المستوى الخارجي؟ ونحن نعلم تشابك الاقتصاد القومي مع الاقتصاد العالمي وحاجة كل دولة إسلامية إلى التعامل الخارجي وحاجة الكثير منها إلى التمويل الخارجي وحاجة البعض فيها إلى توظيف أموالها في الخارج. وهذه حاجات لا تستقيم أحوال الأمة الإسلامية دون الاعتراف بها وأخذها في الحسبان. فكيف نشبع تلك الحاجة في ظل البديل الإسلامي؟ أنا لا أدعي أن الإجابة هنا -من قبل الباحث- جاهزة بوضوح وتفصيل وفي نفس الوقت لا أدعي أنها غير جاهزة على مستوى البحث الفكري الإسلامي عامة. فبالتأكيد هناك دراسات وأبحاث حول هذا الموضوع وللتأكيد أيضا هناك إمكانيات متزايدة لتطوير هذه الدراسات وتحسين هذه الإجابات. وأعتقد أن هذا يحتاج بحثا مستقلا. ولكن ذلك لا يستدعي توقف كل شيء إلى أن يتم كل شيء. فدعونا نؤمن إيمانا كاملا بصلاحية البديل الإسلامي لتحقيق المصلحة الداخلية للمجتمع بكافة أفراده. ودعونا نمارس عملية تغيير الواقع الداخلي نحو هذا البديل شريطة أن نمنحه الدعم الكافي على كل المستويات ونحرص بكل ثقلنا على نجاحه. ولو حدث هذا في المجال الداخلي فإننا نهيئ الجو بطريقة فعالة لاستخدامه في المجال الخارجي بالإضافة إلى الجهود التي تبذل بجد وإخلا0ص نحو تطوير أساليب فعالة لاستخدامه في الخارج.
وهنا نقطة أحب أن أشير إليها وهي أن غيرنا من الأم والمجتمعات قد حرصوا كل الحرص على تطبيق وإنجاز واستخدام ما اعتنقوه من أنظمة وأساليب رغم شدة المفارقة وصعوبة العقبات وكثرة التحذيرات والتخويفات ومع ذلك ما تراجعوا. والأمثلة جد صارخة منها أسلوب التخطيط ونظام الملكية الجماعية ونظام التعاونيات بل ونظام السوق ونظام الملكية الخاصة. . الخ فما بالنا نحن نضعف أمام كل عقبة وإن(18/204)
هانت وكل تخوف وإن كان وهما ونجري نتسول الأنظمة والأساليب من هنا وهناك رغم ما فيها على عقيدتنا وشريعتنا وأخلاقنا واقتصادنا.
إن الحقيقة الدامغة التي لا جدال فيها أن درجة إيماننا بالبديل الإسلامي من حيث الصحة والفعالية لم ترق بعد كي تصل إلى الحدود الدنيا المقبولة، وإذا كان ذلك في حد ذاته مؤسفا ومحزنا فإن الأكثر مدعاة للأسف والأسى أن ذلك الموقف السلبي لم يرتكز على أي مستند حقيقي بل إما الانبهار بالنظام القائم والنظر إليه على أنه خير ما يمكن أن يكون أو أنه الجهل أو العداء لكل ما هو مستمد من الإسلام وإن كان فيه ما فيه من المصلحة الحقيقة. أو هو اللمز والغمز والتشكيك المستمر حول تجربة المصارف الإسلامية المعاصرة. إن الموقف الصحيح الذي ينبغي أن تحرص عليه المجتمعات الناهضة هو الدراسة الجادة المستمرة لكل ما يمكن أن تستفيد من قيمها وعقائدها من تنظيمات وأساليب. ولا شك أن الوضع الأمثل في مسألتنا هذه هو قصر التطبيق والاستخدام على البديل الإسلامي على الأقل لكونه لا يتعارض مع العقيدة والشريعة ثم العمل المستمر على تطويره وتحسينه، فإذا لم يكن هذا الوضع الأمثل فالوضع الأقل درجة هو أن يعامل البديل الإسلامي معاملة مفضلة ويمنح الدعم السياسي الكافي كي يأخذ فرصته لإثبات وجوده فإذا لم يكن ذلك فإن الوضع الأقل درجة وهو أقل وضع يمكن قبوله شرعا بصفة مرحلية هو أن يمنح البديل الإسلامي فرصة متكافئة بجوار البديل الوضعي ولنترك لهما العمل بحرية وبلا قيود وعرقلات ثم لنرصد النتائج لكن للأسف الشديد- وتلك حقيقة، وإن كان فيها ما فيها من المرارة والمكاسفة في الوقت نفسه أن غالبية دول العالم الإسلامي لم ترق في موقفها من البديل الإسلامي بعد إلى الوضع الأدنى خاصة على المستوى(18/205)
الرسمي، بل نجد إما الحظر الكامل أو الموافقة الشكلية المحضة كل ذلك تذرعا بالخوف على الاقتصاد القومي وعلى انهياره لكن الحقيقة المرة وراء ذلك ببعيد.
ولنفرض أن في التجربة المصرفية الإسلامية المعاصرة ما فيها من الملاحظات والثغرات فهل بناء على ذلك ترفض التجربة كلية ويطرد البديل الإسلامي أم تعالج وتقوم وتطور؟ وهل قامت إحدى الدول بمثل تلك الدراسات الجادة وعمل التطوير السليم وأعطت ذلك ما يستحقه من جهد وعناية؟ وهل نجد من أجهزة الإعلام والتوعية توجها صادقا حقيقيا نحو هذا البديل؟
وهل هناك أعمال جادة من قبل الجامعات ومراكز البحث العلمي حيال هذا البديل وتلك التجربة؟ وإذا كان هناك مثل ذلك فهل وجد الأذن الصاغية من قبل المسؤولين؟ وهل من الصواب أن يغلق الباب أمام الموضوع إلى أن يكتمل وينضج؟ وإذا فعلت ذلك كل دولة إسلامية فأين يتم ذلك؟ إن الصدق مع النفس مطلوب في كل شأن من شؤوننا وعلينا أن نتحراه وإن رأينا فيه الهلاك فإن فيه النجاة.
هذا تعليق سريع على البديل الإسلامي وإلى أي مدى يمكنه أن يلبي مصلحة الأمة الإسلامية.
نعود إلى خلاصة الباحث فقد بقي فيه نقطتان:
الأولى: هي القيمة المالية للزمن في النشاط الاقتصادي، وقد ذكرها الكاتب مدعما بها وجهة نظره وبالتأكيد فإن ما قدمه في هذا الصدد يحسب عليه ولا يحسب له، وإضافة هذه الفقرة زادت الكلام وهنا على وهن. ذلك أنه باتفاق العلماء فإن للزمن قيمة مالية معتدا بها شرعا في النشاط الاقتصادي، فالثمن المؤجل يمكن شرعا أن يكون أكبر من(18/206)
الحال والثمن في السلم يمكن أن يكون أقل من الثمن في غيره، الإسلام لم يعتد بأي قيمة مالية للزمن في مجالات أخرى من أهمها الدين والقرض ففيه خمسة حالة تساوي تماما خمسة مؤجلة، وكيلوجرام حال يعادل كيلو قمح مؤجلا تماما بتمام. ومعنى ذلك أننا نحتكم للإسلام في الاعتداد بالقيمة المالية للزمن من عدمه. وكم كان حريا بالأخ الكاتب أن يدرك أن القرض بزيادة هو إعمال للقيمة المالية للزمن، فهل الشرع بذلك؟ ولو تأمل الكاتب الأقوال العديدة التي نقلها في الصدد عن الفقهاء لاتضح له أنهم قالوها في معرض تحريم الربا في معرض تجويزه وإباحته. وإلا لجاز شرعا بيع خمسة بستة مؤجلا التساوي في القيمة المالية بين خمسة حالة وستة مؤجلة لكن ذلك بنص الحديث الشريف، وهناك دراسات حديثة توضح تلك المسألة على حقيقتها (1) .
الثانية: وهي النقطة الأخيرة في بحث الأخ الكاتب وتتعلق بتقلب وتدهور قيمة النقود بفعل التضخم المستمر. ويخلص من ذلك إلى أنه من العدل إباحة الفائدة قائلا: "ولذلك لا يستطيع أحد الآن أن القيمة العددية للنقود معبرة عن قدرة اقتصادية أو قوة شرائية يتعين المدين أن يردها كاملة، ولذلك فإن المهلة الممنوحة للمدين في القرض لم تفوت على الدائن مكسبه فحسب بل إن هذه المهلة بل إن هذه المهلة تسبب له خسارة مالية بسب نقص القوة الشرائية لديه، ومن ثم فهناك توازن ضار بالدائن الأمر الذي نستخلص منه ضرورة الترخيص بالقرض بفائدة لأنه من العدل والإنصاف أن يشترك الدائن والمدين معا في احتمالات التقلبات النقدية وذلك بأن يتحمل الدائن نقص قيمة النقود،
__________
(1) من ذلك كتاب تمويل التنمية في الاقتصاد الإسلامي لكاتب هذه الورقة نشر مؤسسة الرسالة.(18/207)
والمدين بأن يدفع الفوائد وبذلك تتحقق أهداف الفائدة العامة خارج نطاق أي تحريم ".
أما أن قيمة النقود تتعرض للتقلب الدائم فهذا ما لا شك فيه لأنه حقيقة قائمة، لكن علاج ذلك من خلال الفائدة غير صحيح شرعا واقتصادا. وهناك أبحاث متخصصة في ذلك يمكن للكاتب الرجوع إليها وهل يجادل الأخ الكاتب بأن الفائدة ذاتها هي أحد العوامل الأساسية وراء هذا التقلب المستمر في قيمة النقود؟ وكنا نود من الكاتب أن يعمل فكره ليجد لنا علاجا ناجعا لهذه المشكلة صحيحا شرعا بدلا من القول باستخدام أداة مجمع على حرمتها وضررها الاقتصادي أبلغ من نفعها إن كان لها نفع. ثم إن الترخيص هو تشريع، ومن الذي يملكه هل أنا أو هو أو أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالاعتماد القوي الواضح على نص شرعي وإذا كان من يملكه لم يفعله فهل الشريعة جاءت لعصر دون عصر؟ ويختم الكاتب كلامه بالتوجه بالدعوة الملحة لأهل الخبرة والرأي والإفتاء للتعاون من أجل الوصول إلى إجماع في الرأي حول الأعمال المصرفية. ونحن نضم صوتنا لصوته لكنا نذكر الكاتب بالقرار الذي اتخذه مجمع البحوث الإسلامية بتحريم الفائدة على الدين بالإجماع، وكذلك بالعديد من الفتاوى التي صدرت عن الرئاسة العامة للإفتاء بهذا الشأن.
وبعد فهذا تعقيب أو رد على ما قدمه الكاتب ويمكن إجمال هذا كله في كلمة؛ لقد تصور الباحث أن الربا المحرم قطعيا فقط هو ربا الجاهلية المذكور في القرآن الكريم وليت الأمر وقف عند هذا الحد بل(18/208)
قد استند إلى مقدمات واهية في تحديده لربا الجاهلية؛ لقد حدده بزيادة طارئة لمدين محتاج للصدقة. ومعنى ذلك أن الزيادة الأصلية ليست محرمة لأنها ليست من ربا الجاهلية وهو بذلك يخرج قسما كبيرا من ربا الجاهلية أو ربا النسيئة من نطاق الحرمة، كذاك فإنه يقيده بما إذا كان المدين أقل غنى من الدائن وأنه تجوز عليه الصدقة وأي صورة لا تحقق ذلك لا تدخل في نطاق ربا الجاهلية وهكذا فهو لم يقصر الربا المحرم على ربا النسيئة حسب بل قصر الحرمة على بعض صور ربا النسيئة. وقد ثبت لنا كل ذلك غير صحيح، كما ثبت أيضا أن الإيداع المصرفي الذي هو باعتراف خبرائه من باب القرض هو صورة طبق الأصل من صور ربا الجاهلية وقد أجمع العلماء بكافتهم على حرمة الزيادة المشترطة على الدين أو القرض بغض النظر عن كون القرض لغرض إنتاجي أو استهلاكي وعن كون المدين أكثر غنى أو أقل غنى من الدائن.
وفي النهاية يهمني أن أؤكد أنني ما قصدت بذلك تعريضا أو سوء ظن بالكاتب أو بغيره بل كل القصد أن أسهم بما لدى من معرفة ضئيلة في هذا الموضوع عسى أن يكون فيها ولو بعض الصواب فينتفع بها الناس في دنياهم وأخراهم.
وإنني أهيب بالأخ الكريم أن يتقي الله تعالى فينا وفي عمله ووظيفته وبدلا من هذا الجهد الذي أقل ما يمكن أن يوصف بأنه جهد ضائع. ومضيع لمجهود الغير بدلا من ذلك نهيب به أن يبذل جهدا فعالا ومؤثرا في إبراز مساوئ الفائدة بأسلوب تحليلي ثم في تطوير الأسلوب البديل الذي يحقق أعلى فعالية اقتصادية في إطار من الشريعة الإسلامية. والله تعالى نسأل أن يهدينا جميعا سواء السبيل.
شوقي أحمد دنيا(18/209)
من أفذاذنا العلماء الشيخ محمد بن إبراهيم(18/209)
صفحة فارغة(18/210)
للشيخ \ عبد الله بن سليمان المنيع
لا شك أن لمعرفة التاريخ ورجال التاريخ فوائد وثمار لا يدركها تمام الإدراك إلا من عرف كيف يبتدئ مما انتهى إليه الناس ليأخذ من التجارب ومن العبر والعظات أنفع درس وأعلى تربية وحينما نروم في هذا البحث الحديث عن فذ من أفذاذنا ورجل من رجال العلم والتقى والصلاح ورحابة الأفق ذلكم هو شيخ الجيل الحاضر من العلماء وباعث النهضة العلمية في علوم الشريعة وعلوم اللغة وعلوم الاجتماع مجدد القرن الرابع عشر الهجري سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله رحمة واسعة وغفر له مغفرة تنتهي به إلى جنات عدن أعلى عليين، حينما نروم الحديث عن حياة سماحته وجوانب كفاحه في سبيل المساهمة في إرساء قواعد الشريعة الإسلامية ونشر علومها وتكثيف أهلها من عالمين ومتعلمين فإنما نحاول إعطاء هذا البحر من العلوم وهذا الجبل في الثبات وهذا المجاهد الصابر في سبيل مصلحة هذه البلاد ما يعتبر جزء من الاعتراف بفضله ومساعيه المشكورة في كل أعماله العلمية والقضائية والتعليمية والإصلاحات الاجتماعية وأن نذكر سيرته لنشئ جديد يتفيأ الآن ظلال أعماله ومساعيه ولنذكر أبناءه وأحفاده وتلاميذه بسيرته العطرة لعل في هذا التذكير ما يحفز الهمم إلى اقتفاء أثره في العلم والعمل.(18/211)
فمن هو الشيخ محمد بن إبراهيم:
هو سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن المصلح المجدد والمجاهد في الله حق جهاده الشيخ الجليل محمد بن عبد الوهاب ينتهي نسبه إلى مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
فهو عالم من عالم من عالم وفقيه من فقيه من فقيه وزعيم من زعيم من زعيم توارث آباؤه وأجداده الصدارة في العلم والوجاهة والقيادة والاعتبار فأبوه الشيخ إبراهيم قاضي منطقة الرياض له مكانته الاجتماعية في أهلها وعند حكامها وجده الشيخ عبد اللطيف يقصر البيان عن وصفه علما وجهادا ومرجعا وجده الشيخ عبد الرحمن لا يستطيع قلم من لم يعاصره أن يعطيه حقه في سعة العلم ورجاحة العقل ورفعة المكانة أما أخواله وأجداده من جهة الأم فهم أسرة الهلالات من أرقى بيوت عرقة وجاهة ومكانة واعتبارا.
وأستميح سماحة أخي وصديقي الزميل الكريم الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام لأقتبس من ترجمته لشيخنا محمد ما يتعلق بنشأته العلمية وتعلمه وتعليمه ومشائخه وطلابه مع إضافة ما أراه تكميلا أو تصحيحا بصفتي عملت مع سماحته رحمه الله قرابة اثنتي عشرة سنة في دار الإفتاء بالرياض.
ولد في مدينة الرياض في اليوم السابع عشر من شهر محرم سنة إحدى عشرة وثلاثمائة وألف من الهجرة. وكان مولده في بيت علم وفضل وزعامة دينية فنشأ على عادة أهله وآبائه محبا للعلم طموحا إلى الفضل وكان والده العلامة الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف يومئذ هو قاضي مدينة الرياض.(18/212)
فهو من أكابر علماء نجد ومشاهيرهم فاحتذى الابن سنة أبيه فمن حين بلغ السابعة من عمره شرع يتعلم القرآن الكريم في كتاب للمقرئ عبد الرحمن بن مفيريج فأتم قراءته وإجادته ثم شرع في حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب فما بلغ الحادية عشرة حتى أتمه حفظا.
ثم شرع في طلب العلم فأخذ في القراءة على أبيه وعلى عمه علامة نجد في زمنه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف وقراءته الأولى في التوحيد وأصول العقيدة قراءة حفظ وتفهم ثم قرأ مختصرات كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبمختصرات كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم كالواسطية والحموية وكذلك عني بمختصرات النحو والفرائض كالأجرومية والرحبية.
وكف بصره وهو في الرابعة عشرة من عمره (1) فصبر واحتسب ولم يثن عزمه وتصميمه في طلب العلم فقد زاد هيامه في تحصيله وقضى أيام حياته في إدراكه فشرع في القراءة على علماء الرياض زيادة على القراءة على عمه وأبيه فشرع في قراءة التفسير والحديث وأصولهما على الشيخ سعد بن عتيق وفي النحو وعلوم العربية على الشيخ حمد بن فارس وفي المطولات من كتب الفرائض على الشيخ عبد الله بن راشد بن جلعود فأدرك في كل هذه العلوم إدراكا جيدا -وذكر لنا رحمه الله أن من مشايخه الشيخ عبد الله بن عمار -.
وتوفى والده عام 1329 هـ فصار لإخوته الصغار كالأب في الحنو والشفقة وجعل من أخيه الشيخ عبد اللطيف مرافقا له في الذهاب والإياب ومعينا له في تحضير المسائل وإعداد الدروس فاستفاد كل منهما من أخيه، ولم يزل على حاله في الاشتغال بالعلم وصرف جميع أوقاته
__________
(1) الصحيح أن بصره كف وهو في السابعة عشرة من عمره حيث حدثنا سماحته عن نفسه بذلك.(18/213)
في تحصيله حتى أدرك في زمن قصير ما لم يدركه الكبار في الزمن الطويل وصار عين تلاميذ عمه العلامة الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف.
ولما مرض عمه وثقل عليه المرض دل جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود على ابن أخيه المترجم له وأشار له إلى علمه وعقله وبعد نظره وحسن إدراكه فلما توفى الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف كان المترجم له قد بلغ أشده وارتقت مداركه واتسعت معلوماته وعلا ذكره وذاع صيته فخلف عمه في الزعامة الدينية والرياسة العلمية وتولى ما كان يقوم به عمه من التدريس والإفتاء وإمامة الجامع والخطابة والتصدر في مجالس العلم فالتف حوله الطلاب وشرعوا في القراءة عليه والاستفادة منه، كما أن جلالة الملك عبد العزيز -رحمه الله- رأى فيه الكفاية والسداد ليكون مستشارا شرعيا له في تولية المضاء وإبداء الرأي في الأمور الشرعية، ولقد كان من أكبر المساهمين في دحض شبه غلاة البادية فرد شبههم وأبطل حججهم وبين طريق الحق والرشاد. ولقد قام بهذه الوظائف الدينية والعلمية أحسن قيام وأتمه لا سيما الدروس، فإنه شغل جل وقته في تعليمه وتلقينه لطلابه على اختلاف مراتبهم وتباعد درجاتهم. فكان يجلس في مسجد الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف الذي هو في حي دخنة بعد صلاة الصبح لصغار الطلاب فيدرسون عليه مبادئ النحو في الأجرومية ثم يأتي بعده المتوسطون في العمر ثم يأتي بعدهم الكبار بالألفية وكل واحد من هذه الطوائف الثلاث يعطيه ما يناسبه من المسائل والبحث والدرس.
فإذا انتهت دروس النحو شرع في دروس الفقه فأخذ الطلاب يقرءون عليه -مختصر المقنع- عن ظهر قلب ثم يشرع في شرحه وبيان معانيه ثم يعيدون الدرس بعد شرحه بقراءة أحدهم واستماع الباقين وهو(18/214)
يقاطع القارئ بشرح جمله وتعليل أحكامه وإلحاق فائدة لما هو عليه من سعة في الفقه وجودة استحضار وغزارة مادة فلا ينتهون من هذه القراءة لا وقد أشبع رغبات الطلاب بما أزاح من الإشكالات وأوضح من المعاني وصور من المسائل وزاد من الفوائد. وبعد انتهائهم من درس الفقه يشرعون في درس الحديث والكتاب المفضل لديه لتدريس أصحابه هو كتاب -بلوغ المرام- لمطابقته لكتب الأحكام وسيره معها فهو دليلها ومستند أحكامها ومستند تفريعها فيوضح ألفاظه ويبين أحكامه ويبرز فوائده.
وكل ما تقدم من دروس النحو ودروس الفقه ودروس الحديث في جلسة واحدة من جلساته والتلاميذ على حلقته الكبيرة ما بين وارد وصادر وهو في مجلسه كالنبع الصافي والمورد العذب الذي لا ينضب على كثرة الواردين وازدحام الناهلين. ثم يذهب إلى بيته فيلبث فيه بقدر ما يفرغ من حاجاته الضرورية ثم يعود إلى مجلسه في المسجد فيأتيه كبار الطلاب ويشرعون بالقراءة عليه بالكتب الكبار والمراجع الضخام ثم يعود إلى بيته ويستريح فيه حتى تحين صلاة الظهر، وبعد الفراغ من الصلاة يقام الدرس بحضور كبار التلاميذ وصغارهم بأحد الأمهات الست. وبعد الفراغ منها يقرأ عليه الطلاب في كتب العقيدة ككتب شيخ الإسلام ابن تيمية وكتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكتب غيرهما في عقائد السلف ويستمر الدرس حتى صلاة العصر وبعد الصلاة إلى قرب المغرب وهو في جلسة واحدة لاستقبال الطلاب فوجا بعد الآخر وهم ما بين كتب التوحيد أو الحديث أو الفقه أو النحو وبعد صلاة المغرب يخصص وقته لعلم الفرائض، فإذا قرب العشاء شرع في درس عام فقرأ عليه قارئ تفسير ابن كثير وهو يعلق على التفسير والآيات(18/215)
الكريمات بما يرى الحاجة تدعو إلى ذكره وإلحاقه حتى الساعة الثانية والنصف ليلا بالتوقيت الغروبي. وهكذا قد فرغ كل أوقاته وصرف جميع حالاته في خدمة العلم وتحصيله ونشره.
ومن هذا الإقبال العظيم على العلم والانصراف إلى مراجعته وتدريس وسماع هذه الكتب النافعة والأسفار المفيدة تدرك السر في سعة علمه وكثرة تحصيله ومدى اطلاعه فإنه لبث على هذه الحال منذ توفى عمه عام 1339 حتى عام 1382 هـ حينما أسندت إليه كبار الأعمال وتعددت مسؤولياته وكثرت مشاغله. كما أن هذه الهمة الكبيرة في العلم والرغبة الملحة في نشره وتعليمه صار لها أثر كبير في حياته فقد نبغ على يديه كبار العلماء وتخرجت عليه أفواج لا تحصى من طلاب العلم. والذين نعرفهم من تلاميذه الكبار النابهين هم:
أ- الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة (1) .
2 - الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رئيس الإشراف الديني بالمسجد الحرام (2) .
3 - الشيخ عبد الرحمن بن قاسم صاحب المؤلفات وجامع فتاوى"شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
4 - الشيخ عبد الله بن محمد القرعاوي الداعية الإسلامية في جنوب المملكة العربية السعودية. رحمه الله.
5 - الشيخ عبد العزيز بن ناصر بن رشيد رئيس هيئة التميز (3) .
__________
(1) ثم الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة الإرشاد أمد الله في عمره.
(2) ثم رئيس المجلس الأعلى للقضاء إلى أن توفي رحمه الله.
(3) بالرياض سابقا(18/216)
6 - الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ رئيس المعاهد والكليات. رحمه الله.
7 - الشيخ عبد الملك بن إبراهيم آل الشيخ رئيس هيئات الأمر بالمعروف بالحجاز وهما أخوان. رحمهما الله.
8 - الشيخ عبد العزيز بن محمد آل الشيخ رئيس المعاهد والكليات بعد عمه (1) .
9 - الشيخ إبراهيم بن محمد آل الشيخ رئيس الدعوة والإرشاد والإفتاء والبحوث (2) وهما ابناه.
10 - الشيخ سليمان بن عبيد رئيس المحكمة الكبرى بمكة المكرمة (3) .
11 - الشيخ عبد الله بن دهيش رئيس المحكمة الكبرى بمكة سابقا. رحمه الله.
12 - الشيخ عبد الله بن سليمان المسعري رئيس ديوان المظالم (4) .
13 - الشيخ محمد بن هليل عضو ديوان المظالم (5) .
14 - الشيخ حمد الجاسر صاحب المؤلفات ومؤسس دار اليمامة للطباعة والنشر.
15 - الشيخ عبد الله بن يوسف بن وابل قاضي محكمة أبها سابقا رحمه الله.
16 - الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن حسن آل الشيخ وزير المعارف سابقا.
__________
(1) ثم الرئيس العام لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمملكة.
(2) ثم وزير العدل
(3) ثم الرئيس العام للحرمين الشريفين.
(4) سابقا.
(5) سابقا رحمه الله.(18/217)
17 - الشيخ حمد بن محمد بن فريان وكيل وزارة العدل.
18 - الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن فريان الواعظ المشهور (1) .
19 - الشيخ راشد بن صالح بن خنين. المستشار بالديوان الملكي.
20 - الشيخ زيد بن فياض. المدرس بكلية أصول الدين.
21 - الشيخ سعود بن رشود رئيس محكمة الرياض سابقا رحمه الله.
22 - الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ رحمه الله.
23 - الشيخ عبد الرحمن بن فارس. القاضي بمحكمة التمييز بالرياض وممن درس على سماحته في حلقات الدرس:
وأضيف إلى من ذكرهم الشيخ عبد الله من يلي:
أ- الأمير مساعد بن عبد الرحمن. رحمه الله.
2 - الشيخ محمد البواردي. رحمه الله.
3 - عبد الله بن محمد أبو بطين. رحمه الله.
4 - عبد العزيز أبو عباة. رحمه الله.
وممن تتلمذ على سماحته في ميدان العمل:
1 - الشيخ عبد الله بن عقيل.
2 - الشيخ محمد بن عوده (2) .
3 - الشيخ عمر المترك. رحمه الله.
4 - الشيخ عبد الملك بن عمر (3) .
5 - الشيخ عبد الله بن غديان (4) .
6 - الشيخ صالح بن لحيدان (5) .
__________
(1) ورئيس جماعة تحفيظ القرآن الكريم بالرياض.
(2) الرئيس العام لتعليم البنات.
(3) عضو إفتاء.
(4) عضو إفتاء.
(5) رئيس المجلس الأعلى للقضاء.(18/218)
7 - كاتب هذه الترجمة عبد الله بن سليمان بن منيع - ولي إجازة وشهادة من سماحته أورد نصها فيما يلي:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد فبناءا على رغبة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع في مواصلة دراسته في أحد المعاهد العالية للتخصص في الفقه الإسلامي وحيث إن شهادته الجامعية من كلية اللغة العربية ويخشى ألا تكون كافية لتبرير التحاقه بما يرغبه في أحد المعاهد العالية، وحيث إن اختيارنا قد وقع عليه ضمن من اخترنا لعضوية دار الإفتاء وقد كان التحاقه حتى بها عضوا في مستهل عام 1378 هـ وقد كان منذ تعيينه عضوا في الإفتاء حتى الآن وهو يقوم بتحضير البحوث الشرعية في العقائد والعبادات والمعاملات والجنايات والأقارير وغيرها "ويعد بها الفتاوى اللازمة تحت إشرافنا وتوجيهنا وقد اكتسب بحكم عمله هذا تحصيلا علميا في القضايا الشرعية يفوق ما يتحصل عليه حاملو الشهادات العالية من كلية الشريعة وفضلا عن هذا فإن في منهاجي كليتي الشريعة واللغة العربية تقاربا يعطي حملة شهادة كلية اللغة العربية التحصيل الشرعي المقارب لما يتحصل عليه حملة شهادة كلية الشريعة " لهذا كان منا تعيين بعض المبرزين من كلية اللغة العربية في مناصب قضائية " وبناءا على ما ذكر واستجابة لرغبة الشيخ المذكور إعطاءه شهادة منا بأن تحصيله الشرعي الآن في الفقه الإسلامي وأصوله يفوق ما يتحصل عليه حملة شهادة كلية الشريعة ولتكون هذه الشهادة مسوغا له في دخول ما يختاره من المعاهد العالية " فقد جرى منا تحرير هذه الشهادة قال ذلك وأملاه الفقير إلى ربه محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف مفتى الديار السعودية ورئيس قضاتها. وصلى الله على محمد واله وصحبه وسلم.
1 \ 6 \ 1384
الختم
محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف(18/219)
وغير هؤلاء كثير ممن لا أستطيع الحصول على أسمائهم لأن المذكور هو شيخ الوقت ومرجع العلماء ومقصد الطلاب فقد تجشموا الأسفار الطويلة للأخذ عنه والاستفادة- اهـ منه.(18/220)
أعماله: بعد وفاة الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف رحمه الله عام 1339 هـ انتقلت الزعامة الدينية إلى سماحة شيخنا الشيخ محمد رحمه الله إلا أن عمله الرسمي حتى اكتمال توحيد المملكة العربية السعودية لم يتجاوز الاستشارة فيمن يصلح قاضيا أو إماما في جامع لحاضرة أو بادية مع تقديم الفتوى فيما يرغب الملك عبد العزيز رحمه الله في الاستفتاء فيه أو الاستشارة فيه مما له علاقة بالشؤون الدينية فانصرف رحمه الله إلى التعليم والتدريس شاغلا كل أوقاته بذلك ثم توسعت دائرة استشارته رحمه الله من الملك عبد العزيز حتى وكل إليه أمر اختبار القضاة وتكليفهم بالقضاء وتولى أمور تنقلاتهم وشؤون أعمالهم وذلك فيما يتعلق بالقضاء في المنطقتين المنطقة الوسطى والمنطقة الشرقية وقد كان رحمه الله يتبادل مع الملك عبد العزيز رحمه الله الشعور بضرورة العمل على إيجاد معهد علمي يتخرج فيه من يختار للقضاء نظرا لتطور الوسائل التعليمية بعد انتشار المدارس الابتدائية والثانوية ونشأة أول كلية علمية للشريعة في مكة المكرمة. ثم انتهى تبادل الرأي وتداوله بين الملك عبد العزيز وسماحة شيخنا إلى الأمر بافتتاح معهد علمي في الرياض يختار للدراسة فيه مجموعة من طلاب العلم ومنهم طلاب شيخنا في جامعه في دخنة ويختار للتدريس فيه مجموعة من كبار العلماء داخل المملكة وخارجها ووكل أمر رئاسة هذا المعهد إلى سماحته ثم توسعت الدائرة العلمية فافتتحت مجموعة من المعاهد الفرعية لهذا العهد في مجموعة من مدن المملكة ثم افتتحت كلية الشريعة ثم تلتها كلية اللغة العربية وصار(18/220)
رحمه الله يولي هذا النوع من التعليم من جهده ونشاطه الشيء الكثير، مما جعل هذه المؤسسة العلمية من أنفع المؤسسات العلمية للدولة فلقد أمنت لها القضاة والمدرسين والإداريين والمستشارين والعلماء المبرزين في ميادين العلوم الشرعية حيث انتشرت التحقيقات والمؤلفات العلمية ورأى رحمه الله بثاقب بصره أن القضاء في حاجة إلى المزيد من التركيز والتأهيل فاستصدر أمر ولي الأمر بافتتاح معهد عال للقضاء لتخريج القضاة فافتتح وآتى أكله. ثم رأى رحمه الله أن التوعية الإسلامية وتبصير الناس أمور دينهم ودنياهم ليس محصورا في المؤسسات التعليمية ولا في الدراسات التقليدية وإنما للصحافة سهم وافر في الإسهام في ذلك فاستصدر رحمه الله أمرا من ولي الأمر بإيجاد مؤسسة صحفية إسلامية تصدر عنها مجلة أسبوعية تأخذ دورها في التوجيه والبيان والإيضاح والرد على ما فيه مخالفة لمقتضيات شرعية في الاعتقاد والعمل على تأسيس هذه المؤسسة وأسند مجلس إدارتها إلى مجموعة من أهل العلم والصلاح والوجاهة فصدر عن هذه المؤسسة مجلة باسم الدعوة ولا تزال هذه المؤسسة تزاول عملها بإصدار مجلة الدعوة كل أسبوع وقد تلاشى أمل الكثير ممن كانوا يعقدون عليها أهمية كبرى في تضلعها برسالتها التي كان يريدها لها سماحة منشئها حيث مضى عليها أكثر من عشرين عاما ونتائجها محدودة وأعمالها تقصر دون الأمل منها. وغني عن البيان القول أن المعهد العلمي الذي قام بتأسيسه سماحة شيخنا وتطور في عهده تطورا تفرع عنه العديد من المعاهد العلمية وصار تمهيدا لتأسيس كليات علمية تستمد قوتها من هذه المعاهد غني عن البيان أن هذه المؤسسة العلمية قد تحولت الآن إلى جامعة قوية ذات كيان ذائع الصيت في المحافل العلمية العالمية هي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.(18/221)
على أن هذا لا يعني اقتصار سماحته رحمه الله على هذا الصنف من الرئاسة العلمية فقد أسند لسماحته رحمه الله الإشراف العام على الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة والإشراف العام على تعليم البنات في عموم المملكة فكان لتوجيهاته وترتيباته الأثر الجلي في تمكن هذا النوع من التعليم لا سيما ما يتعلق بتعليم البنات فقد استطاع رحمه الله أن يتوصل إلى طريقة فريدة رائدة في مجال تعليم النساء تعليما لا يترتب عليه اختلاط لا في الهيئة التعليمية نفسها ولا بين الهيئة التعليمية والقيادة العامة للتعليم.
وفي المجال القضائي فقد أسند أمر القضاء إداريا في المنطقتين الوسطى والشرقية إلى سماحته وفي آخر العقد السابع للقرن الرابع عشر الهجري وبعد وفاة الشيخ عبد الله بن حسن رحمه الله توحدت الإدارة القضائية في المملكة تحت رئاسة سماحته.
وفي العام الخامس والسبعين بعد الثلاثمائة والألف تأسست دار الإفتاء في الرياض وأسندت رئاستها لسماحته فصار رحمه الله بذلك رئيس القضاة ومفتى الديار السعودية فرتب رئاسة القضاة ترتيبا إداريا استطاعت به الهيمنة على شؤون القضاة تعيينا ونقلا وإعفاء وغير ذلك من المستلزمات المالية لاستمرارية العطاء القضائي. وعين مجلسا للقضاء برئاسة سماحته شغله مجموعة من العلماء هم أصحاب المعالي محمد بن عودة وراشد بن خنين وعمر بن مترك رحمه الله ورتب الإفتاء ترتيبا إداريا استطاعت به أن تقوم بالشؤون الموكولة إليها من حيث الإفتاء ومراقبة المطبوعات وتعيين الأئمة والمؤذنين. وعين مجلسا. للإفتاء شغله مجموعة من المشائخ هم عبد الله بن عقيل وعبد الله بن منيع، وعبد الملك بن عمر، وعبد الله بن غديان. واستصدر أمرا بتأسيس مكتبة عامة تم تأسيسها تحت اسم المكتبة السعودية وربطت إداريا وماليا بدار الإفتاء(18/222)
استمرت على فتح أبوابها لطلبة العلم صباحا ومساء. وأسند إلى سماحته أمر إعادة النظر في القضايا المنتهية بأحكام من القضاة جرى تمييز محكمة التمييز في مكة المكرمة أو محكمة التمييز في الرياض أو جرى خلاف بين القضاة أنفسهم والتمييز. فأمر بتخصيص رئاسة القضاة بالقضايا المختصة بمنطقتي الوسطى والشرقية وبتخصيص الإفتاء بالقضايا المختصة بالمنطقة الغربية فكان عمله رحمه الله في هذه القضايا في عموم عمل محكمة تمييز عليا تشبه الآن عمل المجلس الأعلى للقضاء بهيئته واستمر الوضع على هذا المنوال حتى انتقل إلى رحمة الله فتشكلت هيئة علمية قضائية تقوم بالنظر فيما كان سماحته يقوم به، وكاتب هذه أحد أعضائها. ثم بعد تأسيس وزارة العدل تحولت الهيئة العلمية هيئة قضائية عليا تزاول الأعمال القضائية العليا التي كان سماحة مختصا بنظرها.(18/223)
عمله اليومي: تقدم أنه كان رحمه الله شاغلا كل وقته بالتدريس في جامعه وفي بيته وبعد أن تراكمت على سماحته الأعمال الإدارية من علمية وفتوى وإشراف عام على الشؤون الدينية حالت تلك الأعمال عما كان يقوم به من التعليم فتفرغ لها تفرغا كاملا وبصفتي أحد المقربين لدى سماحته في العمل معه في الإفتاء فلدي خبرة تامة بعمله اليومي:
يقوم من نومه قبل الفجر بما شاء الله ثم يصلي تهجدا ما شاء الله له ذلك يتلو في تهجده ما يتيسر له من كتاب الله تعالى حتى يؤتى ثم يصلي الفجر إماما في مسجده القريب من بيته في دخنة ثم "صلاة الفجر في بيته لمن يأخذ منه موعدا من أعضاء الإفتاء وأعضاء الرئاسة لعرض ما لديه من قضايا وأخذ توجهه نحوها ويستمر ذلك معه(18/223)
حتى الساعة الواحدة صباحا بالتوقيت الغروبى ثم يأتي دور مدير مكتبه الخاص ليعرض عليه من الأمور السرية ما يتيسر له عرضه. وبمناسبة الحديث عن مكتب سماحته الخاص فهو شبيه بمركز القيادة العامة التي تصدر عيها كل التوجيهات لقطاعات أعمال سماحته في المجالات العلمية والقضائية والشؤون الدينية والإفتاء وغير ذلك من الأمور السرية المختصة بأجناس المجتمع.
بعد انتهاء دور مدير مكتبه الخاص يغادر مكتبه إلى داخل بيته ليستريح قليلا ويتناول فطوره ثم يذهب إلى الإفتاء إن كان هذا اليوم من أيامها أو يذهب إلى رئاسة القضاة إن كان من أيامها حيث قسم سماحته أيام الأسبوع بين الإفتاء ورئاسة القضاة لكل واحدة منهما ثلاثة أيام في الأسبوع متغايرة يوم في الإفتاء ويوم في الرئاسة وبعد صلاة الظهر يجلس مجلسا خاصا لمن أخذ منه موعدا من القضاة لعرض ما لديه من إشكال في عمله من حيث مكانه في العمل أو ما يعترضه من إشكال قضائي فيما ينظره في قضائه أو من حيث رغبته في الانتقال أو التقاعد أو غير ذلك مما يلجأ إليه بعد الله في حل إشكاله. وقد يشترك في هذا المجلس عندي سماحته غير القضاة أشخاص من أسر ذات مكانة خاصة لا تريد الإسهام في حل مشاكلها والإشراف عليها من غير سماحته. يمكث في مجلسه هذا ما بين الساعة والساعتين تبعا لعدد من يتفق معهم على هذا الموعد ثم يتغدى ويستريح قليلا وبعد أدائه صلاة العصر يكون قد أعطى موعدا لواحد من أعضاء الإفتاء أو الرئاسة لعرض ما لديه من معاملات قضائية للنظر فيما صدر فيها من أحكام قضائية من المحاكم ثم من التمييز مما يرغب المقام السامي من سماحته التأكد من صحة الإجراءات القضائية التي صدرت بخصوصها فيستمر معه ذلك العضو حتى قبيل آذان المغرب.(18/224)
يكون ذلك في بيت سماحته وقد يكون في مزرعة سماحته في عرقة. ولسماحته بعد صلاة المغرب مجلس عام يحضره كل من يريد السلام على سماحته أو الاتفاق معه على موعد خاص لعرض مشكلته لديه. لهذا المجلس من العموم ما له من حيث أجناس الناس وأصناف الأحاديث حديث في الأخبار العامة، حديث في الأحوال الجوية، حديث عن مسألة فقهية يجري طرحها للاسترشاد من سماحته عن حكمها حديث عن أحوال المجتمع من حيث التعليم أو الصحة أو المرافق العامة أو القبائل العربية وتسلسل أنسابها يستمر هذا المجلس العام حتى آذان العشاء ثم يذهب إلى المسجد ليستمع إلى قراءة تفسير ابن جرير تنتهي في الغالب بتعليق من سماحته على الدرس ثم تقام الصلاة. وبعد صلاة العشاء يختصر سماحته مع مدير مكتبه الخاص لعرض ما لديه من أعمال سرية وعامة يجري بعدها التوجيه من سماحته ببعثها لجهات اختصاصها من المؤسسات التابعة لسماحته ثم بعد ذلك يأتي موعد أحد أعضاء الرئاسة أو الإفتاء مع سماحته لعرض ما لديه من معاملات قضائية يجري التوجيه عليها بما يراه سماحته بواسطة ذلك العضو وذلك لختمها تمهيدا لبعثها للجهة التي جاءت منها ثم ينهض سماحته إلى داخل البيت لتناول ما يتيسر له من عشاء ثم ينام وهكذا يسير برنامجه مغايرا وبهذا يتضح أن سماحته رحمه الله كان يقضي ما لا يقل عن سبع عشرة ساعة كلها في خدمة المسلمين وبصفة دائمة ومستمرة لا تقطعها إجازة ولا يحول دون القيام بها أي تعلل من تعللات الآخرين فرحمه الله رحمة واسعة وأجزل له من الثواب والجزاء ما يؤهله لأعلى عليين.(18/225)
ومادام الحديث عن عمله وأعماله فقد يكون من لم شعث الحديث عن أعمال سماحته اختصار اختصاصاته فيما قبل عشر سنين من وفاته رحمه الله فيما يلي:
1 - رئيس القضاة في المملكة العربية السعودية.
2 - مفتي الديار السعودية.
3 - المشرف العام على الشئون الدينية فيما يتعلق بمراقبة المطبوعات وتعيين الأئمة والمؤذنين والإذن بإقامة الجمع في عموم البلاد.
4 - الرئيس العام للمعاهد العلمية والكليات.
5 - المشرف العام لتعليم البنات.
6 - المشرف العام على التعليم في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
7 - الرئيس العام لرابطة العالم الإسلامي.
8 - المستشار الخاص لجلالة الملك فيما يتعلق بالشئون الداخلية وشئون الأسرة.
9 - الإمام الأول للجامع الكبير في الرياض والإمام الراتب لجامعه في دخنة.
10 - المرجع النهائي للقضاء أي أن سماحته في مقام المجلس الأعلى للقضاء بهيئته الدائمة والعامة.
هذه أهم أعمال سماحته الرسمية.(18/226)
أخلاقه: كان رحمه الله راجح العقل واسع الأفق بعيد النظر كثير التأني في إعطاء قراره فيما يتطلبه الأمر منه. شجاعا في إبداء رأيه يقلب الأمر قبل قراره على أكثر من وجه، فإذا قرر مضى في قراره دون تردد أو تراجع يصدق عليه قول الشاعر:(18/226)
إذا هم ألقى بين عينيه عزمة ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
مهيبا هيبة لم يكن أصلها غطرسة أو تجبر وإنما هي مستمدة من الشعور العام عن سماحته بالقوة في جانب الحق مهما كانت الجهة التي لديها الحق، الضعيف عنده قوى حتى يأخذ له الحق والقوي ضعيف حتى يأخذ منه الحق لغيره. سمح النفس كثير التبسط مع تلاميذه وموظفيه المباشرين للعمل مع سماحته حاد الذكاء عميق الفهم كثير التروي والتأمل فيما يعرض عليه من أمر سواء كان ذلك استفتاء عن حكم شرعي أم استرشادا عن واقعة قضائية فضلا عن صلاحه وتقاه وقوة إيمانه بربه فبالرغم من انشغاله غالب وقته بأعمال المسلمين فهو تلاء لكتاب الله، دائم التهجد آخر الليل، إمام لمسجده الجامع في حي دخنة لم يعرف عنه أن تخلف في إمامته عن صلاة مكتوبة إلا إذا كان مسافرا أو مريضا. مكثت في العمل مع سماحته في الإفتاء ثلاثة عشر عاما كنت خلالها أشعر بأبوته الحانية وأفخر برئاسته الغالية وأعتبر عملي مع سماحته فترة دراسية مع أغلى شيخ أعتز بانتمائي إلى تلاميذه، فلقد درست عليه دراسة ميدانية عملية في أبواب العبادات والمعاملات والجنايات ومسائل القضاء والأقارير تشرفت فيها بالتحرير لسماحته فيما يصدر عنه من فتاوى وقرارات قضائية وكان لي مع سماحته رحمه الله جملة ذكريات أذكر منها ما يلي: أ- حينما نجتمع بسماحته في مكتبه في الإفتاء تعرض عليه بالتتابع ما لدى كل واحد منا من معاملات ثم التحرير عليها وكان يبدي ملاحظته إما من حيث الصياغة واللغة أو من حيث المعنى أو من حيث العدول عما تم التوجيه من سماحته بالتحرير عليها وكان رحمه الله يستشعر التضايق نسبيا من إعادة النظر في التحرير لتلافي(18/227)
ما يراه نقصا في المعنى أو المبنى فيقول يا عيالي: ألف قلبه ولا غلبه
ب- تعرض له الرغبة لاستذكار حكم شرعي لمسألة ما من مسائل العبادات أو المعاملات وقد تكون هذه المسألة، من المسائل البديهية الواضحة للأكثر فيطلب رحمه الله أكثر من كتاب يتحدث عن هذه المسألة فتقرأ عليه ثم يقول الآن تطيب النفس في القول فيها.
وقد سألته رحمه الله عن أن مثل هذه المسائل واضحة لا يحتاج الأمر إلى استذكارها من الكتاب فقال: يا عبد الله الأعمال شغلتنا عن بضاعتنا فلا بد لنا من فرص نرجع فيها إلى كلام أهل العلم استذكارا أو استزادة في العلم والفهم. أو استبيانا لما قد يخفى علينا. وليس علينا نقص في ذلك.
جـ- لقد ذكرت عن أخلاق سماحته أنه كان ذا عناية بالتأصيل والتقيد حتى في الأمور البسيطة. نقرأ على سماحته ما جرى تبييضه على الآلة الكاتبة مما جرى تحريره على معاملة ما فنجد كلمة جرى تكرار كتابتها فنسأله عما نشطب عليه من اللفظ المكرر مرتين فيقول اشطبوا الثانية فهي الزائدة ثم يقول: يا عيالي - هذه من الأمور السهلة إلا أن أخذ المرء نفسه على التأصيل والتقيد في التصرف في الأمور السهلة يعطيه القدرة على الأخذ بذلك في الأمور المهمة.
د- لقد ذكرت عن سماحته أنه ينظر إلينا نظرته إلى أولاده يكن لنا من المحبة والتقدير والعطف والشفقة الشيء الكثير أذكر مثالا لذلك. قمت بتأليف رسالة في نقل كلام أهل العلم عن حكم ذبح هدي التمتع والقرآن قبل يوم النحر وقام بالاعتراض عليها(18/228)
مجموعة من إخواني طلبة العلم حتى أنهم أكثروا اللوم على سماحته ببقائي في الإفتاء لدى سماحته ولامني رحمه الله لا على القول بما ذكره أهل العلم في هذه المسألة فهو قول قوي قال به مجموعة كبيرة من أهل العلم وهو مذهب الشافعي ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله وإنما للخروج على ما عرفه الناس وجرى العمل عشرات السنين ودفعوا به رحمه الله إلى أن يصدر فتوى يفند بطلان هذا القول، فأصدر فتوى بذلك لم يتعرض رحمه الله لشخصي بقليل ولا بكثير وحينما أحسست بما أكثر عليه به إخواني سامحهم الله بخصوصي تقدمت لسماحته وعن طريق فضيلة الشيخ صالح بن لحيدان بصفته سكرتيرا للإفتاء ومستشارا لسماحته بطلب الموافقة على انتقالي إلى أي جهة توافق على انتقالي إليها حماية لسماحته مما قد أظن سماحته واقعا فيه من إحراج عملي مع سماحته فاستدعاني رحمه الله في مجلس خاص وأبدى لي عدم ارتياحه لما صدر مني لا لخطئه وإنما لما فيه من التشويش وإتاحة الفرص للقيل والقال وبلبلة الأفكار.
وقال: يا ولدي لقد عرفت رغبتك في الانتقال وأن ذلك خشية أن يكون وجودك عندنا بدون رغبة منا وأنت تعرف أنك من أولادي والوالد يقسو على أولاده وقد يضطر لعقابهم بما يراه إلا أن ذلك لا يغير من الأبوة شيئا فأنت من أولادي غضبت عليك أو رضيت ولا تفكر في الانتقال عن عملنا مطلقا وتوكل على الله. رحمه الله رحمة واسعة وجزاه عني خاصة أفضل جزاء وأتمه.
هـ- لقد قلت في حديثي عن خلق سماحته أنه حاد الذكاء حدثنا سماحته(18/229)
عن نفسه فقال كنت في آخر العام الثاني من ولادتي فدخلت والدتي غرفة نومها فرأيتها تبحث عن شيء فظننت أن ذلك الشيء الذي تبحث عنه مكحلتها فأشرت إليها أن المكحلة في طاق الغرفة ففرحت بإشارتي وضمتني ضمة لا أزال أتذكرها حتى يومي هذا.
ولقد قلت في حديثي عن خلق سماحته أنه ثابت الرأي قوي العزيمة يتخلق بهذا ويحب أن يراه في الآخرين، خرجت مع سماحته قبيل أذان الظهر في يوم من الأيام من الإفتاء إلى بيته ويدي في يده فقال لي من أي قبيلة يا عبد الله فقلت من الحراقيص إحدى قبائل بني زيد القبيلة القضاعية القحطانية فقال ونعم هكذا نعرف ولكن سمعنا من آبائنا ومشائخنا أن بني زيد أشراف وأن زيدا نزح من الحجاز إلى نجد واستقر بشقراء وتفرع عنه من ينتسبون إليه الآن فقلت له يا سماحة الشيخ نحن لسنا في شك من نسبنا والناس مؤتمنون على أنسابهم ولا يعرف هذه المقالة أحد من بني زيد وهم مجمعون ومطمئنون على أنهم قبيلة قحطانية من قضاعة فقال بارك الله فيك يا ولدي يا زين الصلابة والثبات الأمر كما ذكرت وما يتردد في الثبات على أمر إلا من كان على غير أساس.
ز- قلت عن سماحته أنه كان ذا إيمان قوي بما يتجه أو يوجه إليه وذا عزيمة صارمة قوية لما يصير عليه أذكر مثالا لصلابته في الرأي وثباته. قام فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله بجمع ما تيسر له جمعه من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية واستصدر سماحة الشيخ رحمه الله أمرا من الملك سعود رحمه الله على طباعته على نفقته الخاصة وبعد تمام طبعه وتوزيعه قلت لسماحته: لا شك أن الشيخ عبد الرحمن ثقة ثبت أمين فيما ينقله عن شيخ(18/230)
الإسلام إلا أن توفر القناعة في أمانته وثقته وعدالته مقصورة على من يعرفونه ومن يعرفون من يعرفونه أما من يجهله وما أكثرهم في بلادنا وفي غير بلادنا من البلدان الإسلامية فقد يكون تردد في قبول النقل ما لم يعز إلى جهة الأخذ منه سواء كان ذلك من رسائل مشهورة أو من رسائل مخطوطة في مكتبة من المكتبات التي أخذ منها. ولم يعز رحمه الله شيئا من مجموعه فإذا ترون سماحتكم إصدار شهادة توثيق لسلامة ما نقله عن شيخ الإسلام منكم ومن الشيخين عبد الله بن حميد وعبد العزيز بن باز ليكون ذلك أدعى إلى القبول العام فلم يستصوب سماحته هذا الاقتراح ورده بقوله إن كان ما تريد نسختك فرجعها لنا والحمد لله بأن الأمر كما اطمأن إليه سماحته فلم يكن شيء مما كنت أتخوفه ولم يكن اقتراحي هذا مزعزعا عقيدته في هذا المجموع واعتباره من أنفس الأسفار.
ح- قلت عن سماحته بأنه يعاملنا معاملة الوالد مع أبنائه من حيث التبسط ورفع الاحتشام أذكر أنني أنا وأحمد بن قاسم مع سماحته بعد العصر في الطائف في منطقة الهدي لعرض ما لدي من معاملات على سماحته كالمتبع وفي رجوعنا وجه الكلام لأحمد بن قاسم فقال له يا أحمد أمك جاءت بولد ليس أخاك ولا أختك فمن هو فبهت أحمد من هذا وقال خلها في قبرها عفى الله عنك وبعد أن أتاح لنا فرصة التأمل قال هو أنت يا أحمد جاءت بك أمك فتنفس الصعداء وقال الحمد لله فرجت عني جزاك الله خيرا.
ط- كان رحمه الله يحب النكتة ويسترويها ويرويها فقد صار من بعض الزملاء أن اجتمع لديه اثنان من فراشي الإفتاء فذكرهما أن الصوم يصير في الصيف والشتاء وكذلك الحج وهكذا فإن السنة تستدير(18/231)
فإذا اجتمع الصوم مع الحج في إحدى السنين فمن منكما سيصوم ويترك الحج ومن سيحج ويقضي الصوم فقال أحدهما سأحج وأترك الصوم لأيام أخر وقال الآخر سأصوم وأترك الحج فذكرا لسماحته فاستدعاهما وأعيد السؤال عليهما فاحتج الأول على تركه الصوم بقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) واحتج الثاني بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (2) فضحك رحمه الله وقال: لقد بنيت هذه الدار على علم ومن رواية النكتة ما ذكره لنا أنه أبلغ الشيخ عبد الله بن عجيان رحمه الله قرار نقله من نجران إلى طريف فقال له أسألك يا سماحة الشيخ هل أمرك الملك بأن تحدد بي المملكة في قضائي.
ى- كان رحمه الله إيجابيا في تصرفاته ويحب الإيجابية في تصرفات الآخرين ذكر له في مكتبه في الإفتاء بحضورنا نحن أعضاء الإفتاء أن فلانا القاضي في محكمة كذا يكثر خطؤه في أحكامه وكان رحمه الله يعرفه ويعرف إيجابياته في الأحكام وذكر له كذلك أن فلانا من القضاة في نفس المحكمة خطؤه قليل فسأل رحمه الله عن أعمال هذا وأعمال هذا وهو يعرف ذلك فقيل له أن ما ينهيه الأول من أعمال في المحكمة يعادل نصف أعمال المحكمة وما ينهيه الثاني من أعمال قليلة جدا فقال الأول عندنا أنفع للمسلمين وأصلح وأولى بالتقدير.
ك- كان رحمه الله جازما عازما إذا هم بأمر قضاؤه عند ولي الأمر كتب بخصوصه رغبته ومراده في خطاب طواه بجيبه ثم نادى سائق سيارته واتجه إلى قصر جلالة الملك أو مكتبه فلم يرجع إلا وقد أجيبت دعوته ولبيت رغبته وكان رحمه الله لا يطلب شيئا لنفسه
__________
(1) سورة البقرة الآية 184
(2) سورة البقرة الآية 185(18/232)
وإنما طلباته خاصة بأعماله الرسمية.
ل- كان رحمه الله يحب الحديث بالرموز مع من يعرف معه ذلك أذكر مثالا لهذا فقد كنا في إحدى جلساتنا مع سماحته في مكتبه في الإفتاء وبعد مرور وقت من العمل انتابه شيء من النعاس فأراد فضيلة الشيخ عبد الله بن عقيل أن يساعده على طرد النعاس فأعطاه حلاوة علك مغلفة بغلافها الورقي فعلكها رحمه الله ثم بعد ذلك قال: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا} (1) {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} (2) ففهمها فضيلة الشيخ عبد الله بن عقيل وناوله ورقة العلك المغلف بها سابقا فوضعها فيها وأعطاها الشيخ عبد الله فوضعها في الزبالة فغبطت الشيخ عبد الله على هذا الفهم من الشيخ.
__________
(1) سورة المرسلات الآية 25
(2) سورة المرسلات الآية 26(18/233)
مكانته العلمية: لا شك أن سماحته رحمه الله ذو علم واسع وفقه دقيق يتحدث في التفسير فنشهد له أنه من علمائه الأفذاذ ويتحدث عن أصول الاعتقاد فلا نشك أنه من رجاله المبرزين أما الفقه فهو فقيه زمانه يشهد لما أقوله ما قام بجمعه عن سماحته فضيلة الشيخ محمد بن قاسم من ملفات الإفتاء ورئاسة القضاة والمكتب الخاص وتقريرات سماحته في دروسه المختلفة في جامعه وفي بيته العامر. كان رحمه الله يتمسك بالمذهب إلا أنه غير متعصب له وقد يخرج أحيانا عن مشهوره إلى صحيحه أو إلى إحدى الروايات عن الإمام أحمد وفي فتاواه رحمه الله ما يدل على ذلك. يرغب الإطلاع إلى حكم مسألة فلا يكتفي من ذلك بكتاب واحد بل لا بد له من مجموعة من الكتب التي تتحدث عن المسألة نفسها حتى إذا تم له قراءة ما أراد أملى رأيه في هذه المسألة بما يعتبر جمعا لأطراف القول فيها بعد تحريره محل الوفاق ومحل النزاع فيها فيختار فيها قولا يذكر مستند(18/233)
المصير إليه ومسوغ القول به أذكر على سبيل المثال رأيه في التسعير وكلامه في تحريف أهل الكتاب التوراة والإنجيل وسلامة كتاب الله القرآن من ذلك حيث توليت ذلك مع سماحته.
وكان رحمه الله ذا علم معتبر في علوم التاريخ والأنساب والفلك وفي علوم اللغة العربية من نحو وصرف ومعان وبيان وبديع وكان ذا ذوق رفيع في إدراك غرر القصائد العربية والقدرة على تحليلها والغوص على دقائق معانيها، يقول الشعر بلا تكلف تحدث عن نفسه رحمه الله أمامنا فقال: لو أردت لما تحدثت إلا بالشعر إلا أنه يرى في الشعر ما رآه الشافعي فيه حيث يقول الشافعي:
ولولا الشعر بالعلماء يزري ... لكنت اليوم أشعر من لبيد(18/234)
قناعته وعفافه:
يظن بعض الناس أن سماحته رحمه الله ذو ثراء يتفق مع مكانته الاجتماعية ومقامه الرفيع لدى ولاة الأمر ولا شك أن هذا الظن غير صحيح فلقد كان رحمه الله عفيفا قنوعا مترفعا عن أسباب الرضوخ والخضوع يصدق عليه قول الشاعر:
خلقت عيوفا لا أرى لابن حرة ... علي يدا أغضي لها حين يغضب
ولهذا كان رحمه الله قويا حتى مع الولاة مهيبا حتى عند الولاة. أعرف عن سماحته رحمه الله أنه لا يتقاضى راتبا شهريا إلا من رئاسة القضاة منذ تأسيسها بالرغم من أن له عملا منتظما في الإفتاء وله إشراف مستمر على التعليم في المعاهد والكليات والجامعة الإسلامية وتعليم البنات وأنه لا يتقاضى لقاء عمله فيها شيئا لا لأنه لا يستحق فلكل عمل أجره ولكنه رحمه الله محتسب أجره عند الله مكتف بما يقوم بشؤون حياته من أجرة بعض عمله.(18/234)
تعامله مع القضاة وطلبة العلم: الواقع أنه رحمه الله يعتبر أبا حنونا لطلبة العلم عامة وللقضاة خاصة فهو رحمه الله لا يفتر المطالبة بما يصلح أحوالهم ويسد حاجاتهم ويرفع شأنهم اجتماعيا وماديا كما ارتفع شأنهم علميا كما أنه رحمه الله يقف معهم ضد كل من يتناولهم بتجريح أو تهوين يتحدث دائما أمام العموم والخصوص بعلو مكانة القاضي وأنه العين البصيرة واليد الطويلة في دائرة اختصاصه القضائي ويكثر اللوم والتقريع على من يتناول أحدهم بسوء ولا يعنى هذا أنه رحمه الله يرى القضاة جنسا معصوما من الخطأ ولكنه رحمه الله لا يظهرهم أمام العموم إلا بمظهر الهيبة والتقدير والاحترام ويكون له مع القضاة مجالس خاصة حضرت بعضها يتناقش مع القاضي في أسباب الشكاية منه ويوجهه التوجيه الأبوي ويبصره بمهمة القاضي في البلاد من حيث الحرص على إنهاء الخصومات وإيصال الحقوق لأصحابها والترفع عن المصالح الشخصية من الأهالي والقضاء على أسباب الشغب والفتن في البلاد، فكان رحمه الله نعم الأب ونعم المربي ونعم الموجه ونعم الرئيس وكان لتوجيهاته في نفوس أبنائه القضاة الموقع الحسن من حيث السمع والطاعة والقبول.
لقد سمعت أحدهم يقول لسماحته بعد إبلاغه قرار نقله إلى مكان أبدى عدم رغبته في قبوله فأصر الشيخ على ضرورة قبوله ذلك قال والله يا شيخ لو عزمت علي بالقضاء في مكان وعينته وهو من أكثر الأمكنة مشقة - لما وسعني غير الاستجابة لأمرك وهذا القاضي مثال لكل القضاة إلا من ندر لم نسمع في حياته رحمه الله من أحيل من قضائه على التقاعد لفقده الثقة القضائية فلقد كان عينا بصيرة ومرجعا مهيبا فضلا عن بذله الأسباب المتعددة في اختياره القضاة قبل التعيين.(18/235)
أعرف أنه رحمه الله كان يضع نظره على من يراه صالحا للقضاء وهو لا يزال في المرحلة الثانوية في الدراسة في المعاهد العلمية وتستمر مراقبته لسلوك من يضع نظره عليه حتى إتمامه الدراسة الجامعية ثم يقرر نحو تعيينه في القضاء ما يراه طبقا لنتيجة مراقبته إياه.(18/236)
آثاره العلمية: لا شك أن سماحته رحمه الله عالما كبيرا وفقيها مبرزا وأنه رحمه الله أمضى ما لا يقل عن أربعين عاما في التدريس في جامعه وفي بيته وأن لسماحته رحمه الله مجموعة من التلاميذ هم اليوم كبار علماء هذه البلاد وفقهاؤها ومن يقرأ تقريرات سماحته في دروسه على طلابه مما نقل بعضها فضيلة الشيخ محمد بن قاسم في مجموع فتاوى سماحته يدرك حقيقة ما نقوله عن سماحته في ذلك إذ هي تقريرات بالرغم من أنها تصدر بلا مهلة في التأمل وتكرار النظر إلا أنها تدل على تمكن وسعة باع أما فتاواه وملاحظاته القضائية والفقهية فهي محل تقدير واعتبار من طلبة العلم ولقد أحسن معالي ابنه البار الشيخ إبراهيم بن محمد في الأمر بجمع فتاوى سماحته ومتابعة ذلك حتى خرجت بشكل أعطى القناعة التامة في أن شيخنا رحمه الله من أئمة الدعوة فقها ودعوة وجهادا بقلمه ولسانه. وذلك تنفيذا لأمر جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله.
لم يكن من سماحته رغبة في التأليف قد يكون سبب ذلك انشغاله بأعماله وبالرغم من ذلك فله رسائل صغيرة في زكاة العروض وفي حكم الدخان والقات ومعالجة غلاء المهور وغيرها وقد ضمت هذه الرسائل في مجموع فتاواه.
لقد كان رحمه الله شديد الحرص على ألا يخرج لسماحته إلا ما تطيب به نفسه وما أقل ما ترضاه نفسه العالية. لقد رأيته في منامي(18/236)
بعد وفاته بشهرين فقال لي يا عبد الله: أظن أن هناك رغبة في جمع ما صدر منا من فتاوى وملاحظات قضائية وتعرف أننا ما نعيد النظر فيما كتبناه بالأمس إلا ونجد ملاحظة منا سواء كانت غلطة مطبعية أم عبارة جرى السهو فيها ولكن قل لإبراهيم لا يصدر الفتاوى إلا مراجعة منكم بصفتكم أكثر معرفة بها. وبلغت معالي الشيخ إبراهيم تلك الرؤيا في وقتها.(18/237)
أبناؤه وإخوانه:
لسماحته رحمه الله ثلاثة إخوة هم علماء أفاضل أكبرهم سنا الشيخ عبد الله لم يل من أعمال الدولة عملا إلا أنه رحمه الله كان ذا دراية بالأنساب وعلوم الهيئة وذو ولع ودراية بالتاريخ فضلا عما لديه رحمه الله من حصيلة علمية.
والثاني الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم عالم كبير له تبرير في علوم الفرائض شاعر مجيد نذر نفسه رحمه الله فترة طويلة لا تقل عن أربعين عاما في خدمة عموم الناس في توثيق تصرفاتهم من بيوع ووصايا وأقارير أسندت له الإدارة العامة للمعاهد فكان رحمه الله نعم الأب ونعم المدير ونعم الإنسان.
الثالث الشيخ عبد الملك بن إبراهيم عالم فاضل محبوب بين العموم ولي الرئاسة العامة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المنطقة الغربية مدة طويلة كان خلالها محل التقدير والاحترام والسمع والطاعة.
أما أبناؤه فهم أربعة أكبرهم معالي الشيخ عبد العزيز ولي من أعمال سماحة والده النيابة عنه في رئاسة القضاة ثم رئاسة المعاهد والكليات ثم صدر الأمر الملكي بتعيين معاليه رئيسا لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برتبة وزير ولا يزال في عمله حتى الآن جعله الله مباركا أينما كان.(18/237)
الثاني من أبناء سماحته الشيخ إبراهيم أحد خريجي كلية الشريعة في الرياض ولي من أعمال سماحة والده النيابة عنه في الإفتاء وبقي نائبا في الإفتاء حتى صدر الأمر الملكي بتعيينه وزيرا للعدل ولا يزال في وزارة العدل حتى الآن ولقد كان حفظه الله رئيسا مباشرا لنا نحن أعضاء الإفتاء وغيرنا من منسوبي الإفتاء ثم امتدت رئاسته علينا بصفتي الآن أحد منسوبي وزارة العدل من قضاة وإداريين فنعم الرئيس معاليه جعله الله مباركا أينما كان ووفقه إلى اقتفاء أثر والده خالد الذكر.
الثالث من أبنائه أحمد هؤلاء الثلاثة أخوة أشقاء أما الرابع فهو الدكتور عبد الله أكبر أولاده شبها لأبيه خلقا نال شهادة الدكتوراه من جامعة الإمام محمد بن سعود وهو الآن أحد المدرسين فيها ويرجى له مستقبل زاهر إن شاء الله يكمل فيه مسيرة آبائه وأجداده في سبيل الدعوة إلى الله والحرص على تصحيح الاعتقاد عند من يتغلب عليه الشيطان فيحرفه عن جادة الصواب.
توفى رحمه الله في اليوم الرابع والعشرين من شهر رمضان المبارك عام 1389 هـ فكان لوفاته أسوأ الأثر في النفوس لقد حضرت جنازته للصلاة عليه وعند دفنه فرأيت جموعا غفيرة كلها تذكر أنها المصابة وأنها الجديرة بالعزاء وهي تلهج بذكر الله تعالى وإنا لله وإنا إليه راجعون ودفن في مقبرة العود في الرياض قرب آبائه وأجداده فرحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وجزاه عني خاصة وعن جميع إخواني طلبة العلم وغيرهم أفضل جزاء وأتمه وجمعنا به في مستقر رحمته إنه قريب مجيب وبالإجابة جدير وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
عبد الله بن سليمان بن منيع(18/238)
من أعلام المجددين
شيخ الإسلام ابن تيمية
للدكتور صالح بن فوزان الفوزان (1) .
أولا: التعريف بشيخ الإسلام ابن تيمية:
هو شيخ الإسلام الحافظ المجتهد تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن الخضر بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي.
ولد بحران يوم الاثنين عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة، وقدم به والده وبأخويه عند استيلاء التتار على البلاد إلى دمشق سنة 677 هـ.
__________
(1) ورد للكاتب ترجمة في العدد السابع من المجلة، صفحة 238.(18/239)
مشائخه وتحصيله:
أخذ الفقه والأصول عن والده وسمع عن خلق كثير منهم الشيخ شمس الدين والشيخ زين الدين ابن المنجا والمجد بن عساكر، وقرأ العربية على ابن عبد القوي، ثم أخذ كتاب سيبويه فتأمله وفهمه، وعني بالحديث والكتب الستة والمسند مرات، وأقبل على تفسير القرآن الكريم فبرز فيه، وأحكم أصول الفقه والفرائض والحساب والجبر(18/239)
والمقابلة وغير ذلك من العلوم، ونظر في الكلام والفلسفة وبرز في ذلك ورد على أكابر المتكلمين والفلاسفة، وتأهل للفتوى والتدريس وله دون العشرين من السنين، وتضلع في علم الحديث وحفظه وكان سريع الحفظ قوي الإدراك آية في الذكاء رأسا في معرفة الكتاب والسنة والاختلاف بحرا في النقليات، وكان له باع طويل في معرفة مذاهب الصحابة والتابعين.(18/240)
اشتغاله في التدريس:
كان والده من كبار أئمة الحنابلة فلما مات خلفه في وظائفه وكان عمره سبع عشرة سنة فاشتهر أمره وبعد صيته في العالم، وأخذ في تفسير القرآن الكريم أيام الجمع من حفظه - قال عنه الحافظ أبو حفص عمر بن علي البزار وكان من معاصريه (1) : لقد كان إذا قرئ في مجلسه آيات من القرآن العظيم شرع في تفسيرها فينقضي المجلس بجملته والدرس بزمنه وهو في تفسير بعض آية منها، وقد منحه الله تعالى معرفة اختلاف العلماء ونصوصهم وكثرة أقوالهم واجتهادهم في المسائل وما روي عن كل واحد منهم من راجح ومرجوح ومقبول ومردود، حتى كان إذا سئل عن شيء من ذلك كأن جميع المنقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والعلماء فيه من الأولين والآخرين متصور مسطور بإزائه وهذا قد اتفق عليه كل من رآه أو وقف على شيء من علمه ممن لم يغلظ عقله الجهل والهوى. . . انتهى.
وقال أيضا: وأما ذكر دروسه فقد كنت في حال إقامتي بدمشق لا أفوتها، وكان لا يهيئ شيئا من العلم ليلقيه ويورده بل يجلس بعد أن يصلي ركعتين فيحمد الله ويثني عليه ويصلي على رسول صلى الله عليه وسلم على
__________
(1) الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية ص 23، 25، 28، 30.(18/240)
صفة مستحسنة مستعذبة لم أسمعها من غيره ثم يشرع فيفتح الله عليه إيراد علوم وغوامض ولطائف ودقائق وفنون ونقول واستدلالات بآيات وأحاديث وأقوال العلماء ونقد بعضها وتبيين صحته أو تزييف بعضها وبإيضاح حجته واستشهاد بأشعار العرب وربما ذكر ناظمها، وهو مع ذلك يجري كما يجري السيل ويفيض كما يفيض البحر، ويصير منذ يتكلم إلى أن يفرغ كالغائب عن الحاضرين مغمضا عينيه من غير تعجرف ولا توقف ولا لحن بل فيض إلهي حتى يبهر كل سامع وناظر فلا يزال كذلك إلى أن يصمت، وكنت أراه حينئذ كأنه قد صار بحضرة من يشغله عن غيره، ويقع عليه إذ ذاك من المهابة ما يرعد القلوب ويحير الأبصار والعقول - وكان لا يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قط إلا ويصلي ويسلم عليه، ولا والله ما رأيت أحدا أشد تعظيما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحرص علما اتباعه ونصر ما جاء به منه، حتى إذا كان أورد شيئا من حديثه في مسألة ويرى أنه لم ينسخه شيء غيره من حديثه يعمل به ويقضي ويفتي بمقتضاه، ولا يلتفت إلى قول غيره من المخلوقين كائنا من كان، وقال رضي الله عنه: كل قائل إنما يحتج لقوله لا به إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا فرغ من درسه يفتح عينيه ويقبل على الناس بوجه طلق بشيش وخلق دمث كأنه لقيهم حينئذ، وربما اعتذر إلى بعضهم من التقصير في المقال مع ذلك الحال، ولقد كان درسه الذي يورده حينئذ قدر عدة كراريس. وهذا الذي ذكرته من أحوال درسه أمر مشهور يوافقني عليه كل حاضريه وهم بحمد الله خلق كثير لم يحصر عددهم علماء ورؤساء وفضلاء من القراء والمحدثين والفقهاء والأدباء وغيرهم من عوام المسلمين. . . انتهى كلام البزار في كتابه الأعلام العلية.(18/241)
مؤلفاته:
لشيخ الإسلام ابن تيمية مؤلفات قيمة ضخمة ورسائل وفتاوى بلغ الموجود منها مجلدات ضخمة وعديدة، طبع منها الآن حسب علمي خمسة وستون مجلدا وهي:
1) مجموع الفتاوى سبعة وثلاثون مجلدا وقد طبع عدة مرات ووزع في كثير من الأقطار الإسلامية وانتفع به المسلمون لما يحتويه من علم غزير في العقائد والفقه والتفسير والحديث والأصول.
2) موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول وقد طبع في عشرة مجلدات.
3) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (رد على شبه النصارى) وقد طبع في أربعة مجلدات.
4) منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة والقدرية وقد طبع في أربعة مجلدات محققة.
5) الفتاوى المصرية وقد طبعت في خمسة مجلدات.
6) الاختيارات الفقهية، وقد طبعت في مجلد.
7) القواعد النورانية الفقهية وقد طبعت في مجلد.
8) نقض منهاج التأسيس وقد طبع الموجود منه في مجلدين.
9) إقامة الدليل على إبطال التحليل وقد طبع في مجلد.
10) شرح العقيدة الأصفهانية، وقد طبع في مجلد.
11) الصفدية وقد طبع المجلد الأول منها، والبقية في الطريق إن شاء الله.
12) الاستقامة وقد طبع في مجلدين.
13) كتاب الإيمان وقد طبع في مجلد.
14) كتاب نقض المنطق، وقد طبع في مجلد.(18/242)
15) كتاب النبوات، وقد طبع في مجلد.
16) اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم مجلد.
17) الصارم المسلول وقد طبع في مجلد.
18) التوسل والوسيلة.
19) العقيدة الواسطية.
20) العقيدة التدمرية.
21) رفع الملام.
22) شرح حديث النزول.
23) مقدمة في أصول التفسير.
24) تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية وقد طبع في مجلدين.
25) الرد على المنطقين.
26) نظرية العقد.
هذا ولا يزال الكثير من كتبه ورسائله وفتاويه مفقودا ويعثر بين حين وآخر على شيء منه فيبادر من وجده إلى نشره للانتفاع به، وقد لمعت كتبه في هذا العصر وانتفع بها الخلق الكثير لما تحويه من العلم الغزير والتحقيق والتدقيق والأصالة، وقد شهد بذلك كل من اطلع عليها ممن لم تأخذه العصبية الجاهلية والتقليد الأعمى.(18/243)
ثناء العلماء عليه: قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (14 \ 118-119) وقل أن جمع شيئا إلا حفظه ثم اشتغل بالعلوم وكان ذكيا كثير المحفوظ فصار إماما في التفسير وما يتعلق به عارفا بالفقه، فيقال إنه كان أعرف بفقه المذاهب من أهلها الذين كانوا في زمانه وغيره، وكان عالما باختلاف العلماء، عالما في الأصول والفروع والنحو واللغة وغير ذلك من العلوم(18/243)
النقلية والعقلية، وما قطع في مجلس ولا تكلم معه فاضل في فن من الفنون إلا ظن أن ذلك الفن فنه ورآه عارفا به متقنا له، وأما الحديث فكان حامل رايته حافظا له مميزا بين صحيحه وسقيمه عارفا برجاله متضلعا من ذلك، وله تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة في الأصول والفروع. . . . . انتهى.
وقال الحافظ المزي في الثناء عليه (1) : ما رأيت مثله ولا أرى هو مثل نفسه وما رأيت أحدا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله ولا أتبع لهما منه، وقال الحافظ ابن دقيق العيد: لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا كل العلوم بين عينيه يأخذ ما يريد ويدع ما يريد، وقال الشيخ إبراهيم الرقي: إن ابن تيمية يؤخذ عنه ويقلد في العلوم فإن طال عمره ملأ الأرض علما وهو على الحق ولا بد من أن يعاديه الناس لأنه وارث علم النبوة، وقال قاضي قضاة مصر ابن الحريري: إن لم يكن ابن تيمية شيخ الإسلام فمن هو؟ .
نقل هذه الأقوال عن هؤلاء الأئمة في الثناء على شيخ الإسلام ابن تيمية الشيخ مرعي يوسف الحنبلي في كتابه: الكواكب الدرية.
__________
(1) حياة شيخ الإسلام ابن تيمية للشيخ محمد بهجت البيطار ص21.(18/244)
رد الشبهات التي وجهت في حق الشيخ:
لقد ضاق خصومه قديما وحديثا به ذرعا ووجهوا ضده الاتهامات: 1) من ذلك ما افتراه الرحالة ابن بطوطة حيث قال في رحلته (في حق شيخ الإسلام ابن تيمية: وكنت إذ ذاك بدمشق فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل درجة من درج(18/244)
المنبر) وقد رد على هذه الفرية الشيخ العلامة محمد بهجة البيطار (1) بما يلي:
1 - أن ابن بطوطة لم يسمع من ابن تيمية ولم يجتمع به إذ كان وصوله إلى دمشق يوم الخميس التاسع عشر من شهر رمضان المبارك عام ستة وعشرين وسبعمائة (726) هـ وكان سجن شيخ الإسلام في قلعة دمشق أوائل شهر شعبان من ذلك العام ولبث فيه إلى أن توفاه الله تعالى ليلة الاثنين لعشرين من ذي القعدة عام ثمانية وعشرين وسبعمائة هجرية فكيف رآه ابن بطوطة يعظ على منبر الجامع وهو إذ ذاك في السجن.
2 - لم يكن شيخ الإسلام ابن تيمية يعظ الناس على منبر الجامع وإنما كان يجلس على كرسي، قال الحافظ الذهبي عنه: وقد اشتهر أمره وبعد صيته في العالم وأخذ في تفسير الكتاب العزيز أيام الجمع على كرسي من حفظه.
3 - أن هذا الذي ذكره ابن بطوطة يخالف ما ذكره الشيخ في جميع كتبه من أنه يجب إثبات أسماء الله وصفاته إثباتا بلا تشبيه وتنزيهها عن مشابهة صفات المخلوقين تنزيها بلا تعطيل، وهذا الذي ذكره ابن بطوطة تشبيه ينهى عنه شيخ الإسلام ويحذر منه غاية التحذير.
4 - لشيخ الإسلام ابن تيمية في موضوع النزول كتاب مستقل اسمه شرح حديث النزول وهو مطبوع ومتداول وليس فيه ما ذكره ابن بطوطة، بل فيه ما يرد عليه ويبطله من أصله والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) حياة شيخ الإسلام ابن تيمية، ص47-48.(18/245)
2) قالوا عنه إنه يخالف الإجماع، وقد أجاب عن هذه الشبهة الشيخ محمد (1) بهجة البيطار بقوله: اشتهر ابن تيمية بمسائل أثرت عنه وظن كثير من الناس أنه انفرد بها عن غيره بل ظنوا أنه خالف في بعضها الإجماع وهي أمور اجتهادية يقع في مثلها الخلاف بين العلماء ومن المفروغ منه أن ابن تيمية قد بلغ رتبة الاجتهاد في الأحكام الشرعية وأنه كان يفتي الناس بما أدى إليه اجتهاده (2) وأنه موافق في فتاواه بعض الصحابة أو التابعين أو أحد الأئمة الأربعة أو غيرهم ممن عاصرهم أو جاء قبلهم أو بعدهم وقد قال العلامة برهان الدين ابن الإمام محمد المعروف بابن قيم الجوزية: لا نعرف مسألة خرق فيها الإجماع، ومن ادعى ذلك فهو إما جاهل وإما كاذب، ولكن ما نسب إليه الانفراد به ينقسم إلى أربعة أقسام: الأول: ما يستغرب جدا فينسب إليه أنه خالف فيه الإجماع لندور القائل به وخفائه على الناس لحكاية بعضهم الإجماع على خلافه.
الثاني: ما هو خارج عن مذاهب الأئمة الأربعة وقال بعض الصحابة أو التابعين أو السلف به والخلاف فيه محكي.
الثالث: ما اشتهرت نسبته إليه مما هو خارج عن مذهب الإمام رضي الله عنه لكن قد قال به غيره من الأئمة وأتباعهم.
الرابع: ما أفتى به واختاره مما هو خلاف المشهور في مذهب أحمد وإن كان محكيا عنه وعن بعض أصحابه. انتهى.
قلت وبهذا يعلم أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم ينفرد بقول لم يقم عليه دليل من الكتاب والسنة ولم يقل به أحد من الأئمة من
__________
(1) حياة شيخ الإسلام ابن تيمية، ص54-55.
(2) أي أنه الراجح من الأقوال.(18/246)
الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ومن أراد الحق في هذا فلينظر في مجموع فتاواه الكبير الذي بلغ سبعة وثلاثين مجلدا وطبع عدة مرات ووزع على نطاق واسع في العالم الإسلامي، ولا يصدق ما أشاعه عنه المغرضون. فإن قول الخصم غير مقبول على خصمه - وإنما يرجع إلى كلام الشخص نفسه ويحكم عليه بموجبه، واليوم والحمد لله كتب شيخ الإسلام وفتاواه قد انتشرت واشتهرت وهي تدحض ما افتراه عليه خصومه من الأكاذيب، ومن رجع إلى هذه المؤلفات القيمة أدرك أنه مفترى عليه ووجد في هذه المؤلفات العلم الغزير الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يسع المنصف الخالي من التعصب الأعمى إلا أن يقر له بالعلم والفضل والاستقامة على الحق.
3) قالوا إنه أفتى بفتاوى تخالف فتاوى الأئمة أهل السنة والجماعة وهذا من الكذب على شيخ الإسلام ابن تيمية فهو لم ينفرد بقول يخالف به الأئمة جميعا سواء الأئمة الأربعة أو أئمة السلف الذين هم قبل الأربعة كما سبق بيانه فلم يقل قولا إلا وله سلف فيه من الأئمة، وأهل السنة والجماعة، اللهم إلا أن يريد هذا القائل بأهل السنة والجماعة جماعة الأشاعرة والماتريدية -فهذا اصطلاح خاطئ لأن المراد بأهل السنة والجماعة حقا من كان على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم الفرقة الناجية وهذا الوصف لا ينطبق إلا على الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم واتبع طريقهم، والأشاعرة الماتريدية خالفوا- الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة في كثير من المسائل الاعتقادية وأصول الدين فلم يستحقوا أن يلقبوا بأهل السنة والجماعة. وهؤلاء لم يخالفهم شيخ الإسلام ابن تيمية وحده بل خالفهم عامة الأئمة والعلماء الذين ساروا على نهج السلف. وهذه الفتاوى التي نسبوها كذبا للشيخ وقالوا إن(18/247)
الشيخ خالف فيها فتاوى الأئمة أهل السنة والجماعة هي قولهم:
1 - إنه يرى جلوس الله على العرش كجلوسه هو وأنه قال ذلك على المنبر في مسجد بني أمية مرارا في دمشق وفي مصر.
ونقول: هذا من الكذب الواضح على شيخ الإسلام ابن تيمية فشيخ الإسلام في هذه المسائل يثبت ما أثبته الله لنفسه من أنه استوى على العرش استواء يليق بجلاله سبحانه بلا تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه - كما قال الإمام مالك وغيره: الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وإليك ما قاله رحمه الله في هذه المسألة من إثبات استواء الله على عرشه مع نفي مشابهة المخلوقين في ذلك حيث قال رحمه الله: (ولله تعالى استواء على عرشه حقيقة وللعبد استواء على الفلك حقيقة وليس استواء الخالق كاستواء المخلوقين. فإن الله لا يفتقر إلى شيء ولا يحتاج إلى شيء بل هو الغني عن كل شيء) انظر مجموع فتاوى الشيخ (5 \ 199) فقال رحمه الله: (لله استواء) ولم يقل لله جلوس، وفرق بين استواء الله واستواء الخلق.
2 - قالوا إنه يقول: (نزول الله إلى سماء الدنيا كل ليلة كنزوله هو من المنبر) وهذا من الكذب على شيخ الإسلام ومما افتراه عليه ابن بطوطة وقد بينا كذبه في ذلك ولله الحمد.
ونحن نسوق عبارة الشيخ في هذه المسألة لما سئل عن حديث النزول - فكان من جوابه: (لكن من فهم من هذا الحديث وأمثاله ما يجب تنزيه الله عنه كتمثيله بصفات المخلوقين ووصفه بالنقص المنافي لكماله الذي يستحقه فقد أخطأ في ذلك وإن أظهر(18/248)
ذلك منع منه. وإن زعم أن هذا الحديث يدل على ذلك ويقتضيه لقد أخطأ أيضا في ذلك) (1) .
وقال أيضا: (من قال إنه ينزل فيتحرك وينتقل كما ينزل الإنسان من السطح إلى أسفل الدار كقول من يقول إنه يخلو منه العرش فيكون نزوله تفريغا لمكان وشغلا لآخر فهذا باطل يجب تنزيه الرب عنه) (2) .
3 - قالوا إنه يحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ونقول هذا أيضا من الكذب الواضح فإن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا زيارة غيره من القبور إذا وقعت هذه الزيارة وفق الأدلة الشرعية بأن يكون الزائر رجلا والقصد من هذه الزيارة التذكر والاعتبار والدعاء للموتى من المسلمين بالرحمة والمغفرة وكانت هذه الزيارة بدون سفر، فإن كانت زيارة القبور بقصد التبرك بها وطلب المدد وقضاء الحوائج وتفريج الكربات من الموتى أو كانت هذه الزيارة تحتاج إلى سفر، أو الزائر من النساء، فشيخ الإسلام ليس وحده الذي يمنع من هذه الزيارة، بل يمنع منها كل المحققين من علماء السلف والخلف، لأنها زيارة شركية أو بدعية، قد جاءت الأدلة من الكتاب والسنة بمنعها وإليك ما قاله في هذه المسألةر- قال رحمه الله: (فإن زيارة القبور على وجهين) : وجه شرعي ووجه بدعي، فالزيارة الشرعية مقصودها السلام على الميت والدعاء له سواء كان نبيا أو غير نبي، ولهذا كان الصحابة إذا زاروا النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون عليه ويدعون له ثم ينصرفون ولم يكن أحد منهم يقف عند قبره ليدعو لنفسه، ولهذا كره مالك
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى [5 \ 323] .
(2) انظر مجموع الفتاوى [5 \ 578] .(18/249)
وغيره ذلك وقالوا إنه من البدع المحدثة، ولهذا قال الفقهاء: إذا سلم المسلم عليه وأراد الدعاء لنفسه لا يستقبل القبر بل يستقبل القبلة وتنازعوا وقت السلام عليه هل يستقبل القبلة أو يستقبل القبر. فقال أبو حنيفة يستقبل القبلة، وقال مالك والشافعي يستقبل القبر - وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد (1) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا قبري عيدا (2) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر مثل ما صنعوا (3) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك (4) » ولهذا اتفق السلف على أنه لا يستلم قبرا من قبور الأنبياء وغيرهم ولا يتمسح به ولا يستحب الصلاة عنده ولا قصده للدعاء عنده أو به، لأن هذه الأمور كانت من أسباب الشرك وعبادة الأوثان، كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (5) قال طائفة من السلف هؤلاء كانوا قوما صالحين من قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم. وهذه الأمور ونحوها هي من الزيارة البدعية.
وهي من جنس دين النصارى والمشركين. وهو أن يكون قصد الزائر أن يستجاب دعاؤه عند القبر أو أن يدعو الميت ويستغيث
__________
(1) رواه الإمام مالك في الموطأ، كتاب قصر الصلاة في السفر.
(2) رواه أبو داود في سننه، كتاب المنار باب زيارة القبور.
(3) رواه البخاري ومسلم واللفظ له، مسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب النهي عن بناء المساجد على القبور.
(4) رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور.
(5) سورة نوح الآية 23(18/250)
به ويطلب منه أو يقسم به على الله في طلب حاجاته وتفريج كرباته، فهذه كلها من البدع) انتهى من مجموع الفتاوى (1) .
وبه يتضح رأي الشيخ في زيارة القبور وأنه يتمشى مع الأدلة الشرعية فيجيز ما أجازته ويمنع ما منعته من الزيارة الشركية والبدعية.
4 - قالوا إنه يقول إن التوسل في الدعاء كفر أو شرك، وهذا أيضا من الكذب الصريح على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فإنه لم يحكم على التوسل بأنه كفر أو شرك وإنما كان يفصل في ذلك بين التوسل المشروع والتوسل الممنوع وإليك عبارته في ذلك - يقول رحمه الله: (فلفظ التوسل يراد به ثلاثة معان:
أحدها: التوسل بطاعته (يعني النبي صلى الله عليه وسلم) فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به.
والثاني: التوسل بدعائه وشفاعته - وهذا كان في حياته ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته.
والثالث: التوسل به بمعنى الإقسام به على الله بذاته والسؤال بذاته فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه لا في حياته ولا بعد مماته، لا عند قبره ولا غير قبره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم، وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة أو عن من ليس قوله حجة، وهذا هو الذي قال أبو حنيفة وأصحابه إنه لا يجوز ونهوا عنه حيث قالوا: (لا يسأل بمخلوق ولا يقول أحد: أسألك بحق أنبيائك) انتهى من مجموع الفتاوى (2) فبين الشيخ أن هذا النوع من التوسل
__________
(1) مجموع الفتاوى (27 \ 31-32) .
(2) مجموع الفتاوى (1 \ 202) .(18/251)
لا يجوز وليس هو من فعل الصحابة ولم يقل إنه كفر أو شرك كما قال هذا الكاذب عليه.
5 - قالوا إنه يكفر الناس الذين لا يتبعون آراءه مثل تكفيره الذين يزورون قبر الرسول، وهذا من جنس ما قبله من الأكاذيب، فالشيخ تقي الدين لا يكفر إلا من كفره الله ورسوله بارتكابه ناقضا من نواقض الإسلام كدعاء غير الله من الموتى وغيرهم.
ولم يكفر الذين يزورون قبر الرسول صلى الله عليه وسلم الزيارة الشرعية كما سبق بيانه.
6 - قالوا إنه يحرم الطرق الصوفية وجوابا عن هذا الموضوع ننقل لك عبارة الشيخ رحمه الله في هذا: قال رحمه الله: (الحمد لله أما لفظ الصوفية فإنه لم يكن مشهورا في القرون الثلاثة وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك - إلى أن قال: ولأجل ما وقع من كثير منهم من الاجتهاد والتنازع تنازع الناس في طريقهم، فطائفة ذمت الصوفية والتصوف، وقالوا إنهم مبتدعون خارجون عن السنة، ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام، وطائفة غلت فيهما وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء، وكلا طرفي هذه الأمور ذميم، والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب، ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه عاص لربه، وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة - ولكن عند المحققين من أهل(18/252)
التصوف ليسوا منهم كالحلاج مثلا، انتهى من مجموع الفتاوى (1) . هذا كلامه رحمه الله في التصوف المعتدل المعروف في وقته وقبله أما التصوف المنحرف في وقته: وبعده فلا أحد يجيزه. فالطرق الصوفية تغيرت ودخلها من البدع والخرافات والشركيات الشيء الكثير، فيجب تركها والابتعاد عنها وملازمة السنة.
__________
(1) مجموع الفتاوى (11 \ 5، 17-18) .(18/253)
7 - قالوا إنه أفتى بفتاوى تخالف الإجماع وهي كما يلي:
1 - لا يعتبر الحلف بالطلاق طلاقا وإنما يعتبره يمينا مكفرة، والجواب عن هذا أن نقول: إن دعوى الإجماع في هذه المسألة دعوى كاذبة فإن الشيخ رحمه الله ذكر في هذه المسألة ثلاثة أقوال، وهذا نص كلامه حيث يقول: (إذا حلف بالطلاق أو العتاق يمينا تقتضي حصنا أو منعا - كقوله: الطلاق أو العتق يلزمه ليفعلن كذا أو لا يفعل كذا أو قوله: إن فعلت كذا فامرأتي طالق أو فعبدي حر ونحو ذلك فللعلماء فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إذا حنث وقع به الطلاق والعتاق، وهذا قول بعض التابعين وهو المشهور عند أكثر الفقهاء.
الثاني: لا يقع به شيء ولا كفارة عليه - وهذا مأثور عن بعض السلف وهو مذهب داود وابن حزم وغيرهما من المتأخرين، ولهذا كان سفيان بن عيينة شيخ الشافعي وأحمد لا يفتى بالوقوع.
والقول الثالث: أنه يجزئه كفارة يمين - اهـ من مجموع الفتاوى (1) . فتبين بهذا أنه لم ينفرد بهذا القول وأن المسألة خلافية.
__________
(1) مجموع الفتاوى (33 \ 195) .(18/253)
2 - قالوا إنه يعتبر الطلاق الثلاث واحدة إذا قاله الزوج دفعة واحدة والجواب: أن هذا لم يخالف فيه الشيخ رحمه الله إجماعا ولم ينفرد به فقد سبقه إليه كثير من الأئمة. وهو مبني على أدلة استدلوا بها.
قال رحمه الله: " وهذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف، ويروى عن علي وابن مسعود وابن عباس القولان وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم مثل طاووس وخلاس بن عمرو ومحمد بن إسحاق وهو قول داود وأكثر أصحابه) انظر مجموع الفتاوى (1) . قال القرطبي: وشذ طاووس وبعض أهل الظاهر إلى أن طلاق الثلاث في كلمة واحدة يقع واحدة ويروى هذا عن محمد بن إسحاق والحجاج بن أرطاة، وقيل عنهما لا يلزم منه شيء وهو قول مقاتل ويحكى عن داود أنه قال: لا يقع، والمشهور عن الحجاج بن أرطاة وجمهور السلف والأئمة أنه لازم واقع ثلاثا - انتهى من تفسير القرطبي (2) .
3 - وقالوا إنه لا يصح طلاق الحائض والطلاق في الطهر الذي جامعها فيه، والجواب أن هذا الطلاق طلاق بدعة وقد اختلف العلماء هل يقع أولا، فإذا قال الشيخ بعدم وقوعه فإنه لم يخالف بذلك إجماعا كما يدعي هذا المفتري، فالمسألة خلافية، وكل له دليله، ومن تبين له رجحان قول وجب عليه الأخذ به.
__________
(1) مجموع الفتاوى (33 \ 8) .
(2) تفسير القرطبي (3 \ 129) .(18/354)
قال القرطبي: وقال سعيد بن المسيب في آخرين لا يقع الطلاق في الحيض لأنه خلاف السنة انتهى من تفسير القرطبي (1) .
4 - قالوا إنه لا يرى قضاء الصلاة المتروكة عمدا، والجواب أن الموجود من كلام الشيخ في مجموع الفتاوى (2) . في هذه المسألة ما نصه: (وأما من كان عالما بوجوبها وتركها بلا تأويل حتى خرج وقتها المؤقت فهذا يجب عليه القضاء عند الأئمة الأربعة، وذهب طائفة منهم ابن حزم وغيره إلى أن فعلها بعد الوقت لا يصح من هؤلاء، وكذلك قالوا فيمن ترك الصوم متعمدا - والله سبحانه وتعالى أعلم انتهى.
وقال الحافظ في فتح الباري (3) على حديث «من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك (4) » قال: وقد تمسك بدليل الخطاب منه القائل إن العامد لا يقضي الصلاة، لأن انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط فيلزم منه أن من لم ينس لا يصلي اهـ. . فالشيخ إنما حكى الخلاف فقط فالمسألة خلافية ليست: محل إجماع والله أعلم. فإذا اختار القول بعدم القضاء لرجحانه عنده بالدليل فلا حرج عليه.
وقال الشيخ أيضا في مجموع الفتاوى (5) واختلف الناس فيمن ترك الصلاة والصوم عامدا هل يقضيه؟ .
فقال الأكثرون يقضيه، وقال بعضهم لا يقضيه ولا يصح فعله
__________
(1) تفسير القرطبي (7 \ 151) .
(2) مجموع الفتاوى (17 \ 103) .
(3) فتح الباري (1 \ 71) .
(4) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (597) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (684) ، سنن الترمذي الصلاة (178) ، سنن النسائي المواقيت (613) ، سنن أبو داود الصلاة (442) ، سنن ابن ماجه الصلاة (696) ، مسند أحمد بن حنبل (3/269) .
(5) مجموع الفتاوى (22 \ 18 \ 19) .(18/255)
بعد وقته كالحج. . . انتهى، ولم يزد على حكاية الخلاف.(18/256)
5 - وقالوا عنه إنه قال إن الذي ينكر الإجماع لا يعتبر كافرا أو فاسقا، وهذا كذب على الشيخ رحمه الله لأنه يحترم الإجماع ويحث على التمسك به وينهى عن مخالفته، قال في مجموع الفتاوى (1) الحمد لله: معنى الإجماع أن تجتمع علماء المسلمين على حكم من الأحكام، وإذا ثبت إجماع الأمة على حكم من الأحكام لم يكن لأحد أن يخرج عن إجماعهم، فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة. . انتهى.
6 - قالوا إنه يرى أن ذات الله عز وجل مركبة بعضها يحتاج إلى بعض، وأن الله له جسم وله جهات وينتقل من مكان إلى مكان آخر، وهذا من الكذب الشنيع على شيخ الإسلام ابن تيمية، فإنه رحمه الله في كل كتاباته ومؤلفاته يقرر مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان في أسماء الله وصفاته وهو إثباتها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل على حد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) . قال في مطلع الرسالة الحموية الكبرى لما سئل: (ما قول السادة العلماء أئمة الدين في آيات الصفات وأحاديث الصفات، فأجاب: الحمد لله رب العالمين قولنا فيها ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره - انتهى من مجموع الفتاوى (3) .
__________
(1) مجموع الفتاوى (20 \ 10) .
(2) سورة الشورى الآية 11
(3) مجموع الفتاوى (5 \ 5- 6) .(18/256)
وقال أيضا في موضوع الحركة والانتقال في المجموع (1) والذي يجب القطع به أن الله ليس كمثله شيء في جميع ما يصف به نفسه، فمن وصفه بمثل صفات المخلوقين في شيء من الأشياء فهو مخطئ قطعا كمن قال ينزل فيتحرك وينتقل كما ينزل الإنسان من السطح إلى أسفل الدار كقول من يقول إنه يخلو منه العرش فيكون نزوله تفريغا لمكان وشغلا لآخر فهذا باطل يجب تنزيه الرب عنه كما تقدم وهذا هو الذي تقوم على نفيه وتنزيه الرب عنه الأدلة الشرعية والعقلية. . . انتهى.
وقال في موضوع الجسم والتركيب في مجموع الفتاوى (2) . فمن قال إنه جسم وأراد أنه مركب من الأجزاء فهذا قول باطل، وكذلك إن أراد أنه يماثل غيره من المخلوقات فقد علم بالشرع والعقل أن الله ليس كمثله شيء في شيء من صفاته، فمن أثبت لله مثلا في شيء من صفاته فهو مبطل، ومن قال إنه جسم بهذا المعنى فهو مبطل، ومن قال إنه ليس بجسم بمعنى أنه لا يرى في الآخرة ولا يتكلم بالقرآن وغيره من الكلام ولا يقوم به العلم والقدرة وغيرهما من الصفات ولا ترفع الأيدي إليه في الدعاء ولا عرج بالرسول صلى الله عليه وسلم إليه ولا يصعد إليه الكلم الطيب ولا تعرج الملائكة والروح إليه فهذا باطل، وكذلك كل من نفى ما أثبته الله ورسوله وقال إن هذا تجسيم فنفيه باطل وتسمية ذلك تجسيما تلبيس منه.
إلى أن قال: بل لم ينطق كتاب الله ولا سنة ولا أثر من السلف بلفظ الجسم في حق الله تعالى لا نفيا ولا إثباتا فليس لأحد أن يبتدع اسما مجملا يحتمل معاني مختلفة لم ينطق به الشرع ويعلق
__________
(1) مجموع الفتاوى (5 \ 578-579) .
(2) مجموع الفتاوى (17 \ 317) .(18/257)
به دين المسلمين. . . انتهى.
وقال أيضا: وهذه الألفاظ المجملة المحدثة مثل لفظ: (المركب) و (المؤلف) و (المنقسم) ونحو ذلك قد صار كل من أراد نفي شيء مما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات عبر بها عن مقصوده فيتوهم من لا يعرف مراده أن المراد تنزيه الرب الذي ورد به القرآن وهو إثبات أحديته وصمديته ويكون قد أدخل في تلك الألفاظ ما رآه هو منفيا وعبر عنه بتلك العبارة وضعا له واصطلاحا اصطلح عليه هو ومن وافقه على ذلك المذهب وليس ذلك من لغة العرب التي نزل بها القرآن ولا من لغة أحد من الأمم ثم يجعل ذلك المعنى هو مسمى الأحد والصمد والواحد ونحو ذلك من الأسماء الموجودة في الكتاب والسنة. انتهى من مجموع الفتاوى (1) . وبهذه النقولات من كلام الشيخ رحمه الله ظهر بطلان ما نسبه إليه أعداؤه الكذابون من هذه الأباطيل. . . والحمد لله.
7 - قالوا إنه يرى أن القرآن حديث ليس بقديم، والجواب أن نسوق عبارة الشيخ رحمه الله في هذا الموضوع قال في مجموع الفتاوى (2) إن السلف قالوا: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق وقالوا: لم يزل متكلما إذا شاء، فبينوا أن كلام الله قديم أي جنسه قديم يزل، ولم يقل أحد منهم إن نفس الكلام المعين قديم، ولا قال أحد منهم القرآن قديم، بل قالوا إنه كلام الله منزل غير مخلوق، وإذا كان الله قد تكلم بالقرآن بمشيئته كان القرآن كلامه وكان منزلا غير مخلوق ولم يكن مع ذلك أزليا قديما بقدم الله وإن
__________
(1) مجموع الفتاوى، (17 \ 351-352) .
(2) مجموع الفتاوى، (12 \ 54) .(18/258)
كان الله لم يزل متكلما إذا شاء فجنس كلامه قديم، فمن فهم قول السلف وفرق بين هذه الأقوال زالت عنه الشبهات في هذه المسائل المعضلة التي اضطرب فيها أهل الأرض. . . انتهى.
فتبين بهذا أن نفي القدم عن القرآن ليس رأيه وحده كما يزعم المفترون، وإنما هو رأي سلف هذه الأمة قاطبة وأن هناك فرقا بين جنس الكلام وأفراد الكلام والله أعلم.
8 - قالوا إنه يقول بقدم العالم، وهذا من الكذب الصريح على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فإنه لا يقول بقدم العالم، وإليك عبارته رحمه الله في إبطال هذا القول ورده قال في مجموع الفتاوى (1) (\ 9 \ 281) فإن الرسل مطبقون هذا القول على أن كل ما سوى الله محدث مخلوق كائن بعد أن لم يكن ليس مع الله شيء قديم بقدمه، وأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام والعقول تعلم أن الحوادث لا بد لها من محدث، وفي الجزء الثاني من هذا المجموع المبارك (2) صرح بتكفير من قال بقدم العالم.
9 - قالوا إنه يقول إن الأنبياء غير معصومين، والجواب: أن هذا كذب صريح وبهتان واضح، فإن شيخ الإسلام رحمه الله يقرر عصمة الأنبياء ويثبتها، وهذا نص عبارته في هذا الموضوع حيث يقول: إن الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون فيما يخبرون به عن الله سبحانه وفي تبليغ رسالاته باتفاق الأمة ولهذا وجب الإيمان بكل ما أوتوه - إلى أن قال: وأما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ
__________
(1) مجموع الفتاوى، (9 \ 281) .
(2) مجموع الفتاوى، (2 \ 188) .(18/259)
الرسالة فللناس فيها نزاع هل هو ثابت بالعقل أو بالسمع ومتنازعون في العصمة من الكبائر والصغائر أو من بعضها، أم هل العصمة إنما هي في الإقرار عليها لا في فعلها، أم لا يجب القول بالعصمة إلا في التبليغ فقط، وهل تجب العصمة من الكفر والذنوب قبل المبعث أولا.
والكلام في هذا مبسوط في غير هذا الموضع، والقول الذي عليه جمهور الناس وهو الموافق للآثار المنقولة عن السلف إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقا - انتهى من مجموع الفتاوى (1) .
__________
(1) مجموع الفتاوى، (10 \ 89-292-293) .(18/260)
الخاتمة:
وهكذا والحمد لله - وجدنا في كلام الشيخ ردا على كل ما افتراه عليه خصومه ونفيا لما نسبوه إليه، وهذا يدل على غزارة علمه وإمامته، ونحن لا ندعي له العصمة فهو كغيره من الأئمة يخطئ ويصيب. قال الإمام ابن كثير في ترجمته له في البداية والنهاية (1) وأثنى عليه وعلى علومه جماعة من علماء عصره مثل القاضي الخوبي، وابن دقيق العيد، وابن النحاس والقاضي الحنفي وقاضى قضاة مصر ابن الحريري وابن الزملكاني وغيرهم ووجدت بخط ابن الزملكاني أنه قال: اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهتها وإن له اليد الطولي في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتدين. إلى أن قال ابن كثير: وبالجملة كان رحمه الله من كبار العلماء وممن يخطئ ويصيب ولكن خطأه بالنسبة إلى صوابه كنقطة في بحر لجي - وخطؤه أيضا مغفور له كما في صحيح البخاري: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا
__________
(1) البداية والنهاية (14 \ 119) .(18/260)
اجتهد فأخطأ فله أجر (1) » فهو مأجور وقال الإمام مالك بن أنس: كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر - انتهى.
وكما قلنا قريبا: إن مؤلفات هذا العالم موجودة ومبذولة لكل من أرادها فمن أراد أن يعرف الحقيقة بلا مكابرة فليطالعها ولا يستمع لما يقوله عنه خصومه وحساده والمغرضون المضللون فإن العدل والإنصاف أن تحكم على الشخص من واقع كلامه المذكور في كتبه لا من كلام خصومه. فأعداء الدين دائما في صراع مع دعاة الحق الذين يردون كيدهم. ويبينون زيفهم ويظهرون للناس حقيقتهم.
فقد ظهر شيخ الإسلام في عصر قد اشتدت فيه غربة الإسلام وتفرقت كلمة المسلمين وظهرت الفرق المخالفة لما كان عليه السلف الصالح في العقائد والفروع وخيم الجمود الفكري والتقلب الأعمى فأثر في الجو العلمي، ظهرت فرق الشيعة والصوفية المنحرفة والقبورية ونفاة الصفات والقدرية وطغى علم الكلام والفلسفة حتى حلا محل الكتاب والسنة لدى الأكثر من المتعلمين في الاستدلال، هذا كله في داخل المجتمع الإسلامي في ذلك العصر. ومن خارج المجتمع تكالب أعداء الإسلام فغزوا المسلمين في عقر دارهم فجاءت جيوش التتار من الشرق تداهم ديار المسلمين وتفتك بهم وجيوش الصليبين من الغرب، في هذا الجو المعتم عاش شيخ الإسلام ابن تيمية ضياء لامعا بعلمه الأصيل الغزير يدرس الطلاب ويؤلف الكتب والرسائل ويفتي في النوازل والمسائل. ويناظر المنحرفين. ويرد على المخرفين وينازل الفرق والطوائف. فيرد علما
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7352) ، صحيح مسلم الأقضية (1716) ، سنن أبو داود الأقضية (3574) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2314) .(18/261)
الشيعة والقدرية ويرد على علماء الكلام والفلاسفة ويرد على المعطلة والمؤولة في الصفات من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، ويرد على الصوفية المنحرفة وعلى القبوريين والمبتدعة ويحرك أهل الجمود الفقهي والخمول الفكري برد الفقه إلى أصوله الصحيحة ومنابعه الصافية وتصحيح الصحيح وتزييف الزائف حتى أعاد للشريعة نقاءها وإلى العلوم الشرعية صفاءها. يظهر ذلك في مؤلفاته التي خلفها ثروة علمية هائلة، وإلى جانب مجهوده العلمي العظيم شارك في الجهاد في سبيل الله فحمل السلاح وخاض المعارك ضد التتار عدة مرات مما كان له أطيب الأثر في تقوية معنوية المجاهدين حتى انتصروا على عدوهم وقد تخرج على يد هذا العالم الجليل أئمة من طلابه حملوا الراية من بعده. منهم الإمام ابن القيم والإمام ابن كثير والحافظ الذهبي والحافظ ابن عبد الهادي وغيرهم ممن أخذوا عنه العلم ونشروه في الآفاق بما ألفوه من المؤلفات القيمة التي تزخر بها المكتبات الإسلامية اليوم، فجزى الله شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ونفعنا بعلومه، ولما قام بهذا الواجب العظيم غاظ خصومه فرمته كل طائفة من الطوائف المنحرفة بلقب سيئ تريد بذلك صد الناس عن دعوته وتشويه عمله،. .
فنفاة الصفات قالوا إنه مجسم. لأن إثبات الصفات عندهم تجسيم. ومتعصبة الفقهاء والمبتدعة قالوا إنه خرق الإجماع، لأن أخذ القول الراجح بالدليل المخالف لما هم عليه، ورد البدع خرق للإجماع عندهم، وغلاة الصوفية والقبوريون قالوا إنه يبغض الأولياء ويكفر المسلمين ويحرم زيارة القبور. لأن الدين عندهم هو التقرب إلى الأولياء والصالحين وتعظيم مشايخ الطرق الصوفية واتخاذهم أربابا من دون الله والغلو في تعظيمهم بصرف العبادة إليهم، هذا موقف هذه الطوائف من دعوة شيخ(18/262)
الإسلام وهو موقف يتكرر مع كل مصلح ومجدد يدعو إلى دين الله الذي جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم ونبذ ما خالفه من دين الآباء والأجداد وعادات الجاهلية، وليس هذا بغريب فقد قوبلت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم من قبل بأعظم من هذا وقيل عنه إنه ساحر كذاب وإنه شاعر مجنون. إلى غير ذلك من الألقاب السيئة التي يراد بها الصد عن دين الله والبقاء على دين الشرك الذي ورثوه عن آبائهم وأجدادهم، فلشيخ الإسلام وإخوانه من الدعاة إلى الله أسوة بنبيهم ولهؤلاء المنحرفين سلف من المشركين والمكذبين، ولكن العاقبة للمتقين.
فهذه كتب شيخ الإسلام تأخذ طريقها إلى أيدي كل من يريدون الحق يتنافسون في الحصول عليها والتنقيب عن المفقود منها لإخراجه للناس، فعليك أيها المسلم الناصح لنفسه أن لا تلتفت إلى أقوال المرجفين في حق هذا العالم المجدد المجاهد وأن تنظر إلى أقواله هو لا إلى ما يقال عنه لتصل إلى الحقيقة قال تعالى: {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} (1) .
صالح بن فوزان الفوزان
__________
(1) سورة الروم الآية 60(18/263)
صفحة فارغة(18/264)
مخطوطة التمييز في معرفة أقسام الألفات في كتاب العزيز لمحمد بن أحمد بن داود تحقيق الدكتور \ علي حسين البواب - الدكتور \ علي حسين البواب:
- فلسطيني. ولد بمدينة يافا في فلسطين المحتلة سنة 1367 هـ 1947 م.
- حصل على الثانوية العامة في مدينة غزة سنة 1964 م، وواصل تعليمه في القاهرة إلى أن نال درجة الدكتواره في علم اللغة العربية من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة سنة 1398 هـ / 1978 م.
- عمل مدرسا بوزارة المعارف في الكويت من عام 68- 78 م. ثم في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية حيث يعمل أستاذا مشاركا في كلية اللغة العربية بالرياض.
- حقق مجموعة من كتب التراث في علوم القرآن واللغة، منها: شرح كفاية المتحفظ لابن الطيب الفاسى. والتمهيد في علم التجويد لابن الجزري، وتذكرة الأريب في تفسير الغريب لابن الجزري، وقنعة الأريب لابن قدامة، ونور المسرى لأبي شامة.
- كما أعد فهارس لمخطوطات ومصورات اللغة والنحو والصرف والعروض بجامعة الإمام.(18/265)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الأنبياء والمرسلين، وبعد. .
فقد عني علماء المسلمين بكتاب الله العزيز عناية فائقة، وتناولوا كل ما يحتاج إلى بحث في القرآن الكريم بتوسع وتمحيص، ولم يغادروا منه شيئا يحتاج إلى درس أو تحليل، وهم في ذلك يرمون إلى تيسير فهم كتاب الله تعالى واستنباط ما فيه، ويحرصون على تعليمه، وتسهيل تلاوته، وتصحيح قراءته.
ومن هذه المباحث ما نقدم له من درس لأنواع الألفات أو الهمزات في أوائل كلمات القرآن الكريم: فمنها ما يظهر في أول الكلام ويسقط في وسطه، ومنها ما ينطق به على كل حال، ومنها ما يكون مفتوحا أو مضموما أو مكسورا، ومنا ما يسهل أو يلين، وقد سعى المؤلف إلى بيان هذه الأنواع والتعريف بها.
أما مؤلف الكتاب فمن أهل القرن التاسع الهجري، ترجم له السخاوي مؤرخ ذلك القرن فقال:
" محمد بن أحمد بن داود، الشمس، أبو عبد الله الدمشقي، الشافعي، المقرئ، ويعرف بابن النجار. ولد سنة ثمان وثمانين وسبعمائة تقريبا، وأخذ القراءات عن صدقة الضرير تلميذ ابن اللبان، وبرع فيها، وتصدر لها بجامع بني أمية وغيره، فأخذها عنه الفضلاء كالسيد حمزة الحسيني، وانتفعوا به فيها، وكان مع ذلك ماهرا في الحساب، وله مجلس بجامع "يلبغا" يعظ فيه الناس، وكتب شرحا على باب وقف حمزة وهشام من "القصيد"، وكذا كتب في الأوجه الواقعة في آخر البقرة وأول آل عمران، وعارضه فيها بعض تلامذته وغلطه في(18/266)
بعض مقالاته. ومات ظنا قريبا من سنة سبعين " (1) .
وقد وقفت على عدد من الرسائل التي ألفها ابن النجار، وهي كلها مخطوطة، في التجويد والقراءات، تحتفظ بأكثرها مكتبات: جامعة برنستون في أمريكا، ورضا بالهند، والظاهرية بدمشق.
ومن هذه الرسائل:
* الإفهام في شرح باب وقف حمزة وهشام، وله نسخ مخطوطة في برنستون، والأزهرية 4486، والظاهرية (2) .
* الرد المستقيم على بعض الأعاجم في تحريك الميم.
* الرد الوافي للقول المنافي، تتعلق بالأوجه الجائزة بين آخر سورة البقرة وأول سورة آل عمران.
* رسالة في جواز وصل الاستعاذة بالبسملة.
* رسالة في التعبير في ختم القرآن. .
* رسالة في جواز قراءة (أئمة) بالياء.
* رسالة في الفرق بين الضاد والظاء.
* غاية المراد في معرفة إخراج الضاد.
* مسألة السكت والغنة.
* مسألة في قراءة (تأمنا) .
* نثر الدرر في معرفة مذاهب الأئمة السبعة بين السور، وهي قريبة في موضوعها من "الرد الوافي" وليست هي.
__________
(1) الضوء اللامع 6 \ 308.
(2) فهرس الأزهرية 1 \ 61. وفي فهرس الظاهرية ''علوم القرآن '' وهشام من منظومة ابن الجزري، وليس صوابا.(18/267)
والكتاب الذي نحققه لابن النجار هو "التمييز في معرفة أقسام الألفات في كتاب الله العزيز "، وربما كان الكتاب الوحيد الذي ألف خاصا بالهمزات في أوائل الكلمات في القرآن الكريم.
وقد ألف علماء العربية كتبا في الألفات أو الهمزات في أوائل الكلمات في العربية، وقد وصلنا من ذلك كتابان:
الأول: لمحمد بن القاسم، أبي بكر، ابن الأنباري، المتوفى سنة 338 هـ، وعنوانه " مختصر في ذكر الألفات "، وقد تحدث فيه عن الألفات في أوائل الأفعال، وقسمها إلى أصل، وقطع، ووصل، واستفهام، وألف الخبر عن نفسه، وألف ما لم يسم فاعله، وتكلم عن كل نوع من الأنواع الستة. ثم تحدث عن الألفات في أوائل الأسماء وهي الأصل، والقطع، والوصل، والاستفهام، وتكلم أيضا عن كل واحد من هذه الأقسام، ثم ختم الكتاب بالهمزات في أوائل حروف المعاني والأدوات.
والثاني: "الألفات" لأبي عبد الله، الحسين بن أحمد، ابن خالويه، المتوفى سنة 370 هـ، تحدث فيه بتوسع عن ألفات الوصل، والأصل، والفصل، والقطع.(18/268)
أما كتاب ابن النجار -وقد أفاد فيه من سابقيه- فجعله في ستة أقسام: الوصل، والأصل، والقطع، وما لم يسم فاعله، والخبر عن نفسه، والاستفهام، وفي كل قسم يتحدث عما يجيء منه في الأفعال والأسماء، أو في الأفعال وحدها، ويمثل له بآيات من القرآن الكريم، وفتح الكتاب بمبحث للهمزات في أوائل الضمائر وحروف المعاني والأدوات.
وقد حققت الكتاب عن نسخة فريدة -فيما أعلم، وهي ضمن مجموع تحتفظ به مكتبة برنستون - مجموعة جاريت تحت رقم 244 \ 4346، في ثماني ورقات (ilov- flo) في كل صفحة ثلاثة عشر سطرا وعلى الصفحة الأولى اسم المؤلف وعنوان الكتاب، وقد كتبت المخطوطة بخط نسخي مقروء، كتبها أحمد بن موسى بن محمد القرشي، وقد نص في أكثر من رسالة على كتابتها سنة 860 هـ وإن لم يذكر ذلك في آخر مخطوطتنا، وقد قرئ الكتاب وصحح على مؤلفه. وكتبت بعض الكلمات بالحمرة الخفيفة، فكان قراءتها في المصورة صعبا، ولكن يبدو أن بعض الكلمات ترك لها فراغات لتكتب بالحمرة ونسي ذلك، إذ لا يظهر لها أثر في المصورة.
وحاولت تقديم نص جيد، صححت بعض أخطاء المخطوطة، واستدركت بين معقوفين الألفاظ غير المكتوبة، أو ما يحتاج إلى تكملة، ووضحت بداية كل صفحة من وجهي ورقة المخطوطة، كما جعلت أسماء السور وأرقام الآيات بين معقوفين تقليلا للحواشي، وخرجت كل ما يحتاج إلى ذلك، وعلقت على بعض العبارات، وربطت الكتاب بكتابي ابن الأنباري، وابن خالويه وأحلت عليهما.(18/269)
وبعد،
فهذا جهد من جهود علماء العربية في خدمة كتاب الله تعالى، ورسالة جديدة تضاف إلى المكتبة التراثية، نرجو الله تعالى أن ينفع بها، وأن يثيبنا عليها، وأن يعفو عن سيئاتنا وهفواتنا.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين
د. علي حسين البواب(18/270)
صورة من المخطوطة.(18/271)
[صورة من المخطوطة] .(18/272)
[صورة من المخطوطة] .(18/273)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي. وهو حسبي
[150 ب]
قال سيدنا وشيخنا وإمامنا العالم العلامة المحقق الزكي البهي، أبو عبد الله محمد بن أحمد الشافعي، الشهير بابن النجار.
الحمد لله المنعم بالإيمان، المتفضل بالقرآن، الباعث إلينا خير الأنام محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وعلى آله الطاهرين، وجميع النبيين، والملائكة المقربين، وسلم وشرف وكرم إلى يوم الدين.
وبعد.
فقد سألني بعض الإخوان من أهل الصفا، المشهورين بالدين والصدق والوفاء أن أجمع له ما وقفت عليه من الألفات الواقعة في كتاب الله الكريم، إذ لا بد للقارئ من معرفة ولا يسعه الجهل بها، فأجبته إلى ذلك، وإن لم أكن أهلا لذلك، رجاء دعوة خل صادق تثمر الغفران، وتستمطر سحائب رضى الرحمن، وبالله سبحانه أتوسل، وعليه أتوكل، وإليه أتضرع [151 أ] وبنبيه أتشفع (1) (2) أن يجعل علمي وعملي خالصا لوجهه الكريم، ويتغمدني ووالدي وإخواني بمغفرته ورحمته، إنه غفور رحيم.
وسميته بـ:
__________
(1) التشفع بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والسؤال به قبول الأعمال مما لا يجوز شرعا.
(2) انظر تعليق المجلة حول الشفاعة الملحق في نهاية البحث.(18/274)
التمييز في معرفة أقسام الألفات في كتاب الله العزيز(18/274)
فأقول وبالله التوفيق:
[اعلم] أن الألفات الواقعة في كتاب الله تعالى تنقسم باعتبار مواقعها إلى ستة أقسام: ألف وصل، وألف أصل، وألف قطع، وألف ما لم يسم فاعله، وألف المتكلم وهي ألف الخبر عن نفسه، وألف الاستفهام. وسأبين ذلك ألفا ألفا إن شاء الله تعالى، ليكون أنموذجا يقاس عليه ما جاء من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغيره.(18/275)
[1- ألف الوصل] :
فأما ألف الوصل فإنها تكون في الأسماء والأفعال:
أما التي في الأسماء فكلها ألفات قطع إلا عشرة أسماء، وهي: ابن، وابنة، وامرؤ، وامرأة، واثنان، واثنتان، واسم، واست، و [الألف] المصاحبة [151 ب] للام التعريف، وألف المصدر سوى مصدر الثلاثي، المهموز الأول، وسوى مصدر الفعل الرباعي.
واختلف في "أيمن الله " في القسم: فقال سيبويه: هي ألف وصل، وقال الكوفيون والفراء: هي ألف قطع، [ويقال] في ايمن الله: ايم الله(18/275)
بحذف اللام، فهذه عشرة أسماء خلافا لسيبويه.
فالموجود منها في كتاب الله عز وجل ثمانية أسماء وهي: ابن، وابنة، وامرؤ، وامرأة، واثنان، واثنتان، واسم، وألف لام التعريف: أمثلة ذلك قوله تعالى: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} (1) و {إِنَّ ابْنِي} (2) و {ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} (3) و {ابْنَتَ عِمْرَانَ} (4) و {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} (5) و {امْرَأَ سَوْءٍ} (6) {وَإِنِ امْرَأَةٌ} (7) {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} (8) و {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (9) و {اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} (10) و {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} (11) و {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا} (12) و {بِغُلَامٍ اسْمُهُ} (13) [مريم 7] {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} (14) وما أشبه ذلك.
ويستدل على ألف الوصل في ذلك بسقوطها [152 أ] في التصغير، [تقول] : بني، وبنية، ومريء، ومريئة، وثنيان تصغير اثنين، وثنيتان تصغير اثنتين، وسمي تصغير اسم. وتبتدئ بالألف في كل ذلك بالكسر (15) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 114
(2) سورة هود الآية 45
(3) سورة القصص الآية 27
(4) سورة التحريم الآية 12
(5) سورة النساء الآية 176
(6) سورة مريم الآية 28
(7) سورة النساء الآية 128
(8) سورة القصص الآية 9
(9) سورة المائدة الآية 106
(10) سورة المائدة الآية 12
(11) سورة النساء الآية 11
(12) سورة الأعراف الآية 160
(13) سورة مريم الآية 7
(14) سورة المزمل الآية 8
(15) ابن الأنباري 84، وابن خالويه 50.(18/276)
وأما ألف لام التعريف فكقوله تعالى: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} (1) وما أشبه ذلك. وهي مفتوحة في الابتداء في جميع الأحوال.
وإنما سميت هذه الألفات ألفات وصل للتوصل بها إلى النطق بالساكن، أو لاتصال ما قبلها بما بعدها، والله أعلم (2) .
وأما التي في الفعل فتعرف بشيئين: بسقوطها في درج الكلام إذا وصلت ما قبلها بما بعدها، وبانفتاح أول مستقبلها (3) ، كقوله تعالى: {قَالَ اذْهَبْ} (4) و {أَنِ اقْتُلُوا} (5) و {فَقُلْنَا اضْرِبْ} (6) [البقرة 60] وما أشبه ذلك.
ألا ترى أن مستقبل ذلك مفتوح في قولك: يذهب، ويقتل، ويضرب.
أما الابتداء بها فتكون [152 ب] مضمومة ومكسورة: والطريقة في ذلك أن ننظر إلى ثالث المضارع: فإن كان مضموما ضمة لازمة ضمت الهمزة في الابتداء (7) ، كقوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ} (8) و {اقْتُلُوا يُوسُفَ} (9) {ادْخُلُوا الْأَرْضَ} (10) وما أشبه ذلك. واحترزت بقولي ضمة لازمة عن الضمة العارضة كما في قوله تعالى: {أَنِ امْشُوا} (11) فإن الهمزة في امشوا في الابتداء مكسورة.
__________
(1) سورة الحشر الآية 23
(2) ينظر ابن خالويه 20 وحاشية الصفحة.
(3) ابن الأنباري 77. وزاد ابن خالويه 20: وسقوطها في الماضي.
(4) سورة الإسراء الآية 63
(5) سورة النساء الآية 66
(6) سورة البقرة الآية 60
(7) ابن الأنباري 77، وابن خالويه 24.
(8) سورة البقرة الآية 35
(9) سورة يوسف الآية 9
(10) سورة المائدة الآية 21
(11) سورة ص الآية 6(18/277)
وإن كان مكسورا، أو مفتوحا كسرت الهمزة في الابتداء، كقوله تعالى: {اهْدِنَا} (1) {اضْرِبْ بِعَصَاكَ} (2) {ارْكَبْ مَعَنَا} (3) وشبه ذلك، فهذا حكم همزة الوصل في الأسماء والأفعال.
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 6
(2) سورة البقرة الآية 60
(3) سورة هود الآية 42(18/278)
[ألف الأصل] (1) .
وأما ألف الأصل في الأسماء فإنها تكون مفتوحة ومكسورة ومضمومة، وتعرف بكونها فاء الفعل وثبوتها في التصغير، كقوله تعالى: انية [الغاشية 5] و {أَمْرُ اللَّهِ} (2) و {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} (3) [يونس 72] و {أُمَّهَاتُكُمْ} (4) {وَإِخْوَانَكُمْ} (5) و {إِصْرَهُمْ} (6) وما أشبه ذلك. فالألف في هذه الأمثلة [153 أ] الفعل، وهي ثابتة في التصغير في قولك: أمير، وأجير، وأصير، وشبهه.
وأما التي تكون في الأفعال فتمتحن بكونها فاء الفعل في الماضي والمستقبل، وبكونها مفتوحة أبدا. إذا ذكر الفاعل، كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} (7) و {مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ} (8) {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} (9) {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} (10) وما أشبه ذلك. ألا ترى أنها فاء من الفعل في الماضي وكذلك في المستقبل، كقولك: يأمر، ويأتي، ويأخذ، إذ وزنه " يفعل. .، فالهمزة فيه فاء.
__________
(1) ابن الأنباري 77، 82، وابن خالويه 55
(2) سورة النساء الآية 47
(3) سورة يونس الآية 72
(4) سورة النساء الآية 23
(5) سورة التوبة الآية 23
(6) سورة الأعراف الآية 157
(7) سورة النحل الآية 1
(8) سورة البقرة الآية 27
(9) سورة البقرة الآية 50
(10) سورة هود الآية 94(18/278)
[3- ألف القطع] (1) .
وأما ألف القطع في الأسماء فتعرف بشيئين: بكونها زائدة على فاء الفعل وعينه ولامه، وبثبوتها في التصغير، كقوله تعالى: {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (2) و {أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} (3) {وَأَعْظَمَ أَجْرًا} (4) و {أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} (5) وما أشبه ذلك من الأسماء والصفات. ألا ترى أن وزن ذلك " أفعل " فالهمزة زائدة على فاء الفعل وعينه ولامه، وهي ثابتة [153 ب] في التصغير في قولك: أحيسن، واقيسط، وأعيظم، وما أشبه ذلك. وتختبر هذه الأسماء المجموعة بحسن دخول الألف واللام عليها كقوله تعالى: {أَزْوَاجُكُمْ} (6) و {أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} (7) و {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} (8) وشبهه، فيحسن دخول الألف واللام في ذلك كله فتقول: الأزواج، والأصحاب، والأنفس. واختلف في الأسماء الأعجمية: فذهب البصريون إلى أنها ألف وصل لأجل لزومها، وذهب الكوفيون إلى أنها ألف قطع للجهل باشتقاقها، والأسماء الأعجمية كإدريس، وأيوب، وإبراهيم، وإلياس، وإسحاق، وإسماعيل، وإسرائيل، وإرم، وما أشبه ذلك. وأما ألف إستبرق، وإبليس فإنهما ألفا قطع (9) .
وأما ألف القطع في الأفعال فتختبر بأمور: أحدها: الزيادة على فاء الفعل وعينه ولامه. الثاني: كسرها في المصادر. الثالث: انضمام حرف المضارعة. الرابع: فتحها في الماضي (10) .
__________
(1) ابن الأنباري 77، 83، وابن خالويه 69.
(2) سورة المؤمنون الآية 14
(3) سورة البقرة الآية 282
(4) سورة المزمل الآية 20
(5) سورة البقرة الآية 217
(6) سورة النساء الآية 12
(7) سورة الحجر الآية 78
(8) سورة التوبة الآية 128
(9) ينظر ابن الأنباري 83، وابن خالويه 69، 70، 78.
(10) ابن الأنباري 77، وابن خالويه 75.(18/279)
أمثلة ذلك: {أَنْعَمْتَ} (1) {أَفْرِغْ عَلَيْنَا} (2) {أَخْرِجْنَا مِنْهَا} (3) {أَنْزَلَ اللَّهُ} (4) {أَلْهَاكُمُ} (5) وما أشبه ذلك. ألا ترى أن وزن ذلك " أفعل " فالهمزة زائدة على الفاء والعين واللام، وأن المصادر منها مكسورة، كقوله تعالى: {إِخْرَاجًا} (6) و {إِجْرَامِي} (7) و {إِعْرَاضُهُمْ} (8) و {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (9) وشبه ذلك. وأن حرف المضارعة من ذلك كله مضموم كقولك: ينعم، ويفرغ، ويلهى ويشبهه. وأن الألف في الماضي مفتوحة، فافهم ذلك.
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 7
(2) سورة البقرة الآية 250
(3) سورة المؤمنون الآية 107
(4) سورة البقرة الآية 90
(5) سورة التكاثر الآية 1
(6) سورة نوح الآية 18
(7) سورة هود الآية 35
(8) سورة الأنعام الآية 35
(9) سورة البقرة الآية 256(18/280)
[41- ألف الاستفهام] (1) .
وأما ألف الاستفهام فإنها تقع في الأسماء والأفعال، تعرف في النوعين بوقوع "أم " بعدها، ويحسن (هل) في موضعها:
فمثال وقوع "أم" بعدها قوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (3) {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} (4) وشبه ذلك. ومثال ما يحسن "هل " في موضعها قوله تعالى: نحن صددناكم [سبأ 32] {أَسِحْرٌ هَذَا} (5) {أَرَاغِبٌ أَنْتَ} (6) وما أشبهه ألا ترى أنه يحسن في موضعها "هل" كقولك: هل صددناكم؟ ، هل سحر هذا؟ هل راغب أنت؟ وشبهه.
__________
(1) ابن الأنباري 80، 84.
(2) سورة النمل الآية 59
(3) سورة يونس الآية 59
(4) سورة الأنعام الآية 143
(5) سورة يونس الآية 77
(6) سورة مريم الآية 46(18/280)
ومثال وقوع أم بعدها في الأفعال قوله تعالى: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} (1) {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ} (2) {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ} (3) [البقرة 80] {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ} (4) وما أشبه ذلك. ومثال ما يحسن في موضعها "هل" قوله تعالى: {أَتُهْلِكُنَا} (5) {أَعَجِلْتُمْ} (6) {أَرَأَيْتُمْ} (7) {أَتَجْعَلُ فِيهَا} (8) {أَحَسِبَ النَّاسُ} (9) وما أشبه ذلك، ألا ترى أنه يحسن في موضع ذلك كله "هل" والألف في هذه الأمثلة مفتوحة أبدا.
تنبيه: اعلم أن ألف الاستفهام تدخل على ألف الوصل، وألف القطع، وألف لام التعريف، فإذا دخلت ألف الوصل ثبت ألف الاستفهام وسقطت ألف الوصل، وذلك أن ألف الوصل إنما جيء بها للتوصل إلى النطق بالساكن الذي بعدها، فلما دخلت عليها همزة الاستفهام استغني عنها بها، كقوله تعالى: [155 أ] {أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا} (10) استكبرت [ص75] أستغفرت [المنافقون 6] ، أصطفى البنات [الصافات 153] ، {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} (11) {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} (12) إذ أصل ذلك همزتان: الأولى مفتوحة وهي ألف الاستفهام، والثانية مكسورة
__________
(1) سورة سبأ الآية 8
(2) سورة مريم الآية 78
(3) سورة البقرة الآية 80
(4) سورة ص الآية 63
(5) سورة الأعراف الآية 155
(6) سورة الأعراف الآية 150
(7) سورة الأنعام الآية 46
(8) سورة البقرة الآية 30
(9) سورة العنكبوت الآية 2
(10) سورة البقرة الآية 80
(11) سورة مريم الآية 78
(12) سورة الأنعام الآية 21(18/281)
وهي ألف الوصل التي حذفت واستغني عنها بألف الاستفهام (1) . قال ذو الرمة:
أستحدث الركب من أشياعهم خبرا ... . . . . . . . . .
فقطع الألف لأنها ألف الاستفهام وأسقط ألف الوصل. . . والله أعلم.
وإذا دخلت ألف الاستفهام على ألف القطع نظرت: فإذا كانت ألف القطع مفتوحة ففيها للعرب لغات:
منهم من يهمزهما معا، فيأتي بهمزتين مقصورتين.
ومنهم من يدخل ألفا استثقالا للجمع بينهما كما قال ذو الرمة:
فيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا آأنت أم أم سالم
فأدخل بين الهمزتين ألفا لئلا يجمع بين همزتين، والمعنى: أأنت أحسن أم أم سالم؟ .
ومنهم [155 ب] من يبدل الثانية ألفا، فيأتي بهمزة ومدة.
أما من أثبتهما معا، فمنهم من حقق الثانية، ومنهم من أزال نبرتها بالتسهيل، وذلك نحو قوله تعالى: {أَأَنْذَرْتَهُمْ} (2) {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} (3) {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} (4) {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ} (5) وشبهه، وكل ذلك قرئ به.
__________
(1) ينظر ابن الأنباري 89.
(2) سورة البقرة الآية 6
(3) سورة المائدة الآية 116
(4) سورة يس الآية 23
(5) سورة هود الآية 72(18/282)
وإن كانت ألف القطع مضمومة فيجوز فيها الوجوه المتقدمة إلا البدل، وذلك كقوله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ} (1) {أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ} (2) {أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} (3) وليس في القرآن سوى ذلك (4) .
وإن كانت ألف القطع مكسورة فيجوز فيها الوجوه المذكورة في الهمزة المفتوحة، غير أن البدل هنا ياء مكسورة، فيكون فيها خمس لغات، وقد قرئ بهن، نحو قوله تعالى: {أَئِذَا مِتْنَا} (5) {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} (6) {أَئِفْكًا آلِهَةً} (7) وما أشبه ذلك (8) .
وإما إذا دخلت ألف الاستفهام على ألف لام التعريف فللعرب في ألف لام التعريف مذهبان:
أحدهما: إبدالها ألفا، فيأتون بهمزة [156 أ] ومدة بعدها.
الثاني: تسهيلها، فيأتون بهمزتين: محققة وملينة [قال معن] بن أوس:
فوالله ما أدري أالحب شفه ... فسل عليه جسمه أم تعبدا (9)
فأتى بهمزتين: محققة وملينة.
وأمثلة ذلك في كتابه العزيز قوله تعالى: {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ} (10) {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} (11) {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} (12) وشبهه، لا تثبت همزة الوصل المصاحبة للام التعريف مع حرف قبلها في شيء من كلام العرب إلا مع ألف الاستفهام كما هنا، والله أعلم (13) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 15
(2) سورة القمر الآية 25
(3) سورة ص الآية 8
(4) السبعة 136- 137، والتيسير 32، والنشر 1 \ 374.
(5) سورة المؤمنون الآية 82
(6) سورة الشعراء الآية 41
(7) سورة الصافات الآية 86
(8) السبعة 137، والتيسير 32، والنشر 1 \ 372.
(9) ديوان معن 78. وشفه: هزله.
(10) سورة الأنعام الآية 143
(11) سورة النمل الآية 59
(12) سورة يونس الآية 91
(13) النشر 1 \ 377، والكتاب 2 \ 273، 274.(18/283)
[5- ألف ما لم يسم فاعله] (1) .
وأما ألف ما لم يسم فاعله فلا تقع في الأسماء البتة، وإنما تجيء في الأفعال، وهي مضمومة أبدا في أي وزن وقعت فيه من الأفعال، وتكون موصولة ومقطوعة، كقوله تعالى: {الَّذِينَ اتُّبِعُوا} (2) {بِمَا أُنْزِلَ} (3) {فَمَنِ اضْطُرَّ} (4) {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ} (5) {كَمَا أُرْسِلَ} (6) {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ} (7) {وَمَا أُمِرُوا} (8) [التوبة 31] وما أشبه ذلك.
__________
(1) ابن الأنباري 81
(2) سورة البقرة الآية 166
(3) سورة البقرة الآية 4
(4) سورة البقرة الآية 173
(5) سورة الأحزاب الآية 11
(6) سورة الأنبياء الآية 5
(7) سورة الأنعام الآية 10
(8) سورة التوبة الآية 31(18/283)
[6- ألف المتكلم] (1) .
وأما ألف المتكلم، وهي ألف المخبر عن نفسه، فلا تقع أيضا في الأسماء، وإنما تقع في الأفعال المضارعة خاصة، لأنها [156 ب] أحد علاماته، وتقع في الأفعال المبنية للفاعل، والمبنية للمفعول.
وأما وقوعها في المضارع المذكور فاعله فإنها تكون مضمومة كقوله تعالى: {أُحْيِي وَأُمِيتُ} (2) و {أُصِيبُ بِهِ} (3) و {أُفْرِغْ عَلَيْهِ} (4) {سَأُنْزِلُ} (5) {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ} (6) {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ} (7) وما أشبه ذلك. وتكون أيضا مفتوحة
__________
(1) ابن الأنباري 81
(2) سورة البقرة الآية 258
(3) سورة الأعراف الآية 156
(4) سورة الكهف الآية 96
(5) سورة الأنعام الآية 93
(6) سورة الزخرف الآية 63
(7) سورة آل عمران الآية 49(18/283)
كقوله تعالى: {فَكَيْفَ آسَى} (1) و {لَعَلِّي أَبْلُغُ} (2) {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ} (3) {وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ} (4) {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} (5) و {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (6) وما أشبه ذلك.
وأما وقوعها فيما لم يسم فاعله فإنها تقع مضمومة أبدا كقوله تعالى: {لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} (7) {لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} (8) و {أَنْ أُخْرَجَ} (9) {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} (10) وما أشبه ذلك.
* * *
اعلم أن جميع الألفات التي في أوائل الضمائر وأسماء الإشارة، والأدوات ألفات قطع، مثال الضمائر: أنا، أنت، أنت، أنتما، أنتم، أنتن، إياك، إياك، إياكما، إياكم، إياكن، إياي، إيانا. ومثال أسماء الإشارة: أولاء، وأولئك، وأولئكم وشبهه. ومثال الأدوات: إن وأن، وإلى، وأم، [157 أ] وأما، وإنما وشبهه.
وكذلك الألفات في إذا، وإذ، وأين، وأينما، و (الم) ، و {المص} (11) و (الر) ، و {المر} (12) فالألف في ذلك أصلية لامتناع سقوطها.
* * *
__________
(1) سورة الأعراف الآية 93
(2) سورة غافر الآية 36
(3) سورة الأنعام الآية 151
(4) سورة يونس الآية 104
(5) سورة البقرة الآية 126
(6) سورة غافر الآية 60
(7) سورة الحاقة الآية 25
(8) سورة مريم الآية 66
(9) سورة الأحقاف الآية 17
(10) سورة مريم الآية 33
(11) سورة الأعراف الآية 1
(12) سورة الرعد الآية 1(18/285)
والله سبحانه وتعالى أعلم بكتابه، ونسأله العفو من أليم عذابه، وأن يجعلنا من خواصه وأحبابه، ويسقينا من رحيق شرابه، إنه غفور رحيم، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الكريم.
* تمت *
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم علقها لنفسه ولمن شاء من بعده، العبد الفقير إلى الله تعالى، أحمد بن موسى بن الشيخ محمد بن إبراهيم القرشي، غفر الله له ولمن دعا له بالمغفرة. آمين. بلغ قراءة وتصحيحا على مصنفه أبقاه الله تعالى، ونفعنا بعلمه.
حسين علي البواب
تعليق المجلة:.(18/286)
مصادر التقديم والتحقيق
* القرآن الكريم.
* ابن الأنباري = مختصر في ذكر الألفات.
* ابن خالويه = الألفات.
* الألفات- لابن خالويه - تحقيق د. علي حسين البواب -مكتبة المعارف- الرياض 1402 هـ.
* الإنصاف في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين - تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد - مكتبة صبيح - القاهرة 1953 م.
* التيسير في القراءات السبع - لأبي عمر الداني - تصحيح أوتوبرتزل - إستامبول - مطبعة الدولة 1930م.
* ديوان ذي الرمة - تحقيق د. نوري القيسي، د. حاتم الضامن - دار الجاحظ- بغداد 1977 م.
* السبعة - لابن مجاهد - تحقيق د. شوقي ضيف - دار المعارف - القاهرة 1980 م.
* الضوء اللامع لأهل القرن التاسع - لشمس الدين السخاوي - المطبعة السلفية - القاهرة 1353 هـ.
* فهرس مخطوطات المكتبة الأزهرية - مطبعة الأزهرية - الطبعة الثامنة 1371 هـ القاهرة.
* فهرس مخطوطات مكتبة رضا - رامبور - علوم القرآن - إعداد امتياز علي عرشي - رامبور - الهند 1963 م.(18/287)
* فهرس مخطوطات المكتبة الظاهرية - علوم القرآن - إعداد د. عزة حسن - مجمع اللغة العربية- دمشق 1381 هـ.
* الكتاب- لسيبويه - بولاق 1316 هـ.
* كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون - لحاجي خليفة - وكالة المعارف إستامبول 1945 م.
* مختصر في ذكر الألفات لأبي بكر بن الأنباري - تحقيق د. حسن شاذلي فرهود - مجلة جامعة الملك سعود - المجلد السادس- سنة 1399 هـ- الرياض.
* مغني اللبيب عن كتب الأعاريب - لابن هشام الأنصاري - تحقيق د. مازن المبارك ود. محمد علي حمد الله. دار الفكر- دمشق 1969 م.(18/288)
أحاديث الصحيحين
بين الظن واليقين
للشيخ حافظ ثناء الله الزاهدي
* الاسم الكامل: حافظ ثناء الله الزاهدي.
* الميلاد: عام 1956 م.
* المؤهلات العلمية: حصل على الشهادة " الليسانس " في كلية الشريعة. في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
* العمل الحالي: رئيس مجلس التحقيق الأثري، والأستاذ في جامعة العلوم الأثرية. جهلم باكستان.
* إنتاجه العلمي: صدر له كتاب " توجيه القارئ إلى الفوائد والقواعد الأصولية والإسنادية في فتح الباري ".
* وله كتاب " تحقيق الغاية بترتيب الرواة المترجم لهم في نصب الراية (تحت الطبع) .
* وكتاب " التصريح بمنهج الإمام مسلم وعاداته في الصحيح ".
* وحقق كتاب " فتح الباقي بشرح ألفية العراقي ".
* وبحوث أخرى علمية لم تطبع بعد.(18/289)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه الطاهرين.
أما بعد: فقد كثر كلام النقاد المحققين من الفقهاء والمحدثين في إفادة أحاديث " الصحيحين " القطع والظن مع اتفاقهم على أنه ليس بعد كتاب الله -تعالى- أصح من صحيحي البخاري ومسلم.
فجمعنا في هذه الورقات صفوة كلام كل من الفريقين في هذا الموضوع، مع تثبيت ما نراه حقا وراجحا بالدلائل، ورد ما نراه مرجوحا بأحسن الأدلة والوسائل.
وسيكون البحث فيها -إن شاء الله- في سبع نقاط رئيسية وهي:(18/290)
(1) تعريف الظن واليقين لغة واصطلاحا وحكمهما.
(2) بيان أقوال من قال بإفادة أحاديث " الصحيحين " القطع.
(3) أدلة القائلين بإفادتها القطع.
(4) أدلة القائلين بإفادتها الظن.
(5) مع ابن الصلاح وابن حجر فيما استثنياه من الأحاديث التي لا تفيد القطع من هذين الكتابين.
(6) بين أحاديث " الصحيحين " والخبر المشهور.
(7) أهم نتائج البحث.
وليس القصد وراء ذلك كله إلا الاقتداء بالحق والصواب، رجاء من الله -تعالى- جزيل الأجر والثواب.(18/290)
(1) تعريف الظن واليقين لغة واصطلاحا وحكمهما:
وقبل أن نخوض في البحث يجدر بنا أن نعرف الظن واليقين لغة واصطلاحا.
فالظن لغة: يستعمل في معنى الشك: وهو التردد بين النقيضين بلا ترجيح لأحدهما على الآخر عند الشاك (1) .
ويستعمل بمعنى اليقين. قال ابن منظور: الظن شك ويقين، إلا أنه ليس بيقين عيان، إنما هو يقين تدبر (2) .
وقال الزبيدي: الظن هو التردد الراجح بين طرفي الاعتقاد الغير الجازم. ونقل عن المناوي أنه قال: الظن الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض ويستعمل في اليقين والشك (3) .
وهذا المعنى الأخير الذي قاله الزبيدي والمناوي هو لذي استقر عليه اصطلاح الأصوليين.
قال الآمدي: الظن ترجيح أحد الاحتمالين الممكنين على الآخر في النفس من غير قطع (4) .
وقال عبد العزيز البخاري: الظن ما كان جانب الثبوت فيه راجحا، ويسمى غالب الرأي (5) . وقال القرطبي: الظن الشرعي هو تغليب أحد الجانبين، أو هو بمعنى اليقين (6) .
وقال أبو يعلى الفراء: الظن تجويز أمرين أحدهما أقوى من الآخر (7) .
__________
(1) ''التعريفات للجرجاني '' (ص: 68) .
(2) ''لسان العرب '' (13 \ 272) .
(3) ''تاج العروس '' (9 \ 271) .
(4) ''الإحكام للآمدي '' (1 \ 223) .
(5) ''كشف الأسرار'' (2 \ 389) .
(6) نقد ابن حجر في ''فتح الباري '' (10 \ 481) .
(7) ''العدة في أصول الفقه (1 \ 83) .(18/291)
أما اليقين فلغة: العلم، وإزاحة الشك، وتحقيق الأمر. واصطلاحا: اعتقاد الشيء بأنه كذا مع اعتقاده أنه لا يمكن إلا كذا، مطابقا للواقع غير ممكن الزوال (1) .
فالثابت باليقين لا شك في حجيته، ولا خلاف. وأما ما كان ثبوته مظنونا فأيضا مقبول وحجة بإجماع علماء أهل السنة في الأحكام والعقائد.
قال ابن عبد البر:
أجمع أهل العلم من أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار فيما علمت على قبول خبر الواحد العدل وإيجاب العمل به إلا الخوارج وطوائف من أهل البدع.
وقال: وكلهم يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات، ويجعلها شرعا، ودينا في معتقده. على ذلك جماعة أهل السنة. (2) .
وقال أبو يعلى الفراء: الظن طريق للحكم إذا كان عن أمارة مقتضية للظن، ولهذا يجب العمل بخبر الواحد إذا كان ثقة، ويجب العمل بشهادة الشاهدين (3) .
وقال الحافظ بدر الدين العيني: وإجراء الحكم بناء على غالب الظن واجب، وذلك نحو ما تعبدنا به من قبول لشهادة العدول، وتحري القبلة، وتقويم المستهلكات، وأرش الجنايات التي لم ترد مقاديرها بتوقيف من قبل الشرع. فهذا ونظائره قد تعبدنا فيه بغالب الظن (4) .
__________
(1) ''لسان العرب '' (13 \ 457) ، '' تاج العروس'' (9 \ 370) ، ''التعريفات '' (ص: 136) .
(2) ''التمهيد'' (1 \ 3، 8) .
(3) ''العدة في أصول الفقه '' (1 \ 83) .
(4) ''عمدة القاري '' (22 \ 137) .(18/292)
وقال فخر الدين الرازي: العمل بخبر الواحد الذي لا يقطع بصحته مجمع عليه بين الصحابة (1) .
وهو المختار عند من بعد الصحابة من التابعين وأتباعهم، وكافة علماء أهل السنة رضوان الله عليهم أجمعين.
__________
(1) ''المحصول '' (1 \ 2 \ 527، 509) .(18/293)
(2) أقوال القائلين بإفادة أحاديث الصحيحين القطع
(1) قول أبي إسحاق الإسفراييني (ت 418 هـ)
قال في كتابه " أصول الفقه ": أهل الصنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها " الصحيحان " مقطوع بصحة أصولها ومتونها، ولا يحصل الخلاف فيها بحال، وإن حصل فذاك اختلاف في طرقها ورواتها. قال: فمن خالف حكمه خبرا منها وليس له تأويل سائغ للخبر نقضنا حكمه؛ لأن هذه الأخبار تلقتها الأمة بالقبول (1) .
(2) قول إمام الحرمين الجويني (ت 478 هـ)
قال: لو حلف إنسان بطلاق امرأته: أن ما في " الصحيحين " مما حكما بصحته من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لما ألزمته الطلاق، لإجماع علماء المسلمين على صحته (2) .
__________
(1) نقله عنه الزركشي في ''نكته علي ابن الصلاح '' (ورقة \ 13) ، والسخاوي في ''فتح المغيث '' (1 \ 51) .
(2) انظر ''تدريب الراوي '' (1 \ 131، 132) ، وشرح مسلم '' للنووي (1 \ 19) .(18/293)
(3) قول ابن القيسراني (ت 507)
قال: أجمع المسلمون على قبول ما أخرج في " الصحيحين " لأبي عبد الله البخاري، ولأبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري، أو ما كان على شرطهما ولم يخرجاه (1) .
وقال: أما كتاب الترمذي وحده على أربعة أقسام: قسم صحيح مقطوع به وهو ما وافق فيه البخاري ومسلما (2) .
(4) قول ابن الصلاح (ت 643) .
قال: أهل الحديث كثيرا ما يطلقون على ما أخرجه البخاري ومسلم جميعا " صحيح متفق عليه " ويعنون به اتفاق البخاري ومسلم، لا اتفاق الأمة عليه. لكن اتفاق الأمة عليه لازم من ذلك وحاصل معه، لاتفاقهما على تلقي ما اتفقا عليه بالقبول، وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته، والعلم اليقيني النظري واقع به، خلافا لمن نفى ذلك محتجا بأنه لا يفيد في أصله إلا الظن (3) .
(5) قول الإمام ابن تيمية الحراني (ت 728) .
قال: إن جمهور ما في البخاري ومسلم مما يقطع بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله؛ لأن غالبه من هذا، ولأنه قد تلقاه أهل العلم بالقبول والتصديق، والأمة لا تجتمع على خطأ.
فلو كان الحديث كذبا في نفس الأمر والأمة مصدقة له، قابلة له، لكانوا
__________
(1) ''صفوة التصوف'' (ورقة \ 87، 88) .
(2) '' شروط الأئمة الخمسة'' (ص: 15) .
(3) '' علوم الحديث '' (ص: 24، 25) .(18/294)
قد أجمعوا على تصديق ما هو في نفس الأمر كذب! وهذا إجماع على الخطأ، وذلك ممتنع.
وإن كنا نحن بدون الإجماع نجوز الخطأ أو الكذب على الخبر، فهو كتجويزنا قبل أن نعلم الإجماع على العلم الذي ثبت بظاهر أو قياس ظني أن يكون الحق في الباطل بخلاف ما اعتقدناه، فإذا أجمعوا على الحكم جزمنا بأن الحكم ثابت باطنا وظاهرا.
ولهذا كان جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقا له، أو عملا به أنه يوجب العلم.
وهذا هو الذي ذكره المصنفون في أصول الفقه من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد. إلا فرقة قليلة من المتأخرين اتبعوا في ذلك طائفة من أهل الكلام أنكروا ذلك.
ولكن كثيرا من أهل الكلام، أو أكثرهم يوافق الفقهاء، وأهل الحديث والسلف على ذلك.
وهو قول أكثر الأشعرية كأبي إسحاق، وابن فورك. وهو الذي ذكره الشيخ أبو حامد، وأبو الطيب، وأبو إسحاق،. وأمثالهم من أئمة الشافعية، وشمس الدين السرخسي وأمثاله من الحنفية، وأبو(18/295)
يعلى، وأبو الخطاب، وأبو الحسن الزاغوني وأمثالهم من الحنبلية، والقاضي عبد الوهاب وأمثاله من المالكية.
وإذا كان الإجماع على تصديق الخبر موجبا للقطع به فالاعتبار في ذلك بإجماع أهل العلم بالحديث، كما أن الاعتبار في الإجماع على الأحكام بإجماع أهل العلم بالأمر والنهي والإباحة.
(6) قول ابن القيم الجوزية (ت 751 هـ) .
قال: اعلم أن جمهور أحاديث البخاري ومسلم من هذا الباب كما ذكره الشيخ أبو عمرو، ومن قبله من العلماء، كالحافظ أبي طاهر السلفي وغيره. فإن ما تلقاه أهل الحديث وعلماؤه بالقبول والتصديق فهو محصل للعلم، مفيد لليقين، ولا عبرة بمن عداهم من المتكلمين والأصوليين، فإن الاعتبار في الإجماع على كل أمر من الأمور الدينية بأهل العلم به دون غيرهم. كما لم يعتبر في الإجماع على الأحكام الشرعية إلا العلماء بها، دون المتكلمين والنحاة والأطباء، وكذلك لا يعتبر في الإجماع على صدق الحديث وعدم صدقه إلا أهل العلم بالحديث وطرقه وعلله، وهم علماء الحديث، العالمون بأحوال نبيهم، الضابطون لأقواله وأفعاله، المعتنون بها أشد من عناية المقلدين لأقوال متبوعيهم.(18/296)
فكما أن العلم ينقسم إلى عام وخاص، فيتواتر عند الخاصة ما لا يكون معلوما لغيرهم فضلا أن يتواتر عندهم. فأهل الحديث لشدة عنايتهم بسنة نبيهم وضبطهم لأقواله، وأفعاله، وأحواله يعلمون من ذلك علما لا يشكون فيه مما لا شعور لغيرهم به ألبتة.
(7) قول الحافظ صلاح الدين ابن كيكلدي العلائي (ت 761 هـ)
قال: أحاديث الصحيحين -لإجماع الأمة على صحتها، وتلقيها بالقبول- تفيد العلم النظري، كما يفيده الخبر المحتف بالقرائن.
وهذا هو اختيار الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، وإمام الحرمين، وقرره ابن الصلاح. وقد ذكرته بدلائله في مقدمة "نهاية الأحكام " (1) .
(8) قول الحافظ ابن كثير (ت 774 هـ)
قال: ثم حكى ابن الصلاح: إن الأمة تلقت هذين الكتابين بالقبول، سوى أحرف يسيرة انتقدها بعض الحفاظ كالدارقطني وغيره، ثم استنبط من ذلك القطع بصحة ما فيهما من الأحاديث، لأن الأمة معصومة عن الخطأ، فما ظنت صحته ووجب عليها العمل به، لا بد وأن يكون صحيحا في نفس الأمر. وهذا جيد.
وقد خالف في هذه المسألة الشيخ محيي الدين النووي وقال: لا يستفاد القطع بالصحة من ذلك. قلت: وأنا مع ابن الصلاح فيما عول عليه وأرشد إليه. والله أعلم (2) .
__________
(1) انظر '' تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد '' (ص: 114) .
(2) '' الباعث الحثيث '' (ص: 35) .(18/297)
(9) قول سراج الدين البلقيني (ت 805 هـ) .
قال: وما قاله النووي وابن عبد السلام ومن تبعهما ممنوع، فقد نقل بعض الحفاظ المتأخرين عن جماعة من الشافعية كالإسفراييني أبي إسحاق، وأبي حامد، والقاضي أبي الطيب، وتلميذه أبي إسحاق الشيرازي، والسرخسي من الحنفية والقاضي عبد الوهاب من المالكية، وجماعة من الحنابلة كأبي يعلى، وأبي الخطاب، وابن حامد، وابن الزاغوني، وأكثر أهل الكلام من الأشعرية وغيرهم، منهم ابن فورك، وأهل الحديث قاطبة، ومذهب السلف عامة، أنهم يقطعون بالحديث الذي تلقته الأمة بالقبول (1) .
(10) قول العلامة أبي الفيض الفارسي الحنفي (ت 837) .
قال: ما روياه أو واحد فهو مقطوع بصحته، أي يفيد العلم القطعي نظرا لا ضرورة.
وقيل: لا يفيد إلا الظن. وعليه الأكثرون (2) .
(11) قول الحافظ أبي نصر الوائلي السجزي:
قال: أجمع أهل العلم الفقهاء وغيرهم على أن رجلا لو حلف بالطلاق أن جميع ما في كتاب البخاري مما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد صح عنه، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاله. لا شك في أنه لا يحنث، والمرأة بحالها في حبالته.
__________
(1) '' محاسن الاصطلاح '' (ص: 101) .
(2) '' جواهر الأصول '' (ص: 20، 21) .(18/298)
(12) قول الحافظ جلال الدين السيوطي (ت 911 هـ) .
قال بعد أن ذكر موافقة ابن كثير لابن الصلاح في هذه المسألة: قلت: وهو الذي أختاره ولا أعتقد سواه (1) .
وقال في " ألفيته في علم الحديث ":
والنووي رجح في التقريب ... -ظنا به- والقطع ذو تصويب (2) .
(13) قول الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852) .
قال: قد يقع في أخبار الآحاد ما يفيد العلم النظري بالقرائن على المختار. والخبر المحتف بالقرائن أنواع:
منها: ما أخرجه الشيخان في صحيحهما مما لم يبلغ حد التواتر فإنه احتف به قرائن منها:
(1) جلالتهما في هذا الشأن.
(2) وتقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما.
(3) وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول. وهذا التلقي وحده أقوى في العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر.
إلا أن هذا يختص بما لم ينتقده أحد من الحفاظ مما في الكتابين، وبما لم يقع التجاذب بين مدلوليه مما وقع في الكتابين حيث لا ترجيح لاستحالة أن يفيد المتناقضات العلم بصدقهما من غير ترجيح لأحدهما
__________
(1) '' تدريب الراوي '' (1 \ 134) .
(2) (ص: 3) بتحقيق الأستاذ أحمد شاكر.(18/299)
على الآخر، وما عدا ذلك فالإجماع حاصل على تسليم صحته (1) .
(14) قول الشيخ ولي الله الدهلوي (ت 1176 هـ) .
قال: أما الصحيحان فقد اتفق المحدثون على أن جميع ما فيهما من المتصل المرفوع صحيح بالقطع، وأنهما متواتران إلى مصنفيهما، وأنه كل من يهون أمرهما مبتدع، متبع غير سبيل المؤمنين.
فإن الشيخين لا يذكران إلا حديثا قد تناظرا فيه مشائخهما وأجمعوا على القول به والتصحيح له، كما أشار مسلم حيث قال: لم أذكر ها هنا إلا ما أجمعوا عليه (2) .
(15) قول الإمام الشوكاني (ت 1250 هـ) .
قال: لا نزاع في أن خبر الواحد إذا وقع الإجماع على العمل بمقتضاه فإنه يفيد العلم، لأن الإجماع عليه قد صيره من المعلوم صدقه. وهكذا خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول فكانوا بين عامل به ومتأول له. ومن هذا القسم أحاديث صحيحي البخاري ومسلم، فإن الأمة تلقت ما فيهما بالقبول، ومن لم يعمل بالبعض من ذلك فقد أوله، والتأويل فرع القبول (3) .
وقال: فقد أجمع أهل هذا الشأن على أن أحاديث الصحيحين أو أحدهما كلها من المعلوم صدقه بالقبول المجمع على ثبوته (4) .
__________
(1) شرح النخبة، ص: 30- 33.
(2) حجة الله البالغة (1 \ 134) .
(3) إرشاد الفحول (ص: 49، 50) .
(4) '' قطر الولي '' (ص: 230) .(18/300)
(16) قول الشيخ محمد أنور الكشميري الحنفي (ت 1352 هـ) .
قال: اختلفوا في أن أحاديث الصحيحين هل تفيد القطع أم لا؟ فالجمهور إلى أنها لا تفيد القطع، وذهب الحافظ -رضي الله عنه- إلى أنها تفيد القطع، وإليه جنح شمس الأئمة السرخسي من الحنفية، والحافظ ابن تيمية من الحنابلة، والشيخ ابن الصلاح. وهؤلاء وإن كانوا أقل عددا إلا أن رأيهم هو الرأي (1) .
وهذا الذي قاله هؤلاء العلماء هو الذي اختاره الحافظ أبو طاهر السلفي، (2) . وأبو عبد الله الحميدي (3) . والعلامة محمد المعين بن محمد الأمين السندي في " دراسات اللبيب ". و " غاية الإيضاح في المحاكمة بين النووي وابن الصلاح " (4) . والشيخ إبراهيم بن الحسن الكوراني. في كتابه " إعمال الفكر والرويات في شرح حديث «إنما الأعمال بالنيات (5) » . والسيد أبو الطيب صديق حسن خان. والشيخ أبو الحسن محمد صادق السندي (6) . والشيخ محمد حسين
__________
(1) فيض الباري '' (1 \ 45) .
(2) نقله عن ابن القيم فيما سبق من كلامه.
(3) عزاه إليه الحافظ ابن حجر في '' شرح النخبة ''، (ص: 24) .
(4) وهذا أيضا كتاب له مستقل ذكره في كتابه '' دراسات اللبيب '' (ص: 309) .
(5) نقله عنه الشيخ أبو الحسن السندي في كتابه '' بهجة النظر على شرح نخبة الفكر '' (ورقة \ 25) .
(6) انظر '' بهجة النظر '' (ورقة \ 24، 25) .(18/301)
الهزاروي. ومحدث الهند الحافظ محمد الجوندلوى. وأبو نصر عبد الرحيم بن عبد الخالق اليوسفي.
والشيخ أحمد محمد شاكر القاضي المصري (1) . والشيخ عبد الله بن إبراهيم العلوي الشنقيطي (2) . والشيخ محمد الأمين بن المختار الشنقيطي (3) . والشيخ محمد عبد العزيز الرحيم آبادي (4) .
ومن المعاصرين الشيخ محمد عطاء الله حنيف صاحب " التعليقات السلفية "، والمؤلفات الشهيرة الأخرى. والدكتور صبحي
__________
(1) انظر '' الباعث الحثيث '' (ص: 35- 37) ، وتعليقاته على '' ألفية السيوطي '' (ص: 4، 5) .
(2) انظر '' نشر البنود على مراقي السعود '' (2 \ 37) .
(3) انظر '' مذكرة أصول الفقه '' (ص: 103) .
(4) انظر '' حسن البيان فيما في سيرة النعمان '' (ص: 95- 100) .(18/302)
الصالح. (1) . والأستاذ ناصر الدين الألباني. والدكتور محمود الطحان. والدكتور محمد عجاج الخطيب وغيرهم.
__________
(1) انظر '' علوم الحديث ومصطلحه '' (ص: 151) إلا أنه اختار رأي ابن حزم من إفادة كل حديث صحيح القطع.(18/303)
(3) أدلة من قال بإفادة أحاديث الصحيحين القطع.
والذي يبدو مما قدمناه من نصوص العلماء على إفادة أحاديث الصحيحين القطع هو أن مستند رأيهم كان أمرين:
الأول: الادعاء بإجماع الأمة على صحة ما فيهما، وتلقيها بالقبول كما مر من كلام أبي إسحاق الإسفراييني، وإمام الحرمين الجويني، وغيرهما.
الثاني: أن خبر الواحد إذا حفت به القرائن يفيد العلم، وأحاديث " الصحيحين " ليست مجردة من القرائن، بل انضم إليها ما فيه كفاية لمزاحمة تطرق الاحتمالات الموهنة للأخبار.
ومن هذه القرائن:
الأولى: جلالة الشيخين في هذا الشأن.(18/303)
الثانية: وتقدمهما في تمييز الصحيح من الأحاديث عن الضعيف منهما على غيرهما.
وهذا ما صرح به الحافظ ابن حجر العسقلاني، إلا أنه اعتبر التلقي بالقبول، والإجماع على صحة ما فيهما كقرينة من إحدى القرائن. فجملة القول أن أحاديث " الصحيحين " احتفت بثلاث قرائن عند القائلين بقطعها.
فنحن نأخذ كل واحدة من هذه القرائن الثلاث ونتكلم عليها واحدة واحدة لكي تتجلى صحة اعتبارها، وقوة صلاحها لإفادة القطع. فنقول:
أما الإجماع والتلقي فلا يستراب في وقوعه، فقد صرح به كبار فقهاء الأمة الإسلامية، وحصول القطع بمثل هذا الإجماع أمر مجمع عليه عند أهل الحق والتحقيق من علماء الفقه والأصول.
قال أبو إسحاق الشيرازي من أئمة الشافعية:
خبر الواحد الذي تلقته الأمة بالقبول يقطع بصدقه سواء عمل الكل به، أو عمل البعض، وتأوله البعض (1) .
وقال القاضي أبو يعلى الفراء من الحنابلة: الاستدلال يوجب العلم من أربعة أوجه:
أحدها: أن تتلقاه الأمة بالقبول، فدل ذلك على أنه حق، لأن الأمة لا تجتمع على الخطأ، ولأن قبول الأمة يدل على أن الحجة قد قامت عندهم بصحته (2) .
__________
(1) '' اللمع في أصول الفقه '' (ص: 40) .
(2) '' العدة في أصول الفقه '' (3 \ 900) .(18/304)
وقال ابن تيمية في " المسودة " والقطع بصحة الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول، أو عملت بموجبه لأجله قول عامة الفقهاء المالكية -ذكره عبد الوهاب - والحنفية -فيما أظن- والشافعية، والحنبلية (1) . وقال عبد العزيز البخاري من الحنفية: المشهور لما كان من الآحاد في الأصل كان في الاتصال ضرب شبهة صورة، ولما تلقته الأمة بالقبول مع عدالتهم وتصلبهم في دينهم كان بمنزلة المتواتر (2) .
فهذه التصريحات من علماء الأصول تدل على أن ما تمسك به القائلون بإفادة أحاديث الصحيحين القطع من الدلائل في غاية من القوة والاعتبار. .
وأما ما يتعلق بجلالة الشيخين في هذا الشأن فهو أيضا أمر لا نزاع فيه بين المحدثين قديما وحديثا، وتواتر النقل عنهم بتقديمهما على غيرهما من المحدثين.
قال الترمذي: لم أر بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من محمد بن إسماعيل البخاري (3) .
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل البخاري (4) .
وقال ابن خزيمة: ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأحفظ له من محمد بن إسماعيل البخاري (5) . ومثل هذا كثير جدا في البخاري رحمه الله تعالى.
__________
(1) '' المسودة في أصول الفقه'' (ص: 217) .
(2) '' كشف الأسرار '' (2 \ 368) .
(3) ''سير أعلام النبلاء'' (12 \ 412) .
(4) (سير أعلام النبلاء '' (12 \ 421) ، '' تاريخ بغداد '' (2 \ 121) .
(5) ''هدي الساري '' (ص: 485) ، '' سير أعلام النبلاء '' (12 \ 431) .(18/305)
وأما مسلم فقد قال أبو الفضل محمد بن إبراهيم: سمعت أحمد بن سلمة يقول: رأيت أبا زرعة، وأبا حاتم يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشائخ عصرهما (1) .
وقال النووي: أجمعوا على جلالته، وإمامته، وعلو مرتبته، وحذقه في هذه الصنعة، وتقدمه فيها، وتضلعه منها. وقال: هو أحد أعلام أئمة هذا الشأن المعترف له بالتقدم فيه بلا خلاف عند أهل الحذق والعرفان (2) .
ومثله كثير في كتب التراجم تركناه مخافة الطول.
فكل هذه التصريحات دالة على جلالة الشيخين في هذا الشأن وتقدمهما على أهل عصرهما في معرفة الحديث وعلله.
وهذا التقدم هو الذي وقع عليه اختيار الحافظ ابن حجر كقرينة تنشئ وحدها الاطمئنان للقلب على صدق ما حكما عليه بالصحة، ويصلح أن يتحول إلى اليقين بانضمام أمر آخر معه.
أما القرينة الثالثة وهي:
تقدم الشيخين في معرفة صحيح الحديث من سقيمه، فهي وإن كانت من لوازم ما سبق من التصريحات من العلماء بتفضيلهما وتقديمهما على غيرهما مطلقا في الفن، إلا أن الحافظ ابن حجر - رحمه الله- حاول تثبيت رأيه بقرينة أبعد تأثيرا، وأدق تعبيرا، وأخص دلالة على المقصود نسبة إلى ما سبق من القرينة الثانية.
__________
(1) '' سير أعلام النبلاء '' (12 \ 579) ، ''تذكر الحفاظ '' (2 \ 589) ، '' طرح التثريب '' (1 \ 112) .
(2) '' تهذيب الأسماء والصفات '' (2 \ 90، 91) .(18/306)
فنحن نورد عدة أمثلة لتكون مساعدة على فهم ما يريد الحافظ ابن حجر إثباته، وتبين وضوحا معنى " تقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما " وتؤكد وجود ما يدعيه ابن حجر من إفادة هذه القرينة القطع عند وجودها في الأخبار المروية في الصحيحين.
المثال الأول: روى الحافظ الزيلعي حديثا عن زيد بن أبي أنيسة ثم نقل فيه جرحا عن أحمد بن حنبل -رحمه الله- بقوله: في بعض حديثه نكارة. ثم أجاب الحافظ الزيلعي عن هذا الجرح قائلا: هو ممن احتج به البخاري ومسلم، وهما العمدة في ذلك " (1) .
المثال الثاني: نقل الحافظ بدر الدين العيني جرح ابن المنذر لعبد الرحمن بن جابر بن عبد الله وحكم الأصيلي على حديثه بالاضطراب ثم قال: قد اتفق الشيخان على تصحيح حديثه وهما العمدة في الصحيح (2) .
المثال الثالث: نقل الحافظ بدر الدين العيني دعوى بعض المحدثين بمعارضة حديث عقبة أخرجه النسائي وصححه ابن حبان بحديث مروي في صحيح البخاري فقال: حديث أنس لا يعارضه حديث عقبة؛ لأن تصحيح البخاري أقوى من تصحيح غيره، والمعارضة تقتضي المساواة (3) .
المثال الرابع: روى رواية أخرجها أبو داود عن طريقين: صحيح وضعيف. ثم قال: ومع هذا فالصحيح منه (أي من أبي داود) لا يقاوم
__________
(1) ''نصب الراية'' (1 \ 179) .
(2) ''عمدة القارئ '' (24 \ 23، 24) .
(3) '' عمدة القارئ'' (22 \ 19) .(18/307)
صحيح البخاري. فافهم (1) .
فقوله " فافهم " يدل على أنه يريد تنبيه القارئ على أهمية فحوى كلامه.
وكذا الحافظ بدر الدين العيني رجح تصحيح الشيخين على تصحيح النسائي، وابن حبان، وأبي داود بناء على أن الشيخين هما العمدة في تصحيح الأحاديث. وهذا معنى قول ابن حجر: " وتقديمهما في تمييز الصحيح على غيرهما) .
فهذه التوضيحات لا تترك مجالا للشك في صحة ما اختاره الحافظ ابن حجر من أن الشيخين كما يقدمان على غيرهما في معرفة هذا الفن عموما كذلك لهما مزية وتفوق في تصحيح الأحاديث وتضعيفها خصوصا.
وكما أن التقدم في معرفة الفن عموما يعتبر قرينة تفيد اطمئنان القلب في حكمهما على الأحاديث صحة وضعفا، كذلك كونهما العمدة في التصحيح خصوصا أيضا قرينة ثانية تؤدي إلى مزيد من التأكيد في اطمئنان القلب، والجزم بصحة الحكم منهما. والله أعلم.
__________
(1) ''عمدة القارئ '' (22 \ 22) .(18/308)
(4) أدلة من قال بإفادة أحاديث الصحيحين الظن
:
وممن تكلم في هذا الموضوع بأبسط الأدلة هو الإمام محيي الدين النووي الشافعي، والإمام أبو الفتح بن برهان البغدادي -رحمهما الله- فنورد نص كلامهما كاملا ثم نتكلم فيه بحثا وتحقيقا مع دراسة بعض جزئيات كلامهما دراسة نقدية شاملة.(18/308)
فقال النووي ردا على ابن الصلاح:
وهذا الذي ذكره الشيخ خلاف ما قاله المحققون والأكثرون، فإنهم قالوا: أحاديث الصحيحين التي ليست بمتواترة تفيد الظن، فإنها آحاد، والآحاد إنما تفيد الظن لما تقرر.
ولا فرق بين البخاري ومسلم وغيرهما في ذلك، وتلقي الأمة بالقبول إنما أفادنا وجوب العمل بما فيهما. وهذا متفق عليه، فإن أخبار الآحاد التي في غيرهما يجب العمل بها إذا صحت أسانيدها، ولا تفيد إلا الظن، فكذا الصحيحان. وإنما يفترق الصحيحان وغيرهما من الكتب في كون ما فيهما صحيحا لا يحتاج إلى النظر فيه، بل يجب العمل به مطلقا.
وما كان في غيرهما لا يعمل به حتى ينظر، وتوجد فيه شروط الصحيح. ولا يلزم من إجماع الأمة على العمل بما فيهما إجماعهم على أنه مقطوع بأنه من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- (1) .
وقال ابن برهان:
خبر الواحد لا يفيد العلم، خلافا لبعض أصحاب الحديث، فإنهم زعموا أن ما رواه مسلم والبخاري مقطوع بصحته. وعمدتنا: أن العلم لو حصل بذلك لحصل لكافة الناس كالعلم بالأخبار المتواترة.
ولأن البخاري ليس معصوما عن الخطأ فلا نقطع بقوله، لأن أهل الحديث، وأهل العلم غلطوا مسلما والبخاري، وثبتوا أوهامهما، ولو كان قولهما مقطوعا به لاستحال عليهما ذلك.
ولأن الرواية كالشهادة، ولا خلاف أن شهادة البخاري ومسلم
__________
(1) شرح مسلم للنووي '' (1 \ 20) .(18/309)
لا يقطع بصحتها، ولو انفرد الواحد منهم بالشهادة لم يثبت الحق به، فدل على أن قوله ليس مقطوعا به. وإن أبدوا في ذلك منعا كان خلاف إجماع الصحابة، فإن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما كانوا يقضون بإثبات الحقوق إلا بشهادة شاهدين.
ولا عمدة للخصم إلا أن الأمة أجمعت على تلقي هذين الكتابين بالقبول واتفقوا على العمل بهما، وهذا لا يدل على أنه مقطوع بصحتهما، فإن الأمة إنما عملت بهما لاعتقاد الأمانة والثقة في الرواية، وليس كل ما يوجب العمل به كان مقطوعا بصحته (1) .
فهذا ما قاله النووي وابن برهان يتضمن عدة أمور حاولا بمجموعها الرد على من قال بإفادة أحاديث الصحيحين القطع، فنذكر واحدا واحدا منها على ما يليق بها من الإجابة عنها.
فأولا: أساس رأي كل من النووي وابن برهان وغيرهما في الرد على من قال بإفادة أحاديث الصحيحين القطع أمر واحد وهو:
أن أحاديث الصحيحين غير المتواترة آحاد، والآحاد لا تفيد إلا الظن، والعلم إنما يحصل من المتواتر.؟ كما مر في كلام النووي وابن برهان. فقولهم هذا لا يستقيم جوابا في رأينا أصلا، ولا يناسب لمقاومة ما ادعاه ابن الصلاح وغيره.
وتفصيل ذلك: إن المتواتر الذي يدعى بحصول العلم به كثيرا، ويكثر دورانه في المناقشات الفقهية والعقائدية وغيرها، ويبالغ في الالتجاء إليه إثباتا، ونفيا، وإلزاما وتسليما، لا يتسم بشيء من التحديد والانضباط في الوصف، بل اضطربت فيه آراء الأصوليين، واختلفوا في تعريفه، وشرائطه، وما يفيد به، اختلافا شديدا.
__________
(1) الوصول إلى علم الأصول (2، 172- 174) .(18/310)
مع إنكار كثير منهم بإمكانيات وقوعه واحتمالات تحققه في الحديث النبوي الشريف، وذهاب الآخرين إلى الحكم بالمتواتر على بعض المعاني الشائعة المشتهرة اشتهارا بالغا بمجرد شيوعها وذيوعها وذيوعها بالمتواتر المعنوي، وإن لم تتحقق فيها الشروط المتخذ بها في كتب الأصول. ففي تعريفه نظريتان لأصحاب الأصول:
تقوم إحداهما على إناطة حصول العلم في الأخبار بمجرد عدد معين من الأشخاص المخبرين. فاختار بعضهم الإثنى عشر، وبعضهم العشرين، وبعضهم الأربعين، وبعضهم السبعين، وبعضهم أكثر منه بكثير. وهذه النظرية باطلة عند جمهور الأصوليين (1) .
والثانية قائمة على الاعتبار بتأثير صفات المخبرين على تنوعها، واختلاف هيئاتها في حصول العلم. فليست كثرة العدد عندهم إلا من إحدى الصفات والقرائن، لا مجموعها، بخلاف ما قامت عليها النظرية الأولى. والمعتبر عندهم في الحكم بالتواتر حصول العلم لا وجود الصفات المعنية، بل كل ما حصل به العلم فهو متواتر عندهم.
قال الآمدي: وبالجملة فضابط التواتر ما حصل العلم عنده من أقوال المخبرين، لا أن العلم مضبوط بعدد مخصوص (2) .
وقال إمام الحرمين: الكثرة من جملة القرائن التي تترتب عليه العلوم المجتناة من العادات (3) .
وقال: وما من عدد تمسك به طائفة إلا ويمكن فرض تواطئهم على الكذب (4) .
__________
(1) انظر '' إرشاد الفحول '' (ص: 47، 48) .
(2) '' الإحكام في أصول الأحكام '' (1 \ 230) .
(3) '' البرهان في أصول الفقه '' (1 \ 580) .
(4) ''البرهان '' (1 \ 572) .(18/311)
وقال: فالعدد بعينه ليس مغنيا، إذ يتصور معه تقدير حالة ضابطة، وإيالة حاملة على الكذب (1) .
وقال ابن الأثير: إنا بحصول العلم الضروري نتبين كمال العدد، لا أنا بكمال العدد نستدل على حصول العلم (2) .
قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية: لا يعتبر في التواتر عدد محصور، بل يعتبر فيه ما يفيد العلم على حسب العادة في سكون النفس إليهم، وعدم تأتي التواطؤ على الكذب منهم، إما لفرط كثرتهم، وإما لصلاحهم ودينهم ونحو ذلك (3) .
وقال: ومن الناس من لا يسمى متواترا إلا ما رواه عدد كثير يكون العلم حاصلا بكثرة عددهم فقط، ويقولون: إن كل عدد أفاد العلم في قضية أفاد مثل ذلك العدد العلم في كل قضية وهذا قول ضعيف. والصحيح ما عليه الأكثرون: إن العلم يحصل بكثرة المخبرين تارة، وقد يحصل بصفاتهم ودينهم وضبطهم، وقد يحصل بقرائن تحتف بالخبر.
وقال: إذا عرف أن العلم بأخبار المخبرين له أسباب غير مجرد العدد، علم أن من قيد العلم بعدد معين، وسوى بين جميع الأخبار في ذلك فقد غلط غلطا عظيما (4) .
هذه حقيقة التواتر عند المحققين من أهل الحديث والفقه والأصول.
__________
(1) '' البرهان '' (1 \ 578) .
(2) '' جامع الأصول '' (1 \ 122) .
(3) '' المسودة في أصول الفقه '' (ص: 212) .
(4) '' مجموع الفتاوى '' (18 \ 48، 51) .(18/312)
فالشيخ النووي، ومن معه إن كان يريد بقوله: "العلم إنما يحصل من المتواتر" القسم الأول من المتواتر، فذاك مردود عند الأصوليين، وإن كان يريد المعنى الثاني للمتواتر الذي هو المعتمد عند المحققين، فلا سبيل له للرد على من قال بإفادة أحاديث الصحيحين القطع، لأنها محتفة بالقرائن المفيدة لليقين، فصح إطلاق المتواتر عليها، وبطل قوله: "إنها آحاد لا تفيد إلا الظن".
ثانيا: قول النووي " ما اختاره ابن الصلاح هو خلاف المحققين والأكثرين ". أجاب عنه الحافظ ابن حجر بقوله: ما ذكره النووي من جهة الأكثرين، أما المحققون فلا. فقد وافق ابن الصلاح أيضا محققون (1) .
وقال الزركشي: إن هذا الذي قاله ابن الصلاح هو قول جماهير الأصوليين من أصحابنا وغيرهم (2) .
ونقل أبو إسحاق الإسفراييني وغيره إجماع أهل الصنعة على ذلك. كما مر. فهذا يزيف ما ادعاه الشيخ النووي. والاعتبار بقول هؤلاء -فيما أرى- أحرى من الإصغاء إلى قول النووي وحده.
ثالثا: قوله: "أحاديث الصحيحين غير المتواترة آحاد، والآحاد لا يفيد إلا الظن لما تقرر ".
فهذا الإطلاق منه في إفادة الآحاد الظن لا غيره، فيه تساهل منه وخلاف لما تقرر عند الأصوليين.
__________
(1) نقله عنه السيوطي في ''تدريب الراوي'' (1 \ 133) .
(2) ''نكت الزركشي علي بن الصلاح'' (ورقة \ 13)(18/313)
لأن المقرر في الأصول عند جماهير الأصوليين هو القول بحصول العلم بخبر الواحد إذا حفته القرائن.
واستخدم هو نفسه هذه القاعدة في شرح مسلم (1) .
وإنما النزاع في إفادة خبر الواحد الظن أو العلم إذا تجرد عن القرائن.
قال الشوكاني: إن الخلاف في إفادة خبر الآحاد الظن أو العلم مقيد بما إذا كان خبر الواحد لم ينضم إليه ما يقويه، وأما إذا انضم إليه ما يقويه، أو كان مشهورا، أو مستفيضا، فلا يجري فيه الخلاف المذكور. (2) .
والمقرر في الأصول هو هذا. فعجبا للشيخ كيف يدعي بهذا الإطلاق المرجوح في الأصول في موضع النقد والرد، ويعزوه إلى الأكثرين والمحققين من الأصوليين.
رابعا: قوله: "تلقي الأمة بالقبول إنما أفادنا وجوب العمل بما فيها". أيضا غير صحيح من وجهين:
الأول: أن التلقي لم يقع أصلا على وجوب العمل بكل ما في هذين الكتابين ولم يصرح به أحد قبله ولا بعده من العلماء، والشيخ النووي إن كان يعتقد بذلك فهو تساهل منه فاحش، لأن فيهما ما هو
__________
(1) (5 \ 9)
(2) ''إرشاد الفحول'' (ص: 49)(18/314)
منسوخ، (1) . وفيهما ما لا يحتمل الوجوب أصلا فكيف تصح دعوى وجوب العمل بما فيهما.
الثاني: تلقي العلماء لهذين الكتابين بالقبول هو من حيث الصحة، لا من حيث وجوب العمل بما فيهما كما فهمه الشيخ.
خامسا: قولهما: لا يلزم من إجماع الأمة على العمل بما فيهما إجماعهم على أنه مقطوع بأنه كلام النبي -صلى الله عليه وسلم.
قلت: الحق أنه يلزم، لأن الأمة لا تجتمع على العمل بمقتضى دليل إلا إذا كان الدليل صحيحا في نفس الأمر. وهذا هو المختار عند غيرهما من العلماء.
سادسا: قول النووي: "يفترق الصحيحان في كون ما فيهما صحيحا لا يحتاج إلى النظر فيه".
قلت: هذا هو الأمر الذي دعا ابن الصلاح وغيره من كثير من الأصوليين للحكم على أحاديث الصحيحين بالقطع بصحتهما؛ لأن الإجماع على عدم احتياج النظر في الإسناد لثبوت صحة ما فيهما يستلزم الإجماع على صدق ما فيهما في نفس الأمر.
سابعا: قول ابن البرهان: لأن البخاري ليس معصوما عن الخطأ فلا نقطع بقوله. قول لم يجعله أحد دليلا لرأيه، ولم يقل من قال بإفادة أحاديث الصحيحين القطع بناء على عصمة البخاري ومسلم في اجتهادهما، وحكمهما على الأحاديث، وإنما قال نظرا إلى أن البخاري ومسلما إمامان في الفن، معترفان بالتقدم على غيرهما، صححا مجموعة
__________
(1) تعليق المجلة: العمل بما هو منسوخ اعتقاد ذلك وإعمال الناسخ.(18/315)
من الروايات التي أخذتها علماء الأمة بحثا وتنقيبا، ثم اتفقت كلمتهم على موافقة الشيخين تصديقا لها، وعملا بها، وتأويلا لما يحتاج التأويل منها.
فهذا الاتفاق من الأمة يثمر اعتقاد صدق ما فيهما في نفس الأمر.
ثامنا: قوله: لأن أهل الحديث وأهل العلم غلطوا مسلما والبخاري، وثبتوا أوهامهما. ليس له أي تأثير فيما نحن في إثباته. وجوابنا من وجوه:
أولا: إن بعض الحفاظ وإن انتقدوا ما يقارب بمائتين وعشرة أحاديث من الصحيحين، وبينوا عللها، إلا أن الأمة لم تقبل هذا النقد، واستمر العمل بما في هذين الكتابين من غير اعتداد بهذه الانتقادات، هذا وقد تولى بالتصريح بزيفها، والتوضيح بردها وإبطالها، والتبيين بخطأ من أخطأ عليهما، كثير من المحدثين، نذكر كلام بعض منهم:
قال النووي في "مقدمة شرح البخاري ": قد استدرك الدارقطني على البخاري ومسلم أحاديث فطعن في بعضها، وذلك الطعن مبني على قواعد لبعض المحدثين ضعيفة جدا، مخالفة لما عليه الجمهور من أهل الفقه والأصول وغيرهم فلا تغتر بذلك (1) .
(2) وقال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: ما احتج البخاري ومسلم به من جماعة علم الطعن فيهم من غيرهم، محمول على أنه لم يثبت الطعن المؤثر مفسر السبب (2) .
(3) وقال الحافظ صلاح الدين العلائي: إذا جزم بالخبر وصححه واطلع غيره فيه على علة قادحة فيه قدمت على تصحيح ذاك، ما عدا تصحيح الشيخين لاتفاق الأمة على تلقي ذلك منهما بالقبول (3) .
__________
(1) نقله عنه ابن حجر في ''هدى الساري'' (ص: 346)
(2) نقله عن النووي في ''شرح مسلم'' (1 \ 25) .
(3) انظر ''جامع التحصيل'' (ص: 81) .(18/316)
(4) وقال الحافظ ابن حجر: فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليهما يكون قوله معارضا لتصحيحهما ولا ريب في تقديمهما في ذلك على غيرهما فيندفع الاعتراض من حيث الجملة (1) .
(5) وقال الشوكاني: فقد أجمع أهل هذا الشأن على أن أحاديث الصحيحين، أو أحدهما كلها من المعلوم صدقه بالقبول المجمع على ثبوته، وعند هذه الإجماعات تندفع كل شبهة ويزول كل تشكيك.
وقد دفع أكابر الأمة من تعرض للكلام على شيء مما فيهما، وردوه أبلغ رد، وبينوا صحته أكمل بيان، فالكلام على إسناده بعد هذا لا يأتي بفائدة يعتد بها، فكل رواته قد جاوز القنطرة، وارتفع عنهم القيل والقال، وصاروا أكبر من أن يتكلم فيهم بكلام، أو يتناولهم طعن طاعن، أو توهين موهن (2) .
وبمثله قال ابن دقيق العيد (3) . وجمال الدين الزيلعي (4) . والحافظ بدر الدين العيني (5) . وغيرهم.
ثالثا: وإن سلمنا أن بعض هذه الإيرادات واردة، فغاية أمرها أنها تؤثر في عين السند الذي خرج به المتن من غير أن تؤثر أي تأثير في المتون، لأن المحدث قد يرى المتن بسند يحتمل وجها من وجوه النقد، طلبا للعلو، أو بيانا لشيء من اللطائف الإسنادية، أو إغرابا على البعض،
__________
(1) ''هدي الساري'' (ص: 347) .
(2) ''قطر الولي'' (ص: 230، 231) .
(3) ''الاقتراح'' (ص: 325- 327) .
(4) ''نصب الراية'' (1 \ 341) .
(5) راجع ''عمدة القاري) (1 \ 8، 19، 39، 214، 236، 2 \ 54، 4 \ 147، 10 \ 120) .(18/317)
وغيرها من المقاصد، مع أن المتن يكون معروفا، مرويا بأسانيد أخرى صحيحة سالمة، من كل وجوه النقد، وجميع احتمالات الخطأ كما صرح به العلماء. ويؤكد قولنا ما نقله سعيد بن عمرو البرزعي من اعتراض أبي زرعة على مسلم لإخراجه عن بعض الضعفاء في كتابه وإجابة مسلم عنه.
قال البرزعي: حضرت أبا زرعة وذكر صحيح مسلم فأنكر عليه روايته فيه عن أسباط بن نصر، وقطن بن نسير، وأحمد بن عيسى المصري.
قال: فلما رجعت إلى نيسابور ذكرت لمسلم إنكار أبي زرعة فقال لي مسلم: إنما قلت صحيح، وإنما أدخلت من حديث أسباط وقطن وأحمد ابن عيسى ما قد رواه الثقات عن شيوخهم، إلا أنه ربما وقع إلي عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية أوثق منهم بنزول، فاقتصر على ذلك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات (1) .
ولذلك قال الحافظ الزيلعي: صاحبا الصحيح- رحمهما الله- إذا أخرجا لمن تكلم فيه، فإنهم ينتقون من حديثه ما توبع عليه، وظهرت شواهده، وعلم أن له أصلا، ولا يروون ما تفرد به، سيما إذا خالفه الثقات (2) .
هذا وفي كلام ابن برهان المذكور أمور أخرى قابلة للنقد كتسويته بين الرواية والشهادة، مع أن الصحيح عند المحدثين وأصحاب الأصول
__________
(1) نقله النووي في ''شرح مسلم'' (1 \ 25، 26) .
(2) ''نصب الراية'' (1 \ 341) .(18/318)
عدم التسوية من كل الوجوه، فتركناه لحال الطول، ولعدم صلتها بالموضوع. والذي يبدو من دراسة هذه الانتقادات هو أن الشيخ النووي يعترف بكل ما يعترف به غيره من إجماع الأمة على صحة العمل بما في هذين الكتابين والإجماع على عدم احتياج النظر في السند عند العمل بما فيهما إلا أنه ينكر ما يستنتجه غيره من هاتين المقدمتين من حصول العلم بصدق ما فيهما.
ومن تأمل فيما سبق حق تأمل لم يخف عليه أرجحية ما اختاره ابن الصلاح وغيره من إفادة أحاديث الصحيحين القطع لما انضم إليها من القرائن المؤثرة في إفادة العلم بها تأثيرا قويا. والله أعلم.(18/319)
(5) مع ابن الصلاح وابن حجر:
وبعد أن انتهينا من إيراد أدلة القائلين بقطعية أحاديث الصحيحين، وظنيتها، ودراستها النقدية الموجزة نتوجه إلى ما استثناه ابن الصلاح وابن حجر من عموم الحكم بقطعية ما في الصحيحين.
وجملة ما استثنياه منها على نوعين:
الأول: ما انتقده الحفاظ كالدارقطني وغيره. بدليل أنه لم يقع عليه الإجماع المفيد للقطع (1) .
استثناه ابن الصلاح ووافقه على ذلك ابن حجر.
الثاني: الأحاديث التي وقع التعارض بينها حيث لا ترجيح، لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم بصدقهما من غير ترجيح لأحدهما على الآخر (2) .
__________
(1) ''علوم الحديث'' (ص: 25) .
(2) ''شرح النخبة'' (ص: 22، 23) .(18/319)
وتفرد بإخراج هذا النوع من أحاديث الصحيحين ابن حجر، ولم يؤثر عن أحد غيره من المحدثين. حسب معرفتي.
وهذا الاستثناء بنوعيه لا نراه صحيحا.
أما النوع الأول: فلأن انتقادات الدارقطني وغيره من الحفاظ تتوجه إلى الأسانيد والمتون سالمة من النقد، كما سبق تقرير ذلك، ومحل الإجماع هو المتون لا الأسانيد.
وعلى تقدير توجه هذه الانتقادات إلى المتون لا يلزم أيضا إخراجها من جملة ما وقع عليه الإجماع.
وذلك لأن الدارقطني وغيره طائفة قليلة جدا نسبة للمجمعين على صحة أحاديث الصحيحين، والمخالفة الضئيلة لا تقدح في انعقاد الإجماع عند الجمهور من الأصوليين كما صرح به الحافظ بدر الدين العيني (1) . وأما ما استثناه ابن حجر مما ظاهره التعارض من أحاديث الصحيحين فليس بصحيح أيضا في رأينا لوجوه:
أولا: إن التعارض قد حصل بين بعض الآيات أيضا في رأي بعض الفقهاء ولم يحكم أحد عليها بظنية ثبوتها بمجرد هذا التعارض، بل استمر الحكم بقطعية القرآن كله على حسب اتفاق الأمة وإجماعها على ذلك. فهذا يدل على أن انتزاع حكم القطعية عما وقع الإجماع على صحته استنادا على وقوع التعارض في ظاهر النظر مرفوض عند العلماء في حق القرآن.
فوجب أن يكون في حق السنة مرفوضا أيضا لعدم وجود الفارق المؤثر بينهما في الوصف المذكور.
__________
(1) ''عمدة القاري'' (2 \ 25، 42) .(18/320)
ثانيا: ذهب الإمام الشافعي وغيره من المحدثين إلى أن الحديث إذا كان صحيحا على شرط المحدثين لا يكون مخالفا للكتاب أبدا (1) . أما التعارض بين الأحاديث فأجاب عنه الإمام الشافعي رحمه الله بقوله: ولم نجد عنه حديثين مختلفين إلا ولهما مخرج، أو على أحدهما دلالة بأحد ما وصفت، إما بموافقة الكتاب، أو غيره من السنة، أو بعض الدلائل (2) .
وقال ابن خزيمة: لا أعرف أنه روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديثان بإسنادين صحيحين متضادين فمن كان عنده فليأتني به لأؤلف بينهما (3) .
فدعوى ابن حجر بالتعارض حيث لا ترجيح مرفوض بتصريحات هؤلاء الأئمة.
ثالثا: إن الحافظ ابن حجر عندما اختار استثناء ما ظاهره التعارض كان عليه أن يعين ذلك، ويشير إلى الأحاديث التي هي متعارضة تعارضا لا يمكن دفعه أصلا، من أي وجه من الوجوه؟ لتكون بين عيني الحفاظ المتأخرين عنه، ولتجرى عليها أسس البحوث والمناقشات كما جرت على انتقادات من انتقدها قبل، فتأتي بالنتيجة النهائية، إما الحكم عليها بالتعارض حقيقة، وإما الحكم بالذهول، والقصور، والعجز على مدى ذلك التعارض.
لأن العقول تتضارب والمدارك تتباين، والمراتب العلمية تتفاوت، فرب دليل يتعارض عند أحد، مع أن غيره يجد له محملا صحيحا.
__________
(1) راجع ''بغية الفحول'' (ص: 83) .
(2) انظر ''الرسالة للشافعي'' (ص: 216) .
(3) نقله عن الشيخ الكندي في ''الأجوبة الفاضلة'' (ص: 184، 185) .(18/321)
(6) بين أحاديث الصحيحين والخبر المشهور:
بعد تقرير أدلة القائلين بإفادة أحاديث الصحيحين القطع، والمنكرين لذلك، نأتي إلى أمر آخر وهو تحديد مرتبتي أحاديث الصحيحين والخبر المشهور من حيث الثبوت.
والذي نراه حقا هو أن أحاديث الصحيحين أعلى مرتبة من الخبر المشهور. ودليلنا على ذلك من وجوه:
أولا: إن المحدثين قد أطبقت كلمتهم على أن أعلى درجات الصحيح ما اتفق عليه الشيخان، بل كاد أن يكون مجمعا عليه عند المتبحرين. كما صرح به الشيخ اللكنوي (1) .
ولا فرق في ذلك بين أن يكون الصحيح مشهورا أو غير مشهور.
ثانيا: أحاديث الصحيحين متلقاة بالقبول، وقال ابن حجر:
هذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر (2) .
ولذلك أخر المشهور عن أحاديث الصحيحين عندما ذكر أنواع الخبر المحتف بالقرائن.
ثانيا: أحاديث الصحيحين وقع على صحتها الإجماع كما سبق، ودلالة الإجماع أقوى من الخبر المشهور كما صرح به الحافظ بدر الدين العيني (3) .
فمقتضى هذه الأمور أن يكون الخبر المشهور الذي لا يوجد في الصحيحين أنزل مرتبة من أحاديث الصحيحين.
__________
(1) ''الأجوبة الفاضلة'' (ص: 202) .
(2) ''شرح النخبة'' (ص: 21، 24) .
(3) ''عمدة القاري'' (20 \ 233) .(18/322)
أهم نتائج البحث
وأهم ما وصلنا إليه من النتائج بعد البحث هي:
(1) إن القائلين بإفادة أحاديث الصحيحين القطع جمع لا يستهان بهم، ومن بينهم الحفاظ المحدثون، والفقهاء المحققون.
(2) أدلة القائلين بإفادتها القطع في غاية من الاعتبار من حيث الأصول واطراد العادة.
(3) أدلة من قال بظنيتها بعضها في غاية من السقوط والوهن، وبعضها قضايا جامدة، ضيقة النطاق، تلائم بمناهج أهل الكلام أكثر من أن توافق بطبيعة مقتضيات الشرع والعرف عند علماء الإسلام.
(4) إن الأحاديث المفيدة للقطع كثيرة، من غير أن يتكلف في إطلاق التواتر عليها، وتحقيقه فيها.
(5) كل ما أفاد العلم فهو متواتر، سواء حصل العلم بكثرة عدد المخبرين، أو لصفة ديانتهم وأمانتهم، أو لضبطهم وإتقانهم.
(6) ما انتقده بعض الحفاظ من أحاديث الصحيحين لا يلزم إخراجه من القطعية لمجرد هذا النقد لكونه متوجها إلى الأسانيد دون المتون، ولكونه مخالفة ضئيلة غير قادحة في انعقاد الإجماع عند طائفة من الأصوليين.
(7) استثناء الحافظ ابن حجر ما ظاهره التعارض من القطع نظريه شخصية ضعيفة تحتاج إلى التمثيل الواقعي من أحاديث الصحيحين.
(8) أحاديث الصحيحين أقوى صحة، وأعلى رتبة من الخبر المشهور وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبالله التوفيق. حافظ ثناء الله الزاهدي(18/323)
مصادر البحث
(1) الإبهاج في شرح المنهاج لعلي بن عبد الكافي السبكي وابنه عبد الوهاب السبكي طبعة مكتبة الكليات الأزهرية عام 1401 هـ.
(2) الأجوبة الفاضلة للعلامة عبد الحي اللكنوي تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبي غدة طبعة مكتب المطبوعات الإسلامية.
(3) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي. طبعة دار الفكر.
(4) إرشاد الفحول للشوكاني. دار الباز للنشر والتوزيع بمكة المكرمة.
(5) أصول التخرج ودراسة الأسانيد: للدكتور محمود الطحان طبعة دار القرآن الكريم بيروت.
(6) الاقتراح في بيان الاصطلاح لابن دقيق العيد طبعة وزارة الأوقاف العراقية.
(7) ألفية الحديث للسيوطي. طبعة دار المعرفة.
(8) الباعث الحثيث لأحمد محمد شاكر دار الكتب العلمية بيروت.
(9) البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين الجويني. دار الأنصار القاهرة.
(10) بغية الفحول لشرح مختصر الأصول للحافظ محمد الجوندلوي إدارة إشاعة السنة بباكستان.
(11) بهجة النظر على شرح نخبة الفكر لأبي الحسن محمد صادق السندي. مخطوط.
(12) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي.
(13) التبصرة في أصول الفقه لأبي إسحاق الشيرازي دار الفكر.
(14) تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد للحافظ العلائي مجمع اللغة العربية دمشق(18/324)
(15) تدريب الراوي للسيوطي دار الكتب العلمية.
(16) تذكرة الحفاظ للذهبي. إحياء التراث العربي.
(17) تصحيح النظر للهزاري مطبعة محمدي لاهور 1891 م.
(18) تهذيب الأسماء واللغات للنووي.
(19) جامع الأصول للجزري تحقيق عبد القادر الأرناؤوط.
(20) جامع التحصيل في أحكام المراسيل للحافظ العلائي وزارة الأوقاف العراقية.
(21) جواهر الأصول لأبي الفيض الفارسي الهروي المكتبة العلمية للغنكافي بالمدينة المنورة.
(22) حجة الله البالغة لولي الله الدهلوي. المكتبة السلفية لاهور باكستان.
(23) الحديث حجة للغة في العقائد والأحكام للألباني.
(24) حسن البيان فيما في سيرة النعمان لعبد العزيز الرحيم آبادي.
(25) حصول المأمول لصديق حسن خان.
(26) الحطة في ذكر الصحاح الستة. لصديق حسن خان.
(27) دراسات اللبيب لملا محمد المعين السندي. لجنة الأحياء الأدب السندي كراتشي.
(28) الرسالة للشافعي. تحقيق أحمد محمد شاكر.
(29) السراج الوهاج لصديق حسن خان. المكتبة الأثرية سانكله هل باكستان.
(30) سير أعلام النبلاء للذهبي. مؤسسة الرسالة.
(31) الشذى الفياح من علوم ابن الصلاح برهان الدين الأنباسي مخطوط (32) شرح التبصرة والتذكرة للعراقي. 1355 هـ القاهرة.(18/325)
(33) شرح تنقيح الفصول للقرافي. دار الفكر.
(34) شرح مسلم للنووي. إحياء التراث العربي.
(35) شرح النخبة لابن حجر بتحقيق محمد فيات الصباغ مكتبة الغزالي.
(36) شروط الأئمة الخمسة محمد بن طاهر المقدسي المعروف بابن القيسراني.
(37) صفوة التصوف لابن طاهر، مخطوط.
(38) طبقات الشافعية الكبرى للسبكي دار المعرفة.
(39) طرح التثريب لولي الدين زرعة أحمد العراقي.
(40) العدة في أصول الفقه لأبى يعلى الفراء، مؤسسة الرسالة.
(41) علوم الحديث ومصطلحه للدكتور صبحي الصالح. دار العلم للملايين.
(42) علوم الحديث لابن الصلاح بتحقيق نور الدين عتر، المكتبة العلمية بالمدينة المنورة.
(43) عمدة القارئ للحافظ الغيسي. دار الفكر.
(44) فتح الباري لابن حجر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الرياض.
(45) فتح الغيث للسخاوي، المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.
(46) فيض الباري للكشيمري، دار الباز للنشر والتوزيع.
(47) قطر الولي على حديث الولي للشوكاني دار الكتب الحديثة.
(48) كوثر النبي لعبد العزيز الزهاروي.
(49) اللمع للشيرازي. مصطفى البابي الحلبي القاهرة، المكتبة القاسمية متنان.
(50) مجموع الفتاوى لابن تيمية، المملكة العربية السعودية.(18/326)
(51) المحصول للرازي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الرياض.
(52) محاسن الاصطلاح للبلقيني. الهيئة المصرية العامة للكتاب.
(53) مذكرة في أصول الفقه للشنقيطي، المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.
(54) المستصفى للغزالي، دار المعرفة.
(55) المسودة في أصول الفقه لابن تيمية مطبعة المدني القاهرة.
(56) مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية، دار القرآن الكريم.
(57) مقدمة تحفة الأحوذي للمباركفوري دار التأليف فيصل آباد.
(58) المنخول للغزالي، دار الفكر.
(59) المواهب اللدنية للقسطلاني. المطبعة الشرقية.
(60) نشر البنود على مراقي السعود للشنقيطي، المملكة المغربية.
(61) نصب الراية للزيلعي. المجلس العلمي دابهيل.
(62) نكت الزركشي على علوم ابن الصلاح، مخطوط.
(63) نيل الأوطار للشوكاني. مكتبة الدعوة الإسلامية القاهرة.
(64) هدى الساري لابن حجر. المكتبة السلفية. المدينة المنورة.
(65) الوصول إلى الأصول. لابن برهان البغدادي، مكتبة المعارف الرياض.(18/327)
صفحة فارغة(18/328)
لقاء مجلة التكبير الباكستاني
مع سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
هذا جواب الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد على الأسئلة المقدمة من الأستاذ صلاح الدين رئيس تحرير مجلة (تكبير) الباكستانية.
السؤال الأول: ما هي المقترحات لديكم لإنقاذ الأمة الإسلامية من الخلافات والعنصرية والتمذهب. وكيف يمكن أن توحد الأمة من جديد؟ الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم. والحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله محمد وآله وأصحابه وبعد. فاقتراحي في هذا الموضوع المهم هو دعوة الأمة جميعا إلى توحيد الله والإخلاص له والتمسك بشريعته والحذر مما خالفها. وهذا هو الذي يجمع الأمة على الحق ويزيل الخلاف والتعصب للمذاهب. والمقصود دعوة المسلمين أن يستقيموا على في دين الله وأن يحافظوا على شريعته وأن يتعاونوا على البر والتقوى وبهذا تتحد صفوفهم وتتوحد كلمتهم ويكونون جسدا واحدا وبناء واحدا ومعسكرا واحدا ضد أعدائهم. أما إذا تعصب كل إلى مذهبه أو إلى شيخه أو إلى ما يرى مما يخالف ما عليه سلف الأمة فإن هذا هو طريق الخلاف وسيؤدي إلى الفرقة.(18/329)
فالواجب على علماء الإسلام وعلى دعاة المسلمين وعلى ولاة المسلمين أن يتكاتفوا جميعا لدعوة الناس جميعا إلى الحق والتمسك به والاستقامة عليه وأن يكون هدف الجميع طاعة الله ورسوله والالتفاف حول كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- والحذر مما يخالف ذلك. فهذا هو الطريق الأوحد لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفهم ونصرهم على عدوهم والله ولي التوفيق.(18/330)
السؤال الثاني: ما هي الإجراءات التي يجب أن تتخذ بخصوص غير المسلمين الموجودين في المجتمعات الإسلامية للمحافظة على الكيان الإسلامي والحضارة الإسلامية والأخلاق الإسلامية؟
الجواب: الطريق لهذا والسبيل إليه هو دعوة غير المسلمين إلى الخير والهدى وأن يفسر لهم ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الهدى ودين الحق بالأسلوب الذي يفهمونه وبيان محاسن الإسلام لهم لعلهم يدخلون في دين الله ولعلهم يخرجون من ظلمات الشرك والجهل والظلم إلى نور التوحيد والإيمان وعدالة الإسلام. فمن قبل الحق واستقام على دين الله فالحمد لله وإلا أمكن إبعاده إلى بلاد الكفرة إذا كان ليس من أهل الوطن.
وإن كان منهم أمكن أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل إن كان ليس من أهل الكتاب ولا من المجوس، وإن كان من المجوس أو من أهل الكتاب تؤخذ منهم الجزية ويبقى في صغار وذل حتى يدخل في دين الله ويسلم الناس من شره ويعرفونه.
هذا أسلم طريق للخلاص من شر الكفار المخالطين مع العناية بدعوتهم إلى الله وتبصيرهم بدينه بالأساليب الحسنة وإيضاح محاسن الإسلام لهم وإنصافهم وإعطائهم حقوقهم التي لهم على المسلمين لعلهم يقبلون الحق ويخرجون مما هم فيه من الباطل إلى دين الحق والهدى والسعادة.(18/330)
هذا مع قدرة المسلمين فإن عجز المسلمون عن هذا فعليهم أن يتقوا الله وأن يستقيموا ويتحرزوا من شر أعدائهم وأن يجتهدوا في دعوتهم إلى الله وفي البعد عن الاختلاط بهم ومصادقتهم والأنس بهم والتشبه بأحوالهم حتى يسلموا من مكائدهم وحتى لا يخدعوهم بما هم عليه من الباطل والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق.
وهذا كله في غير الجزيرة العربية أمما في الجزيرة العربية فالواجب أن يمنعوا من دخولها وأن لا يبقوا فيها لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بقائهم فيها وأمر أن لا يبقى فيها إلا الإسلام وأن لا يجتمع فيها دينان وأمر بإخراج اليهود والنصارى وغيرهم من الجزيرة فلا يدخلوها إلا لحاجة عارضة ثم يخرجون كما أذن عمر للتجار أن يدخلوا في مدد محددة ثم يرجعوا إلى بلادهم وكما أقر النبي -صلى الله عليه وسلم- اليهود على العمل في خيبر لما احتيج إليهم ثم أجلاهم عمر.
فالحاصل أن الجزيرة العربية لا يجوز أن يقر فيها دينان لأنها معقل الإسلام ومنبع الإسلام فلا يجوز أن يقر فيها المشركون إلا بصفة مؤقتة لحاجة يراها ولي الأمر كما فعل عمر في التجار وكما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أهل خيبر حتى استغنى عنهم المسلمون فأجلاهم عمر رضي الله عنه.
ويجب على الرعية في الجزيرة العربية أن يساعدوا ولي الأمر وأن يجتهدوا مع ولي الأمر في عدم جلب المشركين وعدم التعاقد معهم وعدم استعمالهم في أي عمل وأن يستغنى عنهم بالعمال المسلمين فإن في ذلك كفاية وأن يختار من المسلمين من هم أولى في أخلاقهم ودينهم لأن بعض المسلمين قد يكون مسلما بالاسم لا بالحقيقة فينبغي للذي يستورد العمال أن ينظر وأن يتأمل وأن يختار العمال الطيبين من المسلمين دون غيرهم والله المستعان.(18/331)
السؤال الثالث: إن المسلمين القادمين إلى الحرمين الشريفين يشعرون(18/331)
بقلق واضطراب عندما يرون أن تدفق غير المسلمين إلى هذه البلاد في ازدياد مستمر وأنهم يلقون حظهم الأوفر من أموال المسلمين وثرواتهم فهل أنتم نبهتم الحكومة على هذه الأخطار؟
الجواب: نعم قد شعر المسلمون بخطر من هؤلاء المشركين وقد نبه ولي الأمر على أنه يجب تطهير الجزيرة من الكفرة والعناية بعدم دخولهم فيها وعدم إقامتهم فيها وقد وافق ولي الأمر على التقليل منهم ووعد وفقه الله بالعناية التامة بهذا الشأن وأن لا يستقدم إلا من تدعو الضرورة إليهم أو الحاجة الشديدة إليهم. فأسأل الله له التوفيق والإعانة على كل خير.(18/332)
السؤال الرابع: ما هي المسؤوليات التي تجب علينا نحو الجهاد الإسلامي في أفغانستان وما هي الجهود التي قمتم بها في هذا الصدد حتى الآن؟
الجواب: لا ريب أن الجهاد في أفغانستان جهاد إسلامي يجب أن يشجع ويدعم من المسلمين جميعا لأنهم مسلمون يقاتلون عدوا شرسا خبيثا من أكفر الكفرة وأرذلهم ومن أقواهم فيما يتعلق بالقدرة الحسية فليس هناك تكافؤ بين القوتين ولكن نصر الله وتأييده لإخواننا المجاهدين. فالواجب على أهل الإسلام جميعا أن يساعدوهم وأن يعينوهم بالمال والنفس والرأي والشفاعة وكل ما يعد دعما لهم وإعانة. هذا هو الواجب على المسلمين جميعا وقد قامت الدولة وفقها الله بتشجيع الشعب السعودي على مساعدتهم وقد حصل من ذلك مساعدات كثيرة للمجاهدين عن طريق الشعب وغيره ولا نزال مستمرين في هذا الأمر مع إخواننا في هذه المملكة. والدولة وفقها الله تشجع الشعب على ذلك وتعين على إيصال هذه المساعدات إلى المجاهدين والمهاجرين لأنهم بحاجة شديدة إلى ذلك. وهذا حق على الجميع ونسأل الله أن يعيننا على الاستمرار وأن ينصر إخواننا وأن يعينهم على ما فيه نجاتهم وسعادتهم ونصرهم على عدوهم،(18/332)
وأن يذل أعداء الإسلام أينما كانوا وأن يكبتهم وأن يعين عليهم إنه خير مسؤول.(18/333)
السؤال الخامس: ما هي الطرق الناجحة لديكم للقيام بالدعوة إلى الله في هذا العصر؟
الجواب: أنجح الطرق في هذا العصر وأنفعها استعمال وسائل الإعلام لأنها ناجحة وهي سلاح ذو حدين. فإذا استعملت هذه الوسائل في الدعوة إلى الله وإرشاد الناس إلى ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من طريق الإذاعة والصحافة والتلفاز فهذا شيء كبير ينفع الله به الأمة أينما كانت وينفع الله به غير المسلمين أيضا حتى يفهموا الإسلام وحتى يعقلوه ويعرفوا محاسنه ويعرفوا أنه طريق النجاح في الدنيا والآخرة. والواجب على الدعاة وعلى حكام المسلمين أن يساهموا في هذا بكل ما يستطيعون من طريق الإذاعة ومن طريق الصحافة ومن طريق التلفاز ومن طريق الخطابة في المحافل ومن طريق الخطابة في الجمعة وغير الجمعة وغير ذلك من الطرق التي يمكن إيصال الحق بها إلى الناس وبجميع اللغات المستعملة حتى تصل الدعوة والنصيحة إلى جميع العالم بلغاتهم.
هذا هو الواجب على جميع القادرين من العلماء وحكام المسلمين والدعاة إلى الله عز وجل حتى يصل البلاغ إلى كافة العالم في جميع أنحاء المعمورة باللغات التي يستعملها الناس. وهذا هو البلاغ الذي أمر الله به قال الله سبحانه وتعالى لنبيه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (1) . فالرسول -صلى الله عليه وسلم- عليه البلاغ وهكذا الرسل جميعا عليهم البلاغ صلوات الله وسلامه عليهم وعلى أتباع الرسل أن يبلغوا. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «بلغوا عني ولو آية (2) » . وكان إذا خطب الناس يقول: «فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ
__________
(1) سورة المائدة الآية 67
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3461) ، سنن الترمذي العلم (2669) ، مسند أحمد بن حنبل (2/159) ، سنن الدارمي المقدمة (542) .(18/333)
أوعى من سامع (1) » . فعلى جميع الأمة حكاما وعلماء وتجارا وغيرهم أن يبلغوا عن الله وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم- هذا الدين وأن يشرحوه للناس بشتى اللغات الحية المستعملة في أساليب واضحة وأن يشرحوا محاسن الإسلام وحكمه وفوائده وحقيقته حتى يعرفه أعداؤه وحتى يعرفه الجاهلون به وحتى يعرفه الراغبون فيه. والله ولي التوفيق.
وختاما لهذا اللقاء فإني أنصح إخواني المسلمين في باكستان وفي بنجلاديش وفي كل مكان أن يتقوا الله وأن يعملوا بشرعه وأن يعملوا بما أوجب الله عليهم وأن يدعوا ما حرم الله عليهم أينما كانوا وأن يحذروا الشرك بالله قليله وكثيره دقيقه وجليله وأن يخلصوا لله العبادة في جميع الأحوال وأن يحذروا ما وقع فيه كثير من الناس من التعلق بالأموات والاستغاثة بهم سواء كانوا من الأنبياء أو الأولياء أو غيرهم كما أحذرهم من التعلق على الأشجار أو الأحجار أو الأصنام أو غيرها من الجمادات لأن العبادة حق الله وحده ليس له فيها شريك كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (2) . الآية. وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (3) . ويقول سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (4) .
فالواجب على جميع المسلمين أن يخصوا الله بالعبادة دون كل ما سواه وأن يؤدوا حقه الذي فرض عليهم من الصلاة وغيرها وأن يحذروا ما حرم الله عليهم وأن يتواصوا بالحق والصبر عليه وأن يتعاونوا على البر والتقوى أينما كانوا وأن يتفقهوا في دين الله وأن يجتهدوا في تلاوة القرآن الكريم والتدبر لمعانيه والتعقل والعمل بما فيه لأنه كتاب الله فيه الهدى
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1741) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، سنن ابن ماجه المقدمة (233) ، مسند أحمد بن حنبل (5/49) ، سنن الدارمي المناسك (1916) .
(2) سورة الإسراء الآية 23
(3) سورة البينة الآية 5
(4) سورة الجن الآية 18(18/334)
والنور. قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: «إني تارك فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به كتاب الله (1) » . والله يقول: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (2) . ويقول سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (3) . فالواجب على المسلمين جميعا أن يتعقلوه ويتدبروه ويعملوا به. وهكذا سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- يجب العناية بها وحفظ ما تيسر منها والعمل بها وتفسير ما أشكل من القرآن بالسنة الصحيحة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنها الوحي الثاني والأصل الثاني من أصول الشريعة التي يجب أن يرجع إليها في كل ما أشكل في كتاب الله وفي كل ما أشكل من الأحكام.
هذه وصيتي لجميع المسلمين وأن لا تشغلهم الدنيا وشهواتها عن آخرتهم بل يجب عليهم أن يستعينوا بالدنيا على الآخرة وأن يجعلوا الدنيا مطية للآخرة حتى ينجحوا ويربحوا ويفلحوا والله ولي التوفيق.
وصلى الله وسلم على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
__________
(1) سنن الترمذي المناقب (3788) ، مسند أحمد بن حنبل (3/17) .
(2) سورة الإسراء الآية 9
(3) سورة فصلت الآية 44(18/335)
صفحة فارغة(18/236)
وجوب أداء الصلاة في الجماعة
لسماحة الشيخ / عبد العزيز بن عبد الله بن باز
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه من المسلمين وفقهم الله لما فيه رضاه ونظمني وإياهم في سلك من خافه واتقاه أمين: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد بلغني أن كثيرا من الناس قد يتهاونون بأداء الصلاة في الجماعة ويحتجون بتسهيل بعض العلماء في ذلك، فوجب علي أن أبين عظم الأمر وخطورته، وأنه لا ينبغي للمسلم أن يتهاون بأمر عظم الله شأنه في كتابه العظيم، وعظم شأنه رسوله الكريم، عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم. ولقد أكثر الله سبحانه من ذكر الصلاة في كتابه الكريم، وعظم شأنها، وأمر بالمحافظة عيها وأدائها في الجماعة، وأخبر أن التهاون بها والتكاسل عنها من صفات المنافقين، فقال تعالى في كتابه المبين: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (1) . وكيف يعرف الناس محافظة العبد عليها، وتعظيمه لها، وقد تخلف عن أدائها مع إخوانه وتهاون بشأنها وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 238
(2) سورة البقرة الآية 43(18/337)
وهذه الآية الكريمة نص في وجوب الصلاة في الجماعة، والمشاركة للمصلين في صلاتهم، ولو كان المقصود إقامتها فقط لم تظهر مناسبة واضحة في ختم الآية بقوله سبحانه: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (1) لكونه قد أمر بإقامتها في أول الآية، وقال تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} (2) . الآية.
فأوجب الله سبحانه أداء الصلاة في الجماعة في حال الحرب فكيف بحال السلم؟ ولو كان أحد يسامح في ترك الصلاة في جماعة لكان المصافون للعدو، المهددون بهجومه عليهم أولى بأن يسمح لهم في ترك الجماعة. فلما لم يقع ذلك، علم أن أداء الصلاة في جماعة من أهم الواجبات، وأنه لا يجوز لأحد التخلف عن ذلك. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا أن يصلي بالناس، ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم) (3) » الحديث. وفي صحيح مسلم: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق علم نفاقه، أو مريض، وإن كان المريض ليمشي بين الرجلين حتى يأتي الصلاة) . وقال: (إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-علمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه) . وفيه أيضا عنه قال: (من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بهن فإن الله
__________
(1) سورة البقرة الآية 43
(2) سورة النساء الآية 102
(3) صحيح البخاري الأذان (644) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (651) ، سنن الترمذي الصلاة (217) ، سنن النسائي الإمامة (848) ، سنن أبو داود الصلاة (548) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (791) ، مسند أحمد بن حنبل (2/537) ، موطأ مالك النداء للصلاة (292) ، سنن الدارمي الصلاة (1212) .(18/338)
شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد مسجد من هذه المساجد، إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) .
وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال: «يا رسول الله إنه ليس لي قائد يلائمني إلى المسجد فهل لي أن أصلي في بيتي؟ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (هل تسمع النداء بالصلاة؟) قال نعم، قال: (فأجب) (1) » .
والأحاديث الدالة على وجوب الصلاة في الجماعة، وعلى وجوب إقامتها في بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه كثيرة جدا، فالواجب على كل مسلم العناية بهذا الأمر، والمبادرة إليه، والتواصي به. مع أبنائه وأهل بيته وجيرانه وسائر إخوانه المسلمين، امتثالا لأمر الله ورسوله، وحذرا مما نهى الله عنه ورسوله، وابتعادا عن مشابهة أهل النفاق الذين وصفهم الله بصفات ذميمة من أخبثها تكاسلهم عن الصلاة، تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (2) {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} (3) ولأن التخلف عن أدائها في الجماعة من أعظم أسباب تركها بالكلية. ومعلوم أن ترك الصلاة كفر وضلال وخروج عن دائرة
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (653) ، سنن النسائي الإمامة (850) .
(2) سورة النساء الآية 142
(3) سورة النساء الآية 143(18/339)
الإسلام، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (1) » خرجه مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه. وقال -صلى الله عليه وسلم- «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) (2) » رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربع بإسناد صحيح والآيات والأحاديث في تعظيم شأن الصلاة، ووجوب المحافظة عليها وإقامتها كما شرع الله، والتحذير من تركها كثيرة ومعلومة. فالواجب على كل مسلم أن يحافظ عليها في أوقاتها، وأن يقيمها كما شرع الله وأن يؤديها مع إخوانه في الجماعة في بيوت الله، طاعة لله سبحانه ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- وحذرا من غضب الله وأليم عقابه.
ومتى ظهر الحق واتضحت أدلته، لم يجز لأحد أن يحيد عنه، لقول فلان أو فلان، لأن الله سبحانه يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (3) . ويقول سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4) . ولا يخفى ما في الصلاة في الجماعة من الفوائد الكثيرة، والمصالح الجمة، ومن أوضح ذلك التعارف والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر عليه.
وتشجيع المتخلف، وتعليم الجاهل، وإغاظة أهل النفاق، والبعد عن سبيلهم، وإظهار شعائر الله بين عباده، والدعوة إليه سبحانه بالقول والعمل، إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة.
وكثير من الناس قد يسهر بالليل ويتأخر عن صلاة الفجر وبعضهم يتخلف عن صلاة العشاء ولا شك أن ذلك منكر عظيم وتشبه بأعداء الدين المنافقين الذين قال الله فيهم سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (5) .
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/389) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .
(2) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(3) سورة النساء الآية 59
(4) سورة النور الآية 63
(5) سورة النساء الآية 145(18/340)
وقال فيهم عز وجل: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (2) . وقال سبحانه في حقه: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} (3) {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (4) .
فيجب على كل مسلم ومسلمة الحذر من مشابهة هؤلاء المنافقين في أعمالهم وأقوالهم وفي تثاقلهم عن الصلاة وتخلفهم عن صلاة الفجر والعشاء حتى لا يحشر معهم وقد صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: « (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا) (5) » متفق على صحته. وقال -صلى الله عليه وسلم-: « (من تشبه بقوم فهو منهم) (6) » رواه الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بإسناد حسن.
وفقني الله وإياكم لما فيه رضاه وصلاح أمر الدنيا والآخرة، وأعاذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن مشابهة الكفار والمنافقين، إنه جواد كريم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية
والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) سورة التوبة الآية 67
(2) سورة التوبة الآية 68
(3) سورة التوبة الآية 54
(4) سورة التوبة الآية 55
(5) سنن النسائي الإمامة (843) ، سنن أبو داود الصلاة (554) ، مسند أحمد بن حنبل (5/140) ، سنن الدارمي الصلاة (1269) .
(6) سنن أبو داود اللباس (4031) .(18/341)
حديث شريف
عن أبي سعيد الخدري قال «جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أي الناس خير قال رجل جاهد بنفسه وماله ورجل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره تابعه» .(18/342)
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1)
(سورة النور الآية 55)
__________
(1) سورة النور الآية 55(19/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(19/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - الرياض
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(19/3)
المحتويات
الافتتاحية
أنواع التوحيد الذي بعث به الله الرسل عليهم الصلاة والسلام سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
موضوع العدد:
التأمين (القسم الأول) اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 17
الفتاوى
121
157(19/4)
البحوث:
القضاء والحكم بشريعة الإسلام بين توحيد ومتابعة المبلغ الدكتور / سعود بن سعد الدريب 171
تحقيق مخطوطة (البرهان في بيان القرآن) للموفق عبد الله بن قدامة الحنبلي تحقيق الدكتور سعود بن عبد الله الفنيسان 189
نفقة المرأة الواجبة على نفسها في الفقه الإسلامي الدكتور عبد الله بن عبد المحسن الطريقي 285
كلمة:
التحذير من دفع الرشوة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 319(19/5)
صفحة فارغة(19/6)
الافتتاحية
أنواع التوحيد الذي بعث الله به الرسل عليهم الصلاة والسلام
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. .
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى بعث رسله عليهم الصلاة والسلام دعاة للحق وهداة للخلق بعثهم مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فبلغوا الرسالة وأدوا الأمانة ونصحوا لأممهم وصبروا على أذاهم وجاهدوا في الله حق جهاده حتى أقام الله بهم الحجة وقطع بهم المعذرة.
كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (1) وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2) وقال سبحانه: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (3) فبين سبحانه في هذه الآيات أنه أرسل الرسل ليدعوا الناس إلى عبادة الله وحده وينذروهم عن الشرك به
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة الأنبياء الآية 25
(3) سورة الزخرف الآية 45(19/7)
وعبادة غيره وقد بلغ الرسل عليهم الصلاة والسلام ذلك ودعوا إلى توحيد الله في عبادته فأرسوا لأممهم قواعد العدالة والبر والسلام ونجحوا في مهمتهم غاية النجاح لأن مهمتهم هي البلاغ والبيان، أما الهداية للقلوب وتوفيقها لقبول الحق فهذا بيد الله سبحانه ليس بيد الرسل ولا غيرهم كما قال الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (1) وقال سبحانه: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (2) وقال سبحانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (3) ولا سيما خاتمهم وإمامهم وأفضلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه قد نجح في دعوته أعظم نجاح أكمل الله له ولأمته الدين وأتم عليهم النعمة وجعل شريعته شريعة كاملة عامة لجميع الثقلين منتظمة لجميع مصالحهم العاجلة والآجلة كما قال الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (4) وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (5) وقال عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (6) وقد أجابهم الأقلون وكفر بهم الأكثرون جهلا وتقليدا للآباء والأسلاف واتباعا للظن والهوى كما قال سبحانه:
__________
(1) سورة البقرة الآية 272
(2) سورة النحل الآية 35
(3) سورة الحديد الآية 25
(4) سورة المائدة الآية 3
(5) سورة سبأ الآية 28
(6) سورة الأعراف الآية 158(19/8)
{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} (1) {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} (2) {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} (3) {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (4) {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (5) {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (6) {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (7) وقال تعالى لما ذكر اللات والعزى ومناة: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (8) والآيات في هذا المعنى كثيرة وقد يحمل بعضهم على التكذيب والمخالفة الحسد والبغي والاستكبار مع كونه يعرف الحق كما جرى لليهود فإنهم يعرفون محمدا عليه الصلاة والسلام كما يعرفون أبناءهم ولكن حملهم البغي والحسد وإيثار العاجلة على تكذيبه وعدم اتباعه كما جرى لفرعون وقومه قال الله تعالى عن موسى أنه قال لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} (9) الآية. وقال تعالى عن فرعون وقومه: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (10) {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (11) وقال سبحانه عن كفار قريش في تكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (12) وقد كانوا يعرفونه في الجاهلية بالصدق والأمانة ويسمونه
__________
(1) سورة الزخرف الآية 19
(2) سورة الزخرف الآية 20
(3) سورة الزخرف الآية 21
(4) سورة الزخرف الآية 22
(5) سورة الزخرف الآية 23
(6) سورة الزخرف الآية 24
(7) سورة الزخرف الآية 25
(8) سورة النجم الآية 23
(9) سورة الإسراء الآية 102
(10) سورة النمل الآية 13
(11) سورة النمل الآية 14
(12) سورة الأنعام الآية 33(19/9)
الأمين ويشهدون له بالصدق فلما جاءهم بغير ما عليه آباؤهم وأسلافهم أنكروا عليه وكذبوه وعادوه وآذوه وقاتلوه، وهذه سنة الله في عباده مع الرسل ودعاة الحق يمتحنون ويكذبون ويعادون ثم تكون لهم العاقبة كما شهدت بذلك الآيات المحكمات والأحاديث الصحيحة والوقائع المعروفة قديما وحديثا كما شهد بذلك هرقل عظيم الروم لما سأل أبا سفيان عن حال النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته وكيف الحرب بينهم وبينه فقال أبو سفيان: إنها بينهم وبينه سجال يدالون عليه ويدال عليهم فقال هرقل: هكذا الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة.
وقد وعد الله الرسل وأتباعهم بالنصر والتمكين وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} (1) {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} (2) {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (3) وقال سبحانه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (4) {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (5) .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (6) {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} (7) {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (8) وقال عز وجل: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (9) وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (10)
__________
(1) سورة الصافات الآية 171
(2) سورة الصافات الآية 172
(3) سورة الصافات الآية 173
(4) سورة غافر الآية 51
(5) سورة غافر الآية 52
(6) سورة محمد الآية 7
(7) سورة محمد الآية 8
(8) سورة محمد الآية 9
(9) سورة الروم الآية 47
(10) سورة النور الآية 55(19/10)
والآيات في هذا المعنى كثيرة ومن تأمل سنة الله في عباده علم صحة ما دلت عليه هذه الآيات من جهة الواقع كما قد علم ذلك من جهة النقل وإنما يصاب أهل الإسلام في بعض الأحيان بسبب ما يحصل منهم من الذنوب والتفريط في أمر الله وعدم الإعداد المستطاع لأعدائهم ولحكم أخرى وأسرار عظيمة كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (1) وقال سبحانه: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2) وقال عز وجل: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (3) ومن يتأمل دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام وحال الأمم الذين دعتهم الرسل يتضح له أن التوحيد الذي دعوا إليه ثلاثة أنواع، نوعان أقر بهما المشركون فلم يدخلوا بهما في الإسلام وهما توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، أما توحيد الربوبية فهو الإقرار بأفعال الرب من الخلق والرزق والتدبير والإحياء والإماتة إلى غير ذلك من أفعاله سبحانه فإن المشركين قد أقروا بذلك واحتج الله عليهم به لأنه يستلزم توحيد العبادة ويقتضيه كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (4) وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (5) الآية وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (6)
__________
(1) سورة الشورى الآية 30
(2) سورة آل عمران الآية 165
(3) سورة النساء الآية 79
(4) سورة العنكبوت الآية 61
(5) سورة الزخرف الآية 87
(6) سورة يونس الآية 31(19/11)
المعنى: فقل: أفلا تتقون الإشراك به في عبادته وأنتم تعلمون أنه الفاعل لهذه الأشياء وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (2) {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (3) {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (4) {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (5) {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (6) .
والآيات في هذا المعنى كثيرة وكلها دالة على إقرارهم بأفعال الرب سبحانه ولم يدخلهم ذلك في الإسلام كما تقدم لعدم إخلاصهم العبادة لله وحده وذلك حجة عليهم فيما أنكروه من توحيد العبادة لأن الخالق لهذه الأشياء التي أنكروها هو المستحق لأن يعبد وحده لا شريك له.
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 84
(2) سورة المؤمنون الآية 85
(3) سورة المؤمنون الآية 86
(4) سورة المؤمنون الآية 87
(5) سورة المؤمنون الآية 88
(6) سورة المؤمنون الآية 89(19/12)
أما النوع الثاني وهو توحيد الأسماء والصفات فقد ذكر الله ذلك في آيات كثيرات ولم ينكره المشركون سوى ما ذكر عنهم من إنكار الرحمن في قوله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (1) .
وهذا منهم على سبيل المكابرة والعناد وإلا فهم يعلمون أنه سبحانه هو الرحمن كما وجد ذلك في كثير من أشعارهم، قال الله سبحانه: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (2) وقال الله عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (3) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (4) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (5) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (6) وقال سبحانه:
__________
(1) سورة الرعد الآية 30
(2) سورة الحشر الآية 22
(3) سورة الإخلاص الآية 1
(4) سورة الإخلاص الآية 2
(5) سورة الإخلاص الآية 3
(6) سورة الإخلاص الآية 4(19/12)
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) وقال عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (3) {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (4) وقال سبحانه: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (5) والآيات في هذا المعنى كثيرة وكلها دالة على أن الله سبحانه له الأسماء الحسنى والصفات العلا وله الكمال المطلق في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله لا شريك له في ذلك. وقد أجمع سلف الأمة على وجوب الإيمان بكل ما جاء في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيحة من الأسماء والصفات وإقرارها كما جاءت والإيمان بأن الله سبحانه موصوف بها على الحقيقة لا على المجاز على الوجه اللائق به لا شبيه له في ذلك ولا ند له ولا كفو ولا يعلم كيفيتها إلا هو سبحانه وهو الموصوف بمعانيها كلها على الكمال المطلق الذي لا يشابهه فيها أحد كما تقدم في قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (6) وهذا النوع حجة قاطعة على استحقاق ربنا سبحانه العبادة كالنوع الأول.
أما النوع الثالث فهو توحيد العبادة وهو الذي جاءت به الرسل ونزلت الكتب بالدعوة إليه والأمر بتحقيقه وخلق الله من أجله الثقلين وفيه وقعت الخصومة بين الرسل وأممهم، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (7) وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (8) وقال عن نوح وهود وصالح وشعيب عليهم الصلاة
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة الفاتحة الآية 2
(3) سورة الفاتحة الآية 3
(4) سورة الفاتحة الآية 4
(5) سورة النحل الآية 74
(6) سورة الشورى الآية 11
(7) سورة النحل الآية 36
(8) سورة الأنبياء الآية 25(19/13)
والسلام إن كل واحد منهم قال لقومه: " اعبدوا الله ما لكم من إله غيره " وقال سبحانه: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (2) .
وقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (3) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (4) وقال عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (5) الآية وقال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (6) والآيات في هذا المعنى كثيرة وكلها تدل على أن الله سبحانه أرسل الرسل وأنزل الكتب وخلق الخلق ليعبد وحده لا شريك له ويخص بالعبادة دون كل ما سواه.
وقد تنوعت عبادة المشركين لغير الله فمنهم من عبد الأنبياء والصالحين ومنهم من عبد الأصنام ومنهم من عبد الأشجار والأحجار ومنهم من عبد الكواكب وغيرها فأرسل الله الرسل عليهم الصلاة والسلام وأنزل الكتب لإنكار ذلك كله ودعوة الخلق كلهم إلى عبادة الله وحده دون كل ما سواه فلا يدعى إلا الله ولا يستغاث إلا به ولا يتوكل إلا عليه ولا يتقرب بالنذور والذبائح إلا له عز وجل، إلى غير ذلك من أنواع العبادة وهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 16
(2) سورة العنكبوت الآية 17
(3) سورة الذاريات الآية 56
(4) سورة البقرة الآية 21
(5) سورة الإسراء الآية 23
(6) سورة الفاتحة الآية 5(19/14)
وقد زعم المشركون أنهم قصدوا بعبادة الأنبياء والصالحين واتخاذهم الأصنام والأوثان آلهة مع الله زعموا أنهم إنما أرادوا بذلك القربة والشفاعة إلى الله سبحانه فرد الله عليهم ذلك وأبطله بقوله عز وجل: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (1) وقال عز وجل: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (2) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (3) .
ولما دعا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قريشا وغيرهم من كفار العرب إلى هذا التوحيد أنكروه واحتجوا على ذلك بأنه خلاف ما عليه آباؤهم وأسلافهم كما قال سبحانه: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} (4) {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (5) وقال سبحانه: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (6) {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (7) قال الله سبحانه: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} (8) والآيات الدالة على كفرهم واستكبارهم وعنادهم كثيرة جدا قد سبق الكثير منها.
فالواجب على الدعاة إلى الله سبحانه أن يبلغوا عن الله دينه بعلم وبصيرة وأن يصبروا ولا ييئسوا وأن يتذكروا وعد الله رسله وأتباعهم بالنصر
__________
(1) سورة يونس الآية 18
(2) سورة الزمر الآية 2
(3) سورة الزمر الآية 3
(4) سورة ص الآية 4
(5) سورة ص الآية 5
(6) سورة الصافات الآية 35
(7) سورة الصافات الآية 36
(8) سورة الصافات الآية 37(19/15)
والتمكين في الأرض إذا نصروا دينه وثبتوا عليه واستقاموا على طاعة الله ورسوله كما تقدم ذكر ذلك في الآيات المحكمات وكما جرى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد أوذي وعودي من القريب والبعيد فصبر كما صبر الرسل قبله واستمر في الدعوة إلى ربه وجاهد في الله حق الجهاد وصبر أصحابه وناصروه وجاهدوا معه حتى أظهر الله دينه وأعز جنده وخذل أعداءه ودخل الناس في دين الله أفواجا، سنة الله في عباده فلن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (1) وتقدم قوله عز وجل: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) وقوله سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (3) الآية. وقال سبحانه: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (4) .
وأسأل الله عز وجل أن ينصر دينه ويعلي كلمته وأن يصلح أحوال المسلمين ويجمع قلوبهم على الحق وأن يفقههم في دينه وأن يصلح قادتهم ويجمعهم على الهدى ويوفقهم لتحكيم شريعته والتحاكم إليها والحذر مما خالفها إنه جواد كريم. . وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) سورة المائدة الآية 56
(2) سورة الروم الآية 47
(3) سورة النور الآية 55
(4) سورة هود الآية 49(19/16)
التأمين
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد: -
فبناء على ما تقرر من إدراج موضوع "التأمين " في جدول أعمال الدورة الرابعة، وبناء على المادة (7) من سير أعمال هيئة كبار العلماء- أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في التأمين يتضمن أمرين: -
الأول: تعريفه وبيان أسسه وأنواعه وأركانه وخصائص عقده وأنواع وثائقه وما إلى ذلك مما يتوقف على معرفته الحكم عليه بالإباحة أو المنع. .
الثاني: ذكر خلاف الباحثين في حكمه وأدلة كل فريق منهم مع المناقشة، وبالله التوفيق، ومنه نستمد العون. . .
1 - تعريف التأمين في اللغة وفي الاصطلاح: -
التأمين في اللغة من مادة أمن يأمن أمنا إذا وثق وركن إليه فهو آمن، وأمنه تأمينا إذا جعله في الأمن وفرس أمين القوى وناقة أمون قوية مأمون فتورها وأستأمن الحربي استجار وطلب الأمان وبيت آمن ذو أمن قال تعالى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} (1) وفي المنجد يقال أمن على ماله عند فلان تأمينا أي جعله في ضمانه. .
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 35(19/17)
وأما في الاصطلاح فقد اختلفت تعاريف التأمين لدى بعض الباحثين، فآثر القانون المصري المدني التعريف التالي للتأمين فجاءت المادة بهذا النص: التأمين عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمن له أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغا من المال أو إيرادا مرتبا أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المبين في العقد وذلك في نظير قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له للمؤمن. ويرى الأستاذ جمال الحكيم في كتابه عقود التأمين من الناحيتين التأمينية والقانونية أنه بالرغم من أن هذا التعريف كان خلاصة ما انتهت إليه مجموعة لجان إلا أنه لم ينج من نقد علماء القانون وبالرغم من خبرتهم في إعطاء تعريف دقيق للتأمين إلا- أنهم قد انتهوا أخيرا إلى التعريف الذي انتهى إليه وارتضاه الأستاذ هيمار وهو ما يلي: - التأمين عملية بها يحصل شخص يسمى المؤمن له على تعهد لصالحه أو لصالح غيره بأن يدفع له آخر هو المؤمن عوضا ماليا في حالة تحقق خطر معين وذلك في نظير مقابل مالي هو القسط. وتنبني هذه العملية على تحمل المؤمن تبعة مجموعة من المخاطر بإجراء المقاصة بينها وفقا لقوانين الإحصاء. ويقول الأستاذ جمال الحكيم: إن هذه التعاريف كلها لا تجمع بين الجانب الفني وجانب علاقة ما بين المؤمن له والمؤمن وأن التعريف الجامع المانع يكون على النحو التالي: -
التأمين عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمن له أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغا من المال أو إيرادا مرتبا أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المبين بالعقد وذلك في نظير قسط أو أية دفعة مالية يؤديها المؤمن له للمؤمن. ويتحمل بمقتضاه المؤمن تبعة مجموعة من(19/18)
المخاطر بإجراء المقاصة بينها وفقا لقوانين الإحصاء. .
ويقول الأستاذ مصطفي الزرقاء في كتابه عقد التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه بأن علماء القانون يفرقون بين نظام التأمين باعتباره فكرة وطريقة ذات أثر اقتصادي واجتماعي ترتكز على نظرية عامة ذات قواعد فنية وبين عقد التأمين باعتباره تصرفا قانونيا ينشئ حقوقا بين طرفين متعاقدين وتطبيقا عمليا لنظام التأمين فيمكن تعريف نظام التأمين بأنه: نظام تعاقدي يقوم على أساس المعاوضة غايته التعاون على ترميم أضرار المخاطر الطارئة بواسطة هيئات منظمة تزاول عقوده بصورة فنية قائمة على أسس وقواعد إحصائية. أما عقد التأمين فقد عرفه القانون المدني السوري والقانون المدني المصري بالتعريف الآتي مع تحوير في الصياغة: -
عقد بين طرفين أحدهما يسمى المؤمن والثاني المؤمن له يلتزم فيه المؤمن بأن يؤدي إلى المؤمن لمصلحته مبلغا من المال أو إيرادا مرتبا أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع حادث أو تحقق خطر مبين في العقد وذلك في مقابل قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له إلى المؤمن. أهـ.
وعلى أي حال فمهما وجد الاختلاف بين العلماء في تعريف التأمين فإن الاتفاق واقع بينهم على العناصر الأساسية لعقد التأمين من وجود الإيجاب والقبول من المؤمن له والمؤمن واتجاه التأمين إلى عين يقع عليها التأمين وأن يقوم المؤمن له بدفع مبلغ من المال دفعة واحدة أو على أقساط يتم الاتفاق عليها للمؤمن وأن يقوم المؤمن بضمان ما يقع على العين المؤمن عليها إذا تعرضت لما يتلفها أو جزءا منها.(19/19)
2 - النشأة التاريخية لفكرة التأمين:
لقد مرت فكرة التأمين منذ عهد قديم بأطوار عدة وأحوال مختلفة، فيرى بعض الباحثين أن فكرة التأمين كانت موجودة ومعمولا بها في القرن العاشر قبل الميلاد فقد صدر أول نظام يتعلق بالخسارة العامة في رودس عام 916 قبل الميلاد حيث قضى بتوزيع الضرر الناشئ من إلقاء جزء من شحنة السفينة في البحر لتخفيف حمولتها على أصحاب البضائع المشحونة فيها. .
ويرى فريق آخر من العلماء أن الإمبراطورية الرومانية كانت أول من ابتدع فكرة التأمين حيث ألزمت تجار الأسلحة بإرسال أسلحتهم بحرا لتزويد قوات الإمبراطورية بها على أن تقوم الدولة بضمان خسارة التاجر إذا فقدت أسلحته بسبب الأخطار البحرية أو بفعل العدو.
ويكاد المؤرخون يجمعون على أن التأمين البحري هو أسبق أنواع التأمين ظهورا حيث كان أول تطبيق عملي له بشكل تجاري كان في القرن الثاني عشر الميلادي حيث جرى على عهد تجار مناطق البحر الأبيض المتوسط ممارسة هذا النوع من التأمين. ويذكر المؤرخ فيللاني الذي عاش في القرن الرابع عشر من الميلاد أن التأمين على المنقولات بحرا بقصد التعويض عن الخسارة التي تنتج من ضياعها في البحار ظهر في لمبارديا سنة 182م بواسطة جماعة اللومبارد ثم انتقل بواسطة هذه الجماعة إلى إنجلترا وإلى غيرها من الأقاليم الأوربية وصدرت الأوامر الحكومية لتنظيم هذا النوع من التأمين. ثم نشأ بعده التأمين ضد الحريق وقد كان موجودا في إنجلترا قبل القرن السابع عشر الميلادي على شكل نقابات تعاونية كانت تعطي إعانة لأعضائها في حال احتراق(19/20)
أملاكهم، وفي منتصف القرن السابع عشر أخذ التأمين ضد الحريق طابعا تجاريا صدرت به نظم إدارية تختلف باختلاف أوضاع البلدان. .
أما التأمين على الحياة، فيقال بأن أول وثيقة للتأمين عليها صدرت سنة 1583 أم في إنجلترا ومع ذلك فقد كان وجوده محددا جدا ولم يتخذ قالبا نظاميا معتبرا إلا في سنة 1774م وقد كان للثورة الصناعية وما صاحبها من ظهور طبقة متوسطة أثر كبير في الإقبال على التأمين على الحياة واتساع نطاق انتشاره. .
وفي القرن التاسع عشر بعد أن عمت الثورة الصناعية البلدان الأوربية وتبع ذلك تطور الآلة وانتشارها ظهرت فكرة التأمين ضد الحوادث نظرا لما كانت تسببه الآلات المتحركة من حوداث القتل وتعطيل المنافع البدنية فتأسس في إنجلترا سنة 1848م أول مكتب للتأمين ضد الحوادث التي يتعرض لها المسافرون بالسكة الحديدية، وكانت بطاقات التأمين تباع مع بطاقات السفر، ثم تطورت الفكرة حتى شملت التأمين ضد الحوادث الشخصية وكافة الأمراض. وبالتوسع في الأخذ بفكرة التأمين ظهر ما يسمى بالتأمين ضد خيانة الأمانة وبالتأمين ضد الضمانات القضائية مما هو خاص بالمسئوليات المالية على الأوصياء الذين يعينون بقرارات قضائية على القصار والأوقاف والمعتوهين ونحوهم، وبالتأمين ضد التضمينات الحكومية من جراء خيانة بعض الموظفين، وبالتأمين ضد حوادث السيارات والطائرات. .
أما تأريخ دخول التأمين على البلدان الإسلامية فإن كثيرا من علماء المسلمين ممن كتب في هذا الموضوع يرى أن دخوله على البلاد الإسلامية كان قريبا جدا بدليل أن فقهاء المسلمين حتى القرن(19/21)
الثالث عشر الهجري لم يبحثوا هذا الموضوع مع أنهم بحثوا كل ما هو محيط بهم في شئون حياتهم العامة من عبادات ومعاملات وأحوال شخصية. . .
ويقال بأن أول من كتب فيه من علماء المسلمين هو ابن عابدين وذلك حينما قوي الاتصال التجاري بين الشرق والغرب بعد النهضة الصناعية واضطر الوكلاء التجاريون الأجانب المقيمون في البلدان الإسلامية لعقد صفقات الاستيراد إلى التأمين على نقل البضائع المجلوبة من بلادهم.(19/22)
3- أقسام التأمين: -
للتأمين عدة تقسيمات لاعتبارات مختلفة: -
أ- فينقسم من حيث شكله إلى قسمين: تأمين تعاوني أو ما يسمى بالتأمين التبادلي، وتأمين تجاري أو ما يسمى بالتأمين بقسط ثابت. . فالتأمين التعاوني يقوم به عدة أشخاص يتعرضون لنوع من المخاطر وذلك عن طريق اكتتابهم بمبالغ نقدية على سبيل الاشتراك. تخصص هذه المبالغ لأداء التعويض المستحق لمن يصيبه منهم الضرر فإن لم تف الأقساط المجموعة طولب الأعضاء باشتراك إضافي لتغطية العجز وإن زادت عما صرف من تعويض كان للأعضاء حق استرداد هذه الزيادة وكل واحد من أعضاء هذه الجمعية يعتبر مؤمنا ومؤمنا له وتدار هذه الجمعية بواسطة بعض أعضائها، ويتضح من تصوير هذا النوع من التأمين أنه أشبه بجمعية تعاونية تضامنية لا تهدف إلى الربح وإنما الغرض منها درء الخسائر التي تلحق بعض الأعضاء بتعاقدهم على توزيعها بينهم على الوضع المذكور.(19/22)
أما التأمين التجاري أو ما يسمى بالتأمين بقسط ثابت فهو الذي تنصرف إليه كلمة التأمين عند إطلاقها فالمؤمن له يلتزم بدفع قسط دوري محدد إلى المؤمن- شركة التأمين- في مقابلة تعهد المؤمن بتعويضه عند تحقق الخطر المؤمن منه، ويتميز هذا النوع عن سابقه باستقلال المؤمن عن المؤمن له حيث إن المؤمن هو الذي يستفيد من الربح إذا زادت الأقساط الدورية عن مبالغ التعويض المستحق دفعها للمؤمن لهم. كما أن المؤمن هو وحده المتضرر بالخسارة في حال نقص الأقساط الدورية عن مبالغ التعويض المستحق دفعها.
فالتأمين التجاري يكون المؤمن له غير المؤمن الذي ليس له هدف إلا الربح، وبهذا يتضح الفرق بينه وبين سابقه، ذلك أن التأمين التبادلي أو التأمين التعاوني لا يسعى أصحابه إلى الربح وإنما غايتهم التعاون على تحمل المخاطر وكل واحد من أعضائه يعتبر مؤمنا له ومؤمنا، أما التأمين التجاري فالتعاون فيه يأتي، بطريق غير مباشر وغير مقصود أيضا. .
وهناك من الكتاب من يذهب في تحليله عملية التأمين التجاري إلى أن التعاون بين المؤمن له والمؤمن هو الفكرة الأساسية للتأمين ذلك أن المؤمن لا يعتمد في دفع مبالغ التأمين على رأس ماله وإنما سنده في ذلك الأقساط الدورية التي يجمعها من المؤمن لهم. فالمؤمن لهم هم في الواقع المؤمنون لأنفسهم، وتتلخص وظيفة المؤمن في تنظيم هذا التعاون وتوزيع المخاطر على المؤمن لهم. .
ب- وينقسم التأمين من حيث موضوعه إلى قسمين:
أحدهما: تجاري، ويشتمل على التأمين البحري والنهري والبري والجوي، فالتأمين البحري ويقصد به التأمين من المخاطر التي(19/23)
تحدث للسفن أو لحمولتها وهذا النوع يعتبر أقدم أنواع التأمين، والتأمين النهري هو التأمين من مخاطر النقل في مياه الأنهار والترع العامة، والتأمين الجوي هو التأمين من مخاطر الجو التي تتعرض لها الطائرات أو حمولاتها، وأما التأمين البري فهو التأمين ضد الحوادث العامة فيما عدا حوادث البحر والجو. .
القسم الثاني: تأمين الأضرار والأشخاص، فتأمين الأضرار يتناول المخاطر التي تؤثر في ذمة المؤمن له لتعويضه عن الخسارة التي تلحقه بسببها وهو ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: تأمين من المسئولية وذلك بضمان المؤمن له ضد الرجوع الذي قد يتعرض له من جانب الغير بسبب ما أصابهم من أضرار يسأل عن التعويض عنها كحوادث السيارات والعمل.
الثاني: التأمين على الأموال، وذلك بتعويض المؤمن له عن الخسارة التي قد تلحقه في ماله من سرقة أو حريق أو موت حيوان أو فيضانات أو آفات زراعية أو غير ذلك من أسباب الأضرار والمخاطر، أما تأمين الأشخاص، فيتناول أنواع التأمين المتعلقة بشخص المؤمن وذلك بتعويض المؤمن له أو وارثه عن الضرر الذي أصابه في جسمه سواء كان موتا أو عاهة أو مرضا أو شيخوخة بما يتناسب مع مقدار الإصابة التي حلت به. .
ويشمل هذا النوع التأمين على الحياة والتأمين من الحوادث الجسمية:
أما التأمين على الحياة فله صور متعددة أهمها ما يلي: -
أ- التأمين للوفاة: وهو عقد يتعهد المؤمن بمقتضاه بأن يدفع للمؤمن له مبلغا معينا عند وفاة المؤمن عليه وذلك لقاء أقساط دورية أو دفعة(19/24)
واحدة تدفع له. وقد يكون الاتفاق على أن يدفع المؤمن المبلغ في أي وقت مات فيه المؤمن عليه. ويسمى هذا النوع بالتامين العمري. وقد يكون الاتفاق على أن يدفع المؤمن المبلغ إذا مات المؤمن على حياته خلال مدة يتم الاتفاق على تحديدها فإن مات المؤمن على حياته بعد انقضاء المدة برئت ذمة المؤمن ولا حق للمؤمن له في الأقساط التي دفعها للمؤمن لقاء التأمين. .
ب- التأمين للبقاء: وهو عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يدفع للمؤمن له مبلغا من المال إذا امتدت حياة المؤمن له إلى تأريخ معين، فإن مات قبل ذلك التأريخ برئت ذمة المؤمن بحيث لا يستحق المؤمن له شيئا من المبلغ كما أن الأقساط التي دفعها للمؤمن تعتبر من حق المؤمن نفسه وليس للمؤمن له منها شيء.
جـ- التأمين المختلط البسيط: وهو أكثر أنواع التأمين على الحياة انتشارا وشيوعا، وهو عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه بأداء مبلغ معين في تأريخ معين للمؤمن له نفسه إذا امتدت حياته إلى ذلك التأريخ، فإن مات قبل ذلك التاريخ فيدفع المؤمن المبلغ المتفق على دفعه إلى المستفيد المعين أو إلى ورثة المؤمن له وذلك لقاء دفع المؤمن له للمؤمن مجموعة أقساط دورية يتم الاتفاق على تعيينها وتعيين مقدارها. وفي بعض أنواع التأمين المختلط يتعهد المؤمن بأن يدفع مبلغ التأمين المتفق عليه في حال وفاة المؤمن عليه خلال الفترة المحددة وأن يضاعف هذا المبلغ إذا بقي حيا بعد انتهاء الفترة وهذا ما يسمى بالتأمين المختلط المضاعف.
أما التأمين من الحوادث الجسمية فهو عقد يتعهد المؤمن بمقتضاه أن يدفع للمؤمن له مبلغا من المال معينا في حالة إصابته أثناء المدة المتفق على التأمين عليها بحادثة جسمانية أو إلى(19/25)
المستفيد المعين أو ورثة المؤمن له في حال وفاته وذلك لقاء دفع المؤمن له للمؤمن أقساطا دورية يتم الاتفاق على تعيينها وتعيين مقدارها.
جـ- وينقسم التأمين من حيث العموم والخصوص إلى تأمين فردي وتأمين اجتماعي، فالتأمين الفردي هو الذي يكون فيه المؤمن له طرفا مباشرا في العقد حيث يتولى نفسه مباشرة العقد ليؤمن على نفسه من خطر معين لمصلحته الشخصية.
أما التأمين الاجتماعي، فيقوم على فكرة التضامن الاجتماعي لتأمين الأفراد الذين يعتمدون في معاشهم على كسب أيديهم من بعض الأخطار التي قد يتعرضون لها فتعجزهم عن العمل كالمرض والشيخوخة والبطالة والعجز ويكون في الغالب إجباريا، ويشترك في دفع القسط مع العامل صاحب العمل والدولة وتتحمل الدولة دائما أكبر نسبة من أجزاء القسط المدفوع إلى المؤمن، وهذا النوع من التأمين يعتبر مظهرا من مظاهر السياسة العامة للدولة فهي التي تخطط برامجه وتحدد نطاقه ضمانا لمصالح الطبقات المختلفة في المجتمع ورفع مستواها وقد تكون الدولة الطرف المؤمن، ومن صور هذا النوع التأمينات التقاعدية والاجتماعية والصحية وغيرها من أنواع التأمينات العامة.(19/26)
4- وظائف التأمين: -
يكثر الباحثون من القول بأن للتأمين وظيفة أساسية تتلخص في وقاية الفرد والمجتمع من آثار المخاطر المختلفة وذلك بتوزيعها في دائرة أوسع نطاقا من دائرة حدوثها فهو ضمان للفرد يدفعه إلى العمل، ويبعث في نفسه الثقة والاطمئنان، ويقيه من الخوف الذي يساوره في(19/26)
وقوع حوادث قد تؤثر على اتجاهه أو تشل نشاطه، وضمان للمجتمع من أن تتعرض مشاريعه الإنمائية والاجتماعية لأخطار تهز كيانه وتوقف نشاطه.
ويقولون بأنه يمكن أن تتخلص وظائف التأمين فيما يأتي: -
أولا - يعتبر أحد عوامل الإنماء الصناعي لما يقدمه من ضمان لأصحاب رءوس الأموال عما تتعرض له أموالهم من مخاطر عندما يقومون بتوظيفها في مشاريع صناعية.
ثانيا - يعتبر أحد عوامل اتساع نطاق التجارة حيث إن تأمين التاجر على بضائعه المستوردة يمنحه الثقة والضمان لمخاطر نقلها برا وبحرا وجوا وبالتالي يعطيه القدرة على توسيع دائرة تجارته فتزداد بذلك الحركة التجارية تصديرا وتوريدا.
ثالثا - كما يعتبر أحد العوامل ذات الأهمية في نشوء البيوت المالية التي لها خدماتها في الميدان الاقتصادي بما تقدمه من قبول الودائع وفتح الاعتمادات وتمويل المشاريع المختلفة وما إلى ذلك من أعمالها المصرفية، فبتأمينها على أعمالها التجارية تستطيع أن تضاعف من نشاطها وأن توسع دائرة أعمالها وبالتالي تزداد مراكزها المالية قوة وثباتا.
رابعا - يعتبر أحد العوامل الواقية للمجتمع من عوامل التصدع والانهيار حيث إن التأمين بتدخله لرفع الخطر عن كاهل صاحب أي مشروع تجاري أو صناعي ما فإنما يهيئ له الإقدام على إعادة بناء مشروعه المتضرر أو بناء مشروع آخر على أنقاض المشروع الأول، وفي هذا حماية للمجتمع من أن تتعرض مشاريعه الإنمائية لهزات عنيفة تؤدي به إلى التدهور والانهيار.(19/27)
خامسا - يساعد على تكوين رءوس الأموال وذلك حينما تتجمع نسبة كبيرة في أيدي شركات التأمين تضطر نتيجة لتكدسها لديها إلى توظيفها في مشاريع تجارية وصناعية وعمرانية وفي توظيفها في ذلك إتاحة فرصة لتشغيل عدد كبير من الأيدي العاملة كما أن في ذلك زيادة للنقد المتداول في البلاد.
سادسا - كما يعتبر أحد عوامل الادخار: ذلك أن المؤمن على حياته مثلا يدفع مقابل تأمينه أقساطا ضئيلة تكون مدخرا للمؤمن له لدى صندوق المؤمن حيث تدفع له بعد فترة من الزمن يتم الاتفاق عليها في عقد التأمين، فإن توفي المؤمن له قبل ذلك كان لورثته حق الحصول على مبلغ التأمين.
سابعا - يعتبر أيضا عاملا من العوامل المحققة للضمان الاجتماعي ذلك أن التأمين الاجتماعي يهيئ للفرد ضمانات كثيرة ومتعددة يواجه بها أخطارا قد تصيبه في بيته أو في عمله أو أثناء سفره، وفي ذلك ضمان للفرد من أن يقع عبئا ثقيلا على الدولة وضمان للمجتمع من أن يتعثر أفراده فتنشل الحركة العامة له ويصاب بالتدهور والانهيار. وإلى جانب هذه الوظائف التي تنتج من التأمين يرى كثير من الكتاب أن التأمين لا يخلو من أضرار، أهمها استخفاف المؤمن لهم بالحفاظ على أموالهم وأشخاصهم من التعرض للمصائب بل قد يتجاوزون ذلك إلى افتعال الحوادث فيؤدي الأمر إلى كثرة الحوادث وتفاقمها، وفي ذلك ضرر بالغ على الأفراد بحكم الاستخفاف بحقوقهم كاستخفاف السائقين المؤمن لهم على أنفسهم وعلى سياراتهم بقوانين السير وأنظمته، وما ينتج عن ذلك من تعريض أفراد المجتمع للأضرار دهسا وصدما.(19/28)
كما أن في ذلك ضررا بالغا على المجتمع في تحمل أكبر نسبة ممكنة من التعويض عن الحوادث المفتعلة أو التي لم تبذل الأسباب لتفاديها، ويجيب على هذا الإيراد الأستاذ بهاء بهيج شكري في كتابه "النظرية العامة للتأمين " بأن هذا التخوف والأضرار مبالغ فيه وعلى فرض وقوعه فينبغي أن لا يكون محل اعتبار بجانب الفوائد العظيمة التي يجنيها المجتمع من التأمين فضلا عن أن القواعد العامة التي تحكم التأمين قد عالجت هذا الجانب حيث أوجبت على المؤمن له أن يبذل جهده في الأخذ بالأسباب التي تدرأ المصائب، وأن يحرص على المحافظة على أمواله بالدرجة التي يحرص فيها لو كانت غير مؤمن عليها. فإذا ثبت للمؤمن تساهل في الاحتياط على دفع الأضرار كان له حق الدفع بذلك قضائيا ليحكم له بعدم دفعه التعويض المتفق على دفعه. . .(19/29)
5- أسس التأمين الفني:
يرى كثير من علماء القانون أن التأمين يقوم على فكرة التعاون بين المشتركين فيه سواء كان على أساس التأمين التبادلي أم على أساس التأمين بقسط ثابت. . . - التأمين التجاري - إذ يفترض فيه قيام مجموعة من الأفراد يشتركون لهدف معين هو اتقاء المخاطر المتوقعة عليهم بتقبلهم تحمل ما قد يقع منها موزعا بينهم لإذابة عبء الخطر وتفتيت آثاره على من يكون محلا له منهم، وذلك بقيام كل منهم بدفع مبلغ من المال يتفق مع نسبة الخطر الذي يخشى وقوعه عليه إلى صندوق هيئة التأمين أو شركة من شركات التأمين، لتقوم تلك الهيئة أو الشركة بجمع هذه الأموال وتكوين رصيد تغطي منه الأضرار التي تقع على الأفراد المشتركين فيه، وبهذا يكون كل فرد(19/29)
قد ساهم في تخفيف المصاب بتحمله قسطا من التعويض عنه، ويجري تحديد القسط الواجب دفعه إلى صندوق هيئة التأمين لمجموعة اعتبارات. وطبقا لقواعد الإحصاء، مما تقدم يتضح أن التأمين يستند على الأسس التالية: -
أ- قيام تعاون بين مجموعة من الأفراد المهددين بالخطر تحت إشراف هيئة منها أو تحت إدارة شركة من شركات التأمين تقوم بتفتيت ذلك الخطر وتوزيعه بين جميعهم ليخفف عبء ثقله على الفرد. .
ب- المقاصة بين المخاطر حيث تتولى هيئة التأمين تنظيم عملية توزيع الأخطار بين الأفراد المشتركين فيه بطرق فنية تعتمد على قواعد الإحصاء. .
جـ- تعتبر قواعد الإحصاء أساسا فنيا لتقدير قسط التأمين ومبلغ التأمين وتوزيع الأخطار بين المشتركين، ذلك أن التأمين يقوم على أساس حساب الاحتمالات- أي معرفة فرص تحقق الخطر- وحساب ذلك أصبح ممكنا بحكم تقدم فن الإحصاء، فقد أثبت الإحصاء أن الاحتمالات والمصادفة تخضعان لقانون الاستكثار الذي مؤداه أن الملاحظة التي تعمل على عدد كبير من الحالات تؤدي غالبا إلى نتائج واحدة وأن هذه النتائج تكون دائما متقاربة كلما وردت الملاحظة على عدد كبير جدا من الحالات.
ويشترط لتطبيق قانون الاستكثار شرطان: أحدهما: أن الإحصاء يجب أن يمتد على نطاق واسع في الزمان والمكان بحيث لا يتجمع وقوع الأخطار في وقت واحد كالزلازل والحروب والاضطرابات.
الثاني: أنه يجب أن تكون الأخطار متناسقة من حيث طبيعتها وقيمتها.(19/30)
6 - أركان التأمين وعناصره:
- تمهيد: كثيرا ما يختلف علماء الفقه الإسلامي وعلماء القانون عند الكلام على ما يسمى ركنا للشيء أو شرطا فيه أو عنصرا له لاعتبارات تختلف فيها أنظارهم، ومن هذا ما وقع من الاختلاف بين من كتبوا في التأمين فمنهم من رأى أن أركانه ثلاثة هي: التراضي بين المؤمن والمؤمن له ومحل التأمين والسبب الباعث على التأمين، ومنهم من رأى أن أركانه هي عناصره وقال بأنها أربعة هي: الخطر، والأقساط، ومبلغ التأمين، - عهدة المؤمن- والمصلحة التأمينية. ورعاية للجانبين وإتماما للفائدة رأت اللجنة أن تشرح أركانه على كل من الاعتبارين، وبالاطلاع والمقارنة يظهر ما بينهما من التداخل ولكل اصطلاحه ولا مشاحة فيه.
أ- أركان التأمين:
يرى بعض علماء القانون أن عقد التأمين كغيره من العقود اللازمة يعتمد على أركان ثلاثة هي: التراضي بين المتعاقدين، محل العقد، السبب الذي يقوم عليه العقد. . فالتراضي اتفاق إرادتين أو أكثر اتفاقا تترتب عليه حقوق معينة بشرط أن تكون الإرادة صادرة ممن هو أهل للإلزام والالتزام، فلا أثر لإرادة عديم الأهلية كالصغير والمجنون والسفيه والمحجور عليه لحظ غيره فيما إذا كان محل العقد أمواله الواقعة تحت الحجر وبشرط أن تكون الإرادة خالية عما يؤثر على صحتها كعقود الغرر والغبن والغلط وغيرها. . أما محل العقد فقد اختلف الكتاب في تعيينه فذهب بعضهم إلى القول بأن محل التأمين هو الخطر المؤمن منه، وذهب البعض الآخر إلى أن محل التأمين يتكون من ثلاثة عناصر هي: الخطر، وقسط التأمين، والتعويض. وذهب فريق ثالث إلى أن محل التأمين هو المصلحة التأمينية وهي المصلحة الاقتصادية التي تربط المؤمن له بالشيء المؤمن عليه. وقد ذهب إلى هذا الرأي مجموعة من الكتاب وبه أخذ القانون(19/31)
المصري حيث نصت المادة (749) على ما يلي: يكون محلا للتأمين كل مصلحة اقتصادية مشروعة تعود على الشخص من عدم وقوع خطر معين. وهناك رأي رابع يتلخص في أن محل التأمين هو كل شيء مشروع ينتفع المؤمن له بسلامته ويتضرر بضرره، وقد أخذ بهذا الرأي القانون العراقي.
ويشترط لمحل العقد أن يكون موجودا وقت التعاقد أو ممكن الوجود في المستقبل خلال فترة نفاذ العقد وأن يكون معينا وذلك بذكر خصائصه وأوصافه التي يتميز بها عن غيره، فيكون بذلك معلوما، وأن يكون مشروعا بحيث يمكن التعامل به فلا يجوز التأمين على أموال مسروقة أو مغصوبة أو على بيوت دعارة أو أثاثها، وأن يكون محل التأمين محلا لاحتمال وقوع الخطر عليه وقت عقد التأمين، فلا يجوز مثلا التأمين على بضاعة في البحر قد تلفت، ولا على بضاعة في البحر قد وصلت وأدخلت مخازن أهلها.
أما الركن الثالث من أركان عقد التأمين فهو السبب الذي يحمل كلا من طرفي عقد التأمين- المؤمن والمؤمن له- إلى إبرام عقد التأمين بينهما والالتزام بالآثار الحقوقية المترتبة عليه. فإذا انتفي السبب الذي يقوم عليه التزام المؤمن له للمؤمن بدفع القسط الدوري لقاء التزام المؤمن بدفع تعويض عن الضرر اللاحق به في محل التأمين بأن لم يكن هناك خطر يخشى منه على الشيء المراد تأمينه، أو لم يكن لطالب التأمين مصلحة تأمينية في ذلك الشيء، بطل عقد التأمين لانعدام سبب الالتزام، وبهذا جاء القانون المدني العراقي حيث نصت المادة (132) منه على ما يأتي: يكون العقد باطلا إذا التزم المتعاقد دون سبب أو لسبب ممنوع قانونا أو مخالف للنظام العام والآداب.(19/32)
ب- عناصر عقد التأمين أو أركانه:
يرى بعض علماء القانون أن عقود التأمين يجب أن تشتمل على أربعة عناصر إذا تخلف أحدها اعتبر التأمين باطلا بطلانا أصليا تلك العناصر هي: الخطر والقسط ومبلغ التأمين والمصلحة التأمينية.
أ- أما الخطر: فإن الغاية من التأمين هي ابتغاء مصلحة اقتصادية تقي خطرا معينا يخشى وقوعه كأخطار الحريق والسرقة والإصابات وغيرها. وبعض الكتاب يرى أن التأمين لا يكون دائما ضد الأخطار والكوارث، فقد يكون الحادث المؤمن منه حادثا سعيدا كإنجاب الأولاد وتزويجهم، والتأمين على الحياة، وغير ذلك، ولهذا يميل بعضهم إلى القول بأن الغاية من التأمين توقي ضائقة اقتصادية بابتغاء مصلحة اقتصادية تقيها. ويجب أن يكون الخطر المؤمن ضده معينا تعيينا دقيقا يتضح به نوعه وحده ليعرف به المؤمن حدود التزامه، ويعرف المؤمن له الحال التي يستطيع فيها الرجوع على المؤمن عند حدوث الخطر لطلب التعويض. ويشترط لعنصر الخطر في التأمين الشروط التالية: -
1 - أن يكون وقوع الخطر احتماليا وبهذا جاءت المادة (782) من القانون المدني المصري بما نصه: يقع عقد التأمين باطلا إذا تبين أن الخطر المؤمن عنه كان قد زال أو كان قد تحقق في الوقت الذي تم فيه العقد.
2 - ألا يكون وقوعه إراديا محضا لما في ذلك من انتفاء ركن احتمال وقوع الخطر لأن وقوعه بالإرادة المحضة متعلق بإرادة أحد طرفي العقد. .
3 - ألا يكون الخطر مخالفا للنظام العام أو الآداب، وبهذا جاءت المادة (749) من القانون المدني المصري حيث نصت على أن يكون محلا للتأمين كل مصلحة اقتصادية مشروعة، فلا يجوز التأمين على الأخطار المترتبة على أعمال التهريب أو الاتجار في المخدرات أو على الأماكن(19/33)
التي تدار للدعارة أو المقامرة إلى غير ذلك من أنواع المصالح غير المشروعة التي تخل بالنظام العام والآداب. .
ب- وأما القسط في عقد التأمين فهو المقابل الذي يستحصله المؤمن من المؤمن له ليتحمل مسئولية الخطر المؤمن منه ولقسط التامين أهمية كبرى في قدرة هيئات التأمين على مواجهة التزاماتها، ولكل خطر قسطه المحدد له، ويخضع تحديد القسط لعدة قواعد فنية، أهمها قاعدة نسبة القسط إلى الخطر، وقاعدة حجم المخاطر المتشابهة على محل التأمين، وللإحصاءات الدولية المنتظمة التي تقوم بها هيئات التأمين في أنحاء العالم على أنواع المخاطر، وفي الغالب تختلف فئات تحديد القسط بالنسبة للخطر الواحد تبعا لاختلاف الظروف والملابسات والمكان الذي يقع فيه محل التأمين.
ولمبلغ التأمين أثر في تحديد القسط، فكلما كان المبلغ كثيرا كان القسط أكثر، وكلما كان قليلا كان القسط أنقص. . .
جـ- أما مبلغ التأمين فهو المال الذي يتعهد المؤمن بدفعه إلى المؤمن له عند حدوث الخطر المؤمن عنه، ويكون مبلغ التأمين الواجب دفعه من المؤمن نقودا سواء دفعها إلى المؤمن له مباشرة أو دفعها لغيره في مقابلة إصلاح محل التأمين كالسيارة المصدومة أو استبدال غيره به كالبضائع التالفة، وللمؤمن له حق طلب قيمة الإصلاح أو التالف ليقوم بنفسه بإصلاح ما أمن عليه أو استبدال غيره به أو الاحتفاظ بالقيمة دون إصلاح أو استبدال بشرط براءة ذمة المؤمن من عهدة ذلك.
د- أما المصلحة التأمينية فتعتبر أساسا لمشروعية التأمين، وعنصرا مهما في عقده، وقد نصت مجموعة من القوانين العربية والغربية على اعتبار عقد التأمين باطلا إذا لم يكن للمؤمن له مصلحة في التأمين، وقد حددها بعضهم بقوله: هي علاقة مشروعة تربط طالب التأمين بمحل العقد من(19/34)
شأنها أن تجعله يتضرر فعلا من وقوع الحادث المؤمن منه، وينتفع من عدم وقوعه. كعلاقة المالك بملكه والمرتهن برهنه والوديع بالوديعة والمستعير بالعارية والوصي بأموال الموصى عليه والشريك بالحصة المشاعة، فلكل واحد من هؤلاء مصلحة تأمينية بالمال الذي تحت يده، بخلاف علاقة زيد من الناس بملك عمرو، فليس له فيه مصلحة تأمينية تعطيه حق التأمين عليه.
ويشترط لاعتبار المصلحة التأمينية أن تكون مالية، فلا عبرة بالمصلحة الأدبية، كتأمين الصديق على حياة صديقه، أو تأمين الأخ على أموال أخيه، وأن تكون مشروعة، فلا صحة لتأمين السارق على ما سرق، والغاصب على ما غصب، وكالتأمين على بيوت الدعارة ومخاطر التهريب والاتجار في المخدرات، ويذكر علماء القانون أن اعتبار المصلحة التأمينية عنصرا أساسيا لعقد التأمين ومدى مشروعيته يعطي عقد التأمين صفة تخرجه من عقود المقامرة والرهان. وإلى هذا تشير المادة الرابعة من قانون التأمين البحري الإنجليزي إلى أن أي عقد للتأمين البحري لا يكون فيه طالب التأمين في موقف يجعله يتضرر بتضرر المال المراد تأمينه وينتفع بسلامته يعتبر عقدا للمقامرة والرهان.
وكذا نص قانون التأمين على الحياة الإنجليزي على ما يأتي: -
يقع باطلا كل تأمين يجري من قبل شخص أو أشخاص على حياة أي شخص أو أشخاص إذا كان الشخص أو الأشخاص الذين نظمت وثيقة التأمين لمصلحتهم لا يملكون مصلحة تأمينية في إجراء التأمين المذكور.(19/35)
8- خصائص عقد التأمين:
لعقد التأمين مجموعة خصائص: -
أحدها: أنه عقد من عقود التراضي باعتبار أن الإيجاب والقبول صدرا(19/35)
من إرادتين، كل إرادة منهما أهل للإلزام والالتزام، ويعتبر عقدا مقتضيا للإلزام والالتزام بمجرد صدور الإيجاب والقبول من طرفيه سواء كان ذلك شفاها أو كتابة، ويرى بعضهم أن العقد لا يكون ساري المفعول حتى يكون مسجلا، وبعضهم يرى أن عقد التأمين يبدأ نفاذه من استلام أول قسط من المؤمن له.
الثانية: أنه عقد احتمالي لأن خسارة أو ربح كل من طرفي العقد غير معروفة وقت العقد إذ أن ذلك متوقف على تحقق أو تخلف الخطر المؤمن عنه، فعند تحققه أو تخلفه يتعين الرابح منهما والخاسر، وهذا خاص في العلاقة الحقوقية القائمة بين طرفي العقد، أما المؤمن فحيث إنه يتعامل مع مجموعة كبيرة من طالبي التأمين فخسارته مع أحدهم تتحملها أرباحه مع الآخرين.
ولهذا الجانب اتجه بعض الكتاب إلى أن عقد التأمين يعتبر احتماليا بالنسبة إلى المؤمن له إذ هو الطرف الوحيد الذي يتجه إليه احتمال الربح أو الخسارة، أما المؤمن فإن خسارته محمولة بأرباحه مع الآخرين، فلا وجه لاحتمال خسارته، وهناك من الكتاب من يرى أن الطرف الذي يعتبر العقد احتماليا بالنسبة له هو المؤمن إذ هو الوحيد الذي يتحمل الخسارة ويحصل على الربح، أما المؤمن له فهو خاسر على كل حال؛ لأنه إن انتفي الخطر المؤمن عليه خسر قسط التأمين وإن تحقق الخطر أعطى مقابله وخسر القسط فهو خاسر لقسط التأمين على أي حال، ويتجه جمهور علماء القانون إلى أن عقد التأمين عقد احتمالي للطرفين بالنسبة للعلاقة القانونية بينهما.(19/36)
الثالثة: أنه عقد مستمر حيث إنه لا يتم الوفاء بالالتزام المترتب عليه بصفة فورية، وإنما يستغرق الوفاء بهذه الالتزامات مدة من الزمن هي مدة نفاذ ذلك العقد، ويظهر أثر اتصافه بالاستمرار فيما إذا طرأ على محل العقد ما يستحيل به الطرفين تنفيذ مقتضيات العقد كما لو هلك محل التأمين بسبب لا يمت إلى الخطر المؤمن عنه بصلة، فإن العقد لا ينفسخ بأثر رجعي، وإنما يبطل من تأريخ هلاك محل التأمين بحيث يستحق المؤمن الأقساط المدفوعة عن الفترة السابقة لهلاكه.
الرابعة: أنه عقد إذعان حيث يتولى أحد طرفيه وضع الشروط التي يريدها ويعرضها على الطرف الآخر، فإن قبلها دون مناقشة أو تعديل أو إضافة أو حذف مضى العقد بينهما بقبوله وإلا فلا. ويصف الدكتور محمد علي عرفة موقف شركات التأمين مع طالبي التأمين فيقول ما معناه إن المؤمن لهم يضطرون إلى توقيع وثيقة مطبوعة دون أية مناقشة لشروطها، فلا تترك لهم الحرية إلا في اختيار التأمين من عدمه، فمن شاء أن يؤمن فليوقع على ما فرضه المؤمن من شروط. . إلا أن عامل المنافسة بين شركات التأمين لعب دورا مهما في حمل شركات التأمين على التقليل من الشروط التعسفية، ووضع شروط أكثر ملاءمة لمصالح المؤمن لهم.
ويترتب على اعتبار عقد التأمين من عقود الإذعان أمران (أحدهما) أن للمحكمة الحق في إبطال أي شرط تعسفي لا يتفق مع قواعد العدالة، (الثاني) أن كل غموض أو شك في نصوص العقد يفسر لصالح المؤمن له.(19/37)
الخامسة: عقد معاوضة من حيث إن كل واحد من طرفيه يأخذ مقابلا(19/37)
لما يعطي. . ذلك أن المؤمن له يحصل من المؤمن مقابل دفعه أقساط التأمين على التعهد بتحمل مسئولية الخطر على محل التأمين، ويأخذ المؤمن لقاء تعهده بذلك قسطا تأمينيا، وبهذا يتضح انتفاء صفة التبرع في عقود التأمين.
السادسة: عقد ملزم للجانبين حيث إنه ينشئ التزامات متقابلة في ذمة كل طرف من طرفيه قبل الآخر، وتنشأ هذه الالتزامات على رأي بعضهم من اللحظة التي يتم فيها العقد بتحقق ركنيه الإيجاب والقبول، فيلتزم المؤمن له بتسديد قسط التأمين إلى المؤمن. . كما يلتزم بإشعاره بالمعلومات التي تطرأ على محل التأمين خلال فترة العقد وبإعلان الحادث عند وقوعه. . أما المؤمن فيأخذ التزامه شكلا سلبيا حتى يقع الخطر فيأخذ الجانب الإيجابي بقيامه بالتعويض اللازم للمؤمن له، وبهذا يتضح أن التزام المؤمن له بدفع القسط التزام محقق وأن دفع المؤمن التعويض الملتزم به احتمالي. .
السابعة: عقد مسمى. ذلك أن العقود تنقسم قسمين: عقود مسماة، وعقود غير مسماة، أما العقود المسماة فهي التي تخضع للأحكام العامة من حيث انعقادها وللقواعد التي تقررها الأحكام الواردة في القانون المحلي فيما يتعلق بالأمور التفصيلية، وعقود التأمين من العقود المسماة، وأما العقود غير المسماة فهي التي لا تندرج تحت أي نوع من أنواع العقود المسماة في القانون المحلي، لذلك فهي تخضع للأحكام النظرية العامة للالتزام وللشروط التي اتفق عليها الطرفان إذا لم تتعارض مع النظام العام والآداب. .(19/38)
الثامنة: هو عقد من عقود حسن النية: ذلك أن حسن النية يعتبر صفة لازمة لكل عقد من عقود التراضي بمعنى أن كل طرف من المتعاقدين يجب أن يقف مع الطرف الآخر موقفا أساسه الإخلاص والأمانة والصدق. وعقد التأمين أكثر العقود احتياجا لحسن النية لأنه يفترض في المؤمن جهله بما يتعلق بمحل التأمين ومقدار استهدافه الخطر إذ هو يعتمد في تقديره للخطر على المعلومات التي يقدمها له المؤمن له باعتباره الجهة الوحيدة التي تعرف الشيء الكثير عن محل التأمين كما يفترض في المؤمن له جهله بالأصول الفنية للتأمين إلى غير ذلك مما يتطلب بإلحاح توافر حسن النية بين المتعاقدين.
التاسعة: التأمين عقد مدني تجاري: ذلك أن أعمال التأمين في الغالب تمارس من قبل مؤسسات تجارية، فالتأمين بالنسبة للمؤمنين عملية تجارية محضة يهدف أصحابها إلى الربح، أما بالنسبة إلى المؤمن لهم فقد يكون تصرفهم تجاريا كالتأمين على المستودعات التجارية والبضائع المنقولة ونحو ذلك، وقد يكون مدنيا كالتأمين على الحياة أو عن حوادث الاحتراق والسرقة بالنسبة إلى بيوتهم مثلا، وإذا كان التأمين بقسط محدود لا يثير أي إشكال بالنسبة إلى اعتباره تأمينا تجاريا فهل التأمين التبادلي- التعاوني- يعتبر تأمينا تجاريا؟ الواقع أن هذا التساؤل كان موضوع بحث مجموعة من رجال القانون، فاتجه غالبهم إلى القول بأن التأمين التبادلي ليس تأمينا تجاريا وإنما هو إجراء تعاوني لا يهدف إلى الربح، وإنما يهدف إلى تبديد الأخطار وتوزيعها بين أكبر عدد ممكن، وذهب بعضهم إلى اعتباره عملا تجاريا باعتباره يؤدي إلى تجنب الخسائر.(19/39)
9 - حق الحلول:
يقصد بحق الحلول حق رجوع المؤمن على الذي أحدث الضرر بتعمده أو خطئه، وذلك بعد دفعه للمؤمن له مبلغ التأمين. لقد أخذت مجموعة من شركات التأمين بهذا المبدأ، وأقرته بعض القوانين المدنية، فقد جاء في المادة- 771- من القانون المدني المصري ما نصه: يحل المؤمن قانونا بما دفعه من تعويض في الحريق في الدعاوي التي تكون للمؤمن له قبل من تسبب بفعله في الضرر الذي نجمت عنه مسئولية المؤمن ما لم يكن من أحدث الضرر قريبا أو صهرا للمؤمن له ممن يكونون معه في معيشة واحدة أو شخصا يكون المؤمن له مسئولا عن أفعاله. أهـ.
ويذكر العلماء في ذلك أن المؤمن لا يحل محل المؤمن له في حق المطالبة بالتعويض عن التسبب إلا في حدود مبلغ التأمين الذي دفعه للمؤمن له، وبعد أن يثبت أنه دفع مبلغ التأمين بالفعل، ويكون للمؤمن له حق المطالبة بالباقي إن كان التعويض عن التسبب أكثر من مبلغ التأمين، وإذا أصبح الحلول متعذرا بفعل المؤمن له كأن يتنازل المؤمن له عن حقه في مطالبة المتسبب بقيمة التعويض فإن ذمة المؤمن تبرأ من مسئولية التأمين براءة تامة أو جزئية حسب الأحوال.(19/40)
10- مبدأ السبب القريب أو السبب المباشر:
يقصد بالسبب القريب السبب المباشر الذي أدى إلى وقوع الخطر المؤمن عنه أو الحلقة الأولى التي سمحت بتتابع سلسلة من الحوادث أدت إلى وقوع الخطر المؤمن عنه، وبالتالي وقوع الخسارة، وذلك بدون تدخل أي مؤثر خارجي مستقل، ويمثلون لذلك بالمثالين الآتيين: -(19/40)
أ- رجل أمن منزله ضد الحرائق العادية، ومعلوم أن الحرائق التي يكون سببها الزلزال لا تدخل ضمن الحرائق العادية- فشب حريق بسبب الزلزال في بيت ثم انتقل إلى آخر، ثم انتقل الحريق إلى بيت ذلك الرجل، فهذه الحرائق لا تدخل ضمن نطاق التأمين إذ أن السبب القريب في كل حالة هو الزلزال، وهو غير داخل في نطاق التأمين. ب- رجل أمن منزله ضد الحريق فشبت النار فيه وتلف مجموعة من أثاثه من الماء المستخدم لإطفائه ومن إلقائه من النوافذ للاضطرار، فالخسائر الناجمة عن تلف هذه الأشياء تدخل ضمن نطاق التأمين، حيث إن السبب القريب لتلفها هو الحريق المؤمن عن أخطاره، وهذا المبدأ يعطي المؤمن الحق في الدفع به قضائيا عند التهرب من الوفاء بالالتزام بدفع مبلغ التأمين للمؤمن له.
ويذكر الأستاذ أحمد جاد عبد الرحمن في كتابه "التأمين" أن تطبيق هذا المبدأ صعب جدا من الوجهة العملية، ويتضح ذلك من كثرة عدد القضايا التي نشأت عن تطبيق هذا المبدأ. . كما أن حيثيات الأحكام في هذه القضايا ليست واضحة أو شافية.(19/41)
11- وثيقة التأمين أو ما يسمى ببوليصة التأمين:
عرف القانون المصري وثيقة التأمين بما جاء في المادة - 747 - من القانون المدني بأنها "عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمن له أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغا من المال أو إيرادا مرتبا أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المبين بالعقد، وذلك في نظير قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له للمؤمن " وقد جرت العادة حسب مقتضيات الحال أن عدة إجراءات تسبق إعداد وثيقة(19/41)
التأمين كصحيفة طلب التأمين من المؤمن له، وإجابته على ما يرغب المؤمن الحصول عليه من المعلومات عن محل التأمين لكي يتمكن من تحديد درجة الخطر وتقرير قبول أو رفض التأمين وتقرير القسط الملائم لاحتمال وقوعه وتعيين مبلغ التأمين في حال قبول التأمين، وقد لا يقتنع المؤمن بالمعلومات التي يقدمها طالب التأمين فيجري تحرياته الخاصة عن محل التأمين، ومدى قابليته للخطر المراد التأمين عنه.
كما يجري تحرياته عن طالب التأمين من حيث سمعته وأخلاقه وعاداته ومركزه المالي والاجتماعي إلى غير ذلك من التحقق والتحري مما يعتبره علماء القانون عملا ذا قيمة يقوم به المؤمن لمصلحته. فإذا اقتنع المؤمن بجدوى ارتباطه مع طالب التأمين بعقد التأمين قرر قبوله التأمين واعتبر طلب التأمين من طالبه إيجابا وبتحقق الإيجاب والقبول يتم العقد وتسوي بينهما وثيقته مشتملة على ما يأتي: -
أ- أسماء المتعاقدين ومحل إقامتهما واسم المستفيد إن كان معينا.
ب- محل التأمين بحيث تتضمن الوثيقة وصفا كاملا له بذكر نوعه وجنسه ومحل خزنه إن كان مالا ومحل ونوع عمله إن كان شخصا. .
جـ- وصف الخطر المؤمن منه وصفا دقيقا تنتفي به الجهالة.
د- مقدار سعر التأمين الذي يمكن أن يحتسب قسط التأمين على ضوئه.
هـ- مقدار القسط الدوري وتعيين وقته وطريق سداده.
والمبلغ المؤمن به- ويسمى رأسمال بوليصة التأمين.(19/42)
ز- مدة العقد وذلك بتحديد مدة نفاذ العقد بذكر تاريخ ابتدائه وتأريخ انتهائه.
ح- الشروط الخاصة بالعقد والمتعلقة بمصالح طرفيه.
ط- توقيع طرفي العقد المؤمن والمؤمن له وتأريخ التوقيع.(19/42)
12- أنواع وثيقة التأمين: -
لوثائق التأمين تقسيمات عدة باعتبارات مختلفة. أحدها:
من حيث مدة سريان العقد، والثاني: من حيث نطاق ضمان العقد، والثالث: من حيث قيمة التأمين.
أما تقسيم وثيقة التأمين من حيث مدة سريان العقد فهي تنقسم إلى وثيقة زمنية تتحدد فيها مدة سريان العقد وتنقسم هذه المدة الزمنية إلى ثلاثة أقسام، وثيقة سنوية وتقضي باعتبار نفاذ سريان العقد لمدة سنة كاملة، ويمكن باتفاق الطرفين تجديدها عند الانتهاء، ووثيقة لفترة قصيرة، وهي الوثيقة التي تكون فترة نفاذها أقل من سنة، ويكون قسط التأمين لهذه الوثيقة متناسبا مع قصر هذه المدة محسوبا على أساس القسط السنوي مع إضافة 5% من مقدار الفرق بين القسط السنوي الكامل والنسبة التي تصيب فترة سريان الوثيقة، ويسمى هذا بقسط الفترة القصيرة، ووثيقة لفترة طويلة وهي الوثيقة التي تحدد مدة سريانها بأكثر من سنة، ويدفع قسط التأمين لكامل المدة عند إنشاء العقد، وإلى وثيقة سفرية وهي التي يتوقف أمد نفاذها على المدة التي تكمل فيها واسطة النقل سفرتها.
وأما تقسيم وثيقة التأمين من حيث نطاق ضمان العقد فتنقسم إلى وثيقة اعتيادية وهي التي تضمن مالا معينا من خطر معين وهذه الوثيقة من أكثر وثائق التأمين شيوعا، وإلى وثيقة عائمة وهي وثيقة(19/42)
تصدر متضمنة شروطا عامة للتأمين لتغطية شحنات متعددة خلال فترة غير محدودة وبمبلغ تأمين إجمالي، وبموجب هذه الوثيقة يلتزم المؤمن له بتسديد قسط التأمين بنسبة المبلغ الإجمالي مقدما ثم يرصد مبلغ كل شحنة من المبلغ الإجمالي للتأمين إلى أن يتم استهلاكه، ويكون المبلغ الإجمالي خاضعا للتسوية عند انتهاء عمليات الشحن.
وإلى وثيقة عامة وهي التي تصدر بتأمين أخطار متعددة يخشى حدوثها على أموال مختلفة، ويستوفي بمقتضاها قسط تأمين إجمالي يشمل كافة الأخطار المؤمن منها. وتنقسم وثيقة التأمين من حيث قيمة التأمين إلى وثيقة محدودة القيمة وهي وثيقة تحدد فيها قيمة التأمين باتفاق المؤمن والمؤمن له على أساس قيمة محل التأمين وقت العقد، وتكون هذه القيمة أساسا يقاس عليه مبلغ التعويض عند الخطر، وإلى وثيقة غير محدودة القيمة، وهي التي لا يجري فيها تحديد قيمة التأمين على أساس قيمة المحل، فإن زادت قيمة محل التأمين على مبلغ التأمين فليس للمؤمن له حق المطالبة بمقابل هذه الزيادة عند تحقق الخطر، وإن قلت هذه القيمة عن مبلغ التأمين صار للمؤمن له حق المطالبة برد نسبة معينة من قسط التأمين تحسب على أساس الفرق بين مبلغ التأمين وقيمة محل التأمين.(19/44)
13- المشاركة في التأمين:
يقصد بالمشاركة في التأمين اشتراك مجموعة المؤمنين في توزيع الخسائر بينهم عند قيامهم بالتأمين على محل واحد يزيد مجموع مبالغ التأمين منهم عن القيمة الحقيقية لذلك المحل، وذلك كأن يستصدر شخص ما مجموعة وثائق تأمين متعددة على(19/44)
محل واحد ضد خطر معين ولمصلحة تأمينية بحيث يتجاوز مجموع مبالغ هذه التأمينات الحد الذي يسمح به مبدأ التعويض الحقيقي، فإن لمجموع المؤمنين الحق في تطبيق مبدأ المشاركة، وذلك بتوزيع الخسارة بينهم كل بنسبة مبلغ التأمين الذي التزم به.
كما أن للمؤمن له الحق في الرجوع عليهم بمطالبتهم بإعادة نسبة من قسط التأمين حسب معادلة رياضية معروفة تحكم ذلك.
ويشترط لتطبيق مبدأ المشاركة الشروط التالية: -
أ- أن يقوم نفس الشخص بالتأمين على محل التأمين لدى مؤمنين متعددين.
ب- أن تشترك وثائق التأمين في تغطية نفس الأخطار.
ج- أن تحمي هذه الوثائق مصلحة تأمينية معينة.
د- أن تكون مبالغ التأمين في هذه الوثائق منشئة حالة تأمين زائد عن قيمة محل التأمين.
هـ- أن تكون هذه الوثائق سارية المفعول وقت تحقق الخطر.
ويؤكد علماء القانون أن فكرة المشاركة مستمدة من مبدأ القول بأنه (لا يجوز أن يكون التأمين بأي حال من الأحوال مصدر ربح للمؤمن له، وإنما الغرض الوحيد منه هو تعويض المؤمن له عن الأضرار المادية التي لحقت الأشياء المؤمن عليها بحسب قيمتها الحقيقية وقت تحقق الخطر) .(19/45)
14- التأمين الاقتراني وإعادة التأمين:
لا شك أن اختلاف الأخطار التي يجمعها المؤمن في ضمانه من حيث طبيعتها وقيمتها يؤدي إلى وجود فروق كبيرة تهدد نشاط المؤمن في حال زيادتها عن متوسط ما قدرت به التعريفة ولكي(19/45)
يواجه المؤمن هذه الاحتمالات الخطرة فإن أمامه طريقين يمكنه بهما أو بأحدهما أن يحقق تناسقا بين الأخطار الواقعة في ضمانه. أحدهما التأمين الاقتراني والثاني إعادة التأمين، أما التأمين الاقتراني فيتلخص في أن يحتفظ المؤمن لنفسه بقدر من الخطر الاحتمالي بما يتناسب مع قدرته التحملية ثم يعرض القدر الزائد على مؤمنين آخرين كل منهم يتقبل جزءا من الخطر في حدود إمكانياته، فإذا تحقق الخطر قام المؤمنون جميعا بمواجهة كل بقدر حصته منه، ويعتبر كل واحد من المؤمنين في حدود حصته من التأمين مرتبطا تعاقديا مع المؤمن له من غير أن يكون للآخرين ارتباط بهذه الحصة.
ونظرا لرفض مجموعة كبيرة من المؤمن لهم التأمين الاقتراني لعدم التضامن بين المؤمنين فضلا عن الصعوبة في تحقق رضا المؤمن له عن كل شركة من شركات التأمين الاقتراني، وعن مساوئ تعدد الإدارات وبالتالي تأخر البت في إعطاء المؤمن له التعويض اللازم نتيجة لاختلاف النظر والنشاط في التحقيق والتثبت عن صحة الالتزام، كل ذلك جعل التأمين الاقتراني غير مرغوب فيه كوسيلة من وسائل التنسيق بين الأخطار.
أما إعادة التأمين فهي اتفاق قائم يتم بموجب عقد يقع إبرامه بين هيئتين من هيئات التأمين تسمى الأولى منهما معطية والثانية معيدة التأمين، تحيل الشركة المعطية بمقتضاه حصصا من الأخطار التي تتقبلها في معاملتها الخاصة إلى معيد التأمين الذي يتعهد بقبولها حسب شروط العقد.
ويتضح من هذه العملية أنها تعتبر عقد تأمين جديد قائم بذاته لا علاقة للمؤمن له الأول به ذلك أن المؤمن وهو المعطي(19/46)
يعتبر في هذه العملية مؤمنا له ومعيد التأمين يعتبر مؤمنا ودرك المؤمن له الأول على المؤمن الذي هو مؤمن له في عقد إعادة التأمين. وحيث إن عقد إعادة التأمين يعتبر في الواقع عقدا من عقود التأمين الاعتيادية فإنه يتمتع بنفس الخصائص التي يتميز بها عقد التأمين الاعتيادي.
ويمتاز إعادة التأمين بقدرته على توزيع المخاطر على أوسع نطاق ممكن، وعلى تحقيق التوازن بين المخاطر مع سلامته من المساوئ التي تتمثل في التأمين الاقتراني، ولهذا يحرص الكتاب دائما على تسميته بالعمود الفقري لكل شركة تأمين لأن له أهمية كبرى في أسواق التأمين العالمية إذ ما من شركة تأمين مهما كان مركزها المالي إلا وهي آخذة بنصيبها منه.(19/47)
15- تنوع نظريات التأمين تبعا للاعتبارات التي بنيت عليها:
للتأمين جوانب اقتصادية ومدنية وفنية، ولكل جانب من هذه الجوانب الثلاثة اتجاه نظري خاص.
أ- فالتأمين من الجانب الاقتصادي نظريتان، إحداهما: نظرية التأمين للحاجة عاجلا أو آجلا ذلك أن المرء قد يكون محتاجا احتياجا عاجلا لازما لإشباع متطلبات مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه وما إلى ذلك من شئون حياته العاجلة، وقد يكون احتياجه آجلا كحاجته إلى تأمين استعداده للظروف المحتمل وقوعها مستقبلا فتغطية حاجته عاجلا أو آجلا واستعداده للطوارئ التي قد يرتب وقوعها خسائر كبيرة هو الباعث على التأمين.
الثانية: نظرية التأمين للأمن. ذلك أن المرء وإن كانت حاجته متوفرة لديه إلا أن قلقا نفسيا يساوره حينما يعرف أن هذه الأمور(19/47)
محل للأخطار المتوقع حصولها عليها مستقبلا لذلك يجد نفسه مدفوعة إلى التأمين على هذه الأشياء طلبا للراحة النفسية والأمن والاطمئنان إلى سلامتها ودوامها طيلة حاجته إليها.
ب- وللتأمين من الجانب المدني نظريتان، إحداهما: نظرية التأمين عن الضرر ذلك أن التأمين ضمان للتعويض عن الأخطار التي تترتب على وقوعها أضرار مادية. فطالب التأمين يطلبه لأنه يرى فيه إنقاذا من أضرار لا قبل له بتحملها.
الثانية: نظرية التأمين في مقابل. ذلك أن المؤمن له يدفع للمؤمن قسطا دوريا في مقابلة التزام المؤمن بدفع تعويض عن الضرر الواقع على محل التأمين في حدود ما تم عليه الاتفاق وشمله العقد، فالتأمين بهذا عملية تقابل: قسط يدفع في مقابله تعويض عند وقوع الحدث المؤمن عنه يدفع.
جـ- أما الجانب الفني فللتأمين نظريتان إحداهما المقاصة المنظمة، وذلك على أساس أن الأخطار التي يتعرض لها المؤمن لهم توزع عليهم عن طريق المقاصة، الثانية: نظرية المقاولة المنظمة فنيا، هذه النظرية تتلخص في أن التأمين ليس عقدا بين فردين عاديين، وإنما هو عقد بين فرد وهيئة منظمة تنظيما فنيا يجري تعاملها على أساس قواعد الإحصاء التي تعطي نسبة تقريبية لوقوع الأخطار، ويجري على ضوء النتائج الإحصائية مدى الدخول مع طالب التأمين في اتفاق تأميني ثم تقدير القسط وسعره ومبلغ التأمين في حال الاقتناع بجدوى ذلك.
مما تقدم نستطيع استخلاص الحقائق التالية: -
أ- التأمين عقد إلزامي ليس من باب الإعانات ولا التبرعات.
ب- يغلب على عمليات التأمين القصد التجاري وإن وجد فيه(19/48)
التعاون فالغالب أنه جاء بطريق الاستلزام لا بطريق القصد.
ج- ليس للمؤمن في جميع صوره مجهود في اتقاء المخاطر، وإنما مجهوده محصور في استقصاء المعلومات عن احتمال وقوع الخطر بواسطة قانون الاستكثار وغير ذلك من الملابسات والظروف، وعن الحال الاجتماعية والأخلاقية الذي يكون عليها المؤمن له حيث إن عقود التأمين يفترض فيها توافر حسن النية لدى الطرفين.
د- التأمين وإن كان بالنسبة للمؤمن يعتبر في الغالب عملا تجاريا واسعا، فهو بالنسبة للمؤمن له ليس عملا تجاريا، وإنما هو إجراء مدني يقصد به الوقاية من كوارث يستطيع به المؤمن له درء خسائرها عليه.
هـ- التأمين بالنسبة للمؤمن التزام احتمالي معلق قيامه على وقوع الخطر المؤمن عنه حيث إن الخطر المؤمن عنه يحتمل وقوعه فيجري الالتزام بدفع مبلغ التأمين ويحتمل ألا يقع فتبرأ ذمة المؤمن مما التزم به من تعويض، وأما بالنسبة للمؤمن له فالتزامه بدفع الأقساط التزام منجز ليس للاحتمال فيه مجال.
ويعتبر المؤمن له في عقد التأمين مشتريا الأمان عن الخطر الذي أمن عليه كل فترة دورية (شهرية أو سنوية أو مدة معينة) بما يدفعه قسطا تأمينيا لها.
ز- ليس للمؤمن له تأمينا تجاريا حق في استرجاع الأقساط التي دفعها أو شيئا منها في حال انقضاء المدة التي دفع عليها التأمين دون وقوع الحادث.
ح- ليس للمؤمن له تأمينا تجاريا حق في الأرباح التي يستحصلها المؤمن من المؤمن لهم.
ط- ليس للمؤمن حق في اقتطاع جزء من مبلغ التعويض عند وقوع الخطر على محل التأمين عند استكمال قيام التزامه بدفع كامل مبلغ(19/49)
التأمين. ي- المؤمن لا يقدم على عملية التأمين إقداما عشوائيا وإنما يعقد التأمين بعد إجرائه الدراسات الإحصائية التي تعطيه نتائج تقريبية في ربح الصفقة.
ك- لا يصح التأمين على خطر ليس للمؤمن له مصلحة في عدم وقوعه، ولا التأمين على خطر قد وقع أو مستحيل الوقوع، ولا التأمين على أخطار ما يكون احترافه مخلا بالنظام العام والآداب.(19/50)
الخلاصة: وجملة القول أن الكلام في التأمين ينحصر في مقامين، بيان حقيقة التأمين وما يتعلق بها، وبيان حكمه.
أما المقام الأول فيتضمن ما يأتي: -
أ- التأمين لغة: بعث الأمن والطمأنينة في النفس، والأمن ضد الخوف، واصطلاحا: يعرف على أنه تصرف بين المؤمن والمستأمن بأنه عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمن له أو المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغا من المال، أو إيرادا مرتبا أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المبين في العقد، وذلك في نظير قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له للمؤمن.
ويعرف باعتباره فكرة لها أثر اقتصادي واجتماعي بأنه نظام تقوم به هيئة منظمة على أساس المعاوضة أو التعاون، وتديره بصورة فنية قائمة على أسس ونظريات وقواعد إحصائية، فتوزع بمقتضاه الحوادث والأخطار، وترمم به الأضرار.
2 - فكرة التأمين من حيث هو نشأت قبل الميلاد بزمن، وأخذت على مر الأيام أشكالا عدة وصورا متنوعة تختلف كثيرا عن التأمين في العصر الحاضر، فمثلا ظهر في إلقاء بعض حمولة سفينة ليخف(19/50)
عبؤها وتسلم مع باقي حمولتها، ثم ظهر في إلزام الحكومة الرومانية تجار الأسلحة بإرسال ما لديهم من أسلحة إلى القوات بحرا على أن يضمنوا لهم ما تلف منها بحرا أو بيد العدو، وما زال التأمين يظهر في أشكال حتى انتهى إلى أنواعه وصوره الحاضرة، ويذكر أن أقدمها التأمين البحري، وقد وضعت النظم حسب مقتضيات البلاد التي انتشر فيها، ولم يدخل في البلاد الإسلامية إلا في وقت متأخر بدليل أنه لم يكتب في حكمه أحد من علماء المسلمين المتقدمين ويقال: إن أول من كتب فيه ابن عابدين من فقهاء الحنفية.
3 - للتأمين عدة تقسيمات باعتبارات مختلفة: -
أ- فينقسم من حيث شكله والغرض منه إلى: -
تأمين تعاوني - تبادلي- وهو أن يشترك جماعة بمبالغ تخصص لتعويض من يصيبه الضرر منهم، وإن عجزت الأقساط عن التعويض دفع الأعضاء أقساطا إضافية لتغطية العجز، وإن زادت فللأعضاء حق استرداد الزيادة، ويقوم على إدارتها جماعة من المشتركين والغرض من هذا النوع التعاون في تحمل الخسائر لا الربح. وإلى تأمين تجاري- تأمين بقسط ثابت- وقد سبق تعريفه في فقرة- 1- والغرض منه أصالة الربح، وتختص به شركة التأمين التي تقوم بإدارته مستقلة عن الأعضاء المشتركين.
ب- وينقسم من حيث موضوعه إلى تأمين تجاري، ويشمل التأمين البحري والنهري والتأمين الجوي والتأمين البري، وإلى تأمين على الأشخاص، ويقوم المؤمن بتعويض المؤمن له أو وارثه عن الضرر الذي أصابه في جسمه سواء كان موتا أم عاهة أم مرضا أم شيخوخة. وإلى تأمين من الأضرار ويتناول التأمين من المسئولية(19/51)
بضمان المؤمن كل ما يرجع فيه على المؤمن له من الأضرار التي أصاب بها غيره كحوادث السيارات والعمل. . كما يتناول التأمين على الأموال بتعويض المؤمن له عن الخسارة التي تصيبه في ماله. من سرقة أو حريق أو موت حيوان أو تلف زرع أو سيارة ونحو ذلك.
4 - للتأمين وظائف: -
منها أنه من عوامل إنماء الصناعة والتجارة بضمانه لرءوس أموالهما وتعويض التجار والصناع عما يصيبهم فيما يصدرون ويستوردون. . الخ، ومنها أنه أحد العوامل في إقامة البنوك والمصارف التي لها خدماتها في المرافق الكثيرة للحكومات والأمم. . ومنها أنه يساعد على تكوين رءوس الأموال للشركة والمستأمنين ولتكوين رءوس الأموال أثر بالغ في نماء الاقتصاد وسد الحاجات، وقد أجمل بعض من كتب في التأمين وظائفه في الأمان والائتمان وتكوين رءوس الأموال. .
5 - أسس التأمين الفني:
يقوم التأمين الفني على ثلاثة أمور: -
أ- التعاون بين المستأمنين تحت إشراف المؤمن وتنظيمه، وهذا يحقق أمرين: -
أولا- تجزئة المخاطر بتوزيع نتائجها على عدد كثير من المستأمنين حيث تدفع مما تحصل من الأقساط التي دفعوها دون شعور منهم بعبء ثقيل.
ثانيا- كفالة الأمان للمؤمن بتوفر عدد كثير من المشتركين، وللمستأمن لثقته بقدرة الشركة على الوفاء بعد تكوين الرصيد.(19/52)
ب- المقاصة بين المخاطر بتنظيم توزيعها بين المستأمنين توزيعا عادلا، ويتوقف ذلك على المتشابه بين المخاطر وأن تكون عددا كثيرا لا نادرا، وأن لا تقع في زمن واحد، وأن تتحد في موضوعها وقيمتها.
ب- جدول الإحصاء:
تعتبر قواعد الإحصاء أساسا لقبول التأمين وتقدير قسطه وتقدير مبلغ التأمين وغير هذا مما يتوقف على الإحصاء.(19/53)
6- أركان التأمين وعناصره: -
يرى جماعة ممن كتب في التأمين الفرق بين عناصر التأمين وأركانه، فجعلوا أركانه ثلاثة: التراضي بين المتعاقدين، ومحل التأمين، والسبب الباعث للمتعاقدين على إبرام عقد التأمين، وعند الشرح يفسرون محل التأمين بالخطر أو بثلاثة أمور: الخطر، والقسط، ومبلغ التأمين، ويفسرون السبب بالمصلحة التأمينية، وهؤلاء يرون أن عناصر التأمين هي: الخطر، والقسط، ومبلغ التأمين، والمصلحة التأمينية. ويرى جماعة آخرون منهم أن أركان التأمين وعناصره شيء واحد وهي: الخطر المؤمن منه، والأقساط التي يدفعهما المستأمن ومبلغ التأمين، والمصلحة التأمينية. . وبالمقارنة يتبين ما بين الرأيين من تداخل، والثاني منهما هو الظاهر.
7 - خصائص عقد التأمين: -
لعقد التأمين خصائص هي: -
أولا: أنه من عقود التراضي فيعتبر فيه الإيجاب والقبول، ويخضع للقواعد العامة التي تحكم سائر العقود الرضائية.(19/53)
ثانيا: أنه عقد احتمالي، لأن كلا من المتعاقدين لا يعرف وقت العقد مدى كسبه أو خسارته حيث إنه تابع لأمر غير محقق الحصول أو غير معروف وقت حصوله ولذا قيل إنه من عقود الغرر، وإن نظم المؤمن عملياته وبناها على الإحصاء.
ثالثا: أنه عقد مستمر لاستمرار المستأمن في سداد الأقساط واستمرار عهدة المؤمن إلى السداد.
رابعا: أنه عقد إذعان، لإذعان المستأمن إلى قبول الشروط التي وضعها المؤمن دون مناقشة أو تعديل، ولذا حمى المسئولون المستأمن في تنظيم عقد التأمين فأبطلوا الشروط التعسفية، وفسروا ما كان غامضا في العقد لمصلحة المستأمن.
خامسا: أنه عقد معاوضة، لالتزام المؤمن بمبلغ التأمين مقابل الأقساط التي يدفعها المستأمن.
سادسا: أنه عقد ملزم للمتعاقدين، حيث ينشأ عنه التزامات متقابلة لكل منهما.
سابعا: أنه من العقود المسماة التي تخضع للأحكام والقواعد المقررة في قانون المحاكم بخلاف العقود غير المسماة في القانون المحلي، فإنها تخضع للنظرية العامة للالتزام وللشروط التي اتفق عليها الطرفان.
ثامنا: أنه من عقود حسن النية، لإذعان المستأمن للشروط دون مناقشة ولعدم معرفة المؤمن بحال المستأمن تفصيلا، ولذا يجب ألا يخفي كل من الطرفين عن الآخر شيئا من الأمور الجوهرية.
تاسعا: أنه عقد تجاري يقصد المؤمن به الربح، وأما بالنسبة للمستأمن فهو تجاري إن تعلق بشئون تجارته.(19/54)
عاشرا: أنه عقد يؤخذ فيه بالسبب القريب في التسبب كتلف أمتعة من إلقائها حين الحريق أو تهدم بنيان من إطفاء الحريق بالماء، ولا يؤخذ فيه بالسبب البعيد كالزلازل والبراكين. . .
8 - حلول المؤمن لحل المستأمن: -
يحل المؤمن محل المستأمن بما دفع من تعويض عن الحريق ونحوه في الدعاوى التي للمستأمن قبل من تسبب في ضرره، ويكون ذلك في حدود المبلغ الذي دفعه المؤمن للمستأمن ما لم يكن من أحدث الضرر قريبا للمستأمن أو صهرا له يعيش معه أو يكون تابعا للمستأمن مسئولا عنه، وإذا تعذر الحلول بتنازل المستأمن عن مطالبة المتسبب برئت ذمة المؤمن من مسئولية التأمين براءة تامة أو جزئية حسب الأحوال.
9 - وثيقة التأمين- أو بوليصة التأمين: -
هي عقد بين المؤمن والمستأمن يبرم بعد اتخاذ إجراءات بينهما من المؤمن لمصلحته لإثبات حق كل منهما، وتشتمل على ما يلي: -
أ- أسماء المتعاقدين ومحل إقامتها واسم المستفيد إن كان معينا.
ب- وصف محل التأمين وصفا كاملا يتضمن بيان نوعه وجنسه ومحل خزنه إن كان مالا ومحل ونوع عمله إن كان شخصا.
ج- وصف الخطر المؤمن منه وصفا دقيقا تنتفي معه الجهالة.
د- مقدار سعر التأمين الذي يمكن أن يحتسب قسط التأمين على ضوئه.(19/55)
هـ- مقدار القسط الدوري وتعيين وقته، وطريق سداده.
وبيان مدة العقد وتحديد نفاذه بذكر تأريخ ابتدائه وتاريخ انتهائه.
ز- المبلغ المؤمن به، ويسمى رأسمال بوليصة التأمين.
ح- الشروط الخاصة بالعقد المتعلقة بمصالح طرفيه.
ط- توقيع طرفي العقد- المؤمن والمؤمن له وتأريخ التوقيع.
ولوثائق التأمين تقسيمات عدة باعتبارات مختلفة: -
أ- فتنقسم باعتبار مدة سريان العقد إلى وثيقة سنوية، وإلى وثيقة لفترة قصيرة- أي دون السنة- وإلى وثيقة لفترة طويلة- أيما أطول من سنة- وإلى وثيقة سفرية، وهي التي يتوقف أمد نفاذها على المدة التي يكمل فيها النقل، ولقصر المدة وطولها تأثير في إضافة زيادة إلى القسط وعدم الإضافة، وفي تعجيل دفع كامل القسط وعدم تعجيله.
ب- وتنقسم من حيث نطاق ضمان العقد إلى وثيقة اعتيادية، وهي التي تضمن شيئا معينا من خطر معين، وهي أكثر الوثائق شيوعا، وإلى وثيقة عائمة، وهي التي تضمن شروطا عامة لتغطية شحنات متعددة لمدة غير محدودة بمبلغ تأمين إجمالي وبموجبها يلتزم المستأمن بدفع قسط التأمين بنسبة المبلغ الإجمالي مقدما ويكون قابلا للتسوية عند انتهاء عمليات الشحن، وإلى وثيقة عامة، وهي التي تصدر بالتأمين من أخطار متعددة يخشى حدوثها على أموال مختلفة، ولذا يستوفى بموجبها قسط تأمين إجمالي يشمل كافة الأخطار المؤمن منها.
ج- وتنقسم من حيث قيمة التأمين إلى وثيقة محدودة، وهي التي حددت فيها قيمة التأمين بالنسبة لقيمة محل التأمين وقت العقد،(19/56)
وإلى وثيقة غير محدودة، وهي التي لم يجر فيها تحديد قيمة التأمين بالنسبة لقيمة المحل، فإن زادت قيمة محل التأمين على مبلغ التأمين فليس للمستأمن حق المطالبة بمقابل هذه الزيادة عند تحقق الخطر، وإن نقصت قيمة المحل عن مبلغ التأمين كان للمستأمن المطالبة برد نسبة معينة من قسط التأمين تحسب على أساس الفرق بين مبلغ التأمين وقيمة محل التأمين.(19/57)
10- المشاركة في التأمين: -
قد يؤمن شخص على شيء معين ضد خطر معين عند عدد من شركات التأمين، وتتجاوز جملة مبالغ التأمين القيمة الحقيقية لمحل التأمين، فيكون لمجموع شركات التأمين حق توزيع الخسارة بينهم حال الخطر على محل التأمين، كل منهم بنسبة مبلغ التأمين الذي التزم به، منعا للمؤمن له من أن يتخذ التأمين طريقا تجاريا للربح، كما أن للمؤمن له الحق في مطالبتهم بإعادة نسبة من قسط التأمين حسب نظام معروف يحكم بينهم في ذلك.
ويشترط لتطبيق مبدأ المشاركة في التأمين ما يأتي: -
أ- أن يقوم نفس الشخص بالتأمين على محل معين لدى مؤمنين عدة.
ب- أن تشترك وثائق التأمين في تغطية نفس الأخطار.
ج- أن تحمي هذه الوثائق مصلحة تأمينية معينة.
د- أن تكون مبالغ التأمين في هذه الوثائق زائدة عن قيمة المحل.
هـ- أن تكون هذه الوثائق سارية المفعول وقت تحقق الخطر.(19/57)
11 - التأمين الاقتراني وإعادة التأمين:
قد تختلف الأخطار التي جمعها المؤمن في طبيعتها وقيمتها فتعرضه لشدة الخطر، ولذا يحتاج إلى تنسيقها ليخفف عن نفسه، فيلجأ إلى التأمين الاقتراني أو إعادة التأمين، ويتبين الفرق بينهما مما يأتي: -
أ- التأمين الاقتراني أن يحتفظ المؤمن لنفسه بجملة من التأمينات المتناسقة في حدود قدرته ويعرض ما بقي على مؤمنين آخرين، وعند تحقق الخطر يقوم كل من المؤمنين بما التزم به في حدود حصته مرتبطا بالمؤمن له مستقلا عن غيره من المؤمنين.
ب- إعادة التأمين هي عقد يبرم بين هيئتين من هيئات التأمين تسمى الأولى معطية، والثانية معيدة، فتحيل الأولى بمقتضى العقد حصصا من الأخطار التي لديها إلى الثانية التي تتعهد بقبولها حسب شروط العقد، وتعتبر إعادة التأمين توثيقا للتأمين الأول، وكفالة له فقط.
ونظرا لعدم التضامن بين المؤمنين في التأمين الاقتراني واختلاف إدارات شركات التأمين في نشاطها ووفائها، وتأخر دفع التعويض للمؤمن له نتيجة لذلك، ونظرا إلى زيادة الثقة في إعادة التأمين وتعجيل دفع التعويض لوحدة المسئول أمام المؤمن له وهو المؤمن الأول رغب المستأمنون في الشركات التي تلجأ في التنسيق إلى إعادة التأمين دون التي تلجأ إلى التأمين الاقتراني.
12 - نظريات التأمين:
تتنوع نظريات التأمين تبعا للأسس التي بنيت عليها: اقتصادية، أو فقهية، أو فنية.(19/58)
أ- فللتأمين نظريتان من الناحية الاقتصادية، إحداهما التأمين للحاجة، والباعث على ذلك حاجة الإنسان إلى إشباع رغبته من متطلبات الحياة أو إزالة ضرورته الواقعة أو المتوقعة. والثانية التأمين للأمن، والباعث عليه خوف وقوع خطر على نفسه أو أملاكه فيؤمن ليطمئن قلبه.
ب- وللتأمين من الناحية المدنية وقد تسمى الفقهية نظريتان: الأولى: التأمين عن الضرر والباعث عليه الرغبة في الحصول على التعويض عن الضرر الذي يصيبه عند وقوعه، والثانية التأمين في مقابل، بناء على أن التأمين عقد مبادلة بين الأقساط الدورية ومبلغ التأمين. ب- وللتأمين من الناحية الفنية نظريتان: الأولى: المقاصة المنظمة لتوزيع الأخطار على المستأمنين على ضوء أسس فنية، والثانية: نظرية المقاولة فنيا، بناء على أن كلا من مؤسسي شركات التأمين محترف، فكل مؤسسي شركة يديرون مقاولة على نظم معروفة، ويقومون بمقاصة على قواعد معلومة لديهم. .
والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.(19/59)
الثاني: ذكر اختلاف الباحثين في حكمه وأدلة كل فريق منهم مع المناقشة: -
اختلف الباحثون من الفقهاء في حكم عقد التأمين التجاري فمنهم من منعه مطلقا ومنهم من أجازه مطلقا، ومنهم من فصل في ذلك، وفيما يلي ذكر ما قيل في ذلك من الأدلة والمناقشة:(19/59)
ذكر كلام المانعين:
أ- قال الباجي: ومن دفع إلى رجل داره على أن ينفق عليه حياته. روى ابن المواز عن أشهب: لا أحب ذلك، ولا أفسخه إن وقع، وقال أصبغ: هو حرام؛ لأن حياته مجهولة ويفسخ، وقال ابن القاسم عن مالك: لا يجوز إذا قال: لا ينفق عليه حياته (1) .
2 - قال ابن عابدين: وسئلت، في رمضان سنة أربعين ومائتين وألف عما إذا جرت العادة بين التجار أنهم يستأجرون مركبا من مراكب أهل الحرب لحمل بضائعهم وتجاراتهم، ويدفعون للمراكبي الحربي الأجرة المشروطة، وتارة يدفعون له مبلغا زائدا على الأجرة لحفظ البضائع بشرط ضمان ما يأخذه أهل الحرب منها، وأنه إن أخذوا منه شيئا فهو ضامن لصاحبها جميع قيمة ذلك، فاستأجر رجل من التجار رجلا حربيا، كذلك ودفع له مبلغا تراضيا عليه على أنه إن أخذ أهل الحرب منه شيئا من تلك البضاعة يكون ضامنا لجميع ما يأخذونه، فسافر بمركبه فأخذه منه بعض القطاع في البحر من أهل الحرب، فهل يلزمه ضمان ما التزم حفظه وضمانه بالعوض أم لا. فأجبت: الذي يظهر من كلامهم عدم لزوم الضمان لأن ذلك المراكبي أجير مشترك والخلاف في ضمان الأجير المشترك بينهم، والمذهب أنه لا يضمن ما هلك في يده وإن شرط عليه الضمان فيما في يده كما في التنوير، ثم إذا هلك ما بيده بلا صنع منه ولا يمكنه دفعه والاحتراز عنه كالحرق والغرق وخروج قطاع الطريق والمكابرين لا يضمن بالاتفاق، لكنه في مسألتنا لما أخذ أجرة
__________
(1) المنتقي ج 5 ص 41.(19/60)
على الحفظ بشرط الضمان صار بمنزلة المودع إذا أخذ أجرة على الوديعة، فإنها إذا هلكت يضمن والفرق بينه وبين الأجير المشترك أن المعقود عليه في الإجارة هو العمل، والحفظ واجب عليه تبعا، أما المودع بأجرة فإن الحفظ واجب عليه مقصودا ببدل، فلذا ضمن كما صرح بذلك الإمام فخر الدين الزيلعي في باب ضمان الأجير، وهنا لما أخذ البدل بمقابلة الحفظ الذي كان واجبا عليه تبعا صار الحفظ واجبا عليه قصدا بالبدل فيضمن، لكن يبقى النظر في أنه هل يضمن مطلقا أو فيما يمكن الاحتراز عنه والذي يظهر الثاني؛ لاتفاقهم في الأجير المشترك على عدم ضمانه فيما لا يمكن الاحتراز عنه، فالظاهر أن المودع بأجر كذلك؛ لأن الموت والحريق ونحوهما مما لا يمكن ضمانه والتعهد بدفعه، وقد صرحوا بأن إغارة القطاع المكابرين مما لا يمكن الاحتراز عنه، فلا يضمن في صورتها حيث كان أخذ البضاعة من القطاع المكابرين الذي لا يمكن مدافعتهم، لكن ذكر في التنوير قبيل باب كفالة الرجلين- قال لآخر: اسلك هذا الطريق؛ فإنه آمن، فسلك وأخذ ماله، لم يضمن، ولو قال إن كان مخوفا وأخذ فأنا ضامن، ضمن، وعلله في الدر المختار عن الدرر بأنه ضمن الغار صفة السلامة للمغرور نصا- انتهى. أي بخلاف المسألة الأولى فإنه لا يضمن لأنه لم يصرح بقوله: فأنا ضامن، وهذا إذا كان المال مع صاحبه، وفي صورتنا المال مع الأجير، وقد ضمن للمستأجر صفة السلامة نصا فيقتضي ضمانه بالأولى، وإن لم يمكن الاحتراز لكن الظاهر أن مسألة التغرير المذكورة مشروطة بما إذا كان الضامن عالما بخطر الطريق ليتحقق كونه غارا وإلا فلا تغرير، وسياق المسألة في (جامع الفصولين) في فصل الضمانات يدل على ما قلنا، فإنه نقل عن فتاوي ظهير الدين. قال له اسلك هذا الطريق فإنه آمن فسلك فأخذه اللصوص -(19/61)
لا يضمن، ولو قال لو مخوفا وأخذ مالك فأنا ضامن والمسألة بحالها ضمن، فصار الأصل أن المغرور إنما يرجع على الغار لو حصل الغرور في ضمن المعارضة أو ضمن الغار صفة السلامة للمغرور، فصار كقول الطحان لرب البر اجعله في الدلو فجعله فيه فذهب من النقب إلى الماء، وكان الطحان عالما به يضمن إذ غره في ضمن العقد وهو يقتضي السلامة انتهى. وحاصله أن الغار يضمن إذا صرح بالضمان أو كان التغرير في ضمن عقد المعاوضة وإن لم يصرح بالضمان كما في مسألة الطحان، وقد صرح فيها بكون الطحان عالما بالنقب، وما ذاك إلا ليتحقق كونه غارا كما يشير إليه تسميته بذلك لأن من لا علم له بذلك لا يسمى غارا، فلو لم يكن العلم شرطا في الضمان لكان حقه أن يعبر عنه بالآمر لا بالغار، ويؤيد ذلك أيضا أنه في (جامع الفصولين) نقل بعد ذلك عن المحيط أن ما ذكره من الجواب في قوله: فإن أخذ مالك فأنا ضامن، مخالف لما ذكره القدوري: إن ما قال لغيره من غصبك من الناس أو من بايعت من الناس فأنا ضامن لذلك فهو باطل. انتهى. فأجاب عنه في (نور العين) بقوله: يقول الحقير لا مخالفة أصلا، والقياس مع الفارق؛ لأن عدم الضمان في مسألة القدوري من جهة عدم التغرير فيها بخلاف ما نحن فيه فافترقا، والعجب من غفلة مثل صاحب المحيط مع ما له من فضل وذكاء، البحر المحيط انتهى. فقد أفاد أنه لا بد من التغرير، وذلك بكونه عالما بخطر الطريق كما قلناه، ففي مسألتنا إن كان صاحب المركب غر المستأجر بأن كان عالما بالخطر يكون ضامنا وإلا فلا، هذا ما ظهر لي والله تعالى أعلم. لكن ينبغي تقييد المسألة بما إذا كان صاحب المال غير عالم بخطر الطريق؛ لأنه إذا كان عالما لا يكون مغرورا، لما في القاموس غره غرا وغرورا وغرة بالكسر فهو مغرور(19/62)
وغرير خدعه وأطمعه بالباطل فاغتر، هو وفي المغرب الغرة بالكسر الغفلة ومنه أتاهم الجيش وهم غارون أي غافلون، وفي الحديث نهى عن بيع الغرور والخطر الذي لا يدرى أيكون أم لا، كبيع السمك في الماء والطير في الهواء، فقد ظهر أن العالم بما قصد غيره أن يغره به لا يكون مغرورا، أرأيت صاحب البر لو كان عالما بنقب الدلو وأمره الطحان بوضعه فيه هل يكون مغرورا بل هو مفرط مضيع لماله لا أثر لقول الطحان معه، ففي مسألتنا لا بد أن يكون الأجير عالما بخطر الطريق والمستأجر غير عالم به فيضمن، وإن كان الأجير غير عالم أو المستأجر عالما فلا ضمان على الأجير لعدم تحقق التغرير، والله تعالى أعلم (1) .
__________
(1) مجموعة رسائل ابن عابدين- رسالة الأجوبة المحققة في أسئلة متفرقة 2- 176، 179.(19/63)
3- وقال الشيخ محمد بخيت المطيعي: ورد علينا خطاب من بعض العلماء المقيمين بالأناضول بالروملي الشرقي بولاية سلانيك العثمانية، إلى أن قال: " ورد خطابكم تذكرون به أن المسلم يضع ماله تحت ضمانة أهل قومبائية السوكرتاه أصحابها مسلمون وذميون أو مستأمنون، ويدفع لهم نظير ذلك مبلغا من الدراهم حتى إذا هلك ماله الذي وضعه تحت ضمانهم يضمنونه له بمبلغ مقرر بينهم من الدراهم، وتستفهمون عما إذا كان له شرعا أن يضمنهم ماله المذكور إذا هلك بحرق ونحوه أم لا يكون له ذلك، وعما إذا كان يحل له ما أخذه من الدراهم إذا ضمنوا له ما هلك من ماله أم لا يحل له ذلك، وعما إذا كان يشترط في حل ما يأخذه من الدراهم بدلا من ماله الهالك أن يكون كل من العقد وأخذ الدراهم المذكورة في غير دار الإسلام، فإذا هلك الموضوع تحت الضمان(19/63)
كان لصاحبه أن يأخذ الدراهم المقررة بدلا من ماله الهالك، ويتسلمها في دار الإسلام من وكيلهم الذمي أو المستأمن فيها، وعما إذا كان يحل لأحد الشركاء أن يعقد ذلك بغير دار الإسلام، وأن يأخذ بدل ماله الهالك أيضا في غير دار الإسلام، ثم يعود بما أخذه إلى دار الإسلام أو يبعث به إلى شريكه أو وكيله بها أم لا يحل له ذلك أيضا. وقلتم إن ذلك مما عمت به البلوى في الديار التي أنتم بها الآن، وأنكم راجعتم ما لديكم من كتب المذهب، فلم تقفوا على شيء تطمئنون به في حكم ذلك.
وأجاب: أن المقرر شرعا أن ضمان الأموال إما أن يكون بطريق الكفالة أو بطريق التعدي والإتلاف.
أما الضمان بطريق عقد الكفالة فليس متحققا هنا قطعا لأن شرطه أن يكون المكفول به دينا صحيحا لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء أو عينا مضمونة بنفسها بأن يجب على المكفول عنه تسمليمها بعينها للمكفول له، فإن هلكت ضمن له مثلها في المثليات وقيمتها في القيميات، وذلك كالمغصوب والمبيع بيعا فاسدا. ثم أورد أمثلة أخرى ثم قال: وعلى ذلك لا بد من كفيل يجب عليه الضمان، ومن مكفول له يجب تسليمه للمكفول له، وبدون ذلك لا يتحقق عقد الكفالة، ولا شبهة أنها لا تنطبق على العقد المذكور، فإن المال الذي جعله صاحبه تحت ضمان أهل القومبانية لم يخرج عن يده ولا يجب عليه تسليمه لأحد غيره، فلم يكن دينا عليه أداؤه ولا عينا مضمونة عليه بنفسها يجب عليه تسليم عينها قائمة أو مثلها أو قيمتها هالكة، فأهل القومبانية لو ضمنوا يضمنون مالا للمالك وهو لم يزل تحت يده يتصرف فيه كيف يشاء، فلا يكون شرعا من ضمان الكفالة.(19/64)
وقال: في الضمان بالتعدي أو الإتلاف (فهذا الضمان إنما يكون على المتعدي كالغاصب إذا هلك مغصوبه أو على المتلف كالشريك الموسر إذا أعتق نصيبه في عبد مشترك وأتلف بالعتق نصيب الشريك الآخر، وأهل القومبانية لم يتعد واحد منهم على ذلك المال ولم يتلفه ولم يتعرض له بأدنى ضرر بل إن المال هلك بالقضاء والقدر، ولو فرض وجود متعد أو متلف فالضمان عليه دون غيره، فلا وجه حينئذ لضمان أهل القومبانية من هذا الطريق أيضا) .
إذا علم ما تقدم كان هذا العقد هو عبارة عن أن الإنسان يلتزم بدفع مقدار معين من الدراهم لأهل تلك القومبانية في نظير التزامهم أن يدفعوا له في حياته أو لورثته بعد موته مقدارا معينا من الدراهم إذا هلك ذلك الإنسان نفسه، وهو ما يسمونه سوكرتاه الحياة والنفس، أو إذا أهلك المال الذي وضعه تحت ضمانهم وهو ما يسمونه سكرتاه الأموال، مع كون المال المذكور باقيا تحت يد مالكه وفي تصرفه ولم يدخل تحت يد أحد من أهل القومبانية بوجه من الوجوه، فيكون هذا العقد عقد التزام لما لا يلزم شرعا - إلى أن قال- " والعقد المذكور لا يصح أن يكون سببا شرعيا لوجوب الضمان، ولا يجوز أن يكون عقد المضاربة كما فهمه بعض العصريين؛ لأن عقد المضاربة يلزم فيه أن يكون المال من جانب المضارب والربح على ما شرطا والعقد المذكور ليس كذلك؛ لأن أهل القومبانية يأخذون المال على أن يكون لهم يعملون فيه لأنفسهم فيكون عقدا فاسدا شرعا، وذلك لأنه معلق على خطر تارة يقع وتارة لا يقع، فهو قمار معنى ".
وقد صرح في شرح السير الكبير (بأن حكم الحربي المستأمن في دار الإسلام حكم أهل الذمة، قال: " وعلى هذا(19/65)
لا يحل أخذ ماله بعقد فاسد، كما لا يحل أخذ مال الذمي به، وقد صرحوا في معتبرات المذهب بأن المسلم المستأمن في غير دار الإسلام يحل له أن يأخذ مالهم برضاهم ولو بربا أو قمار؛ لأن المحرم هو الغدر والخيانة، فما أخذه برضاهم وليس فيه غدر ولا خيانة يكون حلالا على أي وجه أخذه، وقد صرحوا أيضا بأن دار الإسلام محل إجراء الأحكام الشرعية دون غير دار الإسلام، وأنه لا يحل لمسلم في دار الإسلام أن يعقد مع المستأمن الذي فيها وليس منها إلا ما يحل من القعود مع المسلمين.
ثم قال: وعلى ذلك إما أن تكون مباشرة العقد في دار الإسلام وأخذ بدل الهالك فيها أيضا، ففي هذه الصورة لا يحل لمسلم أخذ ذلك البدل ولا يطيب له، بل إن قبضه ملكه ملكا خبيثا، وأما أن تكون مباشرة العقد في غير دار الإسلام وأخذ بدل الهالك في غيرها أيضا، ففي هذه الصورة يحل له ما أخذه من البدل ويطيب له؛ لأنه إنما أخذه برضاهم في دارهم بدون غدر ولا خيانة، وإما أن تكون مباشرة العقد في غير دار الإسلام، ولكن أخذ بدل المال الهالك في دار الإسلام ففي هذه الصورة لا يحل أخذ ذلك البدل لما علمت أنه لا يحل لمسلم أن يأخذ في دار المسلم من مال المستأمن فيها وليس منها إلا ما يلزم ذلك المستأمن شرعا وهذا المال لم يلزمه شرعا، وإما أن تكون مباشرة العقد بدار الإسلام ولكن أخذ بدل المال الهالك كان بغيرها، وفي هذه الصورة يحرم مباشرة العقد والإقدام عليه في دار الإسلام؛ لأن العقود الفاسدة منهي عن مباشرتها شرعا، ولكن مع ذلك يحل أخذ بدل المال الهالك متى كان الأخذ بغير دار الإسلام وبرضاهم.
فالحاصل أن المدار في حل أخذ بدل المال الهالك منهم على أن يكون ما أخذ من مالهم(19/66)
وفي بلادهم وبرضاهم لا يضر في ذلك كون الأخذ مبنيا على سبب فاسد شرعا.
4 - لقد ورد سؤال إلى الشيخ محمد رشيد رضا - رحمه الله - عن التأمين، هذا نصه: رجل يضمن محل تجارته من الحريق في إحدى شركات الضمان "السيكورتاه " على مبلغ معين من المال، وقدر الله واحترق ذلك المحل، فهل يجوز له شرعا مطالبة شركات الضمان بهذا المبلغ ويكون حلالا أم لا؟ وهل كل أنواع الضمانات ضد الحريق والحياة والغرق والسرقة شرعية يجوز عملها أم لا؟ .
فأجاب بقوله: كل ما في السؤال الأول فهو من المعاملات المالية غير المشروعة في الإسلام؛ فلم يرد بها نص من الشارع، ولم يقرها بالاجتهاد إمام عادل، وإنما هي من العقود الحادثة عند أولي المدنية المادية في هذا العصر ومن التزمها في غير دار الإسلام والعدل لزمته شاء أم أبى، وإنما هو مخير في أخذ ما ثبت له دون ما ثبت عليه، وللمؤمن في غير دار الإسلام أن يأكل مال أهلها بعقودهم ورضاهم فهو لا يكلف معهم التزام أحكام دار الإسلام التي يلتزمونها، ولكن عليه أن يحاسب نفسه على إضاعة ماله باختياره فيما له مندوحة عنه (1) .
5 - وأجاب أيضا عن التأمين على الحياة فقال: لم يذكر السائل كيفية هذا الضمان ولا عقده والمشهور أن هذه العقود التي تشبه الميسر "القمار" في كون الذي يعطي المال لشركة الضمان لا يعطيها إياه في مقابلة عمل تعمله له أو منفعة تسديها إليه، وإنما يرجو بذلك
__________
(1) . فتاوى المنار 4- 1640، 1641.(19/67)
أن تأخذ ورثته منها أكثر مما أعطى إن هو مات قبل المدة المعينة، وجمهور الفقهاء يصرحون بأن مثل هذا العقد باطل ومحرم لما فيه من إضاعة المال الواجب حفظه وعدم بذله إلا فيما فيه منفعة دينية أو دنيوية معلومة أو مظنونة، وليس كل العقود التي يحكم الفقهاء ببطلانها محرمة دينا، فإنهم قد يشترطون شروطا اجتهادية لا يحكم قاضيهم ولا ينفذ أميرهم الحكم إلا إذا تحققت في العقد، وإن لم يكن في ترك الشروط منها مخالفة لأمر الله ورسوله، وقد صرح بعض الفقهاء بحل جميع العقود والشروط التي يتعاقد الناس عليها ويشترطونها إذا لم تكن مخالفة للكتاب والسنة الصحيحة وهذا هو الصواب (1) .
__________
(1) فتاوى المنار 3- 964(19/68)
6 - وقال إبراهيم الجبالي: وأما شركات التأمين على الأموال والأرواح فقد تغلغل الميل إليها في نفوس الكثير من الناس خصوصا من المستنيرين إلى حد يصعب معه اقتلاعه من عقولهم، وأقوى حجة لهم في تبريرها أن يقول لك أحدهم: إني أدفع القليل ليطمئن قلبي على الكثير، فأنا رابح الطمأنينة حال السلامة والعوض إذا ما طرأ ما أخشاه، والشركة رابحة المال الذي تأخذه مني ومن سواي؛ فكلا الطرفين مستفيد.
ونقول له: أليس أمرك دائرا بين أن تدفع بلا مقابل وذاك إذا قدرت لك بسلامة المال أو تأخذ ما لا حق لك فيه وترزأ غيرك ممن دفع وهو لم يجن عليك فيما إذا عطب مالك؟ أو ليس الأمر على كلا التقديرين أن هناك دفعا وغرما من أحد الجانبين بدون مقابل من الجانب الآخر؟ فإنه لا قيمة لما دفعه المؤمن بالنسبة لما يأخذه على فرض عطبه، كما أن طمأنينته عليه التي زعم أنه استفادها في حالة سلامة ماله لا دخل لشركة التأمين فيما إذا(19/68)
لم تكن حارسة عليه، ولا تستطيع أن تقف في وجه المقادير وتصاريف الزمان.
وأما التأمين على الحياة فهو أبعد عن العقل السليم وأوجب للدهشة والاستغراب، فما كانت الشركة لتطيل له عمرا، وما كانت لتبعد عنه قدرا، ولكنها التعللات بالأماني، وما أشبهها بشئون الدجالين والمشعوذين، سيقول لك قائلهم نفس المقالة الأولى أو قريبا منها، سيقول: إني متى دفعت ولو قسطا واحدا فإذا فاجأتني المنية استحق ورثتي ما أمنت به على حياتي فكان لهم بذلك عزاء وسلوة عن فقدي، وإذا بقيت المدة المضروبة لي استرجعت كل ما دفعت بأرباحه، فأنا مستفيد على كلتا الحالتين، وللشركة فائدتها أيضا، وهي التصرف في تلك الأموال مما يجتمع لها مني ومن غيري، فيتكون لها رأس مال عظيم تستغله فيما ترى من المشروعات التجارية، ومفاجآت العطب قليلة، فغرمها نادر لا يؤثر فيها؛ لأن كل امرئ حريص على حياته وماله محافظ عليهما جهد استطاعته، فكل واحد يعمل لمصلحتها من حيث يعمل لمصلحة نفسه، فكلا الطرفين مستفيد.
ونقول له: ليكن كل ما تقول، فما خرجت عن أنها معاملة فيها غرم أحد الطرفين حتما بلا مقابل، وما كانت العدالة إلا في المعاوضة، وأن يكون من كل طرف عوض يعادل ما استفاده، وأن يكون بين العوضين مناسبة تحقق المعادلة ولو التقريبية حتى تستقيم روح العدالة، فأما وأحد الطرفين غارم حتما بلا غنم، أو غانم حتما بلا غرم فلا عدالة، بل هي المقامرة والميسر، غير أنه لبس ثوبا لماعا وجاء من قوم أوليناهم ثقتنا العمياء، وأخذنا منهم كل ما قالوه بالتقليد الأعمى، وما منشأ ذلك إلا أن جماعة منهم بهروا الناس بقوة استخدامهم للمادة واستنباطهم لقوى(19/69)
الطبيعة مما لا نغمطهم حقهم فيه، فكان لمجموعهم في النفوس عزة الغلبة، فأسلم الناس القياد لهم شأن كل غالب مع كل مغلوب، وإلا فمتى وزنت تلك التصرفات بميزان العقل السليم والنقد النزيه وجدت ضررها أكبر من نفعها، وهكذا شأن أغلب المضار المنهي عنها لمصلحة المجتمع تجد ضررها أكبر من نفعها، فلا تكاد ترى شيئا تمخض للضرر بدون وجه نفع، وتمخض للنفع بدون وجه ضرر، حتى إن الخمر والميسر وهما ما هما في الضرر لم يخلوا عن نفع ما، ولكنه ضئيل إذا قيس بكبير ضررهما كما قال جل شأنه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (1) وشأن التشريع الصحيح أن يعتمد على الموازنة بين النفع والضرر فما غلب نفعه أحله وما غلب ضرره حرمه، والله عليم حكيم (2) .
7 - وقال الشيخ عبد الرحمن تاج بعد عرضه لصورة التأمين: إن عقود التأمين على الصورة التي قدمناها ليس لها مسوغ من الوجهة الشرعية الإسلامية حتى في الحالة التي لا يشترط فيها على الشركة - أي عقد التأمين على الحياة - دفع فوائد ربوية مع أصل مبلغ التأمين المتفق عليه لصاحب العقد على فرض بقائه حيا إلى نهاية المدة المعينة، فإن العقد ذاته فاسد مشتمل على شروط فاسدة وعلى طريقة يستباح بها أكل أموال الناس بالباطل، ومثل ذلك يقال في حكم التأمين على الأموال (3) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 219
(2) مجلة الأزهر 1 \ 367 وما بعدها.
(3) من بحث له طبع بمجمع البحوث الإسلامية للمؤتمر السابع.(19/70)
أدلة المانعين مطلقا:
أ- التأمين عقد من عقود الغرر وعقود الغرر ممنوعة.
وقبل ذكر كلام المحدثين في الاستدلال بهذا الدليل ومناقشتهم نذكر معنى الغرر لغة واصطلاحا وأقسامه، وبيان ما يكون من أقسامه سببا في تحريم العقد وما لا يكون:
معنى الغرر لغة واصطلاحا:
لما ذكر أحمد بن فارس بن زكريا أن الغرر له أصول ثلاثة صحيحة وذكر منها النقصان قال: ومن الباب بيع الغرر، وهو الخطر الذي لا يدرى أيكون أم لا، كبيع العبد الآبق والطائر في الهواء، فهذا ناقص لا يتم البيع فيه أبدا (1) .
ونقل ابن منظور عن أبي زيد: والغرر الخطر، «ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر (2) » ، وهو مثل بيع السمك في الماء، والطير في الهواء، والتغرير حمل النفس على الغرر، وقد غرر بنفسه تغريرا وتغرة، كما يقال حلل تحليلا وتحلة، وعلل تعليلا وتعلة، وقيل: بيع الغرر المنهي عنه ما كان له ظاهر يغر المشتري وباطن مجهول. يقال: إياك وبيع الغرر. قال بيع الغرر أن يكون على غير عهدة ولا ثقة، قال الأزهري، ويدخل في بيع الغرر البيوع المجهولة التي لا يحيط كنهها المتبايعان حتى تكون معلومة، وفي حديث مطرف: إن لي نفسا واحدة وإني أكره أن أغرر بها، أي: أحملها على غير ثقة، قال: وبه سمي الشيطان غرورا؛ لأنه يحمل الإنسان على محابه وراء ذلك ما يسوءه كفانا الله فتنته، وفي حديث الدعاء: وتعاطي ما نهيت عنه تغريرا، أي: مخاطرة وغفلة عن عاقبة أمره، وفي الحديث: لأن أغتر بهذه الآية
__________
(1) معجم مقاييس اللغة 4 \ 380 - 381.
(2) صحيح مسلم البيوع (1513) ، سنن الترمذي البيوع (1230) ، سنن النسائي البيوع (4518) ، سنن أبو داود البيوع (3376) ، سنن ابن ماجه التجارات (2194) ، مسند أحمد بن حنبل (2/439) ، سنن الدارمي البيوع (2563) .(19/71)
يريد قوله تعالى {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (1) وقوله {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} (2) المعنى أن أخاطر بتركي مقتضى الأمر بالأولى- أحب إلي من أن أخاطر بالدخول تحت الآية الأخرى (3) .
وقال ابن الأثير: الغرر ماله ظاهر تؤثره وباطن تكرهه، فظاهره يغر المشتري وباطنه مجهول (4) .
وأما كلام الفقهاء، فقد قال السمرقندي في أثناء الكلام على أنواع البيوع الفاسدة قال: ومنها أن يكون في المبيع وفي ثمنه غرر مثل بيع السمك في الماء وهو لا يقدر على تسليمه بدون الاصطياد والحيلة، وبيع الطير في الهواء، أو بيع مال الغير على أن يشتريه فيسلمه إليه؛ لأنه باع ما ليس بمملوك له للحال، وفي ثبوته غرر وخطر (5) .
وأما المذهب المذهب المالكي فإن القرافي - رحمه الله - ذكر بحثا في الفرق بين الجهالة والغرر من حيث الحقيقة والأثر، نصه ما يلي:
اعلم أن العلماء قد يتوسعون في هاتين العبارتين فيستعملون إحداهما موضع الأخرى، وأصل الغرر هو الذي لا يدري هل يحصل أم لا، كالطير في الهواء، والسمك في الماء، وأما ما علم حصوله وجهلت صفته فهو المجهول، كبيعه ما في كمه، فهو يحصل قطعا، لكن لا يدري أي شيء هو.
فالغرر والمجهول كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه، فيوجد كل واحد منهما مع الآخر وبدونه، أما وجود الغرر بدون الجهالة، فكشراء العبد الآبق المعلوم قبل الإباق لا جهالة فيه، وهو غرر؛ لأنه
__________
(1) سورة الحجرات الآية 9
(2) سورة النساء الآية 93
(3) لسان العرب 6 \ 317 ويرجع أيضا إلى القاموس 2 \ 99 وما بعدها.
(4) جامع الأصول 1 \ 527- 528.
(5) تحفة الفقهاء 2 \ 66-67.(19/72)
لا يدري هل يحصل أم لا، والجهالة بدون الغرر كشراء حجر يراه لا يدري أزجاج هو أم ياقوت، مشاهدته تقتضي القطع بحصوله فلا غرر، وعدم معرفته تقتضي الجهالة به.
وأما اجتماع الغرر والجهالة فكالعبد الآبق المجهول الصفة قبل الإباق.
ثم الغرر والجهالة يقعان في سبعة أشياء في الوجود كالآبق قبل الإباق، والحصول إن علم الوجود كالطير في الهواء، وفي الجنس كالسلعة لم يسمها، وفي النوع كعبد لم يسمه، وفي المقدار كالبيع إلى مبلغ رمي الحصاة، وفي التعيين كثوب من ثوبين مختلفين، وفي البقاء كالثمار قبل بدو صلاحها، فهذه سبعة موارد للغرر والجهالة، ثم الغرر والجهالة ثلاثة أقسام: كثير ممتنع إجماعا كالطير في الهواء، وقليل جائز إجماعا كأساس الدار وقطن الجبة، ومتوسط اختلف فيه هل يلحق بالأول أو الثاني، فلارتفاعه عن القليل ألحق بالكثير، ولانحطاطه عن الكثير ألحق بالقليل، وهذا هو سبب اختلاف العلماء في فروع الغرر والجهالة. اهـ (1) .
وقال محمد بن علي بن حسين بعد ذكره للأقسام السبعة المتقدمة، وبقى الجهل بالأجل إن كان هناك أجل، والجهل بالصفة، فهذه تسعة موارد للغرر من جهة الجهالة (2) .
وقال القرافي: الفرق الرابع والعشرون بين قاعدة ما تؤثر فيه الجهالات والغرر، وقاعدة مالا يؤثر فيه ذلك من التصرفات.
وردت الأحاديث الصحيحة في «نهيه عليه السلام عن بيع الغرر (3) » «وعن
__________
(1) الفروق 3 \ 265- 266.
(2) تهذيب الفروق 3 \ 271.
(3) صحيح مسلم البيوع (1513) ، سنن الترمذي البيوع (1230) ، سنن النسائي البيوع (4518) ، سنن أبو داود البيوع (3376) ، سنن ابن ماجه التجارات (2194) ، مسند أحمد بن حنبل (2/439) ، سنن الدارمي البيوع (2563) .(19/73)
بيع المجهول» واختلف العلماء بعد ذلك، فمنهم من عممه في التصرفات وهو الشافعي، فمنع من الجهالة في الهبة والصدقة والإبراء والخلع والصلح وغير ذلك. ومنهم من فصل وهو مالك بين قاعدة ما يجتنب فيه الغرر والجهالة، وهو باب المماكسات والتصرفات الموجبة لتنمية الأموال، وما يقصد به تحصيلها، وقاعدة ما لا يجتنب فيه الغرر والجهالة وهو ما لا يقصد لذلك، وانقسمت التصرفات عنده ثلاثة أقسام: طرفان وواسطة، فالطرفان أحدهما معاوضة صرفة، فيجتنب فيه ذلك إلا ما دعت الضرورة إليه عادة كما تقدم أن الجهالات ثلاثة أقسام، فكذلك الغرر والمشقة، وثانيهما: ما هو إحسان صرف لا يقصد به تنمية المال، كالصدقة والهبة والإبراء فإن هذه التصرفات لا يقصد بها تنمية المال. بل إن فاتت على من أحسن إليه بها لا ضرر عليه، فإنه لم يبذل شيئا، بخلاف القسم الأول إذا فات بالغرر والجهالات ضاع المال المبذول في مقابلته، فاقتضت حكمة الشرع منع الجهالة فيه، أما الإحسان الصرف فلا ضرر فيه، فاقتضت حكمة الشرع وحثه على الإحسان التوسعة فيه بكل طريق بالمعلوم والمجهول فإن ذلك أيسر لكثرة وقوعه قطعا، وفي المنع من ذلك وسيلة إلى تقليله، فإذا وهب له عبده الآبق جاز أن يجده فيحصل له ما ينتفع به، ولا ضرر عليه إن لم يجده؛ لأنه لم يبذل شيئا وهذا فقه جميل، ثم إن الأحاديث لم يرد فيها ما يعم هذه الأقسام حتى نقول يلزم منه مخالفة منصوص صاحب الشرع، بل إنما وردت في البيع ونحوه، وأما الواسطة بين الطرفين فهو النكاح. . . إلخ (1) .
وقال محمد علي حسين مبينا أقسام الجهالة والغرر ما نصه:
وذلك أن الغرر والجهالة كما يؤخذ مما مر ثلاثة أقسام، وقسم
__________
(1) الفروق 1 \ 15.(19/74)
أبو الوليد الغرر إلى ثلاثة أقسام: كثير وقليل ومتوسط، وجعل الكثير عبارة عن القسمين الأولين في هذا التقسيم، فقال في بداية المجتهد: الفقهاء متفقون على أن الغرر الكثير في المبيعات لا يجوز، وأن القليل يجوز، ويختلفون في أشياء من أنواع الغرر؛ لترددها بين الغرر الكثير والقليل. اهـ (1) .
وأما المذهب الشافعي فقد قال النووي: وأما النهي عن بيع الغرر فهو أصل عظيم من أصول كتاب البيوع، ولهذا قدمه مسلم، ويدخل في مسائل كثيرة غير منحصرة، كبيع الآبق والمعدوم والمجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وما لم يتم ملك البائع عليه، وبيع السمك في الماء الكثير، واللبن في الضرع، وبيع الحمل في البطن، وبيع بعض الصبرة مبهما، وبيع ثوب من أثواب، وشاة من شياه، ونظائر ذلك، كل هذا بيع باطل؛ لأنه غرر من غير حاجة، وقد يحتمل بعض الغرر بيعا إذا دعت إليه الحاجة، كالجهل بأساس الدار، وكما إذا باع الشاة الحامل والتي في ضرعها لبن فإنه يصح البيع؛ لأن الأساس تابع للظاهر من الدار، ولأن الحاجة تدعو إليه فإنه لا يمكن رؤيته، وكذا القول في حمل الشاة ولبنها، وكذلك أجمع المسلمون على جواز أشياء فيها غرر حقير منها: أنهم أجمعوا على صحة بيع الجبة المحشوة وإن لم ير حشوها، ولو بيع حشوها بانفراده لم يجز، وأجمعوا على جواز إجارة الدار والدابة ونحو ذلك شهرا، مع أن الشهر قد يكون ثلاثين يوما، وقد يكون تسعة وعشرين، وأجمعوا على جواز دخول الحمام بالأجرة مع اختلاف الناس في استعمالهم الماء وفي قدر مكثهم، وأجمعوا على جواز الشرب من السقاء بالعوض مع جهالة قدر المشروب واختلاف عادة الشاربين وعكس هذا، وأجمعوا على بطلان بيع الأجنة في
__________
(1) تهذيب الفروق 1 \ 170.(19/75)
البطون والطير في الهواء. قال العلماء: مدار البطلان بسبب الغرر والصحة مع وجوده ما ذكرناه، وهو أنه إن دعت الحاجة إلى ارتكاب الغرر ولا يمكن الاحتراز عنه إلا بمشقة - وكان الغرر حقيرا - جاز البيع، وإلا فلا، وما وقع في بعض مسائل الباب من اختلاف العلماء في صحة البيع فيها وفساده - كبيع الغائبة - مبني على هذه القاعدة، فبعضهم يرى أن الغرر حقير فيجعله كالمعدوم فيصح البيع، وبعضهم يراه ليس بحقير فيبطل البيع، والله أعلم (1) .
قال الخطابي على هذا الحديث: قال الشيخ أصل الغرر هو ما طوي عنك علمه وخفى عليك باطنه وسره، وهو مأخوذ من قولك: طويت الثوب على غره، أي: على كسره الأول، كل بيع كان المقصود منه مجهولا غير معلوم، ومعجوز عنه غير مقدور عليه فهو غرر، وذلك مثل أن يبيعه سمكا في الماء، أو طيرا في الهواء، أو لؤلؤا في البحر، أو عبدا آبقا، أو جملا شاردا، أو ثوبا في جراب لم يره ولم ينشره، أو طعاما في بيت لم يفتحه، أو ولد بهيمة لم يولد، أو ثمرة شجرة لم تثمر، ونحوها من الأمور التي لا تعلم ولا يدرى هل تكون أو لا، فإن البيع مفسوخ فيها. وإنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه البيوع تحصينا للأموال أن تضيع، وقطعا للخصومة والنزاع أن يقعا بين الناس فيها، وأبواب الغرر كثيرة، وجماعها ما دخل في المقصود منه الجهل (2) .
__________
(1) شرح النووي على مسلم 10 \ 156، 157.
(2) مختصر وشرح وتهذيب أبى داود 5 \ 47، 48.(19/76)
وأما الغرر عند الحنابلة، فقد قال موسى الحجاوي: الخامس - أي شروط البيع - أن يكون مقدورا على تسليمه، فلا يصح بيع آبق علم مكانه أو جهل ولو لقادر على تحصيله، وكذا جمل شارد وفرس غائر(19/76)
ونحوهما ولا نحل ولا طير في الهواء، يألف الطير الرجوع أو لا، ولا سمك في لجة ماء (1) .
وأما كلام بعض الفقهاء المعاصرين، فقال الصديق محمد الأمين الضرير: عقد التأمين من العقود الاحتمالية عند جمهرة رجال القانون؛ لأن المستأمن لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي أو يأخذ، فقد يدفع قسطا واحدا ثم تقع الكارثة فيستحق ما التزم المؤمن به، وقد لا تقع الكارثة مطلقا فيدفع جميع الأقساط ولا يأخذ شيئا ماديا، وكذلك المؤمن لا يستطيع أن يحدد ما يعطي أو يأخذ بالنسبة لكل عقد بمفرده، وإن كان يستطيع إلى حد كبير أن يعرف ما يأخذ وما يعطي بالنسبة لمجموع المستأمنين عن طريق الاستعانة بقواعد الإحصاء، وقد يحدث في حالات نادرة أن تطرأ ظروف غير متوقعة تؤدي إلى زيادة تحقق الخطر كزيادة نسبة الوفيات لحدوث وباء، أو زيادة نسبة الحريق في المحصول لحدوث الجفاف، فتضطر شركات التأمين في مثل هذه الأحوال لدفع مبالغ أكثر مما كانت تتوقع، والعقد الاحتمالي هو عقد الغرر، وقد ورد في الحديث الصحيح النهي عن بيع الغرر، وقاس الفقهاء عقود المعاوضات المالية على البيع. وعقد التأمين من عقود المعاوضات المالية فيؤثر فيه الغرر كما يؤثر في سائر عقود المعاوضات، وقد قسم الفقهاء الغرر بالنسبة لتأثيره في عقود المعاوضات المالية ثلاثة أقسام:
1 - غرر كثير، وهذا يؤثر في عقود المعاوضات فيفسدها إجماعا كبيع الطير في الهواء إلا ما دعت الضرورة إليه عادة.
2 - غرر يسير، وهذا لا تأثير له إجماعا كقطن الجبة وأساس الدار.
__________
(1) الإقناع 2 \ 64.(19/77)
3 - غرر متوسط وهذا مختلف فيه، فبعض الفقهاء يلحقه باليسير وبعضهم يلحقه بالكثير.
والغرر في التأمين ليس يسيرا قطعا فهو إما من الغرر الكثير أو المتوسط، وأرجح أنه من الغرر الكثير؛ لأن من أركان عقد التأمين التي لا يوجد بدونها " الخطر" والخطر هو حادثة محتملة لا تتوقف على إرادة أحد الطرفين، والتأمين لا يجوز إلا من حادث مستقبل غير محقق الوقوع، فالغرر عنصر ملازم لعقد التأمين، ومن الخصائص التي يتميز بها. وهذا يجعله من الغرر المنهي عنه.
يقول الباجي في المنتقى: نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر يقتضي فساده ومعنى بيع الغرر - والله أعلم - ما كثر فيه الغرر وغلب عليه حتى صار البيع يوصف ببيع الغرر، فهذا الذي لا خلاف في المنع منه.
وهذا الضابط ينطبق على عقد التأمين، وقد أورد الباجي في أثناء كلامه عن بيع الغرر مسألة توافق صورة من صور التأمين على الحياة تعرف في اصطلاح علماء القانون "بالتأمين لحال البقاء براتب عمري وهو أن يتعهد المؤمن بدفع إيراد لمدى الحياة نظير مبلغ متجمد يدفعه له المستأمن ". يقول الباجي (ومن دفع إلى رجل داره على أن ينفق عليه حياته، روى ابن المواز عن أشهب: لا أحب ذلك ولا أفسخه إن وقع. وقال أصبغ: هو حرام؛ لأن حياته مجهولة ويفسخ. وقال ابن القاسم عن مالك: لا يجوز إذا قال على أن ينفق عليه حياته، قال الصديق محمد الضرير: فهذه الصورة من صور التأمين غير جائزة عند هؤلاء الفقهاء لما فيها من غرر، ويفسخ العقد إن وقع إلا عند أشهب، فإنه لا يفسخ العقد مع منعه له ابتداء (1) .
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي 461 وما بعدها.(19/78)
وقد أجاب الأستاذ مصطفى الزرقا عن كون عقد التأمين فيه غرر بقوله: إن الغرر في اللغة العربية هو الخطر، والمراد به في هذا المقام الشرعي أن يكون أصل البيع الذي شرع طريقا لمعاوضة محدودة النتائج والبدلين، قائما على مخاطرة أشبه بالقمار والرهان بحيث تكون نتائجه ليست معاوضة محققة للطرفين، بل ربحا لواحد وخسارة لآخر بحسب المصادفة.
وبالنظر فيما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من البيوع تطبيقا لما نهى من الغرر يتضح لنا المقصود من الغرر في الحديث النبوي.
فقد نهى النبي - عليه السلام - تطبيقا لذلك عن بيع المضامين، وهي ما سوف ينتج من أصلاب فحول الإبل الأصيلة من أولاد.
ونهى عن بيع الملاقيح، وهي ما ستنتجه إناث الإبل الأصيلة من نتاج. ونهى أيضا عن ضربة القانص، وهي بيع ما ستخرجه شبكة الصياد البحري من السمك أو ما يقع في شبك الصياد البري من حيوان أو طير. . . ونهى أيضا عن بيع ضربة الغائص، وهي ما سيخرجه الغواص من لؤلؤ في غوصته المقبلة، ونهى أيضا عن بيع الثمار على الأشجار في بداية انعقادها قبل أن يبدو صلاحها وتأمن العاهة، وقال للسائل عنها: «أرأيت لو منع الله الثمرة فبم يستحل أحدكم مال أخيه (1) » تلك المناهي النبوية تطبيق للنهي عن الغرر وهي كما يرى من طبيعة واحدة تدل على نوع المقصود وقد قرر الفقهاء بناء على هذا النظر عدم انعقاد بيع الأشياء غير مقدورة التسليم، أي: التي لا يستطيع البائع فيها التنفيذ العيني بتسليم المبيع ذاته، ولو كانت معيبة بذاتها لا جهالة فيها عند العقد، كبيع طير في الهواء، أو سمكة في الماء لا يمكن أخذها إلا بصيد؛ لأن صيدها غير موثوق بإمكانه فيكون ذلك غررا، وإذا نظرنا أيضا إلى أن عنصر المغامرة والاحتمال والمخاطرة في حدوده الطبيعية، قلما تخلو منه أعمال الإنسان
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2199) ، صحيح مسلم المساقاة (1555) ، سنن الترمذي البيوع (1228) ، سنن النسائي البيوع (4526) ، سنن أبو داود البيوع (3371) ، سنن ابن ماجه التجارات (2217) ، مسند أحمد بن حنبل (3/250) ، موطأ مالك البيوع (1304) .(19/79)
وتصرفاته المشروعة باتفاق المذاهب.
فالتجارة والزراعة والكفالة وسائر الأعمال والتصرفات التي يبتغى من ورائها مكاسب حيوية هي معرضة للأخطار، وفاعلها مقدم على قدر من الغرر، والمغامرة لا تخلو منه طبيعة الأشياء، إذا نظر ذلك وتأملنا في أنواع التصرفات التي خصها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي تطبيقا للنهي عن الغرر، ومنها ما قد علل النبي - عليه السلام - نفسه نهيه عنه بالغرر، أدركنا أن الغرر المنهي عنه هو نوع فاحش متجاوز لحدود الطبيعة، بحيث يجعل العقد كالقمار المحض، اعتمادا على الحظ المجرد في خسارة واحد وربح آخر دون مقابل، فلا يصلح أن يكون أساسا يعتمد عليه في تصرفات اقتصادية كما في الأمثلة المتقدمة لأنها ترتكز على أسس موهومة.
فإذا طبقنا هذا المقياس على نظام التأمين وعقده وجدنا الفرق كبيرا، فعقد التأمين فيه معاوضة محققة النتيجة فور عقده حتى إني لأنتقد على القانونيين عدة من العقود الاحتمالية دون تحفظ، فالتأمين فيه عنصر احتمالي بالنسبة إلى المؤمن فقط، حيث يؤدي التعويض إلى المستأمن إن وقع الخطر المؤمن عنه، فإن لم يقع لا يؤدي شيئا، على أن هذا الاحتمال أيضا إنما هو بالنسبة إلى كل عقد تأمين على حده، لا بالنسبة إلى مجموع العقود التي يجريها المؤمن، ولا بالنسبة إلى نظام التأمين في ذاته؛ لأن النظام وكذا مجموع العقود يرتكزان على أساس إحصائي ينفي عنصر الاحتمال حتى بالنسبة للمؤمن عادة.
أما بالنسبة إلى المستأمن فإن الاحتمال فيه معدوم؛ ذلك لأن المعاوضة الحقيقية في التأمين بأقساط إنما هي بين القسط الذي يدفعه المستأمن وبين الأمان الذي يحصل عليه، وهذا الأمان حاصل للمستأمن بمجرد العقد دون توقف على الخطر المؤمن منه بعد ذلك؛ لأنه بهذا الأمان الذي حصل عليه واطمأن إليه لم يبق بالنسبة إليه فرق بين وقوع الخطر(19/80)
وعدمه، فإنه إن لم يقع الخطر ظلت أمواله وحقوقه ومصالحه سليمة، وإن وقع الخطر عليها أحياها التعويض، فوقوع الخطر وعدمه بالنسبة إليه سيان بعد عقد التأمين، وهذا ثمرة الأمان والاطمئنان الذي منحه إياها المؤمن نتيجة للعقد في مقابل القسط، وهنا المعاوضة الحقيقية على أن عنصر الاحتمال قد قبله الفقهاء في الكفالة ولو عظم، فقد نصوا على أن الإنسان لو قال لآخر: تعامل مع فلان وما يثبت لك عليه من حقوق فأنا كفيل به، صحت الكفالة هكذا، رغم الاحتمال في وجود الدين في المستقبل وجهالة مقداره؟ .
وصرحوا بصحة تعليقها على الخطر المحض في الشرط الملائم، كما لو قال الشخص لدائن: إن أفلس مدينك فلان أو مات في هذا الشهر مثلا أو إن سافر فأنا كفيله، فإن الكفالة تنعقد صحيحة ويلتزم بموجبها إن وقع الشرط.
فعلى فرض وجود غرر في عقد التأمين ليس هو من الغرر الممنوع شرعا، بل من النوع المقبول، فإن قيل: إن الأمان ليس مالا يقابل بعوض؟ قلنا: إن الأمان أعظم ثمرات الحياة، وهو الذي امتن الله به على قريش بقوله: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} (1) {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (2) وإن الإنسان يسعى ويكد ويكدح ويبذل أغلى الأثمان من ماله وراحته في سبيل الحصول على الأمان والاطمئنان لنفسه ولأسرته ولحقوقهم ولمستقبلهم، فأي دليل في الشرع يثبت أنه لا يجوز الحصول عليه لقاء مقابل؟ هذا تحكم في شرع الله.
وإننا نجد في بعض العقود القديمة المتفق بين جميع المذاهب الفقهية على شرعيتها ما يشهد لجواز بذل المال بطريق التعاقد بغية الاطمئنان والأمان على الأموال، ذلك هو عقد الاستئجار على الحراسة (3) .
__________
(1) سورة قريش الآية 3
(2) سورة قريش الآية 4
(3) أسبوع الفقه الإسلامي 401 وما بعدها.(19/81)
وأجاب الأستاذ أبو زهرة عن ذلك فقال:
ولقد قرر المانعون لعقد التأمين غير التعاوني أن فيه غررا، فمحل العقد فيه غير ثابت، وغير محقق الوجود، فيكون كبيع ما تخرجه شبكة الصائد وكبيع ما يكون في بطن الحيوان، ووجه المشابهة أن المبيع في هذه الصور غير معلوم محله، وغير مؤكد الوجود، بل الوجود فيه احتمالي، وكذلك التأمين غير التعاوني محل العقد غير ثابت، فما هو محل العقد؟ أهو المدفوع من المستأمن، أم المدفوع من الشركة المؤمنة، أم هما معا باعتبار أن ذلك العقد من الصرف، ولا يكون مخرجا إلا على ذلك النحو، ولا شك أن ما يدفعه المستأمن غير متعين، فقد يكون قليلا وقد يكون كثيرا، وقد يكون كل ما نص عليه في الاتفاق، وما تدفعه الشركة قد يكون قليلا وقد يكون كثيرا، وفي الكثير لا تدفع شيئا، بل ترد ما أخذت مضافا إليه بعض ما كسبت، فهل يكون كل ذلك خاليا من الغرر؟ .
ويقرر الأستاذ أن التفاوت في المبادلات لا يمنع الصحة، ونقول: إنه لا تفاوت هنا فقط، إنما هو الاحتمال وعدم التعيين، والاختلاف في قيم الأبدال في المعاوضات العادية لا احتمال فيها، وحيث كان الاحتمال فهو الغرر والقمار فليس ثمة بدل يتعين قليلا أو كثيرا، ولذلك قرر فقهاء القانون المدني أن عقد التأمين عقد محله احتمالي ولا مانع عندهم من جوازه، ولكن الأستاذ الجليل مصطفى الزرقا يقول: لا غرر مطلقا، بل لا احتمال في محل العقد، فإن كل العقد هو الأمان (1) .
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي 520 وما بعدها.(19/82)
ب - عقود التأمين فيها جهالة توجب التحريم.
وقبل ذكر كلام المحدثين في الاستدلال بذلك والمناقشة نذكر كلام الفقهاء في المصادر التي رجع إليها المانعون في استدلالهم على تحريم التأمين.(19/82)
لقد وردت أدلة في حكم بيع المجهول نذكر منها ما فيه كفاية، ثم نذكر كلام الفقهاء في حكم بيع المجهول.
أما الأدلة فمنها ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبستين وعن بيعتين، ونهى عن الملامسة والمنابذة في البيع، والملامسة لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقلبه إلا بذلك، والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه، وينبذ الآخر بثوبه ويكون ذلك بيعهما عن غير نظر ولا تراض (1) » الحديث. هذه رواية البخاري ومسلم إلا أن اللفظ للبخاري.
قال ابن الأثير: الملامسة والمنابذة قد مر تفسيرهما في الحديث ونزيدها هنا بيانا. قال: هو أن يقول إذا لمست ثوبي أو لمست ثوبك فقد وجب البيع، وقيل: هو أن يلمس المبيع من وراء ثوب ولا ينظر إليه، ثم يقع البيع عليه، وهذا هو بيع الغرر والمجهول.
وأما المنابذة فهي أن يقول أحد المتبايعين للآخر: إذا نبذت إلي الثوب ونبذته إليك فقد وجب البيع، وقيل: هو أن يقول: إذا نبذت إليك الحصاة فقد وجب البيع.
وقال الفقهاء نحو ذلك في الملامسة والمنابذة وهذا لفظهم.
قالوا الملامسة: أن يقول: مهما لمست ثوبي فهو مبيع منك، وهو باطل؛ لأنه تعليق وعدول عن الصيغة الشرعية، وقيل: معناه أن يجعل اللمس بالليل في ظلمة قاطعا للخيار، ويرجع ذلك إلى تعليق اللزوم وهو غير نافذ، قالوا: والمنابذة في معنى الملامسة، وقيل: معناه أن يتنابذ السلع وتكون معاطاة فلا ينعقد بها البيع عند الشافعي - رحمه الله - (2) .
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5820) ، سنن أبو داود الصوم (2417) ، سنن ابن ماجه اللباس (3559) ، مسند أحمد بن حنبل (3/6) .
(2) جامع الأصول 1 \ 24- 525.(19/83)
ومنها ما رواه البخاري ومسلم ومالك وغيرهم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن بيع حبل الحبلة (1) » ، وكان بيعا يبتاعه أهل الجاهلية، وكان الرجل يبتاع لحم الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في بطنها، هذه رواية الموطأ، وفي رواية البخاري ومسلم قال «كان أهل الجاهلية يبتاعون لحوم الجزور إلى حبل الحبلة (2) » ، وحبل الحبلة أن تنتج الناقة ما في بطنها ثم تحمل التي نتجت، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، وفي أخرى للبخاري نحوه وقال: ثم تنتج التي في بطنها، وفي أخرى له قال: «كانوا يبتاعون الجزور إلى حبل الحبلة فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه (3) » ، ثم فسره نافع: أن تنتج الناقة ما في بطنها.
قال ابن الأثير: " حبل الحبلة " مصدر سمي به المحمول كما سمي بالحمل، وإنما أدخلت عليه التاء للإشعار بمعنى الأنوثة فيه، وذلك أن معناه أن يبيع ما سوف يحمله الجنين الذي في بطن الناقة على تقدير أن يكون أنثى، وإنما نهى عنه؛ لأنه غرر، والحبل الأول يراد به ما في بطن النوق، والثاني حبل الذي في بطن النوق (4) .
وأما معنى المجهول في اللغة والاصطلاح، فقال أحمد بن فارس بن زكريا في مادة "جهل " الجيم والهاء واللام أصلان: أحدهما خلاف العلم. . . فالأول الجهل نقيض العلم، ويقال للمفازة التي لا علم بها مجهل (5) .
وقال الفيروز أبادي: " جهله " كسمعه جهلا وجهالة ضد علمه (6) .
وقال أيضا: والجهل نقيض العلم، جهله يجهله جهلا وجهالة، وجهل
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2143) ، صحيح مسلم البيوع (1514) ، سنن الترمذي البيوع (1229) ، سنن النسائي البيوع (4625) ، سنن أبو داود البيوع (3380) ، سنن ابن ماجه التجارات (2197) ، مسند أحمد بن حنبل (2/108) ، موطأ مالك البيوع (1357) .
(2) صحيح البخاري المناقب (3843) ، صحيح مسلم البيوع (1514) ، سنن الترمذي البيوع (1229) ، سنن النسائي البيوع (4625) ، سنن أبو داود البيوع (3380) ، سنن ابن ماجه التجارات (2197) ، مسند أحمد بن حنبل (2/144) ، موطأ مالك البيوع (1357) .
(3) صحيح البخاري السلم (2256) ، صحيح مسلم البيوع (1514) ، سنن الترمذي البيوع (1229) ، سنن النسائي البيوع (4625) ، سنن أبو داود البيوع (3380) ، سنن ابن ماجه التجارات (2197) ، مسند أحمد بن حنبل (2/144) ، موطأ مالك البيوع (1357) .
(4) جامع الأصول 1 \ 489- 490.
(5) معجم مقاييس اللغة 1 \ 489
(6) القاموس 3 \ 342.(19/84)
عليه أظهر الجهل كتجاهل وهو جاهل. . . والجهل على ثلاثة أضرب:
الأول: خلو النفس من العلم هذا هو الأصل وقد جعل بعض المتكلمين الجهل معنى مقتضيا للأفعال الخارجة عن النظام، كما جعل العلم معنى مقتضيا للأفعال الجارية على النظام.
الثاني: اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه.
الثالث: فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل، سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا أو فاسدا، كمن ترك الصلاة عمدا، وعلى ذلك قوله تعالى: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (1) فجعل فعل الهزو جهلا (2) .
وقال ابن منظور في مادة "جهل ": الجهل نقيض العلم، وقد جهله فلان جهلا وجهالة وجهل عليه وتجاهل أظهر الجهل، عن سيبويه. . .
والمعروف في كلام العرب جهلت الشيء إذا لم تعرفه (3) . انتهى المقصود.
__________
(1) سورة البقرة الآية 67
(2) بصائر ذوي التمييز \ 2 \ 405، 406.
(3) لسان العرب 13 \ 136، 137(19/85)
وأما كلام الفقهاء: فقد ذكر السمرقندي من البيوع الفاسدة هذا النوع، فقال: منها أن يكون المبيع مجهولا أو الثمن مجهولا جهالة توجب المنازعة؛ لأنها مانعة عن التسليم والتسلم، وبدونهما يكون البيع فاسدا؛ لأنه لا يفيد مقصوده، بيانه: إذا اشترى شاة من قطيع، أو اشترى أحد الأشياء الأربعة بكذا على أنه بالخيار بين أن يأخذ واحدا منها ويرد الباقي، أو اشترى أحد الأشياء الثلاثة، أو أحد الشيئين ولم يذكر فيه الخيار، فأما إذا ذكر الثلاثة أو الاثنين وشرط الخيار لنفسه بين أن يأخذ واحدا ويرد الباقي فهذا جائز(19/85)
استحسانا اعتبارا بشرط الخيار ثلاثة أيام.
وهل يشترط فيه ذكر مدة خيار الشرط، اختلف المشايخ فيه، والأصح أنه لا يشترط، وكذا إذا باع العبد بمائة شاة من هذا القطيع ونحوه، لا يجوز لجهالة الثمن.
فأما الجهالة التي لا تفضي إلى المنازعة فلا تمنع الجواز، فإنه إذا باع قفيزا من صبرة معينة بدراهم، أو باع هذا العدل من الثياب بكذا ولا يعرف عددها، أو باع هذه الصبرة بكذا ولا يعرف عدد القفزان جاز لما ذكرنا، وعلى هذا: إذا اشترى شيئا لم يره، بأن اشترى فرسا مجللا، أو جارية منتقبة، أو كرى حنطة في هذا البيت، أو عبدا تركيا في هذا البيت، فإنه يجوز إذا وجد كذلك وللمشتري الخيار، وعند الشافعي فاسد، ولو باع هذا العبد بقيمته فهو فاسد؛ لأن القيمة تعرف بالحزر والظن، وكذا لو اشترى عدلا زطيا أو جرابا هرويا بقيمته لما قلنا، ولو اشترى بحكم البائع أو المشتري أو بحكم فلان فهو فاسد؛ لأن الثمن مجهول، وكذلك لو اشترى شيئا بألف درهم إلا دينارا أو بمائة دينار إلا درهما؛ لأن معناه إلا قدر قيمة الدينار، وهذه جهالة مفضية إلى المنازعة. ولو باع وقال هو بالنسيئة كذا وبالنقد كذا فهو فاسد؛ لأن الثمن مجهول، وكذا لو قال بعت إلى أجل كذا أو كذا فهو فاسد؛ لأن الأجل مجهول، ولو باع إلى الحصاد والدياس أو إلى رجوع الحاج وقدومهم فالبيع فاسد لما ذكرنا، ولو باع عدلا زطيا برأس مال أو برقمه ولا يعلم المشتري رقمه ولا رأس ماله فهو فاسد؛ لأن الثمن مجهول ... (1) .
وقال القرافي: الفرق الثامن والمئتان بين قاعدة ما يمنع فيه الجهالة وبين قاعدة ما يشترط فيه الجهالة، بحيث لو فقدت فيه الجهالة فسد:
__________
(1) تحفة الفقهاء 2 \ 62 وما بعدها.(19/86)
أما ما تفسده الجهالة فهو البياعات كما تقدم، وكثير من الإجارات، ومن الإجارات قسم لا يجوز تعيين الزمان فيه، بل يترك مجهولا، وهو الأعمال في الأعيان كخياطة الثياب ونحوها، لا يجوز أن يعين زمان الخياطة بأن يقول له اليوم مثلا، فتفسد؛ لأن ذلك يوجب الغرر بتوقع تعذر العمل في ذلك اليوم، بل مصلحته ونفي الغرر عنه أن يبقى مطلقا، وكذلك الجعالة لا يجوز أن يكون العمل فيها محدودا معلوما؛ لأن ذلك يوجب الغرر في العمل بأن لا يجبر الآبق في ذلك الوقت ولا بذلك السفر المعلوم، بل نفي الغرر عن الجعالة بحصول الجهالة فيها، والجهالة في هذين القسمين شرط إن كانت في غيرهما مانعا، وههنا قاعدة شرعية تعرف بجمع الفرق، وهي أن يكون المعنى المناسب يناسب الإثبات والنفي أو يناسب الضدين، ويترتبان عليه في الشريعة وهو قليل في الفقه، فإن الوصف إذا ناسب حكما نافى ضده، أما اقتضاؤه لهما فبعيد كما تقدم بيانه في الجعالات والإجارات.
ومن ذلك أيضا الحجر يقتضي رد التصرفات وإطلاق التصرفات في حالة الحياة صونا لمال المحجور عليه على مصالحه، وتنفذ وصاياه صونا لماله على مصالحه؛ لأنا لو رددنا الوصايا لحصل المال للوارث ولم ينتفع به المحجور عليه، فصار المال على المصالح يقتضي تنفيذ التصرفات ورد التصرفات، وكذلك القرابة توجب البر بدفع المال، وتوجب المنع من دفع المال إذا كان زكاة، فيحرموا إياها وتعطى لغيرهم بسبب القرابة، وكذلك أقرباء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجب برهم بسد خلاتهم بالمال، ويحرم دفع المال إليهم إذا كان زكاة، فصار قربهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوجب دفع المال ومنع المال باعتبار مالين ونسبتين، وكذلك كل معنى يوجب مصلحة أو يفسده ويوجب نقيضها في محل آخر، وباعتبار نسبة آخرى، فإنه يوجب الضدين وهو ضابط جميع الفرق، وسمي بذلك؛ لأنه يجمع المفرقات وهي الأضداد، فكذلك الجهالة توجب الإخلال بمصالح العقود في البياعات وأكثر أنواع الإجارات فكانت مانعة، ووجودها يوجب تحصيل مصلحة عقد(19/87)
الجعالة حتى يبقى المجعول له على طلبه، فيجبر الآبق فلا يذهب عمله المتقدم مجانا، فإنا إذا قيدنا عليه العمل وقدرناه معلوما، فإذا فعل ذلك العمل المعلوم ولم يجد الآبق ذهب عمله مجانا فضاعت مصلحة العقد (1) .
وقال الغزالي في كلامه على شروط البيع قال: " الخامس العلم " وليكن المبيع معلوم العين والقدر والصفة؛ أما العين فالجهل به مبطل، ونعنى به أنه لو قال: بعت منك عبدا من العبيد أو شاة من القطيع بطل. ولو قال: بعت صاعا من هذه الصبرة، وكانت معلومة الصيعان صح، ونزل على الإشاعة وإن كانت مجهولة الصيعان لم يصح على اختيار القفال لتعذر الإشاعة ووجود الإبهام، وإبهام ممر الأرض المبيعة كإبهام نفس المبيع، وبيع بيت من دار دون حق الممر جائز على الأصح، أما القدر فالجهل به فيما في الذمة ثمنا أو مثمنا مبطل، كقوله بعت بزنة هذه الصنجة، ولو قال بعتك هذه الصبرة كل صاع بدرهم؛ صح وإن كانت مجهولة الصيعان؛ لأن تفصيل الثمن معلوم وإن لم يعلم جملته، والغرر ينتفي به، فإن كان معينا فالوزن غير مشروط، بل يكفي عيان صبرة الحنطة والدراهم، فإن كان تحتها دكة تمنع تخمين القدر فيخرج على قولي بيع الغائب لاستواء الغرر، وقطع بعض المحققين بالبطلان لعسر إثبات الخيار مع جريان الرؤية. أما الصفة ففي اشتراط معرفتها بالعيان قولان: اختار المزني الاشتراط، وأبطل البيع ما لم يره، ولعله أصح القولين. . . (2)
وقال ابن قدامة في التمثيل لمفهوم الشرط السادس من شروط البيع " الجهالة " قال:
__________
(1) الفروق 4 \ 12، 13.
(2) الوجيز 1 \ 81.(19/88)
ولا يجوز بيع الحمل في البطن، واللبن في الضرع، والمسك في الفأر، والنوى في الثمر، ولا الصوف على الظهر، وعنه يجوز بشرط جزه في الحال، ولا يجوز بيع الملامسة، وهو أن يقول: بعتك ثوبي هذا على أنك متى لمسته فهو عليك بكذا، أو يقول: أي ثوب لمسته فهو لك بكذا، ولا بيع المنابذة، وهو أن يقول: أي ثوب نبذته إلي فهو علي بكذا. . . (1) إلخ ما ذكره من الأمثلة.
وقد أجاب الأستاذ الزرقا عن هذا الدليل، فقال:
إن فقهاء الحنفية كانوا في قضية الجهالات التي تصاحب العقود عباقرة في تحليلهم الدقيق لطبيعة الجهالة وتمييزهم في آثارها بحسب أنواعها، فهم لا يحكمون ببطلان العقد وإفساده متى داخلته الجهالة مطلقا دون تمييز كما يفعل سواهم، بل يميزون بين جهالة تؤدي إلى مشكلة تمنع تنفيذ العقد وجهالة لا تأثير لها في التنفيذ، فالنوع الأول وهو الجهالة التي تمنع التنفيذ هو الذي يمنع صحة العقود، كما لو قال شخص لآخر " بعتك شيئا وأجرتك شيئا بكذا " ولم يعين الشيء، أو عينه ولكن لم يعين الثمن أو الأجرة، وقبل الآخر العقد بهذه الجهالة، وكذا لو باع شاة من قطيع تتفاوت آحاده، فهذا كله وأمثاله لا يصح؛ لأن هذه الجهالة تتساوى معها حجج الفريقين ويقع القاضي في مشكلة منها تمنع التنفيذ؛ لأن البائع والمؤجر يريدان تسليم الأدنى وأخذ الأعلى بحجة عدم التعيين، والمشتري والمستأجر يريدان أخذ الأعلى وإعطاء الأدنى بحجة عدم التعيين ذاتها أيضا، فالجهالة حجة متساوية للطرفين فتمنع التنفيذ، فتمنع صحة العقد.
أما الجهالة التي لا تؤدي إلى هذه النتيجة فلا تؤثر في العقد مهما عظمت، كما لو صالح شخص آخر على جميع الحقوق التي له عليه كافة
__________
(1) المقنع 2 \ 13، 14(19/89)
" ولا يعرفان مقدارها وأنواعها " لقاء بدل معين، فإن الصلح يصح وتسقط الحقوق، ذلك؛ لأن الجهالة فيها غير مانعة؛ لأن الحقوق في سقوطها لا تحتاج إلى تنفيذ، بخلاف بدل الصلح؛ لأنه يحتاج إلى تنفيذ فيجب معلوميته، وبخلاف ما لو صالحه على بعض حقوقه دون بيان هذا البعض فإن الصلح لا يصح؛ لأن الحقوق غير المصالح عنها باقية تحتاج إلى تنفيذ فيجب معرفتها.
هذه نظرية الحنفية في قضية الجهالة المصاحبة تكوين العقد، وعليها بنوا صحة الوكالة العامة خلافا للشافعية، كما بنوا صحة الكفالة بما سيثبت من الحقوق كما سبقت الإشارة إليه، وينطبق هذا المبدأ على أقساط التأمين على الحياة، نجد أن الجهالة فيها هي من النوع غير المانع كما هو واضح؛ لأن مبلغ كل قسط عند حلول ميعاده هو مبلغ معلوم، أما كمية الأقساط فهي التي فيها الجهالة، وهي لا تمنع التنفيذ مادام المؤمن قد تعهد بأن يدفع التعويض المتفق على دفعه عند وفاة المؤمن له إلى أسرته مثلا في أي وقت حصلت الوفاة ضمن المدة المحددة بالعقد، ومهما بلغ عدد الأقساط قلة أو كثرة، وذلك نظير ما قال الحنفية من صحة بيع محتويات صندوق مغلق دون معرفة أنواعها وكمياتها، فإنهم يرون أن هذه الجهالة رغم فحشها لا تمنع تنفيذ العقد وفقا لما اتفق عليه الطرفان؛ لأن البائع التزم بإرادته التنازل عن هذا المبيع مهما بلغ لقاء الثمن المعين، والمشتري قد قبله مهما بلغ أيضا، فكل منهما يمكن إلزامه بإرادته الواضحة (1) .
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي 406، 407.(19/90)
ج: قالوا: عقود التأمين من القمار والقمار ممنوع، فتكون عقود التأمين ممنوعة:
وقبل ذكر كلام المحدثين في هذا الدليل نذكر ما يستدل به من(19/90)
القرآن على تحريم القمار وبيان معناه، وأنه من الميسر الذي دلت النصوص على تحريمه.
أما ما يستدل به على تحريم القمار فقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (1) الآية. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2)
وأما معناه وبيان أنه من الميسر الذي دلت النصوص على تحريمه.
فقال ابن منظور في مادة "قمر": وقامر الرجل مقامرة وقمارا راهنه، وهو التفاخر والقمار والمقامرة، وتقامروا لعبوا القمار، وقميرك الذي يقامرك. عن ابن جني: وجمعه أقمار عنه أيضا، وهو شاذ كنصير وأنصار، وقد قمره يقمره قمرا، وفي حديث أبي هريرة من قال: تعال أقامرك فليتصدق بقدر ما أراد أن يجعله خطرا في القمار. الجوهري: قمرت الرجل أقمره بالكسر إذا لاعبته فيه فغلبته، وقامرته فقمرته أقمره بالضم إذا فاخرته فيه فغلبته، وتقمر الرجل غلب من يقامره (3) .
وقال ابن جرير: وأما الميسر فإنها المفعل من قول القائل: يسر لي هذا الأمر إذا وجب لي، فهو ييسر لي يسرا وميسرا، والياسر الواجب بقداح أوجبت ذلك أو مباحة أو غير ذلك، ثم قيل للمقامر ياسر ويسر، كما قال الشاعر:
فبت كأنني يسر غبين ... يقلب بعدما اختلج القداحا
كما قال النابغة:
أو ياسر ذهب القداح بعرفي ... أسف بآكله الصديق مخلع
__________
(1) سورة البقرة الآية 219
(2) سورة المائدة الآية 90
(3) لسان العرب 6 \ 427.(19/91)
يعنى بالياسر المقامر، وقيل للمقامر ميسر، وكان مجاهد يقول نحو ما قلنا في ذلك، ثم ساق - رحمه الله - جملة من الآثار عن مجاهد ومحمد بن سيرين وغيرهما أن القمار من الميسر (1) .
وقال القرطبي: الرابعة قوله تعالى: والميسر الميسر قمار العرب بالأزلام، قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ذهب بماله وأهله فنزلت الآية. وقال مجاهد ومحمد بن سيرين والحسن وابن المسيب وعطاء وقتادة ومعاوية بن صالح وطاووس وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وابن عباس أيضا: كل شيء فيه قمار من نرد وشطرنج فهو الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب، إلا ما أبيح من الرهان في الخيل والقرعة في إفراز الحقوق على ما يأتي. وقال مالك: الميسر ميسران؛ ميسر اللهو وميسر القمار، فمن ميسر اللهو النرد والشطرنج والملاهي كلها، وميسر القمار ما يتخاطر الناس عليه، قال علي بن أبي طالب: الشطرنج ميسر العجم، وكل ما قومر به فهو ميسر عند مالك وغيره من العلماء (2) .
وقال ابن كثير: وقال موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: الميسر هو القمار، وقال الضحاك عن ابن عباس قال: الميسر هو القمار، كانوا يتقامرون في الجاهلية إلى مجيء الإسلام، فنهاهم الله عن هذه الأخلاق القبيحة، وقال مالك عن داود بن الحصين إنه سمع سعيد بن المسيب يقول: كان ميسر العرب في الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين (3) .
__________
(1) تفسير ابن جرير 2 \ 208.
(2) تفسير القرطبي 3 \ 52- 53.
(3) تفسير ابن كثير 2 \ 91- 92.(19/92)
وفيما يلي كلام المحدثين في الاستدلال على تحريم التأمين لكونه قمارا:
قال الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية في رسالته "السوكرتاه ": عقد التأمين عقد فاسد شرعا، وذلك لأنه معلق على خطر، تارة يقع وتارة لا يقع، فهو قمار معنى- ص 24- ويقول الشيخ أحمد إبراهيم في التأمين على الحياة:
أما إذا مات المؤمن له قبل إيفاء جميع الأقساط وقد يموت بعد دفع قسط واحد فقط، وقد يكون الباقي مبلغا عظيما جدا؛ لأن مبلغ التأمين على الحياة موكول تقديره إلى طرفي العقد على ما هو معلوم، فإذا أدت الشركة المبلغ المتفق عليه كاملا لورثته أو لمن جعل له المؤمن ولاية قبض ما التزمت به الشركة بعد موته، ففي مقابل أي شيء دفعت الشركة هذا المبلغ؟ أليس هذا مخاطرة ومقامرة؟ وإذا لم يكن هذا من صميم المقامرة ففي أي شيء تكون المقامرة إذن، على أن المقامرة حاصلة أيضا من ناحية أخرى، فإن المؤمن له بعد أن يوفي جميع ما التزمه من الأقساط يكون له كذا، وإن مات قبل أن يوفيها كلها يكون لورثته كذا، أليس هذا قمارا ومخاطرة حيث لا علم له ولا للشركة بما سيكون من الأمر على التعيين (1) .
المناقشات لهذا الدليل:
المناقشة الأولى لمصطفى الزرقا:
قال: إن القمار لعب بالحظوظ ومقتلة للأخلاق العملية والفعالية الإنسانية، وقد وصفه القرآن الكريم بأنه حبالة من حبائل الشيطان، ووسيلة من وسائله، يوقع بها بين الناس- وهم المقامرون لاعبو الميسر- العداوة والبغضاء ويلهيهم بها عن ذكر الله وعن الصلاة فأين القمار الذي
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي 459.(19/93)
هو من أعظم الآفات الخلقية والأدواء الاجتماعية، وشلل للقدرة المنتجة في الإنسان في كل نواحي النتاج العلمي والاقتصادي، أين هذا من نظام يقوم على أساس ترميم الكوارث الواقعة على الإنسان في نفسه أو ماله في مجال نشاطه العملي، وذلك بطريق التعاون على تجزئة الكوارث وتفتيتها ثم توزيعها وتشتيتها.
ثم إن عقد التأمين يعطي المستأمن طمأنينة وأمانا من نتائج الأخطار الجائحة التي لولا التأمين من نتائجها إذا وقعت فإنها قد تذهب بكل ثروته أو قدرته فتكون حالقة ماحقة.
فأين هذا الأمان والاطمئنان لأحد المقامرين في ألعاب القمار التي هي بذاتها الكارثة الحالقة فهل يسوغ تشبيه الشيء بضده وإلحاقه بنقيضه؟ .
ومن جهة ثالثة عقد التأمين من قبيل المعاوضة وهذه المعاوضة مفيدة فائدة محققة للطرفين، ففيها من حيث النتائج النهائية ربح اكتسابي للمؤمن، وفيها أمان للمستأمن من قبل تحقق الخطر وتعويضه بعد تحقيقه. فأين هذه المعاوضة في القمار؟ وما هي الفائدة التي عادت على الخاسر فيه من ربح الفائز؟ .
فالقمار ليس عامل التحريم الشرعي فيه عاملا اقتصاديا فقط حتى يوازن المانعون بينه وبين التأمين من حيث العوض المالي والعنصر الاحتمالي فقط، وإنما العامل في تحريم القمار شرعا هو عامل خلقي واجتماعي في الدرجة الأولى كما أشار إليه القرآن نفسه (1) .
وأجاب الأستاذ أبو زهرة على مناقضة الأستاذ مصطفى الزرقا: لقد أثار بعض العلماء شبهة في عقد التأمين غير التعاوني وهو أن فيه قمارا وكسبا بالباطل، فالشخص قد يدفع عشرين فيكسب مائة، وقد يدفع
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي 398- 399.(19/94)
مائة ويسترد مائة، وأن الشركة قد تخسر مائتين وقد تكسب من مستأمن واحد ألفا، وأن ما يأخذه المستأمن أو ورثته أخذ بغير حق، ولاشيء في عقد التأمين يعد محقق الأخذ والعطاء، وأنه بهذا إن لم يكن مقامرا ففيه معنى القمار أو شبهته، ولكن الأستاذ مصطفى ينفي هذا التشابه نفيا باتا؛ لأن القمار لعب وهذا جد، ولأن القمار يؤدي إلى البغضاء ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذا ليس فيه شيء من ذلك، ويرده بأن هذا عقد فيه التزامات متبادلة وليس القمار فيه هذا المعنى.
وبالحق إن الذين شبهوه بالقمار قد لاحظوا عنصر المخاطرة، وعدم التناسق بين المكسب والخسارة، وعدم التقابل العادل في حال الكسب، وادعاء أن القمار دائما لعب - غريب؛ لأن العرب كانوا يستقسمون بالأزلام فيحكمونها في القسمة، ويعتبرون القسمة بها عادلة، وقد نهى الله عنها في قوله تعالى {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} (1) واعتبر ذلك في المحرمات مع الخمر إذ قال سبحانه: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (2) وهذا بلا ريب من أنواع القمار فليس كل قمار لعبا.
وأما الفرق الثاني وهو أن عقود التأمين ليس فيها صد عن ذكر الله وعن الصلاة وليس فيها إيغار للحقد والحسد والبغضاء، فنقول: إن هذه حكم وأوصاف مناسبة، وليست علة يسير معها الحكم طردا أو عكسا، بحيث يكون إن وجدت ويكون الحل إن لم تكن، ومن الذين يشربون الخمر من تبدو مودتهم وعطفهم فهل يمنع التحريم بالنسبة لهم؟
وأن كون عقد التأمين عقد معاوضة لا يمنع منه معنى القمار، بل إننا نقول إنه غير متعين أن يكون عقد معاوضة؛ لأن البدلين غير ثابتين، ولا يوجد محل عقد متعين يكون أحد البدلين، بل هو غير متعين، وأي معاوضة بين من يدفع عشرين فيأخذ مائتين، ثم أليس هذا ربا، وهذا
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة المائدة الآية 90(19/95)
ما نراه فيما قرره الأستاذ مزيلا للشبهة، بل نرى أن مع القمار ربا مؤكدا، في حال ما إذا مات المستأمن قبل المدة؛ لأنه يدفع نقدا قليلا ويأخذ بدله نقدا كثيرا، وهذا بلا ريب ربا أو معاملة لم يحلها أحد من الأئمة. اهـ (1) .
وقد علق الأستاذ مصطفى الزرقا على ذلك فقال: كرر الأستاذ أبو زهرة ما يقال من أن التأمين على الحياة ينطوي على عملية قمار، وأوضح ذلك بأن العقود تقوم عادة على المساواة بين ما يؤخذ وما يعطى. أما في التأمين على الحياة فإن التعويض الذي يؤخذ من شركة التأمين حال الوفاة يكون أعظم كثيرا من مجموع الأقساط المدفوعة، فهذا التفاوت في العوضين يجعل التأمين على الحياة من قبيل القمار.
وجوابنا على ذلك أقول: إن المساواة في الأبدال ليست واجبة فقها إلا في حالتين:
الحالة الأولى: ضمان المتلفات، فهذه يجب فيها التعادل المطلق بقدر الإمكان، ففي الأموال المثلية يضمن الشيء بمثله؛ لأن المثل يخلف الأصل صورة ومعنى، وفي القيميات يضمن الشيء بقيمته، وهي سعره الذي يساويه في السوق بين الناس؛ لأن القيمة عند عدم المثل تعتبر خلفا للأصل معنى، وإن لم تخلفه صورة، كما هو معروف في علم أصول الفقه.
الحالة الثانية: عقود المعاوضات في الأموال الربوية إذا قوبلت بجنسها كالقرض والصرف.
وفقهاؤنا يقسمون الأشياء التي يتناولها الضمان إلى نوعين: أشياء مضمونة بذواتها كالمتلفات، وهذه يجب فيها التساوي، فيضمن الشيء منها بمثله أو قيمته، وأشياء مضمونة بغيرها كالمبيع في عقد البيع، فالمبيع مضمون على المشتري بالثمن لا بالقيمة، والثمن هو العوض المتفق عليه
__________
(1) عقد التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه.(19/96)
بالتراضي في عقد البيع، سواء أكان قليلا أم كثيرا، فللإنسان أن يبيع الشيء النفيس الثمين بالثمن البخس وبالعكس؛ لأن الأساس في التقويم هنا إنما هو الإرادة، هذا مع ملاحظة أن البيع لا ينطوي على أية فكرة تعاونية، بل هو معاوضة تجارية بحتة، ومع ذلك جاز فيه شرعا هذا التفاوت بين العوضين في القيمة ما دام الأساس في التقويم فيه إنما هو الإرادة.
فعقد التأمين على الحياة كذلك أساس الالتزام فيه بتقدير التعويض إنما هو الإرادة، وليس كضمان المتلفات، فلا يجب فيه التعادل ولا سيما أنه عقد من نوع جديد قائم على أساس ونظام تسايرت واندمجت فيهما فكرتا المعاونة والمعاوضة، فهو أولى من البيع بقبول التفاوت وعدم التساوي فيه بين ما يؤخذ وما يعطى فأين هذا من القمار؟ (1) .
قد يقال: إن تعليق الأستاذ مصطفى الزرقا على كلام الأستاذ أبي زهرة - رحمه الله - يحمل رده في طيه، فإنه ذكر لوجوب المساواة بين البدلين في المعاوضات حالتين، وذكر أن الثانية منهما عقود المعاوضات الربوية إذا قوبلت بجنسها، ومن المعروف أن العوضين في عقود التأمين - حسب واقعه - من الأموال الربوية، فوجب أن يتساويا عند وحدة الجنس، وأن تكون المعاوضة يدا بيد، ولم يتحقق ذلك في عقود التأمين، بل تفاوت العوضان، وعجل أحدهما وأخر الآخر، فلزم أن تكون عقود التأمين ربوية مع ما فيها من الخطر والمقامرة.
ويمكن أن يجاب عن شبهة وجود الربا في عمليات التأمين بأن عمليات التأمين ليست نقودا بنقود، وإنما هي بيع وشراء، فالمؤمن له يشتري الأمان من المؤمن بما يدفعه له من أقساط، والمؤمن يعطيه الأمان، فإذا وقع ما يخل بالأمان اتجه الضمان على ذلك، فدفع المؤمن للمؤمن له ما يقابل ما ضمنه له من أمان عجز عن تحقيقه له.
__________
(1) عقد التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه \ 104- 106(19/97)
ونوقش ذلك بأن المعاوضة في التأمين تقع بين ما يدفعه المؤمن من الأقساط مقدما ومبلغ التأمين الذي تعهد المؤمن بدفعه للمؤمن له أو عنه أو للمستفيد، ثم نشأ عن ذلك ما سمي أمانا، وليس فيه بيع ولا شراء لأمان.(19/98)
المناقشة الثانية:
للصديق محمد الأمين الضرير قال: والواقع أنه ليس من اليسير اعتبار التأمين من القمار، فإن القمار في الأصل هو الرهان على اللعب بشيء من الآلات المعدة له، ومنه الميسر الذي حرمه الله في القرآن {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) يقول أبو حيان في تفسيره: الميسر قمار أهل الجاهلية، فقد كان عرب الجاهلية يطلقون لفظة الميسر غالبا على المقامرة بالأقداح لاقتسام الجزور، فكلمة القمار في الأصل أعم من كلمة الميسر، ولكن الفقهاء أطلقوا الميسر على جميع ضروب القمار.
وعن ابن سيرين ومجاهد وعطاء كل شيء فيه خطر- وهو ما يأخذه الغالب في النضال والرهان ونحوهما - فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز.
وذكر صاحب البحر الزخار ضابطا للقمار عند كلامه على السبق هو أن يكون كل من المتسابقين غانما أو غارما نحو- إن سبقتني فلك عشرة وإلا فهي لي عليك -.
والقانون يحرم المقامرة في حين أنه يجيز عقد التأمين ولا يعتبره من القمار.
ويفرق شراح القانون بين التأمين والمقامرة بأن التأمين يقوم على التعاون بين المستأمنين، ذلك التعاون الذي يؤدي إلى توزيع بين أكبر
__________
(1) سورة المائدة الآية 90(19/98)
عدد ممكن من الأفراد بدلا من أن يقع عبء الكارثة على فرد واحد.
ويؤدي أيضا إلى كفالة الأمان للمستأمن والمؤمن معا، فالمستأمن واثق من الحصول على ما التزم المؤمن بأدائه، والمؤمن واثق أيضا من وفاء ما التزم به؛ لأن التعويض سيدفع من الرصيد المشترك الذي تعاون المستأمنون على جمعه لا من مال المؤمن الخاص، وهذا الأمان هو الغاية الأساسية التي يسعى إليها كل مستأمن.
فالشخص الذي يؤمن على حياته أو يؤمن على ماله ضد الحريق - مثلا - إنما يفعل ذلك بغرض التحصين عن خطر محتمل لا يقوى على تحمله وحده، وهذه المعاني غير موجودة في المقامرة، فإن المقامر لا يتحصن من خطر وإنما يوقع نفسه في الخطر، وهو عرضة لأن يفقد ماله جريا وراء ربح غير محقق بطبيعته موكول للحظ.
وعلى هذا فلست أرى ما يبرر قياس التأمين على المقامرة قياسا صحيحا، فالتأمين جد والمقامرة لعب، والتأمين يعتمد على أسس علمية، والمقامرة تعتمد على الحظ، وفي التأمين ابتعاد عن المخاطر وكفالة للأمان واحتياط للمستقبل، وفي المقامرة خلق للمخاطر، وابتعاد عن الأمان، وتعرض لمتاعب المستقبل، فكيف يستويان؟ (1) .
ويمكن أن يجاب عن هذه المناقشة بما يأتي:
أولا- ما ذكره من أن الميسر أخص من القمار، وأن الفقهاء هم الذين أطلقوا الميسر على جميع ضروب القمار- مردود بما تقدم من المنقول عن الصحابة والتابعين من أن كل قمار ميسر، وأن الميسر القمار كله. . . . . إلخ.
ثانيا- ما ذكره من أن القانون يحرم المقامرة في حين أنه يجيز عقد التأمين ولا يعتبره قمارا، وأن شراح القانون يفرقون بين التأمين والمقامرة. . إلخ
__________
(1) الأسبوع \ 459- 461.(19/99)
- مردود بأن رجال القانون والتأمين ليسوا مرجعا في بيان الأحكام الشرعية، ومجرد تسميتهم التأمين تعاونا لا يكسبه معنى التعاون شرعا، بل يرجع في ذلك إلى واقع نظام التأمين وعقوده وتلحق بقاعدتها، ونظيرها عند فقهاء الشريعة اسما وحكما، وبالرجوع إلى واقعة يتبين أنها من العقود المالية التجارية.
ثالثا - ما ذكره من الفروق بين القمار والتأمين تقدم جوابه في كلام الأستاذ أبي زهرة.(19/100)
المناقشة الثالثة: للأستاذ أحمد محمد دانش.
قال: هذا الاعتراض لا يقول به إلا من يجهل التأمين جهلا تاما، فالتأمين لا يسمى تأمينا إذا لم يتم بين فردين، والتأمين قائم أساسا على نظرية الأعداد الكبيرة أو على نظرية التعاون بين أفراد كثيرين، والأصل في التأمين أن لا يربح المتعاقد من عملية التأمين، ولكنه يحفظ بها ماله على نفسه.
كل هذه الأسس تتعارض تماما مع الأسس التي يقوم عليها الميسر أو المقامرة، ففي الميسر يخلق الإنسان الفرصة التي يتحقق بها المكسب أو الخسارة خلقا، فهو مثلا يقذف بلية أو كرة في صحن دائري مرقم، والرقم الذي تقف عليه الكرة هو الرقم الكاسب وباقي الأرقام تعتبر خاسرة، ويدخل المقامر فيضع بعض ماله على رقم من هذه الأرقام معتمدا على الصدفة أو الحظ، فإن وقفت الكرة على الرقم الذي اختاره، كسب، وإلا فهو من الخاسرين، ويأتي بمجموعة من الورق المرقم متحد في الشكل مختلف في اللون والرقم كورق "الكوتشينه " ويقامر ببعض ماله على الورقة التي يسحبها من هذه المجموعة ذات لون معين أو رقم محدد، فإن جاء اللون الذي عينه أو الرقم الذي حدده فقد كسب وإلا فهو من الخاسرين(19/100)
هذا هو أساس المقامرة أن تخلق الصدفة خلقا وأن تعرض نفسك ومالك لحكم هذه الصدفة التي تخلقها، ورائدك أن تخلق ربحا وأنت في الغالب من الخاسرين، والميسر كما ترى فيه منفعة، ولكن فيه إثم، وإثمه أكبر من نفعه، وهو رجس من عمل الشيطان يجب اجتنابه والبعد عنه. أما التأمين فعلى العكس من ذلك، إذ أن الضرر الذي نخشاه واقع لا محالة، فالمشاهد - مثلا - أنه ما من سنة مرت بدون خسارة لحقت بعض الناس من حريق منازلهم أو محاصيلهم أو متاجرهم، والذي لا نعلمه؛ لأنه في ضمير الغيب هو من الذي سيصيبه الضرر، فإن تركت الأمور تجري في أعنتها بدون أن تعقلها، فإنك سوف لا تبيتن خالي البال، أما إن عقلتها وذلك بتعاونك مع زملائك من أصحاب المنازل والمحاصيل والمتاجر، وسلحت نفسك بعقد التأمين فتوكل على الله فسوف لا يصيبك الضرر حتى ولو حل بالمنزل الذي تملكه أو المتجر الذي تديره، فعقد التأمين لا يمنع ولا يرد القضاء، ولكنه يحقق اللطف وهو الوسيلة التي يتحقق بها الإنسان من إجابة دعائه عندما يدعو "اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه " والرجل الذي يكسب عيشه بنفسه وكده واجتهاده، يرى أنه لو مات فإنه يترك وراءه ذرية ضعافا، وأن الخير فيما قاله الرسول - صلوات الله عليه - «إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس (1) » والسبيل إلى ذلك هو الادخار عن طريق التأمين؛ لأن الادخار وحده قد لا يكفي إذا كان حبل الأجل قصيرا لتكوين المال اللازم لوقايتهم شر السؤال، وإنما الذي يكفي هو الادخار مع التعاون بين القادرين.
وعقد التأمين على الحياة هو العقد الوحيد الذي يجمع بين هاتين الصفتين، وهو ليس قمارا إذا أخذ الورثة المبلغ المؤمن قبل انتهاء المدة وإنما هو تعاون، والشخص لا يقامر بحياته ليأخذ ورثته المبلغ المؤمن، ولكنه في الحقيقة يدخره قرشا قرشا لو امتد به الأجل كما رأينا في المثل الذي ضربناه سابقا.
__________
(1) صحيح البخاري الوصايا (2742) ، صحيح مسلم الوصية (1628) ، سنن الترمذي الوصايا (2116) ، سنن النسائي الوصايا (3628) ، سنن أبو داود الوصايا (2864) ، مسند أحمد بن حنبل (1/176) ، موطأ مالك الأقضية (1495) ، سنن الدارمي الوصايا (3196) .(19/101)
ثم هو يتعاون مع زملائه بمبلغ آخر يكفي إذا ما ضم إلى ما يدفعه الآخرون لتكملة ما تركه الذين سبق إليهم حكم القدر.
ويمكن أن يجاب عن هذه المناقشة بما يأتي:
أولا- إن تحريم عقود التأمين مبني على أنها عقود معاوضة تجارية فيها مخاطرة لا على مجرد تسميتها عقود تأمين، ولا على قلة عدد الأطراف المتعاقدين أو كثرتهم، وقيام التأمين أساسا على نظرية الأعداد الكبيرة والأفراد الكثيرة، وأن لا يربح المتعاقد من عملية التأمين، بل يراعى أن يكون الربح أصالة لشركات التأمين وقيام التأمين على هذا من التعسف في وضع نظامه، والاحتياط بالشروط للاستئثار باتخاذه طريقا للتجارة والربح دون المؤمن له، وهذا الاحتياط لا يدفع ما في عقود التأمين من المخاطرة والمقامرة، بل جمع إلى ذلك آفة أخلاقية هي الأثرة الممقوتة في المعاوضات المالية.
ثانيا- ما ذكر في المناقشة من أن في التأمين تعاونا على بعث الطمأنينة وتحمل الأخطار، مردود بأن القصد الأول في عقود التأمين إلى المعاوضة التجارية للكسب، وقد يتم التعاون تبعا، وليس كل عقود المعاوضة تضمنت منفعة أو تعاونا مشروعة، بل قد يكون فيها من الخطر والإثم ما يطغى على ما فيها من التعاون والنفع كما في عقود التأمين.
ثالثا - ما ذكر في المناقشة من أمثلة للقمار إنما هو بيان لأنواع منه، وليس الميسر والقمار قاصرا على ذلك، بل يعم كل ما فيه مخاطرة.
رابعا - ما ذكر في المناقشة من الحث على الاحتياط لمن قد يخلفه من بعده من ورثة ضعفاء والاستدلال على هذا بحديث: «إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس (1) » - فهو مما جاءت به الشريعة، ولا نزاع فيه بين المسلمين، ولكن ينبغي له أن يجتهد لهم فيما
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3936) ، صحيح مسلم الوصية (1628) ، سنن الترمذي الوصايا (2116) ، سنن النسائي الوصايا (3628) ، سنن أبو داود الوصايا (2864) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2708) ، مسند أحمد بن حنبل (1/176) ، موطأ مالك الأقضية (1495) ، سنن الدارمي الوصايا (3196) .(19/102)
ينفعهم به في حياته وبعد مماته من طرق مشروعة وليس منها التأمين المعروف، وطرق الكسب الحلال كثيرة متنوعة لا يحتاج الإنسان معها إلى الارتكاس في عقود التأمين.(19/103)
المناقشة الرابعة للشيخ الحجوي:
قال: وأما من زعم من علماء الوقت أن ضمان المال "السكرتاه " من الميسر والقمار المحرم بنص القرآن فهو خروج عن محل الاستنباط المعقول، فإن في المعنى المراد من لفظ الميسر اختلافا بين أهل العلم حتى قال ابن العربي في الأحكام في سورة البقرة: ما كنا نشتغل به بعد أن حرمه الله، فما حرم الله فعله وجهلناه حمدنا الله عليه وشكرناه هـ[عدد 63 ج 1] ، وإذا كان ابن العربي يجهله ولم يحقق ما هو كان مجملا، والمجمل لا تقوم به حجة كما هو مقرر في الأصول.
كيف نلحق الضمان بأمر مجهول وهو الميسر، وقد حكى ابن الجصاص وغيره أقوالا في تفسيره فسقط الاستدلال بآية الميسر. ولم يقم له بها حجة لا لإجمالها على أن القمار أو الخطار أو الميسر الذي هو محرم بإجماع ولا يختلف فيه اثنان هو أن ينزل هذا مائة وهذا مائة ويلعبان لعبا فمن غلب أخذ جميع المائتين، كما عند الزرقا في شرح الموطأ عدد [326 ج 2] ومثله للحافظ في فتح الباري، فانظره.
ومن ذلك خطار أبي بكر مع أبي بن خلف لما نزل قوله تعالى {الم} (1) {غُلِبَتِ الرُّومُ} (2) {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} (3) وكان ذلك قبل تحريمه، انظر الكشاف وحديثه في الترمذي حسن صحيح غريب بألفاظ مختلفة، وما أبعد هذه الصورة من صورة الضمان بعد السماء من الأرض، والفروق بينهما أظهر من أن تبين فكيف تقاس إحداهما على الأخرى. انتهى (4) .
__________
(1) سورة الروم الآية 1
(2) سورة الروم الآية 2
(3) سورة الروم الآية 3
(4) الفكر السامي، ص 311 وما بعدها.(19/103)
ويمكن أن يجاب عن هذه المناقشة بأنه ليس كل اختلاف في تفسير آية أو حديث يقتضي الإجمال في ذلك، فقد يكون اختلاف تنوع أو اختلافا في التعبير، وما ذكر في تفسير الآية من الأقوال بعضه من الاختلاف في التعبير، وبعضه من اختلاف التنوع فلا يوجب إجمالا في الآية، وعلى هذا يكون الاستدلال بالآية قائما. ومعنى جهل ابن العربي للميسر عدم معرفته باللعب به عمليا لقوله: "ما كنا نشتغل به بعد أن حرمه الله " لا عدم معرفته بتفسيره وبيان معناه لغة وشرعا.(19/104)
د - قالوا التأمين يتضمن ربا النساء والفضل وكل منهما ممنوع.
وبيانه أن ما تدفعه شركة التأمين للمستأمن أو لورثته عند حصول الخطر المحدد في العقد له ثلاث حالات: إما أن يكون أقل أو أكثر مما دفعه المستأمن، أو يكون مساويا له وفي كل ذلك يكون دفع الشركة لصاحب الحق واقعا بعد دفعه أقساط التأمين بفترة هي في الحقيقة مجهولة النهاية عند العقد، فهو ربا فضل من جهة ما إذا دفعت الشركة للمستأمن أو لورثته أو للمستفيد أكثر مما دفعه لها، ونسيئة بالنظر إلى أن وقت الدفع مؤجل، فهو في الحقيقة بيع دراهم بدراهم مثلا إلى أجل، فتبين أن في حالة التساوي يكون فيه ربا النساء، وفي حالة الزيادة يكون فيه ربا الفضل والنساء، وكل منهما محرم بانفراده فكيف إذا اجتمعا. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى شركات التأمين تستثمر احتياطي أموالها بطريق الربا، وأن المستأمن في التأمين على الحياة إذا بقي حيا بعد انقضاء المدة المحددة بالعقد يسترد الأقساط التي دفعها مع فائدة التأمين، وهذا محرم شرعا (1)
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي 406- 420. وعقد التأمين 51، 52(19/104)
وأجاب الأستاذ الزرقاء عن ذلك قائلا: إننا إنما نتكلم في التأمين من حيث هو نظام قانوني، ولا نتكلم فيما تقوم به الشركات من أعمال وعقود أخرى مشروعة أو ممنوعة، كما أن أخذ المستأمن في التأمين على الحياة فائدة ربوية علاوة على مبلغ الأقساط التي يستفيدها إذا ظل حيا بعد المدة في العقد، ليس من ضرورة التأمين على الحياة ولوازمه من حيث كونه نظاما تأمينيا، بل هذا شرط يشرط في العقد يمكن الحكم عليه وحده دون الحكم على نظام التأمين في ذاته، وهنا يجب الانتباه إلى نقطة عظيمة الأهمية في هذا البحث وهي أننا إذا وجدنا أن قواعد الشريعة ونصوصها لا تقتضي منع التأمين، فإنما نحكم بصحته من حيث كونه نظاما يؤدي بمقتضى فكرته الأصلية وطريقته الفنية إلى مصلحة مشروعة، ولا نحكم شرعا بصحة كل شرط يشرطه العاقدان فيه ربا ولو سوغه القانون.
وحكمنا بالمشروعية على النظام في ذاته ليس معناه إقرار جميع الأساليب التعاملية والاقتصادية التي تلجأ إليها شركات التأمين، ولا إقرار جميع ما يتعارف بعض الناس في بعض الدول أو الأماكن من التأمين فيه، بل إن نظام التأمين في ذاته إذا كان صحيحا شرعا فإن كل شرط يشرطه في عقده بعد ذلك وكل أسلوب تتعامل به شركات التأمين هو أمر منفصل عن الحكم بصحة النظام في ذاته، وخاضع لمقاييس الشريعة في الشروط العقدية والمحل العقدي، فقد يحكم على عقد التأمين بعدم صحة شرط غير مقبول شرعا ورد فيه كما أباحت الشريعة البيع والإجارة وسائر العقود المشروعة في ذاتها، وفي الوقت نفسه يمنع فيها بعض شروط يشرطها العاقدان منافية لقواعد الشريعة، وقد تبطل الشروط هذه العقود، وليس معنى ذلك أن العقد في ذاته غير مشروع، ففي بعض الدول اليوم تقوم شركات التأمين على تأمين الأشخاص المرشحين للانتخابات العامة من فشلهم في تلك الانتخابات للكراسي النيابية أو البلدية ونحوها، وقواعد الشريعة(19/105)
تأبى مثل هذا الموضوع وليس من ضرورة قبول نظام التأمين شرعا قبول مثل هذه الحالات (1) .
وجواب آخر: على أي أساس يبنى هذا الاعتراض؟ الواقع من الأمر أن قسط التأمين على الحياة يتكون من جزئين:
1 -جزء يغطي الضرر المادي الذي يقع على الورثة عند وفاة عائلهم، وهذا الجزء أو هذا النوع من التغطية صورة طبق الأصل لما سبق شرحه من أنواع التأمين الأخرى - أي أنه للتعاون بين الأعضاء وهو مباح كما سبق لنا القول.
2 - والجزء الثاني يدخر ويتجمع باستمرار مدة العقد لكي يسلم للعضو إذا كان على قيد الحياة في آخر مدة التعاقد، فإذا لم يستمر هذا الجزء، وهو ممكن طبعا ورأينا حبسه في الخزائن حتى يحين موعد تسليمه، فإن عملية التأمين تصبح عملية ادخار محض مضافا إليها عملية تعاون، وأعتقد أنه لا اعتراض مطلقا لأحد على ذلك؛ لأنه ليس هناك استثمار أو فائدة أو ربا أو شبه الربا، وبذلك يكون العقد على هذه الصورة مباحا وحلالا. انتهى المقصود (2) .
ويمكن أن يناقش جواب الأستاذ مصطفى الزرقا بما يأتي:
أولا - أنه تسليم بتحريم عقود التأمين التي اشترط فيها الربا.
ثانيا - أنه على تقدير الدخول على إسقاط شرط نسبة ربوية على مبلغ التأمين لا يمكن التخلص مما في التأمين من ربا النساء في أي حال، ولا من ربا الفضل عند تفاوت العوضين؛ لأن تأجيل مبلغ التأمين أو عوض الخطر أصيل في التعاقد، وتماثل العوضين مشكوك فيه للجهالة بما يئول
__________
(1) رجل التأمين 297 وما بعدها.
(2) أسبوع الفقه الإسلامي، 406.(19/106)
إليه الأمر في المستقبل، والشك في التماثل كتحقق التفاضل، فيتبين أنه لا يتأتى التخلص من الربا في عقود التأمين إلا بالقضاء على التأمين المعروف واجتثاثه من أصوله.
ويمكن أن يناقش الجواب الآخر بأن تكون قسط التأمين من جزأين جزء يغطي الضرر والآخر يدخر لا أثر له في الحكم بحل أو بحرمه، فإن الحكم بذلك مبني على ما في عقود التأمين من ربا الفضل والنساء، لا على تجزئة المبلغ وتوزيعه إلى جهات نفع أو ضر، فمآلها وتوظيفها بعد استحقاقها أو الحصول عليها له حكم آخر.(19/107)
هـ- قالوا: التأمين من قبيل الرهان، والرهان ممنوع شرعا إلا في صور معينة مستثناة ليس منها عقد التأمين.
وفيما يلي بيان معنى الرهان، ودليل حكمه شرعا، ثم كلام بعض العلماء على الأدلة، ثم بيان وجه كون التأمين رهانا مع مناقشة ذلك.
أما معنى الرهان فقال فيه ابن منطور نقلا عن ابن الأعرابي: والرهان والمراهنة المخاطرة، وقد راهنه وهم يتراهنون وأرهنوا بينهم خطرا بدلوا منه ما يرضى به القوم بالغا ما بلغ فيكون لهم سبقا، وراهنت فلانا على كذا مراهنة خاطرته.
وأما دليل حكم الرهان من الشرع ففي المسند لأحمد من حديث أنس - رضي الله عنه - أنه قيل له: «أكنتم تراهنون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، والله لقد راهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فرس له يقال له سبحة فسبق الناس فبش لذلك وأعجبه (1) » .
وقد راهن الصديق - رضي الله عنه - المشركين وعلم بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأذن له فروى الترمذي في جامعه في حديث سفيان الثوري عن
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/256) ، سنن الدارمي الجهاد (2430) .(19/107)
حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس «في قول الله تعالى: كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم؛ لأنهم أولياؤهم أهل الأوثان، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس؛ لأنهم أهل كتاب، فذكروه لأبي بكر - رضي الله عنه -، فذكره أبو بكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أما إنهم سيغلبون فذكروه لهم فقالوا: اجعلوا بيننا وبينكم أجلا، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل أجلا خمس سنين، فلم يظهروا، فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ألا جعلت إلى دون العشر، قال سعيد والبضع ما دون العشر، قال ثم ظهرت الروم بعد، قال فذلك قوله: قال سفيان: سمعت أنهم ظهروا عليهم (9) » ، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وفي جامعه أيضا عن نيار بن مكرم الأسلمي قال: لما نزلت {الم} (10) {غُلِبَتِ الرُّومُ} (11) {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} (12) إلى قوله {بِضْعِ سِنِينَ} (13) وكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم لأنهم وإياهم أهل كتاب، وذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} (14) {بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (15) وكانت قريش تحب ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ببعث، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة {الم} (16) {غُلِبَتِ الرُّومُ} (17) {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} (18) {فِي بِضْعِ سِنِينَ} (19) فقال ناس من قريش: فذلك بيننا وبينكم بزعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين أفلا نراهنك على ذلك؟ قال: بلى، قال: وذلك قبل تحريم الرهان فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان، وقالوا لأبي بكر: كم نجعل البضع وهو ثلاث سنين إلى سبع سنين، فسم بيننا وبينك وسطا ننتهي إليه. قال: فسموا بينهم ست سنين، قال: فمضت الست سنين قبل أن
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3193) .
(2) سورة الروم الآية 1 (1) {الم}
(3) سورة الروم الآية 2 (2) {غُلِبَتِ الرُّومُ}
(4) سورة الروم الآية 3 (3) {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}
(5) سورة الروم الآية 1 (4) {الم}
(6) سورة الروم الآية 2 (5) {غُلِبَتِ الرُّومُ}
(7) سورة الروم الآية 3 (6) {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}
(8) سورة الروم الآية 4 (7) {فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ}
(9) سورة الروم الآية 5 (8) {بِنَصْرِ اللَّهِ}
(10) سورة الروم الآية 1
(11) سورة الروم الآية 2
(12) سورة الروم الآية 3
(13) سورة الروم الآية 4
(14) سورة الروم الآية 4
(15) سورة الروم الآية 5
(16) سورة الروم الآية 1
(17) سورة الروم الآية 2
(18) سورة الروم الآية 3
(19) سورة الروم الآية 4(19/108)
يظهروا فأخذ المشركون رهن أبي بكر، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس فعاب المسلمون على أبي بكر تسميته ست سنين؛ لأنه قال {فِي بِضْعِ سِنِينَ} (1) قال: أسلم عند ذلك ناس كثير. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وفي الجامع أيضا من حديث ابن عباس «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر في مناحبته: ألا أخفضت. وفي لفظ: ألا احتطت، فإن البضع من الثلاث إلى التسع (2) » . من حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس.
قال ابن القيم: وقوله في الحديث "مناحبته " فالمناحبة المخاطرة، وهي المراهنة من النحب وهو النذر، وكلاهما مناحب هذا بالعقد وهذا بالنذر وقوله: ألا أخفضت. يجوز أن يكون من الخفض وهو الدعة، والمعنى هلا نسفت المدة فكنت في خفض من أمرك ودعة، ويجوز أن يكون من الخفض الذي هو من الانخفاض، أي هلا استزلتم إلى أكثر مما اتفقتم عليه. وقوله في اللفظ الآخر: هلا احتطت، هو من الاحتياط، أي هلا أخذت بالأحوط وجعلت الأجل أقصى ما ينتهي إليه البضع فإن النص لا يتعداه.
وقوله " وذلك قبل تحريم الرهان " من كلام بعض الرواة ليس من كلام أبى بكر ولا النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقال ابن القيم أيضا: وقد اختلف أهل العلم في أحكام هذا الحديث ونسخه على قولين:
فادعت طائفة نسخه بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغرر والقمار، قالوا: ففي الحديث دلالة على ذلك وهو قوله، وذلك قبل تحريم الرهان، قالوا: ويدل على نسخه ما رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل (3) » . والسبق بفتح السين والباء، وهو الحظ الذي وقع عليه الرهان، وإلى هذا القول ذهب أصحاب مالك والشافعي وأحمد. وادعت طائفة أنه محكم غير منسوخ، وأنه ليس مع مدعي نسخه حجة يتعين المصير إليها.
قالوا: والرهان لم يحرم جملة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - راهن في تسبيق الخيل كما تقدم، وإنما الرهان المحرم على الباطل الذي لا منفعة فيه في الدين. وأما الرهان
__________
(1) سورة الروم الآية 4
(2) سنن الترمذي تفسير القرآن (3191) .
(3) سنن الترمذي الجهاد (1700) ، سنن أبو داود الجهاد (2574) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2878) ، مسند أحمد بن حنبل (2/474) .(19/109)
على ما فيه ظهور أعلام الإسلام وأدلته وبراهينه، كما راهن عليه الصديق فهو من أحق الحق، وهو أولى بالجواز من الرهان على النصال أو سباق الخيل والإبل أدنى من هذا في الدين وأقوى؛ لأن الدين قام بالحجة والبرهان وبالسيف والقصد الأول إقامته بالحجة والسيف منفذ.
قالوا: وإذا كان الشارع قد أباح الرهان في الرمي والمسابقة بالخيل والإبل لما في ذلك من التحريض على تعلم الفروسية وإعداد القوة للجهاد - فجواز ذلك في المسابقة والمبادرة إلى العلم والحجة الذي به تفتح القلوب ويعز الإسلام وتظهر أعلامه أولى وأحرى، وإلى هذا ذهب أصحاب أبي حنيفة وشيخ الإسلام ابن تيمية، قال أرباب هذا القول: والقمار المحرم هو أكل المال بالباطل فكيف يلحق به أكله بالحق، قالوا: والصديق لم يقامر قط في جاهلية ولا إسلام، ولا أقر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قمار فضلا عن أن يأذن فيه وهذا تقرير قول الفريقين (1) .
وقال ابن العربي في أثناء الكلام على فقه حديث مراهنة أبي بكر للمشركين، قال: إن الله حرم أكل المال بالباطل، ومنه المناحبة على رهن، وقد كان ذلك يجري في صدر الإسلام كما كان يجري سائر الأحكام قبل بيان وجود الحلال والحرام حتى أنزل الله الآيات وفصل ذلك كله تفصيلا، ولم يبق من ذلك شيء يستعمل إلا في سباق الخيل ونحوه تحريضا على الجهاد وتحضيضا به على التأهب للأعداء والاستعداد المبين في بحث الجهاد.
وأما بيان كون التأمين رهانا فإن كلا من التأمين والرهان معلق على خطر، تارة يقع وتارة لا يقع، وقد أجاب الأستاذ مصطفى الزرقا على ذلك
__________
(1) الفروسية 5 \ 6.(19/110)
فقال: والجواب على هذه الشبهة قد أصبح واضحا من الجواب عن الشبهة السابقة - يشير بذلك إلى الجواب عن قياس التأمين على القمار- فالمراهن معتمد على المصادفات والحظوظ كالمقامر، وقد يضيع في التلهي به أوقاته ويقتل فعاليته ونشاطه كالمقامر.
وأبرز المفارقات بين التأمين والرهان أن الرهان ليس فيه أية صلة بترميم أضرار الأخطار العارضة على النشاط الاقتصادي المنتج من ميدان الحياة الإنسانية، لا بطريق التعاون على تفتيت تلك الأضرار وتشتيتها ولا بطريق تحمل فردي غير تعاوني ولا يعطي أحدا من المتراهنين أي أمان أو طمأنينة كما هو الأثر المباشر في عقد التأمين، وفي هذا ما يكفي لهدم هذه الشبهة (1) .
ونوقش هذا الجواب بأنه قد أصبح واضحا أيضا من الجواب عن مناقشة الاستدلال على تحريم التأمين بقياسه على القمار، وأيضا فالمتعاقدان في التأمين يعتمدان على المصادفات والحظوظ، وغاية ما يحتاط به من إحصاء وتنسيق ومقاصة ونحوها أن يخفف قدر الخطر شيئا ما، لكن لا يزال الخطر فاحشا بالنسبة للمتعاقدين، فإن شركات التأمين وإن احتاطت بعملياتها الفنية للكسب فالخطر لا يزال يساورها بشدة بالنسبة لكل مستأمن وحده، بل لا يزال يساورها بالنسبة لمجموع المستأمنين وإن كان أقل من سابقه، فلم يخرج التأمين بذلك عن شبهة الوثيق بالقمار، ثم ليس كل ما كان نافعا ومساعدا على ترميم الأخطار، ودفع الأضرار يكون جائزا حتى يغلب نفعه ضره، وخيره شره، وهيهات أن يتحقق ذلك في التأمين.
__________
(1) عقد التأمين، ص 41 وما بعدها.(19/111)
ووقالوا: التأمين من أكل أموال الناس بالباطل، وأكل المال الباطل ممنوع.(19/111)
وفيما يلي دليل حكم أكل المال بالباطل، وبيان معناه ووجه اشتمال عقد التأمين على أكل أموال الناس بالباطل.
أما دليل الحكم فقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (1) الآية. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2) وأما معناه فقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز أكل مال الغير بالباطل، واختلفوا في تفسيره ففسره أحمد بن فارس بذهاب الشيء (3) وذكر معنى ذلك الفيروز أبادي (4) .
وقال ابن جرير في تفسير آية النساء: لا يأكل بعضكم أموال بعض بما حرم عليه من الربا والقمار وغير ذلك من الأمور التي نهاكم الله عنها، ورجح هذا القول (5) .
وقال أبو حيان في تفسير آية البقرة "بالباطل" قال الزجاج: بالظلم، وقال غيره: بالجهة التي لا تكون مشروعة فيدخل في ذلك الغصب والنهب والقمار وحلوان الكاهن والخيانة والرشا، وما يأخذه المنجمون، وكل ما لم يأذن في أخذه الشرع (6) .
وقال في تفسير آية النساء: والباطل هو كل طريق لم تبحه الشريعة فيدخل فيه السرقة والخيانة والغصب والقمار وعقود الربا وأثمان البياعات الفاسدة.
وقد اختلف السلف في تفسير قوله (بالباطل) فقال ابن عباس
__________
(1) سورة البقرة الآية 188
(2) سورة النساء الآية 29
(3) معجم مقاييس اللغة 1 \ 258.
(4) القاموس المحيط 3 \ 324 ويرجع أيضا إلى اللسان 13 \ 95.
(5) تفسير ابن جرير 5 \ 20.
(6) البحر المحيط 2 \ 56.(19/112)
والحسن: هو أن يأكله بغير عوض، وعلى هذا التفسير قال ابن عباس: هي منسوخة إذ يجوز أكل المال بغير عوض إذا كان هبة أو صدقة أو تمليكا أو إرثا أو نحو ذلك مما أباحت الشريعة أخذه بغير عوض. وقال السدي: هو أن يأكل بالربا والقمار والبخس والظلم وغير ذلك مما لم يبح الله تعالى أكل المال به. وعلى هذا تكون الآية محكمة وهو قول ابن مسعود والجمهور، وقال بعضهم: الآية مجملة؛ لأن معنى قوله (بالباطل) بطريق غير مشروع، ولما لم تكن هذه الطريق المشروعة مذكورة هنا على التفصيل صارت الآية مجملة (1) .
ويمكن أن يقال في وجه اشتمال عقد التأمين على أكل أموال الناس بالباطل: إن ما يدفعه المستأمن مبلغ محدود، وقد يأخذ أقل منه أو أكثر أو مثله أو لا يأخذ شيئا، ففي حالة ما إذا لم يأخذ المستأمن شيئا أو أخذ أقل مما دفع فبأي حق تستحق الشركة ما أخذته بدون مقابل شرعي، وبأي وجه يستحق ورثة المستأمن أو المستفيد مبلغ التأمين إذا توفي قبل أن يدفع كامل الأقساط.
وقد يستدل لدخول أخذه على ما وصف في عموم أكل المال بالباطل ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من طريق أبي الزبير عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو بعت من أخيك ثمر فأصابته عاهة فلا يحل لك أن تأخذ شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ (2) » .
كما يدل لدخوله في عموم الآية ما تقدم من أدلة التحريم.
__________
(1) البحر المحيط 3 \ 23.
(2) صحيح مسلم المساقاة (1554) ، سنن النسائي البيوع (4527) ، سنن أبو داود البيوع (3470) ، سنن ابن ماجه التجارات (2219) ، مسند أحمد بن حنبل (3/309) ، سنن الدارمي البيوع (2556) .(19/113)
الرأي الثاني الجواز مطلقا:
نذكر فيما يلي كلام طائفة ممن قالوا بالجواز مطلقا، أو نسب إليهم القول بذلك، ثم نتبعه بأدلتهم مع المناقشة.(19/113)
أولا- ما نقل عن بعضهم من القول بالجواز:
1 - سئل الشيخ محمد عبده عن رجل يريد أن يتعاقد مع جماعة على أن يدفع لهم مالا من ماله الخاص على أقساط متساوية ليعملوا فيه بالتجارة، واشترط معهم أنه إذا قام بما ذكره، وانتهى الاتفاق بانتهاء الأقساط المعينة، وكانوا قد عملوا في ذلك المال، وكان حيا، فيأخذ ما يكون له من المال مع ما يخصه من الأرباح، وإذا مات في أثناء تلك المدة فيكون لورثته أو لمن يكون له حق الولاية في ماله أن يأخذ المبلغ، تعلق مورثهم مع الأرباح، فهل مثل هذا التعاقد الذي يكون مفيدا لأربابه بما ينتجه لهم من الربح جائزا شرعا؟
الجواب: إنه لو صدر مثل هذا التعاقد بين ذلك الرجل وهؤلاء الجماعة على الصفة المذكورة كان ذلك جائزا شرعا، ويجوز لذلك الرجل بعد انتهاء الأقساط، والعمل في المال، وحصول الربح أن يأخذ لو كان حيا ما يكون له من المال مع ما خصه من الربح، وكذا يجوز لمن يوجد بعد موته من ورثته، أو من له ولاية التصرف في ماله بعد موته أن يأخذ ما يكون له من المال مع ما أنتجه من الربح (1) .
لقد نقلت اللجنة هذه الفتوى وجوابها نظرا إلى أن شركات التأمين تحتج بها على الجواز وبمطالعتها يتبين أنها ليست في موضوع التأمين.
2 - وقال الحجوي: كأنها - يريد عقود التأمين - عندي جمعية اكتتابية خيرية لإعانة المنكوبين بنظام والتزام، تأخذ من مائة ألف رجل شيئا قليلا ما تعوض به نكبة رجل مثلا، واستنباطها من قاعدة القليل في الكثير كثير، لذلك يبقى لها ما يقوم بأجرة قيامها على ذلك، وربما ربحت أرباحا عظيمة إذا قلت نكبات المضمونين فيها (2) .
__________
(1) مجلة نور الإسلام سابقا وهي مجلة الأزهر الآن 1 \ 679.
(2) الفكر السامي 307.(19/114)
3 - قال عبد الرحمن عيسى: يجور شرعا التأمين لدى شركات التأمين ضد أخطار الملكية، وضد أخطار المسئولية المدنية، وكذلك التأمين على الحياة، وضد سائر الأخطار الشخصية في الصناعات والمهن الخطيرة، ويجوز في غير الصناعات والمهن الخطرة إذا كان تأمينا مختلطا (1) .
4 - وقال محمد يوسف موسى: إن التأمين بكل أنواعه ضرب من ضروب التعاون التي تفيد المجتمع، والتأمين على الحياة يفيد المؤمن كما يفيد الشركة التي تقوم بالتأمين أيضا، وأرى شرعا أنه لا بأس إذا خلا من الربا، بمعنى أن المؤمن عليه إذا عاش المدة المنصوص عليها في عقد التأمين استرد ما دفعه فقط دون زيادة، أما إذا لم يعش المدة المذكورة حق لورثته أن يأخذوا قيمة التأمين - أي التعويض - وهذا حلال شرعا (2) .
5 - وقال مصطفى الزرقا: الشرع الإسلامي لم يحصر الناس في الأنواع المعروفة قبلا من العقود، بل للناس أن يبتكروا أنواعا جديدة تدعوهم حاجتهم الزمنية إليها بعد أن تستوفي الشرائط العامة المشار إليها (3) .
وقال أيضا: لا يوجد مانع من قواعد الشريعة الإسلامية يمنع جواز نظام التأمين في ذاته، وبهذا يثبت حله شرعا (4) .
6 - وقال عبد الوهاب خلاف: بجواز عقد التأمين على الحياة، وأنه عقد مضاربة وسيأتي توجيهه لهذا الدليل وبيان رأيه في كون عقد التأمين صار عقد مضاربة (5) .
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي 479.
(2) أسبوع الفقه الإسلامي 382.
(3) أسبوع الفقه الإسلامي 388.
(4) أسبوع الفقه الإسلامي 409.
(5) أسبوع الفقه الإسلامي 454.(19/115)
7 - ومن القائلين بالجواز الأستاذ طه السنوسي، وسيأتي رأيه مفصلا ضمن استدلاله بولاء الموالاة على جواز عقد التأمين.(19/116)
ثانيا- أدلة من أجازوا التأمين مطلقا مع المناقشة، وأمام كل دليل استدل به الفقهاء المعاصرون على الجواز نذكر كلام العلماء السابقين في المصادر التي اعتمد عليها الفقهاء المعاصرون في استدلالهم على الجواز.
1 - قياس عقد التأمين على ولاء الموالاة:
فيما يلي كلام المفسرين وغيرهم على آية ولاء الموالاة، ثم كلام الفقهاء المعاصرين في هذا الدليل.
قال أبو جعفر النحاس: باب ذكر الآية السابقة: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (1) فمن أصح ما روي في هذه الآية إسنادا وأجله قائلا ما حدثناه أحمد بن شعيب، قال: أخبرني هارون بن عبد الله، قال: حدثنا أبو أسامة قال: حدثني إدريس بن يزيد، قال: حدثنا طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (2) فإنه كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرثون الأنصار دون رحم، للأخوة التي آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم حتى نزلت الآية {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ} (3) قال نسختها {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (4) قال من النصر والنصح والرفادة يوصى له وهو لا يرث، قال أبو عبد الرحمن: إسناده صحيح.
قال أبو جعفر: فحمل هذا الحديث وأدخل في المسند على أن الآية ناسخة، وليس الأمر عندي كذلك، والذي يجب أن يحمل عليه الحديث أن يكون (ولكل جعلنا موالي) ناسخا لما كانوا يفعلونه، وأن يكون (والذين عقدت أيمانكم) غير ناسخ ولا منسوخ، ولكن فسره ابن عباس
__________
(1) سورة النساء الآية 33
(2) سورة النساء الآية 33
(3) سورة النساء الآية 33
(4) سورة النساء الآية 33(19/116)
وسنبين العلة في ذلك عند آخر هذا الباب، ولكن ممن قال إن الآية منسوخة سعيد بن المسيب كما حدثنا جعفر بن مجاشع، قال: حدثنا إبراهيم بن إسحاق، قال: حدثنا داود بن رشيد، قال: حدثنا الوليد، قال: حدثنا مروان بن أبي الهذيل أنه سمع الزهري يقول أخبرني سعيد في قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} (1) قال الحلفاء في الجاهلية، والذين كانوا يتبنون، فكانوا يتوارثون على ذلك حتى نزلت {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (2) فنزع الله ميراثهم وأثبت لهم الوصية.
وقال الشعبي: كانوا يتوارثون حتى أزيل ذلك، وممن قال إنها منسوخة الحسن وقتادة، كما قرأ علي عبد الله بن أحمد بن عبد السلام عن أبي الأزهر قال: حدثنا روح عن أشعب عن الحسن {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (3) قال: كان الرجل يعاقد الرجل على أنهما إذا مات أحدهما ورثه الآخر فنسختها آية المواريث، وقال قتادة: كان يقول ترثني وأرثك وتعقل عني وأعقل عنك فنسختها {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (4)
وقال الضحاك: كانوا يتحالفون فيتعاقدون على النصرة والوراثة، فإذا مات أحدهم قبل صاحبه كان له مثل نصيب أبيه، فنسخ ذلك بالمواريث، ومثل هذا أيضا مروي عن ابن عباس مشروحا، كما حدثنا بكر بن سهل قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: وقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (5) كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات قبل صاحبه ورثه الآخر فأنزل الله {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} (6) قال: هو أن يوصي له بوصية، فهي جائزة من ثلث مال الميت فذلك المعروف، وممن قال إنها محكمة مجاهد وسعيد بن جبير، كما قرأ على إبراهيم بن موسى الحوريني
__________
(1) سورة النساء الآية 33
(2) سورة النساء الآية 33
(3) سورة النساء الآية 33
(4) سورة الأنفال الآية 75
(5) سورة النساء الآية 33
(6) سورة الأحزاب الآية 6(19/117)
عن يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا وكيع بن سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله تعالى {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (1) قال من العقل والمشورة والرفدة، وقال سعيد بن جبير فآتوهم نصيبهم من العون والنصرة.
قال أبو جعفر: وهذا أولى مما قيل في الآية إنها محكمة لعلتين، إحداهما أنه إنما يجعل النسخ على ما لا يصح المعنى إلا به وما كان متنافيا، فأما ما صح معناه وهو متلو فبعيد من الناسخ والمنسوخ.
والعلة الأخرى الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحيح الإسناد كما حدثنا أحمد بن شعيب قال: أنبأنا عبد الرحمن بن محمد، قال: حدثنا إسحاق الأزرق عن زكريا بن أبي زائدة عن سعيد بن إبراهيم عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة (2) » . فبين بهذا الحديث أن الحلف غير منسوخ، وبين الحديث وقول مجاهد وسعيد بن جبير أنه في النصر والنصيحة والعون والرفدة، ويكون ما في الحديث الأول من قول ابن عباس نسختها، يعني {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ} (3) ؛ لأن الناس يتوارثون في الجاهلية بالتبني وتوارثوا في الإسلام بالإخاء ثم نسخ هذا كله فرائض الله بالمواريث (4) .
وقال الجصاص: باب ولاء المولاة: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (5) روى طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (6) قال: كان المهاجر يرث الأنصاري دون ذوي رحمه بالأخوة التي آخى الله بينهم، فلما نزلت {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} (7)
__________
(1) سورة النساء الآية 33
(2) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2530) ، سنن أبو داود الفرائض (2925) ، مسند أحمد بن حنبل (4/83) .
(3) سورة النساء الآية 33
(4) الناسخ والمنسوخ \ 107- 109 المكتبة العلامة بجوار الأزهر 1357.
(5) سورة النساء الآية 33
(6) سورة النساء الآية 33
(7) سورة النساء الآية 33(19/118)
نسخت ثم قرأ {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (1) قال: من النصر والرفادة، ويوصي له، وقد ذهب الميراث، وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (2) قال: كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر، فأنزل الله تعالى {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} (3) يقول: إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا لهم وصية، فهو لهم جائز من ثلث مال الميت، فذلك المعروف.
وروى أبو بشر عن سعيد بن جبير في قوله تعالى {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (4) قال: كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية، فيموت فيرثه، فعاقد أبو بكر رجلا فمات فورثه، وقال سعيد بن المسيب: هذا في الذين كانوا يتبنون رجلا ويورثونهم، فأنزل الله فيهم أن يجعل لهم من الوصية، ورد الميراث إلى الموالي من ذوي الرحم والعصبة.
قال أبو بكر: قد ثبت بما قدمنا من قول السلف أن ذلك كان حكما ثابتا في الإسلام، وهو الميراث بالمعاقدة والموالاة، ثم قال قائلون إنه منسوخ بقوله {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (5) وقال آخرون: ليس بمنسوخ من الأصل، ولكنه جعل ذوي الأرحام أولى من موالي المعاقدة، فنسخ ميراثهم في حال وجود القرابات، وهو باق لهم إذا فقدوا الأقرباء في الأصل الذي كان عليه.
[واختلف الفقهاء في ميراث الموالاة؛ فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: من أسلم على يدي رجل ووالاه وعاقده، ثم مات ولا وارث له غيره فميراثه له.
__________
(1) سورة النساء الآية 33
(2) سورة النساء الآية 33
(3) سورة الأحزاب الآية 6
(4) سورة النساء الآية 33
(5) سورة الأنفال الآية 75(19/119)
وقال مالك وابن شبرمة والثوري والأوزاعي والشافعي: ميراثه للمسلمين، وقال يحيى بن سعيد: إذا جاء من أرض العدو فأسلم على يده، فإن ولاءه لمن والاه، ومن أسلم من أهل الذمة على يدي رجل فولاؤه للمسلمين عامة، وقال الليث بن سعد: من أسلم على يدي رجل فقد والاه، وميراثه للذي أسلم على يده إذا لم يدع وارثا غيره.
وقال أبو بكر: الآية توجب الميراث للذي والاه وعاقده على الوجه الذي ذهب إليه أصحابنا؛ لأنه كان حكما ثابتا في أول الإسلام، وحكم الله به في نص التنزيل {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} (1) فجعل ذوي الأرحام أولى من المعاقدين الموالي، فمتى فقد ذوو الأرحام وجب ميراثهم بقضية الآية، إذ كانت إنما نقلت ما كان لهم إلى ذوي الأرحام إذا وجدوا، فإذا لم يوجدوا فليس في القرآن ولا في السنة ما يوجب نسخها، فهي ثابتة الحكم مستعملة على ما تقتضيه من إثبات الميراث عند فقد ذوي الأرحام، وقد ورد الأثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بثبوت هذا الحكم وبقائه عند عدم ذوي الأرحام، وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا يزيد بن خالد الرملي وهشام بن عمار الدمشقي، قال: حدثنا يحيى بن حمزة عن عبد العزيز بن عمر (2) قال: سمعت عبد الله بن موهب يحدث عمر بن عبد العزيز عن قبيصة بن ذؤيب، عن تميم الداري أنه قال: «يا رسول الله ما السنة في الرجل يسلم على يدي الرجل من المسلمين؟ قال: هو أولى الناس بمحياه ومماته (3) » . فقوله هو أولى الناس بمحياه ومماته يقتضي أن يكون أولاهم بميراثه؛ إذ ليس بعد الموت بينهما ولاية إلا في الميراث، وهو في معنى قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} (4) يعني ورثة، وقد روي نحو قول أصحابنا في ذلك عن عمر وابن
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 6
(2) صدوق يخطئ.
(3) سنن الترمذي الفرائض (2112) ، سنن أبو داود الفرائض (2918) ، سنن ابن ماجه الفرائض (2752) ، مسند أحمد بن حنبل (4/103) ، سنن الدارمي الفرائض (3033) .
(4) سورة النساء الآية 33(19/120)
مسعود والحسن وإبراهيم، وروى معمر عن الزهري أنه سئل عن رجل أسلم فوالى رجلا هل بذلك بأس؟ قال: لا بأس به، قد أجاز ذلك عمر بن الخطاب، وروى قتادة عن سعيد بن المسيب قال: من أسلم على يدي قوم ضمنوا جرائره وحل لهم ميراثه، وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: إذا أسلم الكافر على يدي رجل مسلم بأرض العدو أو بأرض المسلمين فميراثه للذي أسلم على يديه، وقد روى أبو عاصم النبيل عن ابن جريح عن أبي الزبير عن جابر قال: «كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - على كل بطن عقوله، وقال: لا يتولى مولى قوما إلا بإذنهم (1) » . وقد حوى هذا الخبر معنيين: أحدهما: جواز الموالاة؛ لأنه قال إلا بإذنهم، فأجاز الموالاة بإذنهم. والثاني: أن له أن يتحول بولاية إلى غيره، إلا أنه كرهه إلا بإذن الأولين، ولا يجوز أن يكون مراده عليه السلام في ذلك إلا في ولاء الموالاة؛ لأنه لا خلاف أن ولاء العتاقة لا يصح النقل عنه، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «الولاء لحمة كلحمة النسب (2) » .
فإن احتج محتج بما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا محمد بن بشر وابن نمير وأبو أسامة عن زكريا، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة (3) » .
قال: فهذا يوجب بطلان حلف الإسلام ومنع التوارث به.
قيل له: يحتمل أن يريد به نفي الحلف في الإسلام على الوجه الذي كانوا يتحالفون عليه في الجاهلية، وذلك؛ لأن حلف الجاهلية كان على أن يعاقده فيقول: هدمي هدمك، ودمي دمك، وترثني وأرثك، وكان في هذا الحلف أشياء قد حظرها الإسلام، وهو أنه كان يشرط أن يحامي عليه، ويبذل دمه دونه، ويهدم ما يهدمه، فينصره على الحق والباطل، وقد أبطلت الشريعة هذا الحلف، وأوجبت معونة المظلوم على الظالم حتى
__________
(1) صحيح مسلم العتق (1507) ، سنن النسائي القسامة (4829) ، مسند أحمد بن حنبل (3/342) .
(2) سنن الدارمي الفرائض (3159) .
(3) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2530) ، سنن أبو داود الفرائض (2925) ، مسند أحمد بن حنبل (4/83) .(19/121)
ينتصف منه وأن لا يلتفت إلى قرابة ولا غيرها، قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} (1) فأمر الله تعالى بالعدل والقسط في الأجانب والأقارب، وأمر بالتسوية بين الجميع في حكم الله تعالى، فأبطل ما كان عليه أمر الجاهلية من معونة القريب والحليف على غيره ظالما كان أو مظلوما، وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما " قالوا: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوما فكيف أنصره إذا كان ظالما؟ قال: أن ترده عن الظلم، فذلك معونة منك له (2) » وكان حلف الجاهلية أن يرثه الحليف دون أقربائه، فنفى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله «لا حلف في الإسلام (3) » التحالف على النصرة، والمحاماة من غير نظر في دين أو حكم، وأمر باتباع أحكام الشريعة دون ما يعقده الحليف على نفسه، ونفى أيضا أن يكون الحليف أولى بالميراث من الأقارب، فهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا حلف في الإسلام (4) » وأما قوله «وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة (5) » فإنه يحتمل أن الإسلام زاده شدة وتغليظا في المنع منه وإبطاله، فكأنه قال: إذا لم يجز الحلف في الإسلام ما فيه من تناصر المسلمين وتعاونهم، فحلف الجاهلية أبعد من ذلك. انتهى المقصود (6) .
__________
(1) سورة النساء الآية 135
(2) صحيح البخاري الإكراه (6952) ، سنن الترمذي الفتن (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (3/99) .
(3) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2530) ، سنن أبو داود الفرائض (2925) ، مسند أحمد بن حنبل (4/83) .
(4) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2530) ، سنن أبو داود الفرائض (2925) ، مسند أحمد بن حنبل (4/83) .
(5) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2530) ، سنن أبو داود الفرائض (2925) ، مسند أحمد بن حنبل (4/83) .
(6) أحكام القرآن 2 \ 225- 228 طبع بالمطبعة البهية بمصر سنة 1347.(19/122)
وقال أبو بكر بن العربي: المسألة الرابعة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} (1) اختلف الناس فيه وابن عباس، فتارة قال: كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر، فأنزل الله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} (2)
__________
(1) سورة النساء الآية 33
(2) سورة الأحزاب الآية 6(19/122)
يعني تؤتوهم من الوصية جميلا وإحسانا في الثلث المأذون فيه، وتارة قال: كان المهاجرون لما قدموا المدينة حالف النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم، فكان الأنصاري يرث المهاجري، والمهاجري يرث الأنصاري فنزلت هذه الآية، ثم انقطع ذلك فلا تواخي بين أحد اليوم.
وقال ابن المسيب: نزلت في الذين كانوا يتبنون الأبناء، فرد الله الميراث إلى ذوي الأرحام والعصبة، وجعل لهما نصيبا في الوصية.
وقد أحكم ذلك ابن عباس في الصحيح بيانا بما رواه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برهانا، قال البخاري عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في الصحيح، {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} (1) قال ورثة، والذين عقدت أيمانكم، فكان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم، فلما نزلت {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} (2) نسخت. ثم قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} (3) من النصرة والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويوصي له، وهذه غاية ليس لها مطلب (4) .
وقال القرطبي بعد ذكره لرواية البخاري عن ابن عباس المتقدمة قال: قال أبو الحسن بن بطال وقع في جميع النسخ {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} (5) قال نسختها {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} (6) والصواب أن الآية الناسخة {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} (7) والمنسوخة {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} (8) وكذا رواه الطبري في روايته. وروي عن جمهور السلف أن الآية الناسخة لقوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} (9) قوله تعالى في الأنفال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} (10) وروي هذا عن ابن عباس وقتادة والحسن البصري وهو الذي انتبه أبو عبيد في كتاب " الناسخ والمنسوخ " له.
وفيها قول آخر رواه الزهري عن سعيد بن المسيب قال: أمر الله عز
__________
(1) سورة النساء الآية 33
(2) سورة النساء الآية 33
(3) سورة النساء الآية 33
(4) 0236 أحكام القرآن 1 \ 414 - 415 الطبعة الأولى الحلبية سنة 1376
(5) سورة النساء الآية 33
(6) سورة النساء الآية 33
(7) سورة النساء الآية 33
(8) سورة النساء الآية 33
(9) سورة النساء الآية 33
(10) سورة الأنفال الآية 75(19/123)
وجل الذين تبنوا غير أبنائهم في الجاهلية وورثوا في الإسلام أن يجعل لهم نصيبا في الوصية، ورد الميراث إلى ذوي الرحم والعصبة.
وقالت طائفة: قوله تعالى {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} (1) محكم وليس بمنسوخ، وإنما أمر الله المؤمنين أن يعطوا الحلفاء أنصباءهم من النصرة والنصيحة وما أشبه ذلك، ذكره الطبري عن ابن عباس {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (2) من النصرة والنصيحة والرفادة ويوصى لهم، وقد ذهب الميراث، وهو قول مجاهد والسدي، قلت: واختاره النحاس، ورواه سعيد بن جبير، ولا يصح النسخ فإن الجمع ممكن كما بينه ابن عباس فيما ذكره الطبري، ورواه البخاري عنه في كتاب التفسير (3) .
وقال أيضا {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} (4) يعني بالحلف، عن قتادة، وذلك أن الرجل كان يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك، وهدمي هدمك، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عنك. فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف ثم نسخ (5) .
وقال ابن حجر على قوله {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} (6) كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة. وهكذا حملها ابن عباس على من آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم، وحملها غيرهم على أعم من ذلك، فأسند الطبري عنه قال: كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب فيرث أحدهما الآخر، فنسخ ذلك، ومن طريق سعيد بن جبير قال: كان الرجل يعاقد الرجل فيرثه، وعاقد أبو بكر مولى فورثه.
وقال أيضا على قوله: فلما نزلت {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} (7) نسخت. هكذا وقع في هذه الرواية أن ناسخ ميراث الحليف هذه الآية. وروى
__________
(1) سورة النساء الآية 33
(2) سورة النساء الآية 33
(3) تفسير القرطبي 5 \ 165، 166.
(4) سورة النساء الآية 33
(5) تفسير القرطبي 5 \ 166 طبع مطبعة دار الكتب المصرية سنة 13560.
(6) سورة النساء الآية 33
(7) سورة النساء الآية 33(19/124)
الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان الرجل يعاقد الرجل فإذا مات ورثه الآخر، فأنزل الله - عز وجل - {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} (1) يقول إلا أن توصوا لأوليائكم الذين عاقدتم.
ومن طريق قتادة كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول: دمي دمك، وترثني وأرثك، فلما جاء الإسلام أمروا أن يؤتوهم نصيبهم من الميراث وهو السدس، ثم نسخ بالميراث، فقال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} (2) ومن طرق شتى عن جماعة من العلماء كذلك وهذا هو المعتمد.
ويحتمل أن يكون النسخ وقع مرتين؛ الأولى حيث كان المعاقد يرث وحده دون العصبة فنزلت ولكل وهي آية الباب، فصاروا جميعا يرثون، وعلى هذا يتنزل حديث ابن عباس ثم نسخ ذلك آية الأحزاب، وخص الميراث بالعصبة، وبقي للمعاقد النصر والإرفاد ونحوهما، وعلى هذا يتنزل حديث ابن عباس، ثم نسخ ذلك آية الأحزاب وخص الميراث بالعصبة وبقي للمعاقد النصر والإرفاد ونحوها وعلى هذا يتنزل بقية الآثار، وقد تعرض له ابن عباس في حديثه أيضا، لكن لم يذكر الناسخ الثاني ولا بد منه. والله أعلم.
وقال أيضا على قوله: ثم قال {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} (3) من النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث ويوصي له: كذا وقع فيه، وسقط منه شيء بينه الطبري في روايته عن أبي كريب عن أبي أسامة بهذا الإسناد، ولفظه: ثم قال {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (4) من النصر إلخ، فقوله من النصر يتعلق بآتوهم لا بعقدت ولا بأيمانكم، وهو وجه الكلام. انتهى المقصود (5) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما " المؤاخاة " فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - آخى بين المهاجرين والأنصار لما قدم المدينة كما آخى بين سلمان الفارسي
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 6
(2) سورة الأحزاب الآية 6
(3) سورة النساء الآية 33
(4) سورة النساء الآية 33
(5) فتح الباري 8 \ 247- 249 طبع المطبعة السلفية.(19/125)
وبين أبي الدرداء، وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وكانوا يتوارثون بتلك المؤاخاة، حتى أنزل الله تعالى {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (1) فصاروا يتوارثون بالقرابة، وفي ذلك أنزل الله تعالى {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (2) وهذا هو المحالفة.
واختلف العلماء هل التوارث بمثل ذلك عند عدا القرابة والولاء محكم أو منسوخ على قولين: أحدهما أن ذلك منسوخ، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه، ولما ثبت في صحيح مسلم عنه أنه قال: «لا حلف في الإسلام، وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزد الإسلام إلا شدة (3) » .
والثاني: أن ذلك محكم وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى (4) . وأما كلام الفقهاء المعاصرين في هذا الدليل: فقال الأستاذ طه السنوسي:
ولاء الموالاة في التشريع الإسلامي هو عبارة عن رابطة قانونية بين شخصين بمقتضاها يتعاقدان على أن يعقل أولهما وهو "مولى الموالاة " عن الآخر، وهو المعقول عنه، إذا جنى أن يدفع الدية في مقابل ميراثه منه إذا توفي غير مخلف وارثا قط.
وقد اختلف في صحة هذا العقد ونفاذه من حيث كونه سببا من أسباب الميراث، ويمكن إجمال وجهات النظر في هذا الصدد في رأيين، قال أولهما بصحته وجوازه واعتباره سببا للإرث، وقال ثانيهما ببطلانه ورفضه سببا له.
الرأي القائل بالرفض والبطلان: قال بهذا الرأي جمهور الفقهاء، ومنهم الشافعي ومالك وأحمد، وأسانيده تتلخص في أربعة:
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 6
(2) سورة النساء الآية 33
(3) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2530) ، سنن أبو داود الفرائض (2925) ، مسند أحمد بن حنبل (4/83) .
(4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 11 \ 99- 100 ويرجع أيضا إلى 35 \ 92- 98.(19/126)
أولها: ورد نص صريح في القرآن المصدر الأول للتشريع الإسلامي وهو قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (1) بمقتضاه يكون ذو القرابات بعضهم أولى ببعض في الإرث من التوارث بسبب عقد الموالاة ذلك العقد الذي عرف في الجاهلية.
وثانيها: ورود نص ثابت في الحديث المصدر الثاني للتشريع، بمقتضاه «الولاء لمن أعتق (2) » ، وهو يحصر الولاء في نوع واحد هو ولاء العتاقة، وعلى ذلك يعتبر باطلا كل ولاء سواه.
وثالثها: أن عقد الموالاة فيه في الواقع وصية بجميع المال، والوصية بجميع المال ممن لا وارث له غير جائزة "عند الشافعي "،؛ لأن وارث من لا وارث له هو جماعة المسلمين، ولا يستطيع المورث أن يبطل حق هذه الجماعة، تفريعا على عدم إبطال حق ورثته في حالة ما إذا كان له ورثة بالوصية بجميع ماله.
ورابعها: قول الشافعي إن الملك بطريق الوراثة لا يثبت ابتداء، وإنما يثبت على سبيل الخلافة، وأن أسباب الإرث معلومة شرعا لكن عقد الموالاة ليس منها.
الرأي القائل بالجواز والصحة:
وقد قال به عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر - رضى الله عنهم - وقال به كذلك أبو حنيفة وأصحابه، وهو الرأي الصحيح والراجح والذي أميل إليه وأسانيده تتلخص في خمسة:
أولها: وجود هذا الولاء باعتباره سببا للإرث في الجاهلية، وإقرار الإسلام له حين جاء، وذلك بنص صريح في المصدر الأول للتشريع هو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (3) ومقتضاها
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 6
(2) صحيح البخاري الصلاة (456) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن الترمذي البيوع (1256) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .
(3) سورة النساء الآية 33(19/127)
أنه يجب أن تعطوا حلفاءكم الذين تعاقدتم وإياهم على النصرة والميراث نصيبهم منه؛ لأن ذلك المقتضي للعقد، ولا يرد على ذلك بوجود نص صريح آخر في المصدر نفسه بمقتضاه يكون ذوو القرابات بعضهم أولى ببعض في الإرث من التوارث بسبب عقد الموالاة؛ لأن هذا النص الأخير ليس نصا على الأولوية في الميراث، ثم إنه لا يتعارض مع النص الأول، وذلك لأن حق الإرث المقرر لمولى الموالاة لا يثبت له إلا عند عدم وجود " أولي الأرحام " فمرتبته في الإرث متأخرة عن مرتبة هؤلاء، بل وعن مرتبة مولى العتاقة وعصبته، وما دام ليس بين النصوص التشريعية من تعارض ما فالواجب إعمال كل فيما يخصه.
وثانيها: أن الحديث القائل بأن «الولاء لمن أعتق (1) » ليس الحصر فيه حقيقيا بل إضافيا، أي أن الولاء لمن أعتق لا لغيره ممن كان أجنبيا، لقصة بريرة، وفيه: «الولاء لمن أعتق (2) » ، ولهذا لا يكون هذا الحديث نافيا استحقاق الإرث بسبب ولاء الموالاة، جاء في حديث تميم الداري - رضي الله عنه - أنه سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله «إن الرجل ليأتيني فيسلم على يدي ويواليني، فقال الرسول: هو أخوك ومولاك، فأنت أحق به محياه ومماته» ، والمقصود محياه تحمل عقل الجريمة عنه ومماته في الإرث منه.
وثالثها: أن ولاء الموالاة متصل بالوصية بجميع المال وهي صحيحة ممن لا وارث له؛ لأن من لا وارث له يصرف ماله إلى بيت مال المسلمين، ومن حيث إن " الموصى له " هو أحد هؤلاء المسلمين يشركهم في دين الله، ومن حيث إنه قد ترجح بإيجاب الموصى له، فمن أجل ذلك هو أولى من هذا البيت، وكذلك الأمر بالنسبة لمن عاقده مولى الموالاة عقد الموالاة. [43 \ المبسوط] .
ورابعها: أنه فيما يتعلق بخلافة الوارث الموروث في ماله، الظاهر أن الإنسان في شأن هذه الخلافة إنما يؤثر قرابته على الأجانب، ومن أجل
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (456) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن الترمذي البيوع (1256) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .
(2) صحيح البخاري الصلاة (456) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن الترمذي البيوع (1256) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .(19/128)
ذلك اقتضت حكمة التشريع الحنيف أن يقدم الأقرب على الأبعد فيها؛ لأن الموروث نفسه يفعل ذلك ويريده في أغلب الأحوال.
والمسألة لا تخلو من فرضين: الأول أن يكون أحد من قرابته، وفي هذه الحالة يوجد النظر من الشرع له ويقع الاستغناء عن نظره لنفسه.
والثاني - أن لا يكون أحد من قرابته، وهنا تقع الحاجة إلى نظره لنفسه فإذا نظر إليها وعقد عقد الموالاة مع شخص ما، اعتبر ذلك منه تصرفا صحيحا في خالص حقه على سبيل النظر منه لنفسه.
وخامسها \ أن عدم الدليل المقول به في شأن إثبات بين الوارث والموروث بطريق العقد عن قصد فيه نظر؛ لأن إثبات هذه الخلافة بالعقد قصدا مشروع بالاتفاق وذلك في عقد النكاح، إذ المعروف أن الزوجة التي أساسها العقد وتوافق الإرادتين هي سبب للميراث، ومن أجل هذا ينتفي القول بعدم الدليل في إثبات الخلافة عن طريق عقد الموالاة (1) .
وقال أيضا: يعرف التأمين بوجه عام بأنه عملية يحصل بها أحد الطرفين وهو المستأمن أو المؤمن له على تعهد لمصلحته أو لمصلحة غيره في نظر مقابل مال، ويتعهد فيها الطرف الآخر وهو المؤمن بدفع عوض مالي في حالة تحقق خطر معين أي بتحميله تبعية مجموعة من المخاطر.
ولعقد التأمين أركان أربعة:
أولها \ الخطر ويشترط فيه أن يكون حادثا احتماليا مستقبلا وليس إراديا محضا.
وثانيها \ المقابل المالي الذي يحصل عليه المؤمن من المستأمن،
__________
(1) مجلة الأزهر 25 \ 223 وما بعدها.(19/129)
ليتحمل الأول تبعة الخطر المؤمن منه، وهنا يبدو أن عقد التأمين معاوضة تنشئ التزامات متقابلة في ذمة الطرفين.
وثالثها \ العوض المالي الذي يلتزم المؤمن دفعه عند تحققه.
ورابعها \ المصلحة في التأمين أو المصلحة القابلة للتأمين. . . " وقد أسلفت التكييف القانوني لعقد الموالاة في التشريع الإسلامي ".
ومنه يتضح أن أركانه تتفق إلى حد كبير وأركان عقد التأمين في صورة التأمين على المسئولية في التشريع الحديث، فهو أولا: عقد بني على طرفين أولهما " مولى الموالاة " يقابل المؤمن وهو شركة التأمين.
وثانيهما " المعقول عنه " وهو المستأمن أو المؤمن له وهو يتضمن ثانيا: عنصر " العوض المالي " الذي يلتزم المؤمن " وهو مولى الموالاة " دفعه عند تحقق الخطر المؤمن منه، وهو يتمثل في الدية أو التعويض عن الجريمة التي ينتج عنها الضرر للغير المستحق له كما هو الحال في المسئولية الناشئة عن الأضرار الناشئة من ارتكاب جريمة تترتب عليها الغرامة المالية، وهو يتضمن ثالثا " عنصر المقابل المالي " الذي يحصل عليه " مولى الموالاة المؤمن " مقابل تحمله تبعة الخطر، وهو يتمثل في " مال الشركة المورثة " إذا توفي عنه " المعقول عنه المستأمن " غير مخلف وارثا مطلقا باستثناء الحالة التي يوجد فيها مع مولى الموالاة أحد من الزوجين، فيكون ما يتبقى من مال التركة بعد فرض هذا الزوج حقا مستحقا لهذا المولى المؤمن، أما شرط المصلحة في التأمين فمفهوم كما سلف أنه من مستلزمات صورة التأمين على المسئولية وهي الصورة التي ينطبق عقد ولاء الموالاة عليها (1) . انتهى المقصود من كلام السنوسي.
__________
(1) مجلة الأزهر 25 \ 303 وما بعدها.(19/130)
وقد اعترض على هذا القياس بما يأتي:
أولا - نلاحظ على تشبيهه ولاء الموالاة بعقود التأمين التي تعقد بين المستأمن بأن هناك عنصرا معنويا يقوم عليه ولاء الموالاة وهو مفقود في عقد التأمين، ولهذا العنصر المعنوي من عظيم الأهمية ما يجعل ولاء الموالاة غير عقد التأمين، إن الولاء في الإسلام - من حيث هو - صلة ولحمة كصلة القرابة ولحمتها ومولى القوم منهم، وكبار أئمة الإسلام الذين يتصلون ببعض القبائل بصلة الولاء يفتخرون بهذه الصلة حتى بعد زوالها لأنهم يعتبرونها قرابة كقرابة الدم ولحمة كلحمة الرحم، وهذا المعنى الأدبي موجود في ولاء الموالاة لأنه ولاء على كل حال، والولاء نصرة وفيه كل ما في معاني التبني والإخاء والقرابة، والرجلان اللذان يتعاقدان عقد الموالاة - يترابطان برباط القرابة والتناصر الأدبي حتى يكون ذلك هو الأصل في هذا التعاقد، ثم تكون نتائجه المالية من ثمرات ذلك. أما عقود التأمين فلا حظ فيها لهذا العنصر المعنوي، وإنما هي تعاقد بين مصالح مالية محضة، للمخاطرة دخل كبير فيها، وما ينتظره المتعاقد عقد الولاء من معونة صاحبه له في الحياة وأعبائها الأدبية والمادية لا ينتظره المتعاقدان عقد تأمين إلا فيما نص عليه العقد من نتائج مالية محدودة لا مطمع في غيرها لأنها في سبيل غير سبيل عقد الموالاة (1) .
وأجاب الأستاذ الزرقاء عن ذلك بأن الشبه الذي رأيناه بين عقد الموالاة وعقد التأمين ليس هو بين الموالاة والتأمين على الحياة، وإنما هو بين الموالاة والتأمين من المسئولية كما أوضحناه وأوضحه الأستاذ طه السنوسي الذي نقلنا أيضا رأيه وبحثه بمقتضى عقد الموالاة يتحمل المولى المسئولية المدنية أي الضمان المالي الذي يترتب على المولي نتيجة لجناية الخطأ الصادرة منه، وذلك بسبب العقد " عقد الموالاة " رغم أن
__________
(1) مجلة الأزهر 2 \ 307 '' تعليق ''.(19/131)
المولى المتعاقد لم يجن شيئا، وفي مقابل هذا التحمل " الاحتمالي غير المحقق " يستفيد الموالي الإرث من المولي إن مات عن غير وارث، " وهو أيضا عوض احتمالي غير محقق " فكذلك التأمين من المسئولية - وهو من أهم فروع نظام التأمين - كالتأمين من المسئولية في حوادث السيارة مثلا حيث يكون المالك والسائق مسئولين ماليا بما تلحقه السيارة بالغير من أضرار في حوادثها التي هي من جنايات الخطأ، ذلك أن الحوادث التي تقع من السيارة مثلا لا يقتصر ضررها على السيارة نفسها، بل قد تصيب الغير بأضرار بالغة في النفس والمال تترتب عليها التزامات مالية بالدية أو بالتعويض هي التي تسمى المسئولية، فالتأمين من حوادث السيارة قد يكون لما يصيبها هي من ضرر فتلتزم شركة التأمين بإصلاحه، وقد يكون لما يترتب على صاحبها من مسئولية مالية تجاه الغير إن ألحقت ضررا بالغير وهذا من قبيل ما يسمى: التأمين من المسئولية. وهو كما يرى محكم الشبه بنظام الموالاة الذي استدللنا به حيث يتحمل فيه الموالي عن المولى ما يلحق ذلك المولى من ضمان مالي نتيجة لما يقع منه من جنايات الخطأ في مقابل أن الموالي يرثه إذا مات من غير وارث فأي صلة أقوى من هذه الصلة وهذا الشبه المحكم بين الموضوعين.
والتأمين من المسئولية لا ينحصر في حوادث السيارات كما هو معلوم بل هو فرع واسع جدا في نظام التأمين يمكن أن يجري فيه التأمين على جميع أنواع المسئوليات المدنية سوى مسئولية الشخص عن فعله العمد. . . (1)
ثانيا - اعترض بأن قياس عقود التأمين على ولاء الموالاة قياس مع الفارق المؤثر، وبيانه من وجوه.
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي \ 541 - 542.(19/132)
الأول \ روى مسلم في صحيحه عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: «كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فأسر المسلمون رجلا من بني عقيل وأصابوا معه العضباء، فأتى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في الوثاق فقال: يا محمد، فأتاه فقال: ما شأنك؟ فقال: بم أخذتني وأخذت سابلة الحجاج. فقال: إعظاما لذلك أخذت بجريرة حلفائك ثقيف. ثم انصرف فناداه يا محمد يا محمد، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رقيقا فرجع إليه فقال: ما شأنك، فقال: إني مسلم. قال: لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح (1) » الحديث.
فهل المستأمن حينما يتعاقد مع شركات التأمين يكون عضوا فيما ستفيد من فوائدها ويتحمل خسارتها ويؤخذ بجريرتها كما أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بجريرة حلفائه، الواقع أن هذا غير صحيح.
الوجه الثاني \ أن شركة التأمين ضامنة ومتحملة لمسئولية المستأمن عند وقوعه في الخطأ، والمستأمن ليس عليه سوى دفع القسط مهما عظم الخطر على شركات التأمين، وهذا بخلاف عقد الموالاة في الإسلام فكل منهما يعقل عن الآخر ويرثه.
الوجه الثالث \ أن الهدف الأساسي والغاية القصوى من ولاء الموالاة هو النصرة، ومن التأمين الكسب المادي المحض لقاء أخطار قد تقع وقد لا تقع.
للبحث تتمة في العدد العشرين
__________
(1) صحيح مسلم النذر (1641) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3846) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3316) ، مسند أحمد بن حنبل (4/434) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2337) .(19/133)
صفحة فارغة(19/134)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العملية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شئونهم الدينية والاجتماعية.(19/135)
فتوى برقم 71 وتاريخ 22 \ 4 \ 1392 هـ
السؤال الأول: رجل صاحب إبل اختلط معها واحدة من الإبل صغيرة السن وليس عليها وسم تعرف به وبقيت مع إبله حتى كبرت وأنجبت ولم يعرف لها طالب يتفقدها أحيانا ويبحث وراءها حتى يجدها. ولم يعارض فيها فما الحكم؟ .
الجواب: إن كان ما اختلط من الإبل بإبله صغيرا صغرا لا يقوى معه على ورود الماء ولا على الامتناع من صغار السباع فهو كالغنم يجوز له إبقاؤه مع إبله صيانة له من الهلاك لضعفه وعليه أداؤه فقط لصاحبه إن جاء يوما من الدهر، فإن أعطاه النماء مع الأصل كان ذلك فضلا فيه وإحسانا. وإن كان ما اختلط من الإبل بإبله كبيرا أو صغيرا صغرا لا يمنعه من أن يرد الماء لنفسه ويدفع عن نفسه صغار السباع كان آثما بإبقاء تلك الإبل مع إبله وضمن ذلك لصاحبه لو تلف لأنه في حكم الغاصب «لقوله -صلى الله عليه وسلم- لما سأله رجل عن ضالة الإبل ما لك ولها، دعها فإن معها حذاءها وسقاءها، ترد الماء وتأكل الشجر، حتى يجدها ربها (1) » رواه أحمد والبخاري ومسلم.
السؤال الثاني: إذا كان عند رجل كيس من السكر قيمته الحقيقية ثمانون ريالا وطلبه منه مشتر فباعه عليه بمائة وخمسين ريالا إلى أجل، فما الحكم وهل للزيادة حد تقف عنده أم لا؟ .
__________
(1) صحيح البخاري في اللقطة (2428) ، صحيح مسلم اللقطة (1722) ، سنن الترمذي الأحكام (1372) ، سنن أبو داود اللقطة (1704) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2504) ، مسند أحمد بن حنبل (4/115) ، موطأ مالك الأقضية (1482) .(19/136)
الجواب: البيع حالا ولأجل مشروع لا حظر فيه، والأصل في الأثمان عدم التحديد سواء أكانت في بيع حال أو مؤجل، فتترك لتأثير العرض والطلب، إلا أنه ينبغي للناس أن يتراحموا فيما بينهم، وأن تسود بينهم السماحة في البيع والشراء، وأن لا ينتهزوا الفرص لإدخال بعضهم الضيق في المعاملات على بعض قال -صلى الله عليه وسلم-: «رحم الله امرءا سمحا إذا باع وإذا اشترى (1) » ، فإذا انتهز إنسان فرصة الضيق وشدة حاجة أخيه إلى ما بيده وهو لا يجده عند غيره أو وجده ولكن تواطأ من في السوق من التجار على رفع الأسعار طمعا في زيادة الكسب وغلوا فيه حرم على من بيده السلعة أن يبيعها على من اشتدت حاجته إليها بأكثر من ثمن مثلها حالا في البيع الحال وثمن مثلها مؤجلا في المؤجل، وعلى من حضر ذلك أن يساعد على العدل ويمنع من الظلم كل على قدر حاله وفي درجته التي تليق به من درجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحال الراهنة وقت البيع والشراء هي التي تحدد ثمن المثل فلكل سوق سعره ولكل وقت سعره، ولكل حال من كثرة العرض وقلته، وقلة الطلب وكثرته سعرها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2076) ، سنن الترمذي البيوع (1320) ، سنن ابن ماجه التجارات (2203) ، مسند أحمد بن حنبل (3/340) ، موطأ مالك البيوع (1395) .(19/137)
فتوى برقم 260 وتاريخ 19 \ 9 \ 1392 هـ
السؤال الأول: ما حكم من يسمح بدخول المجلات التي فيها صور ومقالات محرمة شرعا إلى بيته وإلى أهله؟ .
الجواب: لا يجوز للمسلم أن يدخل في بيته مجلات أو روايات فيها(19/137)
مقالات إلحادية، أو مقالات تدعو إلى البدع والضلال أو تدعو إلى المجون والخلاعة، فإنها مفسدة للعقيدة والأخلاق، وكبير الأسرة مسئول عن أسرته لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الرجل راع في بيته وهو مسئول عن رعيته (1) » .
السؤال الثاني: ما حكم النساء اللواتي يطلعن على هذه المجلات؟ .
الجواب: يحرم على كل مكلف ذكرا أو أنثى أن يقرأ في كتب البدع والضلال، والمجلات التي تنشر الخرافات وتقوم بالدعايات الكاذبة وتدعو إلى الانحراف عن الأخلاق الفاضلة إلا إذا كان من يقرؤها يقوم بالرد على ما فيها من إلحاد وانحراف، وينصح أهلها بالاستقامة وينكر عليهم صنيعهم ويحذر الناس من شرهم.
السؤال الثالث: ما حكم تصوير الصورة الشمسية للحاجة أو للزينة؟ .
الجواب: تصوير الأحياء محرم إلا ما دعت إليه الضرورة، كالتصوير من أجل التابعية، وجواز السفر، وتصوير المجرمين لضبطهم ومعرفتهم ليقبض عليهم إذا أحدثوا جريمة ولجئوا إلى الفرار، ونحو هذا مما لا بد منه.
السؤال الرابع: ما حكم استعمال حبوب منع الحمل للزوجات؟ .
الجواب: لا يجوز للزوجة أن تستعمل حبوب منع الحمل كراهية كثرة الأولاد أو خوفا من الإنفاق عليهم، ويجوز أن تأخذها لمنع الحمل من أجل مرضها مرضا يضرها معه الحمل، أو لأنها لا تلد ولادة عادية بل يحتاج إلى عملية جراحية عند الولادة، ونحو هذا من الضرورة، فلها في مثل هذه الحالة أن تتناول الحبوب لمنع الحمل إلا إذا عرفت من الأطباء المختصين أن تناولها يضر بها من جهة أخرى.
السؤال الخامس: ما حكم الزوجة التي تكشف لأخي زوجها إذا كان أخو الزوج صالحا موثوقا به؟ .
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7138) ، صحيح مسلم الإمارة (1829) ، سنن الترمذي الجهاد (1705) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2928) ، مسند أحمد بن حنبل (2/121) .(19/138)
الجواب: أخو الزوج ليس بمحرم لزوجته بمجرد أخوته للزوج، وعلى ذلك لا يجوز لها أن تكشف له مالا تكشفه إلا لمحارمها ولو كان صالحا موثوقا به فإن الله حصر جواز إبداء الزينة في أناس بينهم في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} (1) وليس أخو الزوج منهم بمجرد أخوته له، ولم يفرق الله في ذلك بين صالح وغيره، وفي الحديث أن «النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن الحمو، فقال الحمو الموت (2) » ، والمراد بالحمو أخو الزوج ونحوه ممن ليس من محارم الزوجة. فعلى المسلم أن يحافظ على دينه وأن يحافظ على عرضه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) صحيح البخاري النكاح (5232) ، صحيح مسلم السلام (2172) ، سنن الترمذي الرضاع (1171) ، مسند أحمد بن حنبل (4/149) ، سنن الدارمي الاستئذان (2642) .(19/139)
فتوى برقم 1938 في 24 \ 5 \ 1398 هـ
السؤال: ما حكم حضور المرأة حفلات الزواج وأعياد الميلاد مع أنها بدعة وكل بدعة ضلالة كما يوجد بالحفلات المذكورة بعض المطربات لقضاء السهرة، وهل حضور المرأة فيها حرام لمشاهدة العروس وتقديرا لأهل العروسة لا لسماع المطربة؟ .
الجواب: إذا كانت حفلات الزواج خالية من المنكرات كاختلاط الرجال بالنساء والغناء الماجن، أو كانت إذا حضرت غيرت ما فيها من منكرات جاز لها أن تحضر للمشاركة في السرور بل الحضور واجب إن كان هناك(19/139)
منكر تقوى على إزالته. أما إن كان في الحفلات منكرات لا تقوى على إنكارها فيحرم عليها أن تحضرها لعموم قوله تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} (1) وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (2) والأحاديث الواردة في ذم الغناء والمعازف كثيرة جدا.
وأما الموالد فلا يجوز لمسلم ولا مسلمة حضورها لكونها بدعة إلا إذا كان حضوره إليها لإنكارها وبيان حكم الله فيها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأنعام الآية 70
(2) سورة لقمان الآية 6(19/140)
فتوى برقم 1752 وتاريخ 29 \ 12 \ 1397 هـ
السؤال: هل يجوز أكل الحلزون والتمساح؟ .
الجواب: أجاز مالك وجماعة والشافعي أكل الحلزون والتمساح لأنهما من صيد البحر فيدخلان في عموم قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} (1) ومنع من ذلك أبو حنيفة وجماعة
__________
(1) سورة المائدة الآية 96(19/140)
لأنهما من السباع فيدخلان في عموم نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن أكل كل ذي ناب من السباع، والمسألة اجتهادية والأمر فيها واسع، والأحوط ترك أكله مراعاة للخلاف وتغليبا لجانب الحظر.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/141)
فتوى برقم 1734 وتاريخ 29 \ 12 \ 1397 هـ
السؤال: سافرت من مكان إلى مكان في طريق طويل حيث يوجد محطات على طول الطريق، فهل إذا وجبت الصلاة أتيمم وأصلي أم أنتظر حتى أصل المحطة التي أمامي مع ملاحظة أن تلك المحطة بعيدة يفوت وصولها وقت الصلاة؟ .
الجواب: إذا حان وقت الصلاة والإنسان مسافر ولا ماء معه للوضوء ويعلم أنه سيصل محل الماء في وقت اختيار فالأفضل له مواصلة السير حتى يصل إلى محل الماء، أما إذا كانت المواصلة تفوت عليه وقت الاختيار فلا يجوز له تأخير الصلاة عنه ويلزمه أن يصلي الصلاة في الوقت بالتيمم حفاظا على الوقت. وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/141)
فتوى برقم 226 وتاريخ 4 \ 12 \ 1398 هـ
السؤال: أفتانا شيخ بأن وسم أذن الدابة أو خرقها أو قرضها جزئيا أو كليا هو أمر من الشيطان، وهو يسبب لعنة الله على فاعل هذا الشيء فهل هذا صحيح أم لا؟ .
الجواب: الأصل في الإسلام احترام بهيمة الأنعام وعدم إيذائها بوسم أذنها أو خرقها أو قرضها جزئيا أو كليا أو بغير ذلك إلا إذا كان لحاجة ظاهرة كأن يريد تعليمها بشيء تعرف به له أو لغيره من وسم بنار في غير الوجه أو شق سنام الإبل التي تساق هديا فلا بأس بذلك ما دام ذلك في حدود الحاجة والغرض صحيح فقد ثبت في الصحيحين عن أنس -رضي الله عنه- قال: «غدوت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعبد الله بن أبي طلحة ليحنكه فوافيته وفي يده الميسم يسم إبل الصدقة (1) » ، ولأحمد وابن ماجه: «دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يسم غنما في آذانها (2) » ، وثبت في صحيح البخاري عن المسور بن مخرمة ومروان قالا: «خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- في بضع عشرة مائة من أصحابه، حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد النبي -صلى الله عليه وسلم- الهدي وأشعره (3) » ، والإشعار هو أن يجرح سنام البدنة حتى يسيل دم ثم يسلته فيكون ذلك علامة على كونه هديا. أما الوسم في الوجه فلا يجوز لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نهى عن ذلك ولعن من فعله.
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1502) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2144) ، سنن أبو داود الأدب (4951) ، مسند أحمد بن حنبل (3/181) .
(2) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5542) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2119) ، سنن أبو داود الجهاد (2563) ، سنن ابن ماجه اللباس (3565) ، مسند أحمد بن حنبل (3/171) .
(3) صحيح البخاري الشروط (2734) ، سنن النسائي مناسك الحج (2771) ، سنن أبو داود الجهاد (2765) ، مسند أحمد بن حنبل (4/332) .(19/142)
فتوى برقم 2229 وتاريخ 18 \ 12 \ 1398 هـ
السؤال: هل استعمال المسبحة بعد الصلاة بدعة؟ .
الجواب: الثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يسبح بعد الصلاة بيده، والخير كل الخير في اتباعه والاقتداء به ولا سيما في أمور العبادات التي الأصل فيها التوقيف - ولم يرد دليل من الشرع في التسبيح بالمسبحة، بل ورد بعض الآثار عن الصحابة ما يدل على استنكار التسبيح بها واعتبارها بدعة، من ذلك ما رواه محمد بن وضاع قال: حدثنا أسد عن جرير بن حازم عن الصلت بن برهام قال: مر ابن مسعود بامرأة تسبح به فقطعه وألقاها، ثم مر برجل يسبح بحصى فضربه برجله ثم قال: لقد جئتم ببدعة ظلما، أو لقد غلبتم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علما.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/143)
فتوى برقم 2251 وتاريخ 5 \ 1 \ 1399 هـ
السؤال: هناك فرقتان، فرقة تقول إن الاستعانة بالأنبياء والأولياء كفر وشرك مستدلين بالقرآن والسنة، وفرقة تقول إن الاستعانة بهم حق لأنهم أحباء الله تعالى وعباده المصطفون والأخيار، فأي الفريقين على الحق.
الجواب: الاستعانة بغير الله في شفاء مريض. أو إنزال غيث أو إطالة عمر وأمثال هذا مما هو من اختصاص الله تعالى نوع من الشرك الأكبر الذي يخرج من فعله من ملة الإسلام، وكذا الاستعانة بالأموات أو الغائبين(19/143)
عن نظر من استعان بهم من ملائكة أو جن أو إنس في جلب نفع أو دفع ضر نوع من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله إلا لمن تاب منه؛ لأن هذا النوع من الاستعانة قربة وعبادة، وهي لا تجوز إلا لله خالصة لوجهه الكريم. ومن أدلة ذلك ما علم الله عباده أن يقولوه في آية {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) ، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (2) وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (3) الآية. وقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (4) أي لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك. وما ثبت من قوله -عليه الصلاة والسلام- لعبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: «إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله (5) » . وقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث معاذ: «وحق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا (6) » . وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار (7) » . أما الاستعانة بغير الله فيما كان في حدود الأسباب العادية التي جعلها الله إلى الخلق وأقدرهم على فعلها، كالاستعانة بالطبيب في علاج مريض وبغيره، وإطعام جائع، وسقي عطشان، وإعطاء غني مالا لفقير، وأمثال ذلك، فليس بشرك بل هو من تعاون الخلق في المعاش وتحصيل وسائل الحياة، وهكذا لو استعان بالأحياء الغائبين بالطرق الحسية كالكتابة والإبراق والمكالمة الهاتفية ونحو ذلك.
وأما حياة الأنبياء والشهداء وسائر الأولياء فحياة برزخية لا يعلم حقيقتها إلا الله، وليست كالحياة التي كانت لهم في الدنيا، وبهذا يتبين أن الحق مع الفرقة الأولى التي قالت: إن الاستعانة بغير الله على ما تقدم شرك. وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 5
(2) سورة الإسراء الآية 23
(3) سورة البينة الآية 5
(4) سورة الجن الآية 18
(5) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2516) ، مسند أحمد بن حنبل (1/308) .
(6) صحيح البخاري الجهاد والسير (2856) ، صحيح مسلم الإيمان (30) ، سنن الترمذي الإيمان (2643) ، سنن أبو داود الجهاد (2559) ، سنن ابن ماجه الزهد (4296) ، مسند أحمد بن حنبل (5/238) .
(7) صحيح البخاري تفسير القرآن (4497) ، صحيح مسلم الإيمان (92) ، مسند أحمد بن حنبل (1/443) .(19/144)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/145)
فتوى برقم 2325 وتاريخ 6 \ 3 \ 1399 هـ
السؤال الأول: ما حكم من جامع زوجته وهي ما زالت في الحيض؟ .
الجواب: لا يجوز للرجل أن يجامع زوجته وهي ما زالت في الحيض، فإذا جامعها فعليه التوبة إلى الله والكفارة.
السؤال الثاني: أنا رجل عمري 28 سنة ولم أقض فريضة الحج بسبب دين علي متفرق فهل يسمح لي بقضاء الفريضة دون إذن أصحاب الديون علما أنه ليس هناك مال يمكن التسديد منه فيما لو حصلت الوفاة.
الجواب: من شروط وجوب الحج الاستطاعة، ومن الاستطاعة الاستطاعة المالية، ومن كان عليه دين مطالب به بحيث إن أهل الدين يمنعون الشخص عن الحج إلا بعد وفاء ديونهم فإنه لا يحج لأنه غير مستطيع، وإذا لم يطالبوه ويعلم منهم التسامح فإنه يجوز له، وقد يكون حجه سبب خير لأداء ديونه.
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/145)
فتوى برقم 2485 وتاريخ 18 \ 7 \ 1399 هـ
السؤال: أنا رجل أبلغ من العمر ستين وشعري أبيض وأريد صبغ لحيتي قاصدا كسب الرزق. هل يجوز لي ذلك؟ .
الجواب: تغيير الشيب بصبغ شعر الرأس واللحية بالحناء والكتم ونحوها جائز، وتغييره بالصبغ الأسود لا يجوز، وقد ورد بهذا الأحاديث الصحيحة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: «جيء بأبي قحافة يوم الفتح إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكأن رأسه ثغامة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اذهبوا به إلى بعض نسائه فلتغيره بشيء وجنبوه السواد (1) » ، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إن أحسن ما غيرتم به هذا الشيب الحناء والكتم (2) » رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وصححه الترمذي. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم اللباس والزينة (2102) ، سنن النسائي الزينة (5076) ، سنن أبو داود الترجل (4204) ، سنن ابن ماجه اللباس (3624) ، مسند أحمد بن حنبل (3/316) .
(2) سنن الترمذي اللباس (1753) ، سنن أبو داود الترجل (4205) ، سنن ابن ماجه اللباس (3622) .(19/146)
فتوى برقم 2611 وتاريخ 20 \ 9 \ 1399 هـ
السؤال: ما حكم الحاجز بين الرجال والنساء في المسجد، فقد أجازه البعض وحذر عنه البعض، فأما الذين أجازوه فقد استدلوا بكون وجوه النساء عندنا مكشوفة، وأما الذين حذروا عنه فقد استدلوا بالحديث الذي أمر فيه النساء بتأخير الرفع من الركوع والسجود حتى يرفع الرجال، وقالوا إنه لو كان الأمر إلى هذا الحد لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببناء الجدار بين الرجال(19/146)
والنساء في هذا الوقت وأن المسجد النبوي الشريف ما زال على تلك الحالة إلى يومنا هذا.
الجواب: لم يكن هناك حاجز في المسجد النبوي ولا في غيره من المساجد زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا زمن الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم- لا من البناء ولا من القماش، ولم يأمر به -صلى الله عليه وسلم- ولا أحد من الخلفاء الراشدين فيما نعلم، ويؤيد ذلك ما ثبت من حديث سهل بن سعد أنه قال: كان الناس يصلون مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم عاقدو أزرهم من الصغر على رقابهم، فقيل للنساء لا ترفعن رءوسكن حتى يستوي الرجال جلوسا؛ وذلك مخافة أن يرى النساء شيئا من عورات الرجال، ولو كان هناك حاجز من قماش أو غيره ما خيف عليهن من ذلك، لكن إذا خشيت الفتنة فلا بأس من إقامة حاجز بين النساء والرجال، لا يمنع ضبط النساء صلاتهن بصلاة الإمام درءا للفساد وتمكينا لهن مما أبيح لهن من الصلاة بالمساجد.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/147)
فتوى برقم 2875 وتاريخ 11 \ 3 \ 1400 هـ
السؤال: هل يجوز أن يكون العبد إماما، وهل يجوز أن يكون ولد زنا إماما؟ .
الجواب: تصح إمامة العبد وولد الزنا في الصلاة إذا كان كل منهما أهلا لذلك من جهة الدين لعموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله (1) »
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (673) ، سنن الترمذي الصلاة (235) ، سنن النسائي الإمامة (780) ، سنن أبو داود الصلاة (582) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (980) ، مسند أحمد بن حنبل (4/121) .(19/147)
الحديث، ولا نعلم دليلا يمنع من ذلك. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/148)
فتوى برقم 3132 وتاريخ 18 \ 8 \ 1400 هـ
السؤال: صلى رجل إماما بجماعة فقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة سورة تبت، ثم قرأ في الركعة الثانية سورة الفيل، وذلك في صلاة العشاء، فهل يجوز قراءة سورة بعد سورة أقدم منها في الكتاب أم لا؟ .
الجواب: إذا كان الأمر كما ذكر فليس في ذلك شيء، ولكن الأولى أن تكون السورة التي في الركعة الثانية بعد السورة التي في الركعة الأولى حسب ترتيب المصحف وبالله التوفيق
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/148)
فتوى برقم 3178 وتاريخ18 \ 8 \ 1400 هـ
السؤال: القنفذ هل أكله حلال أم حرام؟ .
الجواب: القنفذ المسمى بالنيص دويبة ذات شوك تلتف على نفسها، أكله(19/148)
حلال، لكونه ليس ذا ناب ولا يأكل الجيف وإنما يعيش على الحشائش كالأرنب ونحوها، والأصل في مثل هذا الحل والإباحة حتى يثبت ما يرفع ذلك، أما الحديث الذي رواه أبو داود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه «قال في القنفذ: إنها خبيثة من الخبائث (1) » ، فضعيف عند أهل العلم. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن أبو داود الأطعمة (3799) ، مسند أحمد بن حنبل (2/381) .(19/149)
فتوى برقم 3201 وتاريخ 1 \ 9 \ 1400 هـ
السؤال: هل يجوز للرجل أن يأخذ زوجته إلى طبيب مسلم أو كافر ليعالجها ويكشف عنها حتى يرى فرجها، مع العلم أن بعض الناس يذهبون ببناتهم إلى الأطباء ليكشف عنهن ويعطي لهن شهادة البكارة ويفعلون ذلك إذا قرب موعد الزواج.
الجواب: إذا تيسر الكشف على المرأة وعلاجها عند طبيبة مسلمة لم يجز أن يكشف عليها ويعالجها طبيب ولو كان مسلما، وإذا لم يتيسر ذلك واضطرت للعلاج جاز أن يكشف عليها طبيب مسلم بحضور زوجها أو محرم لها، خشية الفتنة أو وقوع ما لا تحمد عقباه، فإن لم يتيسر المسلم فطبيب كافر بالشرط المتقدم. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/149)
فتوى برقم 3256 وتاريخ 13 \ 10 \ 1400 هـ
السؤال: ما الحكم في مواظبة السلام ومصافحة الإمام والجالس على اليمين والشمال دبر كل صلاة مفروضة؟ .
الجواب: المواظبة على السلام على الإمام ومصافحته والتزام المصلي السلام على من عن يمينه ومن عن يساره عقب الصلوات الخمس بدعة؛ لأنه لم يثبت ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن خلفائه الراشدين وسائر الصحابة -رضي الله عنهم-، ولو كان لنقل إلينا لتكرر الصلاة كل يوم خمس مرات، وذلك لا يخفى على المسلمين لكونه في مشاهد عامة، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » ، وقال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(19/150)
فتوى برقم 2302 وتاريخ 6 \ 12 \ 1400 هـ
السؤال: ما حكم قراءة القرآن في المسجد جماعة؟ .
الجواب: السؤال فيه إجمال. فإذا كان المقصود أنهم يقرءون جميعا بصوت واحد ومواقف ومقاطع واحدة فهذا غير مشروع، وأقل أحواله الكراهة؛ لأنه لم يؤثر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا عن الصحابة -رضي الله عنهم-، لكن إذا كان ذلك من أجل التعليم فنرجو أن يكون ذلك لا بأس به وإن كان(19/150)
المقصود أنهم يجتمعون على قراءة القرآن لتحفظه أو تعلمه، ويقرأ أحدهم وهم يستمعون، أو يقرأ كل منهم لنفسه غير ملتق بصوته ولا بموافقة مع الآخرين، فذلك مشروع لما ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده (1) » رواه مسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن أبو داود الصلاة (1455) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .(19/151)
فتوى برقم 4994 وتاريخ 13 \ 10 \ 1402 هـ
السؤال: بعض الناس يقرءون القرآن جماعة صباحا ومساء بعد صلاة الصبح والمغرب فهل هذا بدعة.
الجواب: التزام قراءة القرآن جماعة بصوت واحد بعد كل من صلاة الصبح والمغرب أو غيرهما بدعة، وكذا التزام الدعاء جماعة بعد الصلاة. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/151)
فتوى برقم 317 وتاريخ 7 \ 1 \ 1401 هـ
السؤال الأول: بعض أئمة المساجد وغيرهم يصبغون لحاهم بالصبغ الأسود هل هذا جائز أم حرام؟ .(19/151)
الجواب: لا يجوز ذلك لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأهل أبي قحافة: «غيروا هذا الشيب وجنبوه السواد (1) » ، ولما روى أحمد وأبو داود بإسناد جيد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يكون في آخر الزمان قوم يخضبون بالسواد، كحواصل الحمام، لا يريحون رائحة الجنة (2) » .
السؤال الثاني: إذا وضعت المرأة هل لها مدة معينة لا تصلي أو تصلي بطهارتها من دم الولادة؟ .
الجواب: تصلي إذا انقطع عنها دم النفاس وذلك بعد أن تتطهر ولو قبل الأربعين.
السؤال: هل يجوز لشارب الدخان أن يصلي بالجماعة في المسجد جمعة وجماعة.
الجواب: تصح لكن غيره من أهل العدالة أولى منه وينبغي نصحه لعل الله يفتح على قلبه أن يترك هذا الخبيث.
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم اللباس والزينة (2102) ، سنن النسائي الزينة (5076) ، سنن أبو داود الترجل (4204) ، سنن ابن ماجه اللباس (3624) ، مسند أحمد بن حنبل (3/316) .
(2) سنن ابن ماجه الصيد (3217) .(19/152)
فتوى برقم 3534 وتاريخ 18 \ 3 \ 1401 هـ
السؤال: ما هي مقدار المسافة التي يمكن أن يقصر فيها المسافر الصلاة المكتوبة؟ .
الجواب: المسافة التي تقصر فيها الصلاة جاءت مطلقة في قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (1)
__________
(1) سورة النساء الآية 101(19/152)
الآية، فقد ورد لفظ الضرب مطلقا من غير تحديد مسافة طويلة أو قصيرة.
وعلى هذا تقصر الصلاة في كل ما يسمى سفرا عرفا عند بعض أهل العلم أخذا بإطلاق الضرب في الكتاب والسنة، وذهب جمع من أهل العلم إلى تحديد السفر بمسافة يومين قاصدين، ومقدار ذلك ثمانون كيلو على سبيل التقريب، والأظهر القول الأول وهو عدم التحديد بمسافة معينة بل بما يسمى سفرا عرفا.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/153)
فتوى برقم 3624 وتاريخ 15 \ 5 \ 1401 هـ
السؤال: ما هو تأثير الجن على الإنس أو الإنس على الجن، وما هو تأثير عين الحاسد في المحسود؟ .
الجواب: تأثير الجن على الإنس، والإنس على الجن، وتأثير عين الحاسد في المحسود، كل ذلك واقع ومعروف، لكن ذلك كله بإذن الله -سبحانه وتعالى- الكوني القدري لا إذنه الشرعي، وأما ما يتعلق بتأثير عين الحاسد في المحسود فهو ثابت فعلا وواقع في الناس وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «العين حق ولو أن شيئا سبق القضاء لسبقته العين (1) » ، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «لا رقية إلا من عين أو حمة (2) » والأحاديث في هذا كثيرة، نسأل الله العافية والثبات على الحق.
__________
(1) سنن الترمذي الطب (2059) ، سنن ابن ماجه الطب (3510) .
(2) سنن الترمذي الطب (2057) ، سنن أبو داود الطب (3884) ، مسند أحمد بن حنبل (4/446) .(19/153)
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/154)
فتوى برقم 3769 وتاريخ 22 \ 6 \ 1401 هـ
السؤال الأول: هل من الواجب قراءة سورة قصيرة أو ما تيسر من القرآن الكريم بعد الفاتحة بركعتي السنة الراتبة (ركعتي الفجر والظهر والمغرب إلخ، أم يكتفى بقراءة الفاتحة فقط في السنة وأما الفرض فمعروف) ؟ .
الجواب: يشرع أن يقرأ في صلاة النافلة سورة مع الفاتحة أو آيات من القرآن اقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وعملا بالأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك.
السؤال الثاني: رجل يقول: أنا كبير السن وذاكرتي أصبحت ضعيفة، وأحب أن أطيل القراءة بصلاة الصبح إلا أنني لا أحفظ غيبا إلا من قصار السور فهل يجوز لي حمل المصحف الشريف والتلاوة منه نظرا، وما هو الأفضل؟ هل قراءة السور القصيرة غيبا أفضل من قراءة طوال السور نظرا ومن المصحف الشريف؟ .
الجواب: يجوز لك أن تقرأ في الفريضة وغيرها من المصحف، ولك أن تقرأ سورتين وأكثر من القصار في صلاة الصبح وغيرها وذلك أفضل من القراءة من المصحف.
السؤال الثالث: تبرعت لمشروع خيري خوفا وخجلا من الرئيس المباشر في العمل، ولو ترك المجال لي لم أتبرع ولو بنصف قرش، فهل لي ثواب كامل على عملي هذا كما لو كنت قد تبرعت لهذا المشروع من حسن خاطر واختيار مني مع الدليل؟ .(19/154)
الجواب: إذا كان الأمر كما ذكرت فأنت لا تؤجر على هذا المبلغ لأنك لم تقصد به وجه الله وإنما قدمته لوجه صاحبك خوفا منه، وقد ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (1) » الحديث.
السؤال الرابع: أجرت منزلي على أحد الناس ولكنه رفض الخروج منه بحجة أن الحكومة لا تخرج الساكن من الدار وإنما يخرج برغبته، فهل تجوز صلاة هذا الرجل بالدار الساكن فيها رغم أنف صاحب الدار لأن نظام الحكومة يؤيده؟ .
الجواب: إذا كان بينك وبين ساكن الدار نزاع فمرده المحكمة، وأما الصلاة فصحيحة في أصح أقوال العلماء.
السؤال الخامس: كذب أحد الموظفين على زميله بالعمل عن طريق الوشاية فألحق به ضررا، فقام المكذوب عليه بنفس الفعلة فألحق بصاحبه ضررا، فما الحكم؟ .
الجواب: كل واحد منهما قد أساء بما فعل، وعلى كل واحد منهما أن يستبيح صاحبه من مظلمته له، وإن لم يحصل ذلك فالله هو الذي يقضي بين عباده يوم القيامة مع وجوب المبادرة بالتوبة إلى الله -سبحانه وتعالى- من كل واحد منهما.
السؤال السادس: قام أحد الناس بتحريض آخر على عداء إنسان والشهادة عليه بالزور والكذب واختلاق الأقوال، فهل يجوز للآخر وهو المظلوم أن يدعو بالويل وقطع الذرية على هذين الرجلين اللذين شهدا زورا وكذبا؟ .
الجواب: شهادة الزور من كبائر الذنوب، ولك أن تدعو الله -جل وعلا- بأن ينتقم منهما لك بقدر ما لك عليهما من المظلمة ولو عفوت عنهما لكان
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .(19/155)
خيرا. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/156)
فتوى برقم 3791 وتاريخ 29 \ 6 \ 1401 هـ
السؤال: ما حكم صلاة مسافر خلف إمام مقيم هل يتم معه أم لا؟ وما حكم تحية المسجد عند دخول الإمام؟ .
وهل يجوز مبادلة الثياب، مترا بمترين أو صنفا بصنفين؟ .
وهل يجوز لإمام الجامع أن يصلي على كل ميت يدعى إليه أم لا؟ .
الجواب:
أولا: تصح صلاة المسافر خلف إمام مقيم، ويلزمه أن يتم ولا يسلم إلا بسلام إمامه.
ثانيا: تحية المسجد سنة عند دخول المسجد مطلقا ولو كان الخطيب على المنبر يوم الجمعة على الصحيح من قولي العلماء، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا دخل أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليصل ركعتين وليتجوز فيهما (1) » ، رواه مسلم والبخاري.
ثالثا: يجوز مبادلة الثياب بعضها ببعض مع التساوي أو زيادة بعضها على بعض سواء كانت من جنس واحد أم أكثر، وسواء كان ذلك عاجلا أو لأجل لأن القماش ليس من الأجناس التي يدخلها الربا.
رابعا: الصلاة على الجنازة فرض كفاية إذا أداها البعض سقطت عن الباقين، وعلى هذا لا يتعين على إمام الجامع الصلاة على كل ميت يدعى إلى الصلاة عليه إلا إذا لم يوجد غيره ولكن الخير له أن يصلي على
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (930) ، صحيح مسلم الجمعة (875) ، سنن الترمذي الجمعة (510) ، سنن النسائي الجمعة (1409) ، سنن أبو داود الصلاة (1116) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1114) ، مسند أحمد بن حنبل (3/297) ، سنن الدارمي الصلاة (1555) .(19/156)
ما يدعى إليه من الجنائز إن تيسر له ذلك ليكسب الأجر. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/157)
فتوى برقم 3896 وتاريخ 29 \ 8 \ 1401 هـ
السؤال: رجل تزوج بامرأة مسلمة متبرجة، ووعظها بالالتزام بشرع الله وخاصة أمر الحجاب فالتزمت ببعض الأوامر كالصلاة ورفضت الحجاب، فماذا يكون موقفه منها. وهل يجب عليه طلاقها أم لا؟ وإن لم يكن واجبا عليه طلاقها فهل يتحمل ذنوب تبرجها أم لا وخاصة أن كل إنسان يحاسب على فعله فقط؟ ونرجو التوفيق بين هذا وبين الحديث الشريف «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته (1) » .
الجواب: يجب عليه أن يأمرها بالحجاب لأن الحجاب واجب، ويعالجها في ذلك حتى يحصل على تحجبها، والرجل راع في بيته ومسئول عن رعيته ومن رعيته زوجته، ومتى اتقى الله في ذلك وصبر يسر الله أمره وبارك في أعماله كما قال عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (2) . وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (893) ، صحيح مسلم الإمارة (1829) ، سنن الترمذي الجهاد (1705) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2928) ، مسند أحمد بن حنبل (2/121) .
(2) سورة الطلاق الآية 4(19/157)
فتوى برقم 3973 وتاريخ 17 \ 10 \ 1401 هـ
السؤال: هل يجوز للمرأة في فترة الحداد على الزوج الميت أن تستعمل التليفون في مخاطبة النساء ومن هم محارم لها كابنها مثلا؟ .
الجواب: نعم يجوز لها ذلك مع النساء ومحارمها من الرجال عملا بالأصل وهو الإباحة، ويجوز أيضا تكليم غير محارمها عن طريق التليفون على وجه ليس فيه محذور شرعا.
السؤال: هل يجوز للمرأة في فترة الحداد لبس الساعة لضبط الوقت لا للتجميل؟ .
الجواب: نعم يجوز لها ذلك، لأن الأمر يتبع القصد وتركها أولى لأنها تشبه الحلي.
السؤال: هل تلبس المرأة في فترة الحداد نوعا معينا ولونا معينا من الثياب وهي في سن 55 سنة تقريبا؟ .
الجواب: تتجنب المرأة المعتدة عدة وفاة لبس ثياب الجمال.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/158)
فتوى برقم 4513 وتاريخ 4 \ 11 \ 1401 هـ
السؤال الأول: ما حكم الصلاة خلف إمام يعتقد في صاحب قبر صالح(19/158)
أنه ينفع أو يضر؟ .
الجواب: لا تجوز الصلاة خلفه ولا تصح؛ لأن اعتقاد النفع والضر في الأموات شرك أكبر في الربوبية، وهكذا دعاؤهم والاستعانة بهم والنذر والذبح لهم شرك أكبر في العبادة.
السؤال الثاني: ما حكم من أكل يوما في رمضان عمدا ثم تاب إلى الله هل تقبل توبته؟ .
الجواب: نعم تقبل توبته لقوله سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (1) وغير ذلك مما جاء في الكتاب والسنة.
السؤال الثالث: ما معنى التسيير والتخيير؟ .
الجواب: الإنسان مخير ومسير. أما كونه مخيرا فلأن الله سبحانه أعطاه عقلا وسمعا وبصرا وإرادة، فهو يعرف بذلك الخير من الشر، والنافع من الضار، ويختار ما يناسبه، وبذلك تعلقت به التكاليف من الأمر والنهي، واستحق الثواب على طاعة الله ورسوله والعقاب على معصيته الله ورسوله. وأما كونه مسيرا فلأنه لا يخرج بأفعاله وأقواله عن قدر الله ومشيئته، كما قال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (2) ، وقال سبحانه: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (3) {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (4) وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (5) الآية. وفي الباب آيات كثيرة وأحاديث صحيحة كلها تدل على ما ذكرنا لمن تأمل الكتاب والسنة. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) سورة طه الآية 82
(2) سورة الحديد الآية 22
(3) سورة التكوير الآية 28
(4) سورة التكوير الآية 29
(5) سورة يونس الآية 22(19/159)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/160)
فتوى برقم 4127 وتاريخ 11 \ 11 \ 1401 هـ
السؤال: ما حكم عمل المرأة، وما المجالات التي يجوز للمرأة أن تعمل فيها؟ .
الجواب: ما اختلف أحد في أن المرأة تعمل، ولكن الكلام إنما يكون عن المجال الذي تعمل فيه، وبيانه: - أنها تقوم بما يقوم به مثلها في بيت زوجها وأسرتها من طبخ وعجن وخبز وكنس وغسل ملابس وسائر أنواع الخدمة والتعاون التي تتناسب معها في الأسرة، ولها أن تقوم بالتدريس والبيع والشراء والصناعة من نسيج وصبغ وغزل وخياطة ونحو ذلك إذا لم يفض إلى ما لا يجوز شرعا من خلوتها بأجنبي، أو اختلاطها برجال غير محارم اختلاطا تحدث منه فتنة، أو يؤدي إلى فوات ما يجب عليها نحو أسرتها دون أن تقيم مقامها من يقوم بالواجب عنها ودون رضاهم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/160)
فتوى برقم 4322 وتاريخ 15 \ 1 \ 1402 هـ
السؤال الأول: هل يجوز وضع الصورة الشمسية في الجيب أثناء الصلاة؟ .
الجواب: لا يجوز تصوير ذوات الأرواح ولا اقتناء صورها ولا وضع صورها في الجيب لا في الصلاة ولا خارجها أو غيرها إلا لضرورة تدعو إلى ذلك.
السؤال الثاني: هل يجوز لامرأة أن تكشف الخمار لأخي زوجها علما بأنهما في بيت واحد؟ .
الجواب: لا يجوز للمرأة أن تكشف وجهها ولا شعرها لمن ليس بمحرم لها ولو كان أخا لزوجها أو زوجا لأختها، لما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سئل عن الحمو فقال: «الحمو الموت (1) » ، والحمو أقارب الزوج كأخيه أو عمه وابن عمه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5232) ، صحيح مسلم السلام (2172) ، سنن الترمذي الرضاع (1171) ، مسند أحمد بن حنبل (4/149) ، سنن الدارمي الاستئذان (2642) .(19/161)
فتوى برقم 4327 وتاريخ21 \ 1 \ 1402 هـ
السؤال: أملك مبنى وتقدم أحد البنوك لاستئجاره وحيث إن هذا البنك من البنوك التي تتعامل بالربا فهل يجوز لي تأجير هذا البنك وأمثاله ممن يتعامل بالربا أم لا؟ .(19/161)
الجواب: لا يجوز ذلك لكون البنك المذكور يستخدمها مقرا للتعامل بالربا المحرم، وتأجيرها عليه لهذا الغرض تعاون معه في عمل محرم، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(19/162)
فتوى برقم 5313 وتاريخ 15 \ 2 \ 1403 هـ
السؤال: أشخاص التحقوا في نادي من نوادي الكارتيه بأمريكا، وقال المدرب: إنه يجب أن تنحني عندما ينحنى لك، فرفضنا وشرحنا له ذلك في ديننا فوافق ولكن قال: على أن نحني فقط الرأس لأنه هو يبدأ بالانحناء فلا بد أن ترد تحيته فما الحكم؟ .
الجواب: لا يجوز الانحناء تحية للمسلم ولا للكافر لا بالجزء الأعلى من البدن ولا بالرأس لأن الانحناء تحية عبادة والعبادة لا تكون إلا لله وحده.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/162)
فتوى برقم 4393 وتاريخ 25 \ 2 \ 1402 هـ
السؤال: هل يجوز للمسلم أن يذهب لأحد من الناس فيسأله عن مرضه فيخبره الآخر بأنه مسحور ثم يطلب المريض منه أن يحل السحر عنه(19/162)
فيقوم بصب الرصاص على رأس المريض في إناء فيه ماء ثم يخبره بأن فلانا قد سحره؟ وهل يجوز أن تسأل الأم عن ابنها من سيتزوج وتسأل عن ابنها المتزوج هل تحبنا زوجته أو تكن لنا العداوة؟ .
الجواب: يجوز للمسلم أن يذهب إلى دكتور أمراض باطنية أو جراحية أو عصبية أو نحو ذلك ليشخص له مرضه ويعالجه بما يناسبه من الأدوية غير المحرمة شرعا حسب ما يعلمه في علم الطب لأن ذلك من باب الأخذ بالأسباب العادية، وقد أنزل الله تعالى الداء وأنزل الدواء عرف ذلك من عرفه وجهله من جهله. ولا يجوز أن يذهب إلى الكهنة الذين يزعمون معرفة الغيب ليعرف منهم مرضه، ولا يجوز له أن يصدقهم فيما يخبرونه به فإنهم يتكلمون رجما بالغيب أو يستحضرون الجن ليستعينوا بهم على ما يريدون، وهؤلاء شأنهم الكفر، والاستعانة بهم شرك، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل صلاته أربعين (1) » رواه مسلم، وفي السنن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من أتى كاهنا فصدقه فقد كفر بما أنزل الله على محمد -صلى الله عليه وسلم- (2) » رواه البزار بإسناد جيد، ولا يجوز له أن يخضع لما يزعمون علاجا من صب رصاص ونحوه على رأسه فإن هذا من الكهانة ورضاه بذلك مساعدة لهم على الكهانة والاستعانة بشياطين الجن، كما لا يجوز لأحد أن يذهب إلى من يسأله من الكهان من سيتزوجه ابنه أو عما يكون من الزوجين أو أسرتيهما من المحبة والعداوة والوفاق أو الفراق فإن ذلك من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2230) ، مسند أحمد بن حنبل (4/68) .
(2) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/429) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .(19/163)
فتوى برقم 4513 وتاريخ 5 \ 4 \ 1402 هـ
السؤال الأول: طريقة صناعة الخل في بعض البلدان يدخل فيها النبيذ أو البيرة ثم يوضعان في نشارة خشب ويضاف إليهم بعض المواد حتى يتحلل النبيذ ويعطينا الخل فما حكم تناول هذا الخل؟ .
الجواب: لا يجوز وضع شيء مما يسكر فيما يراد استعماله دواء أو طعاما أو شرابا، ولا فيما يراد استخراج الطعام أو الشراب أو الإدام منه، سواء كان ذلك المسكر نبيذا أم بيرة أم غيرهما.
وقد صدرت فتوى اللجنة الدائمة في حكم خلط الدواء بكحول وفي حكم تعاطيه هذا نصها: (لا يجوز خلط الأدوية بالكحول المسكرة لكن لو خلطت بالكحول جاز استعمالها إن كانت نسبة الكحول قليلة لم يظهر أثرها في لون الدواء ولا طعمه ولا ريحه ولا السكر بشربه وإلا حرم استعمال ما خلط بها) . وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
السؤال الثاني: تثار شبهات حول بعض الأطعمة كالسمن الهولندي والكوكاكولا وغير ذلك كالأطعمة المستوردة فهل الاشتباه في حرمة هذه الأطعمة يجعل الأفضل في حق المشتبه فيها أن لا يأكلها؟ .
الجواب: الأصل حل تناول ما ذكر أكلا وشربا حتى يثبت ما يوجب حرمته من خلط السمن ونحوه بشحم خنزير أو ميتة مثلا، أو يذبح الطيور أو الأنعام على غير الطريقة الشرعية من صعق أو خنق أو غير ذلك. وبالله التوفيق.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(19/164)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/165)
فتوى برقم 4666 وتاريخ18 \ 6 \ 1402 هـ
السؤال: هل يصح للرجل أن يحلق الخدين المسمين بالعارضين ويترك اللحية، وهل يصح أن يحلق وهو صائم وإن خرج دم سواء حلق الرأس أو العانة أو غير ذلك؟ .
الجواب: لا يجوز حلق العارضين لأنهما من اللحية، ويجوز أن يحلق الرجل رأسه وعانته ونحوها في رمضان وغيره وإن خرج دم، بل حلق العانة من سنن الفطرة.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/165)
فتوى برقم 4833 وتاريخ 17 \ 8 \ 1402 هـ
السؤال: هل يجوز أداء صلاة الجمعة بمدينة واحدة في مسجدين علما بأن عدد سكانها يبلغ 50000 شخصا ممن تجب عليه صلاة الجمعة أم لا؟ .
الجواب: الأصل ألا تصلى الجمعة في البلد الواحد إلا في جامع واحد، لأن ذلك هو الذي كان في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة ولأنه أقرب إلى(19/165)
تحقيق شعار الوحدة بين المسلمين وأدعى لكمال التعارف بينهم فإذا دعت الحاجة إلى صلاتها في أكثر من مسجد جاز تعدد المساجد لذلك مثل ما إذا ضاق المسجد عن أن يتسع لمن يصلي الجمعة أو كان بين سكان البلد خصومة أو عداوة ينشأ معها عند الاجتماع في مسجد واحد ما لا تحمد عقباه، أو كانت أطراف المدينة متباعدة كعواصم المدن فيشق على من في طرفها أن يسعى لأداء الجمعة في طرفها الآخر، ففي هذه الحالات وأمثالها يجوز تعدد مساجد الجمعة؛ دفعا للمشقة والحرج قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1) وقال: « (3) » ، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الحج الآية 78
(2) صحيح مسلم الإيمان (125) ، مسند أحمد بن حنبل (2/412) .
(3) سورة البقرة الآية 286 (2) {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}(19/166)
فتوى برقم 5000 وتاريخ 13 \ 10 \ 1402 هـ
السؤال الأول: ما حكم الاستعانة بقبور الأولياء والطواف بها والتبرك بأحجارها والنذر لهم والإظلال على قبورهم واتخاذهم وسيلة عند الله؟ .
الجواب: الاستعانة بقبور الأولياء أو النذر لهم أو اتخاذهم وسطاء عند الله بطلب ذلك منهم شرك أكبر مخرج من الملة الإسلامية موجب للخلود في النار لمن مات عليه. أما الطواف بالقبور والتبرك بأحجارها أو تظليلها(19/166)
فبدعة يحرم فعلها ووسيلة عظمى لعبادة أهلها من دون الله. وقد تكون شركا إذا قصد أن الميت بذلك يجلب له نفعا أو يدفع عنه ضرا أو قصد بالطواف التقرب إلى الميت.
السؤال الثاني: هل تخصيص مساء اليوم الأول والثاني والثالث بعد موت أحد الناس لتوزيع الصدقات والخيرات وكذلك الجمعة السابعة واليوم الأربعين ويوم في كل سنة يخصصونه موعد لإيصال الثواب إلى الميت؟ .
الجواب: هذا العمل بدعة لا أصل له.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/167)
فتوى برقم 338 في 8 \ 1 \ 1393 هـ
السؤال الأول: شخص توفي والده ويذكر أنه سبق أن طلق والدته طلاق السنة ولم يسبقه طلاق، وأن الدم متوقف عن والدته منذ ثمانية عشر عاما ويسأل هل عليها عدة وفاة أم لا؟ .
الجواب: إذا كان الأمر كما ذكر في السؤال من أن والده طلق أمه طلاق السنة ولم يكن آخر ثلاث تطليقات فإذا لم يكن على عوض وكانت كما ذكره آيسة من المحيض فعدتها ثلاثة أشهر، وحيث إن والده توفي قبل ثلاثة أشهر من الطلاق حسب ما ذكره فإنها تترك عدة الطلاق وتستأنف عدة الوفاة لكون طلاقها رجعيا حيث إن المطلقة طلاقا رجعيا تعتبر في حكم الزوجة حتى تخرج من العدة.
السؤال الثاني: يذكر السائل فيه أن خالته (زوجة أبيه) حامل فهل تعتد(19/167)
لوفاة أبيه عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا أم تعتد حتى تضع حملها؟ .
الجواب: وبدراسة اللجنة له أجابت بأن عليها أن تعتد حتى تضع حملها. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/168)
فتوى رقم 599 في 22 \ 11 \ 93 هـ
السؤال: تزوجت امرأة من رجل ثم توفي عنها وليس له منها أولاد ولا يوجد في بلد الزوج أقارب لها، فهل يجوز لها أن تنتقل من بلد زوجها إلى بلد وليها لتقضي مدة الحداد عنده أم لا؟ .
الجواب: يجوز لهذه الزوجة أن تنتقل إلى بيت وليها أو إلى أي جهة أخرى تأمن على نفسها فيها لتقضي بقية مدة حدادها على زوجها إذا خافت على نفسها أو انتهاك حرمتها ولم يوجد عندها من يحافظ عليها، أما إذا كانت في أمن من الاعتداء عليها وإنما تريد أن تكون قريبة من أهلها فلا يجوز لها الانتقال، بل على أن تمكث في مكانها حتى تقضي مدة حدادها، ثم تسافر مع محرمها إلى حيث تريد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/168)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
أسئلة في أحكام الحج
السؤال الأول: ما حكم من نزل من الطائف إلى جدة للإقامة بها إلى وقت الحج وهو حين النزول ينوي الحج من ذلك العام، وكان نزوله في أشهر الحج وأحرم من جدة بالحج أو بالعمرة.
الجواب: ظاهر الأدلة الشرعية أن على هذا أن يرجع ويحرم من ميقات الطائف إذا أراد الحج أو العمرة لكونه جاوزه بدون إحرام وهو ناو للحج، ومن لم يفعل وأحرم من جدة فعليه دم يذبح في مكة للفقراء.
أما إن كان حين جاوز الميقات ليس عنده جزم بحج ولا عمرة فلا حرج في إحرامه من جدة بالحج أو العمرة لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لما وقت المواقيت: «هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة، فمن كان دون ذلك فمهله من أهله حتى أهل مكة من مكة (1) » .
السؤال الثاني: امرأة أصابها الحيض أو النفاس قبل أن تطوف طواف الإفاضة، هل يلزمها البقاء في مكة حتى تطهر وتطوف أم يجوز لها السفر إلى جدة أو غيرها ثم ترجع وتطوف إذا طهرت.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1524) ، صحيح مسلم الحج (1181) ، سنن النسائي مناسك الحج (2654) ، مسند أحمد بن حنبل (1/332) ، سنن الدارمي المناسك (1792) .(19/169)
الجواب: إذا استطاعت أن تبقى في مكة وجب عليها البقاء في مكة حتى تطهر وتكمل حجها فإن لم تستطع فلا مانع من سفرها مع محرمها إلى جدة أو الطائف ونحوهما ثم ترجع مع محرمها بعد الطهر وتكمل مناسكها.
السؤال الثالث: موظف قد عزم على الحج لكن له أعمال في الطائف يتردد من أجلها بين الطائف وجدة بغير إحرام.
الجواب: لا حرج في ذلك لأنه حين تردده من الطائف إلى جدة لم يقصد حجا ولا عمرة وإنما أراد قضاء حاجاته لكن من علم في الرجعة الأخيرة من الطائف أنه لا عودة له إلى الطائف قبل الحج فعليه أن يحرم من الميقات بالعمرة أو الحج. أما إذا لم يعلم ثم صادف وقت الحج وهو في جدة فإنه يحرم من جدة بالحج ولا شيء عليه. ويكون حكمه حكم المقيمين في جدة الذين جاءوا إليها لبعض الأعمال، ولم يريدوا حجا ولا عمرة عند مرورهم بالميقات.
السؤال الرابع: خرجنا من مزدلفة الساعة الحادية عشرة وأربعين دقيقة " 40، 11 " وكان معنا أطفال علما بأننا رجمنا الجمرة الساعة الثانية عشرة إلا عشر دقائق " 11. 50 " ثم نزلنا إلى مكة فما الحكم؟ .
الجواب: ليس عليكم شيء لأن خروجكم من مزدلفة صادف وقت انتصاف الليل، ولو تأخرتم حتى يغيب القمر لكان أفضل وأحوط. وفق الله الجميع لما فيه رضاه وتقبل منا ومنكم ومن جميع المسلمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء
والدعوة والإرشاد(19/170)
القضاء والحكم بشريعة الإسلام
بين توحيد المشرع ومتابعة المبلغ
للدكتور سعود بن سعد الدريب (1)
إن القضاء بين الخصوم من ضرورات الاجتماع، به تسوس الدولة مملكتها، وتسود رعيتها تحت ظل العدل والأمن والاطمئنان، إذ لولا القضاء لعمت الفوضى، واختل الأمن، وفسد النظام، وساد الاضطراب. قال الله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (2) يعني لولا أن الله تعالى أقام الولاة في الأرض يدفعون القوي عن الضعيف، وينصفون المظلوم من الظالم لما انتظم لهم حال ولا قر لهم قرار، فتفسد الأرض ومن عليها. وقد امتن الله على الخلق بإقامة الولاة فقال في آخر الآية: {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (3) يعني في إقامة الولاة فيأمن الناس بهم؛ فيكون فضلهم على الظالم كف يده عن المظلوم، وفضلهم على المظلوم كف يد الظالم عنه، وفضلهم على المجتمع سيادة النظام والأمان.
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا
إذا فالقضاء الشرعي المبني على العلم والحكمة والعدل والقوة والأمانة، هو ظل الله في أرضه، يأوي إليه كل مظلوم من عباده، ولولا
__________
(1) ورد للكاتب ترجمة في العدد السابع صفحة 268.
(2) سورة البقرة الآية 251
(3) سورة البقرة الآية 251(19/171)
من يقيمه لإنصاف المظلوم وردع الظالم لأكل الناس بعضهم بعضا، إذ ليس كل أحد يقنع بحقه أو يقف عند حده ويرتدع عن غيه.
لو أنصف الناس استراح القاضي ... وبات كل عن أخيه راضي
ولهذا جاءت الشرائع السماوية بناحية أخلاقية، لتهذب من طبع الإنسان، وتحد من جبروته وأنانيته وطمعه، وتجعل منه عضوا صالحا في المجتمع الذي يعيش فيه، وجاءت فيها الأحكام الملزمة، والعقوبات الرادعة، لتردع من لم تؤثر فيه الأحكام الأخلاقية، والمواعظ الدينية إلى جادة الحق والصواب.
وفيما يلي سنبحث مفهوم القضاء والحكم في اللغة، والقرآن، والحديث، ونبين الفرق بين القضاء والحكم، ثم نتتبع ذلك ببيان وجه الارتباط بين الشريعة والعقيدة، وأن القضاء بالشريعة من مستلزمات الإيمان بالمشرع -جل وعلا-، ومقتضى متابعة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- رسول الله للبشرية جمعاء، المبلغ لشرع الله.(19/172)
القضاء والحكم في اللغة:
أصل القضاء قضاي؛ لأنه من قضيت، إلا أن الياء لما جاءت بعد الألف الزائدة قلبت همزة، وأهل الحجاز يقولون: القاضي القاطع للأمور المحكم لها. قال ابن منظور (م سنة 711 هـ) : (القضاء الحكم، والجمع الأقضية، والقضية مثله، والجمع القضايا، وقضى عليه يقضي قضاء وقضية - الأخيرة مصدر كالأولى - والاسم القضية فقط. واستقضى فلان: جعل قاضيا يقضي بين الناس، وقضى الأمير قاضيا كما تقول أمر أميرا. والقضايا الأحكام، واحدتها قضية. ورجل قضي: سريع القضاء أي الحكم.
وقال الزهري: القضاء في اللغة على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء(19/172)
وتمامه، كل ما أحكم عمله أو تم، أو ختم، أو أدى أداء، وأوجب، أو أعلم، أو أنفذ، أو أمضى فقد قضى. . . إلخ (1) .
وفي تاج العروس شرح القاموس للزبيدي (ت 1205هـ) قضى عليه يقضي قضيا - بالفتح - واستقضاه السلطان: طلبه للقضاء، والمقاضة مفاعلة من القضاء بمعنى: الفصل والحكم، وقاضاه رافعه إلى القاضي، وعلى مال صالحه عليه. وتقاضيته حقي فقضاني أي طالبته فأعطاني، أو تجازيته فجازانيه. واقتضيت ما لي عليه أي: أخذته وقبضته، وقضى الرجل ساد القضاة وفاقهم، والقضيان كعثمان بمعنى القضاء لغة عامية (2) . وفي المصباح المنير (3 \ 166) للفيومي المتوفى سنة (770 هـ) استقضيته: طلبت قضاءه. ومما تقدم يظهر أن لفظ القضاء يأتي على معنيين.
1 - الصفة الحكمية التي توجب لموصوفها نفوذ حكمه الشرعي في حدود اختصاصه أي الولاية والخطة والمنصب، كما في قولهم: ولي القضاء: أي حصلت له الصفة المذكورة.
2 - أن القضاء اسم للحكم في الواقعة، كما في قولهم: قضى القاضي بكذا أي: حكم وفصل.
ففي قولهم: قضاء القاضي حق أو باطل أي حكمه فالمقصود المعنى الثاني. وفي قولهم: استقضى السلطان فلانا: أي جعله قاضيا يقضي بين
__________
(1) لسان العرب، فصل اتفاق حرف الواو والياء (20 \ 47) الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية ببولاق.
(2) تاج العروس، فصل القاف من باب الواو والياء (10 \ 296ـ 297) .(19/173)
الناس يكون المقصود المعنى الأول، أي المنصب والولاية، أو الخطة في لغة أهل المغرب، يقول الشيخ أبو الحسن النباهي المولود سنة (713 هـ) في كتابه (تاريخ قضاة الأندلس) : وخطة القضاء في نفسها عند الكافة من أسنى الخطط، أي من أعظم الولايات والمناصب شأنا.
أما لفظ الحكم في اللغة، فيقول ابن منظور في لسان العرب (1) الحاكم هو القاضي، والحكم العلم والفقه والقضاء بالعدل وهو مصدر حكم. والعرب تقول: حكمت وأحكمت وحكمت - بتشديد الكاف - بمعنى منعت ورددت.
ومن هذا قيل للحاكم بين الناس حاكم: لأنه يمنع الظالم عن ظلمه، قال الأزهري: الحكم القضاء بالعدل، وجمعه: أحكام، لا يكسر على غير ذلك - أي: لا يجمع جمع تكسير خلاف ما ذكر - والحاكم منفذ الحكم، والجمع حكام وهو الحكم.
وحاكمه إلى الحكم: داعاه، والمحاكمة: المخاصمة إلى الحاكم. والحكمة: القضاة. وفي المصباح: الحكم: القضاء، وأصله المنع. يقال: حكمت عليه بكذا إذا منعته من خلافه فلم يقدر على الخروج من ذلك (2) . فمعنى قولهم: حكم الحاكم أي: وضع الحق في أهله ومنع من ليس له بأهل (3) ، وفي شرح مجلة الأحكام العدلية لللأتاسي: الحاكمية مصدر، ولم أر من فرق بين الحكم والحاكمية، ولعل الفرق أن الحكم اسم للحدث من حيث هو والحاكمية اسم له مع ملاحظة ذات تتصف به.
__________
(1) ص 30 المجلد الخامس عشر - النسخة المصورة عن طبعة بولاق.
(2) المصباح المنير (1 \ 157) .
(3) تبصرة الحكام لابن فرحون (1 \ 12) .(19/174)
فمعنى قولنا: قضاء القاضي عدل أو جور - أي حكمه - يراد الأولى (الحكم) ، وإذا قال السلطان: إذا جاء الشهر الفلاني فقد وليتك قضاء كذا، يراد الثاني (الحاكمية) أي جعلتك حاكما (1) .
قوله: ولم أر من فرق بين الحكم والحاكمية. قلت: وقد أشار، إلى الفرق بين الولاية والحكم الخطاب من المالكية كما سبقت الإشارة إلى ذلك عند الكلام على لفظ القضاء (2) .
__________
(1) شرح الأتاسي ص 3م 6 مطبعة السلام بحمص 1355 هـ.
(2) انظر هامش الصفحة السابقة.(19/175)
القضاء والحكم في القرآن
لم يرد لفظ القضاء في الكتاب العزيز وإنما وردت مشتقاته في مواضع مختلفة ومعان متعددة (1) منها: -
ا - الحكم، قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) .
2 - الحتم واللزوم، ومن هذا قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} (3) الآية أي: حتمناه عليه وألزمناه به.
3 - الأمر، ومن وروده بهذا المعنى قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (4) الآية والمعنى: أن الله تعالى أمر أمر إيجاب،
__________
(1) انظر مختار الصحاح ص 540ـ 541 مواهب الجليل (6 \ 86) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5 \ 385) .
(2) سورة النساء الآية 65
(3) سورة سبأ الآية 14
(4) سورة الإسراء الآية 23(19/175)
وشرع ووصى بعدم عبادة غيره. وهذا من القضاء الشرعي الديني إذ لو كان قضاء كونيا لما عبد غيره تعالى.
4 - الإنهاء والإبلاغ، كما في قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ} (1) الآية. وقوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} (2) أي: أنهينا إليه ذلك وأبلغناه إياه لأن الخبر ينتهي إلى من يبلغه.
5 - ويأتي بمعنى البيان، قال الله تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} (3) الآية. أي يبن لك بيانه كقوله في سورة القيامة {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (4) {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (5) {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (6) {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (7) أي: ثم علينا أن نقرأه.
6 - الخلق والصنع والتقدير، ومنه قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (8) الآية. أي صنعهن وخلقهن ومنه القضاء والقدر.
7 - الفراغ من الشيء والانتهاء منه، ومنه قوله تعالى: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} (9) أي: فرغ منه وانتهى.
8 - والقضاء بمعنى العمل، قال تعالى: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} (10) الآية. أي: اصنع ما أنت صانع واعمل ما أنت عامل. قال
__________
(1) سورة الإسراء الآية 4
(2) سورة الحجر الآية 66
(3) سورة طه الآية 114
(4) سورة القيامة الآية 16
(5) سورة القيامة الآية 17
(6) سورة القيامة الآية 18
(7) سورة القيامة الآية 19
(8) سورة فصلت الآية 12
(9) سورة يوسف الآية 41
(10) سورة طه الآية 72(19/176)
أبو ذؤيب الهذلي:
وعليهما مسودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبع
الصنع الحاذق بالعمل، وتبع من ملوك حمير كانت تنسب إليه الدروع التبعية.
9 - ويأتي القضاء في القرآن بمعنى القتل والهلاك، ومنه قوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} (1) الآية، أي قتله، وقوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} (2) أي: هلك، وأصل النحب النذر واستعير للموت لأنه كنذر لازم في رقبة كل حيوان.
10 - بلوغ الشيء ونيله: ومنه قوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} (3) الآية، أي: نال منها حاجته.
11 - ويأتي بمعنى المضي، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} (4) أي: امضوا ما في أنفسكم ولا تؤخروه، ويمثل لذلك - أيضا - بقوله تعالى: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} (5) أي امض ما أنت ممضيه.
12 - ويكون بمعنى الإرادة كقوله تعالى: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (6) .
13 - ويكون بمعنى العهد، كقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} (7) مما تقدم يظهر أن هذه المعاني يمكن أن
__________
(1) سورة القصص الآية 15
(2) سورة الأحزاب الآية 23
(3) سورة الأحزاب الآية 37
(4) سورة يونس الآية 71
(5) سورة طه الآية 72
(6) سورة آل عمران الآية 47
(7) سورة القصص الآية 44(19/177)
يتصف بها القضاء فيكون اللفظ من قبيل المشترك المعنوي، فكلها ترجع إلى إتمام الشيء أو الفراغ منه قولا أو فعلا أي: إمضاؤه وإحكامه، وبيان ذلك:
- أن القضاء بمعنى الحكم في الواقعة بتقدير شيء أو تقريره وإثباته أو منعه ونفيه بما يفصل المنازعات وينهي الخصومات
- ولا بد في حقيقة القضاء من الإلزام بالحكم.
- يأمر به القاضي إذ القضاء أمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
- وينهيه إلى المحكوم عليه، ويبلغه إياه مشافهة.
- بلفظ صريح ينطق به في مجلس الحكم ويبين بيانه أي: يقرأه.
- بأسلوب محكم إحكاما، ومتقن اتقانا يوضح فيه الأسباب والحيثيات والمستند في الحكم.
- وبهذا يكون الحكم قد انتهى وفرغ منه، لأن القاضي ينهي الأمر ويفرغ منه.
- وهذا كله عمل من القاضي، يبذل جهده، واستفراغ وسعه في بحث المسألة.
- واستقصاء المشكلة للوصول إلى الحق، ووضعه في نصابه لتنفيذه.
- وذلك برد الحقوق إلى أصحابها، ورد المظالم إلى أهلها؛ ذلك لأن الإلزام هو تنفيذ القول على المحكوم عليه رضي أو أبى، إذ لا خير في حق لا نفاذ له.
وبهذا يكون صاحب الحق قد بلغ مقصوده ونال غايته وحقق مطلبه.
- فيكون الحكم ماضيا لا يتعرض له القاضي اللاحق حسب القاعدة الفقهية (لا يحق لقاض لاحق النظر في حكم سابق) . وهذه خاصية من خصوصيات الحكم القضائي. وهي حيلولته دون إثارة النزاع المحكوم فيه مرة أخرى أمام القضاء بين نفس الخصوم، وهذه الخاصية تسمى حجية الأحكام.(19/178)
لفظ الحكم في القرآن: -
ورد لفظ [حكم] ومشتقاته في القرآن الكريم في نحو مائة موضوع ترجع في جلتها إلى القضاء والفصل بالحق والعدل؛ لمنع العدوان والظلم. منها، قوله تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (1) الآية. هذه وصية من الله عز وجل - لداود، ولولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك وتعالى وتحذيرهم من اتباع الهوى والضلالة عن القصد والعدل وقد توعد تبارك وتعالى في آخر الآية من ضل عن سبيله بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (2) قال السدي: (لهم عذاب شديد بما تركوا أن يعملوا ليوم الحساب) . قال ابن كثير في تفسيره: وهذا القول أمشى على ظاهر الآية.
- ومما وجه للولاة والحكام قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} (3) الآية قال العلماء: نزلت هذه الآية في ولاة الأمور، عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- (661 - 728 هـ) : وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل، فهذان جماع السياسة العادلة والسياسة الصالحة (4) .
- ومنها ما وجه إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- كقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} (5) .
__________
(1) سورة ص الآية 26
(2) سورة ص الآية 26
(3) سورة النساء الآية 58
(4) السياسة الشرعية ص (4 - 5) .
(5) سورة النساء الآية 105(19/179)
يقول الله تعالى مخاطبا رسوله محمدا -صلى الله عليه وسلم-: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} (1) أي: هو حق من الله تعالى، وهو يتضمن الحق في خبره وطلبه، وقوله: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (2) احتج من ذهب من علماء الأصول إلي أنه كان له -صلى الله عليه وسلم- أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية، وبما ثبت في الصحيحين عن أم سلمة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه سمع خصومه بباب حجرته فخرج إليهم فقال: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي وإنه يأتي الخصم ولعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صدق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو فليتركها (3) » .
- ومما وجه للرسول -صلى الله عليه وسلم- قول الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} (4) الآية: أي فاحكم يا محمد بين الناس عربهم وعجمهم، أميهم وكتابيهم بما أنزل إليك من هذا الكتاب العظيم، وبما قدره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء ولم ينسخه في شرعك.
روي عن ابن عباس قال: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- مخيرا، إن شاء حكم بين أهل الكتاب، وإن شاء أعرض عنهم، وردهم إلى أحكامهم، فنزلت: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (5) » أي: لا تنصرف
__________
(1) سورة النساء الآية 105
(2) سورة النساء الآية 105
(3) أخرجه البخاري في كتاب المظالم (3 \ 171 - 173) . وفي الشهادات (3 \ 235) . وفي الأحكام (9 \ 86، 89، 90) وأخرجه مسلم في القضاء (5 \ 139) . وأخرجه أبو داود في كتاب الأقضية (3 \ 301) . وأخرجه الترمذي (3 \ 398) ، والنسائي في كتاب آداب القضاء (8 \ 233) ، وأخرجه ابن ماجة في كتاب الأحكام (2 \ 777) ، والإمام مالك في الموطأ (2 \ 806) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4 \ 154) كلهم عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة مرفوعا. وله طريق آخر فيه بيان سبب ورود الحديث أخرجه أحمد وأبو داود والطحاوي من طريق أسامة بن زيد عن عبد الله بن رافع عن أم سلمة.
(4) سورة المائدة الآية 48
(5) سورة المائدة الآية 49(19/180)
عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء من الجهلة الأشقياء التي اصطلحوا عليها وتركوا - بسببها - ما أنزل الله على رسله (1) .
- ومن الآيات ما وجه للناس كافة على أن ولاية القاضي ملزمة لهم، بمعنى أنهم مجبرون على قبولها لقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) ، يقسم تعالى بذاته الكريمة أنه لا يؤمن أحد ولا يتصف بصفة الإيمان إلا عند حصول شرائط: -
- أولها: تحكيم الرسول -صلى الله عليه وسلم- في جميع الأمور، فيما حكم به فهو الحق والصدق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا.
ثانيها: الرضا بحكم الرسول -صلى الله عليه وسلم- أي: الطاعة والارتياح النفسي وعدم الحرج مما حكم به والانقياد له في الظاهر والباطن.
ثالثها: التسليم الكلي من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (3) الآية
ولما كان العلماء ورثة الأنبياء، فإن لأحكامهم ما لأحكام الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الرضى والتسليم بها ما دامت هذه الأحكام تتمشى مع قواعد العدل والإنصاف الواردة في الكتاب والسنة.
__________
(1) الحافظ ابن كثير (3 \ 66) .
(2) سورة النساء الآية 65
(3) سورة الأحزاب الآية 36(19/181)
القضاء والحكم في السنة
سبق أن ذكرنا قول الزهري - عند الكلام في معنى القضاء في اللغة، وأنه على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه، وكل ما أحكم عمله، أو أتم، أو ختم، أو أدى أداء أو أوجب، أو أعلم، أو أنفذ، أو أمضى، قال وقد جاءت هذه الوجوه كلها في الحديث.
من ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: «اقض فإن اجتهدت فأصبت فلك عشرة أجور، فإن اجتهدت فأخطأت فلك أجر واحد (1) » ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إني أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل علي فيه وحي (2) » ، وقوله -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل حينما أراد أن يبعثه قاضيا: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء (3) » ، وقوله -صلى الله عليه وسلم- للخصمين اللذين ترافعا إليه: «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله (4) » .
أما الأحاديث التي فيها لفظ الحكم، فمن ذلك ما روي عن شريح بن هانئ عن أبيه هانئ أنه لما وفد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سمعه وهم يكنون هانئا (أبا الحكم) فدعاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: «إن الله هو الحكم وإليه الحكم، فلم تكنى أبا الحكم؟ ، فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم (5) » الحديث (6) ، وما روي من حديث ابن
__________
(1) ابن حجر في تلخيص الحبير (4 \ 180) .
(2) النووي على صحيح مسلم (12 \ 5 - 6) .
(3) رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والدارمي، وابن عدي، والطبراني، والبيهقي. تلخيص الحبير (4 \ 83) .
(4) أخرجه البخاري (8 \ 207 - 208) ، ومسلم (5 \ 221) ، والترمذي (2 \ 443) ، والنسائي (8 \ 240) ، وأبو داود (4 \ 153) وابن ماجة (3 \ 152) والإمام مالك في الموطأ (2 \ 167) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (3 \ 134) .
(5) سنن النسائي آداب القضاة (5387) ، سنن أبو داود الأدب (4955) .
(6) أخرجه النسائي في سننه (8 \ 226) .(19/182)
مسعود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من حكم يحكم بين الناس إلا حبس يوم القيامة (1) » .
وحديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «المقسطون على منابر من نور يوم القيامة عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وما ملوا (2) » . إلى غير ذلك من الأحاديث.
ومن تحليل هذه النصوص، وتفسيرها نتوصل إلى الحقائق الآتية:
أولا - أنه لا يجوز التحاكم في كل المنازعات والقضايا إلا إلى شريعة الإسلام {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (3) الآية، أي فردوه إلى كتاب الله، فإن لم تجدوه في كتاب الله فإلى سنة رسول الله، فإن لم تجدوه فإلى الاجتهاد، كما في حديث معاذ -رضي الله عنه- حينما بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- واليا وقاضيا لليمن. فالقرآن هو الأصل الذي ينبغي الرجوع إليه في الأحكام، وبعده سنة رسول الله، ثم ما يئول إليهما من إجماع أو قياس.
وهذه هي القاعدة الأولى التي أقرتها الشريعة الإسلامية في التنظيم القضائي في الإسلام، وما سواها فهو باطل وطاغوت {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} (4) ، ولقد سار كبار المجتهدين على هذا الأساس في فهم الشريعة الإسلامية، ومقاصدها السامية، واستدلوا بنصوص
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1 \ 430) .
(2) أخرجه مسلم في باب كراهة الإمارة بغير ضرورة (6 \ 7) ، والنسائي في كتاب آداب القضاة، فضل الحاكم العادل في حكمه (1 \ 221) .
(3) سورة النساء الآية 59
(4) سورة النساء الآية 60(19/183)
الكتاب، والسنة، وإجماع العلماء في اجتهاداتهم، وتنزيل النوازل والقضايا عليها، ولما كانت النصوص متناهية، والحوادث متجددة، استدلوا بالقياس فيما ليس فيه نص، وقاموا بالتخريج على القواعد العامة المستفادة من مجموع النصوص في جميع الأحوال، وغير ذلك من الأدلة التي لا تخرج في حقيقتها، ولا تتعارض مع جوهر الشريعة الإسلامية ونصوصها، ومقاصدها التي تدل عليها التعليلات المنصوصة.
كل حركة اجتهادية، أو تقنينية من أي مجتهد أو مقنن في أي عصر أو زمان يجب أن لا تخرج عن دائرة الكتاب والسنة، وأن لا تعارض نصا من نصوصها، أو أصلا من أصولها، وإلا كان اجتهادا فاسدا، وعملا مردودا باطلا.
ثانيا: أن التحاكم أمر مرتبط بالإيمان بما أنزل الله، وهو أمر كما يشمل الخصوم يشمل الحكام والقضاة أيضا {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (1) و {هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2) ، فليس في الإسلام قضاء ديني يخضع لأحكام الشريعة، وقضاء آخر مدني أو زمني يخضع لأحكام وضعية مخالفة، كما هو عند أصحاب الديانات الأخرى، وقلدهم في ذلك بعض أبناء هذا الزمن ممن ينتسبون للإسلام، بل كل القضاء في كافة الأمور والأحوال يجب أن يستند إلى الحكم الشرعي المبلغ من عند الله على لسان رسوله محمد بن عبد الله وأن الاحتكام إلى خلافه مناف لعقيدة الإيمان، بل قد يكون مخرجا لصاحبه عن دائرة الإسلام، إذ لا يتفق مع صحة الإيمان أن يرى مؤمن أن ما فكر فيه بشر مثله أحكم وأصلح مما قضى به رب العالمين {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (3) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 44
(2) سورة المائدة الآية 47
(3) سورة المائدة الآية 50(19/184)
القضاء بالشريعة بين التوحيد والمتابعة:
ومما سبق يتأكد لنا أن هناك صلة وثيقة، وارتباطا متينا بين العقيدة والشريعة، ذلكم أن الإيمان عقيدة يلتزم المسلم بمقتضاها أن يتبع حكم الله في كل شأن من شئون حياته، وإلا فإن إيمانه خداج، لا يصح ولا يغني عنه شيئا، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (1) .
هذه واحدة، والثانية أن المسلم ملزم بمتابعة رسول الإسلام -عليه الصلاة والسلام- فيما أمر به، واجتناب ما عنه نهى وزجر {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2) وهذا عام في الأمر والنهي، والوعظ والإرشاد، والحلال والحرام، وكذلك في الحكم والاحتكام، وقد أقسم الله -جل وعلا- في كتابه العزيز بنفسه المقدسة قسما عظيما على نفي الإيمان عمن لا يحتكم إلى الرسول وإلى شرعه بقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) ، والأمر بتحكيم الرسول في كل شاردة وواردة يقتضي الاحتكام إلى شرعه، كما أن الإيمان بالرسول يقتضي متابعته فيما بلغ به عن الله من شرعه، وما أوضحه وبينه في أمره ونهيه. وهذه الآية من الآيات الأخرى التي تجعل من أساسيات الإيمان التحاكم إلى شريعة الله -سبحانه وتعالى-، تلكم الشريعة التي تكفل العدل والخير للبشرية جميعا.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 36
(2) سورة الحشر الآية 7
(3) سورة النساء الآية 65(19/185)
وهذه النقطة الثانية تستلزم البحث في نقطة ثالثة، وهي في مجال الأدلة، في مسألة تعارض النقل مع العقل، فإنه يقدم النقل، مع أن النقل الصحيح، أي النصوص الثابتة في مجال التشريع لا تتعارض مع العقل السليم الصريح. ومن الترهات في ذلك قول بعض المارقين عن تحكيم الشريعة الإسلامية: إن القوانين الوضعية من صنع العقل البشري، والعقل من صنع الله سبحانه، وإذن في النتيجة أن هذه القوانين من صنع الله، ما دامت ثمرة العقل الذي خلقه.
وتأسيسا على قاعدة درء التعارض بين النقل الصحيح والعقل الصريح، يكفي في رد هذه الترهة ما تحمله هذه القوانين الوضعية، وما تنطوي عليه من مخالفة صريحة لما هو ثابت بالضرورة من أمر الدين، ولما لا يجوز فيه الخلاف بين المسلمين.
وبعد:
فقد بات واضحا أن التحاكم إلى الشريعة الإسلامية من مقتضيات عقيدة توحيد الله -سبحانه وتعالى-، الحكيم في تشريعاته، الخبير بمصالح عباده، ومن مستلزمات الإيمان والمتابعة لرسوله -صلى الله عليه وسلم-. ولقد ظل العالم الإسلامي مع اتساع رقعته القرون الطويلة يحكمون الشريعة الإسلامية، وما صار التحول عن التحاكم إليها إلا بعد سيطرة الاستعمار الصليبي على بلاد المسلمين، في المشارق والمغارب، ومن قبله التتار، وهكذا كان مسلك أعداء الإسلام دائما، فقد عمل الغرب مثل ما عمل التتار حينما احتلوا أرض المسلمين قدموا لهم [الياسة] ، وهو عبارة عن كتاب مجموع من الأحكام مقتبسة عن شرائع شتى من اليهودية والنصرانية، والملة الإسلامية، وغيرها من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان، ولكن المسلمين وقت التتار المشرقي يختلفون عن المسلمين وقت الغزو الصليبي الغربي، فأولئك طعنوا في تلك القوانين ورفضوها بالإجماع، وأفتوا(19/186)
بكفر من قبلها أو تحاكم إليها، وهؤلاء استكانوا لها، وتحاكموا إليها. والآن وبعد أن زال هذا الاستعمار البغيض، واستعادت الأمة الإسلامية حريتها واستقلالها ألا يجدر بهذه الأمة أن تستعيد هويتها الإسلامية فهل إلى مرد من سبيل؟ ! .
سعود بن سعد الدريب(19/187)
صفحة فارغة(19/188)
البرهان في بيان القرآن
للعلامة الموفق أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة الحنبلي
المتوفى سنة 630 هـ
تحقيق
الدكتور \ سعود بن عبد الله الفنيسان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.
وبعد:
فقد اطلعت على مخطوطة (البرهان في بيان القرآن) للموفق أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي الحنبلي، فوجدتها اسما طابق المسمى، ولفظا وافق المعنى، وجدتها صغيرة الحجم، كثيرة الفائدة، كتبت بأسلوب جزل سهل.
ومما شجعني على القيام بتحقيقها: أنها من تأليف أحد أعلام الحنابلة، وأنها من آخر ما كتبه ابن قدامة؛ فقد كتبها قبل وفاته -رحمه الله- بأربع سنوات فقط.
وأيضا: أنها نسخة فريدة، فقد بحثت في فهارس المخطوطات في الجامعات والمؤسسات العلمية داخل المملكة فلم أجد أي إشارة إليها، بحثت - أيضا - خارج المملكة في قوائم المخطوطات في كل من تركيا وسوريا ومصر وتونس والمغرب، فلم أجد نسخة أخرى.(19/189)
ومما دفعني أنه لا يكاد يعرف للحنابلة مؤلفات في التفسير وعلوم القرآن إلا ما ندر وإنما عرفوا بمؤلفات في الفقه والعقيدة؛ وتراثهم في التفسير وعلوم القرآن لا يقل عن ذلك، غير أنه لم يحظ بالعناية والنشر، بقدر ما عنيت به سائر كتبهم.
وإن المطلع على كتب التراجم وقوائم المخطوطات ليذهل جدا من وفرة إنتاج الحنابلة في هذا المجال، وجهل الكثيرين له.
وقد اتخذ الموفق ابن قدامة في كتابه الذي بين أيدينا طريقة واضحة في الرد على دعاوى الخصوم وأوهام المتخرصين ببيان القرآن بالقرآن أو بالسنة النبوية، وهما أصح طرق تفسير القرآن.
ومن ميزة كتابة ابن قدامة؛ وبالأخص في كتابه (البرهان في بيان القرآن) أنه بعد ذكر الخلاف والاستدلال، يذكر ملخصا لما سبق بعبارة موجزة وواضحة.
وبعملي في تحقيق هذا الكتاب، لا أدعي أنني أوفيته حقه، ولكن أحسب عملي فيه وضح غامضه، وأوضح مشكله، وقبل هذا كله: إخراجه إلى النور لتعم به الفائدة.
والنية متجهة - إن شاء الله - في المستقبل إلى تتبع مؤلفات الحنابلة في التفسير وعلوم القرآن، وجمعها في كتاب، ليستفيد منه الدارسون والباحثون.
والله أسأل الهداية والتوفيق.
وصلى الله على نبينا محمد وسلم.
سعود بن عبد الله الفنيسان(19/190)
أبو محمد الموفق ابن قدامة
(541 - 620)
مولده ونشأته:.
هو أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الحنبلي المقدسي الجماعيلي - بتشديد الميم - إلى " جماعيل " قرية من أعمال نابلس في فلسطين. ولد -رحمه الله- في شعبان سنة (541) للهجرة. وتلقى العلم وهو صغير فحفظ القرآن بقراءة (نافع) على شيخه علي بن أبي الحسن البطائحي، وبقراءة (أبي عمرو) على شيخه أبي الفتح ابن المنى - بضم الميم وتشديد النون -.
نشأ الموفق -رحمه الله- في بيت علم وتقى وفقه وصلاح. وظهر من بيت آل قدامة ما يزيد على (30) عالما مجتهدا؛ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ورحل الموفق لطلب العلم إلى بغداد ودمشق ومكة والموصل.
ولقد عاش الموفق في حقبة من الزمن كانت الأوضاع السياسية مضطربة، وكان الإفرنج مستولين على بيت المقدس، فكان أبو محمد من أول من شارك في جهاد الصليبيين، يجاهدهم بلسانه ويده تحت قيادة البطل المسلم (صلاح الدين الأيوبي) وقد خصص له ولأخيه خيمة خاصة في العسكر.(19/191)
شيوخه وتلاميذه:.
أخذ الموفق العلم على عدد من العلماء في شتى الفنون " سواء كانوا رجالا أم نساء فممن أخذ عنهم.
شيوخه:
الشيخ عبد القادر الجيلاني، وهبة الله بن الحسن الدقاق، وأبو الفتح ابن البطي، وأبو زرعة بن طاهر، وأحمد بن محمد الرحبي، والمنذري، وآخرون. ومن أخذ عنهن من النساء العالمات الفاضلات: خديجة النهروانية، ونفيسة البزازة، وشهدة الكاتبة.
تلاميذه:
وتتلمذ عليه عدد كبير من العلماء لا يحصون، مثل: الجمال بن موسى الحافظ، وابن نقطة، وابن خليل، وأبي شامة، والجمال بن الصيرفي، ويوسف الغسولي، وزينب بنت الواسطي، وغيرهم.
وقد انتشر علمهم ونفع الله بهم الناس. وسنترجم ترجمة موجزة لبعض شيوخه وتلاميذه. فمن شيوخه: -
أبو الحسن البطائحي (490 - 572) هـ.
هو: علي بن عساكر بن الرحب بن العوام البطائحي المقرئ، إمام في القرآن والسنة والنحو. قرأ عليه: الموفق ابن قدامة، بقراءة (نافع) . وأخذ عنه: الوزير ابن هبيرة. وحدث عنه: الحافظ ابن الأخضر، وعبد الغني المقدسي، وعبد القادر الرهاوي.
انظر: الذيل لابن رجب (1 \ 336) ، وابن العماد - شذرات الذهب (4 \ 242) .(19/192)
عبد القادر الجيلاني: (490 - 561) هـ
هو: أبو محمد عبد القادر بن عبد الله الجيلاني البغدادي الحنبلي. شيخ زاهد، سمع الحديث من أبي غالب الباقلاني، وجعفر السراج، وأخذ الفقه عن أبي الخطاب الكلوذاني، وابن عقيل، والقاضي أبي الحسين، حتى برع في المذهب والخلاف والأصول.
انظر: الذهبي - سير أعلام النبلاء (20 \ 439) ، والذيل لابن رجب (1 \ 293) .
أبو الفتح بن البطي: (477 - 564) هـ.
هو: محمد بن عبد الباقي بن أحمد بن سليمان البغدادي. قال عنه الموفق ابن قدامة: هو شيخنا وشيخ أهل بغداد. ودرس عليه الفقه.
انظر: الذهبي - سير أعلام النبلاء (20 \ 481) ، والدمياطي - المستفاد من ذيل تاريخ بغداد (ص 19) .
ابن الخشاب: (412 - 567) هـ.
هو أبو محمد ابن الخشاب عبد الله بن أحمد بن أحمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر البغدادي. محدث حافظ فقيه حنبلي، عالم بالتفسير والحديث، حجة في النحو. حدث أن دخل عليه أحد أصحابه وهو مريض وعلى صدره كتاب ينظر فيه، فقال له: ما هذا يا شيخ؟ قال: ذكر ابن جني مسألة في النحو واجتهد أن يستشهد عليها ببيت من الشعر فلم يحضره، وإني لأعرف على هذه المسألة سبعين بيتا من الشعر كل بيت من قصيدة.
مات -رحمه الله- أعزب ولم يتزوج. انظر: الذهبي - سير أعلام النبلاء (20 \ 523) ، وابن العماد - شذرات الذهب (4 \ 255) .(19/193)
ابن الجوزي: (510 - 597) هـ.
هو العالم الحافظ الواعظ الفقيه الحنبلي جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي. ينتهي نسبه إلى أبي بكر الصديق. له تصانيف كثيرة تزيد على (250) مصنفا. سمع من أبي القاسم بن الحصين، وابن الزاغوني، وابن البطي، ومحمد بن الحسن الماوردي، وآخرين. وأخذ عنه: الحافظ ابن عبد الغني المقدسي، وأبو محمد الموفق ابن قدامة، والضياء المقدسي، وابن النجار، وآخرون.
انظر: الذهبي - سير أعلام النبلاء (21 \ 365) ، والذيل لابن رجب (1 \ 399) .
المنذري: (581 - 656) هـ.
هو الحافظ أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله بن سلامة المنذري. محدث فقيه شافعي. قال فيه الذهبي: لم يكن في زمانه أحفظ منه، درس على ابن دقيق العيد في أول أمره، فلما برز في العلم درس عليه ابن دقيق العيد في آخر حياته.
له: كتاب " الترغيب والترهيب " و " مختصر سنن أبي داود ".
توفي بمصر وله (75) سنة.
انظر: السبكي - طبقات الشافعية (5 \ 108) ، وابن العماد - شذرات الذهب (5 \ 277) .
ومن تراجم بعض تلاميذه: -
الضياء المقدسي: (569 - 643) هـ.
هو: ضياء الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد المقدسي الجماعيلي الحنبلي. صاحب التصانيف الكثيرة. أخذ العلم(19/194)
عن الحافظ السلفي، وشهدة الكاتبة، وأحمد بن الموازيني، والحافظ ابن عبد الغني، والموفق ابن قدامة، وآخرين. وأخذ عنه: ابن نقطة، وابن النجار، والعز بن الفراء. ألف في سيرة كل من: الموفق ابن قدامة، والحافظ عبد الغني أربعة أجزاء.
انظر: الذهبي سير أعلام النبلاء (23 \ 126) ، وابن العماد - شذرات الذهب (5 \ 224) .
ابن نقطة: (571- 629) هـ.
هو: الإمام الحافظ المتقن أبو بكر بن عبد الغني بن أبي بكر بن شجاع البغدادي الحنبلي. كان ثقة، حسن القراءة، جيد الكتابة، له سمت ووقار، وفيه ورع وصلاح. أخذ عنه العلم: عبد العظيم المنذري، وأبو الشيخ عمر بن الحاجب. ألف مستدركا على (الإكمال) لابن ماكولا.
انظر: الذهبي - سير أعلام النبلاء (22 \ 347) ، والذيل لابن رجب (1 \ 182) .
ابن النجار: (578- 643) هـ.
هو: أبو عبد الله العالم الحافظ المحدث المؤرخ محمد بن محمود بن حسن بن هبة الله بن محاسن البغدادي. أخذ العلم عن ابن الجوزي، وشهدة الكاتبة. وأخذ عنه: ابن الصابوني، والفتح محمد القزاز.
له تصانيف كثيرة، منها: "ذيل تاريخ بغداد "، "والمتفق والمفترق"، وكتاب "جنة الناظرين في معرفة التابعين"، "ومناقب الشافعي ".(19/195)
انظر: الذهبي - سير أعلام النبلاء (23 \ 131) ، والسبكي - طبقات الشافعية (5 \ 41) .
أبو شامة: (599- 665) هـ.
هو: عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الشافعي النحوي المفسر المقرئ الفقيه المؤرخ. ختم القرآن وهو صغير لم يبلغ عشر سنين، وأخذ القراءات عن السخاوي وله ست عشرة سنة. ولحق به الشيب وهو ابن خمس وعشرين سنة فقط. سمع من الموفق ابن قدامة، والعز بن عبد السلام.
له: كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين" النورية والصلاحية، و "ضوء الساري إلى معرفة رؤية الباري"، و "شرح المفصل للزمخشري "، و "شرح سنن البيهقي ".
انظر: ابن الجزري - غاية النهاية في طبقات القراء (1 \ 365) ، وابن العماد - شذرات الذهب (5 \ 318) .(19/196)
آثاره العلمية: (1) .
لقد خلف أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة آثارا علمية كثيرة، منها المطبوع، ومنها المخطوط، وهي: -
في الفقه:
- المغني شرح الخرقي يقع في عشرة مجلدات ضخمة، تعب فيه المصنف وأجاد وجمل به المذهب.
- الكافي (ثلاثة مجلدات) . ألفه الموفق للمتوسطين من طلاب العلم، حرر به رواية المذهب بعبارة موجزة مع الاستدلال.
__________
(1) راجع: ذيل الطبقات لابن رجب (2 \ 139) ، وسير أعلام النبلاء للذهبي (22 \ 168) .(19/196)
- المقنع (ثلاثة مجلدات) مع حاشية عليه منسوبة للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب. وقد ألف الموفق كتابه "المقنع" للمتقدمين من طلاب العلم؛ حيث ضمن كل مسألة عدة روايات في المذهب، ليتعودوا على تخريجها. وقد شرح المقنع ابن أخي الموفق الشيخ عبد الرحمن بن أبي عمر (ت 682 هـ) وسماه "الشرح الكبير" ويقع في ستة مجلدات كبيرة.
- العمدة (مجلد واحد) . ألفه للمبتدئين في الطلب، فهو مختصر سهل العبارة، يقرن المسألة بالدليل أحيانا.
- مقدمة في الفرائض- جزء لم يطبع.
- مناسك الحج- مجلد لم يطبع.
- مختصر الهداية- مجلد لم يطبع.
- الشافعي - مجلدان لم يطبعا.
في أصول الفقه:
- روضة الناظر وجنة المناظر- مجلد.
في التفسير وعلوم القرآن:
- البرهان في مسألة القرآن، وهو هذا الكتاب، وسيأتي وصفه.
- ذم التأويل- مطبوع.
- جواب مسألة في القرآن- وردت من "صرخد" (1) - لم تطبع.
- الصراط المستقيم في بيان الحرف القديم- جزء لم يطبع، وهو موجود عندي، أرجو أن أوفق في إخراجه، إن بقي في العمر بقية.
__________
(1) قرية من قرى الشام بقرب حوران.(19/197)
المناظرة لأهل البدع في القرآن - لم يطبع (1) .
- مسألة في تحريم النظر في كتب أهل الكلام - لم تطبع.
- رسالة إلى الشيخ فخر الدين ابن تيمية في تخليد أهل البدع في النار - لم تطبع.
في الحديث:
- كتاب التوابين - مجلد - مطبوع.
- مختصر في الغريب - مجلد - لم يطبع.
- مختصر العلل للخلال - مجلد - لم يطبع.
- مشيخة شيوخه - جزء - لم يطبع.
في التوحيد:
- لمعة الاعتقاد - جزء - مطبوع.
- كتاب القدر - جزءان - لم يطبع.
- مسألة العلو - جزءان - لم يطبع.
- فضائل الصحابة - جزءان - لم يطبع. لعلهما كتاب واحد.
- منهاج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين - لم يطبع.
في اللغة والأنساب:
- قنعة الأريب في الغريب - مجلد - لم يطبع.
- التبيين في نسب القرشيين - مجلد - مطبوع (2) .
- الاستبصار في نسب الأنصار - مجلد - لم يطبع.
__________
(1) لم أجد من ذكره غير الروداني (ت 1094 هـ) في فهرسته: ''صلة الخلف بموصول السلف''، ولا يزال مخطوطا.
(2) تحقيق: محمد نايف الدليمي (1402هـ) من منشورات المجمع العلمي بالعراق.(19/198)
في الفضائل والزهد:
- كتاب المتحابين في الله - جزءان - لم يطبع.
- كتاب الرقة والبكاء - جزءان - لم يطبع.
- فضائل عاشوراء - جزءان - لم يطبع.
- فضائل العشر - جزء - لم يطبع.
- ذم ما عليه مدعو التصوف. ذكره الزركلي في الأعلام وقال: إنه مطبوع.
- ذم الموسوسين - مجلد - مطبوع.
- وصيته - جزء - لم يطبع.
هذا كله وعلاوة على التخريجات والفتاوى والرسائل الكثيرة.
وقد ضمن أحد الشعراء بعض كتب ابن قدامة في قصيدة مدحه بها، منها قوله:
وفي عصرنا كان الموفق حجة ... على فقهه ثبت الأصول محول
كفى الخلق ب "الكافي" وأقنع طالبا ... ب "مقنع " فقه عن كتاب مطول
وأغنى ب "مغني" الفقه من كان باحثا ... و "عمدته " من يعتمدهما يحصل
و"روضته " ذات الأصول كروضة ... أماست بها الأزهار أنفاس شمأل
ولعل هذه الكتب، هي أشهر مؤلفات الموفق ابن قدامة أكثرها انتشارا.(19/199)
فضله وعلمه:
كان -رحمه الله- عالما فاضلا ورعا تقيا، إماما في التفسير وعلوم القرآن، وفي الحديث ومشكلاته، وفي اللغة والأنساب. أما في الفقه والأصول: فلا يشق له غبار. كان مناظرا قوي الحجة. قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية: "ما دخل الشام بعد الأوزاعي أفقه من الموفق "، وكفى بهذه الشهادة من قبل ابن تيمية، وكان -رحمه الله- يراعي حال المستمعين والقارئين. فإذا كتب بيده أو أملى علما راعى حال المستفيدين منه، فنجده لما ألف في الفقه، ألف بمستويات ثلاثة: (المغني) للعلماء المجتهدين من المذهب أو خارجه. و (الكافي) للمتوسطين من طلاب العلم في المذهب. و (العمدة) لطلاب العلم المبتدئين.
ولذا لا يكاد يقرأ له قارئ إلا أخذ بجودته وبيانه؛ وخاصة في كتابه (المغني) . يقول الشيخ العز بن عبد السلام: "ما طابت نفسي بالفتيا حتى صار عندي نسخة من المغني ".
كان -رحمه الله- يقرض الشعر ويتلذذ به، فمما قاله يرثي به نفسه ويتذكر به الموت:
أتغفل يا ابن أحمد والمنايا ... شوارع تخترمنك عن قريب
أغرك أن تخطئك الرزايا ... فكم للموت من سهم مصيب
كئوس الموت دائرة علينا ... وما للمرء بد من نصيب
كأنك قد لحقت بهم قريبا ... ولا يغنيك إفراط النحيب
ويقول:
أبعد بياض الشعر أعمر مسكنا ... سوى القبر إني إن فعلت لأحمق
يخبرني شيبي بأني ميت ... وشيكا وينعاني إلي فيصدق(19/200)
كأني بجسمي فوق نعش ممددا ... فمن ساكت أو معول يتحرق
إذا سئلوا عني أجابوا وأعولوا ... وأدمعهم تنهل: هذا الموفق
وقال في عزة النفس وعدم ابتذالها:
لا تجلسن بباب من ... يأبى عليك دخول داره
وتقول حاجاتي إلي ... هـ يعوقها إن لم أداره
اتركه واقصد ربها ... تقضى ورب الدار كاره(19/201)
وفاته:
توفي أبو محمد الموفق ابن قدامة يوم عيد الفطر سنة (620) للهجرة، وله تسع وسبعون سنة، وخلف بنتين وثلاثة ذكور، وهم: محمد ويحيى وعيسى، ماتوا كلهم في حياته ولم يبق له عقب. -رحمه الله- رحمة واسعة وجمعنا به في مستقر رحمته.(19/201)
التعريف بالكتاب المحقق
اسمه وتوثيق نسبته للمؤلف:
لقد دون على غلاف المخطوطة ما نصه: كتاب "البرهان في بيان القرآن " تأليف: الشيخ الإمام العالم العلامة إمام المسلمين موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي - رحمه الله تعالى وعفا عنه.
ذكره الإمام الذهبي (ت 748) هـ في سير أعلام النبلاء ضمن مؤلفات الموفق باسم "البرهان"، وذكر أنه جزء. وذكره ابن شاكر (ت 764) هـ في فوات الوفيات كما ذكره الذهبي، غير أنه قال إنه جزءان.
وذكره كل من ابن رجب (ت 795) هـ، وابن العماد (ت 1089) هـ، والبغدادي (ت 1339) هـ باسم "البرهان في مسألة القرآن". وذكر(19/201)
ابن رجب أنه جزء. كل هذه الأسماء الثلاثة- كما ترى. متفقة على أن اسمه "البرهان "، وأنه لأبي محمد الموفق ابن قدامة، غير أن التسمية الأولى تزيد في بيان القرآن، والتسمية الثالثة تصفه بأنه في مسألة القرآن.
والتسمية الأولى "البرهان في بيان القرآن" لم أجد من ذكرها غير ما سطر عنوانا للمخطوطة. ويظهر لي أن ابن قدامة لم يسمه إلا بـ "البرهان " فقط، وهذه الزيادة إنما هي من بعض النساخ.
واخترت التسمية الأولى دون غيرها لاعتبارات، منها: -
1 - أن هذه التسمية هي المثبتة في المخطوطة، وهي نسخة فريدة، كما سنبين هذا قريبا.
2 - أن دلالة جملة "في بيان القرآن" على مضمون ما في المخطوطة أدق، حيث رد المصنف على القول: إن حروف القرآن مخلوقة بأدلة مسهبة من القرآن والإجماع وأقوال العرب، ثم قرر مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة بنصوص من القرآن والسنة فقط، ولم يعول على أدلة أهل الكلام.
3 - لو وصف بـ "بيان مسألة القرآن" لدلت على الرد على المعتزلة بقولهم بخلق القرآن بأدلة عقلية فقط على طريقة المتكلمين، وابن قدامة لم يسلك مسلكهم في هذا؛ بل بين أن الأشاعرة ومن سايرهم قد أخطئوا في ردهم على المعتزلة بأسلوبهم وطريقتهم الكلامية، حيث وقعوا فيما فروا منه فوافقوهم حيث أرادوا مخالفتهم.(19/202)
وصف النسخة الخطية:
هي نسخة فريدة بقسم المخطوطات بالمكتبة المركزية- بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية برقم [2219- علوم وقرآن] ، وهي (17)(19/202)
لوحة تتراوح أسطرها من 23- 24، وتتراوح عدد كلمات كل سطر من 12- 14 كلمة، ومقاس اللوحة من 25: 17 سم. وهي ضمن مجموع. وهذه النسخة مصورة من مكتبة الشيخ سليمان بن عبد الرحمن الحمدان بمكة المكرمة رقم (42) .
وهي بخط مقروء، كثيرة الأخطاء النحوية والإملائية.
والنسخ بقلم عبد العزيز بن سليمان بن عبد الوهاب في شهر محرم سنة 1256 هـ. وقد نسخت هذه عن النسخة الأولى التي كتبت سنة 1229 هـ. وكان في النسخة الأم ما صورته: فرغ منه يوم الأحد في الغر الأول من ذي الحجة سنة (616) هـ. ولا يوجد على المخطوطة أي سماعات أو تهميش غير هذه الأبيات الشعرية مكسرة الوزن: -
يقولون لي هلا سعيت مشمرا ... لجمع اللهي من عند باد وحاضر
وإياك والتشمير في العلم إنه ... صفة لفقر مدقع متكاثر
فقلت رضيت العلم حسبا ومطلبا ... ومالا وذخرا وهو خير الذخائر
ونعم من قد قال من قبل ناظما ... نظما ما حلا حسنا نفيس الجواهر
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه ... فما فاته منها فليس بضائر(19/203)
من هو الناسخ: (1) .
هو: الشيخ عبد العزيز بن سليمان بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن أحمد بن راشد الوهبي التميمي، ينتمي نسبه إلى عدنان، وهو ابن أخي الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب، ولد في بلدة حريملاء، وقرأ على والده، وكان قاضيا فاضلا وانتقل مع والده إلى الدرعية سنة 1190 هـ وأجرى لهم عمه الشيخ محمد بن عبد الوهاب من النفقة ما يكفيه
__________
(1) انظر: البسام ـ علماء نجد خلال ستة قرون (2 \ 458) .(19/203)
وأهله، وتفرغ لطلب العلم على عمه المجدد وعلماء الدرعية، وبقي فيها حتى دمرها إبراهيم باشا، ثم عاد إلى حريملاء حتى جاءت الحملة التركية الثانية بقيادة حسين بك سنة 1226 هجرية، وقبض على الشيخ عبد العزيز ونهب ماله وحبسه ونكل به، وأشعل النار في مكتبته، ثم أفرج عنه وذهب إلى الأحساء وأقام بها، حتى توفي سنة 1264 هـ- رحمه الله وغفر له-.(19/204)
موضوع الكتاب وأهميته:
يبحث الكتاب في حقيقة الحرف في القرآن الكريم، وهل هو قديم أو حادث؟ وهو بيان بخطأ الأشاعرة أثناء ردهم على المعتزلة بالقول بخلق القرآن، وأسلوب الكتاب في معالجة هذه القضية أسلوب متفرد؛ حيث لم يستخدم الكلام الجدلي والإلزامات العقلية كعادة أهل الكلام ومن شابههم، ولكنه عالجها عن طريق الآيات الصريحة في الدلالة والأحاديث الصحيحة في المعنى، مع استخدام دلالة اللغة العربية على المعنى المراد؛ وهذا منهج أهل السنة والجماعة الذي جاهد فيه ووقف عنده الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله-، ويعتبر الإمام الموفق رائدا في هذا المنهج التأليفي، ولما جاء ابن تيمية وتلميذه ابن القيم سلكا مسلكه- عليهم رحمه الله ورضوانه-.
ومما يزيد الكتاب أهمية: أنه لم يطبع من قبل، بل إن ابن قدامة والحنابلة كلهم لا يكاد يعرف لهم مؤلفات برزوا فيها غير الفقه، وهذا ظن مجانب للصواب؛ فإن مؤلفاتهم في الحديث وعلومه والقرآن وعلومه ليست بأقل من الفقه، بل تزيد، غير أن المطبوع منها لا يكاد يذكر، في حين أن فقههم حظي بخدمة لم يحظ بها التفسير وعلوم القرآن.
ومن أهمية هذا الكتاب: أنه لابن قدامة خاصة، أبرز علماء الحنابلة في عصره، صاحب التصنيف البارع والصيت الذائع.(19/204)
منهج التحقيق:
لقد اتبعت الخطوات التالية في تحقيق (البرهان في بيان القرآن) لابن قدامة.
على النحو التالي: -
أ- وضعت بين هذه المعقوفتين [] ، كل ما زدته على النص، مما توقف عليه المعنى واقتضاه السياق، وأشرت إلى ما جاء في أصل المخطوطة في الهامش.
2 - ترجمت ترجمة صغيرة للأعلام الوارد ذكرهم في المخطوطة.
3 - عزوت الآيات إلى سورها من القرآن الكريم، وضعتها بين هذين القوسين () .
4 - خرجت الأحاديث والآثار وبينت درجتها من الصحة، أو الضعف، ووضعتها بين قوسين صغيرين هكذا " ".
5 - وضحت بالهامش ما رأيته غامضا من الألفاظ أو المعاني.
6 - وضعت فهارس للآيات، والأحاديث، والآثار، والأشعار، والأعلام، والمصادر، والمراجع، والموضوعات.(19/205)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام العالم إمام المسلمين موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي - رحمه الله تعالى ورضي عنه -: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد المصطفى وآله أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل.
مذهب أهل السنة والجماعة، والذي كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه والتابعون لهم بإحسان، ومن بعدهم من أئمة الإسلام: أن القرآن كلام الله القديم، وحبله المتين، وكتابه المبين، نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين بلسان عربي مبين؛ وهو سور، وآيات، وحروف، وكلمات. منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات لمن قرأه فأعربه، فله بكل حرف عشر حسنات، نزله الله تنزيلا، ورتله ترتيلا، وسماه قولا ثقيلا، وعد على تلاوته أجرا عظيما، فقال عز من قائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا} (1) ، وشهد الله وملائكته بإنزاله على رسوله، وحض على [تدبره] (2) وترتيله، وأخبرنا بأحكامه وتفصيله، ونص على تشريفه وتفضيله، وعجز الخلق عن الإتيان بمثله، أو تبديله. وقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (3) ، وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (4) .
__________
(1) سورة الإنسان الآية 23
(2) في الأصل (تدبير) والأولى ما ذكرناه.
(3) سورة الإسراء الآية 88
(4) سورة النساء الآية 82(19/211)
وقال: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (1) .
وهو هذا الكتاب العربي الذي هو مائة وأربع عشرة سورة، أولها الفاتحة، وآخرها المعوذتان (2) ، مكتوب في المصاحف، متلو في المحاريب، مسموع بالآذان، متلو بالألسن له أول وآخر، وأجزاء، وأبعاض.
والدليل:
أن هذا هو القرآن، الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فمن وجوه:
أحدها: أن الله- سبحانه- تحدى الخلق بالإتيان بمثله، فقال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (3) ، وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ} (4) {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} (5) ، وقال سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (6) ، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} (7) .
__________
(1) سورة النساء الآية 166
(2) لو قيل: آخره (الجنة والناس) لكان أدق.
(3) سورة الإسراء الآية 88
(4) سورة الطور الآية 33
(5) سورة الطور الآية 34
(6) سورة البقرة الآية 23
(7) سورة يونس الآية 37(19/212)
وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} (1) ، وقال: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} (2) .
والتحدي إنما وقع بالإتيان بمثل هذا الكتاب بغير إشكال، لأن ما في النفس لا يدرى ما هو، ولا يسمى سورا، ولا حديثا، فلا يجوز أن يقول: فأتوا بحديث مثل ما في [نفس] (3) " الباري ". ولأن المشركين إنما زعموا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- افترى هذا القرآن وتقوله، فرد الله عليهم دعواهم بتحديهم بالإتيان بمثل ما زعموا أنه مفترى ومتقول دون غيره، وهذا واضح لا شك فيه.
الثاني: أنهم سموه شعرا، فقال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} (4) .
ومن المعلوم أنهم عنوا هذا النظم؛ لأن الشعر كلام موزون، فلا يسمى به معنى، ولا ما ليس بكلام، فسماه الله- تبارك وتعالى- ذكرا، وقرآنا مبينا، فلم [يبق] (5) [شك] (6) ، لذي لب في أن القرآن هو هذا النظم دون غيره، وكذلك سموه مفترى. فقال الله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} (7) ،
__________
(1) سورة يونس الآية 38
(2) سورة هود الآية 13
(3) في الأصل '' في النفس '' بالتعريف والصواب ما أثبتناه.
(4) سورة يس الآية 69
(5) في الأصل (يبقى) بالألف المقصورة، والصواب حذفها بالجزم.
(6) في الأصل غير واضحة، ولعل ما أثبتناه يستقيم به المعنى.
(7) سورة يونس الآية 37(19/213)
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} (1) {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (2) فرد الله عليهم قولهم، فقال: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (3) . وقالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} (4) فقال الله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (5) وهذا لا يتعلق إلا بهذا النظم، وقد رد الله عليهم وأخبر بكونه قرآنا.
__________
(1) سورة الفرقان الآية 4
(2) سورة الفرقان الآية 5
(3) سورة الفرقان الآية 6
(4) سورة النحل الآية 103
(5) سورة النحل الآية 102(19/214)
الثالث: أن بعض الكفار زعم أنه يقول مثله، قال الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} (1) . ومنهم من طلب تبديله، قال الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} (2) ، ونهى بعضهم [بعضا عن سماعه وأمروا] (3) باللغو فيه فقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} (4) [وقال] : {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (5) ، وقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (6) .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 31
(2) سورة يونس الآية 15
(3) في الأصل بياض: ولعل الصواب ما ذكرناه.
(4) سورة فصلت الآية 26
(5) سورة الزخرف الآية 31
(6) سورة سبأ الآية 31(19/214)
ومن المعلوم البين: أن هذا كله لا يتعلق إلا بهذا الكتاب دون ما في النفس، فإن الكفار ما اعتقدوا في نفس الباري شيئا يريدون تبديله، أو يزعمون أنهم يقولون مثله، ولا ينهون عن سماعه، ولا التمسوا تبديله على غير النبي -صلى الله عليه وسلم- مع إشارتهم إلى [حاضر] (1) .
الرابع: أن الله سمى القرآن عربيا، فقال: {قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} (2) ، أي غير مخلوق، وقال: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (3) ، وقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (4) ، وقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} (5) ، وسماه حديثا بقوله: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} (6) ، وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} (7) ، وقال: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} (8) ، وقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} (9) ، وإنما يتعلق هذا الوصف باللفظ دون المعنى.
الخامس: أن الله تعالى- أشار إليه إشارات [الحاضر] بقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (10) {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ} (11) ،
__________
(1) في الأصل (حاظر) بالطاء المعجمة، والصواب ما ذكرناه
(2) سورة الزمر الآية 28
(3) سورة الزخرف الآية 3
(4) سورة الشعراء الآية 195
(5) سورة فصلت الآية 44
(6) سورة القلم الآية 44
(7) سورة الزمر الآية 23
(8) سورة الطور الآية 34
(9) سورة النساء الآية 87
(10) سورة الإسراء الآية 9
(11) سورة النمل الآية 76(19/215)
[وقال] : {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} (1) ، [وقال] : {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} (2) . والحاضر عندنا هو هذا الكتاب العربي.
السادس: أن الله- تعالى- أخبر بتنزيله، وشهد بإنزاله على رسوله، فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا} (3) ، وقال سبحانه: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} (4) .
وقال سبحانه: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (5) ، والمنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو هذا الكتاب دون ما في النفس.
السابع: أن الله- تعالى- أمر بترتيله، ونهى عن العجلة وتحريك اللسان به متعجلا، فقال سبحانه: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (6) ، وقال: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} (7) ، وقال: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (8) . ولا يتعلق هذا بما في النفس البتة، وإنما يتعلق بهذا الكتاب.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 89
(2) سورة يوسف الآية 3
(3) سورة الإنسان الآية 23
(4) سورة الإسراء الآية 106
(5) سورة النساء الآية 166
(6) سورة المزمل الآية 4
(7) سورة طه الآية 114
(8) سورة القيامة الآية 16(19/216)
الثامن: أن الله- تعالى- أمر بقراءته، والاستماع له، والإنصات إليه، وأخبر أنه يسمع [ويتلى] (1) ، فقال: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (2) ، وقال تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (3) ، وقال: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (4) . وهذا من صفات الوجود عندنا، لا من صفة ما في النفس الذي لا يظهر [للحس] (5) ولا يدرى ما هو.
التاسع: أن الله- تعالى- أخبر أن منه سورا وآيات وكلمات، فقال تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} (6) ، وقال: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} (7) .
وقال: {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} (8) ، وقال: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ} (9) ، وقال: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (10) ، وقال: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} (11) ، وقال {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} (12) ،
__________
(1) كتبت (يتلا) هكذا، والصواب ما أثبت.
(2) سورة التوبة الآية 6
(3) سورة المزمل الآية 20
(4) سورة الأعراف الآية 204
(5) في الأصل (الحس) بلام واحدة، والصواب ما ذكرناه.
(6) سورة النور الآية 1
(7) سورة التوبة الآية 124
(8) سورة يونس الآية 38
(9) سورة النمل الآية 1
(10) سورة آل عمران الآية 7
(11) سورة العنكبوت الآية 49
(12) سورة يونس الآية 15(19/217)
وقال: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (1) ، وقال: {وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} (2) ، وقال: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (3) ، وقال: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} (4) .
العاشر: أن القرآن كتاب الله العربي الذي أنزله على محمد -صلى الله عليه وسلم- وكتاب الله سور، وآيات، وحروف، وكلمات بغير خلاف.
والدليل: على أن كتاب الله هو القرآن، قول الله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} (5) {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (6) .
وقال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} (7) {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} (8) ، فسموا القرآن الكتاب. وقال في موضع آخر: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} (9) .
وأجمع المسلمون على أن كتاب الله المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- هو القرآن.
__________
(1) سورة الكهف الآية 109
(2) سورة الرعد الآية 36
(3) سورة المزمل الآية 20
(4) سورة المزمل الآية 20
(5) سورة يوسف الآية 1
(6) سورة يوسف الآية 2
(7) سورة الأحقاف الآية 29
(8) سورة الأحقاف الآية 30
(9) سورة الجن الآية 1(19/218)
فهذه عشرة أوجه دالة على ما ذكرنا، ولولا كراهة التطويل لزدت عليها، لكن من لا يكتفي بهذه وينتفع بها، لم ينتفع بالزيادة عليها.(19/219)
وأما السنة: فمن وجهين:
أحدها: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-.
والثاني: سكوته.
أما قوله فكثير، فنقتصر على ما يكفي:
منها: ما روى أبو الأحوص عن عبد الله بن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «هذا القرآن مأدبة الله تعالى، فتعلموا مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة [لمن] تبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ [فيستعتب] (2) ، ولا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد، فاتلوه، فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات ألا إني لا
__________
(1) نقله ابن كثير عنه في كتابه ''فضائل القرآن ''. أما كتاب أبي عبيدة فلم أطلع عليه. وأخرجه الدارمي عن ابن مسعود، وذكره ابن الأثير في جامعه عن ابن عمر، وعزاه إلى رزين، وذكره ابن كثير في ''فضائل القرآن'' وقال فيه: غريب من هذا الوجه. وضعفه لضعف أبي إسحاق الهجري، وقال: إن له شاهدا من وجه آخر. انظر: جامع الأصول (8 \ 463) ، وسنن الدارمي (2 \ 435) ، ومجمع الزوائد (7 \ 164) ، وفضائل القرآن (ص16) . ووهم أبو بكر الهيثمي فذكر اسم أبي إسحاق الهجري: مسلم بن إبراهيم، والصواب: أنه إبراهيم بن مسلم. قلت: يريد بالشاهد حديث الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب عند الترمذي ستكون فتنة، قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم. . . الحديث، وهو ضعيف لضعف الحارث الأعور. قال فيه الترمذي: ''هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مجهول. وفي الحارث مقال أ. هـ، والصحيح أنه موقوف على ابن مسعود. جامع الترمذي (5 \ 152) ، تهذيب التهذيب (2 \ 145) .
(2) ساقطة من الأصل. (1)(19/219)
أقول: الم حرف، ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر» رواه أبو عبيد في فضائل القرآن.
فأشار إلى [حاضر] وأمر بتلاوته، وأخبر أنه حروف، وقال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (1) » وقال: «إن الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع
__________
(1) صحيح البخاري فضائل القرآن (5027) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2907) ، سنن أبو داود الصلاة (1452) ، سنن ابن ماجه المقدمة (211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/69) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338) .(19/220)
السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن وهو (2) » متفق على معناه.
وعن سهل بن سعد قال: «خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نقتري - يقري بعضنا بعضا- فقال: الحمد لله، كتاب الله واحد فيه الأحمر والأسود، اقرءوا، اقرءوا، قبل أن يجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح لا يجاوز تراقيهم يتعجلون أجره، ولا يتأجلونه (4) » .
__________
(1) ذكره البخاري في صحيحه في كتاب ''التوحيد''- باب الماهر في القرآن مع السفرة الكرام وفيه تتمة وهي ''وزينوا بالقرآن أصواتكم ''. فتح الباري (13 \ 518) ، ورواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب ''صلاة المسافرين''- باب فضل الماهر في القرآن والذي ينتفع فيه صحيح مسلم (1 \ 549) ، ورواه ابن ماجة- باب ثواب القرآن ورواه بلفظ ''. . . والذي يقرأه وينتفع فيه وهو عليه شاق فله أجران ''. سنن ابن ماجة (2 \ 1242) تحقيق: عبد الباقي.
(2) (1) يشتد عليه فله أجران
(3) لم أجده كاملا بهذا اللفظ ونصه عند أبي داود: '' الحمد لله، كتاب الله واحد وفيكم الأحمر، وفيكم الأسود. اقرأه قبل أن يقرأه أقوام يتبعونه كما يقوم السهم يتعجل أجره ولا يتأجله '' أ. هـ. عون المعبود (3 \ 59) . والبغوي في شرح السنة عن جابر بن عبد الله (3 \ 88) ، والإمام أحمد في المسند بطريقين: عن أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله (3 \ 146، 397) . والحديث حسن. وعبد الله بن لهيعة يكتب حديثه للمتابعة؛ لا سيما بعد احتراق كتبه وقبل ذلك إذا صرح بالسماع عمن روى عنه، ولم يصرح في هذا الحديث بسماعه عن بكر بن سوادة، وله شاهد من حديث جابر في مسند أحمد (2 \ 397) .
(4) لفظ أبي داود [وفيكم] و [اقرأه] بصيغة الإفراد. (3)(19/221)
وفي لفظ: «يقيمون حروفه إقامة السهم» . فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنه طرأ علي حزب من القرآن، فكرهت أن أخرج من المسجد حتى أقضيه (1) » . قال أوس الثقفي: فسألت أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكيف يحزبون القرآن؟ قالوا: ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة سورة، وثلاث عشرة سورة، وحزب المفصل ما بين قاف إلى أسفل.
«وقال لأبي (2) : يا أبا المنذر، أي آية في القرآن أعظم؟
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه ''عون المعبود'' (2 \ 269) ، وابن ماجة في سننه (1 \ 427) تحقيق: عبد الباقي: والإمام أحمد في مسنده (4 \ 9، 343) ، والحديث ضعيف لضعف عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى. انظر: الجرح والتعديل (5 \ 96) . وميزان الاعتدال (2 \ 452) .
(2) سنن أبو داود الحروف والقراءات (4003) .(19/222)
فقال: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (1) فضرب صدره، فقال: ليهنك العلم أبا المنذر» .
وقال: «إن سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي: (3) » .
وقال: «ثلث القرآن (5) » .
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) سنن الترمذي فضائل القرآن (2891) ، سنن أبو داود الصلاة (1400) ، سنن ابن ماجه الأدب (3786) .
(3) سورة الملك الآية 1 (2) {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}
(4) متفق عليه. رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري، ورواه مسلم عن أبي الدرداء لفظ مسلم، '' أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن؟ قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: '' قل هو الله أحد '' تعدل ثلث القرآن ''. انظر: صحيح البخاري (6 \ 179) ، ومسلم (1 \ 556) .
(5) سورة الإخلاص الآية 1 (4) {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}(19/223)
وقال: «تعدل ربع القرآن، وإذا زلزلت تعدل نصف القرآن (2) » .
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أعربوا القرآن (3) » .
وقال: «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم (4) » .
وقال: «من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات، ومن
__________
(1) أخرجه الترمذي بطريقين: عن أنس بن مالك وعن ابن عباس. قال في الأول: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث هذا الشيخ: الحسن بن سلم. وقال في الثاني: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث اليمان بن المغيرة. وأخرجه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس. انظر: جامع الترمذي (5 \ 165) ، والمستدرك (1 \ 566) . قلت: الحسن بن سلم هو ابن صالح العجلي شيخ مجهول يروي عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات، حققه ابن حبان. انظر: المغني للذهبي (1 \ 160) ، وتهذيب التهذيب (2 \ 280) ، وتهذيب الكمال (6 \ 166) . واليمان بن المغيرة ضعيف. قال فيه ابن معين: ليس حديثه بشيء، وقال أبو حاتم: منكر الحديث، يروي المناكير التي لا أصل لها فاستحق الترك. انظر: تهذيب التهذيب (11 \ 406) . فالحديث ضعيف لضعف اليمان بن المغيرة؛ وجهالة الحسن بن سلم.
(2) سورة الكافرون الآية 1 (1) {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}
(3) متفق عليه. انظر: صحيح مسلم (7 \ 1490) ، وانظر: البخاري (4 \ 15) .
(4) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه بطرق عن ابن مسعود كلها ضعيفة، وكذلك أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد وعزاه إلى الطبراني وفي سنده ضعف. انظر: المصنف (10 \ 456) ، ومجمع الزوائد (7 \ 163) ، وفيض القدير (1 \ 558) . والصواب: وقفه على ابن مسعود كما سيأتي. وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي هريرة مرفوعا، وعن ابن مسعود موقوفا بلفظ: '' أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه ''. وفيه عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري. ورواه الطبراني- أيضا- من طرق، فيها ليث بن أبي سليم. أما عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري فضعيف في الحديث، كان يقلب الأخبار ويهم في الآثار. قال فيه يحيى بن معين: ليس بشيء. وكذلك ليث بن أبي سليم ضعيف لا يحتج به اختلط بآخره. انظر: التاريخ الكبير (5 \ 105) ، (2 \ 429) ، والمجروحين (2 \ 9، 231) : والضعفاء للعقيلي (2 \ 258) . وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد، وعزاه للطبراني، وفيه نهشل بن سعيد. قال فيه ابن معين والدارقطني ضعيف. وقال النسائي: متروك الحديث، وضعفه البخاري. فالحديث بهذا الإسناد ضعيف. انظر: مجمع الزوائد (7 \ 163) ، والضعفاء والمتروكين للدارقطني (ص 382) . وأخرجه الدارمي في سننه، وابن أبي شيبة بعدة طرق كلها ضعيفة عن عبد الله بن مسعود موقوفا ومرفوعا بألفاظ مختلفة. غير أن ليس فيها (أعربوا) . وأخرجه الترمذي في جامعه عن ابن مسعود بلفظ: '' من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، الحسنة بعشر أمثالها ''. وقال: حديث حسن صحيح. انظر: المصنف (10 \ 461) ، وجامع الترمذي (5 \ 175) ، وسنن الدارمي (2 \ 429) .(19/224)
قرأه فلحن فيه فله بكل حرف حسنة (1) » حديث صحيح.
وقال: «اقرءوا القرآن فإنكم تؤجرون بكل حرف منه عشر حسنات، ألا إني لا أقول: الم حرف، ولكن ألف عشر، واللام عشر، والميم عشر (2) » .
وقال: «من قرأ حرفا من القرآن كتب الله- تبارك وتعالى- له به عشر حسنات» . الياء، والتاء، والواو (3) .
__________
(1) سنن الترمذي فضائل القرآن (2910) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3308) .
(2) هكذا في الأصل (ألف) دون تعريف، وجاءت الأحرف الثلاثة معرفة، كما في مجمع الزوائد (7 \ 163) ، وجاءت منكرة كما في مصنف ابن أبي شيبة (10 \ 462) وذكره الذهبي في التلخيص وصححه (1 \ 555) انظر: جامع الترمذي (5 \ 175) .
(3) سبق تخريجه.(19/225)
وروى أنس بن مالك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «من قرأ حرفا من كتاب الله- عز وجل- زوجه الله- تبارك وتعالى- زوجتين من الحور العين (1) » .
فهذه الأخبار وما شابهها تدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما أراد بالقرآن سوى هذا الكتاب المنزل عليه، الذي يعرفه المسلمون قرآنا، ولم يرد به ما تقول هذه الطائفة إنه معنى في نفس الباري. لا يظهر للحس، ولا ينزل، ولا له آخر، ولا أول، ولا يدري ما هو ولا هو سور، ولا آيات، ولا حروف، ولا كلمات، ولولا التطويل لذكرت هذه الأحاديث بأسانيدها، وبينت في كل خبر وجه الاحتجاج منه: لكن تركت ذلك لظهوره تخفيفا.
__________
(1) لم أجده بهذا اللفظ فيما اطلعت عليه. أما معناه فصحيح، وقد مر في ألفاظ كثيرة.(19/226)
وأما الحجة في سكوت (1) النبي -صلى الله عليه وسلم- فمن وجهين:
أحدها: أنه لو كان القرآن ما قالوا؛ لوجب على النبي -صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) وهو الوجه الثاني من السنة كما ذكر المصنف.(19/226)
بيانه وتعريفه، فإنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه - بالاتفاق- وما أشد حاجة [الأمة] (1) إلى معرفة القرآن الذي فيه ذكرهم وشرفهم، قال "أهل التفسير" في قول الله- عز وجل-: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} (2) أي: شرفكم.
وقال بعضهم في قوله تعالى: {إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} (3) . هو: القرآن فإن كل الأمة لم تسمع من النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكيف لا [يحتاج] (4) المسلمون إلى معرفة القرآن الذي شرفهم الله به، وجعله بشيرا، ونذيرا، ومناديا لهم، وداعيا إلى الهدى، وحجة، ونورا، وبرهانا وشفاء، ورحمة، ومعجزا لنبيهم- عليه السلام-، (ومعرفا) (5) للأحكام: من الحلال والحرام، والصلاة، والزكاة، والحج، والصيام، وسائر الأحكام، والذي جعل الله الأجر في تلاوته واستماعه، وكتابته، وحفظه، وأمرنا بتعظيمه، وتوقيره، ورفعه، ونهانا عن مسه محدثين، وعن السفر به إلى بلاد أرض العدو، وعن قراءته في حال الجنابة، وجعله شرطا للصلاة، وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بتبليغه، والإنذار به، فهذا مما لا يجوز للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يهمل بيانه، ولا يكتمه عن أمته، سيما وقد أمره الله بالتبليغ، وفرضه عليه، وتوعده على تركه
__________
(1) في الأصل (الأئمة) والصواب ما ذكرناه.
(2) سورة الأنبياء الآية 10
(3) سورة آل عمران الآية 193
(4) في الأصل (تحتاج) بالتاء، والصواب بالياء.
(5) في الأصل (ومعرف) والصواب بالنصب.(19/227)
أمته؛ سيما وقد أمره الله بالتبليغ، وفرضه عليه، وتوعده على تركه، فقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (1) ، وقال: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (2) ، وقال مخبرا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (3) ، أي: ومن بلغه القرآن.
ومع شفقة النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته، وحرصه عليهم، وعزة عنتهم عليه، فهل يجوز أن يتوهم المتوهم: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتم عن أمته بيان القرآن، وعصى أمر ربه، ولم يبلغ رسالته، وغش أمته، وتركهم يعتقدون الباطل، ويضلون عن الحق، ويضيعون عن الصواب، مع علمه بضلالهم، وإمكانه من هدايتهم بكلمة واحدة، فلا يقول في ذلك حرفا، ولا شيئا مما لا يسوغ لمسلم أن يعتقده، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لهم في خطبته في حجة الوداع: «ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. فرفع أصبعه إلى السماء وقال: اللهم فاشهد (4) » .
ويقتضي قول هذه الطائفة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما بلغ، وأنه [كاذب] (5) في دعواه التبليغ، وأصحابه كاذبون في شهادتهم له، وأن كل مسلم شهد للنبي -صلى الله عليه وسلم- بتبليغ الرسالة، والنصح لأمته، فهو كاذب في شهادته.
__________
(1) سورة المائدة الآية 67
(2) سورة الحجر الآية 94
(3) سورة الأنعام الآية 19
(4) متفق عليه. انظر: صحيح البخاري (3 \ 191) ، وصحيح مسلم (2 \ 886) .
(5) بياض في الأصل، وما أثبتناه يتضح به المعنى.(19/228)
فليت شعري أيزعمون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ترك بيان هذا الأمر قصدا لإضلال أمته وإغوائهم، أو غفلة منه، وأن [أستاذهم قصد] (1) لما غفل عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه، والسادة من صحابته وتابعيهم، والأئمة من بعدهم، فبين الصواب، وأتم تبليغ الرسالة، [وقصد] (2) لما لا يعلمه الله- تعالى- وخفي عن رسوله، وأمته. أن من رضي لنفسه [] (3) هذا، لأهمل أن لا يكلم أصلا (4) .
الوجه الثاني، من الثاني: لو قدرنا أنه ساغ للنبي -صلى الله عليه وسلم- السكوت عن بيان القرآن، فكيف ساغ له إيهام أمته؟ أن القرآن غير ما هو قرآن، بما تلاه من الآيات [التي] (5) ذكرناها، والأخبار التي رويناها ليضل أمته بذلك عن الصواب، ويعتقدوا غير الحق، ويصيروا حشوية مجسمين- كما يعتقد فينا خصومنا- ولو كان ذاك، لكان النبي -صلى الله عليه وسلم- هو المضل لأمته، والمغوي لهم، والداعي لهم إلى صراط الجحيم، والمانع لهم من الصراط المستقيم.
__________
(1) الجملة غير واضحة في الأصل لوجود بياض، وما أثبتناه ينتظم به السياق.
(2) غير واضحة في الأصل، ولعل ما أثبتناه يظهر به المعنى.
(3) في الأصل جملة (يؤدي إلى) ، ولا معنى لها في السياق، حيث يتم المعنى بدونها.
(4) أي أنه غير عاقل، فلا تحوز مجادلته. ولا مخاطبته.
(5) في الأصل (الذي) بدل (التي) .(19/229)
واعتقاد هذا كفر بالله العظيم، وخروج عن دائرة المسلمين.
فهذه دلالة قاطعة في أن القرآن هو ما يعتقده المسلمون قرآنا لا غير.(19/230)
وأما الإجماع: فإن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ما كانوا يعتقدون أن القرآن سوى هذا الذي نعتقده قرآنا.
دلت على ذلك: أقوالهم، وأحوالهم، فإنهم: سموا حروفه وآياته وكلماته وأحزابه، وذكروا قرآنه، واستماعه على نحو ما ذكرنا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فقال أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما-: "إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه ".(19/230)
وسئل علي عن الجنب، هل يقرأ القرآن؟ قال: "ولا حرفا" (1) ، وروي عنه أنه قال: "من كفر بحرف من القرآن، فقد كفر به كله ".
وقال علي - رضي الله عنه-: "تعلموا البقرة، فإن بكل حرف منه حسنة، والحسنة بعشر أمثالها. ولا أقول: الم حسنة، ولكن ألف حسنة، ولام حسنة، وميم حسنة".
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه-: "ما من مؤمن يقرأ حرفا من القرآن، ولو شئت لقلت اسما تاما، ولكن حرفا، إلا كتب الله- تعالى- له بكل حرف عشر حسنات، أما إن الحرف ليس بالآية، والكلمة، ولكن ألم ثلاثون حسنة". وفي رواية قال: "أما إني لست ممن يزعم أن بكل آية عشر حسنات، ولكن أزعم أن بكل حرف من حروف
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (1 \ 102) .(19/231)
المعجم عشر حسنات".
وروي عنه أنه قال: "إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، اتلوه فإن الله يأجركم بكل حرف منه عشر حسنات، لم أقل لك: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف ".
وقال ابن مسعود: "أنتم اليوم في زمن كثير فقهاؤه، وقليل قراؤه، وتحفظون حدود القرآن، وتضيعون حروفه، وسيأتي زمان قليل فقهاؤه كثير قراؤه، يحفظون حروفه ويضيعون حدوده" ذكره مالك بن أنس في الموطأ.
وقال ابن مسعود: "من حلف بالقرآن فعليه بكل آية كفارة" وروي عنه: بكل حرف.(19/232)
وقال عبد الله بن عمر: "إذا خرج أحدكم لحاجته، ثم رجع إلى أهله، فليأت المصحف، فيفتحه ويقرأ سورة، أو قال: سورا، فإن الله يكتب له بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر ".
وروى عوف بن مالك، وأنس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من قرأ حرفا من كتاب الله كتب الله له به حسنة (1) » .
وقال فضالة بن عبيد: "خذ على هذا المصحف، ولا ترد على ألف، ولا واو إلا آية كاملة ".
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-: "تعلموا إعراب القرآن،
__________
(1) سبق تخريجه قريبا. عن ابن مسعود.(19/233)
كما تتعلمون حفظه" وقال: "جردوا القرآن".
وقال زيد بن ثابت: "أرسل إلي أبو بكر بعد مقتل أهل اليمامة، وإذا عنده عمر، فقال لي: إنك رجل شاب عاقل، ولا نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله-صلى الله عليه وسلم- فتتبع القرآن فاجمعه ". قال: " فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال، ما كان أثقل علي من ذلك، فقلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله-صلى الله عليه وسلم-؟ فقال أبو بكر: هو والله خير. قال: فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع، والعسب (1) ، واللخاف (2) ، وصدور الرجال " (3) .
__________
(1) العسب: جمع عسيب وهو جريد النخل إذا جرد من خوصه.
(2) اللخاف: جمع ''لخفة'' وهي الحجارة البيضاء العريضة الرقيقة. انظر: لسان العرب- مادة ''لخف ''.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه. انظر: (6 \ 98) .(19/234)
فهذا وأشباهه مما لا سبيل إلى إحصائه دليل على أن القوم ما اعتقدوا قرآنا، سوى هذا الذي هو حروف منظومة، وآيات معلومة، وكذلك من بعدهم من أهل الإسلام، وكلامهم في هذا كثير، وما علمت أحدا من أهل الإسلام جحد كون هذا قرآنا: سوى هذه الطائفة، ثم أجمعوا مع المسلمين على أنهم متى تلوا آية، قالوا: قد قال الله كذا، وقول الله هو كلامه.
وأجمع (1) المسلمون على أن القرآن يقرأ، ويسمع، ويكتب، ويحفظ، وهذه الصفات [لا نؤلها] (2) بما لم ينزل إلينا ما لا يدري ما هو، وأجمعوا على أن القرآن: أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- وأنه معجز للنبي-صلى الله عليه وسلم- الذي يتحدى الله الخالق بالإتيان بمثله، وعجزوا عنه.
وأجمعوا: على أن في القرآن ناسخا، ومنسوخا، ولا يتعلق ذلك إلا بهذا النظم.
وأجمعوا: على أن القرآن الذي يشترط قراءته في الصلاة، ويمنع الجنب من قراءته، والمحدث من مسه، ويمنع من السفر به إلى أرض العدو، [هو هذا] (3) دون غيره.
وأجمعوا: على أن الوقوف الموقوفة على قراء القرآن أو على كتبته، أو على حافظيه يصرف إلى من قرأ هذا، وكتبه وحفظه.
وأجمعوا: على أن تفسير هذا الكتاب يسمى: تفسير القرآن، وأن قارئه يسمى: قارئ القرآن، وأن من يقريه يسمى: مقرئ القرآن، وأن
__________
(1) أي من جاءوا بعد القرون الثلاثة كما أجمع عليه أولئك من قبلهم.
(2) في الأصل ''لا تعلو لها'' ولا معنى لها، ولعل الصواب ما ذكرناه.
(3) في الأصل ''هذا'' ولعل الصواب ما ذكرناه ليتم المعنى، وتكون الجملة خبرا لـ ''أن''.(19/235)
سوره تسمى: سور القرآن، وآياته تسمى: آيات القرآن، وحروفه تسمى: حروف القرآن، ولو قال إنسان: سورة البقرة ما هي من القرآن، لكان عند المسلمين جاحدا لبعض القرآن.
وما اختلف الصحابة في شيء من سور القرآن- فيما علمت- إلا في المعوذتين، فإن بعضهم لم يكتبها في مصحف (1) وأجمعوا على ما عداهما.
وأجمعوا: على أن من جحد سورة من القرآن، أو آية، أو كلمة، أو حرفا متفقا عليه أنه كافر.
قال أبو نصر [السجزي] : هذا حجة قاطعة أنه حروف.
وأجمعوا: - فيما علمت- على أن حالفا لو حلف ليقرأن القرآن، أو ليكتبن القرآن، أو ليحفظنه أو ليسمعنه [لحنث بترك] (2)
__________
(1) هكذا في الأصل ولعل الصواب (مصحفه) .
(2) هذه الجملة ساقطة في الأصل ولا يستقيم المعنى بدونها.(19/236)
كل قراءة هذا، وكتابته، وحفظه، وسماعه، ولو حلف أنه: لا يقرأ القرآن، أو لا يكتبه، أو لا يحفظه، أو لا يسمعه، لحنث بقراءة هذا، وكتابته، وحفظه، وسماعه، ولو حلف أن لا يتكلم فقرأ القرآن في الصلاة لم يحنث، ولما اختلف أهل الحق والمعتزلة في القرآن، هل هو مخلوق أو لا؟ ، ما اختلفوا إلا في هذا الكتاب.(19/237)
[فصل]
واتفق الجميع على أنه قرآن، واختلفوا في قدمه وخلقه، ومن صورة الاختلاف (1) الاتفاق على محله، فحصل الإجماع من أمة محمد-صلى الله عليه وسلم- على أن هذا الكتاب: هو القرآن المنزل، وثبت بالأدلة القاطعة [. . . .] (2) أن هذا قرآن، فلا يلتفت إلى من خالف ذلك، وإذا ثبت أنه قرآن، فهو سور وآيات، وكلمات، وحروف بغير إشكال، وإنكار ذلك جحد للعيان، ونوع من السفسطة والهذيان، ومن العجب أن الله- تعالى- سمى هذا الكتاب: قرآنا، وسماه النبي-صلى الله عليه وسلم- قرآنا، وسمته أمته: قرآنا، وسمته الجن: قرآنا {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} (3) وسمته المعتزلة: قرآنا، فجاءت هذه الطائفة بمخالفة رب العالمين، وخلقه أجمعين.
__________
(1) أي: ويفهم من اختلافهم في وصفه هل هو قديم أو حادث؟ اتفاقهم على أصله أنه قرآن.
(2) بياض في الأصل.
(3) سورة الجن الآية 1(19/237)
وقالت: ما هذا بقرآن قصدا للرد على المعتزلة قولهم: القرآن مخلوق، فجاءت بطامة، إذ من لوازمها: كون القرآن مخلوقا، فإن المعتزلة لم يعنوا بالقرآن المخلوق سوى هذا الكتاب، وهذه الطائفة تقول: هو، وليس بقرآن، فليتها صرحت بقول المعتزلة، ووقفت عليه، ولم تفرد هذه الزيادة التي لم يقلها قبلها أحد، ثم إنهم مع جحدهم كون هذا [قرآنا] (1) لا يتجاسرون على إظهار مقالتهم بسلاطين المسلمين، ولا لعامتهم، وإنما يظهرون لهم إنكار الحروف، لكون لفظها لم يرد في نص الكتاب، وهذا إنما يلبس [على] ، (2) عامي غمر ما له من فطنة، فيعلم يقينا أن السورة آيات، والآيات كلمات، والكلمات حروف، ولا شك في ذلك، ثم قد صرح النبي-صلى الله عليه وسلم-، وأصحابه والتابعون، ومن بعدهم بالحروف، وعد الناس حروف القرآن في الأمصار، ولم ينكر هذا منكر قبل هذه الطائفة، وما أنكرت هذه الطائفة الحروف على الخصوص، إنما أنكرت هذه الطائفة (3) القرآن كله وجحدته، ثم إن الله- تعالى- قد أزاح العلة [بتلك] (4) الحروف المقطعة في أوائل السور، فافتتح تسعا وعشرين سورة بالحروف المقطعة قطعا للعذر، ونفيا للإشكال، حتى أني سمعت بعض أهل العلم يقول: إن من جحد سورة البقرة من القرآن فهو كافر بالإجماع، ومن أقر أنها من القرآن فقد أقر بالحروف، يعني:
__________
(1) في الأصل: قرآن بالرفع والصواب النصب.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) الكلابية ومن تبعهم من الأشاعرة.
(4) في الأصل (بذلك) .(19/238)
أن في أولها: ألم، وهي حروف، وزعم بعض متحذلقي هذه الطائفة أن: ألم، ليست حروفا، وإنما هي أسماء للحروف، فخالفوا النبي-صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، والأمة، فإنهم يسمون هذه حروفا، ثم لا ينفعه هذا، فإن أسماء الحروف: حروف، فالألف ثلاثة أحرف، واللام ثلاثة أحرف والميم ثلاثة أحرف، إنما هي تسعة، (1) فتحذلق (2) فزلق كما قيل.
هكذا كل أخي حذلقة ... ما مشى في مس إلا زلق
ثم أي شيء يفيده ستر (3) واحد إلى كون: ألم حروفا مع تسليمه، ما بعدها إلى آخر السورة حروف، فإن ذلك ثلاثة أحرف، والكتاب خمسة أحرف، وكذلك ما بعدها، فلو صح ما قالوا لم يفده قليلا ولا كثيرا على أن القوم ما نزاعهم في أن هذا القرآن حروف، وهذا شيء لا يمكن جحده، إنما جحدوه بالكلية، فقالوا ما هذا قرآنا أصلا. فإن سلم المتحذلق أن هذا قرآن، ولكن قال: لا أسميه حروفا كان [موافقا] (4) في المعنى، مخالفا في التسمية، فلا فائدة في النزاع فيه.
وقال (5) بعضهم: هذا الكتاب قرآن لكنه مخلوق، والقرآن القديم في نفس الباري، فوافق المعتزلة في أن القرآن مخلوق. وادعى دعوى فرق
__________
(1) يقال: تحذلق الرجل إذا ادعى أكثر مما عنده.
(2) في الأصل (فتحلق) ولا معنى لها.
(3) أي: ماذا يستفيد من نفى أحد حروف (ألم) الثلاثة مع تسليمه أنها وما بعدها حروف.
(4) في الأصل: (موقوفا) والصواب ما ذكرناه.
(5) أي: بعض الأشاعرة.(19/239)
بها الإجماع، وخالف بها المسلمين، فإننا لم نسمع أن [أحدا] (1) من الأمة قال هذه المقالة قبل هذا [القائل] (2) وليس له عليها دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول صحابي، ولا إمام مرضي، والعقل لا يقتضي وجود قرآن، ولا تسمية، إنما يعلم ذلك بالنقل الصحيح القاطع. وليس مع هذا المدعي سوى مجرد الدعوى لا يثبت بها شيء، ثم إنه لو قدر أنه ذكر دليلا [لكان] (3) مخالفا للإجماع، فإن الأمة مجمعة على أنه ليس لنا إلا قرآن واحد. فمنهم من قال: هو كلام الله القديم، ومنهم من قال: هو مخلوق. فما خالف الإجماع فهو باطل. ثم كيف يتصور لهذا الأحمق أن النبي -صلى الله عليه وسلم-[غفل] (4) عن ذكر هذا لأمته مع حاجتهم إلى بيانه، وعصى ربه في ترك تبليغ رسالته وغش أمته بكتمان ذلك عنهم، وغفل عنه خلفاؤه ومن بعدهم حتى جاء فتنة لهذا واستدرك على النبي-صلى الله عليه وسلم- غفلته وكشف عز الأمة فيهم وهداهم عن الضلالة التي [أضلهم] (5) رسولهم أن هذا المصحف عظيم.
وعلى كل حال فقد سلم أن القرآن الذي بينته أنه قرآن بالكتاب والسنة والإجماع [و] (6) هو سور وآيات وكلمات وحروف: وهذا هو الذي ادعيناه، وقد ثبت لنا ذلك، فلا يضرنا دعواه غير ذلك، فليدع ما شاء.
__________
(1) في الأصل (أحد) بالرفع والصواب النصب.
(2) في الأصل (المقايل) ، ولعل الصواب ما أثبت أعلاه.
(3) في الأصل (لكن) والصواب ما أثبتناه.
(4) ساقطة في الأصل، ولا يستقيم السياق إلا بها، وقد دل عليها ما بعدها.
(5) في الأصل (أظلهم) بالطاء المعجمة، والصواب (أضلهم) بالصاد المعجمة.
(6) ساقطة من الأصل.(19/240)
[فصل]
فإن قال القائل: لا يصح قولكم: إن القرآن حروف لوجوه:
أحدها: أن الحروف لا تخرج إلا من مخارج وأدوات، ولا يجوز إضافة ذلك إلى الله- تعالى- لأنه تجسيم، والله سبحانه يتعالى عن ذلك.
والثاني: أن الحروف تتعدد، والقديم لا يتعدد.
والثالث: أنها تتعاقب [فتسبق] الباء السين، والسين الميم، وكل مسبوق مخلوق.
الرابع: أن كلام الله شيء واحد، ليس له أول ولا آخر، ولا بعض، والحروف مختلفة متغايرة، لها أجزاء وأبعاض.
فالجواب من وجوه: (1) .
__________
(1) الصحيح أنهما وجهان: أحدهما: إجمالي، والثاني: تفصيلي يبدأ من قول المصنف الثالث.(19/241)
أحدها: أنه ثبت أن القرآن هو هذا الكتاب الذي هو حروف.
أدلة (1) قاطعة يقينية، فكل [ما خالف] (2) يعلم كونه باطلا، فإن ما خالف اليقين فبطلانه يقين، وما بعد الحق إلا الضلال.
__________
(1) كذا في الأصل، ولو قيل (بأدلة) لكان أظهر.
(2) في الأصل (وكلما خلف) ولعل الصواب ما أثبت بقرينة ما بعده.(19/242)
الثاني: أن هذا الذي ذكروه من فن الكلام، وهو مجمع على ذمه وإنكاره، وأنه ليس بحجة ولا دليل. والدليل على الإجماع قول العلماء: قال ابن عبد البر: أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ، ولا يعدون عند الجميع في طبقات العلماء.
وقال أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إسحاق بن [خويز منداد] البصري المالكي: أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام فكل متكلم فهو من أهل البدع والأهواء: أشعريا كان أو غير [أشعري] (1) ، ولا تقبل لهم شهادة في الإسلام، ويهجرون ويؤدبون على [بدعتهم] (2) .
__________
(1) في الأصل (شعري) بدون همزة، والصواب ما أثبت.
(2) في الأصل (بدعته) بالإفراد والصواب الجمع. (ويهجروا ويؤدبوا) .(19/242)
وقال الشافعي - رحمة الله عليه-: لأن يبتلى المرء بكل ما نهى الله عنه، ما عدا (1) الشرك، خير من أن ينظر في الكلام.
وقال: لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه كما يفر من الأسد.
وقال: من أبدر (2) في الكلام لم يفلح.
وقال: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، ويطاف بهم في العشائر والقبائل [وينادى عليهم] (3) هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام.
وقال [أحد علماء شاش] :
كل العلوم سوى القرآن مشغلة ... إلا الحديث وإلا الفقه في الدين
العلم ما كان فيه قال: حدثنا ... وما سوى ذاك وسواس الشياطين
__________
(1) في الأصل (ما عاد) والصواب ما أثبت.
(2) أي: بادر إليه وقدمه على غيره من العلوم لأنه أهم عنده من غيره.
(3) سقطت من الأصل. انظر: كتاب شرف أصحاب الحديث (ص 79) .(19/243)
وقال الإمام أحمد بن حنبل - رحمة الله عليه-: لا يفلح صاحب كلام أبدا، ولا تكاد ترى أحدا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل.
وقال أبو يوسف - رحمة الله عليه-: من طلب العلم بالكلام تزندق.(19/244)
وقال محمد بن شجاع الثلجي: سمعت الحسن بن زياد اللؤلؤي وقال له رجل في زفر بن الهذيل: كان ينظر في الكلام، فقال: سبحان الله، ما أحمقك، ما أدركت مشيختنا: زفر وأبا يوسف وأبا حنيفة ومن جالسنا، فأخذنا عنهم غير الفقه والاقتداء بمن [يقدمهم] (1) .
وقال جعفر الخواص: سمعت الجنيد بن محمد يقول: من كان سبيله [ومذهبه] (2) الكلام لا يفلح.
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعل الصواب (تقدمهم) بالتاء بدل الياء.
(2) كذا في الأصل، ولعل الصواب (منهجه) بدل مذهبه.(19/245)
ولو تقصينا ذم العلماء الكلام لطال، لكن ذكرنا الأئمة الأربعة، [فإن] أكثر أهل الإسلام- فيما علمنا- منتسبون إليهم، وراجعون إلى مذهبهم، وهذا حال الكلام عندهم، فكيف [يحتج] (1) به أو يرجع إليه؟ سيما وقد عارض الكتاب والسنة والإجماع، وإن من يترك هذه الأصول الثلاثة لأجل شيء من الكلام الذي هذا حاله [لعصي] (2) الرأي مسلوب التوفيق.
الثالث: أن نفرد كل وجه بجواب:
__________
(1) في الأصل (يجتمع) ولعل الصواب ما أثبت.
(2) في الأصل غير واضحة، ولعل الصواب ما أثبت.(19/246)
أما قولهم: إن الحروف إنما تكون [من مخارج] ، قلنا: من أين علمتم هذا؟ فإن قالوا: لأنها في حقنا كذلك، فكذلك في حق الله- تعالى- قياسا له علينا.
قلنا: هذا خطأ واضح، فإن الله- تعالى- لا يقاس على خلقه، ولا يشبه بهم، ولا تشبه صفته بصفاتهم، فمن فعل ذلك كان مشبها ضالا.
الثاني: أن هذا باطل، فإن الله تعالى [قال] : {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} (1) . وقال: {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} (3) .
__________
(1) سورة يس الآية 65
(2) سورة فصلت الآية 20
(3) سورة فصلت الآية 21(19/246)
وأخبر أن السماوات والأرض {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (1) .
وأخبر النبي-صلى الله عليه وسلم- «أن حجرا كان يسلم عليه (2) » ، «وأن الذراع المسمومة كلمته (3) » ، وأخبر أن «آخر الزمان يكلم الرجل علاقة سوطه (4) » ، وقال ابن مسعود «كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل (5) » .
__________
(1) سورة فصلت الآية 11
(2) الحديث صحيح. أخرجه مسلم بلفظ: '' إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن ''. ''صحيح مسلم (4 \ 1782) ''. أما تسبيح الحصى بين يديه: فقد أخرجه البيهقي في دلائل النبوة، والسيوطي في الخصائص (2 \ 74) ولم يصح لضعف محمد بن يونس الكديمي وهو متروك، بل اتهم بالوضع. انظر: ميزان الاعتدال (4 \ 74) ، والمجروحين (2 \ 312) .
(3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده بطريقين عن أبي هريرة وأنس بن مالك انظر: المسند (3 \ 218) ، (2 \ 451) . قال الشيخ الساعاتي في الفتح الرباني في تخريجه: لم أقف عليه لغير الإمام أحمد. انظر: الفتح الرباني (21 \ 124) . كما قال ابن كثير في تاريخه: تفرد به الإمام أحمد وإسناده حسن. انظر: البداية والنهاية (4 \ 233) . قلت: عجبا للشيخ الساعاتي، لم يشر كعادته أنه في الصحيحين، أو في أحدهما، أو في أحد السنن، والحديث متفق عليه. فقد رواه البخاري عن أبي هريرة، ومسلم عن أنس. وأخرجه أبو داود في سننه بعدة طرق، وكذلك الإمام الدارمي في مسنده. وعجبت- أيضا- أن صاحب المعجم المفهرس لألفاظ الحديث لم يذكر من خرجه سوى الإمام أحمد والدارمي. انظر: صحيح البخاري (3 \ 141) وصحيح مسلم (4 \ 1721) ، ومختصر سنن أبي داود (6 \ 307) والدارمي (1 \ 32) .
(4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة. وأخرجه الحاكم في المستدرك على شرط مسلم، ووافقه الذهبي في تلخيصه. انظر: المسند (2 \ 306) ، (3 \ 89) ، والمستدرك (4 \ 467) .
(5) أخرجه البخاري في صحيحه في باب علامات النبوة (4 \ 171) .(19/247)
ولا خلاف أن الله- تعالى- قادر على إنطاق الحجر الأصم بغير مخارج ولا أدوات.
الثالث: أن يلزمهم أن يقولوا في سائر صفات الله- تعالى- حدقة، والسمع لا يكون إلا من انخراق، فإن طردوا ذلك في الصفحات كلها حدقة، والسمع لا يكون إلا من انخراق، فإن طردوا ذلك في الصفات كلها صاروا مجسمين كافرين، وإن نفوا هذه الصفات صاروا معطلين، وإن أثبتوها من غير أدوات لزمهم إثبات هذه الصفة- أيضا-، وإلا فما الفرق؟! . [وأما] (1) التعاقب فإنما يلزم في حق من يتكلم بالمخارج والأدوات، وقد أبطلنا هذا.
وأما قولهم: إنها (2) متعددة، فإن أسماء الله متعددة، فإن لله- تعالى - تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة. قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (3) .
وهي قديمة: نص الشافعي - رحمة الله عليه- على أن أسماء الله- تعالى- غير مخلوقة.
وقال أحمد: من قال أسماء الله مخلوقة فهو كافر.
وصفات الله متعددة وهي قديمة، وكتب الله متعددة: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وهي غير مخلوقة.
فإن قالوا: هي مخلوقة؛ فقد قالوا بخلق القرآن. وقد [أجمعنا] (4) على أنه غير مخلوق.
__________
(1) في الأصل (وإنما) والصواب: ما أثبت، وهذا هو الرد على الوجه الثالث من الوجوه الأربعة.
(2) هو الوجه الثاني من الوجوه الأربعة.
(3) سورة الأعراف الآية 180
(4) في الأصل (جمعنا) بغير همزة. والصواب: ما أثبت. المراد: إجماع المسلمين.(19/248)
وإن قالوا: إن هذه أسماء لشيء واحد، وإنما هذه عبارة عن معبر واحد ولم ينزل منها شيء، ولا نزل الله على بشر من شيء، فهذا تكذيب لله ولرسوله، وخرق لإجماع المسلمين وموافقة لليهود الذين رد الله عليهم بقوله: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} (1) .
وإن قالوا: بل قد أنزلت وهي متحدة، لزم أن يكون كل واحد من هذه الكتب قد أنزلت على كل واحد من هؤلاء الأنبياء الأربعة، ويكون نبينا- عليه السلام- قد أنزلت التوراة والإنجيل والزبور [عليه] (2) ، وهذا قول من [لا حياء] (3) له، ثم هو دعوى مجردة تخالف إجماع الأمة.
وقولهم: إن كلام الله- تعالى- واحد، لا أول له ولا آخر (4) ، ولا بعض، فهو باطل بما ذكرنا هاهنا وفيما سبق. ثم إنهم قد سلموا أن موسى - عليه السلام- سمع كلام الله وكلمه ربه، فيؤدي إلى أن يكون موسى قد شارك الله تعالى في علمه، وعلم ما في نفسه. وهذا يرده قول الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} (5) .
وإن كان قد سمع البعض، فلقد سلموا التبعيض، وقد سلموا أن القرآن كلام، وأنه غير مخلوق، وأنه مسموع مقروء محفوظ، فيلزم من قولهم: أن من سمع آية فقد سمع كلام الله وحفظ القرآن، ومن حفظ شيئا منه فقد [علمه] (6) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 91
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في الأصل (الأحياء) والصواب: ما أثبت.
(4) في الأصل (الأول له والآخر) ، والصواب: ما أثبت.
(5) سورة الكهف الآية 109
(6) في الأصل بياض، ولعل الصواب ما ذكرناه.(19/249)
وينبغي أن لا يتعب [أحد] (1) في حفظ القرآن.
وهذه فضيحة لم يسبقوا إليها، وقد [أجمعوا] (2) على أن القرآن لم ينزل على النبي-صلى الله عليه وسلم- جملة واحدة، وإنما أنزل نجوما [في نحو] (3) ثلاث وعشرين سنة. وقد دل على ذلك قول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا} (4) {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (5) ، فهؤلاء إن وافقوا المسلمين في هذا فقد بطل قولهم.
وإن قالوا: أنزل جملة، خالفوا رب العالمين وخلقه أجمعين، ثم متى نزل عليه كله، في أول رسالته أم في آخرها أم في أي وقت؟ ثم إن هذا شيء لا يعلم بالعقل، وإنما يعلم بالنقل، فعمن أخذوه؟ ومن نقله لهم؟ وأين روي هذا ومن رواه؟ .
وإن قالوا: ما أنزل من القرآن شيء أصلا ولا يتصور نزوله، وكل ما جاء من الآيات والأخبار في هذا مجاز لا حقيقة له، وهذا الكتاب الذي أنزل على النبي-صلى الله عليه وسلم- ليس بقرآن، وإنما هو عبارة القرآن، وإنما سمي قرآنا مجازا.
قلنا: قد سبقت الدلالة على بطلان هذا بأدلة كثيرة قاطعة يقينية، فلا يلتفت إلى ما خالفها.
ثم نقول: حمل الكلام على المجاز تأويل، كل متأول محتاج إلى شيئين: -
__________
(1) في الأصل (أحدا) بالنصب، والصواب الرفع.
(2) في الأصل (جمعوا) بدون همز.
(3) في الأصل (نحو في) والصواب: ما أثبت.
(4) سورة الفرقان الآية 32
(5) سورة الفرقان الآية 33(19/250)
أحدهما: بيان احتمال اللفظ لما حمله عليه.
والثاني: بيان دليل يصرف إليه.
فيحتاج هاهنا إلى بيان وجود قرآن حقيقي سوى هذا الكتاب المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- وما نعلم لهم في هذا دليلا من كتاب ولا سنة ولا إجماع، ولا عرف المسلمون قرآنا سوى هذا، فإثبات قرآن لا دليل عليه ولا سبيل إليه، ثم لا بد في المجاز من سبب [تجوز] (1) تسمية المجاز باسم الحقيقة. إما اشتراكهما في المعنى المشهور في محل الحقيقة، وإما تجاورهما، وإما غير ذلك.
فإن قالوا: إنما سمي قرآنا لتضمنه للمعنى القديم، فالمعنى هو القرآن وعبارته تسمى باسمه.
قلنا: هذا لا يصح لوجوه:
أحدهما: المطالبة بدليل يدل على أن المعنى يسمى قرآنا بمفرده، فإنه لا يجوز التسمية إلا بنقل عن الشارع لكون التسمية شرعية لا تعلم إلا من جهته.
الثاني: أنه لو سمي قرآنا لتضمنه معناه، لسمي كل ما [تضمن] (2) ذلك المعنى قرآنا، فعلى هذا لو قرأه بالعجمية (3) أو عبر عنه لأي لسان كان قرآنا، ويجب أن يكون تفسير القرآن قرآنا لتضمنه المعنى.
الثالث: أن القرآن للنبي -صلى الله عليه وسلم- الذي عجز الخلق عن الإتيان بمثله، والإعجاز يتعلق باللفظ والنظم.
__________
(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب (يجوز) بالياء وتشديد الواو.
(2) في الأصل (تظمن) بالظاء المعجمة، والصواب بالضاد المعجمة.
(3) هكذا في الأصل بدون همز، ولو كتبت- (الأعجمية) لكان حسنا.(19/251)
الرابع: أنهم إن زعموا أن كلام الله شيء واحد لا [يتعدد] (1) ولا يتجزأ ولا يتبعض، والمعنى متعدد مختلف، فإن معنى كل كلمة غير معنى الأخرى، ومعنى كل جملة غير معنى الأخرى.
مثال ذلك في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي} (2) ، فإن معنى (أوحينا) الإلهام و (إلى) حرف معناه انتهاء الغاية، و (أم موسى) والدته، و (موسى) [نبي] (3) الله. وهذه [معان] (4) مختلفة.
وهذه الآية [تشتمل] (5) على ثلاثة: إخبار وشرط وأمرين ونهيين.
فمعنى الإخبار غير معنى الأمر والنهي، ومعنى كل خبر غير معنى [الآخر] (6) ، ومعنى كل أمر غير معنى الآخر. فإن (أرضعيه) غير معنى {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} (7) ومعنى {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} (8) غير معنى {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (9)
وإذا ثبت التغاير والتعدد فكيف جعلوه كلام الله- تعالى- مع ذلك؟ .
__________
(1) في الأصل (يتعد) .
(2) سورة القصص الآية 7
(3) في الأصل (النبي) .
(4) في الأصل (صعنان) .
(5) في الأصل (يشتمل) بالياء، والصواب ما أثبت.
(6) في الأصل (الأخرى) والصواب ما أثبت.
(7) سورة القصص الآية 7
(8) سورة القصص الآية 7
(9) سورة القصص الآية 7(19/252)
الخامس: أن معنى القرآن إن كان معنى التوراة والإنجيل، فالكل شيء واحد، والقرآن إذا هو التوراة والإنجيل، وتكون التوراة منزلة على(19/252)
محمد -صلى الله عليه وسلم- والقرآن على موسى، ومن قرأ القرآن فقد قرأ التوراة والإنجيل.
السادس: أن معنى القرآن إن كان على كلام الله تعالى بحيث لم [يبق] له كلام سواه، فهذا خلاف قوله: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (1) .
وأن من حفظ القرآن فقد علم كل كلام الله- تعالى- وشاركه في علمه وكلامه، وإن قال: إنه كلام الله، فقد ناقض قولهم.
السابع: أن كلام الله مسموع، متلو مكتوب، فقد سمع موسى كلام الله- تعالى- والمعنى يفهم ولا يسمع، وإنما يتعلق السماع باللفظ، فكما لا يوصف المعنى بالرؤية (2) ، كذلك لا يوصف بالسماع.
الثامن: [أن إضافة المعنى إلى كلام الله دون اللفظ إن كان بمعنى كلام الله- تعالى- علمه به] . فهذا يشتمل على معنى كل شيء، فإن الله- تعالى- بكل شيء عليم.
فعلى هذا: يكون الشعر. [والكلام] (3) قرآنا متناسقا (4) معناه معلوما
__________
(1) سورة الكهف الآية 109
(2) يعني: الرؤية البصرية لا العلمية.
(3) في الأصل (كلام) .
(4) أي يكون الشعر والكلام قرآنا، يتلى بالمعنى.(19/253)
لله- تعالى-، فإن كان ذلك [لعدم حضوره] (1) في الفكر وبحديث النفس به، فهذا ما لا يجوز إضافته إلى الله- تعالى-، ولا يوصف بغير ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله. ثم من أين علموا ذاك؟! .
التاسع: أن الله- تعالى- أخبر أنه {قُرْآنٌ مَجِيدٌ} (2) {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (3) و {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (4) {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} (5) ، ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن [السفر] (6) بالقرآن إلى أرض العدو، والمكتوب في المصاحف والألواح إنما هو اللفظ.
العاشر: أن القرآن كلام الله- تعالى- باتفاقنا (7) ، والكلام إنما هو اللفظ المشتمل على الحروف، بدليل قوله تعالى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} (8) {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} (9) وأراد اللفظ دون المعنى؛ لأن الوحي إليهم [تضمن] (10) المعنى، ولزم منه حضور المعنى في قلبه، وقد نفى كونه كلاما.
وكذلك قوله تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} (11) إلى قوله: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} (12) والحجة مثل الحجة من الآية الأولى.
وقال الله تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} (13) .
__________
(1) في الأصل (لا حضاره) والمعنى لعدم وروده في الذهن.
(2) سورة البروج الآية 21
(3) سورة البروج الآية 22
(4) سورة الواقعة الآية 77
(5) سورة الواقعة الآية 78
(6) في الأصل (الصافرة) . الحديث متفق عليه.
(7) أي باتفاق أهل العلم المعتبرين.
(8) سورة مريم الآية 10
(9) سورة مريم الآية 11
(10) في الأصل (تظمن) بالطاء المعجمة.
(11) سورة مريم الآية 26
(12) سورة مريم الآية 29
(13) سورة آل عمران الآية 46(19/254)
وقال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (1) [في اللفظ] ، والمعنى في القلب لا يحصل به تكلم.
وقال: {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} (2) .
وقال: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} (3) .
ومن السنة: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى وصاحب جريج وصبي آخر (4) » أراد اللفظ.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «بينما رجل يسوق بقرة [إذ ركبها] فقالت له: إني لم أخلق لهذا، وإنما خلقت للحرث، فقال الناس: سبحان الله، بقرة تتكلم؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: فإني آمنت بهذا أنا وأبو بكر وعمر (6) » وما هما في القوم، وقال: «وبينما راع يرعى غنما [إذ عدا] ذئب فأخذ شاة فخلصها منه الراعي، فالتفت إليه الذئب وقال: من لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري. فقال الناس: سبحان الله، ذئب يتكلم؟! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: فإني آمنت بهذا أنا وأبو بكر وعمر (8) » وما هما في القوم.
وقال: «إن الله عفا عن أمتي الخطأ والنسيان وما حدثت به نفسها
__________
(1) سورة النساء الآية 164
(2) سورة النبأ الآية 38
(3) سورة يس الآية 65
(4) متفق عليه. انظر: صحيح البخاري (4 \ 140) ، ومسلم (4 \ 1976) .
(5) صحيح البخاري المناقب (3663) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2388) ، سنن الترمذي المناقب (3695) ، مسند أحمد بن حنبل (2/246) .
(6) في الأصل (إذا ركبها) . (5)
(7) انظر الحديث في: صحيح البخاري (4 \ 149) ، عن أبي هريرة.
(8) في الأصل (إذ غدا) بالغين المعجمة. (7)(19/255)
ما لم تكلم به أو تعمل به (1) » فلم [يسم] (2) حديث النفس كلاما. وقال: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس (3) » ، «ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم-[رجلا] قائما في الشمس، فقال: ما شأن هذا؟ . قالوا: هذا أبو إسرائيل (6) » ، وقال: «كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا [أمرا] بمعروف أو نهيا عن منكر، وذكر الله- عز وجل- (8) » . وقال: «رحم
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة بلفظ: '' إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تتكلم به ''. البخاري (3 \ 119) ، ومسلم (1 \ 116) وأما اللفظ المذكور أعلاه فهو لابن ماجة. عن أبي هريرة انظر: سننه (1 \ 659) وجامع العلوم والحكم لابن رجب (ص 325) .
(2) في الأصل (يسمي) والصواب: حذف الياء للجزم.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه (1 \ 381) .
(4) أخرجه البخاري في صحيحه (7 \ 234) .
(5) في الأصل (رجل) بالرفع والصواب ما أثبت. (4)
(6) (5) نذر أن يقوم في الشمس ولا يجلس ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. قال: مروه فليتكلم وليجلس وليستظل وليتم صومه
(7) صحيح. أخرجه ابن ماجة في كتاب الفتن (20 \ 1315) تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، وأخرجه الترمذي في كتاب الزهد (4 \ 608) .
(8) في الأصل (أمر) بالرفع، والصواب النصب. (7)(19/256)
الله [من تكلم] فغنم أو سكت فسلم (2) » ، والأخبار الدالة على هذا أكثر من أن تحصى، وكذلك الصحابة، فمن ذلك: حديث أبي بكر حين "رأى امرأة من الحمس لا تتكلم، فسأل عنها، فقالوا: حجت مصمتة، فقال: إن هذا لا يحل، فتكلمت".
وقال عمر بن الخطاب: "من كثر كلامه كثر سقطه".
وقال رجل لسلمان: «أوصني. قال: لا تتكلم. قال: فكيف يصبر رجل على أن لا يتكلم؟ قال: فإن كنت لا تصبر عن الكلام فلا
__________
(1) أخرجه السيوطي في الجامع الصغير، والخطيب في الفقيه والمتفقه، والقضاعي في مسند الشهاب، والإمام أحمد في فضائل الصحابة، وفي كتابه (الزهد) ، ورواه وكيع بن الجراح في كتابيهما ''الزهد''. وجميع طرقه عند هؤلاء ضعيفة، وذكر الألباني أن الحديث عنده حسن ا. هـ. قلت: ولعل وقفه على ابن عباس أصح. انظر: فيض القدير (4 \ 14) ، ومسند الشهاب (1 \ 338) ، وفضائل الصحابة (2 \ 952) ، والزهد لأحمد (ص 188) ، والزهد لوكيع (2 \ 550) ، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (2 \ 535) ، والفقيه والمتفقه (2 \ 148) .
(2) في الأصل (أمن تكلم) والصواب ما أثبت. (1)(19/257)
تكلم إلا بخير أو اصمت (1) » .
ويروى عن سليمان بن داود - عليه السلام- أنه قال: إن كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب.
ونظمه بعضهم فقال:
إن كان من فضة كلامك يا ... نفسي فإن السكوت من ذهب
وقال مالك بن دينار: لو كلف الناس الصمت لأقلوا من الكلام.
وقال بعض الشعراء: (2) .
وحديثها السحر الحلال لو انه ... لم يجن قتل المسلم [المتحرز] (3)
إن طال لم [يملل] (4)
وإن هي أوجزت ... ود المحدث أنها لم توجز
وقال آخر:
__________
(1) لم أجده بهذا اللفظ، ومعناه يدل عليه جملة أحاديث صحيحة، كحديث مسلم عن أبي سعيد الخدري: '' من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ''. انظر: صحيح البخاري (3 \ 1353) .
(2) القائل هو الشاعر علي بن العباس. انظر: الأمالي لأبي علي القالي (1 \ 84) .
(3) في الأصل (المتحرزا) وهو خطأ.
(4) في الأصل (يملك) والصواب ما أثبت.(19/258)
من الخفرات البيض ود جليسها ... إذا ما قضت [أحدوتة (1) لو تعيدها]
وقال آخر:
وحدثني عن مجلس كنت زينه ... رسول أمين والوفود شهود
فقلت له ذكر الحديث الذي مضى ... وذكرك من بين الحديث أريد
وقال أهل العربية: الكلام من ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف معنى. وقال: الكلام ما أفاد المستمع.
قال الحريري:
حد الكلام ما أفاد السمع ... نحو سعى زيد وعمرو متبع
وقالوا: الكلام لا ينتظم إلا من [كلمتين] (2) ، اسم وفعل، أو اسم وحرف في النداء خاصة.
وأجمع الفقهاء على أن من حلف لا يتكلم، أنه يحنث بالنطق، ولا يحنث بحديث النفس.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل (اسمين) والصواب ما ذكرناه؛ لأن الفعل والحرف لا يسميان اسما.(19/259)
[فصل]
وإذا تقرر أن الكلام هو المشتمل على الحروف المنظومة، والكلمات المعلومة، بطل قول من ادعى أن القرآن اسم للمعنى، لاتفاقنا على أنه كلام الله تعالى.(19/259)
فإن قالوا: فقد قال الأخطل:.
إن الكلام [لفي] (1) الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الكلام دليلا
قلنا: سبحان الله، هذا من أعجب الأشياء وأظرفها، فإنهم تركوا قول الله تعالى، وقول رسوله-صلى الله عليه وسلم-، وقول أصحابه، وقول سائر الناس، وقول الشعراء، وقول أهل العربية [الذين] (2) ذكروا حقيقة الكلام وشرحوه، وبينوا حده [لكلمة] (3) نسبت إلى الأخطل النصراني الخبيث، لا تدري أصحيحة عنه أم متقولة.
وقد سمعت شيخنا أبا محمد بن الخشاب -رحمة الله عليه- وكان إمام أهل عصره في العربية، يقول: قد فتشت دواوين الأخطل العتيقة، فلم أجد هذا البيت فيها.
وقال أبو نصر السجزي: إنما قال الأخطل: إن البيان من الفؤاد، فحرفوه، وقالوا: إن الكلام، ثم لو صح ذلك فإنما سماه كلاما، مجازا.
__________
(1) في الأصل (من) والمحفوظ ما أثبت.
(2) في الأصل (الذي) .
(3) في الأصل (الكلمة) بالتعريف ولا معنى لها إلا بالتنكير.(19/260)
يعني: أن عقلاء الناس لا يتكلمون إلا بعد روية وفكر واستحضار معنى الكلام في القلب كما [قيل] (1) : لسان الحكيم من وراء قلبه، فإذا أراد أن يتكلم نظر، فإن كان له قال، وإلا سكت، والأحمق إنما كلامه على طرف لسانه.
ويتعين حمل قوله على المجاز [لثبوت] (2) حقيقة الكلام في النطق بما قد ذكرنا يقينا ولأن حقيقة الشيء ما يتبادر إلى الأفهام من إطلاق اللفظ به، وهو ما قلنا، ولأن تأويل كلمة الأخطل [بحملها] (3) على مجازها [أولى] (4) من تأويل قول الله، وقول رسوله، وقول سائر الخلق.
ثم إن قدرنا أن كلام الأخطل لا يحتمل التأويل؛ فنسبة الخطأ إليه أولى من نسبته إلى أهل العربية الذين ذكروا حقيقة الكلام، وقولهم لا يحتمل التأويل أيضا.
ثم لو قدرنا خلو كلام الأخطل عن [معارض] (5) ، لم يجز أن يبنى مثل هذا الأصل العظيم وتأسيس مذهب برأسه على كلمة شاذة نادرة لا يعتقدها دليلا مع إمكان خطأ قائلها، فإنه ليس بمعصوم عن الخطأ، ولا هو من أهل الدين والتقى: نصراني يقذف المحصنات، ويهجو الأنصار، ويعيب الإسلام، فلو لم يكن في مذهبهم من العيب، إلا أن أساسه كلمة من قول الأخطل، لكان من أشد العيب، فكيف وقد خالفوا ربهم- تعالى-، ونبيهم-صلى الله عليه وسلم-، وسائر أهل اللسان- من المسلمين وغيرهم.
__________
(1) في الأصل (قال) والصواب ما أثبت.
(2) في الأصل (الثبوت) والصواب ما أثبت.
(3) في الأصل (مجملها) ولعل الصواب ما أثبت.
(4) في الأصل (أولا) غير واضحة، ولعل الصواب ما أثبت.
(5) الكلمة في الأصل غير واضحة ولعل الصواب ما أثبت.(19/261)
فما مثلهم إلا كمثل من بنى قصرا شامخا وجعل أساسه أعواد القنب (1) في مجرى السيول.
ولقد حدثني أبو المعالي أسعد بن منجا قال: كنت يوما قاعدا عند الشيخ أبي البيان -رحمه الله- فجاءه ابن تميم الذي كان يدعى: الشيخ الأمين، فقال له الشيخ بعد كلام جرى بينهما: ويحك ما أنجسكم!! فإن الحنابلة [إذا] (2) قيل لهم: ما الدليل على أن القرآن بحرف وصوت؟ قالوا: قال الله- تعالى-، وقال رسوله - وذكر الشيخ الآيات والأخبار- وأنتم إذا قيل لكم: ما الدليل على أن القرآن معنى في النفس؟
__________
(1) يراد به الزرع والكرم. انظر لسان العرب (1 \ 690) .
(2) في الأصل (إذ) ولعل الصواب ما أثبت.(19/262)
قلتم: قال الأخطل: إن الكلام من الفؤاد أيش هذا النصراني، خبيث بنيتم مذهبكم على بيت شعر من قوله، وتركتم الكتاب والسنة.
فهذا ببديهة العقل يعرف فساده وإذا تأمله متأمل علم أنه لا شيء.
الحادي عشر: أن هذا الكتاب العربي إذا لم يكن كلام الله فكلام من هو؟! .(19/263)
[فصل]
فإن قالوا: هذا كلام جبريل.
قلنا: هذا فاسد لوجوه:
أحدها: أن المسلمين أجمعين إذا تلوا آية قالوا: قال الله تعالى، فإن [كان] (1) هذا قول جبريل، فليقولوا: قال جبريل. وليفصح بذلك هذا القائل ولا ينافق فيعتقد أنه من جبريل، ويظهر موافقة المسلمين في أنه قول رب العالمين.
الثاني: أن هذا بالإجماع كتاب الله. وعلى قوله: هذا كتاب جبريل.
الثالث: أن الحجة عند العلماء إنما هي قول الله- تعالى- وقول رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- وإجماع أمته. وهذا عند هؤلاء ما هو وارد منها فلم يحتج به. وأين تكون الحجة الثالثة؟! .
__________
(1) ساقطة من الأصل.(19/263)
الرابع: أن الله تعالى قال: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَق} (1) .
وعلى قولهم: ما نزله من ربك، إنما نزله من كلام نفسه وقوله.
الخامس: أنه قد روي عن النبي-صلى الله عليه وسلم- «أن [الله] قرأ طه ويس قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام (3) » .
فعلى هذا يكون الله قرأ كلام جبريل.
السادس: إن كان هذا كلام جبريل وهو مخلوق، فلم تجب الكفارة على من حلف به وحنث؟ والكفارة لا تجب بالحلف بالمخلوق. ولم يمتنع المحدث من مسه، والجنب من قراءته، والمسافر به إلى أرض العدو، ولم جاز للمصلي تلاوته، واشترطت قراءته فيها وفي الخطبة.
السابع: أن الله تعالى قال: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (4) ، وقال: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ} (5) .
__________
(1) سورة النحل الآية 102
(2) رواه ابن خزيمة عن أبي هريرة في كتاب التوحيد (ص 166) ، والدارمي في سننه (2 \ 456) ، وفي سنده إبراهيم بن مهاجر بن مسمار، ضعفه يحيى بن معين وقال عنه: ''إنه منكر الحديث''. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال ابن حاتم: منكر الحديث جدا. قلت: متن الحديث موضوع. انظر: الضعفاء للعقيلي (1 \ 66) ، والضعفاء والمتروكين للدارقطني (ص 107) ، والمجروحين (1 \ 108) . وفي سنده عند الدارمي عمر بن حفص بن ذكوان متروك الحديث. انظر: ميزان الاعتدال (3 \ 189) .
(3) سقطت من الأصل. (2)
(4) سورة التوبة الآية 6
(5) سورة البقرة الآية 75(19/264)
فعلى قول هؤلاء ما هذا صحيحا (1) ، وما يستمع به السامع إلا كلام جبريل، وما عندهم لله- تعالى-[كلام] (2) يسمع.
وقال تعالى: {يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} (3) ، وقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا} (4) ، وما عند هؤلاء قرآن يقرأ ولا يسمع.
الثامن: أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: «إن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي (5) » ، وقال أبو بكر: "ما هذا كلامي، ولا كلام صاحبي، ولكنه كلام الله تعالى" (6) . وكان عكرمة يقبل المصحف، ويقول: كلام ربي.
وعلى قول هؤلاء: هذا كلام جبريل.
__________
(1) بالنصب خبر (ما) الحجازية: مثل قوله تعالى: '' ما هذا بشرا ''.
(2) في الأصل (كلاما) والصواب الرفع.
(3) سورة الأحقاف الآية 29
(4) سورة الأعراف الآية 204
(5) أخرجه الدارمي في سننه (2 \ 440) ، والإمام أحمد في مسنده (2 \ 222- 229) ، والترمذي في جامعه (5 \ 184) ، وأبو داود؛ مختصر السنن (7 \ 127) كلهم رواه عن جابر بن عبد الله.
(6) ذكره ابن حجر في الفتح 13 \ 454.(19/265)
[فصل]
فإن قالوا: هذا قول محمد-صلى الله عليه وسلم- فهذا باطل لهذه الوجوه كلها (1) .
ومن وجه آخر: وهو أنهم وافقوا الوليد بن المغيرة هو: الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم. زعيم من زعماء قريش، وطاغية من طغاتهم، ومات على الشرك، وهو زعيم بني مخزوم، ووالد خالد بن الوليد -رضي الله عنه-. انظر: الكامل لابن الأثير (2 \ 52) . في قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} (2) ولهم من الجزاء ما وعد به الوليد بقوله تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} (3) فهم رفقته في سقر، كما وافقوه في [زعمه] (4) إن هذا إلا قول البشر.
ويرد عليهم من الجواب ما أجاب الله- تعالى- به المشركين بقوله سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُون} (5) {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} (6) ، وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} (7) ، وسائر الآيات الدالة على الرد على قائل هذه المقالة، وتصير مناظرتهم مع رب العالمين، وخصمهم أحكم الحاكمين وأصدق
__________
(1) يعني الوجوه الثمانية التي يرد بها على الزعم أن القرآن من كلام جبريل.
(2) سورة المدثر الآية 25
(3) سورة المدثر الآية 26
(4) ساقطة من الأصل.
(5) سورة الطور الآية 33
(6) سورة الطور الآية 34
(7) سورة البقرة الآية 23(19/266)
الصادقين، وقدوتهم ومشايخهم رءوس المشركين الذين قالوا [فيما قال الله عنهم] : {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} (1) {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (2) .
فنحن نكتفي برد الله تعالى عليهم وما نحتاج إلى شيء سواه، ففي الله- تعالى- كفاية.
ومتى رضوا لأنفسهم بهذا المقام، انقطع معهم الكلام، وزال الحجاج والخصام.
الثاني: أن الله- تعالى- أنزل على عبده الكتاب، وشهد الله وملائكته بإنزاله: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (3) .
وعلى قول هؤلاء: ما أنزل الله على بشر من شيء، وردوا شهادة الله وملائكته وكذبوا قوله، تعالى الله عما يقول [الظالمون] (4) علوا كبيرا.
وإن قالوا: هذا قولنا [رد] (5) عليهم كما ذكرنا، ويزيد أنهم كذبوا الله تعالى في قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (6) وعلى قولهم: قد أتوا بمثله. وقال الله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} (7) .
__________
(1) سورة الفرقان الآية 4
(2) سورة الفرقان الآية 5
(3) سورة الأنعام الآية 114
(4) بالأصل (الضالون) بالصاد المعجمة، والصواب ما أثبت.
(5) في الأصل (ورد) والصواب حذف الواو ليستقيم المعنى.
(6) سورة الإسراء الآية 88
(7) سورة الطور الآية 34(19/267)
وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (1) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (2) فأخبر الله أنهم لن يفعلوا، وهؤلاء يقولون: قد فعلنا، وهذا قولنا وكلامنا.
ولعمري ما جسر الكفار- مع فصاحتهم وقدرتهم على أنواع الكلام الفصيح من الشعر والنثر والنظم والخطب البليغة والرسائل الحسنة- على دعوى هذا بعد أن عرض عليهم وتحدوا به، فأقروا بالعجز عنه.
فكيف ادعى هؤلاء مع لكنتهم (3) وعيهم أن هذا الكلام القديم قولهم وتصنيفهم؟! .
الثالث: أن هذا إن كان حقا فيجب أن يفصحوا به ويظهروه لسلاطين المسلمين وعامتهم، ويعلنوه في محافل المسلمين وجماعتهم، ويقولوا على منابر المسلمين: هذا تصنيفنا وكلامنا وتأليفنا وقولنا، ولا يسلكون سبيل الزنادقة الذين أسروا الكفر واعتقدوه، وأظهروا الإسلام ووافقوا المسلمين فيه.
وهؤلاء قد سلكوا مسلكهم، واتبعوا طريقتهم: يعظمون القرآن في الظاهر بين المسلمين ويحترمونه، ويقومون للمصحف ويقبلونه ويرفعونه على رءوسهم، ويقولون: هذا قول الله تعالى، وكلامه القديم وكتابه الحكيم، ثم يعتقدون أنه قولهم وعبارتهم، وأنه كلام للمخلوقين: ما لله في الأرض كلام، ولا هذا بقرآن، ولا في المصاحف إلا الورق والمداد،
__________
(1) سورة البقرة الآية 23
(2) سورة البقرة الآية 24
(3) في الأصل (لكنهم) بدون تاء، والصواب ما أثبت، والمعنى كيف يدعون هذا مع عجمتهم.(19/268)
ولا يشتمل إلا على العفص، والزاج (1) ، فعل الزنادقة والطرقية المارقية.
فإن كان قولهم حقا، وجب إظهاره، وتبيينه للخلق ليصير إليه، ويعلموا أنه كما فعل النبي-صلى الله عليه وسلم- في إظهار الإسلام وبيان شريعته وتعريفها لمن آمن [به] (2) وصدقه، ولم يكتم ذلك عن أمته.
فهلا اقتدوا بالنبي-صلى الله عليه وسلم- ولم يقتدوا بالزنادقة والمنافقين الذين أظهروا الإسلام وموافقة أهله، وأسروا الكفر والزندقة.
فإن كان قولهم حقا فقد كتموه [وداهنوا] (3) أهل الباطل وأظهروه، وإن كان باطلا فقد أسروا الباطل واعتقدوه، فما خلوا من الباطل في الحالين، والحمد لله على العافية من بلائهم، والسلامة من دائهم.
الرابع: إن كان قولهم فكيف يحتجون به في مناظراتهم ومحاوراتهم، فإن كلام الإنسان ليس بحجة له بغير خلاف.
الخامس: أنهم نسبوا قصائد الشعر إلى قائلها، ولم (4) يدعوا أنها قولهم، ولو ادعوا ذلك لكذبهم الناس أجمعون، ولو أن [إنسانا] (5) سرق بيتا من الشعر ادعاه لنفسه، سمي سارقا وعيب بذلك، فكيف من يدعي أنه قال القرآن العظيم الذي اعترف بالعجز عن مثله الخلق كلهم أجمعون.
__________
(1) الزاج: نوع من الأدوية وهو من أخلاط الحبر، فارسي معرب. لسان العرب (2 \ 293) .
(2) في الأصل (بها) بدل (به) وما أثبتناه لعله أوضح.
(3) في الأصل (وواهنوا) من الوهن، ولا معنى له هنا، والصواب ما أثبت.
(4) في الأصل (ولهم) والصواب ما أثبت.
(5) في الأصل (إنسان) بالرفع، والصواب النصب.(19/269)
[فصل]
فإن قيل: فما الدلالة على الصوت في كلام الله تعالى؟ ، قلنا: الكتاب والسنة والإجماع.
فأما الكتاب: فقول الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (1) ، وقال: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} (2) ، وقال: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} (3) ، والتكلم هو ما يسمعه المكلم ويصل إلى سمعه، ولا يكون إلا بصوت. وكذلك قوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} (4) والنداء لا يكون إلا [بصوت] (5) ، وفي القرآن من هذا كثير.
وأما السنة: فقول النبي-صلى الله عليه وسلم-: «إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء (6) » ، وروي ذلك موقوفا على عبد الله بن مسعود. فروى عبد الله بن أحمد في كتاب الرد على الجهمية (7) أنه قال: قلت:
__________
(1) سورة النساء الآية 164
(2) سورة الأعراف الآية 143
(3) سورة البقرة الآية 253
(4) سورة مريم الآية 52
(5) في الأصل (صوت) بالرفع والصواب ما ذكرناه.
(6) لم أطلع عليه بهذا اللفظ: غير أن معناه جاء في حديث أبي هريرة عند البخاري بلفظ: '' إذا أراد الله أمرا في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله ''. انظر: صحيح البخاري (5 \ 221) ، وانظر: كتاب التوحيد لابن خزيمة (ص 154) .
(7) هذا الكتاب لم يطبع بعد، وهو غير كتاب أبيه (الرد على الجهمية) فإنه مطبوع ومتداول.(19/270)
يا أبت، إن الجهمية يزعمون أن الله لا يتكلم بصوت، فقال: كذبوا، إنما يدورون على التعطيل. ثم قال: حدثني عبد الرحمن بن [محمد المحارب] عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: "إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء" (1) .
__________
(1) سبق تخريجه قريبا، فليراجع.(19/271)
قال أبو نصر [السجزي] (1) : وأما في رواية الإمام بقوله.
وفي حديث عبد الله بن أنيس أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: «يحشر الله تعالى الخلائق يوم القيامة في صعيد واحد، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمع من قرب: أنا الملك أنا الديان (2) » .
وفى رواية: فيناديهم بصوت رفيع غير [فظيع] (3) . ذكره أبو حذيفة إسحاق بن بشر في كتابه.
وروى أنس [أن] (4) النبي-صلى الله عليه وسلم- «ذكر أهل الجنة إذا رأوا ربهم-
__________
(1) في الأصل أبو نصر الحري، والصواب ما أثبت.
(2) متفق عليه، وعند مسلم بلفظ: ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك أنا الديان. انظر: البخاري (8 \ 194) ، ومسلم (4 \ 2148) .
(3) في الأصل (فضيع) بالصاد المعجمة، والصواب ما ذكرناه. والحديث صحيح.
(4) ساقطة من الأصل.(19/272)
تبارك وتعالى- فيناديهم بلذاذة صوته (1) » .
وأما الإجماع: فإننا أجمعنا على أن موسى سمع كلام الله- تعالى- منه بغير واسطة، والصوت هو ما سمع.
وروي عن الصحابة-رضي الله عنهم أجمعين- إضافة الصوت إلى الله بغير نكير من أحد منهم:
فقال ابن مسعود: "إذا تكلم الله بالوحي يسمع صوته أهل السماء" (2) ، وفي الخبر: «أن الله تعالى لما كلم موسى - عليه السلام- ليلة رأى النار فهالته وفزع منها، فناداه ربه: "يا موسى، فأجاب سريعا استئناسا بالصوت: لبيك، لبيك أسمع صوتك ولا أرى مكانك فأين أنت؟ قال: يا موسى أنا فوقك وعن يمينك وعن شمالك وأمامك ومن ورائك» فعلم أن هذه الصفة لا تكون إلا لله تعالى، قال: فكذلك أنت يا إلهي، كلامك أسمع أم كلام رسولك؟ قال: بل كلامي اسمع يا موسى.
[وجاء] (3) في خبر أن بني إسرائيل قالوا: يا موسى بم شبهت صوت ربك؟ قال: إنه لا شبه له.
وروي أن موسى لما كلم ربه ثم سمع كلام الآدميين مقتهم، لما وقر في مسامعه من كلام الله تعالى.
__________
(1) متفق عليه. وقد أورد ابن قيم الجوزية الأحاديث الواردة بأسانيدها. انظر: صحيح البخاري (8 \ 200) ، ومسلم (4 \ 1176) ، وحادي الأرواح (ص 179- 201) .
(2) سبق تخريجه في (ص 76) ، وأخرجه البخاري تعليقا انظر الفتح (13 \ 452) .
(3) في الأصل (جاءت) والصواب ما ذكر.(19/273)
وهذه الأخبار لم تزل متداولة بين [عدد من] (1) الصحابة والتابعين، يرويها [بعضهم] (2) لم ينكرها منكر فيكون [إجماعا] (3) .
فإن قيل: فالصوت لا يكون إلا من حرفين، ولا يوصف الله تعالى بذلك.
قلنا: الجواب عن هذا ما أجبنا به عن [اعتراضهم] (4) على الحروف فيما تقدم.
ثم نقول: الصوت ما سمع أو تأتى سماعه، وهذا هو الحد الصحيح، على أن معتمدنا في صفات الله- تعالى- ما صح به النقل عن الله- تعالى-، وعن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، ونصف الله- تعالى- بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله -صلى الله عليه وسلم- ولا نتعدى، ونتبع سنة رسولنا -عليه السلام- وسنة الخلفاء الراشدين ممتثلين لقوله- عليه السلام-: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (5) » .
وقال عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون - وروى معناه عن عمر
__________
(1) في الأصل (بين أهل من) ولم يظهر لنا بها المعنى، ولعل ما ذكر يتضح به المقام.
(2) في الأصل (بعظهم) بالظاء المعجمة، والصواب ما ذكر.
(3) في الأصل (إجمالها) وما ذكرناه يستقيم به السياق.
(4) في الأصل (اعتراظهم) بالظاء المعجمة، والصواب ما ذكر.
(5) صحيح، أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4 \ 126-127) ، وأبو داود مختصر السنن (7 \ 11) ، والترمذي (5 \ 44) ، وابن ماجة (1 \ 120) .(19/274)
بن عبد العزيز - فقال: قف حيث وقف القوم فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا (1) ، وهم على كشفها كانوا أقوى، و [بالفضل] (2) لو كان فيها أحرى (3) ، فلئن قلتم: حدث بعدهم حدث فما [أحدثه] (4) إلا من رغب عن سنتهم وخالف طريقتهم، ولقد وصفوا منه ما يكفي، وتكلموا منه بما يشفي، فما دونهم مقصر، ولا فوقهم مجسر، لقد قصر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم، ثبتنا الله وإياكم على صراطه المستقيم.
__________
(1) في الأصل (وببصرنا فتكوا) ، وهو خطأ، والصواب ما ذكر.
(2) في الأصل بالفظل، بالطاء المعجمة، والصواب ما ذكر.
(3) انظر لمعة الاعتقاد (ص 9) طبعة الحلبي.
(4) في الأصل (أحد به) والصواب ما ذكرت.(19/275)
فصل
وقد وضح الحق- إن شاء الله- بما ذكرناه من جهة التفصيل، ونذكر في هذا الفصل أمورا تدل على أن الصواب فيما قلنا من جهة الإجمال:
فمنها: أن الحق في اتباع السنة، والضلال في اتباع البدعة، بدليل الآثار والإجماع.(19/275)
فأما الآثار: فقول النبي-صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (1) » ، وما أشبه هذا من الآثار.
وأما الإجماع:
فإننا أجمعنا على أن السنة محمودة، والبدعة مذمومة، وكل واحدة من الطائفتين تدعي أنها هي السنية والأخرى هي المبتدعة، والسنة هي طريق الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته ومن تبعهم.
والبدعة: ما أحدث في الدين بعدهم بدليل قوله: «وإياكم ومحدثات الأمور (2) » إلى آخر الخبر، وقوله- عليه السلام-: «شر الأمور محدثاتها (3) » ، وطريقتنا منقولة عن النبي-صلى الله عليه وسلم- وصحابته (4) ومن تبعهم، وقولهم لم ينقل عن النبي-صلى الله عليه وسلم-، ولا عن صحابته، ولا عن أحد من التابعين.
وقيل: أول من قال به (5) ابن كلاب فهو محدث في
__________
(1) سبق تخريجه، وهو حديث صحيح.
(2) سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(3) أخرجه البخاري في صحيحه. انظر: (8 \ 139) .
(4) في الأصل (وصاحبته) والصواب ما أثبت.
(5) سقطت من الأصل.(19/276)
الدين، فثبت أنه بدعة، وأنه من شر الأمور، وأن قولنا هو السنة، فيكون صوابا ممدوحا.
الثاني: أن دليل قولنا وأساسه الكتاب والسنة والإجماع.
ودليل قولهم: بيت الأخطل، وشيء من علم الكلام المذموم، فيكون كل قول بمنزلة دليله.
الثالث: أن قولنا ظاهر بين المسلمين، وقولهم: يسرونه ويكتمونه من عامة المسلمين وسلاطينهم.
وبيان ذلك: أننا نعتقد أن هذا القرآن هو القرآن الذي هو كلام الله منزل غير مخلوق، وأنه سور وآيات وحروف وكلمات، وأنه قرآن كريم في كتاب مكنون، وأنه قرآن مجيد في لوح محفوظ، وأنه حيث تلي وقرئ وسمع وحفظ، فهو كلام الله- تعالى- القديم.
ونحن نظهر ذلك ونناظر عليه، وندعو الناس إليه، وتعلمه منا السلاطين والعامة والناس كلهم، إلا من شاء الله تعالى، وهم يقولون: ليس هذا قرآنا، وإنما هو عبارة القرآن وحكايته، وهو مخلوق، فمنهم من يقول: إنه من قول جبريل وتصنيفه. ومنهم من يقول: قول محمد -صلى الله عليه وسلم-.
ومنهم من يقول: هو قول كل من قرأ، وما هو قرآن ولا كلام الله، وما في المصاحف إلا الحبر والورق والعفص (1) والزاج.
وحقيقة مذهبهم: أن ما لله في الأرض قرآن، ولا في السماء إله، ولا أن [محمدا] (2) رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بل انقطعت رسالته بموته، وهم لا
__________
(1) سبق بيانها.
(2) في الأصل (محمد) بالرفع والصواب النصب.(19/277)
يظهرون هذا إلا لبعض الناس، فلو كان قولهم حقا لأظهروه بين المسلمين، ولما احتاجوا إلى ستره.
الرابع: أن أقوالنا متفقة متسقة، وأقوالهم متناقضة مختلفة.
فهم يقولون: أشهد أن محمدا (1) رسول، ولا يعتقدونه رسولا.
ويقولون: إن القرآن مسموع مقروء متلو مكتوب محفوظ، وهم لا يعتقدون أن المسموع قرآن، ولا المقروء (2) ولا المكتوب، ولا يعظمون المصاحف، ويقولون: لا يجوز للمحدث مسها ولا حملها، ومن حلف بها وحنث فعليه الكفارة، وحكامهم يبعثون من عليه اليمين إلى المصحف ليحلف، وهم لا يعتقدون فيه قرآنا ولا شيئا محترما.
ويقولون: موسى سمع كلام الله من الله بغير واسطة، ثم يقولون: كلام معنى في نفسه، ليس بصوت ولا يظهر للحس.
ويردون على المعتزلة قولهم: القرآن مخلوق، ثم يقولون كقولهم: إنه مخلوق.
ويقولون: الله حي موجود يرى في القيامة، ولكن ما هو في سماء ولا أرض، ولا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا يعقل وجوده على هذه الصفة.
الخامس: أن قولنا يستند إلى أئمة الإسلام والسادة الأعلام، المتفق على إمامتهم وعدالتهم، وفضائلهم مشهورة، وأقوالهم مأثورة.
وقول خصومنا يستند إلى قول رجل (3) من أهل الكلام: لا يعرف
__________
(1) في الأصل (محمد) بالرفع والصواب النصب.
(2) في الأصل (ولا المقري) والصواب ما ذكرناه.
(3) هو ابن الكلاب، وقد سبقت ترجمته.(19/278)
[شيئا] (1) من علم الإسلام، ولا يعلم القرآن ولا الحديث، ولا الفقه ولا العربية والحساب، ولا شيئا من العلوم سوى علم الكلام المذموم.
وأئمة الإسلام أحق بالإصابة ممن خالفهم.
السادس: أن أهل مقالتنا مخصوصون بالدين، وولاية الله تعالى، فلا يوجد من له كرامة مشهورة وولاية مأثورة إلا منهم، وهم أصحاب الزهد والعبادات والولاية والكرامات، وقد زوى الله عنهم الدنيا وأبرهم بالدين.
وخصومنا أصحاب الجاه والمناصب، وأصحاب المدارس والرباطات والوقوف (2) ، والأموال والأولاد، قد آثرهم الله بالدنيا وحرمهم الدين، فهم أبدا على أبواب السلاطين، ونوابهم في طلب الدنيا غارقون (3) ، وعلى جمعها حريصون.
ففي حال الفريقين ما يدل ذوي البصائر على أن قولنا هو الحق، فإن الله تعالى وصف أهل الحق في كل الأمم بالضعف وقلة المال، ووصف أهل الباطل بالاستكبار وكثرة الأموال والأولاد، فقال في حق قوم نوح: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} (4) ، وفي قصة ثمود: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} (5) .
__________
(1) في الأصل (شيء) بالرفع، والصواب النصب.
(2) هكذا بياض في الأصل.
(3) في الأصل (غارقين- حريصين) والأولى الرفع كما ذكرناه.
(4) سورة هود الآية 27
(5) سورة الأعراف الآية 75(19/279)
وفي قصة شعيب: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا} (1) ، وفي قوم نبينا -صلى الله عليه وسلم- {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (2) الآية.
وقال قيصر - ملك الروم - لما جاءه كتاب النبي-صلى الله عليه وسلم- يدعوه إلى الإسلام، سأل: هل يتبعه ضعفاء الناس أو أقوياؤهم؟ فقيل له: بل ضعفاؤهم. فقال: هم أتباع الرسل في كل عصر وزمان، فاستدل بذلك على أنه رسول، مع كونه ملكا كافرا.
السابع: أن النبي-صلى الله عليه وسلم- وصف الدين أنه يعود في آخر الزمان غريبا بقوله: «بدأ الدين غريبا وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء (3) » .
وأهل مقالتنا في هذا الزمان غرباء مستضعفون في أكثر الأمصار، يضامون ويضطهدون ويخوفون، فهم كأصحاب النبي-صلى الله عليه وسلم- في بداية الإسلام في الضعف وغلبة أعدائهم لهم. فصح- بما ذكرنا من الوجوه- أنهم أهل الحق، وأنهم أتباع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-[وسالكو] (4) الصراط المستقيم، وأنهم الغرباء الذين قال النبي-صلى الله عليه وسلم- فيهم: «فطوبى للغرباء (5) » .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 88
(2) سورة الكهف الآية 28
(3) رواه مسلم في صحيحه. انظر: (1 \ 130) .
(4) في الأصل (وسلكوا) ولعل ما ذكرناه صحيح، لاتساقه مع الصفات المذكورة.
(5) سبق تخريجه قريبا.(19/280)
فاعتبروا يا إخواني- رحمكم الله- بما أعطاكم الله- تعالى- من كرامته، وخصكم به من اتباع دينه وسنته، تمسكوا بالسنة كما أمركم نبيكم بقوله-صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ (1) » يعني الأضراس.
يريد: استمسكوا بها تمسكا قويا بحيث لا [تلتفتوا] (2) إلى غيرها، ولا يفوتكم شيء منها، ولا تنفلت منكم، واجتنبوا ما نهاكم عنه من المحدثات، واشكروا الله تعالى على نعمته عليكم، فقد آتاكم ما لم يؤت [أحدا] من العالمين الذين حرموا السنة وابتلوا بالبدعة والفتنة.
واعلموا أن ما فاتكم من الدنيا ومتاعها في جانب ما أعطيتموه يسير حقير، كما قال الله تعالى: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} (3) .
واعلموا أن الدنيا من أولها إلى آخرها وكل ما فيها في جنب ما يؤتاه أدنى أهل الجنة منزلة - أقل من قطرة بالنسبة إلى البحر، فكيف بما يؤتاه أهل الدرجات العلا، مما لم تره العيون، ولم تسمعه الآذان، ولم يخطر على قلب بشر.
جعلنا الله وإياكم من أهلها، وثبتنا وإياكم على الإسلام والسنة في قوله [واعتقادها] (4) وفعلها.
والحمد لله، وصلى الله على محمد النبي الأمي، وآله وصحبه وسلم
__________
(1) سبق تخريجه في (ص 80) .
(2) في الأصل (يلتفتوا) بالياء ولعل ما أثبت أظهر.
(3) سورة الرعد الآية 26
(4) في الأصل (وعقدها) .(19/281)
تسليما كثيرا.
قد فرغ من النسخة الأولى المنسوخ منها يوم الخميس سادس جمادى الآخرة سنة 1229هـ.
وقد فرغ من هذا يوم السبت رابع عشر عاشوراء سنة 1256هـ على يد أفقر عباد الله تعالى إليه: عبد العزيز بن سليمان بن عبد الوهاب.
تجاوز الله تعالى عنهم، ورحمهم وجميع المسلمين.
وكان في الأم ما صورته:
فرغ منه يوم الأحد في الغر الأول من ذي الحجة سنة ستة عشر وستمائة.
والله أعلم.
وإلى هنا نصل إلى نهاية المطاف في تحقيق رسالة "البرهان في بيان القرآن ".
فإن كان ثمة توفيق فبفضل الله، أو خطأ فمن طبع الإنسان، وجل من لا عيب فيه.
وإن تجد عيبا فسد الخللا ... فجل من لا فيه عيب وخلا
ورحم الله القائل:
كم من كتاب تصفحته ... وقلت في نفسي أصلحته
حتى إذا طالعته ثانيا ... وجدت تصحيفا فأصلحته
وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
سعود بن عبد الله الفنيسان(19/282)
الموضوعات
محتويات البحث
-المقدمة
- الموفق ابن قدامة
-مولده ونشأته
-شيوخه
-تلاميذه
-آثاره العلمية
-التعريف بالكتاب المحقق
-وصف النسخة الخطية
-موضوع الكتاب المحقق
-منهج التحقيق
-القرآن كلام الله
-الوجه الثاني
-الوجه الثالث والرابع
-الوجه الخامس والسادس
-الوجه السابع والثامن والتاسع
-الوجه العاشر
-الأحاديث القولية على بطلان
-قول أهل التفسير
-من كفر بحرف من القرآن كفر به كله
-أقوال بعض السلف في حروف القرآن
-الإجماع أن القرآن يقرأ ويجمع ويكتب ويحفظ(19/283)
-أحرف القرآن قديمة أم حادثة؟
-فإن قال القائل: لا يصح قولكم إن القرآن حروف
-أقوال السلف في ذم الكلام
-الأدلة من القرآن بإبطال القول أن الحروف لا تكون إلا من مخارج
-فضيحة الأشاعرة بزعمهم أن القرآن معنى في النفس
-الرد عليهم من عشرة أوجه
-إسناد الكلام إلى البشر حقيقة
-أهل السنة يستدلون بالنصوص والمبتدعة بالشعر المنحول
-القرآن كلام الله وحده
-لوازم قول أهل الضلال في القرآن
-المبتدعة في القرآن جبناء
-أدلة القرآن والسنة على إثبات الصوت لله
-دلالة القرآن على معنى السنة والبدعة
-اتفاق أهل السنة وتناقض خصومهم
-أعداء القرآن يلازمون أبواب السلاطين طلبا للثراء
-أهل القرآن في كل زمان هم قلة(19/284)
نفقة المرأة الواجبة على نفسها
في الفقه الإسلامي
الدكتور: عبد الله بن عبد المحسن بن منصور الطريقي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فلقد كانت النفقة ولا تزال حاجة من الحاجات الأساسية التي تقوم عليها المجتمعات والأفراد.
وبما أن الفرد تقع عليه مسئولية غيره فعليه أيضا تقع مسئولية نفسه لتقديم حقها على حق الغير.
والمرأة باعتبار أن الغير مسئول عن الإنفاق عليها أصلا، فإنه قد يطرأ على هذا الأصل بعض الأحوال الموجبة لسقوط النفقة عن من تلزمه مما يتعين بسببه إنفاق المرء على نفسه. لذا رأيت أن أعد بحثا بعنوان " نفقة المرأة الواجبة على نفسها ".
ولم أعلم فيما اطلعت عليه أن أحدا أفرده ببحث مستقل فآثرت جمع شتاته، ولم شعثه، وتقريب بعيده؛ ليتمكن الباحث والقارئ من الرجوع إلى الحكم الشرعي في سهولة ويسر، يسهل معهما عناء الرجوع إلى أمهات الكتب والبحث عن الحكم الشرعي في مظانه المختلفة.
ورأيت أن أقدم هذا البحث وفق رأي المذاهب الأربعة في أغلب(19/285)
المسائل، وقد أذكر آراء بعض الأئمة الآخرين أحيانا ليتمكن القارئ من الاطلاع على الاتجاهات الفقهية في هذا البحث، ورجحت ما ظهر لي ترجيحه فإن يكن عملي صوابا فهو من الله، وإن يكن خطأ فمن نفسي، وأستغفر الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تعريف النفقة:
النفقة لغة: تأتي بمعنى الموت، يقال نفق الفرس والدابة وسائر البهائم، مات.
وتأتي نفق بمعنى راج، يقال نفقت السلعة إذا غلت ورغب فيها.
وتأتي بمعنى نقص يقال نفق ماله ودرهمه وطعامه إذا قل ونقص أو فني وذهب، وإنفاق المال صرفه، يقال رجل منفاق أي كثير النفقة.
والنفقة: ما أنفقت واستنفقت على العيال وعلى نفسك، والنفقة مأخوذة من النافقاء وهو موضع يرققه اليربوع من جحره، فإذا أتى به من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فخرج.
ومنه سمي المنافق حيث يشبه اليربوع بدخوله بالجحر وخروجه منه فالمنافق يدخل في الإسلام ثم يخرج منه (1) .
وفي الاصطلاح:
قيل هي: ما يتوقف عليه بقاء شيء من مأكول وملبوس وسكنى (2)
__________
(1) انظر لسان العرب مادة نفق ج 10 ص 357 فما بعدها طبعة دار صادر.
(2) مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر ج 1 ص 484 طبع دار إحياء التراث العربي.(19/286)
كوجوب بذل المنفق للماء، سواء أكان للشرب أم للاغتسال الواجب ونحو ذلك، كما لا يشمل نفقة الخادم لمن يتعين خدمته. كما أنه حصر الإنفاق على ما يتوقف عليه بقاء الشيء مع أن النفقة تختلف بالإيسار والإعسار.
والتعريف غير مانع لدخول غير المتعين عليه النفقة بسبب الزوجية أو القرابة أو الملك، كمنقذ المشرف على الهلاك من غير هؤلاء، والتعريف يشمل أوجه التكافل بين المسلمين من غير وجوب.
وقيل: هي الإدرار على الشيء بما به بقاؤه (1) .
وهذا التعريف كسابقه حدد الإنفاق بما يتطلبه البقاء مع أنه يختلف باختلاف حال الزوجين يسارا وإعسارا، إذ أن بعض أوجه النفقة الواجبة لا تعني الإنفاق لأجل حفظ الحياة فقط بل تشمل الزيادة عن ذلك مع اليسار.
وقيل هي: ما به قوام معتاد حال الآدمي دون سرف.
وخرج بهذا التعريف قوام معتاد غير الآدمي كالتبن للبهائم، وأخرج أيضا ما ليس بمعتاد من قوت الآدمي كالحلوى والفواكه فإنه ليس بنفقة شرعية.
وأخرج بقوله دون سرف ما كان سرفا فإنه ليس بنفقة شرعية ولا يحكم به حاكم.
وقيل: هي الطعام والكسوة والسكنى.
__________
(1) فتح القدير للكمال بن الهمام ج 4 ص 193 طبع دار إحياء التراث العربي(19/287)
وهذا التعريف غير جامع لعدم شموله بعض أنواع النفقة الأخرى، وهذا التعريف لا يشمل جميع أنواع النفقة كنفقة الخادم لمن يلزمه ونفقة بعض المستلزمات الأخرى للطعام والكسوة والسكن.
ثم إن هذا التعريف غير مانع لشموله الإطعام على غير وجه الإنفاق اللازم كبذل الطعام والكسوة والسكنى على الغير بأجر وكالإطعام على وجه الضيافة لمن لا تلزمه نفقتهم.
وقيل: هي طعام مقدر لزوجة وخادمها على زوج ولغيرها من أصل وفرع ورقيق وحيوان وما يكفيه (1) .
ويؤخذ على هذا بأنه لم يشمل إلا نفقة الإطعام دون الكسوة والسكنى ونحو ذلك مما يحتاج إليه.
وقيل هي: كفاية من يمونه خبزا أو أدما وكسوة وسكنى وتوابعها.
وهذا التعريف هو الأنسب لتعريف النفقة لسلامته من الملاحظات الواردة على التعاريف الأخرى، ولشموله لأنواع النفقة وما تحتاج إليه من غير الطعام والكسوة والسكن كثمن الماء وتكاليف الوقود وغير ذلك من النفقات الواجبة (2) .
__________
(1) حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب ج2 ص 345 طبع دار المعرفة.
(2) انظر كشاف القناع عن متن الإقناع ج 5 ص 460 الناشر مكتبة النصر الحديثة.(19/288)
إنفاق الإنسان على نفسه
الإنسان يجب عليه أن ينفق على نفسه إذا قدر عليها، وعليه أن يقدمها على نفقة غيره لما روي عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ابدأ بنفسك فتصدق عليها (2) » .
ففي هذا الحديث أوضح -صلى الله عليه وسلم- أن الإنفاق يكون على النفس أولا ولا ينتقل إلى الغير إلا بعد ما يفضل عن نفسه، وهذا يدل على وجوب إنفاق الإنسان على نفسه أولا (3) .
__________
(1) انظر حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب ج2 ص 345 طبع دار المعرفة.
(2) (1) ، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك
(3) انظر فيض القدير ج 1 ص 75 بتصرف، الطبعة الثانية سنة 1391 هـ.(19/289)
الأصل في الإنفاق على المرأة
المرأة باعتبارات شرعية اقتضتها متطلبات حالها الملزمة للستر والعفاف منعت من مخالطة الرجال لأجل كسب القوت، وجعل الإنفاق عليها حقا على الغير من زوج أو قريب لكونها زوجة أو أما أو بنتا أو قريبة ذات رحم محرم فلها حق الرعاية والإنفاق متى ما كانت مستحقة لذلك على ما سنوضحه فيما يلي:
أ - نفقة المرأة غير المتزوجة:
سبب وجوب هذه النفقة القرابة المحرمة للقطع، لأنه إذا حرم قطعها حرم كل سبب مفض إليه، مما يدل على وجوب الإنفاق على المرأة القريبة (1) .
__________
(1) انظر بدائع الصنائع ج 4 ص 39 الطبعة الثانية سنة 1402هـ(19/290)
ب- نفقة الزوجات:
سبب وجوب هذه النفقة على قولين للعلماء: فيرى الحنفية والحنابلة أن النفقة تجب للزوجة لاستحقاق الزوج الحبس الثابت بالنكاح عليها، فلا تتمكن بسببه من نكاح غيره، حيث فرغت نفسها له كما منعت من الخروج والكسب لأجله، فتستوجب المجازاة بما(19/290)
يكفيها من ماله، كالوالي والقاضي والمقاتلة والعامل على الصدقات لما فرغوا أنفسهم للعمل استوجبوا الكفاية من بيت مال المسلمين وهو قول المالكية.
ويرى الشافعية في قول لهم أنها تجب بالعقد وتستقر بالتمكين وهو شرط لأنها معاوضة في مقابلة التمكين من الاستمتاع فاستحقت به الأجر، وإلى هذا ذهب المالكية في قول لهم.
وفي قول آخر للشافعية أنها تجب بالتمكين لا بالعقد، لأن العقد يوجب المهر وهو لا يوجب عوضين مختلفين، ولأنها مجهولة بالنسبة للاستقبال إذ لا يعلم قدر الأيام التي تمكثها الزوجة معه، والعقد لا يوجب(19/291)
مالا مجهولا، والقول بوجوب التمكين قال به المالكية في قول لهم ولأنه -صلى الله عليه وسلم- تزوج عائشة -رضي الله عنها- وهي بنت ست سنين ودخل بها بعد سنتين ولم ينقل أنه أنفق عليها قبل الدخول ولو كان حقا لها لساقه إليها (1) .
وهم يرون أنها ليست معاوضة في مقابلة التمكين والاستمتاع؛ لأن هذا يثبت بالعقد الموجب للمهر لقوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} (2) وفسر الإفضاء بالجماع، خاصة وأن الوطء حق مشترك بين الزوجين لاشتراكهما في لذته، ولهما منافعه المترتبة عليه (3) .
__________
(1) انظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2 ص143 مطبعة الحلبي.
(2) سورة النساء الآية 21
(3) انظر فتح القدير لابن الهمام ج4 ص204 طبع دار إحياء التراث العربي.(19/292)
ولا يلزم عند الشافعية لاستحقاق النفقة الوطء حيث تجب مع عدمه لمرضها أو لكونها لا تحتمل الجماع منه لعبالته، (1) أو لوجود قروح في فرجها، أو لكونها مستحاضة أو نفساء ونحو ذلك (2) ، وقد أوجبوا الإنفاق عليها أيام مرضها لأنها محبوسة للزوج (3) خاصة وأنهم يرون أن وطء الرجل للمرأة مستحب وليس بواجب (4) ، وهذا يؤكد أن سبب وجوب النفقة للزوجة هو ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة.
__________
(1) العبل الضخم من كل شيء، والمراد هنا كبر آلة الجماع بحيث لا تحتملها المرأة ''مغني المحتاج 3 \ 436''.
(2) انظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2 ص95 مطبعة الحلبي.
(3) انظر نهاية المحتاج ج7 ص195 مطبعة الحلبي.
(4) انظر المجموع في شرح المهذب ج15 \ 287، 290 الناشر مكتبة الإرشاد بجدة.(19/293)
الحالات التي يتحقق بها إلزام المرأة بالإنفاق على نفسها
ليس معنى إلزام القريب أو الزوج الإنفاق على المرأة جعله حقا ثابتا لها لا يتغير، ذلك أن وجوب تلك النفقة محكوم بضوابط معينة، عند انتفائها تلزم المرأة بالإنفاق على نفسها ولا يجب على الغير القيام بمئونتها، وهذه الضوابط تختلف باختلاف حال المرأة نفسها وبنوع القرابة المرتبطة بها على ما نوضحه فيما يلي:
والمرأة باعتبار لزوم النفقة على نوعين:
أحدهما: كونها غير زوجة:
وذلك باعتبار كونها امرأة بالغة ويقوم بالإنفاق عليها أحد فروعها أو أصولها أو غيرهما حسب نوعية القرابة الموجبة للإنفاق.
وفي تحقيق بعض الأحوال يسقط عن القريب وجوب النفقة وتلزم(19/293)
بالإنفاق على نفسها في الحالات التالية:
1 - إذا كانت غنية سواء أكانت صغيرة أم كبيرة وسواء أكانت أما أم جدة وسواء أكانت بنتا أم أختا ونحو ذلك.
2 - إذا كان من تلزمه نفقتها معسرا ولو كانت محتاجة خلافا(19/294)
للحنفية والشافعية (1) في قول لهما: إن البنت الصغيرة الفقيرة تجب نفقتها على أبيها سواء أكان موسرا أو معسرا فتفرض عليه بقدر الكفاية.
3 - إذا كان من تلزمه نفقتها أو العكس مرتدا أو حربيا إذ لا حرمة
__________
(1) انظر مغني المحتاج ج3 ص447. طبع دار إحياء التراث العربي.(19/295)
لهما لأنه مأمور بقتلهما واستحقاق النفقة إنما يكون بطريق الصلة، وبهذا لا يثبت لهما أي صلة مهما كانت (1) .
وذهب الحنابلة إلى أبعد من ذلك فلم يوجبوا النفقة للأقارب مع اختلاف الدين- وهو المذهب- وهو قول للمالكية (2) والحنفية في غير الفروع (3) والأصول (4) ، إذ يرون أن الاستحقاق إنما يثبت باسم الوارث، واختلاف الدين يمنع التوارث، فلا تجب نفقة النصراني على أخيه- من الرحم- المسلم ولا على عكسه وهو رواية عند الحنابلة.
__________
(1) انظر المبسوط للسرخسي ج3 ص228 طبع دار المعرفة. وانظر تبيين الحقائق للزيلعي ج3 ص63 طبع دار المعرفة.
(2) انظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج2 ص98 طبع سنة 1332هـ.
(3) الأبناء وإن نزلوا.
(4) الآباء وإن علوا.(19/296)
ثانيهما: الزوجة:
وهذه نفقتها على الزوج في اليسار والإعسار وإن كانت الزوجة موسرة للإجماع على ذلك (1) ، ولأن الزوج حبسها عن نكاح غيره بعقده عليها، وكل محبوس لمنفعة غيره تلزمه نفقته مما يدل على وجوب نفقة الزوجة على زوجها.
غير أنه في بعض الحالات تسقط نفقة الزوجة عن زوجها ولا يلزمه الإنفاق عليها حينئذ وتلزم بالإنفاق على نفسها إذا سقطت عن قريبها كما مضى آنفا وهي كما يلي:
1 - إذا وقعت الفرقة بين الزوجين بسبب فعلها معصية راضية بها كالزنا، لأن حبس النكاح أوجب عليها صلة، فإذا وقعت الفرقة بفعل
__________
(1) انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج 3 ص 51 طبع دار المعرفة.(19/297)
المعصية لم تستحق الصلة، إذ الجاني لا يستحق الصلة بل يستحق الزجر، خلافا للشافعية فإنها تستحق النفقة لأنه لا أثر لزناها وإن حبلت لأنه لا يمنع الاستمتاع بها ولعدم قدرتها على عصمة نفسها (1) .
2 - إذا ارتدت عن الإسلام، حيث يوجب بطلان النكاح، ولا يعود النكاح بعد إسلامها إلا بعقد جديد فتسقط النفقة لانتفاء حبس النكاح للزوج.
3 - إذا أسلم الذمي وامرأته من غير أهل الكتاب كوثنية أو مجوسية وأبت الإسلام وفرق بينهما فلا نفقة لها في العدة، لأن الفرقة جاءت من قبلها بسبب هي عاصية فيه وهو إباء الإسلام بعد عرضه عليها،
__________
(1) انظر حاشية الشرقاوي ج 2 ص 345 طبع دار المعرفة.(19/298)
حيث تعد في حكم الناشزة لحبسها نفسها عن زوجها.
4 - إذا أسلم الذمي وزوجته حربية أبت الإسلام فلا نفقة لها، لأن العصمة انقطعت فيما بينهما، ولأنه مأمور بقتلها (1) .
5 - إذا امتنعت المرأة من تسليم نفسها إلى الزوج بغير حق فتسقط نفقتها لعدم تمكنه من وطئها أو الاستمتاع بها.
6 - إذا امتنعت من الانتقال معه إلى مسكنه- بغير وجه حق - سواء
__________
(1) انظر حاشية الشرقاوي ج2 ص345 طبع دار المعرفة.(19/299)
في بلدها أو غير بلدها سقطت نفقتها.
ويرى الشافعية في الجديد سقوط نفقتها ولو لم تمتنع إذا لم تعرض عليه وسكت عن طلبها الانتقال إلى منزله، وهو ما ذهب إليه الحنابلة لما روي عن عائشة -رضي الله عنها- «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تزوجها وهي بنت ست سنين، وأدخلت عليه وهي بنت تسع (1) » ، ولم يرو عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه أنفق عليها إلا بعد دخوله ولم يلتزم نفقتها لما مضى.
ولأن النفقة تجب مجازاة لحبسه إياها عن نكاح غيره بشرط التمكين
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5133) ، صحيح مسلم النكاح (1422) ، سنن أبو داود الأدب (4933) ، سنن ابن ماجه النكاح (1876) ، مسند أحمد بن حنبل (6/211) .(19/300)
فإذا وجد استحقت النفقة، وإذا فقد لم تستحق شيئا.
وفي قول لأبي حنيفة لا يخرجها من بلدها إلى بلد غيره إلا برضاها لأن الغربة تؤذي إذا لم يكن لها فيها عشيرة (1) .
__________
(1) انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج 2 ص156 الطبعة الأولى سنة 1313 هـ.(19/301)
7 - إذا حبست في دين قادرة على وفائه فلا نفقة لها، لأن استحقاقها للنفقة بحبس الزوج إياها على النكاح بطل بالعرض الطارئ وهو حبس الدين، خاصة وأن صاحب الدين أحق بحبسها لدينه لمماطلتها بوفائه فصارت كالناشزة، وكذا المحبوسة بحق، إذ لا تستحق بسببه النفقة (1) .
8 - إذا خرجت من منزل زوجها بغير وجه حق لغيبة أو سفر سقطت
__________
(1) انظر المبسوط للسرخسي ج 5 ص205 طبع دار المعرفة.(19/301)
نفقتها لفوات تسليم نفسها له ولعدم تمكنه من معاشرتها.
9 - إذا خرجت معه في سفر بدون إذنه ولم يقدر على ردها فلا نفقة لها ما لم يستمتع بها.
10 - إذا سافرت بإذن زوجها مع غيره لحاجتها سقطت نفقتها عند الحنابلة، وفي قول للشافعية لانتفاء التمكين فأشبه ما لو استنظرته قبل الدخول فأنظرها.
11 - إذا كانت مريضة ولم تزف إلى بيت زوجها ولا تقدر على الانتقال معه لمرضها المانع من التسليم بالكلية فتسقط نفقتها.(19/302)
12 - إذا اعتكفت بغير إذن زوجها سقطت نفقتها لخروجها من منزله فيما ليس بواجب بأصل الشرع وهو مذهب الشافعية وقول للحنابلة (1) .
13 - إذا حبست زوجها بغير حق بادعاء باطل أو لدين وهو معسر فلا تستحق النفقة مدة حبسه (2) .
14 - إذا نكحت المرأة بنكاح فاسد فلا نفقة لها عند الحنفية والحنابلة والشافعية، وفي قول لهم تسقط عن الزوج أثناء عدة النكاح الفاسد (3) فإن فساده يمنع شرعا من تسليم نفسها له (4) فسبب الوجوب الذي هو حبس الزوج إياها عن نكاح غيره منعدم، فتسقط نفقتها حتى في العدة، لأن حق الحبس وإن ثبت فيها لكنه لتحصين الماء
__________
(1) انظر المغني لابن قدامة ج 7 ص605 الناشر مكتبة الرياض الحديثة.
(2) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج 7 ص97 تصوير الطبعة الأولى سنة 1398 هـ.
(3) انظر مغني المحتاج ج3 ص 441 طبع دار إحياء التراث العربي. وانظر قليوبي وعميرة ج 4 ص 81.
(4) انظر المبسوط للسرخسي ج 5 ص 193 طبع دار المعرفة. وانظر المجموع شرح المهذب ج17 ص 124.(19/303)
لا النكاح (1) وقياسا على البائع الذي لا يستحق ثمن المبيع في بيع فاسد (2) .
15 - إذا مات عنها زوجها قبل إعطاء النفقة سقطت، لأنه لا يجوز لها أن تأخذ من ماله للإجماع على ذلك (3) ، ولأنها في أصلها تجري مجرى الصلة، والصلة تبطل بالموت قبل القبض كالهبة ولأن حبس الزوج لها عن النكاح وتفريغ نفسها لمصالحه قد زال قبل الاستيفاء فيسقط حقها كما إذا زال العيب قبل رد المشتري للسلعة فيسقط رده ولزمه المبيع فكذا هنا لا يلزم الزوج النفقة (4) .
16 - إذا كانت المرأة صغيرة لا يجامع مثلها (5) فلا نفقة لها عند
__________
(1) انظر بدائع الصنائع ج 4 ص 18. وانظر حاشية ابن عابدين ج 3 ص 572.
(2) انظر المجموع شرح المهذب ج 17 ص 124 الناشر مكتبة الإرشاد.
(3) انظر صحيح مسلم بشرح النووي ج 10 ص 96 المطبعة المصرية.
(4) انظر المبسوط للسرخسي ج 5 ص 195 طبع دار المعرفة.
(5) يرى جمهور العلماء أن تحديد الصغيرة يختلف باختلاف البنية، فتح القدير لابن الهمام ج4 ص 196.(19/304)
الحنفية والحنابلة والمالكية وقول للشافعية على الصحيح عندهم.
وذلك لأنه لم يدخل بها بعد (1) وبالتالي لم تسلم نفسها لزوجها في منزله فلا تستوجب النفقة عليه كالناشزة، وهذا لأن الصغيرة جدا لا تنتقل إلى بيت الزوج بل تنقل إليه ولا تنقل إليه للقرار في بيته أيضا فتكون كالمكرهة إذا حملت إلى بيت الزوج.
ولأن نفقتها باعتبار تفريغها نفسها لمصالحه، فإذا كانت لا تصلح لذلك لمعنى فيها كان ذلك بمنزلة منع جاء من قبلها فلا نفقة لها على الزوج (2) لأنها أيضا غير مشتهاة أصلا فلا يستمتع بها ولو دون الفرج، حتى إن كل عاقل يستنكر جماع الرضيعة فيما دون الفرج حيث تعد من الصغار (3) .
__________
(1) انظر بلغة السالك ج1 ص 518 مطبعة الحلبي. وانظر حاشية الدسوقي ج 2 ص 508 مطبعة الحلبي.
(2) انظر المبسوط للسرخسي ج 5 ص 187. وانظر مجمع الأنهر ج1 ص 489. وانظر المغني لابن قدامة ج7 ص 601.
(3) انظر فتح القدير لابن الهمام ج 4 ص 197.(19/305)
17 - إذا فارقها الزوج بملاعنة فلا نفقة لها في العدة، إن كانت غير حامل.
وكذا إن كانت حاملا عند المالكية لما روي من حديث ابن عباس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- «فرق بين المتلاعنين وقضى أن لا بيت لها عليه ولا قوت (1) » .
وإن كانت حاملا فنفى حملها- وهو لا يلحقه نسبه- فلا نفقة لها لانتفاء الولد بزوال الفراش (2) .
18 - إذا خالفت زوجها وهي حائل فلا نفقة لها في العدة.
19 - إذا احترفت المرأة وتكسبت بدون رضا من الزوج فلا نفقة لها، ذلك أن نفقة الزوجة واجبة على الزوج كما سبق فلا يصح لها
__________
(1) انظر المغني لابن قدامة ج 7 ص 608، 607 الناشر مكتبة الرياض الحديثة.
(2) انظر المرجع السابق ج 7 ص 608 وانظر قليوبي وعميرة ج 4 ص 80.(19/306)
الاكتساب إلا إذا لم ينفق عليها فلها تحصيل النفقة بكسب أو تجارة أو سؤال وليس للزوج منعها سواء أكانت فقيرة أم غنية؛ لأن بقاءها في عصمته وطاعتها له يوجب لها النفقة، فإذا لم يوف ما عليه لم يستحق عليها حجرا، وعليها الرجوع إلى بيتها ليلا، لأنه وقت الإيواء دون العمل والاكتساب، ولها منعه من الاستمتاع بها نهارا.
والمرأة التي تحترف وتكتسب لم تفرغ نفسها لزوجها ولم تسلمها التسليم الكامل فلو منعها من ذلك وعصته وخرجت بلا إذنه كانت ناشزة ما دامت خارجة من بيته (1) وبالتالي لا تستحق النفقة منه.
ويرى الحنفية: أن المرأة إذا سلمت نفسها في النهار أو الليل فقط فلا نفقة لنقص التسليم كما لو تزوج من المحترفات التي تكون بالنهار في مصالحها وبالليل عند زوجها فلا نفقة لها؛ لأنها بالعمل تتعب والتعب يذهب جمالها وجمالها حق الزوج فكان له أن يمنعها، فلو لم تمتنع لم تلزمه نفقتها خاصة وأن نقص التسليم منسوب إليها لرغبتها بالاكتساب.
__________
(1) انظر حاشية ابن عابدين ج 3 ص 578 الطبعة الثانية سنة 1386 هـ.(19/307)
وعندهم أن للزوج منعها من الغزل وكل عمل ولو قابلة ومغسلة (1) ، وروي عن المالكية منعها من الغزل وحكي أنه المذهب عندهم (2) ، وجاء عند الحنفية أيضا أن للزوج منعها من كل عمل يؤدي إلى تنقيص حقه أو ضرره أو إلى خروجها من بيته، أما العمل الذي لا ضرر له فيه فلا وجه لمنعها عنه خصوصا في حال غيبتها عن بيته، فإن ترك المرأة بلا عمل في بيتها يؤدي إلى وساوس النفس والشيطان، أو الاشتغال بما لا يعني مع الأجانب والجيران، غير أن الخروج لا يكون إلا بإذنه؛ لأن حقه فرض عين وخروجها للعمل فرض كفاية، والأول مقدم على الثاني (3) .
ويرى الشافعية والحنابلة أن المرأة لو نشزت نهارا دون الليل أو عكسه أو بعض أحدهما سقطت نفقة جميع اليوم، لأنها لا تتجزأ بدليل أنها تسلم دفعة واحدة ولا تفرق غدوة وعشية حيث لم تسلم نفسها التسليم الواجب.
ويرون أنه لا يحق له منع المرأة المستأجرة للإرضاع أو العمل قبل إنكاح الزوج لها غير أنه لا نفقة لها، لأن منافعها ملكت بعقد سابق على نكاحه فأشبه ما لو اشترى أمة مستأجرة أو دارا مشغولة (4) .
__________
(1) انظر حاشية ابن عابدين ج 3 ص 578.
(2) انظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج 2 ص 98 طبع سنة 1332 هـ.
(3) انظر حاشية ابن عابدين ج 3 ص 603، 604 الطبعة الثانية سنة 1386 هـ.
(4) انظر المغني لابن قدامة ج 7 ص 626 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.(19/308)
ويرى الشافعية: أنه لو نكح مستأجرة العين لم تجب نفقتها (1) بخلاف ما لو خرجت في البلدة بإذنه لصناعة لها لم تسقط نفقتها لوجود الإذن منه ولعدم فوات حقه من الاستمتاع متى ما طلبها (2) .
ويرى الحنابلة: أن المرأة المزوجة إذا أجرت نفسها للرضاع بإذن زوجها جاز ولزم العقد، لأن الحق لهما، ولا يخرج عنهما، وأن أجرتها بغير إذن الزوج لم يصح لما يتضمن من عقد يفوت به حق من ثبت له الحق بعقد سابق وهو الزوج فلم يصح كتأجير المستأجر لما أجر له بدون إذن مالكه (3) .
ويحق للزوج منع مزوجته من إرضاع ولدها من غيره إلا أن يضطر إليها. ولما مضى يعلم أن المرأة إذا احترفت بدون رضا زوجها سقطت نفقتها عنه خاصة وأن العلماء يرون أن المرأة إذا نشزت عن زوجها بأي نوع من أنواع النشوز لا تستحق النفقة، وعملها بدون إذنه يعد نشوزا فتسقط به النفقة.
__________
(1) انظر مغني المحتاج ج 3 ص 439، 440 طبع دار إحياء التراث العربي.
(2) انظر نهاية المحتاج ج 7 ص 222 مطبعة الحلبي.
(3) انظر المغني لابن قدامة ج 7 ص 626 الناشر مكتبة الرياض الحديثة.(19/309)
20 - يرى الحنفية ورواية عند الحنابلة (1) أن نفقة الزوجة تسقط بمضي الزمان ولا ترجع بذلك على زوجها إلا إذا تراضيا، وكذا لو استدانت على الزوج بدون رضاه، أو بدون فرض القاضي لها فجميع ما أنفقته لا ترجع به على زوجها بل تكون متطوعة بالإنفاق سواء أكان الزوج غائبا أم حاضرا ولا تصير دينا في ذمته؛ لأنه إلزام للزوج بالدين بدون أمره أو أمر من له ولاية الأمر (2) ، وهذا هو مذهب المالكية عندما يكون الزوج معسرا (3) ؛ ولأن النفقة هذه صلة، والصلات لا تتأكد بنفس العقد ما لم ينضم إليها ما يؤكدها كالهبة والصدقة من حيث إنها لا تتم إلا بالقبض، والنفقة ليست بعوض عن البضع فإن المهر عوض عن البضع ولا تستوجب عوضين عن شيء واحد بعقد واحد، ولأن ما يكون عوضا عن البضع يجب جملة، لأن ملك البضع يحصل للزوج جملة ولا يجوز أن يكون عوضا عن الاستمتاع والقيام عليها، لأن ذلك تصرف منه في ملكه فلا يوجب عليه عوضا مما يؤكد أن طريق النفقة هي الصلة ولا تتأكد إلا بالقضاء أو التراضي، لأنها نفقة مشروعة للكفاية فلا تصير دينا بدون القضاء (4) ، ولأنها نفقة مضت استغنى عنها بمضي وقتها فتسقط كنفقة الأقارب (5) .
__________
(1) انظر المغني لابن قدامة ج 7 ص 578 الناشر مكتبة الرياض الحديثة.
(2) انظر بدائع الصنائع ج 4 ص 25، 26. وانظر الفتاوى الهندية ج1 ص 551.
(3) انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج2 ص 517 مطبعة الحلبي.
(4) انظر المبسوط للسرخسي ج 5 ص 184 طبع دار المعرفة.
(5) انظر المغني لابن قدامة ج 7 ص 578 الناشر مكتبة الرياض الحديثة.(19/310)
ويرى الشافعية والراجح عند الحنابلة والمالكية مع اليسار أنها لا تسقط بمضي الزمان بل تعد دينا عليه، لأنه مال يجب على سبيل البدل في عقدها معاوضة جزاء الاحتباس فلا تسقط بمضي الزمان.
وإيجابها يجعل الأزواج يدركون ملازمتها لهم فلا يتهاونوا في ترك الإنفاق على زوجاتهم وتركهن تحت عبء من يلزمه الإنفاق عليهم غيرها.
وتختلف عن نفقة الأقارب لأن نفقتهم إن سقطت بمضي الزمان فلأنها أصلا لا تجب إلا مع يسار المنفق وعسر المنفق عليه لتزجية الحال وتنمية الأبدان، فإذا مضي زمنها استغنى عنها فأشبهت ما لو استغنى بيسار المنفق عليه (1) .
ولأن نفقة الأقارب لا تكون إلا لدفع حاجة، ولا لزوم للمطالبة بها بعد مضي وقتها، لأنها وجبت لدفع الحاجة الناجزة مواساة وقد زالت.
21 - إذا طلقت المرأة طلاقا بائنا من غير حمل فلا نفقة لها ولا سكن
__________
(1) انظر المغني لابن قدامة ج 7 ص 578 الناشر مكتبة الرياض الحديثة.(19/311)
عند الحنابلة والظاهرية (1) وأبي ثور وإسحاق (2) وابن أبي ليلى (3) وغيرهم (4) وأوجب المالكية والشافعية لها السكن دون النفقة خلافا للحنفية الذين يرون أن لها السكن والنفقة (5) ، واستدل بعموم قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (6) وقوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} (7) فالآية أمرت بوجوب الإسكان، والنفقة تابعة له؛ للتلازم بين الإسكان والنفقة في الشرع (8) .
__________
(1) انظر المحلى لابن حزم ج 11 ص 667 الناشر مكتبة الجمهورية سنة 1390 هـ.
(2) انظر بداية المجتهد ج2 ص 95 الطبعة الرابعة سنة 1395 هـ.
(3) انظر المبسوط للسرخسي ج1 ص 201 طبع دار المعرفة. وانظر المغني لابن قدامة ج 7 ص 606.
(4) انظر المغني لابن قدامة ج 7 ص 606 الناشر مكتبة الرياض الحديثة.
(5) انظر المبسوط للسرخسي ج 5 ص 202. وانظر تبيين الحقائق للزيلعي ج 3 ص 60.
(6) سورة الطلاق الآية 6
(7) سورة الطلاق الآية 1
(8) انظر بداية المجتهد ج2 ص 95.(19/312)
واستدل المالكية والشافعية بما روي عن فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها- (1) أن أبا عمرو بن حفص «طلقها البتة وهو غائب بالشام فأرسل إليها وكيله بشعير، فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء، فجاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكرت ذلك، فقال: ليس عليك نفقة (2) » .
ففي هذا الحديث بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سقوط النفقة، ولم يذكر فيه سقوط السكن، فبقي على عمومه في قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (3) .
واستدل الحنابلة ومن معهم القائلون بسقوط النفقة والسكنى بما روي عن فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها- أن «طلقها زوجها في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان أنفق عليها نفقة دون، فلما رأت ذلك قالت: والله لأعلمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن كان لي نفقة أخذت الذي يصلحني، وإن لم تكن لي نفقة لم آخذ منه شيئا، قالت فذكرت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) أخرجه مالك في كتاب الطلاق باب ما جاء في نفقة المطلقة: موطأ مالك ص 397.
(2) انظر بداية المجتهد ج2 ص 95 الطبعة الرابعة سنة 1395 هـ.
(3) سورة الطلاق الآية 6(19/313)
فقال: لا نفقة لك ولا سكني (1) » ، ففي هذا الحديث دلالة صريحة على سقوط النفقة والسكنى للمطلقة.
والقائل بإسقاط النفقة والسكنى هو الأظهر؛ لأن حديث فاطمة بنت قيس الصحيح صرح بإسقاط تلك النفقة والسكنى معها، فيكون مخصصا للآيتين.
والتفريق بين إيجاب النفقة والسكنى غير مسلم، حيث إن مفهوم النفقة العام يدخل فيه السكنى خاصة حينما يكون السكنى عن طريق الاستئجار، أليس المال المدفوع للأجرة يكون نفقة؟ ، وترك ذكره في بعض روايات الحديث لا يعني عدم وجوبه خاصة وأن رواية مسلم صريحة بسقوط النفقة والسكنى.
قال ابن عبد البر: من طريق الحجة وما يلزم منها قول أحمد بن حنبل ومن تابعه أصح وأحج؛ لأنه ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نصا صريحا، فأي شيء يعارض هذه الأمثلة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والذي هو مبين عن الله تعالى ولا شيء يدفع ذلك (2) .
__________
(1) انظر المغني لابن قدامة ج7 ص 606 الناشر مكتبة الرياض. وانظر بداية المجتهد ج2 ص95 الطبعة الرابعة سنة 1395هـ.
(2) انظر المغني لابن قدامة ج7 ص607 الناشر مكتبة الرياض الحديثة.(19/314)
22 - ما لا يجب على الزوج الالتزام به من أنواع النفقة غير الواجبة كأجرة القابلة إن استأجرتها هي بنفسها وكأجرة الطبيب ونحو ذلك(19/314)
وفق ما ورد تفصيله في الكتب الفقهية، خلافا للمالكية في قول لهم (1) ، ويظهر لي أن الفقهاء حينما جعلوا أجرة القابلة والأدوية والطبيب على المرأة باعتبار أن الزوج ملزم بجعل خادمة لها في البيت، ويحضر لها الطعام المهيأ للأكل، ويجعل لها مؤنسة (2) ، هنا يكون في نظري محل تحمل المرأة لأجرة القابلة والدواء والطبيب، أما إذا قامت برعاية أطفالها وبخدمة زوجها في منزله فالأولى أن يتحمل كافة
__________
(1) انظر الكافي في فقه أهل المدينة ج2 ص 559 الطبعة الأولى سنة 1398 هـ.
(2) انظر منتهى الإرادات ج2 ص 371 طبع عالم الكتب.(19/315)
نفقاتها فالغرم بالغنم، روي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الخراج بالضمان (1) » .
قال الترمذي: وتفسير الخراج بالضمان، هو الرجل يشتري العبد فيستعمله ثم يجد به عيبا فيرده على البائع. فالغلة للمشتري؛ لأن العبد لو هلك هلك من مال المشتري، ونحو هذا من المسائل يكون فيه الخراج بالضمان (2) .
قلت: فالزوج إذا جعل المرأة في منزلة من يخدمه هو وأولاده فقد تتعرض للإعياء والمرض، وعليه مقابل ذلك العناية بها والقيام بعلاجها إن مرضت وتأمين ما تحتاجه بسبب ذلك.
23 - يرى المالكية أن نفقة الزوجة تسقط عن الزوج لعسره، ولا ترجع عليه الزوجة بعد يسره، حيث لا تلزمه، ولا يحق لها مطالبته بها ما دام
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1285) ، سنن النسائي البيوع (4490) ، سنن أبو داود البيوع (3508) ، سنن ابن ماجه التجارات (2243) .
(2) انظر الجامع الصحيح للترمذي ج3 ص 582.(19/316)
معسرا، ولها طلب الطلاق حال العسر بالرفع للحاكم وإثباته عنده (1) .
24 - إذا كانت المرأة معتدة من وفاة (2) .
هذه مجمل للحالات التي تسقط فيها نفقة الزوجة عن زوجها، وكما قلت تحتاج المرأة إلى من ينفق عليها من أقاربها الأقرب فالأقرب، غير أنها تسقط عنهم أيضا نفقتها وتقوم بالإنفاق على نفسها إذا كانت غنية، أو من يلزم بالإنفاق عليها معسرا، أو من تلزمه نفقتها مرتدا، أو حربيا، أو يدين بغير الإسلام، على ما ورد تفصيله في نفقة غير الزوجة.
عبد الله بن عبد المحسن الطريقي
__________
(1) انظر بلغة السالك ج1 ص 521.
(2) انظر شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ج 2 ص 93 طبع سنة 1332 هـ.(19/317)
صفحة فارغة(19/318)
التحذير من دفع الرشوة
سماحة الشيخ / عبد العزيز بن عبد الله بن باز
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه أو يسمعه من إخواني المسلمين، سلك الله بي وبهم صراطه المستقيم، ووقاني وإياهم عذاب الجحيم. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فإن مما حرمه الإسلام، وغلظ في تحريمه: الرشوة، وهي دفع المال في مقابل قضاء مصلحة يجب على المسئول عنها قضاؤها بدونه. ويشتد التحريم إن كان الغرض من دفع هذا المال إبطال حق أو إحقاق باطل أو ظلما لأحد. وقد ذكر ابن عابدين -رحمه الله- في حاشيته أن الرشوة هي: ما يعطيه الشخص لحاكم أو غيره ليحكم له، أو يحمله على ما يريد. وواضح من هذا التعريف أن الرشوة أعم من أن تكون مالا أو منفعة يمكنه منها، أو يقضيها له.
والمراد بالحاكم القاضي، وبغيره كل من يرجى عنده قضاء مصلحة الراشي، سواء كان من ولاة الدولة وموظفيها، أو القائمين بأعمال خاصة، كوكلاء التجار، والشركات، وأصحاب العقارات، ونحوهم، والمراد بالحكم للراشي، وحمل المرتشي على ما يريده الراشي: تحقيق رغبة الراشي ومقصده، سواء كان ذلك حقا أو باطلا.
والرشوة -أيها الإخوة في الله- من كبائر الذنوب التي حرمها الله على عباده، ولعن رسوله -صلى الله عليه وسلم- من فعلها، فالواجب اجتنابها والحذر منها، وتحذير الناس من تعاطيها؛ لما فيها من الفساد العظيم، والإثم الكبير، والعواقب الوخيمة، وهي من الإثم والعدوان اللذين نهى الله(19/319)
-سبحانه وتعالى- عن التعاون عليهما في قوله عز من قائل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) .
وقد نهى الله -عز وجل- عن أكل أموال الناس بالباطل، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2) ، وقال سبحانه: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) ، والرشوة من أشد أنواع أكل الأموال بالباطل، لأنها دفع المال إلى الغير لقصد إحالته عن الحق، وقد شمل التحريم في الرشوة أركانها الثلاثة، وهم الراشي والمرتشي والرائش وهو الوسيط بينهما، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «لعن الله الراشي والمرتشي والرائش بينهما (4) » ، رواه أحمد والطبراني.
واللعن من الله هو الطرد والإبعاد عن مظان رحمته، نعوذ بالله من ذلك، وهو لا يكون إلا في كبيرة كما أن الرشوة من أنواع السحت المحرم بالقرآن والسنة، فقد ذم الله اليهود وشنع عليهم لأكلهم السحت في قوله سبحانه: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (5) ، كما قال تعالى عنهم: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (6) {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (7) ، وقال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} (8) {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} (9) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة النساء الآية 29
(3) سورة البقرة الآية 188
(4) سنن الترمذي الأحكام (1337) ، سنن أبو داود الأقضية (3580) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2313) ، مسند أحمد بن حنبل (2/190) .
(5) سورة المائدة الآية 42
(6) سورة المائدة الآية 62
(7) سورة المائدة الآية 63
(8) سورة النساء الآية 160
(9) سورة النساء الآية 161(19/320)
وقد وردت أحاديث كثيرة في التحذير من هذا المحرم وبيان عاقبة مرتكبيه. منها ما رواه ابن جرير عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به قيل: وما السحت؟ قال الرشوة في الحكم» ، وروى الإمام أحمد عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة، وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب (1) » ، وروى الطبراني عن ابن مسعود قال: "السحت الرشوة في الدين".
وقال أبو محمد موفق الدين ابن قدامة -رحمه الله- في المغني: قال الحسن وسعيد بن جبير في تفسير قوله تعالى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْت} (2) هو الرشوة، وقال: إذا قبل القاضي الرشوة بلغت به الكفر، لأنه مستعد للحكم بغير ما أنزل الله {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (3) .
وروى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: وقال تعالى: ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له (6) » .
فاتقوا الله أيها المسلمون، واحذروا سخطه، وتجنبوا أسباب غضبه فإنه -جل وعلا- غيور إذا انتهكت محارمه، وقد ورد في الحديث الصحيح «لا أحد أغير من الله (7) » ، وجنبوا أنفسكم وأهليكم المال الحرام والأكل الحرام، نجاة بأنفسكم وأهليكم من النار التي جعلها الله أولى بكل لحم نبت من الحرام، كما أن المأكل الحرام سبب لحجب الدعاء وعدم
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/205) .
(2) سورة المائدة الآية 42
(3) سورة المائدة الآية 44
(4) صحيح مسلم الزكاة (1015) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2989) ، مسند أحمد بن حنبل (2/328) ، سنن الدارمي الرقاق (2717) .
(5) سورة المؤمنون الآية 51 (4) {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}
(6) سورة البقرة الآية 172 (5) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}
(7) صحيح البخاري تفسير القرآن (4634) ، صحيح مسلم التوبة (2760) ، سنن الترمذي الدعوات (3530) ، مسند أحمد بن حنبل (1/381) ، سنن الدارمي النكاح (2225) .(19/321)
الإجابة لما مر من حديث أبي هريرة عند مسلم، ولما رواه الطبراني عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «تليت عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} (1) ، فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا سعد، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يقبل الله منه عملا أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به» ذكر ذلك الحافظ ابن رجب -رحمه الله- في جامع العلوم والحكم عن رواية الطبراني -رحمه الله-، فدل ذلك على أن عدم إطابة المطعم وحلية المأكل مانع من استجابة الدعاء، حاجب عن رفعه إلى الله، وكفى بذلك وبالا وخسرانا على صاحبه، نعوذ بالله من ذلك.
وقد دعاكم الله إلى وقاية أنفسكم وأهليكم من النار، والنجاة بها من عذاب الله وأليم عقابه، حيث قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (2) ، فاستجيبوا أيها المسلمون لنداء ربكم وأطيعوا أمره، واجتنبوا نهيه، واحذروا أسباب غضبه، تسعدوا في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (3) {واتقوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (4) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 168
(2) سورة التحريم الآية 6
(3) سورة الأنفال الآية 24
(4) سورة الأنفال الآية 25(19/322)
والله المسئول أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ومن المتعاونين على البر والتقوى، الملتزمين بكتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويوفق ولاة أمرنا لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد.
إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،،
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(19/323)
حديث شريف
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه (1) »
أخرجه البخاري
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2449) ، مسند أحمد بن حنبل (2/435) .(19/324)
تنبيه:
نود أن نلفت عناية السادة القراء أنه قد وقع في العدد الثامن عشر من مجلة البحوث الإسلامية ص 144 خطأ في آية من سورة النمل، فقد كتبت الآية هكذا (قل يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين، قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم به مقامك) .
وورد في الحاشية تعليقا على الآية سورة النحل: الآيتان 38، 39.
والصحيح: {قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} (1)
والحاشية: سورة النمل الآيتان: 38، 39.
__________
(1) سورة النمل الآية 39(19/325)
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (1)
(سورة المائدة، الآية (8))
__________
(1) سورة المائدة الآية 8(20/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(20/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ـ الرياض
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(20/3)
المحتويات
الافتتاحية:
حكم إتيان الكهف ونحوهم وسؤالهم وتصديقهم سماحة / الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
موضوع العدد:
التأمين (القسم الثاني) اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 13
الفتاوى:
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 145
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 185(20/4)
البحوث:
بيان التوحيد والتحذير من الشرك الدكتور / صالح بن فوزان الفوزان 191
نفي تقول سخيف على الجناب المحمدي الشريف الشيخ / عبد الله كنون 207
معنى الشهادة في اللغة واصطلاح الفقهاء الدكتور / عبد الله بن محمد الزين 219
مباحث السنة عند الأصوليين الدكتور / حسين مطاع الترتوري 234
تحقيق مخطوطة "فتيا في حكم القيام والانحناء والألقاب
لشيخ الإسلام ابن تيمية" تحقيق الشيخ / الوليد بن عبد الرحمن الفريان 287
كلمة ومقابلة:
التحذير من الربا وبيان سوء عاقبته سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 303
مقابلة مع سماحة الرئيس العام، أجرتها صحيفة الراية السودانية 305
بيان هيئة كبار العلماء حول أعمال الشغب
التي قام بها بعض الحجاج الإيرانيين في موسم حج / عام 1407هـ 317(20/5)
صفحة فارغة(20/6)
الافتتاحية
حكم إتيان الكهان ونحوهم وسؤالهم وتصديقهم
سماحة الشيخ / عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد.
فقد شاع بين الناس أن هناك من يتعلق بالكهان والمنجمين والسحرة والعرافين وأشباههم لمعرفة المستقبل والحظ وطلب الزوج والنجاح في الامتحان وغير ذلك من الأمور التي اختص الله سبحانه وتعالى بعلمها كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} (1) {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} (2) . وقال سبحانه: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (3) .
__________
(1) سورة الجن الآية 26
(2) سورة الجن الآية 27
(3) سورة النمل الآية 65(20/7)
فالكهان والعرافون والسحرة وأمثالهم قد بين الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ضلالهم وسوء عاقبتهم في الآخرة وأنهم لا يعلمون الغيب وإنما يكذبون على الناس ويقولون على الله غير الحق وهم يعلمون، قال تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (1) {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (2) وقال سبحانه: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (3) وقال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} (4) {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (5) . فهذه الآيات وأمثالها تبين خسارته ومآله في الدنيا والآخرة وأنه لا يأتي بخير وأن ما يتعلمه أو يعلمه يضر صاحبه ولا ينفعه كما نبه سبحانه أن عملهم باطل وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات (6) » متفق على صحته.
وهذا يدل على عظم جريمة السحر؛ لأن الله قرنه بالشرك وأخبر أنه من الموبقات وهي المهلكات والسحر كفر لأنه لا يتوصل إليه إلا بالكفر
__________
(1) سورة البقرة الآية 102
(2) سورة البقرة الآية 103
(3) سورة طه الآية 69
(4) سورة الأعراف الآية 117
(5) سورة الأعراف الآية 118
(6) صحيح البخاري الوصايا (2767) ، صحيح مسلم الإيمان (89) ، سنن النسائي الوصايا (3671) ، سنن أبو داود الوصايا (2874) .(20/8)
كما قال تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} (1) وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «حد الساحر ضربه بالسيف (2) » وصح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر بقتل السحرة من الرجال والنساء، وهكذا صح عن جندب الخير الأزدي أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعن حفصة أم المؤمنين رضي الله عن الجميع، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناس عن الكهان، فقال: ليسوا بشيء، فقالوا يا رسول الله، إنهم يحدثونا أحيانا بشيء فيكون حقا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني، فيقرها في أذن وليه فيخلطوا معها مائة كذبة (3) » رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه ابن عباس رضي الله عنهما «من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد (4) » رواه أبو داود وإسناده صحيح. وللنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه «من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك ومن تعلق شيئا وكل إليه (5) » .
وهذا يدل على أن السحر شرك بالله تعالى كما تقدم وذلك لأنه لا يتوصل إليه إلا بعبادة الجن وعبادتهم شرك بالله عز وجل.
فالكاهن من يزعم أنه يعلم بعض المغيبات، وأكثر ما يكون ذلك ممن ينظرون في النجوم لمعرفة الحوادث أو يستخدمون من يسترقون السمع من شياطين الجن كما ورد بالحديث الذي مر ذكره ومثل هؤلاء من يخط في الرمل أو ينظر في الفنجان أو في الكف ونحو ذلك وكذا من يفتح الكتاب زعما منهم أنهم يعرفون بذلك علم الغيب وهم كفار
__________
(1) سورة البقرة الآية 102
(2) سنن الترمذي الحدود (1460) .
(3) صحيح البخاري الطب (5762) ، صحيح مسلم السلام (2228) ، مسند أحمد بن حنبل (6/87) .
(4) سنن أبو داود الطب (3905) ، سنن ابن ماجه الأدب (3726) ، مسند أحمد بن حنبل (1/311) .
(5) سنن النسائي تحريم الدم (4079) .(20/9)
بهذا الاعتقاد؛ لأنهم بهذا الزعم يدعون مشاركة الله في صفة من صفاته الخاصة به وهي علم الغيب ولتكذيبهم بقوله: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (1) وقوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (2) وقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} (3) الآية ومن أتاهم وصدقهم بما يقولون من علم الغيب فهو كافر.
لما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (4) » ، ولما رواه أصحاب السنن والحاكم وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (5) » ، وروى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما (6) » .
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له أو سحر أو سحر له ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (7) » .
رواه البزار بإسناد جيد، وبما ذكرنا من الأحاديث يتبين لطالب الحق أن علم النجوم وما يسمى بالطالع وقراءة الكف وقراءة الفنجان ومعرفة الحظ وما أشبه ذلك مما يدعيه الكهنة والعرافون والسحرة كلها
__________
(1) سورة النمل الآية 65
(2) سورة الأنعام الآية 59
(3) سورة الأنعام الآية 50
(4) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/429) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .
(5) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/476) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .
(6) صحيح مسلم السلام (2230) ، مسند أحمد بن حنبل (4/68) .
(7) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/476) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .(20/10)
من علوم الجاهلية التي حرمها الله ورسوله، ومن أعمالهم التي جاء الإسلام بإبطالها والتحذير من فعلها أو إتيان من يتعاطاها وسؤاله عن شيء منها أو تصديقه فيما يخبر به من ذلك؛ لأنه من علم الغيب الذي استأثر الله به.
ونصيحتي لكل من يتعلق بهذه الأمور أن يتوب إلى الله ويستغفره وأن يعتمد على الله وحده ويتوكل عليه في كل الأمور مع أخذه بالأسباب الشرعية والحسية المباحة، وأن يدع هذه الأمور الجاهلية ويبتعد عنها، ويحذر سؤال أهلها أو تصديقهم؛ طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وحفاظا على دينه وعقيدته، وحذرا من غضب الله عليه، وابتعادا عن أسباب الشرك والكفر التي من مات عليها خسر الدنيا والآخرة.
نسأل الله العافية من ذلك ونعوذ به سبحانه من كل ما يخالف شرعه أو يوقع في غضبه كما نسأله سبحانه أن يوفقنا وجميع المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه وأن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن ومن شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(20/11)
صفحة فارغة(20/12)
التأمين
القسم الثاني
ب- قياس عقد التأمين على الوعد الملزم عند المالكية:
فيما يلي كلام العلماء السابقين في الوعد هل يجب الوفاء به أو لا. ثم ما تيسر من كلام علماء العصر في هذا الدليل مع المناقشة.
قال أحمد بن علي الرازي في كلامه على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1) {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (2) قال أبو بكر يحتج به في أن كل من ألزم نفسه عبادة أو قربة أو أوجب على نفسه عقدا لزمه الوفاء به إذ ترك الوفاء به يوجب أن يكون قائلا ما لا يفعل وقد ذم الله فاعل ذلك، وهذا فيما لم يكن معصية. وكذلك الوعد بفعل يفعله في المستقبل وهو مباح، فإن الأولى الوفاء مع الإمكان، فأما قول القائل: إني سأفعل كذا فإن ذلك مباح له على شريطة استثناء مشيئة الله، وأن يكون في عقد ضميره الوفاء به ولا جائز له أن يعدو في ضميره أن لا يفي به؛ لأن ذلك هو المحظور الذي نهى الله عنه، ومقت فاعله عليه وإن كان في عقد ضميره الوفاء به، ولم يقرنه بالاستثناء فإن ذلك مكروه؛ لأنه لا يدري هل يقع منه الوفاء به أم لا فغير جائز له إطلاق القول في مثله مع خوف إخلاف فيه (3) .
__________
(1) سورة الصف الآية 2
(2) سورة الصف الآية 3
(3) أحكام القرآن 3 \ 543 وما بعدها.(20/13)
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية: قال ابن العربي: فإن كان المقول منه وعدا فلا يخلو أن يكون منوطا بسبب كقوله: إن تزوجت أعنتك بدينار أو ابتعت حاجة كذا أعطيتك كذا، فهذا لازم إجماعا من الفقهاء، وإن كان وعدا مجردا، فقيل: يلزم وتعلقوا بسبب الآية فإنه روي- أنهم كانوا يقولون- لو نعلم أي الأعمال أفضل أو أحب إلى الله لعملناه فأنزل الله تعالى هذه الآية وهو حديث لا بأس به، وقد روي عن مجاهد أن عبد الله بن رواحة لما سمعها قال: لا أزال حبيسا في سبيل الله حتى أقتل، والصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر. قلت: قال مالك: فأما العدة مثل أن يسأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة، فيقول له: نعم، ثم يبدو له أن لا يفعل فما أرى ذلك يلزمه، وقال ابن القاسم: إذا وعد الغرماء، فقال: أشهدكم أني وهبت له من أن يؤدي إليكم فإن هذا يلزمه، وإما أن يقول: أنا أفعل، ثم يبدو له فلا أرى عليه ذلك. قلت: أي لا يقضي عليه بذلك، فأما مكارم الأخلاق وحسن المروءة فنعم، وقد أثنى الله على من صدق وعده ووفى بنذره، فقال: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} (1) وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (2) وقد تقدم بيانه.
وقال القرطبي أيضا: الرابعة قوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (3) استفهام على جهة الإنكار والتوبيخ على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله، أما في الماضي فيكون كذبا، وأما في المستقبل
__________
(1) سورة البقرة الآية 177
(2) سورة مريم الآية 54
(3) سورة الصف الآية 2(20/14)
فيكون خلفا وكلاهما مذموم وتأول سفيان بن عيينة قوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1) أي: لم تقولون ما ليس الأمر فيه إليكم فلا تدرون هل تفعلون أو لا تفعلون؛ فعلى هذا يكون الكلام محمولا على ظاهره في إنكار القول.
وقال القرطبي أيضا: وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي وسائر الفقهاء: إن العدة لا يلزمه منها شيء؛ لأنها منافع لم يقبضها في العارية؛ لأنها طارئة وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض فلصاحبها الرجوع. انتهى المقصود.
وقال القرافي: الفرق الرابع عشر والمائتان بين قاعدة الكذب وقاعدة الوعد وما يجب الوفاء به منه وما لا يجب.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (2) {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (3) والوعد إذا أخلف قول لم يفعل فيلزمه أن يكون كذبا محرما وأن يحرم إخلاف الوعد مطلقا. وقال عليه السلام: «من علامة المنافق ثلاث: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف (4) » فذكره في سياق الذم دليل على التحريم، ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «وأي المؤمن واجب» أي وعده واجب الوفاء به. وفي الموطأ «قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذب لامرأتي؟ فقال عليه السلام: لا خير في الكذب، فقال: يا رسول الله أفأعدها وأقوله لها؟ فقال عليه السلام: لا جناح عليك (5) » ، فمنعه من الكذب المتعلق بالمستقبل، فإن رضا النساء إنما يحصل به، ونفى الجناح على الوعد وهو يدل على أمرين:
__________
(1) سورة الصف الآية 2
(2) سورة الصف الآية 2
(3) سورة الصف الآية 3
(4) صحيح البخاري الإيمان (33) ، صحيح مسلم الإيمان (59) ، سنن الترمذي الإيمان (2631) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5021) ، مسند أحمد بن حنبل (2/536) .
(5) موطأ مالك الجامع (1859) .(20/15)
أحدهما: أن إخلاف الوعد لا يسمى كذبا لجعله قسيم الكذب.
وثانيهما: أن إخلاف الوعد لا حرج فيه، ولو كان المقصود الوعد الذي يفي به لما احتاج للسؤال عنه، ولما ذكره مقرونا بالكذب، ولكن قصده إصلاح حال امرأته بما لا يفعله فتخيل الحرج في ذلك فاستأذن عليه.
وفي أبي داود قال عليه السلام: «إذا وعد أحدكم أخاه ومن نيته أن يفي فلم يف فلا شيء عليه (1) » . فهذه الأدلة تقتضي عدم الوفاء بالوعد وأن ذلك مباح، والكذب ليس بمباح فلا يكون الوعد يدخله الكذب عكس الأدلة الأولى. واعلم أنا إذا فسرنا الكذب بالخبر الذي لا يطابق لزم دخول الكذب في الوعد بالضرورة مع أن ظاهر الحديث يأباه، وكذلك عدم التأثيم فمن الفقهاء من قال: الكذب يختص بالماضي والحاضر، والوعد إنما يتعلق بالمستقبل فلا يدخله الكذب، وسيأتي الجواب عن الآية ونحوها إن شاء الله تعالى.
ومنهم من يقول: لم يتعين عدم المطابقة في المستقبل بسبب أن المستقبل زمان يقبل الوجود والعدم ولم يقع فيه بعد وجود ولا عدم؛ فلا يوصف الخبر عند الإطلاق بعدم المطابقة ولا بالمطابقة؛ لأنه لم يقع بعد ما يقتضي أحدهما. وحيث قلنا: الصدق القول المطابق، والكذب القول الذي ليس بمطابق ظاهر في وقوع وصف المطابقة أو عدمها بالفعل، وذلك مختص بالحال والماضي، وأما المستقبل فليس فيه إلا قبول المطابقة وعدمها، ونحن متى حددنا بوصف نحو قولنا في الإنسان: الحيوان الناطق أو نحوه، إنما نريد الحياة والنطق بالفعل لا بالقول، وإلا لكان الجماد والنبات كله إنسانا؛ لأنه قابل للحياة والنطق، وهذا التعليل يؤيد القول الأول.
ومنهم من يقول: الكل يدخله الكذب وإنما سومح في الوعد تكثيرا للعدة بالمعروف؛ فعلى هذا لا فرق بين الكذب والوعد، والأول هو الذي
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2633) ، سنن أبو داود الأدب (4995) .(20/16)
ظهر لي لعدم تعيين المطابقة وعدمها اللذين هما ضابطا الصدق والكذب، وعلى ذلك يقع الفرق بينه وبين الكذب وبين الصدق فلا يوصف بواحد منهما، ويختص بالماضي والحاضر- وبعد إيراده اعتراضا وإجابته عنه قال: واعلم أن الفقهاء اختلفوا في الوعد هل يجب الوفاء به شرعا أم لا؟ قال مالك: إذا - سألك أن تهب له دينارا فقلت: نعم، ثم بدا لك لا، يلزمك ولو كان افتراق الغرماء عن وعد وإشهاد لأجله لزمك لإبطالك مغرما بالتأخير.
قال سحنون: الذي يلزم من الوعد قوله: اهدم دارك وأنا أسلفك ما تبني به، واخرج إلى الحج وأنا أسلفك، أو اشتر سلعة، أو تزوج امرأة وأنا أسلفك؛ لأنك أدخلته بوعدك في ذلك، أما مجرد الوعد فلا يلزم الوفاء به، بل الوفاء به من مكارم الأخلاق، وقال أصبغ: يقضي عليك به تزوج الموعود أم لا. وكذا أسلفني لأشتري سلعة كذا، لزمك، تسبب في ذلك أم لا. والذي لا يلزم من ذلك أن تعده، من غير ذكر سبب، فيقول: أسلفني كذا فتقول: نعم. بذلك قضى عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - وإن وعدت غريمك بتأخير الدين لزمك؛ لأنه إسقاط لازم للحق سواء قلت: له أؤخرك أو أخرتك، وإذا أسلفته فعليك تأخيره مدة تصلح لذلك، وحينئذ تقول مرجع الجمع بين الأدلة المتقدمة التي يقتضي بعضها الوفاء به وبعضها عدم الوفاء به: إنه إن أدخله في سبب يلزم بوعده لزم كما قال مالك وابن القاسم وسحنون، أو وعده مقرونا بذكر السبب كما قال أصبغ لتأكد العزم على الدفع حينئذ، ويحمل عدم اللزوم على خلاف ذلك مع أنه قد قيل في الآية إنها نزلت في قوم كانوا يقولون: جاهدنا، وما جاهدوا، وفعلنا أنواعا من الخيرات، وما فعلوها ولا شك أن هذا محرم؛ لأنه كذب، ولأنه تسميع بطاعة الله وكلاهما محرم(20/17)
ومعصية اتفاقا، وأما ما ذكر من الإخلاف في صفة المنافق فمعناه أنه سجية له ومقتضى حاله الإخلاف ومثل هذه السجية يحسن الذم بها كما يقال: سجيته تقتضي البخل والمنع فمن كانت صفاته تحث على الخير مدح، أو تحث على الشر ذم شرعا وعرفا، واعلم أنه لا بد في هذا الفرق من مخالفة بعض الظواهر إن جعلنا الوعد يدخله الكذب بطل لقوله عليه السلام للسائل لما قال: له أأكذب لامرأتي؟ قال: «لا خير في الكذب (1) » وأباح له الوعد وهو ظاهر في أنه ليس بكذب ولا يدخله الكذب، ولأن الكذب حرام إجماعا فيلزم معصيته فيجب الوفاء به نفيا للمعصية وليس كذلك، وإن قلنا: إن الكذب لا يدخله ورد علينا ظواهر وعد الله ووعيده فلا بد من الجمع بينهما وما ذكرته أقرب الطرق في ذلك (2) .
وقال ابن حجر قوله: " باب من أمر بإنجاز الوعد " وجه تعلق هذا الباب بأبواب الشهادات أن وعد المرء كالشهادات على نفسه، قاله الكرماني، وقال المهلب: إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع وليس بفرض؛ لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء. اهـ.
ونقل الإجماع في ذلك مردود، فإن الخلاف مشهور، لكن القائل به قليل، وقال ابن عبد البر وابن العربي: أجل من قال به عمر بن عبد العزيز وعن بعض المالكية إن ارتبط الوعد بسبب وجب الوفاء به وإلا فلا، فمن قال لآخر: تزوج ولك كذا فتزوج لذلك وجب الوفاء به. وخرج بعضهم الخلاف على أن الهيئة هل تملك بالقبض أو قبله، وقرأت بخط أبي رحمه الله في إشكالات على الأذكار للنووي " ولم يذكر جوابا عن الآية يعني قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (3)
__________
(1) موطأ مالك الجامع (1859) .
(2) الفروق 4 \ 20- 25.
(3) سورة الصف الآية 3(20/18)
وحديث آية المنافق - قال: والدلالة للوجوب منها قوية فكيف حملوه على كراهة التنزيه مع الوعيد الشديد، وينظر هل يمكن أن يقال يحرم الإخلاف ولا يجب الوفاء؟ أي يأثم بالإخلاف وإن كان لا يلزم بوفاء ذلك (1) .
وقال محمد بن مفلح: ولا يلزم الوفاء بالوعد، نص عليه (وهـ ش) لأنه يحرم بلا استثناء لقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} (2) {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (3) .
ولأنه في معنى الهبة قبل القبض. وذكر شيخنا وجها: يلزم، واختاره، ويتوجه أنه رواية من تأجيل العارية والصلح عن عوض المتلف بمؤجل. ولما قيل للإمام أحمد: بم يعرف الكذابون؟ قال بخلف المواعيد، وهذا متجه، وقاله من الفقهاء ابن شبرمة، وقال ابن العربي المالكي: أجل من قاله عمر بن عبد العزيز لقوله: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ} (4) ولخبر «آية المنافق ثلاث. إذا وعد أخلف (5) » وحملا على وعد واجب. وبإسناد حسن «العدة عطية» وبإسناد ضعيف «العدة دين» أبو مسعود الدمشقي والبرقاني أن مسلما روى «ولا يعد الرجل صبيه ثم يخلفه (6) » . ورواه ابن ماجه من حديث ابن مسعود بإسناد حسن «ثم لا يفي له فإن الكذب يهدي إلى الفجور (7) » . وفيه «والسعيد من وعظ بغيره (8) » . وفيه عبيد بن ميمون المدني روى عنه غير واحد، ووثقه ابن حبان وقال أبو حاتم مجهول، وعن ابن مسعود مرفوعا «لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده، ثم تخلفه (9) » . رواه الترمذي وغيره.
__________
(1) فتح الباري 5 \ 290 طبع المطبعة السلفية ومكتبتها.
(2) سورة الكهف الآية 23
(3) سورة الكهف الآية 24
(4) سورة الصف الآية 3
(5) خرجه الشيخان في صحيحهما عن أبي هريرة.
(6) سنن ابن ماجه المقدمة (46) .
(7) سنن ابن ماجه المقدمة (46) ، مسند أحمد بن حنبل (1/405) ، سنن الدارمي الرقاق (2715) .
(8) صحيح مسلم القدر (2645) .
(9) سنن الترمذي البر والصلة (1995) .(20/19)
قال ابن الجوزي: فائدة الاستثناء خروجه من الكذب إذا لم يفعل كقوله: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} (1) وذكر القاضي في مسألة الفرار من الزكاة لما قيل له: إن أصحاب الجنة عوقبوا على ترك الاستثناء في القسم، قال: لا؛ لأنه مباح، وعلى أن الوعيد عليهما. ومذهب "م" يلزم لسبب، كمن قال لغيره: تزوج وأعطيك كذا، واحلف لا تشتمني ولك كذا وإلا لم يلزم، وقد روى أبو داود والترمذي، عن أبي النعمان، عن أبي وقاص - ولا يعرفان- عن زيد بن أرقم مرفوعا: «إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفي فلم يف ولم يجئ للميعاد فلا إثم عليه (2) » وتقدم آخر كتاب العهد وأنه غير الوعد، ويكون بمعنى اليمين والأمان والذمة والحفظ والرعاية والوصية وغير ذلك، وفي سيد الاستغفار «وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت (3) » قال ابن الجوزي: قال المفسرون العهد الذي يجب الوفاء به الذي يحسن فعله، والوعد من العهد، وقال في {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} (4) عام فيما بينه وبين ربه وبين الناس، ثم قال الزجاج: كل ما أمر الله به أو نهى عنه فهو من العهد (5) .
وقال ابن حزم: مسألة، ومن وعد آخر بأن يعطيه مالا معينا أو غير معين أو بأنه يعينه في عمل ما حلف له على ذلك أو لم يحلف لم يلزمه الوفاء به ويكره له ذلك، وكان الأفضل لو وفى به، وسواء أدخله بذلك في نفقته أو لم يدخله كمن قال: تزوج فلانة وأنا أعينك في صداقها بكذا
__________
(1) سورة الكهف الآية 69
(2) سنن الترمذي الإيمان (2633) ، سنن أبو داود الأدب (4995) .
(3) خرجه البخاري والنسائي وأحمد عن شداد بن أوس.
(4) سورة الإسراء الآية 34
(5) الفروع 6 \ 415 - 416.(20/20)
وكذا أو نحو هذا وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأبي سليمان، وقال مالك لا يلزمه شيء من ذلك إلا أن يدخله بموعد في كلفة فيلزمه ويقضي عليه، وقال ابن شبرمة: الوعد كله لازم ويقضي به على الواعد ويجبر.
فأما تقسيم مالك فلا وجه له، ولا برهان يعضده لا من قرآن ولا سنة ولا قول صاحب ولا قياس.
فإن قالوا: قد أضر به إذ كلفه من أجل وعده عملا ونفقة. قلنا: فهبكم أنه كما تقولون من أين وجب على من أضر بآخر وظلمه وغره أن يغرم له مالا؟ ما علمنا هذا في دين الله تعالى إلا حيث جاء به النص فقط، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه.
وأما من ذهب إلى قول ابن شبرمة فإنهم احتجوا بقول الله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1) والخبر الصحيح من طريق عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر (2) » .
والآخر الثابت من طريق أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «من علامة النفاق ثلاثة وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان (3) » .
فهذان أثران في غاية الصحة، وآثار أخر لا تصح، أحدها من طريق
__________
(1) سورة الصف الآية 3
(2) هذا الحديث متفق عليه.
(3) متفق عليه.(20/21)
الليث، عن ابن عجلان أن رجلا من موالي عبد الله بن عامر بن ربيعة العدوي حدثه، عن عبد الله بن عامر قالت لي أمي: هاه تعال أعطك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أردت أن تعطيه؟ فقالت أعطيه تمرا، فقال لها عليه السلام أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة (1) » هذا لا شيء؛ لأنه عمن لم يسم.
وآخر من طريق ابن وهب أيضا، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وأي المؤمن حق واجب (2) » هشام بن سعد ضعيف وهو مرسل.
ومن طريق ابن وهب، عن إسماعيل بن عياش عن أبي إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ولا تعد أخاك وعدا فتخلفه فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة (3) » . وهذا مرسل، وإسماعيل بن عياش ضعيف.
ومن طريق ابن وهب، أخبرني الليث بن سعد، عن عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال لصبي تعال هاه لك، ثم لم يعطه شيئا فهي كذبة (4) » ابن شهاب كان إذ مات أبو هريرة ابن أقل من تسع سنين لم يسمع منه كلمة، وأبو حنيفة ومالك يرون المرسل كالمسند، ويحتجون بما ذكرنا فيلزمهما أن يقضوا بإنجاز الوعد على الواعد ولا بد وإلا فهم متناقضون فلو صحت هذه الآثار لقلنا بها.
وأما الحديثان اللذان صدرنا بهما فصحيحان إلا أنه لا حجة فيهما علينا؛ لأنهما ليسا على ظاهرهما؛ لأن من وعد بما لا يحل أو عاهد على
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (4991) ، مسند أحمد بن حنبل (3/447) .
(2) رواه أبو داود في مراسيله والوأي: الوعد لفظا ومعنى.
(3) سنن الترمذي البر والصلة (1995) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (2/452) .(20/22)
معصية فلا يحل له الوفاء بشيء من ذلك، كمن وعد بزنا أو بخمر أو بما يشبه ذلك، فصح أن ليس كل من وعد فأخلف أو عاهد فغدر مذموما ولا ملوما ولا عاصيا بل قد يكون مطيعا مؤدي فرض، فإن ذلك كذلك فلا يكون فرضا من إنجاز الوعد والعهد إلا على من وعد، كإنصاف من دين أو أداء حق فقط، وأيضا فإن من وعد وحلف واستثنى فقد سقط عنه الحنث بالنص والإجماع المتيقن فإذا سقط عنه الحنث لم يلزمه فعل ما حلف عليه، ولا فرق بين وعد أقسم عليه وبين وعد لم يقسم عليه، وأيضا فإن الله تعالى يقول: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} (1) {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (2) فصح تحريم الوعد بغير استثناء فوجب أن من وعد ولم يستثن فقد عصى الله تعالى في وعده ذلك، ولا يجوز أن يجبر أحد أحدا على معصية، فإن استثنى، فقال: إن شاء الله تعالى، أو إلا أن يشاء الله تعالى، أو نحوه مما يعلقه بإرادة الله عز وجل فلا يكون مخلفا لوعده إن لم يفعل؛ لأنه إنما وعده أن يفعل إن شاء الله تعالى، وقد علمنا أن الله تعالى لو شاء لأنفذه، فإن لم ينفذه فلم يشأ الله تعالى كونه.
وقول الله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (3) على هذا أيضا مما يلزمهم كالذي وصف الله تعالى عنه إذ يقول: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} (4) {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (5) {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} (6) فصح ما قلنا؛ لأن الصدقة واجبة والكون من الصالحين واجب فالوعد والعهد
__________
(1) سورة الكهف الآية 23
(2) سورة الكهف الآية 24
(3) سورة الصف الآية 3
(4) سورة التوبة الآية 75
(5) سورة التوبة الآية 76
(6) سورة التوبة الآية 77(20/23)
بذلك فرضان فرض إنجازهما، وبالله التوفيق، وأيضا هذا نذر من هذا الذي عاهد الله تعالى على ذلك والنذر فرض (1) .
وأما كلام علماء العصر في هذا الدليل، فقال الأستاذ مصطفى الزرقا:
وأما قاعدة الالتزامات والوعد الملزم عند المالكية فخلاصتها أن الشخص إذا ما وعد غيره عدة بقرض أو يتحمل وضيعة عنه " أي خسارة " أو إعارة أو نحو ذلك مما ليس بواجب عليه في الأصل فهل يصبح بالوعد ملزما ويقضي عليه بموجبه إن لم يف له، أو لا يكون ملزما؟ اختلف فقهاء المالكية في ذلك على أربعة آراء قد فصلها الحطاب في رسالته في الالتزامات، ونقلها عنه الشيخ محمد عليش في فتاواه المسماة فتح العلي المالك- ج 2 ص 255- في بحث مسائل الالتزام فمنهم من يقول: يقضي بالعدة مطلقا أي أنها ملزمة له، ومنهم من يقول: لا يقضي بها مطلقا أي أنها غير ملزمة، ومنهم من يقول: إن العدة تلزم الواعد فيقضي بها إذا ذكر لها سبب وإن لم يباشر الموعود ذلك السبب، كما لو قال لآخر: إني أعيرك بقري ومحراثي لحراثة أرضك، أو أريد أن أقرضك كذا لتتزوج، أو قال الطالب لغيره: أريد أن أسافر أو أن أقضي ديني فأسلفني مبلغ كذا، فوعده بذلك، ثم بدا له فرجع عن وعده قبل أن يباشر الموعود السبب الذي ذكر من سفر أو وفاء دين- أو حراثة أرض إلخ. . . فإن الواعد ملزم ويقضى عليه بالتنفيذ جبرا إن امتنع.
ومنهم من يقول: لا يلزم بوعده إلا إذا دخل الموعود في سبب ذكر في الوعد أي إذا باشر السبب، كما إذا وعده بأن يسلفه ثمن شيء يريد شراءه فاشتراه فعلا، ومبلغ المهر في الزواج فتزوج ونحو ذلك وهذا هو الراجح في المذهب من بين هذه الآراء الأربعة.
__________
(1) المحلى لابن حزم 8 \ 26 - 28.(20/24)
أما عند الحنفية فإن المواعيد ملزمة إلا في حالات ضيقة إذا صدرت بطريق التعاون فإذا نظرنا إلى مذهب المالكية الأوسع في هذه القضية فإننا نجد في قاعدة الالتزامات هذه متسعا لتخرج عقد التأمين على أساس أنه التزام من المؤمن للمستأمنين ولو بلا مقابل على سبيل الوعد أن يتحمل عنه أضرار الحادث الخطر الذي هو معرض له، أي أن يعوض عليه الخسائر، فقد نص المالكية أصحاب الرأي الرابع وهو الرأي الأضيق على أن لو قال شخص لآخر: بع كرمك الآن وإن- لحقتك من هذا البيع وضيعة " أي خسارة " فأنا أرضيك فباعه بالوضيعة، كان على القائل أن يرضيه بما يشبه ثمن ذلك الشيء المبيع والوضيعة فيه " أي أن يتحمل عنه مقدار الخسارة "، وهو قول ابن وهب. قال أصبغ: وقول ابن وهب هذا هو أحب إلي. قال ابن رشد: لأنها عدة على سبب وهو البيع، والعدة إذا كانت على سبب لزمت بحصول السبب في المشهور من الأقوال " فتاوى عليش من المحل الآنف الذكر".
ولا يخفى أن أقل ما يمكن أن يقال في عقد التأمين أنه التزام تحمل الخسائر عن الموعود في حادث معين محتمل الوقوع بطريق الوعد الملزم نظير الالتزام بتحمل خسارة المبيع عن البائع مما نص عليه المالكية على سبيل المثال لا على سبيل الحصر (1) .
ويمكن أن يجاب عن ذلك بأمور:
الأول: أن عقد التأمين من عقود المعاوضات، والوعد الملزم من عقود التبرعات فلا يصح أن يقاس معاوضة على عقد تبرع لاختلافهما في التقعيد.
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي \ 410.(20/25)
الثاني: أن العوض في الوعد الملزم معلوم عند الطرفين ابتداء، وأما ما تدفعه الشركة فهو مجهول لا يعلم لكل واحد من الطرفين إلا بعد وقوع الخطر؛ فلا يصح قياس مجهول على معلوم.
الثالث: الوعد الملزم لا يجب الوفاء به إلا إذا تسبب الموعود بالدخول في الأمر الموعود من أجله، وأما في التأمين فإن المستأمن لا يستحق شيئا إذا دخل بنفسه فأتلف المؤمن عليه قصدا، ويستحق ما سوى هذه الصورة من صور التأمين، فالصورتان مختلفتان في تحقيق المناط؛ فلا يصح القياس وبيان ذلك أنه في الوعد الملزم إذا تحقق الحكم الوضعي تحقق بعده الحكم التكليفي، وفي التأمين إذا انتفى الحكم الوضعي وهو تسبب المستأمن استحق المبلغ، وإذا ثبت الحكم الوضعي وهو التسبب من المستأمن انتفى الاستحقاق.(20/26)
جـ - قياس عقد التأمين على عقد المضاربة:
نذكر فيما يلي ما تيسر من كلام العلماء السابقين فيها، ثم نتبع ذلك بكلام العلماء المعاصرين.
أما كلام العلماء السابقين فقد قالوا في تعريف المضاربة: أن يدفع مالا إلى غيره ليتجر فيه ويكون الربح بينهما على ما شرطا، فيكون الربح لرب المال بسبب ماله؛ لأنه نماء ماله وللمضارب باعتبار عمله الذي هو سبب وجود الربح. وأما بيان أنواعها وشروطها وأحكامها، فقال: السمرقندي: ثم هي نوعان مطلقة وخاصة، أما المطلقة: فأن يدفع المال إلى رجل ويقول: دفعت هذا المال إليك مضاربة على أن الربح بيننا نصفان (1) .
__________
(1) تحفة الفقهاء 3 \ 23.(20/26)
وقال أيضا: ومن شروط صحتها أن يكون الربح جزءا مشاعا في الجملة. ومنها إعلام قدر الربح؛ لأن الربح هو المقصود فجهالته توجب فساد العقد فكل شرط يؤدي إلى جهالة الربح يفسد المضاربة (1) .
وقال أيضا: المضاربة تشتمل على أحكام مختلفة- إذا دفع المال إلى المضارب فهو أمانة في يده في حكم الوديعة؛ لأنه قبضه بأمر المالك لا على طريق البدل والوثيقة. فإذا اشترى به فهو وكالة؛ لأنه تصرف في مال الغير بإذنه، فإذا ربح صار شركة؛ لأنه ملك جزءا من المال بشرط العمل والباقي نماء مال المالك فهو له فكان مشتركا بينهما، فإذا فسدت المضاربة بوجه من الوجوه صارت إجارة؛ لأن الواجب فيها أجر المثل، وذلك يجب في الإجارات، فإن خالف المضارب صار غاصبا والمال مضمون عليه؛ لأنه تعدى في ملك غيره (2) .
وجاء في مدونة الإمام مالك رحمه الله: قلت: أرأيت المقارضة على النصف أو الخمس أو السدس، أو أقل من ذلك أو أكثر؟ قال: فلا بأس بذلك عند مالك. . . قلت: أرأيت إن دفعت إلى أجل مالا قراضا ولم أسم له ثلثا ولا ربعا ولا نصفا، ولا أكثر من أن قلت له: خذ هذا المال قراضا، فعمل فربح، وتصادق رب المال والعامل على ذلك قال يرد إلى قراض مثله (3) .
وقال ابن جزي: وإنما يجوز بستة شروط. . . الثاني: أن يكون
__________
(1) تحفة الفقهاء 3 \ 24.
(2) تحفة الفقهاء 3 \ 25 -26 ويرجع أيضا إلى 6 \ 86 - 87 وما بعدها من بدائع الصنائع.
(3) المدونة 4 \ 48.(20/27)
الجزء مسمى كالنصف ولا يجوز أن يكون مجهولا. . . السادس: أن لا يشترط أحدهما لنفسه شيئا ينفرد به من الربح، ويجوز أن يشترط العامل الربح كله خلافا للشافعي (1) .
وقال أيضا: فروع سبعة- الفرع الأول: إذا وقع القراض فاسدا فسخ، فإن فات- بالعمل أعطي العمل قراض المثل عند أشهب، وقيل: أجرة المثل مطلقا وفاقا لهما، وقال ابن القاسم: أجرة المثل إلا في أربعة مواضع وهي قرض بعرض أو لأجل أو لضمان أو بحظ مجهول. . . الفرع الثالث: لا يفسخ القراض بموت أحد المتقارضين ولورثة العامل القيام به إن كانوا أمناء أو يأتون بأمين. . . إلخ (2) .
وقال النووي: الركن الثالث: الربح، وله أربعة شروط. . . الشرط الثالث أن يكون معلوما، فلو قال: قارضتك على أن لك في الربح شركا أو شركة أو نصيبا فسد. الشرط الرابع: أن يكون العلم به من حيث الجزئية لا من حيث التقدير، فلو قال: لك من الربح أو لي منه درهم أو مائة، والباقي بيننا نصفين فسد القراض (3) . . .
وقال أيضا: إذا فسد القراض بتخلف بعض الشروط فله ثلاثة أحكام. أحدها تنفذ تصرفاته كنفوذها في القراض الصحيح لوجود الإذن كالوكالة الفاسدة. الثاني: سلامة الربح بكماله للمالك. الثالث: استحقاق العامل أجرة مثل عمله سواء كان في المال ربح أم لا، وهذه الأحكام مطردة في صور الفساد (4) .
__________
(1) القوانين الفقهية 309.
(2) القوانين الفقهية 309 - 310.
(3) الروضة 5 \ 122 - 123.
(4) الروضة 5 \ 125.(20/28)
وقال ابن قدامة: والشرط في المضاربة على ضربين؛ صحيح: مثل أن يشترط ألا يتجر إلا في نوع معين أو بلد معين، أو لا يعامل إلا شخصا معينا، وفاسد وهو على ضربين - أحدهما: أن يضاربه ولا يذكر الربح أو يشترط جزءا من الربح لأحدهما ولأجنبي، والباقي بينهما، أو يقول: خذه مضاربة والربح كله لك، أو كله لي وما أشبه هذا مما يعود بجهالة الربح، فإن المضاربة تفسد والربح كله لرب المال، وللمضارب الأجر، والثاني: أن يشترط عليه ضمان المال من الوديعة. فهل يبطل العقد بهذا على روايتين (1) .
وقال الشيخ مرعي بن يوسف: والمضارب أمين بالقبض وكيل بالتصرف، شريك بالربح، أجير بالفساد، غاصب بالتعدي، مقترض باشتراط كل الربح له، مستبضع باشتراط كل الربح لرب المال (2) .
__________
(1) كتاب الهادي وعمدة الحازم 116.
(2) غاية المنته 2 \ 171.(20/29)
وأما كلام العلماء المعاصرين:
فقال الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير بعد ذكره لفتوى الشيخ محمد عبده:
ثم جاء بعد الشيخ محمد عبده الأستاذ عبد الوهاب خلاف، وقال بجواز عقد التأمين على الحياة وأنه عقد مضاربة؛ لأن عقد المضاربة في الشريعة هو عقد شركة في الربح بمال من طرف وعمل من طرف آخر، وفي التأمين المال من جانب المشتركين الذين يدفعون الأقساط والعمل من جانب الشركة التي تستغل هذه الأموال، والربح للمشتركين وللشركة حسب التعاقد وقد أورد الأستاذ خلاف نفسه على هذا القياس اعتراضا هو أن شرط صحة المضاربة أن يكون الربح بين صاحب المال والقائم بالعمل شائعا بالنسبة، وفي التأمين يشترط للمشترك قدر معين في الربح = 3 % أو 4 % فالمضاربة غير صحيحة.
وأجاب عنه: أولا بما جاء في تفسير آيات الربا في سورة البقرة للشيخ محمد عبده وهو: لا يدخل في الربا المحرم بالنص الذي لا شك في تحريمه من يعطي آخر مالا يستغله ويجعل له من كسبه حظا معينا؛ لأن مخالفة أقوال الفقهاء في اشتراط أن يكون نسبيا لاقتضاء المصلحة ذلك لا شيء فيه وهذه المعاملة نافعة لرب المال والعامل معا. . .
ثانيا: بأن اشتراط أن يكون الربح نصيبا لا قدرا معينا خالف فيه بعض المجتهدين من الفقهاء وليس حكما مجمعا عليه (1) .
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي 454.(20/30)
مناقشة هذا الدليل:
قال الشيخ محمد بخيت المطيعي: ولا يجوز أن يكون العقد المذكور - أي عقد التأمين- عقد مضاربة كما فهمه بعض العصريين؛ لأن عقد المضاربة يلزم أن يكون المال من جانب المالك والعمل من المضارب والربح على ما اشترطاه والعقد المذكور ليس كذلك؛ لأن أهل القومبانية " الشركة " يأخذون المال على أن يكون لهم يعملون فيه لأنفسهم فيكون عقدا فاسدا شرعا؛ لأنه معلق على خطر؛ تارة يقع وتارة لا يقع فهو قمار معنى (1) .
وقال الأستاذ محمد كامل البناء: إن هناك فرقا واضحا يتعذر معه قياس عقد التأمين على المضاربة وهو أن رب المال يتحمل الخسارة وحده وليس الأمر كذلك في التأمين، كما أنه لو مات رب المال في المضاربة فليس لورثته إلا ما دفعه مورثهم لا يزيد شيئا، أما في التأمين فإنه لو مات المؤمن استحق صاحب منفعة التأمين مبلغا ضخما وهذه مخاطرة ينهى عنها الشارع؛ لأن ذلك لا ضابط له إلا الحظوظ والمصادفات (2) .
وقال الأستاذ الدكتور مصطفى زيد: الواقع أن عقد التأمين كان يمكن أن يكون من عقود المضاربة لولا أمران: أولهما أن طبيعة المضاربة تقتضي الاشتراك في الربح أو الخسارة، وليس في طبيعة عقد التأمين أي تعرض للخسارة، والثاني أنه من شروط المضاربة أن يكون الربح نسبيا غير محدد (3) .
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي 430.
(2) التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه 79.
(3) التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه 79.(20/31)
وقال الصديق محمد الأمين الضرير: والذي أراه أنه ليست هناك صورة من صور عقد التأمين يمكن قياسها على عقد المضاربة، حتى لو تجاوزنا عن كون الربح في المضاربة يشترط فيه أن يكون قدرا شائعا بالنسبة، وذلك للأسباب الآتية:
1 - المبلغ الذي يدفعه رب المال للعامل في المضاربة يظل ملكا لصاحبه ولا يدخل في ملك العامل، وذلك بخلاف التأمين فإن القسط يدخل في ملك الشركة تتصرف فيه تصرف المالك في ملكه.
2 - في حالة موت رب المال في عقد المضاربة يستحق ورثته المال الذي دفعه مع ربحه إن كان، أما في عقد التأمين على الحياة فإن الورثة يستحقون عند موت المؤمن له المبلغ الذي اتفق عليه من الشركة بالغا ما بلغ، فلو أن شخصا أمن على حياته بمبلغ ألف جنيه، ثم مات بعد أن دفع مبلغ مائة جنيه فقط للشركة فإن ورثته يستحقون الألف كاملة، فكيف يقاس هذا العقد على عقد المضاربة ولا يصح أن يقال: إن الشركة تتبرع بالزائد على ما دفعه المؤمن له؛ لأن من خصائص عقد التأمين أنه عقد معاوضة وهو عقد ملزم للطرفين، فالشركة ملزمة بدفع المبلغ المتفق عليه إذا وفى المؤمن له بالتزامه في دفع الأقساط.
3 - في حال موت صاحب المال في عقد المضاربة يكون المبلغ الذي في يد المضارب " العامل " في ضمن تركة المتوفى يجري فيه ما يجري في سائر أموال التركة، أما في عقد التأمين فإن المال المستحق لا يذهب للورثة مطلقا، وذلك في حالة ما إذا عين المؤمن له مستفيدا- وهذا من حقه- فإن جميع المال يذهب لهذا المستفيد ولو لم يكن للمتوفى مال غيره ولا حق لورثته في الاعتراض (1) .
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي 455.(20/32)
د- قياس عقد التأمين على ضمان المجهول وضمان ما لم يجب:
نذكر فيما يلي كلام بعض الفقهاء السابقين في ذلك ونتبعه ببيان فقهاء العصر ووجه الاستدلال لهذا القياس على الجواز مع المناقشة:
أما كلام الفقهاء السابقين، فقال السرخسي:
باب ضمان ما يبايع به الرجل: قال رحمه الله - وإذا قال الرجل لرجل بايع فلانا فما بايعته به من شيء فهو علي فهو جائز على ما قال؛ لأنه أضاف الكفالة إلى سبب وجوب المال على الأصيل وقد بينا أن ذلك صحيح، والجهالة في المكفول به لا تمنع صحة الكفالة لكونها مبنية على التوسع، ولأن جهالة عينها لا تبطل شيئا من العقود وإنما الجهالة المفضية إلى المنازعة هي التي تؤثر في العقود وهذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة؛ لأن توجه المطالبة على الكفيل بعد المبايعة وعند ذلك ما بايعه به معلوم ويستوي إن وقت لذلك وقتا أو لم يوقت إلا أن في الموقت يراعى وجود المبايعة في ذلك الوقت حتى إذا قال ما بايعته به اليوم فباعه غدا لا يجب على الكفيل شيء من ذلك لأن هذا التقييد مفيد في حق الكفيل، ولكن إذا كرر مبايعته في اليوم فذلك كله على الكفيل؛ لأن حرف ما يوجب العموم وإذا لم يوقت فذلك على جميع العمر وإذا بايعته مرة بعد مرة فذلك كله على الكفيل ولا يخرج نفسه من الكفالة لوجود الحرف الموجب للتعميم في كلامه، ويستوي إن بايعه بالنقود أو بغير النقود؛ لأنه قال ما بايعته به من شيء وهو يجمع كل ذلك. انتهى المقصود (1) .
وقال ابن جزي: ويجوز ضمان المال المعلوم اتفاقا والمجهول خلافا
__________
(1) المبسوط 20 \ 50.(20/33)
للشافعي ويجوز - الضمان بعد وجوب الحق اتفاقا وقبل وجوبه خلافا لشريح القاضي وسحنون والشافعي. (1) .
وقال النووي: ويشترط في المضمون كونه ثابتا وصحح القديم ضمان ما سيجب، والمذهب صحة ضمان الدرك بعد قبض الثمن، وهو أن يضمن للمشتري الثمن إن خرج المبيع مستحقا أو معيبا أو ناقصا لنقص الصنجة، وكونه لازما، لا كنجوم كتابة، ويصح ضمانه الثمن في مدة الخيار في الأصح وضمان الجعل كالرهن به، وكونه معلوما في الجديد، والإبراء من المجهول باطل في الجديد إلا من إبل الدية ويصح ضمانها في الأصح، ولو قال ضمنت مالك على زيد من درهم إلى عشرة فالأصح صحته، وأنه يكون ضامنا لعشرة. قلت: الأصح لتسعة، والله أعلم.
وقال ابن قدامة: ولا كون الحق معلوما ولا واجبا إذا كان مآله إلى الوجوب فلو قال ضمنت لك ما على فلان أو ما تداينه به صح (2) .
قال في الحاشية: قوله: " ولا كون الحق معلوما " يعني إذا كان مآله إلى العلم "ولا واجبا إذا كان مآله الوجوب " فلو قال: ضمنت لك ما على فلان أو ما تداينه به صح هذا المذهب، وبه قال أبو حنيفة ومالك؛ وقال الثوري والليث وابن أبي ليلى والشافعي وابن المنذر: لا يصح؛ لأنه التزام مال فلم يصح مجهولا كالثمن، ولنا قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (3) وحمل البعير غير معلوم؛ لأن حمل البعير
__________
(1) قوانين الأحكام الشرعية 353.
(2) المقنع 2 \ 113.
(3) سورة يوسف الآية 72(20/34)
يختلف باختلافه، وعموم قوله عليه الصلاة والسلام: «الزعيم غارم (1) » ، ومن ضمان ما لم يجب ضمان السوق وهو أن يضمن ما يلزم التاجر من دين وما يقتضيه من عين مضمونة قاله الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى، وقال: تجوز كتابته والشهادة به لمن لم ير جوازه؛ لأنه محل اجتهاد قال: وأما الشهادة على العقود المحرمة على وجه الإعانة عليها فحرام، واختار صحة ضمان حارس ونحوه وتجار حرب ما يذهب من البلد أو البحر وأن غايته ضمان ما لم يجب وضمان المجهول كضمان السوق وهو أن يضمن الضامن ما يجب على التجار للناس من الديون وهو جائز عند أكثر العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد وقال: الطائفة الواحدة الممتنعة من أهل الحرب التي ينصر بعضها بعضا تجري مجرى الشخص الواحد في معاهدتهم إذا شورطوا على أن تجارهم يدخلون دار الإسلام بشرط أن لا يأخذوا للمسلمين شيئا وما أخذوه كانوا ضامنين في أموالهم جاز (2) .
وأما كلام الفقهاء المعاصرين في توجيه الاستدلال والمناقشة - فقالوا: الضامن يجب عليه أداء ما ضمنه مع أنه مجهول من حيث المبدأ فكذلك التأمين يجب على المؤمن أن يدفع للمستأمن قيمة ما ضمنه بعد وقوع الخطر، وإن كان مجهولا من حيث المبدأ.
والجواب عن هذا يمكن أن يقال: لا يصح قياس عقد التأمين على ضمان المجهول وما لم يجب، ومنه ضمان السوق؛ لأنه قياس مع الفارق وبيان ذلك من وجوه:
__________
(1) أخرجه أبو داود الطيالسي والبيهقي وأحمد وابن عدي والترمذي وتمام في الفوائد. وسنده صحيح
(2) حاشية المقنع 2 \ 113 وما بعدها.(20/35)
الوجه الأول: أن الضمان من عقود التبرعات فاغتفرت فيه الجهالة من باب دفع المشقة واليسر على الناس، وأما عقد التأمين فهو من عقود المعاوضات فلا تغتفر فيه الجهالة.
الوجه الثاني: أن الضمان يتكون من أربعة أركان ضامن ومضمون له ومضمون عنه ومضمون، وفي التأمين ثلاثة أركان ضامن وهو الشركة، ومضمون له وهو المستأمن، ومضمون وهو ما تدفعه الشركة عند وقوع الخطر، وأما المضمون عنه فمفقود هنا فلا يصح أن يقاس عليه لفقد ركن من أركانه فالصورتان مختلفتان.
الوجه الثالث: صورة الضمان تختلف عن صورة التأمين من وجه آخر وهو أن الضامن في الشريعة فرع والمضمون عنه أصل، والتأمين اعتبر فيه الضامن أصلا، ومن شرط القياس الاتفاق في الصورة.
الوجه الرابع: أن الضامن إذا دفع إلى المضمون له فإنه يرجع إلى المضمون عنه ويأخذ منه ما دفعه فلا ضرر عليه، أما الشركة فإذا وقع الضرر فإنها تدفع ما وجب عليها ولا ترجع إلى أحد، فتقرر الضرر عليها فلا يصح أن يقاس ما فيه ضرر على ما لا ضرر فيه.(20/36)
هـ- قياس عقد التأمين على ضمان خطر الطريق.
نذكر فيما يلي كلام بعض الفقهاء السابقين في ضمان خطر الطريق وأسباب الضمان، ثم ما تيسر من كلام فقهاء هذا العصر.
أما كلام الفقهاء السابقين: فقال ابن عابدين في أثناء كلامه على السوكرة فإن قلت: سيأتي قبيل باب كفالة الرجلين قال لآخر: اسلك هذا الطريق فإنه آمن، فسلكه وأخذ ماله لم يضمن، ولو قال: إن كان مخوفا وأخذ مالك فأنا ضامن ضمن، وعلله الشارح هناك بأنه ضمن الغار صفة السلامة للمغرور نصا. اهـ. بخلاف الأولى فإنه لم ينص(20/36)
على الضمان بقوله: فأنا ضامن، وفي جامع الفصولين الأصل أن المغرور إنما يرجع على الغار لو حصل الغرر في ضمن المعاوضة أو ضمن الغار صفة السلامة للمغرور فصار كقول الطحان لرب البر: اجعله في الدلو فجعله فيه فذهب من النقب إلى الماء وكان الطحان عالما به يضمن إذ غره في ضمن العقد وهو يقتضي السلامة. اهـ.
قلت: لا بد في مسألة التغرير من أن يكون الغار عالما بالخطر كما يدل عليه مسألة الطحان المذكورة وأن يكون المغرور غير عالم؛ إذ لا شك أن رب البر لو كان عالما بنقب الدلو يكون هو المضيع لماله باختياره، ولفظ المغرور ينبئ عن ذلك لغة لما في القاموس غره غرا وغرورا فهو مغرور وغرير خدعه وأطمعه بالباطل فاغتر هو. اهـ. ولا يخفى أن صاحب السوكرة لا يقصد تغرير التجار ولا يعلم بحصول الغرق هل يكون أم لا، وأما الخطر من اللصوص والقطاع فهو معلوم له وللتجار؛ لأنهم لا يعطون مال السوكرة إلا عند شدة الخوف طمعا في أخذ بدل الهالك؛ فلم تكن مسألتنا من هذا القبيل. اهـ (1) .
وقال أبو محمد البغدادي: إذا غرقت السفينة فلو من ريح أصابها أو موج أو جبل صدمها من غير مد الملاح وفعله لا يضمن بالاتفاق، وإن كان بفعله يضمن سواء خالف بأن جاوز العادة أو لم يخالف؛ لأنه أجير مشترك ولو دخلها الماء فأفسد المتاع فلو بفعله ومده يضمن بالاتفاق ولو بلا فعله إن لم يمكن التحرز عنه لا يضمن إجماعا، وإن كان بسبب يمكن التحرز عنه لا يضمن عند أبي حنيفة وعندهما يضمن وهذا كله لو لم يكن رب المتاع أو وكيله في السفينة فلو كان لا يضمن في
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 \ 271، 272.(20/37)
جميع ما مر إذا لم يخالف بأن لم يجاوز المعتاد؛ لأن محل العدل غير مسلم إليه كذا في الفتاوى الصغرى ومشى عليه صاحب الفصولين، وكذا إذا كان بأمر لا يمكن التحرز عنه فإنه لا يضمن ذكره في البزازية وفيما نقلا عن المنتقى لو كانت السفن كثيرة وصاحب المتاع أو الوكيل في إحداها فلا ضمان على الملاح فيما ذهب من السفينة التي فيها صاحب المتاع أو وكيله وضمن فيما سوى ذلك. وعن أبي يوسف إذا كانت السفن تنزل معا وتسير فلا ضمان على الملاح فيما هلك فإنهن كسفينة واحدة وإن تقدم بعضها بعضا فكون أحدهما في إحداهن ككون أحدهما في كلهن. وعن أبي يوسف أيضا في سفينتين مقرونتين إحداهما في إحداهن لا ضمان على الملاح، وكذا لو غير مقرونتين ويسيران معا. ويحبسان معا (1) . انتهى المقصود.
وقال القرافي: الفرق السابع عشر والمائتان بين قاعدة ما يوجب الضمان وبين قاعدة ما لا يوجبه: أسباب الضمان ثلاثة فمتى وجد واحد منها وجب الضمان ومتى لم يوجد واحد منها لم يجب الضمان - أحدها التفويت مباشرة؛ كإحراق الثوب وقتل الحيوان وأكل الطعام ونحو ذلك، وثانيهما التسبب للإتلاف؛ كحفر بئر في موضع لم يؤذن فيه ووضع السموم في الأطعمة ووقود النار بقرب الزرع أو الأندر ونحو ذلك مما شأنه في العادة أن يفضي غالبا للإتلاف.
وثالثها وضع اليد غير المؤتمنة فيندرج في غير المؤتمنة يد الغاصب والبائع يضمن المبيع الذي يتعلق به حق توفية قبل القبض فإن ضمان المبيع الذي هذا شأنه منه؛ لأن يده غير مؤتمنة ويد المتعدي بالدابة في الإجارة ونحوها، ويخرج بهذا القيد يد المودع وعامل القراض ويد المساقي ونحوهم فإنهم أمناء فلا يضمنون (2) .
__________
(1) مجمع الضمانات 47.
(2) الفروق 4 \ 27.(20/38)
أيضا: الفرق الخامس والمائتان بين قاعدة ما يضمن بالطرح من السفن وبين قاعدة ما لا يضمن. قال مالك: إذا طرح بعض الحمل للهول شارك أهل المطروح من لم يطرح لهم شيء في متاعهم، وكان ما طرح وسلم لجميعهم في نمائه ونقصه بثمنه يوم الشراء أن اشتروا من موضع واحد بغير محاباة؛ لأنهم صانوا بالمطروح ما لهم والعدل عدم اختصاص أحدهم بالمطروح؛ إذ ليس أحدهم بأولى من الآخر وهو سبب سلامة جميعهم فإن اشتروا من مواضع أو اشترى بعض أوطال زمان الشراء حتى تغيرت الأسواق اشتركوا بالقيم يوم الركوب دون يوم الشراء؛ لأنه وقت الاختلاط، وسواء طرح الرجل متاعه أو متاع غيره بإذنه أم لا. قال ابن أبي زيد ولا يشارك من لم يرم بعضهم بعضا؛ لأنه لم يطرأ سبب يوجب ذلك بخلاف المطروح له مع غيره. قال ابن حبيب، وليس على صاحب المركب ولا النوانية ضمان، كانوا أحرارا أو عبيدا إلا أن يكونوا للتجارة فتحسب قيمتهم ولا على من لا متاع له؛ لأن هذه كلها وسائل، والمقصود من ركوب البحر إنما هو مال التجارة ويرجع بالمقاصد في المقاصد ومن معه دنانير كثيرة يريد بها التجارة فكالتجارة بخلاف النفقة وما يراد للقنية، وقال ابن بشير: لا يلزم في العين شيء من المطروح؛ لأنه لا يحصل الفرق بسببها لخفتها، وقال سحنون: يدخل المركب في قيمة المطروح؛ لأنه مما سلم بسبب الطرح (1) .
وقال أبو محمد: إن خيف عليه بصدم قاع البحر فطرح لذلك دخل في القيمة، وقال أهل العراق يدخل المركب وما فيه للقنية أو التجارة
__________
(1) الفروق 4 \ 8-9.(20/39)
من عبيد وغيرهم؛ لأن أثر المطروح سلامة الجميع وجوابهم أن شأن المركب أن يصل برجاله سالما إلى البر وإنما يغرق ما فيه عادة وإزالة السبب المهلك لا يوجب شركة بل فعل السبب المنجي، وهو فرق حسن فتأمله فإن فاعل الضرر شأنه أن يضمن فإذا زال ضرره ناسب أن يستحقه أو بعضه؛ لأن موجد الشيء شأنه أن يكون له فإن صالحوا صاحب المطروح بدنانير ولا يشاركهم جاز إذا عرفوا ما يلزم في القضاء فإن خرج بعد الطرح من البحر سالما فهو له وتزول الشركة أو خرج وقد نقص نصف قيمته انتقض نصف الصلح ويرد نصف ما أخذه. اهـ.
وأما كلام الفقهاء المعاصرين:
فقال الأستاذ مصطفى الزرقا: وأما صحة ضمان خطر الطريق فيما إذا قال شخص لآخر: اسلك هذا الطريق فإنه آمن وإن أصابك فيه شيء فأنا ضامن. فسلكه فأخذ ماله، حيث يضمن القائل هو ما نص عليه الحنفية في الكفالة، وانتبه إليه ابن عابدين وناقشه في كلامه عن "السوكرة" كما سبق بيانه فإني أجد فيه فكرة فقهية يصلح بها أن يكون نصا استثنائيا قويا في تجويز التأمين على الأموال من الأخطار وإن لم يسلم ابن عابدين رحمه الله بكفاية هذه الدلالة فيه، ورأى فرقا بينه وبين السوكرة يمنع القياس عليه، والذي أراه أن فقهاءنا الذين قرروا هذا الحكم في الكفالة في ذلك الزمن البعيد لو أنهم عاشوا في عصرنا اليوم وشاهدوا الأخطار التي نشأت من الوسائل الحديثة كالسيارات التي فرضت على الإنسان من الخطر بقدر ما منحته السرعة وثبتت أمامهم فكرة التأمين ولمسوا الضرورة التي نلمسها نحن اليوم في سائر المرافق الاقتصادية الحيوية لتخفيف آثار الكوارث الماحقة لما ترددوا لحظة في إقرار التأمين نظاما شرعيا (1) .
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي 410.(20/40)
وأجيب عن ذلك بما قاله الصديق محمد الأمين الضرير
قال: فهل يمكن أن يكون ما يلزم المؤمن بدفعه عند وقوع الكارثة من قبيل الضمان؟
للإجابة على هذا السؤال لا بد لنا أولا من معرفة أسباب الضمان.
الضمان يكون بواحد من الأسباب التالية:
1 - العدوان كالقتل والإحراق وهدم الدور ونحو ذلك، فمن تعدى في شيء وعليه الضمان إما المثل إن كان مثليا أو القيمة إن كان قيميا، وواضح أن المؤمن لم يتعد على المؤمن له في شيء حتى يضمنه له، وإذا كان هناك متعد فإن الضمان يكون عليه لا على الشركة.
2 - التسبب للإتلاف كحفر البئر في طرق الحيوان في غير الأرض المملوكة للحافر أو في أرضه لكن حفرها لهذا الغرض، وكرمي ما يزلق الناس في الطرقات فيسقط بسبب ذلك حيوان أو غيره ونحو ذلك. وليس المؤمن متسببا في إتلاف مال المؤمن له فلا وجه لتضمينه.
3 - وضع اليد التي ليست بمؤتمنة، سواء أكانت عادية كيد السراق والنصاب، أو ليست بعادية كما في المبيع بيعا صحيحا يبقى بيد البائع فيضمنه. والمؤمن عليه الذي يلتزم المؤمن بتعويضه يكون في يد صاحبه ولا يضع المؤمن يده عليه مطلقا.
4 - الكفالة: والكفالة لا بد فيها من كفيل يلتزم بتأدية ما على الأصل من الحق، ومكفول وهو المطالب في الأصل، ومكفول له هو صاحب الحق ومكفول به وهو الحق المطالب به. وعقد التأمين في كثير من صوره لا يوجد فيه ما يمكن أن يعتبر مكفولا ففي تأمين الأشخاص يلتزم المؤمن بدفع المبلغ عند الوفاة أو حصول حادث جسماني سواء كان ذلك قضاء وقدرا أو كان بفعل فاعل.(20/41)
وفي التأمين على الأشياء، كالتأمين من السرقة والحريق وموت الحيوان يلتزم المؤمن بتعويض المؤمن له ما أصابه من ضرر، ولو كان وقوع الحادثة بما لا دخل للإنسان فيه، ففي مثل هذه الصور من التأمين لا يمكن أن يقاس التأمين على الكفالة لفقدان المكفول. ولكن هناك حالات يعتدي فيها معتد بإتلاف ماله المؤمن له، كما لو أحرق شخص مال المؤمن له؛ فهل يمكن أن يعتبر ذلك الشخص مكفولا؟
جاء في مجمع الضمانات " لو قال ": إن غصب فلان مالك أو أحد من هؤلاء القوم فأنا ضامن صح، ولو عمم، فقال: لو غصبك إنسان شيئا فأنا له ضامن لك لا تصح= ص 268- 156= ولو قال: ما ذاب لك على الناس أو لأحد من الناس عليك فعلي لا يصح لجهالة المضمون عنه = ص 370 = ومن صور التأمين ما يكون فيه المؤمن له هو المكفول، ويكون المكفول له مجهولا وهذه حالة التأمين من المسئولية كالتأمين من حوادث السيارات فإن الشركة تلتزم فيه بدفع ما يثبت على المؤمن من تعويض لمن أصابه ضرر منه يستحق التعويض بسببه.
وهذه أيضا مكفولة غير صحيحة لجهالة المكفول به.
ففي مجمع الضمانات: لو قال: ما ذاب للناس أو لأحد من الناس عليك فعلي لا يصبح لجهل المضمون له. = ص 270
ففي جميع الصور المتقدمة لا يصح قياس عقد التأمين على عقد الكفالة وهناك فارق عام يمنع من صحة القياس هو أن الكفالة من عقود التبرعات والتأمين من عقود المعاوضات، ولذا لو شرط في العقد للكفالة أن يكون بعوض فإن الكفالة تكون باطلة.(20/42)
جاء في مجمع الضمانات " ولو كفل بمال على أن يجعل الطالب له جعلا، فإن لم يكن مشروطا في الكفالة فالشرط باطل: وإن كان مشروطا في الكفالة فالكفالة باطلة = ص 282 =
وفارق آخر: هو أن عقد التأمين ملزم للطرفين المؤمن والمؤمن له فهو يلزم المؤمن له بدفع القسط، ويلزم المؤمن بدفع العوض المالي أو المبلغ المؤمن عليه، أما عقد الكفالة فإنه لا يلزم المكفول له بشيء؛ فالالتزام فيه من جانب الكفيل فقط، ولذا كان عقدا لازما بالنسبة للكفيل وغير لازم بالنسبة للمكفول له (1) .
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي 456 - 458.(20/43)
وقياس عقد التأمين على نظام التقاعد:
قال الأستاذ الزرقا:
وأما نظام التقاعد والمعاش لموظفي الدولة وهو نظام مالي عام في عصرنا، فإني لا أقصد الاستدلال به من حيث كونه نظاما قانونيا؛ لأن النظم القانونية لا تصلح حجة في الاستدلال لأحكام الشريعة الإسلامية، ولكني أستدل بموقف فقهاء الشريعة أجمعين منه مع أنه نظام تأميني بكل ما في كلمة التأمين من معنى، فنظام التقاعد يقوم على أساس أن يقتطع من المرتب الشهري للموظف في أعمال الدولة جزء نسبي ضئيل محدود حتى إذا بلغ سن الشيخوخة القانونية وأحيل على التقاعد أخذ وهو غير موظف عامل راتبا شهريا يبلغ أضعافا مضاعفة من المبلغ الضئيل الذي كان يقتطع من راتبه شهريا، وذلك بحسب مدة عمله في الوظيفة ويستمر المرتب التقاعدي الجديد ما دام حيا مهما طالت حياته، وينقل إلى أسرته التي يعولها من زوجة وأولاد وغيرهم بشرائط معينة بعد وفاته؛ فما الفرق بين هذا النظام وبين التأمين على الحياة؟(20/43)
إن في كليهما يدفع الشخص قسطا ضئيلا دوريا لا يدري كم يستمر به دفعه وكم يبلغ مجموعه عند التقاعد وفي حكمها يأخذ الشخص أو أسرته في مقابل هذا القسط الدوري الضئيل مبلغا كبيرا دوريا أيضا في التقاعد وفوريا في التأمين على الحياة يتجاوز كثيرا مجموع الأقساط، ولا يدري كم يبلغ مجموعه من التقاعد إلى أن ينطفئ الاستحقاق وانتقالاته، بينما هو محدد معلوم المقدار في التأمين على الحياة، فالضرر والجهالة في نظام التقاعد أعظم منها في التأمين على الحياة.
إن هذا النظام التقاعدي يقره علماء الشريعة الإسلامية كافة بلا نكير ولا يرون فيه أية شبهة شائبة من الناحية الشرعية، بل إنهم يرونه أساسا ضروريا في نظام وظائف الدولة ومصلحة عامة لا بد منها شرعا وعقلا وقانونا لصيانة حياة الموظفين العاملين في مصالح الدولة بعد عجزهم وحياة أسرهم إلى مراحل معينة من بعدهم، فلماذا يحسن وجود هذا النظام التقاعدي ترتبا يقوم بين الدولة وموظفيها ولا يجوز نظيره تعاقدا ملزما بين الناس؟
والخلاصة أن نظام التأمين التقاعدي بوجه عام تشهد لجوازه جميع الدلائل الشرعية في الشريعة الإسلامية وفقهها، ولا ينهض في وجهه دليل شرعي على التحريم ولا تثبت أمامه شبهة من الشبهات التي يتوهمها القائلون بتحريمه (1) .
ونوقش ذلك بما يأتي:
أولا: إن قول المستدل: قد شهدت جميع الدلائل الشرعية في الشريعة الإسلامية وفقهها بجواز نظام التقاعد مجرد دعوى مبالغ فيها ليس معه
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي 414- 415.(20/44)
من الأدلة الصحيحة ما يعتمد عليه فيها فضلا عن أن يكون لها أدلة لا تقوم أمامها شبهة توهم المنع.
ثانيا: ادعى المستدل أن علماء الشريعة كافة في عصرنا أقروا نظام التقاعد دون أية شبهة وفي هذا من المبالغة ما في سابقه، وإنما هي دعوى يردها الواقع، فإن المسألة نظرية ويوجد من العلماء المعاصرين من يخالف فيها.
ثالثا: إنه على تقدير اتفاقهم هل يعتبر ذلك إجماعا شرعيا صحيحا تثبت به الأحكام وهم يعترفون على أنفسهم بالتقليد.
رابعا: قد يقال: إن كان ما اقتطع من مرتب الموظف لا يزال باقيا على ملكه مع ما قد ضم إليه إلا أنه قيد صرفه بزمن محدود وكيفية محدودة، فالكلام في حكمه كالكلام في حكم التأمين وقد تقدم، وربما كان التقاعد أشد؛ لأن ما فيه من الغرر والمخاطرة والمغامرة أشد، ولأن توزيعه يجري على غير سنن المواريث عطاء مستمرا أو مؤقتا أو حرمانا.
خامسا: إنه يمكن أن يقال: إن ما جعل للموظف أو أتباعه من راتب تقاعدي يعتبر مكافأة التزم بها ولي الأمر باعتباره مسئولا عنه وعن أسرته، ووضع لصرفها نظاما راعى فيه مصلحته ومصلحة ألصق الناس به وأقربهم إليه من أسرته، كما راعى فيه ما بذله الموظف من جهد في خدمة الأمة.
وعلى هذا لا يكون المعاش التقاعدي من باب المعاوضات المالية التجارية حيث كان مبناه مسئولية ولي الأمر عن رعيته ومقابلة أرباب المعروف فيهم بالمعروف، وإذن فلا شبهة بينه وبين عقود التأمين؛ فإنها معاوضات مالية تجارية استغلالية يقصد بها الربح، فالفرق واضح بين(20/45)
مكافآت من أولياء أمور الأمة المسئولين عن رعيتهم لمن قام بخدمة الأمة أو من يعنيه أمره، جزاء معروفه وبين عقود معاوضات تجارية تقصد بها شركات التأمين استغلال- المستأمنين والكسب من ورائهم بطرق غير مشروعة.(20/46)
ز- قياس التأمين على نظام العواقل في الإسلام:
نذكر فيما يلي كلام بعض الفقهاء السابقين في بيان العاقلة، ثم نذكر بعده كلام الفقهاء المعاصرين في هذا الدليل مع المناقشة.
أما كلام الفقهاء السابقين: فقال السمرقندي: ثم العاقلة من هم؟ فعندنا العاقلة هم أهل الديوان في حق من له الديوان وهم المقاتلة، ومن لا ديوان له فعاقلته من كان من عصبته في النسب.
وعند الشافعي: لا يلزم أهل الديوان إلا أن يكونوا من النسب.
والصحيح قولنا؛ لما روي عن إبراهيم النخعي أنه قال كانت الدية على القبائل، فلما وضع عمر رضي الله عنه الدواوين جعلها على أهل الديوان وذلك بحضرة الصحابة رضي الله عنهم من غير خلاف، وتبين أنه إنما كان على أهل القبائل للتناصر، فلما صار التناصر بالديوان اعتبر الديوان لوجود المعنى، ولهذا لا تكون المرأة والصبي والعبد والمدبر والمكاتب من جملة العاقلة؛ لأنهم ليسوا من أهل التناصر ولا من أهل الإعانة بالشرع (1) .
وقال ابن جزي: وإنما تؤدي العاقلة الدية بأربعة شروط وهي أن تكون الثلث فأكثر، وقال ابن حنبل: تؤدي القليل والكثير، وأن تكون
__________
(1) تحفة الفقهاء 3 \ 186.(20/46)
عن دم احترازا من قيمة العبد وأن تكون عن خطأ، وأن تثبت بغير اعتراف وإنما يؤديها منهم من كان ذكرا بالغا عاقلا موسرا في الدين والدار، وتوزع عليهم حسب حالهم في المال فيؤدي كل واحد منهم مالا يضربه، ويبدأ بالأقرب فالأقرب (1) .
وقال الشافعي: لم أعلم مخالفا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة، وهذا أكثر من حديث الخاصة، ولم أعلم مخالفا في أن العاقلة العصبة وهم القرابة من قبل الأب، وقضى عمر بن الخطاب على علي بن أبي طالب رضي الله عنهما بأن يعقل عن موالي صفية بنت عبد المطلب وقضى للزبير بميراثهم؛ لأنه ابنها.
قال: وعلم العاقلة أن ينظر إلى القاتل والجاني ما دون القتل مما تحمله العاقلة من الخطأ فإن كان له إخوة لأبيه حمل عليهم جنايته على ما تحمل العاقلة، فإن احتملوها لم ترفع إلى بني جده وهم عمومته، فإن لم يحتملوها رفعت إلى بني جده، فإن لم يحتملوها رفعت إلى بني جد أبيه، ثم هكذا ترفع إذا عجز عنها أقاربه إلى أقرب الناس به، ولا ترفع إلى بني أب ودونهم أقرب منهم حتى يعجز عنها من هو أقرب منهم، كأن رجلا من بني عبد مناف جنى فحملت جنايته بنو عبد مناف، فلم تحملها بنو عبد مناف فترفع إلى بني قصي، فإن لم تحملها رفعت إلى بني كلاب، فإن لم تحملها رفعت إلى بني مرة، فإن لم تحملها رفعت إلى بني كعب، فإن لم تحملها رفعت إلى بني لؤي، فإن لم تحملها رفعت إلى بني غالب، فإن لم تحملها رفعت إلى بني فهر، فإن لم تحملها رفعت إلى بني مالك، فإن لم تحملها رفعت إلى بني النضر، فإن لم تحملها رفعت إلى بني كنانة
__________
(1) قوانين الأحكام الفقهية 377.(20/47)
كلها، ثم هكذا حتى تنفد قرابته أو تحتمل الدية " قال " ومن في الديوان ومن ليس من العاقلة سواء قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على العاقلة ولا ديوان حتى كان الديوان حين كثر المال في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال أيضا: ولم أعلم مخالفا في أن المرأة والصبي إذا كانا موسرين لا يحملان من العقل شيئا، وكذلك المعتوه عندي والله أعلم، ولا يحمل العقل إلا حر بالغ، ولا يحملها من البالغين فقير. فإذا قضي بها ورجل فقير فلم يحل نجم منها حتى أيسر أخذ بها وإن قضي بها وهو غني، ثم حلت وهو فقير طرحت عنه؛ إنما ينظر إلى حاله يوم حل. إلخ (1) .
وقال الفتوحي: وهي من غرم ثلث دية فأكثر بسبب جناية غيره وعاقلة جان ذكور عصبته نسبا وولاء حتى عمودي نسبه ومن بعد (2) .
وأما كلام بعض الفقهاء المعاصرين:
فقال الأستاذ مصطفى الزرقا: وأما نظام العواقل في الإسلام فهو نظام وردت به السنة النبوية الصحيحة الثبوت. وأخذ به أئمة المذاهب. وخلاصته أنه إذا جنى أحد جناية قتل غير عمد بحيث يكون موجبها الأصلي الدية أو القصاص فإن دية النفس توزع على أفراد عاقلته الذين يحصل بينه وبينهم التناصر عادة، وهم الرجال البالغون من أهله وعشيرته وكل من يتناصر هو بهم، ويعتبر هو واحدا منهم، فتقسط الدية عليهم في ثلاث سنين بحيث لا يصيب أحدا منهم أكثر من أربعة دراهم في السنة فإذا لم يف عدد أفراد العشيرة بمبلغ الدية في ثلاث سنين يضم
__________
(1) الأم 1 \ 101 وما بعدها.
(2) المنتهى 2 \ 448.(20/48)
إليهم أقرب القبائل والأقارب نسبا على ترتيب ميراث العصبات، فإذا لم يكن للقاتل عشيرة من الأقارب والأنساب وأهل التناصر كما لو كان لقيطا مثلا كانت الدية في ماله تقسط على ثلاث سنين، فإن لم يكن له مال كاف فعاقلته بيت المال العام أي خزانة الدولة، فهي التي تتحمل دية القتيل.
وهناك اختلافات يسيرة بين المذاهب في الموضوع " ينظر ابن عابدين جزء \ 5 كتاب المعاقل وغيره من كتب المذاهب ".
إن هذا النظام نظام العواقل خاص بتوزيع الموجب المالي في كارثة القتل الخطأ وتهدف الحكمة فيه إلى غايتين:
الأولى تخفيف أثر المصيبة عن الجاني المخطئ.
والثانية صيانة دماء ضحايا الخطأ من أن تذهب هدرا؛ لأن الجاني المخطئ قد يكون فقيرا لا يستطيع التأدية فتضيع الدية.
قال ابن عابدين رحمه الله في أول كتاب المعاقل من حاشيته " رد المحتار " نقلا عن المعراج ما نصه: إن العاقلة يتحملون باعتبار تقصيرهم وتركهم حفظه ومراقبته؛ لأنه إنما قصر لقوته بأنصاره، فكانوا هم المقصرين، وقد كانوا قبل الشرع الإسلامي يتحملون عنه تكرما واصطناعا بالمعروف، فالشرع قرر ذلك - أي أوجبه وجعله إلزاميا - وتوجد هذه العادة بين الناس فإن لحقه خسران من سرقة أو حرق يجمعون له مالا لهذا المعنى. انتهى كلام ابن عابدين.
أقول: إن هذا الكلام صريح في أن نظام العواقل في الإسلام أصله عادة حسنة تعاونية كانت قائمة قبل الإسلام في توزيع المصيبة المالية الناشئة من القتل أو من الحرق أو السرقة ونحوها؛ بغية تخفيف ضررها عن كاهل من لحقته جبرا لمصابه، وإحياء لحقوق الضحايا في الجنايات، وقد أقر الشرع الفكرة(20/49)
لما فيها من مصلحة مزدوجة، وجعلها إلزامية في جناية القتل؛ لأن فيها مسئولية متعدية بسبب التناصر، وذلك بعد إخراج حالة العمد منها كما يقتضيه التنظيم القانوني، يقول: الرسول عليه الصلاة والسلام: «لا تعقل العواقل عمدا (1) » لكيلا يكون في معاونة العامة تشجيع على الجريمة، وهذا هو المنطق القانوني نفسه في عدم جواز التأمين من المسئولية قانونا عن فعل الغش وجناية العمد. وتركها اختياره للمروءات وفقا للتوجيه الشرعي العام في التعاون المندوب إليه شرعا في الكوارث المالية الأخرى.
فما المانع من أن يفتح باب لتنظيم هذا التعاون على ترميم الكوارث، يجعله ملزما بطريق التعاقد والإرادة الحرة كما جعله الشرع إلزاميا دون تعاقد في نظام العواقل؟ وهل المصلحة التي يراها الشرع الإسلامي بالغة من القوة درجة توجب جعلها إلزامية بحكم الشرع تصبح مفسدة إذا حققها الناس على نطاق واسع بطريق التعاقد والمعاوضة التي يدفع فيها القليل لصيانة الكثير وترميم الضرر الكبير من مختلف الكوارث، وذلك لكي يصبح هذا الباب قابلا لأن يستفيد منه كل راغب، مع ملاحظة أن هذا التوسع في النطاق داخل في دائرة التعاون المندوب إليه شرعا بصورة غير إلزامية.
يقول ابن القيم رحمه الله في صدد ما يجوز من المشارطات العقدية شرعا: كل ما يجوز بذله وتركه دون اشتراط فهو لازم بالشرط. انظر: إعلام الموقعين طبعة المنيرية ج3 ص 339 - 340 (2) اهـ.
__________
(1) روى هذا الحديث ابن عباس موقوفا عليه من رواية محمد بن الحسن. وروي مرفوعا وهو غريب. انظر نصب الراية للزيلعي 4 \ 399 - كتاب المعاقل- الحديث الخامس.
(2) أسبوع الفقه الإسلامي 412.(20/50)
واعترض عليه بأن العاقلة أسرة يربطها الدم وتربطها الرحم الموصولة، والتي أمر الله تعالى بوصلها، ويربطها التعاون على البر والتقوى، ويربطها التعاون في تحمل الغرم والاشتراك في كسب الغنم؛ فهل يشبهها بأي وجه من وجوه الشبه عقد جعلي ينشأ بالإرادة يكون بين شركة مستغلة، وطرف آخر يقدم إليها مالا كل عام أو كل شهر؟ إننا نستغرب كل الاستغراب هذا القياس بعد بيان الأستاذ الفاضل، بل إننا من بعده أشد استغرابا (1) .
وأجيب عن ذلك بأن تشبيه عقد التأمين بنظام العواقل في الإسلام من حيث فكرة التعاون لا يستلزم أن تكون شركة التأمين أسرة أو عشيرة للمؤمن له، كما أن العاقلة هي أسرة الجاني في القتل الخطأ.
إن من المقرر في علم أصول الفقه أن طريق القياس الذي إليه يرجع الفضل الأعظم في تضخم الفقه الإسلامي هذه الضخامة لا يجب فيه الاتحاد المطلق في الصورة بين المقيس والمقيس عليه وإلا لما كان عندئذ حاجة لإجراء القياس؛ إذ يكون المقيس عندئذ فردا من أفراد المقيس عليه يدخل مباشرة تحت النص الشرعي الذي يقرر الحكم في المقيس عليه، بل يكفي في القياس التشابه بين المقيس والمقيس عليه في نقطة ارتكاز الحكم ومناطه وهي العلة، وهذا ما رأيناه في نظام العواقل الإسلامي، ونظام التأمين الحديث في بعض فروعه؛ ففي نظام العواقل تعاون إلزامي شرعا في تحمل المسئولية المالية عن القتل الخطأ، وفي نظام التأمين تعاون اختياري بطريق التعاقد على توزيع الموجب المالي (المسئولية المدنية) في حال التأمين من المسئولية وهو أحد فروع نظام التأمين فما أوجبه الشرع
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي 517.(20/51)
إيجابا في بعض الأحوال دون تعاقد لما فيه من مصلحة يمكن أن يسوغ نظيره تسويغا بطريق التعاقد في صور أخرى لمصالح أخرى تشبه تلك في المصلحة من حيث النفع التجاري والاقتصادي بوجه عام وتخفيف نتائج الكوارث والأخطار عمن يصاب بها وذلك بطريقة فنية لتوزيعها وتشتيتها (1) .
ويمكن أن يقال: لا يصح قياس عقد التأمين على نظام العواقل في الإسلام؛ لأنه قياس مع الفارق وتقرير ذلك من وجوه:
الوجه الأول: إن الهدف من تحمل العاقلة عن الجاني هو النصرة الشرعية بكل ما تدل عليه هذه الكلمة من معنى، والهدف من إنشاء عقد التأمين ما هو إلا الاستغلال المحض للشركة المتعاقدة مع المستأمن.
الوجه الثاني: نظام العواقل الخطر الذي يتحمل تراه مشتركا فكل فرد من أفراد العاقلة عضو يناله حظه من القسط الواجب عليه وقد يقع منه شيء وقد لا يقع. وإذا وقع منه شيء يوجب تحمل العاقلة عنه، فقد يكون أقل مما دفع أو أكثر أو مساويا، وليس بين ما يدفعه في حالة حصول الحادث من غيره وبين ما يدفع عنه في حالة وقوعه في الخطأ أي ارتباط، لكن بينهما ارتباط في موجب العقل فكان واضحا في باب التعاون وتحمل المسئولية.
الوجه الثالث: إن القدر الذي يحمله الفرد من أفراد العاقلة يختلف باختلاف أوصاف الأفراد من غني وفقير، ودرجة متوسطة بينهما؛ فالفقير لا يحمل شيئا، وما يقدر عليه الغني والمتوسط يختلف باختلافهما، أما في
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي 543، 544.(20/52)
عقد التأمين فالمقدر على الشركة إذا وقع الخطر يؤخذ حتما سواء كانت غنية أو فقيرة، فإن كانت غنية استلم منها، وإن كانت فقيرة بقي في ذمتها، وسواء أجحف بها أو لم يجحف بها فأين هذا من نظام العواقل؟
الوجه الرابع: ما تتحمله العاقلة مقدر شرعا وهو الدية، أما في عقد التأمين فيؤخذ المبلغ الموقع عليه في العقد، سواء كان أقل من الدية أو أكثر - هذا في التأمين على الحياة -(20/53)
ح- قياس التأمين على عقد الحراسة:
نذكر فيما يلي ما تيسر من كلام الفقهاء السابقين في حكم عقد الحراسة، ثم نذكر بعده كلام الفقهاء المعاصرين في الاستدلال بهذا القياس على الجواز:
أما كلام بعض الفقهاء السابقين:
فقال أبو محمد بن غانم بن محمد البغدادي في أثناء الكلام على الأجير الخاص قال: النوع الثاني ضمان الحارس: استأجر رجلا لحفظ الخان، فسرق من الخان شيء لا ضمان عليه؛ لأنه يحفظ الأبواب، أما الأموال فإنها في يد أربابها في البيوت، وروي عن أحمد بن محمد القضي في حارس يحرس الحوانيت في السوق، فنقب حانوت فسرق منه شيء أنه ضامن؛ لأنه في معنى الأجير المشترك؛ لأن لكل واحد حانوتا على حدة، فصار بمنزلة من يرعى غنما لكل إنسان شاة ونحو ذلك.
وقال الفقيه أبو جعفر والفقيه أبو بكر: الحارس أجير خاص ألا يرى أنه لو أراد أن يشغل نفسه في موضع آخر لم يكن له ذلك، فلا يضمن الحارس إذا نقب حانوت؛ لأن الأموال محفوظة في يد ملاكها وهو الصحيح وعليه الفتوى من المشتمل.(20/53)
وفي الخلاصة: حارس يحرس الحوانيت في السوق فنقب حانوت فسرق منه شيء لا يضمن؛ لأن الأموال في يد أربابها وهو حافظ الأبواب، كذا قال الفقيه أبو جعفر وعليه الفتوى. قال: وهذا قولهما أما عند أبي حنيفة لا يضمن مطلقا، وإن كان في يده؛ لأنه أجير. اهـ.
الخاني المستأجر لحفظ الأمتعة ليلا ونهارا ذهب إلى الحمام بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس وتركها بلا حافظ مفتوحة فكسر السارق مغلاق الأنبار خانه وسرق ما فيه لا يضمن ليلا كان أو نهارا ولو سرق من الكنار التي في الصحن يضمن من القنية.
وفي الوديعة من الخلاصة خان فيه منازل وبيوت وكل بيت مقفل في الليل، فخرج من مقفل وترك باب الخان مفتوحا فجاء سارق ونقب بيتا وسرق منه مالا، فإنه لا يضمن فاتح الباب وهو يظهر من باب فتح القفص. اهـ.
وقال البهوتي: واختار الشيخ صحة ضمان حارس ونحوه (1) .
وأما كلام الفقهاء المعاصرين في الاستدلال بقياس عقد التأمين على عقد الحراسة فقد بينه الأستاذ الزرقا بقوله:
الأجير الحارس هنا وإن كان مستأجرا على عمل يؤديه هو القيام بالحراسة نجد أن عمله المستأجر عليه ليس له أي أثر أو نتيجة سوى تحقيق الأمان للمستأجر على الشيء المحروس، واطمئنانه إلى استمرار سلامته من عدوان شخص أو حيوان يخشى أن يسطو عليه فهو ليس
__________
(1) الإقناع وشرحه 3 \ 304.(20/54)
كعمل الصانع فيما استؤجر على صنعه وعمل الخادم في الخدمة المستأجر عليها وعمل الناقل في نقل الأشياء التي استؤجر لنقلها فنقلها إلى مكان لم تكن فيه، فكل هذه أعمال منتجة نتيجة محسوسة يقوم بها الأجير، أما الحارس فليس لعمله أية نتيجة سوى هذا الأمان الذي بذل المستأجر جزء ماله للحصول عليه فكذا الحال في عقد التأمين يبذل فيه المستأمن جزءا من ماله في سبيل الحصول على الأمان من نتائج الأخطار التي يخشاها (1) .
وأجاب الأستاذ أبو زهرة رحمه الله عن ذلك بمنع أن يكون محل العقد هو الأمان، فقال: إننا نفهم أن يكون الأمان باعثا على العقد ولا نفهم أن يكون محل العقد، فمن يشتري عقارا محل العقد هو العقار والباعث هو السكنى أو الاستغلال، ولا يعد الاستغلال محلا، والأمان أمر معنوي لا يباع ولا يشترى، وهو أمر نفسي يتصل بالنفس قد يأتي بغير ثمن وقد يدفع فيه الثمن الكثير ولا أمان، ولا نعرف عقدا من العقود الإسلامية والمدنية محل العقد فيه الأمان حتى نلحق به ذلك العقد الغريب، ولكن الأستاذ حفظه الله يفكر، ثم يأتي لنا بعقد الحراسة، ويعتبر محل العقد فيها الأمان ويلحق به عقد التأمين غير الاجتماعي كما تلحق الأشياء بأشباهها.
ونقول له: إن الأمان في عقد الحراسة غاية وليس محلا للعقد، وطرفا العقد فيه هما الأجير والمستأجر، وأحب أن أقول إن الأجير هنا أجير وحد، أي أجير خاص يأخذ الأجرة في نظير القرار في مكان معين يكون فيه قائما بالحراسة والأجرة فيه على الزمن لا على مجرد العمل،
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي 404.(20/55)
ومن المؤكد أنه ليس محل العقد هو الأمان وعدم السرقة، وإلا ما استحق الأجرة إذا قام بالحراسة على وجهها وسرق المكان المحروس.
وإن الأستاذ يقول: في رد هذا الكلام بالنص: " العقود جميعا إنما شرعت بحسب غايات ونتائجها، فما هي غاية عقد الحراسة؟ وما هو ذلك الأثر الذي يحصل من عمل الحارس؟ الجواب واضح، وهو أن ذلك الأثر ليس سوى أمان المستأجر واطمئنانه ".
وأقول للأستاذ الجليل: إني لا أسيغ هذا الكلام؛ لأن آثار العقود لا تسمى محل العقود، فإذا اشتريت عقارا لأسكنه، أتعد غايتي هذه هي محل العقد، وهل يعد البائع ضامنا إلى هذه السكنى بحيث إذا اشتريته وتبين لي أنه لا يصلح لسكناي أو لا يصلح للسكنى يكون البيع باطلا مع أني عاينت ونظرت، ثم اشتريت (1) .
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي 522.(20/56)
ط- قياس التأمين على الإيداع:
وبيانه أن المودع إذا أخذ أجرة عن الوديعة يضمنها إذا هلكت فكذلك المؤمن يضمن؛ لأنه يأخذ من المستأمن مبلغا من المال على أن يؤمنه من خطر معين، ويجاب عن هذا بقول ابن عابدين: والفرق بينه وبين الأجير المشترك أن المعقود عليه في الإجارة هو العمل والحفظ واجب عليه تبعا، أما المودع بأجرة فإن الحفظ واجب عليه مقصودا ببدل؛ فلذا ضمن كما صرح بذلك فخر الدين الزيلعي في باب ضمان الأجير.
وهنا لما أخذ المبدل بمقابلة الحفظ الذي كان واجبا عليه تبعا صار الحفظ واجبا عليه قصدا بالبدل، فيضمن لكن يبقى النظر في أنه هل(20/56)
يضمن مطلقا أو فيما يمكن الاحتراز عنه، والذي يظهر الثاني لاتفاقهما في الأجير المشترك على عدم ضمانه فيما لا يمكن الاحتراز عنه، فالظاهر أن المودع بأجر كذلك؛ لأن الموت والحريق ونحوهما مما لا يمكن ضمانه والتعهد بدفعه (1) انتهى.
ويمكن أن يقال أيضا بأن عقد التأمين عقد معاوضة تجارية بخلاف الإيداع؛ فإن القصد به المساعدة بحفظ الوديعة لا الاتجار بها.
__________
(1) مجموعة رسائل ابن عابدين: الأجوبة المحققة في أسئلة متفرقة 2 \ 178.(20/57)
ي- قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البز مع الحاكة
وصورتها أنه في أواسط القرن الثامن وقعت مسألة بـ " سلا " على عهد قاضيها أبي عثمان سعيد العقباني تسمى قضية تجار البز مع الحاكة.
هي أن تجار البز رأوا توظيف مغارم مخزنية ثقيلة فاتفقوا على أن كل من اشترى منهم سلعة دفع درهما عند رجل يثقون به، وما اجتمع من ذلك استعانوا به على الغرم، وأراد الحاكة منعهم بدعوى أنه يضر بهم وينقص من ربحهم. قال العقباني: فحكمت بإباحة ذلك بشرط ألا يجبر واحد من التجار على دفع الدراهم (1) .
ويمكن أن يجاب عن ذلك بأنه قياس مع الفارق؛ فإن قضية تجار البز مع الحاكة من باب التأمين التبادلي وهو تعاون محض وعقود التأمين التي هي محل البحث عقود معاوضة تجارية يراد من ورائها الربح؛ فلا يصح قياسها على قضية تجار البز مع الحاكة.
__________
(1) القد السامي \ 310.(20/57)
ك- التأمين فيه مصلحة، وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبار المصالح.
نذكر فيما يلي الكلام في المراد بالمصلحة وفي الاحتجاج بها عند العلماء السابقين، ثم نذكر ما تيسر من كلام الفقهاء المعاصرين في بيان الاستدلال بهذا الدليل.
أما كلام العلماء السابقين، فقال الآمدي في بيان المصلحة المرسلة: هي ما لم يشهد الشرع باعتبارها ولا إلغائها. وقد اتفقت الشافعية والحنفية وأكثر الفقهاء على امتناع التمسك بها إلا ما نقل عن مالك مع إنكار أصحابه لذلك عنه والحق في ذلك مذهب الجمهور؛ لأن ما لا يكون معتبرا في الشرع لا يكون دليلا شرعيا، وما يقال: إنه ما من وصف مصلحي إلا وقد اعتبر ما هو من جنسه غير صحيح؛ لأنه إن أريد المشاركة بينه وبين الوصف المعتبر في الجنس القريب منه فهو الملائم ولا نزاع فيه، وإن أريد به الجنس الغائي فكما قد شارك الوصف المعتبر فيه فقد شارك الأوصاف الملغاة فيه وليس إلحاقه بالمعتبر أولى من الملغى (1) .
وقال: شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - الطريق السابع: " المصالح المرسلة " وهو أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة وليس في الشرع ما ينفيه، فهذه الطريق فيها خلاف مشهور، فالفقهاء يسمونها " المصالح المرسلة " ومنهم من يسميها الرأي. وبعضهم يقرب إليها الاستحسان، وقريب منها ذوق الصوفية ووجدهم وإلهاماتهم، فإن حاصلها أنهم يجدون في القول والعمل مصلحة في قلوبهم وأديانهم ويذوقون طعم ثمرته وهذه مصلحة لكن بعض الناس يخص المصالح المرسلة بحفظ
__________
(1) منتهى السؤل في علم الأصول 4 \ 56.(20/58)
النفوس والأموال والأعراض والعقول والأديان وليس كذلك، بل المصالح المرسلة في جلب المنافع وفي دفع المضار، وما ذكروه من دفع المضار عن هذه الأمور الخمسة فهو أحد القسمين.
وجلب المنفعة يكون في الدنيا وفي الدين، ففي الدنيا كالمعاملات والأعمال التي يقال فيها مصلحة من غير خطر شرعي، وفي الدين ككثير من المعارف والأحوال والعبادات والزهادات التي يقال فيها مصلحة للإنسان من غير منع شرعي، فمن قصر المصالح على العقوبات التي فيها دفع الفساد عن تلك الأحوال ليحفظ الخمسة فقط، فقد قصر.
وهذا فصل عظيم ينبغي الاهتمام به، فإن من جهته حصل في الدين اضطراب عظيم وكثير من الأمراء والعلماء والعباد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل، وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع ولم يعلموه، وربما قدم على المصالح المرسلة كلاما بخلاف النصوص، وكثير منهم من أهمل مصالح يجب اعتبارها شرعا بناء على أن الشرع لم يرد بها ففوت واجبات ومستحبات، أو وقع في محظورات ومكروهات وقد يكون الشرع ورد بذلك ولم يعلمه.
وحجة الأول: أن هذه مصلحة والشرع لا يهمل المصالح، بل قد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبارها.
وحجة الثاني: أن هذا أمر لم يرد به الشرع نصا ولا قياسا.
والقول بالمصالح المرسلة يشرع من الدين ما لم يأذن به الله "غالبا" وهي تشبه من بعض الوجوه مسألة الاستحسان والتحسين العقلي والرأي ونحو ذلك، فإن الاستحسان طلب الحسن والأحسن كالاستخراج، وهو رؤية الشيء حسنا كما أن الاستقباح رؤيته قبيحا والحسن هو المصلحة(20/59)
فالاستحسان، والاستصلاح متقاربان، والتحسين العقلي قول بأن العقل يدرك الحسن، لكن بين هذه فروق والقول الجامع أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط، بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتم النعمة، فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدثنا به النبي صلى الله عليه وسلم وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، لكن ما اعتقده العقل مصلحة وإن كان الشرع لم يرد به فأحد الأمرين لازم له؛ إما أن الشرع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر، أو أنه ليس بمصلحة وإن اعتقده مصلحة؛ لأن المصلحة هي المنفعة الحاصلة أو الغالبة، وكثيرا ما يتوهم الناس أن الشرع ينفع في الدين والدنيا ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة. كما قال تعالى في الخمر والميسر {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (1) .
وقال الشاطبي رحمه الله المعنى المناسب الذي يربط به الحكم لا يخلو من ثلاثة أقسام.
إحداها: أن يشهد الشرع بقبوله، فلا إشكال في صحته، ولا خلاف في إعماله، وإلا كان مناقضة للشريعة كشريعة القصاص حفظا للنفوس والأطراف وغيرها.
والثاني: ما شهد الشرع برده، فلا سبيل إلى قبوله، إذ المناسبة لا تقتضي الحكم لنفسها وإنما ذلك مذهب أهل التحسين العقلي، بل إذا ظهر المعنى وفهمنا من الشرع اعتباره في اقتضاء الأحكام فحينئذ نقبله، فإن المراد بالمصلحة عندنا ما فهم رعايته في حق الخلق من جلب المصالح ودرء المفاسد على وجه لا يستقل العقل بدركه على حال، فإذا
__________
(1) سورة البقرة الآية 219(20/60)
لم يشهد الشرع باعتبار هذا المعنى بل يرده كان مردودا باتفاق المسلمين، ومثاله ما حكى الغزالي عن بعض أكابر العلماء أنه دخل على بعض السلاطين، فسأله عن الوقاع في نهار رمضان، فقال: عليك صيام شهرين متتابعين، فلما خرج راجعه بعض الفقهاء، وقالوا له: القادر على إعتاق الرقبة كيف يعدل في الصوم والصوم وظيفة المعسرين، وهذا الملك يملك عبيدا غير محصورين؟ فقال لهم: لو قلت له عليك إعتاق رقبة لاستحقر ذلك وأعتق عبيدا مرارا، فلا يزجره إعتاق الرقبة ويزجره صوم شهرين متتابعين إلى أن قال.
الثالث: ما سكتت عنه الشواهد الخاصة فلم تشهد باعتباره ولا بإلغائه فهذا على وجهين:
أحدهما: " أن يرد نص على وفق ذلك المعنى كتعليل منع القتل للميراث بالمعاملة بنقيض المقصود بتقدير أن لم يرد نص على وفقه، فإن هذه العلة لا عهد بها في تصرفات الشرع بالفرائض ولا بملائمها بحيث يوجد لها جنس معتبر، فلا يصح التعليل بها ولا بناء الحكم عليها باتفاق، ومثل هذا تشريع من القائل به فلا يمكن قبوله.
والثاني: أن يلائم تصرفات الشرع، وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معين وهو الاستدلال المرسل المسمى بالمصالح المرسلة، ولا بد من بسطه بالأمثلة حتى يتبين وجهه بحول الله.
وذكر عشرة أمثلة لذلك، ثم قال: فهذه أمثلة عشرة توضح لك الوجه العملي في المصالح المرسلة وتبين لك اعتبار أمور:
أحدها: الملاءمة لمقاصد الشرع بحيث لا تنافي أصلا من أصوله ولا دليلا من دلائله.(20/61)
والثاني: أن عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل منها وجرى على دون (1) المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول، فلا مدخل لها في التعبدات ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية؛ لأن عامة التعبدات لا يعقل لها معنى على التفصيل؛ كالوضوء والصلاة والصيام في زمان مخصوص دون غيره والحج ونحو ذلك:
ثم ذكر مجموعة أمثلة توضح ذلك ثم قال:
والثالث: " أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري ورفع حرج لازم في الدين، وأيضا مرجعها إلى حفظ الضروري من باب ما لا يتم الواجب إلا به. . . " فهي إذا من الوسائل لا من المقاصد، ورجوعها إلى رفع الحرج راجع إلى باب التخفيف لا إلى التشديد. اهـ (2) .
وأما كلام الفقهاء المعاصرين في بيان وجه الاستدلال بهذا الدليل:
فقال عبد الرحمن عيسى: ومن الإنصاف أن نقرر أن التأمين نشأ وليد الحاجة، ولم تزل عملياته تتعدد وتتنوع تبعا لما يحققه من مصالح اقتصادية كبيرة فقلما نجد باخرة تعبر البحار إلا مؤمنا عليها، وقلما نجد البضائع تشحن من الخارج بحرا أو جوا إلا مؤمنا عليها، وكذلك قلما نجد العمارات الشاهقة والمتاجر الكبيرة إلا مؤمنا عليها ضد الحريق، وكذلك مخازن البنوك ومخازن الشركات للقطن والحبوب وغيرها مؤمن عليها ضد الحريق، وكذلك مخازن البترول والزيوت ومخازن الأخشاب وكذلك المصانع الكبيرة وعمالها مؤمن عليها، وكذلك السيارات والطائرات، فقد دفعت قواعد الاقتصاد الناس دفعا إلى التأمين لدى شركات التأمين ليأمنوا الكوارث المالية الفادحة التي يتعرضون لها نظير
__________
(1) كذا في المطبوع، ولعله '' على سنن ''.
(2) انظر الاعتصام ج3 ص 283 - 284 وص 286 -287 وص 307 -313.(20/62)
ما يدفعون لشركات التأمين من مال لا يذكر بجانب الكوارث والخسارة إذا نزلت بفرد منهم.
وكم سمعنا من قبل التأمين عن بيوت عظيمة للتجار خربت بغرق بضائعهم وسفنهم، وكم سمعنا عن محال تجارية نشيطة أكلتها النيران وأمسى ذووها يتكففون الناس، وكم وكم من كوارث حلت بذوي الحظ العاثر فبددت الثروات وجلبت الذل والخسران، ولكن التأمين وقد انتشر وظهرت آثاره حقق معناه فأمن الناس من هذه الكوارث المخربة للديار العامرة وخففت من فداحتها.
فعن رضا تام من طالب التأمين يتعاقد مع شركة التأمين ويدفع أقساط التأمين، وعن رضا تام من الشركة تتعاقد معه وتدفع قيمة الخسارة إذا نزلت به، فإنها تجمع منه ومن غيره مبالغ كثيرة، وفي الغالب تكون السلامة بحيث يبقى لها بعد سداد الخسائر أرباح كثيرة (1) .
وقال الأستاذ عبد الرحمن عيسى أيضا:
وقد قرر العلماء أن المصالح العامة إذا كانت تناسب حكما شرعيا فإن ذلك الحكم الذي تناسبه يثبت للعمل الذي يحقق المصلحة العامة اعتبارا بهذا الوصف المناسب للحكم، ولهم في ذلك سلف عظيم أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم، فقد جمع أبو بكر رضي الله عنه القرآن في صحف بعد موقعة اليمامة؛ خوفا من ضياعه بقتل القراء ولم يكن ذلك من قبل أبي بكر.
وقد نسخ عثمان بن عفان من هذه الصحف أربعة مصاحف، ووزعها
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي \ 473 - 474.(20/63)
على الأقطار وأمر بحرق كل صحيفة تخالف الصحف؛ منعا لاختلاف الناس في القرآن.
ولعمر بن الخطاب من ذلك الكثير لإثبات الحكم الشرعي للعمل الذي يحقق المصلحة العامة؛ فهو الذي أنشأ الدواوين وأنشأ البريد، بل قد أسقط عمر سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة مع أنها صنف من الأصناف الثمانية الذين تصرف لهم الزكاة؛ وذلك لأن عمر رضي الله عنه رأى أن هذا الصنف كان يأخذ من الزكاة مراعاة لمصلحة المسلمين إذا كان فيهم ضعف، وكانوا في حاجة إلى تألف هذا الصنف، ولكن لما قويت شوكة المسلمين ولم يصيروا في حاجة إلى تأليف هؤلاء رأى عمر رضي الله عنه وهو البصير بأمر المسلمين ألا مصلحة في إعطاء هذا الصنف من الزكاة، بل المصلحة في منعهم؛ لئلا يظن بالمسلمين الضعف. كذلك أسقط عمر حد السرقة عن السارق عام المجاعة لما اشتدت، ربما تكون هي التي دفعت تحت تأثير العوامل الطبيعية إلى السرقة ليحصل السارق على الطعام الذي لا يكاد يجده، فتكون حالة الضرورة هي الدافع على السرقة فاقتضى عدم إقامة الحد مراعاة لهذه العوامل الطبيعية.
فهذه المواقف وأمثالها من الخلفاء الراشدين على مشهد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عدم إنكارهم؛ دليل على أنهم يرون أن المصالح العامة من الأمور المناسبة للحكم الشرعي، والتي ينبني عليها ثبوت ذلك الحكم. . . وقد بينا بوضوح تام أن التأمين يحقق مصالح عامة وهامة؛ فيكون حكمه الجواز شرعا اعتبارا لما يحققه من المصالح العامة (1) .
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي 474-475.(20/64)
وقال أيضا: قد يبدو ما قررناه ظاهرا وجليا من أن التأمين يحقق الصالح العام بالنسبة للتأمين ضد أخطار الملكية؛ كالتأمين ضد الحريق وضد الغرق وضد السرقة.
وقد يبدو محتاجا إلى ظهور وجلاء بالنسبة للتأمين على الحياة وضد سائر الأخطار الشخصية فنجلي عمليات التأمين بالنسبة للأخطار الشخصية بما يأتي:
إن التأمين على الحياة وضد سائر الأخطار كالتأمين على بعض الحواس كالسمع والبصر وغيرهما، أو على بعض أجزاء الجسم؛ كاليدين والساقين وغيرهما، هذا التأمين يحقق الصالح العام في الصناعات والمهن الخطيرة فيه تخفيف آلام الكوارث التي تنزل برجال الصناعات، وتهون الشدائد التي تقع على المخاطرين من رجال الأعمال لهذا يكون التأمين ضد الأخطار الشخصية في الصناعات والمهن الخطيرة جائزا شرعا (1) .
وقد علق الأستاذ أبو زهرة على كلام الأستاذ عبد الرحمن عيسى في الاستدلال بالمصلحة على جواز التأمين فقال:
لا بد أن أتعرض لبعض أمور جزئية ثارت في أثناء المناقشات أو جاءت في بعض البحوث ومن ذلك الكلام على أمر يتعلق بالمصلحة فقد جاء في بحث فضيلة الشيخ عبد الرحمن عيسى أن عمر بن الخطاب ترك بعض النصوص لأجل المصلحة، وذكر مسألتين أبلاهما التكرار، وهما مسألة المؤلفة قلوبهم، ومسألة قطع اليد وإهماله عام المجاعة.
ونقول بالنسبة للأولى: إن عمر بن الخطاب ما أسقط سهم المؤلفة
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي \ 477.(20/65)
قلوبهم وما كان في استطاعته أن يسقط نصا قرآنيا، ولكن عمر منع إعطاء أناس كانوا يأخذون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الصديق رضي الله عنه كالزبرقان بن بدر وغيره، فهو ما اعتبر إعطاءهم حقهما مكتسبا، بل اعتبر مثل هذا العطاء موقوفا بحال الشخص وحال المسلمين.
وقد يقول: ولكنه لم يعط غيره، ونقول: إنه رأى أنه لا موضع لتطبيق النص؛ لعدم حاجة المسلمين إليه، ومثل ذلك سهم المدينين، فهل يعد إسقاطا للسهم إذا لم يجد مدينا يسد عنه، وكذلك سهم الرقاب فهل يعد إسقاطا للسهم إذا لم يوجد عبد مسلم يعتق.
ولذلك قرر الفقهاء بالإجماع أنه إذا وجدت حال يكون فيها إعطاء ناس تأليفا لقلوبهم فيه تقوية للإسلام فإن النص القرآني يجب الأخذ به؛ ولذلك لا يصح لأحد أن يقول: إن عمر رضي الله عنه أسقط سهم المؤلفة قلوبهم، إن ذلك قول الإفرنجة الذين لا يرجون للإسلام وقارا ويريدون توهين نصوصه، وتبعهم بعض كبار العلماء عن غير بينة وكل امرئ يخطئ ويصيب مهما كانت منزلته العلمية.
وأما مسألة عدم قيام الحد عام الرمادة، وهو السنة التي اشتدت فيها المجاعة على المسلمين، فذلك لأن عمر رضي الله عنه وجد شبهة في إقامته، ومن المقررات الفقهية أن الحدود تدرأ بالشبهات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم (1) » والشبهة أنه رأى السارقين في حال جوع شديد واضطرار، ويعلم كل فقير أن الضرورات تبيح المحظورات، وأن من كان في حال جوع يتعرض فيه
__________
(1) خرجه ابن أبي شيبة والترمذي والحاكم والبيهقي عن عائشة.(20/66)
للتلف إذا لم يأكل يباح له مال غيره بقدر ما يسد رمقه، وإذا منعه فقاتله فقتل صاحب الطعام لا دية فيه، والقصة تنبئ عن ذلك فإن غلمان حاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة ونحروها وأكلوها، فهم عمر بأن يقيم الحد عليهم، ولكنه تبين له أن حاطبا يجيع غلمانه، فلم يقم الحد وغرمه، أليس في الخبر ما يدل على أنه درأ الحد بشبهة الاضطرار، وقد اشتكوا إليه، وثبتت صحة شكواهم والعام عام مجاعة، ولذلك يقرر فقهاء الحنابلة وكثيرون غيرهم أن من شرط إقامة الحد في السرقة ألا يكون السارق قد سرق طعامه في مجاعة لمكان شبهة الاضطرار في إقامة الحد (1) .
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي \ 525.(20/67)
ل- التأمين لم يقم دليل على منعه فيكون مباحا بناء على أن الأصل في الأشياء الإباحة.
لقد ذكرت اللجنة في بحث الشرط الجزائي كلاما مفصلا عن العلماء السابقين على أن الأصل في الأشياء الإباحة فرأت الاكتفاء بذكره هناك عن إعادته هنا.
وأما وجه استدلال العلماء المعاصرين بهذا الدليل فقد أوضحه الشيخ عبد الرحمن عيسى بقوله:
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (1) . قال المفسرون: أي هو الذي خلق لأجلكم جميع ما في الأرض لتنتفعوا به في دنياكم بالذات أو بالواسطة وفي دينكم بالاعتبار والاستدلال.
وقالوا أيضا: استدل كثير من أهل السنة بالآية على أن الأصل في
__________
(1) سورة البقرة الآية 29(20/67)
الأشياء الإباحة وقال صاحب تفسير المنار: إن هذه الجملة هي نص الدليل القطعي على القاعدة المعروفة عند الفقهاء " إن الأصل في الأشياء الإباحة ".
هذا الأصل يتبعه أن تكون معاملات الناس فيما خلقه الله لمنفعتهم مباحة إلا ما ورد فيه دليل بخصوصه يقتضي غير ذلك فبمقتضى هذه القاعدة تكون عمليات التأمين التي بيناها مباحة؛ لأنها من معاملات الناس فيما خلقه الله لمنفعتهم، ولم يرد بخصوصها نص يحظرها (1) .
وقال أيضا بالنسبة للتأمين على الحياة: ويمكن أن نثبت للتأمين ضد الأخطار الشخصية في الصناعات والمهن الخطيرة الجواز أيضا من ناحية الإباحة التامة الثابتة لكل عمل يتصل بما خلقه الله لمنفعتنا، ولم يرد فيه بخصوصه دليل يقتضي الحظر؛ لأن كل ذلك ينطبق على هذا التأمين (2) .
وقال الأستاذ مصطفى الزرقا: رأينا الشخصي في الموضوع في نظري أن نقطة الانطلاق في بحث حكم الشريعة الإسلامية في عقد التأمين يجب أن تبدأ من ناحية هي عندي حجر الأساس، وهي هل أنواع العقود في الشريعة الإسلامية محصورة لا تقبل الزيادة؟ أي هل نظام التعاقد في الإسلام يحصر الناس في أنواع معينة من العقود المسماة، وهي العقود المعروفة في صدر الإسلام من بيع وإجارة وهبة ورهن وشركة وصلح وقسمة وإعارة وإيداع وسائر العقود الأخرى المسماة، التي ورد لها ذكر وأحكام في مصادر فقه الشريعة من كتاب وسنة وإجماع، ولا يبيح للناس إيجاد أنواع من العقود غير داخلة في أحد الأنواع السابقة
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي \ 475، 476.
(2) أسبوع الفقه الإسلامي \ 478.(20/68)
المذكورة لهم، أم أن الشريعة تركت الباب مفتوحا للناس في أنواع العقود وموضوعاتها فيمكنهم أن يتعارفوا على أنواع جديدة إذا دعتهم حاجاتهم الزمنية إلى نوع جديد ليس فرعا من أحد الأنواع المعروفة قبلا، ويصح منهم كل عقد جديد متى توافرت فيه الأركان والشرائط العامة التي تعتبر من النظام التعاقدي العام في الإسلام؛ كالشرائط المطلوبة شرعا في التراضي والتعبير عن الإرادة وفي محل العقد بحيث لا يتضمن العقد ما يخالف قواعد الشريعة التي عبر عليها النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: «كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل وإن كان مائة شرط (1) » .
فكتاب الله في هذا المقام معناه القواعد العامة في الشريعة وليس معناه القرآن فهو مصدر بمعنى المفعول أي ما كتبه الله على المؤمنين وأوجبه عليهم كقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (2) .
والجواب على هذا السؤال أن الشرع الإسلامي لم يحصر الناس في الأنواع المعروفة قبلا من العقود، بل للناس أن يبتكروا أنواعا جديدة تدعوهم حاجتهم الزمنية إليها بعد أن تستوفى الشرائط العامة المشار إليها.
وهذا ما نراه هو الحق وهو من مبدأ سلطان الإرادة العقدية في الفقه الإسلامي، وقد استوفيت بحثه في كتابي " المدخل الفقهي العام " وهو الجزء الأول من سلسلة الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد. وقد خالف في ذلك الظاهرية فاعتبروا أن الأصل في العقود هو التحريم ما لم يرد في الشرع دليل الإباحة (3) .
__________
(1) خرجه بهذا اللفظ البزار والطبراني عن ابن عباس. وأصله في الصحيحين وأحمد ومالك وأبو داود والنسائي وابن الجارود والطحاوي والدارقطني والبيهقي عن عائشة.
(2) سورة النساء الآية 103
(3) أسبوع الفقه الإسلامي \ 387- 388.(20/69)
وقد ذكر الأستاذ الزرقا بيع الوفاء عند الحنفية شاهدا على أن العقود لا تنحصر فيما كان موجودا في عصر التنزيل أو الصحابة.
فقال: ومن الشواهد الواقعية في المذهب الحنفي على أن الأصل في العقود الجديدة هو الإباحة شرعا عقد " بيع الوفاء " الذي نشأ في القرن الخامس الهجري.
ولا أجد في تاريخ الفقه الإسلامي واقعة أشبه بواقعة التأمين من بيع الوفاء في أول ظهوره لا من حيث موضوع العقدين، بل من حيث الملابسات الخارجية والاختلافات التي أحاطت بكل منهما، فبيع الوفاء أيضا عقد جديد ذو خصائص وموضوع وغاية يختلف فيها عن كل عقد آخر من العقود المسماة المعروفة قبله لدى فقهاء الشريعة، وهو ينطوي على غاية يراها الفقهاء محرمة؛ لأنه يخفي وراءه ألوانا من الربا المستور وهو الحصول على منفعة من وراء القرض حيث يدفع فيه الشخص مبلغا من النقود ويسميه ثمنا لعقار يسلمه صاحبه إلى دافع المبلغ الذي يسمى مشتريا للعقار لينتفع به بالسكنى أو الإيجار بمقتضى الشراء بشرط أن صاحب العقار الذي يسمى في الظاهر بائعا متى وفى المبلغ المأخوذ على سبيل الثمنية استرد العقار، ونتيجة ذلك أن ما يسمى مشتريا بالوفاء لا يستطيع أن يتصرف بالعقار الذي اشتراه، بل عليه الاحتفاظ بعينه كالمرهون؛ لأنه سوف يكلف رده لصاحبه متى أعاد إليه الثمن، ولكل منهما الرجوع عن هذا العقد أي فسخه وطلب التراد ولو حددت له المدة.
هذه خلاصة بيع الوفاء الذي تعارفه الناس في بخارى وبلخ في القرن الخامس الهجري، وثارت حوله اختلافات عظيمة بين فقهاء العصر إذ ذاك حول جوازه ومنعه وتخريجه، أي تكييفه، أعظم مما هو واقع اليوم عقد التأمين.(20/70)
أ- فمن الفقهاء من نظر إلى صورته فاعتبره بيعا، وطبق عليه شرائط البيع فاعتبروه بيعا فاسدا؛ لأن الشرط المقترن به مفسد وأفتى فيه بذلك.
ب- ومنهم من اعتبره بيعا صحيحا وألغى فيه شرط الإعارة معتبرا أن هذا الشرط من قبيل الشرط المفسد وأفتى بذلك، وهذا مشكل جدا وفيه ضرر للبائع؛ لأن الثمن فيه عادة أقل من القيمة الحقيقية للعقار كالدين المرهون له فيه.
ج- ومنهم من نظر إلى غايته لا إلى صورته، فرآه في معنى الرهن الذي اشترط فيه انتفاع المرتهن بالمرهون، فاعتبره رهنا وألغى فيه شرط الانتفاع، وأفتى بذلك.
قال العلامة الشيخ بدر الدين محمود بن قاضي سماوه في الفصل - 18 - من كتابه " جامع الفصولين " نقلا عن فتاوى الإمام نجم الدين عمر بن محمد النسفي ما نصه:
البيع الذي تعارفه أهل زماننا احتيالا للربا وأسموه بيع الوفاء هو رهن في الحقيقة لا يملكه المشتري ولا ينتفع به إلا بإذن مالكه، وهو ضامن لما أكل من ثمر وأتلفه من شجره ويسقط الدين بهلاكه، لا فرق عندنا بينه وبين الرهن في حكم من الأحكام؛ لأن المتعاقدين، وإن سمياه بيعا لكن عرفهما الرهن والاستيثاق بالدين؛ إذ العاقد " أي البائع " يقول لكل أحد بعد هذا العقد: رهنت ملكي فلانا، والمشتري يقول: ارتهنت ملك فلان، والعبرة في التصرفات المقاصد والمعاني؛ فهبة المرأة نفسها مع تسمية المهر وحضرة الشهود نكاح، وهكذا.
ثم قال: قال السيد الإمام: قلت لإمام الحسب الماتريدي قد فشا هذا البيع بين الناس وفتواك أنه رهن وأنا على ذلك، فالصواب أن نجمع الأئمة ونتفق على هذا ونظهره بين الناس. فقال: المعتبر اليوم فتوانا،(20/71)
وقد ظهر ذلك بين الناس فمن خالفنا فليبرز نفسه وليقم دليله. انتهى كلام النسفي.
أقول أبرز المخالفون بعد ذلك أنفسهم، واستقرت الفتوى في المذهب الحنفي على ما سمي: " القول الجامع " وهو أن بيع الوفاء ليس بيعا صحيحا، ولا بيعا فاسدا ولا رهنا، وإنما هو عقد جديد ذو موضوع وخصائص مختلفة عما لكل واحد من هذه العقود الثلاثة، ولكن فيه مشابه من كل عقد من هذه الثلاثة؛ لذلك قرر فقهاء المذهب بعد ذلك أحكاما مستمدة من هذه العقود الثلاثة جميعا، ولم يلحقوه بأحدها ويطبقون عليه أحكامه، والكلام في ذلك مبسوط في مواطنه من مؤلفات المذهب الحنفي وبهذا القول الجامع أخذت مجلة الأحكام العدلية حتى جاء قانوننا المدني سنة 1949 م فمنع بيع الوفاء استغناء بأحكام الرهن الحيازي، والتاريخ اليوم يعيد نفسه فتتجدد لدينا مشكلة نظير مشكلة بيع الوفاء هي مشكلة عقد التأمين، فبعض العلماء يراه عقد مقامرة، وبعض آخر يراه عقد رهان يتحدى فيه قضاء الله وقدره، وبعض آخر يراه التزام ما لا يلزم وآخرون يرونه عقد تعاون مشروع على ترميم المضار وتحمل مصائب الأقدار فهو نظام معاوضة تعاونية، وإن انحرف به ممارسوه وأحاطوه بشوائب ليست من ضرورة نظامه، وواضح أني لا أعني تشبيه عقد بيع الوفاء بعقد التأمين من حيث الموضوع، وإنما أعني أن بيع الوفاء شاهد واقعي في تاريخ الفقه الإسلامي على جواز إنشاء عقود جديدة، وأنه اعتراه في أول نشأته ما اعترى اليوم عقد التأمين من اختلاف في تخريجه وتكييفه وإلحاقه ببعض العقود المعروفة قبلا وتطبيق شرائطه عليه، أو اعتباره عقدا جديدا مستقلا يقرر له من الأحكام الفقهية ما يتناسب مع خصائصه وموضوعه (1) .
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي \ 387 وما بعدها.(20/72)
وقد أجاب الأستاذ أبو زهرة عن ذلك فقال: قد قرر أن الأصل في العقود عند الحنابلة وخصوصا ابن تيمية الإباحة حتى يقوم دليل على المنع، ونقول: إن موضوع الكلام كان في الشرط لا في أصل العقود، ولقد أجاب عن ذلك الأستاذ بأن المشارطات قد تؤدي إلى تغيير معنى العقد، وأن الاختلاف في العقود هو ذات الاختلاف في الشروط، ونقول: إن المذكور في كتاب العقود لابن تيمية هو في الشرط، ومجيئه للعقود إنما هو من أن الشروط بطبيعها تغير مقتضى العقد فهي تتضمن تغييرا في ماهيته من بعض النواحي، وإذا كان الأمر كذلك فإن عقد التأمين عقد جديد فهل يباح بمقتضى هذه القاعدة؟ وقد نساير الأستاذ الجليل ولا نمنع الإباحة ما دام العقد متفقا مع ما قرره الشارع من أحكام للعقود وليس مجافيا لها فالعبرة في هذا العقد من ناحية لا من حيث إنه عقد جديد يجوز، بل من ناحية ما اشتمل عليه، أيتفق مع أحكام الشريعة أم يخالفها.
وبالنسبة لبيع الوفاء قلنا: إن هذا العقد معناه أن يبيع شخص عينا على أن له استردادها إذا رد الثمن في مدة معلومة، وفي غالب أحوال هذا العقد تكون العين ذات غلة، فتكون غلتها للمشتري ويكون مؤدى العقد أن يكون قد اقترض البائع مبلغا فائدته هي غلة العين، وإذا لم تكن لها غلة فإن الربا ينتفي عنه وإن كان يندر ذلك.
وإن هذا العقد قد شاع في بلاد ما وراء النهر، وصارت القروض لا تكون إلا على أساسه، وللناس حاجة فيها فصارت الحاجة تطلبه، والحاجات إذا عمت نزلت منزلة الضرورات؛ ولذلك نقل ابن نجيم صحته والذين قالوا بصحته اختلفوا: أيخرج على أنه رهن أم يخرج على أنه بيع فيه شرط الخيار للبائع أو المشتري، وعلى الأول لا تباح الغلة وعلى الثاني(20/73)
لا تنتقل الملكية إلى المشتري؛ لأنه إذا كان الخيار للبائع تستمر ملكيته للمبيع بمقتضى أحكام المذهب الحنفي وتنتقل الملكية للمشتري مع حق الفسخ إذا كان الخيار له.
والكثيرون من الفقهاء لا يبيحونه، ولسنا ندري لماذا يستشهد الأستاذ بعقد تحيط به الشبهات على هذا النحو، وعلى فرض إباحته فقد أدخل في عقد قائم إما الرهن وإما البيع، فلا يكون جديدا، وقد كتب الأستاذ ردا، ولم يجئ بالنسبة لبيع الوفاء بجديد غير أنه نقل نصوص الفقهاء فيه ونحن مسلمون بها ابتداء (1) .
وعقب على ذلك الأستاذ مصطفى الزرقا، فقال: قال الأستاذ الجليل الشيخ محمد أبو زهرة: " إن الخلاف بين الظاهرية وغيرهم في مشروعية التعاقد إنما هو في الشروط التي يشرطها العاقد في العقد لا في إنشاء عقود جديدة، فالظاهرية يتطلبون في إباحة الشرط نصا شرعيا وسواهم يطلب دليلا مطلقا من نص أو سواه، وإن الحنابلة جعلوها مباحا في الزواج، وابن تيمية أباحه مطلقا. . . " إلخ.
وجوابي على هذه الملاحظة: إن الخلاف في جواز المشارطات العقدية التي لم يرد فيها نص شرعي إذا توافر فيها المعيار الشرعي في الشروط هو نفسه الخلاف في جواز إنشاء عقود جديدة لم يرد فيها نص شرعي وهو مشمول بقاعدة " الأصل في الأشياء الإباحة " والخلاف الذي فيها، وذلك لأن الشرط جزء من العقد الواقع فيه. فما يقال في الشروط الجديدة التي لم يرد فيها نص شرعي من حيث الجواز وعدمه يقال في العقود الجديدة التي ليس فيها نص وأستاذنا المفضال أبو زهرة نفسه يقرر هذا في كتبه وهو أمر مفروغ منه. اهـ.
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي \ 515.(20/74)
وقال الأستاذ الجليل أبو زهرة بمناسبة ذكرى بيع الوفاء شاهدا من الواقع التاريخي في الفقه الإسلامي على جواز عقود جديدة غير العقود المعروفة قبلا قال- رحمه الله-: إن بيع الوفاء قد أباحه الحنفية على أساس أنه عقد من العقود المعروفة، وهو يرى أنه ليس عقدا جديدا، بل هو بيع ربوي اخترعه أكلة الربا، ولا يجوز أن يباح للضرورة، وجوابي على هذه الملاحظة أن ما بينه الأستاذ أبو زهرة هو صحيح بالنسبة إلى بداية ظهور بيع الوفا في القرن الخامس الهجري حيث إن فقهاء العصر إذ ذاك اختلفوا في تخريجه والحكم فيه على أساس إلحاقه بأحد العقود المعروفة؛ فمنهم من ألحقه بالبيع الصحيح واعتبر شرط الوفاء والإعادة فيه لغوا، ومنهم من ألحقه بالبيع الفاسد، ومنهم من ألحقه بالرهن وهم الأكثر، ولكن المتأخرين من الفقهاء بعد ذلك ضربوا بكل هذه التخريجات عرض الحائط؛ لعدم انطباقها على حقيقة بيع الوفاء وطبيعته العرفية وقصد المتعاقدين فيه، وخرجوا فيه برأي جديد سمي " القول الجامع "، ورجح بعلامة الفتوى وخلاصته: أنه عقد جديد لا يشبه أي عقد آخر من العقود المعروفة، وأثبتوا له حكما مركبا من بعض أحكام البيع الصحيح وبعض أحكام البيع الفاسد وبعض أحكام الرهن، وصححوه على هذا الأساس إذا استوفى شرائط الانعقاد العامة، كما أوضحته في المحاضرة، وهذا مقرر في الدر المختار ورد المحتار وتنقيح الفتاوى الحامدية للعلامة ابن عابدين وغيرها من كتب المتأخرين وأخذت به المجلة في المادة - 118- وبنت عليه أحكام بيع الوفاء في الفصل الذي عقدته له وأوضحه شراحها.
وأما كونه حيلة اخترعها أكلة الربا كما يقول الأستاذ أبو زهرة فهذا أمر آخر، وإنني لم أبحث فيما ينبغي أن يحكم به على بيع الوفاء في نظري(20/75)
من الجواز وعدمه فقد أكون متفقا مع الأستاذ أبي زهرة في رأيه فيه، ولكني أستشهد به شاهدا واقعيا على إقرار فقهائنا السابقين له بصفة أنه عقد جديد وليس صورة من عقد سابق معروف؛ فتكون قضية جواز إنشاء عقود جديدة غير الأنواع المعروفة في العصر الفقهي الأول قد وقعت فعلا، ولم تبق في الحيز النظري فقط.
وتكون النتيجة بالنسبة إلى موضوعنا هي: إن كون التأمين عقدا جديدا خارجا عن نطاق العقود القديمة ليس بمانع من جوازه شرعا إذا لم يكن فيه ما يخالف الشرائط الشرعية العامة في نظام التعاقد (1) .
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي \ 539 - 541.(20/76)
م- الاستدلال على جوازه بالعرف.
نذكر فيما يلي ما تيسر من كلام بعض العلماء السابقين في معنى العرف وأقسامه، ومستند اعتباره، ورجوع كثير من المسائل إلى العادة والعرف وشروط اعتباره وحكمه عند معارضته للشرع وكيفية أعماله، وهل هو دليل مستقل أو لا. ثم نذكر وجه استدلال بعض الفقهاء المعاصرين به على جواز التأمين ومناقشته هذا التوجيه.
1 - قال أحمد بن فارس بن زكريا: " عرف " العين والراء والفاء أصلان صحيحان، يدل أحدهما على تتابع الشيء متصلا بحضه ببعض، والآخر على السكون والطمأنينة.
فالأول العرف: عرف الفرس، وسمي بذلك لتتابع الشعر عليه. ويقال: جاءت القطا عرفا عرفا، أي بعضها خلف بعض. . . والأصل الآخر المعرفة والعرفان. تقول: عرف فلان فلانا عرفانا ومعرفة، وهذا أمر معروف، وهذا يدل على ما قلناه من سكونه إليه؛ لأنه من أنكر(20/76)
شيئا توحش منه ونبا عنه. . . والعرف والمعروف، وسمي بذلك؛ لأن النفوس تسكن إليه. . . (1)
وقال ابن عابدين: قال في الأشباه وذكر الهندي في شرح المغني: العادة عبارة عما يستقر في النفوس من الأمور المتكررة المعقولة عند الطباع السليمة وهي أنواع ثلاثة: العرفية العامة؛ كوضع القدم. والعرفية الخاصة؛ كاصطلاح كل طائفة مخصوصة؛ كالرفع للنحاة والفرق والجمع والنقض للنظار، والعرفية الشرعية؛ كالصلاة والزكاة والحج تركت معانيها اللغوية بمعانيها الشرعية. انتهى.
وفي شرح الأشباه للبيري عن المستصفى: العادة والعرف ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول. اهـ.
وفي شرخ التحرير: العادة هي الأمر المتكرر من غير علاقة عقلية. اهـ.
قلت بيانه: إن العادة مأخوذة من المعاودة فهي بتكررها ومعاودتها مرة بعد أخرى صارت معروفة مستقرة في النفوس والعقول بالقبول من غير علاقة ولا قرينة حتى صارت حقيقة عرفية فالعادة والعرف بمعنى واحد من حيث المقاصد وإن اختلفا من حيث المفهوم (2) .
2 - وقال ابن عابدين - مبينا أقسام العرف - ثم العرف عملي وقولي؛ فالأول كتعارف قوم أكل البر ولحم الضأن، والثاني كتعارفهم إطلاق
__________
(1) معجم مقاييس اللغة 4 \ 281.
(2) مجموعة رسائل ابن عابدين 2 \ 114.(20/77)
لفظ لمعنى بحيث لا يتبادر عند سماعه غيره، والثاني مخصص للعام اتفاقا كالدراهم تطلق ويراد بها النقد الغالب في البلدة، والأول مخصص أيضا عند الحنفية دون الشافعية فإذا قال: اشتر لي طعاما أو لحما انصرف إلى البر ولحم الضأن عملا بالعرف العملي كما أفاده التحرير (1) .
3 - وقال ابن عابدين - مستدلا على اعتبار العرف - واعلم أن بعض العلماء استدل على اعتبار العرف بقوله سبحانه وتعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} (2) وقال في الأشباه القاعدة السادسة: العادة محكمة وأصلها قوله صلى الله عليه وسلم: «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن (3) » قال العلائي: لم أجده مرفوعا في شيء من كتب الحديث أصلا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال، وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفا عليه أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4) .
4 - وقال ابن عابدين - مبينا رجوع كثير من المسائل إلى العادة والعرف - واعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلا، فقالوا في الأصول في باب ما تترك به الحقيقة: تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة، هكذا ذكر فخر الإسلام. انتهى كلام الأشباه وفي شرح الأشباه للبيري قال في المشرع: الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، وفي المبسوط: الثابت بالعرف كالثابت بالنص (5) .
__________
(1) مجموعة رسائل ابن عابدين 2 \ 114- 115.
(2) سورة الأعراف الآية 199
(3) مسند أحمد بن حنبل (1/379) .
(4) مجموعة رسائل ابن عابدين 2 \ 115 والأشباه النظائر للسيوطي \ 80 والفروق للقرافي 3 \ 149.
(5) مجموعة رسائل ابن عابدين 2 \ 115.(20/78)
وقال ابن القيم في إعمال العرف في كثير من المسائل:
وقد أجرى العرف مجرى النطق في أكثر من مائة موضع؛ منها: نقد البلد في المعاملات، وتقديم الطعام إلى الضيف، وجواز تناول اليسير مما يسقط من الناس من مأكول وغيره، والشرب من خوابي السيل ومصانعه في الطرق، ودخول الحمام وإن لم يعقد عقد الإجارة مع الحمامي لفظا، وضرب الدابة المستأجرة إذا حرنت في السير وإيداعها في الخان إذا قدم بلدة أو ذهب في حاجة ودفع الوديعة إلى من جرت العادة بدفعها إليه من امرأة أو خادم أو ولد. وتوكيل الوكيل لما لا يباشره مثله بنفسه، وجواز التخلي في دار من أذن له بالدخول إلى داره، والشرب من مائه والاتكاء على الوسادة المنصوبة، وأكل الثمرة الساقطة من الغصن الذي على الطريق، وإذن المستأجر للدار لمن شاء من أصحابه أو أضيافه في الدخول والمبيت والثوي عنده والانتفاع بالدار وإن لم يتضمنهم عقد الإجارة لفظا اعتمادا على الإذن العرفي، وغسل القميص الذي استأجره للبس مدة يحتاج فيها إلى الغسل، ولو وكل غائبا أو حاضرا في بيع شيء والعرف قبض ثمنه ملك ذلك، ولو اجتاز بحرث غيره في الطريق ودعته الحاجة إلى التخلي فيه فله ذلك إن لم يجد موضعا سواه؛ إما لضيق الطريق أو لتتابع المارين فيها، فكيف بالصلاة فيه والتيمم بترابه؟ ومنها لو رأى شاة غيره تموت فذبحها حفظا لماليتها عليه كان ذلك أولى من تركها تذهب ضياعا، وإن كان من جامدي الفقهاء من يمنع من ذلك ويقول: هذا تصرف في ملك الغير، ولم يعلم هذا اليابس أن التصرف في ملك الغير إنما حرمه الله لما فيه من الأضرار به وترك التصرف ههنا هو الإضرار.
ومنها لو استأجر غلاما فوقعت أكلة في طرفه فتيقن أنه إن لم(20/79)
يقطعه سرت إلى نفسه فمات جاز له قطعه ولا ضمان عليه، ومنها لو رأى السيل يمر بدار جاره فبادر ونقب حائطه وأخرج متاعه فحفظه عليه جاز ذلك، ولم يضمن نقب الحائط، ومنها لو قصد العدو مال جاره فهدم جانبا منها على النار لئلا تسري إلى بقيتها لم يضمن، ومنها لو باعه صبرة عظيمة أو حطبا أو حجارة ونحو ذلك جاز له أن يدخل ملكه من الدواب والرجال ما ينقلها به، وإن لم يأذن في ذلك لفظا، ومنها لو جذ ثماره أو حصد زرعه، ثم بقي من ذلك ما يرغب عنه عادة جاز لغيره التقاطه وأخذه، وإن لم يأذن فيه لفظا.
ومنها لو وجد هديا مشعرا منحورا ليس عنده أحد جاز له أن يقتطع منه ويأكل منه ويأكل منه، ومنها لو أتى إلى دار رجل جاز له طرق حلقة الباب عليه، وإن كان تصرف في بابه لم يأذن له فيه لفظا ومنها الاستناد إلى جواره والاستظلال به. ومنها الاستمداد من محبرته، وقد أنكر الإمام أحمد على من استأذنه في ذلك. وهذا أكثر من أن يحصر، وعليه يخرج حديث عروة بن الجعد البارقي حيث أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم دينارا يشتري له به شاة، فاشترى شاتين بدينار، فباع إحداهما بدينار، وجاء بالدينار والشاة الأخرى (1) ، فباع وقبض بغير إذن لفظي اعتمادا منه على الإذن العرفي الذي هو أقوى من اللفظي في أكثر المواضع، ولا إشكال بحمد الله في هذا الحديث بوجه عام، وإنما الإشكال في استشكاله، فإنه جار على محض القواعد كما عرفته (2) .
5 - لقد اشترط العلماء رحمهم الله شروطا لاعتبار العرف نذكرها فيما يلي:
__________
(1) خرجه البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد والدارقطني.
(2) إعلام الموقعين 2 \ 393 - 394.(20/80)
الشرط الأول- أن يكون العرف مطردا أو غالبا. قال السيوطي: إنما تعتبر العادة إذا اطردت فإن اضطربت فلا (1) .
الشرط الثاني- أن يكون العرف عاما في جميع بلاد الإسلام قال ابن نجيم: هل يعتبر في بناء الأحكام العرف العام أو مطلق العرف ولو كان خاصا المذهب الأول. قال في البزازية معزيا إلى الإمام البخاري الذي ختم به الفقه. الحكم العام لا يثبت بالعرف الخاص وقيل يثبت. وذكر مجموعة أمثلة (2) .
الشرط الثالث - أن لا يكون العرف مخالفا لأدلة الشرع وقد مضى بيانه عن السيوطي في تعارض العرف والشرع.
الشرط الرابع- أن يكون العرف الذي يحمل عليه التصرف موجودا وقت إنشائه بأن يكون حدوث العرف سابقا وقت التصرف، ثم يستمر إلى زمانه فيقارنه سواء أكان التصرف قولا أو فعلا.
قال السيوطي: العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنما هو المقارن السابق دون المتأخر.
قال الرافعي: العادة الغالبة تؤثر في المعاملات لكثرة وقوعها ورغبة الناس فيما يروج في النفقة غالبا، ولا يؤثر في التعليق والإقرار، بل يبقى اللفظ على عمومه فيها، أما في التعليق فلقلة وقوعه، وأما في الإقرار، فلأنه إخبار عن وجوب سابق، وربما تقدم الوجوب على العرف الغالب، فلو أقر بدراهم وفسرها بغير سكة البلد قبل. ثم ذكر طائفة من الأمثلة (3) .
الشرط الخامس- وهو أن لا يوجد قول أو عمل يفيد عكس مضمونه
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي 83.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم 102.
(3) الأشباه والنظائر للسيوطي \ 87.(20/81)
كما إذا كان العرف في السوق تقسيط الثمن، واتفق العاقدان صراحة على الحلول، قال العز بن عبد السلام: كل ما يثبت العرف إذا صرح المتعاقدان بخلافه، بما يوافق مقصود العقد صح (1) .
6 - وقال السيوطي - في حكم العرف عند معارضته للشرع - " فصل " في تعارض العرف مع الشرع. هو نوعان:
أحدهما أن لا يتعلق بالشرع حكم فيقدم عليه عرف الاستعمال، فلو حلف لا يأكل لحما لم يحنث بالسمك، وإن سماها الله لحما ثم ذكر جملة أمثلة، وقال: فيقدم عرف الاستعمال على الشرع في جميع ذلك؛ لأنها استعملت في الشرع تسمية بلا تعلق حكم وتكليف.
والثاني أن يتعلق به حكم فيتقدم على عرف الاستعمال، فلو حلف لا يصلي لا يحنث إلا بذات الركوع والسجود، ثم ذكر جملة أمثلة، وقال: ولو كان اللفظ يقتضي العموم والشرع يقتضي التخصيص اعتبر خصوصي الشرع في الأصح، فلو حلف لا يأكل لحما لم يحنث بالميتة إلى آخر الأمثلة (2) .
7 - وقال السيوطي في كيفية إعمال العرف: قال الفقهاء كل ما ورد به الشرع مطلقا ولا ضابط له فيه ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف ومثلوه بالحرز في السرة، وذكر كثيرا من الأمثلة (3) .
8 - بقي أن يقال: هل العرف دليل شرعي مستقل أو لا؟
قال عبد الوهاب بن خلاف: وبالنظر الدقيق في العرف وأمثلته وما قال الأصوليون والفقهاء فيه يتبين أن العرف ليس دليلا مستقلا يشرع الحكم في الواقعة بناء عليه، وإنما هو دليل يتوصل به إلى فهم المراد
__________
(1) القواعد الكبرى 2 \ 178.
(2) الأشباه والنظائر 83 - 84.
(3) الأشباه والنظائر 88 - 90.(20/82)
من عبارات النصوص ومن ألفاظ المتعاملين وإلى تخصيص العام منها وتقييد المطلق، ويستند إليه في تصديق قول أحد المتداعيين إذا لم توجد لأحدهما بينة وفي رفض سماع بعض الدعاوى التي يكذبها العرف. وفي اعتبار الشرط الذي جرى به العرف وفي الترخيص بمحظور دعت إليه ضرورة الناس وجرى به عرفهم، وفي أمثال هذا مما يجعل اجتهاد المجتهد أو قضاء القاضي ملائما حال البيئة ومتفقا وإلف الناس ومصالحهم. قال شهاب الدين القرافي في قواعده: إذا جاءك رجل من غير إقليمك لا تجره على عرف بلدك والمقرر في كتبك فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أيا كانت إضلال في الدين وجهل بمقاصد المسلمين والسلف الماضين (1) .
وأما كلام الفقهاء المعاصرين، فقالوا: كثر التعامل في التأمين وتعارف عليه الناس والعرف مصدر شرعي فيكون التأمين جائزا بناء على قاعدة العرف.
وقد أجاب أبو زهرة عن الاستدلال بالعرف، فقال: أهذا العقد وهو التأمين غير التعاوني قد صار الآن عرفا عاما أو خاصا؟ إننا لو أحصينا عدد المستأمنين بهذا النوع من التأمين نجد نسبتهم بالنسبة لعموم الشعب الإسلامي نسبة ضئيلة جدا لا تسوغ لنا أن نعتبرهم موجدين لعرف.
ثم إن هذا العرف المدعى يصادم أمورا مستنبطة من النصوص، وقد وضحنا هذه الأمور، وإذا قيل: إنها شبهات، نقول قد تكاثفت وكثرت حتى صرنا نحكم معها بأن هذا النوع من العقد لا يتلاءم مع مقاصد
__________
(1) مصادر التشريع فيما لا نص فيه 126.(20/83)
الشارع ولا مع ما قرره الفقهاء، بل نقول: إنها تصادم نصا وهو نص الربا، فالربا يحيط بها من كل ناحية (1) .
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي 523.(20/84)
ن- الاستدلال على الجواز بتحقق الضرورة إليه:
نذكر فيما يلي كلام بعض الفقهاء السابقين في تعريف الضرورة، ونتبعه ببيان بعض الفقهاء المعاصرين لوجه الاستدلال به.
أما كلام الفقهاء السابقين فقال الجصاص في معرض كلامه على حكم الأكل من الميتة للمضطر: الضرورة هي خوف الضرر بترك الأكل؛ إما على نفسه أو عضو من أعضائه، فمتى أكل بمقدار ما يزول عنه الخوف من الضرر في الحال فقد زالت الضرورة (1) .
وقال الزركشي والسيوطي: هي- أي الضرورة- بلوغه حدا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب؛ كالمضطر للأكل واللبس بحيث لو بقي جائعا أو عريانا لمات أو تلف منه عضو (2) .
وقال ابن قدامة في كلامه على حكم الأكل من الميتة للمضطر: الضرورة المبيحة هي التي يخاف التلف بها إن ترك الأكل (3) .
وأما كلام الفقهاء المعاصرين في الاستدلال بالضرورة على جواز التأمين، فقد بينه الأستاذ عبد الرحمن عيسى بقوله: دين الإسلام مبني على أساس اليسر ورفع الحرج والعسر قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (4) .
__________
(1) أحكام القرآن 1 \ 151.
(2) قواعد الزركشي '' المنثور في ترتيب القواعد الفقهية '' مخطوط بالمكتبة الظاهرية بدمشق - 8543 -
(3) المغني 8 \ 595.
(4) سورة البقرة الآية 185(20/84)
وقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1) .
وقد بنى العلماء على ذلك قواعد منها " إذا ضاق الأمر اتسع " و " المشقة تجلب التيسير " و " الضرورات تبيح المحظورات " و " ما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة ".
وقد ناط الفقهاء معرفة المشقة التي تجلب التيسير بالعرف فالرجوع إليه فيما شق على الناس وما لا يشق عليهم أمر لا بد منه.
وقد تبين في التأمين أن حاجة الناس إليه قد اشتدت وعظمت، وأنه يشق عليهم جدا ألا يمارسوا عمليات التأمين ليدفعوا بها الكوارث الفادحة التي تقضي على الثروات وتخرب الديار، وإن الاقتصاد الصحيح يحتم على ذوي المتاجر أو المصانع الكبيرة ممارسة عمليات التأمين حفاظا على أموالهم ودفاعا لما قد ينزل بهم من خسائر تبدد ثرواتهم وتخرب العامر من بيوتهم، كل هذا يحققونه بالتأمين لدى شركات التأمين في مقابلة ما يدفعون لهذه الشركات من مال يتضاءل بجانب ما يجنون من ثمرات مع اطمئنان قلوبهم واستقرارها من جهة المحافظة على ثرواتهم، وقال أيضا: بالنسبة للتأمين ضد الأخطار الشخصية في الصناعات والمهن الخطيرة.
قال: كذلك يمكن أن يثبت لهذا التأمين الجواز من ناحية أن الإسلام مبني على أساس اليسر ورفع الحرج والعسر؛ لأن التأمين ضد الأخطار الشخصية في الصناعات والمهن الخطيرة قد اشتدت إليه الحاجة وعظمت لما يدرأ من الكوارث وما يخففه منها عن رجال الصناعات والأعمال في المصانع الكبيرة لهذا يشق على الناس في هذه الصناعات والمهن الخطيرة
__________
(1) سورة الحج الآية 78(20/85)
أن تمنعه من ممارسة هذا النوع من التأمين الذي تطمئن به أفئدتهم، وتستقر قلوبهم على أنفسهم كلا وبعضا حتى يؤدوا أعمالهم فيكون جائزا شرعا دفعا للحرج والعسر. انتهى المقصود (1) .
وقال أيضا: أما التأمين ضد الأخطار الشخصية سواء كان تأمينا على الحياة أو على أي جزء من أجزاء الجسم في غير الصناعات والمهن الخطرة فينظر فيه:
فإن كان من نوع التأمين المختلط وهو الذي يجمع بين التأمين والادخار كان جائزا شرعا؛ لأن فيه تشجيعا على الادخار فهو يحقق الصالح العام من الناحية الاقتصادية بشرط أن يتفق طالب التأمين مع الشركة على عدم استغلال أقساط تأمينه في الربا والكسب الحرام، حتى تبرأ ذمة المؤمن له من هذه الناحية التي قد تستوجب الحرمة بطريق التسبب. . . .
أما التأمين ضد الأخطار الشخصية في غير الصناعات والمهن الخطيرة إذا كان تأمينا عاديا، فإنه لا يجوز شرعا؛ لأنه لا يحقق صالحا عاما ولا يترتب على تركه مشقة يقرر العرف أنها لا تتحمل كما أنه لا تدعو إليه حاجة تتصل بالمصالح العامة (2) .
وقد أجاب عن ذلك الأستاذ الصديق محمد الأمن الضرير بقوله: " والواقع أن الضرورة بالمعنى الذي يقصده الفقهاء لا تتحقق بالنسبة لعقد التأمين، ولكن مما لا شك فيه أن الناس سيقعون في حرج لو منعنا عقد التأمين بالكلية بعد أن ألفوه وتغلغل في جميع نواحي حياتهما،
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي \ 476 وما بعدها.
(2) أسبوع الفقه الإسلامي \ 478.(20/86)
فالتأمين وإن لم يكن من ضروريات الناس إلا أنه من حاجياتهم التي يترتب على فقدها الضيق والمشقة، وقد أبيحت كثير من المعاملات التي يقتضي القياس منعها؛ لأن حاجة الناس تدعو إليها. ورغم كل هذا فإني لا أرى إباحة عقد التأمين بوضعه الحالي؛ لأنه لا يصح أن نلجأ إلى استخدام الضرورة أو الحاجة إلا إذا لم نجد سبيلا غيرها " (1) .
وقد أجاب الأستاذ أبو زهرة - رحمه الله- عن ذلك، فقال: ونحن نقر بهذه الوقائع؛ لأننا لا نحاول إنكار الواقع ولكن لكي نحكم بأن التأمين غير التعاوني أمر ضروري لا بد أن نفرض أنه لا يمكن أن يوجد تأمين سواه؛ لأن الضرورة لا تكون إلا حيث تستغلق الأمور ويتعين المحرم سبيلا للإنقاذ، فهذا الذي يبلغ به الجوع أقصاه ولا يجد إلا الخنزير يأكله فإنه يباح له أكله، ولكن إن وجد طعاما آخر ولكنه دون الخنزير اشتهاء مع أنه طيب حلال لا يعد في حال ضرورة.
والأمر هنا كذلك فإن التأمين الاجتماعي فتح الأبواب، وإن لم يكن قائما أقمناه، وإن كان ضيقا وسعناه، وإذا كان الأفق محدودا وضعنا بين أيدي المفكرين أوسع الآفاق. ويعجبني أن قائدي السيارات في الخرطوم عندما فرض عليهم نظام التأمين كونوا من بينهم جماعة تعاونية تكون هي المؤمنة فيكونون جميعا مستأمنين ومؤمنين حفظ الله لهم إيمانهم، وبارك لهم في رزقهما؛ فهلا دعونا العالم الإسلامي إلى إيجاد نظام تعاوني بدل هذا النظام غير التعاوني الذي لا نزال مصرين على أنه بدعة يهودية.
إنه لا يصح لنا دينا أن نترك أمرا بينا نيرا ضاحيا، ونسير على أمر إن لم يكن حراما فهو مشتبه فيه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دع ما يريبك
__________
(1) أسبوع الفقه الإسلامي \ 464.(20/87)
إلى ما لا يريبك (1) » . ويقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " دعوا الربا والريبة " (2) .
ومن القائلين بجواز التأمين مطلقا الأستاذ عبد الرزاق السنهوري، إلا أنه لا يرى الاستدلال على جوازه بما استدل به غيره من قياسه على بعض العقود المعروفة، وإنما يراه عقدا مستحدثا قائما بذاته، ونظرا لذلك أوردنا رأيه بدليله بعد كلام المانعين وكلام المجيزين، وفيما يلي ما برر به رأيه.
الوقوف عند أحد جانبي عقد التأمين وهو جانب العلاقة ما بين المؤمن والمؤمن له بالذات، دون مجاوزة ذلك إلى الجانب الآخر، وهو جانب العلاقة ما بين المؤمن ولمجموع المؤمن لهم حيث لا يكون المؤمن إلا وسيطا بينهم ينظم تعاونهم جميعا على مواجهة الخسارة التي تحيق بالقليل منهم، هو الذي دفع بكثير ممن تصدوا للإفتاء في مشروعية التأمين في الفقه الإسلامي إلى القول بعدم مشروعيته. وتكون فتواهم في هذه الحالة صحيحة؛ لأنه إذا نظر إلى عقد التأمين من جهة العلاقة ما بين المؤمن والمؤمن له بالذات، ومن جهة هذه العلاقة وحدها، لم يعد عقد التأمين أن يكون عقد مقامرة أو رهان كما قدمنا، ويكون غير مشروع، لا فحسب في الفقه الإسلامي، بل أيضا في القانون المصري وفي جميع القوانين التي تحرم المقامرة والرهان.
ولكن الجانب الآخر من
__________
(1) خرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم عن الحسن بن علي. وأحمد أيضا عن أنس مرفوعا وموقوفا. والطبراني عن ابن عمر. صححه الترمذي وأبو الجوزاء السعدي. وهو قطعة من حديث طويل ذكر فيه قنوت الوتر.
(2) أسبوع الفقه الإسلامي \ 524 وأثر عمر ذكره الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم ص 94.(20/88)
عقد التأمين وهو الجانب الذي يجب الوقوف عنده؛ لأنه هو الذي يؤصل التأمين ويحدد طبيعته تنظيما دقيقا بين عدد كبير من الناس معرضين جميعا لخطر واحد، حتى إذا تحقق الخطر بالنسبة إلى بعضهم تعاون الجميع على مواجهته بتضحية قليلة يبذلها كل منهم يتلافون بها أضرارا جسيمة تحقيق بمن نزل الخطر به منهم لولا هذا التعاون.
وشركة التأمين ليست في الواقع من الأمر إلا الوسيط الذي ينظم هذا التعاون على أسس فنية صحيحة، وهي أسس معقدة في أشد الحاجة إلى جهود شركات ضخمة، وسنعرض لها فيما يلي: فالتأمين إذن هو تعاون محمود، تعاون على البر والتقوى: يبر به المتعاونون بعضهم بعضا ويتقون به جميعا شر المخاطر التي تهددهم. فكيف يجوز القول بأنه غير مشروع؟
وقد كثرت الفتاوى الشرعية في التأمين، بعضها يحله وبعضها يحرمه، ومن الفتاوى البارزة في تحليله فتوى الأستاذ الإمام محمد عبده في شأن التأمين على الحياة - ثم ذكر فتوى الشيخ محمد عبده وأشار إلى أقوال الأستاذ الزرقا ومناقشة أبي زهرة له وقول برهام محمد عطا الله وأحمد السنوسي وعيسوي أحمد عيسوي، ثم ذكر رأي المانعين أمثال الشيخ ابن عابدين والشيخ محمد بخيت والشيخ أحمد قراعة والشيخ ابن زهرة والأستاذ أحمد إبراهيم، ثم قال بعد ذلك:
وفيما قدمناه من هذه الآراء المختلفة نقف عند المسائل الآتية:
(أ) لا تصح التفرقة بين التأمين الاجتماعي والتأمين الفردي، فكلاهما يقوم على أساس واحد ولا يختلفان إلا في أن الدولة في التأمين الاجتماعي هي التي تقوم بدور المؤمن. فمن قال بجواز التأمين الاجتماعي وجب أن يقول بجواز التأمين الفردي.(20/89)
(ب) لا يجوز قياس عقد التأمين على عقود أو نظم معروفة في الفقه الإسلامي، فهو لا يشبه عقد المضاربة في شيء، ولا هو كفالة، ولا هو وديعة بأجر، ولا عقد موالاة، ولا يدخل في ضمان خطر الطريق، ولا في الوعد الملزم، ولا في نظام العواقل إلى آخر ما جاء في التشبيهات.
(ج) وإنما التأمين عقد جديد له مقومات وخصائصه، وهو ليس بين العقود أو النظم التي عرفها الفقه الإسلامي. ويأخذ عليه المحرمون له أنه مقامرة، وفيه غرر، وينطوي على الربا.
(د) أما إن فيه مقامرة، فقد بينا أن عقد التأمين بعيد كل البعد عنها. فهو من الناحية الفنية الاقتصادية ليس بمقامرة، لا بالنسبة إلى المؤمن فهو يأخذ الأقساط من المؤمنين له، ثم يعيد توزيعها عليهم ولا يعرض نفسه لاحتمال الخسارة أو المكسب بأكثر مما يعرض نفسه أي شخص آخر في تجارة مشروعة، ولا بالنسبة إلى المؤمن له إذ هو لا يقامر معتمدا على الحظ والمصادفة، بل على العكس من ذلك تماما يقصد أن يتوقى شر الحظ والمصادفة، ويتعاون مع غيره من المؤمن له على توزيع أضرار ما يبيته الحظ والمصادفة لهما جميعا، ولا يجوز أن نسمي التعاون مقامرة.
(هـ) وأما الغرر، فقد بينا في كتابنا "مصادر الحق في الفقه الإسلامي " أن هناك تطورا ملحوظا في الفقه الإسلامي، في هذه المسألة، وأن أكثر المذاهب تطورا فيها هو مذهب مالك.
فقد بين ابن رشد في عبارة جليلة الأصل عند مالك في ذلك فقال: (والأصل عنده أن من الغرر يجوز لموضع الضرورة) " مصادر الحق في الفقه الإسلامي للمؤلف جزء 3 ص (32- 33) .(20/90)
(و) وأما الربا، فهذه مسألة لا تقتصر على عقد التأمين، بل تتناول ضروبا كثيرة التعامل، وقد بحثناها بحثا مفصلا، وميزنا بين ربا الجاهلية من جهة وبين ربا النسيئة وربا الفضل من جهة أخرى، فالأول غير جائز إلا للضرورة، والثاني غير جائز أيضا إلا للحاجة. فإذا قامت الحاجة في نظام اقتصادي معين إلى دفع فوائد ضرورية على رءوس الأموال، كان هذا جائزا ما دامت الحاجة قائمة، وإلا عاد الأمر إلى أصله من عدم الجواز (انظر تفصيل ذلك في مصادر الحق في الفقه الإسلامي للمؤلف جزء ص (196 - 277) .
(ز) بقي أن يقال: إن عقد التأمين لا يدخل في العقود المعروفة في الفقه الإسلامي وليس له نظير فيها، وقد وردت هذه العقود على سبيل الحصر، فأي عقد جديد لا يستند إليها يكون غير جائز.
وقد سبق لنا أيضا أن بحثنا هذه المسألة، وقلنا في صددها ما يأتي: " هل العقود في الفقه الإسلامي مذكورة على سبيل الحصر؟ يبدو لأول وهلة أنها كذلك. ففي كتب الفقه لا نجد نظرية عامة للعقد، بل نجد على النقيض من ذلك عقودا مسماة تأتي عقدا بعد عقد على ترتيب غير منطقي، ويختلف هذا الترتيب في كتاب عنه في كتاب آخر، حتى ليظن الباحث أن الفقه الإسلامي لا يعرف إلا هذه العقود المسماة، وأن أي اتفاق لا يدخل تحت عقد من هذه العقود لا يكون مشروعا. ولكن هذه النظرة إلى الفقه الإسلامي نظرة سطحية؛ فإن الباحث يلمح من خلال الأحكام التي يقررها الفقهاء في صدد هذه العقود المسماة إنهم يسلمون بإمكان أن يمتزج عقدان أو أكثر من هذه العقود في عقد واحد،(20/91)
يجمع بين خصائص العقود التي امتزجت فيه، بل ويلمح أن هناك قاعدة فقهية مسلمة، هي أن المسلمين عند شروطهم، وأن كل اتفاق تتوافر فيه الشروط التي يقررها الفقه الإسلامي يكون عقدا مشروعا. ويكفي أن نشير إلى ما جاء في البدائع في هذا الصدد:
" وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «المسلمون عند شروطهم (1) » . فظاهره يقتضي لزوم الوفاء بكل شرط إلا ما خص بدليل؛ لأنه يقتضي أن يكون كل مسلم عند شرطه، وإنما يكون كذلك إذا لزمه الوفاء به. وهذا لأن الأصل أن تصرف الإنسان يقع على الوجه الذي أوقعه إذا كان أهلا للتصرف والمحل قابلا وله ولاية عليه (البدائع جزء 5 ص 259) . ومن ثم فما ذكره الفقهاء من العقود المسماة، إنما هي العقود التي يغلب أن يقع بها التعامل في زمنه فإذا استحدثت الحضارة عقودا أخرى توافرت فيها الشروط المقررة فقها كانت عقودا مشروعة (مصادر الحق في الفقه الإسلامي للمؤلف الجزء الأول ص 80- 83) ، ويؤخذ من ذلك أن عقد التأمين لا يجوز القول بعدم مشروعيته من ناحية أنه عقد جديد غير معروف في الفقه الإسلامي، وإنما قد يتوهم أن يتسرب إليه عدم المشروعية من ناحية الربا أو من ناحية الغرر، وقد سبق أن نفينا عنه كلا من الناحيتين. اهـ (2) .
الرأي الثالث:
رأى بعض العلماء المعاصرين التفصيل بين أنواع التأمين في الحكم
__________
(1) خرجه أبو داود وأحمد والدارقطني عن أبي هريرة والحاكم وصححه. والدارقطني والحاكم عن عمرو بن عوف المزني والحاكم عن أنس، والطبراني عن رافع بن خديج، والبزار عن ابن عمر.
(2) حاشية على ج من الوسيط ص 1087 - 1090.(20/92)
فحرم التأمين على الحياة أو بعض أعضاء الجسم كالحنجرة أو الأصابع، واستدل على ذلك ببعض ما استدل به المانعون للتأمين التجاري مطلقا من كونه قمارا، ونوعا من بيوع الغرر، ومتضمنا بيع دراهم بدراهم مثلا نسيئة مع التفاضل، وأباح التأمين على السيارات من الحوادث التي تصاب بها وما تصيب به غيرها من الأضرار في النفوس والأموال، واستدل على ذلك ببعض ما استدل به المجيزون للتأمين التجاري مطلقا من كونه من باب التعاون والوفاء بالعقود، وقد أمر الله بذلك، وكون الأصل في العقود الإباحة حتى يقوم دليل على المنع، ولم ينهض دليل على منع عقود التأمين، وقاسه على ضمان الحقوق وضمان المجهود، ومن كونه مصلحة ولشدة حاجة الناس إليه، وناقش كل أدلة مخالفيه بما ناقش كل من الفريقين السابقين مخالفه فلذا اكتفت اللجنة بما تقدم من استدلال الفريقين، ومناقشتها خشية الإطالة بما لا جدوى فيه.
وسلك جماعة في التفصيل طريقا أخرى هي التفريق بين ما كان من عقود التأمين خاليا من الربا فيجوز، وما كان منها مشتملا على الربا إلا إذا دعت الضرورة إباحة فيرخص فيه مؤقتا حتى تتاح الفرصة للتخلص مما فيه الربا، وقد تقدم استدلال المانعين وجه اشتمال عقود التأمين على الربا، ومناقشة المجيزين لذلك فلا نطيل بذكره خشية التكرار.
وتردد بعض العلماء المعاصرين في الحكم على التأمين التجاري بحل وبحرمة، ورأى أن هذه المسألة عامة ولها أهمية كبرى فينبغي أن لا تترك لفرد يفتي فيها، بل يجب على علماء العصر أن يوفروا جهودهم ويكدسوها لبحثها، وأن يتعاونوا على حل مشاكلها لينتهوا من بحثهم إلى رأي واضح يذهب ببلبلة الأفكار ويقضي على اختلاف الآراء أو يحد من كثرتها ويخفف من شدتها. ومن نظر في هذا لم يجد فيه حكما موافقا(20/93)
أو مخالفا لما تقدم، وإنما هو نصيحة لعلماء العصر ومشورة عليهم بما يجب أن يعملوه وإرشاد إلى الطريق التي يجب أن يسلكوها لحل المشكل والوصول إلى نتيجة مرضية.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- قاعدة في المعاقد حلالها وحرامها تتعلق بما سبق من الأدلة رأينا أن نتبعها ما تقدم؛ لما تشتمل عليه من زيادة البيان.
قال رحمه الله تعالى: فصل. القاعدة الثانية في المعاقد حلالها وحرامها.
والأصل في ذلك: أن الله حرم في كتابه أكل أموالنا بيننا بالباطل، وذم الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، وذم اليهود على أخذهم الربا، وقد نهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل، وهذا يعم كل ما يؤكل بالباطل في المعاوضات والتبرعات، وما يؤخذ بغير رضا المستحق والاستحقاق.
وأكل المال بالباطل في المعاوضة نوعان، ذكرهما الله في كتابه هما: الربا، والميسر، فذكر تحريم الربا الذي هو ضد الصدقة في آخر سورة البقرة، وسور آل عمران، والروم، والمدثر، وذم اليهود عليه في سورة النساء، وذكر تحريم الميسر في سورة المائدة، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فصل ما جمعه الله في كتابه، فنهى صلى الله عليه وسلم بيع الغرر، كما رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه.
والغرر: هو المجهول العاقبة، فإن بيعه من الميسر الذي هو القمار، وذلك أن العبد إذا أبق، أو الفرس أو البعير إذا شرد، فإن صاحبه إذا باعه فإنما يبيعه مخاطرة، فيشتريه المشتري بدون ثمنه بكثير، فإن(20/94)
حصل له قال البائع: قمرتني، وأخذت مالي بثمن قليل، وإن لم يحصل قال المشتري: قمرتني وأخذت الثمن مني بلا عوض، فيفضي إلى مفسدة الميسر التي هي إيقاع العداوة والبغضاء، مع ما فيه من أكل المال بالباطل، الذي هو نوع من الظلم، ففي بيع الغرر ظلم وعداوة وبغضاء، وما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع حبل الحبلة والملاقيح والمضامين، ومن بيع السنين وبيع الثمر قبل بدو صلاحه، وبيع الملامسة والمنابذة ونحو ذلك كله من نوع الغرر.
وأما الربا: فتحريمه في القرآن أشد، ولهذا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (2) ، وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر، كما خرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، وذكر الله أنه حرم على الذين هادوا طيبات أحلت لهم بظلمهم، وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل وأخبر سبحانه أنه يمحق الربا كما يربي الصدقات، وكلاهما أمر مجرب عند الناس، وذلك: أن الربا أصله إنما يتعامل به المحتاج، وإلا فالموسر لا يأخذ ألف حالة بألف ومائتين مؤجلة إذا لم يكن له حاجة لتلك الألف، وإنما يأخذ المال بمثله وزيادة إلى الأجل من هو محتاج إليه، فتقع تلك الزيادة ظلما للمحتاج، بخلاف الميسر، فإن المظلوم فيه غير معين، ولا محتاج إلى العقد، وقد تخلو بعض صوره عن الظلم إذا وجد في المستقبل المبيع على الصفة التي ظناها، والربا فيه ظلم محقق لمحتاج، وبهذا كان ضد الصدقة، فإن الله لم يدع الأغنياء حتى أوجب
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279(20/95)
عليهم إعطاء الفقراء، فإن مصلحة الغني والفقير في الدين والدنيا لا تتم إلا بذلك فإذا أربى معه، فهو بمنزلة من له على رجل دين فمنعه دينه وظلمه زيادة أخرى، والغريم محتاج إلى دينه، فهذا من أشد أنواع الظلم، ويعظمه لعن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الآخذ، وموكله وهو المحتاج المعطي للزيادة، وشاهديه وكاتبه، لإعانتهم عليه.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم حرم أشياء مما يخفى فيها الفساد؛ لإفضائها إلى الفساد المحقق، كما حرم قليل الخمر؛ لأنه يدعو إلى كثيره مثل ربا الفضل فإن الحكمة فيه قد تخفى؛ إذ العاقل لا يبيع درهما بدرهمين إلا لاختلاف الصفات مثل: كون الدرهم صحيحا، والدرهمين مكسورين، أو كون الدرهم مصوغا أو من نقد نافق ونحو ذلك، ولذلك خفيت حكمة تحريمه على ابن عباس ومعاوية وغيرهما، فلم يروا به بأسا، حتى أخبرهم الصحابة الأكابر- كعبادة بن الصامت وابن سعيد وغيرهما- بتحريم النبي صلى الله عليه وسلم لربا الفضل.
وأما الغرر: فإنه ثلاثة أنواع. إما المعدوم؛ كحبل الحبلة، وبين السنين، وإما المعجوز عن تسليمه؛ كالعبد الآبق، وإما المجهول المطلق، أو المعين المجهول جنسه أو قدره؛ كقوله بعتك عبدا أو بعتك ما في بيتي، أو بعتك عبيدا. فأما المعين المعلوم جنسه وقدره المجهول نوعه أو صفته؛ كقوله: بعتك الثوب الذي في كمي، أو العبد الذي أملكه ونحو ذلك، ففيه خلاف مشهور، وتغلب مسألة بيع الأعيان الغائبة، وعن أحمد فيه ثلاث روايات، إحداهن: لا يصح بيعه بحال، كقول الشافعي الجديد، والثانية: يصح وإن لم يوصف، وللمشتري الخيار إذا رآه، كقول أبي حنيفة، وقد روى عن أحمد: لا خيار له. والثالثة(20/96)
- وهي المشهور- أنه يصح بالصفة، ولا يصح بدون الصفة، كالمطلق الذي في الذمة، وهو قول مالك.
ومفسدة الغرر أقل من الربا؛ فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجات منه، فإن تحريمه أشد ضررا من ضرر كونه غررا مثل بيع العقار بالجملة، وإن لم يعلم دواخل الحيطان والأساس، ومثل بيع الحيوان الحامل أو المرضع، وإن لم يعلم مقدار الحمل أو اللبن، وإن كان قد نهي عن بيع الحمل مفردا، وكذلك اللبن عند الأكثرين وكذلك بيع الثمرة بعد بدو صلاحها، فإنه يصح مستحق الإبقاء، كما دلت عليه السنة، وذهب إليه الجمهور؛ كمالك والشافعي وأحمد، وإن كانت الأجزاء التي يكمل الصلاح بها لم تخلق بعد.
وجوز النبي صلى الله عليه وسلم إذا باع نخلا قد أبرت: أن يشترط المبتاع ثمرتها فيكون قد اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها، لكن على وجه البيع للأصل. فظهر أنه يجوز من الغرر اليسير ضمنا وتبعا ما لا يجوز من غيره.
ولما احتاج الناس إلى العرايا رخص في بيعها بالخرص، فلم يجوز المفاضلة المتيقنة، بل سوغ المساواة بالخرص في القليل الذي تدعو إليه الحاجة، وهو قدر النصاب خمسة أوسق أو ما دون النصاب، على اختلاف القولين للشافعي وأحمد، وإن كان المشهور عن أحمد ما دون النصاب.
إذا تبين ذلك: فأصول مالك في البيوع أجود من أصول غيره، فإنه أخذ ذلك عن سعيد بن المسيب الذي كان يقال: هو أفقه الناس في البيوع، كما كان يقال: عطاء أفقه الناس في المناسك وإبراهيم أفقههم في الصلاة، والحسن أجمع لذلك كله، ولهذا وافق أحمد كل واحد من(20/97)
التابعين في أغلب ما فضل فيه لمن استقرأ ذلك في أجوبته، ولهذا كان أحمد موافقا له في الأغلب. فإنهما يحرمان الربا ويشددان فيه حق التشديد؛ لما تقدم من شدة تحريمه وعظم مفسدته، ويمنعان الاحتيال له بكل طريق، حتى يمنعا الذريعة المفضية إليه، وإن لم تكن حيلة، وإن كان مالك يبلغ في سد الذرائع ما لا يختلف قول أحمد فيه أو لا يقوله، لكنه يوافقه بلا خلاف عنه على منع الحيل كلها.
وجماع الحيل نوعان: إما أن يضموا إلى أحد العوضين ما ليس بمقصود، أو يضموا إلى العقد عقدا ليس بمقصود.
فالأول مسألة " مد عجوة " وضابطها: أن يبيع ربويا بجنسه، ومعها أو مع أحدهما ما ليس من جنسه، مثل أن يكون غرضهما بيع فضة بفضة متفاضلا ونحو ذلك فيضم إلى الفضة القليلة عوضا آخر، حتى يبيع ألف دينار في منديل بألفي دينار.
فمتى كان المقصود بيع الربوي بجنسه متفاضلا حرمت مسألة " مد عجوة " بلا خلاف عند مالك وأحمد وغيرهما، وإنما يسوغ مثل هذا من جوز الحيل من الكوفيين، وإن كان قدماء الكوفيين يحرمون هذا. وأما إن كان كلاهما مقصودا كمد عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم، أو مدين أو درهمين ففيه روايتان عن أحمد، والمنع: قول مالك والشافعي، والجواز: قول أبي حنيفة، وهي مسألة اجتهاد.
وأما إن كان المقصود من أحد الطرفين غير الجنس الربوي، كبيع شاة ذات صوف ولبن بصوف أو لبن: فأشهر الروايتين عن أحمد الجواز.
والنوع الثاني من الحيل: أن يضما إلى العقد المحرم عقدا غير(20/98)
مقصود، مثل أن يتواطأ على أن يبيعه الذهب بخرزة، ثم يبتاع الخرز منه بأكثر من ذلك الذهب، أو يواطئا ثالثا على أن يبيع أحدهما عرضا، ثم يبيعه المبتاع لمعاملة المرابي، ثم يبيعه المرابي لصاحبه، وهي الحيلة المثلثة، أو يقرن بالقرض محاباة في بيع أو إجارة أو مساقاة ونحو ذلك، مثل أن يقرضه ألفا ويبيعه سلعة تساوي عشرة بمائتين، أو يكريه دارا تساوي ثلاثين بخمسة ونحو ذلك.
فهذا ونحوه من الحيل لا تزول به المفسدة التي حرم الله من أجلها الربا، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنه قال: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك (1) » . قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وهو من جنس حيل اليهود، فإنهما إنما استحلوا الربا بالحيل، ويسمونه المشكند، وقد لعنهم الله على ذلك.
وقد روى ابن بطة بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها (2) » ، وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أدخل فرسا بين فرسين- وهو لا يؤمن أن يسبق- فليس قمارا، ومن أدخل فرسا بين فرسين- وقد أمن أن يسبق- فهو قمار (3) » وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أهل السنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله (4) » .
ودلائل تحريم الحيل من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار كثيرة،
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2223) ، صحيح مسلم المساقاة (1582) ، سنن النسائي الفرع والعتيرة (4257) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3383) ، مسند أحمد بن حنبل (1/25) ، سنن الدارمي الأشربة (2104) .
(3) سنن أبو داود الجهاد (2579) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2876) ، مسند أحمد بن حنبل (2/505) .
(4) رواه البخاري ومسلم بنحوه من حديث عبد الله بن عمر.(20/99)
ذكرنا منها نحوا من ثلاثين دليلا فيما كتبناه في ذلك، وذكرنا ما يحتج به من يجوزها، كيمين أبي أيوب، وحديث تمر خيبر، ومعاريض السلف، وذكرنا جواب ذلك (1) . ومن ذرائع ذلك: مسألة العينة، وهو أن يبيعه سلعة إلى أجل، ثم يبتاعها منه بأقل من ذلك، فهذا مع التواطؤ يبطل البيعين؛ لأنها حيلة. وقد روى أحمد وأبو داود بإسنادين جيدين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله أرسل الله عليكم ذلا لا يرفعه حتى تراجعوا دينكم (2) » ، وإن لم يتواطأ فإنهما يبطلان البيع الثاني، سدا للذريعة، ولو كانت عكس مسألة العينة من غير تواطؤ. ففيه روايتان عن أحمد، وهو أن يبيعه حالا، ثم يبتاع منه بأكثر مؤجلا، وأما مع التواطؤ فربا محتال عليه.
ولو كان مقصود المشتري الدرهم وابتاع السلعة إلى أجل ليبيعها ويأخذ ثمنها فهذا يسمى التورق. ففي كراهته عن أحمد روايتان. والكراهة قول عمر بن عبد العزيز ومالك، فيما أظن، بخلاف المشتري الذي غرضه التجارة، أو غرضه الانتفاع أو القنية، فهذا يجوز شراؤه إلى أجل بالاتفاق.
ففي الجملة: أهل المدينة وفقهاء الحديث مانعون من أنواع الربا منعا محكما مراعين لمقصود الشريعة وأصولها، وقولهم في ذلك هو الذي يؤثر مثله عن الصحابة، وتدل عليه معاني الكتاب والسنة.
وأما الغرر: فأشد الناس فيه قولا أبو حنيفة والشافعي، أما الشافعي: فإنه يدخل في هذا الاسم من الأنواع ما لا يدخله غيره من
__________
(1) في كتاب إقامة الدليل على إبطال التحليل.
(2) سنن أبو داود البيوع (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (2/84) .(20/100)
الفقهاء، مثل الحب والثمر في قشره الذي ليس بصوان كالباقلاء والجوز واللوز في قشره الأخضر، وكالحب في سنبله، فإن القول الجديد عنده أن ذلك لا يجوز، مع أنه قد اشترى في مرض موته باقلاء أخضر، فخرج ذلك له قولا، واختاره طائفة من أصحابه كأبي سعيد الإصطخري، وروي عنه أنه ذكر له: أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الحب حتى يشتد (1) » فدل على جواز بيعه بعد اشتداده، وإن كان في سنبله، فقال: إن صح هذا أخرجته من العام أو كلاما قريبا من هذا، وكذلك ذكر أنه رجع عن المولى بالمنع.
قال ابن المنذر: جواز ذلك هو قول مالك وأهل المدينة، وعبيد الله بن الحسن وأهل البصرة وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي. وقال الشافعي مرة: لا يجوز، ثم بلغه حديث ابن عمر، فرجع عنه وقال به، قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدا يعدل عن القول به.
وذكر بعض أصحابه قولين. وأن الجواز هو القديم، حتى منع من بيع الأعيان الغائبة بصفة وغير صفة، متأولا أن بيع الغائب غرر وإن وصف، حتى اشترط فيما في الذمة- كدين السلم- من الصفات وضبطها ما لم يشترطه غيره، ولهذا يتعذر أو يتعسر على الناس المعاملة في العين والدين بمثل هذا القول، وقاس على بيع الغرر جميع العقود، من التبرعات والمعاوضات فاشترط في أجرة الأجير وفدية الخلع والكتابة، وصلح أهل الهدنة، وجزية أهل الذمة: ما اشترطه في البيع عينا ودينا، ولم يجوز في ذلك جنسا وقدرا وصفة إلا ما يجوز مثله في البيع، وإن كانت هذه العقود لا تبطل بفساد أعواضها، أو يشترط لها شروط أخر.
وأما أبو حنيفة: فإنه يجوز بيع الباقلاء ونحوه في القشرين، ويجوز إجارة الأجير بطعامه وكسوته، ويجوز جهالة المهر كجهالة مهر المثل،
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1228) ، سنن أبو داود البيوع (3371) ، سنن ابن ماجه التجارات (2217) ، مسند أحمد بن حنبل (3/250) .(20/101)
ويجوز بيع الأعيان الغائبة بلا صفة، مع الخيار؛ لأنه يرى وقف العقود، لكنه يحرم المساقاة والمزارعة ونحوهما من المعاملات مطلقا والشافعي يجوز بيع بعض ذلك، ويحرم أيضا كثيرا من الشروط في البيع والإجارة والنكاح وغير ذلك مما يخالف مطلق العقد.
وأبو حنيفة يجوز بعض ذلك، ويجوز من الوكالات والشركات ما لا يجوزه الشافعي، حتى جوز شركة المفاوضة والوكالة بالمجهول المطلق. وقال الشافعي: إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة فما أعلم شيئا باطلا.
فبينهما في هذا الباب عموم وخصوص، لكن أصول الشافعي المحرمة أكثر من أصول أبي حنيفة في ذلك.
وأما مالك: فمذهبه أحسن المذاهب في هذا، فيجوز بيع هذه الأشياء وجميع ما تدعو إليه الحاجة، أو يقل غرره، بحيث يحتمل في العقود، حتى يجوز بيع المقاتي جملة، وبيع المغيبات في الأرض، كالجزر والفجل ونحو ذلك.
وأحمد: قريب منه في ذلك، فإنه يجوز هذه الأشياء، ويجوز- على المنصوص عنه- أن يكون المهر عبدا مطلقا، أو عبدا من عبيده ونحو ذلك مما لا يزيد جهالة على مهر المثل، وإن كان من أصحابه من يجوز المبهم دون المطلق، كأبي الخطاب، ومنهم من يوافق الشافعي، فلا يجوز في المهر وفدية الخلع ونحوهما إلا ما يجوز في المبيع، وكأبي بكر عبد العزيز، ويجوز- على المنصوص عنه- في فدية الخلع أكثر من ذلك، حتى ما يجوز في الوصية وإن لم يجز في المهر، كقول مالك مع اختلاف في مذهبه، وليس هذا موضعه، لكن المنصوص عنه: أنه لا يجوز بيع(20/102)
المغيب في الأرض، كالجزر ونحوه إلا إذا قلع، وقال: هذا الغرر شيء ليس يراه، كيف يشتريه؟ والمنصوص عنه: أنه لا يجوز بيع القثاء والخيار والباذنجان ونحوه إلا لقطة لقطة، ولا يباع من المقاتي والمباطخ إلا ما ظهر دون ما بطن، ولا تباع الرطبة إلا جزة جزة، كقول أبي حنيفة والشافعي؛ لأن ذلك غرر، وهو بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، ثم اختلف أصحابه فأكثرهم أطلقوا ذلك في كل مغيب، كالجزر والفجل والبصل وما أشبه ذلك، كقول مالك.
وقال الشيخ أبو محمد: إذا كان مما يقصد فروعه وأصوله، كالبصل المبيع أخضر، والكراث والفجل، أو كان المقصود فروعه. فالأولى جواز بيعه؛ لأن المقصود منه ظاهر فأشبه الشجر ويدخل ما لم يظهر في البيع تبعا، وإن كان معظم المقصود منه أصوله لم يجز بيعه في الأرض؛ لأن الحكم للأغلب، وإن تساويا لم يجز أيضا؛ لأن الأصل اعتياد الشرط، وإنما سقط في الأقل التابع.
وكلام أحمد يحتمل وجهين، فإن أبا داود قال: قلت لأحمد: بيع الجزر في الأرض؟ قال: لا يجوز بيعه إلا ما قلع منه، هذا الغرر، شيء ليس يراه، كيف يشتريه؟ فعلل بعدم الرؤية.
فقد يقال: إن لم يره كله لم يبع. وقد يقال: رؤية بعض المبيع تكفي إذا دلت على الباقي كرؤية وجه العبد.
وكذلك اختلفوا في المقاتي إذا بيعت بأصولها. كما هو العادة غالبا.
فقال قوم من المتأخرين: يجوز ذلك؛ لأن بيع أصول الخضروات. كبيع الشجر، وإذا باع الشجرة وعليها الثمر لم يبد صلاحه جاز. فكذلك هذا. وذكر أن هذا مذهب أبي حنيفة والشافعي.(20/103)
وقال المتقدمون: لا يجوز بحال وهو معنى كلامه ومنصوصه. وهو إنما نهى عما يعتاده الناس، وليست العادة جارية في البطيخ والقثاء والخيار أن يباع دون عروقه، والأصل الذي قاسوا عليه ممنوع عنده. فإن المنصوص عنه في رواية الأثرم، وإبراهيم بن الحارث في الشجر الذي عليه ثمر لم يبد صلاحه أنه إن كان الأصل هو مقصوده الأعظم جاز، وأما إن كان مقصوده الثمرة فاشترى الأصل معها حيلة لم يجز، وكذلك إذا اشترى أرضا وفيها زرع أو شجر مثمر لم يبد صلاحه، فإن كانت الأرض هي المقصود: جاز دخول الثمر والزرع معها تبعا. وإن كان المقصود هو الثمر والزرع، فاشترى الأرض لذلك لم يجز، وإذا كان هذا قوله في ثمرة الشجر، فمعلوم أن المقصود من المقاتي والمباطخ إنما هو الخضروات دون الأصول التي ليس لها إلا قيمة يسيرة بالنسبة إلى الخضر.
وقد خرج ابن عقيل وغيره وجهين:
أحدهما: جواز بيع المغيبات بناء على إحدى الروايتين عنه في بيع ما لم يره. ولا شك أنه ظاهر فإن المنع إنما يكون على قولنا: لا يصح بيع ما لم يره. فإذا صححنا بيع الغائب فهذا من الغائب.
والثاني: أنه يجوز بيعها مطلقا، كمذهب مالك، إلحاقا لها بلب الجوز. وهذا القول هو قياس أصول أحمد وغيره لوجهين:
أحدهما: أن أهل الخبرة يستدلون برؤية ورق هذه المدفونات على حقيقتها ويعلمون ذلك أجود مما يعلمون العبد برؤية وجهه، والمرجع في كل شيء إلى الصالحين من أهل الخبرة به وهم يقرون بأنهم يعرفون هذه الأشياء كما يعرفون غيرها مما اتفق المسلمون على جواز بيعه وأوكد.(20/104)
الثاني: أن هذا مما تمس حاجة الناس إلى بيعه. فإنه إذا لم يبع حتى يقلع، حصل على أصحابه ضرر عظيم. فإنه قد يتعذر عليهم مباشرة القلع والاستنابة فيه. وإن قلعوه جملة فسد بالقلع فبقاؤه في الأرض كبقاء الجوز واللوز ونحوهما في قشره الأخضر.
وأحمد وغيره من فقهاء الحديث يجوزون العرايا مع ما فيها من المزابنة لحاجة المشتري إلى أكل الرطب، أو البائع إلى أكل الثمر، فحاجة البائع هنا أوكد بكثير وسنقرر ذلك إن شاء الله.
وكذلك قياس أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث: جواز بيع المقاتي باطنها وظاهرها وإن اشتمل ذلك على بيع معدوم إذا بدا صلاحها، كما يجوز بالاتفاق إذا بدا صلاح بعض نخله أو شجره أن يباع جميع ثمرها. وإن كان فيها ما لم يصلح بعد.
وغاية ما اعتذروا به عن خروج هذا من القياس أن قالوا: إنه لا يمكن إفراد البيع لذلك من نخلة واحدة؛ لأنه لو أفرد البسرة بالعقد اختلطت بغيرها في يوم واحد؛ لأن البسرة تصفر في يومها وهذا بعينه موجود في المقتاة. وقد اعتذر بعض أصحاب الشافعي وأحمد عن بيع المعدوم تبعا بأن ما يحدث من الزيادة في الثمرة بعد العقد ليس بتابع للموجود، وإنما يكون ذلك للمشتري؛ لأنه موجود في ملكه.
والجمهور من الطائفتين يعلمون فساد هذا العذر؛ لأنه يجب على البائع سقي الثمرة، ويستحق إبقاءها على الشجر بمطلق العقد، ولو لم يستحق الزيادة بالعقد لما وجب على البائع ما به تؤخذ، فإن الواجب على البائع بحكم البيع توفية المبيع الذي أوجبه العقد، لا ما كان من موجبات الملك.(20/105)
وأيضا: فإن الرواية اختلفت عن أحمد إذا بدا الصلاح في حديقة من الحدائق؛ هل يجوز بيع جميعها أم لا يباع إلا ما صلح منها؟ على روايتين:
أشهرهما عنه: أنه لا يباع إلا ما بدا صلاحه، وهي اختيار قدماء أصحابه كأبي بكر وابن شاقلا.
والرواية الثانية: يكون بدو الصلاح في البعض صلاحا للجميع.
وهي اختيار أكثر أصحابه كابن حامد والقاضي ومن تبعهما.
ثم المنصوص عنه في هذه الرواية أنه قال: إذا كان في بستان بعضه بالغ وبعضه غير بالغ: بيع إذا كان الأغلب عليه البلوغ، فمنهم من فرق بين صلاح القليل والكثير، كالقاضي أخيرا وأبي حكيم النهرواني، وأبي البركات وغيرهم ممن قصر الحكم بما إذا غلب الصلاح، ومنهم من سوى بين الصلاح القليل والكثير، كأبي الخطاب وجماعات، وهو قول مالك والشافعي والليث، وزاد مالك، فقال: يكون صلاحا لما جاوره من الأقرحة. وحكوا ذلك رواية عن أحمد.
واختلف هؤلاء: هل يكون صلاح النوع- كالبرني من الرطب - صلاحا لسائر أنواع الرطب على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد. أحدهما: المنع، وهو قول القاضي وابن عقيل وأبي محمد. والثاني: الجواز، وهو قول أبي الخطاب. وزاد الليث على هؤلاء، فقال: صلاح الجنس كالتفاح واللوز يكون صلاحا لسائر أجناس الثمار. ومأخذ من جوز شيئا من ذلك: أن الحاجة تدعو إلى ذلك. فإن بيع بعض ذلك دون بعض يفضي إلى سوء المشاركة، واختلاف الأيدي، وهذه علة من فرق بين البستان الواحد والبساتين، ومن سوى بينهما، فإنه قال:(20/106)
المقصود الأمن من العاهة، وذلك يحصل بشروع الثمر في الصلاح. ومأخذ من منع ذلك: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «حتى يبدو صلاحها (1) » يقتضي بدو صلاح الجميع.
والغرض من هذه المذاهب: أن من جوز بيع البستان من الجنس الواحد لبدو الصلاح في بعضه، فقياس قوله: جواز بيع المقتاة إذا بدا صلاح بعضها. والمعدوم هنا فيها كالمعدوم من أجزاء الثمرة، فإن الحاجة تدعو إلى ذلك أكثر؛ إذ تفريق الأشجار في البيع أيسر من تفريق البطيخات والقثاءات والخيارات، وتمييز اللقطة عن اللقطة لو لم يشق، فإنه أمر لا ينضبط. فإن اجتهاد الناس في ذلك متفاوت.
والغرض من هذا: أن أصول أحمد تقتضي موافقة مالك في هذه المسائل، كما قد يروى عنه في بعض الجوابات أو قد خرجه أصحابه على أصوله وكما أن العالم من الصحابة والتابعين والأئمة كثيرا ما يكون له في المسألة الواحدة قولان في وقتين، فكذلك يكون له في النوع الواحد من المسائل قولان في وقتين، فيجيب في بعض أفرادها بجواب في وقت، ويجيب في بعض الأفراد بجواب آخر في وقت آخر، وإذا كانت الأفراد مستوية كان له فيها قولان، فإن لم يكن بينهما فرق يذهب إليه مجتهد، فقالت طائفة منهم أبو الخطاب: لا يخرج، وقال الجمهور - كالقاضي أبي يعلى - يخرج الجواب، إذا لم يكن هو ممن يذهب إلى الفرق كما اقتضته أصوله، ومن هؤلاء من يخرج الجواب إذا رآهما مستويين، وإن لم يعلم هل هو ممن يفرق أم لا، وإن فرق بين بعض الأفراد وبعض مستحضرا لهما، فإن كان سبب الفرق مأخذا شرعيا كان الفرق قولا له، وإن كان سبب الفرق مأخذا عاديا أو حسيا ونحو ذلك مما قد يكون أهل الخبرة به أعلم من الفقهاء الذين لم يباشروا ذلك، فهذا في الحقيقة
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1486) ، صحيح مسلم البيوع (1534) ، سنن أبو داود البيوع (3367) ، سنن ابن ماجه التجارات (2214) ، مسند أحمد بن حنبل (2/123) ، موطأ مالك البيوع (1303) ، سنن الدارمي البيوع (2555) .(20/107)
لا يفرق بينهما شرعا، وإنما هو أمر من أمر الدنيا لم يعلمه العالم، فإن العلماء ورثة الأنبياء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنتم أعلم بأمر دنياكم. فأما ما كان من أمر دينكم فإلي (1) » .
وهذا الاختلاف في عين المسألة أو نوعها من العلماء قد يسمى تناقضا أيضا؛ لأن التناقض اختلاف مقالتين بالنفي والإثبات، فإذا كان في وقت قد قال: إن هذا حرام. وقال في وقت آخر فيه أو في مثله: إنه ليس بحرام، أو قال ما يستلزم أنه ليس بحرام، فقد تناقض قولاه. وهو مصيب في كليهما عند من يقول: كل مجتهد مصيب. وإنه ليس لله في الباطن حكم على المجتهد غير ما اعتقده.
وأما الجمهور الذين يقولون: إن لله حكما في الباطن، علمه في إحدى المقالتين، ولم يعلمه في المقالة التي تناقضها، وعدم علمه به مع اجتهاده مغفور له، مع ما يثاب عليه من قصده للحق واجتهاده في طلبه، ولهذا يشبه بعضهم تعارض الاجتهادات من العلماء بالناسخ والمنسوخ في شرائع الأنبياء، مع الفرق بينهما بأن كل واحد من الناسخ والمنسوخ ثابت بخطاب حكم الله باطنا وظاهرا، بخلاف أحد قولي العالم المتناقضين.
هذا فيمن يتقي الله فيما يقوله، مع علمه بتقواه وسلوكه الطريق الراشد. وأما أهل الأهواء والخصومات، فهم مذمومون في مناقضتهم؛ لأنهم يتكلمون بغير علم، ولا حسن قصد لما يجب قصده وعلى هذا فلازم قول الإنسان نوعان:
__________
(1) خرجه مسلم في صحيحه عن أنس وعائشة رضي الله عنهما.(20/108)
أحدهما: لازم قول الحق. فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه فإن لازم الحق حق، ويجوز أن يضاف إليه إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره. وكثير مما يضيفه الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب.
والثاني: لازم قوله الذي ليس بحق. فهذا لا يجب التزامه؛ إذ أكثر ما فيه أنه قد تناقض، وقد بينت أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين، ثم إن عرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره له، فقد يضاف إليه، وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول لو ظهر له فساده لم يلتزمه، لكونه قد قال ما يلزمه. وهو لم يشعر بفساد ذلك القول ولا يلزمه.(20/109)
وهذا التفصيل في اختلاف الناس في لازم المذهب: هل هو مذهب أو ليس بمذهب؟ هو أجود من إطلاق أحدهما، فما كان من اللوازم يرضاه القائل بعد وضوحه له فهو قوله. وما لا يرضاه فليس قوله. وإن كان متناقضا وهو الفرق بين اللازم الذي يجب التزامه مع لزوم اللازم الذي يجب ترك الملزوم للزومه. فإذا عرف الفرق بين الواجب من المقالات والواقع منها. وهذا متوجه في اللوازم التي لم يصرح هو بعدم لزومها.
فأما إذا نفى هو اللزوم لم يجز أن يضاف إليه اللازم بحال، وإلا لأضيف إلى كل عالم ما اعتقدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، لكونه ملتزما لرسالته، فلما لم يضف إليه ما نفاه عن الرسول وإن كان لازما له ظهر الفرق بين اللازم الذي لم ينفه واللازم الذي نفاه. ولا يلزم من كونه نص على الحكم نفيه للزوم ما يلزمه؛ لأنه قد يكون عن اجتهادين في وقتين.(20/109)
وسبب الفرق بين أهل العلم وأهل الأهواء - مع وجود الاختلاف في قول كل منهما: أن العالم قد فعل ما أمر به من حسن القصد والاجتهاد، وهو مأمور في الظاهر باعتقاد ما قام عنده دليله، وإن لم يكن مطابقا، لكن اعتقادا ليس بيقيني، كما يؤمر الحاكم بتصديق الشاهدين ذوي العدل، وإن كانا في الباطن قد أخطآ أو كذبا، وكما يؤمر المفتي بتصديق الخبر العدل الضابط أو باتباع الظاهر، فيعتقد ما دل عليه ذلك، وإن لم يكن ذلك الاعتقاد مطابقا. فالاعتقاد المطلوب هو الذي يغلب على الظن مما يؤمر به العباد، وإن كان قد يكون غير مطابق، وإن لم يكونوا مأمورين في الباطن باعتقاد غير مطابق قط. فإذا اعتقد العالم اعتقادين متناقضين في قضية أو قضيتين، مع قصده للحق واتباعه لما أمر باتباعه من الكتاب والحكمة عذر بما لم يعلمه وهو الخطأ المرفوع عنا، بخلاف أصحاب الأهواء. فإنهم {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} (1) ، ويجزمون بما يقولونه بالظن والهوى جزما لا يقبل النقيض، مع عدم العلم بجزمه. فيعتقدون ما لم يؤمروا باعتقاده، لا باطنا ولا ظاهرا، ويقصدون ما لم يؤمروا بقصده، ويجتهدون اجتهادا لم يؤمروا به. فلم يصدر عنهم من الاجتهاد والقصد ما يقتضي مغفرة ما لم يعلموه، فكانوا ظالمين شبيها بالمغضوب عليهم أو جاهلين، شبيها بالضالين.
فالمجتهد الاجتهاد العلمي المحض ليس له غرض سوى الحق، وقد سلك طريقه، وأما متبع الهوى المحض: فهو من يعلم الحق ويعاند عنه. وثم قسم آخر- وهم غالب الناس- وهو أن يكون له هوى،
__________
(1) سورة النجم الآية 23(20/110)
وله في الأمر الذي قصد إليه شبهة، فتجتمع الشهوة والشبهة، ولهذا جاء في حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات» . فالمجتهد المحض مغفور له، أو مأجور، وصاحب الهوى المحض مستوجب للعذاب، وأما المجتهد الاجتهاد المركب على شبهة وهوى: فهو مسيء. وهم في ذلك على درجات بحسب ما يغلب، وبحسب الحسنات الماحية.
وأكثر المتأخرين- من المنتسبين إلى فقه أو تصوف- مبتلون بذلك. وهذا القول الذي دلت عليه أصول مالك وأصول أحمد، وبعض أصول غيرهما: هو أصح الأقوال. وعليه يدل غالب معاملات السلف، ولا يستقيم أمر الناس في معاشهم إلا به، وكل من توسع في تحريم ما يعتقده غررا فإنه لا بد أن يضطر إلى إجازة ما حرمه، فإما أن يخرج عن مذهبه الذي يقلده في هذه المسألة، وإما أن يحتال، وقد رأينا الناس وبلغتنا أخبارهم، فما رأينا أحدا التزم مذهبه في تحريم هذه المسائل، ولا يمكنه ذلك، ونحن نعلم قطعا أن مفسدة التحريم لا تزول بالحيلة يذكرونها. فمن المحال أن يحرم الشارع علينا أمرا نحن محتاجون إليه، ثم لا يبيحه إلا بحيلة لا فائدة فيها، وإنما هي من جنس اللعب. ولقد تأملت أغلب ما أوقع الناس في الحيل فوجدته أحد شيئين: إما ذنوب جوزوا عليها بتضييق في أمورهم، فلم يستطيعوا دفع هذا الضيق إلا بالحيل، فلم تزدهم الحيل إلا بلاء، كما جرى لأصحاب السبت من اليهود، وكما قال تعالى (4: 160) {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} (1) وهذا الذنب ذنب عملي. وإما مبالغة في
__________
(1) سورة النساء الآية 160(20/111)
التشديد لما اعتقدوه من تحريم الشارع، فاضطرهم هذا الاعتقاد إلى الاستحلال بالحيل وهذا من خطأ الاجتهاد، وإلا فمن اتقى الله وأخذ ما أحل له، وأدى ما أوجب عليه، فإن الله لا يحوجه إلى الحيل المبتدعة أبدا. فإنه سبحانه لم يجعل علينا في الدين من حرج، وإنما بعث نبينا صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة، فالسبب الأول: هو الظلم. والسبب الثاني: هو عدم العلم. والظلم والجهل هما وصف للإنسان المذكور في قوله: (33: 72) {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (1) .
وأصل هذا: أن الله سبحانه إنما حرم علينا المحرمات من الأعيان، كالدم والميتة ولحم الخنزير أو من التصرفات: كالميسر والربا وما يدخل فيهما بنوع من الغرر وغيره، لما في ذلك من المفاسد التي نبه الله عليها ورسوله بقوله سبحانه: (5: 91) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (2) فأخبر سبحانه: أن الميسر يوقع العداوة والبغضاء، سواء كان ميسرا بالمال أو باللعب، فإن المغالبة بلا فائدة وأخذ المال بلا حق يوقع في النفوس ذلك، وكذلك روى فقيه المدينة من الصحابة زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبايعون الثمار فإذا أجدب الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع أنه أصاب الثمر الدمان، أصابه مراض، أصابه قشام- عاهات يحتجون بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم- لما كثرت عنده الخصومة في ذلك: «فإما لا، فلا تبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر (3) » ، كالمشورة لهم
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 72
(2) سورة المائدة الآية 91
(3) مسند أحمد بن حنبل (2/77) ، سنن الدارمي البيوع (2555) .(20/112)
يشير بها، لكثرة خصومتهم واختلافهم. وذكر خارجة بن زيد: أن زيدا لم يكن يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا فيتبين الأحمر من الأصفر. رواه البخاري تعليقا، وأبو داود إلى قوله: خصومتهما " وروى أحمد في المسند عنه قال: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ونحن نتبايع الثمار قبل أن يبدو صلاحهما» . فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم خصومة، فقال: ما هذا؟ فقيل له: إن هؤلاء ابتاعوا الثمار يقولون: أصابنا الدمان والقشام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلا تبايعوها حتى يبدو صلاح (1) » .
فقد أخبر أن سبب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك: ما أفضت إليه من الخصام وهكذا بيوع الغرر، وقد ثبت نهيه عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها في الصحيحين، من حديث ابن عمر وابن عباس وجابر وأنس، وفي مسلم من حديث أبي هريرة، وفي حديث أنس تعليله، ففي الصحيحين عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الثمار حتى تزهي، قيل: وما تزهي؟ قال: حتى تحمر أو تصفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ (2) » ، وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الثمر حتى يزهو (3) » ، فقلنا لأنس: ما زهوها؟ قال: تحمر وتصفر، أرأيت إن منع الله الثمرة، بم تستحل مال أخيك ".
قال أبو مسعود الدمشقي: جعل مالك والدراوردي قول أنس: «أرأيت إن منع الله الثمرة (4) » من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أدرجاه فيه، ويرون أنه غلط.
فهذا التعليل - سواء كان من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو من كلام أنس - فيه بيان أن في ذلك أكل المال بالباطل، حيث أخذه في عقد معاوضة بلا عوض مضمون.
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3372) ، مسند أحمد بن حنبل (5/190) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2199) ، صحيح مسلم المساقاة (1555) ، سنن النسائي البيوع (4526) ، موطأ مالك البيوع (1304) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2197) ، صحيح مسلم المساقاة (1555) ، سنن النسائي البيوع (4526) ، سنن ابن ماجه التجارات (2217) ، مسند أحمد بن حنبل (3/161) ، موطأ مالك البيوع (1304) .
(4) صحيح البخاري البيوع (2208) ، صحيح مسلم المساقاة (1555) ، سنن النسائي البيوع (4526) ، سنن ابن ماجه التجارات (2217) ، مسند أحمد بن حنبل (3/250) ، موطأ مالك البيوع (1304) .(20/113)
وإذا كانت مفسدة بيع الغرر هي كونه مظنة العداوة والبغضاء وأكل الأموال بالباطل فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها، كما أن السباق بالخيل والسهام والإبل، لما كان فيه مصلحة شرعية جاز بالعوض، وإن لم يجز غيره بعوض، وكما أن اللهو الذي يلهو به الرجل إذا لم يكن فيه منفعة، فهو باطل، وإن كان فيه منفعة - وهو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته امرأته (1) » ، فإنهن من الحق صار هذا اللهو حقا.
ومعلوم أن الضرر على الناس بتحريم هذه المعاملات أشد عليهم مما قد يتخوف فيها من تباغض، أو أكل مال بالباطل؛ لأن الغرر فيها يسير كما تقدم، والحاجة إليها ماسة، والحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر، والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضها حاجة راجحة أبيح المحرم، فكيف إذا كانت المفسدة منتفية؟ ولهذا لما كانت الحاجة داعية إلى بقاء الثمر بعد البيع على الشجر إلى كمال الصلاح، أباح الشرع ذلك، قاله جمهور العلماء كما سنقرر قاعدته إن شاء الله تعالى.
ولهذا كانت مذهب أهل المدينة وفقهاء الحديث: أنها إذا تلفت بعد البيع بجائحة هلكت من ضمان البائع كما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ (2) » ، وفي رواية لمسلم عنه: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح (3) » والشافعي رضي الله عنه لما لم يبلغه هذا الحديث- وإنما بلغه حديث لسفيان بن عيينة اضطرب فيه- أخذ في ذلك بقول الكوفيين: إنها تكون من ضمان المشتري؛ لأنه مبيع قد تلف بعد القبض؛ لأن
__________
(1) سنن النسائي الخيل (3578) ، سنن أبو داود الجهاد (2513) ، مسند أحمد بن حنبل (4/148) ، سنن الدارمي الجهاد (2405) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1554) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4528) ، سنن أبو داود البيوع (3470) ، سنن ابن ماجه التجارات (2219) ، سنن الدارمي البيوع (2556) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1554) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4528) ، سنن أبو داود البيوع (3470) ، سنن ابن ماجه التجارات (2219) ، مسند أحمد بن حنبل (3/309) ، سنن الدارمي البيوع (2556) .(20/114)
التخلية بين المشتري وبينه قبض، وهذا على أصل الكوفيين أمشى؛ لأن المشتري لم يملك إبقاءه على الشجر، وإنما موجب العقد عندهم: القبض الناجز بكل حال، وهو طرد لقياس سنذكر أصله وضعفه، مع أن مصلحة بني آدم لا تقوم على ذلك، ومع أني لا أعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة صريحة بأن المبيع التالف قبل التمكن من القبض يكون من مال البائع، ويفسخ العقد بتلفه إلا حديث الجوائح هذا. ولو لم يكن فيه سنة لكان الاعتبار الصريح يوافقه، وهو ما نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟ (1) » ، فإن المشتري للثمرة إنما يتمكن من جذاذها عند كمالها ونضجها، لا عند العقد، كما أن المستأجر إنما يتمكن من استيفاء المنفعة شيئا فشيئا، فتلف الثمرة قبل التمكن من استيفاء المنفعة في الإجارة يتلف من ضمان المؤجر بالاتفاق. فكذلك في البيع.
وأبو حنيفة يفرق بينهما بأن المستأجر لم يملك المنفعة، وأن المشتري لم يملك الإبقاء، وهذا الفرق لا يقول به الشافعي وسنذكر أصله.
فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن بيعها حتى يبدو صلاحها. وفي لفظ لمسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تتبايعوا الثمر حتى يبدو صلاحه وتذهب عنه الآفة (2) » ، وفي لفظ لمسلم عنه «نهى عن بيع النخل حتى تزهي، وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة نهى البائع والمشتري (3) » وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يحرز من كل عارض (4) » .
فمعلوم أن العلة ليست كونه كان معدوما. فإنه بعد بدو صلاحه وأمنه العاهة يزيد أجزاء لم تكن موجودة وقت العقد، وليس المقصود الأمن من العاهات النادرة. فإن هذا لا سبيل إليه؛ إذ قد يصيبها ما ذكره الله عن أهل الجنة الذين (68: 17، 18) {أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} (5) {وَلَا يَسْتَثْنُونَ} (6)
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2199) ، صحيح مسلم المساقاة (1555) ، سنن النسائي البيوع (4526) ، موطأ مالك البيوع (1304) .
(2) صحيح مسلم البيوع (1534) ، مسند أحمد بن حنبل (2/51) ، سنن الدارمي البيوع (2555) .
(3) صحيح مسلم البيوع (1535) ، سنن الترمذي البيوع (1227) ، سنن النسائي البيوع (4551) ، سنن أبو داود البيوع (3368) ، مسند أحمد بن حنبل (2/51) .
(4) سنن أبو داود البيوع (3369) ، مسند أحمد بن حنبل (2/458) .
(5) سورة القلم الآية 17
(6) سورة القلم الآية 18(20/115)
وما ذكره في سورة يونس في قوله: (10: 24) {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} (1) وإنما المقصود ذهاب الآفة التي يتكرر وجودها، وهذه إنما تصيب الزرع قبل اشتداد الحب، وقبل ظهور النضج في الثمر؛ إذ العاهة بعد ذلك نادرة بالنسبة إلى ما قبله، ولأنه لو منع بيعه بعد هذه العاهة لم يكن له وقت يجوز بيعه إلى حين كمال الصلاح. وبيع الثمر على الشجر بعد كمال صلاحه متعذر؛ لأنه لا يكمل جملة واحدة وإيجاب قطعه على مالكه فيه ضرر مرب.
فتبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مصلحة جواز البيع الذي يحتاج إليه على مفسدة الغرر اليسير، كما تقتضيه أصول الحكمة التي بعث بها صلى الله عليه وسلم وعلمها أمته.
ومن طرد القياس الذي انعقد في نفسه، غير ناظر إلى ما يعارض علته من المانع الراجح أفسد كثيرا من أمر الدين، وضاق عليه عقله ودينه.
وأيضا: ففي صحيح مسلم عن أبي رافع: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع، فقال: لم أجد فيها إلا جملا خيارا رباعيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاء (2) » .
ففي هذا دليل على جواز الاستسلاف فيما سوى المكيل والموزون
__________
(1) سورة يونس الآية 24
(2) صحيح مسلم المساقاة (1600) ، سنن الترمذي البيوع (1318) ، سنن النسائي البيوع (4617) ، سنن أبو داود البيوع (3346) ، سنن ابن ماجه التجارات (2285) ، مسند أحمد بن حنبل (6/390) ، موطأ مالك البيوع (1384) ، سنن الدارمي البيوع (2565) .(20/116)
من الحيوان ونحوه كما عليه فقهاء الحجاز والحديث، خلافا لمن قال من الكوفيين لا يجوز ذلك؛ لأن القرض موجب لرد المثل، والحيوان ليس بمثلي، وبناء على أن ما سوى المكيل والموزون لا يثبت في الذمة عوضا عن مال.
وفيه دليل على أن يثبت مثل الحيوان تقريبا في الذمة، كما هو المشهور من مذاهبهم خلافا للكوفيين، ووجه في مذهب أحمد أنه يثبت بالقيمة. وهذا دليل على أن المعتبر في معرفة المعقود عليه: هو التقريب، وإلا فيعجز الإنسان عن وجود حيوان مثل ذلك الحيوان، لا سيما عند القائلين بأن الحيوان ليس بمثلي، وأنه مضمون في الغصب والإتلاف بالقيمة.
وأيضا: فقد اختلف الفقهاء في تأجيل الديون إلى الحصاد والجذاذ، وفيه روايتان عن أحمد. إحداهما: يجوز كقول مالك، وحديث جابر الذي في الصحيح يدل عليه.
وأيضا: فقد دل الكتاب في قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (1) ، والسنن في حديث بروع بنت واشق، وإجماع العلماء: على جواز عقد النكاح بدون فرض الصداق. وتستحق مهر المثل إذا دخل بها بإجماعهم، وإذا مات عند فقهاء الحديث، وأهل الكوفة المتبعين لحديث بروع بنت واشق، وهو أحد قولي الشافعي. وهو معلوم أن مهر المثل متقارب لا محدود، فلو كان التحديد معتبرا في المهر ما جاز النكاح بدونه كما رواه أحمد في المسند عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «أن النبي
__________
(1) سورة البقرة الآية 236(20/117)
صلى الله عليه وسلم نهى عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره، وعن بيع اللمس والنجش وإلقاء الحجر (1) » ، فضمت الشريعة بجواز النكاح قبل فرض المهر، وأن الإجارة لا تجوز إلا مع تبيين الأجر، فدل على الفرق بينهما. وسببه أن المعقود عليه في النكاح- وهو منافع البضع- غير محدودة، بل المرجع فيها إلى العرف، فلذلك عوضه الآخر؛ لأن المهر ليس هو المقصود، وإنما هو نحلة تابعة. فأشبه الثمر التابع للشجر في البيع قبل بدو صلاحه. ولذلك لما قدم وفد هوازن على النبي صلى الله عليه وسلم وخيرهم بين السبي وبين المال، فاختاروا السبي. قال لهم: «إني قائم فخاطب الناس، فقولوا: إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، ونستشفع بالمسلمين على رسول الله، وقام فخطب الناس، فقال: إني رددت على هؤلاء سبيهم، فمن شاء طيب ذلك، ومن شاء فإنا نعطيه عن كل رأس عشر قلائص من أول ما يفيء الله علينا (2) » ، فهذا معاوضة عن الإعتاق، كعوض الكتابة بإبل مطلقة في الذمة، إلى أجل متقارب غير محدود، وقد روى البخاري عن ابن عمر في حديث خيبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم، وغلبهم على الأرض والزرع والنخل، فصالحوه على أن يجلوا منها، ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء والحلقة وهي السلاح، ويخرجون منها. واشترط عليهم أن لا يكتموا، ولا يغيبوا شيئا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد.
فهذا مصالحة على مال متميز غير معلوم. وعن ابن عباس قال: «صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران على ألفي حلة: النصف في صفر، والبقية في رجب، يؤدونها إلى المسلمين، وعارية ثلاثين درعا، وثلاثين فرسا، وثلاثين بعيرا، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها، والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم، إن كان باليمن كيد أو غارة (3) » رواه أبو داود.
__________
(1) صحيح مسلم البيوع (1512) ، سنن ابن ماجه التجارات (2170) ، مسند أحمد بن حنبل (3/59) ، سنن الدارمي البيوع (2562) .
(2) سنن النسائي كتاب الهبة (3688) ، مسند أحمد بن حنبل (2/218) .
(3) سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3041) .(20/118)
فهذا مصالحة على ثياب مطلقة معلومة الجنس، غير موصوفة بصفات السلم، وكذلك عارية خيل وإبل وأنواع من السلاح مطلقة غير موصوفة عند شرط، قد يكون، وقد لا يكون.
فظهر بهذه النصوص أن العوض عما ليس بمال- كالصداق والكتابة والفدية في الخلع والصلح عن القصاص والجزية والصلح مع أهل الحرب - ليس بواجب أن يعلم كما يعلم الثمن والأجرة، ولا يقاس على بيع الغرر كل عقد على غرر؛ لأن الأموال إما أنها لا تجب في هذه العقود أو ليست هي المقصود الأعظم منها، وما ليس هو المقصود إذا وقع فيه ضرر لم يفض إلى المفسدة المذكورة في البيع، بل يكون إيجاب التحديد في ذلك فيه من العسر والحرج المنفي شرعا ما يزيد على ضرر ترك تحديده. اهـ (1) .
__________
(1) القواعد النورانية ص 115- 137.(20/119)
" خلاصة الأمر الثاني "
2 - الأمر الثاني: ذكر خلاف الباحثين في حكمه، وأدلة كل فريق منهم، مع المناقشة.
تمهيد:
يتوقف إبداء الحكم في التأمين على أمرين، الأول تصويره، لمعرف واقعه، وقد تقدم ذلك في الأمر الأول.
الثاني معرفة المصادر الشرعية التي يرجع إليها في الحكم عليه، من نصوص عامة، أو مقاصد شرعية، أو قواعد فقهية عامة، أو نظائر جزئية من الفقه الإسلامي يقاس عليها، ومع معرفة الأمرين قد يقع الاختلاف في الحكم عليه بين العلماء، إما لاختلاف نظرهم في شيء يرجع إلى تفصيل الأمر الأول، ككون الغرض الأصلي منه التجارة والربح أو التعاون على الخير، وكونه عقدا احتماليا أو غير احتمالي، وإما لاختلاف نظرهم في تطبيق النصوص العامة، أو في إدراجه تحت قاعدة شرعية عامة، أو في إلحاقه بنظير جزئي بعد تسليم حكم النظير، ولهذا اختلف الباحثون العصريون في حكمه أو في حكم صور منه وفيما يلي بيان ذلك مع الأدلة والمناقشة:
الأول: اختلف الباحثون من المعاصرين ومن سبقهم في حكم التأمين التجاري، فمنهم من قال بتحريمه مطلقا، ومنهم من قال بجوازه مطلقا، ومنهم من فصل فحرم بعض صوره، وأباح منه صورا أخرى، مع اتفاق من اطلعنا على كلامه من الكاتبين المعاصرين على جواز ما يسمى بالتأمين التعاوني أو التبادلي.(20/120)
وقد يقال: من أن ما يسمى بالتأمين التبادلي حرام؛ لأنه ربا، بناء على توسع في تطبيق القاعدة المشهورة "كل سلف جر نفعا فهو حرام"، فإن كل مشترك يعتبر مسلفا بالنسبة لمن أصابه الحادث، وهو ينتظر أن يعود إليه نفع من رصيد الاشتراك إن قدر أن ينزل به حادث، فالقصد إلى الانتفاع بالرصيد محقق عند دفعه قصد الاشتراك ولولا ذلك ما اشترك، وسواء انتفع في المستقبل بالفعل أم لم ينتفع.
الثاني: أدلة هذه الأقوال مع المناقشة:(20/121)
1 - أدلة القائلين بمنع التأمين التجاري مطلقا:
أ- استدلوا بأن عقد التأمين من عقود المعاملات المالية الملزمة، على ما عرف من نظام التأمين وهي مشتملة على الغرر، فكانت ممنوعة شرعا، وبيانه من وجهين:
الأول: إنها عقود يلتزم فيها كل من المتعاقدين بعوض مالي للآخر، فهي عقود معاوضة مالية، ويقصد كل منهما الربح، ولذا يقوم المؤمن بالإحصاء، ويحتاط بالشرط ونحوها ليربح من وراء جملة المستأمنين غالبا، وإن خسر بالنسبة لبعض العقود، والمستأمن يقصد إلى الأمان بضمان المؤمن مبلغ التأمين له، فهو إذن عقد تجاري يقصد منه الربح، وإذا كان عقدا تجاريا ملزما لكل من المتعاقدين بما التزم به. من العوض المالي حرم فيه الغرر بخلاف عقود المعاون والتبرعات، فإنها ليس فيها مغالبة ولا قصد إلى ربح مادي فلا مخاطرة فيها أو لا يضر فيها الغرر والمخاطرة.
الثاني: أنه عقد احتمالي كما اعترف به رجال التأمين، وذكروه في خصائصه، وذلك لأن كلا من المتعاقدين لا يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي وما يأخذ، ولا مدى كسبه أو خسارته حيث إنه معلق على(20/121)
أمر غير محقق الحصول، أو غير معروف وقت حصوله في المستقبل، فكان من عقود الغرر.
ونوقش أولا: بأن عقود التأمين ليست من عقود المعاوضة التجارية التي يقصد بها الربح حتى يكون ما ادعى فيها من الغرر موجبا للتحرز، وإنما هي عقود تعاونية لما فيها من المساعدة على تكوين رءوس الأموال، وإنما الثروات، والنهوض بالمشروعات وتحقيق الأمن للأسر، والإنقاذ من الشدائد عند نزول الكوارث، إلى غير هذا مما يعد من مزايا التأمين. وأجيب بأنها مجرد دعوى يردها واقع عقود التأمين وما ذكر في خصائصها مما أشير إليه في الاستدلال فهي عقود معاوضة مالية رائدة الكسب، وباعثها الربح، وحاميها احتياط شركات التأمين لأثرتهم بالاحتياط بالنظم والشروط والخداع والتغرير، وليس للمستأمن عند التعاقد إلا التسليم لما في وثائق التأمين، ولذا سميت عقود إذعان، وفسرت عند التقاضي لمصلحة المستأمن، ووقفت الحكومات منها موقف المدافع عن المستأمن، وما ينشأ عنها من التعاون فهو أمر ثانوي بالنسبة إلى الأصل فيها من أنها عقود تجارية القصد الأول منها الكسب عن طريق طابعه التغرير والخداع.
ونوقش ثانيا: بأنها على تقدير كونها عقودا تجارية يقصد منها الربح لا غرر فيها؛ لأن كلا المتعاقدين قد دخل على شروط معلومة له وقت العقد ورضي بها، وكل منهما كاسب، فالمستأمن كاسب على كل حال، تحقق الخطر أم لم يتحقق، والمؤمن كاسب على كل حال بالنسبة لما يربحه من جملة المستأمنين.
وأجيب بأن المستأمن قد يدفع الأقساط كلها ولا يعود إليه شيء، وذلك عند السلامة من الخطر، وقد يدفع قسطا واحدا ويعود إليه مبلغ(20/122)
التأمين، ويكون أضعاف القسط الذي دفعه، كما في التأمين على الحياة، وأما المؤمن فهو مخاطر مخاطرة فاحشة بالنسبة لكل عقد بانفراده، فإنه قد يخسر خسارة فادحة بدفعه لجميع مبلغ التأمين عند تحقق خطر الموت مثلا، بعد تسديد المستأمن قسطا واحدا، ولا يبيح له اقتحام المخاطرات في العقود الفردية ربحه الغالب من مجموع عقود التأمين، فإن كل عقد من عقود التأمين مستقل عن الآخر بالنسبة للحكم عليه بحل أو حرمة.
ونوقش ثالثا: بأن عقود التأمين على تقدير تحقق الغرر فيها فليس كل غرر في العقود المالية محرما، إنما المحرم منها ما كان فاحشا متجاوزا حدود التسامح، بحيث يعتمد على مجرد الحظ في خسارة واحد وربح آخر دون مقابل مثلا، فإذا بلغ هذا المبلغ من المخاطرة لم يكن ما دخل فيه من عقود المعاملات مباحا، ولا أساسا يعتمد عليه في تصرفات اقتصادية، يؤيد هذا ما بين به النبي صلى الله عليه وسلم نهيه عن الغرر من بيع المضامين والملاقيح وبيع الحصاة والملامسة والمنابذة، وما أجمع عليه من تحريم بيع السمك في الماء والطير في الهواء، وما إلى ذلك.
أما إذا كان الغرر يسيرا فلا يدخل في النهي عن بيع الغرر؛ إذ قلما تخلو منه تصرفات الناس ومعاملاتهما في تجارتهم وإجاراتهم وصناعاتهم، ولذا أجازه العلماء وتسامحوا فيه، وإلا لضاقت دائرة الحلول ووقع الناس في حرج.
وأجيب: بأن العلماء قسموا الغرر بالنسبة لتأثيره في عقود المعاوضات المالية وعدم تأثيره فيها ثلاثة أقسام، غرر كثير يفسد عقود المعاوضات إجماعا؛ كبيع الملامسة والمنابذة والحصاة، وغرر يسير لا يفسدها إجماعا؛ كبيع الجزر والفجل واللوز والجح دون الوقوف على ما في جوفها بكسر وحفر مثلا، وغرر متوسط بينها؛ كبيع المعين على الوصف(20/123)
دون رؤية، فهذا متردد بينهما لأخذه بشبه من كل منهما، ولذا كان مثار خلاف بين العلماء في الحكم بالتسامح فيه وفي اعتباره مؤثرا في العقود.
ولا شك أن غرر عقود التأمين من النوع الأول؛ لأن الخطر ركن من أركانها، وعنصر من عناصرها كما تقدم بيانه في أركان التأمين وعناصره.
ب- واستدلوا بأن عقد التأمين ضرب من ضروب المقامرة؛ لما فيه من المخاطرة في معاوضات مالية ومن الغرم بلا جناية أو تسبب فيها، ومن الغنم بلا مقابل أو مقابل غير مكافئ، فإن المستأمن قد يدفع قسطا من التأمين، ثم يقع الحادث فيغرم المؤمن كل مبلغ التأمين، وقد لا يقع الخطر ومع ذلك يغنم المؤمن أقساط التأمين بلا مقابل، وإذا استحكمت فيه الجهالة بما يعطي وما يؤخذ أو برفعهما من جانب أو من الجانبين كان قمارا ودخل في عموم النهي عن الميسر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} (1) الآيتين.
ونوقش بمنع كونه قمارا؛ لأن التأمين جد، وفيه تبادل المنافع من الجانبين مع وثوق كل من المؤمن والمستأمن من الوصول إلى الكسب والانتفاع، بخلاف القمار فإنه لعب ولهو، واقتحام لضروب من المخاطرة وجناية قد تأتي على المال كله، وقد يجاب بأن في التأمين أيضا اقتحاما للمخاطر، وعدم وثوق بقدر ما يصل إلى المستأمن أو المؤمن من الكسب والانتفاع أو زمن وصوله فكان التأمين قمارا أو في معناه فيحكم له بحكمه، ثم ليس كل ما فيه كسب أو انتفاع مشروعا حتى ترجح منفعته مضرته ويغلب خيره لشره.
__________
(1) سورة المائدة الآية 90(20/124)
جـ- واستدلوا بأن الربا أصيل في عقود التأمين، لا تنفك عنه إلا بالقضاء على عقوده نفسها والتخلص منها إلى بديل يرتفق به دونها، وإلى جانب ما فيها من ربا أصيل معاملات ربوية أخرى طارئة، وبيان ذلك:
الأول: إن المستأمن يدفع ما عليه من العوض المالي الربوي كله أو أقساطا، حسب مقتضى العقد ليأخذ المقابل من المؤمن بعد زمن أو يتحمله عنه إذا وقع الخطر، وهذا هو ربا النسأ المحرم بالنص والإجماع، ولا يمكن الانفكاك منه إلا بالتخلص من عقود التأمين نفسها؛ لأنه أساسها الذي لا يكون عقد التأمين إلا به.
الثاني: فيه ربا الفضل صريحا أو حكما للشك في التماثل بين ربويين، وربا الفضل محرم بالنص والإجماع، ومن روى عنه من الصحابة جوازه، فقد رجع عنه بعد مناظرة الصحابة وإطلاعه على نص التحريم.
الثالث: إن شركات التأمين تستغل رصيدها في معاوضات ربوية، وإن المستأمن يعود إليه مبلغ التأمين مع فائدة ربوية بعد انتهاء مدة التأمين دون حصول الخطر المؤمن منه.
ونوقش بأن موضوع البحث نفس عقود التأمين التي أبرمت بين الشركة والمستأمن لا ما تقوم به شركات التأمين في استثمار رصيدها استثمارا ربويا، فالدليل في غير محل النزاع، وأما ما يأخذه المستأمن من الفائدة الربوية في بعض صور التأمين فليس من أركان التأمين ولا لازما له، بل من الشروط التي يمكن التخلص منها باشتراط عدم الفائدة أو بترك اشتراطها على الأقل.
وأجيب: بأنه إن أمكن التخلص من الوجه الثالث من وجوه الاستدلال فلا يمكن التخلص من الاستدلال بالوجه الأول والثاني إلا بترك التأمين التجاري نفسه.(20/125)
د - واستدلوا بأن التأمين من قبيل الرهان المحرم؛ لأن كلا منهما فيه جهالة، وغرر ومقامرة، ولم يبح الشرع من الرهان إلا ما فيه نصرة للإسلام وظهور لأعلامه بالحجة والسنان، ومن هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم راهن على فرس يقال له سبحة فسبق الناس فهش لذلك وأعجبه (1) . وأقر الصديق رضي الله عنه على ما كان بينه وبين مشركي العرب من المراهنة بشأن حرب كانت بين الروم والفرس (2) . ولهذا حصر النبي صلى الله عليه وسلم رخصة الرهان في ثلاثة بقوله: «لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل (3) » . فما كان في معنى الثلاثة مما فيه نصرة الإسلام بالسلاح أو العلم والبرهان جاز، وليس التأمين من ذلك.
ونوقش ذلك بما تقدم من مناقشة الاستدلال على منع التأمين بأنه قمار، وأجيب عنه أيضا بما تقدم من الجواب عن هذه المناقشات هناك، فلا نطيل بالإعادة خشية كثرة التكرار.
هـ- واستدلوا بعموم النهي عن أكل الأموال بالباطل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (4) قالوا: إن عقود التأمين تتضمن الغرر والقمار والربا وأخذ مال الغير في المعاوضات التجارية بلا مقابل، فكان من أكل أموال الناس بالباطل، فدخل في عموم النهي في الآية.
ونوقش بأنه لا يدخل في عموم النهي حتى يقوم دليل تفصيلي على منعه؛ لأن أكل الأموال بالباطل كلمة مجملة. وأجيب بما تقدم تفصيلا من
__________
(1) خرجه أحمد في مسنده عن أنس رضي الله عنه.
(2) خرجه الترمذي في جامعه عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(3) خرجه أحمد وأهل السنن عن أبي هريرة.
(4) سورة النساء الآية 29(20/126)
الأدلة الدالة على اشتماله على الربا والغرر والقمار وغيرها من المحظورات، فكان داخلا في عموم النهي في هذه الآية وما في معناها من نصوص الكتاب والسنة.
وواستدلوا بأن في عقود التأمين الإلزام بما لا يلزم شرعا، وبيانه أن المؤمن لم يحدث الخطر المؤمن منه، ولم يتسبب في حدوثه، وإنما كان منه مجرد التعاقد مع المستأمن على ضمان الخطر على تقدير وقوعه مقابل مبلغ يدفع المستأمن له، فكان حراما؛ لما فيه من تضمين من لا يضمن، وأيضا فيها أن المؤمن يأخذ مال المستأمن في عقود معاوضات مالية تجارية دون أن يبذل عملا للمستأمن.
ونوقش بأن المؤمن التزم بالضمان حين العقد برضاه وعن طيب نفس منه، فألزم بما التزم ولا غضاضة في ذلك؛ لوجود نظير له وهو الكفالة، وأجيب بالفرق فإن المؤمن لم يلتزم بالضمان تبرعا منه ورغبة في فعل المعروف، وإنما رغب طمعا في الكسب المادي، وحرصا على تملك ما بذله المستأمن له من العوض، فليس مثل الكفالة التي هي محض معروف وإعانة على سبب بعث الثقة في نفس المضمون له دون مقابل مادي يعطاه.(20/127)
2 - أدلة القائلين بجواز التأمين التجاري مطلقا.
أ- استدلوا بقياس عقود التأمين على عقد ولاء الموالاة، وفسروه بأن يقول شخص مجهول النسب لآخر: أنت وليي تعقل عني إذا جنيت وترثني إذا أنا مت، أو أن يتفق شخص من غير العرب قد أسلم مع عربي مسلم على أن يلتزم العربي بالدية إذا جنى مولاه، ويلتزم غير العربي أن يرثه مولاه العربي إذا لم يكن له وارث سواه، ووجه الشبه بينه وبين(20/127)
التأمين أن العربي يتحمل جناية غير العربي بعقد الموالاة مقابل إرثه، والمؤمن يتحمل جنايات المستأمن نظير ما يدفعه من أقساط التأمين، فالمؤمن نظير المسلم العربي في تحمل المسئولية، والمستأمن نظير المولى المسلم من غير العرب فيما يبذل من أقساط أو إرث، وقد صحح الحنفية عقد ولاء الموالاة، وأثبتوا به الميراث، وعقود التأمين وثيقة الصلة وقوية الشبه به فتخرج عليه ويحكم لها بحكمه وهو الجواز.
ونوقش بما يأتي:
الأول: بأن عقد ولاء الموالاة وإن كان معمولا به بالنسبة للنصرة ونحوها فهو مختلف في نسخه وأحكامه بالنسبة للإرث به، والأدلة الصحيحة تشهد لنسخ الإرث به؛ فلا يصح التخرج عليه.
والثاني: بأن من شرط القياس أن يكون المقيس عليه منصوصا أو مجمعا عليه وإلا فللمخالف في الفرع أن يمنع حكم الأصل فلا يكون القياس مفيدا في إلزام المخالف حكم الفرع، ثم هذا يتوقف على قول الحنفية بتحمل المولى جناية مولاه بعقد الموالاة، فهل الحنفية يقولون بذلك حتى يتم الشبه والتخرج على مذهبهم؟ ولم يبين المستدل ذلك.
والثالث: بوجود الفارق؛ فإن عقود التأمين هدفها الربح المادي المشوب بالغرر والقمار وفاحش الجهالة بخلاف عقد ولاء الموالاة فالقصد الأول فيه إلى التآخي في الإسلام والتناصر والتعاون في الشدة والرخاء وسائر الأحوال، وما يكون من كسب مادي فالقصد إليه بالتبع، وشتان ما بين عقد يكون المتعاقد به كفرد من الأسرة وبين عقد لا يحس فيه كل من المتعاقدين بشيء من العاطفة الإنسانية والإخاء الإسلامي نحو الآخر ولا يتحسس كل منهما عن أحوال صاحبه إلا تحسسا تجاريا ليس لخالص مودة أو صدق إخاء، وإنما هو من خشية الإفلاس أو الغرامة عند(20/128)
العطب، فطابع هذا العقد التكالب على المال، والحرص الممقوت على جمعه من طرق شعارها المخاطرة ودثارها المقامرة فكيف يقاس بعقد عماده الإحسان وإسداء المعروف.
والرابع: بأن هذا الاستدلال، على تقدير تسليمه لا يدل إلا على جواز فرع من فروع التأمين وصورة من صوره، وهي التأمين ضد المسئولية، والمدعي جواز التأمين مطلقا، فلا مطابقة بين الدليل والدعوى.
ب- استدلوا بقياس عقود التأمين على الوعد الملزم عند المالكية، وبيانه أن يعد إنسان غيره بقرض أو تحمل خسارة أو إعارة كتاب أو دابة ونحو ذلك مما ليس واجبا عليه في الأصل، ونقلوا عن المالكية في حكم المسألة أربعة أقوال:
الأول: لزوم الوفاء مطلقا فيقضي به.
والثاني: عدم اللزوم مطلقا فلا يقضي به.
الثالث: اللزوم إذا ذكر للعدة سبب وإن لم يباشر الموعود ما وعد من أجله.
الرابع: إذا ذكر لها سبب وباشر الموعود ما وعد من أجله، ونقلوا عنهم أن الراجح هو الرابع. قالوا: فيمكن قياس عقود التأمين على ذلك. فيقال: إن المؤمن قد التزم لكل مستأمن ولو بلا مقابل على سبيل الوعد أن يتحمل أضرار الخطر المؤمن منه، كما لو التزم إنسان أن يعوض غيره عن خسارته في شيء قد أمره ببيعه فباعه بخسارة، فإنه يجب عليه الوفاء بما التزم عند المالكية؛ لأنه عدة على سبب باشره.
ونوقش بما يأتي:
الأول: أنه قياس على أصل مختلف فيه، وهو ممنوع لما تقدم بيانه.
والثاني: بأنه قياس مع الفارق، فإن الوعد بقرض أو إعارة أو تحمل خسارة مثلا من باب المعروف المحض، فكان الوفاء به واجبا أو(20/129)
من مكارم الأخلاق، بخلاف عقود التأمين؛ فإنها معاوضة تجارية باعثها الربح المادي، فلا يغتفر فيها ما يغتفر في التبرعات من الجهالة أو الغرر، فشتان ما بين حقيقة العقدين، وما يقصد بكل منهما.
والثالث: أنه على القول الراجح مما تقدم إنما وجب الوفاء وقضي به؛ لأن الوعد هو الذي جرأ الموعود على الدخول في السبب ولولا وعده ما باشره، فإذا لم يف له بوعده كان مغررا به موقعا له في مشاكل ومضار كان في عافية منها، فالإلزام بالوفاء للتغرير بالموعود، لا لعوض بذل.
والرابع: أنه على تقدير أن تكون عقود التأمين وعودا، فالفارق بين الوعدين أن ما ذكره المالكية وعد بمعروف محض فكان الوفاء به واجبا، بخلاف الوعود المزعومة في عقود التأمين؛ فإنها التزامات منكرة لما تقدم، فكان التخلص منها واجبا والمضاء فيها حراما.
جـ - واستدلوا بأن عقود التأمين من عقود المضاربة أو في معناها، وبيانه أن المتعاقدين في المضاربة يتفقان على أن يدفع أحدهما مالا ليعمل فيه الآخر، على أن ما كان من ربح فهو بينهما، وهذا ينطبق على عقود التأمين، فإن المستأمن يدفع الأقساط مثلا، وشركة التأمين تستغل ما اجتمع لديها من الأقساط، والربح بينهما حسب التعاقد، وإذا كانت من عقود المضاربة أو في معناها فهي جائزة.
ونوقش بمنع أن يكون عقد التأمين من عقود المضاربة، أو أن يكون فيه شبه منها، وذلك لوجوه: الأول: أن رأس المال في المضاربة لم يخرج عن ملك صاحبه، وما يدفعه المستأمن يخرج بعقد التأمين من ملكه إلى ملك الشركة حسب ما يقضي به نظام التأمين. الثاني: أن رأس مال المضاربة يستحقه ورثة مالكه عند موته، وفي التأمين قد يستحق الورثة(20/130)
نظاما مبلغ التأمين، ولو لم يدفع مورثهم إلا قسطا واحدا، وقد لا يستحقون شيئا إذا جعل المستفيد سوى المستأمن وورثته. الثالث: أن الربح في المضاربة يكون بين الشريكين نسبا مئوية مثلا، بخلاف التأمين فربح رأس المال وخسارته للشركة وليس للمستأمن إلا مبلغ التأمين، أو مبلغ غير محدود.
د- قياس عقود التأمين على ضمان المجهول، وضمان ما لم يجب. فيصح ضمان المؤمن لما التزم به للمستأمن عند وقوع الخطر ويجب عليه الوفاء به كما صح ضمان المجهول ووجب الوفاء به، وإن كان الملتزم به مجهولا فيهما.
ونوقش بأنه قياس مع الفارق لوجوه:
الأول: أن الضمان نوع من التبرع يقصد به الإحسان المحض بخلاف التأمين، فإنه عقد معاوضة تجارية يقصد منها أولا الكسب المادي، فإن ترتب عليه معروف فهو تابع غير مقصود إليه، والأحكام يراعى فيها الأصل لا التابع ما دام تابعا غير مقصود إليه، ولذا اغتفر في الضمان ما لم يغتفر في المعاوضات المالية كالجهالة.
الثاني: أن الضامن لا يأخذ عوضا عن الضمان، بل اشتراط ذلك يفسده بخلاف التأمين، فإن المؤمن يأخذ أقساط التأمين عوضا عن ضمانه.
الثالث: أن عقد التأمين فقد فيه ركن من أركان الضمان وهو المضمون له، فلا يجوز قياسه عليه اللهم إلا أن يقال: إن المضمون له هو المضمون عنه وهو المستأمن.
الرابع: أن الضمان يكون فيه الضامن فرعا عن المضمون، وعليه فليس لصاحب الحق الرجوع على الضامن إلا بعد العجز عن أخذ حقه(20/131)
من المضمون، وعلى أشد الأحوال يكون صاحب الحق مخيرا بين الرجوع على الضامن، أو المضمون، وليس كذلك الحال في التأمين، فإن رجوع صاحب الحق على المؤمن من دون المستأمن.
الخامس: أن الضامن يرجع على المضمون بما دفع عنه، وليس كذلك الحال في التأمين بكونه معاوضة لا ضمانا، وإذا ثبت الفرق بينهما في الحقيقة والآثار لم يصح قياس التأمين على الضمان.
هـ- واستدلوا بقياس عقود التأمين على ضمان خطر الطريق.
وبيان ذلك أنه إذا قال شخص لآخر: اسلك هذا الطريق؛ فإنه آمن، وإن أصابك فيه شيء فأنا ضامن، فسلكه فأخذ ماله ضمن القائل، فكذا القول في عقود التأمين، فإن المؤمن ضمن للمستأمن مبلغا يدفعه له، أو عنه، أو للمستفيد بشروط تراضيا عليها، فإذا أجاز ضمان خطر الطريق مع وجود الجهالة ولزم الوفاء به عند حصول الحادث جازت عقود التأمين ولزم الوفاء بها، حيث لا فرق، ومن فرق بينهما كابن عابدين لو كان في عصرنا، وشاهد تزايد أسباب الأخطار، وعرفوا فكرة التأمين، ولمسوا الضرورة التي نلمسها لما ترددوا في مشروعية نظام التأمين.
ونوقش بأن بينهما فروقا.
الأول: أن الضمان نوع من التبرع يقصد به المعروف المحض، والتأمين عقد معاوضة مالية يقصد منها أولا الربح المادي، فإن ترتب عليه معروف فهو تابع غير مقصود إليه، والأحكام يراعى فيها الأصل لا التابع ما دام تابعا غير مقصود إليه، ولذا اغتفر في الضمان ما لا يغتفر في عقود المعاوضات المالية، وأفسده اشتراط العوض عن الضمان.(20/132)
الثاني: أن تضمين خطر الطريق لا يكون إلا إذا كان الضامن مغررا بالمضمون، بأن كان عالما بخطر الطريق وأمره بسلوكه، وأخبره بأنه آمن، وكان السالك جاهلا بالخطر فالتضمين للتغرير لا لمجرد الضمان، وشركات التأمين تقرر التضمين مطلقا، ثم هي لا ترضى أن يلصق بها ولا يسرها أن يعرف عنها أنها تغرر بالمستأمنين.
الثالث: أنه على تقدير إلزام الضامن بالغرامة مطلقا، فإنما يكون ذلك بعد العجز عن تسليم الحق من المعتدي، أو المتسبب، أو عند اختيار صاحب الحق أخذها منه ابتداء وشركات التأمين تضمن الغرامة للمستأمن على كل حال دون المعتدي، أو المتسبب ما دام الخطر قد تحقق مع توفر الشروط المتفق عليها.
الرابع: أن الضامن يرجع على المضمون بما دفع عنه، وشركات التأمين إنما ترجع على المعتدي، أو المتسبب بقيمة التالف، أو مثله.
الخامس: أنه لا يوجد في كثير من صور التأمين ما يمكن أن يعتبر مكفولا، فلا يصح قياسه على الكفالة لفقده ركنا من أركانها.
أما ما ذكره المستدل من أن ابن عابدين وأضرابه من العلماء لو كانوا معنا اليوم وشاهدوا تزايد أسباب الأخطار وعرفوا التأمين والضرورة إليه لأباحوه فمناقشته تأتي عند مناقشة استدلالهم بالضرورة.
واستدلوا بقياس عقود التأمين على نظام التقاعد.
وبيان ذلك أن نظام التقاعد عقد معاوضة يقوم على اقتطاع جزء ضئيل من مرتب الموظف شهريا بنسبة محدودة ليعطى هو أو من يستحق من أسرته مرتبا شهريا يتناسب مع مدة خدمته وآخر مرتب كان يتقاضاه، ويصرف ابتداء من نهاية عمل الموظف في وظيفته بشروط محددة، والتأمين عقد معاوضة بين المستأمن والمؤمن يعجل فيه مبلغ إلى(20/133)
المؤمن ليعطي المستأمن عوضا عنه فيما بعد بشروط محددة، فكلاهما عقد عجل فيه أحد العوضين وأجل الآخر مع وحدة الجنس ووجود نوع من الجهالة أو المخاطرة، وقد شهدت جميع الدلائل الشرعية الإسلامية وفقهها بجواز التأمين التقاعدي بوجه عام، ودلت على ذلك دلالة لا تقوم معها شبهة توهم التحريم، وأقره علماء الشريعة الإسلامية، بل رأوا العمل به ضروريا في نظام وظائف الدولة، فإذا جاز تطبيق نظام التقاعد على الموظفين، لما فيه من المصلحة، ولأن الحاجة دعت إليه، واعتبر من باب التعاون فلم يوجب ما فيه من الجهالة والمخاطرة في العوضين، أو في زمنهما منعه، فكذلك الحال في التأمين الذي أبرم بين المستأمن والمؤمن باختيارهما ورضاهما.
ونوقش ذلك بما يأتي:
الأول: قول المستدل قد شهدت جميع دلائل الشريعة الإسلامية وفقهها بجواز نظام التقاعد، مجرد دعوى مبالغ فيها لا يساندها دليل صحيح فضلا عن أن يكون لها أدلة لا تقوم أمامها شبهة توهم المنع، ومثل هذه الدعوى لا يعجز أحد عنها ولا عن مقابلتها بمثلها.
الثاني: دعوى أن علماء الإسلام أقروا ما عرف بنظام التقاعد دون أية شبهة دعوى يردها الواقع؛ فإن المسألة نظرية، ويوجد من العلماء المعاصرين من يخالف في ذلك.
الثالث: على تقدير اتفاقهم على الجواز هل يعتبر اتفاقهما إجماعا شرعيا تثبت به الأحكام وهم يعترفون على أنفسهما بالتقليد.
الرابع: إن كان ما يدعي من التقاعد عوضا عما اقتطع من الموظفين شهريا فالكلام في حكمه كالكلام في حكم التأمين، وربما كان التقاعد أشد؛ لأن ما فيه من الغرر والمخاطرة والمقامرة أشد، ولأن توزيعه يجري(20/134)
على غير سنن المواريث شرعا، عطاء مستمرا، أو مؤقتا، أو حرمانا وإن كان ما يعطى من التقاعد مكافأة التزم بها ولي الأمر باعتباره مسئولا عن رعيته، وراعى في صرفها ما قام به الموظف من خدمة الأمة، ووضع لها نظاما راعى فيه مصلحة أقرب الناس إلى الموظف، ونظر إلى مظنة الحاجة فيهم فليس نظام التقاعد من باب المعاوضات المالية بين الدولة وموظفيها، وعلى هذا لا شبه بينه وبين التأمين الذي هو من عقود المعاوضات المالية التجارية التي يقصد بها استغلال الشركات للمستأمنين، والكسب من ورائهم بطرق غير مشروعة؛ لأن ما يعطى في حالة التقاعد يعتبر مكافأة من حكومات مسئولة عن رعيتها، وتصرفها لمن قام بخدمة الأمة كفاء لمعروفه، وتعاونا معه جزاء تعاونه معها ببدنه وفكره، وقطع الكثير من فراغه في سبيل النهوض معها بالأمة.
ز- واستدلوا بقياس نظام التأمين وعقوده على نظام العاقلة، فإن العاقلة تتحمل شرعا دية قتل الخطأ عن القاتل، وتخفيفا لأثر المصيبة عن الجاني المخطئ، وصيانة لدماء ضحايا الخطأ أن تذهب هدرا؛ لأن القاتل خطأ قد يعجز عن دفع الدية فتضيع، وشركات التأمين قد وضعت نظاما للتعاون على ترميم الأخطار، وتخفيف المصاب، وتفرج القرب وجعلته ملزما عن طريق الإرادة الحرة، كما جعل الشرع نظاما المعاملة إلزاميا دون تعاقد وكما ندب الشرع إلى التعاون في الشدائد، وحث على إغاثة الملهوف وتفريج كربة المكروب فتوسعت الشركة في الإلزام في التعاون عن طريق التعاقد على ترميم سائر المخاطر، وقد قال ابن القيم: كل ما يجوز بذله وتركه دون اشتراط فهو لازم بالشرط.(20/135)
ونوقش بأن قياس عقود التأمين على نظام العاقلة في الإسلام قياس مع الفارق وبيانه من وجوه:
الأول: أن الأصل في تحمل العاقلة لدية الخطأ ما بينها وبين القاتل خطأ من الرحم والقرابة التي تدعو إلى النصرة والتواصل والتعاون وإسداء المعروف ولو دون مقابل، وعقود التأمين تجارية استغلالية تقوم على معاوضات مادية محضة، لا تمت إلى عاطفة الإحسان وبواعث المعروف بصلة.
الثاني: أن ما يتحمله أفراد العاقلة يختلف باختلاف أحوالهم من غنى وفقر وتوسط بينهما، أما أعضاء شركة التأمين فيتحملون على السواء في خصوص مال الشركة سواء في هذا ذكورهم وإناثهم غنيهم ومتوسطهم، ولا ينظر في التحمل إلى ثروتهم الخاصة في تقدير ما يتحمله كل عضو، وهذا مما يبعدها عن قصد المعروف والإحسان، ويعين قصد أعضائها إلى التجارة واستغلال المستأمنين لإعانتهم على ترميم أخطارهم.
الثالث: أن صلة النسب والقرابة تقضي بأن يكون أهل النصرة من القبيلة مسئولين عن أفرادها في كثير من مشاكل الحياة ومطالبها، فعليهم حل مشاكلهم، والأخذ على يد مسيئهم، وحماية ضعيفهم من غوائل الزمن وأحداثه، وهذا المعنى مفقود في شركات التأمين؛ إذ لا رابطة روحية بينها وبين المستأمنين، ولا أواصر رحم تدعو إلى الإحسان ودفع الظلم والعدوان، أو تجعل لها سلطانا على المستأمنين يخول لها الأخذ على أيديهم وتقويم اعوجاجهم. وإذا كان الشبه بين العاقلة والتأمين في بواعث التحمل وآثاره مفقودا لم يصح أن يقاس أحدهما بالآخر.
ج- واستدلوا بقياس عقود التأمين على عقود الحراسة، وبيانه أن عقود الحراسة وإن كان الحارس فيه مستأجرا على عمل الحراسة، فالغاية(20/136)
المقصودة منه هي الأمان، ونتيجته معنوية هي الاطمئنان على سلامة الشيء المحروس من العدوان، وليس كالمستأجر لنقل متاع، أو على خياطة ثوب مثلا مما نتيجته حسية، وعقود التأمين كذلك، فإن المستأمن كالمؤجر، كل منهما دفع جزءا من ماله لكسب الأمان، والسلامة من الخطر، والمؤمن كالحارس كل منهما أكسب صاحبه أمانا عوضا عما بذله من ماله.
ونوقش أولا: بأن الأمان ليس محلا للعقد في المسألتين، وإنما محله في التأمين الأقساط ومبلغ التأمين، وفي الحراسة الأجرة وعمل الحارس، أما الأمان فغاية ونتيجة وإلا لما استحق الحارس الأجرة عند ضياع المحروس.
وثانيا: أن الحارس بذل عملا يستحق عليه العوض، والمؤمن لم يبذل عملا للمستأمن ليأخذ عليه عوضا، وإنما يبذل مالا عند وقوع الخطر، والربا فيه محقق، وربما لا يبذل شيئا إذا لم يقع الخطر، فيكون أخذه للأقساط أكلا للمال بلا مقابل في معاوضات تجارية، وهو باطل.
وثالثا: الحارس لا يضمن الشيء المحروس إلا إذا ثبت تفريطه، أو اعتداؤه، والمؤمن ضامن عند وقوع الخطر، ولو كان بسبب قهري لا يد لأحد فيه، وعلى هذا لا يصبح القياس لوجود فروق في حقيقة كل من العقدين وآثارهما تمنع من الإلحاق.
ط- قياس التأمين على الإيداع.
وبيانه أنه يجوز الإيداع بأجرة للأمين وعليه ضمان الوديعة إذا تلفت، فكذا يجوز أن يدفع المستأمن مبلغا لشركة التأمين على أن يؤمنه بعد خطر معين.(20/137)
ونوقش بأن الأجرة في الإيداع عوض عن قيام الأمين بحفظ شيء في حوزته يحوطه بخلاف التأمين، فإن ما يدفعه المستأمن لا يقابله عمل من المؤمن يعود إلى المستأمن بمنفعة إنما هو ضمان الأمن والطمأنينة، وشرط العوض عن الضمان لا يصح، بل هو مفسد للعقد. وإن جعل مبلغ التأمين في مقابلة الأقساط كان معاوضة تجارية جهل فيها مبلغ التأمين، أو زمنه فاختلف عن عقد الإيداع بأجر.
ونوقش أيضا بأن التضمين في صورة الإيداع قاصر على ما يمكن الاحتراز عنه من الأخطار بخلاف التأمين، فإن التضمين عام فيما يمكن الاحتراز منه وما لا يمكن.
ى- قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البز مع الحاكة.
وبيانه أن تجار البز اتفقوا على أن كل من اشترى منهم سلعة دفع درهما عند رجل يثقون به؛ ليستعينوا بما اجتمع لديهم على ما يصيبهم من غرم، وحاول الحاكة منعهم بدعوى أن ذلك ينقص من ربحهم، فحكم الشيخ العقباني بإباحة ذلك بشرط ألا يجبر أحد من التجار على دفع الدرهم، فإذا جاز هذا جاز التأمين لما في كل منهما من التعاون على الغرم وترميم الأخطار.
ونوقش بأنه قياس مع الفارق؛ إذ الأول من التأمين التبادلي، وهو تعاون محض وما فيه البحث تأمين تجاري، وهو معاوضات تجارية، فلا يصح القياس.
ك- التأمين جرى به العمل، وتعارفه الناس فيما بينهما، فكان جائزا؛ لأن العرف من الأدلة الشرعية.
ونوقش بأن العرف ليس دليلا تثبت به الأحكام، ولا مصدرا من مصادر التشريع، وإنما يبنى عليه في تطبيق الأحكام، وفهم المراد من ألفاظ(20/138)
النصوص ومن عبارات الناس في أيمانهم وتداعيهم وأخبارهم وسائر ما يحتاج إلى تحديد المقصود منه من الأفعال والأقوال فلا تأثير له فيما تبين أمره، وتعين المقصود منه، وقد دلت الأدلة دلالة واضحة على منع التأمين، فلا اعتبار به معها.
ل- اشتدت حاجة الناس إلى التأمين في إقامة المشروعات المتنوعة وفي تحقيق مصالح لا بد لهم منها في حياتهم. وفي دفع مضار وترميم أخطار لا يقوى الفرد على النهوض بها وحده فكان جائزا؛ دفعا للمشقة والحرج عن الناس، وتيسيرا لطرق الحصول على ما تقوم به حياتهم وتنظم به أمورهم، وعلى ما تدفع به عنهم أحداث الزمان وغوائله.
ونوقش بأن الطرق المباحة لتحقيق المصالح وإقامة المشروعات كثيرة، ولم يضيق الله على عباده، فإن ما أباحه لهم من الطيبات وطرق كسبها أكثر أضعافا مضاعفة مما حرمه عليهم، فليس هناك ضرورة معتبرة شرعا تلجئ إلى ما حرمته الشريعة من التأمين، وإنما هو إلف الكثير من الناس لما عهدوه وعكفوا عليه زمنا طويلا، وما عليهم إلا أن يحملوا أنفسهم على البعد عنه والفطام منه، وأن يختاروا طرقا أخرى مباحة لتكون بديلة عنه كالجمعيات التعاونية وشركات إنشاء المشروعات التي تقوم على رءوس أموال الأعضاء، والذي مكن لأعضاء شركات التأمين أن تقوم على قدم وساق بطريقة غير مشروعة يمكن لغيرها من القيام على سنن الشرع، بل نرى كثيرا من الأفراد قد وفق الله كلا منهم لإقامة مشروعات، ولا يحتاج هذا إلا لبذل النصح، والنشاط في الدعاية التي تبعث الطمأنينة إلى الطرق الأخرى المباحة، والعمل على إيجاد وعي إسلامي يحبب إلى النفوس استثمار الأموال في الوجوه المشروعة دون جبن، أو شدة خوف من شبح الخسارة تصد عن السعي والنشاط، ودون(20/139)
طمع كاذب، أو زيادة حرص تدفع إلى أكل الأموال بالباطل م - واستدلوا بأن الأصل في عقود المعاملات الجواز ما دامت لا تعارض كتابا، ولا سنة، ولا مقصدا من مقاصد الشريعة، وأنها لا تنحصر فيما كان من أنواعها موجودا عند نزول الوحي، ولا فيما كان معهودا عند الناس في صدر الإسلام، فيجوز للناس أن يحدثوا من عقود المعاملات ما شاءوا مما لا يتنافى مع نص، أو مقصد شرعي، ومن ذلك عقود التأمين، فكانت جائزة.
ونوقش أولا: بعدم تسليم أن يكون الأصل في عقود المعاملات الجواز، بل الأصل فيها المنع حتى يقوم دليل على الجواز.
وثانيا: بأنه على تقدير أن يكون الأصل فيها الجواز فعقود التأمين قامت الأدلة على مناقضتها للكتاب والسنة، وعلى هذا لا تكون عقود التأمين داخلة في عموم أصل الجواز، وقد تقدم بيان ذلك في الكلام على أدلة التحريم مع المناقشة.
ن- واستدلوا بأن التأمين ضرب من ضروب التعاون المفيدة في تنمية الثروة، والصناعات والنهوض بالمجتمع في مختلف مجالاته ومشروعاته، وفي تفتيت الأخطار والتخلص من الأزمات، إلى غير هذا مما عرف من مزايا التأمين، وإذا تضمن مصلحة خاصة، أو راجحة كان جائزا، بل مأمورا به لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) ، ولأن تحقيق المصالح وجلب المنافع ودرء المفاسد من مقاصد الشريعة، ومن رجع إلى وظائف التأمين ومزاياه تبين له ما فيه من جلب المنافع ودرء المفاسد والأخطار.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(20/140)
ونوقش أولا: بمنع رجحان ما في التأمين من المصلحة على ما فيه من مفسدة، بل مفسدته هي الراجحة، وعليه لا يكون من التعاون على البر والتقوى، بل من التعاون على الإثم والعدوان، فيدخل في عموم قوله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) .
وثانيا: بأن من المصالح ما شهدت له الشريعة بالاعتبار وهذه لا شك في أنها حجة، ومنها ما شهدت الشريعة بإلغائه فليس بحجة، ومنها ما لم تشهد الشريعة له باعتبار، ولا إلغاء، بل كان من المصالح المرسلة، فاختلفت في الاحتجاج أنظار المجتهدين، وعقود التأمين فيها جهالة وغرر وقمار، فكانت مما شهدت الشريعة بإلغائه لطغيان جانب المفسدة فيه على جانب المصلحة، كما ألغت منافع الخمر والميسر لطغيان ما فيها من خطر وإثم على ما فيها من منافع.
3 - أما القائلون بالتفصيل بين أنواع التأمين فمنهم من فرق بين التأمين على الحياة وما في معناها بقية أنواع التأمين التجاري فحرم الأول ومنع من الثاني، واستدل لما منعه بأدلة المانعين للتأمين مطلقا، ولما أجازه بأدلة المجيزين له مطلقا، وقد سبقت أدلة الطرفين مع مناقشتها.
ومنهم من فرق بين ما فيه من ربا وما خلا من الربا، فأباح من عقود التأمين ما خلا من الربا ومنع ما اشتمل منها على ربا إلا أنه رخص فيما هو قائم منها بالفعل مؤقتا للحاجة حتى تتاح الفرصة لوجود البديل وأوصى بالسعي الحثيث في إيجاد البديل للاستغناء به عن أنواع التأمين التي لا تخلو من الربا.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(20/141)
واستدل لصور المنع والجواز بما تقدم من أدلة المانعين مطلقا والمجيزين مطلقا، وقد سبق ذلك مع المناقشة.
ومن توقف لعدم بحثه، أو عدم انكشاف وجه الحق له بعد بحثه فتوقفه لا يعتبر حكما فلا يطالب بدليل، ولا توجه إليه مناقشة، ويشكر على نصيحته ببذل الجهد لحل المشكل بالوصول إلى نتيجة حاسمة. ونوقش ما قاله الدكتور السنهوري بما يأتي:
الأول: عقود التأمين عقود متعددة، وكل عقد منها مستقل عن الآخر فيما اشتمل عليه من إلزام والتزام، ونظير ذلك من جهة التعدد ما يقع في شركة العنان بين أعضائها مثلا وبين عدد من المشترين منهم، أو البائعين عليهم، فكل عقد بين رجال الشركة وكل طرف آخر باع عليهم، أو اشترى منهم عقد قائم بنفسه مستقل؛ ولذا لا يلزم من فساد عقد منها فساد الآخر، ولا من صحة عقد صحة الآخر، ولا من الإقالة في عقد الإقالة في الآخر. . . إلخ، وإن كان مال الشركة مختلطا يحمل ربحه خسارته، أو تقضي خسارته علما ربحه مثلا، ويسدد من مجموعه تبعات من تعامل معهم، فوجدت رأس مال الشركة ووحدة مسئولتيها أمام كل فرد، أو جماعة عاملتها لا يقضي بوحدة العقود التي أبرمتها مع كل من تعاقد معها بيعا أو شراء مثلا، وشركة التأمين مع كل مستأمن لا يختلف عن ذلك، وقد اعترف الدكتور بأن عقود التأمين لو نظر إليها هذه النظرة أي من جهة العلاقة ما بين المؤمن ومؤمن له بالذات لم يعد عقد التأمين أن يكون عقد مقامرة ورهان، ويكون غير مشروع لا في الفقه الإسلامي، ولا في جميع القوانين التي تحرم القمار والرهان، إلا أنه حاول أن يلبس التأمين ثوبا جديدا بالنظر إلى العلاقة ما بين المؤمن ومجموع المؤمن لهم بحيث لا يكون إلا وسيطا ينظم لهم تعاونهم جميعا(20/142)
على مواجهة الخسارة التي تحيق بالقليل، والواقع أنه ليس وسيطا حقيقة وإنما هو أصيل في كل عقد بانفراده ملك به ما دفعه المستأمن إليه ملك التاجر لما بذل له من عوض يستثمره لمصلحته، وقد تقدم أن وحدة الشركة ووحدة مسئوليتها أمام المستأمنين، لا يستلزم وحدة العقود وصرف النظر عن اعتبار كل منها مستقلا عن الآخر، وعلى هذا يجب أن يراعى في الحكم على عقود التأمين كل عقد بانفراده.
الثاني: ذكر الدكتور أنه لا يصح التفريق بين التأمين الاجتماعي والتأمين الفردي. . . إلخ، ويمكن أن يقال: إن هذا دفاع إلزامي لإسكات من يمنع التأمين الفردي، أو التجاري لا يثبت بمثله جواز التأمين الفردي وقد يرجع عن التفريق فيسوي بينهما في المنع، وبهذا يسقط الإلزام.
ويمكن أن يقال أيضا: إن بين الاجتماعي والفردي فرقا، فالاجتماعي القصد الأول فيه التعاون لا التجارة، فإن داخله شوائب تبعث الريبة في جوازه أمكن تخليصه منها، أما التأمين الفردي فالقصد الأول منه التجارة على غير السنن الشرعي، ولا ينفك عن الربا والغرر والقمار لقيام أركانه عليها، وعلى هذا لا يصح ما ذكر طريقا لإثبات جوازه.
الثالث: ذكر الدكتور أن عقد التأمين عقد جديد له مقوماته وخصائصه، وليس من بين العقود أو النظم التي عرفها الفقه الإسلامي. ويمكن أن يسلم بأن عقد التأمين جديد باعتباره جزئيا له مقوماته وخصائصه لكن ليس بصحيح أن يقال: ليس من النظم التي عرفها الفقه الإسلامي، بل هو مندرج تحت القواعد العامة في الفقه الإسلامي، فيعرف حكمه من تطبيقها عليه، ومن مقاصد الشريعة التي بحثها الأصوليون والفقهاء بحثا كليا، ولا يمنع تمايزه عن العقود المسماة عند(20/143)
الفقهاء التي عرفوها في بيئتهم أو عصرهم اندراجه تحت قاعدة فقهية عامة، أو تحقيقه لمقصد من مقاصد الشريعة، أو بقاءه عليه ليعرف حكمه كما عرف حكم العقود المسماة الخاصة التي وقعت في العصور السابقة، ولذا لم يكن بين العلماء إلا اختلاف النظر فيما يندرج تحته من كليات الشريعة وفقهها الإسلامي، أو ما يلحق به من عقود أخرى مسماة تتمايز عنه من جهة وتشبهه من جهة أخرى، فيحكم له بما غلب شبهه به. فنرى منهم من يدرجه تحت ما يقتضي تحريمه، أو يلحقه بجزئيات يقوى شبهه بها، ومنهم من يدرجه تحت كليات ومقاصد تقضي بجوازه، أو يلحقه بجزئيات تقضي بجوازه لقوة شبهه بها ومنهم من تردد فتوقف.
الرابع: ما ذكر من مناقشة كونه قمارا، أو تضمنه للربا، أو الغرر سبق بحثه ومناقشته من المجيزين والمانعين فلا نعيد الكلام خشية كثرة التكرار.
هذا ما تيسر ذكره، وبالله التوفيق وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان
نائب الرئيس ... رئيس اللجنة
عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(20/144)
الفتاوى
إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شئونهم الدينية والاجتماعية(20/145)
صفحة فارغة(20/146)
فتوى برقم 4600 وتاريخ 20 \ 5 \ 1402 هـ
السؤال الأول: ما هو الحكم الشرعي الإسلامي في: الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الجماعة جهرا، وفي الدعاء بعد الصلاة جماعة، وقراءة القرآن "حزب" جماعة. والصلاة وراء إمام شيخ أعمى ويخطئ أحيانا؟
الجواب:
أولا: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أجرها عظيم، وقد أمر الله تعالى بها في القرآن ورغب فيها النبي صلى الله عليه وسلم وحث عليها وبين أن أجرها مضاعف فقال صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرا (1) » ، وقد شرعت عند ذكر اسمه، وبعد التشهد في الصلاة وفي خطبة الجمعة والنكاح ونحوهما، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه رضي الله عنهم، ولا عن الأئمة من السلف كمالك وأبي حنيفة والليث بن سعد والشافعي والأوزاعي وأحمد رحمهم الله تعالى أنهم كانوا يصلون عليه صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة جماعة جهرا، والخير كل الخير في اتباع هديه صلى الله عليه وسلم وهدي خلفائه الراشدين وسائر الصحابة رضي الله عنهم، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » .
ثانيا: الدعاء عبادة، ولكن لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن خلفائه الراشدين وسائر الصحابة رضي الله عنهم أنهم دعوا جماعة بعد الصلاة، فكان اجتماع المصلين بعد السلام من الصلاة للدعاء جماعة بدعة محدثة، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (3) » ، وفي رواية «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (4) » .
ثالثا: إذا كان المقصود من قراءة القرآن جماعة أنهم يقرءون جميعا بصوت واحد فهذا غير مشروع؛ لأنه لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (484) .
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(3) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(4) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(20/147)
الصحابة رضي الله عنهم. وإن كان المقصود أن يقرأ أحدهم ويستمع الباقون، أو يقرأ كل منهم لنفسه في مكان الاجتماع دون أن يلتقي صوته بصوت الآخرين في الحركات والسكنات والوصل والوقف فهذا مشروع لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وحفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده (1) » رواه مسلم.
وثبت «عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: اقرأ علي. قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل! قال: فإني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت سورة النساء حتى بلغت قال: أمسك فإذا عيناه تذرفان (3) » رواه البخاري ومسلم.
رابعا: الصلاة جماعة وراء إمام أعمى جائزة، وقد تكون أفضل إذا كان أقرأ للقرآن ممن يصلون وراءه؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله (4) » . . . الحديث.
أما إذا كان يخطئ، فإن كان خطؤه لحنا لا يغير المعنى فالصلاة وراء من لا يلحن أولى إذا تيسر، وإن كان لحنه يغير المعنى فالصلاة وراءه باطلة، وذلك من أجل لحنه لا لعماه كقراءة إياك نعبد بكسر الكاف، أو أنعمت عليهم بضم التاء، أو كسرها، وإن كان يخطئ لضعف حفظه كان غيره ممن هو أحفظ أولى بالإمامة منه.
السؤال الثاني: ما هي صفة صلاة الجنازة؟
الجواب: يجعل من يريد صلاة الجنازة الميت بينه وبين القبلة، ثم يرفع
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن أبو داود الصلاة (1455) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4582) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (800) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3024) ، سنن أبو داود العلم (3668) ، سنن ابن ماجه الزهد (4194) ، مسند أحمد بن حنبل (1/433) .
(3) سورة النساء الآية 41 (2) {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}
(4) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (673) ، سنن الترمذي الصلاة (235) ، سنن النسائي الإمامة (780) ، سنن أبو داود الصلاة (582) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (980) ، مسند أحمد بن حنبل (4/121) .(20/148)
يديه حذو أذنيه أو منكبيه، ويكبر تكبيرة الإحرام ناويا في نفسه صلاة الجنازة، ثم يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم، ويقرأ سورة الفاتحة، ثم يرفع يديه ويكبر، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، والأحسن أن تكون بالصيغة التي يصلي عليه بها بعد التشهد في صلاة الفريضة أو النافلة، ثم يرفع يديه ويكبر، ثم يدعو للميت وللمسلمين والمسلمات فيقول: اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا؛ إنك تعلم متقلبنا ومثوانا، إنك على كل شيء قدير. اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان. اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، وقد وردت أدعية أخرى في الصلاة على الجنازة فارجع إليها في بلوغ المرام ومنتقى الأخبار وغيرهما من كتب الحديث، ثم يرفع يديه ويكبر التكبيرة الرابعة، ثم يسلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(20/149)
فتوى برقم 1653 وتاريخ 22 \ 8 \ 1397 هـ
السؤال: ما الفرق بين الشرك الأكبر والأصغر من حيث التعريف والأحكام؟
الجواب: الشرك الأكبر أن يجعل الإنسان لله ندا، إما في أسمائه وصفاته، فيسميه بأسماء الله ويصفه بصفاته، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180(20/149)
ومن الإلحاد في أسمائه تسمية غيره باسمه المختص به، أو وصفه بصفته كذلك، وإما أن يجعل له ندا في العبادة بأن يضرع إلى غيره تعالى من شمس، أو قمر، أو نبي، أو ملك، أو ولي مثلا بقربة من القرب صلاة، أو نذرا، أو استغاثة به في شدة، أو مكروه، أو استعانة به في جلب مصلحة، أو دعاء ميت، أو غائب لتفريج كربة، أو تحقيق مطلوب، أو نحو ذلك مما هو من اختصاص الله سبحانه فكل هذا وأمثاله عبادة لغير الله واتخاذ لشريك مع الله، قال الله تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (1) وأمثالها من آيات توحيد العبادة كثير.
وإما أن يجعل لله ندا في التشريع، بأن يتخذ مشرعا له سوى الله، أو شريكا لله في التشريع، يرتضي حكمه ويدين به في التحليل والتحريم عبادة وتقربا وقضاء وفي الفصل في الخصومات، أو يستحله، وإن لم يره دينا وفي هذا يقول تعالى في اليهود والنصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) وأمثال هذا من الآيات والأحاديث التي جاءت في الرضا بحكم سوى حكم الله، أو الإعراض عن التحاكم إلى حكم الله والعدول عنه إلى التحاكم إلى قوانين وضعية، أو عادات قبلية، أو نحو ذلك.
فهذه الأنواع الثلاثة هي الشرك الأكبر الذي يرتد به فاعله، أو معتقده عن ملة الإسلام فلا يصلى عليه إذا مات، ولا يدفن في مقابر المسلمين
__________
(1) سورة الكهف الآية 110
(2) سورة التوبة الآية 31(20/150)
ولا يورث عنه ماله، بل يكون لبيت مال المسلمين، ولا تؤكل ذبيحته ويحكم بوجوب قتله ويتولى ذلك ولي أمر المسلمين إلا أنه يستتاب قبل قتله، فإن تاب قبلت توبته، ولم يقتل وعومل معاملة المسلمين.
أما الشرك الأصغر فكل ما نهى عنه الشرع مما هو ذريعة إلى الشرك الأكبر ووسيلة للوقوع فيه وجاء في النصوص تسميته شركا، كالحلف بغير الله، فإنه مظنة الانحدار إلى الشرك الأكبر، ولهذا نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله، أو ليصمت (1) » ، بل سماه شركا، روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف بغير الله فقد أشرك (2) » رواه أحمد والترمذي والحاكم بإسناد جيد؛ لأن الحلف بغير الله فيه غلو وفيه تعظيم غير الله، وقد ينتهي ذلك التعظيم بمن حلف بغير الله إلى الشرك الأكبر.
ومن أمثلة الشرك الأصغر ما يجري على ألسنة كثير من المسلمين من قولهم: ما شاء الله وشئت، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأرشد من قاله إلى أن يقول: «ما شاء الله وحده، أو ما شاء الله، ثم شئت (3) » ؛ سدا لذريعة الشرك الأكبر من إسناد شريك لله في إرادة حدوث الكونيات ووقوعها، وفي معنى ذلك قولهم: توكلت على الله وعليك، وقولهم: لولا صياح الديك أو البط لسرق المتاع، ومن أمثلة ذلك الرياء اليسير في أفعال العبادات وأقوالها، كأن يطيل في الصلاة أحيانا ليراه الناس، أو يرفع صوته بالقراءة، أو الذكر أحيانا ليسمعه الناس فيحمدوه. روى الإمام أحمد بإسناد حسن، قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر (4) » (الرياء) . أما إذا كان لا يأتي بأصل العبادة إلا رياء ولولا ذلك ما صلى، ولا صام، ولا يذكر الله، ولا قرأ القرآن فهو مشرك شركا أكبر وهو من المنافقين الذين قال الله
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6108) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(2) صحيح البخاري الأدب (6108) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1535) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2101) ، مسند أحمد بن حنبل (2/87) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(3) سنن ابن ماجه الكفارات (2117) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (5/428) .(20/151)
فيهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (1) {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} (2) إلى أن قال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (3) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (4) وصدق فيهم قوله تعالى في الحديث القدسي «أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه (5) » رواه مسلم في صحيحه.
والشرك الأصغر، لا يخرج من ارتكس فيه من ملة الإسلام ولكنه أكبر الكبائر بعد الشرك الأكبر؛ ولذا قال عبد الله بن مسعود: لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا، وعلى هذا فمن أحكامه أن يعامل معاملة المسلمين فيرثه أهله، ويرثهم حسب ما ورد بيانه في الشرع، ويصلى عليه إن مات، ويدفن في مقابر المسلمين، وتؤكل ذبيحته إلى أمثال ذلك من أحكام الإسلام، ولا يخلد في النار إن دخلها كسائر مرتكبي الكبائر عند أهل السنة والجماعة خلافا للخوارج والمعتزلة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة النساء الآية 142
(2) سورة النساء الآية 143
(3) سورة النساء الآية 145
(4) سورة النساء الآية 146
(5) صحيح مسلم الزهد والرقائق (2985) ، سنن ابن ماجه الزهد (4202) ، مسند أحمد بن حنبل (2/301) .(20/152)
فتوى برقم 1711 وتاريخ 29 \ 12 \ 1397 هـ
السؤال الأول: مسلم يشهد أن لا إله إلا الله أن محمدا رسول الله(20/152)
ويقول في دعائه: اللهم أعطني كذا وكذا من خيري الدنيا والآخرة بجاه النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أو ببركة الرسول، أو بحرمة المصطفى، أو بجاه الشيخ التيجاني، أو ببركة الشيخ عبد القادر، أو بحرمة الشيخ السنوسي فما الحكم؟
الجواب: من توسل إلى الله في دعائه بجاه النبي، أو حرمته، أو بركته، أو بجاه غيره من الصالحين، أو حرمته، أو بركته فقال: اللهم بجاه نبيك، أو حرمته، أو بركته أعطني مالا وولدا، أو أدخلني الجنة وقني عذاب النار مثلا فليس بمشرك شركا يخرج من الإسلام لكنه ممنوع سدا لذريعة الشرك وإبعادا للمسلم من فعل شيء يفضي إلى الشرك، ولا شك أن التوسل بجاه الأنبياء والصالحين وسيلة من وسائل الشرك التي تفضي إليه على مر الأيام على ما دلت عليه التجارب وشهد له الواقع، وقد جاءت أدلة كثيرة في الكتاب والسنة تدل دلالة قاطعة على أن سد الذرائع إلى الشرك والمحرمات من مقاصد الشريعة، من ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) ، فنهى سبحانه المسلمين عن سب آلهة المشركين التي يعبدونها من دون الله مع أنها باطلة لئلا يكون ذلك ذريعة إلى سب المشركين الإله الحق سبحانه انتصارا لآلهتهم الباطلة جهلا منهم وعدوانا، ومنها نهيه صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد خشية أن تعبد ومنها تحريم خلو الرجل بالمرأة الأجنبية وتحريم إبداء المرأة زينتها للرجال الأجانب وتحريم خروجها من بيتها متعطرة، وأمر الرجال بغض البصر عن زينة النساء وأمر النساء أن يغضضن من أبصارهن؛ لأن ذلك ذريعة إلى الافتتان بها ووسيلة إلى الوقوع في الفاحشة قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (2) {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} (3) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 108
(2) سورة النور الآية 30
(3) سورة النور الآية 31(20/153)
الآية. وثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » ، ولأن التوسل بالجاه والرحمة ونحوهما في الدعاء عبادة والعبادة توقيفية، ولم يرد في الكتاب، ولا في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه ما يدل على هذا التوسل، فعلم أنه بدعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » .
السؤال الثاني: مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقول عند قيامه، أو قعوده: يا رسول الله، أو يا أبا القاسم، أو يا شيخ عبد القادر ونحو ذلك من الاستعانة فما الحكم؟
الجواب: نداء الإنسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو غيره كعبد القادر الجيلاني، أو أحمد التيجاني عند القيام، أو القعود والاستعانة بهم في ذلك، أو نحوه لجلب نفع، أو دفع ضر نوع من أنواع الشرك الأكبر الذي كان منتشرا في الجاهلية الأولى وبعث الله رسله عليهم الصلاة والسلام ليقضوا عليه وينقذوا الناس منه ويرشدوهم إلى توحيد الله سبحانه وإفراده بالعبادة والدعاء وذلك أن الاستعانة فيما وراء الأسباب العادية لا تكون إلا بالله تعالى؛ لأنها عبادة فمن صرفها لغيره تعالى فهو مشرك، وقد أرشد الله عباده إلى ذلك فعليهم أن يقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (3) وقال {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (4) . ويبين لهم أنه وحده بيده دفع الضر وكشفه وإسباغ النعمة وإفاضة الخير على عباده وحفظ ذلك عليهم، لا مانع لما أعطى، ولا يعطب لما منعه، ولا راد لما قضى وهو على كل شيء قدير. قال تعالى {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (5) {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (6) .
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(3) سورة الفاتحة الآية 5
(4) سورة الجن الآية 18
(5) سورة يونس الآية 106
(6) سورة يونس الآية 107(20/154)
وقال تعالى {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (1) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (2) وقال {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} (3) {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (4) وقال {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (5) . فسمى تعالى دعاء غيره في هذه الآيات كفرا وشركا به وأخبر أنه لا أضل ممن يدعو غيره سبحانه وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن عباس رضي الله عنهما: «إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله (6) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «الدعاء مخ العبادة (7) » .
السؤال الثالث: مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقول إذا رأى شيئا ساقطا ويحب أن هذا الشيء لا يصيبه ضرر إذا وقع، يقول: يا رسول الله، أو يا شيخ أحمد التيجاني فهل هذا اللفظ يعد شركا بالله، أو أنها ألفاظ لا تضر صاحبها ويجب على المسلم أن يتلفظ بها، ولا يعد من المشركين، ولا يحبط عمله؟ نرجو منكم إفتاءنا كي نتبين مع الدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
الجواب:
إن الله تعالى وحده هو الحفيظ العليم فمن أحب ألا يصيبه
__________
(1) سورة فاطر الآية 13
(2) سورة فاطر الآية 14
(3) سورة الأحقاف الآية 5
(4) سورة الأحقاف الآية 6
(5) سورة المؤمنون الآية 117
(6) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2516) ، مسند أحمد بن حنبل (1/308) .
(7) سنن الترمذي الدعوات (3371) .(20/155)
ضرر إذا سقط، أو خاف أن ينزل به، أو بأحد من خواصه وأقربائه بلاء في أي حال من الأحوال فيلجأ إلى الله الذي بيده ملكوت كل شيء والذي يعلم السر وأخفى فيرفع إليه حاجته ويدعوه تضرعا وخفية ليحفظه من البلاء عند سقوطه وفي نومه ويقظته وفي كل حال من أحواله ويكشف عنه السوء وكل ما أصابه من البأساء والضراء قال الله تعالى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (1) وقال {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (2) . وقال {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (3) ، ومن استهواه الشيطان فصرفه عن دعاء الله إلى دعاء غيره من الأنبياء وسائر الصالحين، أو الجن والشياطين لحفظه من شر يخشاه على نفسه، أو على خواصه وأقربائه فقد أشرك مع الله إلها آخر يرجو نفعه ويخشى بأسه ويركن إليه في تحقيق رغباته وحاجاته فمأواه جهنم وبئس المصير، مع ذلك لا يستطيعون أن يدفعوا عنه ضرا، أو يقضوا له حاجة، أو يحققوا له غاية. قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} (4) {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (5) وقال سبحانه {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} (6)
__________
(1) سورة البقرة الآية 186
(2) سورة الأعراف الآية 55
(3) سورة غافر الآية 60
(4) سورة سبأ الآية 22
(5) سورة سبأ الآية 23
(6) سورة الإسراء الآية 56(20/156)
وقال عز وجل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (1) .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة النمل الآية 62(20/157)
فتوى برقم 1328 وتاريخ 9 \ 7 \ 1396 هـ
السؤال الأولى: هل يشترط لترخص المسافر في سفره بالفطر في رمضان أن يكون سفره على الأقدام، أو على الدابة، أو ليس هناك فرق بين الأقدام وراكب الدابة وراكب السيارة، أو الطائرة؟ وهل يشترط أن يكون في السفر تعب لا يستطيع الصائم تحمله؟ وهل الأحسن أن يصوم المسافر إذا استطاع، أو الأحسن له الفطر؟
الجواب:
يجوز للمسافر سفر قصر أن يفطر في سفره سواء كان ماشيا، أو راكبا وسواء كان ركوبه بالسيارة، أو الطائرة، أو غيرهما وسواء تعب في سفره تعبا لا يتحمل معه الصوم، أو لم يتعب، اعتراه جوع وعطش، أو لم يصبه شيء من ذلك؛ لأن الشرع أطلق الرخصة للمسافر سفر قصر في الفطر وقصر الصلاة ونحوهما من رخص السفر، ولم يقيد ذلك بنوع من المركب ولا بخشية التعب، أو الجوع، أو العطش، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافرون معه في غزوه في شهر رمضان فمنهم من يصوم ومنهم من يفطر، ولم يعب بعضهم على بعض لكن يتأكد على المسافر(20/157)
الفطر في شهر رمضان إذا شق عليه الصوم لشدة حر، أو وعورة مسلك، أو بعد شقة وتتابع سير مثلا، فعن أنس قال «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فصام بعض وأفطر بعض فتحزم المفطرون وعملوا وضعف الصائمون عن بعض العمل. قال: فقال صلى الله عليه وسلم: ذهب المفطرون اليوم بالأجر (1) » ، وقد يجب الفطر في السفر لأمر طارئ يوجب ذلك كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام قال: فنزلنا منزلا، فقال رسول الله: إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلا آخر، فقال: إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا، وكانت عزمة، فأفطرنا، ثم قال: لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر (2) » . رواه مسلم. وكما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأى رجلا قد اجتمع الناس عليه، وقد ظلل عليه فقال: ما له؟ قالوا: رجل صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس البر أن تصوموا في السفر (3) » . رواه مسلم.
السؤال الثاني: هل يجوز للمسلم أن يتوسل إلى الله بالأنبياء والصالحين، فقد وقفت على قول بعض العلماء أن التوسل بالأولياء لا بأس به؛ لأن الدعاء فيه موجه إلى الله، ورأيت لبعضهم خلافا فما حكم الشريعة في هذه المسألة؟
الجواب: الولي كل من آمن بالله واتقاه ففعل ما أمره سبحانه به قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (4) {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (5) . وانتهى عما نهاه عنه، والتوسل إلى الله بأوليائه أنواع:
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2890) ، صحيح مسلم الصيام (1119) ، سنن النسائي الصيام (2283) .
(2) صحيح مسلم الصيام (1120) ، سنن أبو داود الصوم (2406) .
(3) صحيح البخاري الصوم (1946) ، صحيح مسلم الصيام (1115) ، سنن النسائي الصيام (2258) ، سنن أبو داود الصوم (2407) ، مسند أحمد بن حنبل (3/317) ، سنن الدارمي الصوم (1709) .
(4) سورة يونس الآية 62
(5) سورة يونس الآية 63(20/158)
الأول: أن يطلب إنسان من الولي الحي أن يدعو الله له بسعة رزق، أو شفاء من مرض، أو هداية وتوفيق ونحو ذلك فهذا جائز ومنه طلب بعض الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم حينما تأخر عنهم المطر أن يستسقي لهم فسأل صلى الله عليه وسلم ربه أن ينزل المطر فاستجاب دعاءه وأنزل عليهم المطر، ومنه استسقاء الصحابة بالعباس في خلافة عمر رضي الله عنهم وطلبهم منه أن يدعو الله بنزول المطر فدعا العباس ربه وأمن الصحابة على دعائه، إلى غير هذا مما حصل زمن النبي صلى الله عليه وسلم من طلب مسلم من أخيه المسلم أن يدعو له ربه لجلب نفع، أو كشف ضر.
الثاني: أن ينادي الله متوسلا إليه بحب نبيه واتباعه إياه وبحبه لأولياء الله بأن يقول: اللهم إني أسألك بحبي لنبيك واتباعي له وبحبي لأوليائك أن تعطيني كذا فهذا جائز؛ لأنه توسل من العبد إلى ربه بعمله الصالح ومن هذا ما ثبت من توسل أصحاب الغار الثلاثة بأعمالهم الصالحة.
الثالث: أن يسأل الله بجاه أنبيائه، أو ولي من أوليائه بأن يقول: اللهم أسألك بجاه نبيك، أو بجاه الحسين مثلا فهذا لا يجوز؛ لأن جاه أولياء الله، وإن كان عظيما عند الله وخاصة حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم غير أنه ليس سببا شرعيا ولا عاديا لاستجابة الدعاء، ولهذا عدل الصحابة حينما أجدبوا عن التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستسقاء إلى التوسل بدعاء عمه العباس مع أن جاهه عليه الصلاة والسلام فوق كل جاه، ولم يعرف عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم توسلوا به صلى الله عليه وسلم بعد وفاته وهم خير القرون وأعرف الناس بحقه وأحبهم له.
الرابع: أن يسأل العبد ربه حاجته مقسما بوليه، أو نبيه، أو بحق نبيه، أو أوليائه بأن يقول: اللهم إني أسألك كذا بوليك فلان، أو بحق نبيك فلان فهذا لا يجوز، فإن القسم بالمخلوق على المخلوق ممنوع وهو على الله(20/159)
الخالق أشد منعا، ثم لا حق لمخلوق على الخالق بمجرد طاعته له سبحانه حتى يقسم به على الله.
هذا هو الذي تشهد له الأدلة وهو الذي تصان به العقيدة الإسلامية وتسد به ذرائع الشرك.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(20/160)
فتوى برقم 1557 وتاريخ 23 \ 5 \ 1379 هـ
السؤال الأول: نصراني وزوجته أرادا الدخول في الإسلام فأمرهما مقدم الاستفتاء بغسل اليدين وبالنطق بالشهادتين عن طوع ورضا واستسلام فهل هذا صحيح، أو لا وما هي الطريقة التي كانت تجري لدخول الكفار في الإسلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
الجواب: إن طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوة الكفار إلى الإسلام أن يأمرهم بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أجابوه إلى ذلك دعاهم إلى بقية شرائع الإسلام حسب أهميتها وما تقتضيه الأحوال، ومما ورد في ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: «إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله (1) » ، وفي رواية: «إلى أن يوحدوا الله، فإن أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم. واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب (2) »
__________
(1) صحيح البخاري التوحيد (7372) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .
(2) صحيح البخاري المغازي (4347) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .(20/160)
ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه حينما أعطاه الراية يوم خيبر: «انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (1) » ، وفي رواية أخرى: «فقاتلهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (2) » .
وقد اختلف السلف في حكم الغسل بالنسبة لمن كان كافرا فأسلم فقال بوجوبه مالك وأحمد وأبو ثور رحمهم الله لما رواه أبو داود والنسائي عن قيس بن عاصم رضي الله عنه: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أريد الإسلام فأمر أن اغتسل بماء وسدر. والأمر يقتضي الوجوب.
قال الشافعي وبعض الحنابلة يستحب أن يغتسل إلا أن يكون قد حدثت به جنابة زمن كفره فيجب عليه الغسل، وقال أبو حنيفة: لا يجب عليه الغسل بحال، ولكن المشروع له الغسل لهذا الحديث ولما جاء في معناه.
وأما الختان فواجب على الرجال ومكرمة في حق النساء لكن لو أخرت دعوة من رغب في الإسلام إلى الختان بعض الوقت حتى يستقر الإسلام في قلبه ويطمئن إليه لكان حسنا خشية أن تكون المبادرة بدعوته إلى الختان منفرة له من الإسلام.
وعلى هذا فما أمرت به الرجل وزوجته عند إسلامهما صحيح وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
السؤال الثاني: هل يجوز نقل دم من كافر إلى صبي مولود من أب وأم مسلمين عند الضرورة؟
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3701) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .
(2) صحيح البخاري الإيمان (25) ، صحيح مسلم الإيمان (22) .(20/161)
الجواب: نعم يجوز حقن صبي مسلم بدم غيره عند الضرورة سواء كان من أخذ منه الدم مسلما أم كافرا وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(20/162)
فتوى برقم 1900 وتاريخ 1 \ 5 \ 1398 هـ
السؤال الأول: ما حكم الشعر والغناء والموسيقى وما حكم الاستماع لها، وهل تقبل صلاة من يستمع إليها أم هي باطلة؟
الجواب:
الشعر أنواع فما كان فيه حكمة، أو موعظة حسنة، أو دفاع عن حق، أو إبطال لباطل، أو نحو ذلك من وجوه الخير فهو خير. وما كان فيه كذب، أو نصر لباطل، أو إبطال لحق، أو ثناء على أهل الشر، أو ذم لأهل الخير، أو نحو ذلك فهو شر. أما الغناء والموسيقى والاستماع لهما فهي من المنكرات.
وأما صلاة من يستمع للغناء والموسيقى فليست باطلة إذا أتى بأركانها وواجباتها وشروطها كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرجى قبولها والعلم بوقوع القبول وعدم وقوعه من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله فعلى المسلم أن يترك الغناء والموسيقى والاستماع لهما ويحافظ على الصلاة وغيرها من القرب والعبادات ويرجو من الله قبول عمله والعفو عما وقع عنه من الذنوب والأخطاء.
السؤال الثاني: ما حكم ذكر اسم الله تعالى في الحمامات المعروفة(20/162)
حاليا وما حكم التهليل فيها، وهل يجب على الإنسان إذا اغتسل من الجنابة أن يتشهد وهو يصب الماء على جسده أم لا؟
الجواب: يكره للإنسان أن يذكر اسم الله في الحمامات، أو أن يهلل فيها ولا يجب على من يغتسل من الجنابة أن يتشهد وهو يصب الماء على جسده لكن يسن لمن يريد أن يدخل الحمام، أو محل قضاء الحاجة بولا أو نحوه أن يعوذ بالله من الخبث والخبائث قبل أن يدخل وأن يقول بعد خروجه من محل قضاء حاجته غفرانك، وأن يقول بعد الفراغ من غسله والخروج من الحمام الذي اغتسل فيه من الجنابة أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله لثبوت ما ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(20/163)
فتوى برقم 2139 وتاريخ 16 \ 10 \ 1398 هـ
السؤال الأول: ما هي محدثات الأمور وما معناها؟
الجواب: المراد بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «إياكم ومحدثات الأمور (1) » كل ما أحدثه الناس في دين الإسلام من البدع في العقائد والعبادات ونحوها مما لم يأت به كتاب ولا سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واتخذوه دينا يعتقدونه، ويتعبدون الله به زعما منهم أنه مشروع وليس كذلك، بل هو مبتدع ممنوع كدعاء من مات من الصالحين، أو الغائبين منهم، واتخاذ القبور مساجد، والطواف حول القبور، والاستنجاد بأهلها زعما منهم أنهم شفعاء لهم عند الله ووسطاء في قضاء الحاجات وتفريج الكربات
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (42) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(20/163)
واتخاذ أيام موالد الأنبياء والصالحين أعيادا يحتفلون فيها ويعملون ما يزعمونه قربات تخص ليلة المولد، أو يومه، أو شهره إلى أمثال ذلك مما لا يكاد يحصى من البدع والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان ولا ثبت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء منها، ويتضح مما ذكرنا أن بعض المحدثات يكون شركا كالاستغاثة بالأموات والنذر لهم وأن بعضها يكون بدعة فقط، ولم تبلغ أن تكون شركا كالبناء على القبور واتخاذ المساجد عليها ما لم يغل في ذلك بما يجعله شركا.
السؤال الثاني: هل يجوز التدخين وشرب التبغ أو لا؟
الجواب:
التدخين وشرب التبغ على أي كيفية حرام؛ لأن ذلك هن الخبائث، وقد قال تعالى في صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (1) ، ولأنه مضر بالقلب والرئتين وبصحة الإنسان عموما، ومنشأ لأنواع من الأمراض الخبيثة كالسرطان، وقرر الأطباء خطره على الصحة، وقد جاءت الشريعة الإسلامية بالتحذير مما يضر بالإنسان عموما.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأعراف الآية 157(20/164)
فتوى برقم 5042 وتاريخ 27 \ 10 \ 1402 هـ
السؤال: هل دعاء ختم القرآن لشيخ الإسلام ابن تيمية به بأس؟ وما الواجب عمله في السنة عند ختم القرآن الكريم؟(20/164)
الجواب:
الدعاء المنسوب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية عند ختم القرآن لا نعلم صحته عنه، ولم نقف عليه بشيء من التفسير. لكن قد اشتهرت نسبته إليه ولا نعلم فيه بأسا، وإذا دعا الإنسان بدعوات أخرى فلا بأس بذلك لعدم الدليل على تعيين دعاء معين، والله الموفق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(20/165)
فتوى برقم 5138 وتاريخ 19 \ 12 \ 1402 هـ
السؤال: قرأت في كتاب العقيدة الطحاوية أن العلماء اختلفوا في قراءة القرآن عند القبور على ثلاثة آراء منها ما هو مكروه، ومنها ما هو مستحب، ومنها ما هو لا بأس به عند الدفن، ولكن لم نجد أي دليل من الكتاب والسنة على هذا. وسألنا كثيرا عن هذا الموضوع فلم نحصل على إجابة علمية صريحة حتى الآن مع أن معظم الناس يقرءون عند القبور وعند دخول الميت القبر يقرءون عليه سورة (يس) بالذات فهل هذا صحيح؟ ثم ما حكم من يقول (الفاتحة للنبي) ، وأيضا قراءة الفاتحة للأولياء والصالحين والصيغة التي نسمعها من معظم الناس هي، يقولون: الفاتحة لرسول الله ربنا يكرمنا ويكفينا شر السوء ويبعد عنا الشيطان. أرجو إجابة تامة نحو هذا؟
الجواب:
القراءة للأموات من الرسل، أو الأولياء، أو الصالحين، أو غيرهم من الناس قبل الدفن، أو بعده لا يجوز؛ لأنها عبادة والعبادات مبنية على التوقيف، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه(20/165)
أمرنا فهو رد (1) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا، فإن الشيطان يفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة (2) » أخرجه مسلم في صحيحه. وهذا الحديث يدل على أن المقابر ليست محلا للصلاة ولا القراءة.
ولقد صدر منا جواب في حكم القراءة عند القبور وفي غير المقابر هذا نصه: لا يجوز أن يقرأ القرآن عند القبور كما يفعله بعض الناس اليوم؛ لأن ذلك محدث لم ترد به السنة، ولم يصح عند أحد من السلف. أما قراءة القرآن تطوعا بلا أجر في غير المقابر وإهداء ثوابها للميت فقد اختلف العلماء في انتفاع الميت بذلك، فقيل: لا يصل إليه ثوابها، ولو كان أبا أو أما؛ لقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (3) وقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (4) ، ولحديث: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به (5) » من بعده لو كان ذلك مشروعا لفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولو مرة قياما بالبلاغ وأداء لحق البيان، ولو فعله أو أذن فيه لنقل، لكن لم يكن شيء من ذلك، وسواء في ذلك الوالدان وغيرهم. وقيل: ينتفع الأموات بما أهدي إليهم من ذلك كما ينتفعون بالصدقة عنهم والدعاء لهم والحج ونحوه عنهم، والأول أرجح وأظهر دليلا؛ لأن العبادات توقيفية، ولا تثبت بالقياس، وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (780) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2877) ، مسند أحمد بن حنبل (2/284) .
(3) سورة البقرة الآية 286
(4) سورة النجم الآية 39
(5) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .(20/166)
فتوى برقم 5156 وتاريخ 23 \ 12 \ 1402 هـ
السؤال الأول: بعض العامة إذا أراد أن يقوم من مجلسه عمد على يديه، وقال: يا جاه النبي، أو يا جاه رسول الله، أو يا رضاء الوالدين. وهؤلاء العلماء أنفسهم يقولون: من قال يا رضاء الوالدين، أو جاه النبي فهو مشرك؛ لأنه جعل واسطة مع الله. ويحتجون بالحديث الذي فيه: «يا غلام إذا استعنت فاستعن بالله (1) » . . .) .
الجواب:
نداء جاه النبي والرسول صلى الله عليه وسلم عند النهوض من المجلس، أو نداء رضا الوالدين نوع من الاستعانة به وهو شرك أكبر والعياذ بالله.
السؤال الثاني: إذا سافر الإنسان في الطائرة مسافة بعيدة ولكنه يقطعها في مدة ساعتين، أو أقل من ذلك فهل هذا المسافر يقصر الصلاة ويفطر في رمضان أم لا؟ وكذلك الإنسان يسافر في السيارة حوالي مائتي ميل، أو أكثر في مدة ساعتين ونصف مثلا. وفي المساء يعود إلى بيته. ويقصر الصلاة ويقول هذه هدية من الله فاقبلوا هديته فهل هذا القصر جائز أم لا يجوز إلا إذا كانت هناك مشقة وتعب في السفر؟
الجواب:
قصر الصلاة في مثل ما ذكر من المسافة سنة والفطر في مثلها مرخص فيه للمسافر سواء قطعها في زمن كثير أم قليل ساعة أو أقل أو أكثر، وسواء نالته مشقة أم لا؛ لأن الشأن في السفر المشقة، ولو لم تحصل بالفعل وذلك من فضل الله ورحمته سبحانه بعباده.
السؤال الثالث: إذا أفطر الصائم ناسيا في رمضان هل عليه القضاء أم لا قضاء عليه لقول رسول صلى الله عليه وسلم: «من أفطر ناسيا» . . . كقوله صلى الله عليه وسلم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه (2) » ، أو كما قال.
__________
(1) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2516) ، مسند أحمد بن حنبل (1/308) .
(2) سنن ابن ماجه الطلاق (2043) .(20/167)
الجواب:
من أفطر ناسيا في نهار رمضان وهو صائم فلا إثم عليه وعليه أن يتم صوم يومه ولا قضاء عليه على الصحيح من قول العلماء وهذا ما ذهب إليه الشافعي وأحمد، لما رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من نسي وهو صائم فأكل، أو شرب ناسيا فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه (1) » وفي لفظ: «إذا أكل الصائم ناسيا، أو شرب ناسيا، فإنما هو رزق ساقه الله إليه ولا قضاء عليه (2) » رواه الدارقطني، وقال: إسناده صحيح وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1933) ، صحيح مسلم الصيام (1155) ، سنن الترمذي الصوم (721) ، سنن أبو داود الصوم (2398) ، سنن ابن ماجه الصيام (1673) ، مسند أحمد بن حنبل (2/491) ، سنن الدارمي الصوم (1727) .
(2) صحيح البخاري الصوم (1933) ، صحيح مسلم الصيام (1155) ، سنن الترمذي الصوم (721) ، سنن أبو داود الصوم (2398) ، سنن ابن ماجه الصيام (1673) ، مسند أحمد بن حنبل (2/491) ، سنن الدارمي الصوم (1727) .(20/168)
فتوى برقم 5213 وتاريخ 15 \ 1 \ 1403 هـ
السؤال الأول: كيف نرد على القائلين بأن (الله في كل مكان) تعالى الله عن ذلك وما حكم قائلها؟
الجواب:
أولا: عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى مستو على عرشه بذاته وهو ليس داخل العالم، بل منفصل وبائن عنه وهو مطل على كل شيء لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (1) الآية. وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) وقال الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} (3) وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (4) الآية.
__________
(1) سورة يونس الآية 3
(2) سورة طه الآية 5
(3) سورة الفرقان الآية 59
(4) سورة السجدة الآية 4(20/168)
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} (1) ، ومما يدل على علوه على خلقه نزول القرآن من عنده والنزول لا يكون إلا من أعلى إلى أسفل قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (2) الآية، وقال تعالى: {حم} (3) {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (4) ، وقال تعالى: {حم} (5) {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (6) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على علو الله سبحانه وتعالى وفي حديث معاوية بن الحكم السلمي قال: «كانت لي غنم بين أحد والجوانية فيها جارية لي، فأطلقتها ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب منها بشاة وأنا رجل من بني آدم، فأسفت فصككتها، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فعظم ذلك علي، فقلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها؟ قال: ادعها فدعوتها، فقال لها: أين الله؟ فقالت: في السماء، قال: من أنا، قالت: رسول الله. قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة (7) » أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحا ومساء (8) » .
ثانيا: من اعتقد أن الله في كل مكان فهو من الحلولية، ويرد عليه بما تقدم من الأدلة الدالة على أن الله في جهة العلو وأنه مستو على عرشه بائن من خلقه، فإن انقاد إلى ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع وإلا فهو كافر مرتد عن الإسلام.
__________
(1) سورة هود الآية 7
(2) سورة المائدة الآية 48
(3) سورة غافر الآية 1
(4) سورة غافر الآية 2
(5) سورة فصلت الآية 1
(6) سورة فصلت الآية 2
(7) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (537) ، سنن النسائي السهو (1218) ، سنن أبو داود الصلاة (930) ، مسند أحمد بن حنبل (5/448) ، موطأ مالك كتاب العتق والولاء (1511) ، سنن الدارمي الصلاة (1502) .
(8) صحيح البخاري المغازي (4351) ، صحيح مسلم الزكاة (1064) ، مسند أحمد بن حنبل (3/5) .(20/169)
وأما قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (1) فمعناه عند أهل السنة والجماعة أنه معهم بعلمه واطلاعه على أحوالهم. وأما قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} (2) فمعناه أنه سبحانه هو معبود أهل السماوات ومعبود أهل الأرض. وأما قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} (3) فمعناه أنه إله أهل السماوات، وإله أهل الأرض لا يعبد بحق سواه. وهذا هو الجمع بين الآيات والأحاديث الواردة في هذا الباب عند أهل الحق.
السؤال الثاني: يذكرون في كتب البلاغة أن في القرآن مجازا ولديهم بعض الشبهات كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (4) فيسمون هذا مجازا؛ لأن التحرير للعبد وذكرت الرقبة تدل على العبد (الجزء يدل على الكل) ؛ فهل يصح تسمية هذا مجازا؟ كقوله عز وجل {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} (5) القول باللسان وذكر الفم ليدل عليه (الكل يدل على الجزء) ، وقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} (6) الانشراح للقلب وذكر الصدر مجازا ليدل عليه. كقوله: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} (7) . يقولون: إنه يضع الإصبع وليس الإصبع كله ولكن ذكرت الأصابع مجازا، وغير ذلك كثير من الآيات على هذه الشاكلة؛ فهل يصح قولهم بأن في القرآن مجازا؟ وما الدليل؟ وهل في الحديث مجاز؟
__________
(1) سورة الحديد الآية 4
(2) سورة الأنعام الآية 3
(3) سورة الزخرف الآية 84
(4) سورة النساء الآية 92
(5) سورة آل عمران الآية 167
(6) سورة الشرح الآية 1
(7) سورة البقرة الآية 19(20/170)
الجواب:
إن ما يقوله علماء البلاغة في المجاز باصطلاحهم لا صحة له في الكتاب ولا في السنة ولا في لغة العرب، بل كل تعبير جاء في الكتاب العزيز، أو في السنة المطهرة، أو في لغة العرب فهو حقيقة في محله، وقد بسط الكلام في ذلك أبو العباس ابن تيمية في كتاب (الإيمان) ، ونقله الشيخ عبد الرحمن قاسم في مجموع الفتاوى، كما بسط ذلك أيضا العلامة ابن القيم في كتابه الصواعق المرسلة.
السؤال الثالث: ما حكم ساب الدين إن كان جاهلا؟ هل يعذر بجهله أم إنه لا عذر بالجهل في هذه المسألة؟ وهل إذا كان مقصده سب الشخص نفسه فجرى على لسانه سب دينه، هل يعذره هذا من الكفر، أم ماذا؟ وما هي أقوال السلف في هذا الأمر.
الجواب:
سب الله، أو سب كلامه، أو شيء منه كفر وكذا سب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو سنته، أو شيء منها، أو سب دين الشخص إذا كان دينه الإسلام فيجب أن يبين له الحكم إذا كان مثله يجهل ذلك، فإن أصر على السب فهو كافر مرتد عن ملة الإسلام يستتاب، فإن تاب وإلا قتل؛ لقول الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (1) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (2) .
وننصحك بقراءة كتاب أحكام المرتد من كتب الحديث والفقه كصحيحي البخاري ومسلم والمغني والمجموع شرح المهذب والحطاب على مختصر خليل وبدائع الصنائع للكاساني وغير ذلك من كتب الحديث والفقه، وأما من سب شخصا مسلما لذاته فجرى على لسانه دين ذلك الشخص بدون قصد إنما هو محض خطأ منه، فإن مثله لا يكفر
__________
(1) سورة التوبة الآية 65
(2) سورة التوبة الآية 66(20/171)
بذلك، ولكن يوصى بالتحرز، والحذر بكلماته حتى لا يقع في الكفر وهو لا يشعر.
السؤال الرابع: ما حكم من استهزأ ببعض المستحبات؛ كالسواك والقميص القصير وبالشرب جالسا؟ وما حكم الأكل والشرب في الطرقات؟
الجواب:
من استهزأ ببعض المستحبات كالسواك والقميص الذي لا يتجاوز نصف الساق والقبض في الصلاة ونحوها مما ثبت من السنة فحكمه أنه يبين له مشروعية ذلك وأن السنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك فإذا أصر على الاستهزاء بالسنن الثابتة كفر بذلك؛ لأنه بهذا يكون منتقصا للرسول صلى الله عليه وسلم ولشرعه والنقص بذلك كفر أكبر كما تقدم في جواب السؤال الثالث.
وأما الأكل والشرب في الطرقات فهو يختلف بحسب عرف البلاد، فإن كان عرفهم يقر ذلك وعدم استنكاره فلا حرج وإلا فينبغي تركه وبالله التوفيق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(20/172)
فتوى برقم 5502 وتاريخ 2 5 1403 هـ
السؤال: إذا طهرت المرأة من الحيض، أو النفاس قبل غروب الشمس؛ فهل يلزمها أن تصلي الظهر والعصر؟ وإذا طهرت قبل طلوع الفجر فهل يلزمها أن تصلي المغرب والعشاء أم لا؟(20/172)
الجواب:
إذا طهرت المرأة من الحيض أو النفاس قبل خروج وقت الصلاة الضروري لزمتها تلك الصلاة وما جمع إليها قبلها، فمن طهرت قبل غروب الشمس لزمتها صلاة العصر والظهر، ومن طهرت قبل طلوع الفجر الثاني لزمتها صلاة العشاء والمغرب، ومن طهرت قبل طلوع الشمس لزمتها صلاة الفجر.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(20/173)
فتوى برقم 5593 وتاريخ 22 5 1403 هـ
السؤال: شخص أخذ من آخر مبلغ عشرة آلاف على أن يشتري له مقابلها سيارة وذلك بعد سنة من استلام عشرة الآلاف المذكورة؛ فهل هذا العقد جائز أم لا؟ الجواب:
إذا كان الواقع كما ذكر وكانت السيارة معلومة أوصافها وكانت عشرة الآلاف كل الثمن، وكان الأجل معلوما فالعقد صحيح.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(20/173)
فتوى برقم 6283 وتاريخ 22 \ 5 \ 1403 هـ
السؤال الأول: هل يجوز للمصلي إذا دخل المسجد أن يصلي تحية المسجد، ولو كان دخوله وقت نهي عن الصلاة؟ وما هي الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها؟
الجواب:
يشرع لمن دخل المسجد أن يصلي ركعتين تحية المسجد، ولو كان دخوله وقت نهي عن صلاة النافلة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
السؤال الثاني: هل يجوز قضاء الفوائت الطائلة من الصلوات بأن كانت شهرا، أو عاما، أو عامين فأكثر؟
الجواب:
إذا كان تركها جحدا فهو كفر ولا يقضي بإجماع، وإذا كان تركها عمدا مع الاعتراف بوجوبها فتاركها كافر على الصحيح من قولي العلماء ولا يجب عليه القضاء، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(20/174)
فتوى برقم 6366 وتاريخ 20 \ 11 \ 1403هـ
السؤال الأول: ما هو الفرق بين السحر والعين؟ وهل العين تقع في الدين ولها حكم؟ وما هو العلاج للطرفين العاين والمعيون إن كان ذلك صحيحا؟(20/174)
الجواب:
السحر في اللغة عبارة عما خفي ولطف سببه، وفي الاصطلاح السحر عزائم ورقى، ومنه ما يؤثر في القلوب والأبدان فيمرض ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه. قال تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (1) .
وأما العين فهي مأخوذة من عان يعين إذا أصابه بعينه، والعين حق كما ورد في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين إذا استغسلتم فاغسلوا (2) » ، وحكمها أنها محرمة كالسحر. وأما العلاج للعائن فإذا رأى ما يعجبه فليذكر الله وليبرك، كما جاء في الحديث: «هلا إذا رأيت ما يعجبك بركت (3) » ، فيقول ما شاء الله تبارك الله أحسن الخالقين. وأما المعيون فيحصن نفسه بالإيمان بالله والتوكل عليه وقراءة ما ورد من القراءة والأدعية المأثورة. وإذا علم المعيون من أصابه بعينه، فإنه يؤخذ وضوءه ويصب على رأس المعيون.
السؤال الثاني: إذا كنا مجموعة نعمل في الخلاء دون اثني عشر هل نصلي الجمعة.
الجواب:
إن كنتم غير مستوطنين في الخلاء فلا جمعة عليكم وتصلونها ظهرا، وإن كنتم مستوطنين ومقيمين إقامة دائمة، فإنكم تقيمون الجمعة، وإن كنتم دون الاثني عشر.
السؤال الثالث: إذا دفن شخص داخل المسجد فهل يجوز الصلاة في هذا المسجد؟
الجواب:
يجب نبش هذا القبر وإخراجه من المسجد ودفنه في المقبرة العامة ولا يجوز الصلاة في مسجد به قبر.
__________
(1) سورة البقرة الآية 102
(2) صحيح مسلم السلام (2188) ، سنن الترمذي الطب (2062) ، مسند أحمد بن حنبل (1/294) .
(3) سنن ابن ماجه الطب (3509) ، مسند أحمد بن حنبل (3/487) ، موطأ مالك الجامع (1747) .(20/175)
السؤال الرابع: ما حكم الرقية في الدين؟ وقد سمعت أن صحابيا رقى لآخر فأعطاه غنما وأقره النبي وقال اضربوا لي بسهم معكم وأيضا يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرقي ويضع يده على مكان الأذى ويقول: «أذهب الباس رب الناس (1) » . وسمعت أيضا أن النبي عندما وصف السبعين ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب قال: «هم الذين لا يرقون ولا يسترقون (2) » ، وأيضا يقال: إن الرقى شرك أرجو أن يبين لي الموضوع حتى أكون على بينة. الجواب:
الرقية بالآيات القرآنية والأدعية الشرعية جائزة لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا (3) » وما جاء في معناه من الأحاديث.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري المرضى (5675) ، صحيح مسلم السلام (2191) ، سنن ابن ماجه الطب (3520) ، مسند أحمد بن حنبل (6/45) .
(2) صحيح البخاري الطب (5752) ، صحيح مسلم الإيمان (220) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2446) ، مسند أحمد بن حنبل (1/271) .
(3) صحيح مسلم السلام (2200) ، سنن أبو داود الطب (3886) .(20/176)
فتوى برقم 6779 وتاريخ 29 \ 3 \ 1404 هـ
السؤال الأول: ما حكم انحناء الرأس لمسلم عند التحية؟ الجواب:
لا يجوز لمسلم أن يحني رأسه للتحية سواء كان ذلك لمسلم، أو كافر؛ لأنه من فعل الأعاجم لعظمائهم، ولأنه شبيه بالركوع والركوع تحية وإعظام لا يكون إلا لله.
السؤال الثاني: ما حكم كتابة شيء من آيات القرآن الكريم وشربها؟ فإني رأيت أناسا يفعلون ذلك؟
الجواب:
لم يثبت شيء من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن خلفائه الراشدين، ولا سائر صحابته رضي الله عنهم.
السؤال الثالث: ما حكم احتفال الناس في العقيقة والوليمة؟(20/176)
الجواب:
العقيقة ما تذبح عن المولود سابع يوم ولادته، والوليمة ما يقدم من الطعام في العرس ذبيحة أو نحوها، وكلاهما سنة والاجتماع في ذلك لتناول الطعام والمشاركة في السرور، وإعلان النكاح خير.
السؤال الرابع: هل يجوز لمسلم أن يكون قاضيا في بلد تحكم بغير ما أنزل الله من قرآن أو حديث؟
الجواب:
لا يجوز.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(20/177)
فتوى برقم 7694 وتاريخ 8 \ 11 \ 1404 هـ
السؤال: هل يجوز للرجل أن يجامع زوجته بعدما تضع حملها بثلاثين يوما، أو بعد خمسة وعشرين يوما، أو ما يجوز إلا بعد أربعين يوما؟
الجواب:
لا يجوز للرجل أن يجامع زوجته بعد ولادتها أيام نفاسها حتى يمضي عليها أربعون يوما من تاريخ الولادة إلا إذا انقطع دم النفاس قبل الأربعين، فيجوز له أن يجامعها مدة انقطاعه بعد اغتسالها، فإذا عاد إليها الدم قبل الأربعين حرم عليه جماعها وقته.
وإذا استمر الدم بعد الأربعين فليس دم نفاس، بل دم استحاضة، فيجب عليها أن تصلي وتتوضأ لكل صلاة ولزوجها أن يجامعها.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(20/177)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(20/178)
فتوى برقم 8039 وتاريخ 28 \ 1 \ 1405هـ.
السؤال: هل الجيلاتين حرام؟
الجواب:
الجيلاتين إذا كان محضرا من شيء محرم كالخنزير، أو بعض أجزائه كجلده وعظامه ونحوهما فهو حرام. قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} (1) ، وقد أجمع العلماء على أن شحم الخنزير داخل في التحريم، وإن لم يكن داخل في تكوين الجيلاتين ومادته شيء من المحرمات فلا بأس به. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 3(20/178)
فتوى برقم 7815 وتاريخ 1 \ 12 \ 1404هـ
السؤال: هل إبليس من الجن، أو من الملائكة؟
الجواب:
إبليس من الجن وليس من الملائكة. قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} (1)
__________
(1) سورة الكهف الآية 50(20/178)
الآية من سورة الكهف. وقال صلى الله عليه وسلم: «خلقت الملائكة من نور، وخلق إبليس من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم (1) » رواه مسلم، وقال الحسن البصري: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط، وإنه لأصل الجن، كما أن آدم عليه السلام أصل البشر. رواه ابن جرير بإسناد صحيح عنه، ولكن خان إبليس الطبع، وذلك أنه كان مع ملائكة، وتشبه بهم وتعبد وتنسك معهم؛ فلهذا دخل في خطابهم وعصى بمخالفة أمر الله بالسجود. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الزهد والرقائق (2996) ، مسند أحمد بن حنبل (6/153) .(20/179)
فتوى برقم 7887 وتاريخ 7 \ 12 \ 1404 هـ
السؤال الأول: لماذا سمي الدين الإسلامي (بالإسلام) ؟
الجواب:
لأن من دخل فيه أسلم وجهه لله واستسلم وانقاد لكل ما جاء عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحكام. قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} (1) إلى قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) ، وقال {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} (3) السؤال الثاني: ما معنى العبادة؟
الجواب:
معناها التأله والتذلل لله وحده والانقياد له سبحانه بفعل
__________
(1) سورة البقرة الآية 130
(2) سورة البقرة الآية 131
(3) سورة البقرة الآية 112(20/179)
ما أمر به وترك ما نهى عنه، وقد عرفها العلماء بأنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه.
السؤال الثالث: هل يجوز التلفظ بهذه الجملة (الموت واحد والأسباب كثيرة) ؟ الجواب:
نعم يجوز التعبير بذاك، ولا حرج فيه إن شاء الله.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(20/180)
فتوى برقم 8059 وتاريخ 4 \ 2 \ 1405 هـ
السؤال الأول: ما حكم النذر في الإسلام حيث إن بعض الناس متمسكون به سيرا على عادة آبائهم وأجدادهم؟ يذبحون ذبيحة فيقولون إنها على نية محمد صلى الله عليه وسلم علما أنهم يضعون هذا النذر في أوقات معينة من السنة، والأكثر منهم يضعونه في شهر رمضان المبارك؛ فما حكم هذا في الإسلام هل يجوز أم لا؟ الجواب:
نذر القربات من ذبائح وصلاة نفل وصيام تطوع ونحو ذلك عبادة، فمن نذر ذلك لله لزمه الوفاء؛ لقوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} (1) وقوله: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} (2) ، فمدح سبحانه الموفين بالنذر. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله
__________
(1) سورة البقرة الآية 270
(2) سورة الإنسان الآية 7(20/180)
فليطعه (1) » ، ومن نذر ذلك لغير الله من نبي، أو ملك، أو ولي فشرك؛ لصرفه قربة وعبادة لغير الله فيجب عليه التوبة إلى الله والاستغفار مما حصل منه من الشرك.
ثانيا: الذبح للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لغيره من الخلق تقربا إليه وتعظيما له شرك؛ لما فيه من عبادة غير الله فتجب التوبة من ذلك والاستغفار.
السؤال الثاني: لقد أصبت بمرض في شهر رمضان المبارك، ولم أستطع الصوم في ذلك الوقت فقررت أن أصوم في شهر آخر إن أمد الله في عمري، وبعد ذلك في شهر الحج فأردت أن أحج هذا العام؛ فهل يجوز لي ذلك الحج بدون الصيام؟
الجواب:
يجوز لك الحج، وإن كنت لم تقض ما عليك مما فاتك من صيام شهر رمضان، لكن لا يجوز أن تؤخر القضاء حتى يدخل الذي بعده ما دمت قادرا على القضاء، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696) ، كتاب الأيمان والنذور (6700) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526) ، سنن النسائي كتاب الأيمان والنذور (3806) ، الأيمان والنذور (3807) ، كتاب الأيمان والنذور (3808) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2126) ، مسند أحمد بن حنبل (6/224) ، باقي مسند الأنصار (6/36) ، كتاب باقي مسند الأنصار (6/41) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1031) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338) .(20/181)
فتوى برقم 8879 وتاريخ 13 \ 9 \ 1405 هـ
السؤال: ما حكم القراءة في كتاب دلائل الخيرات للإمام محمد بن سليمان الجزولي والمشتمل على أحزاب وأوراد يومية تتضمن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وطلب الشفاعة منه في قضاء الحاجات؟
الجواب:
إذا كان الواقع كما ذكرت من اشتمال أوراد وأحزاب هذا الكتاب على التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والاستشفاع به إلى الله تعالى في قضاء حاجاته،(20/181)
فلا تجوز لك القراءة فيه؛ لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} (1) وقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (2) وقوله: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} (3) .
وفي التمسك بتلاوة كتاب الله تعالى وبالأذكار النبوية الصحيحة غنية عن قراءة الأوراد والأحزاب التي بكتاب دلائل الخيرات وهي كثيرة تجدها في كتاب رياض الصالحين وكتاب الأذكار النووية كلاهما للإمام النووي وكتاب الكلم الطيب لابن تيمية وغيرها.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الزمر الآية 44
(2) سورة البقرة الآية 255
(3) سورة الزمر الآية 43(20/182)
فتوى برقم 9297 وتاريخ 21 \ 1 \ 1406 هـ
السؤال: ما الطرق التي يدخل بها الشيطان على الإنسان؟
الجواب:
الطرق التي يدخل فيها الشيطان على الإنسان كثيرة، منها أن يأتيه من جهة شهوة فرجه فيغريه بالزنا ويسول له من الخلوة بالنساء الأجنبيات، والنظر إليهن، ومخالطتهن، وسماع غنائهن، ونحو ذلك ولا يزال يفتنه حتى يقع في الفاحشة. ومنها أن يأتيه من جهة شهوة(20/182)
بطنه، فيغريه بأكل الحرام وشرب الخمر وتناول المخدرات ونحو ذلك. ومنها أن يأتيه عن طريق غريزة حب التملك، والميل إلى الغنى والثراء فيغريه بالتوسع في أسباب الكسب حلاله وحرامه، فلا يبالي بأكل أموال الناس بالباطل من ربا وسرقة وغصب واختلاس وغش ونحو ذلك، ومنها أن يأتيه من جهة غريزة حب التسلط والتعالي والتعاظم فيستكبر ويتجبر على الناس ويحقرهم ويسخر منهم إلى غير ذلك من المداخل الكثيرة. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(20/183)
صفحة فارغة(20/184)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
السؤال الأول: هل يجوز استعمال الروائح العطرية المسماة (بالكولونيا) المشتملة على مادة الكحول؟
الجواب:
استعمال الروائح العطرية المسماة (بالكولونيا) المشتملة على مادة الكحول لا يجوز؛ لأنه ثبت لدينا بقول أهل الخبرة من الأطباء أنها مسكرة لما فيها من مادة السبيرتو المعروفة وذلك يحرم استعمالها على الرجال والنساء. أما الوضوء فلا ينتقض بها وأما الصلاة ففي صحتها نظر؛ لأن الجمهور يرون نجاسة المسكر، ويرون أن من صلى متلبسا بالنجاسة ذاكرا عامدا لم تصح صلاته وذهب بعض أهل العلم إلى عدم تنجيس المسكر وبذلك يعلم أن من صلى وهي في ثيابه، أو بعض بدنه ناسيا، أو جاهلا حكمها، أو معتقدا طهارتها فصلاته صحيحة والأحوط غسل ما أصاب البدن والثوب منها خروجا من خلاف العلماء، فإن وجد من الكولونيا نوع لا يسكر لم يحرم استعماله؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، والله ولي التوفيق.(20/185)
السؤال الثاني: ما حكم الاجتماع في دعاء ختم القرآن العظيم وذلك بأن يختم الإنسان القرآن الكريم، ثم يدعو بقية أهله، أو غيرهم إلى الدعاء جماعيا لختم القرآن العظيم حتى ينالهم ثواب ختم القرآن الكريم الوارد عن شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية رحمه الله، أو غيره من الأدعية المكتوبة في نهاية(20/185)
المصاحف المسماة بدعاء ختم القرآن العظيم؛ فهل يجوز الاجتماع على دعاء ختم القرآن العظيم سواء كان ذلك في نهاية شهر رمضان المبارك، أو غيره من المناسبات؟ وهل يعد هذا الاجتماع بدعة أم لا؟ وهل ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء مخصص لختم القرآن العظيم؟
نرجو توضيح ذلك مع ذكر الدليل.
الجواب:
لم يرد دليل على تعيين دعاء معين - فيما نعلم- ولذلك يجوز للإنسان أن يدعو بما شاء ويتخير من الأدعية النافعة كطلب مغفرة الذنوب والفوز بالجنة والنجاة من النار والاستعاذة من الفتن وطلب التوفيق لفهم القرآن الكريم على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى والعمل به وحفظه ونحو ذلك؛ لأنه ثبت عن أنس رضي الله عنه أنه كان يجمع أهله عند ختم القرآن ويدعو، أما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عنه شيء في ذلك فيما أعلم.
أما الدعاء المنسوب لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فلا أعلم صحة هذه النسبة إليه ولكنها مشهورة بين مشايخنا وغيرهم لكنني لم أقف على ذلك في شيء من كتبه والله أعلم.(20/186)
السؤال الثالث: هل ترى ليلة القدر عيانا؛ أي أنها ترى بالعين البشرية المجردة؟ حيث إن بعض الناس يقولون: إن الإنسان إذا استطاع رؤية ليلة القدر يرى نورا في السماء ونحو هذا، وكيف رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين؟ وكيف يعرف المرء أنه قد رأى ليلة القدر؟ وهل ينال الإنسان ثوابها وأجرها، وإن كانت في تلك الليلة التي لم يستطع أن يراها فيها؟
نرجو توضيح ذلك مع ذكر الدليل.
الجواب:
قد ترى ليلة القدر بالعين لمن وفقه الله سبحانه وذلك برؤية(20/186)
أماراتها وكان الصحابة رضي الله عنهم يستدلون عليها بعلامات ولكن عدم رؤيتها لا يمنع حصول فضلها لمن قامها إيمانا واحتسابا؛ فالمسلم ينبغي له أن يجتهد في تحريها في العشر الأواخر من رمضان كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم طلبا للأجر والثواب فإذا صادف قيامه إيمانا واحتسابا هذه الليلة نال أجرها، وإن لم يعلمها قال صلى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (1) » وفي رواية أخرى «من قامها ابتغاءها، ثم وقعت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر (2) » (صحيح البخاري - 4 \ 221) (وصحيح مسلم 760) .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن من علاماتها طلوع الشمس صبيحتها لا شعاع لها وكان أبي بن كعب يقسم على أنها ليلة سبع وعشرين ويستدل بهذه العلامة، والراجح أنها متنقلة في ليالي العشر كلها وأوتارها أحرى وليلة سبع وعشرين آكد الأوتار في ذلك، ومن اجتهد في العشر كلها في الصلاة والقرآن والدعاء وغير ذلك من وجوه الخير أدرك ليلة القدر بلا شك وفاز بما وعد الله من قامها إذا فعل ذلك إيمانا واحتسابا والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1901) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (760) ، سنن الترمذي الصوم (683) ، سنن النسائي الصيام (2202) ، سنن أبو داود الصلاة (1372) ، مسند أحمد بن حنبل (2/241) ، سنن الدارمي الصوم (1776) .
(2) صحيح البخاري الأدب (6049) ، مسند أحمد بن حنبل (5/318) ، سنن الدارمي الصوم (1781) .(20/187)
السؤال الرابع: ما تفسير قوله تعالى: {إِلَّا اللَّمَمَ} (1) ؟
الجواب:
تفسير قوله تعالى في سور النجم: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (2) {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} (3) . الآية.
__________
(1) سورة النجم الآية 32
(2) سورة النجم الآية 31
(3) سورة النجم الآية 32(20/187)
ومحل السؤال هنا هو قوله تعالى: {إِلَّا اللَّمَمَ} (1) ونفيد بأن علماء التفسير رحمهم الله اختلفوا في تفسير ذلك، وذكروا أقوالا في معناه أحسنها قولان:
أحدهما: أن المراد به ما يلم به الإنسان من صغائر الذنوب؛ كالنظرة والاستماع لبعض ما لا يجوز من محقرات الذنوب وصغائرها ونحو ذلك.
وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة من السلف. واحتجوا على ذلك بقوله سبحانه في سورة النساء: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} (2) .
قالوا: فالمراد بالسيئات المذكورة في هذه الآية هي صغائر الذنوب وهي اللمم؛ لأن كل إنسان يصعب عليه التحرز من ذلك.
فمن رحمة الله سبحانه أن وعد المؤمنين بغفران ذلك لهم إذا اجتنبوا الكبائر، ولم يصروا على الصغائر. وأحسن ما قيل في تعريف الكبائر: إنها المعاصي التي فيها حد في الدنيا؛ كالسرقة والزنا والقذف وشرب المسكر، أو فيها وعيد في الآخرة بغضب من الله، أو لعنة أو نار؛ كالربا والغيبة والنميمة والسب والشتم، ومما يدل على غفران الصغائر، واجتناب الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة: فزنا العين النظر، وزنا اللسان الكلام، وزنا الأذن الاستماع، وزنا اليد البطش. وزنا الرجل الخطى، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك، أو يكذبه (3) » .
__________
(1) سورة النجم الآية 32
(2) سورة النساء الآية 31
(3) صحيح البخاري الاستئذان (6243) ، صحيح مسلم القدر (2657) ، سنن أبو داود النكاح (2152) ، مسند أحمد بن حنبل (2/536) .(20/188)
ومن الأدلة على وجوب الحذر من الصغائر والكبائر جميعا، وعدم الإصرار عليها قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1) {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (2) القول الثاني: أن المراد باللمم هو ما يلم به الإنسان من المعاصي، ثم يتوب إلى الله من ذلك كما في، الآية السابقة، وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} (3) وقوله سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4) . وما جاء في معنى ذلك من الآيات الكريمات وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون (5) » .
ولأن كل إنسان معرض للخطأ، والتوبة النصوح يمحو الله بها الذنوب وهي المشتملة على الندم على ما وقع من المعصية والإقلاع منها والعزيمة الصادقة على ألا يعود إليها خوفا من الله سبحانه وتعظيما له ورجاء مغفرته.
ومن تمام التوبة إذا كانت المعصية تتعلق بحق الآدميين؛ كالسرقة والغصب والقذف والضرب والسب والغيبة ونحو ذلك، أن يعطيهم حقوقهم أو يستحلهم منها إلا إذا كانت المعصية غيبة وهي الكلام في العرض ولم يتيسر استحلال صاحبها حذرا من وقوع شر أكثر فإنه يكفي في ذلك أن يدعو بظهر الغيب وأن يذكره بما يعلم من صفاته
__________
(1) سورة آل عمران الآية 135
(2) سورة آل عمران الآية 136
(3) سورة آل عمران الآية 135
(4) سورة النور الآية 31
(5) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2499) ، سنن ابن ماجه الزهد (4251) ، مسند أحمد بن حنبل (3/198) .(20/189)
الطيبة، وأعماله الحسنة في الأماكن التي اغتابه فيها ولا حاجة إلى إخباره بغيبته إذا كان يخشى الوقوع في شر أكثر.
وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما فيه رضاه، وأن يحفظنا وإياكم من كل سوء، وأن يمن علينا جميعا بالاستقامة على دينه والسلامة من أسباب غضبه والتوبة إليه سبحانه من جميع ما يخالف شرعه، إنه جواد كريم.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(20/190)
بيان التوحيد والتحذير من الشرك
للدكتور صالح بن فوزان الفوزان
الحمد لله رب العالمين، خلق الخلق ليعبدوه، ونهاهم عن الشرك وبين لهم خطره ليجتنبوه، والصلاة والسلام على نبينا محمد، المبعوث رحمة للعالمين ولجهاد الكفار والمشركين، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. . . وبعد:
فإن الإيمان بالله عز وجل معناه:
الاعتقاد الجازم بأن الله رب كل شيء، وأنه المستحق للعبادة وحده، وأنه المتصف بصفات الكمال - المنزه عن كل عيب ونقص، وهذا الاعتقاد يقتضي العمل بما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، وفي طليعة ما أمر به التوحيد، وفي طليعة ما نهى عنه الشرك.
وإذا كان الأمر كذلك فهذا يقتضي منا بيان التوحيد وبيان الشرك ليكون المسلم على بصيرة من دينه فيتجنب الشرك ويتمسك بالتوحيد، فنقول وبالله التوفيق.(20/191)
ا- بيان التوحيد:
التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، وهو ثلاثة أنواع:
(1) توحيد الربوبية (2) توحيد الألوهية (3) وتوحيد الأسماء والصفات.(20/191)
وتوحيد الربوبية:
هو الإقرار بأن الله هو الخالق للعالم، المدبر لشئونه، وأنه الرزاق المحيي المميت الذي له ملك السماوات والأرض والإقرار بهذا النوع مركوز في الفطر لا يكاد ينازع فيه أحد حتى إن المشركين الذين بعث فيهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يقرون به ولا ينكرونه - كما ذكر الله عنهم في مثل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (1) .
ولم يعرف عن أحد من طوائف العالم إنكار هذا النوع إلا شواذ من المجموعة البشرية أنكرته في الظاهر مع الاعتراف به في قرارة نفوسها، وإنما أنكرته مكابرة وعنادا كما قال الله عن فرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (2) .
وقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (3) ، وقال تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} (4) .
__________
(1) سورة يونس الآية 31
(2) سورة الإسراء الآية 102
(3) سورة النمل الآية 14
(4) سورة العنكبوت الآية 38(20/192)
والنوع الثاني: توحيد الألوهية:
وهو إفراد الله سبحانه بجميع أنواع العبادة، ويسمى توحيد العبادة؛ لأن الألوهية والعبادة بمعنى واحد، فالإله: معناه المعبود، وهذا النوع هو الذي خلق الله الخلق من أجله، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) .
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56(20/192)
وهو الذي أرسل الله به الرسل وأنزل به الكتب كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2) وهذا النوع هو الذي يعلنه كل مسلم في قوله: " لا إله إلا الله ".
وفي قراءته: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (3) وفي كل ركعة من صلاته، وهو الذي يعلنه في تشهده في الصلاة والأذان والإقامة ويعلنه الخطيب في أول الخطبة، وهو الذي يدخل به الكافر في الإسلام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله (4) » .
وهذا النوع الذي شرع من أجله الجهاد كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (5) .
وهذا النوع هو الذي أنكره المشركون حين دعتهم الرسل إليه {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} (6) . {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (7) .
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة الأنبياء الآية 25
(3) سورة الفاتحة الآية 5
(4) خرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه. وهو متواتر
(5) سورة الأنفال الآية 39
(6) سورة الأعراف الآية 70
(7) سورة ص الآية 5(20/193)
وهذا النوع هو الذي يسأل عنه الأولون والآخرون، كما في الحديث «كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون - ماذا كنتم تعبدون، وماذا أجبتم المرسلين (1) » وهذا التوحيد هو الذي يهل به المحرم بحج أو عمرة حين يلبي: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك.
__________
(1) قال ابن القيم رحمه الله في كتابه إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 1 \ 84: قال قتادة: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون. . . إلخ، فتبين من ذلك أنه ليس بحديث، بل من كلام قتادة السدوسي رحمه الله(20/194)
والنوع الثالث من أنواع التوحيد: توحيد الأسماء والصفات:
وهو الإيمان بما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم وإثبات ذلك على وجه يليق بجلاله من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل هذا الذي عليه أهل السنة والجماعة قاطبة. وما تدين به الفرقة الناجية، وأنكره الجهمية وتلاميذهم مخالفين بذلك كتاب الله وسنة رسوله، وما عليه سلف الأمة وأئمتها فنفوا عن الله ما وصف به نفسه من صفات الكمال، وما وصفه به رسوله زاعمين أن إثبات ذلك يقتضي التشبيه؛ لأنهم لا يفهمون من صفات الله إلا ما يفهمون من صفات البشر، فشبهوا أولا ثم عطلوا ثانيا، ولم يدركوا الفارق بين صفات الخالق وصفات المخلوقين، وأن لله صفات تختص به وتليق بجلاله، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1) وكما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) فأثبت لنفسه الصفات ونفى عنه مشابهة المخلوقات فدل على أن إثبات الصفات لا يقتضي التشبيه، كما زعمه الجهمية وأفراخهم من المعطلة ممن لم يقدر الله حق
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180
(2) سورة الشورى الآية 11(20/194)
قدره، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا وسبحان الله عما يصفون.
هذه أنواع التوحيد الثلاثة وعلاقة بعضها ببعض. . . .
إن توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية بمعنى أن من أقر بتوحيد الربوبية لزمه أن يقر بتوحيد الإلهية ويقوم به، فمن عرف أن الله ربه وخالقه لزمه أن يعبده وحده لا شريك له. كما قال تعالى: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (1) .
وتوحيد الإلهية متضمن لتوحيد الربوبية، فتوحيد الربوبية يدخل ضمن توحيد الإلهية، فمن عبد الله وحده ولم يشرك به شيئا فقد اعتقد أنه ربه وخالقه.
وتوحيد الأسماء والصفات داخل في توحيد الربوبية وهو جزء منه - وتوحيد الربوبية والألوهية تارة يذكران معا فيفترقان في المعنى، ويكون أحدهما قسيما للآخر كما في قوله تعالى {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (2) {مَلِكِ النَّاسِ} (3) {إِلَهِ النَّاسِ} (4) وتارة يذكر أحدهما مفردا عن الآخر فيجتمعان في المعنى كما في قول الملكين للميت في القبر: (من ربك؟) ومعناه: من إلهك، وكما في قوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا} (5) ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} (6) ، وقوله: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} (7) .
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 92
(2) سورة الناس الآية 1
(3) سورة الناس الآية 2
(4) سورة الناس الآية 3
(5) سورة الأنعام الآية 164
(6) سورة فصلت الآية 30
(7) سورة الحج الآية 40(20/195)
فالربوبية المذكورة في هذه الآيات وأمثالها هي الإلهية وليست قسيمة لها وما دمنا قد عرفنا التوحيد فلا بد أن نعرف ضده - لأن الأشياء تعرف بأضدادها وبضدها تتميز الأشياء.(20/196)
2 - بيان الشرك:
الشرك ضد التوحيد، فإذا كان معنى التوحيد: إفراد الله تعالى بالعبادة. فالشرك هو صرف شيء من العبادة لغير الله، والشرك أعظم الذنوب؛ لأن الله سبحانه أخبر أنه لا يغفر لمن لم يتب منه مع أنه كتب على نفسه الرحمة، أما غيره من الذنوب فهو تحت المشيئة، إن شاء الله عذب صاحبه وإن شاء غفر له، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) .
والشرك يحبط جميع الأعمال، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) .
والشرك هبوط وسقوط من أوج العز والكرامة إلى حضيض السفول والقلق وعدم الاستقرار والرذيلة، قال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (4) .
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة الأنعام الآية 88
(3) سورة الزمر الآية 65
(4) سورة الحج الآية 31(20/196)
والشرك مهدر للدم مبيح للمال كما قال تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} (1) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله (2) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «بعثت بالسيف حتى يعبد الله وحده (3) » .
وقد حرم الله الجنة على المشرك وحكم عليه بالخلود في النار كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (4) .
والشرك أعظم الظلم كما قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (5) ؛ لأنه تنقص لرب العالمين، وتسوية لغيره به سبحانه.
والشرك ضلال مبين ولذلك يعترف المشركون بضلالهم فيقولون: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (6) {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (7) .
وإذا كان الشرك في هذا المستوى من القبح والخطورة فهذا مما يوجب شدة الحذر من الوقوع فيه، ويوجب على المسلم أن يعرفه ليتجنبه، ويوجب على المسلمين مقاومته والقضاء عليه، وقد كانت مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام في الدرجة الأولى مقاومة الشرك والنهي عنه والتحذير منه وجهاد المشرك باليد واللسان - كما قال تعالى:
__________
(1) سورة التوبة الآية 5
(2) خرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه. وهو متواتر
(3) خرجه الإمام أحمد وأبو يعلى والطبراني بسند صحيح، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(4) سورة المائدة الآية 72
(5) سورة لقمان الآية 13
(6) سورة الشعراء الآية 97
(7) سورة الشعراء الآية 98(20/197)
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) .
وكل رسول يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (2) ؛ لأن الشرك هو أعظم الفساد الذي تصاب به الأمم وهو يناقض الخلق والأمر، ولا فائدة في جميع الأعمال مع وجود الشرك، وهذا يؤكد على جميع أتباع الرسل من الدعاة والمصلحين أن تتجه دعواتهم وإصلاحهم إلى مكافحة الشرك وإصلاح العقائد أولا وقبل كل شيء - أما أن تتجه دعواتهم وإصلاحهم إلى أمور جانبية، ويتركون الشرك يعج في عقائد المسلمين بما يمارس حول الأضرحة وبين أرباب الطرق الصوفية المنحرفة فهذا انحراف بالدعوة عن منهجها الصحيح الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسمه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من قبله ولن تأتي هذه الدعوات بنتيجة ولا فائدة؛ لأنها بدأت من حيث النهاية.
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة الأعراف الآية 59(20/198)
حدوث الشرك في العالم وسببه:
كان الناس بعد آدم عليه السلام على الدين الصحيح إلى أن حدث الشرك في قوم نوح بسبب غلوهم في الصالحين لما ماتوا فصوروا صورهم بإيحاء من الشيطان ونصبوها على مجالسهم ليتذكروا بها أحوالهم فينشطوا على العبادة بزعمهم فلما هلك هذا الجيل الذي نصب تلك الصور زين الشيطان للجيل الذي جاء من بعدهم عبادة تلك الصور فعبدوها. ومن ذلك الحين حدث الشرك في الأرض فبعث الله نبيه نوحا عليه الصلاة والسلام يدعو قومه إلى التوحيد وينهاهم عن هذا الشرك الذي وقعوا فيه فأصروا على شركهم: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (1)
__________
(1) سورة نوح الآية 23(20/198)
وتلك أسماء الصالحين الذين غلوا فيهم وصوروا صورهم وأبوا أن يتركوا عبادتهم، وأيس نوح عليه السلام في هدايتهم بعد محاولة طويلة معهم كما قال الله ألف سنة إلا خمسين عاما: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (1) .
عند ذلك دعا عليهم فأهلكهم الله بالطوفان وأنجى نوحا ومن آمن معه في الفلك. ثم تتابعت الرسل من بعد نوح تدعو إلى التوحيد وتنهى عن الشرك، إلى أن جاء عهد إبراهيم خليل الله وقد بلغ الشرك والطغيان والجبروت من الطواغيت مبلغا عظيما فقاوم الشرك والمشركين بالحجة والبرهان وحطم الأصنام بيده ولقي في سبيل ذلك أشد أنواع الأذى وأقسى أنواع التعذيب الذي سلمه الله منه حين ألقوه في النار فجعلها الله بقدرته ورحمته بردا وسلاما، وجعل العاقبة الحميدة له وجعل في ذريته النبوة والكتاب وبقيت النبوة وكلمة التوحيد في ذريته كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} (2) ، وقال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} (3) خصوصا العرب بني إسماعيل.
فإن التوحيد لم يزل فيهم وهم على ملة إبراهيم وإسماعيل إلى أن ظهر فيهم عمرو بن لحي الخزاعي فغير فيهم دين إبراهيم ودعاهم إلى عبادة الأصنام فأجابوه، والسبب في ذلك أنه ذهب إلى الشام فوجد أهلها يعبدون الأصنام فقلدهم في ذلك وجلب معه الأصنام إلى العرب، وقيل:
__________
(1) سورة هود الآية 36
(2) سورة العنكبوت الآية 27
(3) سورة الزخرف الآية 28(20/199)
إن الشيطان أتاه وأرشده إلى الأصنام التي كان الطوفان قد دفنها في الأرض بعد قوم نوح وأمره بأخذها ودعوة العرب إلى عبادتها ففعل. ومن ثم انتشر الشرك في العرب، وكانت لهم أصنام مشهورة كاللات والعزى ومناة، وكان لقريش أصنام حول الكعبة وفي جوفها. ومن أعظم أصنامهم هبل الذي يعتزون ويقسمون به - إلى أن بعث الله نبينا محمدا خاتم النبيين فدعا إلى التوحيد ونهى عن الشرك وجاهد المشركين باليد واللسان حتى نصره الله عليهم وهدم أوثانهم وحطم أصنامهم وأعاد الحنيفية ملة إبراهيم صافية نقية وترك أمته على البيضاء ليلها كنهارها وأكمل الله به الدين وأتم به النعمة، وواصل صحابته الكرام، وخلفاؤه العظام مسيرة الدعوة في مشارق الأرض ومغاربها وفتحوا البلاد شرقا وغربا ونشروا فيها التوحيد وقضوا على مظاهر الشرك والوثنية حتى تحقق قول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (1) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 33(20/200)
ظهور الشرك في هذه الأمة:
لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الشرك غاية التحذير وسد كل الطرق الموصلة إليه، وحمى حمى التوحيد ومن ذلك:
(1) أنه نهى عن الغلو في مدحه بما قد يفضي إلى عبادته من دون الله كما حصل للنصارى في حق عيسى ابن مريم، قال صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسو له (1) » .
(2) نهى عن الغلو في تعظيم قبور الصالحين بالبناء عليها وإسراجها
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3445) ، صحيح مسلم الحدود (1691) ، سنن الترمذي الحدود (1432) ، سنن أبو داود الحدود (4418) ، سنن ابن ماجه الحدود (2553) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) .(20/200)
وتجصيصها والكتابة عليها؛ لأن هذا يفضي إلى عبادتها وطلب قضاء الحوائج من الموتى.
(3) نهى عن الصلاة عند القبور سواء بني عليها مساجد أم لا؛ لأن ذلك وسيلة لعبادتها ولو على المدى الطويل.
(4) نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها لما في ذلك من التشبه - بالذين يعبدونها ويسجدون لها في هذين الوقتين.
والمسلم مطلوب منه مخالفة المشركين في عقائدهم وعبادتهم وعاداتهم الخاصة بهم.
(5) نهى عن السفر إلى أي مكان من الأمكنة بقصد التقرب إلى الله فيه بالعبادة غير المساجد الثلاثة (المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى) .
(6) نهى عن الوفاء بالنذر بالذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله أو يقام فيه عيد من أعياد الجاهلية إبعادا عن التشبه بهم في تعظيم المكان والوثن.
(7) نهى عن الألفاظ التي فيها التسوية بين الله وبين المخلوق، كقول: (ما شاء الله وما شئت) و (لولا الله وأنت) كل هذا صيانة للتوحيد وسدا لمنافذ الشرك وإبعادا للأمة عن أن تقع فيما وقعت فيه الأمم قبلها من فساد العقائد وقد سار صدر هذه الأمة على موجب تلك الوصايا النبوية وحافظوا على عقائدهم، وصانوها عن كل مناقض ومنقص.
ولما انتهى وقت القرون المفضلة وامتد الزمن بالناس وجهل أغلبهم آثار الرسالة تسرب إليهم كثير من البدع والخرافات والعوائد الجاهلية في عقائدهم ووقع الكثير فيما حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم من(20/201)
الشرك بالله وفتح المنافذ والطرق الموصلة إليه، فبنيت المساجد على القبور، واتجه إليها الكثير بأنواع العبادة كالطواف بها والذبح لها والتوجه إليها بالرغبة والرهبة والدعاء والاستغاثة وأنواع من الشرك الأكبر الذي يسمونه توسلا وطلبا لشفاعتهم كما قال إخوانهم من قبل: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ} (1) . {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا} (2) .
قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله:
ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادا للآخر مناقضا له بحيث لا يجتمعان أبدا.
فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها وإليها، ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله.
ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها. ونهى عن أن تتخذ عيدا، وهؤلاء يتخذونها أعيادا ومناسك ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر،. . .
وأمر بتسويتها كما روى مسلم في صحيحه «عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته (3) » ، وهؤلاء يبالغون في مخالفة الحديث ويرفعونها عن الأرض كالبيت
__________
(1) سورة الزمر الآية 3
(2) سورة يونس الآية 18
(3) صحيح مسلم الجنائز (969) ، سنن الترمذي الجنائز (1049) ، سنن النسائي الجنائز (2031) ، سنن أبو داود الجنائز (3218) ، مسند أحمد بن حنبل (1/87) .(20/202)
ويعقدون عليها القباب، ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه، كما روى مسلم عن جابر رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تجصيص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه (1) » ، «ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكتابة عليها (2) » ، كما روى أبو داود عن جابر أيضا «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر أو يكتب عليه أو يزاد عليه (3) » وهؤلاء يزيدون عليه الآجر والجص والأحجار.
قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الآجر على قبورهم، والمقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور المتخذيها أعيادا الموقدين عليها السرج، الذين يبنون عليها المساجد والقباب منافون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم محادون لما جاء به، وأعظم ذلك اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها، وهو من الكبائر. . . انتهى كلام ابن القيم رحمه الله. . . . وهو يصف ما حدث في وقته وقد زاد الأمر على ما وصفه بأضعاف وغلوا في الموتى فعبدوهم من دون الله وكذلك ارتكبوا ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم من الغلو في مدحه وإطرائه مضاهاة للنصارى في مدح عيسى ابن مريم حتى رفعوه فوق منزلته حتى وقعوا في الشرك الأكبر، وأظهر لهم الشيطان هذا الغلو في قالب تعظيمه ومحبته وأن عدم الغلو فيه تنقيص له وحط من قدره.
وكذلك غلوا في الصالحين كما غلا فيهم قوم نوح من قبل حتى اعتقدوا فيهم شيئا من خصائص الإلهية من جلب النفع ودفع الضر مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فهتفوا بأسمائهم عند الشدائد والكربات، واستغاثوا بهم في كشف الملمات وطافوا بقبورهم كما يطاف بالكعبة وذبحوا القرابين عند قبورهم وصرفوا لهم النذور. قال الإمام العلامة ابن القيم: وقد أدخل الشيطان الشرك على قوم نوح من باب الغلو في الصالحين، وقد وقع في هذه الأمة مثل ما وقع لقوم نوح لما أظهر
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1563) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .
(2) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2028) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1563) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .
(3) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2028) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1563) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .(20/203)
الشيطان لكثير من المفتونين الغلو والبدع في قالب تعظيم الصالحين ومحبتهم ليوقعهم فيما هو أعظم من ذلك من عبادتهم لهم من دون الله - فما زال يوحي إلى عباد القبور ويلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين وأن الدعاء عندها مستجاب ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها والإقسام على الله بها، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء المقبور وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون الله واتخاذ قبره وثنا تعلق عليه القناديل والستور ويطاف به ويستلم ويقبل ويحج إليه ويذبح عنده، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيدا ومنسكا ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم. . . .
فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل هذه الرتب العالية وحطهم عن منزلتهم وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر، وقد سرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم بالعظائم ونفروا الناس عنهم. . . انتهى كلامه رحمه الله وهو يصور الداء وأسبابه. ولا علاج لهذا الداء القاتل والوباء الفتاك إلا ببذل الأسباب الشافية والواقية والتي تتلخص في نظري فيما يأتي:
(1) الرجوع إلى الكتاب والسنة وكتب السلف الصالح لفهم العقيدة الصحيحة ومعرفة ما يضادها أو ينقصها من الشرك والبدع والخرافات ونبذ الكتب المخالفة للكتاب والسنة من كتب الصوفية والقبورية والمخرفين.
(2) تدريس كتب العقائد الصحيحة في المراحل الدراسية وتكثيف منهاجها والتركيز عليها في النجاح والرسوب واختيار المدرسين(20/204)
المتخصصين في فهم عقيدة السلف وتفهيمها للطلاب، وأن تكون هناك دروس في المساجد لتفهيم العقيدة لعامة الناس، ومن لا تسمح له ظروفه بمتابعة الدراسة المنهجية.
(3) اهتمام الدعاة بتصحيح العقائد والدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك وإنكار ما يقع من الشرك حول الأضرحة في محاضراتهم ومؤلفاتهم وبيان العقيدة الصحيحة، واجتماع كلمتهم على ذلك بدلا من اختلافهم في مناهج الدعوة اختلافا شتتهم وحير الجهال فيمن يتبعون منهم.
وأفرح أعداء الإسلام بعدم نجاح دعوتهم، وقد قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1) .
(4) إزالة مظاهر الشرك من بلاد الإسلام بهدم الأضرحة ومنع بناء المساجد على القبور ومقاومة المخرفين، والمبتدعة، ورد شبهاتهم وكشف تزييفهم حتى يرتدعوا عن غيهم ويسلم الناس من شرهم.
(5) نشر كتب السلف الصالح وإيصالها إلى أيدي القراء بسهولة وتوفيرها في المكتبات العامة للمراجعة.
(6) توعية الشباب والدارسين بتعريفهم بالكتاب والمؤلفين المستقيمين والمؤلفات المفيدة في العقيدة وتعريفهم بالكتاب والمؤلفين المنحرفين والمؤلفات الفاسدة والمخلة في العقيدة.
صالح بن فوزان الفوزان
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103(20/205)
صفحة فارغة(20/206)
نفي تقول سخيف على الجناب المحمدي الشريف.
للشيخ عبد الله كنون.
مما تميزت به السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام عن سير إخوانه النبيين المبعوثين قبله، سلام الله عليهم جميعا، أنها استوعبت جميع أحواله وصفاته وأخباره قبل النبوءة وبعدها، وأخبار قومه وأسرته من قبل الأب والأم على السواء وولادته ورضاعه وتربيته ونشأته بعد وفاة أبيه وأمه في بيت جده عبد المطلب ثم في بيت عمه أبي طالب بعد وفاة جده وحركاته وتصرفاته في طور شبابه وهو مقيم ببلده مكة وأثناء رحلته إلى الشام أولا بمعية عمه وثانيا في تجارة خديجة ومعه غلامها ميسرة إلى تزوجه بها وولادة أولاده، وما شارك فيه من أعمال عمومية كحلف الفضول وتجديد بناء الكعبة إلى أن أوحي إليه وهو يتحنث في جبل حراء فاشتهر أمره وصارت أخباره على كل لسان، وهذه الفصول في سيرته كلها مما روي عنه أو عن معاصريه من قومه بطريق التواتر أو ما يقرب منه، ولم يرو لنا عن نبي غيره إلا القليل من هذه الأخبار، وبطريق تحتمل وتحتمل إلا ما ثبت منها في القرآن.
وعرف عن الرواية العربية أنها لا تهمل شيئا، وأنها تنقل الصحيح والباطل والمشتبه فيه، والسلبي والإيجابي وما هو في صالح القضية وصاحبها(20/207)
وما هو بخلاف ذلك ضد عليها حتى ما كان متعلقا بالرسول صلى الله عليه وسلم وحياته إيثارا لأمانة الرواية وقداسة الخبر، واعتمادا على ما وضحه العلماء من قواعد للنقد وتمييز الصدق من الكذب وهو ما يسمى بالجرح والتعديل وعلم الرواية، ومن ثم نقل إلينا حديث الغرانيق والإلقاء في الأمنية وحديث طلاق زينب وزواج النبي صلى الله عليه وسلم بها وما دس فيه من سخافات وغيرهما مما اتخذه بعض المستشرقين سيئ النية وسيلة للطعن في سيرته صلى الله عليه وسلم والأمر لا يعدو أن يكون خبرا من الأخبار التي روجها المشركون، واليهود والمنافقون، ويرويها علماؤنا للتنبيه على ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقاه من أعداء الدعوة وأعدائه هو شخصيا من الأذى والتقول والبهتان.
ويغفل بعض الباحثين عن هذه الحقيقة فيما يتعلق بالتاريخ الإسلامي بعامة، ويتعجبون من ابن خلدون، واضع فلسفة التاريخ كيف لم يطبق منهاجه النقدي على تاريخه هو، وسلك فيه سبيل المؤرخين قبله، من رواية الغث والسمين، وقد أغناه عن ذلك ما ضربه من الأمثلة في المقدمة إذ لو تتبع سقطات المؤرخين لما كفته المجلدات لتقصيها، فكان كمن يقوم بدراسة نص معين، فينبه على ما فيه من خطأ وصواب، ثم يقدمه كما هو من غير زيادة ولا نقصان.
ونخلص للموضوع الذي نحن بصدده، وهو الفرية التي جاءت في بعض الروايات من أنه صلى الله عليه وسلم سمى بعض أولاده من خديجة رضي الله عنها بأسماء شركية مما كان القرشيون في الجاهلية يتسمون به، وقد أخرج هذه الرواية الإمام البخاري في تاريخه الصغير بسنده إلى هشام بن عروة وهذا نصه:(20/208)
(حدثنا إسماعيل، حدثني أخي، عن سليمان، عن هشام بن عروة، قال: ولد لرسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة بمكة عبد العزى والقاسم وماتا قبل الإسلام.
وجاء في سيرة الحافظ مغلطاي عند ذكر ولده صلى الله عليه وسلم عبد الله الملقب بالطيب والطاهر ما يلي:
(وروى الهيثم بن عدي وهو متهم بالكذب أنه كان له - يعني للنبي صلى الله عليه وسلم ابن يقال له عبد العزى. وطهره الله منه وأعاذه) .
وفي المواهب اللدنية للقسطلاني بعد ذكر أولاده صلى الله عليه وسلم المتفق عليهم والمختلف فيهم، إشارة بصيغة التمريض إلى هذه الأسطورة، وهي هذه (وقيل ولد له صلى الله عليه وسلم ولد قبل المبعث يقال له عبد مناف وعقب عليها الزرقاني في شرحه بقوله: " رواه الهيثم بن عدي، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: ولدت خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم عبد العزى وعبد مناف والقاسم. قال في الميزان واللسان هذا من افتراء الهيثم على هشام(20/209)
والهيثم كذبه البخاري وأبو داود، وآخرون، وقد قال الطحاوي والبيهقي وابن الجوزي وغيرهم: لم ينقل أحد من الثقات ما نقله الهيثم عن هشام، قال ابن الجوزي: قال شيخنا ابن ناصر: لم يسم صلى الله عليه وسلم عبد مناف ولا عبد العزى قط.
وقال الحافظ قطب الدين الحلبي في المورد العذب: لا يجوز لأحد أن يقول هذه التسمية أي بالاسمين الذين زعمهما الهيثم، وقعت من النبي صلى الله عليه وسلم (1) " لذلك يقول الزرقاني بعد سطور من هذا الكلام وعلى المؤلف - يعني القسطلاني - مؤاخذة، فإن مثل هذا لا يذكر مع السكوت عليه " (2) وذلك تطبيقا لما تقرر في علم الاصطلاح، قال العراقي في الألفية:
وكيف كان لم يجيزوا ذكره ... لعالم ما لم يبين أمره
- 3 -
وننقل كلام كل من الحافظ الذهبي في الميزان، والحافظ ابن حجر في اللسان المشار إليه في تعقيب الزرقاني والمتعلق بالهيثم بن عدي الذي هو علة هذا الحديث، ونص الأول:
(الهيثم بن عدي الطائي أبو عبد الرحمن المنبجي ثم الكوفي، قال البخاري: ليس بثقة كان يكذب، قال يعقوب بن محمد: حدثنا عبد الرحمن من أهل منبج، وأمه من سبي منبج (3) سكتوا عنه، وروى عباس، عن يحيى
__________
(1) شرح الزرقاني على المواهب، ج 3 ص193 والتي بعدها، طبعة المطبعة الأزهرية بمصر سنة 1325.
(2) شرح الزرقاني على المواهب، ج 3 ص163 والتي بعدها، طبعة المطبعة الأزهرية بمصر سنة 1325.
(3) زاد البخاري في التاريخ الصغير هنا: وهو الهيثم.(20/210)
ليس بثقة، كان يكذب، وقال أبو داود: كذاب، وقال النسائي وغيره: متروك الحديث.
قلت: كان إخباريا علامة، روى عن هشام بن عروة، وعبد الله بن عياش المنتوف، ومجالد، وقال ابن عدي: ما أقل ما له من المسند إنما هو صاحب أخبار، وقال ابن المديني: هو أوثق من الواقدي، ولا أرضاه في شيء ومن مناكيره، حدثنا مجالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم مرفوعا: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه (1) » . داود بن رشيد حدثنا الهيثم بن عدي، عن أبي يعقوب، عن عبد الملك بن عمير قال: قال الحارث بن كلدة: من بلغ الخمسين فلا يقربن الحجامة، ولا يأخذ من الدواء إلا ما لا بد منه، إنه لا يصلح شيئا إلا أفسد غيره. أحمد بن عبيد بن ناصح حدثنا الهيثم، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القران وأن تفتش التمرة عما فيها» . قال عباس الدوري: حدثنا بعض أصحابنا قال: قالت جارية الهيثم بن عدي: كان مولاي يقوم كامل الليل يصلي، فإذا أصبح جلس يكذب. مات الهيثم سنة سبع ومائتين عن ثلاث وسبعين، وحديثه يقع في جزء ابن الجهم) (2) .
ونص الثاني، ويتميز بالإشارة إلى حديث الموضوع:
(الهيثم بن عدي الطائي أبو عبد الرحمن المنبجي ثم الكوفي، قال البخاري: ليس بثقة كان يكذب) .
ونقل الحافظ ابن حجر كل ما تقدم عند الذهبي إلى تاريخ موت الهيثم ثم زاد عليه ما يلي:
__________
(1) سنن ابن ماجه الأدب (3712) .
(2) الميزان ج 4 ص 384 طبعة عيسى البابي الحلبي - مصر.(20/211)
وقال النسائي: الهيثم منكر الحديث والذي روى في تسمية أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم محال أن يصدر ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد ما قرأت على إبراهيم بن أحمد: أخبركم أحمد بن أبي مسعود أن عبد الله بن عمر أخبرهم، قال أبو الوقت: أنا أحمد بن مسعود، أنا ابن أبي سريع، أنا المنصور، ثنا العلاء بن موسى، حدثنا الهيثم بن عدي قال وحدثنا هشام بن عروة عن أبيه قال: فولدت له عبد العزى وعبد مناف والقاسم قلت لهشام: وأبا الطيب والطاهر؟ قال هذا ما وضعتم يا أهل العراق فأما أشياخنا فقالوا: عبد العزى وعبد مناف، والقاسم وذكر الحديث بطوله؛ فهذا من افتراء الهيثم على هشام والله أعلم.
وقال أبو حاتم: متروك الحديث محله محل الواقدي، وقال أبو زرعة ليس بشيء، وقال العجلي: كذاب وقد رأيته، وقال يعقوب بن شيبة: كانت له معرفة بأمور الناس وأخبارهم ولم يكن في الحديث بالقوي، ولا كانت له معرفة، وبعض الناس يحمل عليه في صدقه، وقال الساجي: سكن مكة وكان يكذب، وقال الإمام أحمد: صاحب أخبار وتدليس، وقال الحاكم والنقاش: حدث عن الثقات بأحاديث منكرة، زاد الحاكم: وذلك مع علمه ومحله وذكره ابن السكن وابن شاهين وابن الجارود والدارقطني في الضعفاء. . . وقال ابن يونس في تاريخ مصر: الهيثم غير موثوق، وقال محمود بن غيلان: أسقطه أحمد ويحيى بن معين وأبو خيثمة، وقال أبو نعيم: يوجد في حديثه المناكير، وذكر المسعودي في مروج الذهب أنه مات سنة ست ومائتين (1) .
__________
(1) لسان الميزان ج 6 ص206، والتي تليها طبعة الأعلمي ببيروت تصويرا لطبعة الهند سنة 1331 هـ.(20/212)
-4-
تبينا مما تقدم بطلان رواية الهيثم في أسماء ولد النبي صلى الله عليه وسلم وقد ارتبطت هذه الرواية بأدلة بطلانها أساسا عند مغلطاي وفي شرح المواهب بما صاحبها من أقوال أهل العلم بالحديث وطعونهم في مرتكب كبرها وهو الهيثم، ومنهم البخاري الذي اضطررنا لتأخير الكلام على حديثه لهذا السبب، مع تقديمنا له، فلنرجع إليه ولنقل كلمتنا فيه استنادا إلى ما حرر رجال الصناعة العارفون بعلل الروايات مبادرين إلى القول بأن علته من إسماعيل بن أبي أويس شيخ الإمام البخاري وهذا كلام الحافظ الذهبي عنه في الميزان:
(إسماعيل بن أبي أويس بن عبد الله بن أبي أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي أبو عبد الله المدني، محدث مكثر فيه لين، روى عن خاله مالك وأخيه عبد الحميد وأبيه وأقدم من لقي عبد العزيز بن الماجشون وسلمة بن وردان وعنه صاحبا الصحيح وإسماعيل القاضي والكبار، قال أحمد: لا بأس به، وقال ابن أبي خيثمة عن يحيى: صدوق ضعيف العقل ليس بذاك، وقال أبو حاتم: محله الصدق مغفل، وقال النسائي: ضعيف، وقال الدارقطني: لا أختاره في الصحيح، توفي سنة ست وعشرين ومائتين.
وقال ابن عدي: قال أحمد بن أبي يحيى: سمعت ابن معين يقول: هو وأبوه يسرقان الحديث، وقال الدولابي في الضعفاء: سمعت النضر بن سلمة المروزي يقول: كذاب، كان يحدث عن مالك بمسائل ابن وهب، وقال العقيلي: حدثني أسامة الدقاق بعري، سمعت يحيى بن معين يقول: إسماعيل بن أبي أويس لا يساوي فلسين.(20/213)
قلت: وساق له ابن عدي ثلاثة أحاديث، ثم قال: وروى عن خاله مالك غرائب لا يتابعه عليها أحد، وعن سليمان بن بلال، وروى عنه البخاري الكبير) .
وقال عنه الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب:
(إسماعيل بن عبد الله بن عبد الله بن أويس (1) بن مالك بن أبي عامر الأصبحي أبو عبد الله بن أبي أويس ابن أخت مالك ونسيبه روى عن أبيه وأخيه أبي بكر (2) وخاله فأكثر) ، ثم ذكر عنده أسماء ممن روى عنهم أو رووا عنه، وقول أحمد فيه وقول ابن أبي خيثمة السابق عن يحيى من أنه ليس بذلك وفسره بقوله يعني أنه لا يحسن الحديث ولا يعرف أن يؤديه أو يقرأ من غير كتابه، وقول معاوية بن صالح عنه هو وأبوه ضعيفان، وقول ابن معين فيه وفي أبيه وقول إبراهيم بن الجنيد عن يحيى فيه: مخلط يكذب ليس بشيء وقول ابن أبي حاتم: إنه مغفل، وقول النسائي عنه: ضعيف وغير ثقة، وقول اللالكائي: بالغ النسائي في الكلام عليه بما يؤدي إلى تركه، ولعله بان له ما لم يبن لغيره؛ لأن كلام هؤلاء كلهم يئول إلى أنه ضعيف ثم ذكر قول ابن عدي السابق، وقال:
أو قد حدث عنه الناس وأثنى عليه ابن معين وأحمد والبخاري يحدث عنه الكثير، وهو خير من أبي أويس) يعني أباه.
__________
(1) كذا بحذف أبي في الأصل.
(2) هذه كنيته واسمه عبد الحميد قال في الخلاصة: وثقة ابن معين وجماعة.(20/214)
وذكر وفاته سنة 226 على ما تقدم أو 27 عن أبي حيان جازما بذلك، ثم نقل قول النضر، وسابق فيه، وقول ابن معين: إنه لا يساوي فلسين، وهو يخالف ما نسب إليه أيضا من ثنائه عليه، وقول الدارقطني السابق وذكر حادثة ارتشاء وقعت له من أحد التجار وقول الإسماعيلي عنه في المدخل كان ينسب في الخفة والطيش إلى ما أكره ذكره، وقول بعضهم فيه جانبناه للسنة ورواية لابن حزم أنه كان يضع الحديث، وحكاية عن سر تجريح النسائي له يفيد أنه كان يضع الحديث لأهل المدينة إذا اختلفوا في شيء فيما بينهم ثم عقب عليها بقوله:
(ولعل هذا كان من إسماعيل في شبيبته ثم انصلح، وأما الشيخان فلا نظن بهما أنهما أخرجا عنه إلا الصحيح من حديثه الذي شارك فيه الثقات وقد أوضحت ذلك في مقدمة شرحي على البخاري. والله أعلم.
ويعتبر ما كتبه ابن حجر في مقدمته تلخيصا لما ذكر في تهذيب التهذيب مع زيادة بيان وهذا نصه.
(إسماعيل بن أبي أويس بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي ابن أخت مالك بن أنس، احتج به الشيخان إلا أنهما لم يكثرا من تخريج حديثه، ولا أخرج له البخاري مما تفرد به سوى حديثين، وأما مسلم فأخرج له أقل مما أخرج له البخاري، وروى له الباقون سوى النسائي، فإنه أطلق القول بضعفه، وروى عن سلمة بن شبيب ما يوجب طرح روايته واختلف فيه قول ابن معين، فقال مرة لا(20/215)
بأس به، وقال مرة: ضعيف، وقال مرة: كان يسرق الحديث هو وأبوه، وقال أبو حاتم: محله الصدق وكان مغفلا، وقال أحمد بن حنبل: لا بأس به، وقال الدارقطني: لا أختاره في الصحيح. (قلت) : وروينا في مناقب البخاري بسند صحيح أن إسماعيل أخرج له أصوله، وأذن له أن ينتقي منها وأن يعلم له على ما يحدث به ويعرض عما سواه، وهو مشعر بأن ما أخرجه البخاري عنه من صحيح حديثه؛ لأنه كتب من أصوله وعلى هذا لا يحتج به من حديثه غير ما في الصحيح من أجل ما قدم فيه النسائي وغيره إلا أن شاركه فيه غيره فيعتبر به (1) .
وإذن فقد سقط ما رواه عنه البخاري في التاريخ الصغير المتعلق بتسمية ولد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ما أخرجه له في غير الصحيح، ولأنه اعتبر بما لغيره في الموضوع فلم يوافقه عليه أحد، بل خالفه الجميع، عدا ما رواه الهيثم وهو في الاعتبار من قبيل غسل دم بدم، وبالله التوفيق.
ذكر الزرقاني في شرح المواهب عند قول المؤلف في خديجة: " ثم تزوجها عتيق بن عابد المخزومي، يعني بعد زوجها الأول أبي هالة، فولدت له جارية اسمها هند " ما نصه: (وقال بعضهم: ولدت لعتيق عبد الله، وقيل عبد مناف وهندا) (2) وعلى هذا ينبغي أن يحمل قول القطب الحلبي في المورد العذب عقب ما نقلناه عنه سابقا بواسطة الزرقاني في النقطة الثانية: " ولئن قيل أي على فرض الوجود: إنها أي التسمية وقعت، فتكون من بعض أهل خديجة، وغيرها النبي صلى الله عليه وسلم بعد) (3) أي غير ما كان من تسمية شركية لولد خديجة من غيره عند زواجه
__________
(1) مقدمة الفتح لابن حجر ج 2 ص 117 طبعة إدارة الطباعة الخيرية بمصر سنة 1347 هـ.
(2) شرح الزرقاني على المواهب ج 3 ص220.
(3) الزرقاني ج 3 ص 194.(20/216)
بها لا لولده هو عليه السلام، فمن ذا الذي يجترئ على أن يسمى له أولاده وبأسماء شركية وهو صلى الله عليه وسلم كان الزوج المرغوب فيه المطلوب الذي لا يغيب في مناسبة مثل هذه وما ذكر الرواة الثقات وأجمعوا عليه وتواتر عند الخاص والعام من أسماء أولاده أي القاسم وعبد الله الملقب بالطيب والطاهر وبناته الأربع وكلهم من خديجة، وإبراهيم من مارية القبطية.
فيكون من روى أن لها ولدا باسم من هذه الأسماء المنبوذة، قد اختلط عليه الأمر فظنه للنبي صلى الله عليه وسلم وحاشاه وطهره الله منه وأعاذه كما قال الحافظ مغلطاي فيما سبق عنه، وهذا إن ثبت قول من قال بذلك، وهو لا يثبت فإن ما عرف لها من أولاد على اختلاف الروايات من زوجيها السابقين هما هند وهالة وهما ذكران من أبي هالة وهند وهي جارية من عتيق.
-6-
وأخيرا لا آخرا، فإن من المقرر الثابت بالأدلة القاطعة أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من الذنب قبل النبوة وبعدها ولا سيما الشرك الذي هو رأس الذنوب ولا نتعرض للمسألة بما أفاض فيه العلماء من الحجج والبراهين، ولكن نذكر الحديث الذي جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يثبت أن الإيمان هو الأصل في كل مولود وهو قوله: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه (1) » ، والفطرة هنا المراد بها الإيمان بدليل ما بعده، فإذا كان هذا هو ما يطبع عليه كل مولود فكيف بالأنبياء والرسل الذين أعدهم الله لهداية خلقه ودعوتهم الصراط المستقيم، ولا جرم أنه إذا كان لبعض الآباء سلطان على أبنائهم بتحويلهم من الإيمان إلى الكفر، فالأنبياء لا بد أن يكونوا مستثنين من
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1385) ، صحيح مسلم القدر (2658) ، سنن الترمذي القدر (2138) ، سنن أبو داود السنة (4714) ، مسند أحمد بن حنبل (2/275) ، موطأ مالك الجنائز (569) .(20/217)
هذا السلطان محفوظين منه، ولا سيما وأفضلهم وخاتمهم وصاحب الدعوة العامة إلى الناس كافة قد توفي والده وهو صبي فلم يكن لهما ولا لغيرهما تأثير عليه وأكبر شاهد على ذلك ما جاء في السيرة عند سفره مع عمه أبي طالب إلى الشام وهو صبي من مناشدة الراهب بحيرا له باللات والعزى مختبرا له، فأجابه: لا تسلني باللات والعزى فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما وفيها كذلك عند سفره في تجارة خديجة برفقة غلامها ميسرة وأنه صلى الله عليه وسلم حضر سوق بصرى بالشام فكان بينه وبين رجل اختلاف في سلعة، فقال له الرجل: احلف باللات والعزى، فقال له صلى الله عليه وسلم: ما حلفت بهما قط، فقال له الرجل: القول قولك فها هو ذا ابن عشرة أعوام فدون يعلن عن بغضه لللات والعزى وفي عنفوان شبابه قبل زواجه بخديجة في الخامسة والعشرين من عمره يقول وهو الصادق الأمين: إنه ما حلف باللات والعزى قط ويكفينا هذا من تزييف ما نسب إليه من تلك الفرية السخيفة؛ لأنه في صميم الموضوع والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
عبد الله كنون.(20/218)
معنى الشهادة في اللغة وفي اصطلاح الفقهاء
للدكتور عبد الله بن محمد الزبن (1) .
لما كانت الشهادة من أهم وسائل الإثبات التي يعتمد عليها القضاء إذ إنها حجة شرعية تثبت بها جميع الحقوق إلا النادر كاللفظة، ولها أركان لا بد من توافرها، وشروط يجب توافرها في الشاهد لكي تقبل شهادته، وشروط يجب توافرها لصحة الشهادة فإنني أقتصر في هذا العدد من هذه المجلة على ذكر معنى الشهادة في اللغة وفي اصطلاح الفقهاء على أن أورد أركان الشهادة، والشروط الواجب توافرها في الشاهد، وشروط صحة الشهادة تباعا في الأعداد القادمة من هذه المجلة - إن شاء الله - وفيما يلي بيان معنى الشهادة في اللغة، وفي اصطلاح الفقهاء.
الأول: معنى الشهادة لغة:
للشهادة في اللغة عدة معان منها:
العلم والبيان:
كقول المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله. أي أعلم أن لا إله إلا الله وأبين أن لا إله إلا الله. وقوله: أشهد أن محمدا رسول الله. أي أعلم وأبين أن محمدا رسول الله.
__________
(1) ورد للكاتب ترجمة في العدد السابع من المجلة صفحة 258.(20/219)
وقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (1) سورة آل عمران آية 18. فمعنى شهد الله هنا: قضى أنه لا إله إلا هو وحقيقته: علم وبين لأن الشاهد هو العالم الذي يبين ما علمه.
وشهد فلان عند الحاكم: أي بين ما يعلمه وأظهره، يدل على هذا قوله تعالى: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} (2) سورة التوبة آية 17، وذلك أنهم يؤمنون بأنبياء أشعروا بمحمد وحثوا على اتباعه، ثم خالفوهم فكذبوه، فبينوا بذلك الكفر على أنفسهم وإن لم يقولوا نحن كفار.
ومنها الحضور:
يقال: شهده شهودا أي حضره فهو شاهد. وقوم شهود أي حضور وهو في الأصل مصدر.
قال الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (3) أي من حضر منكم شهر رمضان وهو مقيم غير مسافر فليصم ما حضر وأقام فيه، وقال تعالى: {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} (4) أي حضور.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 18
(2) سورة التوبة الآية 17
(3) سورة البقرة الآية 185
(4) سورة البروج الآية 7(20/220)
ومنها الحلف:
تقول: أشهد بكذا أي أحلف، وقولهم شهد بكذا أي حلف. قال تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} (1) ومنها الإخبار:
تقول: شهد بكذا، إذا أخبر به، وأدى ما علمه بالمعاينة أو السماع ولذا تعدى بالباء؛ لأنه مضمن معنى أخبر، فصار من معاني الشهادة الإخبار بما قد شوهد (2) .
__________
(1) سورة النور الآية 8
(2) تاج اللغة وصحاح العربية جـ1 ص 238، المصباح المنير جـ1 ص 348، القاموس المحيط جـ1 ص 316.(20/221)
الثاني: معنى الشهادة في اصطلاح الفقهاء:
اختلف الفقهاء في تعريف الشهادة بناء على اختلافهم في الأحكام المتعلقة بها عندهم. وفيما يلي بيان هذه التعريفات:
أولا - تعريف الحنفية:
عرف الحنفية الشهادة بعدة تعريفات أشهرها اثنان، هما:
الأول: أنها: " إخبار صدق لإثبات حق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء، ولو بلا دعوى ".(20/221)
قوله: إخبار: جنس يشمل كافة طرق الإخبار الصادقة والكاذبة من شهادة وغيرها، في مجلس القضاء أو غيره.
وقوله: صدق: قيد أول يخرج أنماط الإخبار الأخرى الكاذبة كشهادة الزور فإنها لا تدخل في التعريف، وإنما إطلاق الشهادة على قول الزور في مجلس القضاء إطلاق مجازي من حيث المشابهة الصورية.
وقوله: لإثبات حق: قيد ثان لبيان الغرض من هذا الإخبار، فخرجت به الأخبار التي تساق لأغراض أخرى كقول القائل في مجلس القضاء أشهد برؤية كذا لبعض العرفيات. والحق هنا يشمل الوجودي وهو المتعلق بالإثبات. والعدمي وهو المتعلق بالنفي.
وقوله: بلفظ الشهادة: قيد ثالث لإخراج أنماط الإخبار بأي لفظ غير لفظ الشهادة كأعلم، وأتيقن، فلا يصح أداء الشهادة به على الخلاف في ذلك.
وقوله: في مجلس القضاء: قيد رابع لإخراج الأخبار في غير مجلس القاضي، فإنه لا يعتبر شهادة شرعا.
وقوله: ولو بلا دعوى: قيد خاص لإدخال دعوى الحسبة، فإنه لا يشترط فيها تقدم الدعوى، ولا موافقة الشهادة للدعوى، وذلك كالشهادة على الطلاق والشهادة على أصل الوقف.(20/222)
ومع أن هذا التعريف أشهر التعريفات في الكتب الفقهية وعند الفقهاء إلا أنه لا يخلو من نظر، لاشتماله على شروط الشهادة كقوله: " في مجلس القضاء " وكون الإخبار في مجلس ليس من تمام الحد، وإنما هو من الشروط، والتعريف يذكر لبيان الماهية التي تميز المعرف من غيره فلا يدخل فيه الشرط؛ لأن الشرط هو الذي يتوقف عليه الشيء ولم يدخل في ماهيته ويمكن أن يجاب عن هذا النظر بأن قيد مجلس القضاء في التعريف لزيادة الإيضاح فقط، وليس من أجزاء المعرف، وكثيرا ما يتساهل العلماء في ذكر الشروط في التعريفات للغرض نفسه.
الثاني: أنها " إخبار بحق للغير على الغير ".
ويخرج بهذا التعريف الإقرار، والدعوى؛ لأن الإقرار إخبار الإنسان بحق عليه لغيره، والدعوى إخبار أحد عن حقه قبل شخص آخر في حضور القاضي، إلا أنه لا زال شاملا للأخبار الكاذبة وغير الكاذبة مما لم تتوفر فيه القيود التي وردت في التعريف الأول، إلا أنه يقال: إنه لم يذكر القيود المذكورة في التعريف اكتفاء بذكرها في الشرط.
وعلى كل حال فالتعريف الأول أولى وأحسن، لوضوحه، وما ذكر فيه من بعض الشروط فمقصود به البيان والإيضاح.(20/223)
ثانيا: تعريف المالكية:
عرف المالكية الشهادة بتعريفات نذكر ثلاثة منها:
أ - عرف ابن عرفة من المالكية الشهادة بأنها: " قول هو بحيث يوجب على الحاكم سماعه الحكم بمقتضاه إن عدل قائله مع تعدده أو حلف طالبه " (1) .
جاء في هذا التعريف لفظ: قول بدل لفظ: خبر. والقول جنس يشمل ما يوجب الحكم من الأقوال، وما لا يوجبه كالأقوال العامة، والروايات وغيرهما. إذ القول أعم من الخبر.
واستعمل القول بهذا التعريف دون الخبر عملا تأسيا بما جاء في الحديث الشريف في قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا وقول الزور، وشهادة الزور (2) » فإن القول هنا أريد به الشهادة. وإن كانت الشهادة والرواية خبرين إلا أنه إذا كان المخبر عنه عاما لا يختص بمعين كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات (3) » فهو الرواية بخلاف قول المعدل عند
__________
(1) نقلا من مواهب الجليل لشرح مختصر خليل جـ6 ص151، انظر: الخرشي على مختصر خليل جـ 7 ص 175.
(2) أخرج البخاري بسنده عن أبي بكرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: '' ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا '' قالوا: بلى يا رسول الله. قال: '' الإشراك بالله، وعقوق الوالدين ''، وجلس وكان متكئا، فقال: ألا وقول الزور'' قال: فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت. انظر: صحيح البخاري جـ 3 ص 152، السنن الكبرى للبيهقي جـ10 ص121، نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار جـ 8 ص 337.
(3) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .(20/224)
الحاكم: (لهذا عند هذا دينار) ، فإن هذا القول هو الشهادة؛ لأنه إلزام لمعين لا يتعداه إلى غيره.
وقوله: " هو بحيث " يدخل الشهادة قبل الأداء والشهادة غير التامة، إذ إنها قول عرفا وليست خبرا؛ لأنها من كلام النفس الذي يطلق عليه القول عرفا، ولأن الحيثية لا توجب حصول مدلول ما أضيفت إليه بالفعل وإنما تفيد حصوله بالقوة حسبما ذكروه في تعريف الدلالة.
وقوله: " يوجب على الحاكم سماعه " قيد تخرج به الرواية وغيرها مما لا يوجب على الحاكم سماعه من الأقوال، ويخرج الخبر القسيم للشهادة.
وقوله: " الحاكم " دون أن يقول القاضي؛ لأن الحاكم أعم من القاضي؛ لوجوده في المحكم والأمير.
والأقوال التي يجب على القاضي سماعها تشمل ما يجب عليه الحكم بمقتضاه؛ كشهادة العدول، وما لا يجب عليه الحكم بمقتضاه كشهادة غير العدول.
وقوله: " الحكم بمقتضاه " قيد تخرج به شهادة غير العدول التي لا يحكمها بها.(20/225)
وقوله: " إن عدل قائله " أي: إن ثبتت عدالته عند القاضي إما بالبينة أو بكونه يعلمها، والعدالة شرط في إيجاب الحكم، وخرج بهذا مجهول الحال هذا وعقب الحطاب في مواهب الجليل بقوله: ولكنه لو قال: عدل قائله. . . إلخ وأسقط قوله: إن عدل قائله لكان أبين؛ لأن عدل إنما يستعمل غالبا (1) فيما ثبت، أو لو قال: يوجبه على الحاكم سماعه الحكم، لشمل ما إذا ثبتت عدالته عنده أو كان عالما بها؛ لأن الحكم بمقتضى السماع الواجب لا يكون إلا عند العلم بعدالة قائله.
وقوله: " مع تعدده أو حلف طالبه " شرط آخر في الشهادة الموجبة للحكم بأن يتعدد فيها الشهود أو يحلف المدعي مع بينته إذا اقتصرت على شاهد واحد.
وشرط التعدد يخرج إخبار القاضي بما ثبت عنده قاضيا آخر، فإنه يجب عليه الحكم بمقتضى ما كتب إليه به، لعدم شرطية التعدد والحلف.
__________
(1) ورد في الأصل غائبا ولعله خطأ مطبعي.(20/226)
هذا ويلاحظ على هذا التعريف ما يلي:
1 - أنه يشترط في التعريف كونه جامعا مانعا، فتعريف الشهادة بأنها "قول بحيث يوجب على الحاكم سماعه الحكم بمقتضاه " تعريف غير مانع لدخول الإقرار فيه؛ لأن الإقرار قول يجب على الحاكم سماعه والحكم بمقتضاه.
2 - أنه ذكر في التعريف شروط الشهادة، وشرط الشيء خارج عن ذاته، والتعريف يذكر لبيان الماهية التي تميز المعرف عن غيره، فلا يدخل فيه الشرط.
3 - أنه عرف الشهادة بلفظ " قول" مما يدل على عدم اشتراط لفظ " أشهد " وهذا مذهب المالكية في عدم اشتراط صيغة معلومة في أداء الشهادة، وإنما المدار عندهم على حصول العلم كسمعت، ورأيت وغيرهما.
د - أن في هذا التعريف دورا؛ لأن الحكم بافتقاره للتعدد فرع عن كونه شهادة (1) .
5 - أن التقرير بأن الرواية هي: الخبر المتعلق بكلي لا يختص بمعين كخبر: إنما الأعمال بالنيات، وأن الشهادة: الخبر المتعلق بجزئي كقول العدل عند الحاكم لهذا كذا مردود بأن الرواية قد تتعلق بجزئي كخبر «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة (2) »
__________
(1) مواهب الجليل ج6 ص 151.
(2) أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: '' يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ''، انظر: صحيح البخاري ج 2 ص 158، سنن النسائي ج 5 ص 216، المسند للحميدي ج 2 ص 485.(20/227)
وكآية: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} (1) . ونحوهما.
2 - وعرف الدسوقي الشهادة بأنها: " إخبار حاكم عن علم ليقضي بمقتضاه" (2) .
فقوله: " إخبار حاكم " من إضافة المصدر لمفعوله، أي إخبار الشاهد الحاكم.
وقوله: " عن علم " أي: إخبارا ناشئا عن علم لا عن ظن أو شك.
وهذا التعريف هو معنى قول بعضهم: الشهادة: إخبار بما حصل فيه الترافع وقصد به القضاء وبت الحكم، وأما الرواية فهي إخبار بما لم يحصل فيه الترافع، ولم يقصد به فصل القضاء وبت الحكم، بل قصد به مجرد عزوه لقائله (3) .
ويؤيد هذا القول بأن الخبر إما أن يقصد أن يترتب عليه فصل قضاء وإبرام حكم أو لا، فإن قصد به ذلك فهو الشهادة وإن لم يقصد به ذلك فإما أن يقصد به تعريف دليل حكم شرعي أو لا، فإن قصد به ذلك فهو الرواية وإلا فهو سائر أنواع الخبر (4) .
__________
(1) سورة المسد الآية 1
(2) الشرح الكبير بهامش حاشية الدسوقي ج 4 ص 164.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج 4 ص 164، 165.
(4) بلغة السالك ج 2 ص 322.(20/228)
3 - وعرفها ابن فرحون، فقال: أما حد الشهادة: فهو إخبار يتعلق بمعين وقيد التعيين في هذا التعريف فإنها تفارق الرواية (1) . ولكن يلاحظ على هذا أن الرواية قد تتعلق بمعين كما مر.
__________
(1) تبصرة الحكام جـ1 ص 205(20/229)
الثالث: تعريف الشافعية:
عرف الشافعية الشهادة تعريفات أشهرها اثنان:
التعريف الأول: أنها " إخبار بحق للغير على الغير بلفظ أشهد ".
قوله " إخبار " مطلق فهو جنس يتناول أشكال الإخبار بالحقوق، وأشكال الإخبار في الروايات.
والأفضل إضافة " الإخبار " إلى المخبر بحيث يقول: إخبار شخص، ولكن لعله ترك الإضافة ظنا منه أن القارئ سيدركها.
وقوله: " بحق " قيد أول على محل الإثبات وهو الحق الذي يثبت، والحق هنا شامل لحق الله عز وجل وحق العبد، وشامل للمال وغيره مما يثبت ويسقط. ويشمل الوجودي والعدمي كالإبراء، ويخرج بهذا القيد الخبر والرواية، والإخبار عن الحقائق الكونية والأمور العادية.
وقوله: " للغير " قيد ثان تخرج به الدعوى وهي ما يخبر به من حق على غيره لنفسه.
وقول: " على الغير " قيد ثالث لإخراج الإقرار وهو الإخبار بحق عليه للغير.
وقوله: بلفظ " أشهد " قيد رابع لإخراج ما عدا هذا اللفظ في(20/229)
الشهادة من الألفاظ الأخرى التي تفيد معنى الإخبار كلفظ: أعلم وأتيقن، ولو كان الإخبار به بحق لغيره على غيره.
التعريف الثاني: أنها " إخبار عن شيء بلفظ خاص ".
فقوله: " عن شيء " يشمل الشهادة بحق وبغير حق كالشهادة بهلال رمضان.
وقوله: " بلفظ خاص " هو: " لفظ " (أشهد) فلا تقبل الشهادة بغيره كلفظ: أعلم، وأتيقن.
وهذا التعريف غير مانع، فيدخل فيه الإقرار، والدعوى، فكان الأولى أن يزيد: " لغيره على غيره ".(20/230)
الرابع: تعريف الحنابلة:
الأول: عرف الحنابلة الشهادة بتعريفات منها:
أنها: " الإخبار بما علمه بلفظ خاص ".
فقوله: " الإخبار " جنس يشمل ما علم به المخبر وما لم يعلم من أنماط الإخبار كالإخبار بالكذب، أو الظن.(20/230)
(2) وقوله: " بما علمه " قيد يخرج به ما لا يعلم به المخبر.
وقوله: " بلفظ خاص " هو لفظ: " أشهد بكذا " دون غيره من الألفاظ.
ويؤخذ على هذا التعريف أنه غير مانع، فتدخل فيه الدعوى، وهي: " إخبار بحق يعلمه لنفسه على غيره " ويدخل فيه الإقرار، وهو: " إخبار بحق يعلمه لغيره على نفسه ".
الثاني: أنها " الإخبار بما علمه بلفظ أشهد، أو شهدت " (1) وهذا التعريف يتفق مع التعريف الأول في بعضه - إذ المقصود باللفظ الخاص في التعريف الأول لفظ " أشهد " - ولكنه يختلف عنه بزيادته لفظ " أو شهدت " وهذا اللفظ غير دقيق حيث يفيد الماضي.
الثالث: عرفها صاحب المبدع بأنها " الإخبار عما شوهد، أو علم " (2) .
فقوله: " الإخبار " سبق شرحه عند شرح هذا اللفظ في التعريف الأول.
وقوله: " عما شوهد " قيد تخرج به الأشياء التي علمت من غير مشاهدة.
وقوله: " أو علم " يدخل ما علمه في بأي طريق من طرق العلم.
__________
(1) نيل المآرب بشرح دليل المطالب ج2 ص 186، ط مطبعة محمد صبيح وأولاده
(2) المبدع ج 10 ص 188 ط مطبعة المكتب الإسلامي - بيروت.(20/231)
وهذا التعريف أعم من التعريفين السابقين.
وبالنظر فيما قدمناه من تعريفات للشهادة نجد أن بعضها قد ورد عليه بعض المؤاخذات التي لا يسلم معها التعريف، ويمكن استخلاص تعريف سليم للشهادة بأن يقال: الشهادة: إخبار بحق لغيره على غيره في مجلس القضاء بحيث يوجب على الحاكم الحكم بمقتضاه ولو بلا دعوى.
وقد ورد شرح هذا التعريف في ثنايا شرح التعريفات السابقة.
عبد الله بن محمد الزبن.(20/232)
مباحث السنة عند الأصوليين.
الدكتور حسين مطاوع الترتوري.
ولد في فلسطين بمدينة الخليل سنة 1954 م.
1 - حصل على الثانوية العامة من فلسطين.
2 - حصل على بكالوريوس شريعة من الجامعة الأردنية سنة 1977 م بتقدير ممتاز.
3 - حصل على ماجستير في أصول الفقه بتقدير جيد جدا سنة 1979 م من جامعة أم القرى بمكة المكرمة.
4 - حصل على دكتوراه في أصول الفقه بتقدير ممتاز سنة 982 أم من جامعة أم القرى بمكة المكرمة.
عنوان رسالة الماجستير: المشترك ودلالته على الأحكام الشرعية.
عنوان رسالة الدكتوراه: حروف المعاني وأثرها في اختلاف الفقهاء.
5 - عمل في جامعة القدس - كلية الدعوة وأصول الدين.
6 - الآن يعمل أستاذا مساعدا بقسم الدراسات الإسلامية بجامعة الملك سعود - كلية التربية.(20/233)
مباحث السنة عند الأصوليين.
الدكتور: حسين مطاوع الترتوري.
تعريف السنة في اللغة والاصطلاح:
السنة في اللغة: الطريقة والسيرة حميدة كانت أو ذميمة، والجمع سنن، ومن ذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء (1) » .
وتطلق السنة في الاصطلاح على عدة معان:.
أ - تطلق على ما يقابل القرآن، ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة (2) » .
2 - وتطلق على ما يقابل البدعة، فيقال: أهل السنة وأهل البدعة.
3 - وتطلق عند المحدثين على ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة 2 \ 705
(2) جزء من حديث رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة 1 \ 465.(20/234)
أو تقرير أو صفة خلقية أو خلقية وما يتصل بالرسالة، من أحواله الشريفة قبل البعثة ونحو ذلك.
4 - وتطلق عند الفقهاء على ما يقابل الفرض وغيره من الأحكام الخمسة " الفرض، السنة، الحرام، المكروه، المباح ".
وربما لا يراد بها إلا ما يقابل الفرض، كقوانا: فروض الوضوء وسننه، فإنه لا يقابل بها الحرام والمكروه " في هذا الموطن.
5 - وتطلق عند الأصوليين على ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير (1) .
6 - ووسع الحنفية دائرة السنة في الاصطلاح الشرعي فأدخلوا فيها سنة الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم واستدلوا على ذلك بقول النبي: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ (2) » .
__________
(1) محب الله بن عبد الشكور، مسلم الثبوت 2 \ 97
(2) جزء من حديث رواه أبو داود في كتاب السنة، باب في لزوم السنة، 4 \ 200 - 201.(20/235)
أنواع السنة من حيث هي.
1 - السنة القولية: مثالها قول النبي صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه (1) » .
ومثالها أيضا، قوله عليه السلام: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين (2) » .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي.
(2) رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم 1 \ 9.(20/235)
2 -، وأما السنة الفعلية فهي ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من أفعال، مثال ذلك صلاته وحجه المبينة لمجمل القرآن، ومثاله قضاؤه صلى الله عليه وسلم بشاهد ويمين في الأموال.
3 - وأما السنة التقريرية فهي: ما صدر عن صحابي أو أكثر من أقوال أو أفعال علم بها عليه السلام فسكت عنها ولم ينكرها، أو وافقها وأظهر استحسانه لها.
وفيما يلي بعض الأمثلة على ذلك:
1 - أكل الصحابة الضب على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليهم ذلك (1) .
2 - إقراره صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص الذي صلى بالقوم في غزوة ذات السلاسل جنبا بعد أن تيمم من شدة البرد.
«فعن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح. فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ ، فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم
يقل شيئا (3) » .
3 - إقراره صلى الله عليه وسلم لبيع السلم.
«عن عبد الله بن أبي المجالد قال: سألت ابن أبي أوفى عن السلف
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأطعمة، باب الأقط 6 \ 202.
(2) رواه أبو داود في كتاب الطهارة، باب إذا خاف الجنب البرد تيمم 1 \ 92.
(3) سورة النساء الآية 29 (2) {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}(20/236)
قال: كنا نسلف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر في البر والشعير والتمر إلى قوم لا ندري أعندهم أم لا (1) » .
د - أقر صلى الله عليه وسلم عائشة في نظرها للأحباش وهم يلعبون في المسجد. عن عروة بن الزبير «أن عائشة قالت: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على باب حجرتي والحبشة يلعبون في المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه أنظر إلى لعبهم (2) » .
ومما يدخل في السنة التقريرية قول الصحابي: كنا نفعل كذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عن مرثد بن عبد الله قال: أتيت عقبة بن عامر الجهني فقلت: ألا أعجبك من أبي تميم يركع ركعتين قبل صلاة المغرب، فقال عقبة: إنا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: فما يمنعك الآن. قال: الشغل (3) » .
فصلاة ركعتين قبل المغرب ثبت بالسنة التقريرية كما ترى.
4 - وأما مثال الوصف الخلقي: فما رواه البخاري «عن أنس بن مالك قال: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم سبابا ولا فحاشا ولا لعانا، وكان يقول لأحدنا عند المعتبة: ما له ترب جبينه (4) » .
__________
(1) رواه النسائي في كتاب البيوع، باب السلم في الطعام، انظر سنن النسائي بشرح السيوطي 7 \ 289
(2) رواه البخاري في كتاب الصلاة، باب أصحاب الحراب في المسجد 1 \ 116، 117.
(3) رواه البخاري في كتاب التهجد، باب الصلاة قبل المغرب 2 \ 54 - 55.
(4) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب لم يكن النبي فاحشا ولا متفحشا 7 \ 80.(20/237)
5 - ومثال الوصف الخلقي: ما رواه البخاري «عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم شثن القدمين والكفين (1) » ، وقوله: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل البائن ولا بالقصير (2) » . . . .
حجية السنة:
اتفق علماء الأمة على أن السنة حجة ومصدر من مصادر الأحكام واستدلوا على ذلك بثلاثة أدلة: الكتاب، وإجماع الصحابة، والمعقول.
أما الكتاب فقد وردت آيات في القرآن الكريم تدل على حجية السنة ومن ذلك (3) :
1 - قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (4) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (5) .
2 - قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (6) .
3 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (7) .
4 - قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (8) .
__________
(1) صحيح البخاري كتاب اللباس، باب الجعد 7 \ 58. وشثن القدمين والكفين: غليظ القدمين والكفين والأصابع.
(2) صحيح البخاري كتاب اللباس، باب الجعد 7 \ 58.
(3) الشافعي، الرسالة ص 73 - 75، ابن حزم، الإحكام 1 \ 108 - 110.
(4) سورة النجم الآية 3
(5) سورة النجم الآية 4
(6) سورة الحشر الآية 7
(7) سورة النساء الآية 59
(8) سورة النحل الآية 44(20/238)
5 - قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) .
6 - قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (2) .
7 - قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (3) .
8 - قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (4) .
9 - قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (5) .
10 - قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (6) .
فهذه الآيات جميعها تدل على وجوب اتباع الرسول، فهي تثبت حجية السنة قطعا.
وأما الصحابة فإنهم لم يفرقوا بين حكم ثبت بالقرآن وبين حكم ثبت بالسنة فهم يعملون بهما جميعا، فهذا أبو بكر يقول للجدة التي
__________
(1) سورة النور الآية 63
(2) سورة الأحزاب الآية 36
(3) سورة آل عمران الآية 31
(4) سورة النساء الآية 80
(5) سورة النساء الآية 65
(6) سورة الجمعة الآية 2(20/239)
جاءت تسأله عن نصيبها في الميراث: [ما لك في كتاب الله من شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من شيء، ولكن أسأل الناس، فسألهم، فقام المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة فشهدا أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس] .
وأما المعقول: فهو أن الله سبحانه وتعالى فرض على الناس عدة فرائض مجملة لا يمكنهم امتثال أمره فيها إلا بعد أن بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله أو بفعله، وقد أعطى الله لرسوله عليه السلام سلطة التبيين، فقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (1) .
__________
(1) سورة النحل الآية 44(20/240)
منزلة السنة من القرآن من حيث الرتبة (أي من حيث الاحتجاج بها والرجوع إليها)
اختلف العلماء في هذه المسألة على رأيين:
الأول: إن السنة والقرآن في المرتبة سواء، وإذا تعارض خبر من الأخبار في الظاهر (1) مع آية من القرآن كان المتأخر ناسخا للمتقدم.
وهذا مذهب الحنفية (2) ، والمالكية (3) ، وابن حزم الظاهري (4) ، إلا أن الحنفية والمالكية يشترطون أن يكون الحديث متواترا حتى ينسخ
__________
(1) قلت: (في الظاهر) ؛ لأنه يستحيل أن تتعارض آية مع حديث صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) السرخسي، أصول السرخسي 2 \ 67. عبد العزيز البخاري، كشف الأسرار 3 \ 175
(3) القرافي، شرح تنقيح الفصول ص 311.
(4) ابن حزم، الإحكام 4 \ 107(20/240)
القرآن بخلاف ابن حزم، فإن خبر الآحاد والمتواتر عنده سواء في جواز نسخ الكتاب.
الثاني: إن السنة في المرتبة التالية للقرآن، أي أن السنة لا تنسخ القرآن، وإذا حصل تعارض ظاهري بين القرآن والسنة، ولم نستطع الجمع بينهما فلا يتعدى الأمر أحد الاحتمالات الأربعة التالية:
1 - أن تكون الآية منسوخة بآية أخرى.
2 - أن تكون السنة منسوخة.
3 - أن يكون الحديث ضعيفا لا يحتج به.
4 - أن يكون وجه الاستدلال في الآية أو الحديث ضعيفا (1) .
وإلى هذا الرأي ذهب الشافعي (2) وأحمد بن حنبل.
والقائلون بأن السنة تنسخ القرآن ذكروا خمسة أحاديث ادعوا أنها ناسخة لآيات من القرآن، وبعد التأمل فيها يجد الباحث أنه لم ينسخ أي حديث منها آية من القرآن، بل غاية ما في الأمر أن هذه الأحاديث إما بيان لمجمل الآية أو تخصيص لعمومها.
وفيما يلي بيان ذلك:
الحديث الأول: «لا وصية لوارث (3) » .
__________
(1) محمد الأشقر، أفعال الرسول 1 \ 18.
(2) الشافعي، الرسالة ص 106.
(3) رواه أبو داود، في كتاب الوصايا، باب ما جاء في الوصية للوارث 3 \ 114 عن أبي أمامة. وروى البخاري مثله بهذا المعنى في كتاب الوصايا باب لا وصية لوارث 3 \ 188، وقال الألباني في كتاب أحكام الجنائز ص7 (الهامش) : إن هذا الحديث متواتر.(20/241)
قالوا: إن هذا الحديث ناسخ لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (1) .
والصحيح أن الحديث لم ينسخ الآية، بل الذي نسخها آيات المواريث، لكن لما احتمل أن آيات المواريث جاءت لتعطي للوالدين ومن يرث من الأقربين حظا آخر فيكون لكل منهم حق أثبتته آيات المواريث ووصية واجبة أيضا أثبتتها آية سورة البقرة، واحتمل أن آيات المواريث ناسخة لآية سورة البقرة التي توجب الوصية، جاء الحديث ليبين أن الاحتمال الثاني هو المراد وأن الوالدين والأقربين من الورثة لا حظ لهم إلا ما قررته آيات المواريث، ولولا الحديث - كما ترى - لاحتمل إمكانية الجمع للوارث بين الميراث والوصية الواجبة، فكان الحديث مبينا لا ناسخا.
الحديث الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام: «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، الثيب بالثيب جلد مائة والرجم، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام (2) » .
قال الحنفية ومن وافقهم إن هذا الحديث نسخ قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (3) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 180
(2) رواه مسلم في كتاب الحدود، باب حد الزنى 3 \ 1316.
(3) سورة النساء الآية 15(20/242)
والصحيح أن الحديث لم ينسخ الآية، بل هو مبين للسبيل الذي ذكر في الآية.
الحديث الثالث:
قال الحنفية ومن وافقهم: إن «نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير (1) » نسخ قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (2) والصحيح أن الحديث لم ينسخ الآية، بل قصرها على بعض أفرادها أي خصصها.
الحديث الرابع:.
«قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حق عبد الله بن خطل: اقتلوه، ولو كان متعلقا بأستار الكعبة (3) » ، وقد قتله أبو برزة.
قال الحنفية ومن وافقهم: إن هذا الحديث نسخ قوله تعالى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} (4) .
__________
(1) الحديث رواه مسلم في كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير 3 \ 1554.
(2) سورة الأنعام الآية 145
(3) رواه مسلم في كتاب الحج، باب جواز دخول مكة بغير إحرام 2 \ 989 - 990، عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه مغفر، فلما نزعه جاءه رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال: '' اقتلوه ''.
(4) سورة البقرة الآية 191(20/243)
والصحيح أن هذا الحديث خصص الآية ولم ينسخها فقصر عمومها على بعض أفرادها وأخرج منهم عبد الله بن خطل.
الحديث الخامس:
قتال الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل الطائف في شهر ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم (1) . قال الحنفية ومن وافقهم إن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا ناسخ لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (2) .
والصحيح أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينسخ الآية، بل هو من باب رد العدوان فإن هوازن وثقيف هي المعتدية، وكانت بداية المعركة في شوال (3) قبل دخول الأشهر الحرم، والله سبحانه يقول: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (4) .
__________
(1) انظر تفصيل قتال الرسول عليه السلام لهوازن في ابن القيم، زاد المعاد 4 \ 438. وما بعدها.
(2) سورة البقرة الآية 217
(3) انظر في ذلك البوطي، فقه السيرة ص 297.
(4) سورة البقرة الآية 194(20/244)
وكل ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم هو ملاحقة من فر منهم حتى لا يعيدوا الكرة على المسلمين، وفي الحديث «عن جابر: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى (1) » . . .
ولا يصح أن يقال جوابا عن هذا الحديث: إن قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} (2) منسوخ بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (3) . وبقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} (4) ؛ لأن هاتين الآيتين وإن كانتا قد نسختا قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} (5) وعند الجمهور، إلا أن النسخ حصل بعد غزوة هوازن، وثقيف، فالغزوة وقعت في السنة الثامنة، والآيتان اللتان قال الجمهور إنهما نسختا قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} (6) نزلتا في السنة التاسعة للهجرة فهما من سورة التوبة.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/334) .
(2) سورة البقرة الآية 217
(3) سورة التوبة الآية 5
(4) سورة التوبة الآية 36
(5) سورة البقرة الآية 217
(6) سورة البقرة الآية 217(20/245)
منزلة السنة من القرآن من جهة ما ورد فيها من أحكام
جميع الأحكام التي ثبتت بالسنة لا تعدو صورة من الصور التالية:(20/245)
الأولى: أن تكون السنة مؤكدة ومقررة لحكم ثبت في القرآن، ومن ذلك:
1 - وجوب الصلاة والزكاة والحج والصوم. قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (1) ، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (2) ، وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (3) ، وقال عليه الصلاة والسلام: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان (4) » .
2 - حرمة قتل النفس إلا بحق، قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} (5) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة (6) » . إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة.
الثانية: أن تكون السنة مبينة للقرآن، وهذا البيان على ستة أوجه:
1 - تفصيل السنة لمجمل القرآن؛ كبيان النبي صلى الله عليه وسلم بفعله لعدد ركعات الصلاة وكيفيتها وبيانه بقوله لمقدار نصاب الزكاة وبفعله لأفعال الحج.
2 - تخصيص السنة لعام القرآن، ولا يتصور تخصيص السنة لعام القرآن عند الحنفية إلا في حالة واحدة وهي أن يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديثا مقارنا لنزول الآية ومستقلا.
__________
(1) سورة البقرة الآية 43
(2) سورة آل عمران الآية 97
(3) سورة البقرة الآية 183
(4) رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: بني الإسلام على خمس 1 \ 8.
(5) سورة الأنعام الآية 151
(6) رواه البخاري في كتاب الديات، باب قول الله تعالى: (أن النفس بالنفس) 8 \ 38.(20/246)
أما لو كان الحديث متراخيا عن الآية، فإنه يكون ناسخا لها عند الحنفية لا مخصصا لها.
ومن أمثلة تخصيص السنة للقرآن عند الجمهور:
أ - قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} (1) فالميتة والدم من ألفاظ العموم؛ لأن كلا منهما مفرد معرف بـ (أل) ، فالميتة: تشمل ميتة البر وميتة البحر، فيدخل في ذلك: السمك الميت والجراد الميت، والبقر الميت، والغنم الميت. . . إلخ.
وكذا الدم: يشمل كل دم، سواء دم إنسان أو حيوان، وقد خصصت الآية بالحديث الموقوف على ابن مسعود:.
«أحلت لنا ميتتان ودمان: أما الميتتان فهما السمك والجراد، وأما الدمان فهما الكبد والطحال (2) » .
فالحديث قصر تحريم الميتة على بعض أفرادها وأخرج من المحرم السمك والجراد الميت، وكذا قصر تحريم الدم على بعض أفراده وأخرج منه الكبد والطحال فجعله حلالا. ولا يعترض فيقال: إن الحديث موقوف فلا يخصص الآية؛ لأننا نقول: إن هذا الحديث يأخذ حكم المرفوع فلا يعقل أن يقول الصحابي: (أحل لنا) أو ما شابهها من الألفاظ التي لا يعرف الحكم فيها إلا عن طريق الوحي إلا أن يكون سمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذا كان الحديث في حكم المرفوع؛ لأنه مما لا مجال للاجتهاد فيه.
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) هذا الحديث لا يصح إلا موقوفا على ابن مسعود، أما الروايات المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تخلو من ضعف. انظر سنن ابن ماجه، كتاب الصيد، باب صيد الحيتان والجراد 2 \ 1073 - 1074. انظر: سنن ابن ماجه، كتاب الأطعمة، باب الكبد والطحال 3 \ 1101 - 1102.(20/247)
ب - قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (1) فهذه الآية خصصها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يرث القاتل (2) » .
جـ - قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (3) .
خصص هذه الآية حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها (4) » .
إلى غير ذلك من الأمثلة.
3 - تقييد السنة لمطلق القرآن: ومن أمثلة ذلك:
أ - قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (5) فاليد في الآية مطلقة يجوز قطعها من مفصل الكف أو من المرفق أو من الكتف، فجاءت سنة الرسول صلى الله عليه وسلم الفعلية، وبينت أن اليد تقطع من مفصل الكف (الرسغ) ، فقيدت بذلك مطلق اليد.
ب - قال تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} (6) .
فالآية مطلقة في عدد الرضعات، جاءت السنة وقيدتها بخمس رضعات فصاعدا. روى الإمام مسلم «عن عائشة أنها قالت: كان فيما نزل
__________
(1) سورة النساء الآية 11
(2) رواه ابن ماجه في كتاب الديات، باب القاتل لا يرث 2 \ 883 ـ 884، وقال في الزوائد: إسناده حسن.
(3) سورة النساء الآية 24
(4) الحديث متفق عليه، رواه البخاري في كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها 6 \ 128، ومسلم في كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها 2 \ 1029 واللفظ لمسلم.
(5) سورة المائدة الآية 38
(6) سورة النساء الآية 23(20/248)
من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخت بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن (1) » ومعنى الحديث أن النسخ كان في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم حتى إن بعضهم كان يقرأ ما نسخ؛ لأنه لم يبلغه النسخ.
4 - أن تبين السنة القرآن عن طريق التفريع على أصل ورد في القرآن (عن طريق القياس) .
ومن أمثلة ذلك:
أ - قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} (2) ، وقال أيضا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (3) ، فهاتان الآيتان قررتا أصلا، وهو منع أكل أموال الناس بالباطل وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم وفرع على هذا الأصل، فحرم بعض صور من البيع التي فيها أكل لأموال الناس بالباطل «فنهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه، ونهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر قبل أن يحمر أو يصفر، وعندما سئل عن سبب النهي قال: أرأيت إن منع الله سبحانه وتعالى الثمرة بم تستحل مال أخيك (4) » أي الجواب بالباطل.
ب - قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (5) .
كان الربا الشائع عند العرب هو ربا الديون، وصورته أن يقرض رجل رجلا مبلغا من المال لمدة معينة بدون زيادة، فإذا حل الأجل طلب
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الرضاع، باب التحريم بخمس رضعات.
(2) سورة البقرة الآية 188
(3) سورة النساء الآية 29
(4) صحيح البخاري كتاب البيوع، باب بيع المخاضرة 3 \ 35 ـ 36.
(5) سورة البقرة الآية 275(20/249)
الدائن من المدين المبلغ، فإن لم يسدد المدين ما عليه قال له الدائن: إما أن تقضيني حقي وإما أن تربي.
ولما كانت الحكمة من تحريم الربا أن فيه زيادة بلا عوض جاءت السنة وألحقت بالصورة التي كانت معروفة في الجاهلية أنواعا أخرى من البيوع، فيها زيادة بلا عوض واعتبرتها من الربا، فقال صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعر، والتمر بالتمر، مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى (1) » .
ج - قال تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (2) .
بينت هذه الآية بعض المحرمات من الرضاعة، ثم ألحق النبي صلى الله عليه وسلم بالأم والأخت من الرضاعة سائر القرابات اللواتي يحرمن بالنسب، كالعمة والخالة. . . . وهذا إلحاق بطريق القياس باعتبار نفي الفارق المؤثر بين الأصل وبين الفرع، فقال صلى الله عليه وسلم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (3) » .
5 - توضيح السنة لمشكل القرآن:
ومن أمثلة ذلك:
أ - قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} (4) .
وقد أشكل على الصحابة رضي الله عنهم معنى كلمة (ظلم) فقالوا:
__________
(1) رواه البخاري في كتاب البيوع، باب بيع التمر بالتمر 3 \ 29 - 30.
(2) سورة النساء الآية 23
(3) رواه البخاري في كتاب الشهادات، باب الشهادة على الأنساب 3 \ 149.
(4) سورة الأنعام الآية 82(20/250)
وأينا لا يظلم نفسه فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن المراد بالظلم في الآية الشرك (1) .
ب - قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (2) .
أشكل على عدي بن حاتم فهم الآية وقد كان نصرانيا قبل الإسلام، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم (ما عبدوهم يا رسول الله) ، فقال صلى الله عليه وسلم موضحا ما أشكل على عدي ومبينا معنى العبادة في الآية: «أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه (3) » .
6 - نسخ الأحكام. . .
وهذا الوجه من وجوه يصح عند القائلين بأن السنة والقرآن في المرتبة سواء، ويمكن للسنة أن تنسخ القرآن. وهذا مذهب الحنفية والمالكية وابن حزم، أما الشافعية فلا يمكن للسنة أن تنسخ القرآن عندهم كما سبق بيانه عند الكلام على منزلة السنة من القرآن من حيث الرتبة.
ومن أمثلة ذلك:
أ - أي صورة من صور التخصيص عند الشافعية التي يكون فيها المخصص متراخيا فهذا عند الحنفية نسخ مثاله:
قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (4) ، فلفظ
__________
(1) الطبري، جامع البيان من تأويل القرآن 11 \ 492 وما بعدها.
(2) سورة التوبة الآية 31
(3) انظر القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 8 \ 120. والحديث رواه الترمذي في كتاب تفسير القرآن 5 \ 278، وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث.
(4) سورة المائدة الآية 38(20/251)
(السارق) ولفظ (السارقة) من ألفاظ العموم يدخل فيهما سارق وسارقة الكثير والقليل، وقد نسخت هذه الآية عند الحنفية بما رواه أيمن ابن أم أيمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا قطع إلا في دينار أو عشرة دراهم (1) » .
ب - أي صورة من صور الزيادة على النص القرآني فهذا عند الحنفية نسخ، مثاله قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (2) . فلفظ (أولادكم) عام يشمل الولد الصغير والكبير، وقاتل أبيه ومن لم يقتل والمسلم والكافر. . . إلخ. فجاء حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يرث القاتل (3) » ، فنسخ الآية عند الحنفية.
الثالثة: أن تزيد السنة على الحكم الذي ثبت بالقرآن.
ومن أمثلة ذلك:
1 - قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (4) .
جعلت الآية عقوبة الزاني الأعزب مائة جلدة، ثم جاءت السنة وزادت على هذه العقوبة تغريب عام، فقال صلى الله عليه وسلم: «البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة (5) » .
__________
(1) هذا الحديث ضعيف قال الزيلعي في نصب الراية 2 \ 355، والحاصل أن الحديث معلول فإن كان أيمن صحابيا فعطاء ومجاهد لم يدركاه فهو منقطع وإن كان تابعيا فالحديث مرسل لكنه يتقوى بغيره من الأحاديث المرفوعة والموقوفة.
(2) سورة النساء الآية 11
(3) رواه ابن ماجه في كتاب الديات، باب القاتل لا يرث 2 \ 883 - 884، وقال في الزوائد: إسناده حسن.
(4) سورة النور الآية 2
(5) رواه مسلم في كتاب الحدود باب حد الزنى 3 \ 1316.(20/252)
2 - قال تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1) .
أمرنا الله سبحانه وتعالى بالطواف بالبيت - المقصود بالطواف في الآية طواف الإفاضة - ثم جاءت السنة فاشترطت الطهارة للطواف، فقال صلى الله عليه وسلم: «الطواف حول البيت مثل الصلاة إلا أن الله سبحانه أحل فيه الكلام فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير (2) » .
الرابعة: أن تكون السنة مثبتة ومنشئة حكما سكت عنه القرآن.
ومن أمثلة ذلك:
أ - وجوب صدقة الفطر. عن ابن عمر قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة (3) » .
2 - القضاء بشاهد ويمين في الأموال «عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد (4) » .
وفي رواية لأحمد: إنما كان ذلك في الأموال (5) .
3 - تحريم لبس الذهب والحرير على الرجال.
عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم (6) » .
__________
(1) سورة الحج الآية 29
(2) رواه الترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في الكلام في الطواف 3 \ 284.
(3) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب صدقة الفطر على العبد وغيره من المسلمين 2 \ 138.
(4) رواه مسلم في كتاب الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد 3 \ 1337.
(5) مسند أحمد 1 \ 323.
(6) رواه الترمذي في كتاب اللباس، الباب الأول، وقال حديث أبي موسى حسن صحيح، انظر عارضة الأحوذي بشرح الترمذي 7 \ 219، 223. وفي الباب أحاديث صحيحة في كتاب اللباس في صحيح البخاري.(20/253)
4 - جواز المسح على الخفين:
عن خزيمة بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن المسح على الخفين، فقال: «للمسافر ثلاثة وللمقيم يوم (1) » .
هذا وقد ذكر الشافعي رحمه الله في رسالته صورا ثلاثة واعتبر الصورة الثالثة والرابعة التي ذكرتها صورة واحدة، فقال: " لم أعلم من أهل العلم مخالفا في أن سنن النبي صلى الله عليه وسلم من ثلاثة وجوه فاجتمعوا منها على وجهين والوجهان يجتمعان ويتفرعان أحدهما: ما أنزل الله عز وجل فيه نص كتاب. فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما نص الكتاب، والآخر: مما أنزل الله عز وجل فيه جملة كتاب فبين عن الله معنى ما أراد وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما، والوجه الثالث ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ليس فيه نص كتاب (2) .
دلالة فعل الرسول صلى الله عليه وسلم على الحكم الشرعي.
قبل بيان أقسام أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وما يعتبر تشريعا منها وما لا يعتبر، لا بد من بيان ما يلي:
1 - خصوصياته صلى الله عليه وسلم.
2 - معنى التأسي والمتابعة والموافقة، ثم بعد ذلك أبين دلالة أفعال النبي صلى الله عليه وسلم على الحكم الشرعي.
__________
(1) رواه الترمذي في أبواب الطهارة، باب المسح على الخفين للمسافر وللمقيم 1 \ 158، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(2) الشافعي الرسالة ص91 - 92.(20/254)
خصوصيات الرسول صلى الله عليه وسلم
خصوصياته صلى الله عليه وسلم ثلاثة أنواع:
1 - الواجبات في حقه صلى الله عليه وسلم.
أمثلة ذلك:
أ - التهجد في الليل: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} (1) {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} (2) .
ب - تخيير نسائه: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (3) .
2 - المحرمات في حقه صلى الله عليه وسلم:
أ - تحريم التبدل بأزواجه: قال تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} (4) .
قال أبو السعود في تفسير الآية: روي عن ابن عباس أنه قال: المراد من بعد من عندك من النساء اللواتي اخترنك على الدنيا ويكون ذلك قصر النبي صلى الله عليه وسلم على أزواجه مجازاة لهن وشكرا على هذا الاختيار كما
__________
(1) سورة المزمل الآية 1
(2) سورة المزمل الآية 2
(3) سورة الأحزاب الآية 28
(4) سورة الأحزاب الآية 52(20/255)
قصرهن عليه إكراما له في قوله: {وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} (1) .
ب - تحريم أكل الأطعمة كريهة الرائحة:
عن أم أيوب قالت: صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما فيه من بعض البقول، فلم يأكل، وقال: «إني أكره أن أوذي صاحبي (2) » .
3 - الجائزات في حقه صلى الله عليه وسلم:
أ - أخذ خمس خمس الغنيمة.
تقسم الغنائم إلى خمسة أقسام، أربعة منها تعطى للمقاتلين والخمس الآخر يوزع كما أمرت آية الأنفال {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (3) .
ب - أخذ خمس الفيء:
قال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (4) .
ج - عدم انتقاض وضوئه من النوم:
(عن ابن عباس قال: «نمت عند ميمونة والنبي صلى الله عليه وسلم عندها تلك
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 53
(2) رواه ابن ماجه في كتاب الأطعمة، باب أكل الثوم والبصل والكراث 2 \ 1116، وانظر البخاري كتاب الأذان، باب ما جاء في الثوم النيء والبصل والكراث 1 \ 207 - 208.
(3) سورة الأنفال الآية 41
(4) سورة الحشر الآية 7(20/256)
الليلة فتوضأ، ثم قام يصلي فقمت عن يساره فأخذني فجعلني عن يمينه فصلى ثلاث عشرة ركعة، ثم نام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ، ثم أتاه المؤذن فخرج فصلى ولم يتوضأ (1) » .
د - الوصال في الصوم:
أي استمرار الامتناع عن الطعام والشراب أكثر من يوم، وقد علل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: «وأيكم مثلي؛ إني أبيت يطعمني ربي ويسقين (2) » .
هـ - الزيادة على أربع نسوة:
ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أكثر من أربع نسوة ومات عن تسع نساء هن: عائشة، حفصة، أم حبيبة، سودة، أم سلمة، صفية، ميمونة، زينب، جويرية.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب إذا قام الرجل عن يسار الإمام 1 \ 171. وانظر الشوكاني، نيل الأوطار 1 \ 227.
(2) رواه البخاري، في كتاب، الصوم باب التنكيل لمن أكثر الوصال 2 \ 242 - 243.(20/257)
معنى التأسي والمتابعة والموافقة.
التأسي قد يكون في الفعل وقد يكون في الترك.
التأسي في الفعل: أن تفعل كما فعل صلى الله عليه وسلم؛ لأجل أنه فعل وعلى الوجه الذي فعل.
التأسي في الترك: أن تترك ما ترك صلى الله عليه وسلم؛ لأجل أنه ترك.
وأما المتابعة فقد تكون في القول وقد تكون في الفعل وقد تكون في الترك.(20/257)
فاتباع القول: امتثاله على الوجه الذي اقتضاه. وأما المتابعة في الفعل وفي الترك فهي التأسي. وبذلك يظهر أن المتابعة أعم من التأسي. وأما الموافقة: فهي أعم من المتابعة والتأسي؛ لأنها مشاركة أحد شخصين للآخر في صورة قول أن فعل أو ترك أو اعتقاد، سواء كان من أجل ذلك الغير أو ليس من أجله (1) .
__________
(1) راجع هذه المصطلحات في: ابن النجار، شرح الكوكب المنير 2 \ 196. الآمدي، الأحكام 1 \ 172.(20/258)
دلالة فعل الرسول صلى الله عليه وسلم
على الحكم الشرعي.
يمكن تقسيم أفعال النبي صلى الله عليه وسلم إلى خمسة أقسام:.
1 - ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى الطبيعة الجبلية لا يعتبر تشريعا للأمة وهو على الإباحة؛ كالقيام والقعود والأكل ونحوه.
2 - ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى الخبرة الإنسانية والحذق والتجارب فهو كسابقة ليس تشريعا للأمة.
مثاله: نزول الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر عند أدنى ماء من مياه بدر «فقال الحباب بن المنذر: يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم ولا أن نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الحرب والرأي والمكيدة، فقال: ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزل، ثم نغور ما وراءه من الآبار، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء(20/258)
ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحول إلى المكان والرأي الذي أشار به الحباب رضي الله عنه (1) » .
3 - ما ثبت خصوصيته للرسول صلى الله عليه وسلم بدليل فهو خاص به.
4 - إذا كان فعله صلى الله عليه وسلم بيانا لواجب مجمل ثبت في القرآن فيجب علينا ذلك الفعل كبيان صفة الصلاة وركعاتها.
وإذا كان فعله بيانا لمندوب فهو مندوب، وإذا كان بيانا لمباح فهو مباح، أي أن الفعل المبين يأخذ حكم المبين.
5 - إذا لم يكن فعله واحدا مما سبق فهو على وجهين:
أ - أن يظهر فيه قصد القربة: والراجح في هذا الفعل أنه مندوب ومثاله:
- اعتكاف الرسول صلى الله عليه وسلم العشر الأواخر من رمضان عن ابن عمر قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان (2) » .
قال النووي (وتأكد استحبابه - أي الاعتكاف - في العشر الأواخر من رمضان، وقد أجمع المسلمون على استحبابه، وأنه ليس بواجب) (3) .
__________
(1) قال البوطي في فقه السيرة ص169 تعليقا على هذه الرواية: (روى ابن هشام في سيرته حديث الحباب بن المنذر هذا عن ابن إسحاق، عن رجال من بني سلمة، فهي فيما رواه ابن هشام رواية عن قوم مجهولين. وذكر الحافظ ابن حجر هذا الحديث في الإصابة، فرواه عن ابن إسحاق، عن يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير وغير واحد في قصة بدر. وهذا سند صحيح والحافظ ابن حجر ثقة فيما ينقل ويروي، راجع الإصابة 1 \ 302) .
(2) رواه البخاري في كتاب أبواب الاعتكاف باب الاعتكاف في العشر الأواخر 2 \ 255.
(3) شرح النووي على صحيح مسلم 8 \ 67.(20/259)
- سجدة التلاوة:
عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يقرأ القرآن فيقرأ سورة فيها سجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد بعضنا موضعا لمكان جبهته (1) » .
وقد ذهب المالكية (2) . والشافعية (3) . والحنابلة (4) إلى أن سجدة التلاوة سنة. وذهب الحنفية إلى أن سجدة التلاوة واجبة على من تلاها وعلى من سمعها (5) . ووجوب سجدة التلاوة عند الحنفية ليس دليله فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، بل دليله السنة القولية (6) .
ب - أن لا يظهر فيه قصد القربة: والراجح في هذا الفعل أنه مباح (7) .
ومن أمثلة ذلك:
- تقبيل الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض أزواجه وهو صائم.
عن عائشة قالت: «إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقبل بعض أزواجه وهو صائم (8) » .
- لبس خاتم الفضة:
(عن ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ذهب أو فضة
__________
(1) رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب سجود التلاوة 1 \ 405.
(2) الخرشي، شرح مختصر خليل 1 \ 350 - 351.
(3) الشربيني، مغني المحتاج 1 \ 214.
(4) مجد الدين ابن تيمية، المحرر في الفقه 1 \ 79.
(5) الكاساني، بدائع الصنائع 1 \ 476.
(6) انظر المصدر نفسه 1 \ 476.
(7) ابن النجار، شرح الكوكب المنير 2 \ 189.
(8) صحيح البخاري كتاب الصوم باب القبلة للصائم 2 \ 233.(20/260)
وجعل فصه مما يلي كفه ونقش فيه محمد رسول الله فاتخذ الناس مثله، فلما رآهم اتخذوها رمى به، وقال: لا ألبسه أبدا، ثم اتخذ خاتما من فضة (1) » . . . . إلى غير ذاك من الأمثلة الكثيرة.
__________
(1) صحيح البخاري كتاب اللباس باب خاتم الفضة 7 \ 51.(20/261)
تقسيم السنة من حيث وصولها إلينا
تقسم أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث وصولها إلينا عند الجمهور إلى قسمين:
أ - أحاديث متواترة.
ب - أحاديث آحاد.
وقد زاد الحنفية قسما ثالثا وهو الأحاديث المشهورة.
الحديث المتواتر: هو ما رواه جمع غفير عن مثله إلى منتهاه، تحيل العادة تواطؤهم على الكذب. ومثلوا للحديث المتواتر بقوله صلى الله عليه وسلم: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (1) » .
قال ابن الصلاح عن هذا الحديث: رواه اثنان وستون من الصحابة، وقال غيره: رواه أكثر من مائة نفس (2) .
والتواتر قسمان: تواتر لفظي، وتواتر معنوي.
__________
(1) متفق عليه. انظر صحيح البخاري كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم 1 \ 35. ورواه مسلم في المقدمة باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم 1 \ 10.
(2) السيوطي، تدريب الراوي 2 \ 177.(20/261)
فالتواتر اللفظي: ما اتفق الرواة على لفظه، ومثاله قوله صلى الله عليه وسلم: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (1) » .
التواتر المعنوي: ما اختلفت روايته في اللفظ من جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب مع وجود معنى كلي متفق عليه في روايته، ومثاله: رفع اليدين في الدعاء " (2) .
وأما خبر الآحاد الصحيح: فهو ما رواه العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة. وأمثلته كثيرة منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (3) » .
وأما الحديث المشهور فهو اصطلاح خاص بالحنفية وهو ما كان خبر آحاد في عصر الصحابة، ثم تواتر في عصر التابعين وتابعي التابعين، والحديث المشهور عند الحنفية كالمتواتر في القوة، يجوز أن ينسخ القرآن ويقيد مطلقه، ويخصص عمومه (إذا اقترن مع الآية) .
ومن أمثلة الحديث المشهور:
أ - قوله صلى الله عليه وسلم «لا وصية لوارث (4) » .
ب - قوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم (5) » . والمشهور الذي سبق ذكره والتمثيل له هو المشهور عند الأصوليين من الحنفية، وهو يختلف عن المشهور عند المحدثين وعن المشهور عند النحاة، وعند العامة.
__________
(1) صحيح البخاري العلم (110) ، صحيح مسلم مقدمة (3) ، سنن الترمذي الرؤيا (2280) ، سنن أبو داود الأدب (4965) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3901) ، مسند أحمد بن حنبل (2/410) .
(2) محمد أديب، لمحات في أصول الحديث ص 91.
(3) رواه البخاري في كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي 1 \ 2.
(4) رواه أبو داود، في كتاب الوصايا، باب ما جاء في الوصية للوارث 3 \ 114 عن أبي أمامة. روى البخاري مثله بهذا المعنى في كتاب الوصايا باب لا وصية لوارث 3 \ 188، وقال الألباني في كتاب أحكام الجنائز ص7 (الهامش) : إن هذا الحديث متواتر.
(5) رواه مسلم في كتاب الحدود باب حد الزنى 3 \ 1316.(20/262)
- فالمشهور عند المحدثين: ما له أكثر من طريقين. ولم يبلغ حد التواتر، سمي بذلك لوضوحه، ويسمى مستفيضا. وفرق بعض علماء الحديث بين المشهور وبين المستفيض، فقالوا: المشهور ما اشتهر، والمستفيض: ما اشتهر في ابتدائه وانتهائه. ومثال المشهور عند المحدثين ما رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة (1) » .
- والمشهور عند أهل اللغة: مثاله «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» . قال العراقي وغيره: لا أصل له (2) .
- المشهور عند العامة: مثاله: «إن المستشار مؤتمن (3) » .
ومثاله «أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم (4) » .
ويلاحظ أن المشهور عند أهل اللغة أو العامة قد يكون صحيحا، وقد يكون ضعيفا.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب العلم، باب الماء الدائم 1 \ 65. وقد رواه البخاري في صحيحه من ثلاث طرق: الأولى: عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة 1 \ 65، 1 \ 211، 8 \ 40، 8 \ 197. الثانية: عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة 1 \ 216. الثالثة: عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة 7 \ 217، 8 \ 81.
(2) العجلوني، كشف الخفا 2 \ 323.
(3) جزء من حديث رواه الترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء في معيشة أصحاب النبي 4 \ 585.
(4) رواه الديلمي بسند ضعيف، عن ابن عباس، انظر العجلوني، كشف الخفا 1 \ 196.(20/263)
الاحتجاج بالحديث المرسل.
هناك فرق بين المرسل عند المحدثين وبين المرسل عند الأصوليين والمقصود بالمرسل هنا المرسل عند الأصوليين.(20/263)
المرسل عند المحدثين:
قول التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنهم من يخصه بالتابعي الكبير.
والمرسل عند المحدثين يغاير المنقطع والمعضل.
فالمنقطع عندهم: ما سقط من إسناده راو فأكثر لا على التوالي. ويعرف المنقطع بحسب كثرة الوقوع بأنه: ما رواه من دون التابعي عن الصحابة، والمعضل عندهم: ما سقط من إسناده اثنان فصاعدا في موضع واحد. فكل معضل منقطع وليس كل منقطع معضل.
أما المرسل عند الأصوليين: فهو قول العدل الثقة الذي لم يسمع من النبي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالمرسل عند الأصوليين يشمل المرسل عند المحدثين والمنقطع والمعضل (1) .
__________
(1) ابن الصلاح، مقدمته في علوم الحديث ص 25 - 29.(20/264)
آراء العلماء في الاحتجاج بالحديث المرسل.
1 - ذهب الحنفية والمالكية إلى أن المرسل حجة. وهو عندهم يشمل إرسال الصحابي الذي لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم وإرسال التابعي وإرسال تابع التابعي ولا يقبل إرسال من بعدهم (1) .
__________
(1) السرخسي، أصول السرخسي 1 \ 360. القرافي، شرح تنقيح الفصول ص379.(20/264)
2 - أما الشافعي فقد قسم الحديث المرسل إلى قسمين:
الأول: مرسل الصحابي وهو الحديث الذي يرويه الصحابي الصغير ويرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يسمعه منه عليه السلام. أي أن الصحابي الذي روى الحديث أسقط الصحابي الذي روى عنه. وهذا النوع من المرسل مقبول عند الشافعي.
الثاني: مرسل غير الصحابي، وهذا النوع مقبول عند الشافعي بشرطين:
1 - أن يكون المرسل من كبار التابعين الذين لقوا كثيرا من الصحابة.
2 - أن توجد قرينة تقوي سند الإرسال. ومن هذه القرائن:
أ - أن يروى الحديث الذي أرسله التابعي الكبير بطريق آخر صحيح مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ب - أن يروى الحديث الذي أرسله التابعي الكبير بطريق آخر مرسل قبله أهل العلم.
ج - أن يوافق الحديث الذي أرسله التابعي الكبير بعض ما يروى عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
د - أن يوافق الحديث الذي أرسله التابعي الكبير فتوى جماعات من أهل العلم.
وهذه القرائن مرتبة في القوة كترتيبها في الذكر؛ فأقواها الأولى فالثانية فالثالثة فالرابعة (1) .
أما ما يقال بأن الشافعي لا يحتج إلا بمراسيل سعيد بن المسيب
__________
(1) الشافعي، الرسالة ص461.(20/265)
فغير صحيح، وقد أشار النووي إلى أن مرسل سعيد بن المسيب حجة (1) .
3 - وذهب الحنابلة إلى حجية الحديث المرسل، إلا أن صورته عند الحنابلة تختلف عن صورته عند جمهور الأصوليين.
قال أبو يعلى الفراء: " الخبر المرسل حجة ويجب العمل به وصورته أن يترك الراوي رجلا في الوسط مثل أن يروي التابعي عن النبي، أو يروي تابعي التابعي عن الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم " (2) .
4 - وذهب أهل الحديث والإمام أحمد في رواية إلى أن المرسل ليس بحجة (3) . وقد تفرع على الاختلاف في حجية المرسل عدة أمثلة تطبيقية منها:
هل يجب القضاء على من أفسد صوم التطوع.
اختلف العلماء في هذه المسألة نتيجة لاختلافهم في حجية الحديث المرسل:
1 - فذهب الحنفية والمالكية إلى أن من صام متطوعا فأفطر فعليه قضاء ذلك اليوم واحتجوا بالحديث المرسل الذي رواه الزهري عن عائشة أنها قالت: «أهدي لحفصة طعام وكنا صائمتين فأفطرنا، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله، إنا أهديت لنا
__________
(1) النووي، المجموع 1 \ 104 - 105.
(2) أبو يعلى الفراء، العدة في أصول الفقه 3 \ 906.
(3) ابن النجار، شرح الكوكب المنير 2 \ 576.(20/266)
هدية واشتهيناها فأفطرنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا عليكما صوما مكانه يوما آخر (1) » .
2 - وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه لا قضاء على من أفسد صوم التطوع ورد الشافعية الحديث؛ لأنه مرسل لم تتوفر فيه الشروط. واستدلوا بالحديث الذي رواه البخاري «آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال: كل. قال: فإني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل. قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم. قال: نم. فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال سلمان قم الآن. فصليا فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان (2) » .
وجه الاستدلال: لو كان قضاء اليوم واجبا لأمر عليه السلام أبا الدرداء بالقضاء، ولما لم يأمره بذلك دل على أن القضاء غير واجب؛ لأن السكوت في معرض الحاجة إلى بيان بيان.
وقد يسأل سائل: إن الحنابلة يحتجون بالحديث المرسل فلماذا لم يعملوا به هنا؟ والجواب على ذلك أنه لما وجد حديث صحيح لم يعد للعمل بالمرسل مجال، فهم وغيرهم من الأئمة يعملون بالمرسل إذا أعوزهم الحديث الصحيح.
__________
(1) رواه مالك في الموطأ في كتاب الصوم، باب قضاء التطوع 1 \ 306. ورواه أبو داود في كتاب الصوم، باب من رأى عليه القضاء 2 \ 330.
(2) رواه البخاري في صحيحه في كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع 2 \ 243.(20/267)
أما لماذا عمل الحنفية والمالكية بالمرسل ولم يعملوا بالحديث الصحيح، فلأن الحديث الصحيح لم يبلغهم من جهة أو أنه بلغهم لكنه لا يدل على عدم وجوب القضاء عندهم.
وسنجد عند ذكرنا للمسائل التطبيقية على القواعد الأصولية المختلف فيها أن بعض الأئمة قد يقول في مسألة بما يخالف الأصل المقرر عنده. وليس ذلك تناقضا أو تراجعا عن أصله، بل يكون قد ورد عدة أدلة جزئية رجحها الإمام على الأصل المقرر عنده في تلك المسألة.(20/268)
خبر الواحد الصحيح إذا خالف القياس.
تحرير محل النزاع في هذه المسألة:
الخلاف بين العلماء في حجية خبر الواحد الصحيح إذا خالف القياس الذي تكون علته مستنبطة من أصل قطعي، وليس القياس مطلقا (1) .
وفيما يلي آراء العلماء في هذه المسألة:
1 - ذهب الشافعية والحنابلة وجمهور أئمة الحديث إلى ترجيح الخبر على القياس، سواء كان الراوي عالما فقيها أو لم يكن، بشرط أن يكون عدلا ضابطا (2) .
2 - وذهب الحنفية إلى أن خبر الواحد مقدم على القياس إذا كان راويه فقيها، أما إذا كان راويه غير فقيه فالقياس عندهم مقدم على خبر الواحد (3) .
__________
(1) عبد العزيز البخاري، كشف الأسرار 2 \ 377.
(2) الآمدي، الأحكام 2 \ 118، ابن النجار، شرح الكوكب المنير 2 \ 369.
(3) عبد العزيز البخاري، كشف الأسرار 2 \ 377.(20/268)
3 - وذهب المالكية إلى أن القياس مقدم على خبر الواحد مطلقا (1) . وقد نفى ابن السمعاني أن يكون مذهب الإمام مالك تقديم القياس على خبر الواحد، وقال بعد عزو هذا المذهب لمالك: " وهذا القول باطل سمج مستقبح وأنا أجل منزلة مالك عن مثل هذا القول ولا يدري ثبوته.
والراجح في هذه المسألة تقديم خبر الواحد على القياس لما يأتي:
1 - إن عمر بن الخطاب كان يقسم ديات الأصابع على قدر منافعها، ثم تراجع عن ذلك لحديث الرسول عليه السلام «هذه وهذه سواء يعني الخنصر والإبهام (2) » .
ولقوله عليه السلام: «الأصابع سواء عشرة عشرة من الإبل (3) » .
2 - إن عمر بن الخطاب كان يرى أن الدية للعاقلة، وأن المرأة لا ترث من دية زوجها بناء على أن الخراج بالضمان، فكما أنها لا تسهم معه في دفع الدية إذا قتل غيره لا تأخذ من ديته إذا قتل، ثم ترك رأيه رضي الله عنه عندما أرسل إليه الضحاك بن سفيان الكلابي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورث امرأة أشيم الضبابي رضي الله عنه من دية زوجها (4) » .
__________
(1) القرافي، شرح تنقيح الفصول ص 387.
(2) رواه البخاري في كتاب الديات، باب دية الأصابع 8 \ 41. وأما الأثر الذي روي عن عمر في دية الأصابع فقد ذكره الشافعي في الرسالة ص 422.
(3) رواه أبو داود في كتاب الديات، باب ديات الأعضاء 4 \ 188.
(4) رواه الترمذي في كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث المرأة من دية زوجها، وقال حديث حسن صحيح 4 \ 245 - 426.(20/269)
3 - عن جابر «أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى ولكل واحدة منها زوج وولد، فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة، وبرأ زوجها وولدها، قال: فقال عاقلة المقتولة: ميراثها لنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، ميراثها لزوجها وولدها (1) » .
[وعندما سمع عمر بن الخطاب بحديث الرسول هذا قال: " الله أكبر لو لم أسمع بهذا لقضينا بغير هذا"] (2) .
أي لقضى رضي الله عنه بالمعقول ولقال: من يدفع الدية يأخذ التركة.
وقضاء عمر بما ثبت عن رسول الله بعد تراجعه عن رأيه وعدم إنكار ذلك من أحد من الصحابة يعد إجماعا منهم على تقديم الخبر الصحيح على المعقول والقياس.
4 - الخبر يقين بأصله؛ لأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم وحي من الله، لا احتمال للخطأ فيه وإنما الشبهة في نقل هذا الخبر، أما القياس ففيه أكثر من شبهة، فهو أولا يعتمد على الخبر غالبا ويحتمل خطأ المجتهد في إلحاق الفرع بالأصل، ويحتمل خطأ المجتهد في معرفة العلة وغير ذلك.
وقد انبنى على الاختلاف في حجية خبر الواحد إذا خالف القياس عدة مسائل تطبيقية منها:
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الديات، باب دية الجنين 4 \ 192 حديث رقم 4575.
(2) رواه أبو داود في كتاب الديات، باب دية الجنين 4 \ 192 حديث رقم 4573.(20/270)
1 - مسألة المصراة:
المصراة: هي الناقة أو الشاة التي يترك صاحبها حلبها ليجتمع لبنها في ضرعها لإيهام المشتري بكثرة لبنها.
ذهب جمهور. الفقهاء إلى ثبوت الخيار في بيع المصراة وإن المشتري له أن يرد المصراة وصاعا من تمر عوضا عن اللبن الذي حلبه، واستدلوا لذلك بما رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
«لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد، فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاع تمر (1) » .
وذهب الحنفية إلى أن لا يرد بعيب التصرية ولم يعملوا بالحديث لمخالفته القياس، ولأن راويه غير فقيه.
قال في كشف الأسرار: " وعندنا التصرية ليست بعيب ولا يكون للمشتري ولاية الرد بسببها " (2) .
وجه مخالفة الحديث القياس عند الحنفية:
الأصل أن يرد المشتري المصراة واللبن الذي حلبه، وإن شرب اللبن أو فسد عنده وجب عليه رد مثله أو قيمته؛ لأن الله يقول: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (3) أما قولنا يرد المشتري المصراة وصاع تمر فهذا مخالف للقياس.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب البيوع، باب النهي للبائع أن لا يحفل الإبل والبقر 3 \ 25، وقال الكرماني في شرحه للبخاري 10 \ 30: (أن لا يحفل) ، فإن قلت: هل يجب كون كلمة لا زائدة؟ قلت: لا؛ لاحتمال أن تكون مفسره، (ولا يحفل) بيانا للنهي.
(2) عبد العزيز البخاري، كشف الأسرار 2 \ 381.
(3) سورة البقرة الآية 194(20/271)
خبر الواحد الصحيح إذا نسيه الراوي أو عمل بخلافه.
ذهب جمهور علماء الأصول إلى حجية خبر الواحد إذا نسيه الراوي أو عمل بخلافه (1) .
وذهب الحنفية إلى عدم حجية خبر الواحد إذا نسيه الراوي أو عمل بخلافه.
والراجح في هذه المسألة مذهب الجمهور لما يأتي:
1 - روى ربيعة بن أبي عبد الرحمن حديث الشاهد واليمين، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، ثم نسي سهيل هذا الحديث فكان يقول:
حدثني ربيعة عني أني حدثته عن أبي عن أبي هريرة. ولم ينكر أحد من التابعين على سهيل ذلك، فدل على أن خبر الواحد حجة وإن أنكره الراوي أو نسيه.
2 - صنف الإمام علي بن عمر الدارقطني جزءا فيمن نسي، ثم روى عمن روى عنه. وهذا يدل على قبول هذا الأمر عند العلماء وإلا لأنكر العلماء ذلك على الإمام الدارقطني.
3 - الموت أعظم من النسيان، فكما لا يبطل خبر من يموت فكذا لا يبطل خبر من ينسى.
5 -، وأما الدليل على قبول خبر الواحد وإن عمل الراوي بخلافه فهو أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم حجة، وقول الراوي وفعله ليس بحجة فلم يجز العدول عما قوله حجة إلى ما لا حجة في قوله وفعله. وقد
__________
(1) عبد العزيز البخاري، كشف الأسرار 3 \ 381.(20/272)
انبنى على اختلاف العلماء في هذه القاعدة عدة مسائل تطبيقية منها:
1 - مسألة: القضاء بشاهد ويمين في الأموال:
اختلف العلماء في هذه المسألة على رأيين:
فذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى جواز القضاء بشاهد ويمين في الأموال. واستدلوا على ذلك بما رواه أبو داود " حدثنا أحمد بن أبي بكر أبو مصعب الزهري، ثنا الدراوردي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة (أن «النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد (1) » . قال أبو داود: وزادني الربيع بن سليمان المؤذن في هذا الحديث قال: أخبرني الشافعي عن عبد العزيز، قال: فذكرت ذلك لسهيل، فقال: أخبرني ربيعة وهو عندي ثقة أني حدثته إياه. . .) (2) .
وذهب الحنفية إلى عدم جواز القضاء بشاهد ويمين وردوا حديث سهيل بن أبي صالح؛ لأنه نسيه.
2 - مسألة النكاح بغير ولي:
اختلف العلماء في هذه المسألة على رأيين:
__________
(1) سنن الترمذي الأحكام (1343) ، سنن أبو داود الأقضية (3610) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2368) .
(2) رواه أبو داود في كتاب الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد 3 \ 309.(20/273)
فذهب المالكية (1) والشافعية (2) والحنابلة (3) إلى أن النكاح لا ينعقد بغير ولي لما رواه الزهري عن عائشة؛ «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل (4) » ، وذهب الحنفية إلى أن عقد النكاح يصح بغير ولي بشرط أن يكون الزوج كفؤا. وردوا حديث عائشة لسببين.
الأول: أنها عملت بخلاف روايتها وزوجت بنت أخيها عبد الرحمن وهو غائب في الشام.
الثاني: في إسناد هذا الحديث الزهري، وقد سئل عنه، فقال: لا أعرفه.
__________
(1) الخرشي على مختصر خليل 3 \ 176.
(2) الخطيب الشربيني، تحفة المحتاج 7 \ 236.
(3) البهوتي، كشاف القناع 5 \ 48.
(4) رواه الترمذي في كتاب النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي 3 \ 399، وقال حديث حسن.(20/274)
الاحتجاج بخبر الواحد الصحيح فيما تعم به البلوى.
المقصود بخبر الواحد فيما تعم به البلوى أن يرد خبر آحاد صحيح في مسألة تهم جميع المسلمين أو أكثرهم وهم معرضون للوقوع فيها والسؤال عن حكمها.
اختلف العلماء في هذه المسألة على رأيين:
الأول: مذهب أبي الحسن الكرخي من متقدمي الحنفية، واختيار المتأخرين منهم أن خبر الواحد فيما تعم به البلوى ليس بحجة (1) .
__________
(1) عبد العزيز البخاري، كشف الأسرار 3 \ 16.(20/274)
الثاني: مذهب جمهور علماء الأصول الاحتجاج بخبر الواحد فيما تعم به البلوى (1) .
والراجح في هذه المسألة مذهب الجمهور لما يأتي:
أ - قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (2) .
قال الفخر الرازي في تفسيره: " والذي نقوله هاهنا: إن كل ثلاثة فرقة، وقد أوجب الله تعالى أن يخرج من كل فرقة طائفة، والخارج من الثلاثة يكون اثنين أو واحدا، فوجب أن يكون الطائفة إما اثنين وإما واحدا، ثم إنه تعالى أوجب العمل بأخبارهم؛ لأن قوله: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} (3) عبارة عن أخبارهم، وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (4) إيجاب على قومهما أن يعملوا بأخبارهم وذلك يقتضي أن يكون خبر الواحد أو الاثنين حجة في الشرع ".
ولم يفرق الشارع كما ترى بين الإنذار فيما تعم به البلوى وغيره فوجب التسوية بينهما.
2 - رجوع الصحابة رضي الله عنهم القائلين بعدم وجوب الغسل بالتقاء الختانين من غير إنزال إلى خبر - عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل (5) » مع أن خبر عائشة هذا مما تعم به البلوى.
__________
(1) الآمدي، الأحكام 2 \ 112، ابن تيمية، المسودة ص215.
(2) سورة التوبة الآية 122
(3) سورة التوبة الآية 122
(4) سورة التوبة الآية 122
(5) هذا الحديث رواه الإمام مسلم في كتاب الحيض باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين 1 \ 272.(20/275)
3 - رجوع الصحابة رضي الله عنهم في المخابرة وكراء الأرض لخبر رافع بن خديج. فعن نافع أنه سمع ابن عمر يقول " كنا نكري أرضنا، ثم تركنا ذلك حين سمعنا حديث رافع بن خديج ".
وعن ابن عمر قال " كنا لا نرى بالخبر بأسا حتى كان عام أول فزعم رافع أن نبي الله نهى عنه " (1) .
وقد عد العلماء هذا الدليل والذي قبله إجماعا من الصحابة على وجوب العمل بخبر الواحد وإن كان مما تعم به البلوى.
4 - كما يجب قبول خبر الواحد فيما لا تعم به البلوى فكذا يجب قبول خبره فيما تعم به البلوى؛ لأن الرواية في كلتا الحالتين رواية عدل ثقة.
5 - لو كان خبر الواحد الذي تعم به البلوى غير مقبول لما جاز للحنفية القول بوجوب الوتر وبتثنية الإقامة وبنقض الوضوء من القهقهة في الصلاة، لكنهم قالوا بكل ذلك فوجب الأخذ بخبر الواحد الذي تعم به البلوى عندهم.
هذه أهم أدلة القائلين بقبول خبر الواحد فيما تعم به البلوى.
__________
(1) هذان الحديثان رواهما مسلم في كتاب البيوع، باب كراء الأرض 3 \ 1178 - 1179.(20/276)
وقد تفرع على اختلاف العلماء في هذه القاعدة اختلافهم في عدة مسائل منها:
حكم رفع اليدين عند الركوع وعند القيام منه وذهب الشافعية (1) والحنابلة (2) إلى أن رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه سنة وحجتهم في ذلك ما رواه البخاري عن ابن عمر قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع ويفعل ذلك إذا رفع رأسه من الركوع ويقول: سمع الله لمن حمده، ولا يفعل ذلك في السجود (3) » .
وذهب الحنفية إلى أنه لا يسن للمصلي أن يرفع يديه عند الركوع وعند الرفع منه ولم يعملوا بحديث ابن عمر؛ لأنه خبر آحاد تعم به البلوى فكان من حقه أن يشتهر (4) .
أما المالكية فمذهبهم كالحنفية ولم يبلغهم خبر ابن عمر المذكور قال الإمام مالك: (لا أعرف رفع اليدين في شيء من تكبير الصلاة؛ لا في خفض ولا في رفع إلا في افتتاح الصلاة) (5) .
حسين مطاوع الترتوري.
__________
(1) النووي المجموع 3 \ 399.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 \ 183، 208.
(3) رواه البخاري في كتاب الأذان، باب رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع 1 \ 179 - 180.
(4) عبد العزيز البخاري، كشف الأسرار 3 \ 18، السرخسي، أصول 1 \ 369 الموصلي، الاختيار 1 \ 49.
(5) مالك، المدونة 1 \ 68.(20/277)
قائمة المراجع.
* الأشقر، محمد سليمان.
أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام الشرعية. مكتبة المنار الإسلامية بالكويت 1978 م. الطبعة الأولى.
* الأصبحي، مالك بن أنس بن مالك، توفي سنة 179 هـ.
المدونة الكبرى.
طبع دار السعادة بمصر، والناشر دار صادر ببيروت.
- الموطأ، صححه ورقمه وخرج أحاديثه وعلق عليه: محمد فؤاد عبد الباقي. طبع دار إحياء الكتب العربية.
* الآمدي، أبو الحسن علي بن محمد، توفي سنة 631 هـ.
الإحكام في أصول الأحكام.
تعليق عبد الرزاق عفيفي، الطبعة الأولى سنة 1387هـ.
* - الأنصاري، عبد العلي محمد بن نظام الدين، توفي سنة 1225 هـ.
فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت - مطبوع مع كتاب المستصفى الطبعة الأولى، المطبعة الأميرية سنة 1322هـ.
الناشر دار صادر بيروت.
* البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل،، توفي سنة 256 هـ.
* الجامع الصحيح المسند المختصر من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه المكتبة الإسلامية، إستانبول.
* البخاري، عبد العزيز بن أحمد بن محمد، علاء الدين، توفي سنة 730 هـ.
كشف الأسرار عن أصول البزدوي. طبع دار الكتاب العربي بيروت وسنة 1974م.(20/278)
* البصري، أبو الحسين، محمد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي، توفي 436 هـ.
المعتد في أصول الفقه، تحقيق: محمد حميد الله، محمد بكر، حسن حنفي. طبع المعهد العلمي الفرنسي بدمشق سنة 1384هـ.
* البهوتي، منصور بن يونس بن إدريس، توفي سنة 1051هـ.
- كشف القناع عن متن الإقناع.
الناشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض.
- شرح منتهى الإيرادات المسمى دقائق أولي النهى لشرح المننتهى، عالم الكتب بيروت.
* البوطي، محمد سعيد رمضان.
فقه السيرة، الطبعة السابعة سنة 1978م.
* الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة، توفي سنة 297 هـ. سنن الترمذي.
تحقيق: أحمد شاكر، محمد فؤاد عبد الباقي، إبراهيم عطوة عوض، مطبعة مصطفى الحلبي، الطبعة الثانية سنة 1388هـ.
* ابن تيمية، أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن الخضر، مجد الدين، توفي سنة 652 هـ.
المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، مطبعة السنة المحمدية سنة 1950م.
* ابن تيمية، أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن الخضر، مجد الدين، توفي سنة 652 هـ، أبو المحاسن عبد الحليم بن عبد السلام، شهاب الدين، توفي سنة 682 هـ؛ أبو العباس أحمد بن عبد الحليم، شيخ الإسلام، تقي الدين، توفي سنة 728 هـ.
المسودة في أصول الفقه.(20/279)
تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة المدني بالقاهرة.
* ابن تيمية، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم، شيخ الإسلام، تقي الدين، توفي سنة 728 هـ.
الفتاوى.
مطابع الرياض، الطبعة الأولى 1382 هـ.
* الجصاص، أبو بكر أحمد بن علي، توفي سنة 37 هـ.
أحكام القرآن، الطبعة الثانية الناشر دار المصحف.
* الجوهري، إسماعيل بن حماد، توفي سنة 393 هـ.
الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية) .
تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، الناشر دار العلم للملايين، طبع بيروت سنة 1979 م.
* ابن الحاجب، عثمان بن عمر، توفي سنة 646 هـ.
مختصر المنتهى ومعه شرح العضد.
مراجعة وتصحيح: شعبان محمد إسماعيل، الناشر مكتبة الكليات الأزهرية سنة 1973م.
* ابن حجر، أبو الفضل أحمد بن علي بن علي بن محمد، شهاب الدين، توفي سنة 852هـ،
الدارية في تخريج أحاديث الهداية، مطبعة الفجالة بمصر، الناشر عبد الله هاشم يماني، المدينة المنورة.
* ابن حزم، أبو محمد علي بن أحمد بن أحمد بن سعيد، توفي سنة 456 هـ الإحكام في أصول الأحكام، مطبعة الإمام بالقاهرة.
* ابن حنبل، أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني، توفي سنة 241هـ.(20/280)
المسند - مطبوع بهامشه كنز العمال -
طبع المكتب الإسلامي، الناشر دار صادر بيروت.
الخرشي، محمد بن عبد الله بن علي، توفي سنة 1101هـ.
شرح الخرشي على مختصر خليل - ومعه حاشية العدوي.
طبع دار صادر - بيروت.
خلاف، عبد الوهاب، توفي سنة 1956م.
علم أصول الفقه، طبع دار القلم بالكويت.
* الدومي، عبد القادر أحمد بن مصطفى بدران الدمشقي، توفي سنة 1346 هـ.
نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر، المطبعة السلفية بمصر، سنة 1342 هـ.
* الرازي، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين، توفي سنة 606 هـ.
- التفسير الكبير، طبع دار الكتب العلمية بطهران.
- المحصول في علم الأصول، تحقيق طه جابر فياض، الناشر: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سنة 1399هـ.
* الزنجاني، محمود بن أحمد بن محمود، توفي سنة 656 هـ.
تخريج الفروع على الأصول، تحقيق: محمد أديب الصالح، الطبعة الثالثة، مؤسسة الرسالة سنة 1979م.
* الزيلعي، أبو محمد عبد الله بن يوسف، توفي سنة 762 هـ.
نصب الراية لأحاديث الهداية، الطبعة الأولى، مطبعة دار المأمون بمصر سنة 1357هـ.
* السجستاني، أبو داود سليمان بن الأشعث الأزدي، توفي سنة 275 هـ.
سنن أبي داود، الطبعة الأولى، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، سنة 1371هـ.(20/281)
* السرخسي، أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل، توفي سنة 490هـ.
أصول السرخسي، طبع دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت سنة 1393 هـ.
أبو السعود، أبو السعود بن محمد العمادي، توفي سنة 982 هـ.
تفسير أبو السعود، أو إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب.
تحقيق: عبد القادر أحمد عطا، الناشر مكتبة الرياض الحديثة.
* السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، توفي سنة 911 هـ.
تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، تحقيق: عبد اللطيف عبد الوهاب.
الطبعة الثانية سنة 1966م، دار الكتب الحديثة بمصر.
* الشافعي، محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان المطلبي، توفي سنة 204 هـ.
الرسالة، تحقيق أحمد شاكر.
الطبعة الأولى سنة 1358هـ، مطبعة مصطفى الحلبي.
* الشربيني، محمد بن أحمد، توفي سنة 977هـ.
مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج.
الناشر: المكتبة الإسلامية.
* الشوكاني، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله، توفي سنة 1250هـ.
إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول.
طبع دار الفكر.
- نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأبرار.
الطبعة الأخيرة بمطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر.(20/282)
* الشيرازي، أبو إسحاق إبراهيم بن لجما الفيروزآبادي، توفي سنة 476 هـ.
التبصرة في أصول الفقه.
تحقيق: محمد حسن هيتو، طبع دار الفكر بدمشق سنة 1980م.
* صالح، محمد أديب.
لمحات في أصول الحديث.
الطبعة الثالثة سنة 1399هـ، المكتب الإسلامي.
* ابن الصلاح، أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن، توفي سنة 642 هـ.
مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث.
دار الكتب العلمية - بيروت سنة 1978م.
* الصنعاني، محمد بن إسماعيل الكحلاني المعروف بالأمير، توفي سنة 1182هـ.
سبل السلام شرح بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام.
الطبعة الرابعة، دار إحياء التراث العربي سنة 1160م.
* الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، توفي سنة 310 هـ.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن.
تحقيق: محمود شاكر، طبع دار المعارف بمصر.
* العجلوني، إسماعيل بن محمد، توفي سنة 1162هـ.
كشف الخفا ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس.
نشر وتوزيع مكتبة التراث الإسلامي بحلب.
* العمري، نادية شريف.
أضواء على الثقافة الإسلامية.
الطبعة الأولى سنة 1981م، مؤسسة الرسالة بيروت.(20/283)
* أبو عمشة، مفيد محمد محمود.
أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وتقريراته ودلالتها على الأحكام الشرعية.
رسالة ماجستير مقدمة لجامعة أم القرى بمكة سنة 1397 هـ.
* الغزالي، محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي، توفي سنة 505 هـ.
- المستصفى من علم الأصول - مطبوع معه فواتح الرحموت - المطبعة الأميرية ببولاق مصر سنة 1922 م، توزيع دار صادر.
- المنخول من تعليقات الأصول، تحقيق: محمد حسن هيتو، الطبعة الأولى.
* الفراء، أبو يعلى محمد بن الحسين، توفي سنة 458 هـ.
العدة في أصول الفقه.
تحقيق: أحمد مباركي، الطبعة الأولى سنة 1980 م.
مؤسسة الرسالة.
* القرافي، أبو العباس أحمد بن إدريس، توفي سنة 684 هـ.
شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول.
الطبعة الأولى، مكتبة الكليات الأزهرية ودار الفكر سنة 1393 هـ.
* القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري، توفي سنة 671 هـ.
الجامع لأحكام القرآن.
طبعة مصورة عن طبعة دار الكتاب العربي بالقاهرة سنة 1387 هـ.
ابن القيم، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر، توفي سنة 751 هـ.
زاد المعاد في هدي خير العباد.
مطبعة السنة المحمدية.(20/284)
* الكاساني، أبو بكر بن مسعود بن أحمد، علاء الدين، توفي سنة 587 هـ.
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع.
الطبعة الثانية سنة 1394 هـ، الناشر دار الكتاب العربي بيروت.
* ابن ماجه، أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، توفي سنة 275 هـ.
سنن ابن ماجه.
تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، طبع دار إحياء الكتب العربية سنه 1372 هـ.
* المرغناني، علي بن أبي بكر بن عبد الجليل، توفي سنة 513 هـ.
الهداية شرح بداية المبتدي - مطبوع معه شرح فتح القدير والعناية.
- دار إحياء التراث العربي بيروت.
* ابن النجار، محمد بن أحمد بن عبد العزيز، توفي سنة 972 هـ.
شرح الكوكب المنير.
تحقيق: محمد الزحيلي، نزيه حماد.
طبع دار الفكر بدمشق سنة 1400 هـ.
منشورات مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بمكة المكرمة.
* النسائي، أحمد بن شعيب بن علي بن سنان، توفي سنة 303 هـ.
سنن النسائي - ومعه شرح السيوطي وحاشية السندي.
طبع المكتبة التجارية الكبرى بمصر.
* النووي، يحيى بن شرف بن مري بن حزام، توفي سنة 677 هـ.
المجموع شرح المهذب.
مطبعة الإمام بمصر، الناشر زكريا علي يوسف.(20/285)
النيسابوري، أبو الحسين مسلم بن الحجاج القرشي، توفي سنة 261 هـ.
صحيح مسلم.
طبع دار إحياء التراث العربي بيروت.(20/286)
فتيا في حكم القيام والانحناء والألقاب
لشيخ الإسلام أحمد ابن تيمية رحمه الله
تحقيق: الشيخ الوليد بن عبد الرحمن الفريان
توطئة.
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، القائل {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (1) والصلاة والسلام، على من كان أحسن الناس خلقا (2) نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه.
أما بعد فإن حياة المسلم بجميع تفاصيلها: ممارسة عبادية وخلافة ربانية. حددت الشريعة المطهرة ضوابطها، ومعالمها وتكفلت بتمييز جوانبها وأشكالها. وفن معاملة الإنسان لبني جنسه - على كافة المستويات - باعتباره جانبا حيويا في حياة الفرد المسلم، حظي بنصيب وافر، من اهتمام النصوص الشرعية. روى عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إن من خياركم أحسنكم أخلاقا (3) » وعن أبي الدرداء رضي الله
__________
(1) سورة القلم الآية 4
(2) أخرجه البخاري 7 \ 119 ومسلم رقم 2150 عن أنس رضي الله عنه.
(3) أخرجه البخاري 7 \ 82 ومسلم رقم 2321 والترمذي رقم 1976 وأحمد في المسند 2 \ 161، 189، 193.(20/287)
عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق (1) » . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا (2) » . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم (3) » . وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا (4) » .
كل هذه النصوص، وغيرها، تؤكد مدى المكانة التي أولاها الإسلام للأخلاق الحسنة، وما تعود به على المجتمعات: من تماسك وترابط، وتراحم. والواقع أن الخلق الطيب يمثل في حقيقته، انعكاسا لما تعمر به النفوس: من معتقدات واتجاهات فكرية، وبقدر استقامتها تعتدل الأخلاق وتتزن. ولهذا نجد أنه كلما ازداد المسلم تمسكا بدينه، كان في مقابله نزوع إلى الكمال في الخلق والأدب. وقد اهتم السلف الصالح رضوان الله عليهم بالتأليف في هذا الجانب، ومعالجة جميع الظواهر التي تند عن الخط الإسلامي الأصيل. ومن تلك الرسائل القيمة هذه الفتيا في حكم القيام والانحناء والألقاب.
__________
(1) أخرجه الترمذي في السنن رقم 2003، 2004، وقال حديث صحيح وأخرجه أيضا أحمد في المسند 6 \ 442 وابن ماجه رقم 4799.
(2) أخرجه الترمذي في السنن رقم 1162، وقال: حديث حسن صحيح، وأحمد في المسند 2 \ 250، 472.
(3) أخرجه أبو داود رقم 4798، والخرائطي في المكارم ص 9.
(4) أخرجه الترمذي رقم 2019، وقال: حديث حسن، وأخرجه أحمد في المسند عن أبي ثعلبة 4 \ 193 وعن أبي هريرة 2 \ 369.(20/288)
موضوع الرسالة:
تضمنت الفتيا ثلاثة أسئلة فقهية مهمة.
الأول: عن حكم القيام للقادم. وهو مما تنازع الناس فيه فألف في إباحته أبو موسى الأصبهاني جزءا (1) . وأبو زكريا النووي (ت \ 676) ، وسماه الترخيص بالقيام لذوي الفضل والمزية من أهل الإسلام. أما شيخ الإسلام ابن تيمية فذهب إلى التفصيل كما سيأتي.
الثاني: عن حكم الألقاب التي ذاعت في تلك العهود.
الثالث: عن حكم الانحناء عند التحية، أو وضع الرأس على الأرض ونحو ذلك، وهذان التقليدان من المظاهر الجوفاء الزائفة، التي سرت وازدهرت إبان الضعف والتدهور. ولا زالت تعج بها بعض بقاع العالم الإسلامي، التي خضعت للاستعمار أو الحكم الجبري التعسفي المتسلط؛ لأن مثل هذه الممارسات المبتذلة لا يمكن أن تنمو، إلا في جو القهر والاستعباد؛ لبعدهما التام عن تعاليم الدين، وقيمه المثالية، التي لا ترضى للمسلم بالذلة والمهانة. وقد أفاض الشيخ، في جوابه عنها، على ضوء ما ورد في الكتاب والسنة وما قرره علماء الشريعة من أصول وقواعد عامة.
__________
(1) ذكره النووي في كتاب الترخيص بالقيام \ 47.(20/289)
المؤلف:
هو الإمام الحافظ المفسر المحدث المجتهد، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية. ولد في حران سنة 661 هـ وتوفي: بعد حياة حافلة بالعلم والجهاد سنة 728 هـ، وقد ألف عن حياته الجم الغفير من الكتب، من أقدمها وأجلها: كتاب ابن عبد الهادي (ت \ 744) المعروف، بالعقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية (1) . وكتاب أبي حفص البزار (ت \ 749) المعروف بالأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية (2) . تناولوا فيها حياة الشيخ بجميع مراحلها وألموا بأهم المنعطفات في سيرته العطرة، وصوروا مجالسه العلمية، وحلقاته الدراسية أصدق تصوير، وقاموا برصد رحلاته وأكثر مؤلفاته، ثم انثالت الكتب والدراسات المتخصصة بعد ذلك، وأخذ كل باحث بطرف.
وأين كان الأمر؟ فابن تيمية بحر متدفق. جمع الله له، مع سعة العلم ووفرته، القدرة على التأثير والكشف عن وجه الحق فيما اختلط على الناس. بأسلوب رصين، ومنهجية محكمة، بالإضافة إلى التطبيق العملي والجهر بالحق دون مداراة أو مواربة.
__________
(1) طبع في مطبعة المدني بمصر سنة 1403 هـ.
(2) طبع في دار الكتاب الجديد ببيروت سنة 1396 هـ.(20/290)
الأصل المعتمد:
اعتمدت في تحقيق الفتيا على نسختين مطبوعتين؛ إحداهما بعنوان، فتوى في القيام والألقاب. نشرها د. المنجد عن نسخة خطية في مجموعة يهودا المحفوظة بجامعة برنستن في الولايات المتحدة الأمريكية ورمزت لها بحرف (ب) .
والأخرى جاءت مفرقة، في مجموع فتاوى ابن تيمية المطبوع في الرياض: بين الجزء الأول، والسادس والعشرين. فحكم القيام والانحناء ورد في الصفحات 372، 374، 377 من الجزء الأول.
وحكم الألقاب جاء في صفحة 311 من الجزء السادس والعشرين، ورمزت لها بحرف (ر) .
وكلا النسختين يعتريهما النقص، والتحريف، والتصحيف.
غير أني عولت في ترتيب فصولها، على النسخة (ب) ؛ لأنها وصلتنا متحدة، وقد اتبعت في تحقيقها طريقة النص المختار، وأكملت إحداهما من الأخرى وأثبت الفروق. كما قمت بتخريج نصوصها والترجمة لغير المشاهير إلى غير ذلك مما يتطلبه التحقيق.
وبعد، فهذا جهد المقل أقدمه؛ رجاء أن يساهم في توضيح ما قد يتردد على ألسنة الناس، حول القضايا التي يعايشها المسلم في حياته. وأضرع إلى الله العلي القدير، أن يوفقنا جميعا للسير على شرعه ومنهاجه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
كتبه.
الوليد بن عبد الرحمن الفريان 1 \ 7 \ 1406 هـ.(20/291)
النص المحقق
[نص السؤال]
الحمد لله رب العالمين.
سئل شيخ الإسلام، أوحد الزمان، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية، قدس الله روحه، ونور ضريحه. [ما تقول السادة العلماء، أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين] (1) في (2) النهوض والقيام الذي يعتاده الناس من الإكرام عند قدوم شخص معين معتبر؟ [و] (3) هل يجوز أم لا، عند غلبة (4) ظن المتقاعد عن ذلك، أن القادم يخجل أو يتأذى باطنه (5) ، وربما آل (6) ذلك إلى بغض ومقت وعداوة (7) ؟ ! [وهذه الألقاب] (8) المتواطأ عليها بين الناس، والمعانقات (9) في المحافل وغيرها، وتحريك الرقاب إلى جهة الأرض، والانخفاض هل يجوز [ذلك] (10) أو (11) يحرم؟ ! فإن فعل
__________
(1) ساقط من (ر) .
(2) في (ر) عن
(3) ساقط من (ر) .
(4) في (ر) وإذا كان يغلب على الظن.
(5) في (ر) باطنا.
(6) في (ر) أدى.
(7) في (ر) عداوة ومقت.
(8) في (ر) وسئل عن الألقاب.
(9) في (ر) وأيضا المصادفات.
(10) ساقط من (ب) .
(11) في (ر) أم.(20/292)
رجل ذلك (1) ، عادة وطبعا ليس [فيه له قصد] (2) ، هل يحرم (3) أم لا؟ [وهل] (4) يجوز ذلك في حق الأشراف والعلماء؟ [وفيمن يبوس (5) الأرض مطمئنا بذلك دائما، هل يأثم على ذلك أم لا] (6) ؟ وفيمن (7) يفعل ذلك؛ لسبب أخذ رزق، وهو مكره على ذلك (8) [هل يأثم أم لا] (9) ؟ وإذا قال: سجدت لله، هل يصح ذلك [منه] (10) أم لا؟
__________
(1) في (ر) ذلك الرجل.
(2) في (ب) في قصد.
(3) في (ر) يحرم عليه.
(4) ساقط من (ر) .
(5) كلمة عامية مولدة بمعنى يقبل.
(6) في (ر) عمن يبوس الأرض دائما هل يأثم. وفي موضع آخر. وفيمن يرى مطمئنا.. .
(7) في (ر) عمن.
(8) في (ر) كذلك.
(9) ساقط من (ر) .
(10) ساقط من (ر) .(20/293)
[نص الجواب] .
[صور القيام وأحكامها] .
فأجاب (1) :
الحمد لله [رب العالمين] (2) . لم يكن من عادة (3) السلف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، أن يعتادوا القيام كلما يرونه عليه (4) السلام، كما يفعل (5) كثير من الناس، بل قد قال أنس بن مالك [رضي الله عنه] (6) : لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله (7) صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له؛ لما يعلمون من كراهته لذلك، ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه؛ تلقيا له، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام لعكرمة (8) (9) . وقال للأنصار لما قدم سعد بن معاذ: «قوموا إلى سيدكم (10) » . وكان [سعد متمرضا بالمدينة،
__________
(1) في (ب) الجواب.
(2) ساقط من (ب) .
(3) في (ر) لم تكن عادة.
(4) في (ب) كما يردون على.
(5) في (ر) يفعله.
(6) ساقط من (ر) .
(7) في (ر) النبي.
(8) هو عكرمة بن أبي جهل القرشي المخزومي. الإصابة 7 \ 46.
(9) أخرجه الحاكم في المستدرك (كتاب معرفة الصحابة) 3 \ 241، ومالك في الموطأ. التمهيد 12 \ 52.
(10) أخرجه البخاري في الصحيح رقم 6262، ومسلم رقم 1768، وابن سعد 3 \ 425.(20/294)
وكان] (1) قد قدم [إلى بني قريظة، شرقي المدينة] (2) [ليحكم في بني قريظة؛ لأنهم نزلوا على حكمه] (3) ، والذي ينبغي للناس، أن يعتادوا اتباع السلف، على ما كانوا عليه، على عهد النبي (4) صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم خير القرون، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد [صلى الله عليه وسلم] (5) ، فلا يعدل أحد عن هدي خير الخلق (6) ، وهدي خير القرون إلى ما هو دونه، وينبغي للمطاع أن لا يقر (7) ذلك مع أصحابه، بحيث إذا رأوه، لم يقوموا له [ولا يقوم لهم] (8) إلا في اللقاء المعتاد. فأما (9) القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقيا له، فحسن، وإذا كان من عادة الناس، إكرام الجائي (10) بالقيام ولو ترك [ذلك] (11) لاعتقد أن ذلك بخس في حقه (12) ، أو قصد لخفضه (13) !! ولم
__________
(1) ساقط من (ر) .
(2) ساقط من (ر) .
(3) ساقط من (ب) .
(4) في (ر) رسول الله.
(5) ساقط من (ب) .
(6) في (ر) الورى.
(7) في (ب) أن يقرر.
(8) ساقط من (ر) .
(9) في (ر) ، وأما.
(10) في (ب) المجيء.
(11) ساقط من (ر) .
(12) في (ر) لترك حقه.
(13) في (ر) قصد خفضه.(20/295)
يعلم العادة الموافقة للسنة. فالأصلح أن يقام له؛ لأن ذلك إصلاح (1) لذات البين، وإزالة للتباغض (2) والشحناء. وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة فليس في ترك ذلك إيذاء له، وليس هذا القيام [هو القيام] (3) المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يتمثل له الرجال قياما، فليتبوأ مقعده من النار (4) » فإن ذلك أن يقوموا [له] (5) وهو قاعد ليس هو: أن يقوموا لمجيئه إذا جاء؛ ولهذا فرقوا [بين] (6) أن يقال: قمت إليه، وقمت له والقائم للقادم، ساواه في القيام، بخلاف القيام (7) للقاعد. وقد ثبت في صحيح مسلم: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم قاعدا في مرضه، [و] صلوا قياما. أمرهم بالقعود، وقال: لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضا (9) » ، فقد (10) نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد؛ لئلا يشبهوا الأعاجم (11) ، الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود. وجماع ذلك [كله] (12) [أن] (13)
__________
(1) في (ر) أصلح.
(2) في (ر) التباغض.
(3) ساقط من (ر) .
(4) أخرجه البخاري في الأدب رقم 977، وأبو داود في السنن رقم 5229، والترمذي في الجامع رقم 2756، وأحمد في المسند 4 \ 91، 93، 100، وأبو نعيم في ذكر أخبار أصبهان 1 \ 219.
(5) ساقط من (ب) .
(6) ساقط من (ب) .
(7) في (ر) القائم.
(8) أخرجه مسلم في الصحيح رقم 413 بمعناه، وأحمد في المسند بلفظه 3 \ 334، 395، 5 \ 253، 256. وأخرج أصله البخاري في الصحيح 2 \ 173 (فتح) وعبد الرزاق في المصنف رقم 4081.
(9) ساقط من (ر) . (8)
(10) في (ر) وقد.
(11) في (ر) يتشبه بالأعاجم.
(12) ساقط من (ب) .
(13) ساقط من (ر) .(20/296)
الذي يصلح: اتباع عادات (1) السلف، وأخلاقهم، والاجتهاد [عليه] (2) بحسب الإمكان، فمن لم يعتد (3) ذلك أو لم (4) يعرف أنه العادة، وكان في ترك معاملته بما اعتاده [من] (5) الناس من الاحترام مفسدة راجحة، فإنه يدفع أعظم الفسادين، بالتزام أدناهما. كما يجب فعل أعظم الصلاحين (6) بتفويت أدناهما.
__________
(1) في (ب) عادة.
(2) ساقط من (ب) .
(3) في (ر) يعتقد.
(4) في (ر) ولم.
(5) ساقط من (ب) .
(6) في (ب) الصالحين.(20/297)
فصل [حكم الانحناء عند التحية]
وأما الانحناء: عند التحية فينهى عنه؛ كما في الترمذي «عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنهم سألوه: عن الرجل يلقى أخاه [أ] ينحني له؟ قال: لا (2) » ، ولأن الركوع والسجود لا يجوز فعله إلا لله [عز وجل] (3) . وإن كان هذا على وجه التحية في غير شريعتنا كما [قال] (4) في قصة يوسف {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} (5) ، وفي شريعتنا: لا يصلح السجود إلا لله، بل [قد] (6) تقدم (7) نهيه عن القيام كما تفعل (8) الأعاجم بعضها لبعض (9) ؛ فكيف بالركوع والسجود؟ ! وكذلك ما هو ركوع ناقص، يدخل في النهي عنه.
__________
(1) جامع الترمذي عن أنس رقم 2729، وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 4 \ 281.
(2) ساقط من (ر) . (1)
(3) ساقط من (ب) .
(4) ساقط من (ر) .
(5) سورة يوسف الآية 100
(6) ساقط من (ب) .
(7) في (ب) قدم.
(8) في (ر) يفعله.
(9) في (ب) ببعض.(20/297)
فصل [تأريخ استعمال الألقاب وحكمها]
وأما الألقاب، فكانت عادة السلف: الأسماء والكنى، فإذا [أكرموه] (1) كنوه بأبي فلان (2) ، تارة يكنون الرجل بولده [وتارة بغير ولده] (3) ، كما [كانوا] (4) يكنون من لا ولد له، إما بالإضافة إلى اسمه، أو اسم أبيه، أو ابن سميه (5) ، أو إلى أمر (6) [له] (7) به تعلق (8) ؛ كما كنى النبي صلى الله عليه وسلم عائشة [باسم] (9) ابن أختها: عبد الله (10) (11) ، وكما يكنون داود: أبا (12) سليمان؛ لكونه باسم داود [عليه السلام] (13) . الذي اسم ولده سليمان، وكذلك كنية إبراهيم: أبو إسحاق، وكما كنوا (14) عبد الله بن عباس أبا العباس، وكما كنى النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة باسم هرة (15) كانت [تكون] (16) معه (17) ، وكان الأمر على
__________
(1) ساقط من (ر) .
(2) في (ب) بأبي فلان وأبي فلان.
(3) ساقط من (ر) .
(4) ساقط من (ر) .
(5) في (ب) واسم سميه.
(6) في (ر) بأمر.
(7) ساقط من (ب) .
(8) في (ر) تعلق به.
(9) ساقط من (ر) .
(10) هو عبد الله بن الزبير بن العوام أمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم. الإصابة 6 \ 83
(11) أخرجه أحمد في المسند 2 \ 151. وابن سعد في الطبقات 8 \ 66
(12) في (ب) أبو.
(13) ساقط من (ب) .
(14) في (ب) يكنون.
(15) في (ر) هريرة.
(16) ساقط من (ر) .
(17) أخرجه البغوي. الإصابة 4 \ 202.(20/298)
ذلك: في القرون الثلاثة، فلما غلبت دولة الأعاجم بني بويه (1) : صاروا [يضيفون إلى الدولة فيقولون: ركن الدولة، عضد الدولة، بهاء الدولة] (2) ، ثم بعد هذا (3) أحدثوا الإضافة إلى الدين، وتوسعوا في هذا (4) ، ولا ريب أن الذي (5) يصلح، مع الإمكان: هو ما كان السلف يعتادونه من المخاطبات، والكنايات (6) فمن أمكنه ذاك، فلا يعدل عنه [و] (7) إن اضطر إلى المخاطبة، لا سيما، وقد نهي عن الأسماء التي فيها تزكية - كما غير النبي صلى الله عليه وسلم اسم برة: فسماها زينب (8) ؛ لئلا تزكي نفسها (9) - والكناية بهذه (10) الأسماء المحدثة - خوفا من تولد شر إذا عدل عنها - فليقتصر على مقدار الحاجة.
ولقبوا بذلك: [لا] (11) [أ] (12) نه علم محض، لا يلمح (13) فيه [معنى] (14) الصفة، بمنزلة الأعلام المنقولة: أسد وكلب وثور. ولا ريب أن هذه المحدثات [المنكرة] (15) التي أحدثها الأعاجم وصاروا
__________
(1) في (ر) أمية.
(2) ساقط من (ر) .
(3) في (ب) ، ثم بعدها.
(4) ينظر المنتظم 8 \ 97، والبداية والنهاية 12 \ 43، وصبح الأعشى 8 \ 341.
(5) في (ب) ما.
(6) في (ب) الكتابات.
(7) ساقط من (ر) .
(8) هي زينب بنت أبي سلمة القرشية المخزومية ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الإصابة 12 \ 282.
(9) أخرجه مسلم في الصحيح 14 \ 119 (نووي) وأبو داود في السنن رقم 4953.
(10) في (ر) عنه.
(11) ساقط من (ب) .
(12) ساقط من (ر) .
(13) في (ر) تلميح.
(14) ساقط من (ر) .
(15) ساقط من (ر) .(20/299)
يزيدون فيها، فيقولون: عز الملة والدين، وعز الملة والحق والدين، و [ما] (1) أكثر ما يدخل في ذلك من الكذب المبين!! بحيث يكون المنعوت بذلك أحق بضد ذلك الوصف. والذين يقصدون هذه الأمور فخرا وخيلاء يعاقبهم الله بنقيض قصدهم، فيذلهم [الله] (2) ويسلط عليهم عدوهم. والذين يتقون الله ويقومون بما أمرهم به من عبادته وطاعته يعزهم وينصرهم؛ كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (3) ، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (4) (5) .
__________
(1) ساقط من (ر) .
(2) ساقط من (ر) .
(3) سورة غافر الآية 51
(4) سورة المنافقون الآية 8
(5) في (ر) كتب بعد ذلك ما نصه (والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم) .(20/300)
فصل (1) . [
السجود لغير الله تعالى وموقف الإسلام منه
]
وأما وضع الرأس، وتقبيل الأرض (2) [ونحو ذلك] (3) مما فيه السجود، كما (4) يفعل قدام [بعض] (5) الشيوخ، وبعض الملوك!! فلا يجوز، بل لا يجوز الانحناء كالركوع أيضا [كما «قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: الرجل
__________
(1) ذكر المؤلف شيئا من معاني هذا الفصل في رسالة زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور. مجموعة الرميح \ 170
(2) في (ر) أما تقبيل الأرض ووضع الرأس.
(3) ساقط من (ب) .
(4) في (ر) مما.
(5) ساقط من (ب) .(20/300)
منا يلقى أخاه، أينحني له قال: لا (1) » ] (2) «ولما رجع معاذ [رضي الله عنه] من الشام سجد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا يا معاذ؟ قال: يا رسول الله؟ رأيتهم بالشام يسجدون لأساقفتهم، ويذكرون ذلك عن أنبيائهم؛ [فوددت أن أفعل ذلك بك يا رسول الله] ، فقال: كذبوا عليهم [يا معاذ:] لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من أجل حقه عليها. يا معاذ [إنه] لا ينبغي السجود إلا لله (10) » .
وأما فعل ذلك تدينا (11) وتقربا، فهذا من أعظم المنكرات!! ومن اعتقد مثل هذا قربة ودينا (12) ، فهو ضال مفتر، بل يبين (13) له أن هذا ليس بدين ولا قربة، فإن أصر على ذلك (14) [استتيب. فإن
__________
(1) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2728) ، سنن ابن ماجه الأدب (3702) .
(2) ساقط من (ب) .
(3) أخرجه أحمد في المسند من طريق عبد الله بن أبي أوفى على غير هذا النحو. ففيه أنه روأ ولم يفعل وأن ذلك كان بعد مقدمه من اليمن أو الشام على وجه الشك 4 \ 381، ومن طريق معاذ مختصرا وفيه أنه لما رجع من اليمن بصيغة الجزم 5 \ 227، وأخرج أبو داود في السنن رقم 2140 والبيهقي في السنن 7 \ 291 أن قيس بن سعد لما قدم من الحيرة أراد ذلك فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج أبو نعيم في أخبار أصبهان 2 \ 103 من طريق شهر بن حوشب عن سلمان أنه لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض سكك المدينة فذهب يسجد له فزجره عن ذلك.
(4) ساقط من (ر) . (3)
(5) في (ر) في الشام. (4)
(6) ساقط من (ر) . (5)
(7) ساقط من (ر) . (6)
(8) في (ب) أمر. (7)
(9) ساقط من (ب) . (8)
(10) في (ب) لا يصلح. (9)
(11) في (ب) أو.
(12) في (ر) وتدينا.
(13) في (ب) نبين.
(14) في (ب) على خلاف ذلك.(20/301)
تاب، وإلا قتل. وأما إذا أكره الرجل على ذلك] (1) بحيث لو لم يفعله (2) لأفضى إلى ضربه، [أ] (3) وحبسه، أو أخذ ماله، أو قطع رزقه (4) الذي يستحقه من بيت المال، ونحو ذلك من الضرر، فإنه يجوز عند أكثر العلماء، فإن الإكراه عند أكثرهم يبيح الفعل المحرم؛ كشرب الخمر ونحوه، و [هذا] (5) [هو] (6) المشهور عن أحمد وغيره (7) ، ولكن عليه مع (8) ذلك أن يكرهه (9) بقلبه، ويحرص على الامتناع منه، بحسب الإمكان. ومن علم الله منه الصدق، أعانه [الله تعالى] (10) ، وقد يعافى ببركة صدقه من الإلزام (11) بذلك. وذهب طائفة إلى أنه، لا يبيح إلا الأقوال دون الأفعال. ويروى ذلك عن ابن عباس، ونحوه قالوا: إنما التقية باللسان، [وهو] (12) الرواية الأخرى عن أحمد (13) ، وأما فعل ذلك؛ لنيل (14) فضول الرياسة، والمال فلا! وإذا أكره على مثل ذلك، ونوى بقلبه أن هذا الخضوع لله تعالى، كان حسنا؛ مثل أن يكره [على] (15) كلمة الكفر، وينوي معنى (16) جائزا. والله أعلم.
__________
(1) ساقط من (ب) .
(2) في (ب) يفعل.
(3) ساقط من (ب) .
(4) في (ب) خبزه.
(5) ساقط من (ر) .
(6) ساقط من (ب) .
(7) ينظر المغني 7 \ 119 وجامع العلوم 274 والإنصاف 10 \ 231.
(8) في (ب) بعد.
(9) في (ر) يكرههه.
(10) ساقط من (ب) .
(11) في (ر) الأمر.
(12) ساقط من (ب) .
(13) في (ب) محمد.
(14) في (ر) لأجل.
(15) ساقط من (ر) .
(16) في (ب) في معنى.(20/302)
التحذير من التعامل بالربا وبيان سوء عاقبته
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه. أما بعد.
فقد بلغني أن بعض الشركات تتعامل بالربا أخذا وعطاء وكثر السائلون من المساهمين وغيرهم عن حكم الأرباح التي تحصل لهم نتيجة التعامل بالربا، ونظرا لما أوجب الله من النصيحة للمسلمين، ولوجوب التعاون على البر والتقوى رأيت تنبيه من يفعل ذلك على أن ذلك محرم ومن جملة كبائر الذنوب كما قال الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (2) ، وقد جعل الله سبحانه ذلك محاربة له ولرسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (4) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 276
(3) سورة البقرة الآية 278
(4) سورة البقرة الآية 279(20/303)
وثبت «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه (1) » ، وقال: هم سواء. والآيات والأحاديث في التحذير من الربا وبيان عواقبه الوخيمة كثيرة جدا، فالواجب على كل من يتعاطى ذلك من الشركات وغيرها التوبة إلى الله من ذلك وترك المعاملة به مستقبلا؛ طاعة لله سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وحذرا من العقوبات المترتبة على ذلك، وابتعادا عن الوقوع فيما حرم الله عملا بقوله سبحانه وتعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) ، وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (3) .
ومن صور الربا الفاشية بين الناس الإقراض والاستقراض بالفائدة ووضع الودائع بالفائدة؛ كخمسة في المائة وعشرة في المائة ونحو ذلك. وهذه المعاملات من جنس ربا الجاهلية المنوه عنه في الآيات المذكورة. وأسأل الله أن يوفقنا وجميع المسلمين للتوبة إليه من جميع الذنوب، وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يصلح أحوالنا جميعا إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1597، 1598) ، سنن الترمذي البيوع (1206) ، سنن أبو داود البيوع (3333) ، سنن ابن ماجه التجارات (2277) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي البيوع (2535) .
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة التحريم الآية 8(20/304)
مقابلة مع سماحة الرئيس العام
أجرتها صحيفة الراية السودانية
أسئلة مقدمة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز من مندوبي صحيفة الراية السودانية.
وقد تفضل سماحته فأجاب عليها بما يلي:
السؤال الأول: يود القراء أن يتعرفوا على لمحة من سيرتكم الذاتية، وحياتكم العلمية.
الجواب: أنا عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله آل باز، ولدت ببلدة الرياض في ذي الحجة عام 1330 هـ، وقد بدأت الدراسة منذ الصغر وحفظت القرآن الكريم قبل البلوغ، ثم بدأت في تلقي العلوم الشرعية والعربية على أيدي كثير من علماء الرياض من أعلامهم: الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ، والشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ قاضي الرياض، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق قاضي الرياض، والشيخ حمد بن فارس وكيل بيت المال بالرياض، والشيخ سعد وقاص البخاري من علماء مكة، أخذت عنه التجويد سنة 1355 هـ، وسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ حيث لازمته عشر سنوات حتى توليت القضاء.(20/305)
أما الأعمال فهي القضاء لمدة 14 عاما في منطقة الخرج، من عام 1357 هـ حتى نهاية 1371 هـ، ثم بعد ذلك التدريس في المعهد العلمي وكلية الشريعة بالرياض في الفقه والتوحيد والحديث لمدة تسع سنوات حتى عام 1380 هـ.
ثم عينت نائبا لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة سماحة شيخنا العلامة مفتي البلاد السعودية محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ - رحمه الله رحمة واسعة - عشر سنوات، ابتداء من 1381 هـ. وفي عام 1390هـ توليت رئاسة الجامعة الإسلامية بالمدينة بعد وفاته رحمه الله، وبقيت فيها حتى عام 1395 هـ. وفي 14 \ 10 \ 1395 هـ صدر الأمر الملكي بتعييني في منصب الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، ولا أزال إلى هذا الوقت في هذا العمل وأسأل الله العون والسداد. ولي إلى جانب هذا العمل في الوقت الحاضر عضوية في كثير من المجالس العلمية والإسلامية من ذلك: عضوية هيئة كبار العلماء بالمملكة - ورئاسة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الهيئة المذكورة، وعضوية رئاسة المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، ورئاسة المجلس الأعلى العالمي للمساجد، ورئاسة المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة، وعضوية المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية في المدينة، وعضوية الهيئة العليا للدعوة الإسلامية في المملكة.
وزيادة على الفتاوى والمقالات والمحاضرات فقد طبع لي ثلاثة عشر مؤلفا منها:
الفوائد الجلية في المباحث الفرضية، ونقد القومية العربية، وتوضيح المناسك المسمى التحقيق والإيضاح لكثير من مناسك الحج والعمرة والزيارة، وحاشية مفيدة على فتح الباري وصلت فيها إلى كتاب الحج.(20/306)
وثلاث رسائل في الصلاة، والتحذير من البدع، وإقامة البراهين على حكم من استغاث بغير الله أو صدق الكهنة والعرافين، والأدلة النقلية والحسية على سكون الأرض، وجريان الشمس وإنكار الصعود إلى الكواكب، وقد ترجم أغلب هذه الكتب إلى لغات عديدة، نفع الله بها ووفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه من خيري الدنيا والآخرة، إنه سميع مجيب.(20/307)
السؤال الثاني: هل لسماحتكم مذهب فقهي خاص وما هو منهجكم في الفتوى والأدلة؟
الجواب: مذهبي في الفقه هو مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وليس على سبيل التقليد ولكن على سبيل الاتباع في الأصول التي سار عليها.
أما في مسائل الخلاف فمنهجي فيها هو ترجيح ما يقتضي الدليل ترجيحه والفتوى بذلك سواء وافق ذلك مذهب الحنابلة أم خالفه؛ لأن الحق أحق بالاتباع. وقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) .
__________
(1) سورة النساء الآية 59(20/307)
السؤال الثالث: لقد قامت في السودان جبهة إسلامية بين مختلف الاتجاهات الحركية والصوفية وغيرها، وقامت بعمل سياسي ومجابهة واسعة مع الشيوعية والتغريبيين عموما.(20/307)
هل يمكن أن نعرف رأيكم في مثل هذا العمل الذي يضم تيارات مثل هذه؟
الجواب: لا ريب أن التعاون بين المسلمين في محاربة المذاهب الهدامة والدعوات المضللة والنشاط التنصيري والشيوعي والإباحي من أهم الواجبات ومن أعظم الجهاد في سبيل الله؛ لقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) ، وقوله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) ، وقال عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (3) .
وفي الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن «النبي صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى اليهود في خيبر، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام وأن يخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، وقال له صلى الله عليه وسلم: فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (4) » . وفي صحيح مسلم عن أبي مسعود الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (5) » ، وفي صحيحه أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص من
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة فصلت الآية 33
(4) صحيح البخاري المغازي (4210) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .
(5) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .(20/308)
آثامهم شيئا (1) » . وروى الإمام أحمد والنسائي وصححه الحاكم عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم (2) » . والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. فنسأل الله أن يوفق الجبهة لما فيه نصر الحق وظهوره على ما سواه، وقمع الباطل وخذلان الدعاة إليه.
ونصيحتي للجبهة أن تنقي صفوفها من كل ما يخالف شرع الله المطهر وأن تتناصح وتتواصى بالاستقامة على شرع الله والثبات عليه، ورد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول كما قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (3) ، وقال سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (4) الآية. وقال عز وجل: {وَالْعَصْرِ} (5) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (6) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (7) .
يبين سبحانه في هذه السورة العظيمة أن أسباب الربح والسعادة والسلامة من الخسران هي هذه الأمور الأربعة المذكورة في هذه السورة وهي الإيمان بالله ورسوله والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
فنسأل الله أن يمنح أعضاء الجبهة التخلق بهذه الأخلاق والاستقامة عليها حتى يفوزوا بالنصر المبين والربح العظيم والعاقبة الحميدة.
__________
(1) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .
(2) سنن النسائي الجهاد (3096) ، سنن أبو داود الجهاد (2504) ، مسند أحمد بن حنبل (3/153) ، سنن الدارمي الجهاد (2431) .
(3) سورة النساء الآية 59
(4) سورة الشورى الآية 10
(5) سورة العصر الآية 1
(6) سورة العصر الآية 2
(7) سورة العصر الآية 3(20/309)
السؤال الرابع: السابقون رجال ونحن رجال: هذه قولة فقهية شجاعة: أي أن السابقين لهم قضايا عصرهم ونحن لنا قضايانا المتجددة. ألا ترى أن الذين يقفون ضد الدعوة إلى التجديد للفقه يجنون على هذا الأدب الأصولي نفسه؟
الجواب: هذه العبارة فيها إجمال واحتمال فإن أريد بها أن الواجب على المتأخرين أن يجتهدوا في نصر دين الله وتحكيم شريعته، وتأييد ما عليه السلف الصالح من العقيدة والأخلاق فهذا حق. والواجب على جميع المسلمين أن يسيروا على نهج سلفهم الصالح في اتباع الكتاب والسنة وتحكيمها في كل شيء، ورد ما تنازع فيه الناس إليهما؛ عملا بقول الله سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (1) الآية وقوله سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) الآية.
أما إن أريد بهذه العبارة أن المتأخرين لهم أن يجددوا في دين الله ما يخالف ما عليه سلف الأمة في العقيدة والأخلاق، أو في الأحكام: فهذا أمر لا يجوز فعله؛ لأنه مخالف لقول الله عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (3) ، وقوله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (4) وقوله سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (5) .
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الشورى الآية 10
(3) سورة آل عمران الآية 103
(4) سورة النساء الآية 115
(5) سورة التوبة الآية 100(20/310)
ومن خالفهم وسلك غير سبيلهم، لم يتبعهم بإحسان فلا يدخل في اتباعهم المرضي عنهم، ولأنه ليس للمتأخرين أن يخالفوا ما أجمع عليه العلماء قبلهم؛ لأن الإجماع حق وهو أحد الأصول الثلاثة التي يجب الرجوع إليها، ولا تجوز مخالفتها وهي الكتاب والسنة والإجماع، ولأن العلماء أجمعوا على شيء دخلت فيهم الطائفة المنصورة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تزال على الحق. أما التفقه في الدين والتماس حل المشكلات بالطرق الشرعية في المسائل التي جدت بين المسلمين ولم يتكلم فيها الأوائل، فهذا حق وليس فيه مخالفة للسابقين؛ لأن العلماء السابقين واللاحقين كلهم يوصون بتدبر الكتاب والسنة واستنباط الأحكام منهما، والاجتهاد فيما يعرض من المسائل المشكلة على ضوء الكتاب والسنة.
وليس هذا تجديدا مخالفا للسابقين، ولكنه تجديد سائر على منهج السابقين وعلى أصولهم، وقد صح في هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » . متفق على صحته، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة (2) » رواه الإمام مسلم في صحيحه، والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .(20/311)
السؤال الخامس: تنشب بين الدعاة بعض الاختلافات التي تكاد تطغى على نقاط الالتقاء الكثيرة، وكثيرا ما تؤدي إلى تعطيل العمل الإسلامي(20/311)
وإلى أنواع من الفتن والانشقاقات والخصومات. . . ما هو تعليقكم ونصيحتكم للدعاة حول هذا الأمر؟
الجواب: نصيحتي للدعاة أن يخلصوا أعمالهم لله وحده وأن يتعاونوا على البر والتقوى وأن يتفقوا على تحكيم الكتاب والسنة فيما شجر بينهم عملا بقول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) ، وبذلك يتحد الهدف وتجتمع الجهود وينصر الحق ويهزم الباطل، ولا يتم هذا كله إلا بالاستعانة بالله والتوجه إليه بطلب التوفيق، والحذر من اتباع الهوى. قال الله عز وجل: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (2) الآية. وقال عز وجل يخاطب نبيه ورسوله داود عليه الصلاة والسلام: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (3) الآية.
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة القصص الآية 50
(3) سورة ص الآية 26(20/312)
السؤال السادس: وما هي نصيحتكم عموما لتيار الصحوة الإسلامية الشبابية المتعالية الآن في العالم الإسلامي؟
الجواب: هذه الصحوة التي تسر كل مؤمن ويصح أن تسمى حركة إسلامية وتجديدا إسلاميا ونشاطا يجب أن تشجع، وأن توجه إلى الاعتصام بالكتاب والسنة، وأن يحذر قادتها وأفرادها من الغلو والإفراط؛ عملا بقول الله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (1) ، وقول
__________
(1) سورة النساء الآية 171(20/312)
النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين (1) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون (2) » . ويجب عليهم أن يتوجهوا إلى الله دائما بطلب التوفيق وصلاح القلوب والأعمال، والثبات على الحق، وأن يعنوا عناية تامة بالقرآن الكريم تلاوة وتدبرا وتعقلا، وعملا بالسنة المطهرة؛ لأنها الأصل الثاني، ولأنها المفسرة لكتاب الله؛ كما قال الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (3) . وقال عز وجل: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (4) ، كما يجب على الدعاة إلى الله أن يستغلوا هذا الحركة الإسلامية بالتعاون مع القائمين عليها والمذاكرة معهم والحرص على إزالة الشبه التي قد تعرض لبعضهم؛ عملا بقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (5) .
__________
(1) سنن ابن ماجه المناسك (3029) ، مسند أحمد بن حنبل (1/215) .
(2) صحيح مسلم العلم (2670) ، سنن أبو داود السنة (4608) ، مسند أحمد بن حنبل (1/386) .
(3) سورة النحل الآية 44
(4) سورة النحل الآية 64
(5) سورة المائدة الآية 2(20/313)
السؤال السابع: ما رأيكم في مجتمع إسلامي طبقت فيه الحدود لفترة عام وأكثر، ثم تراجع عن هذه الحدود ليطبق القوانين الوضعية الغربية؟
الجواب: الواجب على جميع حكام المسلمين هو تطبيق شريعة الله بين عباده، والثبات على ذلك، والدعوة إليه، والالتزام به؛ لقول الله سبحانه يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (1) والواجب على أمته تنفيذ ذلك. قال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 49
(2) سورة النساء الآية 65(20/313)
وقال عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1) ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (2) ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (3) ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4) .
فلا يجوز لحكام المسلمين أن يخالفوا هذه الآيات الكريمات، بل عليهم أن يلتزموا بما دلت عليه، ويلزموا شعوبهم به، ولهم في ذلك العزة والكرامة والنصر والتأييد وحسن العاقبة، والفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة، كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (5) ، وقال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (6) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (7) ، وقال عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (8) الآية.
__________
(1) سورة المائدة الآية 50
(2) سورة المائدة الآية 44
(3) سورة المائدة الآية 45
(4) سورة المائدة الآية 47
(5) سورة محمد الآية 7
(6) سورة الحج الآية 40
(7) سورة الحج الآية 41
(8) سورة النور الآية 55(20/314)
ولا ريب أن تحكيم شريعة الله في شئون عباده من جملة النصر لله، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن الإيمان والعمل الصالح اللذين وعد الله أهلهما الاستخلاف في الأرض، والتمكين في دينهم، ومنحهم الأمن بعد الخوف، فنسأل الله أن يوفق حكام المسلمين للتمسك بشريعته والحكم بها والرضى بها وترك ما خالفها. إنه ولي ذلك والقادر عليه.(20/315)
السؤال الثامن: ما رأيكم في الدعوة إلى القومية التي تعتقد أن الانتساب إلى العنصر أو اللغة مقدم على الانتساب إلى الدين وهذه الجماعات تدعي أنها لا تعادي الدين ولكنها تقدم القومية عليه. .
ما رأيكم في هذه الدعوى؟
الجواب: هذه دعوة جاهلية لا يجوز الانتساب إليها ولا تشجيع القائمين بها، بل يجب القضاء عليها؛ لأن الشريعة الإسلامية جاءت بمحاربتها والتنفير منها، وتفنيد شبههم ومزاعمهم والرد عليها بما يوضح الحقيقة لطالبها؛ لأن الإسلام وحده هو الذي يخلد العروبة لغة وأدبا وخلقا، وأن التنكر لهذا الدين معناه القضاء الحقيقي على العروبة في لغتها وأدبها وخلقها، ولذلك يجب على الدعاة أن يستميتوا في إبراز الدعوة إلى الإسلام بقدر ما يستميت الاستعمار في إخفائه.
ومن المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن الدعوة إلى القومية العربية أو غيرها من القوميات، دعوة باطلة وخطأ عظيم ومنكر ظاهر وجاهلية نكراء وكيد للإسلام وأهله، وذلك لوجوه قد أوضحناها في كتاب مستقل سميته - نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع - وأسأل الله أن يوفق الجميع لما فيه رضاه.
وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.(20/315)
بيان هيئة كبار العلماء حول أعمال
الشغب التي قام بها بعض الحجاج الإيرانيين
في موسم حج عام 1407هـ
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين. وبعد:
فقد اطلع مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية على الأحداث المؤسفة التي قام بها بعض الحجاج الإيرانيين بعد صلاة العصر من يوم الجمعة السادس من شهر ذي الحجة لعام 1407 هـ من تجمعات ومسيرة صاخبة تعطل بسببها خروج المصلين إلى منازلهم ومصالحهم وتعرقلت حركة المرور، وتوقف السير فجأة في الشوارع والطرقات؛ مما أدى إلى تدخل الحجاج والمواطنين المحتجزين عن الحركة مع الحجاج الإيرانيين في محاولة لإقناعهم بإخلاء الشوارع، وفض المسيرة إلا أن الحجاج الإيرانيين أصروا على استكمال مسيرتهم الغوغائية رغم جميع المحاولات السلمية الهادئة التي بذلها الحجاج الآخرون على مختلف جنسياتهم وكذا المواطنون، مما نتج عنه وقوع اشتباكات عنيفة بين الإيرانيين ومختلف الحجيج والمواطنين سقط خلالها المئات من القتلى والجرحى من النساء والرجال حجاجا ومواطنين.
وإن المجلس ليستنكر هذا العمل ويشجبه، لما فيه من إيذاء المسلمين من الحجاج وغيرهم في هذا البلد الحرام في الشهر الحرام، ولكونه وسيلة إلى ما لا تحمد عقباه(20/317)
من قتل النفوس، ومضايقة الناس وغير ذلك من أنواع الأذى والظلم، كما يحمل الإيرانيين مسئولية ما نشأ عن عملهم هذا من مفاسد وفتن ولا شك أن هذا العمل مخالف لأمر الله سبحانه لمن أراد الحج بقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (1) والواجب على المسلم أن يلتزم بما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم من الأخلاق الكريمة، والمعاملة الطيبة لإخوانه المسلمين.
ولقد عظم الله سبحانه وتعالى بيته الكريم، وجعل له من الخصائص ما ليس لغيره من الأمكنة والبقاع، فقال سبحانه: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} (2) وتوعد من أراد الإلحاد فيه بالعذاب الأليم بقوله سبحانه: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (3) قال ابن عباس رضي الله عنه: الظلم هو أن تستحل من الحرم ما حرم الله عليك من إساءة أو قتل، فتظلم من لا يظلمك، وتقتل من لا يقتلك اهـ.
وقد حرم الله سبحانه إيذاء المؤمنين والمؤمنات في كتابه الكريم في كل مكان وفي كل زمان، فكيف بإيذائهم في البلد الأمين، وفي وقت أداء المناسك، لا شك أن هذا يكون أشد إثما، وأعظم جرما؛ قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (4)
وقد بين الله سبحانه وتعالى مشروعية الحج ومنافعه بقوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (5) {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (6) {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (7) {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} (8) - إلى قوله سبحانه - {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (9) - إلى أن قال سبحانه - {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (10)
__________
(1) سورة البقرة الآية 197
(2) سورة البقرة الآية 125
(3) سورة الحج الآية 25
(4) سورة الأحزاب الآية 58
(5) سورة الحج الآية 27
(6) سورة الحج الآية 28
(7) سورة الحج الآية 29
(8) سورة الحج الآية 30
(9) سورة الحج الآية 30
(10) سورة الحج الآية 32(20/318)
فهذه هي أوامر الله سبحانه وتعالى وتوجيهاته لحجاج بيت الله الحرام: لا رفث، ولا فسوق، ولا جدال في الحج، ولا استهانة بحرمات الله، ولا تلفظا بقول الزور، بل ذكر الله وتعظيم لحرماته وشعائره.
وبذلك يعلم أن ما فعله بعض الحجاج الإيرانيين بأعمالهم الاستفزازية مخالف لأوامر الله وتوجيهاته التي وردت في كتابه الكريم، وعلى لسان رسوله الأمين.
فالواجب على جميع علماء المسلمين وحكامهم وقادتهم إنكار ذلك وشجبه؛ ليعلم كل أحد تحريم هذا العمل وبشاعته ومخالفاته لشرع الله، وسوء ما يترتب عليه من العواقب الضارة بالمسلمين من الحجاج وغيرهم وعلى المتظاهرين أنفسهم.
وبذلك يعلم حكام إيران أن الواجب عليهم منع حجاجهم من هذا العمل السيئ، وعدم تشجيعهم عليه؛ لما تقدم من الأدلة الشرعية، والمعاني المرعية، والعواقب السيئة المترتبة على ذلك.
كما يعلم أن الواجب على حكومة هذه البلاد وفقها الله منع مثل هذا العمل، وعدم التمكين منه بالطرق التي تراها كفيلة بذلك حماية لحجاج المسلمين وغيرهم من المواطنين من الأذى والظلم وغير ذلك كما يترتب على هذه الأعمال المخالفة للشرع من العواقب الوخيمة.(20/319)
وبهذه المناسبة، فإن المجلس حين يستنكر هذا الحادث ويشجبه، فإنه يوصي جميع حجاج بيت الله الحرام بتقوى الله وتعظيم حرماته، والتعاون على البر والتقوى، وعطف بعضهم على بعض، وإحسان بعضهم إلى البعض الآخر، والحذر من كل ما يضرهم في دينهم ودنياهم، أو يشغلهم عن أداء مناسكهم على الوجه الذي شرعه الله، والله المسئول أن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويصلح أحوال المسلمين في كل مكان، ويصلح قادتهم، ويمنح الجميع الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يوفق ولاة أمر هذه البلاد لكل ما فيه صلاح الأمة وسعادتها، وتسهيل أمور الحج للمسلمين، وأن يضاعف مثوبتهم على ما قدموه من إحسان وتسهيل وأن يزيدهم من فضله، وينصر بهم الحق، إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
هيئة كبار العلماء.
عبد الله خياط ... عبد العزيز بن صالح
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
سليمان بن عبيد ... عبد المجيد حسن
إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... صالح بن غصون
محمد بن جبير ... صالح بن محمد اللحيدان
عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين
عبد الله بن منيع ... حسن بن جعفر العتمي
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ ... محمد الصالح العثيمين
عبد الله البسام ... صالح الفوزان(20/320)
حديث شريف
عن ابن عباس وأنس بن مالك رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب أن يكون له واديان ولن يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب (1) »
متفق عليه
__________
(1) صحيح البخاري الرقاق (6439) ، صحيح مسلم الزكاة (1048) ، سنن الترمذي الزهد (2337) ، مسند أحمد بن حنبل (3/168) ، سنن الدارمي الرقاق (2778) .(20/321)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى:
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحًا وَقاَلَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1)
(سورة فصلت، الآية 33)
__________
(1) سورة فصلت الآية 33(21/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز محمد العبد المنعم
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرازق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(21/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - الرياض
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(21/3)
المحتويات
الافتتاحية:
وجوب الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم والتحذير مما يخالفهما سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
موضوع العدد
حكم دخول الكافر المساجد والاستعانة به في عمارتها اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 20
الفتاوى:
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 39
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 81(21/4)
البحوث:
تحقيق الإسلام لأمن المجتمع د / صالح بن فوزان الفوزان 96
حقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثرها في العالم الإسلامي د / محمد بن عبد الله السلمان 115
الظاهرة الحضارية في القرآن والسنة د / عبد الحليم عويس 159
تحقيق مخطوطة ما وقع في القرآن الكريم من الظاء لسليمان بن أبي القاسم السرقوسي تحقيق الدكتور / علي حسين البواب 195
فتح المعين بتصحيح حديث عقد التسبيح باليمين الشيخ فريح بن صالح البهلال 212
الوحدة الإسلامية، أسسها ووسائل تحقيقها د. أحمد بن سعد البغدادي 237
العز بن عبد السلام مفسرا د. عبد الله الوهيبي 276
الإسلام وعلاقته بالديانات الأخرى عثمان جمعة ضميرية 311
كلمة:
نصيحة إلى حجاج بيت الله الحرام سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 353
قرار هيئة كبار العلماء رقم 138 في حكم مهرب ومروج المخدرات 355(21/5)
صفحة فارغة(21/6)
الافتتاحية
وجوب الاعتصام بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم والتحذير مما يخالفهما
سماحة الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وصفوته من خلقه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله عز وجل بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق كما قال سبحانه في سورتي التوبة والصف: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (1) .
وقال في سورة الفتح: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (2) .
قال علماء التفسير رحمهم الله: الهدى هو ما بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم من العلوم النافعة والأخبار الصادقة، ودين الحق هو ما بعثه الله به من الأعمال الصالحة والأحكام العادلة، وقد بين الله سبحانه أن الإيمان بما بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق والعمل بذلك هو الصراط المستقيم الذي من سار عليه واستقام عليه وصل إلى شاطئ السلامة وفاز بالجنة والكرامة، ومن حاد عنه واتبع هواه باء بالصفقة الخاسرة وسوء المصير، وقد أمر الله عز
__________
(1) سورة التوبة الآية 33
(2) سورة الفتح الآية 28(21/7)
وجل جميع العباد باتباع الصراط المستقيم، ونهاهم عن اتباع السبل التي تفضي بهم إلى صراط الجحيم، فقال عز وجل في سورة الأنعام: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} (1) .
وأشار بقوله: {وَأَنَّ هَذَا} (2) إلى ما سبق أن أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلوه على الناس ويبينه لهم ليعقلوا ويتذكروا، وذلك في قوله سبحانه: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (3) {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (4) .
ثم قال سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} (5) الآية.
فبين عز وجل بهذا أن امتثال هذه الأوامر والنواهي هو الصراط المستقيم الذي أمر باتباعه وبدأها سبحانه بالتحذير من الشرك وبيان تحريمه على الأمة، وذلك لأنه أعظم الذنوب وأشهر الجرائم، ولأن ضده وهو التوحيد هو أعظم الفرائض وأهم الواجبات، وذلك هو أساس الملة وقاعدة الصراط المستقيم وهو الذي بعث الله به جميع الرسل وأنزل به جميع الكتب وخلق من أجله الثقلين كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (6) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153
(2) سورة الأنعام الآية 153
(3) سورة الأنعام الآية 151
(4) سورة الأنعام الآية 152
(5) سورة الأنعام الآية 153
(6) سورة الذاريات الآية 56(21/8)
وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) .
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2) .
وقد أمر الله عباده بذلك في مواضع كث يرة من كتابه، وعلى لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (3) .
وقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (4) .
وقال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (5) .
وأرشد عباده في سورة الفاتحة أن يقروا بذلك لله سبحانه فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (6) {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (7) {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (8) {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (9) .
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قال معاذ: قلت: الله ورسوله أعلم. فقال صلى الله عليه وسلم: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا (10) » الحديث، وقال صلى الله عليه وسلم: «من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار (11) » خرجه البخاري في صحيحه والأحاديث في
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة الأنبياء الآية 25
(3) سورة البقرة الآية 21
(4) سورة الإسراء الآية 23
(5) سورة البينة الآية 5
(6) سورة الفاتحة الآية 2
(7) سورة الفاتحة الآية 3
(8) سورة الفاتحة الآية 4
(9) سورة الفاتحة الآية 5
(10) صحيح البخاري الجهاد والسير (2856) ، صحيح مسلم الإيمان (30) ، سنن الترمذي الإيمان (2643) ، سنن ابن ماجه الزهد (4296) ، مسند أحمد بن حنبل (5/238) .
(11) صحيح البخاري تفسير القرآن (4497) ، صحيح مسلم الإيمان (92) ، مسند أحمد بن حنبل (1/443) .(21/9)
هذا المعنى كثيرة وهذا هو معنى لا إله إلا الله فإن معناها لا معبود حق إلا الله فهي تنفي جميع أنواع العبادة عن غير الله وتثبتها بحق لله وحده كما قال الله سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (1) .
ثم ذكر سبحانه حق الوالدين وهو الإحسان إليهما وعدم عقوقهما، ثم نهى عن قتل الأولاد من أجل الإملاق وهو الفقر، وأخبر أنه سبحانه هو الذي يرزق الوالدين والأولاد
وكان من عادة بعض أهل الجاهلية قتل أولادهم خشية الفقر، فنهى الله عباده عن فعل ذلك لما فيه من الظلم والعدوان وسوء الظن بالله عز وجل، ثم نهى عن قربان الفواحش ظاهرها وباطنها وهي المعاصي كلها، ثم خص من ذلك قتل النفس بغير الحق لعظم هذه الجريمة وسوء عاقبتها أكثر من غيرها من المعاصي التي دون الشرك، ثم نهى عن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده، وذلك حين يبلغ ويرشد، ثم أمر بالوفاء بالكيل والميزان بالقسط وهو العدل، وذلك لما في بخس المكيال والميزان من الظلم والعدوان وأكل المال بالباطل، ثم أمر بالعدل في القول بعدما أمر بالعدل في الفعل، فقال سبحانه: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (2) .
والمعنى أن العدل في جميع الأقوال والأفعال مع القريب والبعيد والحبيب والبغيض طاعة لله سبحانه وتنفيذا لحكمه، وضده هو الظلم في القول والعمل، ثم أمر عباده سبحانه بالوفاء بعهده الذي عهد إليهم في
__________
(1) سورة الحج الآية 62
(2) سورة الأنعام الآية 152(21/10)
كتابه المبين وعلى لسان رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، وذلك يشمل جميع ما شرعه لعباده من الفرائض والأحكام والأقوال والأعمال وما نهاهم عنه سبحانه، كما نص على ذلك أئمة التفسير، ثم قال عز وجل بعد ذلك: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (1) .
فعلم بهذا أن صراطه سبحانه هو العمل بأوامره والانتهاء عن نواهيه والإيمان بكل ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم من العلوم النافعة والأخبار الصادقة والشرائع والأحكام ظاهرا وباطنا خلافا لأهل النفاق، وقد أرشد سبحانه عباده في سورة الفاتحة إلى أن يسألوه الهداية إلى هذا الصراط لشدة ضرورتهم إلى ذلك، وبين سبحانه أنه هو طريق المنعم عليهم المذكورين في قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (2) .
وقد دلت الأحاديث المرفوعة والآثار عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان على أن السبل التي نهى الله عن اتباعها هي البدع والشبهات والشهوات المحرمة والمذاهب والنحل المنحرفة عن الحق وسائر الأديان الباطلة، ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد والنسائي بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيما. وخط خطوطا عن يمينه وشماله، ثم قال: هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: (4) »
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153
(2) سورة النساء الآية 69
(3) مسند أحمد بن حنبل (1/465) .
(4) سورة الأنعام الآية 153 (3) {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}(21/11)
ومما يحسن التنبيه عليه أنه عز وجل ذكر في ختام الآية الأولى من الآيات الثلاث المذكورة آنفا: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1) وفي ختام الآية الثانية: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (2) وفي ختام الآية الثالثة {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (3)
قال بعض علماء التفسير: الحكمة في ذلك - والله أعلم - أن من تدبر كتاب الله عز وجل وأكثر من تلاوته حصل له التعقل للأوامر والنواهي والتذكر لما تشتمل عليه من المصالح العظيمة والعواقب الحميدة في الدنيا والآخرة، وبذلك ينتقل إلى التقوى وهي فعل الأوامر وترك النواهي اتقاء لغضب الله وعقابه، ورغبة في مغفرته ورحمته والفوز بكرامته، وهذا معنى عظيم، وذلك من أسرار كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لكونه تنزيلا من حكيم حميد لا تخفى عليه ولا يعجزه شيء، وهو العالم بأحوال عباده ومصالحهم، لا إله غيره ولا رب سواه، وقد أخبر سبحانه أن ما أوحى الله به إلى نبيه صلى الله عليه وسلم هو روح تحصل به الحياة الطيبة، ونور تحصل به البصيرة والهداية كما أخبر أن رسوله الكريم يهدي إلى صراطه المستقيم الذي أوضحه في الآيات الثلاث التي ذكرنا آنفا، وذلك في قوله عز وجل في سورة الشورى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (4) {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (5) .
فأوضح سبحانه أن الوحي الذي أوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة روح تحصل به الحياة الطيبة السعيدة والعاقبة الحميدة ونور تحصل به الهداية والبصيرة كما قال عز وجل في سورة الأنعام:
__________
(1) سورة الأنعام الآية 151
(2) سورة الأنعام الآية 152
(3) سورة الأنعام الآية 153
(4) سورة الشورى الآية 52
(5) سورة الشورى الآية 53(21/12)
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} (1) .
فأخبر سبحانه أن الكافر ميت منغمس في الظلمات لا خروج له منها إلا إذا أحياه الله بالإسلام والعلم النافع، وقال عز وجل في سورة الأنفال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (2) الآية.
فأخبر سبحانه أن الاستجابة لله وللرسول هي الحياة، وأن من لم يستجب لله وللرسول فهو ميت مع الأموات، وقال عز وجل في سورة النحل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} (3) .
فأبان سبحانه في هذه الآية الكريمة أن من عمل صالحا من الذكور والإناث وهو مؤمن بالله ورسوله أحياه الله حياة طيبة وهي الحياة التي فيها راحة القلب والضمير مع السعادة العاجلة والآجلة لاستقامة صاحبها على شرع مولاه سبحانه وسيره على ذلك إلى أن يلقاه عز وجل، ثم أخبر سبحانه أنه يجزيهم في الآخرة أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون فجمع لهم سبحانه بين الحياة الطيبة في الدنيا والسعادة الكاملة في الآخرة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ومعلوم أنه لا يحصل هذا الخير العظيم إلا لمن اعتصم بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قولا وعملا وعقيدة واستمر على ذلك حتى يلقى ربه عز وجل كما قال سبحانه
__________
(1) سورة الأنعام الآية 122
(2) سورة الأنفال الآية 24
(3) سورة النحل الآية 97(21/13)
في سورة آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون} (1) {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (2) أمر الله سبحانه في هاتين الآيتين أهل الإيمان بأن يتقوا الله في جميع حياتهم حتى يموتوا على ذلك وأمرهم بالاعتصام بحبله وهو دينه الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم وهو الإسلام وهو التمسك بالقرآن والسنة ونهى عن التفرق في ذلك لما يفضي إليه التفرق من ضياع الحق وسوء العاقبة واختلاف القلوب وقال سبحانه في سورة الحجر يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِين} (3) .
إلى أن قال سبحانه: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} (4) {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (5) .
فأمره سبحانه أن يبلغ رسالاته ويصدع بذلك ويعرض عمن خالفه ثم أمره أن يسبح بحمده وأن يكون من الساجدين له عز وجل وأن يعبد ربه حتى يأتيه اليقين وهو الموت فعلم بذلك أن الواجب على جميع العباد أن يسقيموا على شرع الله وأن يعتصموا بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يستمروا في ذلك ويلزموه ولا يبالوا بمن خالفه حتى تنزل بهم آجالهم، وقد أمر الله سبحانه في مواضع كثيرة من كتابه العزيز وفي أحاديث كثيرة مما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع كتابه الكريم والاعتصام به وباتباع السنة وتعظيمها والحذر مما خالفهما، فمن ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (6) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 102
(2) سورة آل عمران الآية 103
(3) سورة الحجر الآية 94
(4) سورة الحجر الآية 98
(5) سورة الحجر الآية 99
(6) سورة الأعراف الآية 3(21/14)