـ. وأخرجه أحمد في مسنده ج5 ص168، 172 الناشر المكتب الإسلامي.
(2) (1)
(3) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة باب قول الله تعالى لا يسألون الناس إلحافا \ فتح الباري شرح صحيح البخاري ج3 ص340 المطبعة السلفية. وأخرجه مسلم من كتاب الأقضية باب النهي عن كثرة المسائل صحيح مسلم بشرح النووي ج12 ص12 المطبعة المصرية وأخرجه الدارمي في كتاب الرقائق باب إن الله كره قيل وقال \ سنن الدارمي ج2 ص20 الناشر دار الباز مكة، وأخرجه أحمد في مسنده ج2 ص250، 251، 255 الناشر المكتب الإسلامي.
(4) انظر المرجع السابق (3)
(5) أخرجه البخاري في كتاب المساقاة باب فضل سقي الماء \ فتح الباري شرح صحيح البخاري 5 ص40 المطبعة السلفية. وأخرجه مسلم في كتاب قتل الحيات وغيرها باب فضل سقي البهائم المحترمة وإطعامها صحيح مسلم بشرح النووي ج15 ص241 المطبعة المصرية. وأخرجه أبو داود في كتاب الجهاد باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم \ عون المعبود شرح سنن أبي داود ج7 ص222 الطبعة الثالثة سنة 1399 وأخرجه مالك في كتاب الجامع فيما جاء في صفة النبي صلى الله عليه وسلم باب جامع ما جاء في الطعام والشراب \ موطأ الإمام مالك ص665 الطبعة السابعة سنة 1404هـ. وأخرجه أحمد في مسنده ج2 ص517 الناشر المكتب الإسلامي.
(6) صحيح البخاري المساقاة (2363) ، صحيح مسلم السلام (2244) ، سنن أبو داود الجهاد (2550) ، مسند أحمد بن حنبل (2/375) ، موطأ مالك الجامع (1729) .(22/203)
وقال الداودي: المعنى في كل كبد حي أجر وهو عام في جميع الحيوان (1) . قلت وهذا يدل على أنه يجب على مالك الحيوان ذكرا كان أو أنثى النفقة على ما يملكه من الحيوانات لحرمتها ولحقها في الحياة ولأن في عدم الإنفاق عليها كما مضى إيذاء وتعذيبا لها وهو في الوقت نفسه إضاعة للمال وإضاعته سفه غير محمود.
__________
(1) انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري ج5 ص42 المطبعة السلفية.(22/204)
المبحث الثاني: امتناع مالك البهائم من النفقة عليها.
إذا امتنع مالك البهيمة من النفقة عليها فللعلماء في ذلك رأيان:
الرأي الأول:
يجبر مالكها على الإنفاق عليها بعلف أو رعي إن كان فيه ما يقوم بحاجتها فإن امتنع من ذلك وله مال أجبر في الحيوان المأكول على أحد أمرين:
أ) بيع أو إجاره له أو تصدق به أو هبته ونحو ذلك مما يزول به الضرر عنه.
ب) ذبحه.
وإن كان مما لا يؤكل أجبر على بيعه أو إجارته أو التصدق به أو هبته ونحو ذلك.
وإلى هذا ذهب الشافعية والحنابلة وجمهور المالكية في الصواب عندهم (1) ورواية لأبي يوسف من الحنفية.
غير أن الحنابلة يرون في الحيوان الذي لا يؤكل لحمه إجبار مالكه على الإنفاق عليه كالعبد الزمن (2) .
__________
(1) انظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج2 ص101.
(2) انظر المغني لابن قدامة ج7 ص635 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.(22/204)
الرأي الثاني:
عدم الإجبار على الإنفاق عليها أو بيعها إلا أنه يؤمر بذلك ديانة فيما بينه وبين الله تعالى عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلى هذا ذهب الحنفية في ظاهر الرواية عندهم وهو الصحيح في قولهم وابن رشد من المالكية.
واستدلوا على أمره بذلك ديانة أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن تعذيب الحيوان من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تعذبوا خلق الله عز وجل (1) » .
ولنهيه صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الله كره لكم ثلاثا قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال (3) » .
قلت وهذا الدليل لم يرد فيه ما يمنع من إلزامه بذلك قضاء بل إن من مقتضى النهي منع المنهي عن فعل ما نهي عنه. .
واستدلوا على عدم الإجبار بما يلي:
أولا: أن في الإجبار نوع قضاء والقضاء يكون عند الطلب والخصومة من صاحب الحق ولا خصم مما يدل على عدم الإجبار في النفقة على الحيوان.
ويجاب عن ذلك بأن القضاء في هذه المسألة جاء لرفع مظلمة لا يقدر المظلوم على رفعها فيجوز القضاء وإن لم يكن هناك طلب وخصومة من صاحب الحق لاستحالة فعله لذلك.
__________
(1) سبق تخريجه
(2) سبق تخريجه
(3) (2)(22/205)
ولهذا شاهد مماثل حيث قالوا إن لوالي القضاء أو المظالم الحق في نظر بعض القضايا دون الحاجة إلى متظلم أو رافع لدعوى فيها وذلك مثل نظره في تعدي الولاة على الرعية أو جور العمال فيما يجبون من أموال الناس بغير حق أو يبذلونه للناس بزيادة أو نقصان. وهذا يقتضيه حق إنصاف الغير من إنسان أو حيوان (1) .
ثانيا: أن الدابة لا يقضى عليها ومن لا يقضى عليه لا يقضى له ويجاب عن ذلك بأن تعذر الشكوى من الدابة يوجب القضاء لها (2) .
واستدل أصحاب الرأي الأول بما يلي:
أولا: ما وري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت (3) » وفي رواية «كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته (6) » .
ففي هذا الحديث بيان لاستحقاق الإثم، والإثم لا يكون إلا في ارتكاب محرم أو ترك واجب مما يدل على وجوب الإنفاق، وتنفيذ الواجب لا يكون إلا عن طريق القضاء، للإلزام بحكمه مما يدل على وجوب القضاء في إجبار مالك البهيمة بالإنفاق عليها (7) .
ثانيا: أن ترك الحيوان يموت جوعا تعذيب له بلا فائدة وتضييع للمال ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك (8) كما سبق آنفا.
ثالثا: أن في الإنفاق على الحيوان صونا له عن الهلاك (9) الذي تستحقه نفسه الرطبة لما لها من حرمة شرعية.
__________
(1) انظر الأحكام السلطانية للماوردي ص80، 81 طبع دار الكتب العلمية.
(2) انظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج2 ص101 طبع سنة 1322هـ بالمطبعة الجمالية بمصر.
(3) سبق تخريجه
(4) سبق تخريجها
(5) انظر المرجع السابق (4)
(6) انظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج2 ص101 طبع 1332 بالمطبعة الجمالية بمصر. (5)
(7) انظر بدائع الصنائع ج4 ص40 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
(8) انظر مغني المحتاج ج3 ص464 طبع دار إحياء التراث العربي.
(9) انظر بدائع الصنائع ج4 ص40 الطبعة الثانية سنة 1402هـ.(22/206)
رابعا: أن ترك الإنفاق عليه يعد من السفه لخلوه عن العاقبة الحميدة والسفه حرام عقلا (1) .
خامسا: أن بقاءها في يده مع ترك الإنفاق عليها ظلم والظلم تجب إزالته والقول بإجبار المالك على بيعها أو ذبحها أو إجارتها ونحو ذلك إن لم ينفق عليها هو الحق لقوة استدلاله في مقابلة دليل معارضه ولأن القضاء بهذا النوع مما يجب العمل به ولو عن طريق السياسة الشرعية التي شرعت لدفع الضرورات وتنبيها على مكارم الأخلاق ومنع النفقة ضرورة نزلت ونقيصة حلت على بهيمة خرساء لا منصف لها إلا القضاء.
والقول بالأمر ديانة دون الإجبار قد لا يحقق الغرض من الإنفاق على البهيمة وإن حققه فلا حاجة للقضاء إذن إنما يحتاج إليه إذا تعرضت البهيمة للهلاك جوعا وحبست عنها النفقة فالرجوع إليه واجب والإجبار حق لمتضرر.
__________
(1) انظر كشاف الإقناع عن متن الإقناع ج5 ص494 الناشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض.(22/207)
المبحث الثالث: امتناع المالك من الإجبار.
فإذا امتنع المالك من الإجبار ناب عنه الحاكم على ما يراه وتقتضيه الحال من النفقة من ماله أو بيعها أو إجارتها ونحو ذلك وإلى هذا ذهب الشافعية والحنابلة (1) .
ويرى بعض الشافعية أن الإجارة إن أمكنت أولى من البيع.
ويرون أنه إن تعذر ذلك فنفقة الحيوان من بيت المال فإن تعذر فعلى المسلمين.
__________
(1) انظر مغني المحتاج ج3 ص493 طبع دار إحياء التراث العربي وانظر حاشية الشرقاوي ج2 ص347.(22/207)
الفصل الثاني: في النفقة على الجمادات
الجمادات مما لا روح فيها كالدور والعقار والزروع والثمار والأواني ونحو ذلك لا يجبر مالكها بالإنفاق عليها غير أنه يكره له إهمالها وترك عمارتها بل يندب له عمارتها والقيام بشؤونها وما تحتاجه. والإجبار لا يكون لانتفاء حرمة الروح كما في الحيوان ولأن الضرر لا يلحقها بنفسها إنما يلحق مالكها فلذا يكره له تركها حتى لا تخرب لما في الخراب من إضاعة للمال وإلى هذا ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة الذين صرحوا بعدم وجوب النفقة عليها (1) .
غير أن الشافعية في قول لهم يرون أن ترك النفقة على الجماد الذي له نفع يحرم إذا كان يؤدي إلى ضياع المال كإلقاء المتاع في البحر.
وأرى أن ما ذهب إليه الجمهور هو الأولى خاصة وأن المتضرر في هذا التصرف المالك نفسه والإنسان في الغالب يحرص على المحافظة على ما يعنيه ويهمه. والحجر وسيلة رادعة في منع من انحرفت به تصرفاته عن الطريق المشروع وأدت أفعاله إلى السفه وبه تحفظ الأموال من الضياع المقصود.
عبد المحسن بن عبد الله الطريقي
__________
(1) انظر حاشية الشرقاوي ج2 ص348طبع دار المعرفة.(22/208)
صفحة فارغة(22/209)
صفحة فارغة(22/210)
صفحة فارغة(22/211)
صفحة فارغة(22/212)
صفحة فارغة(22/213)
صفحة فارغة(22/214)
صفحة فارغة(22/215)
صفحة فارغة(22/216)
صفحة فارغة(22/217)
صفحة فارغة(22/218)
صفحة فارغة(22/219)
صفحة فارغة(22/220)
صفحة فارغة(22/221)
صفحة فارغة(22/222)
صفحة فارغة(22/223)
صفحة فارغة(22/224)
صفحة فارغة(22/225)
صفحة فارغة(22/226)
صفحة فارغة(22/227)
صفحة فارغة(22/228)
صفحة فارغة(22/229)
صفحة فارغة(22/230)
صفحة فارغة(22/231)
صفحة فارغة(22/232)
صفحة فارغة(22/233)
صفحة فارغة(22/234)
صفحة فارغة(22/235)
صفحة فارغة(22/236)
صفحة فارغة(22/237)
أحوال التربية الإسلامية في أمريكا
للدكتور \ كمال كامل عبد الحميد نمر.
مقدمة
الحمد لله الذي أبان للمسلمين منهج التربية القويمة في القرآن المجيد، والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا وقدوتنا محمد الذي بعثه الله مؤدبا ومربيا للناس كافة، وعلى آله وأصحابه الطيبين الأطهار، الذين أعطوا أجيالا عديدة نماذج فريدة في التربية السليمة، وعلى من نهج نهجهم واقتفى أثرهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
فإن الحاجة ملحة لدراسة التربية الإسلامية، خاصة في المرحلة الحرجة التي تمر فيها الأمة الإسلامية في أيامنا هذه. ذلك أن العالم الإسلامي اليوم يعاني من أزمة حادة في كيانه التربوي، أزمة تعتبر وليدة الأنظمة التربوية الاستعمارية الحاقدة على هذه الأمة. لذلك فإن على كل من يؤرقه المستوى الذي هبطت إليه التربية لدى أمتنا، أن يبذل قصارى جهده لتغيير هذا الواقع المرير، على كل المخلصين من أبناء هذه الأمة ممن يعملون في هذا الميدان الحيوي الهام، ميدان التربية، أن يجندوا قواهم ويشحذوا عزائمهم، لتعود التربية الإسلامية المبدعة إلى إنجاب خيرة الرجال وعظماء الإنسانية، كما كان شأنها عبر قرون طوال. إن(22/239)
على رجالات التربية المسلمين أن يعيدوا النظر في السياسة التربوية الإسلامية في حرص وأمانة، لأنها في وضعها الراهن، لا تهدف إلى إيجاد نشء يستطيع النهوض بأمته المبتلاة بقيادات مارقة ارتوت من مستنقع الثقافات الكافرة، من رأسمالية وشيوعية. إن الهدف من التربية بين ظهرانينا هي تكوين موظفين ليس لهم أي هدف سام، أو فلسفة واضحة في هذه الحياة. لذا فقد غدا من المحتم على كل مسلم عامل في حقل التربية، دراسة الخطط والمناهج والأساليب في التعليم حتى نتمكن من إعداد نشء قادر على تحمل المسؤولية وانتشال أمتنا من أوحال الجاهلية إلى سماحة الإسلام العظيم.
أما التربية الإسلامية في أمريكا فليست بأفضل حال منها في ديار الإسلام، فلقد تدهورت أخلاق النشء المسلم في أمريكا، بحيث أصبح من الصعب تمييز جلهم عن سائر شباب أمريكا، الذين قال فيهم رئيسهم الأسبق كنيدي: " إن مستقبل أمريكا في خطر لأن شبابها مائع منحل غارق في الشهوات لا يقدر المسؤولية الملقاة على عاتقه. . " إن الجيل المسلم في أمريكا يعب من المستنقع الأمريكي القذر، ويعتمد كلية على التربية التي يقدمها ذلك المجتمع الفاسد، التربية الأمريكية الهابطة التي انتقدها المستر ليمان بقوله: " إنها لا تخلق ثقافة، ولا مجموعة مشتركة من المبادئ ولا تهذيبا أدبيا أو ذهنيا مشتركا ".
ولقد عز على الآباء والأمهات والمربين المسلمين في أمريكا أن يروا أبناءهم ينحرفون وسط تيار الكفر الأمريكي ويعيشون عيشة البهائم، ليس لهم هم سوى أن يسدوا جوعاتهم ويشبعوا غرائزهم، وينطلقوا وراء الشهوات والملذات، ويصاحبوا الأشقياء والمجرمين الذين يعج بهم المجتمع الأمريكي الوضيع، فتنادوا إلى إنقاذ من يستطيعون إنقاذه من هؤلاء الأبناء، وأيقنوا أن العلاج يكمن في تربيتهم تربية إسلامية تقيهم شر الانزلاق في الرذائل التي تطغى على المجتمع الأمريكي برمته، أيقنوا أن(22/240)
الوقاية تكمن في غرس التربية الإيمانية في نفوس أولئك الأبناء وتنشئتهم عليها، لكونها منبع الفضائل والركيزة الأساسية لدخول النشء في حظيرة الإيمان قبل أن يغرق في مستنقع الكفر والفساد الذي أصبحت جماهيره الغفيرة تحيا ليومها وتذهل عن آخرتها وتكدح لمآربها القريبة، أيقن أولئك الآباء والمربون أن المعاهد الإسلامية وحدها هي القادرة على تزويد أبنائهم بالتربية الدينية التي تهدف إلى النمو الروحي والتهذيب النفسي وتعويدهم على العادات الصالحة والأخلاق الفاضلة والمثل الكريمة. ذلك أن الإسلام هو العاصم الوحيد من الشذوذ والانحراف خاصة في بيئة كالبيئة الأمريكية فهو يعمل على تهذيب الغرائز وتشذيب الرغبات وطهارة النفوس وصيانتها من الانحلال وعدم تلوثها بالآثام والمغريات التي يطفح بها مجتمع أمريكا.
ولقد نجحوا، إلى حد ما، في تأسيس المعاهد الإسلامية التي انبثقت وتركزت في المساجد، فلا تكاد تجد مسجدا من مئات المساجد المنتشرة في كافة أرجاء أمريكا، إلا وفيه مدرسة تتولى تعليم المسلمين صغارا وكبارا أمور دينهم، خاصة فيما يتعلق بتدريس القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والسيرة النبوية العطرة والتاريخ الإسلامي المشرق واللغة العربية والعبادات والأخلاق الإسلامية.
وبعد أن كان أعداء الإسلام يستخدمون ترجمة معاني القرآن الكريم لمحاربته، أصبحت تجد من يترددون على تلك المعاهد الإسلامية يتصدون لأولئك الأعداء ويفحمونهم بما لديهم من علم حقيقي بمعاني ذلك الكتاب الكريم. وبعد أن كانت الصورة التي ارتسمت في أذهان الأمريكان عن الإسلام تبعث على الخجل، بعد هذا تغيرت الصورة نوعا ما بفضل الله ثم بفضل المعاهد الإسلامية التي نجحت في إعطاء الصورة الحقيقية الوضاءة للإسلام.(22/241)
وبما أنني وجدت المكتبة الإسلامية فقيرة بالكتب التي تعالج أمور المسلمين في أمريكا، وبما أنني لم أعثر فيما نقبت عنه واطلعت عليه، على كتاب يعالج واقع ومشكلات وتاريخ التربية الإسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية، وبما أن الله جلت قدرته قدر لي أن أمارس التربية الإسلامية عمليا في العديد من بيوت الله في كثير من مدن القارة الأمريكية على مدى ثماني سنوات، لهذا جاء اهتمامي بهذا الجهد المتواضع، وأنا أردد مع العتابي قوله: " من وضع كتابا فقد استهدف للخصوم واستشرف للألسن إلا عند من نظر فيه بعين العدل وحكم بغير الهوى وقليل ما هم " غير أني وإن كنت أطمح من عملي هذا أن يكون حافزا للغيورين من أبناء هذه الأمة على مزيد من الخوض الواعي في أحوال التربية الإسلامية لدى مسلمي أمريكا وغيرها، وإن كنت أطمح أن أسمع كل نقد بناء هادف من أي مسلم يهمه أمر التربية الإسلامية في أيامنا هذه، إلا أني - والله يشهد - لأطمح من عملي هذا أكثر من هذا وذاك، أطمح أن يجعل الله سبحانه وتعالى هذا خالصا لوجهه الكريم، وأن يتقبله مني يوم العرض عليه، إنه أفضل مأمول وأعظم مسؤول.(22/242)
أحوال
التربية الإسلامية في أمريكا.
لمحة تاريخية:
بكل فخر واعتزاز، يذكر المسلمون أن أجدادهم الأوائل كانوا قد اكتشفوا أمريكا قبل أن يكتشفها كولومبس Culombus بفترة طويلة. وذلك عندما قطعوا المحيط الأطلسي من الأندلس سنة 1150م، ووصلوا إلى ما يعرف حاليا بالبرازيل. بل إن المؤرخ المسلم الشريف الإدريسي يذكر أن اكتشاف المسلمين لهذه القارة كان قد تم قبل هذا التاريخ، وذلك عندما أبحر ثمانية من المسلمين من لشبونة في القرن العاشر الميلادي، محاولين اكتشاف ما وراء بحر الظلمات، وهو الاسم الذي كان يطلقه المسلمون على المحيط الأطلسي، إلى أن نزلوا في أمريكا الجنوبية (1) . ويؤكد هذا الواقع مستشرقون كبار.
وفي كتابه (العرب في أمريكا) the arabs in america يذكر مهدي mehdi أنه في سنة 1539م اكتشف فراماركوس دي نايز Fra Marcos de Nize المناطق المعروفة اليوم باسم نيومكسيكو new mexico وأريزونا arizona وكان مرشده في ذلك مسلم مغربي اسمه أسطفان، ولقد راح أسطفان ضحية سهم من أحد الهنود الحمر، سكان أمريكا الأصليين، الذين لم يكونوا قد رأوا الرجل الأبيض بعد.
أما في العصر الحديث، فقد بدأ المسلمون يهتمون بالهجرة إلى أمريكا كما بدأ الأمريكان الاهتمام بديار الإسلام، ولكن شتان ما بين نوايا كل من الطرفين في ارتياد بلد الطرف الآخر. فالأمريكان كانوا قد بدأوا الاهتمام بالشرق الأوسط سنة 1819م عندما وصل المبشرون من أتباع الكنيسة المسيحية presbyterian الذين فشلوا فشلا ذريعا نتيجة المقاومة العنيدة
__________
(1) . عقل، فاضل سعيد - وجوه من المغتربين -منشورات البيرق - 1958(22/243)
المستمرة من المسلمين الذين عرفوا سوء نواياهم (1) . فما كان من هؤلاء المبشرين إلا أن غيروا من أسلوب تعاملهم مع المسلمين، فانتقلوا إلى مشاريع أكثر عملية، مثل إنشاء المدارس والمستشفيات التي استطاعوا أن يتستروا وراءها لنشر سمومهم في ديار المسلمين، والتي لازلنا نعاني منها حتى اليوم. إذ لا يخلو أي من ديار المسلمين من العديد من المستشفيات والمدارس التي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب.
وقبل ذلك وبعده جاء اهتمام المسلمين بأمريكا على المستويين الرسمي والشعبي، ففي سنة 1787 اعترفت المغرب رسميا باستقلال الولايات المتحدة، فكانت بذلك أول دولة في العالم تفعل ذلك. كما وقع الملك محمد الثالث اتفاقية صداقة وتعاون مع جورج واشنطن أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية. وجاء في رسالة جوابية من الملك محمد الثالث إلى جورج واشنطن ما يلي: -.
إلى فخامة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.
السلام على من اتبع الهدى.
استلمنا رسالتكم مقرونة بمعاهدة السلام التي أرسلتها إلينا، وكتبنا إلى كل من تونس وطرابلس بخصوص التماسكم، وسوف تلبى رغبتكم بمشيئة الله (2) .
وفي سنة 1840م وصل إلى نيويورك أحمد بن نعمان كممثل خاص لسلطان مسقط سيد سعيد حاملا معه هدية للرئيس الأمريكي مارتن فان بيرن merten van burn مكونة من بهارات وقهوة وعاج وبلح وسجاد فارسي (3) .
وفي سنة 1856م وصل على ظهر سفينة ثلاثة وثلاثون جملا اشترتها أمريكا من الشرق لتسهل مهام التنقل في الولايات الجنوبية الغربية (4) . وفي
__________
(1) . kayal، philip؛ joseph. The syria- lebanese in america twayne publishers boston. P. 18.
(2) . mehdi، p. 59.
(3) . magobian، p. 103.
(4) . ibid p. 104.(22/244)
سنة 1879م لعب افتتاح قناة السويس دورا هاما في هجرة أبناء اليمن إلى أمريكا. وعلى أثر ثورة عرابي في مصر سنة 1882 أصبح السوريون يهاجرون إلى أمريكا بدلا من مصر، وقد شهدت هذه السنة أكبر هجرة من سوريا إلى أمريكا. وفي مقابلة مع أحد المغربيين، قال معللا سبب كثرة أبناء بلده في أمريكا: " إن الرسائل التي كان يرسلها المغربيون قبلنا إلى ذويهم وأصدقائهم كلها إغراء وتشجيع على الحضور إلى هذا البلد، فالحياة الرغيدة والمنازل المريحة، والسيارات الفارهة والحرية التي لا حدود لها، كل ذلك وكثير غيره كانت تطفح به رسائل هؤلاء إلينا، ولم يحدث أن ذكر أي منهم أية مشقات أو متاعب صادفها هنا، ولذلك وقع الآلاف ضحايا تلك الإشاعات والمبالغات، وجاءوا بدورهم ليضلوا غيرهم. أما أنا فقد قابلت أحد الأقارب العائدين من المهجر، والذي عاد زاهي اللون، يدخن غليونا، ويلبس ربطة عنق عريضة، ويحدث عن الآلاف من الدولارات التي يجمعونها. فما كان مني إلا أن سألته: ولكن كيف تجمعون تلك الآلاف؟ فرد على الفور قائلا: مسألة بسيطة. هناك آلة لصنع الدولارات، وما عليك إلا أن تضغط على أحد أزرارها لتبدأ في طرح الدولارات أمامك، وإذا أردت جمع الدولارات ساخنة فما عليك إلا أن تضغط على زر لتوقف طبع الدولارات وتباشر جمع ما طبع. وأسرعت بالحضور حتى لا تفوتني الفرصة أكثر. ولسوء الحظ فقد بذلت من الجهد في مصانع السيارات ما إن لو بذلته في بلدي لعشت أفضل حياة (1) .
وتشير الإحصائيات إلى تزايد عدد المسلمين الذين دخلوا إلى الولايات المتحدة الأمريكية في حوالي سنة 1900م. ولقد حدثت الهجرات الكبرى إلى أمريكا على عدة موجات من سنة 1875 - 1912 ومن سنة 1918 - 1922 عندما جاء المسلمون اللبنانيون للعمل في مصانع فورد في دير بون. ومن سنة 1930 - 1938، 1947 - 1960 ثم من سنة 1967 حتى الوقت الحاضر (2) .
__________
(1) . mehdi p. 4.
(2) منير المهاجر - بروكلين - نيويورك. العدد الثاني، 1978، ص13.(22/245)
ولقد استقرت نصف هذه الموجات من المغتربين في الولايات الجنوبية التي ترحب بالأيدي العاملة في مجال الزراعة. وكثير منهم أصبحوا مزارعين ناجحين في ولاية جورجيا georgia وتناسي tenesee ومسيسيبي messessippi ونيومكسيكوnew mexico وأريزونا arizona. وحوالي ربع هؤلاء المهاجرين الأوائل استقر على الشواطئ الشرقية في كل من نيوريوك new york ونيوجيرسي new jercey وبنسلفانيا pennsiylvania وولايات نيوانجلاند new england. أما الربع الباقي فقد عمل إما في التجارة أو في مصانع السيارات في ولايات الغرب الأوسط مثل الينوي illinois وانديانا indiana وأيوا iowa وميشيغان michigan وأهايو Ohio.
ومما يميز هجرة هؤلاء المسلمين عن هجرات الأوربيين إلى أمريكا في تلك الفترة المبكرة. أن المهاجرين من أوربا قد اضطروا إلى الهجرة إلى أمريكا بسبب ضغوط دينية وسياسية فنزحوا مع عائلاتهم يغمرهم شعور بالمرارة، أما المسلمون فالغالبية العظمى منهم هاجروا بشكل فردي وبقوا على اتصال دائم وحنين لا يخبو إلى أهليهم وديارهم.
ولقد كان تمسك الناس بالإسلام في تلك الأيام سببا رئيسيا في عزوف الكثيرين عن الهجرة إلى أمريكا. ففي غضون ثلاثين سنة، من سنة 1869 - 1898 لم يهاجر من تركيا، على سبيل المثال، سوى 20690 شخصا (1) . روت إحدى السيدات في ديترويت detroit القصة الطريفة التالية، قالت: " في سنة 1885م قرر والدي اصطحاب بعض أصدقائه إلى أمريكا، فاشترى تذكرة وصعد إلى القارب. غير أنه اقترب من الربان فجأة ليسأله عما إذا كان يوجد مساجد في أمريكا أم لا. وعندما أخبره الربان أن لا مساجد في أمريكا على الإطلاق، خشي أن يهاجر إلى بلاد الكفر تلك، وأسرع بمغادرة القارب على الفور (2) .
وبالفعل فقد جابهت المسلمين الأوائل الذين هاجروا إلى أمريكا مشكلات صعبة في المحافظة على دينهم، فقد عانوا من التمييز ضدهم في
__________
(1) . hagobian، p. 5.
(2) . ibid p. 9.(22/246)
الوظائف، وفي تشييد أماكن العبادة، كما وجدوا أنفسهم غير قادرين على تعليم أبنائهم مبادئ دينهم ولغتهم وتاريخهم. ويكفي أن يعلم الأمريكان أن هذا أو ذلك مسلم ليصبوا جام غضبهم وحقدهم عليه، فعلى سبيل المثال خسر مسلم وظيفته لأنه وجد يتوضأ للصلاة في حمام الرجال (1) . ولصعوبة الحصول على إجازة لأداء صلاة الجمعة، فقد كان معظم المسلمين، ولا زالوا، يقصدون المساجد يوم الأحد. كما أن العيدين الرئيسيين الوحيدين في الإسلام، عيد الفطر وعيد الأضحى، غير معترف بهما حتى الآن في أمريكا.
وقد رفضت محكمة أمريكية إعطاء أحد العرب الجنسية الأمريكية لأنه ليس أفريقيا أو قوقازيا. ورغم أن محكمة أخرى رفضت هذا القرار، إلا أن النزاع حول دور حجم الرأس أو الأنف في تقرير جنس الشخص استمر زمنا في الصحافة الأمريكية (2) . وفي حادثة بين مسلمي ونصارى لبنان في مدينة سبرنغفيله SPRINGFIELD سنة 1909م. وقف محامي النصارى الأمريكي، لينفث بعضا من سمومه وأحقاده التي يكنها الأمريكيون ضد المسلمين قائلا: " هؤلاء الأتراك - يعني المسلمين - كانوا أكثر الأجناس على الأرض تعطشا للدماء (3) .
وقد ذكر إبراهام في كتابه العالم العربي والعرب الأمريكان and arab americans the arab world أن السواد من الأقليات في الولايات المتحدة - والمسلمون على رأسهم - قد منعوا من السكن في مناطق معينة في العديد من المدن الأمريكية، وبعض المكاتب العقارية والمواطنين كانوا يرفضون تأجير منازلهم لأي من هؤلاء (4) . وكان ذلك من الأسباب الرئيسية التي دعت أليجا محمد، قائد المسلمين السود في أمريكا، أن يجمع 250000 من أتباعه على كره الرجل الأبيض، ووصفه بأنه شيطان، وقد لاقت هذه الدعوة استجابة ملحوظة، وكان ذلك رد فعل طبيعي للتمييز العنصري الذي عانت منها الأقليات في أمريكا (5) .
__________
(1) . kayyal p. 18.
(2) . medi p. 5.
(3) . abraham p. 76.
(4) . ibid p. 66.
(5) . hagobian p. 52.(22/247)
ومن أحدث الأمثلة على التحيز ضد المسلمين قضية أذان مسجد ديربون dearborn في ولاية ميشيغان michigan ففي سنة 1979 قدمت خمس وعشرون شكوى من المجاورين لمسجد ديربون - بعضها من العرب المارقين - تزعم أن صوت المؤذن في مكبر الصوت يزعجهم وأطفالهم، فقدم ثلاثة من مسؤولي المسجد للمحاكمة، واستغرب المسلمون لماذا لم تقدم أية شكوى ضد الإزعاج الحقيقي لأصوات أجراس الكنائس النصرانية، وهدير القطار المزعج عند الصباح الباكر. وبعد عدة جلسات ألغيت الشكاوي وسمح للمؤذن ثانية أن ينادي " الله أكبر " خمس مرات في اليوم ورغم كل هذا فقد استمر تدفق المسلمين إلى أمريكا فعلى سبيل المثال شهدت الفترة ما بين 1945 - 1977 م وصول ما يزيد على مائة ألف مسلم إلى الشواطئ الأمريكية أتوا من العراق ومصر واليمن وفلسطين والمغرب وسوريا ولبنان وغيرها من ديار الإسلام التي قدر لها أن تعاني الكثير سياسيا واقتصاديا. ومما يعتبر خسارة حقا للعالم الإسلامي أنه كان من بين هؤلاء المهاجرين العديد من الفنيين والأطباء والمهندسين والفيزيائيين الذين اضطروا إلى الهجرة إلى أمريكا. فما بين سنة 1962 - 1969 م مثلا، بلغ عدد من اضطروا إلى الهجرة من هذا الصنف من المثقفين كما يلي: مصر 9315، لبنان 8193، الأردن وفلسطين 9540، العراق 4192، سوريا 2400، مراكش 2473، تونس 490، الجزائر 983 وعلى هذا فقس هذا وقد بلغت هجرة هذه العقول المفكرة ذروتها ما بين سنة 1968 - 1971م (1) ولا يخفى ما في هذا من الخسارة للعالم الإسلامي والإثراء للمجتمع الرأسمالي الكافر في أمريكا وما فاروق الباز، المساهم في قاعدة الفضاء في أمريكا، والمهندس الباكستاني المسلم الذي صمم أعلى بناية في العالم sears tower في شيكاغو، إلا بعض الشواهد على هذه الهجرة. وتزداد المصيبة جسامة إذا علمنا أن ثلثي من جاءوا من العالم الإسلامي للدراسة في أمريكا قد تزوجوا من نصرانيات ليضافوا إلى الأدمغة المفكرة التي مرر لها أن تغادر ديار
__________
(1) . mehdi p. 9.(22/248)
الإسلام. ويقدر عدد الطلاب المسلمين الذين دخلوا أمريكا خلال عقد واحد من 1957 - 1967 م بخمسين ألفا (1) . .
وسوء الأوضاع السياسية في فلسطين مثلا اضطر الكثيرين إلى الهجرة إلى أمريكا غير عارفين أين سينتهي بهم المطاف، والقصة الطريفة التالية إحدى الشواهد على ذلك: " لدى وصول محمد أبو حوى من فلسطين إلى نيويورك سنة 1903، سأله ضابط المهاجرة: إلى أين أنت ذاهب؟ وبما أنه لم يكن يعرف ذلك، ما كان منه إلا أن سأل الضابط بكل صراحة: أين يعيش ملك هذه البلاد؟ فأخبره الضابط أنه لا يوجد ملك في أمريكا، ولكن يوجد لها رئيس يعيش في واشنطن وبنفس البساطة قال محمد: إذن فأنا أذهب إلى واشنطن، إذا كان ذلك يرضي الرئيس، فهو يرضيني أيضا. وذهب إلى واشنطن وهو ابن سبعة عشر عاما ليصبح بعد فترة رجل أعمال كبير، يساهم بأكبر دعم مالي لبناء المركز الإسلامي الذي أسس هناك فيما بعد (2) .
هكذا بدأت، ولا زالت مستمرة، هجرة المسلمين إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حتى إن بعض الباحثين علق على ذلك بأن المسلمين بطبيعتهم يحبون الهجرة فهم منذ أيامهم الأولى قد هاجروا إلى الحبشة غير أن علينا أن نلاحظ الفرق الجوهري بين تلك الهجرة وهذه، فالأولى كانت خالصة في سبيل الله، ولذلك عندما علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أحد المسلمين كان قد هاجر لغرض دنيوي قال: «من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هجر إليه (3) » وغني عن البيان أن هجرة المسلمين إلى أمريكا ما هي إلا من النوع الثاني ولا يجرؤ أحد أن يقول أن هجرته كانت لله ورسوله، رغم أن أعدادا قليلة جدا من مسلمي أمريكا،
__________
(1) . ibid p. 139.
(2) . abraham arabs in the new world. P. 67.
(3) رواه البخاري في الإيمان وبدء الوحي، ومسلم في الإمارة(22/249)
لا ينسون دينهم ويظلون على علاقة بالمساجد، بل إن بعضهم ليحاول أن يعطي الدعوة إلى الله تعالى بعض وقته. وأما أولئك الذين يطمحون أن تقام دولة الخلافة الإسلامية في أمريكا وأن تنطلق راية الجهاد من هناك، فقد ضلوا الطريق، ذلك أنه بالرغم من الحرية التي يعتقد المسلمون أنهم يتمتعون بها في أمريكا، لأنهم حرموا منها في كافة ديار الإسلام، فإن انطلاق دولة الإسلام من ذلك المستنقع لا يعدو أن يكون مجرد حلم لذيذ.(22/250)
التربية الإسلامية في أمريكا.
منذ السنوات الأولى لوجود المسلمين في أمريكا، بذلوا جهودا في مجال التربية والتعليم. غير أن هذه الجهود كانت مقصورة في البداية على بعض النشرات والمطبوعات باللغة العربية، وكانت تلك المطبوعات قد لعبت دورا هاما في ربط هؤلاء المبعثرين هنا وهناك معا عن طريق توثيق صلتهم بلغتهم التي كانت، ولا زالت، مهددة بالنسيان من قبل أهلها في تلك البلاد، على حين نجد الأمريكان أنفسهم يقبلون على دراسة لغتنا وتقاليدنا ليتمكنوا من محاربتنا بشكل أكثر فعالية. كما أن تلك المطبوعات باللغة العربية، مكنت المغتربين الأوائل من الاطلاع على أخبار بلادهم وأهلهم فيما وراء البحار. ففي سنة 1892م صدرت في نيويورك صحيفة " كوكب أمريكا " لتكون الصحيفة الأولى الناطقة بالعربية في أمريكا، وكان لها فضل في المحافظة على إبقاء اللغة العربية حية في نفوس أوائل المهاجرين. وتوالى بعدها صدور الصحف بالعربية ففي سنة 1897م صدرت صحيفة الأيام وفي سنة 1898م صدرت في فيلادلفيا جريدة " الهدى " وصدرت " المهاجر " في واشنطن سنة 1903م، وقد توالى صدور هذه الصحف العربية بين فترة وأخرى ومعظمها يهدف بشكل رئيسي إلى إبقاء اللغة العربية حية في أذهان أبنائها.(22/250)
وقد أصبح تعليم اللغة العربية للجيل الثاني من المهاجرين إلى أمريكا أحد الموضوعات المشوقة المفيدة في مجلة " العالم السوري ". ففي سنة 1928م نشرت تلك المجلة رسالة جاءتها من بروكلين في نيويورك تشير إلى التخوف من اضمحلال اللغة العربية لدى الجيل الثاني. وتحض على وجوب تعلمها، جاء فيها: " إنه لواجب علينا أن نعطي اللغة العربية العناية التي تستحقها، وفي رأيي أن معرفة اللغة العربية شيء يجب أن يميزنا في أمريكا عن غيرنا، ولذلك فإنه لمن الواجب بذل كافة الجهود الممكنة من أجل نشر تلك اللغة. وإن عدم تعليمها ليعتبر تقصيرا من قبل الآباء تجاه أبنائهم، ذلك أنه بنفس الحماسة التي نرسل فيها أبناءنا إلى معلم خصوصي ليعلمهم العلوم مثلا، يمكننا، بل يجب علينا أن نرسلهم إلى معلم يعلمهم لغتنا العربية، ويجب أن يكون التحدث في البيت قاعدة عامة لدينا جميعا.
وبالرغم من تزايد أعداد هذه الدوريات سنة بعد أخرى إلا أنها لم تعد تفي بالحاجات التعليمية المتزايدة للجالية الإسلامية في أمريكا. فأصبح الكثيرون من الآباء المسلمين في قلق بشأن مستقبل أبنائهم إذا ما عجزوا عن تهيئة الجو التعليمي الذي يتلاءم مع روح الدين الإسلامي الحنيف، كما أصبحوا في قلق متزايد من احتمال تأثير الثقافة الرأسمالية في المدارس في تلك البيئة. ومما زاد من تخوفهم أن الأطفال بدأوا يتأثرون بشكل واضح بالثقافة الأمريكية التي كانوا تحت سيطرتها في المدرسة والمجتمع وحتى في البيت، حيث لا مناص للطفل من مشاهدة التلفزيون الذي يطفح بالبرامج التي تنقل وجهة النظر الأمريكية، أو على الأصح، وجهة النظر اليهودية التي من شأنها تحطيم أخلاق الناس جميعا والتي تحرص دوما على نشر الأساطير عن الإسلام والمسلمين فتصفهم بالعنصرية والهمجية والغش والخداع والزواج والطلاق وما إلى ذلك من(22/251)
أكاذيب متناسية أن الإسلام أباح الزواج بأربع غير أن للواحد منهم عشرات أو مئات من الخليلات، كما أن الإسلام أباح الطلاق غير أن نسبة الطلاق لدى المسلمين ما هي إلا نسبة ضئيلة جدا إذا ما قيست بالطلاق في الولايات المتحدة الأمريكية. غير أن الطفل الذي يشاهد التلفزيون الأمريكي لا يمكنه التمييز بين الغث والسمين، لذلك فإنه تدريجيا يتشرب الأباطيل التي ينشرها هذا التلفزيون عن المسلمين (1) . لذلك فقد غدا المسلمون في مسيس الحاجة إلى تربية صحيحة متوازنة خاصة بهم تعمل على وقاية الجيل الناشئ من الانجراف وسط التيار الأمريكي العاتي من جهة، وتعمل على المحافظة على الكبار متمسكين بدينهم متميزين عن سائر أبناء ذلك المجتمع الهابط من جهة أخرى.
وعلى ضوء ذلك، وأمام هذا التحدي الخطير الذي سيعصف بأبناء المسلمين إن هم اقتصروا على ما تزودهم به البيئة الأمريكية من ثقافة، سواء أكان في المدرسة أو في المجتمع أو بقضاء ساعات طوال مع التلفزيون، أمام كل هذا سارع الغيورون من المسلمين إلى تزويد أبنائهم بقسط معقول من الثقافة الإسلامية، المتمثلة في دراسة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والسيرة النبوية واللغة العربية والعبادات والمعاملات والتاريخ الإسلامي.
فأين كان المسلمون يزودون أبناءهم بهذه الثقافة ما داموا لا يملكون مدارس خاصة بهم؟ لقد كان ذلك ولا زال يتم في ظلال بيوت الله تعالى، في المساجد التي بدأت تنتشر في القارة الأمريكية منذ أوائل هذا القرن. أما قبل ظهور المساجد في أمريكا فكان المسلمون يعلمون أبناءهم ويؤدون صلاتهم في بيوت بعضهم، وكان يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله سبحانه وتعالى (2) ففي سنة 1900م أقامت جالية مدينة روس Russ في ولاية نورث داكوتا north dakota أول صلاة جماعية لهم في أحد المنازل
__________
(1) . mehdi p. 9.
(2) . abraham، arabs in the new world، p. 78.(22/252)
الخاصة (1) ذلك أن طبيعة العلاقات السلبية بين الشرق الإسلامي والغرب النصراني لم تكن حتى عهد قريب تفسح المجال أمام المسلمين لإقامة مساجد خاصة بهم. فالسلطات الحاكمة في بلاد النصارى كانت حريصة إلى حد الإصرار والتزمت، بألا يرتفع في بلادهم منارة ينطلق منها صوت المؤذن بالدعوة إلى عبادة الله تعالى وتوحيده، وفق الشعائر الإسلامية السمحة، التي نادى بها الرسول الأعظم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم (2) .
أما أول مسجد أنشئ في أمريكا - وهو الآن مع الأسف كنيسة - فقد بني في مدينة هايلاند بارك hyland park في ولاية ميشيغان michigan في سنة 1919م ثم قامت الجالية الإسلامية في مدينة روس russ بولاية نورث داكوتا north dakota ببناء مسجد لهم سنة 1920. وتلاه مسجد ديترويت سنة 1922. ثم قام اتحاد الشباب المسلمين بتأسيس مسجد في مدينة بروكلين brooklyn بولاية نيويورك new york سنة 1923م (3) وفي سنة 1924 قامت الجالية الإسلامية في مدينة ميشيغان michigan بولاية انديانا indiana ببناء مسجد هناك (4) وفي سنة 1925 استأجرت الجالية الإسلامية في مدينة سيدار رابذر cedar rapids على بعد ثمانين ميلا غرب نهر المسيسيبي في ولاية أيوا iowa بناية لتكون مسجدا يربط أبناء الجالية دينيا واجتماعيا وثقافيا (5) وفي سنة 1934 قامت هذه الجالية ببناء أول مسجد في أمريكا صمم خصيصا ليكون مسجدا، ولذلك فقد أطلق عليه اسم المسجد الأم، وقد باشر الإمامان اللذان كانا في " المسجد الأم " وأحدهما من دمشق والآخر من نجد، تدريس اللغة العربية على الفور (6) ثم إن هذه الجالية الرائدة شيدت في سنة 1972 مسجدا جديدا تبلغ مساحته خمسة أضعاف مساحة " المسجد الأم " ليكون مكانا متسعا للصلاة والمدرسة والمكتبة معا (7) .
وتسابقت الجاليات الإسلامية في مختلف المدن الأمريكية إلى بناء
__________
(1) . ibid p. 19.
(2) . ibid p. 68.
(3) . elkholy، p. 25.
(4) . abraham، arabs in the new world. P. 68.
(5) . Elkholy. P. 25.
(6) . mehdi. P. 15.
(7) . ibid p. 21.(22/253)
المساجد. ففي سنة 1933 أسس النادي الهاشمي في ديترويت ليكون مسجدا ومدرسة للشيعة (1) وفي سنة 1939 بدأ المسلمون في مدينة ديربون في ولاية ميشيغان بناء مسجد لهم (2) وفي سنة 1955 شيد مسجد فاخر في مدينة توليدو (طليطلة) toledo في ولاية أوهايو ohio مما حفز الكثيرين على الهجرة إلى تلك المدينة بسبب وجود ذلك المسجد. وكانت هذه الجالية الأنموذج الذي يحتذى به في النشاط داخل المسجد بين سائر المدن الأمريكية (3) وقد قامت أخيرا ببناء مسجد رائع يبعث على البهجة في سنة 1983. واليوم يوجد في أمريكا ما يزيد على أربعمائة مسجد وجمعية إسلامية (4) هذا بالإضافة إلى المئات من الأشخاص الذين يستأجرون منازل خاصة بهم ويخصصون غرفة أوصالة واسعة منه لتكون مسجدا يؤمه الجيران والأصدقاء لأداء الصلاة في جماعة، والاستماع إلى محاضرة يلقيها أحدهم في موضوع يهم الجالية الإسلامية في تلك الولاية، علاوة على اتخاذ ذلك المكان لتعليم أبنائهم القرآن الكريم واللغة العربية والأخلاق الإسلامية.
ولقد كان متوقعا أن تولي الجاليات الإسلامية المتناثرة في أمريكا موضوع التربية عناية كبرى، غير أن تطور المعاهد الإسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية كان بطيئا. فمن الناس من جاء لجمع الثروة والعودة إلى البلد الأم، وهؤلاء لم يكونوا معنيين بمثل تلك المعاهد، فاهتمامهم بالدرجة الأولى كان مركزا على دعم أهلهم في البلد الأم ماديا. ومن الناس من قرر البقاء في أمريكا، وهؤلاء بدأوا يفكرون في تأسيس معاهد إسلامية خاصة بهم ليحافظوا على دينهم ويعلموا أولادهم. ومن هؤلاء الرواد الذين قاموا بمبادرات فردية تستحق الثناء والإعجاب حوى في واشنطن العاصمة Washington D. C محمد عمر في كونيس quinc في ولاية مسجيوستس massachusetts، وعبد الله انغرام في مدينة سيدار رابذر في ولاية إيوا،
__________
(1) . ibid p. 43.
(2) . abraham، arabs in the new world، p. 172.
(3) . ibid p. 173.
(4) . ehdi p. 28(22/254)
حيث توجد الجالية الإسلامية الرائدة في تعليم أبنائها في أمريكا كما سنرى، كما أن عبد الله هذا كان ضابطا في الجيش الأمريكي وهاله أن يكون في هذا الجيش تحيز ضد المسلمين حيث كان يرمز للمسلم في الجيش الأمريكي بحرف x لذلك بادر إلى الكتابة إلى الرئيس الأمريكي أيزنهاور، طالبا منه الاعتراف بالمسلمين في الجيش، وقد لبي طلبه ذاك. كما كان عبد الله هذا رائدا في الدعوة إلى اجتماع إسلامي عام في سنة 1952 لكافة المراكز الإسلامية الموجودة في الولايات المتحدة وكندا لتوحيد الجهود لتعليم أبنائهم وللمحافظة على الإسلام والمسلمين في تلك الديار، ولتصحيح مفاهيم غير المسلمين عن الإسلام والمسلمين وتزويدهم بالمعلومات الصحيحة عن الإسلام والمسلمين وتزويدهم بالمعلومات الصحيحة عن الإسلام كدين عظيم، وقد تمخض الاجتماع عن تأسيس الجمعية الإسلامية العالمية international muslim society التي غيرت اسمها في اجتماع عقد في شيكاغو بعد سنتين إلى اتحاد الجمعيات الإسلامية federation islamic associations (F. IA) والتي قدمت خدمات للجالية الإسلامية في تلك الديار فأصدرت مجلة النجمة الإسلامية the muslim star وعملت دليلا لمسلمي أمريكا، كما عملت على إنجاز إحصائية للمسلمين هناك وتجهيز مواد تعليمية لمدارس يوم الأحد وما إلى ذلك (1) .
كذلك كانت جالية سيداررابذر الإسلامية رائدة في مجال تحفيظ القرآن الكريم لأطفالها فقد جاء في نشرة جالية سيداررابذر cedar rapids gazettei التي صدرت في مطلع سنة 1936، تحت عنوان " أولاد يتقنون القرآن الكريم بالعربية " ما يلي:
أتقن اثنان من أولاد سيداررابذر قراءة القرآن الكريم باللغة العربية، وقد ابتهج الجمهور الذي استمع إلى ذلك في المعبد الإسلامي muslim temple (ظل بعض المسلمين يطلقون اسم معبد على مساجدهم حتى
__________
(1) . abraham، arabs in the new wor؛d. P. 19.(22/255)
فترة قريبة) وكلا الولدين، اللذين أتقنا قراءة القرآن الكريم من مواليد أمريكا عمر أحدهما 12 سنة وعمر الآخر 6 سنوات وبهذا فإنهما سيكونان أول ولدين في الولايات المتحدة الأمريكية يقرآن القرآن الكريم باللغة العربية (1) .
كان ذلك السبق لهذه الجالية في ميدان التعليم، في وقت فقد المسلمون فيه استعمال اللغة العربية بسرعة، ولم يكن قسم منهم يجرؤ عن كشف هويته الإسلامية، فالعديد منهم تزوجوا نصرانيات واتخذوا لأنفسهم أسماء أمريكية (2) ووقف كثيرون من الآباء حيارى أمام استقلالية وعقوق أبنائهم في المهجر، وعبر كثيرون عن قلقهم بشأن مستقبل أبنائهم قائلين (لقد خسرنا أبناءنا في أمريكا) (3) فغدا الآباء يتكلمون بالعربية في البيت والأبناء يردون عليهم بالإنجليزية، لأنها أسهل عليهم، ولأن بعضهم ينظر إليها نظرة احترام أكثر. حتى رأى ورنر warner أن الآباء يتعلمون الإنجليزية عن طريق أبنائهم (4) ولقد حاول الآباء مقاومة هذا التيار العاتي الذي سيجرف أبناءهم لا محالة. حاولوا تربيتهم تربية إسلامية، ولكن بعد فوات الأوان، لذلك قوبلت المقاومة من الجيل الأول بمقاومة أعنف من قبل الجيل الثاني، مما أدى إلى فقدان سيطرة الأب على الأسرة. فأصبح من الشكاوي المألوفة عند الزوجة المسلمة في ديترويت مثلا، أن تصف زوجها بقولها: " أنه لا يعرف كيف يضبط ويربي الأولاد، إنهم لا يصغون إلى نصائحنا فهم يقضون معظم أوقاتهم خارج البيت، ولا يأتون إلى البيت إلا عند الأكل أو النوم " (5) فأية خسارة أفدح من هذه؟ ولقد كان أكثر جرأة وصراحة ذلك الأب الذي ألقى باللوم على نفسه أولا وأخيرا في ضياع أخلاق أبنائه ونسيانهم اللغة العربية عندما قال: " إنه ذنبي أنا، لقد أجرمت بإحضار أبنائي إلى أمريكا ".
لا شك أن الآباء يتحملون المسؤولية إذا لم يوجهوا أبناءهم الوجهة
__________
(1) Ibid، p. 66.
(2) . mehdi، p. 93.
(3) . abraham، arabs in the new world، p. 19.
(4) . elkoly، p. 87.
(5) . wanew \ r، w. loyd. Structure of american life. Edinburg، 1952، p. 125.(22/256)
الصحيحة، ويوفروا لهم التربية الإسلامية المناسبة، وهذا شيء يكاد يكون عاما في المهجر، يقول صاحب (الناطقون بالضاد في أمريكا الجنوبية) نتيجة احتكاك أبناء المغتربين المسلمين بأبناء البلاد التي نزلوا إليها وانتسابهم لمدارسهم، سادت البرتغالية والأسبانية البيت العربي، وغدا الأبناء يجهلون لغة السلالة التي انحدروا منها، وتاريخ الأمة التي ينتمي إليها آباؤهم. وفي هذه الحالة نجد فارقا شاسعا بين المهاجر العربي، وغيره من المهاجرين الذين يفرضون على أبنائهم في سن معينة تكلم لغة السلالة التي ينتمون إليها، وبعد أن يلموا بلغتهم كتابة وقراءة وتكلما، في مدارس خاصة بتلك الجاليات، يأذن الآباء للأبناء بأن يتعلموا لغة البلاد التي نزلوها. على عكس حالة الطفل العربي الذي لا يفقه من لغة والديه سوى بضع كلمات عربية مشوبة برطانة أعجمية (1) .
ويورد البدوي الملثم حادثة تدل على تمسك أخس شعوب الأرض بلغتهم وتخلينا عن لغتنا بما فيها من جمال وروعة، فيقول: " روى لي مغترب أنه عاش معه أسرة يهودية، وذات يوم عاد إلى المنزل ليجد رب البيت ينهال بالضرب على ابنه ويفرض عليه الوقوف في زاوية البيت رافع اليدين منتصبا على ساق واحد.
فسأله: ما باله يبكي؟
فأجاب اليهودي: كلب يستحق القصاص. إنه ولد عنيد متمرد، فكم نصحته ألا يكلم إخوانه إلا بالعبرية، لكنه يحدثهم بالبرتغالية، وخشية أن تفقد العبرية مكانتها الأولى في البيت، نال هذا الجزاء (2) .
فهل يأخذ المسلمون المغتربون العبرة من هذا، أم على قلوب أقفالها؟ إن الأبناء غير مسئولين بالفعل، إن المسؤولية كاملة تقع على كواهل الآباء الذين يتقاعسون في تهيئة الجو الإسلامي المناسب لتربية أبنائهم، ومما يبعث على السخرية أن بعض الآباء، سواء المتبرزل منهم أو المتأمرك، يحتقرون لغتهم العربية ويحدثون أبناءهم باللغة الأجنبية التي
__________
(1) . elkholy، p. 89.
(2) البدوي الملثم - الناطقون بالضاد في أمريكا الجنوبية، 1956 ص246(22/257)
يجهلون قواعدها وأصولها ولا يجيدون لفظها ألبتة.
في السنوات الأخيرة أصبح المسلمون في أمريكا على وعي بضرورة توفر تعليم إسلامي يؤمن للجيل الناشئ معرفة بتعاليم الإسلام ويضمن محافظتهم على هويتهم وعدم انصهارهم في ذلك المجتمع. واتبع المسلمون في سبيل ذلك وسائل تعليمية متنوعة تزود الأطفال بالثقافة الإسلامية الضرورية من هذه الوسائل التربية البيئية، مدارس نهاية الأسبوع، المدارس العامة ذات الأعضاء المسلمين، والمدارس الدينية الإسلامية. وفيما يلي عرض موجز لكل منها:
التربية البيئية home education لسنوات عديدة خلت قدمت إحدى مدارس ماريلاند برنامجا كاملا للأطفال المتكلمين بالإنجليزية من الروضة حتى الصف الثامن (الثاني الإعدادي) وقد استعمل هذا البرنامج بشكل كبير من قبل الأمريكيين خارج أمريكا دون التسجيل في مدارس تدرس بالإنجليزية. ولقد جذبت هذه المدارس انتباه المسلمين الذين يريدون أن يحافظوا على أبنائهم من السلبيات الاجتماعية والفكرية للمدارس الأمريكية، ولذلك فقد اقترحت الجالية الإسلامية في مدينة فورت كولنز fort colens بولاية كولورادو colorado أن يتبع المسلمون نفس الطريقة في تدريس أبنائهم في البيت فرادى أو مجموعات صغيرة، ولقد نجحوا بالفعل في (أسلمة) هذا النوع من المدارس بأن أضافوا إلى مناهجها موضوعات إسلامية. وكانت هذه التربية بالفعل حلا لأولئك المسلمين الذين اضطرتهم ظروف سياسية واقتصادية إلى أن يقيموا مع عائلاتهم في أمريكا لمدة طويلة.
مدارس نهاية الأسبوع supplemental education - the weekend school كثير من أبناء الجاليات الإسلامية في أمريكا يتعلمون في المدارس الأمريكية على مدى خمسة أيام ويتعلمون في المدرسة الإسلامية في نهاية(22/258)
الأسبوع أو في مساء بعض الأيام خلال الأسبوع. ويشتمل منهاج هذه المدارس الإسلامية على تدريس اللغة العربية والقرآن الكريم والتاريخ الإسلامي والعبادات وقصص الأنبياء. ويتعلم الأطفال في هذه المدارس كيفية الوضوء والصلاة كما يلقنون الأخلاق الإسلامية الفاضلة وكيف يتحتم عليهم أن يتعاملوا مع الجميع مسلمين كانوا أم كفارا وكيف يجدر بهم أن يتحلوا دائما وأبدا بالخلق الإسلامي الرفيع مع آبائهم وأمهاتهم وأخواتهم وزملائهم في المدرسة الإسلامية ومعارفهم في المدرسة الأمريكية العامة. وكثيرا ما يوصي المدرسون الآباء بضرورة متابعة ترسيخ المفاهيم الإسلامية التي يتلقاها الأطفال في المدرسة الإسلامية سواء أكانت في مجال العبادات أو السلوك وبهذا التعاون بين المدرسة الإسلامية والبيت تستطيع هذه المدرسة أن تواصل أداء رسالتها.
المدارس العامة ذات الأعضاء المسلمين community minded public في مناطق كثيرة من الولايات المتحدة الأمريكية حيث تتمركز أعداد كبيرة من المسلمين، أبدى هؤلاء رغبتهم للمدارس الأمريكية العامة في أن يساهموا معهم في إدارة دفة التعليم في منطقتهم فساهموا مساهمة نشطة في مجالس الآباء والمدرسين واستطاعوا أن ينجحوا في الانتخابات التي جرت لاختيار أعضاء المجالس التعليمية في مناطقهم وبالتالي فقد استطاعوا أن يجعلوا اللغة العربية ضمن مناهج التعليم لأبنائهم في تلك المدارس بأن يحضر مدرس مختص يقوم بتعليم هؤلاء الطلاب المسلمين اللغة العربية باستمرار. أما التربية الإسلامية فكما هو معروف عن كافة المدارس الأمريكية العامة فهي ممنوعة من تدريس أي دين في مدارسها بنص القانون الذي ينادي بفصل الدين عن الدولة، ويتضح ثقل هؤلاء المسلمين في جعل العربية تدرس لأبنائهم في المدارس العامة في كل من ديترويت وشيكاغو ونيويورك وفيلادلفيا وواشنطن العاصمة واتلانتا وكاليفورنيا.(22/259)
المدارس الدينية الإسلامية the islamic parochial تنظم هذه المدارس بنفس الطريقة التي تنظم بها أية مدرسة دينية في أمريكا. فالمنهاج الذي يدرس بوساطة معلمين مؤهلين، ينبع من روح الإسلام وتعاليمه وتدرس في هذه المدارس كافة الموضوعات التي تدرس في المدارس الأمريكية العامة حتى يتمكن الطلاب من متابعة دراستهم في تلك المدارس إذا ما أرادوا ذلك أو إن لم يوجد لهم صفوف في مستواهم في هذه المدارس الدينية، ويدرس هذه الموضوعات معلمون مختصون مجازون لتدريس تلك المواد، غير أن معظم هؤلاء المعلمين والإداريين مسلمون.
وفي هذا النوع من المدارس يجد المسلمون حلا للعديد من مشكلاتهم التربوية في أمريكا رغم أن هذه المدارس تحتاج إلى دعم مالي باستمرار حتى تستطيع القيام بواجباتها تجاه الجاليات الإسلامية واستطاعت هذه المدارس أن تكون عوامل توحيد لسائر فئات المسلمين على اختلاف أجناسهم وتباين خلفياتهم. وقد نجحت جاليات عديدة في تأسيس مثل هذا النوع من المدارس خاصة بهم مثل الجالية الإسلامية في فيلادلفيا وكاليفورنيا وشيكاغو والعاصمة واشنطن وديترويت وغيرها من المدن الأمريكية التي تشتمل على مسلمين يتميزون بالوعي والنشاط.
معهد الدراسات الإسلامية - لوس انجليس institute of islamic studies- los angeles تأسس المعهد في أكتوبر سنة 1975 لتزويد المسلمين ببرنامج مكثف للدراسات الإسلامية وعمد المعهد إلى إنشاء نظام تعليمي كامل للأطفال لإيجاد البيئة الإسلامية المثلى لهم. ثم طور المعهد دراساته في التربية الإسلامية واللغة العربية بحيث شملت المسلمين وغير المسلمين بحيث يمكن أن يؤدي هذا البرنامج المطور إلى درجة ليسانس في هذه الدراسات. كما أسس المعهد قسما لتدريس اللغة الإنجليزية(22/260)
للكبار خاصة لمن يعتزمون دخول الجامعات ولم يدرسوا الإنجليزية من قبل. وشبيه بهذا المعهد معهد تابع للجامعة الإسلامية الأمريكية التي أسست في شيكاغو سنة 1983 والتي سأفصل عنها فيما بعد.
وبما أن أي شيء لا يمكن أن يتحقق ويتطور بدون دعم مالي فقد قام رئيس المعهد بزيارة لكل من السعودية والكويت على رأس وفد لجمع التبرعات اللازمة لاستمرار هذا المعهد في أداء خدماته على أتم وجه. ونتيجة لمشاركة المعهد في مؤتمر الجمعيات الإسلامية في أمريكا الشمالية الذي عقد في مدينة نيسوارك في ولاية نيوجيرني فقد زود المعهد بمكتبة إسلامية كاملة وبراتب أستاذ متفرغ. كذلك نتيجة لجهود بعض الإخوة الغيورين على الإسلام والحريصين على تثبيت دعائم هذا المعهد فقد تبرعت جامعة نورث كاليفورنيا بستمائة كتاب قيم لمكتبة المعهد.
اشتمل المنهاج على اللغة العربية، اللغة الإنجليزية (للمتكلمين بالعربية) القرآن الكريم، الحديث النبوي الشريف، الفقه الإسلامي، الدراسات الاجتماعية كما يقدم المعهد برنامجا خاصا للكبار وهو عبارة عن مدخل للدراسات الإسلامية والعربية. وقد صمم هذا البرنامج لتزويد المسلمين عامة والدعاة منهم خاصة بالمعلومات الأساسية الضرورية لهم لتعميق منهجهم للإسلام، وعلاوة على ذلك فالبرنامج مفيد لأولئك الذين يرغبون في مواصلة دراساتهم الإسلامية على المستوى الجامعي. وكان من المؤمل أن يطور هذا البرنامج ليكون كلية إسلامية سنة 1982 غير أن ظروفا عديدة حالت دون تنفيذ ذلك في موعده المحدد.
وكجزء من الخطة المكثفة لتسهيل المهمة التعليمية للمسلمين في أمريكا فقد خطط المعهد فتح مركز لتدريس اللغة الإنجليزية. وقد صمم هذا المركز لخدمة المسلمين الوافدين للالتحاق بالجامعات الأمريكية. وليس بخاف أن أمريكا تعج بهذا المستوى من المعاهد العريقة التي تدرس(22/261)
الإنجليزية على أحدث المستويات لمن يرغبون في ذلك خاصة لمن يرغبون في الالتحاق بالجامعات، غير أن هذا المعهد يتميز عنها جميعا بتهيئة الفرص لتعليم اللغة الإنجليزية في جو إسلامي خالص.
ولقد جربت بنفسي افتتاح مدرسة إسلامية في نيويورك، أطلقت عليها اسم مدرسة الأقصى في مدينة بروكلين سنة 1976، واخترت " مسجد المسلمين " ليكون مقرا لها لتوسط موقعه بالنسبة للكثيرين من المسلمين في هذه المدينة وخصصت للمدرسة سيارة نقل. وكان الطلاب يدرسون خمسة أيام أسبوعيا من السبت حتى الأربعاء، من الساعة الثامنة حتى الثانية عشر ظهرا، حتى إذا أذن لصلاة الظهر توضئوا وصلوا في جماعة، ثم تناولوا غداءهم الذي كانت تتبرع به مدينة بروكلين، وكان للمدرسة ممرض، كما كان لها مدرب كاراتيه. وبالرغم من عدم تشجيع أولياء أمور الطلاب لهذه المدرسة، إلا أني كنت ألمح السعادة على وجوه الطلاب وهم يعيشون جوا إسلاميا خالصا. وكان أمام هذه المدرسة عقبتان هامتان: إحداهما قلة الموارد المالية التي تعطي رواتب المعلمات وأجور النقل. وثانيهما عدم وعي الآباء على أهمية المدرسة بالنسبة لأبنائهم حيث إن معظمهم يلهث وراء متاع الدنيا الرخيص، غير عابئ إن درس ابنه في مدرسة إسلامية أو أمريكية، فكلاهما عنده، لجهله، سواء، وهاتان مشكلتان لدى كل المدارس الإسلامية في أمريكا دون استثناء، ويتوقف تذليلهما على مزيد من الجهد من المسلمين الغيورين في تلك القارة.
إن الخشية من تأثير الثقافة الأمريكية، والحذر من تأثير النصرانية على الجيل الناشئ، زادت من الحاجة إلى معاهد التربية الإسلامية، ليس من أجل أطفال المسلمين المهاجرين وحدهم، بل من أجل الأمريكان الذين خرجوا من ظلمات الرأسمالية الأمريكية إلى نور الإسلام، والذين أصبحوا يتلمسون بكل شغف مختلف الطرق لانتشال أبنائهم من(22/262)
ضلالات المدارس الأمريكية. ومن هؤلاء من سحب أبناءه من المدارس الأمريكية ليضعهم في مدارس متواضعة ذات صيغة إسلامية. وفي زيارة قمت بها للمدرسة الإسلامية التابعة لمسجد العصر في مدينة ديترويت سنة 1981، شاهدت صفوف البنين منفصلة عن صفوف البنات في غرف متواضعة ومقاعد دراسية بسيطة والمعلمات يدرسن القرآن الكريم واللغة العربية، والجميع؛ مديرا ومدرسين ومدرسات وطلابا، من المسلمين الأمريكان السود. وتشتمل المدرسة على ستة صفوف، تمثل المرحلة الابتدائية كاملة. والجميع يرتدون الزي الإسلامي. ولقد تبادر إلى ذهني أن جهود قد تضيع سدى إن هم أرسلوا أبناءهم وبناتهم مرة ثانية إلى المدارس الأمريكية العامة، لأن مدرستهم تلك لا يتجاوز مستواها المرحلة الابتدائية. غير أن مدير المدرسة أزال من خاطري ذاك الهاجس، وأوضح لي ما يبعث على الإعجاب والتقدير لهؤلاء الآباء، وما يصلح أن يكون أنموذجا يحتذى من قبل كل الآباء المسلمين في أمريكا، فقال: صحيح أن مدرستنا هذه ابتدائية، ولكن مجموعتنا لها مدارس إعدادية وثانوية في كل من كندا ونيويورك، وبكل رضى يرتحل أهل الطالب أو الطالبة معه إلى هذه المدارس حتى لا يغرقوا في أوحال المدارس الأمريكية التي خبرناها بأنفسنا سنوات طوال. ومما يبعث على الارتياح أن سائر أفراد مجموعتنا متعاونون كالجسد الواحد، فنحن نشعر أننا أقلية وأن على كل واحد منا أن يمد يد العون للآخرين، ولذلك لا نجد أية صعاب عندما نترك ديترويت ونذهب إلى نيويورك أو كندا من أجل تلقين أبنائنا التربية الإسلامية الصحيحة. ونحن بعملنا هذا نكون قد حققنا هدفين: أحدهما وهو الأهم، أننا وفرنا لأبنائنا البيئة الإسلامية الصالحة، وثانيهما أننا جنبناهم مساوئ التمييز العنصري في المدارس الأمريكية، ذلك أن الخدمات التربوية في أمريكا لا تقدم للجميع على حد سواء فعلى سبيل المثال حكمت المحكمة العليا سنة 1896 في قضية تربوية بأن فصل(22/263)
البيض عن السود في المدارس لا يعتبر مخالفة للدستور، لذلك فإن العديد من الولايات الجنوبية ذات الأغلبية السوداء كان حظها من الميزانية أقل بكثير من حظ الولايات ذات الطلاب البيض، وبقي الأمر كذلك إلى أن ألغي بقرار من نفس المحكمة سنة 1954 (1) .
وأثناء تدريسي التربية الإسلامية واللغة العربية في " أكاديمية المسجد " mosque academy التابعة للحزب الإسلامي في شمال أمريكا (i. p. n. a.) islamie oarty in north america في واشنطن العاصمة، عايشت أنموذجا فريدا في استطاعة المسلمين الاعتماد على أنفسهم في تكوين معاهد إسلامية مستقلة استقلالا تاما. فإذا ما دخلت المدرسة لفت نظرك تعاون كافة أعضاء الحزب من أجل إنجاحها، ولذلك تجدهم يحضرون أبناءهم صباحا ويأتون لأخذهم بعد نهاية الدوام. وتلمح على أعضاء الحزب الثقة الزائدة بالنفس التي تزايدت عندهم باعتناقهم الإسلام، والمدرسة تدرس كافة المواد التي من المفروض أن تدرسها المدرسة الأمريكية ولكن في جو إسلامي خالص، علاوة على تدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية. وتشجيعا من الآباء لأبنائهم، ورغبة منهم في مزيد من الثقافة الإسلامية، فقد كان هؤلاء يحضرون دروسا خاصة بالكبار، رجالا ونساء كل على حدة، في المساء وفي نهاية الأسبوع. والجميع يرتدون الزي الإسلامي في المدرسة وخارجها. وهناك درس للكبار عقب صلاة الفجر مباشرة يتدارسون فيه القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وأصول الدعوة وأفضل الطرق لدعوة نصارى الأمريكان على الإسلام. وإن زيارة واحدة لهذه الأكاديمية تجعلك تنسى نفسك أنك في المستنقع الأمريكي، بل تشعر أنك في عالم آخر، عالم إسلامي متميز تربويا واجتماعيا واقتصاديا. ونتيجة للتعاون الوثيق بين سائر أفراد الحزب فإن المدرسة تجري بكل انتظام وبذلك فقد اطمئن أفراد هذا الحزب، وكلهم من الأمريكان السود، إلى أن أبناءهم يتلقون تربية إسلامية خالصة بعيدة عن
__________
(1) .47 abraham، the arab world؛ the arab americana، p(22/264)
تعقيدات ومشاكل مدارس الكفر المحيطة بهم.
ولعل الحرص الزائد على الأبناء هو أهم ما يميز الذين اعتنقوا الإسلام من الأمريكان عن المسلمين الذين هاجروا إلى أمريكا من ديار الإسلام.
ذلك أن الأمريكان الذين هداهم الله لاعتناق الإسلام أدرى من غيرهم بمساوئ ومحاذير البيئة الأمريكية، ولقد كانوا أنفسهم متورطين في ذلك قبل أن يذوقوا حلاوة الإسلام، لذلك فهم حريصون على عدم انجراف أبنائهم في تيار ذلك المجتمع الفاسد، وأسلم طريقة لذلك اختيار المدرسة الإسلامية التي تلقن أبناءهم أسمى الأخلاق. أما المسلمون الذين هاجروا إلى أمريكا فتجدهم أقل إدراكا لخطورة المدارس الأمريكية، يقول صاحب " السوريون في أمريكا " The Syrians in America هناك عدد قليل من الأطفال السوريين يؤمون المدارس الخاصة. وغالبيتهم تفضل المدارس العامة. وقد صرح أحد أولياء أمور الطالبات أنه يريد إرسال ابنته إلى المدارس الخاصة لأن المدارس العامة تدرس الرقص (1) .
لا يستويان، لا يستوي من يريد أن يرسل ابنته إلى المدرسة الإسلامية الخاصة تهربا من حصة الرقص، بمن يريد أن يفر إلى المدرسة الإسلامية لأنه خبر ما في المدرسة الأمريكية من فسق وفجور، من زنا ولواط، من شرب للخمور وتدخين للحشيش والمروانا، بين الطلاب أنفسهم من جهة وبين الطلاب ومعلميهم من جهة أخرى. ولعل من لا يعرف المدرسة الأمريكية، وهي صورة صادقة لذلك المجتمع، بحاجة إلى أن يعلم بعضا من الآفات الخطيرة التي تفوح رائحتها من المدرسة الأمريكية، فعلى سبيل المثال حوكم معلم في ديترويت لأنه وجد يلوط بأحد الطلاب في مكتبة في المدرسة ولدى استجوابه اعترف بأنه الطالب رقم 36 الذي يفعل معه فعلته النكراء تلك في ذلك العام. واكتفى مدير مدرسة في آن آربر بتنبيه مجموعة من الطلاب تتعاطى الحشيش في مكان غير مسموح به في المدرسة،
__________
(1) Hitti، Philip K.، The Syrians In America، George H. Doran Company، New York، p. 91.(22/265)
وطلب إليهم عدم تكرار ذلك. واغتصب مجموعة من الطلاب معلمتهم داخل حجرة الصف وعلى مرأى من سائر الطلاب والطالبات فما كان من تلك المعلمة إلا أن رفعت قضية تطالب فيها الحكومة بمليون دولار، هذا بعض ما يحفز المسلمين الجدد على الفرار من المدرسة الأمريكية إلى المدرسة الإسلامية.
تنبه أليجا محمد Eligah Muhammed، أول زعيم للمسلمين السود من الأمريكان، إلى الخطر الذي يحدق بأتباعه إن هم ظلوا ينهلون عادات وأخلاق الكفر من المدارس الأمريكية العامة. فبادر إلى إنشاء جامعة الإسلام المحمدية Muhammed، University of Islam سنة 1932م، وكان ذلك في مدينة ديترويت بولاية ميشيغان. وفي سنة 1934 أنشأ جامعة أخرى من نفس النوع في مدينة شيكاغو بولاية إلينوي، وكان عدد مدرسيها اثنين فقط أما طلابها فكانوا عشرين. وكان أليجا محمد يطمح في تأسيس معاهد إسلامية صرفة بالرغم من مضايقات السلطات المسئولة آنذاك. وفي سنة 1942 افتتح معهدا آخر من نفس النوع في واشنطن العاصمة. وقد واصل أليجا محمد جهوده التربوية تلك حتى نهاية حياته، واستطاع أن يحقق نجاحا محدودا في إيجاد معاهد إسلامية كانت تزود أبناء المسلمين السود من أتباعه بالثقافة الإسلامية ما أمكنه ذلك.
وعندما تولى ابنه ولاس محمد (وارث الدين محمد) قيادة تلك الفئة الأمريكية المسلمة سنة 1975، واصل مسيرة والده، وأجرى بعض التغييرات في هذه الجماعة. فباشر بتغيير اسم جماعته من " البلايين " Bilalians أو " أمة الإسلام المفقودة الموجودة " Lost - Found Nation of Islam إلى " الهيئة الإسلامية الأمريكية " the american muslim ثم أعلن في المؤتمر الذي عقدته رابطة العالم الإسلامي في مدينة نيوآرك newark بولاية نيوجيرزي new jersy أنه وأتباعه يشهدون منذ الآن أنهم مسلمون سنيون يطبقون القرآن لكريم والحديث النبوي الشريف وطالب أتباعه بالصلاة والصيام والحج،(22/266)
وهي الأركان التي لم يطالب بها والده أتباعه من قبل.
أما في مجال التربية والتعليم فقد سار على درب أبيه وأكد على أهمية وضرورة الدور الذي يمكن أن تلعبه الأم في تربية أبنائها. فغير اسم المعاهد التي أطلق عليها والده جامعة محمد الإسلامية، وأعطاها اسما جديدا هو اسم والدته كلارا، فأصبحت تسمى مدارس الأخت كلارا محمد sistar clara muhammed schools وذلك لأن الأخت كلارا كانت قد لعبت دورا بارزا نشيطا في مجال تربية أبناء هذه المجموعة تربية إسلامية صافية.
وازداد عدد مدارس الأخت كلارا سنة بعد أخرى، حتى لا تكاد تخلو أية ولاية أمريكية اليوم من مدرسة أو أكثر تحمل اسم مدرسة الأخت كلارا محمد، موزعة على المساجد المائتين التابعة لهذه المجموعة الأمريكية المسلمة.
وهذه المدارس مفتوحة للجميع بغض النظر عن الجنس أو الدين أو اللون، غير أن الأغلبية الساحقة من طلبة ومدرسي ومدرسات هذه المدارس هم من المسلمين السود الذين ينتمون إلى هذه الجماعة.
وكأية معاهد إسلامية في أمريكا، لا بد من صعوبات تواجه مثل هذه المعاهد خاصة وأنها قد تجاوزت الخمسين هذه الأيام، فمدرسة ديترويت، على سبيل المثال اضطرت إلى إقفال أبوابها ثلاث سنوات متتاليات من سنة 1976 - 1979، غير أنه أعيد فتح هذه المدرسة، في مسجد والي محمد سنة 1979، واختيرت لها إدارة جديدة على مستوى من الكفاءة، فعملت هذه الإدارة على تحديث وتوسيع المدرسة وتزويدها بالمدرسين الأكفاء والوسائل التعليمية العصرية. ونتيجة لهذا كله فقد وصل عدد طلاب هذه المدرسة في السنة الدراسية 1980 - 1981 إلى مائتي طالب وطالبة.
واشتمل المنهاج على الدراسات الإسلامية واللغة العربية بالإضافة إلى الموضوعات الأخرى التي تدرسها المدرسة الأمريكية العامة. وتدرس هذه المدرسة خمسة أيام أسبوعيا من الساعة الثامنة صباحا حتى الساعة الثالثة عصرا ويلتزم المسلمون من معلماتها وطالباتها بالزي الإسلامي.(22/267)
وبالرغم من اشتمال منطقة ديترويت الكبرى على أكبر جالية عربية في الولايات المتحدة، إذ وصل عددهم إلى ما يزيد على مائتي ألف في سنة 1976 (1) ، إلا أنهم لم يتحركوا لتأسيس مدرسة واحدة مثل مدرسة الأخت كلارا محمد، وإذا ما دعوا إلى مظاهرة ليشقوا عنان السماء بهتافات جوفاء، لا تسمن ولا تغني من جوع هبوا إليها سراعا تاركين أعمالهم، فعندما اندلعت حرب رمضان (سنة 1973) دعي إلى مظاهرة عامة شارك فيها من عمال شركة دودج dodge وحدها حوالي ألفين مما أدى إلى تعطيل العمل في هذه الشركة تماما في فترة ما بعد الظهر ويرجع السبب في حماسهم هذا، وتقاعسهم في مجال تربية أبنائهم إلى ضعف الوازع الديني في نفوسهم ولأنهم ما حضروا إلى أمريكا إلا لدنيا يصيبونها، بينما نجد المسلم الأمريكي متحمسا لدينه الجديد فخورا به، مجاهرا بأداء شعائره داعيا الآخرين إليه ما أمكنه ذلك. وبعد أن أصبح يعيش في سعادة الإسلام الغامرة، كره أن يعيش أي من أبنائه في متاهات وضلالات المجتمع الأمريكي القذر، لذلك تجده حريصا أشد الحرص على أن يخلص أبناءه من مدارس هذا المجتمع الموبوء ويلحقهم بالمدارس الإسلامية أينما وجدت، وهذا هو أهم أسباب نجاح الإخوة الأمريكان السود من المسلمين في تشييد المعاهد الإسلامية في كافة أرجاء أمريكا.
وإذا كان جل المدارس الإسلامية التي يداوم فيها الطلاب دواما كاملا أسس على أيدي أمريكيين سود ممن فروا من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام، فإن جل المدارس الإسلامية التي يداوم فيها الطلاب نهاية الأسبوع فقط، قد أسس على أيدي المسلمين المهاجرين إلى أمريكا.
وهذه المدارس مفيدة أيضا، فهي أفضل من لا شيء، كما أنها فرصة لالتقاء أبناء المسلمين وتعارفهم ودراستهم للقرآن الكريم واللغة العربية والسيرة النبوية العطرة في ظلال بيوت الله. ذلك أن المسلمين في أمريكا قد دخلوا مرحلة هامة، أصبح فيها من الضروري لهم أن يؤسسوا معاهد
__________
(1) Abraham، The Arab World؛ The Arab Americans، p. 74.(22/268)
خاصة بهم في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية والدينية والسياسية والتعليمية. واستجابة لهذه الحاجة الملحة، فإن الجهود الفردية في تقدم مستمر في مجال التربية الإسلامية وذلك بالعمل على تأسيس مدارس يتمكن الطلاب المسلمون وغير المسلمين من تلقي تعليمهم في جو إسلامي لذلك فإن مدارس نهاية الأسبوع تنتشر في معظم المدن التي يوجد فيها مسلمون وهي في تزايد مستمر. ومن بعض الأمثلة على ذلك مدرسة الأقصى في نيويورك في مسجد الفاروق بإدارة الأخ أمين عوض، وتدرس يومي السبت والأحد وتشتمل على حوالي مائتي طالب وسبعة مدرسين، وهناك سيارة نقل تشجع الكثيرين على الحضور إلى المدرسة. وهناك مدرسة مشابهة في نيوجيرزي بإشراف المركز الإسلامي هناك. ومدرسة أسست سنة 1966 في مدينة روكفيل rockville في ولاية ماريلاند (1) . وفي ديترويت إلى جانب مدرسة المسجد في ديربورن Dearborn التي نظمها ورعاها الدكتور عبد القادر أبو شريفة لما لديه من خبرة في حقل التربية، فهناك النادي الهاشمي الذي تنظر إليه الجالية كمعهد شيعي ويوجد فيه مدرستان كبيرتان نشيطتان تدرسان يوم الأحد، إحداهما للتعليم الديني والأخرى لتعليم اللغة العربية.
ومدرسة في مدينة بلينفيلد plainfield بولاية إنديانا. ومدرسة في مدينة آن آربر aun arbor في ولاية ميشيغان michigan ومدرسة عريقة في مدينة توليدو (طليطلة) toledo في ولاية أوهايو ohio ومدرسة سكرمنتو sacraminto في ولاية كاليفورينا california حيث توجد أكبر جالية إسلامية هندية وفيها أسس أول مسجد في الشاطئ الغربي لأمريكا ويضيق بي المجال لو مضيت أعدد مدارس نهاية الأسبوع الإسلامية في القارة الأمريكية. غير أني سأورد فيما سيأتي فكرة موجزة عن بعض هذه المدارس.
__________
(1) maryland Mehdi، P. 32.(22/269)
تعتبر مدرسة توليدو التي تدرس في نهاية كل أسبوع أحد الأمثلة على المدرسة الإسلامية في أمريكا، ذلك أن الجالية الإسلامية التي يرجع تاريخها في توليدو إلى سنة 1939، استطاعت في سنة 1955 أن تبني مسجدا وتؤسس مدرسة تابعة له، وقد كان الهدف من تأسيس مدرسة توليدو تعليم أعضاء الجالية وأبنائهم روح وفلسفة وثقافة الدين الإسلامي والوفاء بحاجات الأعضاء الدينية وتعليم الطلاب اللغة العربية والتاريخ الإسلامي، كما عملت هذه المدرسة على الإبقاء على وحدة وتعاون وتميز سائر أعضاء الجالية الإسلامية في تلك المدينة التي يفتخر مسلموها بأنها تحمل اسما إسلاميا هو اسم طليطلة في الأندلس.
وقد بدأت المدرسة بحماس ونشاط كبيرين، وكان حضور الطلاب عاليا في البداية وكان آباؤهم يرسلونهم إلى المدرسة يومي السبت والأحد من كل أسبوع لمدة أربع ساعات كل يوم. وما إن بدأ الطلاب يتفهمون أصول اللغة العربية والدين الإسلامي حتى فوجئ المسئولون بعد عدة أشهر بتسرب مفاجئ لعدد من هؤلاء لأسباب كثيرة، منها:
- عدم مقدرة الآباء على الاستمرار في إرسال أبنائهم إلى المدرسة في كلا اليومين الوحيدين اللذين يمكنهم فيهما الاستراحة أو قضاء بعض الواجبات البيتية المتراكمة لنهاية الأسبوع، وعدم رغبة الطلاب في دراسة خمسة أيام في المدارس الأمريكية ويومين في المدرسة الإسلامية مما يثقل عليهم ولا يدع لهم أية فرصة للراحة خاصة وأن كافة زملائهم كانوا يستمتعون خلال إجازة نهاية الأسبوع.
- عدم كفاءة المدرسين الذين قدموا من مصر وغيرها من الدول العربية وعدم إلمامهم بطرق تدريس هؤلاء الطلاب الذين يلقون كل عطف وتشجيع من مدرسي المدارس الأمريكية في حين يعاملهم مدرسو المدرسة الإسلامية بالطريقة التقليدية غير المألوفة لدى هؤلاء الذين ولد معظمهم في أمريكا.(22/270)
- عدم توفر المنهاج الملائم والكتب الضرورية للقراءة في البيت.
كل هذه الأسباب أدت إلى فشل هذه المدرسة وفشل كل الجهود التي بذلها الآباء والمدرسون لتنويع أساليب التدريس واختيار المعلمين ذوي الخبرة لأن الآباء والأبناء يجدون أنهم بحاجة إلى الاستجمام والراحة خلال نهاية الأسبوع كي يستقبلوا الجديد بهمة ونشاط، لهذه الأسباب مجتمعة فقد تناقص عدد طلاب المدرسة باستمرار كما اقتصر المنهاج على تدريس أصول اللغة العربية وبعض قصار السور من القرآن الكريم، وتلقين أركان الإسلام والإيمان وبقي الأمر كذلك إلى أن استطاعت الجالية إحضار إمام جديد من الأزهر سنة 1965 والذي عمل على بعث الحيوية والنشاط في المسجد والمدرسة حقا، فوصل عدد الطلاب إلى 150 طالبا ما بين سن الرابعة والخامسة عشرة وكانوا موزعين على خمسة صفوف كالآتي: -
المنهاج لجميع هذه المراحل ... العدد ... العمر ... الصف
التاريخ الإسلامي والفلسفة الإسلامية ... 80 ... 15 فما فوق ... أ
15 ... 10 - 14 ... ب
أركان الإسلام والإيمان الأساسية ... 15 ... 7 - 9 ... جـ
قصص الأنبياء عليهم السلام ... 40 ... 4 - 6 ... د
الحديث النبوي الشريف ... 90 ... الكبار ... هـ
ولقد أعد المنهاج بدقة من قبل الإمام الذي ينظم الدروس الأسبوعية ويجتمع بالمدرسات قبل بدء التدريس لإرشادهن لأفضل الأساليب في التعليم، ومعظم المدرسات من الجيل الثاني وبعضهن من أمهات أمريكيات وآباء مسلمين.
تبدأ الصفوف الأربعة الأولى في الدور السفلي من المسجد من العاشرة حتى الحادية عشرة والنصف، وهذا التوقيت بدوره يعطي الإمام فرصة(22/271)
الإشراف على الصفوف ومراقبتها. كما إنه يمكن المدرسين وكبار الطلاب من الاستماع إلى محاضرات عن العقيدة الإسلامية ولغة التدريس في هذه الصفوف والمحاضرات هي اللغة الإنجليزية، وعند الظهر يؤدي الجميع صلاة الظهر جماعة في المسجد وهذا ما يبعث نوعا من الارتياح في نفوس التلاميذ الذين لا تتاح لهم فرصة لأداء صلاة الجمعة بسبب دوامهم المدرسي أثناء تلك الصلاة. وعلاوة على ذلك فهناك دروس في اللغة العربية تعقد مساء كل خميس ما بين الساعة السابعة والثامنة والنصف، ذلك لأن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم كما أنها جزء لا يتجزأ من الإسلام ولذلك فإنه فرض على كل مسلم أن يلم بها أو بشيء منها على الأقل.
بتخطيط من أستاذ الدراسات الشرقية في جامعة ميشيغان الدكتور راجي رموني، أسست في آن آربر سنة 1972 مدرسة إسلامية. تداوم يومي السبت والأحد، ولدى هذه المدرسة برامج إسلامية مشوقة، استطاعت اجتذاب العديد من الطلاب المسلمين من سائر المدن المجاورة، مثلا بيسلانني psilant سالين salin أدرين adrian هدسون hudson بلفيل sellvill جاسكون jackson فلنت flint بليموث plymouth وغيرها. ويدرس فيها مائة وخمسون طالبا وطالبة موزعون على خمسة صفوف. ويتولى التدريس مدرسون ومدرسات تطوعا في سبيل الله. ويشتمل المنهاج على اللغة العربية، والقرآن الكريم والسيرة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين وقصص الأنبياء، علاوة على تعليم الوضوء والصلاة والأخلاق والآداب الإسلامية. ويتخلل هذه الدروس برامج ترفيهية من ألعاب وأفلام تلفزيونية مناسبة، ولقد أثبتت هذه البرامج الترفيهية صلاحيتها في وقف تسرب الطلاب، وبقاء معظمهم في الصفوف حتى نهاية الفصل. ذلك لأن العديد من الطلاب، يحضرون إلى المدرسة ولديهم شعور أن نهاية الأسبوع من حقهم أن يستمتعوا بها خارج نطاق الجو المدرسي، لأنهم يقضون خمسة أيام في الأسبوع في المدارس الأمريكية العامة، ويومين في المدرسة الإسلامية، فإذا لم يكن جو المدرسة(22/272)
الإسلامية محببا جذابا فسرعان ما يضيق به الطلاب ويتسربون بشكل ملحوظ.
يتولى الآباء إحضار أبنائهم، وقد نظمت الجالية الإسلامية في آن آربر برامج خاصة للآباء في اللغة العربية والتربية الإسلامية خاصة وأن قسما كبيرا منهم من مسلمي أمريكا والهند والباكستان. وفي نهاية كل فصل توزع جوائز رمزية وشهادات تقدير على المدرسين والآباء، كما توزع الشهادات والجوائز على جميع الطلاب. وهناك دورة مكثفة خلال عطلة الصيف يشعر الآباء وأبناؤهم أنهم يجنون منها فوائد كبيرة، لأنهم يدرسون خمسة أيام أسبوعيا على مدى شهرين متتابعين.
ولم يقتصر النشاط التعليمي للجالية الإسلامية في آن آربر على مدرسة نهاية الأسبوع والصيف، بل يتعداها إلى الإسهام في التدريس في المدارس الإسلامية الموجودة في المدن المجاورة، وإلى إلقاء المحاضرات عن الإسلام والمسلمين في الكنائس بدعوة من رجال الدين فيها، وإلقاء محاضرات في المدارس الحكومية العامة بدعوة من بعض المدرسين، يعقب ذلك استفسارات من الطلاب عن الإسلام، خاصة وأن معلومات الأمريكان عن الإسلام مشوهة لأنها مستقاة من أعداء الإسلام دون غيرهم. كما يشمل النشاط التعليمي لهذه الجالية على التدريس في مختلف السجون في ولاية ميشيغان التي تشتمل على سجناء مسلمين رجالا ونساء. فيقوم متطوعون مختصون من أعضاء الجالية بزيارة السجون بشكل منتظم، وإعطاء دروس في اللغة العربية والتربية الإسلامية، وإلقاء خطبة الجمعة على السجناء المسلمين ومن هذه السجون سجن هيورن huron واحد للرجال وآخر للنساء، وسجن مايلان milan، وسجن جاكسون jackson وهو أكبر سجن في العالم، وكنت أقصده بانتظام لتدريس حوالي 300 نزيل مسلم. كان قسم منهم يدرس(22/273)
اللغة العربية والثقافة الإسلامية في فرع كلية جاكسون jackson community college داخل السجن نفسه.
ونظرا للموقع الهام الذي تتميز به مدينة آن آربر، لكونها مدينة جامعية ثلث سكانها طلاب في الجامعة، فقد أخذت الجالية الإسلامية هذه، تنتهز فرصة وجود أي من المثقفين المسلمين الزائرين، ليدلي بدلوه في مجال التربية الإسلامية، سواء أكان للصغار أو للكبار، ومن أفادوا الجالية في هذا المجال الدكتور مصطفى الأعظمي، عالم الحديث، من الهند، والدكتور عمرو النامي من ليبيا، والدكتور حسن الترابي من السودان، والدكتور أحمد صقر من لبنان، والدكتور راجي رموني من فلسطين، والدكتور سمير فخرو من البحرين، والنائب يوسف العظم من الأردن، والدكتور عبد الله التركي - مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض وغيرهم كثير.
هذا وقد أتمت هذه الجالية الإسلامية بناء مركز إسلامي جديد سنة 1984 يشتمل على قاعدة للصلاة ومدرسة ومكتبة، ومن المؤمل أن يصبح الدوام في المدرسة الجديدة كاملا، خمسة أيام أسبوعيا بعون الله.
ومن المؤسسات التي ساهمت في مجال التربية الإسلامية في أمريكا رابطة العالم الإسلامي، ففي سنة 1962، أسست هذه الرابطة في مكة المكرمة، وأعلنت على الملأ أنها ستعمل على " نشر " الإسلام في كافة أرجاء العالم، والتصدي للمحاولات المعادية للإسلام، وتطوير الجمعيات الإسلامية، خصوصا في المناطق التي يمثل المسلمون فيها أقلية مثل أمريكا. ومنذ سنة 1974 افتتحت لها مكتبا في الأمم المتحدة في نيويورك، وكانت تتشاور وتتعاون مع منظمة اليونسيف unicef واليونسكو unesco في عدة أمور. وكان من خدماتها في نيويورك توزيع نسخ مجانية من ترجمة معاني القرآن الكريم، وإمداد المراكز الإسلامية بأئمة(22/274)
ومدرسين. وترأست الرابطة اجتماعا إسلاميا عاما عقد في مدينة نيوأرك newark في ولاية نيوجيرزي new jersey سنة 1977 حضره ممثلون عن أكثر من مائتي مسجد وجمعية في أمريكا. وكان هدف الاجتماع تقوية وتوحيد الجهود الإسلامية في القارة الأمريكية.
أما أكثر الجمعيات الإسلامية نشاطا في مجال التربية الإسلامية، ومجال الدعوة إلى دين الله الحنيف في أمريكا، فهي " اتحاد الطلبة المسلمين في أمريكا وكندا " Muslim Student Association (M. S. A. ISNA) .
وقد تم تأسيس هذا الاتحاد في مطلع سنة 1893، على يد خمسة وعشرين طالبا مسلما، ينتمون إلى خمس عشرة جامعة أمريكية. وكان ذلك في جامعة الينوى university of illinois في مدينة أيربانا urbana.
وكان الهدف من تأسيس الاتحاد توحيد الطلبة المسلمين الموجودين في أمريكا. والذين تزايدت أعدادهم بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة. إذ بينما اشتمل دليل الطلبة الأجانب الذي صدر في سنة 1919، على أسماء خمسة وثلاثين طالبا سوريا في الكليات والجامعات الأمريكية المختلفة، فقد وصل هذا العدد في السنة الدراسية 1981 - 1982 إلى 9540 طالبا من السعودية، و1000 من مصر، و1000 من شمال أفريقيا، وآلاف أخرى من شتى بقاع العالم الإسلامي.
وكان تأسيس ودعم المعاهد الإسلامية في القارة الأمريكية من أهم أهداف هذا الاتحاد، ومن الخدمات التي يقدمها الاتحاد:
- خدمات الكتاب الإسلامي Islamic Book Service (I. B. S.) إذ يقوم هذا القسم بطباعة واستيراد الكتب الإسلامية بمختلف اللغات وبيعها أو توزيعها على المراكز الإسلامية.
- مساعدة الطلبة المسلمين ماديا وذلك بإعطائهم المنح الضرورية أو إعطائهم قروضا بدون فوائد يقومون بتسديدها بعد سنوات من تخرجهم.(22/275)
- طباعة ونشر المادة الإسلامية باللغتين العربية والإنجليزية.
- تعليم الإسلام للسجناء مسلمين كانوا أو غير مسلمين.
- تنظيم مؤتمرات إسلامية يحضرها آلاف من مختلف الجاليات الإسلامية ويدعى إليها أفاضل العلماء من شتى ديار الإسلام ليرووا ظمأ المسلمين في أمريكا إلى معرفة المزيد من الإسلام خلال أيام المؤتمر وبعده أيضا. هذا وقد تم تشييد مقر جديد فاخر للاتحاد سنة 1982 في مدينة بليغيلد plainfield في ولاية إنديانا indiana ليكون مركزا إسلاميا يضم مسجدا ومكتبة وقاعة محاضرات وقاعات رياضية. وهناك آمال كبار تعقد على هذا الاتحاد في تقديم مزيد من الدعم والتخطيط في مجال التربية الإسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية.
وأخيرا وليس آخرا، فهناك حدث عظيم في مجال التربية الإسلامية، شهدته مدينة شيكاغو chicago ثاني أكبر المدن الأمريكية والتي يسكنها نصف مليون مسلم، ذلك هو قيام أول جامعة إسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1983، فبعد أن كان المألوف أن يؤسس الأمريكان جامعات لهم في بلاد المسلمين، لتضليل أبناء المسلمين وإبعادهم عن دينهم، وتخريج جيل لا يخدم إلا المصالح الأمريكية في ديار الإسلام. بعد هذا بدأ المسلمون يقيمون الجامعات في أمريكا، ولكن لهدف مختلف تماما، وهو محاولة إخراج الناس على اختلاف معتقداتهم وأجناسهم من ظلمات المبدأ الرأسمالي الأمريكي الكافر إلى نور الإسلام العظيم.
وكان لهذا الحدث العام ردود فعل على مختلف الأصعدة في أمريكا وخارجها. فعلى الصعيد الرسمي اعترفت الحكومة الفيدرالية بالجامعة، وعبرت وزارة التعليم العالي عن سرورها لافتتاح الجامعة وعن أملها بأن تملأ هذه الجامعة الفراغ الأكاديمي في مجال معرفة الإسلام دينا وحضارة ومدنية وتاريخا. وقد سجل هارولد واشنطن رئيس بلدية شيكاغو زيارة إلى الجامعة، كما زارها عدد من مسؤولي وزارة التعليم في ولاية إلينوي ومجموعة من أعضاء(22/276)
مجلس الشيوخ. أما الأوساط العلمية فأعلنت ترحيبها بالجامعة، فاعترفت بها جامعات عديدة وشجعت بعض الجامعات طلابها على دراسة بعض مواد العلوم الإنسانية فيها.
وتحت عنوان (الحياة الإسلامية تبرز في الغرب الأوسط لأمريكا) islam life lebuts in midwest جاء في صحيفة شيكاغو تربيون Chicago Tribune وهي الصحيفة الأولى في شيكاغو: (أن الجامعة الإسلامية الأمريكية هي الأولى من نوعها. .) أما صحيفة صن تايمز sun times إحدى صحف شيكاغو الرئيسية، فرغم أنها أشارت إلى أن قيام الجامعة سوف يساعد على التقارب الثقافي، إلا أنها لم تخف حسرتها على ذهاب الراهبات والتماثيل والرهبان والصلبان الذين كانوا يمتلكون المبنى قبل أن تشتريه الجامعة الإسلامية. كتبت هذه الصحيفة مقالين أحدهما بعنوان (كلية إسلامية في موقع شاذ College of Islam in Ironic Location) والآخر بعنوان (كلية إسلامية تساعد على التقارب الثقافي) islamic college help bridge cultural gap فقالت الصحيفة: (ستكون هزة ثقافية وصدمة لدى طلاب مدرسة أماكولاتا الثانوية لو زاروا مدرستهم الأم فالقديسات ذهبن، وزالت بذهابهن التماثيل والصلبان، وحل محل اسم المدرسة لائحة مكتوب عليها بالعربية والإنجليزية: الكلية الإسلامية الأمريكية، أما في الداخل فقد تحولت الكنيسة إلى مسجد. .) وما تخفي صدورهم أعظم، فلقد أصبح ذلك الدير كلية إسلامية، وبذلك جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا.
ومن أجمل ما وصف به لولب الجامعة الدكتور أحمد صقر هدف الجامعة قوله: (نشأت جامعة فوردهام في نيويورك قبل مائة سنة لنشر الثقافة الكاثولويكية ووضع مساحيق تجميل على وجه النصرانية الشاحب الذابل الذي أعرض عنه المجتمع الأمريكي. أما المسلمون فقد حاولوا إقامة جامعة لهم في الستينات ثم في السبعينات غير أن الظروف لم تكن مواتية(22/277)
أيامها لأن يرى هذا المشروع التربوي الإسلامي النور، والآن ها نحن قد تمكنا بعون الله سبحانه وتعالى من تحقيق هذا الحلم الذي راود المخلصين من أبناء المسلمين سنوات عديدة، وستطرح جامعتنا رؤية متكاملة للإسلام كتصور حي مستقل للكون والإنسان والحياة، لانتشال الناس في هذه القارة، مسلمين وغيرهم، من التخبط في دياجير الكفر إلى السعادة في ظلال الإسلام العظيم) .
وفي لقاء مع الدكتور عبد القادر أبو شريفة، أستاذ اللغة العربية بالجامعة قال: (بدأت الدراسة في الجامعة في أيلول (سبتمبر) سنة 1983 والمسئولون فيها من عشر دول إسلامية، فالدكتور إسماعيل الفاروقي هو رئيس الجامعة، وهو المشهور بنشاطه التربوي الإسلامي في جامعة تمبل temple university وغيرها. والدكتور أحمد صقر هو نائب الرئيس وهو دينامو الجامعة الفعلي، وللكلية مجلس أمناء يرأسه الحبيب الشطي ومعه نخبة من أفاضل الأدباء والعلماء والإداريين والمربين والدبلوماسيين منهم: الشيخ عباس الغزاوي والدكتور عبد الله نصيف والدكتور عبد الله التركي والدكتور أحمد محمد علي والدكتور محمد عبده يماني وجميعهم من السعودية والدكتور عز الدين إبراهيم من الإمارات، والدكتور يعقوب الغنيم من الكويت، والدكتور كمال ناجي من قطر والأستاذ دفع الله الحاج يوسف من السودان.
أما طلاب الجامعة فيمثلون أربع عشرة دولة إسلامية هي: السودان، الصومال، السعودية، غامبيا، الباكستان، الهند، ماليزيا، نيجيريا، فلسطين، سوريا، لبنان، مصر، ترينيداد، غيانا البريطانية، علاوة على طلاب من أمريكا وكندا) .
وعلاوة على برامج تدريس اللغة الإنجليزية للطلبة الأجانب وبرنامج تدريس اللغة العربية للأمريكان فإن الجامعة الإسلامية الأمريكية تمنح(22/278)
الشهادات التالية:
- ليسانس في الدراسات الإسلامية.
- ليسانس في الدراسات العربية.
- بكالوريوس في التربية والتعليم الابتدائي.
ومن مشاريع المستقبل التي تفكر فيها الجامعة وتخطط لتنفيذها:
- منح شهادة الماجستير وشهادة الدكتوراه.
- فتح فروع في مختلف أنحاء أمريكا.
- وضع برنامج لمنح شهادات تخصص في البنوك الإسلامية
- تدريس تمهيدي في الطب والهندسة وطب الأسنان والتكنولوجيا الطبية.
- إنشاء دار نشر وإصدار نشرة ومجلة وصحيفة باسم الجامعة.
- مشروع المتحف الإسلامي الذي سيشتمل على الأجنحة التالية:
أ - جناح القرآن الكريم: ستقوم الجامعة بخزن القرآن الكريم في الكمبيوتر لتصنيف الآيات والسور وسيشتمل الجناح على تسجيلات لمختلف القراء وعلى الطبعات المختلفة للقرآن الكريم مع ترجماته، علما بأن معاني القرآن الكريم قد ترجمت إلى سبع وعشرين لغة منها:
الإنجليزية، الفرنسية، الألمانية، البرتغالية، الأوكرانية، البلغارية، البشناقية، البولونية، التركية، الروسية، البوهمية (التشيكوسلوفاكية) الدانماركية، الرومانية، الإيطالية، اللاتينية، الفنلندية، المجرية، النروجية، الإسبانية، اليونانية (1) .
ب - جناح السنة النبوية: وفيه تعرض مختلف كتب الحديث النبوي الشريف بمختلف اللغات، كما سوف تفهرس المتون والأعلام وكل ما يتعلق بالحديث في الكمبيوتر.
جـ - جناح المخطوطات الإسلامية.
د - جناح الفن الإسلامي والخط العربي.
__________
(1) الولي، الشيخ طه - مرجع سابق، ص 58 - 59.(22/279)
- مشروع المكتبة الإسلامية: وقد بدأت إقامتها غير أنها ما تزال بحاجة ماسة إلى أمهات الكتب الإسلامية بمختلف اللغات، وقد وعدت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض بتقديم آلاف الكتب هدية منها لزميلتها في شيكاغو. وسوف تشتمل المكتبة على جناح يضم أجهزة الفيديو، الأفلام ووسائل الإيضاح العصرية، وسوف يطلق عليها اسم " مكتبة الإمام البخاري ".
- مشروع الإذاعة الإسلامية: وقد بدأت الاتصالات بالفعل مع رئيس مجلس إذاعة يمتلكها الأمريكيون السود، وهو معروف بمناصرته للقضايا الإسلامية. تحاول الكلية شراء بعض الأسهم وبالتالي فسوف يكون بإمكانها بث برامج علمية وثقافية عن الإسلام والأمة الإسلامية، وكذلك الحال بالنسبة للبث التلفزيوني.
وقديما قيل " على قدر أهل العزم تأتي العزائم " فليس بكثير على من عرفوا بجدهم واجتهادهم في الوسط الإسلامي في أمريكا، وليس بكثير على مجلس أمناء مكون من صفوة مختارة من عشر دول إسلامية، ليس بكثير على هؤلاء وأولئك، أن يواصلوا التخطيط والعمل الجاد الدؤوب، لتحقيق كافة مشاريع هذا الصرح التربوي الإسلامي العظيم، الذي سيعود بالنفع العميم على الملايين الستة من مسلمي أمريكا بإذن الله.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
كمال كامل النمر(22/280)
صفحة فارغة(22/281)
صفحة فارغة(22/282)
صفحة فارغة(22/283)
صفحة فارغة(22/284)
الاستقامة والإحسان
من مكارم الأخلاق في الإسلام
الأستاذ \ صلاح أحمد الطنوبي
الدعوة إلى حسن الأخلاق هدف مهم من أهداف الدعوة الإسلامية، ركز عليها القرآن الكريم، وأيدها الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) في أقواله وأفعاله، فأشار إلى هذا الهدف بقوله: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق (1) » رواه أحمد ومالك عن أبي هريرة.
فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير قدوة تتبع، وخير هدي يهتدى به.
قال الله جل ثناؤه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (2) .
وكان النبي العظيم - صلى الله عليه وسلم - كما وصفه رب العزة والجلال وأثنى عليه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (3) .
وكما وصفه أنس - رضي الله عنه - بقوله: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقا (4) » .
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/381) .
(2) سورة الأحزاب الآية 21
(3) سورة القلم الآية 4
(4) رواه البخاري ومسلم.(22/285)
ولقد أوضح القرآن الكريم مكارم الأخلاق، وقرنها بصفات المؤمنين في آيات كثيرة منها قول الحق سبحانه وتعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (1) {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} (2) {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} (3) {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} (4) {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (5) {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (6) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (7) {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (8) {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} (9) {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (10) {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} (11) {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (12) {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} (13) {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} (14) .
وقول الله تبارك وتعالى على لسان لقمان وهو يعظ ابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (15) {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (16) {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (17) .
__________
(1) سورة الفرقان الآية 63
(2) سورة الفرقان الآية 64
(3) سورة الفرقان الآية 65
(4) سورة الفرقان الآية 66
(5) سورة الفرقان الآية 67
(6) سورة الفرقان الآية 68
(7) سورة الفرقان الآية 69
(8) سورة الفرقان الآية 70
(9) سورة الفرقان الآية 71
(10) سورة الفرقان الآية 72
(11) سورة الفرقان الآية 73
(12) سورة الفرقان الآية 74
(13) سورة الفرقان الآية 75
(14) سورة الفرقان الآية 76
(15) سورة لقمان الآية 17
(16) سورة لقمان الآية 18
(17) سورة لقمان الآية 19(22/286)
والرسول الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - دعا دعوة صريحة واضحة إلى تحسين الأخلاق، والتحلي بأفضلها، وتجنب ما كان سيئا منها والابتعاد عن كل خلق مكروه.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا. وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون، والمتشدقون والمتفيهقون! قالوا يا رسول الله: قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون (1) » رواه الترمذي وقال حديث حسن.
الثرثارون: جمع ثرثار، وهو الشخص المكثر في الكلام تكلفا.
المتشدقون: جمع متشدق، وهو الذي يتطاول على الناس بكلامه ويتكلم بملء فيه متفاصحا.
المتفيهقون: جمع متفيهق، وأصله من الفهق وهو الامتلاء ومعناه هنا المتوسعون في كلامهم مع تكبر وإظهار للفضيلة على غيرهم.
وعن أبي الدرداء (رضي الله عنه) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من شيء أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله يبغض الفاحش البذيء (2) » . رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق (3) » . أخرجه الترمذي.
ولقد أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن نخالق الناس بخلق حسن، فعن أبي ذر ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق
__________
(1) سنن الترمذي البر والصلة (2018) .
(2) سنن الترمذي كتاب البر والصلة (2002) ، سنن أبو داود الأدب (4799) ، مسند أحمد بن حنبل (6/451) .
(3) سنن الترمذي البر والصلة (2004) ، سنن ابن ماجه الزهد (4246) ، مسند أحمد بن حنبل (2/442) .(22/287)
حسن (1) » رواه الترمذي وقال حديث حسن.
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن أقربكم مني مجلسا أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون (2) » رواه الطبراني.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يدخل الناس الجنة قال: " تقوى الله وحسن الخلق " وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: " الفم والفرج (3) » رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
فيالسعادة المتخلقين بأخلاق الإسلام، ويالهناءة المقتدين بخير الأنام محمد بن عبد الله " عليه الصلاة والسلام ".
__________
(1) سنن الترمذي البر والصلة (1987) ، مسند أحمد بن حنبل (5/177) ، سنن الدارمي الرقاق (2791) .
(2) سنن الترمذي البر والصلة (2018) .
(3) سنن ابن ماجه الزهد (4246) ، مسند أحمد بن حنبل (2/291) .(22/288)
خلق الاستقامة في الإسلام:
قال الله جل ثناؤه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (1) {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} (2) {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} (3) .
وقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (4) {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (5) .
__________
(1) سورة فصلت الآية 30
(2) سورة فصلت الآية 31
(3) سورة فصلت الآية 32
(4) سورة الأحقاف الآية 13
(5) سورة الأحقاف الآية 14(22/288)
وقال رب العزة والجلال: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} (1) .
وعن سفيان بن عبد الله الثقفي - رضي الله عنه - قال: «قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك، قال: قل: (آمنت بالله ثم استقم) (2) » رواه مسلم.
الاستقامة كلمة جامعة للخير، ولجميع السجايا الحميدة، والخلال الكريمة، وأسمى ما يطلبه الإنسان في هذه الحياة أن يوصف بأنه مستقيم.
وكلمة " الاستقامة " تفيد - كما في لسان العرب لابن منظور - معنى الاعتدال والاستواء يقال: استقام له الأمر، أي اعتدل، ومن ذلك ما ورد في السنة بشأن الاصطفاف في الصلاة، ما روي عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
«سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة (3) » متفق عليه.
وفي رواية للبخاري: «فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة (4) » . أي جعلها سليمة معتدلة.
وكلمة " الاستقامة " مشتقة من مادة " القيام " وفي هذه المادة معنى الملازمة والمحافظة والثبات، وعلى هذا جاء قول الحق سبحانه وتعالى: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} (5) أي ملازما محافظا.
وقد تأتي المادة بمعنى الإصلاح والنهوض بالتبعات، ومن ذلك قول الله تبارك وتعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} (6) .
__________
(1) سورة الجن الآية 16
(2) صحيح مسلم الإيمان (38) ، سنن الترمذي الزهد (2410) ، سنن ابن ماجه الفتن (3972) ، مسند أحمد بن حنبل (3/413) ، سنن الدارمي الرقاق (2710) .
(3) صحيح مسلم الصلاة (433) ، سنن أبو داود الصلاة (668) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (993) ، مسند أحمد بن حنبل (3/177) ، سنن الدارمي الصلاة (1263) .
(4) صحيح البخاري الأذان (723) .
(5) سورة آل عمران الآية 75
(6) سورة النساء الآية 34(22/289)
ومن هذا نفهم أن الاستقامة في الإسلام هي الإقامة على دين الله، والدوام على هدى الله عز وجل، والاستمرار في التقيد بقيوده، والوقوف عند حدوده، والاستجابة لأوامره، والانتهاء عن محارمه.
إن جميع الأنبياء (صلوات الله عليهم) كانت رسالاتهم والهدف منها أن يستقيم الناس، وتستقيم بهم أحوالهم، وتستقيم بهم دنياهم، وتستقيم بهم أمور آخرتهم. .
قال الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1) .
فأمر الله جل جلاله نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يستقيم ومن تاب معه على جادة الحق، غير عادلين عنها، وألا يجاوزوا ما أمروا به، فذلك هو الطغيان.
والمسلم يجب أن يكون ملتزما بمنهاج الاستقامة، وما يتطلبه هذا المنهاج من آداب وأخلاق حسنة.
قال الله جل جلاله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) .
أي أن صراط الله تعالى وطريقه الذي جعله منهجا للسلوك - مستقيما لا عوج فيه.
وأن على الناس أن يتبعوا الطريق السوي، وأنهم إذا اتبعوه، وساروا
__________
(1) سورة هود الآية 112
(2) سورة الأنعام الآية 153(22/290)
عليه أمنوا من الزيغ والضلال في الدنيا، وسعدوا برضوان الله تعالى ونعيمه في الآخرة.
وإذا انحرفوا على صراط الله. واتخذوا طرقا أخرى ابتدعوها من تلقاء أنفسهم، تفرقوا عن سبيل الله، وحادوا عنه، واستحقوا الضلال، وتعرضوا للنكال بإعراضهم عن هداية الله تعالى.
وأن هذه وصايا الله العلي القدير لعباده؛ لتحصل لهم ملكة التقوى.
وقد جاء عن الرسول الكريم محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - أنه «خط خطا مستقيما، وخط عن يمينه خطوطا، وعن شماله خطوطا. ثم قال مشيرا إلى الخط المستقيم، هذه سبيل الله. وقال مشيرا إلى الخطوط التي عن يمينه وعن شماله: هذه سبل. . على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه. ثم قرأ الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - قول الحق تعالى: (2) » .
جعل الله تعالى " الصراط المستقيم " مطلبا للمؤمنين، يرجون ربهم تحقيقه لهم، فيدعون بذلك في كل ركعة من صلواتهم حينما يقولون: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (3) .
وإذا كان الإنسان محتاجا - دون شك - إلى دليل يدله على طريق الاستقامة، وإلى رائد يروده على ذلك الطريق، فإن خير دليل وأصدق رائد في هذا المجال هو كتاب الله تعالى. . .
__________
(1) سبقت.
(2) سورة الأنعام الآية 153 (1) {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
(3) سورة الفاتحة الآية 6(22/291)
قال جل جلاله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (1) .
فالآية تخبرنا - وهي قول أصدق القائلين - بأن كتاب الله تعالى يهدي إلى الحالة التي هي أقوم الحالات، وإلى الطريقة التي هي أعدل الطرق، وهي طريقة الإيمان بالله تعالى، وشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، والإيمان برسل الله، والإيمان بكتبه، والإيمان بالملائكة، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقضاء والقدر، والعمل بطاعة الله، وقد أكد الله تبارك وتعالى لعباده هذا المعنى حين قال عن كتابه: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (2) {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (3) .
إن الإيمان والاستقامة هما دعامتا الإسلام، وهما مصدر كل خير، فالإيمان بالمولى تبارك وتعالى نور في القلب، وحكمة في النفس، وعفة للجوارح، والاستقامة هي مظهر الإيمان وميزانه ونتيجته، فلا إيمان لمن لا يستقيم في حياته وسلوكه، ولا استقامة لمن لا إيمان في قلبه.
عن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: «قلت يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك، قال: قل: آمنت بالله ثم استقم (4) » رواه مسلم.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) سورة التكوير الآية 27
(3) سورة التكوير الآية 28
(4) صحيح مسلم الإيمان (38) ، سنن الترمذي الزهد (2410) ، سنن ابن ماجه الفتن (3972) ، مسند أحمد بن حنبل (3/413) ، سنن الدارمي الرقاق (2710) .(22/292)
خلق الإحسان في الإسلام:
الإحسان في اللغة معناه الإتقان. وهو الإخلاص، وصدق المراقبة، وهو التطوع بالفضل بعد مراعاة العدل، وهو الصنع الجميل والتصرف الحميد.(22/292)
وقد جاءت مادة " الإحسان " ومتعلقاتها في القرآن الكريم فيما يقرب من مائة وتسعين موضعا، وهذه العناية التي تظهر في كتاب الله تعالى بأمر الإحسان، وتتمثل في الحديث عنه عشرات المرات تدل على المكانة السامية التي تحتلها فضيلة الإحسان، ولا عجب في ذلك فعلماء الأخلاق يقولون: " إن الإحسان خلق جامع لجميع أبواب الحقائق، وفيه لب الإيمان وروحه ".
وقد عرف الرسول الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - الإحسان بقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك (1) » رواه مسلم عن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -.
فالمحسن هو المراقب لربه جل جلاله، المخلص في عمله، المتقن لصنعته، الباذل للمعروف والخير؛ لأن الإنسان إذا عبد الله جل ثناؤه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة، كأنه ينظر إلى الله عز وجل حال عبادته، مستحضرا لعظمة الله تعالى، ومراقبته له غرست في قلبه الخشية والهيبة والتعظيم والخوف؛ وذلك يوجب عليه النصح في العبادة، وبذل الجهد في تحسينها وإكمالها وإتمامها على الوجه الذي ينبغي أن تكون عليه.
وبين القرآن الكريم أن الإحسان يجب أن يكون الواجب الطبيعي للإنسان، وأن الله كما أحسن إليه بنعمه عليه أن يحسن بهذه النعم إلى الخلق.
قال رب العزة والجلال: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (2) وبين القرآن المجيد أن الإحسان تعود منفعته إلى المحسن. .
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/52) .
(2) سورة القصص الآية 77(22/293)
قال الله جل ثناؤه: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (1) .
وأمر الله تعالى بالإحسان. . قال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (2) .
كما أن القرآن الكريم رفع منزلة الإحسان وقرنه بالإخلاص لله، ووصفهما بأنهما أرفع ما يتحلى به الإنسان المتدين. قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} (3) .
وقال الله عز وجل: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (4) .
ومن صفات المحسنين في القرآن الكريم قول الحق جل جلاله:
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (5) {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} (6) {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} (7) {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (8) {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (9) .
__________
(1) سورة الإسراء الآية 7
(2) سورة النحل الآية 90
(3) سورة النساء الآية 125
(4) سورة لقمان الآية 22
(5) سورة الذاريات الآية 15
(6) سورة الذاريات الآية 16
(7) سورة الذاريات الآية 17
(8) سورة الذاريات الآية 18
(9) سورة الذاريات الآية 19(22/294)
والجهاد في سبيل الله تعالى، هو من الإحسان. . قال رب العزة والجلال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (1) .
واتباع ما جاء به النبي العظيم محمد - صلى الله عليه وسلم - هو من الإحسان قال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (2) {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} (3) .
والعفو من الإحسان. . قال تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (4) .
والصبر من الإحسان. . قال تعالى: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (5) .
ورعاية حقوق الوالدين والأقربين، والجيران والأصدقاء، والفقراء، والخدم، من أعظم ضروب الإحسان، وقد قرنها الله تبارك وتعالى بعبادته؛ ليلفت النظر إلى هذه الرعاية، وليؤكد هذه الحقوق. قال الله جل جلاله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} (6) .
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 69
(2) سورة الزمر الآية 33
(3) سورة الزمر الآية 34
(4) سورة المائدة الآية 13
(5) سورة هود الآية 115
(6) سورة النساء الآية 36(22/295)
ولقد حث القرآن الكريم على طيب الكلام وحسنه في كثير من آياته. .
قال تبارك وتعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (1) .
وقال عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (2) .
وقال جل جلاله: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) .
ويطلب الإحسان في التحية بدليل قول الله عز وجل: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} (4) .
والله تبارك وتعالى كتب الإحسان على كل شيء. . عن أبي يعلى شداد بن أوس - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته (5) » رواه مسلم. . فالإحسان يتناول كل شأن من الشؤون، وينظم كل عمل. . قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (6) .
هذا وبالله تعالى التوفيق، والحمد لله تعالى على نعمة الإسلام، وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وأمته وسلم تسليما كثيرا.
صلاح أحمد الطنوبي
__________
(1) سورة البقرة الآية 83
(2) سورة فصلت الآية 33
(3) سورة الإسراء الآية 53
(4) سورة النساء الآية 86
(5) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1955) ، سنن الترمذي الديات (1409) ، سنن النسائي الضحايا (4413) ، سنن أبو داود الضحايا (2815) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3170) ، مسند أحمد بن حنبل (4/125) ، سنن الدارمي الأضاحي (1970) .
(6) سورة الزمر الآية 10(22/296)
أساليب المنصرين للوصول إلى أهدافهم
في المجتمعات الإسلامية المعاصرة
إعداد: الدكتور \ مهدي رزق الله أحمد
قال الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} (1) ، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (2) {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (3) {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (4) صدق الله العظيم.
والكفر ملة واحدة. . اتفقوا في الأهداف. . وتشابهت وسائل وأساليب تحقيق تلك الأهداف. وفي الصفحات التالية خلاصة لأهم الأهداف والوسائل والأساليب التي تضمنتها حركة التنصير في العصر الحديث بصفة خاصة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 109
(2) سورة البقرة الآية 120
(3) سورة آل عمران الآية 69
(4) سورة آل عمران الآية 186(22/297)
الأهداف:
(1) نشر المسيحية من منطلق عقدي.
(2) نشر المسيحية لتكون عاملا عظيما في توطين الحكم الاستعماري.(22/297)
(3) توهين القيم الإسلامية، وبالتالي تفتيت وحدة الشعوب العربية الإسلامية والشعوب الإسلامية غير العربية وإبعاد المسلمين عن دينهم، وذلك حتى يسهل القضاء عليهم.
ومن الواضح من خلال تاريخ التنصير في العالم أن نشر الدين المسيحي من الأمور الثانوية جدا عند المنصرين، وقليل منهم هم الذين يسعون لنشر المسيحية من منطلق عقدي بحت، بل إن الكثيرين من الذين يمولون حملات التنصير ومن الذين يأتون في بعثاته لا صلة بين أهدافهم الحقيقية وبين الدين الذي يزعمون أنهم قد جاءوا لنشره، والدليل على ذلك أن الغرب النصراني نفسه أحوج من الشرق الإسلامي للحياة الروحية والمحبة والسلام الديني. فبينما نرى فرنسا دولة علمانية في بلادها نجدها الدولة التي تحمي رجال الدين في الخارج، ونجد أن اليسوعيين المطرودين من فرنسا هم خصوم فرنسا في الداخل وأصدقاؤها الحميمون في مستعمراتها. وكذلك إيطالية التي ناصبت الكنيسة العداء وحجزت البابا في الفاتيكان، كانت تبني جميع سياساتها الاستعمارية على جهود المنصرين، وحتى روسية، عدوة الأديان رأيناها بعد الحرب العالمية الثانية تتعاطف مع المنصرين، ودعت إلى مجمع مسكوني في موسكو وحملت إليه المؤتمرين في طائراتها، وشرف ستالين نفسه أولئك المؤتمرين بمقابلته،(22/298)
كل ذلك عندما أرادت أن تحقق لنفسها توسعا إقليميا وسياسيا تنافسيا مع الدول الغربية، وكثيرا ما كان العسكريون الإنجليز يحضون حكوماتهم على بث المنصرين في العالم. وجاء كثير من أفراد المنصرين إلى الشرق من منطلقات وطموحات شخصية.
وقد كتب رشيد الخوري في العصبة الأندلسية عام 1947 م، ع 4 متألما من أمثال هؤلاء (1) . وأمثال هؤلاء هم الذين عناهم " حسب " عند حديثه عن التنصير في سورية. وفي ذلك يقول: " إن بعض هذه الأديرة كان مقرا للفاحشة ".
إذن فالأهداف السياسية هي المحرك الأساسي لحركة التنصير، وإن هذا الهدف السياسي هو إضعاف المسلمين ليكونوا أداة طيعة في أيدي الشرق والغرب والصهيونية العالمية.
ولعل الإنسان يعجب إذا علم أن لليهود أصابع وبصمات بارزة في هذا المجال إذ أن العامل الأول في تطوير سلاحي الاستشراق والتنصير في القرنين التاسع عشر والعشرين عائد إلى اليهود الذين تظاهروا باعتناق النصرانية لهدمها من الداخل ومن ثم الزحف على أي قوى روحية دينية أخرى عند الإنسان، أي الدين عموما. ووجهوا الحكومات الغربية ضد الدين (2) .
إضافة إلى ذلك نجد - مثلا - أن صمويل زويمر، الذي عمل في
__________
(1) المرجع نفسه، ص 35.
(2) أسد: 43.(22/299)
التنصير لمدة ستين سنة في البلاد العربية، لم يكشف عن يهوديته إلا عند احتضاره سنة 1952 م، وذلك عندما طلب حاخاما يهوديا يلقنه الشهادة. واحتفظت الكنيسة بهذا السر لأسباب تعلمها، كما يقول التل (1) .
والذي نراه أن هدف اليهود من ذلك هو استغلال المسيحية الغربية لحرب الإسلام بسلاح التنصير، وفي النهاية إضعاف الدين عند المسلمين كما أضعفوه عند الغربيين. ومن الشخصيات البارزة في هذا المجال إلى جانب زويمر: وليام جيفورد بالكراف، الذي قال: " متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في سبيل الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه " (2) .
وها هو بلفور اليهودي - وزير خارجية بريطانيا سنة 1917 م، وصاحب الوعد المعروف - وعد بلفور - يعلن عن أهمية مؤسسات التنصير في خدمة أهداف السياسة (3) .
لقد بدأ التنصير في البلاد الإسلامية بصفة خاصة والعالم بصفة عامة يدخل مرحلة جديدة بأساليب جديدة بعد أفول شمس الاستعمار العسكري، منطلقا من فكرة الشاعر في قوله:
ينال بالفكر ما تعيا الجيوش به ... كالموت مستعجلا يأتي على مهل
ومنطلقا من وصية القديس لويس التاسع، ملك فرنسة وقائد الحملة الصليبية الثامنة، الذي اندحرت جيوشه أمام عزيمة وإيمان قوات المسلمين
__________
(1) التل، عبد الله: جذور البلاء، ط 3، بيروت، المكتب الإسلامي، 1405 هـ \ 1985 م ص 28.
(2) التبشير والاستعمار، مرجع سابق، ص 55.
(3) أفريقية والنصرانية، مرجع سبق ذكره، ص 287.(22/300)
في مصر ووقوعه في الأسر بمدينة المنصورة المصرية، إذ أنه عندما فدى نفسه من الأسر وعاد إلى بلاده، أدرك عدم جدوى الحرب المكشوفة مع المسلمين، لأن روح الجهاد والاستشهاد كانت أقوى مما يتصور. ورأى أن من الحكمة اتخاذ سبيل آخر للدخول إلى بلاد المسلمين وكان ذلك السبيل الذي أوصى به النصارى هو الغزو الفكري التنصيري والدخول في بلاد المسلمين تحت أقنعة مختلفة وبأساليب متعددة لإحداث التنصير المطلوب. وقد نفذوا وصيته. ومنذ ذلك الحين كانت البعثات التنصيرية في طليعة عوامل تنصير المسلمين ونشر الثقافة الغربية بينهم خاصة في آسية وأفريقية.
لقد أدت البعثات التنصيرية خدمات كبيرة للاستعمار لتحقيق أهدافه التي عجز عنها بقوة السلاح، إذ عمد المنصرون إلى وسيلتين في غاية الخطورة لتنصير الآسيويين والأفريقيين بصفة خاصة. الوسيلة الأولى هي إنشاء المدارس النصرانية، والثانية هي تقديم الخدمات الطبية المختلفة للناس.
ونتيجة للأثر الفعال للتعليم في التغيير الاجتماعي والثقافي والعقدي فقد لوحظ تركيز مؤتمرات التنصير على أهمية التوسع فيه. ففي البحث رقم (20) من أبحاث مؤتمر المنصرين المنعقد بولاية كلورادو الأمريكية سنة 1978 م، وصل الأمر بأن يقترح ريتشارد بيلي إنشاء كلية تكنولوجية في بنجلاديش كوسيلة من وسائل التنصير.
وركز جورج بيترز، مقدم البحث رقم (26) لذات المؤتمر، على أهمية إنشاء المدارس لتمكن الإرساليات من القيام بواجبها نحو تنصير المسلمين وخاصة مدارس البنات في الشرق الأوسط، وذكر المؤتمرين(22/301)
بدور الكليات والجامعات التنصيرية في البلاد الإسلامية، مثل: كلية روبرت باستنبول والجامعة الأمريكية ببيروت والقاهرة والكلية الفرنسية في لاهور بباكستان.
وكان من بين بنود جدول أعمال المؤتمر السنوي للبعثة التنصيرية لشمالي أفريقية المنعقد في عام 1979 م: الاهتمام بالتعليم وفتح المدارس في أكبر عدد من البلدان حيث إن هذه المدارس تكون وسيلة فعالة لنشر تعاليم النصرانية واجتذاب أكبر عدد من سكان بلدان شمالي أفريقية.
ومن الأدلة الواضحة على أهمية التعليم النصراني، قول لوشاتليه في مقدمته عن إرساليات التنصير البروتستانتية: (ينبغي لفرنسة أن يكون عملها في الشرق مبنيا قبل كل شيء على قواعد التربية العقلية) ، وقوله، بعد أن ركز على أن السبيل الوحيد إلى هذا هو التعليم: ". . وأنا أرجو أن يخرج هذا التعليم إلى حيز الفعل ليبث في دين الإسلام التعاليم المستمدة من المدرسة الجامعة الفرنساوية " (1) .
وقول الكاردينال لافيجري - مؤسس جمعيات التنصير - وهو: ". . لا حاجة لنا إلى الدعوة لنفس الدين، بل الحاجة هي إلى التعليم والتمريض ".
وقد سجل دعاة التنصير هذه الحلقة في كثير من تصريحاتهم
__________
(1) المرجع نفسه، ص 14.(22/302)
ومؤلفاتهم. ففي المؤتمر التنصيري لسنة 1924 م، وجه المؤتمر إلى الاهتمام بأطفال المسلمين قائلين: ". . . في كل حقل من حقول العمل يجب أن يكون العمل موجها نحو النشء الصغير من المسلمين. . . " (1) .
وتقول المنصرة أنامليجان: " ليس ثمة طريق إلى حصن الإسلام أقصر مسافة من هذه المدرسة " (2) .
ويرى هنري جسب (3) : أن التعليم في مدارس الإرساليات النصرانية إنما هو واسطة إلى غاية فقط، وأن تلك الغاية هي تنصير الناس وليس تعليمهم المهارات المختلفة.
ويقول تاكلي، أحد أعمدة التنصير: " يجب أن نشجع إنشاء المدارس على النمط الغربي العلماني، لأن كثيرا من المسلمين قد زعزع اعتقادهم بالإسلام والقرآن حينما درسوا الكتب المدرسية الغربية وتعلموا اللغات الأجنبية. . . " (4) .
ويقول زويمر - عميد التنصير في الشرق الأوسط لنصف قرن - " (ما دام المسلمون ينفرون من المدارس المسيحية فلا بد أن ننشئ المدارس العلمانية، ونيسر لهم الالتحاق بها، هذه المدارس التي تساعدنا على
__________
(1) المرجع والمكان نفسهما؛ الإسلام في وجه التغريب - أنور الجندي، مرجع سبق ذكره، ص 167.
(2) المرجعان والمكانان نفسهما.
(3) انظر: التبشير والاستعمار في البلاد العربية، مرجع سبق ذكره، ص 66 - 67.
(4) المرجع نفسه، ص 88.(22/303)
القضاء على الروح الإسلامية عند الطلاب. . ". ولقد أورد الدكتوران مصطفى الخالدي وعمر فروخ (1) كثيرا من آراء المنصرين حول أهمية التعليم في التنصير، وعقدا فصلين - الثالث والرابع - خاصين بذلك في كتابهما المشهور: " التبشير والاستعمار في البلاد العربية. .) .
وكذلك الجندي في كتابه: " الإسلام في وجه التغريب " تناول هذا الأمر في فصل بعنوان: " التعليم في أحضان التبشير " - ص 167 - 173.
وممن فطن إلى خطر المدارس الأجنبية في مصر خاصة، الشيخ محمد عبده، ولذلك اقترح على مجلس المعارف الأعلى الذي ألف عام 1881 م أن يتقرر جعل جميع مدارس الأجانب في مصر تحت مراقبة الحكومة وتفتيشها. وتوقف مسعى محمد عبده بعد الاحتلال الإنجليزي لمصر، حيث جاء دنلوب - القسيس والمنصر الإنجليزي ومسئول التعليم في مصر - لينفذ سياسة الاستعمار النصرانية في مصر (2) .
__________
(1) التبشير والاستعمار، ص 65 - 112.
(2) الإسلام في وجه التغريب، مرجع سبق ذكره، ص 29.(22/304)
وقد تأكدت النتائج الخطيرة التي حققها التعليم النصراني في تقريب المسافة بين الاستعمار أهل الأوطان الإسلامية، إذ أن الذين حملوا لواء التشهير بالدولة العثمانية، وعملوا على تمزيق الرابطة الإسلامية بين العرب والأتراك، وتمكين الاستعمار في بلاد نفوذ الأتراك، كانوا ممن تعلموا في المدارس التنصيرية وكان منهم معظم أصحاب الدعوات القومية والعنصرية والإقليمية والعلمانية، والانحلالية (1) .
وقد فرضت أغلب هذه المعاهد على طلابها المسلمين الالتزام بتقاليدها الخاصة، ومن ذلك حضور الصلوات في الكنيسة (2) . ومما يؤسف له أن تتلقى مثل هذه المؤسسات التنصيرية دعم بعض الحكومات في البلاد العربية الإسلامية (3) .
أما الوسيلة الثانية - تقديم الخدمات الطبية المختلفة - فقد كانت واضحة في خطط المنصرين للعمل في المناطق التي يرتادونها. فمثلا نجد منذ سنة 1959 م أن الأمريكيين يعتبرون الطب مشروعا مسيحيا (4) ، ويقول الطبيب الأمريكي بول هاريسون في كتابه: (الطبيب في بلاد العرب: ص 277:
" لقد وجدنا نحن في بلاد العرب لنجعل رجالها ونساءها نصارى " (5) .
__________
(1) انظر: الإسلام في وجه التغريب، مرجع سبق ذكره، ص 168
(2) المرجع نفسه، ص 169.
(3) انظر مثال ذلك: أفيقوا أيها المسلمون، ص 58 وما بعدها.
(4) التبشير والاستعمار، ص 59.
(5) المرجع والمكان نفسهما.(22/305)
ويوضح س. ا. موريسون، في مجلة العالم الإسلامي التنصيرية الحكمة من ذلك، وهي أن الطبيب يستطيع أن يصل إلى جميع طبقات البشر حتى أولئك الذين لا يخالطون غيرهم. وفرضوا أن يكون الطبيب المبشر نسخة من الإنجيل (1) .
ففي عام 1924 م أقام المنصرون مؤتمرا عاما عقدوا جلساته في القدس وإسلامبول وحلوان المصرية وبرقانا اللبنانية وبغداد. واهتموا بصفة خاصة في جلسة القدس بالتطبيب على أنه وسيلة إلى التنصير، وفصلوا طرق ذلك (2) .
لا غرو بعد هذا إذا رأينا مستشفياتهم ومستوصفاتهم تملأ الأرض في كل بلاد المسلمين، بل نجد منهم من يصرح بأن نفرا من المنصرين قد أنشأوا مستوصفا في بلدة الناصر بجنوبي السودان، لا يعالجون المريض فيه أبدا إلا بعد أن يحملوه على الاعتراف بأن الذي يشفيه هو المسيح.
واستخدموا أسلوب الاستعانة بالموسيقى والفانوس السحري لجذب الناس إلى اجتماعاتهم (3) . ومحاولة كسب الشباب المسلم وذلك
__________
(1) المرجع والمكان نفسهما
(2) المرجع نفسه، ص 60.
(3) انظر الإسلام في وجه التغريب، مرجع سبق ذكره، ص 93.(22/306)
بالتحدث إليهم في موضوعات اجتماعية وخلقية وتاريخية ثم ينطلقون منها إلى مباحث الدين (1) .
واعتمدوا كثيرا على الصحف والكتب والسينما والمسرح في إذاعة الآراء التي تحقق إخراج المسلمين من مقومات فكرهم (2) .
وادعوا انسجام الإسلام مع الحضارة الغربية بغية تقبل الناس للحضارة الغربية ومن ثم قبول المسيحية في المرحلة القادمة (3) .
واستغلوا ما تعانيه البشرية في بعض بقاع العالم الثالث من كوارث ومجاعات طارئة، فأخذوا في تقديم العون لها ومن ثم دعوتها إلى النصرانية. وهذا من الأمور المشاهدة في أفريقية وآسية بالذات.
وفي الحبشة كانت المعالجة لا تبدأ قبل أن يركع المرضى ويسألوا المسيح أن يشفيهم (4) . وللمنصرين حيل لجمع المرضى للعمل وسطهم قبل وصول الطبيب المعلن عن موعد مجيئه لهم (5) . كما فعلوا في الناصر بالسودان وباليمن. كانوا يعلنون هذه النوايا ويتواصون على استغلال التطبيب في الدعوة إلى النصرانية (6) .
وعندما تخفق جميع الوسائل والأساليب في تنصير المسلمين، يلجأ المنصرون إلى أسلوب إخراج المسلم من دينه. ومثال ذلك ما صرح
__________
(1) المرجع والمكان نفسهما.
(2) المرجع نفسه، ص 94
(3) المرجع نفسه، ص 94 - 95
(4) المصدر نفسه ص 32، ومرجع ومكان النقل نفسهما.
(5) المصدر نفسه، ص 142، ومرجع ومكان النقل نفسهما.
(6) التبشير والاستعمار، ص 62 - 63.(22/307)
به صمويل زويمر أمام مؤتمر القدس التنصيري سنة 1935 م، قائلا:
". . ولتكن مهمة التبشير التي ندبتكم لها الدول المسيحية في البلاد الإسلامية ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية، فإن في هذا هداية لهم وتكريما، وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقا لا صلة له بالله وبالتالي لا صلة له بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها. . ".
وما صرح به شنودة في الاجتماع المغلق الذي عقده في 5 \ 3 \ 1973 م مع القساوسة والأثرياء بالكنيسة المرقسية بالإسكندرية، قائلا:
". . إن الخطة المرسومة هي التنصير بين الفئات والجماعات وذلك لزحزحة أكبر عدد من المسلمين عن دينهم. . على أن يكون ذلك بطريقة ذكية، خشية الإثارة واليقظة وإفشال الخطة. . " (1) .
بل ظنوا أن استمرار الحرب الإسلامية - اليهودية، فرصة سانحة لخدمة أهدافهم وفي ذلك يقول شنودة: (. إننا يجب أن ننتهز ما هم فيه من نكسة ومحنة (يعني المسلمين المصريين خاصة والمسلمين عامة) - لأن ذلك في صالحنا، ولن نستطيع إحراز أية مكاسب أو أي تقدم إذا انتهت المشكلة مع إسرائيل سواء بالسلم أو بالحرب. " (2) .
__________
(1) المرجع والمكان نفسهما.
(2) المرجع والمكان نفسهما.(22/308)
وظهر أسلوب إرسال الكتيبات والنشرات للأفراد على صناديق بريدهم، ومثال ذلك، ما وقع في يدي من ذلك الذي أرسل إلى المملكة العربية السعودية دعوة لعضوية نادي " هوني قايد " - بمعنى دليل العسل - العالمي للصداقة، تدعو لعقد علاقات صداقة بين الشباب من الجنسين، والهدف منها إفساد الحياة الاجتماعية الإسلامية بمثل هذه الوسائل الخبيثة الماكرة.
واعتمد المنصرون على أسلوب العمل المعتمد على الدراسات النظرية والميدانية والإحصائية لاكتشاف أفضل السبل والأساليب لتنصير المسلمين. ويعقدون المؤتمرات لمناقشة تلك الدراسات والأساليب والتجارب الميدانية. ومن تلك المؤتمرات:
(1) مؤتمر القاهرة، سنة 1324 هـ \ 1906 م.
(2) مؤتمر أدنبرة، سنة 1328 هـ \ 1910 م.
(3) مؤتمر لكنو بالهند، سنة 1329 هـ \ 1911 م.
(4) مؤتمر القسطنطينية في العام نفسه.
(5) مؤتمر القدس 1343 هـ \ 1924 م.
(6) مؤتمر جبل الزيتون بلبنان سنة 1346 هـ \ 1927 م.(22/309)
(7) مؤتمر مجلس الكنائس العالمي التي يتكرر عقدها وبخاصة مؤتمرات الأعوام 1344 هـ \ 1925 م، 1346 هـ \ 1927 م، 1347 هـ \ 1928 م.
(8) مؤتمر القدس سنة 1380 هـ \ 1961 م.
(9) المؤتمر الأول حول تنصير العالم في برلين عام 1386 هـ \ 1966 م.
(10) مؤتمر مدراس بالهند سنة 1347 هـ \ 1928 م.
(11) مؤتمر السويد سنة 1389 هـ \ 1969 م.
(12) مؤتمر لوزان بسويسرا سنة 1394 هـ \ 1974 م.
(13) مؤتمر كلورادو بأمريكا سنة 1398 هـ \ 1978 م.
(14) مؤتمر أستراليا سنة 1400 هـ \ 1980 م.
(15) مؤتمر أكسفورد في أغسطس 1986 م. . . إلخ.
ولم تبدأ هذه المؤتمرات في القرن الرابع عشر الهجري \ العشرين الميلادي، بل هي قديمة، فمثلا في أواخر القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي، دعا البابا أوربان الثاني إلى عقد مجمع بهيئة مؤتمر للرهبان لدراسة مقاومة انتشار الإسلام ومبادئه باعتبارها تهدد المسيحية.
إن مؤامرة تنصير المسلمين قد نسجت خيوطها بوضوح في مؤتمر كلورادو المذكور الذي عقد تحت عنوان " مؤتمر أمريكا الشمالية لتنصير المسلمين في العالم " وتساءلوا في هذا المؤتمر: لم لم يتم حتى الآن تنصير المسلمين كما يجب وبصورة أفضل؟(22/310)
ولقد قرروا أن يكون مؤتمرا عمليا تنفيذيا يغير سياسة التنصير ووجهته، واتفقوا على أربعين بحثا قدمها المنصرون أمام مؤتمرهم هذا.
لقد استمر المؤتمر منعقدا لمدة أسبوعين وكان مغلقا على أعضائه وانتهى إلى وضع استراتيجية شاملة ذات أهداف معينة يتم تنفيذها في فترة زمنية محددة في كل بقعة من بقاع العالم الإسلامي لا سيما وسط الأقليات المسلمة في العالم. وقال دون مك كري في كتاب له عن هذا المؤتمر:
". . إن الاستراتيجية التي وضعها المؤتمر ستبقى سرية لخطواتها " وهو ما ذكره في بحثه أمام المؤتمر بعنوان: (الوقت المناسب لمنطلقات جديدة) ، وقال: ". . ولن نستطيع نشر هذه التقارير كاملة لأنها تحتوي على حقائق ومعلومات حساسة للغاية، من الأفضل أن تظل طي الكتمان ".
لقد عالجت الأربعون بحثا المقدمة إلى هذا المؤتمر موضوعات رئيسة ضمن محاور ثلاثة، إذ تعرضت عشرة أبحاث لموضوع التصورات في العمل ومفاهيمه وعالجت ستة عشر بحثا أخرى موضوع الطعم المطروح في مواجهة المسيحية للإسلام اليوم، وعالجت الأبحاث الأربعة عشر المتبقية الاستجابات المحددة التي تعد ضرورية للخدمات التنصيرية الفعالة بين المسلمين.
ومن بين الأبحاث التي أولاها المؤتمرون اهتماما خاصا، سبل محاولة الاتصال بالمرأة المسلمة التي يمكن عن طريقها الوصول إلى الأسرة المسلمة (1) .
__________
(1) عن التنصير والمرأة المسلمة انظر: الإسلام في وجه التغريب، مرجع سبق ذكره ص 179 - 181.(22/311)
لقد أبانت هذه البحوث الأربعون عن كل الأساليب ووسائل المنصرين للوصول إلى أهدافهم في البلاد الإسلامية. فمثلا البحث رقم (1) يعالج أهمية قبول الصيغ الثقافية المؤلفة عند الشخص المراد تنصيره. أما الصور والأشكال الثقافية المألوفة لدى الناس والتي يمكن استخدامها في تفهم الناس النصرانية، ومن الذي يحددها؟ وما المرفوض والمقبول منها؟ وما الذي يحتاج إلى تأويل؟ فتلك أسئلة انعقد المؤتمر للإجابة عنها دون غيرها.
وفي البحث رقم (2) بعنوان: (الإنجيل واختلاف الثقافات) ، يرى دونالد لاسون أن الأساليب الفعالة في التنصير هي أهمية احترام وجهة نظر المدعو للنصرانية وإجراء الحوار الهادئ معه، وإن هذا الاتجاه هو ما أكده فرانك كولي وآخرون في البحث رقم (2) عند دراستهم لوضع الإسلام والمسيحية في جنوبي شرقي آسية، وما أكده كذلك بشير عبد المسيح في البحث رقم (3) ، إذ يلخص إلى أن احتواء الثقافة الإسلامية أمر مقبول استراتيجيا ويمكن الوصول إليه بلا عناء.
ومن الأساليب التي تناولها هارفي كون في البحث رقم (4) : استخدام أسلوب التنصير الجماعي عن طريق الزعامة المحلية.
ومن الأساليب التي تناولها آرثر جلاسر في البحث رقم (6) : أهمية تجنب الخوض في المسائل الدينية التي يتفوق فيها المسلم على النصراني.(22/312)
ومن أساليبهم في تخطي عقبات وصول النصرانية إلى المسلمين هو دراسة اللاهوت الإسلامي لمعرفة العقبات التي يجب تخطيها والجسور التي يمكن أن يعبروا عليها إلى المسلمين، ذلك حسبما جاء في البحث رقم (11) بقلم كنيس كراج.
هذا بالإضافة إلى أساليب أخرى كثيرة تناولتها بقية الأبحاث، مثل أسلوب أهمية إنشاء الكنائس الوطنية والاعتماد على أناس لا يشغلون وظائف دينية (بحث رقم 15) ، واستخدام البث الإذاعي بذكاء، مباشر وغير مباشر (بحث رقم 17، 24) ، وترويج العلمانية والمادية في المجتمعات الإسلامية، وتعلم المنصرين للغات المحلية للمدعوين إلى النصرانية والعمل وسط المجموعات ذات العقائد البعيدة عن الإسلام والشباب والبدو (بحث رقم 18) ، واستخدام ترجمات الإنجيل (بحث رقم 21، 23) واستخدام الأدب المسيحي (بحث رقم 22) والبحث عن ثغرات ينفذون منها إلى مبادئ الإسلام (بحث رقم 15) والاهتمام بما يسمونهم " الخيامين " في تنصير البلاد التي لا تسمح بالوجود العلني لمؤسسات التنصير، مثل بعض دول الخليج العربي!
والخيامون هم المدرسون والممرضون والأطباء والمهندسون والدبلوماسيون ومستشارو الأمم المتحدة والموظفون والعمال عموما الذين يدخلون البلاد الإسلامية المغلقة في وجه التنصير لأداء مهام وظائف(22/313)
محددة تتعاقد معهم الحكومات والمؤسسات لأدائها.
ونبه المؤتمرون إلى أهمية أن يعمل هؤلاء الخيامون بحذر شديد وتخطيط دقيق مدروس. واستخدام الحوار الذي يفتح بابا للصداقات مع المسلمين ومن ثم التأثير فيهم (بحث رقم 34) .
ومثل تقديم المعونات الغذائية والصحية (بحث رقم 37) . . إلخ.
ونتيجة لاستخدام النصارى مختلف الوسائل والأساليب لتنصير المسلمين، فقد واجه المجتمع الإسلامي تحديا كبيرا، تمثل في الوجود النصراني الكبير في آسية وأفريقية بصفة خاصة، ومثال ذلك أن إحصائية مجلس الكنائس الأندونيسي لطائفة البرتستانت تبين أن عدد كنائسها حتى عام 1972 م فقط 9319 كنيسة و23970 قسيسا و6504 منصرا متفرغا وعشرات الجامعات والمعاهد والمستشفيات الكبرى والمتنقلة ودور الأيتام والإذاعات المحلية وامتلاك الصحف الكبرى ودور النشر الكبرى، بينما يملك المسلمون صحيفة واحدة ويمتلكون السفن والطائرات للتنقل بين 30000 جزيرة في أندونيسية.
وقرر مؤتمرهم التنصيري بجاوا الشرقية مدة عشرين سنة لتنصير جاوا و50 سنة لتنصير أندونيسية! ويمتلكون مطارا في منطقة كاليمنتان الغربية وأسطولا من الطائرات العمودية وأسطولا بحريا (1) .
لقد أعد أبو هلال الأندونيسي كتابا خاصا عن أندونيسية وموقف التنصير منها، بعنوان: (غارة تبشيرية جديدة على أندونيسية) فيه الكثير من أمثال تلك الحقائق والإحصاءات.
__________
(1) انظر مجلة الأمة القطرية، رجب 1401 هـ، ص 43.(22/314)
وفي عام 1911 م نشرت مجلة الشرق المسيحي تقريرا عن المؤسسات والأجهزة التي يعمل من خلالها المنصرون في بلاد المسلمين، ومن تلك الإحصاءات التي حواها التقرير: 3838 إرسالية تنصيرية عامة، و34719 إرسالية تنصيرية من الدرجة الثانية، و1. 412. 044 عدد الأساتذة والتلاميذ، و88 جامعة وكلية بها 8628 طالبا، و552 مدرسة دينية لتخريج المنصرين والمعلمين وبها 12. 761 طالبا و1714 مدرسة تنصيرية عليا بها 166. 447 طالبا، و30. 185 مدرسة ابتدائية بها 1. 290. 357 تلميذا، و576 مستشفى، و1077 صيدلية، و11 مجلسا طبيا بها 830 طالبا، و98 معهدا للممرضات فيها 663 طالبة، ويشرف على إرساليات التنصير 520 جمعية عمومية عامة و433 جمعية لإعانتها و22 جمعية مختلفة. . إلخ، وكل ذلك قبل أكثر من ثلاث أرباع قرن أي منذ سنة 1911 (1) .
وقبل أكثر من نصف قرن بلغ عدد الإرساليات التنصيرية في الهند وحدها 377 إرسالية بالإضافة إلى 50 كلية و318 مدرسة ثانوية و78 مدرسة اجتماعية و65 مدرسة زراعية و11 مدرسة للمنصرين و10 مدارس لتخريج معلمين و170 صحيفة وجريدة ونشرة، وبلغت النفقات السنوية للإرساليات 277. 330 مليون روبية (2) .
ويذكر الكاتب التركي (ضياء أويغور) في كتابه (جذور الصهيونية) أن عدد ما طبع من الإنجيل بوساطة الإرساليات التنصيرية خلال 150 سنة يزيد عن الألف مليون نسخة مترجمة إلى مائة ألف وثلاثين
__________
(1) الغارة على العالم الإسلامي، مرجع سبق ذكره، ص 112 - 113.
(2) انظر: الإسلام في وجه التغريب، مرجع سبق ذكره، ص 56.(22/315)
لغة عدا النشرات والمجلات، وقدرت هذه بسبعة آلاف مليون دولار.
إن من الثابت أن جمعية ترجمة الإنجيل في أفريقية تتولى إعداد أكثر من 442 ترجمة للإنجيل في طريقها إلى أفريقية لتوزيعها هناك كل حسب لغته، وتشتمل هذه الترجمات على: 72 ترجمة حديثة للإنجيل، وكانت قد ترجمت سابقا وأصبحت غير متمشية، ولا ملائمة للمفاهيم الحديثة؟ ، مما حدا بهم إلى إعادة ترجمتها بما يوافق العصر، وهناك حوالي 350 ترجمة جديدة تعتبر الأولى من نوعها، وقد بلغت ميزانية هذه الجمعية سبعة ملايين دولار أمريكي خاصة بأفريقية وحدها.
وتجدر الإشارة أيضا إلى أن أكثر من 10 ملايين وثمانمائة ألف نسخة من الإنجيل قد تم توزيعها في العالم من قبل اتحاد جمعيات الإنجيل في العام الماضي فقط، كما تم شحن 5900 نسخة من الإنجيل باللغة العربية من كوريا إلى الشرق الأوسط وشمالي أفريقية، كما تم تزويد لبنان بثلاثة ملايين نسخة.
كما يجب التنبيه إلى أن هناك أكثر من 6 ملايين من الطلاب المسلمين يتعلمون في مدارس تخضع للكنيسة.
إن أمريكا وحدها تنفق على الإرساليات التنصيرية، ومنها أفريقية أكثر من 600 مليون دولار سنويا، كما تنفق إنجلترا على ذلك أكثر من مليون جنيه إسترليني، وكذلك بقية الدول الغربية الأخرى.(22/316)
وفي دول الخليج العربي بالذات تجلت هجمة المنصرين الشرسة من خلال استغلالهم لحاجة أبناء هذه المنطقة لمطالب الحياة الضرورية من طب وتعليم وخبرات فنية وقد ركزت على أهمية هذه الأشياء في التنصير البحث الذي قدمه روبرت بيكيت وآخرون في مؤتمر كلورادو (رقم 17، 30) .
وكان نتيجة هذا الاهتمام من قبل هذا المؤتمر والمؤتمرات التي قبله والتي من بعده، ذلك الوجود النصراني متمثلا في مؤسساته التعليمية والطبية وغيرها، ومتمثلا في نتائجه السلبية على المجتمعات الإسلامية، وتلك النتائج السلبية حدت بالدكتور حسين مؤنس إلى تحذير المسلمين منها، والعمل على تفاديها، ومن ذلك قوله عن التنصير في أفريقية: " وفي أيامنا هذه (أكتوبر 1977 م) توقف تقريبا توسع الإسلام في أفريقية وجنوبي الصحراء. . الزيادة التي تأتي هي في مواليد المسلمين. . . في أفريقية المدارية والاستوائية باستثناء زائيري، كان المسلمون عشرة أضعاف المسيحيين، واليوم أصبح المسيحيون أضعاف المسلمين. المعركة اليوم تدور حول كسب 70 % من سكان أفريقية - وهم وثنيون - إلى الإسلام أو النصرانية. . إذا سارت الأمور على هذا المنوال سنجد أنفسنا في أفريقية 150 مليونا في مواجهة 300 مليون غير مسلم على الأقل " (1) .
__________
(1) مجلة الهلال، أكتوبر 1977 م، '' الإسلام في خطر '' بقلم الدكتور حسين مؤنس ص 45 - 49.(22/317)
وقوله عن التنصير في آسية: ". . وأحب ألا يستهين أحد بعمل هذه الإرساليات طالما استهنا بأعمالها وقلنا: إن الإسلام وحده كفيل بإحباط كل جهودها، ولكننا في النهاية نجد أنفسنا أمام مواقف تتحول إلى مشاكل إسلامية قومية، كما في جنوب السودان. . إن الأمريكيين يؤيدون أعمال التبشير بكل قواهم لكي يزعزعوا أقدام الإسلام في أندونيسية، فهل ننتظر حتى تتعقد المسألة أو تصبح مشكلة قومية هناك؟ ولماذا لا تتخذ حكومة أندونيسية منذ الآن قرارا حاسما بإيقاف أعمال التبشير في بلادها لتنقذ نفسها من مشكلة لا بد من أن تظهر يوما ما؟ وهل يعلم المسلمون مثلا أنهم عندما قسموا جزيرة غينية الجديدة إلى قسمين: شرقي يتبع أسترالية؛ وغربي يتبع أندونيسية (إيريان الغربية) ركزت جمعيات التبشير جهدها في إيريان الغربية التابعة لإندونيسيا، لكي يحولوها إلى أرض مسيحية تاركين إيريان الشرقية - وهي تابعة لهم - لأنهم واثقون بأنها بلادهم. .
نريد أن نقول هنا إن الإسلام في خطر في أندونيسية. هل تذكر المثل الذي يقول: من مأمنه يؤتى الحذر؟ إذا فاذكر إلى جانب ذلك أننا سنؤتى في جنوبي شرقي آسية من مأمننا: أندونيسية. . ".
كل الذي ذكرناه من أساليب ناعمة ماكرة خبيثة غير مباشرة، تنطلي على قصيري النظر من المسلمين، لا يعني أن المنصرين لا يلجأون إلى الأساليب المباشرة في حرب الإسلام، سواء أكانت أساليب مادية أو معنوية، ومن أمثلة ذلك:
(1) عطلوا - مع قوى الاستعمار الأخرى - الدراسات الإسلامية في موزمبيق، ومنعوا استخدام اللغة العربية، ووضعوا جميع نظم التعليم(22/318)
بين أيدي المنصرين الكاثوليك (1) .
(2) أغلقوا في الحبشة مكاتب تحفيظ القرآن سنة 1945 م، واعتبروا تعليم اللغة العربية جريمة يعاقب عليها القانون.
(3) دبروا في نيجيريا الاغتيالات في مسرحية مكشوفة، عندما وجدوا المسلمين في مركز القيادة، ومثال ذلك ما حدث للزعيم النيجيري أحمدو بللو، ورئيس الوزراء النيجيري أبي بكر تفاوا بليوه وعندما حركت الصليبية والصهيونية عملاءها برئاسة (ايرونسي) وقيادة شوكور ما نزيجو من قبيلة أيبو النصرانية، وأصدر أوامره بإلغاء توحيد نيجيريا وفرض سيطرة أيبو على نيجيريا. وحركوا عميلهم الجنرال أوجوكو ليقوم بمحاولات فصل إقليم بيافرا. وتدفقت عليه الأسلحة من قوى النصرانية في الغرب المسيحي (2) . وعبر عن أهداف أوجوكو " البروفسير " (النصراني جير يام أم ريك) ، قائلا:
" إن الخط السياسي لدولة بيافرا سيكون في وضع حد للتوسع الإسلامي في كل أرجاء أفريقية ".
__________
(1) انظر '' جريدة البلاغ - العدد 451 - 4 يونيو 1987 م - '' الإسلام في موزمبيق، ص 42.
(2) انظر تفاصيل ذلك في '' عماد الدين خليل '' مأساتنا في أفريقية، ط 1، بيروت، مؤسسة الرسالة 1987 م.(22/319)
" إن الثورة البيافرية سوف تنشئ حكومة مسيحية في نظراتها. . ".
(4) وفي زنجبار تعاونت الصهيونية والاستعمار مع المنصرين، ودبروا مذبحة جماعية عام 1963 م، راح ضحيتها ثلاثة وعشرون ألفا من المسلمين من مجموعة ستة وعشرين ألفا.
(5) وتعاونوا مع " ملتون أبوتي " المسيحي المتعصب للإطاحة بـ " عيدي أمين " في أوغندة لأنه مسلم، وقتلوا المسلمين وألجأوهم إلى الهرب إلى البلاد المجاورة.
(6) كانوا وما زالوا في السودان وراء الفتن التي تعصف بجنوبي السودان. يذكر هولت في كتابه: (تاريخ السودان الحديث) ، ص 149 " إشارة البروفيسور ليبون اليهودي. وعميد كلية الآداب بجامعة الخرطوم في السابق في محاضرة ألقاها في أروقة الجامعة، إذ يقول فيها:
". . إن السودان سيتطور تطورا ملحوظا سنة ألفين، هذا في الجزء(22/320)
الشمالي أما الجزء الجنوبي فإنه سينفصل وينضم إلى دولة ستنشأ يومئذ واسمها دولة أواسط أفريقية " (1) .
وعندما انكشف دور الأوربيين النصارى في هذه المؤامرة طردوا من البلاد.
(7) سعوا إلى تنصيب رؤساء الدول الإسلامية في أفريقية بالذات من بين النصارى الأفريقيين - فعلوا ذلك في السنغال أيام سنغور، وفي غامبيا. ولكن الله هدى الرئيس الغامبي الحالي فعاد إلى حظيرة الإسلام. وفي تشاد نصبوا تمبال باي. وفي أفريقية الوسطى نصبوا " بوكاسا ". وعندما أسلم تمكنوا من عزله وطرده (2) .
(8) سعوا مع المستشرقين في تشويه صورة الإسلام في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم وفي القرآن الكريم.
لم يتركوا ميدانا من ميادين الدراسات الإسلامية إلا اقتحموه لبث سمومهم وافتراءاتهم تلميحا وتصريحا.
__________
(1) انظر: المرجع نفسه، ص 59، مجلة هذه سبيلي، أفريقية والنصرانية، المرجع السابق، ص 291.
(2) انظر في ذلك: مأساتنا في أفريقية، مرجع سبق ذكره، ص 83 - 86.(22/321)
(9) خططوا عن طريق الضغوط الدبلوماسية إلى علمنة الدساتير الإسلامية، أو على الأقل ضمان ما يسمونه " حرية تنصير المسلمين بقوة الدستور ". وذلك عندما فشلوا في فرض حكومات نصرانية في البلاد ذات الثقل الحضاري، مثل مصر.
ولذلك نراهم يتحدثون عن تأثير الحضارة الغربية على الشرق كوسيلة من وسائل التغيير لتفريغ الدساتير من محتواها الإسلامي لتصبح شكلا بلا مضمون أو بلا موضوع.
(10) استغلال الحماية الأجنبية التي كانت تسيطر على البلاد. ففي مصر - مثلا - نجد الحكومة الاستعمارية، تفصل بضعا وسبعين عالما أزهريا من وظائفهن بتهمة التصدي لنشاط الإرساليات النصرانية (1) .
(11) وفي موزمبيق فتك الدكتور الصليبي الدواردو بالمسلمين الذين شاركوا معه في تحرير موزمبيق من الاستعمار البرتغالي تحت اسم حركة " فريلمو "، وتبنى الرئيس سامورا ماشيل الشيوعي النصراني سياسة فظة ومليئة بالكراهية تجاه المسلمين (2) ، وبذلك سار في نفس السياسة الاستعمارية البرتغالية (3) .
(12) أما في الكونغو فقد رفضت الدولة الاعتراف بالإسلام، ورفضت أن تكون اللغة السواحلية، لغة رسمية للبلاد لأن بها 60 % من
__________
(1) المرجع نفسه، ص 103.
(2) انظر: البلاغ، عدد 451، 4 يونية 1978 م، '' الإسلام في موزمبيق '' ص 2.
(3) انظر: مأساتنا في أفريقية، ص 128.(22/322)
الكلمات العربية، وقد جمع المسلمون أنفسهم بعد الاستقلال وطالبوا بالشخصية الدينية ليكون لهم نوابهم وممثلوهم ومدارسهم ومؤسساتهم، ووعدهم رئيس الوزراء السابق " أدولا " بكل خير، ولكنه أبعد عن الحكم قبل أن ينفذ شيئا واتهمه المستعمرون البلجيك والمنصرون بأنه مسلم وأن اسمه " عبد الله "، وأن أباه سنغالي مسلم.
لا عجب في ذلك، ففي الكونغو ما يزيد عن 15 ألف بعثة تنصيرية من الدول الأوروبية ويعملون وفق خطة مرسومة (1) .
(13) وبعد أن أبعدوا الأغلبية الإسلامية عن مراكز القيادة في تشاد، كان " تومبال باي " تلك العصا التي يضرب بها النصارى المسلمين، ولهذا كان لا بد لمنظمة " فرولينا " أن تعمل لتغيير هذا الوضع الذي استمر حتى بعد زوال " تومبال باي ".
(14) وما زال الشعب الأرتيري معزولا عن سيادة نفسه، بل أجبروه ليظل في فلك الحبشة النصرانية الصليبية.
(15) وفي أندونيسية قاموا بكل عمل من شأنه إضعاف انطلاقة الإسلام وتشجيع التنصير والعلمانية.
__________
(1) انظر: مجلة هذه سبيلي، أفريقية والنصرانية، مرجع سبق ذكره، ص 290، مأساتنا في أفريقية، ص 9.(22/323)
ثبت بأهم مصادر ومراجع البحث
أولا: الكتب.
ثانيا: الدوريات.
1 - الكتب
(1) القرآن الكريم.
(2) التل، عبد الله: جذور البلاء، ط 2 بيروت، المكتب الإسلامي، 1405 هـ \ 1985 م.
(3) الجبهان، إبراهيم سليمان: ما يجب أن يعرفه المسلم من حقائق عن النصرانية والتبشير ط 1، الرياض، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، 1397 هـ \ 1977 م.
(4) الجندي، أنور: الإسلام في وجه التغريب - مخصصات التبشير والاستشراق، القاهرة دار الاعتصام، د. ت.
(5) خليل، د. عماد الدين: مأساتنا في أفريقية، ط 1، بيروت، مؤسسة الرسالة 1987 م.
(6) شاتليه، أ. ل: الغارة على العالم الإسلامي، ترجمة وتلخيص محب الدين الخطيب ومساعد اليافي، جدة، الدار السعودية للطباعة والنشر، د. ت.(22/324)
(7) شلبي، د. عبد الودود: أفيقوا أيها المسلمون قبل أن تدفعوا الجزية، ط 4 جدة، دار المجتمع للنشر والتوزيع، 1406 هـ \ 1986 م.
(8) فروخ، عمر، ومصطفى الخالدي: التبشير والاستعمار في البلاد العربية، ط 5، بيروت، شركة علاء الدين للطباعة والتجليد، 1973 م.
(9) مك كري: التنصير والإسلام، ترجمة الأستاذ آدم أبو الرجال وآخرين، الرياض، مؤسسة الراجحي الخيرية، 1986 م.
(10) الملكاوي، د. محمد عبد القادر خليل: المناظرة الكبرى بين الشيخ رحمه الله والدكتور القسيس فندر، جمع وتحقيق وتعليق ونشر الدكتور الملكاوي، ط 1، الرياض، دار ابن تيمية للنشر والتوزيع والإعلام، 1405 هـ.
(11) نقرة، د. التهامي، وآخرون: مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية، الرياض، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ومكتب التربية العربي لدول الخليج 1405 هـ \ 1985 م، جزءان.
(12) أبو هلال الأندونيسي: غارة تبشيرية جديدة على أندونيسية، ط 4، جدة، دار الشروق، 1400 هـ \ 1980 م.(22/325)
2 - الدوريات
(1) جريدة البلاغ، العدد 58 - 13 ربيع الآخر، 1390 هـ، 17 يونيو 1970 م، " مؤامرة في نيجيريا "، معلومات تنفرد البلاغ بنشرها.
(2) جريدة البلاغ، العدد 414 - 17 يوليو 1977 م، " أنقذوا عيدي أمين، إنه يتعرض لحرب صليبية شرسة ".
(3) جريدة البلاغ، العدد 451 - 4 يونيو 1978 م، " الإسلام في موزمبيق ".
(4) جريدة البلاغ، العدد 395 - 6 مارس 1977 م، " أوغندا. . . المبشرون يتآمرون فاحذروهم أيها الغافلون ".
(5) مجلة حضارة الإسلام، مجلدات 1 - 3، سنة 1384 هـ، تموز 1964 م، العدد الأول، السنة الخامسة، " ضيف الحضارة الحاج إبراهيم أحمد أبو بكر الهرري ".
(6) حضارة الإسلام، العددان 3 - 4، السنة الثامنة، جمادى الأولى والآخرة، سنة 1387 هـ، أيلول 1967 م، " مأساة المسلمين في نيجيريا ".
(7) حضارة الإسلام، المجلد الثامن، العددان 1 - 2، ربيع الأول وآخر، سنة 1378 هـ، حزيران - تموز 1967 م، " مأساة المسلمين في أثيوبية ".
(8) حضارة الإسلام، العدد 5، رجب 1388 هـ، السنة التاسعة، تشرين 1968 م، " حالة المسلمين في الحبشة " بقلم الشيخ محمد العبودي، الأمين العام للجامعة الإسلامية.(22/326)
(9) مجلة كلية العلوم الاجتماعية، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض العدد 4، سنة 1400 هـ، " تصدي الإرساليات النصرانية لتقدم الإسلام بين الشعوب الوثنية في وادي النيل "، بقلم الدكتور إبراهيم عكاشة علي.
(10) مجلة المسلمون، المجلد الثامن، العدد 3، كانون الأول 1963 م، " حملة التشهير الآثمة على السودان " بقلم الأستاذ القاضي \ عثمان خالد مضوي.
(11) مجلة المسلمون، المجلد الثامن، العدد 5، سنة 1387 هـ، " مغزى كارثة زنجبار " بقلم الأستاذ محمد المجذوب.
(12) مجلة هذه سبيلي، التابعة للمعهد العالي للدعوة الإسلامية، جامعة الإمام، العدد الثاني سنة 1399 هـ، " أفريقية والنصرانية "، بقلم الدكتور مهدي رزق الله أحمد.
(13) مجلة الهلال، أكتوبر 1977 م، " الإسلام في خطر " بقلم د. حسين مؤنس.
(14) مجلة الهلال، نوفمبر 1977 م، " إسلام آسية في خطر " بقلم د. حسين مؤنس.(22/327)
صفحة فارغة(22/328)
التنبيه على نشرات في عقوبة تارك الصلاة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه أجمعين \ أما بعد:
فقد اطلعت على نشرة بعنوان عقوبة تارك الصلاة جاء فيها ما نصه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «من تهاون في الصلاة عاقبه الله بخمس عشرة عقوبة» ثم عددها وجاء في آخرها " كل من يتفضل بقراءة هذه النسخة الرجاء نسخها وتوزيعها على المسلمين جميعا ثم قال: الفاتحة لفاعل الخير " كما اطلعت على نشرة أخرى صدرت بثلاث آيات من القرآن الكريم التي أولها قوله {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (1) ثم ذكر بعدها أنها تجلب الخير بعد أربعة أيام وطلب إرسال خمس وعشرين نسخة منها إلى من هو في حاجة وأتبع ذلك بذكر عقوبات يزعم وقوعها بمن أهملها.
وحيث إن هاتين النشرتين من الباطل والمنكرات رأيت التنبيه على ذلك حتى لا يغتر بها من تخفى عليهم أحكام الشرع المطهر فأقول وبالله التوفيق:
لا شك أن هذه الطريقة من الأمور المبتدعة في الدين ومن القول على الله بلا علم وقد بين الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز أن ذلك من أعظم الذنوب فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (2)
__________
(1) سورة الزمر الآية 66
(2) سورة الأعراف الآية 33(22/329)
فليتق الله عبد يسلك هذه الطريقة المنكرة وينسب إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ما لم يصدر عنهما فإن تحديد العقوبات وتعيين الجزاءات على الأعمال إنما هو من علم الغيب ولا علم لأحد به إلا من طريق الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد في الكتاب والسنة شيء من ذلك البتة.
أما الحديث الذي نسبه صاحب النشرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في عقوبة تارك الصلاة وأنه يعاقب بخمس عشرة عقوبة. إلخ. فإنه من الأحاديث الباطلة المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم كما بين ذلك الحفاظ من العلماء رحمهم الله كالحافظ الذهبي في الميزان والحافظ ابن حجر وغيرهما.
قال ابن حجر في كتابه لسان الميزان في ترجمة محمد بن علي بن عباس البغدادي العطار: إنه ركب على أبي بكر بن زياد النيسابوري حديثا باطلا في تارك الصلاة، روى عنه محمد بن علي الموازيني شيخ لأبي النرسي زعم المذكور أن ابن زياد أخذه عن الربيع عن الشافعي عن مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه ورفعه «من تهاون بصلاته عاقبه الله بخمس عشر خصلة» . . الحديث وهو ظاهر البطلان من أحاديث الطرقية اهـ.
وقد أصدرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فتوى ببطلان ذلك الحديث بتاريخ 10 \ 6 \ 1401 هـ فكيف يرضى عاقل لنفسه بترويج حديث موضوع وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «من روى عني حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين (1) » ، وإن فيما جاء عن الله وعن رسوله
__________
(1) صحيح مسلم مقدمة (1) ، سنن الترمذي العلم (2662) ، سنن ابن ماجه المقدمة (39) ، مسند أحمد بن حنبل (5/14) .(22/330)
في شأن الصلاة وعقوبة تاركها ما يكفي ويشفي. قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (1) وقال تعالى عن أهل النار {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} (2) {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} (3) الآيات. فذكر من صفاتهم ترك الصلاة وقال سبحانه {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} (4) {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (5) {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} (6) {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (7) وقال صلى الله عليه وسلم «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا (8) » وقال صلى الله عليه وسلم «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (9) » . والآيات والأحاديث الصحيحة في هذا كثيرة معلومة.
وأما النشرة الثانية التي صدرت بالآيات التي أولها قوله {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (10) وذكر كاتبها أن من وزعها يحصل له كذا من الخير ومن أهملها يعاقب بكذا من العقاب. فإنها من أبطل الباطل وأعظم الكذب وإنها من أعمال الجهلة والمبتدعة الذين يريدون إشغال العامة بالحكايات والخرافات والأقاويل الباطلة ويصرفونهم عن الحق الواضح البين الذي جاء في كتاب الله وسنة رسوله وأن ما يحدث للناس من خير أو شر هو من الله سبحانه وهو العالم به وحده، قال سبحانه {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (11) ولم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من كتب ثلاث آيات وأكثر منها يكون له كذا ومن تركها يصيبه كذا
__________
(1) سورة النساء الآية 103
(2) سورة المدثر الآية 42
(3) سورة المدثر الآية 43
(4) سورة الماعون الآية 4
(5) سورة الماعون الآية 5
(6) سورة الماعون الآية 6
(7) سورة الماعون الآية 7
(8) صحيح البخاري الإيمان (8) ، صحيح مسلم الإيمان (16) ، سنن الترمذي الإيمان (2609) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5001) ، مسند أحمد بن حنبل (2/93) .
(9) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(10) سورة الزمر الآية 66
(11) سورة النمل الآية 65(22/331)
وادعاء هذا كذب وبهتان، إذا علم هذا فإنه لا يجوز كتابة النشرتين ولا توزيعهما ولا المشاركة في ترويجهما بأي وجه من الوجوه وعلى من سبق له شيء من ذلك أن يتوب إلى الله سبحانه ويندم على ما حصل منه ويعزم على عدم العودة إلى ذلك مطلقا. والله المسؤول سبحانه أن يرينا جميعا الحق حقا ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه وأن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.،،،
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(22/332)
الصوم والإفطار لرؤية الهلال
سماحة الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. .
أما بعد: فقد سألني كثير من الإخوان عن حكم الاعتماد على الإذاعة في الصوم والإفطار وهل ذلك يوافق الحديث الصحيح «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته (1) » الحديث.
وهل إذا ثبتت الرؤية بشهادة العدل في دولة مسلمة يجب على الدولة المجاورة لها الأخذ بذلك وإذا قلنا بذلك فما دليله وهل يعتبر اختلاف المطالع. .
والجواب عن هذه الأسئلة أن يقال: قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة أنه قال: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين (2) » ، وفي لفظ آخر «فأكملوا العدة ثلاثين (3) » وفي رواية أخرى «فأكملوا عدة شعبان ثلاثين (4) » .
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1909) ، صحيح مسلم الصيام (1081) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2117) ، مسند أحمد بن حنبل (2/497) ، سنن الدارمي الصوم (1685) .
(2) صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن أبو داود الصوم (2320) .
(3) صحيح البخاري الصوم (1907) .
(4) صحيح البخاري الصوم (1909) .(22/332)
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ثم تصوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة (1) » ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وهي تدل على أن المعتبر في ذلك هو رؤية الهلال أو إكمال العدة.
أما الحساب فلا يعول عليه وهذا هو الحق وهو إجماع من أهل العلم المعتد بهم وليس المراد من الأحاديث أن يرى كل واحد الهلال بنفسه وإنما المراد ذلك بشهادة البينة العادلة وقد خرج أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بالصيام (2) » . وخرج أحمد وأهل السنن وصححه ابن خزيمة وابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن أعرابيا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال فقال أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فقال: نعم فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غدا (3) » ، «وعن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه خطب في اليوم الذي يشك فيه فقال: ألا إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألتهم وإنهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وانسكوا لها فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين يوما فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا (4) » رواه أحمد ورواه النسائي ولم يقل فيه مسلمان «وعن أمير مكة الحارث بن حاطب قال عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما (5) » رواه أبو داود والدارقطني وقال هذا إسناد متصل صحيح.
فهذه الأحاديث وما جاء في معناها تدل على أنه يكتفى في رؤية هلال رمضان بالشاهد الواحد العدل، أما في الخروج من الصيام وفي بقية الشهور فلا بد من شاهدين عدلين جمعا بين الأحاديث الواردة في ذلك وبهذا قال أكثر أهل العلم وهو الحق لظهور أدلته ومن هذا يتضح أن المراد بالرؤية
__________
(1) سنن النسائي الصيام (2126) ، سنن أبو داود الصوم (2326) ، مسند أحمد بن حنبل (4/314) .
(2) سنن أبو داود الصوم (2342) ، سنن الدارمي الصوم (1691) .
(3) سنن الترمذي الصوم (691) ، سنن النسائي الصيام (2113) ، سنن أبو داود الصوم (2340) ، سنن ابن ماجه الصيام (1652) ، سنن الدارمي الصوم (1692) .
(4) سنن النسائي كتاب الصيام (2116) ، مسند أحمد بن حنبل (4/321) .
(5) سنن أبو داود الصوم (2338) .(22/333)
هو ثبوتها بطريقها الشرعي وليس المراد أن يرى الهلال كل أحد، فإذا أذاعت الدولة المسلمة المحكمة للشريعة، كالمملكة العربية السعودية أنه ثبت لديها رؤية هلال رمضان أو هلال شوال أو هلال ذي الحجة فإن على جميع رعيتها أن يتبعوها في ذلك، وعلى غيرها أن يأخذ بذلك عند جمع كثير من أهل العلم لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم «الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين (1) » رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وأخرجه مسلم بلفظ «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن أغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين (2) » ، وأخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن أغمي عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين (3) » وأخرجه مسلم بهذا اللفظ لكن قال «فإن أغمى عليكم الشهر فعدوا ثلاثين (4) » فإن ظاهر هذه الأحاديث وما جاء في معناها يعم جميع الأمة ونقل النووي في شرح المهذب عن الإمام ابن المنذر رحمه الله أن هذا هو قول الليث بن سعد والإمام الشافعي والإمام أحمد رحمة الله عليهم، قال (يعني ابن المنذر) ولا أعلمه إلا قول المدني والكوفي يعني مالكا وأبا حنيفة رحمهما الله (انتهى) وقال جمع من العلماء: إنما يعم حكم الرؤية إذا اتحدت المطالع أما إذا اختلفت فلكل أهل مطلع رؤيتهم، وحكاه الإمام الترمذي رحمه الله عن أهل العلم، واحتجوا على ذلك بما خرجه مسلم في صحيحه «عن ابن عباس رضي الله عنهما أن كريبا قدم عليه في المدينة من الشام في آخر رمضان فأخبره أن الهلال رئي في الشام ليلة الجمعة وأن معاوية والناس صاموا بذلك فقال ابن عباس لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نراه أو نكمل العدة فقلت أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه فقال لا - هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) » قالوا فهذا يدل على أن ابن عباس يرى أن الرؤية
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1907) ، سنن أبو داود الصوم (2320) .
(2) سنن النسائي الصيام (2118) .
(3) صحيح البخاري الصوم (1909) .
(4) صحيح مسلم الصيام (1081) .
(5) صحيح مسلم الصيام (1087) ، سنن الترمذي الصوم (693) ، سنن النسائي الصيام (2111) ، سنن أبو داود الصوم (2332) .(22/334)
لا تعم وأن لكل أهل بلد رؤيتهم إذا اختلفت المطالع وقالوا إن المطالع في منطقة المدينة غير متحدة مع المطالع في الشام، وقال آخرون لعله لم يعمل برؤية أهل الشام لأنه لم يشهد بها عنده إلا كريب وحده والشاهد الواحد لا يعمل بشهادته في الخروج وإنما يعمل بها في الدخول.
وقد عرضت هذه المسألة على هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في الدورة الثانية المنعقدة في شعبان 1392 هـ فاتفق رأيهم على أن الأرجح في هذه المسألة التوسعة في هذا الأمر وذلك بجواز الأخذ بأحد القولين على حساب ما يراه علماء البلاد. قلت: وهذا قول وسط وفيه جمع بين الأدلة وأقوال أهل العلم. إذا علم فإن الواجب على أهل العلم في كل بلاد أن يعنوا بهذه المسألة عند دخول الشهر وخروجه وأن يتفقوا على ما هو الأقرب إلى الحق في اجتهادهم ثم يعملوا بذلك ويبلغوه الناس وعلى ولاة الأمر لديهم وعامة المسلمين متابعتهم في ذلك ولا ينبغي أن يختلفوا في هذا الأمر لأن ذلك يسبب انقسام الناس وكثرة القيل والقال إذا كانت الدولة غير إسلامية.
أما الدولة الإسلامية فإن الواجب عليها اعتماد ما قاله أهل العلم وإلزام الناس به من صوم أو فطر عملا بالأحاديث المذكورة وأداء للواجب ومنعا للرعية مما حرم الله عليها، ومعلوم أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. .
وأسأل الله أن يوفقنا وجميع المسلمين للفقه في الدين والثبات عليه والحكم به والتحاكم إليه والحذر مما خالفه إنه جواد كريم. . . وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه،،،،(22/335)
حديث شريف
«عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله، قيل ثم من؟ قال مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره (1) »
رواه البخاري
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2786) ، صحيح مسلم الإمارة (1888) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1660) ، سنن النسائي الجهاد (3105) ، سنن أبو داود الجهاد (2485) ، سنن ابن ماجه الفتن (3978) ، مسند أحمد بن حنبل (3/88) .(22/336)
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3) {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (4)
(سورة الصف، الآيات 10، 11، 12، 13)
__________
(1) سورة الصف الآية 10
(2) سورة الصف الآية 11
(3) سورة الصف الآية 12
(4) سورة الصف الآية 13(23/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(23/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ـ الرياض
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(23/3)
المحتويات
الافتتاحية
وجوب شكر النعم والحذر من صرفها في غير مصارفها سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
موضوع العدد
نظرة الشريعة الإسلامية إلى المخدرات اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 11
الفتاوى
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 83
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 107
البحوث
رد الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين على الدكتور إبراهيم الناصر حول بحثه " موقف الشريعة الإسلامية من المصارف" 121
أضرار فاحشة الزنا الدكتور / عبد الله بن إسحاق آل الشيخ 137(23/4)
تحقيق كتاب " تسلية نفوس النساء والرجال عند فقد الأطفال" تحقيق الشيخ / الوليد بن عبد الرحمن الفريان 159
التدابير الزجرية والوقاية في التشريع الإسلامي وتطبيقها. الشيخ / إسماعيل بن محمد الأنصاري 181
ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى. الدكتور / محمد بن سعد الشويعر 201
الإعجاز البياني للقرآن الكريم. الدكتور / حسين مطاوع الترتوري 225
حكمة مشروعية الاحتساب وحكمه. الدكتور / محمد عثمان الصالح 265
من هو الخضر صاحب موسى عليه السلام. الشيخ / يوسف عبد الرحمن البرقاوي 281
عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين. الأستاذ / أحمد فهيم مطر 311
مشروعية قول " لا إله إلا الله وحده لا شريك له بعد صلاة الفجر والمغرب". الشيخ / فريح بن صالح البهلال 345
تعريف البدعة، أنواعها وأحكامها الدكتور / صالح بن فوزان 349
عبد الله الترجمان الأندلسي "حياته وأعماله" عبد القيوم البستوي 369
قرار هيئة كبار العلماء رقم 146 في 11 / 7 / 1408هـ 389
النهي عن عضل البنات. سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 395
التحذير من إيداع الأموال في البنوك أو غيرها لغرض الحصول على الربا. سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 397(23/5)
صفحة فارغة(23/6)
الافتتاحية
وجوب شكر النعم
والحذر من صرفها في غير مصارفها
سماحة الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه، أما بعد: -
فقد يبتلي الله عباده بالفقر والحاجة كما حصل لأهل هذه البلاد في أول هذا القرن، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (1) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (2) .
كما يبتليهم بالنعم وسعة الرزق، كما هو واقعنا اليوم؛ ليختبر إيمانهم وشكرهم، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (3) .
والعاقبة الحميدة في كل ذلك للمتقين الذين تكون أعمالهم وفق ما شرع الله، كالصبر والاحتساب في حال الفقر، وشكر الله على النعم وصرف المال في مصارفه حال الغنى، ومن صرف المال في مصارفه الاقتصاد في المأكل والمشرب من غير تقتير على النفس والأهل، ولا إسراف في تضييع المال من غير حاجة، وقد نهى الله عن ذلك كله قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (4) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 155
(2) سورة البقرة الآية 156
(3) سورة التغابن الآية 15
(4) سورة الإسراء الآية 29(23/7)
وقال تعالى في النهي عن إضاعة المال: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} (1) الآية.
نهى الله جل وعلا في هذه الآية عن إعطاء الأموال للسفهاء؛ لأنهم يصرفونها في غير مصارفها فدل ذلك على أن صرفها في غير مصارفها أمر منهي عنه، وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (2) . وقال: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (3) {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} (4) .
والإسراف الزيادة في صرف الأموال على مقدار الحاجة، والتبذير صرفها في غير وجهها. وقد ابتلي الناس اليوم بالمباهات في المآكل والمشارب خاصة في الولائم وحفلات الأعراس، فلا يكتفون بقدر الحاجة وكثير منهم إذا انتهى الناس من الأكل، ألقوا باقي الطعام في الزبالة والطرق الممتهنة.
وهذا من كفر النعمة وسبب في تحولها وزوالها، فالعاقل من يزن الأمور بميزان الحاجة، وإذا فضل شيء عن الحاجة، بحث عن من هو في حاجته، وإذا تعذر ذلك وضعه في مكان بعيد عن الامتهان؛ لتأكله الدواب ومن شاء الله ويسلم من الامتهان، والواجب على كل مسلم أن يحرص على تجنب ما نهى الله عنه، وأن يكون حكيما في تصرفاته مبتغيا في ذلك وجه الله شاكرا لنعمه، حذرا من التهاون بها وصرفها في غير مصارفها، قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (5) وقال عز وجل: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} (6) .
وأخبر سبحانه أن الشكر يكون بالعمل لا بمجرد القول فقال سبحانه: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (7) .
__________
(1) سورة النساء الآية 5
(2) سورة الأعراف الآية 31
(3) سورة الإسراء الآية 26
(4) سورة الإسراء الآية 27
(5) سورة إبراهيم الآية 7
(6) سورة البقرة الآية 152
(7) سورة سبأ الآية 13(23/8)
فالشكر لله سبحانه يكون بالقلب واللسان والعمل، فمن شكر الله قولا وعملا زاده من فضله وأحسن له العاقبة، ومن كفر بنعم الله ولم يصرفها في مصارفها، فهو على خطر عظيم، قد توعده الله بالعذاب الشديد، فنسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، ويمنحهم الفقه في دينه، وأن يوفقنا وإياهم لشكر نعمه، والاستعانة بها على طاعته ونفع عباده، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(23/9)
صفحة فارغة(23/10)
موضوع العدد
نظرة
الشريعة الإسلامية
إلى المخدرات
إعداد: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
موضوعات البحث
1 - التقدمة.
2 - مهمة التشريع.
3 - الفرق بين حقيقة كل من الخمر والمخدر والمفتر.
4 - بدء ظهور المخدرات وانتشارها.
5 - جلب المصلحة ودفع المفسدة.
6 - الأدلة الشرعية على تحريم المخدرات.
7 - علاقات المخدرات بالخمر.
8 - نصوص الكتب الفقهية في مختلف المذاهب.
9 - فقه السنة.
10 - الدراسات الحديثة المؤيدة.
11 - الدخان.(23/11)
التقدمة:
اللهم لك الحمد خلقت الإنسان وفضلته على غيره من الأكوان، بما ركبت فيه من قوى أعلاها العقل، وأغلاها الإدراك والفهم، ولكن كثيرا من عبادك نسوا ذلك التفضيل، فتورطوا فيما يسلبهم نعمتك كلا أو بعضا، ولم يكن لهم عزم يؤثرون به تلك المنة، اللهم إنهم مساكين فاهدهم من ضلالهم وبصرهم بأمرهم، لقد شربوا الإثم، وأكلوا من الطعام الخبيث المفسد للعقل؛ ظنا منهم أن ذلك يضاعف متعهم، فارتد عليهم ذلك بعكس ما يريدون وقضى عليهم، إن من عاش منهم يشقون ويتخبطون، ومن مات منهم فقد خسروا دينهم ودنياهم، ولم يفارقوا الحياة إلا بعد أن حقت عليهم كلمة الشقوة إلا من تاب.
هذا وإن تحريم الخبائث قد أصبح مما علم من الدين بالضرورة، ولا سيما أم الخبائث " الخمر" على أن ما عداها من المخدرات لن يختلف عنها كثيرا في إقبال الناس عليه مع شدة ظهوره، وقد يكون في بعض الطوائف والطبقات أكثر بحكم بيئاتهم، وعلى مقتضى قدراتهم.
ولما طلب منا أن نكتب في نظرة الشريعة الغراء إلى هذه المخدرات في بحث متكامل، رأينا أن ندرس فيه عدة نواح من الشريعة تتصل بهذا الأمر، وتنتهي إلى تعرف الحكم الشرعي من وجهة نظر الفقهاء مع تعرف وجهات التشريع الإسلامي، وتوجيه ما يصلح العباد، ويأخذ بحجزهم عن الفساد، وما يعزز ذلك من بحوث المصلحين ودراسات الأطباء والنفسيين؛ فإن الإسلام هداية تفسرها شواهد الوجود، وتثبتها وقائع الحوادث وأحوال الخلائق، فمن كان سعيدا في عيشته فلأنه عرف سبيل الإسلام، وأخذ نفسه بالعمل به، ومن كان شقيا في حياته فلأنه تنكب عن جادته، وصدق الله إذ يقول: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) ويقول سبحانه فيما يصور
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153(23/12)
الانحراف والمنحرفين: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (2)
وقد اقتضت وجهة النظر في تسلسل البحث أن يكون على الوجه الآتي.
أولا: الفرق بين حقيقة كل من المسكر والمخدر والمفتر.
ثانيا: بدء ظهور المخدرات وانتشارها بين المسلمين.
ثالثا: مهمة التشريع الإسلامي في هذه الأمة في ناحيتين رئيسيتين هما: الرحمة بهم، ورعاية مصالحهم حتى تطمئن النفوس إلى كل حكم من أحكام الشريعة، وتفهم أنه لا بد أن يكون معقول المعنى، وإن خفي أحيانا كما تتجه بالصبي وجهة الرفق به وإن لم يعلم، واعتبار ما ينفعه وإن لم يفهم؛ لضيق أفقه ونقص إدراكه {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (3)
والقصد بجانب الرحمة معنى اليسر في التشريع سهولة ووضوحا في التعبير، وتخفيفا في التكليف، ورفع الإصر الذي كان في الأمم السابقة مع الترخيص إذا طرأ عذر على المكلف يقتضي التخفيف في التكليف كالمرض والسفر والشيخوخة والكبر، وبذلك ونحوه يجد الإنسان حبا لدينه ويأنس بشرع الله وتوجيهه مع تأييد ذلك بأدلة من الكتاب والسنة، وصور من أحكامهما في ذلك.
والقصد بجانب المصلحة ما دل عليه الاستقراء من أن أحكام الله سبحانه موضوعة لمصالح العباد، ولا بد من تحقيق الرحمة في هذا الجانب أيضا ولكن قد تختلف النواحي وضوحا وظهورا
__________
(1) سورة الأعراف الآية 28
(2) سورة الأعراف الآية 29
(3) سورة البقرة الآية 216(23/13)
وإن تجاوبت في مؤداها، فبين الناحيتين تلازم وكمال ارتباط.)
رابعا: علاقة المصلحة الراجحة في التشريع الإسلامي بالتكاليف، وكيف رجعت التكاليف إلى الأقسام الثلاثة، الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات، وكيف كانت الأولى هي الأصل في الأحكام الشرعية، وكانت الحاجيات والتحسينيات خادمة لها. ولعل في ذلك أيضا ما يزيد طمأنينة الإنسان إلى حكم ربه التكليفي، كما يطمئن المؤمن بحكم إيمانه إلى حكم ربه الكوني وقضائه الحتمي الإلهي، وفي هذا أيضا درس لمن يعرضون عن تشريع الله، فينطلقون في شهواتهم حين يأخذ الشيطان بنواصيهم إلى حتوفهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ولا بد من بيان أن تحقيق المصالح التي قصد إليها التشريع من التكليف تتنافى مع تعاطي هذه المخدرات، وإنها محاربة لله عز وجل في تشريعه، وإيثار للفكر الجائر الخاطئ على تشريعه، إذ كان المقصود هو نظرة التشريع الإسلامي إلى تلك الخبائث وحكمه فيها على مقتضى تلك المصالح.
خامسا: أدلة تحريم كل ما يزيل العقل وعلى رأسه تلك الخمر التي سماها الله سبحانه رجسا من عمل الشيطان؛ لأنها هي التي كانت تتعاطى والقرآن ينزل، فدخل في حكمها كل ما هو مثلها في القضاء على العقل، وفهم الأئمة ذلك فلم يترددوا في الحكم به، كما سيتبين ذلك في موضعه.
ويشمل هذا البحث أمرين ما يتعلق أولا بالخمر وحدها، ونظرة الشارع في أمرها، وما يتعلق بالمخدرات ثانيا، ووجه الربط بين الأمرين ببيان ما بينهما من المعنى الذي لا فكاك منه ولا محيص عنه في نقل الحكم، وللعلماء وجهات نظر في تحريم تلك(23/14)
المخدرات مع إجماعهم عليه، كما سيتجلى لك في هذه الدراسة إن شاء الله.
سادسا: نقول من كتب الفقه في المذاهب المختلفة، والكتب الفقهية هي التي نقلت الفقه بالأمانة والدقة وتلقاها الناس بالقبول دون نكير، ولعل في نقل تلك النقول ما يقطع الشغب ويقنع من لا يقنعه غير ذلك، ولذلك كان لا بد من عرض عبارات تلك الكتب بأمانة، ويكفي من ذلك ما يمكن أن يمثل المذهب الذي يبينه الكتاب دون استيعاب، ويتصل بذلك عرض ما يتسنى عرضه من الفتاوى الحديثة المعاصرة التي هي صدى لذلك الماضي وأثر صالح له.
سابعا: عرض نظرة العلم الحديث والثقافة المعاصرة في الطب البدني والنفسي والعقلي والاجتماعي، ونظرة القانون وما إلى ذلك مما يؤيد وجهة نظر الإسلام إلى ذلك الداء المجحف المخيف، ونسأل الله أن يتداركنا بلطفه في القضاء عليه، وتوجيه النفوس إلى ما يبدل سيئاتنا حسنات، وكان الله غفورا رحيما.
ثامنا: خاتمة تجمع شتات الموضوع وتدعو إلى تضافر الجهود على تطهير المجتمع من كل رذيلة، وخاصة هذا البلاء الذي إذا عرض لزم إن لم يرد الله خيرا بالناس فيردهم إلى الصراط المستقيم، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا، وأنت تجعل الحزن إن شئت سهلا.
والحمد لله رب العالمين.(23/15)
أولا: الفرق بين حقيقة كل من الخمر والمخدر والمفتر
لا يليق بمن يريد أن يبين الحكم الشرعي في تعاطي شيء من هذه الأنواع الثلاثة أن يتكلم في ذلك إلا بعد أن يعرف من خواصها وآثارها في متعاطيها وفي المجتمع ما يسهل له الرجوع بها إلى نصوص الشريعة عامها وخاصها، وينير له الطريق في الحكم عليها، وإلا كان كمن يقتحم لجة البحر ليسبح فيها وهو لا يحسن السباحة، وكان جريئا على القول على الله بغير علم، وقد نهى سبحانه عن ذلك في عموم قوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (1)
وفيما يلي بيان معانيها وخواصها: -
أ- الخمر: تطلق الخمر على معنى الستر والتغطية، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «خمروا آنيتكم واذكروا اسم الله (2) » وقوله للصحابة «فيمن وقصته ناقته فمات وهو محرم: لا تخمروا رأسه، ولا تمسوه طيبا؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا (3) » ، ومنه تسمية ما تغطي به المرأة رأسها وتلقيه على نحرها وصدرها خمارا؛ لستره ذلك، قال الله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (4) ومنه الكلمة السائدة: " خمري أم عامري " ولذا سمي ما يغيب العقل ويغطيه خمرا في اللغة، مائعا كان أم جامدا؛ لسترها إياه، وحجبه عما كان يدركه من الأمور قبل تناول الخمر.
ويطلق أيضا على النضج والإدراك، ومنه خميرة العجين لما ترك منه حتى يتغير، ومنه تخمرت الفكرة، إذا تمادى الباحث عنها في بحثه حتى أدركها ومحصها وتمكنت من نفسه.
وتطلق أيضا على معنى الخلط والاختلاط، وهو تابع للمعنى الأول والثاني، ومنه " الخمر ما خامر العقل" سميت بذلك لمخامرتها العقل.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 36
(2) صحيح البخاري بدء الخلق (3280) ، سنن الترمذي الأطعمة (1812) ، سنن أبو داود الأشربة (3731) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3410) ، مسند أحمد بن حنبل (3/395) ، موطأ مالك الجامع (1727) .
(3) صحيح البخاري الحج (1851) ، صحيح مسلم الحج (1206) ، سنن الترمذي الحج (951) ، سنن النسائي مناسك الحج (2854) ، سنن أبو داود الجنائز (3238) ، سنن ابن ماجه المناسك (3084) ، مسند أحمد بن حنبل (1/215) ، سنن الدارمي المناسك (1852) .
(4) سورة النور الآية 31(23/16)
يقال منها: خمر الشراب يخمره ويخمره خمرا، وخمره تخميرا إذا تركه حتى يصير خمرا، وخمره الشراب يخمره وأخمره غيب عقله وستره.
وتطلق في عرف الفقهاء على ما أسكر أي غيب العقل مع نشوة وطرب، فمعناه في عرفهم أخص وأضيق دائرة منه في اللغة، فكل ما يسمى خمرا عند الفقهاء يسمى خمرا في اللغة دون العكس.
ب - المخدر: هو مأخوذ من الخدر، وهو الضعف والكسل والفتور والاسترخاء، يقال: خدر العضو إذا استرخى فلا يطيق الحركة، وخدر الشارب كفرح خدرا إذا فتر وضعف، ويطلق الخدر أيضا على ظلمة المكان وغموضه، يقال: مكان أخدر وخدر، إذا كان مظلما. ومنه قيل للظلمة الشديدة: خدرة، وكل ما منعك بصرك عن شيء وحجبه عنه فقد أخدره. والخدر: كل ما واراك، ومنه خدر الجارية وهو ما استترت فيه من البيت، وخدر الأسد يخدر وأخدر لزم خدره وأقام به، وخدره أكمته، وأخدره عرينه واراه.
ويطلق الخدر أيضا على البرودة - يقال: ليلة خدرة إذا كانت باردة، ويوم خدر إذا كان باردا.
ويطلق الخدور على التحير، يقال: رجل خادر- إذا كان متحيرا.
من هذا يتبين أن المادة تدور على معنى الضعف والكسل والفتور، ومعنى الظلمة والسير والغموض وعلى معنى البرودة، ومعنى لزوم الشيء والإقامة به، ويتبع ذلك الجبن والتأخر، والحيرة والتردد والتبلد وعدم الغيرة، وكل هذه المعاني متحققة فيمن يتعاطى المخدرات مائعها وجامدها.
ج- المفتر: هو مأخوذ من التفتير والإفتار وهو ما يورث ضعفا بعد قوة(23/17)
وسكونا بعد حدة وحركة واسترخاء بعد صلابة، وقصورا بعد نشاط، يقال: فتره الأفيون مثلا يفتره وأفتره يفتره إفتارا إذا أصابه بما ذكر من الضعف والقصور والاسترخاء، ففتر يفتر ويفتر لان بعد شدة، واسترخى بعد صلابة، وضعف بعد قوة، وكسل بعد نشاط، وكل هذه الآفات متحققة فيمن يتعاطى المخدرات على اختلاف أنواعها مائعها وجامدها.(23/18)
ثانيا: بدء ظهور المخدرات وانتشارها بين المسلمين
ذكر بعض العلماء أن أول ظهور الحشيشة بين المسلمين كان في أواخر القرن السادس الهجري أيام الحرب التي نشبت بين المسلمين والتتار، والتي تسلط فيها الكفار على المسلمين، وأعملوا فيهم سيوفهم بما ارتكبوا من الذنوب والآثام، فهي من الآفات والأدواء الفتاكة التي تخلفها الحروب والعادات الخبيثة التي تسري إلى الدول المغلوبة على أمرها من الدولة الغالبة الجبارة، هذا هو شأن الحروب الطاحنة في جميع العصور وشأن الدول المغلوبة التي تعتصم بدينها الحنيف ومبادئه السامية مع الدول العاتية الظالمة.
قال ابن تيمية في بدء ظهور الحشيشة: (1) . فإن أول ما بلغنا أنها ظهرت بين المسلمين في أواخر المائة السادسة وأوائل السابعة حين ظهرت دولة التتر، وكان ظهورها مع ظهور سيف (جنكيز خان) ، لما أظهر الناس ما نهاهم الله ورسوله عنه من الذنوب سلط الله عليهم العدو. . اهـ المقصود من كلامه.
__________
(1) ص 205 من جـ (34) من مجموع الفتاوى(23/18)
ثالثا: مهمة التشريع الإسلامي في جانب الرحمة وفي جانب المصلحة
هذا الدين رحمة للعباد. قال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (1) وواضح أن تلك الرحمة أول ما تتجلى
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 107(23/18)
فيما بعث الله سبحانه هذا النبي الكريم بهذا الكتاب المبين ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وينقذهم مما تورطوا فيه من جهل وضلال، حتى كانوا كما يقول سبحانه: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (1) وفي الخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنما أنا رحمة مهداة (2) » وعنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق (3) » فكل ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا الدين الذي أخرج الله سبحانه به الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، فإنما هو رحمة من الله سبحانه مصداقا لقوله جل شأنه: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} (4) وبناء على ذلك فمن زاغ عن قصده أو زل عن منهجه فإنما يخرج نفسه من حظيرة الرحمة، كما تورط في ذلك الحمقى والجاهلون من المغرورين والمتخبطين الذين آثروا غضب الله وسخطه، ولم يكونوا من الذين كتب الله لهم رحمته وهم الذين وصفهم بقوله: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} (5) {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (6)
فهو سبحانه كتب رحمته لأولئك الذين يتبعون نبيه محمدا -صلى الله عليه وسلم- وكانت رحمة الله الأولى به -صلى الله عليه وسلم- أنه يأمر بالخير وينهى عن الشر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عن العباد الإصر والأغلال، فليس في أحكامه
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103
(2) رواه ابن سعد في طبقاته والحكيم في نوادره عن أبي صالح مرسلا، والحاكم عن أبي صالح عن أبي هريرة وقال: على شرطهما. الجامع الصغير للسيوطي.
(3) وفي رواية صالح الأخلاق. رواه ابن سعد والبخاري في الأدب المفرد والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة - الجامع الصغير.
(4) سورة القصص الآية 86
(5) سورة الأعراف الآية 156
(6) سورة الأعراف الآية 157(23/19)
أمر لا طاقة به للعباد ولا ما يعجزون عنه، وصدق سبحانه وله المنة فيما يقول: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) ولقد كان من رحمته جل شأنه أنه تدرج في تشريع التحريم، كما عرف من شأنه في تحريم الخمر، فلم يبدأ بالتكليف في أمرها بل أجاب السائلين عنها أول ما شرع فقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (2) حتى انتهى التشريع إلى البت في أمرهما استجابة لطلب عمر وغيره إذ يقول: أفتنا في الخمر؛ فإنها مفسدة للعقل مضيعة للمال، فلما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} (3) إلى قوله جل شأنه: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (4) دعي عمر بن الخطاب فتليت عليه، فقال: انتهينا انتهينا يا رب. وكان من تمام الرحمة في ذلك أن حال الله سبحانه بينهم وبين مفاسدهم؛ لأنها رجس من عمل الشيطان، في شربها تحصيل غرضه وفي تركها فلاح للعباد، فلماذا يهجر الناس هذا الكتاب، ولماذا لا يتلقون تعاليمه بكل رضا واطمئنان، فلا يقربوا شيئا مما حرم عليهم، وهو أرحم الراحمين بهم.
ومن تتبع وصايا القرآن العظيمة وأوامره الحكيمة في مثل الآيات التي في أواخر سورة الأنعام 151 - 155 والتي تنهى عن الشرك الذي هو فتك وكفر، وتأمر بالإحسان إلى الوالدين، وتنهى عن قتل الأولاد بسبب الفقر وتؤمن على الرزق، وتنهى عن الفواحش والقتل وقربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، وتأمر بإيفاء الكيل والميزان في حدود الطاقة {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (5)
ما أبرك وأرحمك ولكن الناس عن هذا منك غافلون فهم في طغيانهم يعمهون، وفي مثل الآية:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (6) أليس ذلك ما يوقظ النفوس الراقدة ويرد القلوب الجامحة؟
__________
(1) سورة البقرة الآية 220
(2) سورة البقرة الآية 219
(3) سورة المائدة الآية 90
(4) سورة المائدة الآية 91
(5) سورة الأعراف الآية 42
(6) سورة النحل الآية 90(23/20)
وكذلك المحرمات وما يتصل بالتحريم من الترخيص برفع الإثم والحرج في مثل قوله جل شأنه: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) ألست ترى أن الآية الكريمة حصرت المحرم فيما كان أذى أو رجسا أو فسقا لا يتفق مع شكر المنعم، وبينت أن من اضطر إلى شيء من ذلك فإن ربك غفور رحيم.
ويذكر سبحانه نفسه الكريمة بوصف الربوبية ثم يصف نفسه بأنه غفور رحيم، وفي هذا المجال يبيح الفقهاء الخمر ونحوهما بإباحة الله عند الاضطرار كإساغة اللقمة حين لا يجد غيرها، ويصرح بعضهم بإباحة المخدر إذا كان في حد التداوي مع تعينه لذلك، فالأصل فيه التحريم؛ لما فيه من الفساد والله لا يحب الفساد، أفلا يكون في هذا التشريع العظيم والذكر الحكيم ما يرد إلى نفوس المعرضين شيئا من الحياء الفطري فيرعووا عن الإصرار ويعودوا إلى حظيرة الأبرار، اللهم أنت الموفق الرحيم.
ما أكثر صور الرحمة ومظاهرها في تشريع الله سبحانه حتى يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بعض ما يروى عنه: «إنكم تتقحمون في النار وأنا آخذ بحجزكم (2) » . . .
فهذا تصوير بالمحسوس يمثل حال الإنسان مع هداية الرحيم الرحمن، إنه يرمي بنفسه في المهالك ولكن نبي الرحمة هو الذي وصفه الله سبحانه بقوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (3) فكان من إحسان الله ورحمته أن بعث إلينا رسولا هذه صفته، ونرجو أن نكون على نهجه في الرحمة، ولعل من هذا أن نتطلف في دعوة الناس بالحسنى؛ ليثوبوا إلى رشدهم وينقذوا نفوسهم من براثن هذه الخبائث. . وبالله التوفيق.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 145
(2) صحيح مسلم الفضائل (2284) ، سنن الترمذي الأمثال (2874) ، مسند أحمد بن حنبل (2/540) .
(3) سورة التوبة الآية 128(23/21)
وأما تشريع هذا الدين لما فيه مصالح العباد، وما يدرأ عنه الشر والفساد فإنه يرتبط برحمة الله، ولا ينفك عنها، ولكن المجال يقتضي أن نتناوله من الزاوية التي طرقها علماء الأصول وأئمة الفقه حتى تتجلى علاقته بموضوع البحث، وقد صرحوا بأن أحكام الله سبحانه موضوعة لمصالح العباد، وكلما كانت المصلحة في أمر مفيد طلب الشارع لذلك الأمر بقدر ما فيه من مصلحة خالصة أو راجحة، وكلما كان في الفعل مفسدة خالصة أو راجحة تقع على المكلف في بدنه أو عقله أو ماله أو المجتمع الذي يعيش فيه أو غيره، فهذا الفعل محظور في الشرع بقدر ما فيه من مفسدة، وإن لم يرد نص من الشارع يطلب الفعل أو يمنعه، فأما ما فيه نص فما في النص من الأمر بالشيء أو النهي عنه ففيه كفاية؛ لأن الله سبحانه أعلم بعباده وما هو خير لهم، ويكون البحث مقصودا لتعرف حكمة الله بعد معرفة حكم الله حتى ينشط المكلف أو يزداد نشاطه لتنفيذ التكليف، ولهذا بعث الرسل إليهم يدعونهم إلى ما فيه خيرهم ويحولون دون ما فيه شرهم.
وأما ما لا نص فيه فهو محال اجتهاد المجتهد وهو مثوب بقدر اجتهاده، ولو أخطأ في تعرف حكم الله مع شروط تقيده بالبحث وتلزمه ببذل الطاقة والجهد {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) وهذا مما يسير بالمكلف إلى الخير في الجملة ويذوده عن الشر، كذلك مع ما تقتضيه طبيعة العقل إذا تجرد عن الهوى ولم يصرف عن الحق.
ومن عبارات الأصوليين في هذا المقام ما جاء في كتاب الموافقات للشاطبي، قال رحمه الله: (2) " والمعتمد أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه أحد؛ فإن الله تعالى يقول في بعثة الرسل وهو الأصل: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (3)
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(2) الموافقات ج 3، 4 وهو كتاب حافل بأصول التشريع وأسراره، وطريق الاستنباط من نصوصه وتوجيهاته.
(3) سورة النساء الآية 165(23/22)
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (1) وقال في أصل الخلقة: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (2) {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (3) {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (4)
وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى، كقوله بعد آية الوضوء: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} (5) وقال في الصوم: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (6)
وفي الصلاة: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (7) وفي القبلة: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} (8) وفي الجهاد: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} (9) وفي القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (10) وفي التقرير على التوحيد: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (11) والمقصود التنبيه، وإذا دل الاستقراء على هذا، وكان في مثل هذه القضية مفيدا للعلم فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة. اهـ.
ولقد قدم لنا علماء الشريعة ما تدور التكاليف في فلكه وأوضح ذلك الإمام الشاطبي في موافقاته (12) قال رحمه الله: -
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 107
(2) سورة هود الآية 7
(3) سورة الذاريات الآية 56
(4) سورة الملك الآية 2
(5) سورة المائدة الآية 6
(6) سورة البقرة الآية 183
(7) سورة العنكبوت الآية 45
(8) سورة البقرة الآية 150
(9) سورة الحج الآية 39
(10) سورة البقرة الآية 179
(11) سورة الأعراف الآية 172
(12) المسألة الأولى من النوع الأول في بيان قصد الشارع بالشريعة ج2 من الموافقات.(23/23)
" تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام، أحدها أن تكون ضرورية، والثاني أن تكون حاجية، والثالث أن تكون تحسينية.
فأما الضرورية فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين، والحفظ لها يكون بأمرين: أحدهما: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود، والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم، فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود كالإيمان والنطق بالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج وما أشبه ذلك، والعادات راجعة إلى حفظ النفس والعقل من جانب الوجود أيضا كتناول المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات، وما أشبه ذلك، والمعاملات راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود، وإلى حفظ النفس والعقل أيضا لكن بواسطة العادات، والجنايات - ويجمعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - ترجع إلى حفظ الجميع من جانب العدم، والعبادات والعادات قد مثلت، والمعاملات ما كان راجعا إلى مصلحة الإنسان مع غيره كانتقال الأملاك بعوض أو بغير عوض، بالعقد على الرقاب أو المنافع أو الأبضاع، والجنايات ما كان عائدا على ما تقدم بالإبطال، فشرع فيها ما يدرأ ذلك الإبطال، ويتلافى تلك المصالح كالقصاص والديات للنفس، والحد للعقل وتضمين قيم الأموال للنسل، والقطع، والتضمين للمال وما أشبه ذلك.
ومجموع الضرويات خمسة، وهي: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، وقد قالوا: إنها مراعاة في كل ملة.
وأما الحاجيات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق(23/24)
المؤدي في الغالب إلى الحرج، والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع دخل على المكلفين على الجملة الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة، وهي جارية في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات، ففي العبادات كالرخص المخففة بالنسبة إلى الحقوق المشقة بالمرض والسفر، وفي العادات كإباحة الصيد والتمتع بالطيبات مما هو حلال مأكلا ومشربا، وملبسا ومسكنا، ومركبا وما أشبه ذلك، وفي المعاملات كالقراض والمساقاة والسلم، وإلغاء التوابع في العقد على المتبوعات كثمرة الشجر ومال العبد، وفي الجنايات كالحكم باللوث والتدمية والقسامة، وضرب الدية على العاقلة، وتضمين الصناع وما أشبه ذلك.
وأما التحسينات فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق، وهي جارية فيما جرت فيه الأوليان ففي العبادات كإزالة النجاسة، وبالجملة الطهارات كلها، وستر العورة، وأخذ الزينة، والتقرب بنوافل الخيرات من الصدقات والقربات وأشباه ذلك، وفي العادات كآداب الأكل والشرب، ومجانبة المآكل النجسات والمشارب المستخبثات، والإسراف والإقتار في المتناولات، وفي المعاملات كالمنع من بيع النجاسات، وفضل الماء والكلأ، وسلب العبد منصب الشهادة والإمامة، وسلب المرأة منصب الإمامة وإنكاح نفسها، وطلب العتق وتوابعه من الكتابة والتدبير وما أشبهها، وفي الجنايات كمنع قتل الحر بالعبد أو قتل النساء والصبيان والرهبان في الجهاد، وقليل الأمثلة يدل على ما سواها مما هو في معناها، فهذه الأمور راجعة إلى محاسن زائدة على أصل المصالح الضرورية والحاجية، إذ ليس فقدانها بمخل بأمر ضروري ولا حاجي، وإنما جرت مجرى التحسين والتزيين" اهـ.
وإذا كان كذلك: فما موضع تعاطي المخدرات من هذه الخمس(23/25)
الضرورية، وهل يمكن المحافظة عليها مع الوقوع في شيء من هذه المخدرات؟(23/26)
إنك إذا تتبعت هذه الخمس واحدة واحدة وجدت المخدرات مما يقوض أركانها ويزلزل بنيانها على شيء من التفاوت: -
أ - وأقرب هذه الخمسة إلى التأثر بالمخدرات وأحقه بالمحافظة عليه في ظل هجران هذه الخبائث هو العقل، والعقل هو تلك اللطيفة الربانية التي يبصر بها الإنسان وجوه الصواب وطرق الرشاد ويعبد بها ربه، والتي ينوه الله سبحانه بها فيجعلها وقاية من الشرور وسلامة من العذاب يوم القيامة إذا سلمت من الهوى، فيقول في الحديث عن بعض ما يصدر من أهل النار وهم في سعيرها: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (1) ويقول سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (2)
إن هذا العقل الذي استحق به الإنسان أن يكون خليفة في الأرض، وسخر الله له جميع الكون لعرضة للتضحية به في شربة كأس أو مضغة حشيش أو أفيون أو غيرها من الخبائث، فويل لمن خسر عقله ضحية متعة موهومة أو نشوة منقضية مذمومة؛ لأن ورءاها آفات تفسد الحياة، وترد الإنسان من شر ما خلق الله.
ألست ترى ذبول أبدانهم وصفرة ألوانهم، وتعشيش الفقر في بيوتهم ولفظ المجتمع لهم، وترحيب السجون بهم، وهل سميت المخدرات إلا لأنها تغطي العقل، والعقل إذا تغطى عبث الذئب بصاحبه، وصار أطوع من الطفل لشيطانه، فلم يستح من فعل يصدر منه ولم يفكر في كلمة تخرج من فمه، والمرء بأصغريه قلبه ولسانه، أما قلب المتخدر فإنه في إجازة لا يدري متى يعود منها، وأما لسانه فإنه ينطق بلا عقل يريه كيف ينطق، ولهذا روي أن نصيبا الشاعر قال
__________
(1) سورة الملك الآية 10
(2) سورة ق الآية 37(23/26)
لبعض الخلفاء - وقد سأله: لم لا تشرب؟ - فقال له: يا أمير المؤمنين ما رشحني لمجلسي هذا إلا عقلي، فكيف أجالسك بدونه فأكون من الخاسرين.
ولا فرق في إصابة العقل والجناية عليه بين المسكر والمخدر، وما أكثر ضحايا المخدرات في مستشفيات الأمراض العقلية، فإذا كان حفظ العقل من الضروريات الخمس التي تحرص عليها جميع الأديان السابقة، فماذا عسى أن يكون حكم الإسلام، وهو الدين الخاتم الذي وسع كل شيء بنصوصه خاصها وعامها، هل يرضى للمنتسب إليه أن يكون مجنونا لا يفهم، أو صائرا إلى الجنون، حاشا لله وحاشا لدينه الذي رضيه للمسلمين، وأكمله لهم فأتم نعمته عليهم أن يكون ذلك فيما يرضاه أو يحله لهم.
ب - وكما أن المخدرات تذهب بعقل الإنسان وتخل توازنه، فهي تفسد عليه دينه، وهو الذي خلق الله الإنس والجن لأجله؛ لقوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) ولهذا جعل الله سبحانه الخمر رجسا من عمل الشيطان، وبين أن الشيطان - تحقيقا لمهمته - يغري الناس بشرب الخمر ولعب الميسر وأشباههما؛ ليوقع العداوة بين الإخوة، ويصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، وطبق الفقهاء ذلك على ما لم يكن موجودا وقت نزول الآية كالحشيش والأفيون، وحكم المحققون منهم بكفر مستحلها كما هو الشأن في الخمر؛ لأنها رجس تصد عن ذكر الله وعن الصلاة كالخمر، وفيها كثير من صفاتها التي اقتضت تحريمها.
وقد جعل الفقهاء من شرط صحة العمل العقل، فلا يصح عمله إلا به، فهو أساس الدين وهذه المخدرات مسلبة للدين، وجناية عليه، فهل ترى أن نظر الشريعة إليها نظرة تبيح شيئا منها للإنسان،
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56(23/27)
هيهات، ولهذا جاء الخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الخمر أم الخبائث (1) » .
ومن طريف ما يقال أن امرأة عربية تناولت بعض الشراب في مناسبة غير سعيدة، فلما لعبت برأسها قالت: أيشرب هذا نساؤكم؟ قالوا: نعم. قالت: زنيت ورب الكعبة. ومعنى هذا أنها سترت بشربه عقلها، فكشفت عن بزتها، واسترخت لما يريد الشيطان منها.
ج - ثم تجيء بعد ذلك المحافظة على المال الذي جعله الله سبحانه قياما للناس، كما يقول جل شأنه في كتابه الكريم: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} (2) ويمكن أن نشير في مناسبة الآية الكريمة إلى أن من يتعاطون المخدرات من أعرق الناس في السفه؛ لأنهم ينفقون أموالهم فيما يضر عقولهم وأبدانهم، ويسرفون في ذلك حتى ينتهي بهم تماديهم وإسرافهم إلى الفقر، ويصبحون في أمس الحاجة إلى من ينفق عليهم ويتولى أمرهم، وربما لا يجدون ذلك، وصدق القائل:
دية العقل بدرة فلماذا ... يا خسيسا قد بعثه بحشيشة
فمن الآن فليشعر متعاطي هذه المخدرات أو من يفكر في صحبة متعاطيها أنها جناية على المال، وتعريض به للضياع؛ لأن قليلها يدعو إلى كثيرها والمضغة الواحدة منها طريق إلى التمادي فيها، وإن فيها معصية لله سبحانه بإضاعة المال وحرمان مستحقه من الأهل والعيال، وكيف ترضى شريعة الإسلام ذلك، لا سيما أنها إضاعة تأخذ معها العقل وتسلب الدين.
د- وأما حفظ النسب: فإن مرجعه إلى التوقي من الزنا وحفظ الفرج من غير الزوج الشرعي، وكيف يكون التوقي لمن طار عقله وطاش لبه وضعف دينه وذهب حياؤه؟ على أنه قد نص العلماء كابن تيمية
__________
(1) سنن النسائي الأشربة (5666) .
(2) سورة النساء الآية 5(23/28)
وغيره أن متعاطي الحشيشة ديوث لا يغار على عرضه ولا يبالي أن يعتدي على حريمه وأهله لأنه فقد التقدير وخسر عقله وأعصابه.
هـ - وأما حفظ النفس: فإن مرجعه إلى المحافظة على البدن من الأمراض والحيلولة بينه وبين التهلكة، والمخدرات لا تعرف المحافظة على البدن ولا تلتقي معها، ولهذا كثرت ضحاياها التي استفاض أمرها، وغصت المستشفيات العقلية بأصحابها، وما أكثر من يموت من مدمنيها بالسكتة القلبية، فهو أحوج ما يكون إلى أن يرعى نفسه أو من حوله من آباء وأبناء.
فهذه المخدرات محادة لله ولرسله، وللأديان السماوية التي أمرت بحفظ الضروريات التي هي قوام الدين والدنيا، فهل تجد مجالا في الإسلام لمن عرف السبيل إلى هذه السموم الفتاكة؟ نسأل الله العافية والسلام.
إن الأمر فوق أن يقول فيه الفقيه هذا حلال أو حرام، وإنه لمصدر فظيع من مصادر الجرائم التي يحاربها الدين والقانون والمنطق، وقد رأينا أن نختم هذه الدراسة الموجزة في رعاية التشريع لمصالح العباد بما ذكره الإمام الفقيه الأصولي عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي المتوفى سنة (665) في كتاب (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) يتجه به إلى أن تشريع الأحكام إنما هو لمصالح البشر، قال رحمه الله تعالى: -
" ومن أراد أن يعرف المناسبات والمصالح والمفاسد راجحها ومرجوحها فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به، ثم يبني عليه الأحكام فلا يكاد يخرج حكم منها عن ذلك إلا ما تعبد الله به عباده، ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته. إلى أن قال: وإنما يجلب سبحانه مصالح الحسن ويدرأ مفاسد القبيح طولا منه على عباده وتفضلا. اهـ. هذا هو منطق الفقهاء الذين حملوا أمانة تبليغ الأحكام ووجهوا أوجه الناس إليها ليقدروا(23/29)
علم الدين والأحكام قدره، على أنه لا بد لنا في هذا المجال أن نذكر الأدلة الشرعية التي سماها الأصوليون أدلة الأحكام على تحريم هذه الأشياء بعد ما عرف من مسلك الإسلام العام في خطر هذه الجرائم ومنعها.
والله ولي التوفيق.(23/30)
الأدلة الشرعية على منع المخدرات
1 - تمهيد: لا بد من الحديث عن الخمر أولا، لأنها أسبق ما عرف من المشروبات والمطعومات التي تغتال العقل، وتفسد على من يتعاطاها دينه، وتفتك ببدنه وتذهب بماله، ولأن المخدرات تسمى كلها أو بعضها في نظر بعض الباحثين خمرا، فتدخل في عموم قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «كل مسكر خمر (1) » . وفي عموم ما جاء عن عمر رضي الله عنه، وقد ذكر عدة أشياء وحكم أنها من الخمر، ثم قال: والخمر ما خامر العقل. أي: غطاه، فالربط قوي واضح بين هذه المخدرات والخمر، وعلى تقدير أنها لم تدخل في عموم اسم الخمر على ما اتجه إليه بعض الفقهاء، وستراه في هذه الدراسة إن شاء الله، فإن الصلة بينها وبين الخمر قوية إذ لا أقل من أنها تحقيق قيام الوصف المقتضي للتحريم بها قياسا واضحا جليا، ولهذا حكم ابن تيمية (2) وغيره بأن للحشيش من المخدرات أحكام المسكرات الأساسية المتخذة من عصير العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد، وهذه الأحكام ثلاثة التحريم والنجاسة والحد على متعاطيها، وذلك لأنه عندهم مسكر كالخمر.
على أن النظرة إلى الخمر في هذا المقام إنما هي نظرة إجمالية لا بد منها لتوضيح أحكام المخدرات في ضوئها فقط، وليست نظرة تفصيلية تقسم
__________
(1) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) .
(2) انظر مجموعة الفتاوى جـ \ 34 ص 204 وما بعدها.(23/30)
فيها المشروبات المسكرة من العنب والتمر ومن غير العنب والتمر ووجهة نظر الفقهاء في ذلك وبيان مستنداتهم.
ولهذا فإننا نجتزئ بالإشارة العابرة إليها، وتغليظ الشارع أمرها بما جاء في النص القرآني الكريم من أنها رجس نجسة قذرة لا تأتي بخير، وأنها من عمل الشيطان؛ لأنه يتولى شاربها، ويقتاده إلى حيث يريد من إيقاع العداوة بين الأحبة، وصد الشارب عن ذكر الله وعن الصلاة التي هي أعظم القربات إلى الله بعد التوحيد؛ لأن الخمر لهو ولعب كلعب الصبيان، وشهوات ولذات حينا من الزمان، وليست المخدرات بأقل منها فسادا وصدا عن الحق ونسيانا لكل واجب فلا عقل ولا تقدير، والآية الكريمة صريحة في تلك المعاني مبينة لها أعظم بيان وأدقه، وهي قوله تعالى ذلك القول الفصل بعد ما تدرج في التشريع حتى عرف المسلمون أذى الخمر، وأنها لا تأتي بخير وأنها مفسدة للعقل مضيعة للمال، فجاء هذا التشريع وهم إليه يتطلعون ويتمنون أن يكون: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (2)
وجاء في الخبر أنه لما نزلت الآية الكريمة دعي عمر بن الخطاب، وكان يلح في طلب الفصل في الخمر، فلما تليت عليه قال: انتهينا انتهينا. فما أعظم التشريع وما أوضحه حين يرد وقد اتجه إليه العقل السليم والطبع الكريم، ولهذا أريقت الآنية حين سمع بالآية من كانوا يديرون كاساتها بينهم، فبرهنوا بالمسارعة إلى حكم الله على قوة إيمانهم وكمال وفائهم بما عاهدوا الله عليه من السمع والطاعة؛ لأن الله وليهم، وهو سبحانه أعلم بهم، ولعل في الآية الكريمة لمن تأمل في أسرارها ما هو كفيل أن يردع كل عنيد، فهذا الأمر الجازم الصارم وكونه من مادة الاجتناب دون الترك ونحوه، وهذا الإيراد بين حكم
__________
(1) سورة المائدة الآية 90
(2) سورة المائدة الآية 91(23/31)
شارحة وردت قبله، وهو وصفها بأنها رجس قذر، وأنها من عمل الشيطان، وهو شر عدو للإنسان، ثم ما ذكره بعده من ربط الفلاح باجتنابها في الآية الأولى من الآيتين، ثم الاستئناف الخصيب الذي بين أثرها المقصود للشيطان، وهو إيقاع العداوة والبغضاء ومعهما الصرف عن ذكر الله وإقام الصلاة، ثم هذا الاستفهام المروع، كل ذلك أو بعضه كاف لمن عقل وفكر فيما يختار لنفسه. يتبع ذلك الحديث عن ما ورد من الآيات الأخرى قبل التحريم ولسنا في صدده، ثم ما ورد من الأحاديث من التنفير منها والتحذير من آفاتها، وهي أكثر من ستين حديثا جمعها ابن حجر الهيثمي في كتابه " الزواجر " على عادته في الاستيعاب، وقد نقلها منها بعض المؤلفين المعاصرين، ولكنه جعلها مجموعات تحت عناوين مختلفة، مثل النصوص على تحريم كل مسكر، والنهي عن المسكر والأمر باجتنابه، والنصوص على تحريم القليل وغير ذلك (1) وفي الصحيحين منها عدة أحاديث وسنختار من المجموع ما نراه أجمع للمقصود.
أخرج الشيخان وغيرهما، عن أبي هريرة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن (2) » وفي رواية للنسائي: «فإذا فعل ذلك فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، فإن تاب تاب الله عليه (3) » وفي ذلك فتح لباب التوبة وإطماع في الرحمة.
وروى أبو داود بسنده إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها، ومبتاعها وبائعها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه (4) » ، وروى الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو لم يتب منها لم يشربها في الآخرة (5) » .
__________
(1) مثل كتاب الدلائل الواضحات على تحريم الخمر والمفترات للشيخ حمود بن عبد الله التويجري.
(2) صحيح البخاري الأشربة (5578) ، صحيح مسلم الإيمان (57) ، سنن الترمذي الإيمان (2625) ، سنن النسائي الأشربة (5659) ، سنن أبو داود السنة (4689) ، سنن ابن ماجه الفتن (3936) ، مسند أحمد بن حنبل (2/386) ، سنن الدارمي الأشربة (2106) .
(3) سنن النسائي قطع السارق (4872) .
(4) سنن أبو داود الأشربة (3674) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3380) ، مسند أحمد بن حنبل (2/71) .
(5) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) .(23/32)
وروى ابن حبان أيضا: «من لقي الله مدمن خمر لقيه كعابد وثن (1) » ، وروى الحاكم وصححه: «اجتنبوا الخمر؛ فإنها مفتاح كل شر (2) » .
وهذه الأحاديث ونظائرها رادعة حق الردع لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، والله سبحانه ما يريد ليعنت العباد، ولكن العباد يعنتون أنفسهم ويؤثرون متاعا ولذائذ تحول بينهم وبين الاستقامة، وتوقعهم في الخسران والشقوة في الدنيا والآخرة، ونسأل الله العافية.
وبعد هذا يمكن أن يقال: إن الاستدلال على التحريم بالكتاب والسنة الصحيحة وإجماع الأئمة، فما كان ليقع خلاف في أمر ينطق القرآن الكريم بتحريمه، فلا مجال فيه للتأويل ونطقت السنة بما ينادي على أنه من الكبائر، وأن فاعله مسلوب الإيمان حين يفعله، كما أن قواعد الإسلام والضرورات الخمس تقضي بحرمتها تحريما لا مجال فيه للريب، وسترى شأن المخدرات وبيان علاقتها بالخمر فيما يقتضي التحريم المؤكد في هذه الدراسة إن شاء الله.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/272) .
(2) سنن ابن ماجه الأشربة (3371) .(23/33)
2 - علاقة المخدرات بالخمر:
ليس هناك ما يدعو إلى الاهتمام بأمر تصوير المخدرات، وبيان الوصف الجامع المشترك بينها، فمن البين أنها جميعا تشترك في تخدير العقل وإحداث فتور عام في البدن، ويتصل بذلك تخيلات فاسدة وأفكار غير حقيقية قد يترتب عليها بعض الجرائم والجنايات، كما قرر ذلك الواقع لجان البحوث المختلفة حول هذه المخدرات وطرق مقاومتها، ولعلها تتفاوت في ذلك المعنى.
وقد أورد الفقهاء الإسلاميون الأسماء التي عرفت منذ ظهرت في الأفق وهي: الحشيشة والأفيون والشيركان وهو البنج - بفتح الباء - والعنبر وجوزة الطيب التي أوردها ابن حجر في كتاب الزواجر (1) وهؤلاء لم يذكروا ما عرف
__________
(1) الزواجر عن الكبائر لابن حجر الهيثمي.(23/33)
بعد وما لم يطلعوا عليه في عهدهم، مثل الكوكايين والهروين وغيرها مما ذكره القانون المصري مفصلا، وجعل عقوبتها مشتركة لا فارق بين واحد وآخر بعد ظهور الخصائص والمميزات المشتركة، وقد ذكر بعض الفقهاء السابقين المعاصرين الدخان من بينها، وحكم عليه بحكمها وخالف بعضهم في ذلك، كما سنبينه إن شاء الله.
وقد ذكر ابن حجر الهيثمي في كتاب (1) الزواجر تلك المخدرات التي أوردناها وقال: إنها مسكرة، كما صرح بها النووي في بعضها (2) : وفسر الإسكار بتغطية العقل لا مع الشدة المطربة؛ لأنها من خصوصيات المسكر المائع على أن ذلك خال من التحقيق، وإلا لما خصت به الحشيشة من بين المخدرات، ثم قال: إن ذلك لا ينافي أنها تسمى مخدرة. وهو يرى أنها من المسكر الطاهر، كما أورده في عنوانها في الكبيرة السبعين بعد المائة، وسترى أن كون الحشيشة طاهرة موضع خلاف بين الفقهاء، كما أن خلوها من الشدة المطربة مما يخالف فيه أيضا بعض الفقهاء، ولا شيء من هذا يمانع من أنها كلها تؤثر على العقل - الذي أمر الشارع بحفظه - أسوأ تأثير، وأن القليل منها مما يدعو إلى الكثير، فإذا اختلفت وجهة النظر عند بعضهم فأجاز القليل منها فإنه مذهب ضعيف يشبه القول بإباحة القليل من بعض الأشربة المسكرة، مخالفا لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام (3) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام (4) » ، وكان هذا منه صلى الله تعالى عليه وسلم سدا لباب الفساد وإغلاقا لمقدمة الشر، وقد تجلت حكمته -صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فما شرب أحد من أي شراب محظور إلا وجد فيه الرغبة التي تغري بالمتابعة، ولا أخذ من الحشيشة قطعة إلا تركت فيه أثرا منها يدعوه إلى معاودتها إلا من عصم ربك، ولكن الأحكام الشرعية تناط بالغالب من أحوال الناس، ولهذا
__________
(1) 179 \ 2.
(2) يريد الحشيشة.
(3) سنن الترمذي الأشربة (1865) ، سنن أبو داود الأشربة (3681) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3393) ، مسند أحمد بن حنبل (3/343) .
(4) سنن الترمذي الأشربة (1866) ، سنن أبو داود الأشربة (3687) .(23/34)
فإننا نرى تحريم القليل والكثير، ومما أورده صاحب (عون المعبود شرح سنن أبي داود) في هذا المقام نقلا عن العلامة أبي بكر بن قطب القسطلاني في كتابه (تكريم المعيشة) (1) : أن الحشيشة ملحقة بجوزة الطيب والأفيون والبنج، وهذه من المسكرات المخدرات. وهو تصريح يمثل ما أورده ابن حجر الهيثمي في هذا المقام كما رأيته.
وكان إلحاق القسطلاني إياها بجوزة الطيب ونحوها ناشئ عن أنه سبق له حكم هذه الأشياء قبل حكم الحشيشة أو نحو ذلك. ثم نقل شارح السنن عن الزركشي أنه قال: (إن هذه المخدرات تؤثر في متعاطيها المعنى الذي يدخله في حد السكران، وذكر عدة تعريفات مما أورده الفقهاء للسكران في كتب الفقه منها: أنه الذي اختل كلامه المنظوم وانكشف سره المكتوم، ومنها: أنه الذي لا يعرف الأرض من السماء.
وهذا المعنى ينقله الحنفية عن الإمام أبي حنيفة في بعض كتبهم، ثم انتقل إلى بيان وجه اعتبارها مسكرة أو غير مسكرة، فإن أريد بالإسكار تغطية العقل فهي مسكرة، وإن أريد تغطية العقل مع الطرب فهي غير مسكرة، وسترى أن بعض فقهاء الحنابلة ذهب إلى أن في بعضها وهو الحشيش النشوة والطرب كالخمر، ولهذا أعطى الحشيش أحكام الخمر الثلاثة (2) دون بقية المخدرات فإن فيها الحرمة والتعزير فقط، وقد أطال صاحب عون المعبود النقل عن الزركشي في هذا المقام بما ليس من جوهره عندنا، فليراجعه من شاء.
ثم نقل عن القاموس ما يفسر الفتور الوارد في حديث أبي داود، «أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن كل مسكر ومفتر (3) » فقال: فتر جسمه فتورا: لانت مفاصله وضعف، والفتار كغراب: ابتداء النشوة. ونقل عن المصباح في التخدير خدر العضو خدرا من باب تعب: استرخى فلا يطيق الحركة.
ومن هذه النقول وأشباهها يتضح لك أن كون هذه المخدرات تعتبر
__________
(1) عون المعبود 321 \ 3.
(2) وهي الحد والنجاسة وتحريم القليل.
(3) سنن أبو داود الأشربة (3686) ، مسند أحمد بن حنبل (6/309) .(23/35)
مسكرة موضع بحث الفقهاء، ومع ذلك سترى في النقول الآتية إجماعهم على حرمة الكثير المفسد للعقل، وإن أجاز بعضهم القليل منها للتداوي فقط من وجهة نظره التي سنزيدها بيانا مع البحث والتحقيق الفقهي، ومن تتمة النظر في هذا أن نضيف أن بعض الفقهاء لم يكتف في بعض هذه المخدرات باعتباره مسكرا بل سماه خمرا منهم شيخ الإسلام الفقيه المحقق الإمام أحمد ابن تيمية، وكانت فيه غيرة دينية عجيبة وسعة أفق كما سترى في رأيه الفقهي مع أراء الفقهاء من مختلف المذاهب، وكذلك الحافظ الذهبي كما جاء في كتاب (الزواجر) :
والواقع أن دراسة العلاقات بين هذه العناصر المخدرة وبين الخمر دراسة لها شأنها في صميم موضوعنا؛ لأنها هي التي بنى الفقهاء حكمهم في الجملة عليها، ولقد استبان ذلك في الرابط المحقق بينها، وهو حصول المفسدة في تناولها وهي في محيط المفسدة في شرب الخمر، فكيف لا تقرن بها في مناسبة الأحكام الشرعية؟ ولقد وضح ذلك المعنى في التصويرات النبوية لمن يعقل مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: «كل مسكر خمر (1) » وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام (2) » ، ونحو ذلك، كما أنه وضح في آثار هذه المخدرات التي جعلت الناس تتساءل وترجع إلى رجال الفقه من علماء الإسلام؛ لتعرف حكم الشرع في تعاطيها على وجهه، فإذا كان القرآن الكريم قد اتجه بحكمه الواضح الصريح في الخمر التي شربت في الجاهلية، ثم استمر شربها حتى حكم الإسلام بحرمتها فذلك لأنها هي التي كانت، فورد الحكم بشأنها، وإذا كانت السنة قد شنعت كل التشنيع على الخمر وبائعها وعاصرها، فإنها لم تترك البيان في المسكرات الأخرى ولا في المفتر كما أشرنا، وكما نبين إن شاء الله، وكان من حكمة الإسلام أن لا يذكرها بأسمائها.
كما كان الشأن في غيرها مما أحدث الناس من الفجور حتى لا يخاطب الناس بما لا يعرفون، ولكن الإسلام نهى عن الضرر والضرار، ونهى عن الخبائث
__________
(1) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) .
(2) سنن الترمذي الأشربة (1866) ، سنن أبو داود الأشربة (3687) .(23/36)
كلها ما ظهر منها وما بطن، حتى يطبق الفقيه كل ذلك في كل ما يظهر بعد ذلك. . .
إن هذه المخدرات ظهرت كما صرح ابن تيمية في نهاية القرن السادس وأوائل السابع مع ظهور التتار، وذكر صاحب تهذيب الفروق هذا المعنى صريحا في قوله (1) : مسألة: اعلم أن النبات المعروف بالحشيشة لم يتكلم عليه الأئمة المجتهدون ولا غيرهم من علماء السلف؛ لأنه لم يكن في زمنهم، وإنما ظهر في أواخر المائة السادسة، وانتشر في دولة التتار.
نقول: وهذه المخدرات لما لها من الارتباط الشديد بالخمر وقربها منها في كثير من معانيها قل أن تقرأ كتابا من كتب الفقه التي ظهرت بعد ظهورها إلا وهو يذكرها مع ذكر الخمر، إما في حد الشرب وإما في كتاب الأشربة، وإما في بيان نجاسة الخمر وسائر النجاسات، وإما مع المباح والمحرم من الأطعمة والأشربة.
ولعله يسعنا بعد ذلك أن نذكر نصوص الفقه وعباراته فيما تناوله من تلك المخدرات بحسب الأهمية والاستيعاب للأدلة فنقول:
__________
(1) تهذيب الفروق ج1 ص216 بهامش كتاب الفروق للقرافي.(23/37)
أقوال الفقهاء في الخمر والمخدرات
أولا: الفقه الحنبلي:
هذا الفقه هو أقوم ما عرفناه كتابة في هذا الموضوع، وبيان الحكم الشرعي فيه بقوة وخصوبة واستيعاب الأدلة، يتمثل ذلك في كتابة شيخ الإسلام ابن تيمية وإن كان في نقول بعض الشافعية نقل عن الغزالي يفيد وجوب التعزير دون الحد على آكل الحشيشة، إلا أنه مقتضب غير مستوعب، وقد استوعب كتابه مجموع الفتاوى صفحات كثيرة جوابا على(23/37)
استفتاءات عديدة، نجتزئ منها بما يأتي فيما يختص بالمخدرات، أو يمهد لها تمهيدا قريبا.
ورد في هذه الفتاوى تحت عنوان باب حد المسكر (1) :
" أما الأشربة المسكرة فمذهب جمهور العلماء المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر العلماء أن كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام، وهذا مذهب مالك وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وأصحابه، وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة، وهو اختيار محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، واختيار طائفة من المشايخ ".
وأورد أسماء كثير منهم، ثم قال: وذهب طائفة من العلماء من أهل الكوفة كالنخعي والشعبي وأبي حنيفة وشريك وغيرهم إلى أن ما أسكر من غير الشجرتين النخل والعنب كنبيذ الحنطة والشعير والذرة والعسل، ولبن الخيل وغير ذلك، فإنما يحرم منه القدر الذي يسكر، وأما القليل الذي لا يسكر فلا يحرم.
وأما عصير العنب الذي إذا غلا واشتد وقذف بالزبد فهو خمر يحرم قليله وكثيره بإجماع المسلمين.
وأصحاب القول الثاني قالوا: لا يسمى خمرا إلا ما كان من العنب. وقالوا: إن نبيذ التمر والزبيب إذا كان منها مسكرا حرم قليله وكثيره ولا يسمى خمرا، فإن طبخ أدنى طبخ حل، وأما عصير العنب إذا طبخ وهو مسكر لم يحل إلا أن يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه، فأما بعد أن يصير خمرا فلا يحل، وإن طبخ إذا كان مسكرا بلا نزاع.
والقول الأول الذي عليه جمهور علماء المسلمين هو الصحيح الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار؛ فإن الله تعالى قال في كتابه:
__________
(1) ج34 ص186 مجموع فتاوى شيخ الإسلام.(23/38)
{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (2)
[سورة المائدة الآيتان 90، 91] .
واسم الخمر في لغة العرب الذين خوطبوا بالقرآن كان يتناول المسكر من التمر وغيره، ولا يختص المسكر من العنب؛ فإنه قد سبق بالنقول الصحيحة أن الخمر لما حرمت بالمدينة النبوية، وكان تحريمها بعد غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة لم يكن من عصير العنب من شيء؛ فإن المدينة ليس فيها شجر عنب، وإنما كانت خمرهم من التمر، فلما حرمها الله عليهم أراقوها بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل وكسروا أوعيتها وشقوا ظروفها وكانوا يسمونها (خمرا) فعلم أن اسم (الخمر) في كتاب الله عام لا يختص بعصير العنب.
فروى البخاري في صحيحه، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما منها شراب العنب. وفي الصحيحين، عن أنس رضي الله عنه: إن الخمر حرمت يومئذ من البسر والتمر. وفي لفظ مسلم: لقد أنزل الله هذه الآية التي حرم فيها الخمر وما بالمدينة شراب إلا من تمر وبسر. وفي لفظ للبخاري: وحرمت علينا حين حرمت وما نجد خمر الأعناب إلا قليلا، وعامة خمرنا البسر والتمر. وفي الصحيحين، عن أنس رضي الله عنه قال: كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب من فضيخ زهو وتمر فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت. فقال أبو طلحة: يا أنس، قم إلى هذه الجرار فأهرقها. فأهرقتها.
وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه رضي الله عنهم: أن الخمر يكون من الحنطة والشعير كما يكون من العنب، ففي الصحيحين، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال على منبر النبي -صلى الله عليه وسلم-: أما بعد أيها
__________
(1) سورة المائدة الآية 90
(2) سورة المائدة الآية 91(23/39)
الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير. والخمر ما خامر العقل. وروى أهل السنن أبو داود والترمذي وابن ماجه، عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن من الحنطة خمرا، ومن الشعير خمرا ومن الزبيب خمرا، ومن التمر خمرا، ومن العسل خمرا (1) » زاد أبو داود: «وأنا أنهى عن كل مسكر (2) » .
وقد استفاضت الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن كل مسكر خمر، وهو حرام كما في الصحيحين، عن عائشة رضي الله عنها قالت: «سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن البتع، وهو نبيذ العسل، وكان أهل اليمن يشربونه فقال: كل شراب أسكر فهو حرام (3) » ، وفي الصحيحين، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: «قلت: يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن: البتع، وهو من العسل ينبذ حتى يشتد؟ والمزر وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد؟ قال: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أعطي جوامع الكلم بخواتمه، فقال: " كل مسكر حرام (4) » ، وفي صحيح مسلم، عن جابر، «أن رجلا من جيشان - وجيشان من اليمن - سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له: المزر، قال: أمسكر هو؟ قال: نعم. قال: كل مسكر حرام، إن على الله عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال. قالوا: يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال: عرق أهل النار- أو عصارة أهل النار- كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام (5) » ، وفي رواية له: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام (6) » ، وعن ابن عمر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما أسكر كثيره فقليله حرام (7) » . رواه ابن ماجه، والدارقطني وصححه، وقد روى أهل السنن مثله من حديث جابر، ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده. والأحاديث كثيرة صحيحة في هذا الباب.
ولكن عذر من خالفها من أهل العلم أنها لم تبلغهم، وسمعوا أن من الصحابة من شرب النبيذ وبلغتهم في ذلك آثار، فظنوا أن الذي شربوه كان
__________
(1) سنن الترمذي الأشربة (1872) ، سنن أبو داود الأشربة (3676) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3379) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/273) .
(3) صحيح البخاري الأشربة (5586) ، صحيح مسلم الأشربة (2001) ، سنن الترمذي الأشربة (1863) ، سنن النسائي الأشربة (5594) ، سنن أبو داود الأشربة (3682) ، مسند أحمد بن حنبل (6/97) ، موطأ مالك الأشربة (1595) ، سنن الدارمي الأشربة (2097) .
(4) صحيح البخاري المغازي (4345) ، صحيح مسلم الأشربة (1733) ، سنن النسائي الأشربة (5603) .
(5) صحيح مسلم الأشربة (2002) ، سنن النسائي الأشربة (5709) ، مسند أحمد بن حنبل (3/361) .
(6) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) .
(7) سنن الترمذي الأشربة (1865) ، سنن أبو داود الأشربة (3681) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3393) ، مسند أحمد بن حنبل (3/343) .(23/40)
مسكرا، وإنما كان الذي تنازع فيه الصحابة هو ما نبذ في الأوعية الصلبة، «فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الانتباذ في الدباء -وهو القرع - وفي الحنتم -وهو ما يصنع من التراب من الفخار- ونهى عن النقير -وهو الخشب الذي ينقر- ونهى عن المزفت -وهو الظرف المزفت- وأمرهم أن ينتبذوا في الظروف الموكاة (1) » وهو أن ينقع التمر أو الزبيب في الماء حتى يحلو، فيشرب حلوا قبل أن يشتد، فهذا حلال باتفاق المسلمين. ونهاهم أن ينتبذوا هذا النبيذ الحلال في تلك الأوعية؛ لأن الشدة تدب في الشراب شيئا فشيئا، فيشربه المسلم وهو لا يدري أنه قد اشتد فيكون قد شرب محرما، وأمرهم أن ينتبذوا في الظرف الذي يربطون فمه؛ لأنه إن اشتد الشراب انشق الظرف فلا يشربون مسكرا.
والنهي عن " نبيذ الأوعية القوية " فيه أحاديث كثيرة مستفيضة، ثم روي عنه إباحة ذلك، كما في صحيح مسلم، عن بريدة بن الحصيب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كنت نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم، فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا - مسكرا (2) » وفي رواية: «نهيتكم عن الظروف، وإن ظرفا لا يحل شيئا ولا يحرمه، وكل مسكر حرام (3) » ، فمن الصحابة والتابعين من لم يثبت عنده النسخ فأخذ بالأحاديث الأول. ومنهم من اعتقد صحة النسخ فأباح الانتباذ في كل وعاء، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي. والنهي عن بعض الأوعية قول مالك. وعن أحمد روايتان.
فلما سمع طائفة من علماء الكوفة أن من السلف من شرب النبيذ ظنوا أنهم شربوا المسكر: فقال طائفة منهم: الشافعي، والنخعي وأبي حنيفة، وشريك وابن أبي ليلى، وغيرهم يحل ذلك، كما تقدم وهم في ذلك مجتهدون، قاصدون للحق، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر (4) » .
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/66) ، موطأ مالك كتاب الضحايا (1048) .
(2) صحيح مسلم الأشربة (977) ، سنن أبو داود الأشربة (3698) ، مسند أحمد بن حنبل (5/359) .
(3) صحيح مسلم الأشربة (977) ، مسند أحمد بن حنبل (5/359) .
(4) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7352) ، صحيح مسلم الأقضية (1716) ، سنن أبو داود الأقضية (3574) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2314) .(23/41)
وأما سائر العلماء فقالوا بتلك الأحاديث الصحيحة. وهذا هو الثابت عن الصحابة وعليه دل القياس الجلي؛ فإن الله تعالى قال:
{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (1) فإن المفسدة التي لأجلها حرم الله سبحانه وتعالى الخمر، هي أنها تصد عن ذكر الله، وعن الصلاة وتوقع العداوة والبغضاء. وهذا أمر تشترك فيه جميع المسكرات، لا فرق في ذلك بين مسكر ومسكر، والله سبحانه وتعالى حرم القليل؛ لأنه يدعو إلى الكثير، وهذا موجود في جميع المسكرات. إلى أن قال:
وأما الحشيشة الملعونة المسكرة: فهي بمنزلة غيرها من المسكرات، والمسكر منها حرام باتفاق العلماء، بل كل ما يزيل العقل فإنه يحرم أكله ولو لم يكن مسكرا: كالبنج، فإن المسكر يجب فيه الحد، وغير المسكر يجب فيه التعزير.
وأما قليل الحشيشة المسكرة فحرام عند جماهير العلماء، كسائر القليل من المسكرات، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام (2) » يتناول ما يسكر، ولا فرق بين أن يكون المسكر مأكولا، أو مشروبا، أو جامدا أو مائعا فلو اصطبغ الخمر كان حراما، ولو أماع الحشيشة وشربها كان حراما، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- بعث بجوامع الكلم، فإذا قال كلمة جامعة كانت عامة في كل ما يدخل في لفظها ومعناها، سواء كانت الأعيان موجودة في زمانه أو مكانه أو لم تكن. . إلى أن قال:
وهذه الحشيشة فإن أول ما بلغنا أنها ظهرت بين المسلمين في أواخر المائة السادسة وأوائل السابعة، حيث ظهرت دولة التتر، وكان ظهورها مع ظهور سيف جنكيزخان لما أظهر الناس ما نهاهم الله ورسوله عنه من الذنوب سلط الله عليهم العدو، وكانت هذه الحشيشة الملعونة من أعظم
__________
(1) سورة المائدة الآية 91
(2) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) .(23/42)
المسكرات، وهي شر من الشراب المسكر من بعض الوجوه، والمسكر شر منها من وجه آخر؛ فإنها مع أنها تسكر آكلها حتى يبقى مصطولا تورث التخنيث والديوثة وتفسد المزاج، فتجعل الكبير " كالإسفنجة " وتوجب كثرة الأكل، وتورث الجنون وكثير من الناس صار مجنونا بسبب أكلها.
ومن الناس من يقول: إنها تغير العقل فلا تسكر كالبنج، وليس كذلك بل تورث نشوة ولذة وطربا كالخمر، وهذا هو الداعي إلى تناولها، وقليلها يدعو إلى كثيرها كالشراب المسكر، ولهذا قال الفقهاء: إنه يجب فيها الحد كما يجب في الخمر.
وتنازعوا في نجاستها على ثلاثة أوجه في مذهب أحمد وغيره. فقيل: هي نجسة. وقيل: ليست بنجسة. وقيل: رطبها نجس كالخمر ويابسها ليس بنجس. والصحيح أن النجاسة تتناول الجميع. كما تتناول النجاسة جامد الخمر ومائعها. فمن سكر من شرب مسكر أو حشيشة مسكرة لم يحل له قربان المسجد حتى يصحو، ولا تصح صلاته حتى يعلم ما يقول، ولا بد أن يغسل فمه ويديه، وثيابه في هذا وهذا، والصلاة فرض عليه لكن لا تقبل منه حتى يتوب أربعين يوما كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوما، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها لم تقبل له صلاة أربعين يوما، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال. قيل: وما طينة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار. أو: عرق أهل النار (1) » .
وأما قول القائل: إن هذه ما فيها آية ولا حديث: فهذا من جهله؛ فإن القرآن والحديث فيهما كلمات جامعة هي قواعد عامة. وقضايا كلية تتناول كل ما دخل فيها، وكل ما دخل فيها فهو مذكور في القرآن والحديث باسمه العام، وإلا فلا يمكن ذكر كل شيء باسمه الخاص، فإن الله بعث محمدا -صلى الله عليه وسلم- إلى جميع الخلق وقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (2) ،
__________
(1) سنن الترمذي الأشربة (1862) ، سنن النسائي الأشربة (5670) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3377) ، مسند أحمد بن حنبل (2/189) ، سنن الدارمي الأشربة (2091) .
(2) سورة الأعراف الآية 158(23/43)
وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} (1) وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (2) وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (3) فاسم الناس والعالمين يدخل فيها العرب وغير العرب من الفرس والروم والهند والبربر. فلو قال قائل: إن محمدا ما أرسل إلى الترك والهند والبربر؛ لأن الله لم يذكرهم في القرآن كان جاهلا، كما لو قال: إن الله لم يرسل إلى بني تميم وبني أسد وغطفان وغير ذلك من قبائل العرب؛ فإن الله لم يذكر هذه القبائل بأسمائها الخاصة، وكما لو قال: إن الله لم يرسله إلى أبي جهل وعتبة وشيبة وغيرهم من قريش؛ لأن الله لم يذكرهم بأسمائهم الخاصة في القرآن.
وكذلك لما قال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (4) . دخل في الميسر الذي لم تعرفه العرب ولم يعرفه النبي - صلى الله عليه وسلم- كاللعب بالشطرنج وغيره بالعوض؛ فإنه حرام بإجماع المسلمين، وهو الميسر الذي حرمه الله، ولم يكن على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، والنرد أيضا من الميسر الذي حرمه الله، وليس في القرآن ذكر النرد والشطرنج باسم خاص، بل لفظ الميسر يعمها وجمهور العلماء على أن النرد والشطرنج محرمان بعوض وغير عوض، وبعد أن ذكر نظائر أخرى من النصوص يعتمد على عمومها في الاستدلال بها على إثبات الحكم لكل ما اندرج تحته من الأفراد دون حاجة إلى تعينها قال:
ولو قدر بأن اللفظ لم يتناوله، وكان في معنى ما في القرآن والسنة ألحق به بطريق الاعتبار والقياس، كما دخل اليهود والنصارى والفرس في عموم الآية، ودخلت المسكرات في معنى خمر العنب، وأنه بعث محمدا -صلى الله عليه وسلم- بالكتاب
__________
(1) سورة سبأ الآية 28
(2) سورة الفرقان الآية 1
(3) سورة الأنبياء الآية 107
(4) سورة المائدة الآية 90(23/44)
والميزان ليقوم الناس بالقسط، والكتاب القرآن، والميزان العدل، والقياس الصحيح هو من العدل؛ لأنه لا يفرق بين المتماثلين بل سوى بينهما، فاستوت السيئات في المعنى الموجب للتحريم، لم يخص أحدها بالتحريم دون الآخر بل من العدل أن يسوي بينهما ولو لم يسو بينهما كان تناقضا، وحكم الله ورسوله منزه عن التناقض.
ولو أن الطبيب حمى المريض عن شيء لما فيه من الضرر وأباحه له لخرج عن قانون الطب، والشرع طب القلوب، والأنبياء أطباء القلوب والأديان، ولا بد إذا أحل الشرع شيئا منه أن يخص هذا بما يفرق به وبينه وبين هذا، حتى يكون فيه معنى خاص بما حرمه دون ما أحله والله أعلم.(23/45)
وسئل رحمه الله تعالى عمن يأكل الحشيشة، ما يجب عليه؟
فأجاب: الحمد لله، هذه الحشيشة الصلبة حرام، سواء سكر منها أو لم يسكر، والسكر منها حرام باتفاق المسلمين، ومن استحل ذلك وزعم أنه حلال فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتدا، لا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، وأما إن اعتقد ذلك قربة وقال: هي لقيمة الذكر والفكر، وتحرك العزم الساكن إلى أشرف الأماكن، وتنفع في الطريق، فهو أعظم وأكبر؛ فإن هذا من جنس دين النصارى الذين يتقربون بشرب الخمر، ومن جنس من يعتقد الفواحش قربة وطاعة، قال الله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1)
ومن كان يستحل ذلك جاهلا وقد سمع بعض الفقهاء يقول:
حرموها من غير عقل ونقل وحرام تحريم غير الحرام
فإنه ما يعرف الله ورسوله، وإنها محرمة، والسكر منها حرام بالإجماع.
وإذا عرف ذلك ولم يقر بتحريم ذلك فإنه يكون كافرا مرتدا، كما تقدم، وكل ما يغيب العقل فإنه حرام وإن لم تحصل به نشوة ولا طرب، فإن تغيب
__________
(1) سورة الأعراف الآية 28(23/45)
العقل حرام بإجماع المسلمين. وأما تعاطي " البنج " الذي لم يسكر ولم يغيب العقل ففيه التعزير، وأما المحققون من الفقهاء فعلموا أنها مسكرة وإنما يتناولها الفجار؛ لما فيها من النشوة والطرب، فهي تجامع الشراب والمسكر في ذلك، والخمر توجب الحركة والخصومة، وهذه توجب الفتور والذلة، وفيها مع ذلك من فساد المزاج والعقل، وفتح باب الشهوة، وما توجده في الدياثة، مما هي من شر الشراب المسكر، وإنما حدثت في الناس بحدوث التتار " إلى أن قال (1) : نعم يجب على آكلها حد شارب الخمر، هؤلاء القوم ضلال جهال عصاة لله ولرسوله، وكفى برجل جهلا أن يعرف بأن هذا الفعل محرم، وأنه معصية لله ولرسوله، ثم يقول: أنه تطيب له العبادة، وتصلح له حاله، ويح هذا القائل، أيظن أن الله سبحانه وتعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- حرم على الخلق ما ينفعهم، ويصلح لهم حالهم؟ نعم قد يكون في الشيء منفعة وفيه مضرة أكثر من منفعته فيحرمه الله سبحانه وتعالى؛ لأن المضرة إذا كانت أكثر من المنفعة بقيت الزيادة مضرة محضة.
وصار هذا الرجل كأنه قال لرجل: خذ مني هذا الدرهم وأعطني دينارا، فجهله يقول له: هو يعطيك درهما فخذه، والعقل يقول: إنما يحصل الدرهم بفوات الدينار، وهذا ضرر لا منفعة له بل جميع ما حرمه الله ورسوله إن ثبت فيه منفعة ما فلا بد أن يكون ضرره أكثر.
فهذه " الحشيشة الملعونة " هي وآكلها ومستحلوها الموجبة لسخط الله وسخط رسوله وسخط عباده المؤمنين، المعرضة صاحبها لعقوبة الله، إذا كانت كما يقوله الضالون من أنها تجمع الهمة، وتدعو إلى العبادة، فإنها مشتملة على ضرر في دين المرء وعقله وخلقه وطبعه أضعاف ما فيها من خير، ولا خير فيها، ولكن هي تحلل الرطوبات، فتتصاعد الأبخرة إلى الدماغ، وتورث خيالات فاسدة، فيهون على المرء ما يفعله من عبادة،
__________
(1) في حكم أكل الغبيراء للإعانة على العبادة، والغبيراء شراب مسكر يؤخذ من الذرة.(23/46)
ويشغله بتلك التخيلات عن إضرار الناس، وهذه رشوة الشيطان يرشو بها المبطلين؛ ليطيعوه فيها، بمنزلة الفضة القليلة في الدرهم المغشوش، وكل منفعة تحصل بهذا السبب فإنها تنقلب مضرة في المال، ولا يبارك لصاحبها فيها، وإنما هذا نظير السكران بالخمر، فإنها تطيش عقله حتى يسخوا بماله، وبتشجيع على أقرانه، فيعتقد الغر أنها أورثته السخاء والشجاعة وهو جاهل، وإنما أورثته عدم العقل، ومن لا عقل له لا يعرف قدر النفس والمال، فيجود بجهله، لا عن عقل فيه.
وكذلك هذه الحشيشة المسكرة إذا أضعفت العقل، وفتحت باب الخيال، تبقى العادة فيها مثل العبادات في الدين الباطل ودين النصارى، فإن الراهب تجده يجتهد في أنواع العبادة لا يفعلها المسلم الحنيف، فإن دينه باطل، والباطل خفيف، ولهذا تجود النفوس في السماع المحرم والعشرة المحرمة بالأموال وحسن الخلق مما لا تجود به في الحق، وما هذا بالذي يبيح تلك المحارم، أو يدعو المؤمن إلى فعله؛ لأن ذلك إنما كان لأن الطبع لما أخذ نصيبه من الحظ المحرم، ولم يبال بما بذله عوضا عن ذلك، وليس في هذا منفعة في دين المرء ولا دنياه، وإنما ذلك لذة ساعة، بمنزلة لذة الزاني حال الفعل، ولذة شفاء الغضب حال القتل، ولذة الخمر حال النشوة، ثم إذا صحا من ذلك وجد عمله باطلا وذنوبه محيطة به، وقد نقص عليه عقله ودينه وخلقه.
وأين هؤلاء الضلال مما تورثه هذه الملعونة من قلة الغيرة، وزوال الحمية حتى يصير آكلها إما ديوثا وإما مأبونا، وإما كلاهما، وتفسد الأمزجة حتى جعلت خلقا كثيرا مجانين وتجعل الكبد بمنزلة الإسفنج، ومن لم يجن منهم فقد أعطته نقص العقل، ولو صحا منها فإنه لا بد أن يكون في عقله خبل، ثم إن كثيرها يسكر حتى يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهي وإن كانت لا توجب قوة نفس صاحبها حتى يضارب ويشاتم، فكفى بالرجل شرا أنها تصده عن ذكر الله وعن الصلاة إذا سكر منها، وقليلها وإن لم(23/47)
يسكر فهو بمنزلة قليل الخمر، ثم إنها تورث من مهانة آكلها، ودناءة نفسه، وانفتاح شهوته ما لا يورثه الخمر، ففيها من المفاسد ما ليس في الخمر، وإن كانت في الخمر مفسدة ليست فيها وهي الحدة، فهي بالتحريم أولى من الخمر، ولأن ضرر آكل الحشيشة على نفسه أشد من ضرر الخمر، وضرر شارب الخمر على الناس أشد إلا أنه في هذه الأزمان لكثرة أكل الحشيشة صار الضرر الذي منها على الناس أعظم من الخمر، وإنما حرم الله المحارم؛ لأنها تضر أصحابها، وإلا فلو ضرت الناس ولم تضره لم يحرمها، إذ الحاسد يضره حال المحسود، ولم يحرم الله اكتساب المعالي لدفع تضرر الحاسد، هذا وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام (1) » ، وهذه مسكرة، ولو لم يشملها لفظ بعينها لكان فيها مفاسد الخمر توجب تحريمها. اهـ.
هذا وإن مسلك شيخ الإسلام هنا لمسلك فقهي إسلامي عظيم يعطي صورة من الصور التي تؤكد أنه رجل الإسلام والشريعة، وأنه غاص في أسرارها ووصل إلى أغوراها، ولقد رد ردا مسهبا يرجع إلى ما أوردنا من رعاية الإسلام في تشريعه للمصالح ودرء المفاسد، ولقد أفاض في بيان مفاسدها الفظيعة التي لا تدع مجالا لغير تحريمها، وإنها كانت كما تقدم تتنافي مع الضروريات الخمس التي ترعاها جميع الديانات، وقد لجأ إلى الاستدلال بالمصلحة ودرء المفسدة على تحريم المخدرات، بعد أن استدل على تحريمها بعموم نصوص الكتاب والسنة والاعتبار؛ لأن سائله يتذرع بخرافات يحتمي بها، فيقول: إن نشوتها تأمر المتعاطين بالعبادة، ولا تأمرهم بسوء ولا فاحشة فبين أن ذلك وهم، وأن مضارها لا تعادلها أي مصلحة تتوهم فيها، ولقد أحسن في بيان أنه ينطبق عليها قياس الأولوية على فرض أنه لا يشملها قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام (2) » بعد أن بين في فتاواه المختلفة أن النص يشملها؛ لأنها مسكرة وقياس الأولوية يعتد به الأصوليون، ويمثلون له بقياس الضرب على التأفيف في التحريم، واعتبار كل منهما عقوقا بالنسبة إلى
__________
(1) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) .
(2) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) .(23/48)
الوالدين في قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} (1) ، فلله در شيخ الإسلام، لقد انفعل في هذه الفتوى انفعالا يقتضيه فأقنع وأروى، ولقد أصاب في قوله فيها: إن قليلها كقليل الخمر؛ فإنه حق لأنه قل أن يتعاطى أحد شيئا من هذه المخدرات إلا اعتاده، والقليل يدعو إلى الكثير، ولا بد أن ننتفع بهذه النوعية في رد قول من أباح القليل من علماء المذاهب الأخرى، وسترى في هذا المقام انفعالا آخر للفقيه المحدث ابن حجر الهيثمي، وبالله التوفيق. هذه الفتاوى التي أفتى بها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - صريحة واضحة في حرمة هذه المخدرات حشيشها وغير حشيشها والقليل منها والكثير؛ لأنها كالخمر وإن كان بعضها كالأفيون والبنج طاهرا، أو لا حد فيه وإنما فيه التعزير، وقد جرى اعتبارها والأخذ بها ومسايرة الفقه لها منذ عهد ابن تيمية إلى يومنا هذا، ولقد ورد في موضع من فتاواه التصريح بأن الحشيشة الملعونة كالمسكرة بمنزلة غيرها من المسكرات، والمسكر منها حرام باتفاق العلماء، بل كل ما يزيل العقل فإنه يحرم أكله ولو لم يكن مسكرا (2) .
وجاء الشيخ المصلح محمد بن عبد الوهاب ومن سلك مسلكه - رحمهم الله - فأبرزوا ذلك وأفتوا به، وبالرجوع إلى كتاب الدرر السنية في الأجوبة النجدية، رأينا في الجزء السادس ص 452 - سؤالا موجها إلى ابنه الشيخ عبد الله بن محمد - رحمهما الله - عن التنابك الذي عمت البلوى به، فأجاب إجابة طويلة يقول فيها بعد الديباجة: إذا تقرر هذا فاعلم أن المسكر الذي يزيل العقل نوعان؛ أحدهما: ما كان فيه لذة وطرب. قال العلماء: وسواء كان المسكر جامدا أو مانعا وسواء كان مطعوما أو مشروبا، وسواء كان من حب أو تمر أو لبن أو غير ذلك، وأدخلوا في ذلك
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) مجموع الفتاوى 204 \ 34.(23/49)
الحشيشة التي تعمل من ورق (القنب) (1) وغيره مما يؤكل لأجل لذته وسكره.
الثاني: ما يزيل العقل ويسكره ولا لذة فيه ولا طرب كالبنج ونحوه، وأكثر العلماء الذين يرون تحريم ما أسكر كثيره، يرون حد شارب ما يسكر كثيرا وإن اعتقد حله متأولا، وهو قول الشافعي وأحمد، ثم قال: وبهذا تبين لك تحريم (التتن) الدخان الذي كثر في هذا الزمان استعماله وصح بالتواتر عندنا والمشاهدة إسكاره في بعض الأوقات خصوصا إذا أكثر منه، وتركه يوما أو يومين فإنه يسكر ويزيل العقل حتى أن صاحبه يحدث عند الناس ولا يشعر بذلك.
وسئل أيضا - رحمه الله- ما حكم التنباك الذي اختلفت آراء العلماء فيه، منهم من أفتى بحله، ومنهم من أفتى بحرمته بقيد وتعليق، ومنهم من أفتى بتحريمه مطلقا، ولما أفتيتم فيه بأنه من المسكرات اعتمدنا على قولكم، فكان في إجابته:
والذي يشرب التنباك إن كان شربه له بعد ما عرف أنه حرام فيضرب ثمانين جلدة ضربا خفيفا ما يضره، فإن كان شربه وهو جاهل فلا حد عليه، ويؤمر بالندم والاستغفار ".
ومما يدخل في الفقه الحنبلي تلك الفتوى التي كتبها المرحوم الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي المملكة العربية السعودية جوابا عن استفتاء ورد إليه بشأن النبات الذي يسمى " القات " وقد شاع أمره بين أهل اليمن حتى شغل كثيرا منهم عن جل شئونهم ومهمات أمورهم. يقول الشيخ- رحمه الله- (2) : هذه المسألة حادثة الوقوع، والحكم عليها يتوقف على معرفة خواص هذه الشجرة وما فيها من المنافع والمضار، وأيهما أغلب، وقد تتبعنا ما أمكن
__________
(1) في المطبوعة (العنب) بدل (القنب) وهو خطأ مطبعي واضح.
(2) الفتوى مطبوعة في رسالة وهي بمكتبة الرياض برقم 80 \ 25.(23/50)
العثور عليه من كلام العلماء فظهر بعد البحث وسؤال من يعتد بقولهم من الثقات أن المتعين فيها المنع من تعاطي زراعتها وتوريدها واستعمالها؛ لما اشتملت عليه من المفاسد والمضار في العقول والأديان والأبدان، ولما فيها من إضاعة المال وافتنان الناس بها، ولما اشتملت عليه من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، فهو شر ووسيلة لهذه الشروط، والوسائل لها أحكام الغايات، وقد ثبت ضرها وتفتيرها وتخديرها بل وإذكارها ولا التفات لمن نفى ذلك ثم قال: إنها مقيسة على الحشيشة المحرمة لاجتماعهما في كثير من الصفات، ثم استدل على ما قال بالآتي:
1 - قول الله عز وجل: [سورة النحل، الآية 89] : {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (1) ثم قال: فنصوص الكتاب والسنة كفيلة ببيان ما يحتاجه الناس في أمور دينهم ودنياهم، ومن حكمة الله سبحانه أنه أحل الطيبات وكل ما فيه منفعة خالصة أو راجحة وحرم الخبائث، وكل ما فيه مفسدة خالصة أو راجحة، ثم أورد الآية الكريمة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} (2) وقال: إن الله حرم الخمر والميسر مع ما فيهما من المصالح للناس، وذلك لما اشتملا عليه من الإثم الكبير الذي تربو مفسدته على ما فيهما من المنافع. ثم استدل بحديث أحمد وأبي داود «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - نهى عن كل مسكر ومفتر (3) » .
وقد قال العلماء أن المفتر ما يترك الفتور في البدن والخدر في الأطراف، وهذا القات لو فرضنا فيه بعض النفع فإن ما فيه من المضار والمفاسد المحققة يربو ويزيد على ما فيه من المنافع أضعافا مضاعفة، ولهذا حكم بتحريمه جملة من العلماء، واستدلوا بما ظهر لهم منه، ومن هؤلاء الشيخ ابن حجر الهيثمي، وقاسه على الحشيشة وجوزة الطيب، وعد استعمال ذلك من كبائر الذنوب.
ثم قال: إن ابن حجر ألف كتابا سماه (تحذير الثقات من استعمال الكفته والقات) ، وذكر فيه أن ممن قالوا بتحريم القات الفقيه أبو بكر بن إبراهيم
__________
(1) سورة النحل الآية 89
(2) سورة البقرة الآية 219
(3) سنن أبو داود الأشربة (3686) ، مسند أحمد بن حنبل (6/309) .(23/51)
المقري الشافعي في مؤلفه في تحريم القات، وذكر من مضارها أن آكلها يرتاح ويطرب، وتطيب نفسه ويذهب حزنه، ثم يعتريه بعد ساعتين من أكله هموم متراكمة، وغموم متزاحمة وسوء أخلاق، وذكر الشيخ المقري أنه جرب ذلك في نفسه أيام شبابه وكان يعتقد أولا حلها، وذكر المقري من مضار هذه الشجرة أنها تذهب بشهوة الطعام، وتطرد النوم ونعمته، وأنه يخرج من أكلها شيء بعد البول كالودي ولا ينقطع إلا بعد حين، وإنه طالما كان يتوضأ يحس بشيء منه فيعيد الوضوء وهكذا، وتارة كان يحس به في الصلاة فيعيدها بعد إعادة الوضوء، وإنه سأل كثيرا ممن كان يأكلها فقرروا ذلك، ثم نقل عن العلامة يونس المقري أنه كان يقول: ظهر القات في زمن قوم لا يجسرون على تحريم ولا تحليل، ولو ظهر في زمن الفقهاء المتقدمين لحرموه. . اهـ - بتصرف.(23/52)
ثانيا: الفقه الشافعي:
يختلف الشافعية في الحكم في هذا الموضوع؛ لأنه مجال للاجتهاد، فمنهم من يحكم بأن المخدر كله حرام قليله وكثيره، ولا حد فيه بل فيه التعزير فقط، لا فرق بين مخدر وآخر، ويصور ذلك الخطيب الشربيني من أعيان الشافعية في القرن العاشر، له شرح على كتاب النووي (المنهاج) يقول فيه تعليقا على قول النووي في بيان الأشربة وأحكامها: (1) .
قال النووي: " كل شراب أسكر كثيره حرم قليله وحد شاربه " فقال الشربيني: المراد الشارب المتعاطي شرابا. وخرج بالشراب النبات، قال الدميري: كالحشيشة التي تأكلها الحرافيش، ونقل الشيخان في باب الأطعمة عن الروياني أن أكلها حرام ولا حد فيه، وقال الغزالي في القواعد:
__________
(1) ج 4 ص 187 طبع الحلبي.(23/52)
يجب على آكلها التعزير والزجر دون الحد، ثم ذكر ابن تيمية السابق، وقريب من هذا ما جاء في كتاب فتح الجواد بشرح الإرشاد (1) لابن حجر الهيثمي تعليقا على حكم المؤلف صاحب الإرشاد بحد من شرب مسكرا قال الهيثمي:
خرج بالمسكر مزيل العقل من غير الأشربة كالبنج والحشيشة والأفيون وجوزة الطيب، فإنه وإن حرم لكن فيه التعزير فقط إذ ليس فيه شدة مطربة، فلا يدعو قليله إلى كثيره، وله تناوله حتى لا يحس بألم قطع عضو متآكل ونحوه) . اهـ.
وعبارته في التحريم مطلقة ولكن قوله: إن قليله لا يدعو إلى كثيره غير مسلم، وفي هذه العبارة ما يفيد أنه يستعمل للتداوي، وهي محل بحث كذلك.
ومما يدخل في هذا المسلك ما نجده في شرح الشيخ زكريا على متن البهجة لابن الوردي (ج5 ص404) تعليقا على قول المصنف: إن الحد لما يسكر جنسا. قال الشيخ زكريا: خرج به ما يسكر من غير جنسه كالبنج والدواء المجنن والحشيشة فلا حد؛ لأنه لا يلذ ولا يطرب ولا يدعو قليله إلى كثيره بل يعزر، ثم قال: وإذا احتيج في قطع اليد المتآكلة إلى نحو البنج هل يجوز؟ أخرجه الرافعي على الخلاف في التداوي بالخمر وصحح النووي الجواز، ولعل قول النووي في هذا المقام أصح، وهو المعمول به اليوم في دائرة أمر الطبيب مع الضرورة بما يرفع الحرج، ومنهم من يتجه إلى تحريم كثير من هذه المخدرات إطلاقا بلا تخصيص لصنف دون صنف، ويذهب إلى أن القليل منها مكروه إذا لم يقصد المداومة، وإنه يباح للتداوي على خلاف في ذلك، وإليك ما في كتاب إغاثة الطالبين في حل ألفاظ فتح المعين في فقه الشافعية، قال صاحب فتح المعين الشيخ المليباري الفقيه الشافعي (ج4 ص156) : كل
__________
(1) الإرشاد كتاب في الفقه الشافعي لشرف الدين إسماعيل بن أبي بكر الشهير المقرئ المدني المتوفى سنة 873.(23/53)
شراب أسكر كثيره فقليله حرام بخبر الصحيحين، ثم قال:
وخرج بالشراب ما حرم من الجامدات، فلا حد فيها، وإن حرمت وأسكرت بل التعزير بكثير البنج والحشيشة والأفيون وكره أكل كثير منها من غير قصد المداومة ويباح لحاجة التداوي، فعلق السيد البكري على ذلك بقوله: إن العلماء قد ذكروا في مضار الحشيشة نحو مائة وعشرين مضرة دينية ودنيوية، وأورد ما قاله ابن حجر الهيثمي في الزواجر - وسنشير إليه - وقد علق على قوله: وكره أكل يسير منها، فقال: إن المراد باليسير ألا يؤثر في العقل ولو تخديرا أو فتورا، وبالكثير ما يؤثر فيه كذلك، فيجوز تعاطي القليل مع الكراهة، ولكنه يجب كتمه عن العوام؛ لئلا يتعاطوا الكثير ويعتقدوا أنه قليل، وقوله: من غير قصد المداومة، مفهومه أنه إذا تعاطاه مع قصد المداومة حرم) اهـ.
ثم نقل عن الروضة وشرحها (فرع: مزيل للعقل من غير الأشربة كالبنج والحشيشة حرام؛ لإزالته العقل، ولا حد فيه؛ لأنه لا يلذ ولا يطرب ولا يدعو قليله إلى كثيره بل فيه التعزير، ولو تناوله ليزيل عقله لقطع عضو متآكل) اهـ.
ثم إن هذا الذي نقله عن الروضة يخالف ما في فتح المعين الذي شرحه صاحب إغاثة الطالبين، ويعلق عليه بعد خلاف له أكثر من ذكر ما يخالفه بالنص على حرمة هذه المخدرات بإطلاق، فكأنه يقول إن ما ذكرناه مخالف لما في الروضة وشرحه حيث أطلق التحريم ونحن قيدناه بالكثير مع كراهة القليل من غير قصد المداومة، فإذا قصد المداومة حرم، ثم إن هذا خاص بمن يؤمن اضطرابه بتجاوز الحد وعدم ضبط النفس بالحاجة وعدم الإدمان. ومع كل هذه القيود يضيق الفارق جدا فلا يظهر أثره، والحق في هذا مسلك ابن تيمية ومن نهج نهجه سدا للذارئع وإغلاقا لباب الفساد.(23/54)
كتاب الزواجر لابن حجر الهيثمي الفقيه الشافعي
هذا الكتاب مرجع خصيب تناول فيه ابن حجر كبائر الذنوب، واستوعب منها ما أدى إليه اجتهاده وتتبعه، وسلك في ترتيبه مسلك أبواب(23/54)
الفقه الشافعي في القسم الثاني منه، وهو الكبائر الظاهرة مع التسلل في تعدادها مع الكبائر الباطنة أول الكتاب، وكان موضوع المخدرات بعنوان كتاب الأطعمة وترتيب هذه الكبيرة (السبعون بعد المائة) وسماها أكل المسكر الطاهر كالحشيشة والأفيون والشيكران ونحوه كما سبق الإشارة إلى ذلك في علاقة المخدر بالخمر، ومسلكه حديثي فقهي عام، فهو وإن كان من أئمة الشافعية ألا أنه تناول المذاهب الأربعة بما يدل على إجماع فقهائها على التحريم، وهي كتابة ينفعل فيها ويتأثر بمعارفه ويؤثر في قارئه ويتجه في أمرها إلى ما يشبه اتجاه ابن تيمية مع بعض اختلاف تبين لك من دراستها. وقد بدأ الحديث بأن الحشيشة والأفيون والشيكران - بفتح الشين المعجمة - وهو البنج والعنبر والزعفران وجوزة الطيب مسكره أو مخدره، فاستعمالها كبيرة وفسق كالخمر، فكل ما جاء في وعيد شاربها يأتي في مستعمل شيء من هذه المسكرات لاشتراكها في إزالة العقل المقصود للشارع بقائه؛ لأنه الآلة للفهم عند الله تعالى وعند رسوله والمتميز به الإنسان عن الحيوان والوسيلة إلى إيثار الكمالات على النقائص، فكان في تعاطي ما يزيله وعيد الخمر الآتي في بابها، ولكنه لم يوفق كل التوفيق في إيراد الزعفران بينها؛ لأن الزعفران لا يخدر، ثم قال:
إن الأصل في تحريم كل ذلك ما رواه أحمد في مسنده وأبي داود في سننه «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عن كل مسكر ومفتر (1) » وهذه المذكورات كلها تسكر وتخدر وتفتر وحكى العراقي (2) . وابن تيمية الإجماع على تحريم الحشيشة (3) . وقال من استحلها فقد كفر، قال: وإنما لم يتكلم فيها الأئمة؛ لأنها لم تكن في زمنهم، وذكر الماوردي قولا أن النبات الذي فيه شدة مطربة يجب فيه الحد (4) ثم قال (5) ابن حجر: إن
__________
(1) سنن أبو داود الأشربة (3686) ، مسند أحمد بن حنبل (6/309) .
(2) في المطبوعة القرافي وهو غير صحيح لخلافه للواقع، ولأن المذكور في شرح السلك أنه العراقي.
(3) الذي رأيناه في الفتاوى أن المسكر منها حرام باتفاق العلماء كما قدمنا من ج 34 ص 204.
(4) وهذا الذي جرى عليه الشيخ ابن تيمية كما رأيت.
(5) الزواجر ج1 ص180.(23/55)
ما ذكره في الجوزة من حرمة تعاطيها هو ما أفتى به قديما في سؤال ورد عليه، وخلاصته أن تحريم جوزة الطيب هو ما أفتى به الإمام المجتهد شيخ الإسلام ابن دقيق العيد أن الجوزة مسكرة، ونقله عنه المتأخرون من المالكية والشافعية واعتمدوه وناهيك بذلك. بل بالغ ابن العميد فجعل الحشيشة مقيسة على الجوزة، وذلك في سياق كلام يرد به على القرافي في التفرقة بين الحشيشة الخضراء والمحمصة، فجعل المحمصة هي المسكرة فقط، وأطال في ذلك بما ليس في الصميم، والمقصود بأنه انتهى إلى تأييد ما ذهب إليه من كون الجوزة مسكرة ومخدرة ومحرمة ثم قال:
وقد وافق المالكية والشافعية على إسكارها (جوزة الطيب) الحنابلة فنص إمام متأخريهم ابن تيمية وتبعوه على أنها مسكرة، ثم قال: وهو اقتضاء كلام بعض أئمة الحنفية، ففي فتاوى المرغيناني منهم:
المسكر من البنج ولبن الرماك أي أتان الخيل حرام ولا يحد شاربه، قال الفقيه أبو حفص: ونص عليه شمس الأئمة السرخسي. انتهى.
ثم قال: فثبت بما تقرر أنها حرام عند الأئمة الثلاثة بالنص وعند الحنفية بالاقتضاء (لأن الجوزة كالبنج في الإسكار) ، وقد نصوا على حرمة البنج لإسكاره. وأطال في تأييد قوله بتحريم الجوزة، ثم في الفرق بين الإسكار والتخدير من جهة النشوة وعدمها. ثم انتهى إلى أنه لا اختلاف بين من عبر في نحو الحشيشة بالإسكار، ومن عبر بالتخدير والإفساد، لكن الواقع أن هناك فرقا جوهريا يظهر من تأمل ما سبق لابن تيمية - ويأتي مثله النووي وابن حجر - ثم قال: وعجبت ممن خاطر باستعمال الجوزة مع ما فيها من المفاسد والإثم لأغراضه الفاسدة؛ فإن تلك الأغراض تحصل جميعها بغيرها، فقد صرح رئيس الأطباء ابن سيناء في قانونه بأنه يقوم مقامها وزنها ونصف وزنها من السنبل، وشكر الله له نضجه وإخلاصه، ثم نقل عن بعض شروح الحاوي في الفقه الشافعي أن الحشيشة نجسة إن ثبت أنها مسكرة، وإن أنكر ابن حجر هذا النقل بناء على أن الشافعية لا يحكمون بنجاستها، قال: ونقل عن ابن دقيق العيد أنه لا ضمان على متلفها كالخمر. وتطرق إلى ذكر مضار عديدة، ثم جمعها فيما نقله عن بعض العلماء، أن في أكلها مائة وعشرين مضرة(23/56)
دينية ودنيوية، من أنها تورث الفكرة الرديئة وتجفف الرطوبات الغريزية، وتعرض البدن لحدوث الأمراض وتورث النسيان وتصدع الرأس، وتقطع النسل وتجفف المني، وتورث موت الفجأة واختلال العقل وفساد الذوق والسل والاستقاء، وفساد الفكر ونسيان الذكر وإفشاء السر، وإنشاء الشر وذهاب الحياء، وكثرة المراء وعدم المروءة ونقص المودة، وكشف العورة وعدم الغيرة وإتلاف الكيس ومجالسة إبليس، وترك الصلوات والوقوع في المحرمات والبرص والجذام والرعشة، وتعب الكبد واحتراق الدم، والبخر ونتن الفم وفساد الأسنان وسقوط شعر الأجفان، واستمر في ذلك ولعل في مراجع الطب الحديث ما يهيمن على تحقيقه دائما شأن الفقيه إذا تعرض لمثل ذلك أن يحذر الناس من الشر، وأن يبين وجهة نظر الشرع فيما حكم به من التحريم أو الخطر من حماية العباد من الضرر، ثم أورد في نهاية هذا الموضع تنبيها، قال فيه: إن عد هذه المخدرات من الكبائر ظاهر، وبه صرح أبو زرعة وغيره كالخمر، بل بالغ الذهبي فجعلها كالخمر في النجاسة والحد والمال في ذلك إلى ما قدمناه عن الحنابلة وغيرهم، وقال: إنها أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج حتى يصير في متعاطيها تخنث أي أبنة ونحوها ودياثة وقوادة وغير ذلك من المفاسد، والخمر أخبث منها من جهة أنها تفضي إلى المنازعة والمقاتله وكلاهما يصد عن ذكر الله، وعن الصلاة قال الذهبي: وتوقف بعض المتأخرين عن الحد فيها ورأى أن فيها التعزير؛ لأنها تغير العقل من غير طرب كالبنج، وأنه لم يجد للعلماء المتقدمين كلاما فيها، قال الذهبي: وليس كذلك بل آكلوها يحصل لهم نشوة واشتهاء كشراب الخمر أو أكثر حتى أنهم لا يصبرون عنها، ولكونها جامدة مطعومة اختلف العلماء في نجاستها على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره، فقيل: هي نجسة كالخمر المشروبة، وهذا هو الاعتبار الصحيح، وقيل: لا؛ لجمودها. وقيل: يفرق بين جامدها ومائعها. ثم قال الذهبي: وبكل حال فهي داخلة فيما حرم الله ورسوله من الخمر المسكر لفظا ومعنى «قال أبو موسى:(23/57)
يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن؛ البتع وهو من العسل نبذ حتى يشتد، والمزر وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد، قال: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أوتي جوامع الكلم بخواتيمه فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما أسكر كثيره فقليله حرام (1) » . ولم يفرق -صلى الله عليه وسلم- بين نوع ونوع ككونه مأكولا أو مشروبا على أن الخمر قد تؤكل بالخبز كالحشيشة؛ لأنه يزينها للأنفس الخسيسة فاستحلوها واسترخصوها. انتهى المراد من كلام الذهبي.
ثم قال ابن حجر: إن ما ذكره الذهبي من النجاسة والحد ضعيف. اهـ. ولا يضرنا هذا الاختلاف بعد الاتفاق على أنها محرمة ومن الكبائر، ونسأل الله العافية.
وفي الكلام على الكبيرة شرب الخمر وما يتعلق بها، لم يترك ابن حجر هناك الاستطراد إلى الحشيشة، فنقل عن بعض الصالحين أنه قال: إن الحشيشة المعروفة حرام كالخمر يحد آكلها كما يحد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج حتى يصير في متعاطيها تخنث ودياثة عجيبة وغير ذلك من المفاسد فلا يصير له من المروءة شيء البتة وشاهد في أقواله خنوثة الطبع وفساده وانقلابه إلى شر من طبع النساء، ومن الدياثة على زوجته وأهله فضلا من الأجانب ما يقضي العاقل فيه العجب العجاب، وكذا متعاطي نحو البنج والأفيون وغيرهما مما مر، ثم قال ابن حجر وما يقوي القول بأن آكلها يحد أن آكلها ينتشي ويشتهيها كالخمر وأكثر حتى لا يصبر عنها، وهذا يخالف ما قاله في دراسة المخدرات في الجزء الأول وأشرنا إليه فيما سبق.
وفي فتاوى ابن حجر أيضا حكم القات (جـ 4 ص 223) توسع ابن حجر في فتاواه في موضوع القات وتعرض لاختلاف العلماء في حكمه وتضارب أقوالهم في أمره فقال إنهم في الحقيقة متفقون في الرأي، وإنما يختلفون في الطريق التي استند إليها كل في رأيه، وأطال في فلسفة الاستدلال بالعقل أو النقل أو الدليل المركب منهما، ثم قال: إنه سأل بعض الأطباء فقال: إنه يورث مضار عديدة ومنها تصفير الوجه وتقليل شهوة الطعام وتفتير الباه،
__________
(1) صحيح مسلم الأشربة (1733) .(23/58)
وإدامة نزول الودي عقب البول (1) .
وقال: إن مستنده في الأخير إخبار المستعملين له فقال له الشيخ ابن حجر: لا يكفي ذلك ما لم يستند إلى التجربة ولا بد للتجربة من زمان ومكان ومزاج معتدل وعدالة المخبر. ثم انتهى إلى أنه لا علم لنا إلا من الخبر المتواتر من متعاطيه، ولم يتم ذلك لاختلاف المتعاطين مما أدى إلى اختلاف المفتين، وقد أوقعه ذلك في الاستطراد بموضوع الحشيشة والفرق بينهما وبين القات، فقال: إن العلماء منذ قرون لما حدثت الحشيشة في زمانهم بالغوا في اختبار أحوال آكلها حتى اتفقت أقوالهم على أنها مسكرة أو مخدرة، فكان في ذلك الزمان العارفون بعلم الطب والنباتات، فحكموا فيها بما اقتضته القواعد الطبية والتجريبية، فلذا ساغ لهم الجزم فيها بالتحريم، ثم عاد إلى ذكر ما أورده في الزواجر عن جوزة الطيب إذ يقول: إنه لا مرية في تحريم الجوزة وإسكارها أو تخديرها، واتفاق المذاهب على ذلك. ثم انتهى إلى أن ذلك الكلام يدل دلالة ظاهرة على تحريم القات؛ لأن الأئمة حرموا الجوزة مع اختلاف آكلها. وهذه هي النتيجة التي جزم فيها بتحريم القات وكأنه رجح صدق من أخبر بإسكارها أو تخديرها، ولعل فتوى مفتي المملكة العربية السعودية أقرب وأنفع وربما كان ذلك راجعا إلى أنه كان بعد ظهور الضرر البين في تعاطيها، والله ولي التوفيق.
وما دمنا بصدد الكلام في الفقه الشافعي فإننا نشير إلى ما تقدم في مناسبة من حكم الإمام النووي ومن تبعه وشيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني بإسكار الحشيشة للنشوة والطرب، فيشملها تحريم المسكر، ويقول ابن حجر العسقلاني: وعلى فرض أنها مخدرة فإنه يشملها معنى التفتير في الحديث «نهى -صلى الله عليه وسلم- عن كل مسكر ومفتر (2) » . وعبارة الحافظ في فتح الباري (جـ 10 ص 45) : واستدل بمطلق قوله -صلى الله عليه وسلم- «كل مسكر حرام (3) » على تحريم ما يسكر، ولو لم يكن شرابا فدخل في ذلك الحشيشة وغيرها. وقد جزم
__________
(1) تقدم مثله في فتوى الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله.
(2) سنن أبو داود الأشربة (3686) ، مسند أحمد بن حنبل (6/309) .
(3) صحيح البخاري المغازي (4343) ، صحيح مسلم الأشربة (1733) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3391) ، مسند أحمد بن حنبل (4/417) ، سنن الدارمي الأشربة (2098) .(23/59)
النووي وغيره بأنها مسكرة وجزم آخرون بأنها مخدرة، وهو مكابرة؛ لأنها تحدث بالمشاهدة ما يحدث الخمر من الطرب والنشوة والمداومة في الجملة عليها والانهماك فيها، وعلى تقدير تسليم أنها ليست مسكرة، فقد ثبت في سنن أبي داود النهي عن كل مسكر ومفتر.(23/60)
ثالثا: الفقه المالكي
يتجه الفقه المالكي إلى تحريم الكثير المسكر من المخدرات ويتردد القرافي الفقيه المالكي في الحشيشة أهي مسكرة أو لا يعتقد أنها مسكرة إلا أنه يقول: وتبني على إسكارها - إن ثبت - تحريم القليل منها ونجاسته والحد على تناولها (1) ، وإليك عبارات من بعض كتب المذهب تصور ما كتب الإمام محمد الحطاب الفقيه المالكي المتوفى (954) في كتاب مواهب الجليل الشهير بشرح الحطاب على متن خليل، يقول تعليقا على قول خليل في بيان المحرم من الأشربة (وعصير وفقاع وسوبيا وعصيران أسكره) قال صاحب الإرشاد: وأما ما يغطي العقل فلا خلاف في تحريم القدر المغطي من كل شيء وما لا يغطي من المسكر، فمثل المغطي في التحريم للحديث: «وما أسكر كثيره فقليله حرام (2) » .
وهي متعددة: الخمر وهو ما فيه طرب وشدة ونشوة وتغييب، والبنج وهي الحشيشة، وقد اختلف هل هي مسكرة أو مفسدة، والمفسد ما يصور خيالات دون تغييب حواس ولا طرب، ولا نشوة ولا شدة، ولا خلاف في تحريم قدر المفسدة، والأفيون وهو لبن الخشخاش يغيب الحواس ولا يفسد العقل، والجوزة من المخدرات، وأفتى بعض مشايخنا الفاسيين بطرحها في الوادي، ثم قال - وفي الشرح حكى خليل عن بعض شيوخنا خلافا في الحشيشة هل هي مسكرة أو لا. قال القرافي: ينبني عليه تحريم القليل وتنجيس العين ولزوم الحد. وقال المغربي إنما ذلك (الإسكار بعد التجفيف
__________
(1) هذا مظهر كريم من مظاهر الأمانة الفقهية وتحري الصواب في الحكم بما ليس فيه نص.
(2) سنن الترمذي الأشربة (1865) ، سنن أبو داود الأشربة (3681) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3393) ، مسند أحمد بن حنبل (3/343) .(23/60)
والقلي لا قبل ذلك، وخلاصة هذا الكلام أن المغيب للعقل (في اعتباره) أربعة: الخمر والبنج والأفيون والجوزة وإن الخمر حرام قليلها وكثيرها، والباقي لا يحرم منه إلا ما يغيب العقل عدا الحشيشة إذا كانت مسكرة فإنها مثل الخمر في تحريم قليلها وكثيرها، وفي هذا الكلام ما يفيد أنه يعتبر البنج هو الحشيشة، ويتضح ذلك أكثر بالرجوع إلى ما في أول الكتاب وإلى كتاب الفروق للقرافي، أما أول الكتاب (مواهب الجليل على متن خليل) في بيان النجاسات (منها المسكر) قال الحطاب نقلا عن التوضيح: فائدة يعرف بها الفرق بين المسكر والمفسد والمرقد (يريد المنوم) .
فالمسكر: ما غيب العقل دون الحواس مع نشوة وفرح.
والمفسد: ما غيب العقل دون الحواس لا مع نشوة كعسل البلاذر.
والمرقد: ما غيب العقل والحواس كالشيكران وينبني على الإسكار ثلاثة أحكام: الحد والنجاسة وتحريم القليل، إذا تقرر هذا فللمتأخرين في الحشيشة قولان: هل هي من المسكرات أو من المفسدات؟ مع اتفاقهم على المنع من أكلها، فاختيار القرافي أنها من المخدرات، قال: لأني لم أرهم يريد (الحشاشين) يميلون إلى القتال والنصرة بل عليهم الذلة والمسكنة، وربما عرض لهم البكاء، قال صاحب (التوضيح) : وكان شيخنا المشهور بـ عبد الله المنوفي يختار أنها من المسكرات؛ لأنا رأينا من يتعاطاها يبيع أمواله لأجلها، وأطال في ذلك ثم قال الحطاب: ولفظ القرافي في الحشيشة ثلاثة أقوال، ثالثها الفرق بين أن تحمص فتكون نجسة وفيها الحد، واختار القرافي في الفرق الموفي أربعين (يعني في كتابه الفروق) أنه لا حد فيها، وإنما فيها التعزير الزاجر عن الملابسة، ولا تبطل الصلاة بحملها، ثم قال: إن الأفيون والبنج من المفسدات، وقال: من صلى بواحد منهما لم تفسد صلاته إجماعا، وكذا غيره من المفسدات كأن يتناول من البنج والأفيون والشيكران ما لا يصل إلى التأثير في العقل والحواس. انتهى.
وهذا الفرق الأربعون في كتاب (أنوار البروق) للقرافي(23/61)
وفيه يقول: (جـ 1، ص 217) :
إن الفرق بين المسكرات والمفسدات والمرقدات مما يلتبس على كثير من الفقهاء. ثم ذكر الفرق بينهما كالذي أوردناه، وهو منقول عنه: ولا فرق بين كل من المراقدات والمفسدات وبين المسكرات إلا في الحكم، ثم قال في (ص 218 ج 1) : تنبيه: تنفرد المسكرات عن المرقدات والمفسدات بثلاثة أحكام؛ الحد والتنجيس وتحريم اليسير.
والمرقدات والمفسدات لا حد فيها ولا نجاسة، وقد تناول موضع الحشيشة وحدها فيما قبل هذا الفرق، وهو الفرق التاسع والثلاثون فقال إلحاقا له: (فرع) النبات المعروف بالحشيشة التي يتعاطاها أهل الفسوق، اتفق فقهاء أهل العصر على المنع منها أعني كثيرها المغيب للعقل، واختلفوا بعد ذلك هل الواجب فيها التعزير أو الحد على أنها مسكرة أو مفسدة للعقل من غير سكر ونصوص المتحدثين عن النبات تقتضي أنها مسكرة؛ فإنهم يصفونها بذلك في كتبهم، قال القرافي: والذي يظهر لي أنها مفسدة، ثم أورد فتوى بأن من صلى بها قبل أن تحمص أو تصلق صحت صلاته، وإلا بطلت) أهـ.
ولكنه يقول: إنه سأل من يتعاطونها فمنهم من قال: إنها لا تؤثر إلا بعد القلي. وعلى ذلك تصح الفتوى. ومنهم من قال: إنها تؤثر مطلقا وإنما تحمص لإصلاح طعمها. وعلى هذا تبطل الصلاة مطلقا، وقد عرفت أنه انتهى إلى أن القليل منها لا يحرم، وأنها غير نجسة، وهو نظير ما صرح به جمهور الشافعية في كتبهم، والحق عندنا أنها مسكرة موجبة للحد كما تقدم نقله عن ابن تيمية وغيره.(23/62)
رابعا: الفقه الحنفي:
يختلف الحنفية في حكمهم على المخدرات تشديدا أو تخفيفا، وليس في التخفيف أدنى من إباحة القدر اليسير بدون قصد اللهو والباطل، وليس في التشديد حكم بحد المتعاطي ولا بنجاسة المادة، وبهذا يقول جماعة من الشافعية، وهو مفاد ما نقلناه عن المالكية إلا في الحشيشة إذا عرف إسكارها فلها حكم الخمر في القليل والكثير، كما تقدم تفصيل ذلك، وكلهم مجمعون على حرمة التخدير والسكر، وفي كلام بعض الحنفية أن الخلاف في القليل كان قبل ظهور مفاسدها، فلما ظهرت أجمعوا على حرمة القليل والكثير مما يدل على اتساع أفق الفقه، وأن الفقهاء فيما لم يرد فيه نص بين يقولون بدوران الحكم مع علته، ويلتمسون ما في الفعل من نواحي النفع الخالص أو الراجح والضرر الخالص أو الراجح كما أشرنا إلى ذلك من قبل، وإليك من عبارات الحنفية ما يبين رأيهم واختلاف وجهة نظرهم في دائرة متقاربة لا تخرج عن تحريم المخدرات.
يقول الإمام التمرتلي في شرحه لمتن القدوري (1) : ولا يجوز أكل البنج والحشيشة والأفيون، وذلك كله حرام؛ لأنه يفسد العقل حتى يصير الرجل فيه خلاعة وفساد، ويصده عن ذكر الله وعن الصلاة، لكن تحريم ذلك دون الخمر، فإن أكل شيئا من ذلك لا حد عليه، وإن سكر كما إذا شرب البول وأكل الغائط فإنه حرام ولا حد فيه بل يعزر بما دون الحد) أهـ.
وهي عبارات موجزة محدودة أطلق فيها التحريم وأوجب التعزير ولم يقل بالحد كما هو قول الجمهور من الفقهاء؛ لأن حرمتها كما قال دون حرمة الخمر التي تثبت حرمتها بالقرآن الكريم والسنة وإجماع المسلمين وعلمت من الدين بالضرورة.
ويقول صاحب فتح المعين وهو الشيخ أبو السعود المفتي الحنفي في حاشيته على
__________
(1) شرح الجوهرة على متن القدوري 2 \ 270.(23/63)
ملا مسكين شارح الكنز في كتاب الأشربة: تنبيه: لم يتعرض المصنف للحشيشة وهي حرام كما في منظومة ابن وهبان:
وأفتوا بتحريم الحشيش وحرقه ... وزندقة للمستحل وقرروا
لبائعه التأديب والفسق أثبتوا ... وزندقة للمستحل وحرروا
فهذه المنظومة تنص على تحريم الحشيش بإطلاق وعدم تفرقة بين قليل وكثير، وأن بائعه يعزر تأديبا له وعلى الحكم بفسق مستحله، وأنه زنديق والزندقة لا تثبت إلا لمن خالف في أمر ضروري أو كالضروري، ثم يقول أبو السعود بعد نقل ما في المنظومة: وفي التنوير: يحرم أخذ الحشيشة والبنج والأفيون لكن دون حرمة الخمر، فإن أكل شيئا منه لا حد عليه وإن سكر بل يعزر بما دون الحد، وكذا تحريم جوزة الطيب، لكن دون حرمة الحشيشة. قاله مصنف التنوير. أهـ.
وهذا قريب مما نقلناه عن الجوهرة، ونقل عن الجامع وغيره من قال بحل البنج والحشيشة فهو زنديق مبتدع، بل قال نجم الدين الزاهد أنه يكفر ويباح قتله. أهـ.
وهذا حكم بالردة يتفق مع قول ابن تيمية في تكفير المستحل وهو قريب من القول بالزندقة الذي قاله ابن وهبان في منظومته، والتشديد الذي ذهب إليه كل من ابن تيمية وابن وهبان والزاهد يتفق مع صرامة الإسلام في منع الفساد ومقاومة الجريمة بكل وسيلة، وهذا حق؛ لأن مستحل هذه الأشياء كأنه يستحل الخمر التي أراد الشارع تحريمها بتاتا محافظة على العقل والنفس والمال، وبقية الخمسة التي أوضحنا كيف تكون الجناية عليها في تعاطي المخدرات، ثم يقول أبو السعود: وأما التتن (الدخان) فقد حكى في الدر أولا عن شيخه النجم الغزي الشافعي أنه حرام) . اهـ. وأطال في ذلك بما نرجئه للكلام على الدخان إن شاء الله.
وفي الدر المختار على متن التنوير وحاشية ابن عابدين عليه (1) قال صاحب الدر: نقل في الأشربة عن الجوهرة حرمة أكل حشيش وبنج وأفيون. . .)
__________
(1) ج4 ص42 طبع الحلبي.(23/64)
وتقدم لنا إيراده، ثم قال صاحب الدر: وفي النهر التحقيق ما في العناية أن البنج مباح؛ لأنه حشيش، أما المسكر منه فحرام وقد علمت أن هذا رأي دارج في المذاهب غير أنه في التحقيق ضعيف لا يستند إلى دليل وهو يدفع بأن ما أسكر كثيره فقليله حرام، وأن ذلك مقتضى سد الذرائع ودفع الفساد؛ لأن القليل يفضي إلى الكثير طبعا ولهذا نقل ابن عابدين في هذا الموضع عن التهتاني عن متن البزدوي أنه يحد من سكر من البنج في زماننا على المفتي به ومعنى ذلك أن الفساد اقتضى سد الباب، والفتوى للتحريم وإيقاع الحد على من سكر من المخدر كما يعامل شارب الخمر، فكيف إذا رأوا ما نحن فيه بين المستهترين؟ ثم قال ابن عابدين في المنح عن الجوهرة: لو سكر من البنج وطلق تطلق امرأته زجرا وعليه الفتوى، ثم أحال ابن عابدين على ما ذكره في أول كتاب الطلاق من حاشيته على التنوير من أن العلامة قاسما صحح القول بأن من سكر من البنج والأفيون ثم طلق امرأته تطلق زجرا له، ونقل في الطلاق عن النهر عن البدائع أن الطلاق لا يقع؛ لأنه ليس معصية، ويبدو أن صاحب البدائع قال ذلك قبل ظهور الفساد باستعمال هذه الأشياء، وقال صاحب النهر إن الحق التفصيل بين إذا كان للتداوي أو غيره، فإن كان استعمال الأفيون ونحوه للهو وإدخال الآنفه فينبغي أن لا يتردد في وقوع الطلاق.
والذي ورد في كتاب الطلاق في الدر (3 \ 230) أنه يقع طلاق السكران، ولو كان من الأفيون أو الحشيش زجرا للمطلق، ثم نقل عن الفتح اتفاق مشائخ الحنفية والشافعية على وقوع طلاق من غاب بالحشيش لفتواهم بحرمته بعد أن اختلفوا فيها، وكان اختلافهم لأن المتقدمين لم يتكلموا فيها بشيء لعدم ظهور أمرها فيهم، فلما ظهر أمرها بالفساد وفشا عاد مشائخ المذهبين إلى حرمتها، وأفتوا بوقوع طلاق من زال عقله بها، ونقل ابن عابدين في هذا الموضع عن تصحيح القدوري عن الجواهر: وفي هذا الزمان إذا سكر من البنج أو الأفيون يقع طلاقه زجرا وعليه الفتوى، وهذه النقول تصور(23/65)
ما كان من خلاف وسببه، وتبين أن الأمر بينهم انتهى إلى التحريم المطلق كما ذهب إليه ابن تيمية وصاحب الجوهرة والبزدوي وغيرهم ممن اتجه وجهة الحزم في مقاومة الفساد، والتشديد فيها دفعا للفساد، فما بالك في مثل هذا العصر وقد استشرى الداء وتضاعفت جهود المصلحين للمقاومة وحظره القانون والحاكم؟ إن ذلك كله لأكبر مؤكد لتحريم القليل والكثير، وإيقاع أقسى عقوبة على المتعاطي المهمل نفسه والمتهاون في أمره. وبالله التوفيق.(23/66)
فقه السنة
وأعني به ما ورد في بعض شروح السنة:
وقد استوعب هذا الموضوع استيعابا صالحا الشيخ أبو الطيب محمد شمس الحق من علماء القرن الرابع عشر الهجري في كتابه عون المعبود شرح سنن أبي داود - لأن حديث النهي عن المفتر لم يرد في غير السنن من الكتب الستة من سنن الإمام أحمد كذلك - وقد أوردنا فقرة منه في علاقة المخدرات بالخمر واعتبار بعض العلماء أن المخدرات مسكرة كما هو رأي القسطلاني، أو تدخل صاحبها في حد السكران كما قال الزركشي، جاء في هذا الكتاب تعليقا على حديث أم سلمة رضي الله عنها، «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن كل مسكر ومفتر (1) » . قال: قال الطيبي: لا يبعد أن يستدل به على تحريم البنج والشعثا ونحوهما مما يفتر ويزيل العقل؛ لأن العلة وهي إزالة العقل مطردة فيها، والواقع أن الطيبي خلط في مسلكه؛ لأن هذه الأشياء إذا كانت تفتر وتزيل العقل فما الداعي إلى الاستدلال بوجود العلة بل ذلك مدلول النص نفسه، وهو النص على منع المفتر على أن قوله لا يبعد تحفظ لا داعي له، ولعله لم يطلع على تصريح لغيره فكتب من اجتهاده ونظره وبالغ في التحفظ، ثم نقل الشارح عبارة ابن حجر الدالة على أن الحشيشة مسكرة، وقد سبق أن أشرنا إليها وأوردنا عبارة الحافظ في الفتح.
__________
(1) سنن أبو داود الأشربة (3686) ، مسند أحمد بن حنبل (6/309) .(23/66)
ومما أورده الشيخ محمد شمس الحق في هذا المقام أن الخطابي قال: في الحديث المفتر: كل شراب يورث الفتور والرخاوة في الأعضاء وهو مقدمة السكر نهى عن شربه؛ لئلا يكون ذريعة إلى السكر، ثم قال: وحكى القرافي وابن تيمية الإجماع على تحريم الحشيشة، وأن من استحلها كفر، وقال ابن تيمية: أول ما ظهرت في أواخر المائة السادسة من الهجرة حين ظهرت دولة التتار، وهي من أعظم المنكرات، وهي شر من الخمر من بعض الوجوه؛ لأنها تورث نشوة وطربا كالخمر ويصعب الطعام عليها أعظم من الخمر، وإنما لم يتكلم عليها الأئمة الأربعة؛ لأنها لم تكن في زمانهم، إلى أن يقول: والحافظ ابن القيم لا يرى السكران في الزعفران، وللأئمة الحنفية كلام على طريق آخر. فقال الشامي (يريد ابن عابدين) في رد المختار، وقال محمد: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) وهو نجس أيضا، قال الشامي: الظاهر أن هذا خاص بالأشربة المائعة دون الجامدة كالبنج والأفيون، فلا يحرم قليلها بل كثيرها المسكر، وبه صرح ابن حجر في التحفة وغيره، وهو مفهوم من كلام أئمتنا؛ لأنهم عدوها من الأدوية المباحة، وإن حرم السكر فيها بالاتفاق، ولم نر أحدا قال بنجاستها. ثم قال: والحاصل أنه لا يلزم من حرمة الكثير المسكر حرمة قليله ولا نجاسته مطلقا إلا في المائعات؛ لمعنى خاص بها أما الجامدات فلا يحرم منها إلا الكثير المسكر، ولا يلزم من حرمتها نجاسته كالسم القاتل؛ فإنه حرام مع أنه طاهر. . انتهى كلام الشامي.
ثم نقل الشيخ شمس الحق ما أورد صاحب الدر من حرمة أكل البنج والحشيش والأفيون؛ لأنه مفسد للعقل (1) ، وقد أطال النقول المختلفة في ذلك، وأوضح أنه لم يقل أحد في جميع المذاهب بحل ما يغيب العقل، وقال بعضهم بحل القليل الذي لا يفسد ولا يكون على سبيل اللهو والآفة، وقد ذكرنا أنه بعد ظهور الفساد حرم القليل والكثير باتفاق أهل المذهبين (2) كما سبق النقل، فما بالك لو رأوا
__________
(1) عون المعبود جـ 3 ص 323.
(2) الحنفي والشافعي جـ 3 ص 323.(23/67)
الفساد والاضطراب الديني والخلقي والعقلي في هذا العصر؟ ومما يضيفه صاحب عون المعبود نقلا عن الشامي: أن زهر القطن قوى التفريح يبلغ الإسكار كما في التذكرة (يريد تذكرة داود الأنطاكي في الطب القديم) فهذا كله ونظائره يحرم استعمال القدر المسكر منه دون القليل. قال ومثله (بل هو أولى) (البرش) وهو شيء مركب من البنج والأفيون وغيرهما، ذكر في التذكرة أن إدمانه يفسد البدن والعقل ويسقط الشهوتين (يريد الطعام والوقاع) ويفسد اللون وينقص القوى وينهك، وقد وقع به الآن ضرر كثير، وما أكثر ما ظهر في عصرنا من هذه المفسدات والمعاجين المختلفة التي أضاعت الأعمار وشوهت وجه الحياة نسأل الله العافية.
ثم قال صاحب عون المعبود: إذا عرفت هذه الأقاويل للعلماء فاعلم أن الزعفران والعنبر والمسك ليس فيها سكر أصلا ولا تفتير ولا تخدير. وأطال في الكلام على جوزة الطيب والبسباسة والعود الهندي بما خلاصته أن المحرم في هذه الأشياء هو القدر الزائد الذي يوقع في التخدير والتفتير؛ «لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن كل مفتر» ولم يقل أن ما أفتر كثيره فقليله حرام. وقد يقال: المفتر يقاس على المسكر في تحريم القليل من كل منهما سدا لباب الفساد في كل منهما، فإذا نهى عن قليل المسكر فهو نهي عن قليل المفتر بالقياس البين؛ لأن في كل منهما فتحا لباب الإكثار، وهو مخاطرة قبيحة لا يرضاها الشرع (1) ، ثم انتهى إلى الحكم على حديث النهي عن كل مسكر ومفتر الذي هو موضوع البحث بأن فيه شهر بن حوشب وفيه خلاف، والصحيح أنه يحتج به، قال الإمام المنذري: إن شهر بن حوشب وثقه أحمد وابن معين، وتكلم فيه بعضهم، والترمذي يصحح حديثه. وقال الشوكاني في بعض فتاواه: إن الحديث صالح للاحتجاج؛ لأن أبا داود سكت عنه، وقد ذكر عن نفسه أنه لا يسكت إلا عما هو صالح للاحتجاج به، وصرح بذلك جماعة من الحفاظ مثل ابن الصلاح وزين الدين العراقي والنووي وغيرهم. ثم قال: ما دام أحمد ويحيى
__________
(1) فمن شاء فليراجعه ص 223 إلى 242.(23/68)
ابن معين قد وثقا شهرا وهما إماما الجرح والتعديل وهما ما اجتمعا على توثيق رجل إلا كان ثقة، فأقل أحوال هذا الحديث أن يكون حسنا، وقد رأيت احتجاج الحافظ شيخ الإسلام ابن تيمية به على تحريم الحشيشة على فرض أنها غير مسكرة، والله ولي التوفيق.(23/69)
دراسات حديثة تؤيد وجهة نظر فقهاء الإسلام
بعد أن انتهينا من عرض موجز من المعلومات الإسلامية والأحكام الفقهية في موضوع المخدرات فإنه يجدر بنا أن نبين أن هذه المخدرات منكر يأباه العقل والذوق والمجتمع الصالح كما يأباه الشرع، وإذا كنا بصدد البحث عن وجهة نظر فقهاء الشريعة الإسلامية إلى المخدرات، فإن جانب المصلحة هو المطلوب المشترك والقدر الذي لا يختلف، وكلما تأكد وجه النظر في أمر منكر زادت بشاعته، وتجلت حكمة الشارع الحكيم في حظره على ما قرره الفقهاء من حكمه، وكم انتفع الفقهاء السابقون بأنظار الأطباء في عصورهم ورجعوا إليهم قبل البت في أحكامهم؛ لأنهم يجلون لهم وجه المصلحة أو المفسدة التي هي أساس التشريع الإسلامي، ولقد نقل الفقهاء كثيرا من أحكام الطب ووجوه الحكمة في الأمور، فكانت لهم نبراسا يضيء أمامهم طريق الحياة. وهذه الخبائث طالما قاومها المصلحون ورجال القانون وغيرهم ممن يعنيهم شأن الأمم فمن الخير أن ننتفع في بحثنا بما يؤكد لنا الأحكام الشرعية ويجعلها معقولة المعنى.
وأمامنا الآن كتاب يسمى ظاهرة تعاطي الحشيش للدكتور سعيد المغربي ممن كان لهم قدم صدق في التعرف على ما يتصل بهذه الشجرة الخبيثة على أنه يتعرض لما يشبهها في مفاسدها ويخصها بمزيد عناية لشيوع أمرها، ونرى أن نقتبس منه ما يأتي: -(23/69)
1 - جاء في مقدمة الكتاب أن الحشيش مما خلفه الاستعمار وأوضاعه بما تركه من آثار سيئة، وأن الحاجة الآن ملحة لإعادة المجتمع وتصفيته من تلك المشكلات الحادة المزمنة، ثم أشار إلى أن القانون المصري مهتم بهذه الجريمة اهتماما بالغا، وقد تدرج في تشديد العقوبة، وهذا دليل ظاهر على ظهور خطر هذه السموم وعلى أنها مشكلة صحية وسيكيلوجية، وأن بعض الباحثين يرى أنه يؤدي إلى حالة من الاضطراب العقلي، ثم قال إن متعاطي هذه الجريمة قواه معطلة عن العمل والانتاج؛ لأنها تستلزم السهر الذي يستنفذ جهدا وطاقة، وأنها توجد طبقة من المجرمين شأنهم الاعتداء والعدوان؛ لأنهم فارغون ومحتاجون ومتحيلون.
2 - يبين أنه له آثارا ضارة طبيعية فيه كالدوار في أوله، والشعور بالاسترخاء والنوم العميق، والهبوط العام للجهاز المركزي، وحرمان الجهاز الهضمي من الكميات المطلوبة للجسم نفسه كاللعاب والعصارات الهضمية، ثم التصلب في الشرايين، ويصحب ذلك الضعف الجسمي، وقلة الرغبة في إرضاء الطرف الآخر.
3 - تناول بعض الأمراض النفسية والاجتماعية، ومنها أنه إذا اقترب موعد التعاطي تنتاب المدمن أعراض تشتد تدريجيا، وهي توتر وشعور بقلق شديد وانقباض وهبوط عصبي لا يستقر المدمن معه، ثم بين أن معظم المدمنين على وعي تام بآثار مدمرة لهم صحيا ونفسيا لدرجة أن بعضهم يحاول العلاج تلقائيا أو بمعونة الطبيب، وأنهم أحيانا يكونون في حالة بكاء تشل الجسد عن الحركة حين تجيء النوبة إلى أن يتعاطى الحشيش.
4 - من بين نتائج الدراسة أن الحشيش يسبب حالة من المرح والتهيج مع اعتقاد متعاطيه أنه قادر على كل شيء فضلا عن اتجاهه إلى(23/70)
اختراع أفكار وهمية، وأنه يؤدي إلى ارتكاب الجريمة؛ لأن شخصيته غير مستقرة، ويصير ذلك به إلى التشرد والسرقة والخوف والجبن، ثم يكون الهجوم والعدوان، وقد كانت له ضحايا كثيرة من مرضى العقول والمجانين.
5 - يقول الدكتور (وولف) وهو عضو في لجنة المخدرات بهيئة الصحة العالمية: إن الحشيش يعمل على تجسيم المشاعر والانفعالات، وأن أكثر المتعاطين تتأثر تخيلاتهم وتتضخم إلى أقصى درجة، وهنا يكون العدوان. ويقول باحث يوناني: إنه تأكد لديه الدور الواضح الذي يلعبه الحشيش كباعث للجريمة حتى أصبحت كلمة حشاش في اليونان ترادف كلمة (مجرم) .
6 - جاء في بعض مواضع البحث أن أخطر ما فيه حوادث السيارات؛ لأنه يقرب البعيد في النظر ويبعد القريب أحيانا فتقع الحادثة ولا يشعر السائق.
7 - وفي بعض فقراته إجابة من موظف صغير عن سؤال وجه إليه بشأن الأفيون يقوله فيها: إن الأفيون داء فظيع إذا تملك من صاحبه كان في عداد الأموات، فهو يرخي الأعصاب، ولا يتمكن صاحبه من أداء أي عمل إلا إذا تعاطاه، ويكون دائما ذليلا في تهيج وتذلل حتى في شرائه للمخدر، ويتألم إذا لم يتعاطاه حتى يشعر بارتخاء في أعصابه ودمع في عينيه واضطراب في نظره والتهاب في أنفه.
8 - أورد في بعض الملاحظات بالنسبة للأعراض البدنية لمتعاطي الحشيش أمرين:
(1) انخفاض في مستوى الصحة ويتبعه الانخفاض بمستوى الكفاءة البدنية والنفسية والعقلية مما يؤثر على حياته في جوانبه المختلفة.
(2) اختلال التوازن واضطراب الحواس ثم الكسل والتراخي، ثم ينقل عن(23/71)
بيزل أن الفحوص الطبية دلت على أن المدمنين يصابون بهبوط في جميع وظائف الأعضاء البدنية والعصبية مع فقدان الشهية، ويقول (كوبروكوبر) : إنهم يصابون بوضوح بالتهاب الملتحمة، ولا يفارقهم ذلك حتى بعد الإقلاع، ويجمع الباحثون على ذلك.
9 - يقول في فقرات أخرى: إنه يؤدي إلى اضطراب وأمراض بالجهاز التنفسي ومسالكه، وأهمها الربو والتهاب الشعب وأطال في تعليل ذلك.
10 - ثم يقول: إن الرأي القائل بأن الحشيش يثير الرغبة الجنسية ويطيل أمد المتعة على جانب كبير من الخطورة؛ لأنه يعتمد على الأوهام والشائعات ويدعو إلى انتشاره دون جدوى، والدراسات العملية تكاد تجمع على ذلك، ومن ادعى ذلك من الباحثين لا يفرق بين الرغبة الجنسية وبين الحيوية.
وما أكثر الفوائد القيمة في هذا الكتاب التي تستقى منه الاحصاءات المطردة المتواصلة، ولا سبيل لنا هنا إلى الاستقصاء، وإنما سبيلنا أن نربط بين العلم والدين بالرباط الحكيم المبين، وما أعظم قول الله عز وجل في هذه المناسبة {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (1)
وفي نهاية هذه الدراسة القيمة للدكتور سعيد المغربي يقول: تبين من هذا كله أن القانون لم يحل المشكلة، وليس هو بالناحية الأساسية، فالاعتماد عليه خطر، فالحق أن علاجها من وجهة النظر النفسية والاجتماعية بالرجوع إلى حالة سلوك واقعية، ثم يجيء القانون من بين الحواجز المثبطة، وتلخيص الحل في التغيير الجوهري للعناصر التي يعيش فيها الفرد بحيث تهيئ له الفرص التي تشبع فيه حاجاته في ظل التكامل الصادق الذي يشعر الشخص بالتفاؤل والنجاح، ويا حبذا لو قال الباحث: إن الدين أكبر مصلح ومهذب
__________
(1) سورة فصلت الآية 53(23/72)
وموجه للوعي إلى كل خير ورشاد، فهل يعود الإنسان إلى دينه الذي بعث الله به النبيين هدى ورحمة، اللهم حقق ذلك لعبادك الضالين، واهدنا الصراط المستقيم يا رب العالمين.(23/73)
الدخان
إنه لا يسع العاقل المنصف إلا أن يلحق الدخان بالمخدرات ويجعله في عدادها؛ لأن فيه من التفتير ما فيه، وقد يكون في بعض الظروف أشد منها ضررا وفتكا، وفي الحق أننا ما رأينا شيئا اضطربت فيه آراء الناس واختلفت أقوالهم مثل هذا الدخان الخداع، الجاني على العقل والبدن والمال، ولولا استهانة الناس بأمره لقالوا فيه قولا صارما يرد الناس إلى الحق، ويردعهم عن التمادي في الشر، ومهما يكن فإننا ننقل بعض ما في الكتب الفقهية من آراء العلماء قديما وحديثا.
(1) مذهب الحنفية: قال أبو السعود في فتح المعين (1) عبارات تمثل الاختلاف بين العلماء في أمره ولا تروي غليلا في شأنه قال: إنه مما ظهر أخيرا وإن صاحب الدر الشيخ الحصكفي الحنفي حكى عن شيخه الغزي الشافعي أنه حرام؛ لأنه مفتر، «وقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن كل مسكر ومفتر (2) » ، وليس من الكبائر شربه المرة والمرتين، ومع نهي ولي الأمر عنه حرام قطعا. اهـ.
وفي الأشباه والنظائر (لابن نجيم الفقيه الحنفي) أن حكمه الإباحة بناء على قاعدة " الأصل في الأشياء الإباحة " وقد قال في الدر إلى أنه
__________
(1) ج 3 ص 425.
(2) سنن أبو داود الأشربة (3686) ، مسند أحمد بن حنبل (6/309) .(23/73)
مباح بدليل قوله، وقد كرهه شيخنا العمادي إلحاقا له بالثوم والبصل. اهـ.
ونلاحظ أن الاستدلال ضعيف؛ لأن كون الأصل في الأشياء الإباحة الذي استدل به ابن نجيم إنما يصح إذا لم نجد دليلا غيرها، وقد وجد الدليل الذي استدل به الشيخ الغزي وغيره، وهو حديث أحمد وأبي داود «نهى - صلى الله عليه وسلم- عن كل مسكر ومفتر (1) » ، ولا خلاف في أن الدخان مفتر كما يعلم بالمشاهدة إن لم نقل إنه مسكر كما ذهب إليه بعض المعاصرين، وأما استدلال أبي السعود بقول صاحب الدر وكرهه شيخنا إلحاقا له بالثوم والبصل فإنه ضعيف؛ لأن الملحق بالمكروه ليس مباحا، وإنما يكون مكروها مثله، والله سبحانه طيب لا يقبل إلا طيبا، ومع ذلك فقياسه على الثوم والبصل قياس مع الفارق المؤثر؛ لأنه مضر بالبدن ورائحته كريهة، والثوم والبصل لا يضران بالبدن وإنما كرها لرائحتهما فقط، فاكتفى فيهما بالأمر بالعزلة عن المساجد ونحوها.
(2) مذهب المالكية: يقول مفتي المالكية في عصره الشيخ محمد بن علي بن حسين في كتابه (تهذيب الفروق) المطبوع بهامش الفروق: أول ما ظهرت العشبة المعروفة بالتنباك والتتن والدخان ودخان طابه في أوائل القرن الحادي عشر كما في ابن حمدون، ثم نقل عن حاشية ابن حمدون على مختصر ميارة على ابن عاشر: إن استعمال القدر المؤثر في العقل منه حرام اتفاقا كما في شرح الإرشاد وغيره، وأما القدر غير المؤثر فأطبق المغاربة وأكثر المشارقة كالشيخ سالم السنهوري وتلميذه الشيخ اللقاني وغيرهما على تحريمه، وألف في ذلك الشيخ محمد بن عبد الكريم تأليفا في عدة كراريس مشتملا على أجوبة وسماه (محدود السنان في نحور إخوان الدخان) ، ثم قال وفي العمليات القاسية: -
وحرموا طابا للاستعمال وللتجارة على المنوال
__________
(1) سنن أبو داود الأشربة (3686) ، مسند أحمد بن حنبل (6/309) .(23/74)
وعلة التحريم أنها تورث خدرا فتشارك أولية الخمر في نشوته، قال الشيخ القادري في أجوبته: وكفى حديث أم سلمة حجة على حرمته. وقيل: إنها تسكر في ابتداء تعاطيها إسكارا سريعا، ثم لا يزال ينقص حتى لا يحس شاربه لكنه يحدث نشوة أحسن من السكر (كذا) ، وعلى هذا فهي نجسة ويحرم منها القليل كالكثير خشية الوقوع في التأثير أو أنه لا سكر ولا تفتير إلا إنها سرف وضرر ونجاسة؛ لكونها مثل الخمر، وأفتى جمع بالإباحة منهم الشيخ عبد الغني النابلسي وحجته أنه مما سكت عنه المولى في كتابه فهو عفو. اهـ.
وذكر حديث الترمذي وفيه: «وما سكت عنه من غير نسيان رحمة بكم فهو مما عفي عنه (1) » ، وهذا واضح الضعف كما ترى؛ فإن كثيرا مما سكت عنه بعينه ظهر بعد عصر النبوة بل بعد قرون طويلة، وعرف حكمه من قواعد الشرع العامة، والاستدلال بذلك كاستدلال ابن نجيم بالأصل في الأشياء وكأنه مأخوذ منه.
ثم قال مفتي المالكية: وقد ألف الشيخ الأجهوري تأليفا أسماه (البيان بحل ما لا يغيب العقل من الدخان) ما حاصله أن الفتور الذي يحصل لمبتدى شربه ليس من تغيب العقل، فليس من المسكر مطلقا؛ لأن السكر مع نشوة وطرب حينئذ فيجوز استعمالها لمن لا تغيب عقله، وهذا يختلف باختلاف الأمزجة والقلة والكثرة.
ثم قال ابن حمدون تعقيبا: وهذا الكلام مبني على أن المفتر يحرم، والتحقيق أنه حرام كما دل عليه حديث أم سلمة. انتهى كلام ابن حمدون باختصار. وحاصله أنه اختلف في كون هذه العشبة من المسكرات مطلقا فيكون نجسا موجبا للحد مع حرمة قليله وكثيره، أو هو من المفترات كالحشيشة بحيث يشارك أولية الخمر في نشوته فيحرم استعمال القدر المؤثر في العقل، وفي حرمة استعمال ما لا يؤثر في العقل خشية الوقوع في التأثير للغالب وقوعه بأدنى شيء منها قال بعضهم بذلك، وإن حفظ العقول من
__________
(1) سنن الترمذي اللباس (1726) ، سنن ابن ماجه الأطعمة (3367) .(23/75)
الكليات الخمس المجمع عليها عند أهل الملل، وقال: بعضهم بإباحة القليل؛ لأن العلة تدور مع المعلول وقيل: إنه ليس من المخدرات ولا من المسكرات مطلقا. واختار ابن حمدون من هذه الأقوال أنه من المفترات مطلقا، وأنه يحرم استعمال قليلها وكثيرها لحديث أم سلمة، ثم اختار مفتي المالكية ما في حاشية المجموع للأمير من أن هذه العشبة في ذاتها مباحة يعرض لها حكم ما يترتب عليها وكثرتها لهو.
ثم نقل عن اللكنوي أن هناك اختلافين أحدهما في الحرمة والإباحة، والثاني في الكراهة وعدمها، ثم قال اللكنوي: إن الحق في جانب الذاهبين إلى الكراهة؛ لوجود الشبه بأهل النار والأشرار، ولأنه يحدث الرائحة الكريهة، ونقل ذلك عن اللقاني صاحب الجوهرة وقال: إنه لا يقاس على القهوة كما ذهب إليه بعضهم لشبهة أهل الغواية، ثم نقل عن اللكنوي أنه وجد في تنقيح الفتاوى الحامدية لابن عابدين ما نصه:
(مسألة) : أفتى أئمة أعلام بتحريم شرب الدخان المشهور. وذكر كلاما طويلا يتعلق بالأصول انتهى منه إلى أنه إن ثبت في هذا الدخان أضرار وصرف عن المنافع فيجوز الإفتاء بتحريمه، وإلا فالأصل الحل مع أن الإفتاء به دفع لحرج عن المسلمين. إلى أن قال: فإثبات حرمته أمر عسير لا يكاد يوجد له نظير، نعم لو أضر ببعض الطبائع فهو عليه حرام أو نفع ببعض وقصد للتداوي فهو مرغوب، ثم نقل مفتي المالكية في تهذيب الفروق نقلا عن اللكنوي: ولا يبعد أن يقال: يمنع من يعتاد كثرة شرب الدخان كما يمنع آكل البصل والثوم من دخول المسجد؛ لوجود الرائحة الكريهة التي تتأذى بها الملائكة، ثم قال في شأن من يمنع شرب الدخان: إن من شروط إنكار المنكر أن يكون مجمعا على تحريمه، ولا يخلو من سفسطة؛ لأن ذلك يغلق باب التوجيه أو النصيحة، ولا سيما إذا كان الحق واضحا في جانب أحد المختلفين.(23/76)