امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة على الغال، ولم يحرق متاعه والله أعلم (1) انتهى المقصود مما ذكره ابن كثير رحمه الله تعالى.
وعند تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (2)
ذكر القرطبي رحمه الله تعالى حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال: «لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك (3) » . . .) الحديث.
ومن كلام القرطبي على هذا الحديث قال:
الرابعة: وفي هذا الحديث دليل على أن الغال لا يحرق متاعه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرق متاع الوجل الذي أخذ الشملة، ولا أحرق متاع صاحب الخرزات الذي ترك الصلاة عليه " ولو كان حرق متاعه واجبا لفعله صلى الله عليه وسلم ولو فعل لنقل ذلك في الحديث، وأما ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وجدتم الرجل قد غل فاحرقوا متاعه واضربوه (4) » فرواه أبو داود والترمذي من حديث صالح بن محمد بن زائدة وهو ضعيف لا يحتج به. قال الترمذي: سألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث فقال: إنما روى هذا صالح بن محمد وهو أبو واقد الليثي، وهو منكر الحديث.
وروى أبو داود أيضا عنه قال: (غزونا مع الوليد بن هشام ومعنا سالم بن عبد العزيز بن عمر وعمر بن عبد العزيز، فغل رجل متاعا فأمر الوليد بمتاعه فأحرق وطيف به ولم يعطه سهمه، قال أبو داود: وهذا أصح الحديثين، وروي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه. قال أبو داود
__________
(1) تفسير ابن كثير، جزء (1) ، صفحة 423.
(2) سورة آل عمران الآية 161
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (3073) ، سنن أبو داود الزكاة (1658) .
(4) سنن الترمذي الحدود (1461) ، سنن أبو داود الجهاد (2713) ، سنن الدارمي السير (2490) .(16/249)
وزاد فيه علي بن بحر عن الوليد ولم أسمعه منه- ومنعوه سهمه. قال أبو عمر قال بعض رواة هذا الحديث: واضربوا عنقه واحرقوا متاعه. وهذا الحديث يدور على صالح بن محمد وليس ممن يحتج به. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث (1) » وهو ينفي القتل في الغلول. وروى ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس على الخائن ولا على المنتهب ولا على المختلس قطع (2) » . وهذا يعارض حديث صالح بن محمد، وهو أقوى من جهة الإسناد.
الغال خائن في اللغة والشريعة وإذا انتفى عنه القطع فأحرى القتل.
وقال الطحاوي: لو صح حديث صالح المذكور احتمل أن يكون حين كانت العقوبات في الأموال؛ كما قال في مانع الزكاة: "إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات الله تعالى" وكما قال أبو هريرة في ضالة الإبل المكتومة: فيها غرامتها ومثلها معها، وكما روى عبد الله بن عمرو بن العاص في التمر المعلق غرامة مثليه وجلدات نكال، وهذا كله منسوخ، والله أعلم.
الخامسة: فإذا غل الرجل في المغنم ووجد أخذ منه، وأدب وعوقب بالتعزير.
وعند مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والليث لا يحرق متاعه، وقال الشافعي والليث وداود إن كان عالما بالنهي عوقب، وقال الأوزاعي يحرق متاع الغال كله إلا سلاحه وثيابه التي عليه وسرجه، ولا تنزع منه دابته، ولا يحرق الشيء الذي غل، وهذا قول أحمد وإسحاق
__________
(1) صحيح البخاري الديات (6878) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1676) ، سنن الترمذي الديات (1402) ، سنن النسائي تحريم الدم (4016) ، سنن أبو داود الحدود (4352) ، سنن ابن ماجه الحدود (2534) ، مسند أحمد بن حنبل (6/181) ، سنن الدارمي الحدود (2298) .
(2) سنن الترمذي الحدود (1448) ، سنن النسائي قطع السارق (4971) ، سنن أبو داود الحدود (4391) ، سنن ابن ماجه الحدود (2591) ، مسند أحمد بن حنبل (3/380) ، سنن الدارمي الحدود (2310) .(16/250)
وقاله الحسن إلا أن يكون حيوانا أو مصحفا، وقال ابن خويز منداد: وروي أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ضربا الغال وأحرقا متاعه، قال ابن عبد البر، وممن قال يحرق رحل الغال ومتاعه مكحول وسعيد بن عبد العزيز، وحجة من ذهب إلى هذا حديث صالح المذكور. وهو عندنا حديث لا يجب به انتهاك حرمة، ولا إنفاذ حكم؛ لما يعارضه من الآثار التي هي أقوى منه. وما ذهب إليه مالك ومن تابعه في هذه المسألة أصح من جهة النظر وصحيح الأثر. والله أعلم.
السادسة: لم يختلف مذهب مالك في العقوبة على البدن، فأما في المال فقال في الذمي يبيع الخمر من المسلم: تراق الخمر على المسلم، وينزع الثمن من يد الذمي عقوبة له؛ لئلا يبيع الخمر من المسلمين. فعلى هذا يجوز أن يقال: تجوز العقوبة في المال، وقد أراق عمر رضي الله عنه لبنا شيب بماء.
السابعة: أجمع العلماء على أن للغال أن يرد جميع ما غل إلى صاحب المقاسم قبل أن يفترق الناس إن وجد السبيل إلى ذلك، وأنه إذا فعل ذلك فهي توبة له، وخرج عن ذنبه واختلفوا فيما يفعل به إذا افترق أهل العسكر ولم يصل إليه، فقال جماعة من أهل العلم يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي. هذا مذهب الزهري ومالك والأوزاعي والليث والثوري. وروي عن عبادة بن الصامت ومعاوية والحسن البصري وهو يشبه مذهب ابن مسعود وابن عباس؛ لأنهما كانا يريان أن يتصدق بالمال الذي لا يعرف صاحبه وهو مذهب أحمد بن حنبل، وقال الشافعي ليس له الصدقة بمال غيره، قال: أبو عمر فهذا عندي فيما يمكن وجود صاحبه والوصول إليه أو إلى ورثته، وأما إن لم يمكن شيء من ذلك فإن الشافعي لا يكره الصدقة حينئذ إن شاء الله تعالى. وقد أجمعوا في اللقطة على جواز الصدقة بها بعد التعريف وانقطاع صاحبها، وجعلوه إذا جاء مخيرا(16/251)
بين الأجر والضمان، وكذلك المغصوب، وبالله التوفيق (1) .
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في الكلام على هذه المسألة ما نصه:
المسألة السابعة: اختلف العلماء في حرق رحل الغال من الغنيمة والمراد بالغال من يكتم شيئا من الغنيمة، فلا يطلع عليه الإمام ولا يضمه مع الغنيمة.
قال بعض العلماء: يحرق رحله كله إلا المصحف وما فيه روح وهو مذهب الإمام أحمد، وبه قال الحسن وفقهاء الشام، منهم مكحول والأوزاعي، والوليد بن هشام، ويزيد بن زيد بن جابر، وأتى سعيد بن عبد الملك بغال فجمع ماله وأحرقه، وعمر بن عبد العزيز حاضر ذلك فلم يعبه.
وقال يزيد بن جابر: السنة في الذي يغل أن يحرق رحله، رواهما سعيد في سننه، قال ابن قدامة في المغني:
ومن حجج أهل هذا القول: ما رواه أبو داود في سننه عن صالح بن محمد بن زائدة قال أبو داود: وصالح هذا أبو واقد قال: دخلت مع مسلمة أرض الروم فأتي برجل قد غل فسأل سالما عنه فقال: سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وجدتم الرجل قد غل فاحرقوا متاعه واضربوه (2) » . قال: فوجدنا في متاعه مصحفا فسأل سالما عنه- فقال بعه وتصدق بثمنه. انتهى بلفظه من أبي داود.
وذكر ابن قدامة أنه رواه أيضا الأثرم وسعيد وقال أبو داود أيضا: حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى الأنطاكي، قال: أخبرنا أبو إسحاق عن صالح بن محمد، قال غزونا مع الوليد بن هشام، ومعنا سالم بن
__________
(1) تفسير القرطبي، جزء (4) ، من صفحة 258 حتى صفحة 261.
(2) سنن الترمذي الحدود (1461) ، سنن أبو داود الجهاد (2713) ، سنن الدارمي السير (2490) .(16/252)
عبد الله بن عمر، وعمر بن عبد العزيز فغل رجل متاعا، فأمر الوليد بمتاعه فأحرق وطيف به ولم يعطه سهمه. قال أبو داود: وهذا أصح الحديثين رواه غير واحد أن الوليد بن هشام أحرق رحل زياد بن سعد، وكان قد غل وضربه.
حدثنا محمد بن عوف: قال حدثنا موسى بن أيوب، قال حدثنا الوليد بن مسلم، قال حدثنا زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه (1) » .
قال أبو داود: وزاد فيه علي بن بحر عن الوليد - ولم أسمعه منه- ومنعوه سهمه قال أبو داود: وحدثنا الوليد بن عتبة، وعبد الوهاب بن نجدة، قالا حدثنا الوليد عن زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب قوله ولم يذكر عبد الوهاب بن نجدة الحوطي منه سهمه، انتهى من أبي داود بلفظه، وحديث صالح بن محمد الذي ذكرنا عند أبي داود أخرجه أيضا الترمذي، والحاكم والبيهقي.
قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقد سألت محمدا عن هذا الحديث فقال: إنما روى هذا صالح بن محمد بن زائدة الذي يقال له أبو واقد الليثي، وهو منكر الحديث.
قال المنذري: وصالح بن محمد بن زائدة: تكلم فيه غير واحد من الأئمة، وقد قيل: إنه تفرد به. وقال البخاري عامة أصحابنا يحتجون بهذا في الغلول، وهو باطل ليس بشيء، وقال الدارقطني أنكروا هذا الحديث على صالح بن محمد. قال: وهذا حديث لم يتابع عليه، ولا أصل لهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمحفوظ أن سالما أمر بذلك وصحح أبو داود وقفه فرواه موقوفا من وجه آخر، وقال: هذا أصح كما قدمنا، وحديث عمرو بن شعيب الذي ذكرنا عند أبي داود أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي، وزهير بن محمد الذي ذكرنا في إسناده الظاهر أنه هو
__________
(1) سنن أبو داود الجهاد (2715) .(16/253)
الخراساني. وقد قال فيه ابن حجر في (التقريب) رواية أهل الشام عنه غير مستقيمة فضعف بسببها، وقال البخاري عن أحمد كان زهير الذي يروي عنه الشاميون آخر.
وقال أبو حاتم: حدث بالشام من حفظه فكثر غلطه. انتهى.
وقال البيهقي: ويقال إنه غير الخراساني، وإنه مجهول. انتهى.
وقد علمت فيما قدمنا عن أبي داود أنه رواه من وجه آخر موقوفا على عمرو بن شعيب، وقال ابن حجر: إن وقفه هو الراجح.
وذهب الأئمة الثلاثة، مالك، والشافعي، وأبو حنيفة: إلى أنه لا يحرق رحله، واحتجوا بأنه صلى الله عليه وسلم لم يحرق رحل غال، وبما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، عن عبد الله بن عمرو، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسه ويقسمه، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال: يا رسول الله هذا فيما كنا أصبناه من الغنيمة، فقال: أسمعت بلالا ينادي ثلاثا قال نعم. قال ما منعك أن تجيء به فاعتذر إليه فقال: كن أنت تجيء به يوم القيامة. فلن أقبله عنك (1) » . هذا لفظ أبي داود. وهذا الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري وأخرجه الحاكم وصححه.
وقال البخاري: قد روي في غير حديث عن الغال، ولم يأمر بحرق متاعه. فقد علمت أن أدلة القائلين بعدم حرق رحل الغال أقوى، وهم أكثر العلماء (2) .
وبعد ما ساق رحمه الله تعالى آراء العلماء في هذه المسألة وأدلتهم على ما رأوه فيها بين رأيه الذي يرجحه فيها فقال:
قال مقيده -عفا الله عنه- والذي يظهر لي رجحانه في هذه المسألة: هو ما اختاره ابن القيم في زاد المعاد بعد أن ذكر الخلاف المذكور في
__________
(1) سنن أبو داود الجهاد (2712) ، مسند أحمد بن حنبل (2/213) .
(2) أضواء البيان، جزء (2) ، من صفحة 404 إلى 407.(16/254)
المسألة: والصواب أن هذا من باب التعزير والعقوبات المالية الراجعة إلى اجتهاد الأئمة، فإنه حرق وترك وكذلك خلفاؤه من بعده. ونظير هذا قتل شارب الخمر في الثالثة أو الرابعة. فليس بحد ولا منسوخ وإنما هو تعزير يتعلق باجتهاد الإمام. انتهى
وإنما قلنا: إن هذا القول أرجح عندنا؛ لأن الجمع واجب إذا أمكن وهو مقدم على الترجيح بين الأدلة، كما علم في الأصول، والعلم عند الله تعالى (1)
__________
(1) أضواء البيان، جزء (2) ، صفحة 407.(16/255)
د- مقتطفات من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث
العلمية والإفتاء في كيفية التخلص من المكاسب المحرمة
ورد إلى اللجنة هذا السؤال: (إن بعض البنوك السعودية تعطي أرباحا بالمبالغ التي توضع لديها من قبل المودعين، ونحن لا ندري حكم هذه الفوائد هل هي ربا أم هي ربح جائز يجوز للمسلم أخذه؟) فأجابت بما يلي:
الأرباح التي يدفعها البنك للمودعين على المبالغ التي أودعوها فيه تعتبر ربا، ولا يحل له أن ينتفع بهذه الأرباح، وعليه أن يتوب إلى الله من الإيداع في البنوك الربوية، وأن يسحب المبلغ الذي أودعه وربحه ويحتفظ بأصل المبلغ وينفق ما زاد عليه في وجوه البر من فقراء ومساكين، وإصلاح مرافق عامة ونحو ذلك (1) .
كما ورد إليها أيضا هذا السؤال:
هل يجوز للولد أن يرث من مال أبيه مع علمه بأن المال خبيث ومن طريق غير مشروع كالربا والتجارة في المحرمات؟ فأجابت بما يلي:
__________
(1) من الفتوى رقم 7133 وتاريخ 6 \ 7 \ 1404هـ.(16/255)
إذا علم أن مال أبيه كله حرام أخذ ما يخصه منه وتخلص منه بإنفاقه في وجوه البر تعففا بما علم أنه حرام ونصح لورثة أبيه أن يتخلصوا مما لهم من هذا المال.
كما سئلت اللجنة أيضا هذا السؤال:
شخص عاش يكسب من حرام مدرسا للموسيقى وعازفا للموسيقى في الملاهي والمراقص ثم تاب واعتزل ذلك الحرام، ولجأ إلى الله فهل من شرط توبته أن يتخلى عن ذلك المال الذي جمعه من هذا الطريق، ثم هو يسأل كيف يتصرف في تلك الأموال مع استعداده لتركها بالكلية، وهل يختلف الأمر إذا كان مستعدا أو غير مستعد للتنازل عن المال ومكتفيا من غيره أم غير مكتف؟ فأجابت بما يلي:
إذا كان كافرا وقت كسبه ما ذكر من الحرام ثم تاب توبة نصوحا من كفره ومن هذا الكسب الحرام تاب الله عليه ولم يجب عليه التخلص مما مضى من الكسب الحرام قبل إسلامه.
وإن كان غير كافر وقت أن كسب هذا المال الحرام ولكنه فاسق بهذا الكسب الحرام ثم تاب فمن شرط قبول توبته التخلص من هذا المال الحرام بإنفاقه في وجوه البر؛ لأن ذلك دليل صدقه في توبته وإخلاصه فيها (1) .
هذا وأسأل الله سبحانه أن يغنينا بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه، وأن يوفقنا إلى العمل بما يرضيه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عبد الله بن حمد بن عبد الله العبودي
__________
(1) من الفتوى رقم 7631 وتاريخ 24 \ 10 \ 1404هـ.(16/256)
مصادر البحث
1 - إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين- تأليف السيد محمد بن محمد الحسيني الزبيدي الشهير بمرتضى - طبعة هندية.
2 - إحياء علوم الدين لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي المتوفى سنة 505 هـ- نشر مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع.
3 - الآداب الشرعية والمنح المرعية تأليف شمس الدين أبي عبد الله محمد بن مفلح المقدسي الحنبلي، نشر مكتبة الرياض الحديثة- توزيع الرئاسة.
4 - الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان - تأليف الشيخ زين العابدين بن إبراهيم بن نجيب - نشر دار الكتب العلمية بيروت- لبنان.
5 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن تأليف محمد الأمين بن محمد المختار الحلبي الشنقيطي المطبوع على نفقة سمو الأمير أحمد بن عبد العزيز والموزع من قبل الرئاسة.
6 - اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم- لشيخ الإسلام ابن تيمية - تحقيق محمد حامد الفقي - مكتبة السنة المحمدية.
7 - بحث اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الفوائد الربوية.
8 - تفسير الطبري (المسمى جامع البيان في تفسير القرآن) تأليف الإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 - طباعة دار المعرفة والنشر- بيروت - لبنان.
9 - تفسير القرآن العظيم للحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل(16/257)
ابن كثير القرشي الدمشقي المتوفى سنة 774 طباعة 1403هـ، دار المعرفة - بيروت - لبنان.
10 - تفسير القرطبي المسمى (الجامع لأحكام القرآن) لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المتوفى سنة 671- مطبعة دار الكتب المصرية.
11 - تفسير المنار للشيخ محمد رشيد رضاء - مكتبة القاهرة- الطبعة الرابعة.
12 - " التفسير القيم- للإمام ابن القيم المتوفى سنة 751 تحقيق محمد حامد الفقي - لجنة التراث العربي- لبنان.
13 - جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم- تأليف زين العابدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين أحمد بن رجب الحنبلي البغدادي - شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
14 - الحسبة في الإسلام لشيخ الإسلام ابن تيمية - تحقيق محمد زهري النجار - من منشورات المؤسسة السعيدية بالرياض.
15 - الذيل على طبقات الحنابلة- تأليف أحمد بن رجب الحنبلي - مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة.
16 - زاد المعاد في هدي خير العباد- لابن القيم - الطبعة الثالثة عام 1973م، 1392هـ، الطبعة المصرية.
17 - صحيح البخاري.
18 - صحيح مسلم.
19 - طبقات الحنابلة- للقاضي أبي الحسين محمد بن أبي يعلى - مطبعة السنة المحمدية- القاهرة.(16/258)
20 - الفتاوى السعدية- تأليف الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي - مطبعة دار الحياة- دمشق.
21 - فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
22 - فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ مفتي المملكة ورئيس القضاة في وقته- جمع وترتيب وتحقيق محمد بن عبد الرحمن بن قاسم - الطبعة الأولى.
23 - الفتاوى الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية، تقديم حسين محمد مخلوف - دار الكتب الحديثة لصاحبها توفيق عفيفي، 14 شارع الجمهورية.
24 - الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة - وشرحه للشيخ ملا علي القارئ الحنفي المتوفى سنة 1001 طبع مطبعة دار الكتب العربية الكبرى على نفقة أصحابها مصطفى البابي الحلبي وأخويه بكري وعيسى بمصر. 25- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية - جمع وترتيب الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم - توزيع الرئاسة.
26 - المجموع شرح المهذب- للإمام أبي زكريا محي الدين بن شرف النووي تحقيق وتكميل محمد نجيب المطيعي، نشر مكتبة الإرشاد بجدة.
27 - مجلة البحوث الإسلامية - العدد العاشر.
28 - مدارج السالكين- للإمام ابن القيم المطبوع على نفقة محمد سرور الصبان والموزع من قبل الرئاسة.
29 - (مقدمات ابن رشد) تأليف الفقيه الحافظ (قاضي الجماعة بقرطبة) أبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد المتوفى سنة 420هـ- أول طبعة على نفقة الحاج محمد أفندي ساسي المغربي التونسي التاجر(16/259)
بجوار محافظة مصر - طبع مطبعة السعادة بجوار ديوان محافظة مصر لصحابها محمد إسماعيل سنة 1325هـ.
30 - نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار تأليف محمد بن علي بن محمد الشوكاني المتوفى سنة 1255هـ، نشر وتوزيع الرئاسة. الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م- طباعة دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع- بيروت - لبنان.(16/260)
رسالة مختصرة فيما روي عن أهل المعرفة والحقائق في معاملة الظالم السارق
للحافظ عبد الرحمن بن رجب
تحقيق وتقديم
الوليد بن عبد الرحمن الفريان
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضاه، والصلاة والسلام على النبي الأمين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين، أما بعد.
فإنه بالرغم من تقهقر الخلافة في المشرق الإسلامي، وانقسامها إلى دويلات متفرقة، بعد الغزو المغولي والصليبي الهمجي الشرس. إلا أن الحركة العلمية والفكرية ظلت محتفظة بقوتها ونشاطها، بل ازدادت عنفوانا وتوهجا في القرن الثامن الهجري على وجه الخصوص بشكل لفت أنظار المؤرخين والباحثين وأدهشهم، ويبدو أن مرجع ذلك هو التحدي الحضاري الذي أخذت الأمة الإسلامية تمارسه ضد التيارات المغولية والصليبية، فبدأت الأمة تلقي بكل ثقلها، لتثبت ذاتها وكيانها، واهتمت بإنشاء المدارس العلمية في كل مكان (1) في هذا الجو المفعم بالأحداث
__________
(1) ينظر البداية والنهاية 14 \ 280 والنجوم الزاهرة 6 \ 319 وحسن المحاضرة 2 \ 283 وبدائع الزهور 1 \ 249.(16/261)
والمتغيرات وفي ظل المماليك البحرية كانت ولادة شيخنا ابن رجب، صاحب الرسالة التي نقدم لها.
اسمه ونسبه ومولده.
هو الإمام العلامة زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسين السلامي البغدادي ثم الدمشقي، أبو الفرج المشهور بابن رجب الحنبلي ولد في بغداد سنة 736هـ.
أسرته ونشأته ورحلته
كانت أسرة الشيخ تقطن ببغداد، ولما هجرها علماؤها إلى حواضر الإسلام الأخرى، انتقل المقرئ أحمد بن رجب بأولاده إلى دمشق واستقر بها. وفيها نشأ ابنه عبد الرحمن بين أحضان أسرته الكريمة. في هذا المحيط العابق، الذي يتضوع كرما وشرفا، تفتحت عبقرية ابن رجب. وكانت موهبته الفطرية اللامعة دافعا قويا نحو الطلب، فسمع كبار علماء عصره، وأخذ عن مشاهير الفقهاء والمحدثين: في بغداد ودمشق ومكة ومصر. كابن قاضي الجبل وابن عبد الهادي والعلائي وغيرهم، واختص شيخه الإمام ابن قيم الجوزية بالملازمة التامة حتى وفاته سنة 751هـ، وقد انتهى به المطاف إلى دمشق حيث تفرغ للتعليم والإفادة والوعظ والتأليف، فدرس بالمدرسة الحنبلية، وولي حلقة الثلاثاء بعد وفاة شيخه ابن قاضي الجبل سنة 771هـ.
وفاته
ظل الإمام ابن رجب شعلة من النشاط العلمي المتجدد، إلى أن(16/262)
وافاه الأجل سنة 795هـ. ولذلك انطوت صفحة من صفحات الجهاد وفقد الناس علما بارزا وإماما فذا، خدم دينه وأمته ودافع عن عقيدتها، وزاهدا ورعا معرضا عن زخرف الدنيا قد ملك عليه العلم وقته وحياته.
عقيدته
الإمام ابن رجب من العلماء الذين ساروا على درب السلف وسلكوا منهجهم في كل شؤونهم. ولا غرو، فهو تلميذ المدرسة السلفية العظيمة التي تخرج فيها أئمة الدين، ونمت فيها أفرع الحق حتى أخنست الباطل وألقمته حجرا وغصصا يتجرعها. بيد أن دعاة الضلال في كل زمان ومكان يتطاولون على مثل هذه القمم الشامخة ويحاولون النيل منها والغض من مكانتها بشتى الوسائل. لكن سرعان ما ينكشف زيفهم ويصبحوا من الناس بمزجر الكلب، وما أثاره المدعو بالكوثري (1) - نحو ابن رجب من هذا القبيل.
آثاره العلمية
ألف ابن رجب كتبا كثيرة تدل على سعة علمه ومعرفته وطول باعه في التفسير والحديث والأصول والفقه، استقصاها المستشرق الأوروبي هنري لاوست ورفيقه في مقدمتهما للذيل على الطبقات. منها: شرح لصحيح البخاري سماه فتح الباري ووقف فيه على كتاب الجنائز، وشرح لجامع الترمذي، وشرح للأربعين النووية وسماه جامع العلوم، وكتاب القواعد الفقهية، ورسالتنا التي بعنوان مختصر فيما روي عن أهل المعرفة والحقائق في معاملة الظالم السارق. هذه لمحة سريعة عن حياة هذا
__________
(1) الإشفاق على أحكام الطلاق \ 41.(16/263)
الإمام، الزاخرة بالعلم والجهاد تناسب حجم هذه الرسالة التي نقدم لها. ولعلي في مستقبل الأيام أعرض لترجمته تفصيلا.(16/264)
وصف المخطوط
وصلتنا صورة هذه الرسالة ضمن مجموعة خطية عن أصل محفوظ بمكتبة فاتح باستانبول تحت رقم 5318. وتقع الرسالة في نحو ثلاث ورقات نسخت سنة ثلاث وتسعين وثمان مائة، بخط عيسى بن علي بن محمد الحوراني الشافعي (1) ، كما هو واضح في نهاية المجموعة، وهي مكتوبة بقلم نسخي جيد ومسطرتها 19 سطرا (ينظر الأنموذج المرفق) .
وقد سجل على طرة المجموع العنوان واسم المؤلف وتملكات ووقفيات مختلفة تبينا منها: عنوان المجموع ومؤلفه ونصه (كتاب مبارك يشتمل على ثمانية عشر مؤلف من تأليف الشيخ الإمام) ثم كتب وسط دائرة بقية الكلام ونصه (العالم العلامة أبو الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي تغمده الله بالرحمة والرضوان وأسكنه فسيح الجنان [بجاه] (2) محمد عليه السلام) !! وتملك على الجانب الأيسر من صفحة العنوان ونصه [دخل] (3) في ملك. . . الفقير إلى ربه. . . الصمد، علي بن. . . بن محمد. . . دمشق سنة 973هـ، وآخر نصه (تملك الفقير إلى ربه. . . الشيخ مصطفى. . . الواعظ)
__________
(1) لم أقف على ترجمته فيما بين يدي من المصادر.
(2) وقع في الأصل (بجا) ولعل الصواب ما أثبتناه.
(3) وقع في الأصل (جل) وليس بشيء.(16/264)
ووقفيات: أحدها كتب بقلم ثخين يشبه الخط الفارسي ونصه (وقف الشيخ أحمد المعروف بحاويش زاده على العلماء ببلده. . . . أو كفيل ملي وخرى (؟) ذلك في المحرم الحرام سنة ثلاث وسبعين وألف للهجرة) وآخر في عرض الطرة ونصه (قد وقف. . . النسخة حضرت سلطان (؟) الأعظم والخاقان الأكرم السلطان بن السلطان. . . محمود حاكم الأتراك. . . وأنا الفقير إلى خالق الكونين نعمة الله. . . بحر من (؟) الشريفين) .
وقد رسم أعلى هذه الوقفية ختم كبير كتب في داخله ما نصه (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) وتحته توقيع غير بين، وفي أسفل هذه الوقفية أيضا ختم صغير تتضح في داخله كلمة (نعمة الله) هذا بالإضافة إلى بعض التوقيعات والأرقام المتناثرة. وقد اجتهدت في التعرف على ما اشتبه. فاستعملت عدسة مكبرة وكررت النظر مع ما هي عليه من سوء الحال؛ لتقادم العهد ورداءة التصوير.
أما عن نسبة الكتاب إلى المؤلف. فإني لم أجد له ذكر في كتبه التي اطلعت عليها ولا ذكره أحد ممن ترجم له فيما اطلعت عليه.
وهذا لا يؤثر على نسبة الرسالة إلى المؤلف؛ لأن من ترجم له وعرف به لم يلتزم عد مؤلفاته على سبيل الحصر، وإنما اقتصر على ما اشتهر كما هو معروف في هذا الفن. وبالجملة فأسلوب ابن رجب لا يكاد يخفى على من له أدنى إلمام بكتبه. وهو ما يلمسه من قرأ هذه الرسالة. يضاف إلى ذلك أن هذا المجموع تداولته أيدي العلماء بالتملك والوقف كما سبق.
وقد كتب في أواخر القرن التاسع فالعهد بالمؤلف قريب كما أنه تضمن كتبا أخرى للمؤلف مطبوعة مشهورة. وهذا كله مما يؤكد نسبة الرسالة إلى صاحبها ويرقى بها إلى درجة الثقة. وبعد، فهذا جهد علمي متواضع، بذلته في تحقيق الرسالة بعد أن تواترت عليها الأيام والسنين حبيسة(16/265)
الخزائن. وحسبي أني ساهمت في إخراجها إلى حيز المطبوعات. راجيا من الله العلي القدير أن أوفق إلى متابعة هذه الجهود فيما يعود بالنفع. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
وكتبه: الوليد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض، المعهد العالي للقضاء
بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
23 \ 5 \ 1406هـ(16/266)
نص الرسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر يا كريم
وبعد. فهذا مختصر، فيما روي عن أهل المعرفة والحقائق في معاملة الظالم السارق.
قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن سب السارق والدعاء عليه. خرج أبو داود (1) من حديث عائشة، «أنها سرقت ملحفة لها، فجعلت تدعو على من سرقها، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها: (لا تسبخي عنه) (2) » قال أبو داود: لا تسبخي، يعني: لا تخففي [عنه] (3) وخرجه الإمام [أحمد] (4) من وجه آخر، عن عائشة قالت: «سرقت لحفتي، فدعوت الله على صاحبها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبخي عليه، دعيه بذنبه) (5) » والمراد: أن من ذهب له مال بسرقة، ونحوها فإن ذهابه، من جملة المصائب الدنيوية، والمصائب كلها كفارة للذنوب، والصبر عليها: يحصل (6) للصابر الأجر الجزيل.
وفي حصول الأجر له على مجرد المصيبة، خلاف مشهور بين العلماء (7) ، فإذا كانت المصيبة من فعل آدمي ظالم: كالسارق والغاصب ونحوهما، فإن المظلوم يستحق أن يأخذ يوم القيامة من حسنات الظالم، فإن لم يكن له حسنات، طرحت من سيئات المظلوم عليه. فإن
__________
(1) لم أعرف به لشهرته وهكذا كل من أرى أن شهرته تغني عن التعريف به.
(2) يقال (سبخ الله عنك الحمى أي خففها) صحاح الجوهري مادة (سبخ) .
(3) ساقط من الأصل والتصويب من السنن (كتاب الصلاة) (باب الدعاء) رقم 1497.
(4) وقع في الأصل بياض بمقدار كلمة بالإضافة للتوضيح.
(5) المسند 6 \ 45-136 وذكر هنا بمعناه.
(6) وقع في الأصل (يحصل للصابه) ولعله سبق قلم من الناسخ.
(7) ينظر عدة الصابرين لابن القيم وجامع العلوم \ 140 ونور الاقتباس \ 64 كلاهما للمؤلف.(16/268)
دعا المظلوم على ظالمه في الدنيا، فقد استوفى منه بدعائه بعض حقه، فخف وزر (171 \ أ) الظالم بذلك. فلهذا، أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن تصبر، فلا تدعو عليه، فإن ذلك يخفف عنه. وخرج الترمذي من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا على من ظلمه فقد انتصر (1) » وروى ليث (2) عن طلحة (3) : أن رجلا لطم رجلا فقال: اللهم إن كان ظلمني فاكفنيه فقال له مسروق: قد استوفيت. وقال مجاهد: لا تسبن أحدا، فإن ذلك يخفف عنه، ولكن أحب لله بقلبك وأبغض لله بقلبك. وقال سالم بن أبي الجعد (4) : الدعاء قصاص.
وشكا رجل إلى عمر بن عبد العزيز رجلا ظلمه، وجعل يقع فيه، فقال له عمر: إنك إن تلقى الله ومظلمتك كما هي، خير لك من أن تلقاه، وقد استقضيتها (5) وقال أيضا: بلغني أن الرجل، ليظلم بمظلمة، فلا يزال المظلوم يشتم الظالم وينتقصه، حتى يستوفي حقه، ويكون للظالم الفضل عليه (6) قال بعض السلف لولا أن الناس يدعون
__________
(1) الجامع (كتاب الدعوات) (باب من دعا على من ظلمه فقد انتصر) رقم 3547 وأخرجه ابن أبي يعلى من طريق إبراهيم عن الأسود عن عائشة مرفوعا- طبقات الحنابلة 1 \ 408.
(2) هو أبو بكر ليث بن أبي سليم القرشي مولاهم صدوق اختلط أخيرا فترك. تهذيب 8 \ 465. تقريب 2 \ 138.
(3) هو أبو محمد طلحة بن مصرف اليامي الكوفي. ثقة قارئ فاضل. الحلية 5 \ 14. تهذيب 5 \ 25. تقريب 1 \ 380.
(4) هو سالم بن رافع الغطفاني مولاهم الكوفي. ثقة. وكان يرسل كثيرا. تهذيب 3 \ 432. تقريب 1 \ 279.
(5) سيرة الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي \ 206.
(6) المصدر السابق \ 73.(16/269)
على ملوكهم، لعجل لملوكهم العقاب. ومعنى هذا: يشير إلى أن دعاء الناس عليهم استيفاء منهم لحقوقهم- من الظالم- أو لبعضها. فبذلك يدفع عنهم العقوبة. وروي عن الإمام أحمد قال: ليس بصابر من دعا على من ظلمه. وفي مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد ظلم [171 \ ب] بمظلمة (2) لله عز وجل، إلا أعز الله بها نصره) » ويشهد له ما خرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا (3) » فإن دعا على من ظلمه بالعدل جاز وكان مستوفيا لبعض حقه منه، وإن اعتدى عليه في دعائه لم يجز. وروي عن ابن عباس في قوله تعالى {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} (4) قال: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد، إلا أن يكون مظلوما، فإنه قد رخص له أن يدعو على من ظلمه وذلك قوله تعالى {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} (5) ومن صبر فهو خير (6) وقال الحسن: قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله تعالى {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} (7) ومن صبر فهو خير. وقال
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/436) .
(2) (1) ، فيغضي عليها في الفتح ترتيب المسند 19 \ 82 (عنها) .
(3) (في البر والصلة) (باب استحباب العفو والتواضع) رقم 2588 وخرجه أيضا الترمذي رقم 2030 (في البر والصلة) ومالك في الموطأ (كتاب الصدقة) 2 \ 1000 وابن خزيمة في الصحيح رقم 2438.
(4) سورة النساء الآية 148
(5) سورة النساء الآية 148
(6) تفسير الحافظ ابن كثير 2 \ 394.
(7) سورة النساء الآية 148(16/270)
الحسن: قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، من غير أن يعتدي عليه. وروي عنه قال: لا تدع عليه، ولكن قل: اللهم أعني عليه، واستخرج حقي منه (1) ومن العارفين من كان يرحم ظالمه، فربما دعا له: سرق لبعضهم شيء فقيل له: ادع الله عليه، فقال: اللهم إن كان فقيرا فأغنه، وإن كان غنيا فاقبل (توبته) (2) .
وقال إبراهيم التيمي: إن الرجل ليظلمني، فارحمه، قيل له: كيف ترحمه وهو يظلمك، قال: إنه لا يدري لسخط [1 \ 172 أ] من تعرض. وآذى رجل أيوب السختياني، وأصابه أذى شديدا فلما تفارقوا، قال أيوب: إني لأرحمه، إنا نفارقه وخلقه معه! وقال بعضهم: لا يكبرن عليك ظلم من ظلمك، فإنما سعى في مضرته، ونفعك. وقيل لبعض السلف الصالح: إن فلانا يقع فيك، قال: لأغيظ من أمره. يغفر الله لي وله. قيل: من أمره؟! قال الشيطان. وقال الحجاج بن الفراقصة (3) : بلغنا أن في بعض الكتب: من استغفر لظالمه، فقد هزم الشيطان (4) وقال الفضيل بن عياض: حسناتك من عدوك
__________
(1) تفسير القرطبي 6 \ 1 وابن كثير 2 \ 394.
(2) وقع في الأصل ما صورته (فاقبل بظلمه) ولعل الصواب ما أثبتناه.
(3) هو حجاج بن فراقصة الباهلي البصري، صدوق، عابد، يهم. الحلية 3 \ 109. تهذب 2 \ 204. تقريب 2 \ 154.
(4) حلية الأولياء 3 \ 109.(16/271)
أكثر منها من صديقك؟! إن عدوك يغتابك، فيدفع إليك حسناته الليل والنهار، فلا ترضى إذا ذكر بين يديك [أن تقول] (1) اللهم أهلكه، لا، بل ادع الله له: اللهم أصلحه، اللهم راجع به، فيكون الله يعطيك أجر ما دعوت، فإن من قال لرجل: اللهم أهلكه فقد أعطى الشيطان سؤاله؟! لأن الشيطان إنما يدور منذ خلق الله آدم على هلاك الخلق (2) وفي كتاب الزهد للإمام أحمد أن رجلا من إخوان فضيل بن عياض، من أهل خراسان، قدم مكة، فجلس إلى الفضيل في المسجد الحرام يحدثه، ثم قام الخراساني يطوف، فسرقت منه دنانير ستين أو سبعين، فخرج [172 \ ب] ، الخراساني يبكي فقال له فضيل: ما لك؟ قال سرقت الدنانير، قال عليها تبكي؟ قال: لا، مثلتني وإياه بين يدي الله عز وجل فأشرف عقلي على إدحاض حجته، فبكيت رحمة له (3) وسرق لبعض المتقدمين شيء، فحزن عليه، فذكر ذلك لبعض العارفين فقال له: إن لم يكن حزنك على أنه قد صار في هذه الأمة من يعمل هذا العمل، أكثر من حزنك على ذهاب مالك، لم تؤد النصيحة لله عز وجل في عباده إليه!! أو كما قال. وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أبي أمية المخزومي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه «أتي بلص قد اعترف، ولم يوجد معه متاع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما إخالك سرقت؟ قال: بلى، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا!! فأمر به، فقطع،
__________
(1) وقع في الأصل (يقول) والتصويب من الحلية 8 \ 97.
(2) الحلية وقد اختصرها المؤلف عما هنالك.
(3) لم أقف على هذه القصة في كتاب الزهد!!.(16/272)
وجيء به فقال: استغفر الله وتب إليه، فقال: أستغفر [الله] وأتوب إليه، فقال: اللهم تب عليه، ثلاثا (2) » . ولفظه لأبي داود وفي صحيح البخاري، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتي برجل قد شرب، فقال: (اضربوه) فضربوه، فلما انصرف، قال بعض القوم: أخزاك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا هكذا، لا تعينوا الشيطان عليه (3) » وفي رواية له أيضا «لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم (4) » وخرجه النسائي [173 \ أ] بمعناه. وزاد. ولكن قولوا: «رحمك الله (5) » وخرجه أبو داود، وعنده: ولكن قولوا: «اللهم اغفر له، اللهم ارحمه (6) » وخرج البخاري أيضا، من حديث عمر بن الخطاب، «أن رجلا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارا (7) ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك منه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد جلده في الشراب فأتي به يوما، فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر
__________
(1) سنن النسائي قطع السارق (4877) ، سنن أبو داود الحدود (4380) ، سنن ابن ماجه الحدود (2597) ، مسند أحمد بن حنبل (5/293) ، سنن الدارمي الحدود (2303) .
(2) ساقط من الأصل والمثبت من السنن (كتاب الحدود) (باب التلقين في الحد) رقم 4380. (1)
(3) (كتاب الحدود وما يحذر من الحدود) (باب الضرب بالجريد والنعال) 8 \ 14 وهو أطول مما ذكره المؤلف.
(4) (كتاب الحدود وما يحذر من الحدود) (باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج من الملة) 8 \ 14.
(5) السنن الكبرى (كتاب الحدود) كما في تحفة الأشراف للمزي 10 \ 474.
(6) السنن (كتاب الحدود) (باب الحد في الخمر) رقم 4478.
(7) (كتاب الحدود وما يحذر من الحدود) (باب ما يكره من لعن شارب. .) 8 \ 14 مع بعض الاختلاف.(16/273)
ما يؤتى به، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ومال: (لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله) »
تم، وصلى الله على سيدنا محمد.(16/274)
قضية البعث
في ضوء الوحي والعقل
بقلم:
الشيخ محمد المجذوب.(16/275)
* الشيخ محمد المجذوب.
* ولد عام 1907 م، بمدينة طرطوس إحدى محافظتي الساحل السوري في بيت متدين.
* تلقى دراسته الأولية في الكتاب ثم في مدارس الدولة العثمانية، ثم على الشيوخ ومن ثم مضى في طلب المزيد من العلم والثقافة معتمدا بعد الله على جهده الشخصي.
* بدأ حبه للمطالعة منذ طفولته، توفي والده وهو في الخامسة عشرة فتحمل عبء الأسرة وحده.
* بدأ عمله في سلك التعليم في مطلع عهد الاستقلال في سوريا 1936 م، وما زال يتدرج خلال مراحله حتى التحق بخدمة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة مدرسا من عام 1383هـ حتى 1403هـ.
* عام 1948م، نال الجائزة الأولى من جامعة الدول العربية على نشيده الذي اختير من مائة نشيد.
* دخل ميدان الإنتاج الأدبي والفكري قبيل العشرينات من عمره بقصيدة وطنية نشرتها إحدى الصحف المحلية، ثم برسالة يرد بها على دعاة النصرانية بعنوان: (فضائح المبشرين) ، وهكذا حتى بلغت مؤلفاته المطبوعة والمشرفة على الطبع قرابة الخمسين ما بين شعر وقصص وبحوث ثقافية تنطلق جميعها من الرؤية الإسلامية.(16/276)
قضية البعث في ضوء الوحي والعقل.
بقلم:
الشيخ محمد المجذوب.
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (1) .
هذه الإشارة الإلهية على صراحتها لا يدرك دلالتها سوى المؤمن الذي أخذ نفسه بأدب القرآن، فهو يتقصى معانيه بكل طاقاته العقلية والشعورية، ولذلك يجد نفسه كل يوم في جديد من هذه المعاني لا تفتأ تفتح لعينيه آفاقا متجددة من أسرار هذا الكتاب، الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير.
لقد كنت أستمع إلى الآيات الكريمة التي رتلها الإمام من سورة (فاطر) أثناء صلاة الفجر، فأسبح في جوها مأخوذا بدلالاتها حتى بلغ قوله تعالى {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} (2) .
وكأني لا أسمع حروفا وألفاظا بل أشاهد بعين بصيرتي عملية الخلق والتكوين والبعث في مراحلها المتتابعة. . . فأرى الرياح وقد أرسلها البارئ العظيم بصيغة الماضي أرسل فلا تلبث أن تقوم بمهمتها التي وجهت إليها فإذا هي تثير- بصيغة المضارع الدال على الحركة والتجدد- متفرقات من السحاب التي لا تلبث أن تنطلق نحو الجهة التي حددت لها لتصب حمولتها من الماء على الأرض اليابسة، التي فارقت بشاشة
__________
(1) سورة الفرقان الآية 1
(2) سورة فاطر الآية 9(16/277)
الحياة، كالميت الذي انقطع عمله، فما إن يمسها ذلك الري حتى تعاودها الحياة بعودة الانفعال والتفاعل والانبهات.
ولكن المشهد لم ينته بعد، فإذا نحن أمام عالم آخر من الوجود المحجوب الذي طالما تساءل عنه الإنسان تشوقا إلى مصيره المجهول، غير أنه على سعته وروعته ولهفته إلى رؤيته لا يكاد يلمع منه سوى الصورة المجملة المقصورة على هاتين الكلمتين {كَذَلِكَ النُّشُورُ} (1) ولذلك فلا مندوحة للعقل من التساؤل هنا عن الصلة بين صدر الآية وخاتمتها، وسرعان ما يجد نفسه تلقاء القضية الكاملة التي تضعه أمام مبدئه ونهايته! .
__________
(1) سورة فاطر الآية 9(16/278)
من المشهود إلى المحجوب.
إنك ستتذكر حتما هاتيك الصورة المعهودة، التي طالما وقع حسك عليها حين تتلبد السماء بالغيوم، وهي مسوقة بسياط الرياح لتكثف محتوياتها من الذرات المنتشرة، حتى تلقي بها إلى ميت من الأرض ماء غدقا يوقظ هاجع التراب، فينهض لتفجير طاقة الحياة في البذور الدفينة، لتطل من قبورها أعشابا وأشجارا وأثمارا وأزهارا، ولتنشر على البقاع الأخرى المناهل التي تمد الأحياء من بشر وطير وحيوان بكل ما يعوزها من أسباب البقاء.
ولكن الصورة الرائعة لم تستكمل دلالتها بهذه العناصر والمراحل، إذ تحملك من المشهود إلى المحجوب فتذكرك بالمراحل التي تقطعها أنت كذلك في رحلة الحياة، منذ أبدعتك يد الخلاق العظيم من تراب هذه الأرض حتى تصير بك إلى الخمود الذي رأيت مثله في موات الأرض والنبات، وكما أن خمودها لم يعد أن يكون واحدة من مراحل الإبداع الإلهي يستريحان خلاله من الكدح الدؤوب، إلى حين يأتي أمر الله(16/278)
بمدد الحياة الجديد، فيستعيدان وجودهما كأتم ما يكون الوجود. . هكذا أنت صائر بقدرة هذا الحكيم العليم بعد الوجود الأول إلى حياة جديدة أخرى، لا كحياة التراب والنبات التي لا وظيفة لها سوى تأمين الحاجات الضرورية للمخلوق؛ الذي سخر الكون المادي لخدمته، بل إلى حياة خاصة بهذا المخلوق الذي ميزه الخلاق الحكيم بالمسؤولية عن أعماله وأقواله، فكان بهذه المسؤولية جديرا بالخلود الذي لا ينقطع، والنعيم أو الجحيم الذي استحقه وفق ميزان العدالة التي لا يضيع عندها عمل عامل ولو مثقال ذرة من الخير أو الشر.(16/279)
بين الحياة والموت.
ويستغرقني موضوع البعث حتى ليلاحقني خياله فلا أجد مناصا من معالجته في هذه الخلوة التي أنفرد بها للكتابة، وتتداعى على ذهني الأفكار من هنا وهناك، وأتذكر ذلك المشهد المهيب الذي تعرضه سورة الروم في قول الحي القيوم {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} (1) .
فأشخص إلى ذلك التداخل العجيب بين الحياة والموت. فهاهنا حي يخرج من ميت وهناك ميت يخرج من حي. . وهي عملية متجددة أبدا بدلالة الفعل المضارع، ويجب أن تكون مما وقع عليه الحس في وجودنا اليومي. . فأين يحدث هذا. . وكيف؟ . .
وسرعان ما انتصبت في بصيرتي صورة الأظفار التي قلمتها آنفا، والشعر الذي قصصته عن رأسي بالجهاز الكهربي. . أليس كلاهما من الأشياء التي توصف بالموت. . أولم يكونا قبيل لحظات يتمتعان بخاصية النوم المستمدة من الكيان الحي الذي يشار به إلي؟ . . فتلك هي إذن
__________
(1) سورة الروم الآية 19(16/279)
أقرب الصور لخروج الميت من الحي. . فلنبحث عن الصورة المقابلة التي تمثل الحياة وهي خارجة من الميت، وها نحن أولاء نشهدها كل لحظة في انبثاق النبات من أعماق التراب! . . والنبات ما دام محتفظا بخاصية النماء فهو حي، وفي انبثاقه من التراب الجامد أقرب الأمثلة كذلك على خروج الحي من الميت. . وقد رأينا عملية الموت والحياة وهي تتعاور الأرض فبينا نراها هامدة لا أثر للحياة عليها، إذا هي تهتز وتربو بمجرد أن مستها رحمة الله بالغيث المنهمر. . ثم ماذا؟ . . ثم توافيك النتيجة المنطقية التي لا تقبل الخلاف، وهي جريان هذا القانون على وجود الإنسان الذي يشارك النبات في مسيرة التطور، من الولادة حتى انطفاء الذبالة الأخيرة. . وفي موعده المقرر بعالم الغيب حيث تفاجئه دعوة الخالق العظيم فإذا هو ينفض عن نفسه غبار الردى ويأخذ طريقه إلى ساحة الحساب! . .(16/280)
الرحلة الجديدة.
وما أكاد أفرغ من تملي ذلك المشهد الباهر حتى ترتسم في بصيرتي صورة الحياة بأجمعها، من قبل الولادة حتى قيام الخلق لأداء حسابهم بين يدي ربهم في إطار التفصيل الذي يأخذ بالألباب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (1) .
__________
(1) سورة الحج الآية 5(16/280)
إنه نداء موجه من بارئ الكون إلى الناس جميعا فحري بهم أن يتهيئوا لاستماع جوابه بكل ما يملكون من طاقة الوعي. ويخص بالذكر أولئك الذين صرفتهم الغفلة عن مشاهدة الحقائق الناطقة في حيواتهم نفسها، حتى تسلل إلى قلوبهم الشك في إمكان العودة بعد الموت. ويبدأ العرض بمنشأ الإنسان الأول إذ بدأ خلقه من الطين وهي قضية مسلمة لا يختلف فيها عاقلان، وإن غاب عن كثير من المفكرين كيفية الانبثاق الذي أحدث الحركة الحية في ذلك الكائن. . . وتتوالى عملية الخلق إذ تأتي مرحلة التوالد الذاتي حيث تأخذ الحياة سبيلها التكاثري عن طريق التناسل التطوري، فنشهد البذرة الإنسانية في مسيرتها العجيبة نطفة ثم علقة ثم مضغة. . مما لم يكن قد تيسر لأحد من الخلق رصدها قبل العصر الحديث الذي أتيح لذوي التخصص من أهله أن يشاهدوا تلك المراحل عيانا، عن طريق الأشعة الكونية والمناظير الإلكترونية، إلى أن تبرز هذه البذرة خلقا آخر في صورة الطفولة المشهودة.(16/281)
شهادة كونية.
ويمضي العرض مع هذا الكائن خلال رحلته الجديدة حتى يبلغ أشده ثم ينتهي إلى أرذل العمر حتى تتعطل ملكاته فتنقطع الصلة بين أمسه ويومه، ويعود كما بدأ لا يستطيع شيئا إلا بمعونة الآخرين. . حتى يحتل مكانه من التراب الذي بدأ منه.
وفجأة يتغير المشهد فإذا نحن أمام ظاهرة الموت تغمر الأرض اليباب، حتى إذا مستها نفحة من رحمة الله استأنفت حركتها نحو النمو والازدهار والإنتاج. . . وقبل أن تتحرك شفاهنا بالتساؤل عن العلاقة بين الظاهرتين نجد أبصارنا وعقولنا مشدودة إلى التعليل الإلهي الشافي الكافي.(16/281)
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) .
فالقضية إذن على غاية من وضوح الدلالة على أننا تلقاء شهادة كونية بأن الله هو الحق الذي لا مندوحة عن الإقرار بربوبيته والتسليم لقدرته التي بأمرها وحكمتها تحققت كل هذه المعجزات المنظورة، وبها ستتحقق المعجزة المنتظرة بعودة الرفات إلى الحياة التي ليس بعدها ممات. . وهي المقدمة القاطعة بـ {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (2) .
__________
(1) سورة الحج الآية 6
(2) سورة الحج الآية 7(16/282)
ونسي خلقه.
وإنه لمن المدهش حقا أن تعمى بعض القلوب عن هذه الحقائق وهي تشهدها أنى اتجهت من هذا الكون بارزة شاخصة تسترعي الانتباه وتثير التفكير، حتى تسمع بعض هؤلاء المضللين يعلن في وقاحة السفهاء {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (1) .
ويبالغ أحدهم في قحته وتعاميه عن هذه الحقيقة إلى حد أن يتحدى نبي الله في إنكارها، ويأتيه بعظم بال يفته في يده ثم ينفخ ذراته في الهواء وهو يقول: (أتزعم أن الله يبعث هذا؟ . . .) وسرعان ما يأتيه الجواب من فوق سبع سماوات قرآنا يفحم كل مريد عنيد على وجه الدهر.
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} (2) {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (3) .
وهل بقي لذلك المغرور ما يقوله وهو يتلقى هذا الرد المخرس الذي يصدم عينيه في كل شيء؟! أفليست إعادة الشيء إلى وضعه الأول أهون وأيسر
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 37
(2) سورة يس الآية 78
(3) سورة يس الآية 79(16/282)
من اختراعه ابتداء. . . وإن كان ذلك صحيحا بالنسبة إلى عمل الإنسان، أفليس هو أحق وأكمل بالنسبة إلى خالق الحياة والموت!! . . وكيف يعتري الشك إنسانا بقدرة ربه على إعادته إلى الحياة بعد الموت، وهو يرى إلى هذه القدرة ماثلة في كل ما يقع عليه البصر والسمع والحس!!! .
{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ} (1) .
ويا لله ما أروع وأبدع ذلك الاستدارك المخجل لكل معاند {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} (2) هذا المغرور المأفون يقدم على وقاحة الإنكار بقدرة ربه ناسيا أن في نفسه وتركيبه، وحتى في لسانه الذي يحركه بمثل هذا الهوس أقرب الأمثلة على أفنه وغروره وتفنيد ضلاله! . .
__________
(1) سورة يس الآية 81
(2) سورة يس الآية 78(16/283)
الأصل المفقود.
على أن هذا كله من حقه أن يبعثنا على التساؤل كذلك: إذا كان للنبات بذوره التي تحمل خواصه الأساسية، وبها يرجع إلى استئناف حياته من جديد، فهل للإنسان من بذور يعود بها إلى استئناف الحياة كشأن هذا النبات؟ . .
الظاهر أن الفصيلة الوحيدة التي يتم بها تواصل النسل الإنساني هي الوسيلة الوحيدة لاستمرار النوع، وهو أمر غير مضمون البقاء. إذ كثيرا ما نرى عقيما ينتهي وجوده بموته. . وقد يذهب الخسف أو الزلزال بأمة فلا تخلف وراءها من أثر. . كالنبتة التي تتلف بذورها فلا ينتظر لها من معاد. . وكالكائنات الحية التي أتى عليها الفناء فلم يبق من دليل على مرورها بالأرض سوى بعض الأحافير. . وبما أن البعث الذي يخبرنا به(16/283)
القرآن العظيم هو عام لكل نفس مرت بهذه الحياة وجب أن يكون ثمة (أصل) لا نعرفه منه تنبثق العودة العظمى إلى الحياة الثانية. . . فما هو؟ . . وأنى هو؟ . .
في صحيح البخاري عن أبي هريرة (رضي الله عنه) يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما بين النفختين أربعون، ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه، فبه يركب الخلق (1) » .
وقد توارد على رواية هذا الخبر العديد من كتب الحديث كمسلم والنسائي وأبي داود وأحمد. . وعلى الرغم من أننا لم نر هذا العجب ولم نعرف عن صفاته سوى ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من كونه كحبة الخردل (2) ، فهو من الحقائق المسلمة عند أولي العلم والإيمان لصدورها بحق على لسان المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى. . ومن هنا نطل على (الأصل) المفقود الذي من خلاله نطلع على منطلق الحياة إلى الدار الآخرة.
والظاهر كذلك أن هذا العجب قد خص به الخالق الإنسان دون غيره من سائر الخلق. . وبخاصة عالم النبات الذي زوده من أسباب التجدد بتلك البذور المساعدة على تواصل البقاء على هذه الأرض، حتى إذا بدلت الأرض غير الأرض انتهى دورها، وبدأ دور هذا الإنسان المميز بالتكليف والمعرض للمسؤولية عن أمانة الله، التي أقدم على تحملها بعد أن أحجمت الأرض والسماوات والجبال عن ذلك.
ومع جهلنا التام لماهية هذا العجب فقد فهمنا من كونه الشيء الذي (فيه يركب الخلق) أن له مثل خاصية البذرة النباتية ما إن يتوافر لها الجو الملائم حتى تشرع في التفاعل المتلاحق إلى أن تستكمل صورتها الأولى. .
__________
(1) انظر كتاب التفسير من صحيح البخاري جـ 8، ص 552 و553، ط السلفية.
(2) انظر كتاب التفسير من صحيح البخاري جـ 8، ص 552 و553، ط السلفية.(16/284)
بلى شهدنا.
وقديما بحث الإمام أبو محمد بن حزم - في كتابه الفصل- موضوع البذرة وخواصها- وجيناتها المميزة- وكان مما تحدث عنه هناك ما يمكن تسميته بـ (نظرية الكون) ، التي تلخص باحتواء البذرة مهما تبلغ من الضآلة على كل خصائص النوع، من جذور وفروع وأوراق وألياف وما لا يحصيه إلا الله من مركباته. . . فمهمتها بعد توافر الوسط الصالح إطلاق كل جزيء منها في سبيله المرسومة حتى يستوفي هيئته المقدرة له.
وهذا مما يذكرنا بمضمون الآية الكريمة من سوره الأعراف حيث يقول جل وعز {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} (1) .
ويأتي الحديث الشريف ليفصل لنا مجمل هذا المضمون العجيب بقوله صلوات الله وسلامه عليه وآله - حسب رواية أحمد عن ابن عباس -: «إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان يوم عرفة، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه، ثم كلمهم قبلا) قال (3) » .
وأول ما يتبادر للذهن من مفهوم لهذا الحديث الشريف هو أن في صلب أبي البشر- آدم عليه السلام- أصول ذراريه جميعا، وأن الله تبارك اسمه قد استخرجهم وأخذ عليهم ميثاق التوحيد، الذي أودعه فطرهم. . ونحن لا نتصور مقدار الصغر الذي كانت عليه هذه الأصول يومذاك، ولكننا لا نستغرب الخبر بعد أن كشف العلم الحديث بعض صفات الذرة التي تنطوي على ما لا يتصور من الطاقة، مع أن أربعين
__________
(1) سورة الأعراف الآية 172
(2) وقد تعددت صور هذا الحديث وروايته بين مرفوع وموقوف. انظر تفسير ابن كثير للآية.
(3) سورة الأعراف الآية 172 (2) {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا}(16/285)
مليون ذرة لو رتبت في خط مستقيم لم تتجاوز مقياس البوصة الواحدة! .
فهل يكون الواحد من هذه الأصول هو عجب الذنب الذي يشير إليه الحديث الشريف؟ . أو أنها إشارة إلى المقر الذي يكمن فيه هذا الأصل حتى يأتيه داعي الله ليوم الحساب!!! .
وما يهم المفكر هنا بوجه خاص هو أن ثمة أصلا في الإنسان لا يناله البلى ومنه تنطلق أجهزة الحياة لاستعادة هيئته التي حجبها الموت، كما تنطلق بنية النبتة من البذرة المحتوية لكل خواصها.(16/286)
من المسؤول.
خلال الربع الثالث من هذا القرن فوجئ الناس بأخبار الأعضاء تزرع في بعض الأجسام، وقد تعددت القلوب التي استعيرت من أجسام لتركب في أجسام غيرها. . وتسابق علماء الأحياء في كشوفهم وتجاربهم المتصلة بهذه الناحية، وكان منها تركيب الخبراء الروس رأس كلب على جسم كلب آخر.
وانطلقت عقيب هذه التجارب أسئلة الفضوليين: هذه القلوب التي تبادلت حملتها، والأدمغة التي يحتمل أن تنقل كالقلوب من أشخاص إلى أشخاص، كيف تؤدي حسابها أمام الله يوم يحشر الخلق للثواب والعقاب؟ . أيكون حسابها عن الأجسام التي كانت فيها أم يكون عن الأجسام التي صارت إليها؟! .
حقا إنها لأسئلة محيرة كل التحيير. . ولكن هذه الحيرة لا تلبث أن تتبدد، كالفقاعة التي تتصاعد من أسفل الوعاء فما إن تمس سطحه حتى تفرغ شحنتها في مكانها من الهواء فإذا هي في حكم العدم. . وهذا ما سينتهي إليه المتأمل عندما يعود إلى النظر العميق في وظائف الأعضاء من الجسم الحي.(16/286)
وقبل الشروع في ذلك علينا أولا أن نطرح على أنفسنا هذا السؤال: هذا الإنسان الذي نناقش موضوعه. . ما هو؟ . . ومن هو؟ . . ومن أين يستمد خصائصه الفاعلة؟ . .
ليس سؤالنا هذا بالأمر اليسير الباعث على السخرية. . فقبلنا وقف أكابر المفكرين يعانون مثل حيرتنا ثم خرجوا من تساؤلهم إلى مثل هذا السؤال الآخر الذي لم يستطيعوا له جوابا:
أتزعم أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر(16/287)
موجود فوق المادة.
كل ما علمه الإنسان عن عالمه الأكبر هذا هو أن لكل عضو ولكل جارحة ولكل خلية في جسمه وظيفة خاصة تؤديها في وعي يعجز الحاسبين والحاسبات، ولكن في تعاون شامل بين مجموع عناصره، يؤمن لكل جزيء حقه من الحياة. ولكن ثمة وظيفة أخرى هي الكبرى بالنسبة إلى هذا الكيان العجيب، وهي وظيفة الإشراف الضابط لعمل الكل، فقد يفقد الجسم أحد أعضائه أو جوارحه، كالعين واليد والقدم والبصر والسمع، ومع ذلك يظل ذلك الضابط حاضر العلم بذاته وما حوله، محتفظا بخاصية الإدراك والتذكر والتفكر، حتى تختتم مهمته قي الحياة الدنيا. . وبذلك يتوافر لنا اليقين بأن الأعضاء وسائر الأجزاء المادية من الجسم ليست هي الإنسان، بل هي الوعاء أو الأوعية التي يعمل عن طريقها، كشأن التيار الكهربي الذي ينطلق في الأسلاك فيكون هنا ضوءا وهناك حرارة وهناك حركة. . ويظل التيار هو القوة المؤثرة الأولى التي بانقطاعها يتوقف عمل الأجهزة كلها.
وإذن فالإنسان الذي عليه مدار النقاش لا بد أن يكون موجودا آخر(16/287)
فوق المادة، ومن خصائصه الأولى ألا يعتريه البلى الذي يعرض للجسد، بل ينفصل عنه بمجرد انحلال عناصره الحسية، ليواصل وجوده في كينونة أخرى مناسبة له. . وذلك هو السر الذي يطالعنا في مواطن كثيرة من كتاب الله ومن حديث رسوله الأمين صلوات الله وسلامه عليه.(16/288)
ذلك هو الإنسان.
1 - ففي القرآن العظيم يقول ربنا تبارك اسمه {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (1) .
فهاهنا أنفس يتوفاها الله بالموت فيمسكها عن العودة إلى الحياة، وأخرى يسكب عليها غيبوبة النوم إلى حين، ثم يطلقها لمواصلة العيش، حتى تستوفي مدتها التي قدرها لها.
والتوفية في كلتا الحالتين إنما هي، والله أعلم، استيفاء المقدار الذي حدد للموت والنوم من قبل القادر الحكيم، الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات والأرض، لأن كل شيء عنده بمقداره ومثل هذا المدلول للتوفية هو المعني في رثاء طرفة على لسان أخته:
عددنا له ستا وعشرين حجة ... فلما توفاها استوى سيدا ضخما
وفي هذا التعبير القرآني دلالة قاطعة على أن للنفس كيانا خاصا قد عين له نطاق محدود من الزمن يقضيه في صحبة الجسد، فإذا استوفاه أمسك بأمر ربه كما يشاء وحيث يشاء إلى حين يشاء.
2 - ويقول ربنا جل جلاله عن نهاية العصاة الذين لم يمنعهم إيمانهم من المقام في مستنقعات الكفر، الذي يعرضهم وأبناءهم للانحراف عن
__________
(1) سورة الزمر الآية 42(16/288)
سبيل المؤمنين {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (1) .
هذا الحوار بين ملائكة الموت وأولئك الخاضعين لأحكام الطواغيت. . إنما يجري بين الفريقين بعد أو أثناء انفصال أرواح هؤلاء عن أبدانهم. ويستحيل أن يحدث ذلك لو كان الموت قد أصاب هذه الأرواح كما أصاب أجسامها، وهو حوار واع يؤكد أن لها كل خواص (الإنسان) الذي كانت تحتل صورته قبل الموت، ولا تفسير لذلك إلا أن هذا المتحدث إنما هو نفسه (الإنسان) الذي تفصل المنية بينه وبين أجزائه الترابية التي انتهت مهمتها.
3 - وعن الشهداء الذين صدقوا الله ما وعدوه يرينا المولى تباركت أسماؤه هذه الصور السعيدة {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (2) {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (3) .
فالشهداء أحياء عند ربهم مرزوقين فرحين مستبشرين. . وهذه أحوال لا يمكن تصورها إلا في أحياء يحتفظون بكل وعيهم الذي عاشوا به من قبل، وإن اختلف النوع بين الحياتين اختلاف العالمين اللذين تنقلوا بينهما. . وفي صحيح مسلم أن «أرواحهم في جوف طير خضر (4) » ، وفي أثر آخر أنها في حواصل طير خفر تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش. وذلك من إكرام ربهم لهم، على حين تكون أرواح الكفرة والفسقة في مقارها المناسبة لها، كما هو الحال بالنسبة إلى آل فرعون الذين يصور لنا الله مصيرهم بقوله الحق {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (5) .
__________
(1) سورة النساء الآية 97
(2) سورة آل عمران الآية 169
(3) سورة آل عمران الآية 170
(4) صحيح مسلم الإمارة (1887) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3011) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2801) ، سنن الدارمي الجهاد (2410) .
(5) سورة غافر الآية 46(16/289)
فهذا عذاب متصل يبدأ بمرحلة البرزخ عقيب الموت ويمتد إلى ما شاء الله بعد الحساب.(16/290)
ليس الموت بالعدم المحض.
والحديث عن الأرواح يستدعي البحث في مصيرها من حيث الاستمرار والانقطاع. . أهي باقية خالدة. . أم أنها كغيرها هن المخلوقات التي تتعرض لتيارات من هذه وتلك؟ . .
وقد اختلف العلماء قديما في هذا الموضوع، ولكن أرجح ما وصلوا إليه هو أن روح كل إنسان إنما يبدأ وجوده بنفخة الملك الموكل به، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود (رضي الله عنه) : «أن خلق ابن آدم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح (1) » . أما متى تنتهي رحلة هذا الروح المخلوق بأمره تعالى من نفخة الملك فلا جواب على ذلك، لأن (الروح لا يلحقه عدم ولا فناء ولا اضمحلال) وقد أخبرنا البارئ سبحانه عن مصير الأشقياء في سورة طه {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} (2) ويكرر المعنى نفسه في سورة فاطر {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} (3) فهم مخلدون لا يجدون موتا يريحهم من العذاب ولا تتاح لهم نفحة من الأمن تذيقهم طعم الحياة.
__________
(1) انظر البحث موسعا في (لوامع الأنوار) للسفاريني، جـ 2، ص 44، من مطبوعات الشيخ علي آل ثاني.
(2) سورة طه الآية 74
(3) سورة فاطر الآية 36(16/290)
أما قوله تعالى {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} (1) .
فقد قال بعض كبار المفسرين إن الصعق شيء غير الموت. وأقول: لعله ضرب من الصدمة الهائلة تضرب الخلق فتشتت وعيهم ثم يعودون إلى رشدهم بالنفخة الثانية. وفي الاستثناء ما ينبئ بأن ثمة من ينجو من ذلك الصعق بإذن الله، ولو كان الصعق هو الموت لكان موتة أخرى، وهو لا يتفق مع الخبر الإلهي {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} (2) وهي التي حصلت بمفارقة الروح جسدها، إذ ليس الموت في حقيقته بالعدم المحض، بل هو مجرد انتقال من حال إلى حال.
__________
(1) سورة الزمر الآية 68
(2) سورة الدخان الآية 56(16/291)
مناط الثواب والعقاب.
ونتساءل الآن عن الصورة التي يتم بها البعث الموعود، وهو من الأسرار التي اختص بها الخالق العظيم ذاته، فلم يطلعنا على تفصيلاتها إلا قليلا في إشارات الكتاب المجيد، وفي ما أعلم به رسوله. . وكلها متفقة على أنه تعالى يعيد الإنسان كما فطره أول مرة كقوله سبحانه {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (1) ، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} (2) .
وقد رأينا بدء الخلق على الصورة التي تجمع بين الروح والجسد، فكذلك الإعادة بشهادة الحكيم الخبير الذي يقول في سورة التكوير عن بعض ظواهر يوم القيامة {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} (3) وإنما هو الجمع بين روح الفرد والهيكل المادي، إذ كان الموت قد فصل بينهما فانفرد كل عن الآخر، فإذا جاء موعد الحشر زاوج الله بينهما من جديد.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 29
(2) سورة الأنبياء الآية 104
(3) سورة التكوير الآية 7(16/291)
وفي الصحيحين عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وآله أنه قال: «أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا. . .) (1) » وهي صفات خاصة بالهيكل المادي لا تنصرف لغيره.
بقي أن نسأل أنفسنا أيضا: هذه الأعضاء التي عن طريقها نتعامل مع الإنسان في هذه الدنيا، أهي نفسها التي ستعود ليحتلها الروح يوم البعث؟ . . أم هي خلف لها وبديل يخلقها الله بقدرته الخارقة؟ .
ليس بالمستغرب في منطق العقل والإيمان أن يعيد سبحانه متفرقات الأجزاء التي دمرها البلى وتناثرت في آلاف بل ملايين الملايين من العناصر الأرضية. . ولكن أي فرق موضوعي بين أجزاء ترابية يستخلصها ربنا بأمره من متاهاتها التي لا يحيط بها علما غيره، وبين أجزاء بديلة يبدعها من جديد، ومن المادة نفسها، ما دامت المسؤولية كلها واقعة على الذات المتحكمة الفاعلة؟ . . أو ليس في قول ربنا سبحانه بشأن أهل النار {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} (2) مما يؤكد هذه الحقيقة وهي كون الروح وحده هو مناط الحساب والعقاب! . .
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4625) ، صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2860) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3167) ، سنن النسائي الجنائز (2087) ، مسند أحمد بن حنبل (1/253) ، سنن الدارمي الرقاق (2802) .
(2) سورة النساء الآية 56(16/292)
الأحلام والرؤى.
ولنتأمل قليلا في حركه الحياة التي نشاهدها في كياننا المادي كله من الأظفار إلى الأشعار إلى الأبشار. . أليست مستمرة التبدل والتجدد حتى ليمكن القول بأن هذا الكيان الذي أخاطبك من خلاله الآن هو موجود آخر غير الذي كان قبل بضع سنوات مثلا! . . وإنها لحقيقة لا مجال فيها للخلاف بين أهل العلم. . وهي تحفزنا لأن نطرح على أنفسنا هذا السؤال الأخر: أي هذه الأجزاء المستمرة التبدل والتجدد هو الذي ترتديه(16/292)
الروح يوم النشور. . ثم أيها الذي يشهد علينا أو لنا بين يدي العليم الحكيم، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم؟ .
ولا يفوتنا أن نتذكر هنا كذلك أن هذا الجسم المكون من عناصر الأرض على اختلافها، من مائع وطيار وجامد، وما لا يحصيه بعد الله سوى ذوي التخصص، قد قضى المبدع العظيم أن يكون موته وتلاشيه سببا في انحلاله إلى كل هذه الأصول، وأن تأخذ كل ذرة منه سبيلها إلى مناسبها، فيلحق بعضها بأجسام أناسي أخرى عن طريق الغذاء أو الدواء أو الهواء. . إلى ما يتصور وما لا يتصور في علم بشر، فكل ذرة منه إذن ستشارك في بناء وعمل الأجسام التي صاحبتها. . ومع يقيننا التام بقدرة الخالق على رجع كل ذرة ونوية إلى أصلها الأول، نوقن كذلك بقدرته على تكوين هذه (الأجزاء الفضلية) - حسب تعبير المرحوم الشيخ حسين الجسر في (الرسالة الحميدية) - تكوينا جديدا على الوجه الذي يشاؤه، وأن كلتا الحالتين في ميزان العظمة الإلهية سواء. . وإنما نستنبط هذا من خبر الوحي عن تبديل جلود أهل النار، مع أن البديل غير المبدل منه. وكفى بهذا دلالة على كون العذاب على الذات وليس الجلود- وأشباهها من أجزاء الهيكل الإنساني - سوى تجسيم لصورة الذات المعذبة. . وهي قضية مشهودة ملموسة في تجارب الإنسان اليومية عن طريق الأحلام والرؤى. . فكم من نائم يعاني أنواع العذاب والآلام، وآخر يتمتع بأصناف النعيم دون أن يشعر بعذابه أو نعيمه جاره أو ضجيعه. . ولا تعليل لذلك إلا بكون الألم واللذة من خصائص الروح دون الجسم.(16/293)
الله أنبتكم.
والآن هلم أخي القارئ نختم مطافنا الحافل بذلك المشهد الرائع،(16/293)
الذي نطالعه في الحديث الطويل الذي أخرجه الشيخان وفيه يقص علينا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وآله خبر أولئك العصاة الذين لم يعملوا خيرا وشملتهم رحمة الله أخيرا، فكانوا آخر من يغادر النار «وقد عادوا حمما- فحما ورمادا- فيلقيهم الله في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل (1) » .
والحبة قبل أن تصير إلى حميل السيل لم تكن لتحمل أي دلالة على الحياة، ولكنها ما إن تستقر في ذلك المقر حتى تدب فيها الحركة، وتشرع كوامنها في التفتح والازدهار.
وتشدني هذه الصورة الشائقة للمتفحمين، وهم يستقبلون نعمة الله، إلى قوله في سوره نوح {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا} (2) {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} (3) فتستوقفني ظاهرة الإنبات مقابلة بالإخراج، فأتساءل عن مدلولها. . وأرجع إلى تقرير المفسرين فلا أراهم يزيدون على القول بعلاقة المشابهة بين خلق الإنسان من عناصر الأرض وخلق النبات منها، وكذلك يقفون في موضوع الخروج والإخراج على المعنى العام للإعادة دون تفكير أو تصور لنوعه.
وأحس هنا باعثا يحفزني على التساؤل: ألا يمكن أن يكون إنشاء الخلق للإنسان الأول على الطريقة نفسها التي أنشأ بها أنواع النبات، وذلك بإيداعه سبحانه بذرة كل من النوعين أحضان الأرض تتفاعل مع عناصرها، حتى إذا شاء إبرازهما أتاح لهما الأسباب المساعدة على النماء فأخذ كل منهما سبيله إلى الظهور على الوجه المقرر له؟ . .
__________
(1) انظر جمع الفوائد رقم 10.000 و 10.051.
(2) سورة نوح الآية 17
(3) سورة نوح الآية 18(16/294)
و (الخروج والإخراج) حين يقدر الله عودة الإنسان إلى الحياة ألا يحتملان معنى آخر غير المتبادر من المدلول اللغوي المقابل للدخول والإدخال؟ . .
إن الأرض الميتة إذا كان أوان رجعها ساق الله إليها الماء فاهتزت وربت وشرعت بإخراج مضمونها أزواجا من نبات شتى، وعلى هذا يكون من معاني الخروج والإخراج بالنسبة للإنسان أن يهيئ الله الأسباب التي يحرك بها ذلك الأصل- عجب الذنب- الذي (منه يركب الخلق) (1) ، كما أخبر على لسان رسوله، وبها يطلق ما كمن فيه من خصائص الجنس البشري، فلا يزال في تفاعله ونموه وتفريعه حتى يستوي على الصورة التي أنشأها أول مرة. . ولذلك تكون عملية البعث جارية على هذا النحو من النظام الإلهي ويكون الإنبات والإخراج على حقيقتهما الماثلة في عودة النبات لاستئناف مسيرته الأولى، وفي عودة الإنسان لأداء حسابه بين يدي مولاه.
__________
(1) وردت العبارة في الحديث بصيغة (فيه يركب) و (منه يركب) انظر جـ 8، ص 552، من الفتح، ط السلفية.(16/295)
صمام الأمن.
وتأمل معي أخيرا في هذا الشاهد الطريف من ملامح البعث الحسية: هل أتاك نبأ تلك البيوض التي يودعها الجراد أحضان التراب وقد تحجبت في أغلفتها الخاصة، واختلطت مع ذرات الأرض فلا تميزها سوى الأعين الحاذقة الخبيرة! . . وتمر الأيام والشهور وقد تمر السنون وهي في أكياسها دفينة حتى يشاء الله أن تدركها الرطوبة المحيية، فإذا هي تتمطى ثم تتسلل ثم تنتشر لتلتهم كل ما تصل إليه أفواهها التي لا تكل ولا تشبع! .(16/295)
وليست هذه البيوض سوى واحدة من آلاف الأشكال التي يتم بها البارئ الحكيم عملية البعث اليومي لأصناف من المخلوقات التي لا يحصيها إلا هو. . ومع ذلك لا تعدم الأذن أن تسمع مغرورا يعلن بوقاحة {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} (1) وما أخطر هذا الضرب من المجانين على سلام الإنسانية، التي جعل الله الإيمان بالبعث صمام الأمن في وجودها على هذه الأرض.
فلا اطمئنان للإنسان على نفسه وعرضه وماله إلا في كنفه، وكل شقاء يعتري الفرد والجماعة فمرده إلى فقدانه أو نقصانه. . وصدق الله العظيم القائل في كتابه الحكيم {فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} (2) وأي ضلال أقتل لصاحبه من قلب سلب نعمة الأمل بلقاء ربه فهو يتخبط في ظلمات اليأس وقد راح يعوض نقصه بالاستكبار عن عبادته، والتكبر على الضعفاء من عباده!! .
ثم من أظلم لنفسه من {الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} (3) {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} (4) {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} (5) .
والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) سورة الجاثية الآية 24
(2) سورة النحل الآية 22
(3) سورة الماعون الآية 1
(4) سورة الماعون الآية 2
(5) سورة الماعون الآية 3(16/296)
صفحة فارغة(16/297)
إن الدين عند الله الإسلام
عثمان بن جمعة بن عثمان ضميرية.
* عثمان بن جمعة بن عثمان ضميرية:
من مواليد رنكوس في سورية عام 1949م، تلقى فيها تعليمه الابتدائي، ثم تخرج من الثانوية الشرعية بدمشق، ومن كليتي الشريعة والتربية بجامعة دمشق، ونال الماجستير في الشريعة من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر.
* وله من البحوث المطبوعة:
- نهج الإسلام في الحرب والسلام.
- التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان، وهو البحث الفائز بالمرتبة الأولى في مسابقات التوعية الإسلامية بوزارة المعارف بالرياض.
* وله بحوث قدمت لمسابقات التوعية في المناطق وفازت بالمرتبة الأولى، وهي:
- تربية المراهق في المدرسة الإسلامية.
- الغرائز وتربيتها في المنهج الإسلامي.
* وله تحت الطبع:
- الملكية في الشريعة ومدى تداخل الدولة في تقييدها.
- الحسام المحدود في الرد على اليهود، تحقيق.
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، أحمده كما ينبغي لكرم وجهه وعز سلطانه، وأستعينه استعانة من لا حول ولا قوة إلا به، وأستهديه بهداه الذي لا يضل من أنعم به عليه، وأستغفره لما أزلفت وأخرت استغفار من يقر بعبوديته، ويعلم أنه لا يغفر له ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، بعثه الله والناس صنفان:
أحدهما: أهل كتاب، بدلوا من أحكامه، وكفروا بالله، فافتعلوا كذبا صاغوه بألسنتهم، فخلطوه بحق الله الذي أنزل إليهم.
فذكر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم من كفرهم، فقال {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1) .
وصنف: كفروا بالله، فابتدعوا ما لم يأذن به الله، ونصبوا بأيديهم حجارة وخشبا وصورا استحسنوها، ونبزوا أسماء افتعلوها، ودعوها آلهة عبدوها. . . فأولئك العرب.
وسلكت طائفة من العجم سبيلهم في هذا، وفي عبادة ما استحسنوا من حوت ودابة ونار وغيره، فذكر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم جوابا من جواب بعض
__________
(1) سورة آل عمران الآية 78(16/298)
من عبد غيره من هذا الصنف، فحكى جل ثناؤه عنهم قولهم {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (1) .
فلما بلغ الكتاب أجله، فحق قضاء الله تعالى بإظهار دينه الذي ارتضى، فتح سبحانه أبواب سماواته برحمته، فكان خيرته المصطفى لوحيه، المنتخب لرسالته، المفضل على جميع خلقه، محمدا عبده ورسوله، الذي امتن الله علينا ببعثته (2) ، فقال {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (3) ، فصلى الله تعالى عليه وسلم، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وبعد:
__________
(1) سورة الزخرف الآية 23
(2) اقتباس من افتتاحية الإمام الشافعي- رحمه الله- لكتابه: الرسالة، ص 7- 13.
(3) سورة التوبة الآية 128(16/299)
الحاجة إلى الرسالة:
فقد كانت منة عظيمة، تلك التي امتنها الله على البشرية، عندما جعل هذا الإنسان أكرم مخلوقاته، وزوده بكل المواهب والملكات التي تساعده على عمارة الأرض، وفق منهج الله وشريعته، ليقوم بأعباء وظيفة الخلافة فيها، وتكفل- سبحانه- باحتياجاته كلها، ورسم له منهجا صالحا لحياته، يتفق وفطرته التي فطره الله عليها، من الإيمان بخالقه ومعبوده ومعرفته- سبحانه- بإلهيته وأسمائه وصفاته وأفعاله، ومن المحال أن تستقل العقول بمعرفة ذلك وإدراكه على وجه التفصيل، وما كان لهذا الإنسان أن يستقل بوضع منهج متكامل لحياته؛ لما جبل عليه من عجز ونقص وضعف، فاقتضت رحمة الله العزيز الرحيم: أن يبعث الرسل، به معرفين، وإليه داعين، ولمن أجابهم مبشرين، ولمن خالفهم(16/299)
محذرين. فكانت هداية الله تعالى ورسالاته ضرورة ملحة وحاجة بشرية، لا غنى عنها، ولا استقامة لحياة الناس بدونها.
وقد تكفل الله سبحانه وتعالى- رحمة منه وفضلا- بإرسال الرسل وإنزال الكتب والشرائع، لتستقيم حياة الناس {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (1) .
فكان ذلك الموكب الكريم من الرسل، صلوات الله عليهم وسلامه، هداة البشرية من لدن آدم ونوح إلى أن ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقد جاءوا كلهم من عند الله تعالى! بدين واحد هو الإسلام.
__________
(1) سورة الحديد الآية 25(16/300)
الإسلام بمعناه العام:
والإسلام، بمعناه العام، هو إسلام الوجه لله تعالى، بمعنى التذلل لطاعته والإذعان لأمره والخضوع الكامل له بالجوارح ظاهرا وباطنا والخلوص من الشرك، بكل صوره وأشكاله {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 112(16/300)
وهو دين جميع الأنبياء عليهم السلام:
وقد حكى الله تعالى في القرآن الكريم هذه الحقيقة، فأخبر في غير موضع من كتابه: أن الإسلام هو دين جميع الأنبياء والمرسلين من أولهم إلى آخرهم، وهو دين من اتبعهم من الأمم السابقة.(16/300)
فقال الله تعالى عن نوح عليه السلام {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} (1) {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (2) .
وتلك هي دعوة أبي الأنبياء، إبراهيم عليه السلام، دعوة الإسلام الخالص الصريح، لا يرغب عنها وينصرف إلا ظالم لنفسه، سفيه عليها، مستهتر بها {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (3) {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (4) .
ولذلك يندد الله تعالى بمزاعم اليهود والنصارى ويبين لهم حقيقة دين إبراهيم عليه السلام، فيقول {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (5) .
وأخبر الله تعالى عنه وعن ابنه إسماعيل- عليهما السلام- بأنهما مستسلمان لله، خاضعان لطاعته، لا يشركان معه في الطاعة أحدا سواه - ولا في العبادة غيره - فهما مسلمان لله {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (6) {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (7) .
ولم يكتف إبراهيم عليه السلام بذلك، بل تركها كلمة باقية في عقبه، وجعلها وصية لذريته {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (8) {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (9)
__________
(1) سورة يونس الآية 71
(2) سورة يونس الآية 72
(3) سورة البقرة الآية 130
(4) سورة البقرة الآية 131
(5) سورة آل عمران الآية 67
(6) سورة البقرة الآية 127
(7) سورة البقرة الآية 128
(8) سورة البقرة الآية 131
(9) سورة البقرة الآية 132(16/301)
وهي الوصية التي كررها يعقوب- عليه السلام- في آخر لحظة من لحظات حياته، والتي كانت شغله الشاغل الذي لم يصرفه عنه الموت وسكراته، واستجاب أبناؤه لهذه الوصية والدعوة فأسلموا كما أسلم أبوهم ومن سبقه {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (1) .
وأخبر سبحانه وتعالى عن يوسف عليه السلام، وهو يتجه إلى ريه في تسبيح الشاكر الذاكر في كل دعوته، وهو في أبهة السلطان وفي فرحة تحقيق الأحلام: أن يتوفاه ربه- حين يتوفاه- مسلما، فيتم بذلك عليه نعمه في الآخرة- كما أتمها في الدنيا- وأن يلحقه بالصالحين، وهم إخوانه من النبيين والمرسلين {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (2) .
وقال الله تعالى عن موسى عليه السلام، وقد دعا قومه إلى الإسلام {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} (3) .
وفرعون، عندما أدركه الغرق وعاين الموت، أعلن إيمانه واستسلامه، وهو يوقن أن الإسلام هو دعوة موسى عليه السلام {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (4) .
وسحرة فرعون، لما رأوا آيات ربهم، وأيقنوا أنهم إليه راجعون، دعوا الله عز وجل أن يتوفاهم مسلمين لله متابعين لموسى في دينه، فقالوا
__________
(1) سورة البقرة الآية 133
(2) سورة يوسف الآية 101
(3) سورة يونس الآية 84
(4) سورة يونس الآية 90(16/302)
لفرعون {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} (1) .
والإسلام هو دعوة سليمان، عليه السلام، وقد وجهها أيضا لبلقيس في كتاب كريم {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (2) {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (3) فاستنار قلب بلقيس لهذه الدعوة، وأعلنت إسلامها وتوحيدها مخلصة لله رب العالمين {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (4) .
وقال تعالى عن أنبياء بني إسرائيل {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} (5) .
وأخبر الله تعالى عن حواريي عيسى عليه السلام، فقال {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} (6) .
ولما وجد عيسى- عليه السلام- من بني إسرائيل الذين أرسل إليهم- الكفر، سألهم من أنصاري إلى الله؟ فاستجاب الحواريون لدعوة الإيمان بالله واتباع عيسى في دينه الإسلامي وأشهدوه على ذلك ليكتبهم الله مع الذين شهدوا بالحق وأقروا له بالتوحيد فلما {أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (7) ربنا {آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (8) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 126
(2) سورة النمل الآية 30
(3) سورة النمل الآية 31
(4) سورة النمل الآية 44
(5) سورة المائدة الآية 44
(6) سورة المائدة الآية 111
(7) سورة آل عمران الآية 52
(8) سورة آل عمران الآية 53(16/303)
وهذا خبر من الله عز وجل: أن الإسلام دينه الذي بعث به عيسى والأنبياء قبله، لا النصرانية ولا اليهودية، وتبرئة من الله تعالى لعيسى ممن انتحل النصرانية ودان بها، كما برأ إبراهيم من سائر الأديان غير الإسلام، وذلك احتجاج من الله- تعالى ذكره- لنبيه صلى الله عليه وسلم على وفد نجران.
وأمر الله تعالى خاتم النبيين محمدا صلى الله عليه وسلم بذلك فقال {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2) فهو أول المسلمين من هذه الأمة، لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته، وهو عليه السلام يبين قي هذا الدعاء مسارعته إلى الامتثال بما أمر به، فلو لم يكن أحد مسلما لكان هو عليه السلام أول مسلم لله تعالى، إذ الإسلام دين الأنبياء جميعا.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يستفتح بقولة: «وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا (من) أول المسلمين (3) » .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163
(3) أخرجه الإمام مسلم 1 \ 534- 535، كتاب صلاة المسافرين وأبو داود، مختصر المنذري 1 \ 370- 372 ما تستفتح به الصلاة، والترمذي 5 \ 149- 150 في الدعوات، والنسائي 2 \ 100 في الافتتاح، وابن خزيمة في صحيحه 1 \ 235 في ذكر الدعاء بين تكبيرة الافتتاح. وابن حبان في موارد الظمآن 124، والإمام أحمد في المسند 1 \ 230، وانظر: مجمع الزوائد 1 \ 106- 107، التخليص الحبير: لابن حجر 281 \ 229، شرح معاني الآثار: للطحاوي 1 \ 199.(16/304)
فهو صلى -صلى الله عليه وسلم على دين التوحيد والإسلام لا اليهودية ولا النصرانية، كما أن إبراهيم كذلك، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكن بعثت بالحنيفية السمحاء (1) » .
وأخبر الله سبحانه وتعالى مخاطبا محمدا صلى الله عليه وسلم أنه شرع له من الدين ما وصى به الأنبياء قبله وصية واحدة، وهي إقامة الدين الحق {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (2) .
ثم يخبر الله تعالى أن دين الأنبياء جميعا دين واحد وملة واحدة، وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فيقول {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (3) {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (4) . {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} (5) {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (6) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند 5 \ 266، الخطيب البغدادي في الفقيه والتفقه 2 \ 204.
(2) سورة الشورى الآية 13
(3) سورة المؤمنون الآية 51
(4) سورة المؤمنون الآية 52
(5) سورة النساء الآية 163
(6) سورة النساء الآية 164(16/305)
إعلان الوحدة الكبرى للدين:
ثم يدعو الله تعالى المسلمين لإعلان الوحدة الكبرى للدين من لدن أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام إلى عيسى ابن مريم عليه السلام إلى دعوة الإسلام الأخيرة، ويدعو أهل الكتاب إلى الإيمان بهذا الدين الواحد {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (1) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 136(16/305)
ولذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى حقيقة دين الأنبياء عليهم السلام، وأنه الإسلام فأعلن بذلك الوحدة الكبرى للدين، فقال: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، ليس بيني وبينه نبي، والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد (1) » .
__________
(1) أخرجه البخاري، فتح الباري 6 \ 478 في أحاديث الأنبياء، ومسلم 4 \ 1847 كتاب الفضائل، وأبو داود، مختصر المنذري 7 \ 4242 كتاب السنة، والإمام أحمد في مسنده 3 \ 219، 406 ومواضع أخرى. والإخوة لعلات هم الإخوة لأب واحد وأمهاتم شتى. غريب الحديث للخطابي 2 \ 160، الفائق للزمخشري 3 \ 44.(16/306)
قاعدة التصور الإسلامي وآثارها:
تلك الوحدة الكبرى بين الرسالات، وبين الرسل جميعا، هي قاعدة التصور الإسلامي، وهي التي تجعل الأمة المسلمة الأمة الوارثة لترات العقيدة- القائمة على دين الله في الأرض، الموصولة بهذا الأصل العريق، السائرة في الدرب على هدى ونور، والتي تجعل من النظام الإسلامي النظام العالمي الذي يملك الجميع الحياة في ظله دون تعصب ولا اضطهاد، والتي تجعل من المجتمع الإسلامي مجتمعا مفتوحا للناس جميعا في مودة وسلام.
وهكذا تتلقى الأمة المسلمة تراث الرسالة كله، وتقوم على دين الله في الأرض، ويشعر المسلمون- من ثم- بضخامة دورهم في هذه الأرض(16/306)
إلى يوم القيامة. فهم الحراس على أعز رصيد عرفته البشرية في تاريخها الطويل، وهم المختارون لحمل راية الله- وراية الله وحدها- في الأرض، يواجهون بها رايات الجاهلية المختلفة الشارات، من قومية ووطنية وجنسية وعنصرية وصهيونية وصليبية واستعمارية وإلحادية. . . إلى آخر شارات الجاهلية التي يرفعها الجاهليون في الأرض، على اختلاف الأسماء والمصطلحات، واختلاف الزمان والمكان (1) .
__________
(1) في ظلال القرآن 3 \ 342.(16/307)
التوحيد قاعدة كل رسالة من عند الله:
وقد جاء الرسل والأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- من عند مرسل واحد- سبحانه- بكلمة واحدة هي كلمة التوحيد، ودعوة واحدة هي دعوة التوحيد، فالتوحيد هو قاعدة كل ديانة جاء بها من عند الله رسول. ويقرر الله تعالى في القرآن الكريم هذه الحقيقة ويؤكدها، ويكررها في قصة كل رسول، وعلى لسان كل واحد منهم، كما يقررها إجمالا على وجه القطع واليقين {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (1) . {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} (2) . {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) . {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (4) . {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} (5) {إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} (6) {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} (7) {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} (8) {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} (9) {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (10) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 59
(2) سورة الأعراف الآية 65
(3) سورة الأعراف الآية 73
(4) سورة الأعراف الآية 85
(5) سورة طه الآية 9
(6) سورة طه الآية 10
(7) سورة طه الآية 11
(8) سورة طه الآية 12
(9) سورة طه الآية 13
(10) سورة طه الآية 14(16/307)
{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ} (1) {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (2) .
ويقرر الله تعالى هذه الحقيقة قاعدة عامة في دعوة كل الرسل فيقول سبحانه {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (3) . {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (4) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 116
(2) سورة المائدة الآية 117
(3) سورة الأنبياء الآية 25
(4) سورة النحل الآية 36(16/308)
التوحيد مفتاح دعوة الرسل:
فالتوحيد هو مفتاح دعوة الرسل، وهو أول ما يدخل به المرء في الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا، فهو أول واجب وآخر واجب،(16/308)
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه وقد بعثه إلى اليمن: «إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله وحده - وفي رواية: فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله- فإن هم أطاعوا لك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن أطاعوا بها فخذ منهم وتوق كرائم أموالهم (1) » .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله (2) » .
وقد جعل الإمام البخاري - رحمه الله- هذا الحديث تفسيرا لقوله تعالى {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (3) ، فالتخلية في هذه الآية والعصمة في ذلك الحديث بمعنى واحد (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري، الفتح 3 \ 261، كتاب الزكاة، ومسلم 1 \ 50، 51 كتاب الإيمان، وأبو داود 2 \ 199- 200، والترمذي 2 \ 69، والنسائي 5 \ 2- 4، وابن ماجه 1 \ 568 كلهم في الزكاة، والإمام أحمد في المسند 1 \ 233، وكرائم الأموال هي جامعة الكمال الممكن في حقها من غزارة لبن وجمال صورة أو كثرة لحم وصوف.
(2) أخرجه البخاري 1 \ 75 كتاب الإيمان، ومسلم أيضا 1 \ 51- 52، وأبو داود 2 \ 163- 169 في الزكاة والترمذي 1 \ 117 في الإيمان، والنسائي 5 \ 14، وابن ماجه 1 \ 27 والإمام أحمد 1 \ 11، والدارمي في سننه 1 \ 379، وابن أبي شيبة في المصنف 3 \ 11.
(3) سورة التوبة الآية 5
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري: للحافظ ابن حجر 1 \ 75.(16/309)
حقيقة واحدة:
فكل الرسل- عليهم الصلاة والسلام- قد أدركوا حقيقة "التوحيد"، وكلهم بعثوا بها، وكلهم دعا إلى عبادة الله الواحد، دعا إلى الحقيقة التي تلقاها وأمر أن يبلغها، وكان إدراكهم لها هو المنطق الفطري الناشئ من إيقاع الناموس الواحد في الفطرة الواصلة، كما أن نهوضهم لتبليغها هو النتيجة الطبيعية لإيمانهم المطلق بكونها الحقيقة، وبكونها صادرة إليهم من الله الواحد الذي لا يتعدد. . . ومن ثم كان هناك مصدر واحد يتلقى منه البشر التصور الصادق الكامل الشامل لحقيقة الوجود كله ولحقيقة الإنسان، ولغاية الوجود كله وغاية الوجود الإنساني.(16/310)
ثبات. . لا تطور. .
مصدر واحد هو مصدر الرسالات. . . جبهة واحدة لا تتعدد، هي التي أنزلت الكتاب بالحق، هذا الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وهو كتاب واحد في حقيقته جاء به الرسل جميعا، فهو كتاب واحد في أصله، وهي ملة واحدة في مجموعها، وهو تصور واحد في قاعدته: إله واحد، ورب واحد، ومعبود واحد، ومشرع واحد لبني البشر، ثم تختلف التفصيلات بعد ذلك وفق حاجات الأمم والأجيال، ووفق أطوار الحياة والارتباطات، حتى تكون الصورة الأخيرة التي جاء بها الإسلام، وأطلق الحياة تنمو في محيطها الواسع الشامل بلا عوائق بأمر الله ومنهجه وشريعته الحية المتجددة في حدود ذلك المحيط الشامل الكبير.
وهذا الذي يقرره القرآن، في أمر الكتاب، هو النظرية الإسلامية في(16/310)
خط سير الأديان والعقائد. . . كل نبي جاء بهذا الدين الواحد في أصله، الذي يقوم على القاعدة الأصلية: قاعدة التوحيد المطلق. . . ثم يقع الانحراف عقب كل رسالة، وتتراكم الخرافات والأساطير حتى يبتعد الناس نهائيا عن ذلك الأصل الكبير، وهنا تجيء رسالة جديدة، تجدد العقيدة الأصيلة، وتنفي ما علق بها من الانحرافات وتراعي أحوال الأمة وأطوارها في التفصيلات.
وهذا الثبات في أصل التصور الإيماني هو الذي يتفق مع وظيفة الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه في كل زمان، ومع كل رسول، منذ أقدم الأزمان.(16/311)
لا نفرق بين أحد من رسله:
ولذلك كان الإيمان برسل الله جميعا، دون تفريق " هو شرط الإيمان، وعدم الإيمان بواحد منهم هو كفر بهم جميعا، إذ الإيمان لا يتجزأ، فعندما يكفر بواحد من رسل الله يكون قد كذب الله الذي أرسله ولأن جميع الرسل عليهم السلام جاؤوا بكلمة التوحيد، فإن الله سبحانه يقول عمن يكذب بواحد منهم إنهم يكذبون الرسل- مع أنهم لم يرسل إليهم إلا رسولا واحدا، ليوحي التعبير بأن تكذيب الرسول الواحد هو بمثابة تكذيب الرسل كلهم، لأنهم كلهم يقولون ذات الشي، بلا تغيير- فمن كذب واحدا منهم فقد كذبهم جميعا.(16/311)
{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} (1) {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ} (2) {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} (3) {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} (4) {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ} (5) {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} (6) {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} (7) {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ} (8) {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} (9) {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} (10) {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ} (11) {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} (12) {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} (13) {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ} (14) {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} (15) .
ولذلك يتوعد الله تبارك وتعالى أولئك الذين يكذبون واحدا من الرسل، فيقول {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (16) {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (17) .
وذلك هو شأن اليهود والنصارى، الذين كذبوا رسل الله إلى خلقه بوحيه، حيث فرقوا بين الله ورسله في الإيمان، فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض، بمجرد التشهي والعادة وما ألفوا عليه آباءهم، لا عن دليل قادهم إلى ذلك، فإنه لا سبيل إلى ذلك الدليل. بل بمجرد الهوى والعصبية، فاليهود- عليهم لعائن الله-: آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمدا، عليهما الصلاة والسلام، والسامرة منهم: لا يؤمنون بنبي بعد يوشع خليفة موسى بن عمران. والنصارى الضالون: آمنوا بعيسى (18) وبالأنبياء من قبله، وكفروا بخاتمهم وأشرفهم محمد صلى الله عليه وسلم ومن كلا الفريقين أو الطائفتين من آمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولكن على أنه نبي للعرب
__________
(1) سورة الشعراء الآية 105
(2) سورة الشعراء الآية 106
(3) سورة الشعراء الآية 107
(4) سورة الشعراء الآية 123
(5) سورة الشعراء الآية 124
(6) سورة الشعراء الآية 125
(7) سورة الشعراء الآية 141
(8) سورة الشعراء الآية 142
(9) سورة الشعراء الآية 143
(10) سورة الشعراء الآية 160
(11) سورة الشعراء الآية 161
(12) سورة الشعراء الآية 162
(13) سورة الشعراء الآية 176
(14) سورة الشعراء الآية 177
(15) سورة الشعراء الآية 178
(16) سورة النساء الآية 150
(17) سورة النساء الآية 151
(18) آمنوا به على أنه إله أو ابن إله، فكفروا بذلك كفرا مضاعفا.(16/312)
خاصة، وليست رسالة عامة للبشر كافة، ولا لبني إسرائيل - بزعمهم- ونحو هذا من تفرقاتهم التي كانت تعنتا وزورا وضلالة، واتخذوا بين أضعاف ذلك طريقا إلى الضلالة التي أحدثوها، والبدعة التي ابتدعوها، - يدعون الناس إليه، فكفروا عندئذ بالله ورسله على ما يؤدي إليه مذهبهم وتقتضيه آراؤهم وتحكماتهم- وإن لم يصرحوا بأنهم يؤمنون بالله ويكفرون برسله- بل حصل كفرهم بطريق الالتزام. . . فالإيمان ببعض الأنبياء والرسل والكفر ببعضهم الآخر كفر بالله تعالى وتفريق بين الله ورسله، لأنه عز وجل قد أمرهم بالإيمان بجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما من نبي إلا وقد أخبر قومه بحقيقة دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فمن كفر بواحد كفر بالكل وبالله تعالى أيضا من حيث لا يشعر.(16/313)
الكفر بواحد من الرسل كفر بالجميع:
والمقصود: أن من كفر بنبي من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء، فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض، فمن رد نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي يتبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيمانا شرعيا، إنما هو عن غرض وهوى وعصبية.(16/313)
وأخرج الإمام الطبري بسنده عن قتادة في تفسير آية النساء السابقة أنه قال: أولئك أعداء الله، اليهود والنصارى، آمنت اليهود بالتوراة وموسى، وكفروا بالإنجيل وعيسى، وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى، وكفروا بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم، فاتخذوا اليهودية والنصرانية، وهما بدعتان ليستا من الله وتركوا الإسلام، وهو دين الله الذي بعث به رسله.(16/314)
التصور الإسلامي لوحدة الرسالة والرسل:
والقرآن الكريم ينكر على هؤلاء وهؤلاء، ويقرر التصور الإسلامي الشامل الكامل عن الإيمان بالله ورسله. وبدون تفريق كذلك بين رسل الله جميعا.
إن التوحيد المطلق لله سبحانه يقتضي توحيد دينه الذي أرسل به الرسل للبشر، وتوحيد رسله الذين حملوا هذه الأمانة للناس، وكل كفر بوحدة الرسل أو وحدة الرسالة هو كفر بوحدانية الله في الحقيقة، وسوء تصور لمقتضيات هذه الوحدانية، فدين الله للبشر ومنهجه للناس هو هو، لا يتغير في أساسه، كما أنه لا يتغير في مصدره.
ولذلك عبر السياق القرآني هنا عمن يريدون التفرقة بين الله ورسله - بأن يؤمنوا بالله ويكفروا بالرسل- وعمن يريدون التفرقة بين الرسل - بأن يؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض- عبر عن هؤلاء وهؤلاء بأنهم: {الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} (1) و {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} (2)
أما المسلمون: فهم الذين يشتمل تصورهم الاعتقادي على الإيمان بالله ورسله جميعا بلا تفرقة، فكل الرسل عندهم موضع اعتقاد واحترام، وكل الديانات السماوية عندهم حق، ما لم يقع فيها التحريف، فلا
__________
(1) سورة النساء الآية 150
(2) سورة النساء الآية 151(16/314)
تكون عندئذ من دين الله وإن بقي جانب منها لم يحرف، إذ أن الدين وحدة، وهم يتصورون الأمر كما هو في حقيقته: إلها واحدا. . . وموكب الإيمان في حسهم موصول بعقيدة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم من الرسل، صلوات الله وسلامه عليهم جميعا.
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (1) . {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} (2) {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (3) .
ولذلك استحقوا الأجر من الله تعالى واستحقوا أن يكونوا هم المؤمنون حقا في مقابل أولئك الكافرين حقا {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (4) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 285
(2) سورة النساء الآية 163
(3) سورة النساء الآية 164
(4) سورة النساء الآية 152(16/315)
ولله في هذا حكمة:
والإسلام إنما يتشدد هذا التشدد في توحيد العقيدة في الله ورسله:
أ- لأن هذا التوحيد هو الأساس اللائق بتصور المؤمن له سبحانه.
ب- كما أنه هو الأساس اللائق بوجود منظم غير متروك للتعدد والصدفة والتصادم.
جـ- ولأنه هو العقيدة اللائقة بإنسان يرى وحدة الناموس في هذا الوجود أينما امتد بصره.(16/315)
د- ولأنه التصور الكفيل بضم المؤمنين جميعا في موكب واحد يقف أمام صفوف الكفر، وفي حزب واحد يقف أمام أحزاب الشيطان. . . ولكن هذا الصف الواحد ليس هو صف أصحاب الاعتقادات المحرفة - ولو كان لها أصل سماوي- إنما هو صف أصحاب الإيمان الصحيح والعقيدة التي لم يدخلها انحراف.(16/316)
هذا الدين وهذه الأمة:
ومن ثم كان الإسلام هو " الدين " الذي لا يقبل الله من الناس غيره، لأنه هو الذي يتفق مع وحدانية الله ومقتضيات هذه الوحدانية، وكان " المسلمون {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (1) المسلمون المعتقدون عقيدة صحيحة، العاملون بهذه العقيدة، لا كل من ولد في بيت مسلم، ولا كل من لاك لسانه كلمة الإسلام. . . .
وفي ظل هذا البيان يبدو الذين يفرقون بين بعض الرسل وبعض منقطعين عن موكب الإيمان، مفرقين للوحدة التي جمعها الله، منكرين للوحدانية التي يقوم عليها الإيمان بالله (2) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2) في ظلال القرآن، 6 \ 797- 798، 804- 805، طريق الدعوة في ظلال القرآن 2 \ 34- 37 بتصرف يسير(16/316)
بين الإيمان والإسلام:
وبعد أن عرفنا الإسلام بمعناه العام، حري بنا أن نتعرف على معناه في لسان اللغة العربية، ثم في اصطلاح الشرع، بمعناه الخاص، ونوازن هذا المعنى بمعنى الإيمان.
معنى الإيمان لغة:
الإيمان له في لغة العرب استعمالان، لأنه تارة يتعدى بنفسه،(16/316)
فيكون معناه التأمين، أي إعطاء الأمان، تقول: آمنت فلانا إيمانا، وأمنته تأمينا، بمعنى واحد. قال الله تعالى {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (1) ومنه اسمه تعالى " المؤمن " لأنه أمن عباده من أن يظلمهم.
وتارة يتعدى بالباء أو اللام، فيكون معناه التصديق (2) ، {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} (3) {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} (4)
__________
(1) سورة قريش الآية 4
(2) المختار من كنوز السنة: للدكتور محمد عبد الله دراز، ص 69، وانظر: عمدة القاري: شرح البخاري 1 \ 102.
(3) سورة البقرة الآية 136
(4) سورة البقرة الآية 75(16/317)
معنى الإسلام لغة:
وأما الإسلام، فأصل مادة اشتقاقه هي السين واللام والميم، يقول العلامة اللغوي ابن فارس قي مادة: "سلم": السين واللام والميم، معظم بابه من الصحة والعافية، فالسلامة أن يسلم الإنسان من العاهة والأذى، قال أهل العلم: الله، جل ثناؤه، هو السلام، لسلامته مما يلحق المخلوقين من العيب والنقص والفناء.
ثم يقول: ومن الباب أيضا: الإسلام وهو: الانقياد، لأنه يسلم من الإباء والامتناع (1) .
ويقول الراغب الأصفهاني: الإسلام هو الدخول في السلم، وهو أن يسلم كل واحد منهما من أن يناله من ألم صاحبه (2) .
والإسلام- أيضا- يستعمل في لغة العرب متعديا ولازما:
أما استعماله متعديا: فتقول: أسلمت الشيء إلى فلان، إذا أخرجته إليه، ومنه: السلم في البيع، أي السلف فيه، وسلمه الله تعالى من
__________
(1) معجم مقاييس اللغة: لابن فارس 3 \ 90.
(2) مفردات القرآن: للراغب الأصفهاني 240.(16/317)
الآفة تسليما، وسلمته إليه تسليما فتسلمه، أعطيته فتناوله. وأسلم العدو: خذله، وأسلم أمره إلى الله: سلمه. وكان ابن عمر رضي الله عنهما، ينهى أن يقال: أسلمت إلى فلان أو أعطيته السلم، بمعنى السلف، وكان يقول: الإسلام لله، وأحب أن يكون هذا الاسم محضا في طاعة الله لا يدخله شيء غيره. وعند استعماله لازما يكون معناه: الانقياد والدخول في السلم، أي الاستسلام، كما أن الإصباح هو الدخول في الصباح، والإحرام هو الدخول في الحرمة.
ومعنى الإسلام لازما يرجع إلى معناه متعديا، لأن من انقاد واستسلم للغير فقد سلم إليه نفسه وألقى إليه بمقاليده.(16/318)
موازنة بين الإسلام والإيمان في اللغة:
وبالمقارنة بين هاتين الكلمتين في استعمالها لازمتين، نجد أن التصديق، وهو اعتقاد الصدق، محله القلب، وإذا سمينا الإقرار والاعتراف باللسان تصديقا، فإنما نسميه بذلك لكونه ترجمة لذلك التصديق القلبي وعبارة عنه، وكذلك امتثال الأمر يسمى تصديقا - لغويا- من باب المجاز.
أما الانقياد، وهو الطاعة والامتثال فإنه بحسب حقيقته اللغوية يتسع للمراتب الثلاثة لأنه إما بالظاهر أو الباطن أو بكليهما، وعلى هذا فمعنى الإسلام لغة أعم من الإيمان عموما مطلقا.
وعلى هذا يكون معنى الإسلام غير معنى الإيمان لأن أحدهما استسلام بالظاهر والآخر إذعان بالباطن - ولا تلازم بينهما- بل قد(16/318)
يوجد كل منهما بدون الآخر، كالمؤمن بالشيء يكتم إيمانه فيكون مؤمنا به غير مسلم، والجاحد بالشيء يتظاهر أنه موقن فيكون مسلما غير مؤمن. وقد يجتمعان إذا تطابق الظاهر والباطن على أمر واحد فكان القول والعمل به مصداقا للاعتقاد له (1) .
__________
(1) المختار من كنوز السنة: د. محمد عبد الله دراز 70-72.(16/319)
الإيمان والإسلام في الاصطلاح الشرعي:
وفي الاصطلاح الشرعي فكثيرا ما نجد أنه يراد بهما ذلك المعنى اللغوي نفسه بدون تصرف، ويراد بالإيمان مطلق التصديق بحق أو باطل، ويراد بالإسلام مطلق الانقياد لأي آمر.
وكثيرا ما يراد بهما معنى أخص صار في العرف الشرعي حقيقة جديدة، فيراد من الإيمان خصوص التصديق بخبر السماء المنزل على الأنبياء، ويراد من الإسلام خصوص الانقياد لله رب العالمين.
وضابط ذلك أن ننظر في الموضع الذي يذكر فيه أحدهما، فإن كانا متعلقين بأن قيل: " إيمان بكذا " أو " إسلام لكذا " عرفنا أنهما بمعناهما اللغوي البحت، أي مطلق التصديق والانقياد لما تعلقا به، وأما إذا ذكرا هكذا بدون متعلق، فالمراد بهما تلك الحقيقة الشرعية الخاصة وهي التصديق بالحق والانقياد له (1) .
__________
(1) المختار من كنوز السنة: د. محمد عبد الله دراز ص 73.(16/319)
معنى الإيمان شرعا:
وعندئذ، فالإيمان مجموع مركب من ثلاثة عناصر أو أجزاء:
الأول: وهو الجزء الذي لا غنى عنه بحال- وإذا عدم عدمت حقيقة الإيمان- وهو " الاعتقاد " أي العلم الجازم بكل ما ثبت بالضرورة أنه(16/319)
جاء من عند الله على لسان رسله، ولا بد من اليقين الجازم من الرضى والارتياح النفساني لهذه العقيدة، فإذا تحقق هذا الجزء الأول فقد وجد أساس الإيمان.
الثاني: إعلان هذه العقيدة بالقول أو غيره من كل ما يدل عليها دلالة ظاهرة، وهذا الاعتراف الظاهري يعد ترجمة عن العقيدة يدل دلالة ظنية عليها.
والثالث: العمل بكل ما أمر الله به من فريضة ونافلة، والانتهاء عما نهى الله عنه من حرام وشبهة صغيرة وكبيرة في سره وعلانيته بقلبه وجارحته (1) .
__________
(1) المختار من كنوز السنة: د. محمد عبد الله دراز ص 73.(16/320)
معنى الإسلام شرعا:
والإسلام يجمع معنيين، أحدهما: الانقياد والاستسلام، والثاني: إخلاص ذلك وإفراده لله، وعنوانه قول: لا إله إلا الله.
وله: معنيان، أحدهما: الدين المشترك، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، الذي بعث به جميع الأنبياء، وقد سبق شرح هذا المعنى. والثاني: ما اختص به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الشرعة والمنهاج، وهو الشريعة والطريقة والحقيقة، وله مرتبتان:
إحداهما: الظاهر من القول والعمل، وهو المباني الخمس، أركان الإسلام.
والثانية: أن يكون ذلك الظاهر مطابقا للباطن (1) .
ويقول الراغب الأصفهاني: الإسلام في الشرع على ضربين:
أحدهما: دون الإيمان، وهو الاعتراف باللسان، وله يحقن الدم،
__________
(1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام 7 \ 635- 736.(16/320)
حصل معه الاعتقاد أو لم يحصل، وإياه قصد بقوله تعالى {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} (1) .
والثاني: فوق الإيمان: وهو أن يكون مع الاعتراف اعتقاد بالقلب ووفاء بالفعل واستسلام لله في جميع ما قضى وقدر، كما ذكر عن إبراهيم عليه السلام في قوله {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) وقوله {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (3) أي اجعلني ممن استسلم لرضاك.
__________
(1) سورة الحجرات الآية 14
(2) سورة البقرة الآية 131
(3) سورة يوسف الآية 101(16/321)
هل الإيمان والإسلام مترادفان أم متغايران؟
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: قد صار الناس في مسمى الإسلام على ثلاثة أقوال: قيل هو الإيمان، وهما اسمان لمسمى واحد، وقيل: هو الكلمة.
ولكن التحقيق ابتداء هو ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإسلام والإيمان، ففسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بالأصول الخمسة فليس لنا إذا جمعنا بين الإسلام والإيمان أن نجيب بغير ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم، وأما إذا أفرد اسم الإيمان فإنه يتضمن الإسلام، وإذا أفرد الإسلام، فقد يكون مع الإسلام مؤمنا، بلا نزاع، وهذا هو الواجب، وهل يكون مسلما ولا يقال له مؤمن؟ . . . وكذلك هل يستلزم الإسلام للإيمان؟ هذا فيه النزاع. . . والوعد الذي في القرآن بالجنة وبالنجاة من(16/321)
العذاب إنما هو معلق باسم الإيمان، وأما اسم الإسلام مجردا، فما علق به في القرآن دخول الجنة، لكنه فرضه وأخبر أنه دينه الذي لا يقبل من أحد سواه (1) .
ويستخلص المتتبع لاستعمالات الإيمان والإسلام في القرآن الكريم والسنة النبوية " قاعدة استقرائية " وهي أنهما " إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا ".
أما أنهما إذا اجتمعا افترقا، فمعناه أنهما إذا ذكرا لفظا في سياق واحد كان لفظ الإيمان باقيا على أصل اختصاصه بالاعتقاد والإسلام باقيا على اختصاصه بالعمل. وأما أنهما إن افترقا اجتمعا، فمعناه إذا ذكر أحد اللفظين في معرض المدح والثناء بدون الآخر، ولم تكن هناك قرينة دالة على اختصاص اللفظ بأصل معناه، كان المراد بالمذكور معناه ومعنى صاحبه الذي اقترن به (2) .
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 7 \ 259- 260، وانظر: ص 375 - 376، شرع العقيدة الطحاوية 294- 298.
(2) المختار من كنوز السنة 91- 95، فتح الباري: لابن حجر 1 \ 115.(16/322)
أصل معنى كلمة " الإسلام ":
وأصل كلمة " الإسلام " هو الاستسلام والخضوع، لأنه من: " استسلمت لأمره "، وهو الخضوع لأمره، وإنما سمي "المسلم" مسلما بخضوع جوارحه لطاعة ربه كما جاء عن الربيع وأبي العالية وسعيد بن جبير في قوله تعالى {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ} (1) يقول: أخلص له العمل. وكما قال زيد بن عمرو بن نفيل:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذبا زلالا
__________
(1) سورة البقرة الآية 112(16/322)
يعني بذلك: استسلمت لطاعة من استسلم لطاعته المزن وانقادت له (1) .
وجاء تفسير الآية بإخلاص العمل، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكذلك قال مقاتل: هي إخلاص العمل وإخلاص الدين والتوحيد، وقيل إخلاص القصد. وقيل: الخضوع والتواضع.
وقد أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام بالإخلاص له والاستسلام والانقياد، فأجاب إلى ذلك قدرا وشرعا {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (2)
وهذه المعاني كلها متقاربة ولا تنافي بينها، وما قد يظهر فيها من خلاف فهو اختلاف تنوع، لا اختلاف تضاد، واختلاف التنوع هذا على نوعين:
أحدهما: أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر، مع اتحاد المسمى.
والثاني: أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع.
__________
(1) تفسير الطبري 2 \ 510- 511، تفسير ابن كثير 1 \ 155.
(2) سورة البقرة الآية 131(16/323)
فالإسلام يتضمنه الاستسلام لله وحده، فمن استسلم له ولغيره كان مشركا، ومن لم يستسلم له كان مستكبرا عن عبادته، والمشرك والمستكبر عن عبادته كافر، والاستسلام له وحده عبادته وحده وطاعته وحده. فهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره، وذلك إنما يكون بأن يطاع في كل وقت بفعل ما أمر به في ذلك الوقت، فإذا أمر في أول الأمر باستقبال الصخرة، ثم أمرنا ثانيا باستقبال الكعبة، كان كل من الفعلين حين أمر به داخلا في الإسلام.
فالدين هو الطاعة والعبادة له في الفعلين، وإنما تتنوع بعض صور الفعل، وهو وجه المصلي، فكذلك الرسل دينهم واحد، وإن تنوعت الشريعة والمنهاج والوجه والنسك، فإن ذلك لا يمنع أن يكون الدين واحدا، كما لم يمنع ذلك في شريعة الرسول الواحد (1) .
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى 3 \ 90- 92، اقتضاء الصراط المستقيم 454- 455، الإيمان 250.(16/324)
الدين واحد والشرائع متعددة:
فإذا كان الدين واحدا، فإن الشرائع مختلفة في الأوامر والنواهي، فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراما، ثم يحل في الشريعة الأخرى، وبالعكس، وقد يكون خفيفا في شريعة فيزداد بالشدة في الشريعة الأخرى، وقد تختلف طرق العبادة، نظرا لاختلاف الناس وطرق تعليمهم باختلاف استعداداتهم وظروف بيئتهم في مختلف العصور والأزمان، إذ أن الشريعة تأتي لتلبية حاجات الناس، وهذه قد تختلف من أمة لأخرى ومن زمن لآخر. كما تختلف الشرائع في شمولها لبعض الأحكام مما لم يكن منصوصا عليه في شريعة سابقة خاصة، لأن كل شريعة لاحقة إنما جاءت مكملة أو موضحة لشريعة سابقة أو مصححة لما وقع فيها من انحراف.(16/324)
ومن أوضح ذلك ما جاءت به شريعتنا الإسلامية من تعاليم، مما لم يكن في الشرائع السابقة مما يحتاج إليه الناس في حياتهم اليومية وفي روابطهم الشخصية ومعاملاتهم لبعضهم البعض، فردية كانت هذه المعاملات أو جماعية، كبيان نظم البيع والشراء والإيجار في العقارات والمنافع. . . وغير ذلك من ضروب المعاملات.
وهذا الاختلاف بشتى صوره، إنما يقتضيه ما لله تعالى من الحكمة البالغة والحجة الدامغة في اختلاف صور العبادات والشرائع باختلاف استعداد الأقوام ومقتضيات الزمان والمكان (1) .
وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى كثير من هذه المعاني، فقال عن عيسى عليه السلام {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} (2) ، وقال عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (3) {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (4) .
ثم وضع قاعدة عامة، فقال سبحانه {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (5) .
فلكل أهل ملة وجهة هو موليها، قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني بذلك أهل الأديان، يقول لكل أهل ملة قبلة يرضونها، ووجه الله- تبارك وتعالى اسمه- حيث توجه المؤمنون.
__________
(1) انظر: حجة الله البالغة للدهلوي 1 \ 86.
(2) سورة آل عمران الآية 50
(3) سورة الأعراف الآية 157
(4) سورة المائدة الآية 15
(5) سورة البقرة الآية 148(16/235)
وقال أبو العالية: لليهودي وجهة هو موليها، وللنصراني وجهة هو موليها، وهداكم أنتم أيها الأمة، إلى القبلة التي هي القبلة (1) .
وهذا شبيه بقوله تعالى {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (2) . قال الإمام الطبري: ومعنى الكلام: لكل قوم منكم جعلنا طريقا إلى الحق يؤمه وسبيلا واضحا يعمل به واختلف أهل التأويل في المعني بقوله تعالى {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً} (3) .
فقال بعضهم: عنى بذلك أهل الملل المختلفة، أي أن الله جعل لأهل كل ملة شريعة ومنهاجا، وفسر قتادة الشريعة والمنهاج فقال: سبيلا وسنة، والسنن مختلفة، للتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللقرآن شريعة يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء، بلاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل الله غيره: التوحيد والإخلاص لله، الذي جاءت به الرسل، لأن الله تعالى ذكر ما كتب على بني إسرائيل في التوراة، وتقدم إليهم بالعمل بما فيها، ثم ذكر أنه قفى بعيسى ابن مريم على آثار الأنبياء قبله وأنزل عليه الإنجيل وأمر من بعثه إليه بالعمل بما فيه، ثم ذكر نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، وأخبره أنه أنزل إليه الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتاب، وأمره بالعمل بما فيه والحكم بما أنزل إليه فيه دون ما في سائر الكتب غيره، وأعلمه أنه قد جعل له ولأمته شريعة غير شرائع الأنبياء والأمم قبله الذين قص عليه قصصهم، وإن كان دينه ودينهم، في توحيد الله والإقرار بما جاءهم به من عند الله
__________
(1) تفسير الطبري 3 \ 192- 193، تحقيق محمود شاكر، تفسير ابن كثير 1 \ 195.
(2) سورة المائدة الآية 48
(3) سورة المائدة الآية 48(16/326)
والانتهاء إلى أمره ونهيه واحدا، فهم مختلفو الأحوال فيما شرع لكل واحد منهم ولأمته فيما أحل لهم وحرم عليهم، فقال سبحانه {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1) {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} (2) {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (3) {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (4) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: وأما تنوع الشرائع وتعددها، فقال تعالى لما ذكر القبلة بعد الملة بقوله {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (5) إلى قوله {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} (6) فأخبر أن لكل أمة وجهة، ولم يقل: جعلنا لكل أمة وجهة: بل قد يكون هم ابتدعوها كما ابتدعت النصارى وجهة المشرق، بخلاف ما ذكره في الشرع والمنهاج، فإنه قال {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} (7) إلى قوله {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (8) .
وهذه الآيات نزلت بسبب الحكم في الحدود والقصاص والديات، أخبر الله تعالى أن التوراة يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا
__________
(1) سورة المائدة الآية 45
(2) سورة المائدة الآية 46
(3) سورة المائدة الآية 47
(4) سورة المائدة الآية 48
(5) سورة البقرة الآية 144
(6) سورة البقرة الآية 148
(7) سورة المائدة الآية 41
(8) سورة المائدة الآية 50(16/327)
والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله، وهذا عام في النبيين جميعا والربانيين والأحبار، ثم لما ذكر الإنجيل قال {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} (1) فأمر هؤلاء بالحكم، لأن الإنجيل بعض ما في التوراة وأقر الأكثر، والحكم بما أنزل الله فيه حكم بما في التوراة أيضا. ثم قال {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (2) .
فأمره أن يحكم بما أنزل الله على من قبله، لكل جعلنا من الرسوليين والكتابيين شرعة، ومنهاجا، أي سنة وسبيلا، فالشرعة: الشريعة، وهي السنة، والمنهاج: الطريق والسبيل. وكان هذا بيان وجه تركه لما جعل لغيره من السنة والمنهاج إلى ما جعل له، ثم أمره أن يحكم بينهم بما أنزل الله إليه: فالأول: نهي له أن يأخذ بمنهاج غيره ولشرعته. والثاني: وإن كان حكما غير الحكم الذي أنزل، نهي له أن يترك شيئا مما أنزل فيها اتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، فمن لم يتبعه لم يحكم بما أنزل الله، وإن لم يكن من أهل الكتاب الذين أمروا أن يحكموا بما فيها مما يخالف حكمه.
وكما أمر الله تعالى نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم في هذه الآيات أن يحكم بما أنزل الله إليه دون ما في سائر الكتب، أمره كذلك مرة أخرى أن يحكم بهذه الشريعة التي جعلها الله له، من بعد الذي آتاه بني إسرائيل الذين وصف له صفتهم في اختلافهم بغيا بينهم، فقال سبحانه {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} (3) {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (4) {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (5)
__________
(1) سورة المائدة الآية 47
(2) سورة المائدة الآية 48
(3) سورة الجاثية الآية 16
(4) سورة الجاثية الآية 17
(5) سورة الجاثية الآية 18(16/328)
ويقول الشيخ ولي الله الدهلوي: إن أصل الدين واحد اتفق عليه الأنبياء عليهم السلام، وإنما الاختلاف في الشرائع والمناهج، تفصيل ذلك: أن الأنبياء عليهم السلام أجمعوا على توحيد الله تعالى: عبادة واستعانة، وتنزيهه عما لا يليق بجنابه، وتحريم الإلحاد في أسمائه، وأن حق الله على عباده أن يعظموه تعظيما لا يشوبه تفريط، وأن يسلموا وجوههم وقلوبهم إليه، وأن يتقربوا بشعائر الله إلى الله، وأنه قدر جميع الحوادث قبل أن يخلقها، وأن لله ملائكة لا يعصون الله فيما أمر ويفعلون ما يؤمرون، وأنه ينزل الكتاب على من يشاء من عباده، ويفرض طاعته على الناس. . . فهذا أصل الدين، ولذلك لم يبحث القرآن العظيم عن ملية هذه الأشياء، إلا ما شاء الله، فإنها كانت مسلمة فيمن نزل القرآن بألسنتهم، وإنما الاختلاف في صور هذه الأمور وأشباهها، فكان في شريعة موسى عليه السلام الرجم فقط، وجاءت شريعتنا بالرجم للمحصن والجلد لغيره، وجاء في شريعة موسى عليه السلام القصاص فقط، وجاءت شريعتنا بالقصاص والدية جميعا، وعلى ذلك اختلافهم في أوقات الطاعات وآدابها وأركانها.
وبالجملة: فالأوضاع الخاصة التي مهدت وبينت بها أنواع البر والارتفاقات هي الشرعة والمنهاج (1) .
__________
(1) انظر: حجة الله البالغة: للدهلوي 1 \ 86- 87.(16/329)
كل دين عقيدة ومنهج حياة:
فظهر بذلك أن كل دين من عند الله تعالى يتضمن جانبين اثنين: العقيدة والشريعة، إذ أن طبيعة الدين، أي دين، أن يتضمن تنظيما لحياة الناس بالتشريع وألا يقتصر على الجانب العقدي أو التهذيبي الأخلاقي، ولا على المشاعر الوجدانية وحدها، ولا على العبادات والشعائر وحدها كذلك، فهذا لا يكون دينا، فما الدين إلا منهج الحياة الذي أراده الله للبشر، ونظام الحياة الذي يربط حياة الناس بمنهج الله، ولا يمكن أن ينفك عنصر العقيدة الإيمانية عن الشعائر التعبدية عن القيم الخلقية عن الشعائر التنظيمية في أي دين يريد أن يصرف حياة الناس وفق المنهج الإلهي، وأي انفصال لهذه المقومات يبطل عمل الدين قي النفوس وفي الحياة ويخالف مفهوم الدين وطبيعته، كما أراده الله سبحانه.
وإذا كانت العقيدة - كما سبق- واحدة لا تختلف فإن الشريعة لكل قوم مباينة لغيرها من الشرائع، وبكلا الجانبين جاءت الآيات القرآنية الكريمة ولا تعارض بينها إذ أن كل آية دلت على عدم التباين في الدين فهي دالة على أصول الدين، وأما الآيات الدالة على حصول التباين فمحمولة على الفروع وما يتعلق بظواهر العبادات، فجائز أن يتعبد الله عباده في كل وقت بما يشاء (1) .
__________
(1) تفسير الخازن 2 \ 50- انظر: الفخر الرازي 12 \ 14، فتح الباري 15 \ 49، شرح الطحاوبة 464 وما بعدها.(16/330)
هل اسم الإسلام خاص بهذه الأمة؟
ووقع النزاع بعد ذلك في اختصاص اسم الإسلام بهذه الأمة، هل(16/330)
هو خاص بها أم يوصف به من سبقها من الأمم ويطلق على من آمن بنبيه من أمة موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء صلوات الله عليهم وعلى نبينا وتسليمه؟ .
وللعلماء في هذه المسألة قولان مشهوران، حكاهما غير واحد من الأئمة:
أحدهما: أنه يطلق الإسلام على كل دين حق، ولا يختص بهذه الملة، وبهذا أجاب ابن الصلاح -رحمه الله- فقال: يطلق اسم الإسلام على الجميع، وهو اسم لكل دين حق لغة وشرعا، فقد ورد ذلك بألفاظ راجعة إلى هذا في كتاب الله تعالى (1) .
واستدل لهذا الرأي بقوله تعالى {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (2) {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (3) وبقوله تعالى {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (4) وقوله تعالى {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} (5) .
وأجاب الإمام السيوطي عن ذلك أنه كان يطلق فيما تقدم على الأنبياء، وما أطلق على غيرهم إلا على سبيل التغليب أو على سبيل التبعية (6) .
والقول الثاني: أن الإسلام خاص بهذه الملة الشريفة، ووصف المسلمين خاص بهذه الأمة المحمدية، ولم يوصف به أحد من الأمم السابقة سوى الأنبياء فقط، وقد خصت هذه الأمة من بين سائر الأمم
__________
(1) فتاوى ابن الصلاح في التفسير والعقائد، ص 37، ضمن مجموعة الرسائل المنيرية، في الجزء الرابع.
(2) سورة الذاريات الآية 35
(3) سورة الذاريات الآية 36
(4) سورة البقرة الآية 133
(5) سورة يونس الآية 84
(6) الحاوي للفتاوى: لجلال الدين السيوطي 2 \ 224.(16/331)
بخصائص لم تكن لأحد سواها، إلا للأنبياء فقط.
ومن الأدلة التي ترجح هذا القول: قوله تعالى {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (1) ، فلو لم يكن قوله سبحانه {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} (2) خاصا بهذه الأمة، كالذي ذكر قبله من الهداية ورفع الحرج، لم يكن لتخصيصه بالذكر ولاقترانه بما قبله معنى.
ولم يذكر الله سبحانه بالإسلام غير هذه الأمة، ولم نسمع بأمة ذكرت بالإسلام غيرها، ونصوص أئمة السلف المفسرين من الصحابة وغيرهم من التابعين وأتباعهم: إن الله تعالى سمى هذه الأمة " المسلمين " في اللوح المحفوظ وفي التوراة والإنجيل وسائر الكتب المنزلة وفي القرآن الكريم، فإنه اختصهم بهذا الاسم من بين سائر الأمم فلا يدعون إلا به، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثى جهنم) ، قالوا: يا رسول الله وإن صام وإن صلى؟ قال: (نعم، وإن صام وإن صلى وزعم أنه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائهم، بما سماهم الله عز وجل: المسلمين المؤمنين، عباد الله عز وجل (3) » .
__________
(1) سورة الحج الآية 78
(2) سورة الحج الآية 78
(3) أخرجه الإمام أحمد في المسند 4 \ 130 و 5 \ 344، والترمذي في الأمثال 4 \ 226- 227 وقال: حسن صحيح غريب، وقال ابن كثير في التفسير 1 \ 59 هذا حديث حسن وعزاه للنسائي في 3 \ 237، وأخرج الآجري في الشريعة قطعة منه بإسناده ص 8. وقوله من جثي جهنم - وفي المسند جثاء- أي من جماعاتها، والجثوة: ما جمع من تراب وغيره، فاستعيرت، وروي: ''جثي'' وهو جمع جاث، من قوله تعالى '' \ 403 \ 403 حول جهنم جثيا ''. انظر: الفائق: للزمخشري 1 \ 190، ترتيب القاموس المحيط 1 \ 445.(16/332)
وقال الله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} (1) ، دعا بذلك لنفسه ولولده، وهما نبيان، ثم دعا به لأمة من ذريته، وهي هذه الأمة، أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال عقب ذلك {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} (2) وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالإجماع، فاستجاب الله دعاءه بالأمرين: ببعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم فيهم وتسميتهم مسلمين.
وقال الله تعالى {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (3) .
وهذه الآية ظاهرة في الاختصاص، فإن تقديم " لكم " يستلزم الاختصاص ويفيد أنه لم يرضه لغيرهم، فقد اختاره الله لنفسه ولهذه الأمة، ويشير إلى هذا ما أخرجه البغوي بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال جبريل، قال الله تعالى: هذا دين ارتضيته لنفسي، ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق، فأكرموه بهما ما صحبتموه (4) » .
وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده وابن أبي شيبة في مصنفه عن مكحول في حديث طويل، وفيه: «تسمى الله باسمين، سمى الله بهما أمتي، هو السلام وسمى بها أمتي المسلمين، وهو المؤمن وسمى
__________
(1) سورة البقرة الآية 128
(2) سورة البقرة الآية 129
(3) سورة المائدة الآية 3
(4) تفسير البغوي، 2 \ 9- 10، وانظر: الطبري 9 \ 523 شاكر، البحر المحيط 3 \ 426، الحاوي: للسيوطي، نفس الموضع.(16/333)
بها أمتي المؤمنين (1) » . قال السيوطي: وهذا الحديث صريح في اختصاص أمته صلى الله عليه وسلم بوصف الإسلام، ولذلك أطبقت ألسنة الخلق كلهم من الصحابة والتابعين وأتباعهم والمجتهدين والفقهاء والعلماء على اختلاف فنونهم، والمسلمين بأسرهم، واليهود والنصارى والمجوس وسائر الفرق حتى الحيوانات والشجر والحجر في آخر الزمان على تسمية من كان على دين موسى يهوديا، ومن كان على دين عيسى نصرانيا، ومن كان على دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مسلما لا يمتري في ذلك أحد، وما كان هذا عن فساد، بل هو الحق المطابق للواقع (2) .
تحرير محل النزاع:
ونضع هنا كلمة قيمة لابن تيمية -رحمه الله- يحرر فيها محل النزاع، قال: وقد تنازع الناس فيمن تقدم من أمة موسى وعيسى، هل هم مسلمون أم لا؟ .
وهو نزاع لفظي، فإن الإسلام الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم المتضمن لشريعة القرآن: ليس إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والإسلام اليوم عند الإطلاق يتناول هذا، وأما الإسلام العام المتناول لكل شريعة بعث الله بها نبيا فإنه يتناول إسلام كل أمة متبعة لنبي من الأنبياء (3) .
__________
(1) أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده وابن أبي شيبة في مصنفه.
(2) الحاوي للفتاوى: للسيوطي 2 \ 219، 223.
(3) الرسالة التدمرية لابن تيمية: 113، وهي نفسها في مجموع الفتاوى 3 \ 128.(16/334)
لماذا سمي الدين بالإسلام؟ .
إن جميع ما في الأرض من مختلف الديانات إنما سميت بأسمائها إما نسبة إلى اسم رجل خاص أو أمة معينة ظهرت وترعرعت بين ظهرانيها أو بلد نشأت فيها، فاليهودية سميت بهذه الاسم نسبة إلى أرض اليهودية، أو لأنها ظهرت بين ظهراني قبيلة تعرف بيهودا وهو اسم أحد أسباط يعقوب عليه السلام ويسمى أتباعها: الموسويين نسبة إلى موسى عليه السلام.
والنصرانية: سميت بهذا الاسم نسبة إلى بلدة الناصرة، بلد المسيح عليه السلام، وتسمى أيضا المسيحية نسبة إلى المسيح عليه السلام وإليه أيضا ينسب أتباعه فيقال: المسيحيون.
وهكذا اشتهرت أيضا البوذية مثلا بهذا الاسم نسبة إلى بوذا، وهو لقب باني هذه النحلة، وكذلك الزرادشتية أخذت اسمها من حامل لوائها زرادشت.
أما الإسلام، الدعوة العامة للناس جميعا التي ختم الله تعالى بها الرسالات السابقة كلها، فإنه لا ينتسب إلى أمة بعينها، ولا إلى بلد ظهر فيه، ولا إلى النبي الذي أنزله الله عليه، وإنما يدل اسمه على صفة خاصة يتضمنها معنى كلمة الإسلام.
ومما يظهر من هذا الاسم: أنه ما عني بإيجاد هذا الدين وتأسيسه رجل من البشر، وليس خاصا بأمة معينة دون سائر الأمم، وإنما غايته أن يحلي أهل الأرض جميعا بصفة الإسلام.(16/335)
وهذه الأمة. . . الأمة المسلمة:
وكما اختص الله تعالى هذا الدين باسم الإسلام، اختص أيضا هذه الأمة باسم " الأمة المسلمة " وباسم " المسلمين " ومن خلال هذا الاختصاص نلمح جملة معان بارزة كانت وراء ذلك الاختصاص بهذا الاسم.
ففي ذلك تكريم وتشريف لهذه الأمة على غيرها، حيث اختصها الله تعالى باسم أطلقه على أنبياء الأمم السابقة، فكانوا هم المسلمين، وهذه الأمة هي الأمة المسلمة، وبذلك تتأكد وشائج الصلة بين هذه الأمة وبين من سبقها، فهي ليست مقطوعة النسب، وليست بدعا بين الأمم.
كما جاءت هذه التسمية والاختصاص بها استجابة لدعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال وهو يرفع القواعد من البيت وإسماعيل {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} (1) فالذرية المسلمة والأمة المسلمة من نسل إبراهيم عليه السلام، وهو الذي سماها أيضا بهذا الاسم {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (2) .
واشتملت شريعة الإسلام على فواضل العبادات مما انفردت به بين الرسالات من الجهاد والحج والوضوء والغسل من الجنابة ونحو ذلك مما اختصت به الأمة المسلمة ولم يكتب على غيرها من الأمم، وإنما كتب على الأنبياء فقط.
__________
(1) سورة البقرة الآية 128
(2) سورة الحج الآية 78(16/336)
وفي هذه الأمة تحقق معنى الإسلام، الذي هو الاستسلام والانقياد والإذعان لله رب العالمين ولم تذعن أمة لنبيها كما أذعنت هذه الأمة وقبلت ما جاء به من عند الله وانقادت له بلا اعتراض فاستحقت لهذا كله الاختصاص باسم الأمة المسلمة وكانت جديرة بأن تكون، كما أراد الله تعالى لها {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (1)
وهذا كله يلقي على عاتق هذه الأمة واجبات عظام ومسؤوليات كبيرة، ينبغي أن تقدرها حق قدرها وأن تحملها بقوة لتقوم بدور القيادة والريادة لهذه البشرية، والشهادة على سائر الأمم، ولن يكون ذلك إلا بعودة صادقة إلى منابع القوة والعز والتمكين، وذلك بالتمسك بهذا الدين عقيدة وعبادة وشريعة كاملة للحياة، وعندئذ يتحقق وعد الله سبحانه، ولن يخلف الله وعده أبدا {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2) .
والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2) سورة النور الآية 55(16/337)
الأقليات الإسلامية.
ظروفها وآمالها وآلامها.
كلمة وجهها سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
بمناسبة انعقاد المؤتمر العالمي السادس
للندوة العالمية للشباب الإسلامي.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فإن الله جلت قدرته قد بعث الأنبياء والمرسلين للدعوة إلى توحيده، وإخلاص العبادة لله سبحانه، وإيضاح شرعه الذي شرعه لعباده، وخلق الثقلين لذلك، كما قال سبحانه {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) . وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (2) .
وأخبر سبحانه وبحمده أنه لا يعذب قوما إلا بعد إرسال البشير والنذير قال تعالى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (3) . وقال تعالى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (4) ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله على فترة من الرسل جاء بعد أن ملئت الأرض جورا وظلما. وبعد أن تغلبت معصية الله في أرضه على طاعته، فأرسله الله للعالمين الإنس والجن، وللعجم والعرب بشيرا ونذيرا ومبلغا لشرع الله، فوضح ودعا، وأرسل الكتب لرؤساء الأمصار بالدعوة لما جاء به، لتقوم الحجة على من عاند وخالف، قال الله تعالى
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة النحل الآية 36
(3) سورة المائدة الآية 19
(4) سورة الإسراء الآية 15(16/338)
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (1) .
وقد جعل الله لشريعته خاتمة الشرائع، ورسالته خاتمة الرسالات، لأن فيها الكمال والشمول لما يصلح الناس وأحوال معيشتهم ومعادهم، ولم يترك صلى الله عليه وسلم خيرا إلا دعا الناس إليه، أو شرا إلا وحذرهم منه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك (2) » . وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم (3) » . خرجه مسلم في صحيحه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا أبدا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي (4) » . . ففي كتاب الله أمر بالدعوة إلى دين الله دين الحق الذي لا يقبل سبحانه من البشر سواه، قال تعالى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (5) . وقال سبحانه {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (6) وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على الدعوة. وتوضيح لما يجب أن يؤديه المسلم نحو دين الله بتوضيحه لسائر البشر فهو أمانة ملقاة على عواتق أهل العلم ولا تبرأ ذممهم إلا بذلك نحو إخوانهم المسلمين بالتوضيح والنصح، قال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا - وشبك بين أصابعه (7) » . رواه البخاري ومسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158
(2) سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) .
(3) صحيح مسلم الإمارة (1844، 1844) ، سنن النسائي البيعة (4191، 4191) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4248) ، سنن ابن ماجه الفتن (3956، 3956) ، مسند أحمد بن حنبل (2/191، 2/191) .
(4) سنن الترمذي تفسير القرآن (3075) ، سنن أبو داود السنة (4703) ، مسند أحمد بن حنبل (1/45) ، موطأ مالك الجامع (1661) .
(5) سورة آل عمران الآية 19
(6) سورة آل عمران الآية 85
(7) صحيح البخاري الصلاة (481) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) .(16/339)
اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (1) » . متفق عليه.
فالمسلمون في أي مكان وزمان واجب عليهم التناصح فيما بينهم، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه، قال تعالى {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) . وقال تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (5) . وقال عليه الصلاة والسلام: «الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة قالوا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (6) » .
فالواجب على المسلم الامتثال لأوامر الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والنصح لله ولعباده لأن في ذلك السعادة كلها في الدنيا والآخرة، والعزة للمسلمين لا تكون إلا بذلك حيث يعلي سبحانه كلمتهم وينصرهم على أعدائهم مهما كثروا وتعاونوا.
ولقد سمعنا وقرأنا الأخبار عن كثير من إخواننا المسلمين في المجتمعات التي غالبية سكانها من غير المسلمين، وما يحصل عليهم من التسلط والتضييق في إقامة شعائر دينهم لإبعادهم عنه، إما بالإكراه أو بطرق أخرى. فنسأل الله لهم ولجميع المسلمين الثبات على الإسلام والعافية من مكائد الأعداء.
ولا شك أنهم على ثغرة مهمة من ثغور الإسلام، ويحتاجون والحالة هذه إلى كل مساعدة وعون سواء من الناحية السياسية وهذا خاص بالحكومات الإسلامية من العرب وغيرهم التي لديها غيرة على الإسلام،
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3
(5) سورة المائدة الآية 2
(6) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4197) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .(16/340)
ولها علاقات مع تلك الدول، بإرسال المندوبين وبعث الرسائل والتأكيد على ممثلياتها وما إلى ذلك من الوسائل والأساليب التي تعين إخوانهم في تلك الأقليات، وترفع معنوياتهم، وتشعر من يتسلط عليهم بأن لهم إخوانا في العقيدة يهتمون بأمرهم ويتابعون أخبارهم ويغارون عليهم. وسوف يرتفع الضيم والظلم عن المسلمين- إن شاء الله- عندما تشعر تلك الدول وغيرها أن وراء هذه القلة المسلمة دول تتألم لآلامهم، وتهتم بشؤونهم، فتنصاع لمطالبهم، وترفع يدها عن ظلمهم، ولا سيما أن غالب تلك الدول بحاجة إلى البلاد الإسلامية في الشؤون الاقتصادية وغيرها.
والقلة المسلمة في كل مكان لا شك أنهم في أمس الحاجة إلى المساعدة المادية والمعنوية، لإقامة المساجد وبناء المدارس، ونحو ذلك مما يعينهم في عملهم الإسلامي، وواجب على كل مسلم أن يعينهم بقدر طاقته مع إرسال الدعاة لهم، لتعليمهم العقيدة الصحيحة، واللغة العربية والعلوم الإسلامية، لأن الكثير منهم في جهل كبير بأمور دينهم. وبهذه المناسبة نحب أن نشير إلى أن للرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد -بحمد الله- جهودا في مختلف البلاد الإسلامية والبلاد التي فيها أقليات، وتشاركها في ذلك رابطة العالم الإسلامي وبعض الدول والمؤسسات الأخرى، أسأل الله أن ينفع بهذه الجهود وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يوفق القائمين على ذلك لما يحب ويرضى.
فقد قامت الرئاسة بمواصلة نشر رسالة الإسلام في ربوع إفريقيا وأوروبا، وأجزاء من أمريكا وآسيا واستراليا، لإيصال كلمة الحق إلى الناس عبر المحاضرات والدروس والكتب واللقاءات والاتصالات بشتى(16/341)
الطبقات، وبأنواع الثقافات، ومن خلال المساجد والمدارس والجمعيات والمؤسسات الإسلامية التي تدعمها وتساهم في تأسيسها وبنائها، بواسطة دعاتها المنبثين في سائر أرجاء الأرض، فالرئاسة توجه نشاطاتها فيما يقرب من خمسين بلدا في إفريقيا وحدها ولها أكثر من ألف داعية هناك، يبلغون كلمة الإسلام، ويدعون إلى دين الله في المساجد والمجتمعات والمناسبات المتعددة ويقومون بالتدريس والوعظ وإرشاد الناس بالحسنى إلى صراط الله المستقيم، وإلى العقيدة الصحيحة التي بلغها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأمته، وسار على نهجها الصفوة الأولى من هذه الأمة.
وقد نفع الله بجهود هؤلاء الدعاة وأخبار أعمالهم ظاهرة بحمد الله، حيث أسلم علي أيديهم من أراد الله هدايته.
أما في أمريكا وأوروبا واستراليا فقد قامت الرئاسة ضمن جهود أخرى بإرسال العديد من الوفود، وذلك لمعايشة هذه الأقليات المسلمة وتقصي الحقائق عن أوضاع المسلمين، وتقويم أعمالهم، ومعرفة ما يستجد بشأنهم وإيجاد الحلول لما يعترضهم من مشكلات، وبيان ما ينقصهم في علمهم الإسلامي.
وقد تمخض عن ذلك إرسال الكثير من الدعاة والمدرسين إلى البلدان المحتاجة التي يوجد فيها أقليات مسلمة، ودعم الجمعيات والمراكز في بناء منشآتها ماديا ومعنويا مع تزويدهم بأمهات الكتب والمراجع العلمية، والنصح والإرشاد لهم، لعل الله ينفع بذلك.
وعلى سبيل المثال يوجد لهذه الرئاسة دعاة في بريطانيا عددهم (23) داعية، وفي فرنسا (15) داعية، وفي البرتغال داعية، وفي الدنمارك داعيان، وفي ألمانية الغربية (5) دعاة، وفي اليونان (4) دعاة، وفي إيطاليا داعية، وفي بلجيكا (5) دعاة، وفي تركيا (8) دعاة، وفي جزر(16/342)
الكناري داعية، وفي جزر المارتينك داعية، وفي سوسرا داعية، وفي قبرص (3) دعاة، وفي هولندا داعية، وفي النمسا داعية، وفي الولايات المتحدة الأميريكية (31) داعية، وفي كندا (7) دعاة، وفي البرازيل (9) دعاة، وفي الأرجنتين داعية، وفي البحر الكاريبي داعية، وفي ترينيداد (3) دعاة، وفي سورينام داعيان، وفي غويانا داعيان، وفي جزر فيجي داعيان، وفي استراليا (5) دعاة، وفي نيوزيلندا داعية واحد. .
أما في آسيا فتقوم الرئاسة بتوفير عدد لا بأس به من الدعاة في البلدان التي يوجد بها أقليات إسلامية لنشر الدعوة الإسلامية بينهم المبنية على أساس من العقيدة الصحيحة حسبما أخذها السلف الصالح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفهمها أصحابه رضوان الله عليهم.
كما وضعت مكاتب ومشرفين لمتابعة أعمال الدعاة، وتوزيعهم حسب حاجة تلك البلدان وبحث ما فيه مصلحة لدعم الجمعيات الإسلامية المعروفة بسلامة الاتجاه بعد التأكد من حاجتهم بالكتب الإسلامية والكتابة إلى المؤسسات التعليمية لتزويدهم بالمقررات المدرسية كما تقوم بالمساهمة في إكمال مشروعاتهم التي تعود على المسلمين هناك بالنفع في دينهم ودنياهم كالمساهمة في بناء المساجد وترميمها وتزويدها بالمصاحف، وتوثيق المؤسسات الإسلامية للاطمئنان على سلامة القائمين على العمل وصدقهم، وذلك بإعطائهم توصيات خاصة لمحبي الخير لمساعدتهم في عملهم الخيري، وإرسال الوفود من الرئاسة لتفقد أحوال الأقليات ومعرفة احتياجاتهم الضرورية.
وللرئاسة عدد من الدعاة في بلدان أخرى بقارة آسيا يوجد بها أقليات إسلامية كالهند التي يوجد بها (9) دعاة، والفلبين (6) دعاة، وتيلاند (37) داعية، ونيبال (15) داعية، وسريلانكا (14) داعية، واليابان(16/343)
(5) دعاة، وكوريا داعية، وسنغافورة داعيان. وكل ما ذكرت من عمل الرئاسة ودعمها للجمعيات الإسلامية والمراكز الإسلامية وإرسال الدعاة وغير ذلك من أعمال إسلامية كله إنما يتم بفضل الله سبحانه ثم بفضل حكومتنا الرشيدة وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد حفظه الله من كل سوء ونصر به الحق وفسح في أجله على خير عمل. . .
وبهذه المناسبة التي تعقدها ندوة الشباب العالمية لبحث أوضاع الأقليات الإسلامية في العالم، أوصي إخواني الدعاة جميعا بتقوى الله سبحانه وتعالى والعمل بإخلاص في تبليغ هذا الدين مستحضرين ما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، في فضل الدعوة وآداب الدعاة، حيث قال سبحانه {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) . {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) . وقال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) .
وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة التي منها قوله صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (4) » . وقوله صلى الله عليه وسلم لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما بعثه إلى خيبر: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (5) » .
ووصيتي لإخواني المسلمين في الأقليات الإسلامية وفي كل مكان أن يتقوا الله وأن يتفقهوا في دينهم ويسألوا أهل العلم عما أشكل عليهم، وأن يحرصوا على تعلم اللغة العربية ليستعينوا بها على فهم كتاب الله عز
__________
(1) سورة فصلت الآية 33
(2) سورة يوسف الآية 108
(3) سورة النحل الآية 125
(4) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(5) صحيح البخاري المناقب (3701) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .(16/344)
وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأول ذلك الاهتمام بكتاب الله فهما وعملا، كما جاء في الحديث الصحيح: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (1) » . ثم قراءة كتب الحديث الموثوقة المعتبرة، وغيرها من كتب الفقه والعقيدة المعتمدة عند أهل السنة والجماعة. وأن يتلقوا كل ذلك على أيدي علماء معروفين بالصلاح والتقوى وحسن العقيدة والعلم الصحيح.
وعلى الإخوة العلماء في المجتمعات ذات الأقلية المسلمة أن ينشطوا في مجال الدعوة إلى الله بين إخوانهم وغيرهم، ولهم الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى.
وهذا العمل من أجل الأعمال وأعظمها كما تقدم في قوله تعالى {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (2) ثم بعد ذلك يجب عليهم تبليغ هذا الدين إلى من حولهم من الأمم الأخرى، لأن دين الإسلام للناس كافة قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (3) وهذه المجتمعات بأشد الحاجة إلى هذا الدين، والداعي إلى الله يحصل له الأجر العظيم إذا كان سببا في هداية هؤلاء وإرشادهم لما خفي عليهم من أمور دين الإسلام كما تقدم في قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (4) » .
فبهذه الدعوة يدخل في دين الله، دين الإسلام إن شاء الله أفواج ويقل عدد الكفار فتصبح الغلبة إن شاء الله تعالى للمسلمين، وإن لم يتمكن المسلم في تلك البلاد من الدعوة فعليه أن يلتزم بدينه وأن يتخلق بالأخلاق والآداب الإسلامية لأنها دعوة بالفعل، ولأنها محببة لذوي
__________
(1) صحيح البخاري فضائل القرآن (5027) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2907) ، سنن أبو داود الصلاة (1452) ، سنن ابن ماجه المقدمة (211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/69) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338) .
(2) سورة فصلت الآية 33
(3) سورة الأعراف الآية 158
(4) صحيح البخاري المناقب (3701) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .(16/345)
العقول الصحيحة فيتأثر الناس غالبا بهذه الصفات الحميدة. ولقد دخل الإسلام إلى بعض دول شرق آسيا بأخلاق التجار من الأمانة والصدق في المعاملة.
ومتى عجز المسلم عن إظهار دينه في بلد إقامته، بحيث لا يأمن على دينه وعرضه وماله، فإنه يجب عليه الهجرة إلى بلاد آمنة يستطيع أن يؤدي شعائر دينه بأمن وراحة بال، عملا بالآيات والأحاديث الواردة في ذلك.
ولا يفوتني أن أشكر القائمين على هذه الندوة جهودهم الطيبة في خدمة الإسلام والمسلمين.
نسأل الله لنا ولهم ولجميع المشاركين في هذا المؤتمر التوفيق والسداد وصلاح النية والعمل إنه جواد كريم وصلى الله على نبينا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
الرئيس العام.
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز.(16/346)
أسئلة.
مقدمة من جريدة البلاد إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين. . أما بعد:
فهذه إجابة موجزة عن أسئلة تقدمت بها إلي صحيفة البلاد وأسأل الله التوفيق لإصابة الحق:
السؤال الأول: متى تعتبر المرأة طالقا؟ وما الحكمة من إباحة الطلاق؟
الجواب: تعتبر المرأة طالقا إذا أوقع زوجها عليها الطلاق وهو مكلف مختار ليس به مانع من موانع وقوع الطلاق كالجنون والسكر ونحو ذلك. وكانت المرأة طاهرا طهرا لم يجامعها فيه، أو حاملا أما إن كان الزوج مجنونا أو مكرها أو سكران ولو آثما في أصح قولي أهل العلم، أو قد اشتد به الغضب شدة تمنعه من التعقل لمضار الطلاق لأسباب واضحة تؤيد ما ادعاه من شدة الغضب مع تصديق المطلقة له في ذلك أو شهادة البينة المعتبرة بذلك، فإنه لا يقع طلاقه في هذه الصور لقوله صلى الله عليه وسلم «رفع القلم عن ثلاثة الصغير حتى يبلغ، والنائم حتى يستيقظ والمجنون حتى يفيق) (1) » .
ولقوله عز وجل {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (2) .
فإذا كان المكره على الكفر لا يكفر، إذا كان مطمئن القلب بالإيمان، فالمكره على الطلاق من باب أولى، إذا لم يحمله على الطلاق سوى الإكراه.
__________
(1) سنن الترمذي الحدود (1423) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2042) ، مسند أحمد بن حنبل (1/140) .
(2) سورة النحل الآية 106(16/347)
ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق (1) » . خرجه أحمد وأبو داود، وابن ماجه وصححه الحاكم.
وقد فسر جمع من أهل العلم منهم الإمام أحمد رحمه الله الإغلاق بالإكراه والغضب الشديد.
وقد أفتى عثمان رضي الله عنه الخليفة الراشد وجمع من أهل العلم بعدم وقوع طلاق السكران الذي قد غير عقله السكر، وإن كان آثما.
أما الحكمة في إباحة الطلاق فهي من أوضح الواضحات لأن الزوج قد لا تناسبه المرأة وقد يبغضها كثيرا لأسباب متعددة كضعف العقل وضعف الدين وسوء الأدب ونحو ذلك. فجعل الله فرجا في طلاقها وإخراجها من عصمته حيث قال سبحانه {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (2) وقال عز وجل {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} (3) الآية.
السؤال الثاني: متى يباح الطلاق وما هي شروط صحته؟ .
الجواب: يباح الطلاق إذا دعت الحاجة إليه ولم يتيسر الإصلاح.
أما شروط صحته فتعلم من جواب السؤال الأول.
السؤال الثالث: الطلاق في حال الغضب هل يقع؟ .
الجواب: تقدم الجواب عن هذا السؤال في جواب السؤال الأول.
السؤال الرابع: ما هي أسباب الطلاق من وجهة نظر سماحتكم؟ .
الجواب: للطلاق أسباب كثيرة، منها عدم الوئام بين الزوجين بأن لا تحصل محبة من أحدهما للآخر، أو من كل منهما. ومنها سوء خلق المرأة، أو عدم السمع والطاعة لزوجها في المعروف، ومنها سوء خلق الزوج وظلمه للمرأة وعدم إنصافه لها. ومنها عجزه عن القيام بحقوقها أو
__________
(1) سنن أبو داود الطلاق (2193) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2046) ، مسند أحمد بن حنبل (6/276) .
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة النساء الآية 130(16/348)
عجزها عن القيام بحقوقه. ومنها وقوع المعاصي من أحدهما أو من كل واحد منهما، فتسوء الحال بينهما بسبب ذلك. حتى تكون النتيجة الطلاق، ومن ذلك تعاطي الزوج المسكرات أو التدخين، أو تعاطي المرأة ذلك. ومنها سوء الحال بين المرأة ووالدي الزوج أو أحدهما، وعدم استعمالها السياسة الحكيمة في معاملتهما أو أحدهما.
ومنها عدم عناية المرأة بالنظافة والتصنع للزوج باللباس الحسن والرائحة الطيبة والكلام الطيب والبشاشة الحسنة عند اللقاء والاجتماع.
السؤال الخامس: من أسباب الطلاق يا سماحة الشيخ عدم رؤية الزوج لزوجته قبل الدخول عليها، وديننا الإسلامي قد أباح ذلك فما تعليق سماحتكم حول هذا الموضوع؟ .
الجواب: لا شك أن عدم رؤية الزوج للمرأة قبل النكاح قد يكون من أسباب الطلاق، إذا وجدها خلاف ما وصفت له. ولهذا شرع الله سبحانه للزوج أن يرى المرأة قبل الزواج حيث أمكن ذلك. فقال صلى الله عليه وسلم: « (إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل، فإن ذلك أحرى إلى أن يؤدم بينهما) (1) » ، رواه أحمد وأبو داود بإسناد حسن. وصححه الحاكم من حديث جابر رضي الله عنه. وروى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه «عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: أنه خطب امرأة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) (2) » .
وروى مسلم في صحيحه «عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلا ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خطب امرأة. فقال له صلى الله عليه وسلم: (أنظرت إليها؟ . فقال: لا. قال: اذهب فانظر إليها) (3) » .
وهذه الأحاديث وما جاء في معناها كلها تدل على شرعية النظر
__________
(1) سنن أبو داود النكاح (2082) ، مسند أحمد بن حنبل (3/334) .
(2) سنن الترمذي النكاح (1087) ، سنن النسائي النكاح (3235) ، سنن ابن ماجه النكاح (1866) ، مسند أحمد بن حنبل (4/246) ، سنن الدارمي النكاح (2172) .
(3) صحيح مسلم النكاح (1424) ، سنن النسائي النكاح (3234) ، مسند أحمد بن حنبل (2/299) .(16/349)
للمخطوبة قبل عقد النكاح، لأن ذلك أقرب إلى التوفيق وحسن العاقبة. وهذا من محاسن الشريعة التي جاءت بكل ما فيه صلاح العباد وسعادة المجتمع في العاجل والآجل فسبحان الذي شرعها وأحكمها وجعلها كسفينة نوح من ثبت عليها نجا ومن خرج عنها هلك.
السؤال السادس: الإسلام لم يضع الطلاق إلا كحل أخير للفصل بين الزوجين. ووضع حلولا أولية قبل اللجوء إلى الطلاق فلو تحدثنا يا سماحة الشيخ عن هذه الحلول التي وضعها الإسلام لفض النزاع بين الزوجين قبل اللجوء إلى الطلاق؟ .
الجواب: قد شرع الله الإصلاح بين الزوجين واتخاذ الوسائل التي تجمع الشمل وتبعد شبح الطلاق. ومن ذلك الوعظ والهجر والضرب اليسير إذا لم ينفع الوعظ والهجر، كما في قوله سبحانه {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (1) .
ومن ذلك بعث الحكمين من أهل الزوج وأهل الزوجة عند وجود الشقاق بينهما، للإصلاح بين الزوجين كما في قوله سبحانه: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} (2) .
فإن لم تنفع هذه الوسائل ولم يتيسر الصلح واستمر الشقاق، شرع للزوج الطلاق إذا كان السبب منه، وشرع للزوجة المفاداة بالمال إذا لم يطلقها بدون ذلك إذا كان الخطأ منها أو البغضاء لقوله سبحانه: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (3)
__________
(1) سورة النساء الآية 34
(2) سورة النساء الآية 35
(3) سورة البقرة الآية 229(16/350)
الآية.
ولأن الفراق بإحسان خير من البقاء مع الشقاق والخلاف، وعدم حصول مقاصد النكاح التي شرع من أجلها.
ولهذا قال سبحانه {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} (1) وصح «عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر ثابت بن قيس الأنصاري رضي الله عنهما لما لم تستطع زوجته البقاء معه لعدم محبتها له وسمحت بأن تدفع إليه الحديقة التي أمهرها إياها أن يقبل الحديقة ويطلقها تطليقة ففعل ذلك (2) » . رواه البخاري في الصحيح.
السؤال السابع: كيفية الحد من اللجوء إلى الطلاق يا سماحة الشيخ؟ .
الجواب: يعلم جواب السؤال المذكور من جواب السؤال الذي قبله.
والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام.
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
__________
(1) سورة النساء الآية 130
(2) سنن أبو داود الطلاق (2228) .(16/351)
فتوى من
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
في حكم صلاة الجمعة في القرى
السؤال:
ما حكم إقامة صلاة الجمعة في القرى، هل هي واجبة أم لا؟
الجواب:
لا يخفى أن الحق ضالة المؤمن متى وجدها أخذها، ولا يخفى أيضا أن المرجع في مسائل الخلاف هو كتاب الله عز وجل وسنة رسوله وصفوته من خلقه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما قال الله سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} (1) وقال سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) وقال عز وجل: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (3) .
وقد تأملت أدلة الفريقين بوجوب إقامة صلاة الجمعة في القرى والقائلين بعدم وجوبها وعدم صحتها. ورأيت أدلة أصحاب القول الأول وهم الجمهور أوضح وأكثر وأصح، ومما يوضح ذلك أن الله سبحانه فرض على عباده إقامة صلاة الجمعة في قوله تعالى:
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الشورى الآية 10
(3) سورة النور الآية 54(16/352)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (1) الآية.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين (2) » رواه الإمام مسلم في صحيحه.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام صلاة الجمعة في المدينة وهي في أول الهجرة في حكم القرى وأقر أسعد بن زرارة على إقامة صلاة الجمعة في نقيع الخضمات وهو في حكم القرية ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم أنكر ذلك والحديث في ذلك حسن الإسناد ومن أعله بابن إسحاق فقد غلط لأنه قد ثبت تصريحه بالسماع، ولأنه صلى الله عليه وسلم قال «صلوا كما رأيتموني أصلي (3) » ، وقد رأيناه صلى الجمعة في المدينة من حين هاجر إليها، ولأنه صلى الله عليه وسلم أقر أهل جواثا وهي قرية من قرى البحرين على إقامة صلاة الجمعة، والحديث بذلك مخرج في صحيح البخاري ولأنها إحدى الصلوات الخمس في يوم الجمعة فوجب أداؤها على أهل القرى كأهل الأمصار وكصلاة الظهر في حق الجميع في غير يوم الجمعة وإنما تركت إقامتها في البادية والسفر لعدم أمره صلى الله عليه وسلم للبوادي والمسافرين بإقامتها، ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يقمها في السفر فوجبت إقامتها فيما سوى ذلك ومعلوم أن الذي سوى ذلك هو القرى والأمصار، ولأن في إقامتها مصالح عظيمة من جمع أهل القرية في مسجد واحد ووعظهم وتذكيرهم كل أسبوع بما شرع الله في خطبتي الجمعة وبما ذكرنا من الأدلة يتضح لكل منصف صحة قول الجمهور وأنه أقرب إلى الحق من قول من خالفهم وأنه أنفع للمسلمين في أمر دينهم ودنياهم وأقرب إلى براءة الذمة وصلاح الأمة أما أثر علي رضي الله عنه فهو موقوف عليه، ولا يصح المرفوع كما نبه على ذلك غير واحد منهم النووي رحمه الله مع
__________
(1) سورة الجمعة الآية 9
(2) صحيح مسلم الجمعة (865) ، سنن النسائي الجمعة (1370) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (794) ، مسند أحمد بن حنبل (1/239) ، سنن الدارمي الصلاة (1570) .
(3) صحيح البخاري الأذان (631) .(16/353)
أن في صحة الموقوف نظرا لأن في أسانيده عند عبد الرزاق الثوري رحمه الله ولم يصرح بالسماع وهو موصوف بالتدليس وجابرا الجعفي والحارث الأعور وكلاهما ضعيف.
وفي سنده عند ابن أبي شيبة الأعمش ولم يصرح بالسماع وهو مدلس معروف لكن عنعنته وعنعنة الثوري محمولة على السماع فيما خرجه البخاري ومسلم رضي الله عنهما في الصحيحين. أما في غير الصحيحين فليس هناك مانع من تعليل روايتهما بذلك إذا لم يصرحا بالسماع.
هذا ما ظهر لي وأسأل الله أن يوفقني وسائر إخواني لإصابة الحق وأن يمن علينا جميعا بإيثار الحق على ما سواه وأن يعيذنا جميعا من التعصب واتباع الهوى في جميع الأحوال إنه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(16/354)
حديث شريف
عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة. ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه رائحة خبيثة (1) »
رواه البخاري
كتاب الذبائح والصيد - باب المسك
__________
(1) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5534) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2628) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) .(16/355)
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1)
(سورة الحديد)
__________
(1) سورة الحديد الآية 12(17/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(17/2)
مجلة البحوث الإسلامية
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(17/3)
المحتويات
الافتتاحية
كيف نحارب الغزو الثقافي الغربي والشرقي لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
بحث الهيئة:
1 حكم استحالة النجس إلى طاهر اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 13
2 مشروع التكافل الاجتماعي اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 42
الفتاوى
الفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 49
فتوى في إخراج الأرز في زكاة الفطر لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 79
حول الشهادتين معناهما وما تستلزمه كل منهما للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين 81
من أعلام المجددين الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله للدكتور صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان 129
مجال عمل المرأة في الإسلام الدكتور / محمد بن أحمد الصالح 143
أثر الإيمان في إشاعة الاطمئنان الدكتور / محمد بن سعد الشويعر 156
تحقيق رسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري الدكتور ناصر بن عقيل بن جاسر الطريفي 195
شهادة الزور وخطرها للشيخ عبد الله بن صالح القصير 255
عبد الرزاق بن همام الصنعاني ومصنفه بقلم أحمد بن عبد الرحمن الصويان 273(17/4)
الاحتساب: الحاجة إليه ومنزلته في الأديان السابقة وتفضيل أمة الإسلام به الدكتور محمد عثمان صالح 301
مناهجنا والتربية الإسلامية الدكتور محمد عثمان كشميري 315
مكتبة الأمويين الإسلامية في قرطبة وتأثيرها الفكري في شعوب غرب أوربا الدكتور / محمد محمد إبراهيم 334
الجهاد الأفغاني- جهاد إسلامي يجب على المسلمين دعمه ومساندته لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 354
أثر المرأة في حياتكم سؤال من مجلة الجيل إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 359
الجواب المفيد في حكم التصوير لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 362(17/5)
صفحة فارغة(17/6)
الافتتاحية
كيف نحارب الغزو الثقافي الغربي والشرقي.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.
وبعد فمما لا شك فيه أن أخطر ما تواجهه المجتمعات الإسلامية في الوقت الحاضر هو ما يسمى بالغزو الثقافي بأسلحته المتنوعة، من كتب وإذاعات وصحف ومجلات وغير ذلك من الأسلحة الأخرى، ذلك أن الاستعمار في العصر الحديث قد غير من أساليبه القديمة؛ لما أدركه من فشلها، وعدم فعاليتها، ومحاربة الشعوب واستماتتها في الدفاع عن دينها وأوطانها ومقدراتها وتراثها، حيث إن الأخذ بالقوة وعن طريق العنف والإرهاب مما تأباه الطباع؛ وتنفر منه النفوس، لا سيما في الأوقات الحاضرة، بعد أن انتشر الوعي بين الناس، واتصل الناس بعضهم ببعض، وأصبح هناك منظمات وهيئات كثيرة تدافع عن حقوق الشعوب، وترفض الاستعمار عن طريق القوة، وتطالب بحق تقرير المصير لكل شعب، وأن لأهل كل قطر حقهم الطبيعي في سيادتهم على أرضهم، واستثمار مواردهم، وتسيير دفة الحكم في أوطانهم، حسب ميولهم ورغباتهم وطريقتهم في الحياة، وحسب ما تدين به تلك الشعوب من معتقدات ومذاهب وأساليب مختلفة للحكم، مما اضطر معه إلى الخروج عن هذه الأقطار بعد قتال عنيف وصدامات مسلحة وحروب كثيرة دامية.(17/7)
ولكنه قبل أن يخرج من هذه الأقطار فكر في عدة وسائل، واتخذ كثيرا من المخططات بعد دراسة واعية، وتفكير طويل، وتصور كامل لأبعاد هذه المخططات، ومدى فعاليتها وتأثيرها، والطرق التي ينبغي أن تتخذ للوصول إلى الغاية التي يريد، وأهدافه تتلخص في إيجاد مناهج دراسية على صلة ضعيفة بالدين، مبالغة في الدهاء والمكر والتلبيس، ركز فيها على خدمة أهدافه، ونشر ثقافته، وترسيخ الإعجاب بما حققه في مجال الصناعات المختلفة، والمكاسب المادية في نفوس أغلب الناس، حتى إذا ما تشربت بها قلوبهم، وأعجبوا بمظاهر بريقها ولمعانها، وعظيم ما حققته وأنجزته من المكاسب الدنيوية والاختراعات العجيبة، لا سيما في صفوف الطلاب والمتعلمين الذين لا يزالون في سن المراهقة والشباب، اختارت جماعة منهم ممن انطلى عليهم سحر هذه الحضارة لإكمال تعليمهم في الخارج في الجامعات الأوربية والأمريكية وغيرها، حيث يواجهون هناك بسلسلة طويلة من الشبهات والشهوات على أيدي المستشرقين والملحدين بشكل منظم، وخطط مدروسة وأساليب ملتوية في غاية المكر والدهاء - وحيث يواجهون الحياة الغربية بما فيها من تفسخ وتبذل وخلاعة وتفكك ومجون وإباحية.
وهذه الأسلحة وما يصاحبها من إغراء وتشجيع، وعدم وازع من دين أو سلطة، قل من ينجو من شباكها، ويسلم من شرورها - وهؤلاء بعد إكمال دراستهم وعودتهم إلى بلادهم، وتسلمهم المناصب الكبيرة في الدولة، أخطر من يطمئن إليهم المستعمر بعد رحيله، ويضع الأمانة الخسيسة في أيديهم لينفذوها بكل دقة بل بوسائل وأساليب أشد عنفا وقسوة من تلك التي سلكها المستعمر، كما وقع ذلك فعلا في كثير من البلاد التي ابتليت بالاستعمار، أو كانت على صلة وثيقة به، أما الطريق إلى السلامة من هذا الخطر، والبعد عن مساوئه وأضراره، فيتلخص في إنشاء الجامعات والكليات والمعاهد المختلفة بكافة اختصاصاتها؛ للحد من الابتعاث إلى الخارج، وتدريس العلوم بكافة أنواعها مع العناية بالمواد الدينية والثقافة الإسلامية في جميع الجامعات والكليات والمعاهد، حرصا على سلامة عقيدة الطلبة، وصيانة أخلاقهم وخوفا على(17/8)
مستقبلهم - وحتى يساهموا في بناء مجتمعهم على نور من تعاليم الشريعة الإسلامية، وحسب حاجات ومتطلبات هذه الأمة المسلمة، والواجب التضييق من نطاق الابتعاث إلى الخارج، وحصره في علوم معينة لا تتوافر في الداخل.
فنسأل الله التوفيق لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد، وحماية المسلمين من كل ما يضرهم في عقائدهم وأخلاقهم، إنه جواد كريم، وهذا المقام مع ما ذكرنا آنفا يحتاج إلى مزيد من العناية في إصلاح المناهج، وصبغها بالصبغة الإسلامية على وجه أكمل، والاستكثار من المؤسسات العلمية التي يستغني بها أبناء البلاد عن السفر إلى الخارج - واختيار المدرسين والمدرسات والمديرين والمديرات، وأن يكون الجميع من المعروفين بالأخلاق الفاضلة، والعقيدة الطيبة والسيرة الحسنة والغيرة الإسلامية والقوة والأمانة؛ لأن من كان بهذه الصفات أمن شره ورجي خيره، وبذل وسعه في كل ما من شأنه إيصال المعلومات إلى الطلبة والطالبات سليمة نقية.
أما إذا اقتضت الضرورة ابتعاث بعض الطلاب إلى الخارج؛ لعدم وجود المعاهد الفنية المتخصصة، لا سيما في مجال التصنيع وأشباهه، فأرى أن يكون لذلك لجنة علمية أمينة لاختيار الشباب الصالح في دينه وأخلاقه، المتشبع بالثقافة والروح الإسلامية، واختيار مشرف على هذه البعثة معروف بعلمه وصلاحه ونشاطه في الدعوة؛ ليرافق البعثة المذكورة، ويقوم بالدعوة إلى الله هناك، وفي الوقت نفسه يشرف على البعثة ويتفقد أحوالها وتصرفات أفرادها، ويقوم بإرشادهم وتوجيههم وإجابتهم عما قد يعرض لهم من شبه وتشكيك وغير ذلك.
وينبغي أن تعقد لهم دورة قبل ابتعاثهم ولو قصيرة، يدرسون فيها جميع المشاكل والشبهات التي قد تواجههم في البلاد التي يبتعثون إليها، ويبين لهم موقف الشريعة الإسلامية منها، والحكمة فيها، حسب ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وكلام أهل العلم مثل أحكام الرق، وتعدد الزوجات بصفة عامة، وتعدد أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بصفة خاصة وحكم الطلاق(17/9)
وحكمة الجهاد ابتداء ودفاعا، وغير ذلك من الأمور التي يوردها أعداء الله على شباب المسلمين؛ حتى يكونوا على استعداد تام للرد على ما يعرض لهم من الشبه. أما عن مجابهة الغزو المتمثل في الإذاعات والكتب والصحف والمجلات والأفلام التي ابتليت بها المجتمعات الإسلامية في هذا العصر، وأخذت تشغل أكثر أوقات المرء المسلم والمرأة المسلمة، رغم ما تشتمل عليه في أكثر الأحيان من السم الزعاف، والدعاية المضللة، فهي من أهم المهمات لحماية الإسلام والثقافة الإسلامية من مكائده وشره مع التأكيد على دعاة الإسلام وحماته للتفرغ لكتابة البحوث والنشرات والمقالات النافعة، والدعوة إلى الإسلام، والرد على أصناف الغزو الثقافي، وكشف عواره، وتبيين زيفه، حيث إن الأعداء قد جندوا كافة إمكاناتهم وقدراتهم، وأوجدوا المنظمات المختلفة والوسائل المتنوعة، للدس على المسلمين والتلبيس عليهم، فلا بد من تفنيد هذه الشبهات وكشفها، وعرض الإسلام عقيدة وتشريعا وأحكاما وأخلاقا عرضا شيقا صافيا جذابا، بالأساليب الطيبة العصرية المناسبة، وعن طريق الحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن من طريق جميع وسائل الإعلام حسب الطاقة والإمكان؛ لأن دين الإسلام هو الدين الكامل الجامع لكل خير، الكفيل بسعادة البشر، وتحقيق الرقي الصالح والتقدم السليم والأمن والطمأنينة والحياة الكريمة، والفوز في الدنيا والآخرة.
وما أصيب المسلمون إلا بسبب عدم تمسكهم بدينهم كما يجب، وعدم فهم الأكثرين لحقيقته، وما ذلك إلا لإعراضهم عنه، وعدم تفقههم فيه، وتقصير الكثير من العلماء في شرح مزاياه، وإبراز محاسنه وحكمه وأسراره، والصدق والصبر في الدعوة إليه، وتحمل الأذى في ذلك بالأساليب والطرق المتبعة في هذا العصر، ومن أجل ذلك حصل ما حصل اليوم من الفرقة والاختلاف، وجهل الكثير بأحكام الإسلام والتباس الأمور عليهم.
ومعلوم أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، والذي صلح به أولها هو اتباع كتاب الله الكريم، وسنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة(17/10)
والتسليم كما قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (1) وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) وقال سبحانه: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (3) وقد وعدهم الله سبحانه على ذلك النصر المبين، والعاقبة الحميدة، كما قال سبحانه، وهو أصدق القائلين {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (4) وقال سبحانه {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (5) وقال عز وجل {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (6) وقال سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (7) والآيات في هذا المعنى كثيرة، ولما حقق سلفنا الصالح هذه الآيات الكريمات قولا وعملا وعقيدة، نصرهم الله على أعدائهم، ومكن لهم في الأرض ونشر بهم العدل، ورحم بهم العباد وجعلهم قادة الأمة، وأئمة الهدى، ولما غير من بعدهم غير عليهم كما قال سبحانه {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (8)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 3
(2) سورة الأنعام الآية 153
(3) سورة الأنعام الآية 155
(4) سورة الروم الآية 47
(5) سورة آل عمران الآية 120
(6) سورة النور الآية 55
(7) سورة محمد الآية 7
(8) سورة الرعد الآية 11(17/11)
فنسأل الله سبحانه أن يرد المسلمين حكومات وشعوبا إلى دينهم ردا حميدا، وأن يمنحهم الفقه فيه، والعمل به والحكم به، وأن يجمع كلمتهم على الحق، ويوفقهم للتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر عليه، إنه سميع قريب وصلى الله وسلم على نبينا وسيدنا محمد وآله وصحبه وأتباعه بإحسان.
الرئيس العام.
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز.(17/12)
بحث الهيئة
حكم استحالة النجس إلى طاهر
التكافل الاجتماعي(17/13)
صفحة فارغة(17/14)
حكم استحالة النجس إلى طاهر
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
بناء على ما تقرر في الدورة الثانية لهيئة كبار العلماء المنعقدة في الرياض في النصف الثاني من ربيع الأول سنة 1396 هـ من إعداد بحث في حكم استعمال المياه المتنجسة بعد استحالتها وزوال أعراض النجاسة عنها، أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك مشتملا على تمهيد في بيان معنى الاستحالة، وإيضاح هذا المعنى بكلام أهل العلم في حكم استحالة النجس إلى طاهر بالإحراق أو غيره، وهل تطهر الخمر بالاستحالة، ثم بيان كلام أهل العلم في حكم استعمال المياه المتنجسة بعد استحالتها، وزوال أعراض النجاسة عنها. وبالله التوفيق.
أولا التمهيد:
(أ) معنى الاستحالة لغة:
جاء في معنى حال: كل شيء تغير عن الاستواء إلى العوج فقد حال في معنى واستحال وهو مستحيل (1) ومعناها اصطلاحا انقلاب حقيقة إلى حقيقة أخرى (2)
__________
(1) لسان العرب \ 14 \ 197.
(2) رد المختار ـ1ـ291ـ والفتاوى الهنديةـ 1ـ44.(17/15)
(ب) استحالة النجس إلى حقيقة أخرى بالإحراق أو غيره هل تكسب الطهارة:
اختلف أهل العلم في ذلك، فذهب قوم إلى القول بالطهارة، وممن قال بذلك أبو حنيفة، ومحمد، وأكثر الحنفية والمالكية، وسواء عندهم ما هو نجس لعينه، وما هو نجس لمعنى فيه. ووافقهم الشافعية في النجس لمعنى فيه كجلد الميتة، وأما(17/15)
الحنابلة فمنهم من يقول بالطهارة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو مذهب الظاهرية، وفيما يلي ذكر نصوصهم في ذلك، وأدلتهم مع المناقشة. جاء في البحر الرائق: من الأمور التي يكون بها التطهير انقلاب العين - ومضى إلى أن قال - وإن كان في غيره - أي الخمر - كالخنزير والميتة تقع في المملحة فتصير ملحا يؤكل، والسرجين والعذرة تحترق فتصير رمادا تطهر عند محمد (1) .
وقال أيضا وضم إلى محمد أبا حنيفة في المحيط وكثيرا من المشائخ اختاروا قول محمد، وفي الخلاصة وعليه الفتوى وفي فتح القدير أنه المختار (2) .
والمالكية يذهبون إلى أن ما استحال إلى صلاح فهو طاهر وإن ما استحال إلى فساد كان نجسا جاء في الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه من الطاهر لبن الآدمي ولو كافرا لاستحالته إلى الصلاح (3) .
ثم جاء في موضع آخر، إذا تغير القيء وهو الخارج من الطعام بعد استقراره في المعدة كان نجسا، وعلة نجاسته الاستحالة إلى فساد فإن لم يتغير كان طاهرا (4) .
واعتبر المالكية كذلك أن المسك طاهر، ففي الخطاب الحكم بطهارة المسك؛ لأنها استحالة عن جميع صفات الدم، وخرجت عن اسمه إلى صفات، وإلى اسم يختص به، وطهرت بذلك كما يستحيل الدم وسائر ما يتغذى به الحيوان من النجاسات إلى اللحم فيكون طاهرا. انتهى (5) .
وفرق الشافعية بين ما هو نجس لعينه، وما هو نجس لمعنى فيه، فأما الأشياء النجسة لمعنى فيها فإنها طاهرة قال في المهذب " ولا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة إلا شيئان: أحدهما: جلد الميتة إذا دبغ، والثاني: الخمر " (6) .
__________
(1) البحر الرائق ص 1 - 239.
(2) البحر الرائق ص 1 - 239.
(3) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي ص 50.
(4) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي - 1 - 57
(5) مواهب الجليل -1-97.
(6) المذهب - 1 - 48.(17/16)
وقال ابن قدامة: ويتخرج أن تطهر النجاسات كلها بالاستحالة (1) وقال المرداوي: وعنه بل تطهر وهي مخرجة من الخمرة إذا انقلبت بنفسها، خرجها المجد، واختار الشيخ تقي الدين وصاحب الفائق فحيوان متولد من نجاسة كدود الجروح والقروح وصراصير الكنيف طاهر نص عليه (2) انتهى المقصود.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وتنازعوا فيما إذا صارت النجاسة ملحا من الملاحة، أو صارت رمادا، أو صارت الميتة والدم والصديد ترابا كتراب المقبرة، فهذا فيه خلاف - وبعد ذكره للخلاف قال: والصواب أن ذلك كله طاهر إذ لم يبق شيء من النجاسة لا طعمها ولا لونها ولا ريحها (3) .
وقال ابن حزم: إذا استحالت صفات عين النجس أو الحرام، فبطل عنه الاسم الذي به ورد ذلك الحكم وانتقل إلى اسم آخر وارد على حلال طاهر فليس هو ذلك النجس ولا ذلك الحرام، بل قد صار شيئا آخر ذا حكم آخر (4) .
وقال أيضا إذا أحرقت العذرة أو الميتة أو تغيرت فصارت رمادا أو ترابا فكل ذلك طاهر (5) . واستدل لذلك بالكتاب والسنة والاستقراء والمعنى وأما الكتاب فقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (6) وجه الدلالة أن هذه الأشياء بعد استحالتها وزوال أوصاف النجاسة عنها، صارت طيبة فهي طاهرة، وقد يعارض ذلك بأن القول بأنها طيبة وهو محل النزاع، ولا يصح الاستدلال بمحل الخلاف، وقد يجاب عن ذلك بأن العبرة بالواقع لا بالدعوى، وواقعها أنها طيبة، فيسلم الدليل، وأما السنة فما ورد من الأدلة في طهارة المسك وجلود الميتة مأكولة اللحم بعد الدبغ ونحو ذلك في الأدلة.
وأما الاستقراء فقد ذكره شيخ الإسلام فقال بعد كلام سبق - الاستقراء دلنا
__________
(1) المغني ومعه الشرح - 1 - 59.
(2) الإنصاف - 1 - 5 - 31 وما بعد.
(3) مجموع الفتاوى 21 - 481 وما بعدها.
(4) المحلى 1 - 138.
(5) المحلى 1 - 128 ويرجع أيضا إلى 1 - 137 - 138 و - 1 - 118 و - 1 - 162 من المحلى.
(6) سورة الأعراف الآية 157(17/17)
أن كل ما بدأ الله بتحويله وتبديله من جنس إلى جنس، مثل جعل الخمر خلا، والدم منيا، والعلقة مضغة، ولحم الجلالة الخبيث طيبا، وكذلك بيضها ولبنها، والزرع المستسقى بالنجس إذا سقي بالماء الطاهر، وغير ذلك، فإنه يزول حكم التنجس، ويزول حقيقة النجس واسمه التابع للحقيقة، وهذا ضروري لا يمكن المنازعة فيه، فإن جميع الأجسام المخلوقة في الأرض، فإن الله يحولها من حال إلى حال، ويبدلها خلقا بعد خلق، ولا التفات إلى مواردها وعناصرها، وأما ما استحال بسبب كسب الإنسان كإحراق الروث حتى يصير رمادا، ووضع الخنزير في الملاحة حتى يصير ملحا، ففيه خلاف مشهور، وللقول بالنظير اتجاه. انتهى المقصود (1) .
وقد سبق أنه يختار القول بالطهارة. وأما المعنى فقد جاء في فتح القدير أن الشرع رتب وصف النجاسة على تلك الحقيقة، وتنتفي الحقيقة بانتفاء بعض أجزاء مفهومها، فكيف بالكل، فإن الملح غير العظم واللحم، فإذا صار ملحا ترتب حكم الملح عليه (2) انتهى المقصود.
القول الثاني: إن استحالة النجس، وزوال أعراض النجاسة عنه، وتبدلها بأوصاف طيبة لا تصيره طاهرا، وممن قال بهذا القول أبو يوسف، وهو أحد القولين في مذهب مالك، وهو قول الشافعي فيما كان نجسا نجاسة عينية. وإحدى الروايتين في مذهب أحمد وهي المقدمة. جاء في فتح القدير أن أبا يوسف يرى أن الأشياء النجسة لا تطهر بانقلاب عينها، وفي التجنيس اختار قول أبي يوسف كذا قال: خشبة أصابها بول فاحترقت، ووقع رمادها في بئر يفسد الماء، وكذلك رماد العذرة والحمار إذا مات في مملحة لا يؤكل الملح هذا كله قول أبي يوسف (3) انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وهو أحد قولي أصحاب مالك (4) .
__________
(1) الفتاوى المصرية \ 2 \ 122.
(2) البحر الرائق \ 1 \ 239 وقد بسط ذلك ابن حزم في المحلى \ 137 ـ138 و1 \ 122 منه و1 \ 118 منه أيضا.
(3) فتح القدير \ 1 \ 139.
(4) مجموع الفتاوى 21 \ 72.(17/18)
وقال الشيرازي ولا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة إلا شيئان: أحدهما: جلد الميتة إذا دبغ، والثاني: الخمر - ثم قال صاحب المهذب: وإن حرق العذرة والسرجين حتى صار رمادا لم تطهر (1) .
وقال ابن قدامة: ظاهر المذهب أنه لا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة إلا الخمر إذا انقلبت بنفسها خلا، وما عداه لا يطهر كالنجاسات إذا احترقت فصارت رمادا، والخنزير إذا وقع في الملاحة وصار ملحا، والدخان الصاعد من وقود النجاسة (2) وقال المرداوي على قول ابن قدامة: ولا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة. قال: هذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب ونصروه (3) .
واستدل لهذا القول بما ذكره أبو يوسف من أن الرماد أجزاء تلك النجاسة فتبقى النجاسة من وجه فالتحقت بالنجس من كل وجه احتياطا (4) . وما ذكره الشيرازي بقوله: لأن نجاستهما - أي العذرة والسرجين - لعينهما (5) . وأما ابن قدامة فقد استدل لذلك بأنها نجاسة لم تحصل بالاستحالة فلم تطهر كالدم إذا صار قيحا أو صديدا (6) .
__________
(1) المهذب1 \ 10
(2) المغني مع شرحه \ 1 \ 59.
(3) الإنصاف1 \ 318.
(4) فتح القدير 2 \ 139.
(5) المهذب \ 1 \ 48.
(6) المغني ومعه الشرح \ 1 \ 740.(17/19)
(ج) هل تطهر الخمر بالاستحالة:
اتفق أهل العلم - فيما نعلم - على أن الخمر إذا تخللت بنفسها فإنها تكون طاهرة. قال شيخ الإسلام: اتفقوا على أن الخمر إذا انقلبت بفعل الله بدون قصد صاحبها وصارت خلا أنها تطهر (1) . وأما إذا خللت فقد اختلف العلماء
__________
(1) مجموع الفتاوى21 \ 475.(17/19)
في ذلك فمنهم من يقول بطهارتها ومنهم من يقول بنجاستها. وممن قال بأنها طاهرة الحنفية والمالكية وابن حزم، ومن وافقهم جاء في بداية المهتدي وشرحها الهداية: وإذا تخللت الخمر حلت، سواء صارت خلا بنفسها أو بشيء يطرح فيها، ولا يكره تخليلها (1) . وفي الحطاب: ولو تخللت الخمر بإلقاء شيء فيه كالخل والملح والماء ونحوه يطهر الخل وما ألقى فيه (2) . وقال ابن حزم: إذا تخللت الخمر أو خللت فالخل حلال (3) . واستدل لهذا القول بالسنة والمعنى. أما السنة فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «نعم الإدام الخل (4) » رواه مسلم والأربعة من حديث جابر، ووجه الدلالة أنه - صلى الله عليه وسلم - عم ولم يخص.
وعورض هذا الاستدلال بحديث أنس، «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الخمر تتخذ خلا فقال: "لا (5) » . أخرجه مسلم. وعن أنس أن «أبا طلحة سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أيتام ورثوا خمرا قال أهرقها قال: أفلا نجعلها خلا قال: "لا (6) » رواه أبو داود في كتاب الأشربة.
ويمكن الجمع بين هذه الأحاديث بحمل الحديث الأول على الخمر إذا تخللت بنفسها، والخل الذي لم يكن أصله خمرا، وحمل الثاني على ما إذا خللت بفعل فاعل قاصدا، وعلى هذا فلا دلالة في الحديث الأول على طهارة الخمر إذا خللت قصدا، وأما الدليل من جهة المعنى فقد جاء في البداية وشرحها، أنه بالتخليل يزول الوصف المفسد وتثبت صفة الصلاح من حيث تسكين الصفراء وكسر الشهوة والتغذي به والإصلاح مباح وكذا الصالح للمصالح اعتبارا بالمتخلل بنفسه وبالدباغ والاقتراب لإعدام الفساد فأشبه الإراقة والتخليل أولى لما فيه من إحراز مال يصير حلالا في الثاني فيختاره من ابتلي به، وقد يجاب عن ذلك بأنه دليل اجتهادي في مقابل نص والاجتهاد مع النص، والنص هو حديث أنس الذي رواه مسلم «سئل عن الخمر اتخذ خلا فقال: "لا (7) » . الحديث وقد سبق (8) .
__________
(1) البداية وشرحها \ 4 \ 113.
(2) مواهب الجليل1 \ 98.
(3) المحلى \ 1 \ 124.
(4) صحيح مسلم الأشربة (2052) ، سنن الترمذي الأطعمة (1839) ، سنن أبو داود الأطعمة (3820) ، مسند أحمد بن حنبل (3/371) ، سنن الدارمي الأطعمة (2048) .
(5) صحيح مسلم الأشربة (1983) ، سنن الترمذي البيوع (1294) ، سنن أبو داود الأشربة (3675) ، مسند أحمد بن حنبل (3/260) ، سنن الدارمي الأشربة (2115) .
(6) صحيح مسلم الأشربة (1983) ، سنن أبو داود الأشربة (3675) ، مسند أحمد بن حنبل (3/119) ، سنن الدارمي الأشربة (2115) .
(7) صحيح مسلم الأشربة (1983) ، سنن الترمذي البيوع (1294) ، سنن أبو داود الأشربة (3675) ، مسند أحمد بن حنبل (3/260) ، سنن الدارمي الأشربة (2115) .
(8) تكملة فتح القدير. جـ10 ص 7. وشرح فتح القدير للعاجز الفقير ج 9ص 39 ط. دار إحياء التراث العربي.(17/20)
القول الثاني أن الخمر إذا خللت لا تكون طاهرة. ومن قال بهذا الشافعية، والحنابلة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد جاء في المهذب " وإن خللت بخل أو ملح لم تطهر " (1) .
وقال ابن قدامة: وإن خللت لم تطهر، وقال المرداوي تعليقا على ذلك: اعلم أن الخمرة يحرم تخليلها على الصحيح من المذهب، وعليه الأصحاب (2) .
وقال شيخ الإسلام: والصحيح أنه إذا قصد تخليلها لا تطهر بحال (3) . واستدل لهذا القول بالسنة والأثر والمعنى، أما السنة فما رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة عن أنس - رضي الله عنه - أن «أبا طلحة سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أيتام ورثوا خمرا قال أهرقها، قال: أفلا أجعلها خلا؟ قال: " لا (4) » . وجه الدلالة أنه نهاه عن التخليل فدل على أنه لا يجوز.
وأجاب الطحاوي عن ذلك فقال: إنه محمول على التغليظ والتشديد؛ لأنه كان في ابتداء الإسلام كما ورد ذلك في سؤر الكلب، بدليل أنه ورد في بعض طرقه الأمر بكسر الدنان، وتقطيع الزقاق، رواه الطبراني في معجمه، حدثنا معاذ بن المثنى، ثنا مسدد، ثنا معتمر، ثنا ليث عن يحي بن عباد، عن أنس، عن أبي طلحة، قال «قلت يا رسول الله إني اشتريت خمرا لأيتام في حجري، فقال أهرق الخمر، وكسر الدنان (5) » انتهى.
ورواه الدارقطني أيضا، وروى أحمد في مسنده، حدثنا الحكم بن نافع، حدثنا أبو بكر بن أبي مريم عن حمزة بن حبيب، عن ابن عمر - رضي الله عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شق زقاق الخمر بيده في أسواق المدينة» ، وقد تقدم بتمامه في أحاديث تحريم الخمر، وهذا صريح في التغليظ؛ لأن فيه إتلاف مال الغير، وقد كان يمكن إراقة الدنان والزقاق وتطهيرها، ولكن قصد بإتلافها التشديد
__________
(1) المهذب 1 \ 48.
(2) الإنصاف 1 \ 318.
(3) مجموع الفتاوى 21 \ 481.
(4) صحيح مسلم الأشربة (1983) ، سنن الترمذي البيوع (1294) ، سنن أبو داود الأشربة (3675) ، مسند أحمد بن حنبل (3/260) ، سنن الدارمي الأشربة (2115) .
(5) سنن الترمذي البيوع (1293) ، سنن أبو داود الأشربة (3675) ، مسند أحمد بن حنبل (3/119) .(17/21)
ليكون أبلغ في الردع، انتهى بواسطة الزيلعي (1) . ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن حمله على التغليظ على خلاف الظاهر، فيحتاج إلى دليل يدل على ذلك، فإن وجد وإلا فالأصل بقاء دلالة الحديث على التحريم (2) . كما سبق - وأما الأثر، فقول عمر - رضي الله عنه - لا تأكلوا خل خمر إلا خمرا بدأ الله بفسادها، ولا جناح على مسلم أن يشترى خل خمر أهل الكتاب، ما لم يعلموا أنهم تعمدوا إفسادها انتهى. استدل به شيخ الإسلام وذكر أنه صحيح (3) .
وأما المعنى فقال شيخ الإسلام: إن اقتناء الخمر محرم، فمتى قصد باقتنائها التخليل كان قد فعل محرما، والفعل المحرم لا يكون سببا للحل والإباحة (4)
__________
(1) نصب الراية \ 4 \ 311.
(2) نصب الراية \ 4 \ 311.
(3) الفتاوى \ 2 \ 136.
(4) الفتاوى \ 2 \ 136.(17/22)
ثانيا: أنواع استحالة المياه المتنجسة بسبب اختلاف أسبابها:
استحالة المياه المتنجسة قد تكون بصب ماء طهور عليها، أو نزح بعضه، أو زوال التغير بنفسه، وقد تكون برمي تراب ونحوه فيها، وقد تكون بسقي النباتات بها، وشرب الحيوانات إياها، وقد تكون بتبخيره وتقطيره مثلا.
وفيما يلي الكلام على كل نوع:
(1) استحالة المياه المتنجسة بصب ماء طهور عليها، أو نزح بعضه، أو زوال التغير بنفسه. نذكر فيما يأتي طريقة كل مذهب إجمالا، ثم نتبعها بالتفصيل نظرا لاختلافهم من حيث الجملة في طريقة التطهير - فالحنفية يرون أن نزح مقدار من ماء البئر المتنجس مطهر لما بقي من الماء، لكن يختلف مقدار ما ينزح لتحصل به الطهارة للباقي باختلاف نوع النجاسة واختلاف أحوالها، وأما المالكية فإذا زال تغيره بمكاثرة ما لمادة فيه أو بإدخال ماء آخر طهر، وإن زال بنفسه ففي الإرشاد الظاهر عودة إلى أصله، وقيل إن زال بالنقص المجرد فقولان أيضا.(17/22)
وأما الشافعية، فإنهم يقسمون الماء ثلاثة أقسام: أحدها أن يكون أكثر من القلتين، والثاني أن يكون قلتين، والثالث أن يكون دون القلتين - فإن كان أكثر من قلتين - فإنه يطهر بطرق ثلاث: بإضافة ماء إليه يزول به التغير وهذا متفق عليه، أو بأخذ بعضه حتى يزول التغير بشرط أن يكون الباقي بعد الأخذ قلتين، وهذا بلا خلاف أيضا، أو بزوال التغير بنفسه بطلوع الشمس أو الريح أو مرور الزمان وهذا هو المذهب.
وإن كان قلتين طهر بجميع ما ذكر إلا بأخذ بعضه فإنه لا يطهر، وهذا محل اتفاق. وإن كان دون القلتين وكاثره بماء حتى بلغ قلتين طهر بلا خلاف عندهم. وأما الحنابلة فهم كالشافعية في تقسيم الماء إلى ثلاثة أقسام: فإن كان أكثر من قلتين وهو غير متغير بالنجاسة طهر بالمكاثرة فقط، وإن كان متغيرا بها طهر بالمكاثرة، وبنزح كثير يزول معه التغير ويبقى بعد ذلك قلتان فصاعدا، وبزوال التغير بمكثه.
وإن كان قلتين وهو متغير بالنجاسة طهر بالمكاثرة فقط، وإن كان متغيرا بها طهر بالمكاثرة المذكورة إذا أزالت التغير أو بتركه حتى يزول تغيره بطول مكثه.
وإن كان دون القلتين وهو متغير طهر بالمكاثرة بقلتين طاهرتين يزول بهما التغير، وإن لم يكن متغيرا طهر بمجرد المكاثرة.
وأما طريقتهم تفصيلا فهي ما يلي:(17/23)
أ - طريقة الحنفية:
جاء في بداية المبتدي وشرحها، وإذا وقعت في البئر نجاسة نزحت وكذا نزح ما فيها طهارة لها بإجماع السلف ومسائل الآبار مبنية على اتباع الآثار دون القياس. وإن ماتت فيها فأرة أو عصفورة أو صعوة أو سودانية أو سام أبرص نزح منها ما بين عشرين دلوا إلى ثلاثين بحسب كبر الدلو وصغرها، يعني بعد إخراج الفأرة لحديث أنس - رضي الله عنه - أنه قال في الفأرة إذا ماتت في البئر وأخرجت من ساعتها نزح منها عشرون دلوا، والعصفورة ونحوها تعادل الفأرة في الجثة(17/23)
فأخذت حكمها، والعشرون بطريق الإيجاب، والثلاثون بطريق الاستحباب. فإن ماتت فيها حمامة ونحوها كالدجاجة والسنور نزح منها ما بين أربعين دلوا إلى ستين. وفي الجامع الصغير أربعون أو خمسون، وهو الأظهر لما روي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه قال في الدجاجة إذا ماتت في البئر نزح منها أربعون دلوا، وهذا لبيان الإيجاب، والخمسون بطريق الاستحباب، ثم المعتبر من كل بئر دلوها الذي يستقى به منها، وقيل دلو يسع فيها صاح، ولو نزح منها بدلو عظيم مرة مقدار عشرين دلوا جاز لحصول المقصود. وإن ماتت فيها شاة أو كلب أو آدمى نزح جميع ما فيها من الماء لأن ابن عباس وابن الزبير - رضي الله عنهما - أفتيا بنزح الماء كله حين مات زنجي في بئر زمزم، فإن انتفخ الحيوان فيها أو تفسخ نزح جميع ما فيها صغر الحيوان أو كبر لانتشار البلة في أجزاء الماء.
وإن كانت البئر معينا لا يمكن نزحها أخرجوا مقدار ما كان فيها من الماء. وطريقة معرفته أن تحفر حفرة مثل موضع الماء من البئر ويصب فيها ما ينزج منها إلى أن تمتلئ أو ترسل فيها قصبة، ويجعل لمبلغ الماء علامة ثم ينزح منها عشرة دلاء مثلا، ثم تعاد القصبة فينظر كم انتقص، فينزح لكل قدر منها عشرة دلاء - وهذان عند أبي يوسف رحمه الله وعند محمد رحمه الله نزح مئتا دلو إلى ثلثمائه، فكأنه بنى قوله على ما شاهد في بلده وعند أبي حنيفة - رحمه الله - في الجامع الصغير في مثله ينزح حتى يغلبهم الماء ولم يقدر الغلبة بشيء كما هو دأبه، وقيل يؤخذ بقول رجلين لهما بصارة في أمر الماء وهذا أشبه بالفقه(17/24)
2 - طريقة المالكية:
قال الشيخ خليل: وإن زال تغير النجس لا بكثرة مطلق فاستحسن الطهورية وعدمها أرجح.(17/24)
وقد شرح الحطاب ذلك فقال: يعني أن الماء إذا تغير بالنجاسة، ثم زال تغيره، فلا يخلو إما أن يكون بمكاثرة ماء مطلق خالطه أم لا، فالأول طهور باتفاق، قاله في التوضيح وذلك كالبئر ينزح منها حتى يزول التغير، وكالصهريج يتغير بميتة، فيترك حتى يكثر ماؤه بمطر ونحوه، وقد جهل أبو محمد بعضهم في قوله في ما جل قليل الماء وقعت فيه فأرة يطين حتى يكثر ماؤه ثم يشرب، قال فإن فعل شرب، وتجهيله في تأخير طرحه. الثاني: إما أن يكون بإلقاء شيء فيه غير الماء، ولم يذكره المصنف، وسيأتي حكمه، أو من نفسه فلا شيء ومنه ما إذا نزع من الماء الذي لا مادة له بعضه فزال تغيره، فذكر المصنف تبعا لابن الحاجب وابن بشير وغيرهم في طهوريتة قولين: استحسن بعض الشيوخ القول بالطهورية، ورجح ابن يونس عدم الطهورية، فاعترض عليه ابن غازي فيما ذكره عن ابن يونس، وفي التوضيح بأنه لم يوجد في كلامه إلا الكلام على حكم زوال النجاسة إذا زال عينها بالماء المضاف، وسيأتي - وذكر ابن مرزوق في شرحه على المختصر نحو ذلك، وقال ما معناه إن المصنف حمل كلام ابن يونس على نفس ما نحن فيه، فهو وهم وإن أراد أن يقيسه عليه فبعيد - وقد رأيت من كلام ابن مرزوق شرح الفصلين الأولين من المختصر، وفيه نحو ما ذكره ابن غازي - وقال ابن غازي لم يعرفه ذلك الإمام ابن عرفة من نقل ابن يونس ولا غيره، ممن قبل ابن بشير، فقال: وقول ابن بشير في طهورية النجس يزول تغيره بلا نزح قولان لا أعرفه، فبقي وجدان القولين معا في المذهب وإن كان لا يلزم من عدم الوجدان عدم الوجود ولا يلتفت لما حكى أبو زيد القابس من رد بعضهم على ابن عرفه بقول يونس لا أن الراد مقلد لخليل في نقله كالشارح، نعم أغفل ابن عرفه ما ذكر ابن رشد في رسم القسمة من سماع عيسى، وذكر بعض كلام ابن رشد، ولنأت بأكثر مما يتضح به المقصود. قال: وسئل ابن وهب عن الجب من ماء السماء تموت فيه الدابة، وتنشق والماء كثير لم يتغير منه إلا ما كان قريبا منها، فلما أخرجت وحرك الماء ذهبت الرائحة، هل يتوضأ به ويشرب قال: إذا أخرجت الميتة فلينزح منه حتى يذهب دسمها، والرائحة، واللون إن كان به لون، إذا كان الماء كثيرا على ما وصفت طاب إذا فعل ذلك به. قال ابن القاسم الأخير فيه، ولم أسمع مالكا رخص فيه قط. ابن رشد قول ابن(17/25)
وهب وهو الصحيح على أصل مذهب مالك الذي رواه المدنيون عنه أن الماء لا ينجسه إلا ما غير أحد أوصافه، على ما جاء عنه - عليه الصلاة والسلام - في بئر بضاعة، وقد روى ابن وهب، وابن أبي أويس عن مالك، في جباب تحفر بالمغرب فتسقط فيها الميتة، فيتغير لون الماء وريحه، ثم يطيب بعد ذلك، أنه لا بأس به انتهى - فظهر وجود القولين أحدهما: قول ابن القاسم فيما نزح بعضه، فأحرى إذا لم ينزح منه شيء؛ لأنه لما لم يعتبر ذهاب التغير مع النزح كان عدم اعتباره مع عدم النزح أولى، بناء على أن المعتبر مخالطة المغير فيجب بقاء حكمه وإن زال التغير.
والثاني رواية ابن وهب وابن أبي أويس، وقد صححه ابن رشد، وهو الذي ارتضاه صاحب الطراز، وشيخه أبو بكر الطرطوش بضم الطاءين وبينهما راء. قال الطراز: ولقد عاينت في صهريج دار الشيخ أبي بكر هرا قد انتفخ وتزلع وتغير منه ريح الماء وطعمه ولونه فنزع الهر وترك الصهريج حتى ينزح فأقام شهرا ثم رفع منه الماء فإذا هو سالم الأوصاف فشرب ذلك الماء في داره وفيها ما يزيد على سبعين من أهل العلم وطلبته ولم ينزح منه دلو انتهى.
ولعل المصنف أشار إليهما بالاستحسان ثم أن كلامهما فيما لا مادة له أو لم ينزح منه شيء فما له مادة أو نزح بعضه أولى بالطهورية، وانظر ما الذي أنكره ابن عرفة هل القول بالطهورية أو القول بعدمها وليس في كلامه ما يدل على ذلك صريحا غير أن المتبادر من كلامه إنما هو إنكار القول بالطهورية كما يفهم ذلك من كلام ابن ناجي في شرح المدونة في الكلام على من توضأ من ماء ماتت فيه دابة، وكذا ذكر ابن الفاكهاني في شرح الرسالة القولين وشهر عدم الطهورية ونصه: أما إن كان المخالط نجسا فإن غير أحد أوصاف الماء فلا خلاف في نجاسته قليلا أو كثيرا مادام متغيرا فإن زال تغيره بعد فقولان: - أحدهما أنه كالبول فلا ينتقل حكمه وهو المشهور.
والثاني أنه يرجع إلى أصله من الطهارة أو التطهير وكذلك إن أزيل بعض الماء وسلمت أوصافه فالقولان انتهى. تنبيهان - وبعد أن ذكر حكم الماء المتغير بطاهر قال - الثاني إن زال تغيره بمخالطة ماء مطلق قليل فظاهر كلام المصنف أن فيه قولين، وقال البساطي في شرحه ولو جعل المصنف محل النزاع(17/26)
إذا زال التغير بنفسه سلم من المطالبة بالنقل فيما إذا زال بقليل المطلق. وقال في المغني بعد أن ذكر الخلاف فيما زال تغيره بنفسه وألحق الشيخ خليل في مختصره به إذا زال التغير بمطلق يسير، وهو في عهدته انتهى - قلت وكلام ابن الإمام يقتضي ثبوت الخلاف فيه، فإنه قال إذا كاثره الطهور حتى غلب عليه، وزال به التغير، فالأظهر نفي الخلاف فيه إن انتهى إلى ما لو رفع فيه جملة هذا التغير كان كثيرا، أو ثبوته إن انتهى إلى ما لو وقع فيه كان قليلا، وقد أطلق بعض من تكلم على هذه المسألة القول بطهوريته عند ذهاب التغير بالتكاثر ولا ينفى؛ لأن هذا الماء لما تغير لنجاسة كان نجسا فطرو ماء عليه كطروه عليه فيجب لذلك أن يراعى كثرته وقلته انتهى المقصود (1) .
وقال ابن المواق على قول خليل: وإن زال تغير النجس لا بكثرة مطلق فاستحسن الطهورية وعدمها أرجح قال: ابن عرفة قول ابن بشير في طهورية النجس يزول تغيره بلا نزح قولان لا أعرفه. والذي ينبغي أن تكون به الفتوى هو قول مالك في رواية ابن وهب وابن أبي أويس عنه في جباب تحفر بالمغرب فتسقط فيها الميتة فتغير لونه وريحه ثم يطيب الماء بعد ذلك أنه لا بأس به انتهى فترك نقل هذه الرواية ونقل غيرها قصور (2)
__________
(1) مواهب الجليل شرح مختصر خليل \ 1 \ 84 وما بعدها.
(2) التاج والإكليل شرح مختصر خليل \ 1 \ 84.(17/27)
3 - طريقة الشافعية:
قال الشيرازي: إذا أراد تطهير الماء النجس نظر فإن كانت نجاسته بالتغير وهو أكثر من قلتين طهر بأن يزول التغير بنفسه وبأن يضاف إليه ماء آخر وبأن يؤخذ بعضه لأن النجاسة بالتغير وقد زال. وقال النووي شرحا لذلك: إذا زال تغير الماء النجس وهو أكثر من قلتين نظر إن زال بإضافة ماء آخر إليه طهر بلا خلاف سواء كان الماء المضاف طاهرا أو نجسا قليلا أو كثيرا أو سواء صب الماء عليه أو نبع عليه، وإن زال بنفسه أي بأن لم يحدث فيه شيئا، بل زال تغيره بطلوع الشمس أو الريح أو مرور الزمان طهر أيضا على المذهب وبه قطع(17/27)
الجمهور، وحكى المتولي عن أبي سعيد الإصطخري أنه لا يطهر، لأنه شيء نجس فلا يطهر بنفسه، وهذا ليس بشيء؛ لأن سبب النجاسة التغير فإذا زال طهر لقوله - صلى الله عليه وسلم - «إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس (1) » وإن زال بأخذ بعضه طهر بلا خلاف، بشرط أن يكون الباقي بعد الأخذ قلتين، فإن بقي دونهما لم يطهر بلا خلاف ويتصور زوال تغيره بأخذ بعضه بأن يكون كثيرا لا يدخله الريح، فإذا نقص دخلته وقصرته وكذا الشمس فيطيب.
" (2) وقال الشيرازي أيضا: وإن كان قلتين طهر بجميع ما ذكرناه إلا بأخذ بعضه فإنه لم يطهر لأنه نقص عن القلتين وفيه نجاسة.
وعلق النووي عليه فقال: هذا الذي قاله متفق عليه.
وقال الشيرازي أيضا: وإن كانت نجاسته بالقلة بأن يكون دون القلتين طهر بأن يضاف إليه ماء حتى يبلغ قلتين ويطهر بالمكاثرة، وإن لم يبلغ قلتين طهر كالأرض النجسة طرح عليها ماء حتى غمر النجاسة، ومن أصحابنا من قال لا يطهر لأنه دون القلتين وفيه نجاسة والأول أصح لأن الماء إنما ينجس بالنجاسة إذا وردت عليه، وههنا ورد الماء عليها فلم ينجس إنما لو نجس لم يطهر الثوب إذا صب عليه الماء.
وعلق النووي على ذلك فقال: أما المسألة الأولى، وهي إذا كاثره فبلغ قلتين فيصير طاهرا مطهرا بلا خلاف سواء كان الذي أورده عليه طاهرا أو نجسا قليلا أو كثيرا لقوله - صلى الله عليه وسلم - «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث (3) » . . . . وأما المسألة الثانية وهي إذا كوثر بالماء ولم يبلغ قلتين فهل يطهر، فيه الوجهان اللذان ذكرهما المصنف، وذكر دليلهما، وهما مشهوران، لكن الأصح عند المصنف وسائر العراقيين أنه يطهر، وبه قطع منهم شيخهم أبو حامد، وهو قول ابن سريج، والصحيح عند الخراسانيين لا يطهر، وبه قطع منهم القاضي حسين، وقال إمام الحرمين: وإن صح عند ابن سريج قوله
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (67) ، سنن النسائي الطهارة (52) ، سنن أبو داود الطهارة (63) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (517) ، مسند أحمد بن حنبل (2/107) ، سنن الدارمي الطهارة (731) .
(2) المجموع شرح المهذب \ 1 \ 183 وما بعدها.
(3) سنن الترمذي الطهارة (67) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (517) ، سنن الدارمي الطهارة (731) .(17/28)
بالطهارة فهو من هفواته، إذ لا معنى لغسل الماء من غير أن يبلغ قلتين، قال: فلا يتمارى في فساده وكذا صحح البغوي والرافعي عدم الطهارة وهو الأرجح. (1)
__________
(1) المجموع شرح المهذب \ 1 \ 188.(17/29)
4 - طريقة الحنابلة:
قال عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة: في تطهير الماء النجس: هو ثلاثة أقسام: -
أحدها: ما دون القلتين، فتطهيره بالمكاثرة بقلتين طاهرتين، إما أن يصب فيه أو ينبع فيه فيزول بها تغيره إن كان متغيرا، وإن لم يكن متغيرا طهر بمجرد المكاثرة؛ لأن القلتين لا تحمل الخبث ولا تنجس إلا بالتغير؛ ولذلك لو ورد عليها ماء نجس لم ينجسها ما لم يتغير به فكذلك إذا كانت واردة، ومن ضرورة الحكم بطهارتهما طهارة ما اختلطتا به.
القسم الثاني أن يكون وفق القلتين فلا يخلو من أن يكون غير متغير بالنجاسة فيطهر بالمكاثرة المذكورة لا غير، الثاني أن يكون متغيرا فيطهر بأحد أمرين بالمكاثرة المذكورة إذا زالت التغير وبتركه حتى يزول تغيره بطول مكثه.
القسم الثالث: الزائد عن القلتين فله حالان: -
أحدهما: أن يكون نجسا بغير التغير فلا طريق إلى تطهيره بغير المكاثرة.
الثاني: أن يكون متغيرا بالنجاسة فتطهيره بأحد أمور ثلاثة: المكاثرة، أو زوال تغيره بمكثه، أو أن ينزح منه ما يزول به التغير ويبقى بعد ذلك قلتان فصاعدا، فإنه إن بقي ما دون القلتين قبل زوال تغيره لم يبق التغير علة تنجسه، لأنه تنجس بدونه، فلا يزول التنجيس بزواله، ولذلك طهر الكثير بالنزح وطول المكث، ولم يطهر القليل، فإن الكثير لما كانت علة تنجيسه التغير زال تنجيسه بزوال علته، كالخمرة إذا انقلبت خلا والقليل علة تنجيسه الملاقاة لا التغير فلم يؤثر زوال التنجيس انتهى. ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلام في(17/29)
قاعدة التطهير للمياه وعدم الفرق بين المياه والمائع، والجواب على شبهة من فرق بينهما قال: إذا عرف أصل هذه المسألة فالحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها كالخمر لما كان الموجب لتحريمها ونجاستها هي الشدة، فإذا زالت بفعل الله تعالى طهرت، بخلاف إذا زالت بقصد الآدمي على الصحيح، كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لا تأكلوا خل خمر إلا خمرا بدأ الله بفسادها، ولا جناح على مسلم أن يشتري خل خمر من أهل الكتاب إذا لم يعلم أنهم تعمدوا فسادها؛ وذلك لأن اقتناء الخمر محرم فمتى قصد باقتنائها التخليل كان قد فعل محرما، والفعل المحرم لا يكون سببا للحل والإباحة. وأما إذا اقتناها لشربها واستعمالها خمرا فهو لا يريد تخليلها، وإذا جعلها الله خلا كان معاقبة له بنقيض قصده، فلا يكون في حلها وطهارتها مفسدة، وأما سائر النجاسات فيجوز التعمد لإفسادها لأن إفسادها ليس بمحرم كما لا يحد شاربها؛ لأن النفوس لا يخاف عليها بمقاربتها المحظور كما يخاف من مقاربة الخمر؛ ولهذا جوز الجمهور أن تدبغ جلود الميتة، وجوزوا أيضا إحالة النجاسة بالنار وغيرها. والماء لنجاسته سببان: (أحدهما) متفق عليه، والآخر مختلف فيه، فالمتفق عليه التغير بالنجاسة، فمتى كان الموجب لنجاسته التغير فزال التغير كان طاهرا كالثوب المضمخ بالدم إذا غسل عاد طاهرا - (والثاني) القلة فإذا كان الماء قليلا ووقعت فيه نجاسة ففي نجاستة قولان للعلماء: فذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه أنه ينجس ما دون القلتين - وأحمد في الرواية المشهورة عنه يستثني البول والعذرة المائعة، فيجعل ما أمكن نزحه نجسا بوقوع ذلك فيه - ومذهب أبي حنيفة ينجس ما وصلت إليه الحركة - ومذهب أهل المدينة وأحمد في الرواية الثالثة أنه لا ينجس ولو لم يبلغ قلتين، واختار هذا القول بعض الشافعية كإحدى الروايات. وقد نصر هذه الرواية أصحاب الشافعي كما نصر الأول طائفة كثيرة من أصحاب أحمد، لكن طائفة من أصحاب مالك قالوا إن قليل الماء ينجس بقليل النجاسة، ولم يحدوا ذلك بقلتين. وجمهور أهل المدينة أطلقوا القول، فهؤلاء لا ينجسون أشياء إلا بالتغير ومن سوى بين الماء والمائعات كإحدى الروايتين عن أحمد، وقال بهذا القول الذي هو رواية عن أحمد قال في المائعات كذلك كما قاله الزهري وغيره فهؤلاء لا ينجسون شيئا(17/30)
من المائعات إلا بالتغير كما ذكره البخاري في صحيحه لكن على المشهور عن أحمد اعتبار القلتين في الماء. وكذلك في المائعات إذا سويت به - فنقول إذا وقع في المائع القليل نجاسة فصب عليه مائع كثير فيكون الجميع طاهرا إذا لم يكن متغيرا - وإن صب عليه ماء قليل دون القلتين وصار الجميع كثيرا فوق القلتين ففي ذلك وجهان في مذهب أحمد (أحدهما) وهو مذهب الشافعي في الماء أن الجميع طاهر (والوجه الثاني) أنه لا يكون طاهرا حتى يكون المضاف كثيرا، والمكاثرة المعتبرة أن يصب الطاهر على النجس، ولو صب النجس على الطاهر الكثير كان كما لو صب الماء النجس على ماء كثير طاهر أيضا، وكذلك مطهر له إذا لم يكن متغيرا وإن صب القليل الذي لاقته النجاسة على قليل لم تلاقه النجاسة، وكان الجميع كثيرا فوق القلتين كان كالماء القليل إذا ضم إلى القليل. وفي ذلك الوجهان المتقدمان. وهذا القول الذي ذكرناه في المائعات كالماء هو الأظهر في الدلالة، بل لو نجس القليل من الماء لم يلزم تنجس الأشربة والأطعمة ولهذا أمر مالك بإراقة ما ولغ فيه الكلب من الماء القليل كما جاء في الحديث ولم يأمر بإراقته من الأطعمة والأشربة، واستعظم إراقة الطعام والشراب بمثل ذلك، وذلك لأن الماء لا ثمن له في العادة بخلاف أشربة المسلمين وأطعمتهم، فإن في نجاستها من المشقة والحرج ما لا يخفى على الناس وقد تقدم أن جميع الفقهاء يعتبرون رفع الحرج في هذا الباب فإذا لم ينجسوا الماء الكثير للحرج فكيف ينجسون نظيره من الأطعمة والأشربة، والحرج في ذلك أشق، ولعل المائعات الكثيرة لا تكاد تخلو من نجاسة. (فإن قيل) الماء يدفع النجاسة عن غيره فمن نفسه أولى وأحرى بخلاف المائعات (قيل) الجواب من وجوه (أحدها) أن الماء إنما دفعها عن غيره؛ لأنه يزيلها عن ذلك المحل وتنتقل معه فلا يبقى على المحل نجاسة وأما إذا سقطت فيه فإنما كان طاهرا لاستحالتها فيه لا لكونه أزالها عن نفسه، ولهذا يقول أصحاب أبي حنيفة إن المائعات كالماء في الإزالة، وهي كالماء في التنجيس، فإذا كانت كذلك لم يلزم من كون الماء يزيلها إذا زالت معه أن يزيلها إذا كانت فيه. ونظير الماء الذي فيه النجاسة الغسالة المنفصلة عن المحل وتلك نجسة قبل طهارة المحل. وفيها بعد طهارة المحل ثلاثة أوجه، هل هي طاهرة أو مطهرة أو(17/31)
نجسة، وأبو حنيفة نظر إلى هذا المعنى فقال الماء ينجس بوقوعها فيه وإن كان يزيلها عن غيره كما ذكرناه، فإذا كانت النصوص وقول الجمهور على أنها لا تنجس بمجرد الوقوع مع الكثرة كما دل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الماء طهور لا ينجسه شيء (1) » . وقوله: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث (2) » فإنه إذا كان طهورا يطهر به غيره علم أنه لا ينجس بالملاقاة إذ لو نجس بها لكان إذا صب على النجاسة ينجس بملاقاتها، فحينئذ لا ينجس بوقوع النجاسة فيه لكن إن بقيت عين النجاسة حرمت، وإن استحالت زالت فدل ذلك على أن استحالة النجاسة بملاقاته لها فيه لا ينجس، وإن لم تكن قد زالت عن المحل فإن من قال إنه يدفعها عن نفسه كما يزيلها عن غيره فقد خالف المشاهدة.
وهذا المعنى يوجد في سائر الأشربة من المائعات وغيرها.
(الوجه الثاني) أن يقال غاية هذا أن يقتضي أنه يمكن إزالة النجاسة بالمائع، وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد كما هو مذهب أبي حنيفة وغيره، وأحمد جعله لازما لمن قال إن المائع لا ينجس بملاقاة النجاسة، وقال: يلزم على هذا أن تزال به النجاسة، وهذا لأنه إذا دفعها عن نفسه دفعها عن غيره كما ذكروه في الماء، فيلزم جواز إزالة النجاسات بكل مائع طاهر مزيل للعين قلاع للأثر على هذا القول. وهذا هو القياس فنقول به على هذا التقدير - وإن كان لا يلزم من دفعها عن نفسه دفعها عن غيره لكون الإحالة أقوى من الإزالة فيلزم من قال إنه يجوز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات إن لكون المائعات كالماء فإذا كان الصحيح في الماء أنه لا ينجس إلا بالتغير إما مطلقا وإما مع الكثرة فكذلك الصواب في المائعات. وفي الجملة التسوية بين الماء والمائعات ممكن على التقديرين. وهذا مقتضى النص والقياس في مسألة إزالة النجاسات وفي مسألة ملاقاتها للمائعات الماء وغير الماء. ومن تدبر الأصول المنصوصة المجمع عليها والمعاني الشرعية المعتبرة في الأحكام الشرعية تبين له أن هذا هو أصوب الأقوال، فإن نجاسة الماء والمائعات بدون التغير بعيد عن ظواهر النصوص والأقيسة وكون حكم النجاسة يبقى في مواردها بعد إزالة النجاسة بمائع أو غير مائع بعيد عن الأصول وموجب القياس ومن كان فقيها
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (66) ، سنن النسائي المياه (348) ، سنن أبو داود الطهارة (66) ، مسند أحمد بن حنبل (2/420) .
(2) سنن الترمذي الطهارة (67) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (517) ، سنن الدارمي الطهارة (731) .(17/32)
خبيرا بمآخذ الأحكام الشرعية، وزال عنه الهوى، تبين له ذلك، ولكن إذا كان في استعمالها فساد فإنه ينهى عن ذلك كما كان ينهى عن ذبح الخيل التي يجاهد عليها والإبل التي يحج عليها والبقر التي يحرث عليها ونحو ذلك؛ لما في ذلك من الحاجة إليها لا لأجل الخبث كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان في بعض أسفاره مع الصحابة، فنفدت أزوادهم فاستأذنوه في نحر ظهورهم فأذن لهم ثم أتى عمر - رضي الله عنه - فسأله أن يجمع الأزواد فيدعو الله بالبركة فيها ويبقى الظهر، ففعل ذلك فنهيه لهم عن نحر الظهر كان لحاجتهم إليه للركوب لا لأن الإبل محرمة. فلهذا ينهى عما يحتاج إليه من الأطعمة والأشربة عن إزالة النجاسة بها كما ينهى عن الاستنجاء بما له حرمة من طعام الإنس والجن وعلف دواب الإنس والجن ولم يكن ذلك لكون هذه الأعيان لا يمكن الاستنجاء بها؛ بل لحرمتها فالقول في المائعات كالقول في الجامدات.
(الوجه الثالث) أن يقال إحالة المائعات للنجاسة إلى طبعها أقوى من إحالة الماء وتغير الماء بالنجاسات أسرع من تغير المائعات فإذا كان الماء لا ينجس بما لا يقع فيه من النجاسة لاستحالتها إلى طبيعته فالمائعات أولى وأحرى.
(الوجه الرابع) أن النجاسة إذا لم يكن لها في الماء والمائع طعم ولا لون ولا ريح، فلا نسلم بأن يقال بنجاسته أصلا كما في الخمر المنقلب أو أبلغ. وطرد ذلك في جميع صور الاستحالة فإن الجمهور على أن المستحيل من النجاسات طاهر كما هو المعروف عن الحنفية والظاهرية وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد ووجه في مذهب الشافعي.
(الوجه الخامس) أن دفع المائعات للنجاسة عن نفسها كدفع الماء لا يختص بالماء بل هذا الحكم ثابت في التراب وغيره فإن العلماء اختلفوا في النجاسة إذا أصابت الأرض وذهبت بالشمس أو الريح أو الاستحالة هل تطهر على قولين.
(أحدهما) تطهر وهو مذهب أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب الشافعي(17/33)
وأحمد وهو الصحيح في الدليل فإنه قد ثبت عن ابن عمر أنه قال كانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك. وفي السنن أنه قال إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه فإن كان بهما أذى فليدلكهما بالتراب، فإن التراب لهما طهور، وكان الصحابة كعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وغيره يخوضون في الوحل ثم يدخلون فيصلون بالناس ولا يغسلون أقدامهم. وأوكد من هذا «قوله - صلى الله عليه وسلم - في ذيول النساء إذا أصابت أرضا بعد أرض خبيثة فتلك بتلك، وقال يطهره ما بعده (1) » ، وهذا هو أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، وقد نص عليه أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجي التي شرحها كريم (2) بن يعقوب الجوزجاني وهي من أجل المسائل. وهذا لأن الذيول تتكرر ملاقاتها للنجاسة فصارت كأسفل الخف وكمحل الاستنجاء. فإذا كان الشارع قد جعل الجامدات تزيل النجاسة من غيرها لأجل الحاجة كما في الاستنجاء بالأحجار وجعل الجامد طهورا علم أن ذلك وصف لا يختص بالماء، وإذا كانت الجامدات لا تنجس بما استحال إليها من النجاسة فالمائعات أولى وأحرى؛ لأن إحالتها أشد وأسرع. (3)
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (143) ، سنن أبو داود الطهارة (383) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (531) ، مسند أحمد بن حنبل (6/290) ، موطأ مالك الطهارة (47) ، سنن الدارمي الطهارة (742) .
(2) في نسخة إبراهيم.
(3) مجموع الفتاوى 21 \ 503 وما بعدها.(17/34)
ب - الاستحالة برمي تراب ونحوه فيها:
اختلف أهل العلم في ذلك، فمنهم من قال بعدم الطهارة، ومنهم من قال بالطهارة، وفيما يلي ذكر القولين مع الأدلة والمناقشة:
أما القائلون بأنه لا يطهر فبعض الشافعية وبعض الحنابلة ومن وافقهم من أهل العلم. قال الشيرازي: وإن طرح فيه تراب أو جص فزال التغير، ففيه قولان وقال النووي في شرح المهذب وصحيح ألا ترون أنه لا يطهر وهو المختار وقيد النووي صورة المسألة بأن يكون مكدرا ولا تغير له أما إذا صفا فلا يبقى خلاف بل إن كان التغير موجودا فنجس قطعا وإلا فطاهر قطعا صرح به المتولي وغيره ولا فرق بين أن يكون التغير بالطعم أو اللون أو الرائحة ففي الجميع قولان. (1) .
__________
(1) المهذب وشرحه \ 1 \ 185.(17/34)
وقال ابن قدامة. وإن كوثر بماء يسير أو بغير الماء فأزال التغير لم يطهر.
قال في المبدع تعليقا على ذلك: طهور أو بغير الماء كالتراب والخل ونحوهما لا مسك فأزال التغير لم يطهر على المذهب (1) . وقال المرداوي: اعلم أن الماء النجس تارة يكون كثيرا وتارة يكون يسيرا فإن كان كثيرا وكوثر بماء يسير أو بغير الماء لم يطهر على الصحيح من المذاهب وعليه جماهير الأصحاب، انتهى المقصود (2) .
واستدل لهذا بأنه كما أنه لا يطهر إذا طرح فيه كافور أو مسك فزالت رائحة النجاسة فلا يطهر هنا ونوقش بأنه قياس مع الفارق لأن الكافور يجوز أن تكون الرائحة باقية فيه دائما لم تظهر لغلبة رائحة الكافور والمسك ذكر ذلك الشيرازي في المهذب.
واستدل أيضا بأنه وقع الشك في زوال التغير، وإذا وقع الشك في سبب الإباحة لم تثبت الإباحة، كما لو رأى شاة مذبوحة في موضع فيه مسلمون ومجوس، وشك هل ذبحها المجوسي أو المسلم لا تباح، ذكر ذلك النووي في شرح المهذب وبأنه لا يدفع النجاسة عن نفسه فعن غيره من باب أولى، ذكره في المبدع.
وبأنه يستر النجاسة قاله ابن عقيل، نقله عنه صاحب المبدع.
القول الثاني إنه طاهر وهذا قول المالكية إذا لم تظهر فيه أوصاف الملقى، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد.
جاء في مواهب الجليل: وأما إذا زال التغير بإلقاء تراب فيه أو طين فقال في الطراز: إنه لم يظهر فيه لون الطين ولا ريحه ولا طعمه وجب أن يطهر انتهى (3)
__________
(1) المبدع \ 1 \ 63 وما بعدها.
(2) الإنصاف \ 1 \ 66.
(3) مواهب الجليل \ 1 \ 85.(17/35)
وقال الشيرازي: وقال - أي الشافعي - في حرملة يطهر وهو الأرجح (1) وعلق النووي على ذلك فقال: اختلف المصنفون في الأصح من القولين فصحح المصنف هنا وفي التنبيه وشيخه القاضي أبو الطيب وأبو العباس الجرجاني والشاشي وغيرهم الطهارة وهو اختيار المزني والقاضي أبي حامد (2) وقال ابن قدامة: ويتخرج أن يطهر (3) .
وعلق على ذلك صاحب المبدع فقال: وقاله بعض أصحابنا (4) واستدل لذلك بأن علة النجاسة زالت وهي التغير أشبه ما لو زال بالمكاثرة (5) وبأنه لو زال بطول المكث طهر فأولى أن يطهر إذا كان يطهر بمخالطته لما دون القلتين (6) .
__________
(1) المهذب ومعه المجموع \ 1 \ 185.
(2) المجموع ومعه المهذب \ 1 \ 185
(3) المقنع وعليه المبدع 1 \ 63.
(4) المبدع ومعه المقنع 1 \ 63
(5) المبدع \ 1 \ 63
(6) الإنصاف \ 1 \ 66(17/36)
جـ - الاستحالة بسقي النباتات بها وشرب الحيوانات إياها:
أما الاستحالة بسقي النباتات بها فقد تكلم أهل العلم في حكم ذلك، فمنهم من قال إن هذه الزروع طاهرة مباحة، ومنهم من قال إنها نجسة محرمة.
وممن قال بطهارتها أبو حنيفة وبعض المالكية، والشافعي، وهو قول في مذهب أحمد.
قال ابن المواق على قول خليل "وزرع بنجس " ابن يونس: القمح النجس يزرع فينبت وهو طاهر وكذلك الماء النجس يسقى به شجر أو بقل فالثمرة والبقلة طاهرتان (1) .
وقال ابن قدامة: قال ابن عقيل يحتمل أن يكره ذلك ولا يحرم ولا يحكم بتنجيسها. . . وهذا قول أكثر الفقهاء منهم أبو حنيفة والشافعي (2)
__________
(1) ابن المواق على متن خليل \ 1 \ 97 ومعه مواهب الجليل.
(2) المغني ومعه الشرح \ 11 \ 72 - 73.(17/36)
واستدل لهذا بالأثر والمعنى أما الأثر فهو أن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - كان يدمل أرضه بالعذرة ويقول: مكتل عرة مكتل بر. قال ابن قدامة: والعرة عذرة الناس استدل بهذا الأثر ابن قدامة (1) وأما المعنى فإن النجاسة تستحيل في باطنها فتطهر بالاستحالة كالدم يستحيل في أعضاء الحيوان ويصير لبنا (2) .
القول الثاني: إنها لا تطهر وهو المقدم عند الحنابلة وبه قال من وافقهم من أهل العلم.
قال ابن قدامة: وتحرم الزروع والثمار التي سقيت بالنجاسات وسمدت بها (3) وقال المرداوي على قول ابن قدامة " وما سقي بالماء النجس من الزروع والثمر محرم، قال: وينجس بذلك وهو المذهب نص عليه، وعليه جماهير الأصحاب (4) وقيد ذلك بالمغني، فقال: فعلى هذا تطهر إذا سقيت الطاهرات كالجلالة إذا حبست وأطعمت الطاهرات (5) واستدل لهذا القول بالسنة والمعنى.
أما السنة فما ذكره ابن قدامة في المغني: قال وروى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال «كنا نكري أراضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونشترط عليهم أن لا يدملوها بعذرة الناس» ، وأما المعنى فإنها تتغذى بالنجاسات وتترقى فيها أجزاؤها والاستحالة لا تطهر (6) وأما شرب الحيوانات إياها فإننا نذكر كلام العلماء وأدلتهم في حكم لحوم
__________
(1) المغني ومعه الشرح \ 11 \ 72 - 73
(2) المغني ومعه الشرح \ 11 \ 72 - 73
(3) الإنصاف \ 2 \ 10 \ 367.
(4) المغني ومعه الشرح \ 11 \ 72 - 73.
(5) المغني ومعه الشرح \ 11 \ 72 - 73
(6) المغني ومعه الشرح \ 11 \ 72 - 73(17/37)
الجلالة وألبانها مع المناقشة، ومن أوسع ما جاء في ذلك: ما ذكره ابن قدامة - رحمه الله - قال: قال أحمد: أكره لحوم الجلالة وألبانها، قال القاضي في المجرد، هي التي تأكل القذر. فإذا كان أكثر علفها النجاسة حرم لحمها ولبنها، وفي بيضها روايتان، وإن كان أكثر علفها الطاهر لم يحرم أكلها ولا لبنها وتحديد الجلالة بكونه أكثر علفها النجاسة لم نسمعه عن أحمد ولا هو ظاهر كلامه لكن يمكن تحديده بما يكون كثيرا في مأكولها يعفى عن اليسير.
وقال الليث إنما كانوا يكرهون الجلالة التي لا طعام لها إلا الرجيع.
وقال ابن أبي موسى في الجلالة روايتان إحداهما أنها محرمة، والثانية أنها مكروهة غير محرمة، وهذا قول الشافعي، وكره أبو حنيفة لحومها والعمل عليها حتى تحبس، ورخص الحسن في لحومها وألبانها لأن الحيوانات لا تنجس بأكل النجاسات بدليل أن شارب الخمر لا يحكم بتنجيس أعضائه، والكافر الذي يأكل الخنزير والمحرمات لا يكون ظاهره نجسا، ولو نجس لما طهر بالإسلام ولا الاغتسال، ولو نجست الجلالة لما طهرت بالحبس، ولنا ما روى ابن عمر قال «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل الجلالة وألبانها (1) » رواه أبو داود وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإبل الجلالة وأن يؤكل لحمها ولا يحمل عليها إلا الأدم، ولا يركبها الناس حتى تعلف أربعين ليلة» ، رواه الخلال بإسناده. ولأن لحمها يتولد من النجاسة فيكون نجسا كرماد النجاسة.
وأما شارب الخمر فليس ذلك أكثر غذائه، وإنما يتغذى الطاهرات، وكذلك الكافر في الغالب. وتزول الكراهية بحبسها اتفاقا، واختلف في قدره، فروي عن أحمد أنها تحبس ثلاثا سواء أكانت طائرا أم بهيمة. وكان ابن عمر إذا أراد أكلها حبسها ثلاثا، وهذا قول أبي ثور، لأن ما طهر حيوانا طهر الآخر كالذي نجس ظاهره. والأخرى تحبس الدجاجة ثلاثا والبعير والبقرة ونحوهما يحبس أربعين، وهذا قول عطاء في الناقة والبقرة لحديث عبد الله بن عمرو. ولأنها أعظم جسما وبقاء علفهما فيهما أكثر من بقائه في الدجاجة والحيوان الصغير (2) .
__________
(1) سنن الترمذي الأطعمة (1824) ، سنن أبو داود الأطعمة (3785) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3189) .
(2) المغني ومعه الشرح \ 11 \ 71 - 72 ويرجع إلى الإنصاف \ 10 \ 366 وشرح المفردات \ 312.(17/38)
ومن هذا أن القول بطهارة النجاسات والمياه بالاستحالة في الحيوانات والنباتات إلى لحم وعظم ولبن وغير ذلك هو قول أكثر الفقهاء، لتغيرها من فساد إلى صلاح وتبدل حقيقتها الخبيثة إلى حقيقة أخرى يشملها وصف الطيب في قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} (1) وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (2) فكان ما تولد عنها بالاستحالة طاهرا حلالا أكله وشربه.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 157
(2) سورة المائدة الآية 4(17/39)
د - حكم استعمال مياه المجاري بعد استحالتها وزوال أعراض النجاسة منها:
مما تقدم يتبين أن الماء الكثير المتغير بنجاسة يطهر إذا زال تغيره بصب ماء طهور فيه باتفاق أو بطول مكث أو تأثير الشمس ومرور الرياح عليه أو برمي تراب ونحوه فيه على الراجح عند الفقهاء لزوال الحكم بزوال علته.
وعلى هذا فإذا كانت مياه المجاري المتنجسة - وهي بلا شك كثيرة تتخلص بالطرق الفنية الحديثة مما طرأ عليها من النجاسات فإنه يمكن حينئذ أن يحكم بطهارتها لزوال علة تنجسها، وهي تغير لونها أو طعمها أو ريحها بالنجاسة، والحكم يدور مع علته وجودا وعدما، وبذلك تعود هذه المياه إلى أصلها، وهي الطهورية ويجوز استعمالها في الشرب ونحوه وفي إزالة الأحداث والأخباث، وتحصل به الطهارة من الأحداث والأخباث، إلا إذا كانت هناك أضرار صحية تنشأ عن استعمالها فيمتنع استعمالها فيما ذكر، محافظة على النفس، وتفاديا للضرر لا لنجاستها، ولكن لو استعملها في إزالة الأحداث أو الأخباث صحت الطهارة.
وينبغي للمسلمين أن يستغنوا عن ذلك ويجتنبوه اكتفاء بالمياه الأخرى ما وجدوا إلى ذلك سبيلا احتياطا للصحة، واتقاء للضرر وتنزها عما تستقذره النفوس وتنفر منه الطباع والفطر السليمة، هذا ما تيسر وبالله التوفيق والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(17/39)
قرار رقم 64 في 25 \ 10 \ 1398 هـ
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
ففي الدورة الثالثة عشرة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في النصف الآخر من شهر شوال 1398 هـ بمدينة الطائف، وبناء على رغبة المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، في إحالة موضوع الاستفتاء الوارد إلى الرابطة من رئيس تحرير جريدة (مسلم نيوز) الصادرة بكيب تاون إلى هيئة كبار العلماء لإعداد بحث في الموضوع، وتقرير ما تراه الهيئة نحوه، والمتضمن الإفادة بأن المسلمين في تلك الجهة يواجهون مشكلة كبيرة بسبب ما أقدم عليه مجلس مشروع التحقيقات العالمية والصناعية الذي يعمل على إنتاج ماء للشرب النقي من مياه المجاري، وأنهم يسألون عن حكم استعمال هذه المياه بعد تنقيتها للوضوء.
بناء على ذلك فقد اطلع المجلس على البحث المعد في ذلك من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء كما اطلع المجلس على خطاب معالي وزير الزراعة والمياه رقم 1 \ 1299 وتاريخ 30 \ 5 \ 1398 هـ وبعد البحث والمداولة والمناقشة قرر المجلس ما يلي:
بناء على ما ذكره أهل العلم من أن الماء الكثير المتغير بنجاسة يطهر إذا زال تغيره بنفسه أو بإضافة ماء طهور إليه، أو زال تغيره بطول مكث أو تأثير الشمس ومرور الرياح عليه أو نحو ذلك لزوال الحكم بزوال علته.
وحيث إن المياه المتنجسة يمكن التخلص من نجاستها بعدة وسائل، وحيث إن تنقيتها وتخليصها مما طرأ عليها من النجاسات بواسطة الطرق الفنية الحديثة لإعمال التنقية يعتبر من أحسن وسائل الترشيح والتطهير، حيث يبذل الكثير من(17/40)
الأسباب المادية لتخليص هذه المياه من النجاسات كما يشهد بذلك، ويقرره الخبراء المختصون بذلك ممن لا يتطرق الشك إليهم في عملهم وخبرتهم وتجاربهم.
لذلك فإن المجلس يرى طهارتها بعد تنقيتها التنقية الكاملة بحيث تعود إلى خلقتها الأولى لا يرى فيها تغير بنجاسة في طعم ولا لون ولا ريح، ويجوز استعمالها في إزالة الأحداث والأخباث، وتحصل الطهارة بها منها، كما يجوز شربها إلا إذا كانت هناك أضرار صحية تنشأ عن استعمالها فيمتنع ذلك محافظة على النفس، وتفاديا للضرر لا لنجاستها.
والمجلس إذ يقرر ذلك يستحسن الاستغناء عنها في استعمالها للشرب متى وجد إلى ذلك سبيل احتياطا للصحة واتقاء للضرر وتنزها عما تستقذره النفوس وتنفر منه الطباع.
والله الموفق. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة
محمد بن علي الحركان
عضو ... عضو
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد الرزاق عفيفي
إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... عبد المجيد حسن
عبد الله خياط ... عبد الله بن محمد بن حميد
سليمان بن عبيد ... عبد العزيز بن صالح
راشد بن خنين ... محمد بن جبير
عبد الله بن غديان ... صالح بن غصون
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن منيع
صالح بن لحيدان(17/41)
مشروع التكافل الاجتماعي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
فبناء على ما رآه مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الخامسة الاستثنائية، المنعقدة بمدينة الرياض في شهر ربيع الأول عام 1401 هـ من كتابة بحث عن مشروع التكافل الإسلامي، الذي قدمه الدكتور عثمان أحمد إلى رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، فأحيل منها إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، فأحاله سماحته إلى أمانة مجلس هيئة كبار العلماء لعرضه على المجلس - بناء على ذلك أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بيانا يتضمن ما يأتي: -
1 - كلمة مجملة عما ذكره مقدم المشروع من الداعي لكتابة مشروع التكافل الإسلامي والعمل به بعد التأكد من موافقته الشرع.
2 - مدى تمشي هذا المشروع مع أحكام الشريعة الإسلامية.
3 - إمكان إقامة مشروع للتكافل والتعاون الإسلامي وسهولة تطبيقه.
وفيما يلي تفصيل ذلك بحول الله وقوته
أولا: كلمة موجزة عما ذكره مقدم المشروع من الداعي إلى وضع مشروع للتكافل الإسلامي للعمل به بعد التأكد من موافقته لأحكام الشريعة الإسلامية.
ذكر واضع المشروع أن الأحوال الاقتصادية الصعبة التي واجهت المسلمين في كل زمان ومكان مع إعراضهم عن الإسلام زمنا طويلا، وعدم معرفتهم بطرقه السليمة في الاقتصاد وجعلتهم يلجئون في معاملاتهم إلى طرق غير مشروعة، ويرتمون في أحضان البنوك الربوية وشركات التأمين الاستغلالية فيبرمون معهم من العقود ويتبادلون معهم من المنافع ما يخالف شرع الله(17/42)
تعالى، ويوجب سخطه مع ما فيه من استنزاف تلك البنوك والشركات لأموالهم، والتحكم في اقتصادهم. فكان لزاما على ولاة المسلمين من علماء وحكام أن يعودوا بالمسلمين إلى التمسك بالإسلام، تفقها لأحكامه وعملا بها عامة، وأن يوجدوا على ضوء شريعة الله تعالى وفي نطاق أحكامها حلا لمشكلتهم الاقتصادية، لينقذوا أنفسهم ورعيتهم من مطامع أهل الأثرة الممقوتة، والاستغلال المحرم البغيض وذلك بإيجاد مؤسسات ومصارف إسلامية، وجمعيات تعاونية، تستمد نظامها من كتاب الله تعالى وسنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما يرجع إليهما من الثروة الفقهية التي ورثناها من سلفنا الصالح وفي ذلك الكفاية والغنى عن كل نظام وضع على غير قواعد الإسلام كما أن فيه الخلاص من براثين الاستغلال الجائر، والنجاة من سخط الله بسبب الوقوع فيما حرمه سبحانه من الربا والغرر والخداع في العقود والمعاملات وأكل أموال الناس بالباطل.
هذا مما دعا إلى كتابة المشروع وتقديمه إلى هيئة علمية إسلامية للتأكد من سلامته مما حرم الله وكفايته في تحقيق ما يراد من التعاون وفي إنقاذ المسلمين مما حرم الله عليهم.(17/43)
ثانيا: مدى تمشي هذا المشروع مع أحكام الشريعة الإسلامية:
أولا: نص ما يتعلق بمشروع التكافل الإسلامي:. . . . .
أما بالنسبة لفكرة التكافل الإسلامي فتكون تحت اسم جماعة إسلامية منظمة تتمتع بعضوية كبيرة من المسلمين كما يستحسن أن تكون أيضا متمتعة بالإعفاء الضريبي من الحكومة وبالتالي فإنه يمكنها جمع الاشتراكات من أعضاء "التكافل الاجتماعي" بصفة جمعية خيرية وليست بصفة شركة أو هيئه تأمينية تخضع لقوانين ومعاملات معقدة. وتسدد اشتراكات الأعضاء على أقساط سنوية ثابتة لا تتغير بسن العضو أو مرتبته الاقتصادية أو الاجتماعية أو حجم عائلته. وعضوية المشروع تكون للمسلمين المتمتعين بالإقامة الدائمة أو الجنسية لبلاد أمريكا الشمالية.(17/43)
التمويل: تمويل صندوق التكافل الإسلامي يكون أساسا من:
1 - الاشتراكات السنوية للأعضاء.
2 - التبرعات والهبات.
3 - الاستثمارات.
بالنسبة للاشتراكات السنوية يقوم العضو بدفع قسط سنوي في السنة الأولى لاشتراكه يبلغ ضعف القسط السنوي العادي لتكوين ما يسمى بنواة الصندوق. أما القسط السنوي العادي فتقريبا يعادل حوالي 100 دولار أمريكي بالتناسب للمنافع التي تعود على العضو في حالة إصابته في حادثة تمنعه عن الكسب أو لورثته في حالة وفاته. وهذا القسط في الواقع لا يمثل اشتراكا بمعنى الكلمة بل هو شبه تبرع للجماعة المتكافلة لا حق له في المطالبة به في حالة انسحابه من الجماعة أو توقفه عنى دفع الأقساط لأسباب غير معقولة.
المنافع: في حالة وفاة العضو يقوم الصندوق بدفع المبالغ التالية إلى ورثته:
1 - 10000 عشرة آلاف دولار دفعة واحدة لأرملته أو 250 دولارا شهريا لمن هو أقل من 65 سنة أو 150 دولار لمن هو فوق 65 سنة.
2 - 5000 خمسة آلاف دولار دفعة واحدة لكل طفل من أطفال المتوفى الذين هم أقل من 18 سنة أو أقل من 22 سنة إن كانوا يدرسون دراسات جامعية كل الوقت وبالنسبة للفتيات غير المتزوجات إذا لم يكن لهن عائل شرعي فيرفع حد السن عنهن.
3 - أما بالنسبة للإصابة الدائمة التي تمنعه عن الكسب من جراء حادث فيقوم الصندوق بدفع 400 دولار شهريا للعضو حتى سن 65 سنة.
4 - هذه المنافع غير ثابتة، ومعرضة للزيادة والنقصان على حسب الحصيلة أو المتوفر في الصندوق، وكذلك حسب مستوى المعيشة في أمريكا الشمالية، إذا كانت الحصيلة والمتوفر في الصندوق يسمح بذلك.
5 - لجميع أعضاء الجماعة التي تقوم بالإشراف على هذا المشروع الحق(17/44)
في الانضمام إلى (التكافل الإسلامي) وتعتبر عضوية الجماعة لازما لذلك.
6 - للجماعة المشرفة الحق في استثمار بعض تبرعات المشروع بالطرق المشروعة، وبعد خصم المصاريف وضمان وجود احتياطي كاف في الصندوق لتغطية أي كارثة، يحق لهذه الجماعة استعمال بعض صافي الأرباح في مشروعات إسلامية مثل تمويل المدارس الإسلامية أو مخيمات الشباب الصيفية، أو توزيع نشرات وكتب إسلامية على المحتاجين والمؤسسات وغير ذلك من مثل هذه المشروعات.
7 - يعتبر هذا المشروع تجربة إذا كللت بالنجاح إن شاء الله ينظر في إضافة برنامج لتغطية البديل للتأمين الصحي والتأمين على السيارات بما يتفق ووجهة الشرع. . انتهى
بعرض هذا النص على قواعد الشريعة الإسلامية، وخاصة ما يتعلق منها بمسائل الربا، ومسائل الغرر تبين لنا ما يأتي:
أولا: أن ما جاء في فقرة " أ " مما يتعلق بمشروع التكافل الإسلامي قد يعتبر عقد معاوضة اشتمل على ربا وغرر، فكان حراما.
وبيان ذلك أن المساهمين قد تعاقدوا على التزام أن يعوض كل منهم عند إصابته مما اجتمع لديهم من المال أو يعوض ورثته بعد وفاته منه، فكان عقد معاوضة.
ومن البين أن هذا العوض يدفع مؤخرا عند الإصابة أو الوفاة، وقد يزيد عما دفعه المساهم فيجتمع فيه ربا الفضل والنسا، وقد يساويه أو ينقص فيكون فيه ربا النسا، ومع وجود هذه الاحتمالات يكون فيه غرر، لتحقق الجهالة فيما سيدفع من العوض قدرا وزمنا. وقد يجاب عن ذلك بأن ما اتفق عليه المساهمون عقد تبرع أصالة لا يقصد من ورائه النماء والاستغلال والربح كما في التأمين على الحياة وسائر التأمينات التجارية، وقد ثبت شرعا أن الأعمال بالنيات وأن الأمور بمقاصدها، وعلى هذا لا يضر الجهل بما سيدفع من(17/45)
التعويضات ولا تأخيرها أو زيادتها عما سبق دفعه من أقساط، فلا خطر ولا مقامرة ولا ربا في ذلك.
ثانيا: جاء في فقرة " ب " هذه الكلمة: " بالتناسب للمنافع التي تعود على العضو في حالة إصابته في حادثة تمنعه من الكسب أو لورثته في حالة وفاته " وهي محل نظر.
ثالثا: لو ترك تحديد ما يصرف من الصندوق للمساهم عند الإصابة ولورثته بعد وفاته وأدمجت فقرة - جـ - مع رقم - 4 - وجعلا فقرة واحدة كان أوفق وأحسن تنسيقا، فتكون هكذا:
جـ - في حالة الوفاة أو الإصابة يقوم مجلس الإدارة المسئول عن مال الجمعية الخيرية بتقدير ما يصرف من الصندوق للمساهم عند إصابته، ولورثته بعد وفاته، مع مراعاة حالة الجمعية المالية، ومستوى المعيشة وقتئذ، فتكون هذه المنافع غير ثابتة. . الخ.
رابعا: تحذف كلمة " أو مخيمات الشباب الصيفية " من رقم - 6 - أو تقيد بما يجعلها أهلا للصرف عليها من صندوق الجمعية الخيرية.
وبعد، فالمشروع مجمل وغير واف بالمقصود، فلا بد من مشروع كامل عام شامل لحل المشاكل الاقتصادية على ضوء الشريعة الإسلامية.(17/46)
3 - إمكان إقامة مشروع للتكافل الإسلامي وسهولة تطبيقه:
إذا صدق عزم أهل العلم بأحكام الإسلام وشؤون الاقتصاد على التخلص من التأمينات التجارية الاستغلالية الممقوتة، واتجهوا بإخلاص إلى رسم طريق الإنقاذ من ويلاتها سهل عليهم نظام للتكافل الإسلامي على منهج الشريعة الإسلامية الغراء، ونصحوا ولاة أمور المسلمين بتطبيقه في أممهم، وبينوا فوائده ومزاياه دينا ودنيا، ترغيبا للمسلمين في العمل بمقتضاه والاستغناء به عما سواه، إرضاء لله وحفاظا لثروتهم من أن يخدعهم عنها أصحاب شركات التأمين الاستغلالية ويبتزوها منهم بالأساليب البراقة والطرق الملتوية، وإذا كان(17/46)
أهل الزيغ والانحراف عن سواء السبيل قد وضعوا لأنفسهم مؤسسات مصرفية وشركات للتأمين الاستغلالية على قواعد الهوى وبدافع الأثرة ليشبعوا بها أطماعهم، ويرووا بها جشعهم ويأكلوا بها أموال الجمهور بالباطل إثما وعدوانا، فأهل الخير من العلماء والحكام أولى أن يقيموا مؤسسات مصرفية وتأمينات تعاونية على قواعد الشريعة الإسلامية بدافع الغيرة لله تعالى، وحماية الضعيف والمضطر، إنهم إن فعلوا ذلك كان لهم إن شاء الله لسان صدق في الحاضرين والآخرين وحمدوا العاقبة يوم لا ينفع المرء إلا ما قدمت يداه. والله الموفق. . . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(17/47)
صفحة فارغة(17/48)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شئونهم الدينية والاجتماعية(17/49)
فتوى برقم 1130 في 2 \ 1 \ 1396هـ
السؤال: رجل سافر مع رفقة إلى مكة المكرمة، وكان يصلي بهم، فقصر صلاة المغرب إلى ركعتين ثلاثة فروض اجتهادا منه، فما الحكم؟
الجواب: إذا كان الأمر كما ذكر، فعليه إعادة صلاة المغرب الذي قصرها، سواء كانت صلاة واحدة أو أكثر.
كما أن عليه تنبيه الذين صلوا معه لإعادتهم صلوات المغرب اللاتي قصروها معه؛ لأن صلاة المغرب بإجماع أهل العلم لا تقصر وقصرها مبطل لها.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله المنيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(17/50)
فتوى برقم 1193 في 15 \ 2 \ 1396 هـ
السؤال: جماعة خرجوا من بلدهم يوم الجمعة، واتجهوا إلى بلد آخر يبعد عنهم قرابة ثمانين كيلو مترا على أن يعودوا إلى بلدهم في اليوم نفسه، وقبل وصولهم هذا البلد نزلوا في وادي من وديانها تبعد عنها قرابة كيلو متر، ثم خرج أهل القرية لمقابلتهم، وصلوا الجمعة في الوادي هم وأهل القرية، فهل هذه الصلاة صحيحة أم لا؟(17/50)
الجواب: لا يخفى أن المسافر لا تلزمه الجمعة، فإذا صلاها صحت منه، وكفت عن صلاة الظهر، وحيث ذكر السائل بأن الجماعة الذين خرجوا من بلدهم إلى البلد الآخر سافروا، وأنهم قد صلوا مع أهل البلد خارج البلد جمعة فتصح منهم، أما صلاة أهل البلد جمعة في الوادي الذي يبعد عن قريتهم قرابة كيلو متر فلا يظهر لنا مانع من صحتها؛ حيث ذكر أهل العلم جواز إقامتها في الصحراء فيما قارب البنيان؛ لما روى أبو داود والدارقطني عن كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال: أسعد بن زرارة أول من جمع بنا في هزم النبيت حرة بني بياضة في نقيع يقال له نقيع الخضمات، قال كم كنتم يومئذ قال: أربعون رجلا، قال البيهقي: صحيح الإسناد، وبذلك يعلم السائل صحة إقامتهم الجمعة في هذه الواقعة إلا أنه ينبغي إقامتها في المساجد.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله المنيع ... عبد الله الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(17/51)
فتوى برقم 1303 في 9 \ 6 \ 1396 هـ
السؤال: هل يجوز للموظفين أن يصلوا في إدارتهم، مع أن بجوارهم مسجدا، أم لا بد من الصلاة في المسجد؟
الجواب: جرت السنة الفعلية والقولية من الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أداء الصلاة جماعة في المسجد وقد هم - صلى الله عليه وسلم - أن يحرق على المتخلفين عنها بيوتهم(17/51)
بالنار، وجرى على أدائها جماعة في المساجد خلفاؤه والصحابة - رضوان الله عليهم - وأتباعه، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر (1) » وثبت عنه أيضا أنه قال له رجل أعمى «يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فهل لي بالرخصة أن أصلي ببيتي فقال له - صلى الله عليه وسلم -: هل تسمع النداء بالصلاة فقال: نعم، قال: فأجب (2) » . وفي رواية قال له: «لا أجد لك رخصة (3) » . وبذلك يتضح أن الواجب على موظفي أي إدارة ونحوها أن يصلوا الظهر جماعة في المسجد المجاور لهم عملا بالسنة، وأداء للواجب وسدا لذريعة التحيل للتخلف عن أداء الصلاة في المساجد، وابتعادا عن مشابهة أهل النفاق.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (551) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (793) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (653) ، سنن النسائي الإمامة (850) .
(3) سنن النسائي الإمامة (851) ، سنن أبو داود الصلاة (552) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (792) .(17/52)
فتوى برقم 1322 في 7 \ 9 \ 1396 هـ
السؤال: إذا أخذت بيوت ومحلات تجارية من ملاكها وبني مكانها مسجد للصلاة، ولم يدفع لأصحابها إلا ربع ثمنها أو سدسه مثلا، فهل تصح الصلاة فيها؟ .
الجواب: إذا ثبت أن ما ذكر من البيوت والمحلات التجارية أخذت من ملاكها بثمن بخس كربع ثمنها أو سدسه مثلا بدون رضاهم وطيب(17/52)
نفوسهم كان ذلك ظلما وغصبا، وهو من كبائر الذنوب؛ لعموم قوله تعالى: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} (1) وقوله تعالى: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} (2) الآيات. وما ثبت عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الظلم ظلمات يوم القيامة (3) » رواه البخاري ومسلم، وما ثبت عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أراضين (4) » رواه البخاري ومسلم، وعلى هذا لا يجوز بناء المسجد على هذه الأرض، ولا تجوز الصلاة فيها بعد بنائها لمن علم بذلك باتفاق العلماء، لكنها صحيحة على الراجح من أقوالهم مع إثم المصلي، ويجب على المسلمين بذلك البلد عامة وعلى ولاة الأمور بها خاصة، أن يتعاونوا على دفع الظلم عن المظلوم ونصره بالأخذ على يد من ظلمه حتى يصل إليه حقه منه لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (5) ولما ثبت عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة (6) » رواه البخاري ومسلم. ولما ثبت عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال: تأخذ فوق يديه (7) » ، وفي رواية «تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه (8) » .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله المنيع ... عبد الله الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الفرقان الآية 19
(2) سورة الشورى الآية 44
(3) صحيح البخاري المظالم والغصب (2447) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2579) ، سنن الترمذي البر والصلة (2030) ، مسند أحمد بن حنبل (2/106) .
(4) صحيح البخاري المظالم والغصب (2453) ، صحيح مسلم المساقاة (1612) ، مسند أحمد بن حنبل (6/252) .
(5) سورة المائدة الآية 2
(6) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) ، مسند أحمد بن حنبل (2/91) .
(7) صحيح البخاري المظالم والغصب (2444) ، سنن الترمذي الفتن (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (3/99) .
(8) صحيح البخاري الإكراه (6952) ، سنن الترمذي الفتن (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (3/201) .(17/53)
فتوى برقم 828 في 13 \ 8 \ 1394 هـ
السؤال: جماعة جمعوا العصر مع الظهر جمع تقديم، والعشاء مع المغرب كذلك لنزول الأمطار في وقت الظهر أو المغرب، ثم توقف نزول المطر وقت العصر أو وقت العشاء، فهل تعاد صلاة العصر أو العشاء أم لا؟
الجواب: ذكر أهل العلم - رحمهم الله - أن المطر الذي يبل الثياب وتلحق المشقة بالخروج فيه يعتبر عذرا للجمع بين الصلاتين، وقد اتفقوا على جواز جمع العشاء مع المغرب للمطر الذي يبل الثياب؛ لما روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قوله: إن من السنة إذا كان يوم مطر أن نجمع بين المغرب والعشاء. رواه الأثرم. ولما في البخاري «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع بين المغرب والعشاء في ليلة مطيرة» . أما الجمع بين الظهر والعصر فقد اختلف أهل العلم في جوازه، فأجازه بعضهم مستدلا بما روى الحسن بن وضاح عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: جمع في المدينة بين الظهر والعصر في المطر» . وهذا القول اختاره القاضي وأبو الخطاب وهو مذهب الشافعي. وذهب بعض أهل العلم إلى أن الجمع بين الظهر والعصر للمطر لا يجوز؛ لأن جواز ذلك لم يرد إلا في المغرب والعشاء؛ ولأن المشقة فيهما أكثر. قال ابن قدامة - رحمه الله تعالى - في المغني: فأما الجمع بين الظهر والعصر فغير جائز، قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: الجمع بين الظهر والعصر في المطر. قال: لا ما سمعت. وهذا اختيار أبي بكر وابن حامد وقول مالك - ثم قال بعد ذكره القول بجواز الجمع بينهما - ولنا أن مستند الجمع ما ذكرناه من قول أبي سلمة والإجماع لم يرد إلا في المغرب والعشاء وحديثهم غير صحيح(17/54)
فإنه غير مذكور في الصحاح والسنن. وقول أحمد ما سمعت يدل على أنه ليس بشيء. ولا يصح القياس على المغرب والعشاء لما فيهما من المشقة لأجل الظلمة والمضرة، ولا القياس على السفر؛ لأن مشقته لأجل السير وفوات الرفقة وهو غير موجود هاهنا.
ومن شروط الجمع بين الصلاتين وجود العذر المبيح للجمع حال افتتاح الأولى والفراغ منها وافتتاح الثانية. فإذا انقطع العذر بعد الإحرام بالثانية جاز الجمع ولم يؤثر انقطاعه؛ لأن العذر المبيح وجد عند الإحرام بالأولى، وفي وقت الجمع وهو آخر الأولى وأول الثانية فلم يضر عدمه في غير ذلك. وبهذا يتضح أن صلاة العصر على رأي من يجيز جمعها مع الظهر، وكذا صلاة العشاء لمن جمعها مع المغرب للمطر، لا تعاد إذا زال العذر بعد الإحرام بها لوجود العذر المبيح عند الإحرام بها. وبالله التوفيق.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(17/55)
فتوى برقم 1373 في12 \ 9 \ 1396 هـ
السؤال: نرى في بعض المناطق أن الإمام يرفع يديه بعد الصلوات المكتوبة والمأمومين كذلك. يدعو الإمام ويؤمن المأمومون على دعائه فما الحكم؟
الجواب: العبادات مبنية على التوقف، فلا يجوز أن يقال هذه العبادة(17/55)
مشروعة من جهة أصلها أو عددها أو هيئاتها أو مكانها إلا بدليل شرعي يدل على ذلك، ولا نعلم سنة في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا من قوله ولا من فعله ولا من تقريره، والخير كله باتباع هديه - صلى الله عليه وسلم - وهديه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب ثابت بالأدلة الدالة على ما كان يفعله - صلى الله عليه وسلم - بعد السلام، وقد جرى خلفاؤه وصحابته من بعده ومن بعدهم التابعون بإحسان، ومن أحدث خلاف هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو مردود عليه، قال - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » فالإمام الذي يدعو بعد السلام ويؤمن المأمومون على دعائه والكل رافع يده يطالب بالدليل المثبت لعمله، وإلا فهو مردود عليه.
وإذا علم ذلك فإننا نبين نبذة من هديه - صلى الله عليه وسلم - فمن ذلك أنه «إذا سلم استغفر الله ثلاثا، ويقول اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام (2) » .
قيل للأوزاعي كيف الاستغفار؟ قال: يقول: أستغفر الله أستغفر الله، هذه رواية مسلم والترمذي والنسائي إلا أن النسائي قال: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان إذا انصرف من صلاته (3) » . وذكر الحديث. وفي رواية أبي داود «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن ينصرف من صلاته استغفر الله ثلاث مرات ثم قال: اللهم أنت السلام (4) » ، وفي رواية أبي داود والنسائي عن عائشة - رضي الله عنها - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سلم قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام (5) » . وفي رواية لمسلم عن وراد مولى المغيرة بن شعبة قال: أملى علي المغيرة بن شعبة في كتاب إلى معاوية: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد (6) » . وفي رواية لمسلم أيضا عن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - أنه كان يقول في دبر
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (591) ، سنن الترمذي الصلاة (300) ، سنن أبو داود الصلاة (1512) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (928) ، مسند أحمد بن حنبل (5/280) ، سنن الدارمي الصلاة (1348) .
(3) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (591) ، سنن الترمذي الصلاة (300) ، سنن النسائي السهو (1337) ، سنن أبو داود الصلاة (1512) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (928) .
(4) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (591) ، سنن الترمذي الصلاة (300) ، سنن أبو داود الصلاة (1512) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (928) ، مسند أحمد بن حنبل (5/280) ، سنن الدارمي الصلاة (1348) .
(5) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (592) ، سنن الترمذي الصلاة (298) ، سنن النسائي السهو (1338) ، سنن أبو داود الصلاة (1512) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (924) ، مسند أحمد بن حنبل (6/62) ، سنن الدارمي الصلاة (1347) .
(6) صحيح البخاري الأذان (844) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (593) ، سنن النسائي السهو (1341) ، سنن أبو داود الصلاة (1505) ، مسند أحمد بن حنبل (4/245) ، سنن الدارمي الصلاة (1349) .(17/56)
كل صلاة حين يسلم: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولوكره الكافرون. وقال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهلل بهن دبر كل صلاة (1) » . وفي رواية لمسلم أيضا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سبح دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبر ثلاثا وثلاثين، ثم قال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفر له خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر (2) » ومن أراد المزيد من الاطلاع على الأدعية فعليه بالرجوع إلى كتاب الأدعية من كتب الجوامع، مثل جامع الأصول ومجمع الزوائد، والمطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية وغيرها. وبالله التوفيق
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله المنيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (594) ، سنن النسائي السهو (1340) ، سنن أبو داود الصلاة (1506) ، مسند أحمد بن حنبل (4/4) .
(2) صحيح البخاري الأذان (843) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2691) ، مسند أحمد بن حنبل (2/371) ، موطأ مالك النداء للصلاة (488) .(17/57)
فتوى برقم 1382 في 18 \ 9 \ 1396 هـ
السؤال الأول: بعض المؤذنين حينما ينتهي من أذان الفجر، وبعد ما يدعو الدعاء المأثور، يقول في الميكرفون: صلوا هداكم الله فما حكم ذلك؟
الجواب: قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1)
__________
(1) سورة المائدة الآية 3(17/57)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (1) » . وقال أيضا: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » .
وورد عن بعض السلف الصالح قوله: [اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم] . وعليه فينبغي للمسلم في أمور العبادة الاقتصار على ما ثبت مشروعيته وعدم الزيادة على ذلك بحجة الاستحسان، فلو كان خيرا لأخبر عنه - صلى الله عليه وسلم - وعمله وعمله معه وبعده أصحابه. وبهذا يتضح الجواب على السؤال من أنه ينبغي الاقتصار في الأذان على ما ثبت شرعا في صفة الأذان، وأن الزيادة على ذلك من قبيل الابتداع والله أعلم.
السؤال الثاني: رجل يصلي في المسجد في الروضة، وسقط من جيبه بكت دخان، فما حكم فعله، وهل يجوز حمل الدخان في المساجد؟
الجواب: إن كان المقصود بالسؤال عن حكم فعله، وهو حمله الدخان إلى المسجد، فلا يخفى أن الدخان من الأمور المنكرة والخبيثة وشربه محرم؛ لما فيه من الضرر البالغ على النفس والمال والمجتمع؛ ولانتفاء المصلحة منه وحيث إنه خبيث فينبغي صيانة بيوت الله عنه، وحمله إليها مما يتعارض مع تعظيم بيوت الله وتكريمها فلا يجوز، وأما إن كان المقصود بالسؤال عن حكم الفعل بالنسبة للصلاة هل سقوط الدخان من جيب المصلى يفسد الصلاة أو يبطلها فصلاة من سقط منه الدخان صحيحة.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله المنيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(17/58)
فتوى برقم 1389 في 20 \ 9 \ 396 1 هـ
السؤال: إذا دخل المسجد رجل فوجد الصلاة قد انتهت فصلى منفردا، ثم جاء آخر لم يصل، فهل يجوز للأول أن يؤم الآخر حيث ينتقل من نية الانفراد إلى نية الإمامة؟
الجواب: يجوز للمنفرد في الصلاة أن ينتقل من نيته إلى الإمامة إذا دخل معه من يصلي معه مؤتما به، حيث صرح أهل العلم بذلك، قال في المقنع: فإن أحرم منفردا، ثم نوى الائتمام، لم يصح في أصح الروايتين، وإن نوى الإمامة صح في النفل ولم يصح في الفرض، ويحتمل أن يصح وهو أصح عندي: اهـ وقال: في الحاشية على قوله ويحتمل أن يصح. وقد روي عن أحمد ما يدل عليه وهو مذهب الشافعي قال المؤلف: وهو الصحيح إن شاء الله تعالى؛ لأنه قد ثبت في النفل والأصل مساواة الفرض للنفل ولحديث جابر، ولأن الحاجة تدعو إليه، وبيانها أن المنفرد إذا جاء قوم فأحرموا معه فإن قطع الصلاة، وأخبرهم بحاله قبح لما فيه من إبطال العمل، وإن أتم الصلاة ثم أخبرهم بفساد صلاتهم، فهو أقبح وأشق اهـ. وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وهو الصواب للأدلة المذكورة ولتحصيل فضل الجماعة للجميع.
وصلى الله على نبينا محمد واله وصحبه أجمعين
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(17/59)
فتوى برقم 1393 في 25 \ 9 \ 1396 هـ
السؤال: ما حكم إقامة صلاة الجمعة في بلد نقص عدد المصلين فيها عن أربعين مصليا، فهل يجوز إقامة صلاة الجمعة في هذا البلد، علما بأنه يبعد ثلاثين كيلو مترا عن أقرب بلد كبير؟
الجواب: يجوز إقامة الجمعة ولو قل العدد عن أربعين لعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (1) ولأن الأصل وجوب الجمعة على الجماعة المقيمين المستوطنين في بناء معتاد من أي نوع كان، سواء كان من قصب أو لبن أو غيرهما، وهؤلاء جماعة فتجب عليهم، ولا دليل على إسقاطها عنهم أصلا. وأما الاستقلال بإقامتها في بلد يبعد عن أقرب مسجد تقام فيه الجمعة ثلاثين كيلو مترا فإنه جائز لوجود المشقة من أجل بعد المسافة.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الجمعة الآية 9(17/60)
فتوى برقم 1405 في 7 \ 11 \ 1396 هـ
السؤال: إذا قام مسلم قبل الفجر ليصلي نافلة، وأذن الفجر وهو يصلي، وهو يعلم أن الصلاة لن تنعقد إلا بعد ثلث ساعة مثلا - أيستمر في الصلاة أم يوتر ويركع لسنة الفجر؟(17/60)
الجواب: وقت قيام الليل وصلاة الوتر من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، وإذا طلع الفجر وقد بقي على الشخص شيء من قيام الليل، أو لم يبق عليه إلا الوتر، فإنه يفعل ما فاته من قيام الليل، ويشفع الوتر بركعة، وذلك نهارا قبل الظهر، والأصل في ذلك ما ثبت عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «من كل الليل أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أول الليل وأوسطه وآخره وانتهى وتره إلى السحر (1) » متفق عليه.
وما رواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أوتروا قبل أن تصبحوا (2) » . رواه مسلم.
وما رواه ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا طلع الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر، فأوتروا قبل طلوع الفجر (3) » . رواه الترمذي. وما روته عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا منعه من قيام الليل نوم أو وجع صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة (4) » رواه مسلم. وبالله التوفيق
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (996) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (745) ، سنن الترمذي الصلاة (456) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1681) ، سنن أبو داود الصلاة (1435) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1185) ، مسند أحمد بن حنبل (6/129) ، سنن الدارمي الصلاة (1587) .
(2) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (754) ، سنن الترمذي الصلاة (468) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1683) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1189) ، مسند أحمد بن حنبل (3/37) ، سنن الدارمي الصلاة (1588) .
(3) صحيح البخاري الصلاة (472) ، سنن الترمذي الصلاة (469) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1694) ، سنن أبو داود الصلاة (1326) ، موطأ مالك النداء للصلاة (269) .
(4) سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1601) ، سنن أبو داود الصلاة (1342) .(17/61)
فتوى برقم 1407 في 9 \ 11 \ 1396 هـ
السؤال: ما حكم الرجل الذي لا يصلي وهو متزوج بامرأة مسلمة، فهل هي حلال له أم تطلق منه؟(17/61)
الجواب: الصلاة ركن من أركان الإسلام، ومن تركها من المكلفين عالما بوجوبها فقد كفر، فيستتاب ثلاثا فإن تاب وإلا قتل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(17/62)
فتوى برقم 1900 في 1 \ 5 \ 1398 هـ
السؤال: هل تجب صلاة الضحى على من لم يصل الوتر بعد صلاة العشاء أم لا؟
الجواب: ما ذكر من وجوب صلاة الضحى على من لم يصل الوتر بعد صلاة العشاء ليس بصحيح، لكن ينبغي للمسلم أن يحافظ على صلاة الوتر بعد العشاء إن كان ممن يغلب عليهم النوم ولا يستيقظون إلا مع أذان الفجر، أما إن كان يرجو القيام قبل الفجر لصلاة التهجد فله أن يؤخر الوتر حتى يجعله آخر صلاته من الليل فإن فاتته صلاة النافلة التي اعتاد أن يصليها من الليل استحب له أن يصلي نهارا قبل الظهر ما اعتاده من النافلة ليلا، لكن يصليها شفعا. مثلا إذا كان من عادته أن يصلي خمسا في الليل صلى ستا يسلم من كل ركعتين وهكذا.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(17/62)
فتوى برقم 1942 في 8 \ 5 \ 1398 هـ
السؤال: الرجل الذي لا يفارق فراشه من الكبر في السن، وقد ترك الصلاة والصيام، فهل عليه كفارة أم لا، علما أنه لا يتقن الصلاة؟
الجواب: ما دام بهذه الحالة فلا كفارة عليه في ترك الصيام والصلاة؛ لأنه لم يعد محلا للتكليف، ولا مطالبا بالواجبات الشرعية.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(17/63)
فتوى برقم 1944 في 24 \ 5 \ 1398 هـ
السؤال: هل يجوز تأخير صلاة العيد عن يوم ليلة رؤية هلال شوال إلى اليوم الثاني؛ ليتمكن جميع العمال من المسلمين العاملين في المصانع والمكاتب من الحصول على إجازة يوم العيد من المسؤلين، وبما أن يوم العيد غير معروف لديهم سابقا؛ فلذلك يعسر عليهم إخبار المسئولين عن يوم بعينه للإجازة؟
الجواب: صلاة العيدين فرض كفاية إذا قام بها من يكفي سقط الإثم عن(17/63)
الباقين، وبما أن المراكز الإسلامية تقوم بإقامة صلاة العيد بناء على رؤية الهلال في البلاد العربية عموما، وفي المملكة العربية السعودية خصوصا، فإن هذه الصلاة تسقط فرض الكفاية عمن لم يحضرها، ولا يجوز تأخيرها إلى اليوم الثاني أو الثالث من شوال من أجل أن يحضرها جميع المسلمين في لندن مثلا؛ لأن هذا التأخير خلاف ما أجمع عليه الصحابة ومن بعدهم، فإننا لا نعلم أحدا من أهل العلم قال بذلك. نعم يجوز تأخيرها إلى اليوم الثاني إذا لم يعلموا بالعيد إلا بعد زوال الشمس. وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(17/64)
فتوى برقم 1954 في 6 \ 6 \ 1398 هـ
السؤال الأول: إذ أم رجل صبيين أو أكثر لم يبلغوا فأين يقفوا خلفه أم عن يمينه؟
الجواب: السنة للصبيان إذا بلغوا سبعا فأكثر أن يقفوا خلف الإمام كالبالغين، فأما إن كان الموجود واحدا فإنه يقف عن يمينه؛ لأنه ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنه صلى في بيت أبي طلحة، وجعل أنسا واليتيم خلفه وأم سليم خلفهما (1) » .
وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في رواية أخرى: «أنه صلى بأنس وجعله عن يمينه، وصلى بابن عباس وجعله عن يمينه (2) » .
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (380) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (658) ، سنن الترمذي الصلاة (234) ، سنن النسائي الإمامة (801) ، سنن أبو داود الصلاة (612) ، مسند أحمد بن حنبل (3/131) ، موطأ مالك النداء للصلاة (362) ، سنن الدارمي الصلاة (1287) .
(2) سنن الترمذي الصلاة (232) ، سنن النسائي الإمامة (806) ، سنن أبو داود الصلاة (610) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (973) ، مسند أحمد بن حنبل (1/341) ، سنن الدارمي الصلاة (1255) .(17/64)
السؤال الثاني: أيهما أفضل التسبيح باليد اليمنى أم الشمال؟
الجواب: الأفضل أن يكون ذلك باليد اليمنى؛ لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يعد التسبيح بيمينه ولعموم حديث عائشة - رضي الله عنها - «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله (1) » ، ويجوز ذلك باليدين جميعا لأحاديث وردت في ذلك.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (168) ، صحيح مسلم الطهارة (268) ، سنن الترمذي الجمعة (608) ، سنن النسائي الغسل والتيمم (421) ، سنن أبو داود اللباس (4140) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (401) ، مسند أحمد بن حنبل (6/130) .(17/65)
فتوى برقم 1989 في 0 2 \ 6 \ 1398 هـ
السؤال: إذا تأخر إمام الجمعة عن وقت الصلاة، وكان يعرف بذلك دائما مع وجوده في بيته، وقربه من المسجد، فهل لأحد الجماعة الحاضرين أن يصلي بالجماعة بدون إذنه أو يلزم انتظاره، وإذا طال الانتظار ولم يحضر فهل لهم أن يصلوا وتصح صلاتهم أم لا؟
الجواب: الأئمة لهم مرجع، ويمكن الرجوع إلى مرجعه للنظر في أمره، فإما أن يستقيم أو يغير بمن هو أحسن منه، لكن ينبغي في مثل هذا الحال أن يراجع إذا حضر الوقت؛ لأنه قد يغفل ولا ينتبه، ولما في ذلك من الحيطة والتعاون على البر والتقوى.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(17/65)
فتوى برقم 2013 في 8 \ 7 \ 398 1 هـ
السؤال الأول: رجل صلى الفرض وسلم التسليمة الأولى على اليمين، ولم يسلم على اليسار، فهل خرج من صلاته تامة؟
الجواب: روى أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن عامر بن سعد عن أبيه قال «كنت أرى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسلم عن يمينه وعن يساره حتى يرى بياض خده (1) » ، وروى الخمسة وصححه الترمذي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم عن يمينه وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله (2) » ، وروى مسلم مثله عن جابر بن سمرة، هذه الأحاديث وما في معناها تدل على مشروعية التسليمتين والتزامهما اقتداء بمحمد بن عبد الله - عليه الصلاة والسلام - ويخرج المصلي من صلاته بالأولى منها إذا هي ركن من أركان الصلاة وتبقى الثانية واجبة في حقه أو سنة لا واجبة، قال: عبد الرحمن بن قدامة - رحمه الله - في الشرح الكبير والتسليمة الأولى هي واجبة، وهي ركن من أركان الصلاة، والثانية سنة في الصحيح، قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة جائزة، وفي رواية أخرى أنها واجبة، ذكرها القاضي وأبو الخطاب قال القاضي: وهي أصح لحديث جابر بن سمرة.
السؤال الثاني: رجل أدرك مع الإمام ركعتين من صلاة رباعية، وسلم الإمام وقام لإتمام صلاته، فهل ما أدرك أول صلاته أو أولها ما قام بهما منفردا؟
الجواب: الصحيح من قولي العلماء أن ما أدركه المأموم مع الإمام يعتبر أول صلاته؛ لأن أكثر روايات الحديث الوارد في ذلك بلفظ فأتموا وما ورد من لفظ
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (582) ، سنن النسائي السهو (1317) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (915) ، مسند أحمد بن حنبل (1/172) ، سنن الدارمي الصلاة (1345) .
(2) سنن الترمذي الصلاة (295) ، سنن أبو داود الصلاة (996) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (914) ، مسند أحمد بن حنبل (1/390) .(17/66)
فاقضوا على حد معنى أتموا لأن الروايات يفسر بعضها بعضا، ولقوله سبحانه {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} (1) أي أتممتم؛ ولأن ذلك هو مقتضى قواعد الشريعة؛ لأن القول يجعل ما أدركه آخر صلاته يفضي إلى أن يقدم آخر صلاته على أولها.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 200(17/67)
فتوى برقم 2018 في 9 \ 7 \ 1398
السؤال: هل تنوب صلاة الأولاد وهم دون العاشرة مع أبيهم أثناء الصلاة عن صلاة الجماعة؟
الجواب: لا تنوب صلاة الرجل بأولاده الفريضة جماعة عن صلاة الجماعة في المسجد، سواء كان الأولاد بالغين أو غير بالغين، بل يجب عليه أن يؤدي صلاة الفريضة جماعة في المسجد فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -: هم أن يحرق على قوم بيوتهم وهم فيها لتخلفهم عن صلاة الجماعة في المسجد مع أنهم كانوا يصلون في بيوتهم، ولم يستفسر هل كانوا يصلونها جماعة في بيوتهم أو لا. فعلى كل مسلم أن يحرص على أداء الصلوات الخمس جماعة حتى يتعودوا عمارة المساجد بأداء الصلوات فيها جماعة ويألفوا ذلك.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(17/67)
فتوى برقم 2017 في 9 \ 7 \ 1398هـ
السؤال: هل تجوز الصلاة خلف إمام يسدل في صلاته ويقنت دائما في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح؟
الجواب: وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة سنة والسدل خلاف السنة والقنوت دائما في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح كما يفعله بعض المالكية والشافعية خلاف السنة لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك وإنما كان يقنت في النوافل وكان يقنت في صلاة الوتر.
فإذا كان الإمام يسدل في صلاته ويديم القنوت في صلاة الصبح على ما ذكر في السؤال نصحه أهل العلم وأرشدوه إلى العمل بالسنة فإن استجاب فالحمد لله، وإن أبى وسهلت صلاة الجماعة وراء غيره صلى خلف غيره محافظة على السنة، وإن لم يسهل ذلك صلى وراءه حرصا على الجماعة، والصلاة صحيحة على كل حال.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(17/68)
فتوى برقم 2021 في 9 \ 7 \ 1398هـ
السؤال: هل الصلاة في توسعة المسجد النبوي تحت المظلات تعتبر كالصلاة داخل المسجد النبوي أم لا؟(17/68)
الجواب: الأماكن التي تدخل في المساجد تعطى بعد دخولها فيها أحكام المساجد، وعلى هذا يعتبر ما زيد في المسجد النبوي وأدخل فيه من المسجد النبوي، وتجري عليه أحكامه من مضاعفة الأجر وغيرها من الأحكام، وإن كان الأجر يتفاوت بتفاوت أداء الصلاة في الصف الأول عن أدائها في الصف الثاني وهكذا إن شاء الله.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(17/69)
فتوى برقم 2009 في 8 \ 7 \ 1398 هـ
السؤال: الطالب الذي يدرس بالولايات المتحدة وبرنامج الدراسة ليس فيه وقت للصلاة، وأداء صلاة الجمعة بالنسبة لوقت الولايات المتحدة الساعة الواحدة والنصف، ويضطرون إلى تأخيرها إلى الساعة الرابعة لظروف برنامج الدراسة، فهل يجوز تأخيرها إلى ذلك الوقت؟
الجواب: الصلوات الخمس فرضت في أوقات معينة من الشارع الحكيم، لا يجوز تأخيرها عنها، فإذا كان تأخير الصلاة لعذر لا يفوت وقتها الذي فرضت فيه جاز التأخير، وإذا كان يفوته حرم، وإذا كان الاستمرار في الدراسة يخرج الصلاة عن وقتها لم يجز للدارس فعل ذلك، ويجب عليه أن يصليها في وقتها والجمعة آخر وقتها هو آخر وقت الظهر فلا يجوز أن تؤخر عنه بحال.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(17/69)
فتوى برقم 2014 في 8 \ 7 \ 1398هـ
السؤال: هل كانت المساجد في عهد رسول الله تقفل في الليل ويخرج منها المسلمون الذين جاءوا لزيارة الأماكن المقدسة، وينامون حول سور المسجد من الخارج أم لا؟
الجواب: لم تكن المساجد تقفل في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما علمنا، وكانت غير مفروشة، وكان الناس أتقى لله من أن يفسدوا فيها أو يقذروها، فلما فرشت المساجد ووجد فيها ما يخاف عليه من السراق، وكثر جهل الناس وحصل من بعضهم الفساد في المساجد جاز لولي الأمر قفل ما يراه منها إذا رأى المصلحة في ذلك صيانة لها وحفاظا على ما يوجد فيها، وحماية لها من إفساد السفهاء.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(17/70)
فتوى برقم 2016 في 2 \ 1 \ 1396 هـ
السؤال: في بعض البلاد الإسلامية حينما يفرغ الإمام من صلاة الفجر يقول الإمام والمأمومون الصلاة والسلام عليك يا رسول الله بالجهر بالهيئة الجماعية عدة مرات، ويلومون من لم يشترك معهم فما الحكم؟
الجواب: الأصل في العبادات التوقيف، فلا يجوز لأحد أن يتعبد بما لم يشرعه الله لقوله سبحانه {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (1) الآية.
__________
(1) سورة الشورى الآية 21(17/70)
ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » رواه البخاري ومسلم، وفي لفظ لمسلم «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » . والصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - من أفضل العبادات ولكنها بالهيئة والطريقة التي ذكرت في السؤال لم يعملها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا خلفاؤه الراشدون ولا بقية أصحابه رضي الله عنهم بعد صلاتهم لا الفجر ولا غيرها والخير كله في اتباعهم وبذلك يعلم أن هذا العمل بدعه فلا يجوز فعله ولا المشاركة فيه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: في حديث العرباض بن سارية «إنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (3) » . والأحاديث في التحذير من البدع كثيرة ونسأل الله لنا ولكم ولجميع المسلمين العافية من البدع ومضلات الفتن.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(3) سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(17/71)
فتوى برقم 2015 في 8 \ 7 \ 1398 هـ
السؤال: ما حكم إلقاء الوعظ والإرشاد يوم الجمعة قبل أداء صلاة الجمعة؟
الجواب: لا ينبغي إلقاء المواعظ والدروس يوم الجمعة قبل الجمعة لما روى أبو داود والنسائي والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن التحلق قبل صلاة الجمعة (1) » ، والتحلق التجمع للعلم والمذاكرة، ولما في ذلك من شغل المتجمعين لصلاة الجمعة عن الذكر والتلاوة
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (322) ، سنن النسائي المساجد (714) ، سنن أبو داود الصلاة (1079) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (749) ، مسند أحمد بن حنبل (2/179) .(17/71)
وصلاة النافلة وتهيئة الصفوف وإعداد النفوس لاستماع الخطبة والإصغاء إليها التي أمر الله بها على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم.
والدروس والمواعظ قبلها. إذا كثرت وتوالت قد تقلل من شأنها وأثرها في النفوس، وذلك مناف للحكمة التي شرعت من أجلها، ولأن فيها إذا اعتني بها واختير لها من يصلي ما يفيد ويغني عن مواعظ ودروس تلقى بين يديها، وأيضا ما كان عليه الصلاة والسلام ولا خلفاؤه يفعلون ذلك، والخير في اتباع هديه - صلى الله عليه وسلم - وهدي خلفائه الراشدين - رضوان الله عليهم - وذلك فيما يكثر ويغلب، أما إذا دعت الحاجة لإيضاح وبيان أمر يهم المسلمين أو له علاقة بصلاة الجمعة أو خطبتها ونحو ذلك، ونبه عليه دون أن يكون له صفة الاستمرار والتوالي فلا بأس في ذلك إن شاء الله. وبالله التوفيق.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(17/72)
فتوى برقم 2037 في 8 \ 2 \ 1396 هـ
السؤال: كم عدد ركعات صلاة الجمعة بالنسبة لمن فاتته الجماعة وكم عددها بالنسبة للنساء في بيوتهن؟
الجواب: جمهور العلماء على أن من فاتته صلاة الجمعة في الجماعة يجب عليه أن يصليها ظهرا أربع ركعات إن كان مقيما، وركعتين إن كان مسافرا سفر قصر ويسر فيها بالقراءة على كل حال؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان بعرفة يوم الجمعة في حجة الوداع صلى بالناس ظهرا ولم يصل بهم جمعة، وأسر بالقراءة فيها.(17/72)
أما النساء فلا يجب عليهن صلاة جمعة عند جمهور العلماء، بل تجب عليهن صلاة الظهر يوم الجمعة؛ لأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمرهن بصلاة الجمعة، لكن إن حضرن صلاة الجمعة مع الجماعة أجزأتهن عن صلاة الظهر.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(17/73)
فتوى برقم 2065 في 26 \ 8 \ 1398 هـ
السؤال: شخص يسافر في بعض الأيام مثلا مسافة مائتي كيلو متر فهل يجوز له القصر والجمع والإفطار؟
الجواب: المسافة التي ذكرت مسافة قصر يجوز للمسافر فيها القصر والجمع والفطر للأدلة الدالة على مشروعية ذلك في السفر.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(17/73)
فتوى برقم 2098 في 18 \ 9 \ 1398 هـ
السؤال: شخص يسأل عن بعض الأدعية المستحبة في صلاة الوتر في شهر رمضان فما هي؟
الجواب: علم النبي - صلى الله عليه وسلم - الحسن بن علي - رضي الله عنهما - كلمات يقولهن في قنوت الوتر وذلك فيما رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه عن الحسن بن علي - عليه السلام - «قال: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمات أقولهن في قنوت الوتر اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت (1) » . ولأي مسلم أن يزيد على ذلك من الأدعية ما شاء.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (464) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1746) ، سنن أبو داود الصلاة (1425) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1178) ، مسند أحمد بن حنبل (1/199) ، سنن الدارمي الصلاة (1591) .(17/74)
فتوى برقم 1759 وتاريخ 29 \ 21 \ 1397 هـ
السؤال: ما حكم الصلاة مع الراديو أو آلة من الآلات المتصلة بالإذاعة التي يسمعونها من الراديو وهم في أبعد مكان، وهل يجوز للرجل أن يغسل من محارمه غير زوجته؟ ثم يقول السائل إنه وجد ابن حزم(17/74)
يقول: إن المؤمنين يأخذون كتابهم بأيمانهم والكفار يأخذون كتابهم بشمالهم، والمؤمنين من أهل الكبائر يأخذون كتابهم من وراء ظهورهم فهل هذا صحيح أم لا؟
الجواب: إن نصوص الكتاب والسنة قد دلت على وجوب بأداء الصلوات الخمس في جماعة. قال الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (1) الآية. فأمر سبحانه بأداء فريضة الصلاة جماعة في أحرج الأوقات، ورخص في ترك بعض أركانها محافظة على صلاتها في جماعة، فدل ذلك على وجوب الجماعة، ودل على وجوبها جماعة في المسجد حديث هم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحرق على قوم يتخلفون عن أدائها جماعة في بيوتهم، لكن حال دون التنفيذ ما في البيوت من النساء والذرية ممن لا يجب عليهم حضور الجماعة بالمسجد، وإذا ينبغي عمارة المسجد بها ويؤيد ذلك عموم قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} (2) {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (3) وعموم قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (4) {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} (5) الآيتين فبين سبحانه أن عمارة المساجد ببنائها وإعلاء شأنها وذكر الله فيها عموما وأداء الصلوات فيها خصوصا من سمات المؤمنين وحثهم على ذلك ووعدهم عليه الثواب الجزيل وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله الرجل المعلق قلبه بالمساجد. وثبت في الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل أعمى فقال يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرخص له
__________
(1) سورة النساء الآية 102
(2) سورة التوبة الآية 17
(3) سورة التوبة الآية 18
(4) سورة النور الآية 36
(5) سورة النور الآية 37(17/75)
فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه فقال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم. قال: فأجب (1) » . .
وثبت فيه أيضا عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم - صلى الله عليه وسلم - سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم، كما يصلي هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف.
وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعا وعشرين درجة (2) » وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة لا يريد إلا الصلاة فلم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، حتى يدخل المسجد، فإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه، والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه، يقولون اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم تب عليه ما لم يحدث، وثبت في صحيح مسلم عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: «كان رجل من الأنصار بيته أقصى بيت في المدينة فكان لا تخطئه الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فتوجعنا له، فقلت له يا فلان لو أنك اشتريت حمارا يقيك من الرمضاء، ويقيك من هوام الأرض، قال أما والله ما أحب أن بيتي مطنب ببيت محمد - صلى الله عليه وسلم - قال فحملت به حملا حتى أتيت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، قال فدعاه فقال له مثل ذلك، وذكر له أنه يرجو في أثره الأجر فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لك ما احتسبت (3) » .
وثبت عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: «خلت البقاع حول
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (653) ، سنن النسائي الإمامة (850) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2119) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (649) ، سنن الترمذي الصلاة (216) ، سنن أبو داود الصلاة (559) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (786) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، موطأ مالك النداء للصلاة (385) ، سنن الدارمي الصلاة (1276) .
(3) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (663) ، سنن أبو داود الصلاة (557) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (783) ، مسند أحمد بن حنبل (5/133) ، سنن الدارمي الصلاة (1284) .(17/76)
المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد، قالوا نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك، فقال يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم (1) » إلى غير ذلك مما في معنى هذه الأحاديث، فإنها تدل على أنه ليس المقصود الأمر بمطلق أداء الصلاة جماعة فقط، بل الأمر بأدائها جماعة في المسجد إقامة لهذه الشعيرة في بيوت الله، وتنزها عن صفات المنافقين في التخلف عنها، ورجاء المثوبة والأجر والمغفرة من الذنوب ورفع الدرجات بما يمشيه إلى بيت الله تعالى من الخطوات، وتعرضا لدعوات الملائكة له بالرحمة والمغفرة، مادام في مصلاه لا يمنعه من انصرافه منها إلا انتظاره للصلاة، ومن صلى في بيته أو مزرعته أو متجره جماعة مع إمام المسجد على صوت المذياع مثلا، وتخلف عن شهود الجماعة في بيت الله، دل ذلك على فتوره، وعن امتثاله أوامر الشريعة وصدوده وعزوف نفسه عما يضاعف له به الحسنات، ويرفعه الله به إلى أعلى الدرجات، ويغفر له به السيئات، وخالف الأوامر الدالة على وجوب أدائها في المساجد، واستحق الوعيد الذي توعد به المتخلفون عن شهود الجماعة في المساجد. ثم إنه قد تقع صلاته على أحوال لا تصح معها صلاته عند جماعة من الفقهاء مثل كونه منفردا خلف الصف مع إمكان دخوله في صف لو كان بالمسجد، وكونه أمام الإمام وقد يعرض ما لا يمكنه معه الاقتداء بالإمام كخلل في جهاز الاستقبال أو الإرسال أو انقطاع التيار الكهربائي وهو في أمن من هذا الوصل في مكان يرى فيه الإمام والمأمومين بهذا، نرى أنه لا يجوز أن يصلي في بيته منفردا أوفى جماعة مستقلة عن جماعة المسجد أو مقتديا بإمام المسجد عن طريق الإذاعة.
ولا يجوز للرجل أن يغسل غير زوجته من الإناث، سواء كن محارم أو أجنبيات، إلا جارية صغيرة ماتت دون سبع سنوات فله أن يغسلها، وعلى هذا إن ماتت امرأة بين رجال فقط يممت، تغليبا لجانب المحافظة على عورتها فإن
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (665) ، مسند أحمد بن حنبل (3/333) .(17/77)
الغالب على من يباشر تغسيل الميت ولو بصب الماء عليه أن يقع بصره على شيء من عورته، وأن يمسه ويقلبه ليتمكن من تعميم الماء على جسده، فكان التيمم لمن ماتت وليس معها إلا رجال أحفظ لعورتها، وأحوط لصيانتها، ويلحق بزوجته في جواز تغسيلها جاريته التي ملكها ملكا شرعيا إذا توفت وهي مباحة له، بأن لم تكن في عصمة زوج حين وفاتها أو عدتها منه.
أما مذهب أهل السنة والجماعة أنه من مات على الإيمان يتناول كتابه بيمينه ولو كان مرتكبا للكبائر، وأن من مات على الكفر والعياذ بالله يتناول كتابه بشماله من وراء ظهره، وهو بذلك يمثل هيئة الفاتر المتألم الكاره لما يتناوله، ولكن لا بد من تناوله، وهذا هو الذي دلت عليه النصوص، فإنها لم يذكر فيها بالنسبة لتناول الكتاب إلا مؤمن ولو مطلق الإيمان، وكافر وإن اختلف نوع كفره، أو تفاوتت درجته، وقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} (1) {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} (2) الآيات. . هي في الكافر كفرا يخرج من ملة الإسلام، لخبر الله عنه بأنه لا يؤمن بالآخرة في قوله سبحانه آخر هذه الآيات {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} (3) أي يرجع إلى ربه للحساب والجزاء، ولا منافاة بين خبر الله تعالى عن الكافر مرة بأنه يؤتى كتابه من وراء ظهره، وأخرى بأنه يؤتى كتابه بشماله، لإمكان الجمع بينهما بأخذه كتاب عمله بشماله من وراء ظهره كما تقدم، فإحدى الآيتين في بيان العضو الذي يتناول صحيفة العمل، والأخرى في صفة التناول وهيئته، وما ذكرته عن ابن حزم من تناول مرتكبي الكبائر من المؤمنين كتاب أعمالهم من وراء ظهورهم، فنقلك عنه صحيح، لكن قوله - رحمه الله في ذلك غير صحيح لما تقدم، فالصحيح ما تقدم وهو مذهب أهل السنة.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الانشقاق الآية 10
(2) سورة الانشقاق الآية 11
(3) سورة الانشقاق الآية 14(17/78)
حكم إخراج الأرز في زكاة الفطر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: - فقد كثر السؤال عن إخراج الأرز في زكاة الفطر. . والجواب: قد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه فرض زكاة الفطر على المسلمين صاعا من تمر أو صاعا من شعير، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة - أعني صلاة العيد - وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: «كنا نعطيها في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - صاعا من طعام أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب (1) » . . وقد فسر جمع من أهل العلم الطعام في هذا الحديث بأنه البر، وفسره آخرون بأن المقصود بالطعام ما يقتاته أهل البلاد أيا كان، سواء كان برا أو ذرة أو دخنا أو غير ذلك، وهذا هو الصواب لأن الزكاة مواساة من الأغنياء إلى الفقراء، ولا يجب على المسلم أن يواسى من غير قوت بلده. . ولاشك أن الأرز قوت في المملكة وطعام طيب ونفيس، وهو أفضل من الشعير الذي جاء النص بإجزائه، وبذلك يعلم أنه لا حرج في إخراج الأرز في زكاة الفطر. . والواجب صاع من جميع الأجناس وهو أربع حفنات باليدين المعتدلتين الممتلئتين كما في القاموس وغيره، وهو بالوزن يقارب ثلاثة كيلو جرام، فإذا أخرج المسلم صاعا من الأرز أو غيره من قوت بلده أجزأه ذلك، وإن كان من غير الأصناف المذكورة في الحديث في أصح قولي العلماء، ولا بأس أن يخرج مقداره بالوزن وهو ثلاثة كيلو تقريبا. . والواجب إخراج زكاة الفطر عن الصغير والكبير والذكر والأنثى والحر والمملوك من المسلمين، أما الحمل فلا يجب إخراجها عنه إجماعا ولكن يستحب لفعل عثمان - رضي الله عنه - والواجب أيضا إخراجها قبل صلاة العيد، ولا يجوز
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1508) ، صحيح مسلم الزكاة (985) ، سنن الترمذي الزكاة (673) ، سنن النسائي الزكاة (2513) ، سنن أبو داود الزكاة (1616) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1829) ، مسند أحمد بن حنبل (3/98) ، موطأ مالك الزكاة (628) ، سنن الدارمي الزكاة (1664) .(17/79)
تأخيرها إلى ما بعد صلاة العيد، ولا مانع من إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين. . وبذلك يعلم أن أول وقت لإخراجها في أصح أقوال العلماء هي ليلة ثمان وعشرين؛ لأن الشهر يكون تسعا وعشرين ويكون ثلاثين، وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرجونها قبل العيد بيوم أو يومين. ومصرفها الفقراء والمساكين وقد ثبت عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات (1) » . . ولا يجوز إخراج القيمة عند جمهور أهل العلم، وهو الأصح دليلا، بل الواجب إخراجها من الطعام كما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - وجمهور الأمة والله المسئول أن يوفقنا والمسلمين جميعا للفقه في دينه، والثبات عليه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا أنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن أبو داود الزكاة (1609) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1827) .(17/80)
حول الشهادتين
معناهما
وما تستلزمه كل منهما
للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
الحمد لله المتفرد بالكمال المتوحد بصفات الجلال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعالى عن الأنداد والأمثال، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي فضله ربه لما تميز به من شريف الخصال - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه أهل الاتباع والامتثال.
أما بعد فحيث إن التلفظ بالشهادتين والعمل بمقتضاهما هو الركن الأساسي للدين الإسلامي، وحيث إن جماهير أمة الدعوة يجهلون ما يراد بهما، ويعتقدون أن المراد مجرد النطق بهما دون معرفة وعمل، وأن هناك من يفسرهما بما يخالف معناهما، لذا فقد أحببت أن أكتب بحثا حول ذلك؛ رجاء أن يستفيد منه من له قصد حسن ممن أراد الله به خيرا، وذلك يتضمن مباحث.(17/81)
المبحث الأول
في فضل هاتين الشهادتين
يجد القارئ في كتب الحديث والسنة كثيرا وكثيرا من أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - تتضمن فضل هاتين الشهادتين، والبشارة لمن أتى بهما بالجنة(17/81)
والرضوان، والسعادة والنجاة من عذاب الله وسخطه (1) . فمن ذلك حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل (2) » متفق عليه. وفي رواية «أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية يشاء (3) » وفي صحيح مسلم وغيره عن عثمان - رضي الله عنه - مرفوعا «من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة (4) » . وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. . . «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة (5) » وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله حرم الله عليه النار (6) » وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ بن جبل: «ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار (7) » . وعن عتبان بن مالك - رضي الله عنه - في حديثه الطويل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبغي بذلك وجه الله (8) » . وكل هذه النصوص في الصحيحين أو أحدهما، ودلالتهما ظاهرة على فضل الإتيان بهاتين الكلمتين حيث رتب على ذلك دخول الجنة وفتح أبوابها الثمانية، والتحريم على النار، وورد أيضا ترتب العتق من النار على ذلك فقال - صلى الله عليه وسلم - «من قال حين يصبح أو يمسى: اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك، وأنبياءك وملائكتك وجميع خلقك بأنك أنت الله
__________
(1) انظر في ذلك كتاب الإيمان أول صحيح مسلم، وكتاب التوحيد أخر صحيح البخاري وغيرهما
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3435) ، صحيح مسلم الإيمان (28) ، سنن الترمذي الإيمان (2638) ، مسند أحمد بن حنبل (5/318) .
(3) هو في صحيح البخاري برقم 3435 وصحيح مسلم 1 \ 226 بشرح النووي.
(4) انظر صحيح مسلم بشرح النووي 1 \ 217.
(5) رواه مسلم في صحيحه 1 \ 221 بشرح النووي.
(6) هو في صحيح مسلم 1 \ 227 وغيره.
(7) هو في صحيح مسلم 1 \ 240
(8) هو في صحيح مسلم 1 \ 242.(17/82)
لا إله إلا أنت، وأن محمدا عبدك ورسولك. أعتق الله ربعه من النار، فمن قاله مرتين أعتق الله نصفه من النار، ومن قالها ثلاثا أعتق الله ثلاثة أرباعه من النار، ومن قالها أربعا أعتقه الله من النار (1) » رواه الترمذي وأبو داود عن أنس - رضي الله عنه - وورد أيضا في فضل هذه الكلمة أنها ترجح بالسيئات بل بجميع المخلوقات إلا ما شاء الله، فروى ابن حبان والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا رب كل عبادك يقولون هذا» . وفي رواية قال: «لا إله إلا أنت إنما أريد شيئا تخصني به. قال: يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله (2) » . وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن نوحا - عليه السلام - قال لابنه عند موته: آمرك بلا إله إلا الله فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ولا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة لفصمتهن لا إله إلا الله (3) » وروى الترمذي وغيره عن عبد الله بن عمرو حديث صاحب البطاقة الذي يدعى يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلا- يعني من السيئات- ثم يخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة (4) فأنت ترى هذه النصوص الصحيحة قد أفادت النجاة والفوز لأهل هذه الكلمة، ولكن لا بد من تحقيقها، والعمل بمقتضاها، فإن هذه الأدلة المطلقة تحمل على الأخرى التي قيد فيها الإتيان بالشهادتين بالإخلاص والصدق. . . الخ لتكون بذلك مؤثرة في العمل والسلوك.
__________
(1) انظر سنن الترمذي مع تحفة الأحوذي 9 \ 472. وسنن أبي داود برقم 5069 واللفظ له.
(2) هو في موارد الظمآن برقم 2324 ومستدرك الحاكم 1 \ 128.
(3) هو في مسند أحمد تحقيق أحمد شاكر برقم 6583 وكذا رواه الحاكم 1 \ 48 وصححه ووافقه الذهبي.
(4) هو في سنن الترمذي مع التحفة 7 \ 395 وكذا رواه أحمد في المسند 2 \ 312 وابن ماجه برقم 4300.(17/83)
المبحث الثاني
القتال على الشهادتين ووجوب الإتيان بهما
في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. فمن قال: لا إله إلا الله عصم منى ماله ونفسه إلا بحقهما وحسابه على الله عز وجل (1) » وفي رواية لمسلم «حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به (2) » . وفي الصحيحين عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله (3) » . وفي الصحيح عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أمرت أن أقاتل الناس- يعني المشركين- حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها (4) » والأحاديث في هذا كثيرة، وهكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتقبل كل فرد أسلم بعد أن يتكلم بالشهادتين فقد ذكر المؤرخون في قصة إسلام أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - أنه قال: «أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: السلام عليك يا رسول الله، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. قال فرأيت الاستبشار في وجهه (5) » . وذكروا «عن خالد بن الوليد أنه قدم المدينة للإسلام فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فسلمت عليه وقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال: الحمد لله الذي هداك (6) » وكذا قصه إسلام خالد بن سعيد بن العاص - رضي الله عنه - أنه «لقي
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1400) ، صحيح مسلم الإيمان (20) ، سنن الترمذي الإيمان (2607) ، سنن النسائي الجهاد (3092) ، سنن أبو داود الزكاة (1556) ، مسند أحمد بن حنبل (1/19) .
(2) هو في البخاري برقم 2946 مسلم مع النووي 1 \ 210
(3) انظر صحيح البخاري مع فتح الباري برقم 25 وصحيح مع شرح النووي 1 \ 211.
(4) هو في صحيح البخاري مع الشرح برقم 392.
(5) ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 3 \ 34.
(6) انظر سيرة ابن هشام مع الروض الأنف 6 \ 363 والبداية والنهاية 4 \ 238(17/84)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال إلام تدعو؟ قال أدعوك إلى الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يضر ولا ينفع، ولا يدرى من عبده ممن لا يعبده قال خالد: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله (1) » . فهذه القصص ونحوها تفيد أن النطق بالشهادتين شرط لقبول الإسلام، فمن أتى بهما دخل في هذا الدين، وعصم بذلك دمه وماله وحرم قتله، وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على أسامة لما قتل من تلفظ بهذه الكلمة، ففي صحيح مسلم وغيره عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه في سرية قال: فأدركت رجلا فقال: لا إله إلا الله، فطعنته، فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أقال لا إله إلا الله وقتلته؟ قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح. قال: أفلا شققت عن قلبه (2) » وفي حديث جندب البجلي في الصحيح «أن أسامة قال: يا رسول الله أوجع في المسلمين وقتل فلانا وفلانا، وإني حملت عليه فلما رأى السيف قال لا إله إلا الله. قال: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيمة (3) » وفي حديث ابن عباس «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذا إلى اليمن قال له فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله (4) » متفق عليه، وفي المعنى أحاديث كثيرة تفيد أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكتفي من أهل زمانه بهاتين الشهادتين، وأن من أتى بهما وعمل بمدلولهما، والتزم بما تستلزمه كل منهما من الطاعة لله ورسوله وجميع أنواع العبادة، فيوحد الله عز وجل، ويتخلى عن العادات الشركية، ويأخذ ذلك من معنى قوله لا إله إلا الله، كما يلتزم طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتباعه بمجرد قوله: محمد رسول الله وما ذاك إلا أن القوم إذ ذاك كانوا عربا فصحاء يعرفون ويفهمون معنى الشهادة، ومعنى " الإله " وما في هذه الكلمة من النفي والإثبات، فلا جرم اقتصر على تلقينهم هذه الكلمة، وذلك أن من شرط نجاة من تلفظ بهذه الشهادة أن يكون عالما بمعناها
__________
(1) البداية والنهاية 3 \ 32.
(2) كما في صحيح مسلم مع الشرح 2 \ 99
(3) هو أيضا في صحيح مسلم مع الشرح 2 \ 100
(4) رواه البخاري برقم 1395 ومسلم مع الشرح 1 \ 195(17/85)
عاملا بمقتضاها ظاهرا وباطنا قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (1) وقال عز وجل: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (2) ونحو ذلك من الآيات التي تبين أنه يشترط العلم بمعناها وعلى هذا فيجب الكف عن من أتى بالشهادتين ظاهرا من المشركين، ويحقن بذلك دمه حتى يختبر وينظر في أمره بعد ذلك، فإن استقام على الدين والتزم بالتوحيد، وعمل بتعاليم الإسلام، فهو مسلم له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، وإن خالف مقتضى ما شهد به أو ترك بعض ما كلف به جحدا وإنكارا، أو استباح المحرمات المعلوم بالضرورة تحريمها، لم تعصمه هذه الكلمة، وهذا هو الواقع في الكثير من أهل هذا الزمان من علماء وعامة جهلة أو مقلدة، حيث إن الكثير من العوام في هذه القرون المتأخرة قد فسدت عقائدهم، ونشؤوا على جهالة بالدين، وبمدلول الشهادتين، بل بمعاني اللغة العربية كلها، فلا جرم أصبح الجمهور منهم لا يفهمون معنى الشهادتين، ويقعون في ما يناقضهما صريحا، ويكتفون بمجرد التلفظ بهما معتقدين أن الأجر والحسنات وعصمة الدم والمال تحصل بترديد هذه الأحرف الجوفاء، دون معرفة لمعانيها ولا عمل بمقتضاها، لذلك نحن بحاجة إلى الكلام على معاني هاتين الشهادتين؛ لإقامة الحجة على من خالف ذلك معنى، واكتفى بالتلفظ، بهما وزعم أنه بذلك مسلم كامل التوحيد.
__________
(1) سورة محمد الآية 19
(2) سورة الزخرف الآية 86(17/86)
المبحث الثالث
في معنى كلمة لا إله إلا الله
لقد عني أئمة الدعوة - رحمهم الله - ببيان معنى كلمة التوحيد، فأفردها الشيخ محمد بن عبد الوهاب برسالة في جواب سؤال، وتكلم عليها في كشف الشبهات وغيره، وتعرض لها شراح كتاب التوحيد وغيرهم، وإليك ما ذكره الشيخ سليمان بن عبد الله في تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد ص 53 حيث يقول: ومعنى لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا إله واحد، وهو الله وحده لا شريك(17/86)
له كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (1) مع قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (2) فصح أن معنى الإله هو المعبود، ولهذا لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لكفار قريش قولوا لا إله إلا الله قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (3) وقال قوم هود: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} (4) وهو إنما دعاهم إلى لا إله إلا الله، فهذا هو معنى لا إله إلا الله، وهو عبادة الله وترك عبادة ما سواه، وهو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فتضمنت هذه الكلمة العظيمة أن ما سوى الله ليس بإله، وأن إلهية ما سواه من أبطل الباطل، وإثباتها أظلم الظلم، فلا يستحق العبادة سواه، كما لا تصلح الإلهية لغيره، فتضمنت نفي الإلهية عما سواه، وإثباتها له وحده لا شريك له، وذلك يستلزم الأمر باتخاذه إلها وحده، والنهي عن اتخاذ غيره معه إلها، وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي والإثبات، كما إذا رأيت رجلا يستفتي أو يستشهد من ليس أهلا لذلك، ويدع من هو أهل له، فتقول هذا ليس بمفت ولا شاهد، المفتى فلان والشاهد فلان، فإن هذا أمر منه ونهي، وقد دخل في الإلهية جميع أنواع العبادة الصادرة عن تأله القلب لله بالحب والخضوع، والانقياد له وحده لا شريك له، فيجب إفراد الله تعالى بها كالدعاء والخوف والمحبة، والتوكل والإنابة والتوبة والذبح والنذر والسجود، وجميع أنواع العبادة، فيجب صرف جميع ذلك لله وحده لا شريك له، فمن صرف شيئا مما لا يصلح إلا لله من العبادات لغير الله فهو مشرك ولو نطق بـ لا إله إلا الله، إذ لم يعمل بما تقتضيه من التوحيد والإخلاص.
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 25
(2) سورة النحل الآية 36
(3) سورة ص الآية 5
(4) سورة الأعراف الآية 70(17/87)
ذكر نصوص العلماء في معنى الإله:
قال ابن عباس - رضي الله عنه -: الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم (1) ، وقال الوزير أبو المظفر في " الإفصاح " قوله: شهادة أن لا إله إلا الله، يقتضي أن يكون الشاهد عالما بأن: لا إله إلا الله، كما قال الله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (2) وينبغي أن يكون الناطق بها شاهدا فيها، فقد قال الله - عز وجل - ما أوضح به أن الشاهد بالحق إذا لم لكن عالما بما شهد به، فإنه غير بالغ من الصدق به مع من شهد من ذلك بما يعلمه في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (3) قال: واسم الله تعالى مرتفع بعد (إلا) من حيث إنه الواجب له الإلهية، فلا يستحقها غيره سبحانه، قال: واقتضى الإقرار بها أن تعلم أن كل ما فيه أمارة للحدث، فإنه لا يكون إلها، فإذا قلت لا إله إلا الله، فقد اشتمل نطقك هذا على أن ما سوى الله ليس بإله، فيلزمك إفراده سبحانه بذلك وحده. قال: وجملة الفائدة في ذلك أن تعلم أن هذه الكلمة هي مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فإنك لما نفيت الإلهية وأثبت الإيجاب لله سبحانه، كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله. وقال أبو عبد الله القرطبي في التفسير: لا إله إلا هو، أي: لا معبود إلا هو. وقال الزمخشري: الإله من أسماء الأجناس- كالرجل والفرس- اسم يقع على كل معبود بحق أو بباطل، ثم غلب على المعبود بحق.
وقال شيخ الإسلام: الإله هو المعبود المطاع: وقال أيضا: في لا إله إلا الله إثبات انفراده بالإلهية، والإلهية تتضمن كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته، ففيها إثبات إحسانه إلى العباد، فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن
__________
(1) ذكره ابن كثير في التفسير أول سورة الفاتحة
(2) سورة محمد الآية 19
(3) سورة الزخرف الآية 86(17/88)
يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع. وقال ابن القيم - رحمه الله -: الإله هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالا، وإنابة وإكراما وتعظيما وذلا وخضوعا، وخوفا ورجاء وتوكلا.
وقال ابن رجب - رحمه الله -: الإله هو الذي يطاع فلا يعصى، هيبة له وإجلالا ومحبة وخوفا ورجاء وتوكلا عليه، وسؤالا منه ودعاء له، ولا يصلح ذلك كله إلا لله - عز وجل - فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحا في إخلاصه في قول: لا إله إلا الله، ونقصا في توحيده، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك، وهذا كله من فروع الشرك.
وقال البقاعي: لا إله إلا الله، أي انتفى انتفاء عظيما أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما يكون علما إذا كان نافعا، وإنما يكون نافعا إذا كان الإذعان والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف.
وقال الطبي: الإله فعال بمعنى مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب، من أله إلاهة، أي عبد عبادة وهذا كثير جدا في كلام العلماء، وهو إجماع منهم أن الإله هو المعبود، خلافا لما يعتقده عباد القبور وأشباههم في معنى الإله أنه الخالق، أو القادر على الاختراع، أو نحو هذه العبارات، ويظنون أنهم إذا قالوها بهذا المعنى فقد أتوا من التوحيد بالغاية القصوى، ولو فعلوا ما فعلوا من عبادة غير الله، كدعاء الأموات، والاستغاثة بهم في الكربات، وسؤالهم قضاء الحاجات، والنذر لهم في الملمات، وسؤالهم الشفاعة عند رب الأرض والسماوات، إلى غير ذلك من أنواع العبادات، وما شعروا أن إخوانهم من كفار العرب يشاركونهم في هذا الإقرار، ويعرفون أن الله هو الخالق القادر على الاختراع، ويعبدونه بأنواع من العبادات فليهن أبا جهل وأبا لهب ومن تبعهما الإسلام بحكم عباد القبور، وليهن أيضا إخوانهم عباد ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، إذ جعل هؤلاء دينهم هو الإسلام المبرور، ولو كان معناها ما زعمه هؤلاء الجهال، لم يكن بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبينهم نزاع، بل كانوا يبادرون إلى إجابته، ويلبون دعوته،(17/89)
إذ يقول لهم: قولوا: لا إله إلا الله؛ بمعنى أنه لا قادر على الاختراع إلا الله. فكانوا يقولون: سمعنا وأطعنا قال الله تعالى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (1) {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} (2) {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} (3) إلى غير ذلك من الآيات، لكن القوم أهل اللسان العربي، فعلموا أنها تهدم عليهم دعاء الأموات والأصنام من الأساس، وتكب بناء سؤال الشفاعة من غير الله، وصرف الإلهية لغير، لأم الرأس، فقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (4) {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (5) {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (6) فتبا لمن كان أبو جهل ورأس الكفر من قريش وغيرهم أعلم منه بلا إله إلا الله. قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (7) {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (8) فعرفوا أنها تقتضي ترك عبادة ما سوى الله، وإفراد الله بالعبادة، وهكذا يقول عباد القبور إذا طلبت منهم إخلاص الدعوة والعبادة لله وحده: أنترك سادتنا وشفعاءنا في قضاء حوائجنا. فيقال لهم: نعم وهذا الترك والإخلاص هو الحق، كما قال تعالى: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} (9) فلا إله إلا الله اشتملت على نفي وإثبات، فنفت الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى، فكل ما سواه من الملائكة والأنبياء فضلا عن غيرهم فليس بإله، ولا
__________
(1) سورة الزخرف الآية 87
(2) سورة الزخرف الآية 9
(3) سورة يونس الآية 31
(4) سورة الزمر الآية 3
(5) سورة يونس الآية 18
(6) سورة ص الآية 5
(7) سورة الصافات الآية 35
(8) سورة الصافات الآية 36
(9) سورة الصافات الآية 37(17/90)
له من العبادة شيء، وأثبتت الإلهية لله وحده، بمعنى أن العبد لا يأله غيره، أي لا يقصده بشيء من التأله، وهو تعلق القلب الذي يوجب قصده بشيء من أنواع العبادة، كالدعاء والذبح والنذر وغير ذلك، وبالجملة فلا يأله إلا الله أي لا يعبد إلا هو، فمن قال هذه الكلمة عارفا لمعناها، عاملا بمقتضاها، من نفي الشرك وإثبات الوحدانية لله مع الاعتقاد الجازم لما تضمنته من ذلك والعمل به، فهذا هو المسلم حقا، فإن عمل به ظاهرا من غير اعتقاد فهو المنافق، وإن عمل بخلافها من الشرك فهو الكافر ولو قالها، ألا ترى أن المنافقين يعملون بها ظاهرا وهم في الدرك الأسفل من النار، واليهود يقولها وهم على ما هم عليه من الشرك والكفر، فلم تنفعهم، وكذلك من ارتد عن الإسلام بإنكار شيء من لوازمها وحقوقها فإنها لا تنفعه، ولو قالها مائة ألف، فكذلك من يقولها ممن يصرف أنواع العبادة لغير الله، كعباد القبور والأصنام فلا تنفعهم ولا يدخلون في الحديث الذي جاء في فضلها، وما أشبهه من الأحاديث، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله (وحده لا شريك له) تنبيها على أن الإنسان قد يقولها وهو مشرك، كاليهود والمنافقين وعباد القبور، لما رأوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا قومه إلى قول لا إله إلا الله، ظنوا أنه إنما دعاهم إلى النطق بها فقط، وهذا جهل عظيم، وهو - عليه السلام - إنما دعاهم إليها ليقولوها ويعملوا بمعناها، ويتركوا عبادة غير الله، ولهذا قالوا: {أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (1) وقالوا {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} (2) فلهذا أبوا عن النطق بها، وإلا فلو قالوها وبقوا على عبادة اللات والعزى ومناة لم يكونوا مسلمين، ولقاتلهم عليه السلام حتى يخلعوا الأنداد ويتركوا عبادتها، ويعبدوا الله وحده لا شريك له، وهذا أمر معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة والإجماع، وأما عباد القبور فلم يعرفوا معنى هذه الكلمة، ولا عرفوا الإلهية المنفية عن غير الله الثابتة له وحده لا شريك له، بل لم يعرفوا من معناه إلا ما أقر به المؤمن والكافر، واجتمع عليه الخلق كلهم من أن معناها لا قادر على الاختراع، أو أن معناها الإله، هو الغني عما سواه، الفقير إليه كل ما عداه ونحو
__________
(1) سورة الصافات الآية 36
(2) سورة ص الآية 5(17/91)
ذلك، فهذا حق وهو من لوازم الإلهية، ولكن ليس هو المراد بمعنى لا إله إلا الله، فإن هذا القدر قد عرفه الكفار، وأقروا به ولم يدعوا في آلهتهم شيئا من ذلك، بل يقرون بفقرهم، وحاجتهم إلى الله، وإنما كانوا يعبدونهم على معنى أنهم وسائط وشفعاء عند الله في تحصيل المطالب، ونجاح المآرب، وإلا فقد سلموا الخلق والملك والرزق والإحياء والإماتة، والأمر كله لله وحده لا شريك له، وقد عرفوا معنى لا إله إلا الله، وأبوا عن النطق والعمل بها، فلم ينفعهم توحيد الربوبية مع الشرك في الإلهية، كما قال تعالى {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (1) وعباد القبور نطقوا بها وجهلوا معناها وأبوا عن الإتيان به، فصاروا كاليهود الذين يقولونها ولا يعرفون معناها ولا يعملون به، فتجد أحدهم يقولها وهو يأله غير الله بالحب والإجلال والتعظيم، والخوف والرجاء والتوكل والدعاء عند الكرب، ويقصده بأنواع العبادة الصادرة عن تأله قلبه لغير الله مما هو أعظم مما يفعله المشركون الأولون، ولهذا إذا توجهت على أحدهم اليمين بالله تعالى أعطاك ما شئت من الأيمان صادقا أو كاذبا، ولو قيل له: احلف بحياة الشيخ فلان أو بتربته ونحو ذلك، لم يحلف إن كان كاذبا، وما ذاك إلا لأن المدفون في التراب أعظم في قلبه من رب الأرباب، وما كان الأولون هكذا بل كانوا إذا أرادوا التشديد في اليمين حلفوا بالله تعالى، كما قي قصة القسامة التي وقعت في الجاهلية، وهي في صحيح البخاري وكثير منهم أو أكثرهم يرى أن الاستغاثة بإلهه الذي يعبده عند قبره أو غيره أنفع وأنجح من الاستغاثة بالله في المسجد، ويصرحون بذلك والحكايات عنهم بذلك فيها طول، وهذا أمر ما بلغ إليه شرك الأولين، وكلهم إذا أصابتهم الشدائد أخلصوا للمدفونين في التراب، وهتفوا بأسمائهم ودعوهم ليكشفوا ضر المصاب، في البر والبحر والسفر والإياب، وهذا أمر ما فعله الأولون، بل هم في هذه الحال يخلصون للكبير المتعال، فاقرأ قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (2) الآية
__________
(1) سورة يوسف الآية 106
(2) سورة العنكبوت الآية 65(17/92)
وقوله {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (1) {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} (2) وكثير منهم قد عطلوا المساجد، وعمروا القبور والمشاهد، فإذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه أخذ في دعاء صاحبه باكيا خاشعا ذليلا خاضعا، بحيث لا يحصل له ذلك في الجمعة والجماعات، وقيام الليل وأدبار الصلوات، فيسألونهم مغفرة الذنوب، وتفريج الكروب، والنجاة من النار، وأن يحطوا عنهم الأوزار، فكيف يظن عاقل فضلا عن عالم أن التلفظ بلا إله إلا الله مع هذه الأمور تنفعهم، وهم إنما قالوها بألسنتهم، وخالفوها باعتقادهم وأعمالهم، ولا ريب أنه لو قالها أحد من المشركين ونطق أيضا بشهادة أن محمدا رسول الله ولم يعرف معنى الإله، ولا معنى الرسول، وصلى وصام وحج ولا يدري ما ذلك إلا أنه رأى الناس يفعلونه فتابعهم، ولم يفعل شيئا من الشرك، فإنه لا يشك أحد في عدم إسلامه، وقد أفتى بذلك فقهاء المغرب كلهم في أول القرن الحادي عشر أو قبله في شخص كان كذلك كما ذكره صاحب (الدر الثمين، في شرح المرشد المعين) من المالكية، ثم قال شارحه: وهذا الذي أفتوا به جلي في غاية الجلاء، لا يمكن أن يختلف فيه اثنان انتهى، ولا ريب أن عبادة القبور أشد من هذا، لأنهم اعتقدوا الإلهية في أرباب متفرقين فإن قيل: قد تبين معنى الإله والإلهية، فما الجواب عن قول من قال: بأن معنى الإله القادر على الاختراع ونحو هذه العبارة؟ قيل: الجواب من وجهين: أحدهما أن هذا قول مبتدع، لا يعرف أحد قاله من العلماء ولا من أئمة اللغة، وكلام العلماء وأئمة اللغة هو معنى ما ذكرنا كما تقدم، فيكون هذا القول باطلا. الثاني: على تقدير تسليمه فهو تفسير باللازم للإله الحق، فإن اللازم له أن يكون خالقا قادرا على الاختراع، ومتى لم يكن كذلك، فليس بإله حق وإن سمى إلها، وليس مراده أن من عرف أن الإله هو القادر على الاختراع فقد دخل في الإسلام، وأتى بتحقيق المرام، من مفتاح دار السلام، فإن هذا لا يقوله
__________
(1) سورة النحل الآية 53
(2) سورة النحل الآية 54(17/93)
أحد، لأنه يستلزم أن يكون كفار العرب مسلمين، ولو قدر أن بعض المتأخرين أرادوا ذلك فهو مخطئ يرد عليه بالدلائل السمعية والعقلية. انتهى.(17/94)
المبحث الرابع
معنى شهادة أن محمدا رسول الله
لما كانت كلمة الشهادة علما على النطق بالشهادتين معا، وكانتا متلازمتين لا تنفك إحداهما عن الأخرى، كان من الواجب على من أتى بكل منهما أن يعرف ما تدل عليه الكلمة، ويعتقد ذلك المعنى، ويطبقه في سيرته ونهجه، فبعد أن عرفت أن ليس المراد من لا إله إلا الله مجرد التلفظ بها، فكذلك يقال في قرينتها، بل لا بد من التصديق بها والالتزام بمعناها ومقتضاها، وهو الاعتقاد الجازم بأنه - صلى الله عليه وسلم - مرسل من ربه عز وجل، قد حمله الله هذه الشريعة كرسالة، وكلفه بتبليغها إلى الأمة، وفرض على جميع الأمة تقبل رسالته والسير على نهجه، والبحث في ذلك يحتاج إلى معرفة أمور يحصل بها التأثر والتحقق لأداء هذه الشهادة والانتفاع بها.(17/94)
الأمر الأول: أهلية النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه الرسالة.
قال الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} (1) وقال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (2) وقال تعالى: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} (3) ونحو هذه الآيات التي تفيدنا بأن رسل الله من البشر الذين فضلهم واجتباهم وطهرهم، حتى أصبحوا أهلا لحمل رسالته، وأمناء على شرعه ودينه، ووسطاء بينه وبين عباده، وقد ذكر الله عن بعض الأمم المكذبة للرسل أنهم قالوا لرسلهم
__________
(1) سورة القصص الآية 68
(2) سورة الأنعام الآية 124
(3) سورة ص الآية 47(17/94)
{إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} (1) فكان جواب الرسل أن قالوا {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (2) وحيث إن نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم الرسل وأفضلهم، وقد خصه بما لم يحصل لغيره ممن قبله، فإنه بلا شك على جانب كبير من هذا الاصطفاء والاختيار الذي أصبح به مرسلا إلى عموم الخلق من الجن والإنس، وقد قال الله تعالى له: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (3) وفي صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان خلقه القرآن (4) » تعني أنه يطبق ما فيه من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال التي يشهد بحسنها وملاءمتها كل عاقل، فلقد كان قبل نزول الوحي عليه على جانب كبير عن الأمانة والصدق والوفاء والعفاف ونحوها حتى كان أهل مكة يعرفونه بالصادق الأمين، وقد تضاعفت وتمكنت فيه تلك الأخلاق بعد النبوة، فكان يتحلى بأعظم درجات الكرم والجود والحلم والصبر، والمروءة والشكر، والعدل والنزاهة، والتواضع والشجاعة. . . الخ، كما يوجد ذلك مدونا بأمثلة رائعة في كتب السيرة والتأريخ، ولا يخالف في ذلك إلا من أنكر المحسوسات. وهكذا كان - صلى الله عليه وسلم - مبرءا عن النقائص ومساوئ الأخلاق التي تزيل الحشمة، وتسقط المروءة، وتلحق بفاعلها الإزراء والخسة، كالبخل والشح، والظلم والجور، والكبر والكذب، والجبن والعجز والكسل، والسرقة والخيانة ونحوها.
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 10
(2) سورة إبراهيم الآية 11
(3) سورة القلم الآية 4
(4) انظر صحيح مسلم مع النووي 6 \ 25 في حديث طويل.(17/95)
الأمر الثاني: عصمته من الخطايا
اتفقت الأمة على أن الأنبياء معصومون من كبائر الذنوب، لمنافاتها للاجتباء والاصطفاء، ولأن الله حملهم رسالته إلى البشر، فلا بد أن يكونوا قدوة لأممهم، وكلفهم أن يحذروا الناس من مفارقة الكفر والذنوب، والفسوق والمعاصي، فلو وقع منهم ظاهرا شيء من هذه الخطايا لتسلط أعداؤهم بذلك على القدح فيهم،(17/95)
والطعن في شريعتهم، وذلك ينافي حكمة الله تعالى، فكان من رحمته أن حفظهم من فعل شيء من هذه المخالفات، وكلفهم بالنهي عنها، وبيان سؤ مغبتها، كما جعلهم قدوة وأسوة في الزهد والتقلل من شهوات الدنيا التي تشغل عن الدار الآخرة، فأما صغائر الذنوب فقد تقع من أحدهم على وجه الاجتهاد، ولكن لا يقرون عليها، فلا تكون قادحة في العدالة، ولا منافية للنبوة، وإنما هي أمارة على أنهم بشر لم يصل أحدهم إلى علم الغيب، ولا يصلح أن يمنح شيء من صفات الربوبية. وقد ذكر المفسرون وأهل العلم بعضا مما وقع من ذلك، كقوله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (1) وقوله {كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} (2) {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} (3) ونحو تلك الوقائع إلى فعلها اجتهادا لما يؤمله من مصلحة ظاهره علم الله تعالى أنها لا تتحقق، فأما المعاصي والذنوب فإن الله تعالى حماه من فعلها أو إقرارها لمنافاة ذلك لصفات الرسالة والاختيار، ولمخالفة ما ورد عنه من التحذير عن الكفر والفسوق والعصيان، فأما تبليغ ما أوصي إليه من الشرع فقد ذكر العلماء المحققون اتفاق الأمة على عصمته بل وعصمة الأنبياء فيما يبلغونه عن الله تعالى من الوحي والتشريع بل إن الله جل ذكره قد عصمه قبل النبوة عن الشرك والخنا ونحو ذلك. فقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به. . . وما هممت بسوء حتى أكرمني الله برسالته» ذكره القاضي عياض في كتاب الشفا (4) وغيره، وقال ابن إسحاق في السيرة: فشب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكلؤه الله ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية ومعائبها، لما يريد به من كرامته ورسالته وهو على دين قومه، حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم مخالطة، وأحسنهم جوالا، وأعظمهم خلقا، وأصدقهم أمانة وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال تنزها
__________
(1) سورة الأنعام الآية 52
(2) سورة الإسراء الآية 73
(3) سورة الإسراء الآية 74
(4) انظر كتاب الشفاء 1 \ 100.(17/96)
وتكرما، حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين، لما جمع الله به في صغره وأمر جاهليته. (1)
__________
(1) من السيرة مع الروض الأنف 2 \ 219.(17/97)
الأمر الثالث: عموم رسالته.
اختص محمد - صلى الله عليه وسلم - دون الأنبياء بخصائص كثيرة ذكر بعضها في حديث جابر المتفق عليه بقوله: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة (1) » وقال - صلى الله عليه وسلم -: «بعثت إلى الأسود والأحمر (2) » رواه مسلم وعلى هذا فإن على جميع البشر أن يتبعوه ويطيعوه، فإنهم جميعا من أمته أمة الدعوة، وقد قال الله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (3) أي للناس كافة وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (4) وقد وردت الخطابات في القرآن لعموم الناس كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (5) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ} (6) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} (7) فالإشارة إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به من ربه، فهذه النصوص تبين أن جميع البشر مكلفون باتباع رسالته، وملزمون بطاعته، وقد اشتهر أيضا
__________
(1) هو في صحيح البخاري برقم 335 وصحيح مسلم 5 \ 3.
(2) هو في صحيحه مع شرح النووي 5 \ 3.
(3) سورة سبأ الآية 28
(4) سورة الأعراف الآية 158
(5) سورة البقرة الآية 21
(6) سورة النساء الآية 170
(7) سورة النساء الآية 174(17/97)
أنه - صلى الله عليه وسلم - مبعوث إلى الجن كما بعث إلى الإنس، واستدل لذلك بقوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} (1) إلى قوله: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَءَامِنُوا بِهِ} (2) الآيات وكذا قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} (3) {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} (4) وقد زعم اليهود والنصارى لعنهم الله أن رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة بالعرب، وذلك بعد أن اطمأنوا إلى صحة رسالته، وما تأيد به من المعجزات، وما حصل له من الأتباع، فلم يجدوا بدا من التصديق بأنه مرسل من ربه، ولكن حملهم الكبر وحب المناصب والمكاسب على ترك اتباعه، وقد اعترفوا بأن ما أنزل إليه فهو وحي من الله تعالى لصدقه وصحة رسالته، ومع ذلك لم يتقبلوا ما فيه من الأوامر الموجهة إليهم كقوله تعالى: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} (5) {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (6) ونحو ذلك من الآيات.
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 29
(2) سورة الأحقاف الآية 31
(3) سورة الجن الآية 1
(4) سورة الجن الآية 2
(5) سورة البقرة الآية 41
(6) سورة البقرة الآية 42(17/98)
الأمر الرابع: تبليغه الرسالة:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (1) وهذا تكليف من ربه تعالى، فلا بد من حصوله مع أن هذا هو وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - من جملتهم، وقد قال تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} (2)
__________
(1) سورة المائدة الآية 67
(2) سورة الشورى الآية 48(17/98)
وقال: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (1) وقد شهد له صحابته - رضي الله عنهم - بهذا البلاغ والبيان، فيقول أبو ذر - رضي الله عنه -: " توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما طائر يقلب جناحيه إلا ذكر لنا منه علما " (2) . وروى أحمد وابن ماجه عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك (3) » وفي صحيح مسلم وغيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شرما يعلمه لهم (4) » وقد اشتهر أنه - صلى الله عليه وسلم - بدأ بدعوة أهل بلده وقومه، ثم بدعوة العرب في أنحاء الجزيرة، ثم بمن وراءهم، فكان يرسل الرسل إلى القبائل في البوادي والقرى للدعوة إلى الله وقبول هذه الرسالة، ثم بعث الدعاة إلى اليمن والبحرين وغيرهما، ثم بعث كتبا تتضمن الدعوة إلى هذه الشريعة إلى ملوك الفرس والروم وغيرهم، فما توفي حتى انتشرت دعوته، واشتهر أمره عند القريب والبعيد {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} (5) وهكذا قام صحابته من بعده بالدعوة إلى دينه، وقتال من أبى وامتنع من قبولها، حتى يدخل في الإسلام أو يعطي الجزية، ويلتزم الذل والصغار، حتى بلغت هذه الدعوة أقطار الأرض في أقصر مدة، كما ذكر في كتب التاريخ، ومع ذلك فإن من كان نائيا في طرف البلاد وقدر أنه لم يسمع بهذه الشريعة أصلا فإن له حكم أهل الفترات، وهو مع ذلك مكلف بأن يبحث وينقب عن الدين الذي خلق له وما يدين به الناس حوله.
__________
(1) سورة النور الآية 54
(2) ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في أول الحموية وهو في مسند أحمد 5 \ 263 وغيره
(3) هو في سنن ابن ماجه برقم 5 ومسند أحمد 4 \ 126. عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه.
(4) هو في صحيح مسلم مع الشرح 12 \ 232 مطولا.
(5) سورة النحل الآية 36(17/99)
الأمر الخامس: ختم النبوة:
لما كانت هذه الشريعة لجميع الخلق، وقد كلف بها جميع العباد في أقطار البلاد، فإنما ذلك لكونها خاتمة الشرائع، وآخر الرسالات المنزلة من السماء، فيجب علينا الإيمان بأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء وآخر الرسل، قال الله تعالى {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (1) وقد قرئ بفتح التاء وكسرها، وأصل الخاتم ما يختم به ما قبله، ومنه ما تختم به الرسائل حتى لا يضاف إليها شيء ليس منها، والمعنى أنه - صلى الله عليه وسلم - آخر الأنبياء الذين أرسلهم الله إلى الخلق، فيلزم من كونه خاتم الأنبياء أن يكون آخر الرسل، وقد روى مسلم وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين (2) » وروى مسلم أيضا عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي (3) » وفي سنن أبي داود وغيره في حديث ثوبان الطويل قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي (4) » فيجب الإيمان بأنه - صلى الله عليه وسلم - آخر الأنبياء وأن من ادعى النبوة بعده فهو كاذب، وأن عيسى ابن مريم - عليه السلام - حين ينزل في آخر الزمان إنما يحكم بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو كفرد من أفراد هذه الأمة، وإن كان ينزل عليه الوحي، لكنه لا يخرج عن هذا الشرع الشريف، وعلى هذا فكل من زعم النبوة، أو ادعى الرسالة في هذه الأمة فهو كذاب أفاك
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 40
(2) هو في صحيح مسلم مع الشرح 15 \ 51
(3) هو أيضا في صحيح مسلم مع الشرح 15 \ 104
(4) انظر سنن أبي داود برقم 4252.(17/100)
ضال مضل، ولو أتى بمخرفة أو شعوذة، ولو سحر أعين الناس بأنواع من السحر والبهرج الذي يروج على الرعاع والجهلة من العوام، كما جرى على يدي الأسود العنسي ومسلمة الكذاب، من الأحوال الشيطانية، والترهات الباطلة التي يعلم كذبها كل ذي عقل سليم، وكذلك غيرهما ممن ادعى النبوة وحصل له أتباع وشوكة، وفتن به بعض الناس، ومن آخر هم غلام أحمد القاديانى الذي انتشر شره وفتن بشبهته طوائف وأمم في الهند والسند، وكثير من البلاد، وهكذا كل مدع للنبوة إلى يوم القيمة، وآخرهم الدجال الكذاب الذي وردت السنة بأمره وبيان فتنته والتحذير من شره، وقد قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} (1) {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} (2) فهذا يدل على أن أولئك الكذابين تنزل عليهم الشياطين، وتخيل إليهم إنما يأتيهم وحي من الله، ولكن سنة الله في خلقه أن يجعل على الحق نورا، وأن الخرافات والأكاذيب لا بد وأن ينكشف أمرها، وبتجلي لأولى الألباب.
__________
(1) سورة الشعراء الآية 221
(2) سورة الشعراء الآية 222(17/101)
الأمر السادس: واجب الأمة نحوه:
وبعد أن عرفنا صدقه - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به، وصحة رسالته، ووجوب تصديقه، وذلك هو مدلول شهادة أن محمدا رسول الله، التي تستلزم تصديقه ثم التعبد باتباعه، والإيمان بما يترتب على ذلك من الثواب، وعلى تركه من العقاب، فإن من واجبنا أن نقوم بتحقيق ذلك وتطبيقه في واقع الحياة، وذلك يتمثل في أوامر وردت أدلتها في الكتاب والسنة.
ا- فمنها الإيمان به - صلى الله عليه وسلم - فقد أمر الله بذلك كما أمر بالإيمان بالله والملائكة والكتب، ورتب الله تعالى على ذلك جزيل الثواب، وعلى تركه أليم العقاب، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} (1)
__________
(1) سورة النساء الآية 136(17/101)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} (1) وقال سبحانه: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} (2) وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} (3) وقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} (4) وغيرها من الآيات في هذا المعنى، وروى مسلم وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به (5) » وفسر - صلى الله عليه وسلم - الإيمان في حديث جبريل المشهور بقوله: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره (6) » ولا شك أن الإيمان به - صلى الله عليه وسلم - يستلزم تصديقه فيما جاء به، واعتقاد صحة رسالته، ذلك أن أصل الإيمان يقين القلب واطمئنانه بصحة الشيء، ثم التكلم به عن معرفة وإيمان، ثم تطبيق ذلك بالعمل بمقتضاه فباجتماع ذلك يتم الإيمان، ويعتبر وسيلة للنجاة. وبتخلف تصديق القلب يبطل أثر الشهادة ولا تنفع قائلها. ولهذا كذب الله المنافقين بقوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (7) 2 - ومن ذلك الأمر بطاعته - صلى الله عليه وسلم - والتحذير من معصيته، ولا شك أن طاعته من علامات الإيمان به، فإن التصديق الجازم بصدقه لتستلزم طاعته فيما بلغه عن الله تعالى، فمن خالفه في ذلك أو شيء منه عنادا أو تهاونا لم
__________
(1) سورة الحديد الآية 28
(2) سورة التغابن الآية 8
(3) سورة الأعراف الآية 158
(4) سورة الفتح الآية 13
(5) صحيح مسلم في شرح النووي 1 \ 210.
(6) رواه البخاري برقم 50 مسلم 1 \ 161 عن أبي هريرة.
(7) سورة المنافقون الآية 1(17/102)
يكن صادقا في شهادته له بالرسالة، ولقد أمر الله تعالى بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مواضع كثيرة من القرآن، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (1) وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (2) وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (3) ومثل معنى ذلك قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (4) بل قد رتب على طاعته - صلى الله عليه وسلم - جزيل الثواب فقال تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (5) وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (6) وهكذا توعد على معصيته بالعقوبة الشديدة، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (7) {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (8) وحكى عن أهل النار قولهم: {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} (9) وورد في الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله (10) » ومعنى
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة المائدة الآية 92
(3) سورة النور الآية 54
(4) سورة الحشر الآية 7
(5) سورة النور الآية 56
(6) سورة الأحزاب الآية 71
(7) سورة النساء الآية 13
(8) سورة النساء الآية 14
(9) سورة الأحزاب الآية 66
(10) رواه البخاري برقم 7137 وغيره(17/103)
هذا أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما يأمر بما أوحي إليه، فطاعته في ذلك طاعة لربه، قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (1) وروى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل الناس يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله وكيف يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى (2) » ولا شك أن طاعته هي فعل ما أمر به، وتجنب ما نهى عنه، والتسليم مع ذلك لما جاء به، والرضى بحكمه وترك الاعتراض على شرعه أو التعقب والانتقاد لحكمه.
3 - ومن ذلك أمر الأمة باتباعه والاقتداء بسنته، وقد رتب الله على ذلك الاهتداء والمغفرة، وجعله علامة على صدق المحبة لله تعالى، قال عز وجل: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (3) ولما ادعى اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحبابه أنزل آية المحنة، وهي قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (5) وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (6) ولا شك أن مما يجب على العباد محبة ربهم الذي خلقهم وأنعم عليهم، ولكن حصول هذه المحبة وقبولها متوقف على اتباع هذه النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - فقد جعل الله من ثواب اتباعه محبة الله تعالى لمن اتبعه ومغفرته له، ولكن علامة هذا الاتباع تقليده - صلى الله عليه وسلم - والسير على نهجه، والاقتداء به في سيرته وأعماله وقرباته، وتجنب كل ما نهى عنه، والحذر من مخالفته التي نهايتها
__________
(1) سورة النساء الآية 80
(2) هو في صحيح البخاري برقم 7280.
(3) سورة الأعراف الآية 158
(4) سورة آل عمران الآية 31
(5) سورة آل عمران الآية 32
(6) سورة الأحزاب الآية 21(17/104)
الخروج عن التأسي به، كما ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا فمن رغب عن سنتي فليس مني (1) » 4 - ومن ذلك محبته الصادقة بالقلب والقالب، بل تقديمها على ما سواها قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (2) فانظر كيف وبخهم على تقديم شيء من هذه الأصناف الثمانية التي تميل إليها النفس عادة وتؤثر الحياة لأجلها على محبة الله ومحبة رسوله، وتوعدهم بقوله (فتربصوا) . . الخ أي انتظروا أمر الله وهو أثر سخطه وغضبه، بما ينزله من العقوبة، وفي ذلك أبلغ دليل على وجوب محبة الله تعالى ومحبة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقد أكد ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في سنته كقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله رسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار (3) » متفق عليه وفي الصحيحين أيضا عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين (4) » ولما قال له عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي قال: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال - رضي الله عنه - والله لأنت أحب إلى من كل شيء حتى من نفسي. فقال: الآن يا عمر (5) » رواه البخاري (6) ، وقد ورد في الحديث أن من ثواب محبته - صلى الله عليه وسلم - الاجتماع معه في الآخرة، وذلك لما «سأله رجل عن الساعة فقال: ما
__________
(1) رواه البخاري برقم 5063 وغيره عن أنس
(2) سورة التوبة الآية 24
(3) هو في صحيح البخاري 16 مسلم 2 \ 13.
(4) رواه البخاري برقم 15 ومسلم 2 \ 15.
(5) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6632) ، مسند أحمد بن حنبل (5/293) .
(6) هو في صحيح البخاري برقم 6632.(17/105)
أعددت لها؟ قال ما أعددت لها إلا حب الله ورسوله. فقال أنت مع من أحببت (1) » وفي الصحيحين عن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المرء مع من أحب (2) » وكفي بذلك ثوابا وأجرا لهذه المحبة، ولكن المحبة الصادقة تستلزم الاقتداء به والتأدب بآدابه، وتقديم سنته على رضى كل أحد، وتستلزم أيضا محبة من يحبه ويواليه، وبغض من يبغضه ويعاديه، ولو كان أقرب قريب، فمن استكمل ذلك فقد صدق في هذه المحبة، ومن خالفه أو نقص شيئا من ذلك نقصت محبته بقدر ذلك.
5 - ومن ذلك احترامه - صلى الله عليه وسلم - وتوقيه وتعزيره كما ذكر في قوله تعالى:. {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} (3) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (4) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} (5) {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} (6) فنهاهم عن التقدم بين يديه برأي أو نظر يخالف ما جاء به، ونهاهم عن رفع الصوت بحضرته، أو الجهر له بالقول بدون مبرر، وتوعدهم على ذلك بحبوط العمل، وقال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} (7) أي لا تنادوه باسمه العلم كما يدعو أحدكم الآخر، ولكن ادعوه بما تميز به بأن تقولوا: يا نبي الله أو يا رسول الله. وما ذاك إلا لما خصه الله به من الفضل والرفعة، وفي تعزيره وتوقيره واحترامه تعظيم لسنته، ورفع لقدرها في نفوس أتباعه، مما يحصل به اتباعه وامتثال أمره وتجنب نهيه.
__________
(1) رواه البخاري برقم 7153 وغيره عن أنس - رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري برقم 6168 ومسلم 16 \ 188.
(3) سورة الفتح الآية 9
(4) سورة الحجرات الآية 1
(5) سورة الحجرات الآية 2
(6) سورة الحجرات الآية 3
(7) سورة النور الآية 63(17/106)
قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (1) وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) وأجمعت الأمة أن الرد والتحاكم بعده يكون إلى سنته، ففي هذه الآيات أعظم برهان على تحريم مخالفته، ومنع الاستبدال بسنته، فانظر كيف حذر الذين يخالفون عن أمره بالفتنة وهي الشرك أو الزيغ، وبالعذاب الأليم، وكيف أقسم على نفي الإيمان عنهم حتى يحكموه في كل نزاع يحدث بينهم، ويسلموا لقضائه، ولا يبقى في نفوسهم أي حرج أو تعنت مما قضي به بينهم، وكفى ذلك وعيدا وتهديدا لمن ترك سنته بعد معرفة حكمها تهاونا واستخفافا، واعتاض عنها بالعادات والآراء والقوانين الوضعية ونحوها.
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة النور الآية 63
(3) سورة النساء الآية 65(17/107)
الأمر السابع: الاقتصاد والتوسط في حقه - صلى الله عليه وسلم -:
جرت سنة الله في خلقه بوقوع الإفراط أو التفريط، وأن كل أمة يقع منهم في الغالب غلو أو تقصير، لذلك حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته المتبعين له من الغلو في حقه وإعطائه شيئا من خالص حق الله تعالى، ويتبين ذلك بما يأتي.
1 - أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يخرج عن كونه بشرا، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (1) فبين أنه اختص بالوحي إليه فقط، وقال تعالى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} (2) وذلك لما طلب منه المشركون أن يفجر الأرض أو يسقط السماء عليهم. . الخ، فبين لهم أن الذي يملك ذلك هو ربه وحده، فأما هو فإنما تميز بالرسالة
__________
(1) سورة الكهف الآية 110
(2) سورة الإسراء الآية 93(17/107)
التي حمله الله إياها، وقد حكى الله عن الأمم السابقة طعنهم في رسالة الرسل بأنهم بمثر، كما في قوله تعالى عن قوم هود أو صالح: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} (1) {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} (2) وحكى عن المكذبين لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أنهم قالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} (3) أي يسعى للتكسب وطلب الرزق، فأجاب عن ذلك بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} (4) أي ليسوا ملائكة فإن البشر لا يتمكنون عادة من رؤية الملائكة بل لو أرسل الله ملكا لما تمكنوا من مشاهدته حتى يتمثل في صورة إنسان فيقع الاشتباه، قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} (5) ولما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - السهو في الصلاة ولم يذكروه ظنا منهم أن الصلاة قد قصرت فقال: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني (6) » متفق عليه ومتى كان الرسل بشرا فلا يناسب إعطاءهم شيئا من حق الله من صفة أو عمل.
2 - أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم الغيب، وإنما يخبر بما أخبره الله به وأوحاه إليه، قال الله تعالى: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} (7) وقال تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} (8) وقال تعالى: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (9)
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 33
(2) سورة المؤمنون الآية 34
(3) سورة الفرقان الآية 7
(4) سورة الفرقان الآية 20
(5) سورة الأنعام الآية 9
(6) هو في صحيح البخاري برقم 401 ومسلم 5 \ 61 عن ابن مسعود.
(7) سورة الأنعام الآية 50
(8) سورة الأحقاف الآية 9
(9) سورة الأعراف الآية 188(17/108)
فالغيب لا يعلمه إلا الله تعالى وإنما يظهر بعض خلقه على شيء من ذلك كمعجزة وبرهان على صدقه كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} (1) {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} (2) أي أنه تعالى يطلع من ارتضاه وهم رسله على أمور من الغيب مما سبق أو مما يأتي، ولا ينافي ذلك قوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (3) فإن ما وقع من الإخبار في الأحاديث عن الأمور المستقبلة هو من الوحي الذي اطلع الله عليه رسوله - صلى الله عليه وسلم - بواسطة الرسول الملكي، أو بما فتح الله عليه وألهمه، ومتى كان هذا وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن قبله من الرسل، لم يصلح أن يصرف لهم شيء من حق الله الذي هو عبادته وحده، ولا أن يوصفوا بما اختص به الرب تعالى، فقد أنكر - صلى الله عليه وسلم - على الجاريتين اللتين عند الربيع بنت مسعود قولهما: وفينا نبي يعلم ما في غد، رواه الترمذي (4) وقالت عائشة - رضي الله عنه -: من حدثك أن محمدا يعلم ما في غد فلا تصدقه رواه البخاري (5) وورد في «حديث جبريل - عليه السلام - لما سأل عن الساعة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، وسأحدثك عن أماراتها إذا ولدت الأمة ربها، وإذا رأيت الحفاة العراة رعاة الشاة يتطاولون في البنيان، وفي خمس لا يعلمهن إلا الله ثم قرأ (7) » متفق عليه وهذه الخمس يعني مفاتح الغيب المذكورة في قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (8) فمن ادعى العلم بشيء منها أو نسبه إلى بشر فهو كاذب.
__________
(1) سورة الجن الآية 26
(2) سورة الجن الآية 27
(3) سورة النمل الآية 65
(4) هو في سنن الترمذي مع تحفه الأحوذي 4 \ 211 وصححه.
(5) هو في صحيح البخاري مع الشرح برقم 4855.
(6) هو في صحيح البخاري برقم 50 وصحيح مسلم 1 \ 161.
(7) سورة لقمان الآية 34 (6) {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}
(8) سورة الأنعام الآية 59(17/109)
3 - أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يملك الضر ولا النفع لنفسه فضلا عن غيره، قال الله تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} (1) وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} (2) وما ذاك إلا أن الملك لله وحده، فهو الذي بيده النفع والضر والعطاء والمنع، وهو مالك الملك، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، أما الخلق كلهم بما فيهم الأنبياء فإنهم مملوكون، يعمهم قول الله تعالى: {لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} (3) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية بعد هذه الآية: نفي الله عما سواه كلما يتعلق به المشركون، فنفي أن يكون لغيه ملك أو قسط منه أو يكون عونا لله. . الخ وقد قال تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} (4) وذلك حين أن شج النبي - صلى الله عليه وسلم - في وقعة أحد وكسرت رباعيته، فقال: «كيف يفلح قوم شجوا نبيهم (5) » أو كان ذلك لما قنت عليه الصلاة والسلام يدعو على بعض المشركين بمكة، فأنكر الله عليه، وأخبره بأن الأمر كله لله وحده ليس لك منه شيء (6) وثبت في الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - أنذر عشيرته وأقاربه وقال لهم: «أنقذوا أنفسكم من النار لا أغني عنكم من الله شيئا (7) » حتى قال ذلك لعمه وعمته وابنته، وفي رواية «اشتروا أنفسكم (8) » أي بتوحيد الله وإخلاص العبادة له، وطاعته فيما أمر والانتهاء عما عنه زجر، فإن في ذلك إنقاذ من النار، دون الاعتماد على النسب والقرابة، فدفع بذلك ما يتوهمه بعضهم من أنه يغنى عن أقاربه ويشفع لهم، وهذا الوهم قد سرى وتمكن في نفوس الجمع الغفير، فتراهم يعتمدون على مجرد الانتساب إلى قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعدونه شرفا، ظانين أن النجاة والشفاعة تحصل لهم بدون عمل، بل
__________
(1) سورة الأعراف الآية 188
(2) سورة الجن الآية 21
(3) سورة سبأ الآية 22
(4) سورة آل عمران الآية 128
(5) رواه مسلم 149 \ 12 وغيره عن أنس.
(6) رواه البخاري برقم 4069 وغيره عن ابن عمر - رضي الله عنه -.
(7) صحيح البخاري الوصايا (2753) ، صحيح مسلم الإيمان (204) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3185) ، سنن النسائي الوصايا (3644) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) ، سنن الدارمي الرقاق (2732) .
(8) رواه البخاري برقم 4771 ومسلم 3 \ 79.(17/110)
إنهم يخالفون سنته، ويعصون الله ورسوله علنا، كما أن هناك آخرون يتعلقون بحبه المزعوم دون اتباعه وطاعته، ويعتقدون أنه يشفع لهم بمجرد تلك المحبة الوهمية، رغم مخالفة مدلول المحبة من تقليده والسير على نهجه، فإذا كان هو - صلى الله عليه وسلم - لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ولا يدفع الضر والعذاب عن نفسه لو عصاه كما قال تعالى: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} (1) فكيف بغيره من قريب أو بعيد، وقد بين عليه الصلاة والسلام لأقاربه أنه لا ينجيهم من عذاب الله ولا يدخلهم الجنة ولا يقربهم إلى الله، وإنما أعمالهم هي التي تنقذهم من النار. وثبت في الصحيح «أنه - صلى الله عليه وسلم - حاول هداية عمه أبي طالب فلم يقدر على ذلك، فلما حضرته الوفاة جاءه فقال له: يا عم قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله فلقنه جلساء السوء الحجة الشيطانية، فكان آخر كلامه: هو على ملة عبد المطلب (2) » . ونزل في ذلك قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (3) ففي هذه القصة أعظم ما يبطل شبهة المشركين الذين يغلون في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسألونه تفريج الكروب، وغفران الذنوب، ويهتفون باسمه عند الشدائد بقولهم: " يا رسول الله ". ونحو ذلك، فإذا كان هو عليه الصلاة والسلام أفضل الخلق وأقربهم من الله، وأعظمهم عنده جاها، ومع ذلك حرص على هداية عمه أبي طالب في حياته وعند وفاته فلم يستطع ذلك، لأن الله تعالى كتب عليه الشقاء، وقد عزم على الاستغفار له. فنهاه الله عن ذلك بقوله. {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (4) ففي ذلك دليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يملك لغيره نفعا ولا يدفع عنه ضرا، ولو دعاه ورجاه وهتف باسمه، ولو زعم أنه يحبه حبا شديدا، فلو كان عند
__________
(1) سورة الجن الآية 22
(2) صحيح البخاري المناقب (3884) ، صحيح مسلم الإيمان (24) ، سنن النسائي الجنائز (2035) ، مسند أحمد بن حنبل (5/433) .
(3) سورة القصص الآية 56
(4) سورة التوبة الآية 113(17/111)
النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء من هداية القلوب أو تفريج الكربات، لكان أولى الناس بذلك عمه الكبير الذي كفله وحماه، وحال بينه وبين أذى المشركين، فإذا لم يقدر على هدايته ونجاته فغيره بطريق الأولى.
4 - عبوديته - صلى الله عليه وسلم - شرف وفضيلة، فقد ثبت في الصحيحين عن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله (1) » يقول الشيخ سليمان بن عبد الله - رحمه الله - على هذا الحديث في شرح التوحيد ص 272: قوله «إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله (2) » أي: لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى فادعوا فيه الربوبية، وإنما أنا عبد الله، فصفوني بذلك كما وصفني به ربي، وقولوا عبد الله ورسوله، فأبى عباد القبور إلا مخالفة لأمره، وارتكابا لنهيه، وناقضوه أعظم المناقضة، وظنوا أنهم إذا وصفوه بأنه عبد الله ورسوله، وأنه لا يدعى ولا يستعان به، ولا ينذر له، ولا يطاف بحجرته، وأنه ليس له من الأمر شيء، ولا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله أن في ذلك هضما لجنابه، وغضا من قدره، فرفعوه فوق منزلته، وادعوا فيه ما ادعت النصارى في عيسى أو قريبا منه، فسألوه مغفرة الذنوب، وتفريج الكروب. وقد ذكر شيخ الإسلام في كتاب " الاستغاثة " عن بعض أهل زمانه أنه جوز الاستغاثة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يستغاث فيه بالله، وصنف فيه مصنفا. وكان يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله. وحكي عن آخر من جنسه يباشر التدريس، وينسب إلى الفتيا أنه كان يقول: " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم ما يعلمه الله، ويقدر على ما يقدر الله عليه، وأن هذا السر انتقل بعده إلى الحسن، ثم انتقل إلى ذرية الحسن، إلى أبي الحسن الشاذلي، وقالوا: هذا مقام القطب الغوث الفرد الجامع، ومن هؤلاء من يقول في قول الله تعالى: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (3) إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يسبح بكرة وأصيلا، ومنهم من يقول: نحن نعبد الله ورسوله. فيجعلون الرسول
__________
(1) رواه البخاري برقم 3445.
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3445) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) .
(3) سورة الأحزاب الآية 42(17/112)
معبودا. قلت: وقال البوصيري:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
فجعل الدنيا والآخرة من جوده، وجزم بأنه يعلم ما في اللوح المحفوظ، وهذا هو الذي حكاه شيخ الإسلام عن ذلك المدرس، وكل ذلك كفر صريح. ومن العجب أن الشيطان أظهر لهم ذلك في صورة محبته - عليه السلام - وتعظيمه ومتابعته، وهذا شأن اللعين لا بد وأن يمزج الحق بالباطل ليروج على أشباه الأنعام أتباع كل ناعق، الذين لم يستضيفوا بنور العلم، ولم يلجوا إلى ركن وثيق، لأن هذا ليس بتعظيم، فإن التعظيم محله القلب واللسان والجوارح، وهم أبعد الناس منه، فإن التعظيم بالقلب: ما يتبع اعتقاد كونه عبدا رسولا، من تقديم محبته على النفس والوالد والناس أجمعين، ويصدق هذه المحبة أمران: أحدهما تجريد التوحيد، فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان أحرص الخلق على تجريده، حتى قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات، حتى «قال له رجل: " ما شاء الله وشئت ". قال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده (1) » رواه أحمد (2) ونهى أن يحلف بغير الله، وأخبر أن ذلك شرك، ونهى أن يصلي إلى القبر أو يتخذه مسجدا أو عيدا، أو يوقد عليه سراج، بل مدار دينه على هذا الأصل الذي هو قطب رحى النجاة، ولم يقرر أحد ما قرره - صلى الله عليه وسلم - بقوله وفعله، وسد الذرائع المنافية له، فتعظيمه - صلى الله عليه وسلم - بموافقته على ذلك لا بمناقضته فيه.
الثاني: تجريد متابعته وتحكيمه وحده في الدقيق والجليل من أصول الدين وفروعه، والرضى بحكمه والانقياد له والتسليم، والإعراض عما خالفه، وعدم الالتفات إلى ما خالفه، حتى يكون وحده هو الحاكم المتبع المقبول قوله، المردود ما خالفه كما كان ربه تعالى وحده هو المعبود المألوه المخلوق المستغاث به، المتوكل عليه الذي إليه الرغبة والرهبة، الذي يؤمل وحده لكشف الشدائد ومغفرة الذنوب الذي من جوده الدنيا والآخرة الذي خلق الخلق وحده، ورزقهم وحده، ويبعثهم وحده ويغفر ويرحم ويهدي ويضل، ويسعد ويشقي وحده، وليس لغيره
__________
(1) سنن ابن ماجه الكفارات (2117) ، مسند أحمد بن حنبل (1/214) .
(2) كما في المسند1 \ 214، 282 عن ابن عباس وصححه المحقق.(17/113)
من الأمر شيء كائنا من كان، لا النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا جبريل - عليه السلام - ولا غيرهما، فهذا هو التعظيم الحق المطابق لحال المعظم، النافع للمعظم في معاشه ومعاده، والذي هو لازم إيمانه وملزومه. وأما التعظيم باللسان فهو الثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به عليه ربه وأثنى على نفسه من غير غلو ولا تقصير، كما فعل عباد القبور، فإنهم غلوا في مدحه إلى الغاية. وأما التعظيم بالجوارح فهو العمل بطاعته، والسعي في إظهار دينه، ونصر ما جاء به، وجهاد ما خالفه. وبالجملة فالتعظيم النافع هو التصديق فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر، والموالاة والمعاداة والحب والبغض لأجله، وتحكيمه وحده، والرضى بحكمه، وأن لا يتخذ من دونه طاغوت يكون التحاكم إلى أقواله، فما وافقها من قوله - صلى الله عليه وسلم - قبله، وما خالفها رده أو تأوله أو أعرض عنه، والله سبحانه يشهد وكفي به شهيدا وملائكته ورسله وأولياؤه، أن عباد القبور وخصوم الموحدين ليسوا كذلك، والله المستعان. هذا كلام الشيخ رحمه الله وقد حكى ما شاهده في زمانه وقبله من أقوام جهلة بالتوحيد ادعوا محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - فبالغوا في مدحه حتى وصفوه بها لا يستحقه إلا الله تعالى من الملك والعلم والتصرف، وحتى صرفوا له خالص حق الله - عز وجل - من الدعاء والرجاء وتفويض الأمور إليه والاعتماد عليه، وقد ذكر - رحمه الله - في شرح التوحيد ص186 وما بعدها بعض ما قال أهل الغلو والإطراء في حقه - صلى الله عليه وسلم - وأورد أبياتا من قصيدة البردة للبوصيري كقوله:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
وما بعده من الأبيات، ثم بين ما فيها من الشرك الصريح، وذكر أيضا بعضا من شعر البرعي الذي بالغ فيه وغلا، ووقع في عبادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - صريحا، ونسى ربه عز وجل وهكذا ذكر النعمى في (معارج الألباب) ص 169 وما بعدها بعض أقوال الغلاة ومبالغتهم في التعلق بالأموات، ومن ذلك أبيات شعر تتضمن الشرك الواضح بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأولها قوله:
يا سيدي يا صفي الدين يا سندي ... يا عمدتي بل ويا ذخري ومفتخري(17/114)
أنت الملاذ لما أخشى ضرورته ... وأنت لي ملجأ من حادث الدهر
إلى آخر تلك الأبيات الشركية، وعلق عليها - رحمه الله - يقول: فلا ندري أي معنى اختص به الخالق بعد هذه المنزلة، من كيفية مطلب، أو تحصيل مأرب، وماذا أبقى هذا المشرك الخبيث من الأمر، فإن المشركين أهل الأوثان ما يؤهلون كل ما عبدوه من دون الله لشيء من هذا ولا لما هو أقل منه. ا. هـ.
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاف على أمته من هذا الغلو ويحذرهم من أسبابه، فقد روي أبو داود بسند جيد عن عبد الله بن الشخير - رضي الله عنه - قال: «انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: أنت سيدنا. فقال السيد الله تبارك وتعالى قلنا: وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا، فقال: قولوا بقولكم أو بعض قولكم (1) » وعن أنس - رضي الله عنه - «أن أناسا قالوا: يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا. فقال: يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل (2) » . رواه النسائي بسند جيد، (3) وهذا كثير في السنة كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله» رواه الطبراني (4) وتقدم أنه - صلى الله عليه وسلم - «قال له رجل: " ما شاء الله وشئت " فقال: أجعلتني لله مثلا ما شاء الله وحده (5) » فالنبي - صلى الله عليه وسلم - هو سيد الخلق وأفضلهم وخيرهم، لكنه يكره المدح سيما أمام الممدوح، حتى قال: «إذا لقيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب (6) » رواه مسلم (7) ، وما ذاك إلا أن المدح قد يوقع الممدوح في الإعجاب والكبرياء التي تحبط الأعمال أو تنافي كمال التوحيد، وقد افتخر عليه الصلاة والسلام بالعبودية لربه وهي الذل والتواضع له، وذلك شرف وفضيلة، ولذلك ذكره الله باسم العبد في قوله تعالى:
__________
(1) هو في سنن أبي داود برقم 4806.
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/241) .
(3) هو في عمل اليوم والليلة برقم 249 وكذا رواه أحمد 3 \ 249 وغيره.
(4) ذكره في مجمع الزوائد 10 \ 159 قال: ورجاله رجال الصحيح غير ابن لهيعة وهو حسن الحديث.
(5) سبق أنه عند أحمد في المسند 214 \ 1.
(6) صحيح مسلم الزهد والرقائق (3002) ، سنن الترمذي الزهد (2393) ، سنن أبو داود الأدب (4804) ، سنن ابن ماجه الأدب (3742) ، مسند أحمد بن حنبل (6/5) .
(7) هو في صحيحه 128 \ 18 عن المقداد - رضي الله عنه -.(17/115)
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} (1) وفي قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} (2) وقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} (3) وقوله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} (4) فإن العبودية لله تعالى تقتضي غاية الذل وغاية المحبة، فالتذلل لله تعالى يستدعي الخضوع والخشية والاستكانة لله تعالى، وأن يرى نفسه حقيرا ذميما مقصرا في واجبه، فيرجع إلى نفسه بالمعاتبة، ويعترف لربه بالفضل والإنعام، وكذلك الحب يستدعى محبة ما يحبه الله وكراهية ما يكرهه من الأقوال والأفعال والإرادات، فظهر بذلك كمال صفة العبودية لرب الأرباب.
5 - موته - صلى الله عليه وسلم - كغيره من الأنبياء والرسل، قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (5) وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (6) {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (7) ثم إن المسلمين يدينون جميعا بأن الأنبياء قبله قديما قد ماتوا، وانقضت أعمارهم التي كتب الله لهم في الدنيا، وأصبحوا في عالم البرزخ، وحيث ورد في النصوص ما يقتضي حياة الشهداء كقوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (8) فإن الأنبياء أولى بهذه الحياة، ومعلوم أن الشهداء قد خرجوا من هذه الحياة الدنيا، وقد قست أموالهم بين الورثة، وحلت نساؤهم لغيرهم، فكان ذلك أوضح دليل على موتهم، ولكن الله تعالى نهى أن نقول لهم أموات في قوله عز وجل: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} (9)
__________
(1) سورة البقرة الآية 23
(2) سورة الإسراء الآية 1
(3) سورة الكهف الآية 1
(4) سورة الجن الآية 19
(5) سورة الزمر الآية 30
(6) سورة الأنبياء الآية 34
(7) سورة الأنبياء الآية 35
(8) سورة آل عمران الآية 169
(9) سورة البقرة الآية 154(17/116)
وهذه الحياة لا نعلم كيفيتها إلا أنا نتحقق أن أرواحهم خرجت من أبدانهم، وأن أعمارهم انقضت، وأعمالهم قد ختمت، وقد فسرت حياتهم في الحديث الصحيح بأن أرواحهم جعلت في أجواف طير خضر تعلق في شجر الجنة (1) وهذا يحقق أنها قد فارقت أبدانهم، وإنما تميزوا بهذه الحياة الخاصة، ومعلوم أن الأنبياء والرسل أولى بهذه الحياة، وبكل حال فإنها لا تمكنهم من إجابة من دعاهم، أو إعطاء من سألهم، فنحن نعتقد أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في حياة برزخية أكمل من حياة الشهداء، وقد تميز بحماية جسده عن البلى، كما ثبت في سنن أبي داود عن أوس بن أوس عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن من خير أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا من الصلاة علي فيه، فإن صلاتكم معروضة علي قالوا: يا رسول الله كيف تعرض عليك وقد أرمت. قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسام الأنبياء (2) » وهذا أوضح دليل على أن روحه قد خرجت من جسده، ورفعت إلى الرفيق الأعلى، كما كان ذلك آخر طلبه من الدنيا، وكذا قد ورد في الحديث عن أبي هريرة قوله - صلى الله عليه وسلم - «ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام (3) » رواه أبو داود (4) وفي كيفية هذا الرد خلاف والله أعلم بذلك، وقد روى أبو داود بإسناد حسن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا على فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم (5) » وروى الحافظ الضياء في المختارة وغيره عن علي بن الحسن بن علي - رضي الله عنه - أنه رأى رجلا يجئ إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيها فيدعو، فنهاه وقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إلا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم (6) »
__________
(1) هو في صحيح مسلم 13 \ 30 عن ابن مسعود - رضي الله عنه.
(2) كما في سنن أبي داود برقم 1047.
(3) سنن أبو داود المناسك (2041) ، مسند أحمد بن حنبل (2/527) .
(4) هو في سنن أبي داود برقم 2041.
(5) هو في سنن أبي داود أيضا برقم 2042.
(6) ذكره الهيثمي في الزوائد 3 \ 4 وعزاه لأبي يعلى ووثقه رجاله.(17/117)
وقال سعيد بن منصور: حدثنا عبد العزيز بن محمد، أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي - رضي الله عنهم - عند القبر فناداني فقال: مالي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. ثم قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تتخذوا قبري عيدا ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء (1) » فهذه الآثار تدل على شهرة ذلك عند السلف، وحرصهم على حفظ هذه السنة وتبليغها، ومعنى قوله: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا (2) » أي لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور التي لا تجوز الصلاة عندها، والمراد صلاة التطوع «ولا تتخذوا قبري عيدا (3) » نهى - صلى الله عليه وسلم - من زيارة قبره على وجه مخصوص واجتماع معهود، بحيث يكون كالعيد الذي يتكرر الاجتماع فيه في زمن محدد، ويحصل به فرح واغتباط يعود ويتكرر كل عام مرة ومرارا، ثم أخبرنا بأن صلاتنا تبلغه أين ما كنا، يعني أن ما يناله من الصلاة والسلام حاصل مع القرب والبعد، فلا مزية لمن صلى عليه أو سلم عند القبر، وهذا معنى قول الحسن بن الحسن (ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء) ومن قصد القبر للسلام فقط، ولم يكن قصده المسجد، فقد اتخذه عيدا، كما فهم ذلك الحسن بن الحسن - رضي الله عنه - وقد كره الإمام مالك - رحمه الله - لأهل المدينة كلما دخل إنسان المسجد يأتي القبر النبوي؛ لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك قال: (ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها) (4) وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - وكذا كبار التابعين يصلون في المسجد النبوي خلف الخلفاء الراشدين أغلب الأوقات، ثم ينصرفون بعد السلام أو يجلسون في قراءة أو عبادة، ولم يحفظ عنهم الإتيان إلى القبر بعد كل صلاة، بل يكتفون بالصلاة والسلام عليه في التشهد، وذلك أفضل من الوقوف أمام القبر لذلك، رغم تمكنهم من الوصول إلى القبر في حياة عائشة وبعدها قبل بناء الحيطان دونه بعد أن أدخل في توسعة
__________
(1) ذكره شيخ الإسلام ابن تيميه في اقتضاء الصراط المستقيم 322 وساقه بإسناده.
(2) سنن أبو داود المناسك (2042) ، مسند أحمد بن حنبل (2/367) .
(3) سنن أبو داود المناسك (2042) ، مسند أحمد بن حنبل (2/367) .
(4) ذكره شيخ الإسلام في الاقتضاء 366، 394 بنحو.(17/118)
المسجد في عهد الوليد بن عبد الملك، وبكل حال فإن الصحابة لم يكونوا يعتادون الصلاة والسلام عليه عند قبره، وإنما كان بعضهم يأتي من خارج إذا قدم من سفر فيسلم عليه ثم ينصرف، كما نقل ذلك عن ابن عمر، ولم يحفظ عن غيره من الصحابة، ولم يكن يفعله دائما، فتكرار ذلك كل وقت بدعة ووسيلة إلى تعظيمه أو دعائه مع الله، وقد اتفق الأئمة - رحمهم الله - أن من سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأراد الدعاء لنفسه لا يستقبل القبر، وإنما يستقبل القبلة التي هي أفضل الجهات وأرجى لقبول الدعاء، وأما الحكاية عن مالك أنه قال للمنصور: ولم تصرف وجهك عنه. . . بل استقبله واستشفع به. . الخ فهي حكاية موضوعة مكذوبة عليه، كما حقق ذلك العلماء رحمهم الله (1) .
6 - منع السفر لمجرد زيارة القبر النبوي، ثبت في الصحاح والسنن والمسانيد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى (2) » ومعنى ذلك النهي عن السفر إلى بقعة أو موضع لقصد التعبد فيه، لاعتقاد أن العمل فيه مضاعف أو له مزية على غيره من المواضع، فدخل في ذلك منع السفر لزيارة القبور ولو قبور الأنبياء، فإنه من اتخاذها أعيادا، والاعتقاد في المقبورين بما يكون وسيلة إلى عبادتهم مع الله تعالى، كما هو الواقع من المشركين في هذا الزمان وقبله، حيث ينشئون الأسفار الطويلة إلى قبور الأولياء كما زعموا، أو يتجشمون المشقات، وينفقون الأموال الطائلة، ومتى وصلوا إلى تلك المشاهد كما أسموها حطوا رحالهم، وأخذوا في الهتاف والنداء لا أولئك الأموات، وعملوا هناك مالا يصلح إلا لله رب العالمين، من الطواف بتلك الأضرحة والتمسح بترابها، والدعاء لأربابها، والذبح والنحر لها ونحو ذلك، فهذا ما خافه عليه الصلاة والسلام من منعه شد الرحال لغير المساجد الثلاثة، وقد كتب في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - رسالة ذكر فيها اختلاف العلماء في حكم شد الرحال لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، ورجح المنع، وذكر أنه قول ابن بطة وأبي الوفاء ابن عقيل، والجوينى والقاضي
__________
(1) ذكر ذلك شيخ الإسلام أيضا في الاقتضاء ص 395 وغيره.
(2) رواه البخاري عن أبي هريرة برقم 189 / 1 وعر أبي سعيد برقم 1197.(17/119)
عياض وغيرهم، بل هو قول الجمهور، ونص عليه مالك، ولم يخالفه أحد من الأئمة، ولكن ليس المراد النهي عن زيارة القبور بدون شد رحل، فقد ورد الترغيب فيها، وأنها تذكر الآخرة، وأن الزائر يدعو للأموات ويترحم عليهم، وهذا يحصل في أقرب مقبرة عنده، فإن كل بلد لا تخلو من المقابر، فأما إعمال المطي والسفر إلى بلد بعيد لأجل بقعة أو قبر، فإنما يكون ذلك لاعتقاد عظمة ذلك المقبور، وأهليته أن يعظم ويدعى ويرجى، فيصرف له خالص العبادة، فلا جرم ورد النهي عن شد الرحال لغير المساجد الثلاثة، وقد روى الإمام أحمد وغيره عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري أنهما منعا شد الرحل إلى الطور، لأجل الصلاة فيه، واستدلا بحديث النهي عن شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مع أن الله ذكر الطور وسماه بالوادي المقدس، والبقعة المباركة، وكلم عبده موسى هناك، وعلى هذا فمن سافر إلى المدينة قاصدا المسجد النبوي الذي تكون الصلاة فيه بألف صلاة فسفره طاعة وقربة، وله بعد الصلاة في المسجد أن يسلم على القبر الشريف، وعلى قبور الصحابة والشهداء، ويدعو لهم، فأما من أنشأ السفر لأجل القبر نفسه، سواء للسلام عليه أو للدعاء عنده فسفره بدعة منكرة، حيث خالف حديث لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم فأما الأحاديث المروية في فضل الزيارة للقبر الشريف فكلها ضعيفة أو موضوعة، كما حقق ذلك العلماء، فليتنبه لذلك والله الموفق.(17/120)
المبحث الخامس
شروط الشهادتين
ذكر العلماء لكلمة الإخلاص سبعة شروط نظمها بعضهم بقوله:
علم يقين وإخلاص وصدقك مع ... محبة وانقياد والقبول لها
وهذه الشروط مأخوذة بالاستقراء والتتبع للأدلة من الكتاب والسنة، وقد(17/120)
أضاف بعضهم إليها شرطا ثامنا ونظمه بقوله:
وزيد ثامنها الكفران منك بما ... سوى الإله من الأنداد قد ألها
وأخذ هذا الشرط من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه (1) » رواه مسلم (2) وذكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد ثم قال بعده: وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه. . الخ، ومعنى هذا الشرط أن يعتقد بطلان عبادة من سوى الله، وأن كل من صرف شيئا من خالص حق الله لغيره فهو ضال مشرك، وأن كل المعبودات سوى الله من قبور وقباب وبقاع وغيرها نشأت من جهل المشركين وخرافاتهم، فمن أقرهم على ذلك أو تردد في صوابهم، أو شك في بطلان ما هم عليه فليس بموحد، ولو قال لا إله إلا الله، ولم يعبد غير الله. ومع ذلك فإن الشروط السبعة هي المشهورة في كتب أئمة الدعوة - رحمهم الله، فنذكر عليها بعض الأدلة للتوضيح.
(فأولها) : العلم ودليله قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (3) وروى مسلم عن عثمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة (4) » والمراد العلم الحقيقي بمدلول الشهادتين وما تستلزمه كل منها من العمل، وضد العلم الجهل، وهو الذي أوقع المشركين من هذه الأمة في مخالفة معناها، حيث جهلوا معنى الإله، ومدلول النفي والإثبات، وفاتهم أن القصد من هذه الكلمة معناها، وهو الذي
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (23) ، مسند أحمد بن حنبل (6/394) .
(2) هو في صحيحه 1 \ 212.
(3) سورة محمد الآية 19
(4) هو في صحيح مسلم بشرح النووي 1 \ 218.(17/121)
خالفه المشركون العالمون بما تدل عليه، حيث قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} (1) وقالوا: {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} (2) (وثانيها) : اليقين وضده الشك والتوقف، أو مجرد الظن والريب، والمعنى أن من أتى بالشهادتين فلا بد أن يوقن بقلبه ويعتقد صحة ما يقوله، من أحقية إلهية الله تعالى، وصحة نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وبطلان إلهية غير الله بأي نوع من التأله وبطلان قول كل من ادعى النبوة بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن شك في صحة معناها أو توقف في بطلان عبادة غير الله لم تنفعه هاتان الشهادتان، ودليل هذا الشرط ما رواه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «قال في الشهادتين لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة (3) » وفي الصحيح عنه أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة (4) » وقد مدح لله تعالى المؤمنين بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (5) وذم المنافقين بقوله: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} (6) وقد روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله (7) ولا شك أن من كان موقنا بمعنى الشهادتين فإن جوارحه تنبعث لعبادة الرب وحده، ولطاعة الرسول - عليه الصلاة والسلام.
(وثالثها) : القبول المنافي للرد، فإن هناك من يعلم معنى الشهادتين، ويوقن بمدلولهما، ولكنه يرددهما كبرا وحسدا، وهذه حالة علماء اليهود والنصارى فقد
__________
(1) سورة ص الآية 5
(2) سورة ص الآية 6
(3) هو في صحيح مسلم شرح النووي 221 \ 1.
(4) رواه مسلم 231 وغيره.
(5) سورة الحجرات الآية 15
(6) سورة التوبة الآية 45
(7) ذكره البخاري تعليقا كما في الفتح 1 \ 45 وقال الحافظ وصله الطبراني لسند صحيح وأبو نعيم في الحلية.(17/122)
شهدوا بإلهية الله وحده، وعرفوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - كما يعرفون أبناءهم، ومع ذلك لم يقبلوه: {حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} (1) وهكذا كان المشركون يعرفون معنى لا إله إلا الله وصدق محمد - صلى الله عليه وسلم - ولكنهم يستكبرون عن قبوله، كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (2) وقال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (3) .
(ورابعها) : الانقياد، ولعل الفرق بينه وبين القبول، أن الانقياد هو الاتباع بالأفعال، والقبول إظهار صحة معنى ذلك بالقول، ويلزم منهما جميعا الاتباع، ولكن الانقياد هو الاستسلام والإذعان، وعدم التعقب لشيء من أحكام الله، وقال الله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} (4) وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} (5) وقال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (6) فهذا هو الانقياد لله تعالى بعبادته وحده، فأما الانقياد للنبي - صلى الله عليه وسلم - بقبول سنته، واتباع ما جاء به والرضى بحكمه، فقد ذكره الله تعالى بقوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (7) فاشترط في صحة إيمانهم أن يسلموا تسليما لحكمه، أي ينقادوا ويذعنوا لما جاء به من ربه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 109
(2) سورة الصافات الآية 35
(3) سورة الأنعام الآية 33
(4) سورة الزمر الآية 54
(5) سورة النساء الآية 125
(6) سورة لقمان الآية 22
(7) سورة النساء الآية 65(17/123)
(وخامسها) : الصدق وضده الكذب، وقد ورد اشتراط ذلك في الحديث الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم -: «من قال لا إله إلا الله صادقا من قلبه دخل الجنة (1) » فأما من قالها بلسانه وأنكر مدلولها بقلبه فإنها لا تنجيه، كما حكى الله عن المنافقين أنهم قالوا: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} (2) قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (3) وهكذا كذبهم بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (4) .
(وسادسها) : الإخلاص وضده الشرك، قال الله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (5) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (6) وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (7) وقال: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} (8) وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه (9) » وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عتبان: «فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله (10) » فالإخلاص أن تكون العبادة لله وحده، دون أن يصرف منها شيء لغيره، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، وكذا الإخلاص في اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - بالاقتصار على سنته، وتحكيمه، وترك البدع والمخالفات، وكذا ترك التحاكم إلى ما وضع البشر من قوانين وعادات ابتكروها وهي مصادمة للشريعة، فإن من رضيها أو حكم بها لم يكن من المخلصين.
__________
(1) رواه أحمد في المسند 4 \ 16 عن رفاعة الجهني ورواه أحمد أيضا 4 \ 402 عن أبي موسى رضي الله عنه.
(2) سورة المنافقون الآية 1
(3) سورة المنافقون الآية 1
(4) سورة البقرة الآية 8
(5) سورة الزمر الآية 2
(6) سورة الزمر الآية 3
(7) سورة الزمر الآية 11
(8) سورة الزمر الآية 14
(9) هو في صحيح البخاري 99 وغيره.
(10) سبق أنه عند البخاري 425 ومسلم 1 \ 242.(17/124)
(وسابعها) : المحبة المنافية لضدها من الكراهية والبغضاء، فيجب على العبد محبة الله ومحبة رسوله، ومحبة كل ما يحبه من الأعمال والأقوال، ومحبة أوليائه وأهل طاعته، فهذه المحبة متى كانت صحيحة ظهرت آثارها على البدن، فترى العبد الصادق يطيع الله ويتبع رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويعبد الله حق عبادته، ويلتذ بطاعته، ويسارع إلى كل ما يحبه مولاه من الأقوال والأعمال، وتراه يحذر المعاصي ويبتعد عنها، ويمقت أهلها ويبغضهم، ولو كانت تلك المعاصي محبوبة للنفس ولذيذة في العادة، لعلمه بأن النار حفت بالشهوات، والجنة حفت بالمكاره، فمتى كان كذلك فهو صادق المحبة، ولهذا سئل ذو النون المصري - رحمه الله-: متى أحب ربي؟ فقال إذا كان ما يبغضه أمر عندك من الصبر (1) ويقول بعضهم: من ادعى محبة الله ولم يوافقه فدعواه باطلة. وقد شرط الله لعلامة محبته اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (2) .
وقد سبق أن ذكرنا بعض الأدلة على محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وما تستلزمه من الأعمال فكذلك محبة الله تعالى.
__________
(1) ذكره أبو نعيم في الحلية 9 \ 363 بإسناده عنه
(2) سورة آل عمران الآية 31(17/125)
المبحث السادس
نواقض الشهادتين
تكلم علماء الإسلام في كل مذهب على نواقض الإسلام في كتب الفقه في حكم المرتد، وما تحصل به الردة، وبالغ بعضهم في سرد الأمثلة التي تحصل بها الردة نعوذ بالله، وقد بلغت عددا من المئين ما بين فعل وترك، لكن الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - لخصها في عشرة نواقض، مذكورة في مجموعة التوحيد وغيرها، وإنما يهمنا هنا أن نذكر بعض الخصال التي ينافي فعلها كلمتي التوحيد، ولا يحصل الأمر المرتب على فعلهما والنطق بهما فمن ذلك:(17/125)
1 - إنكار خلق الله تعالى لبعض الموجودات، أو إسناد بعض التدبر والتصرف إلى الطبيعة والصدفة، فإن ذلك طعن في الرب تعالى، وذلك ينافي اعتقاد المسلمين إثبات كمال التصرف لله وحده، وأنه لذلك هو المستحق للعبادة.
2 - إنكار شيء من صفات الكمال لله - عز وجل - كالعلم والحياة والقيومية والجبروت والسمع والبصر، فإن ذلك غاية التنقص الذي ينافي استحقاق الرب للإلهية، وهكذا إثبات شيء من النقائص التي نزه الله نفسه عنها، كالسنة والنوم والنسيان والظلم والولد والشريك ونحوها، فإن ذلك ينافي الكمال الذي استحق به الله تعالى العبادة من جميع الخلق.
3 - وصف بعض المخلوقات بشيء من خصائص الخالق كعلم الغيب، وعموم الملك، وكمال التصرف في الكون، والقدرة على الخلق والإيجاد بدون إرادة الله، فإن هذا تشريك مع الله لهذا المخلوق، ورفع له إلى مرتبة الخالق، وذلك غاية التنقص لله تعالى.
4 - نفي استحقاق الرب عز وجل لكل العبادات أو لبعضها كاعتقاد أنه تعالى لا يخشى ولا يدعى ولا يستحق أن يستعان به، أو لا أهمية لذلك أو لا فائدة فيه، وهكذا حكم من سخر ببعض العبادات، أو استهزأ بالمصلين أو المتمسكين بأي نوع من أنواع الطاعة، فإن ذلك انتقاد للشرع، وهو ينافي الشهادتين.
5 - من اعتقد أن أحدا من الناس يسوغ له التشريع والتقنين ووضع الأحكام التي تغير الشرع، كإباحة الزنا أو الربا، وإبطال العقوبات الشرعية، كقتل القاتل وقطع السارق، وإبطال الزكاة، وتغيير الفرائض أو أي نوع من أنواع العبادات، وهكذا التحاكم إلى غير شرع الله والحكم بغير ما أنزل، فمن اعتقد ذلك أو نحوه فقد اعترض على الرب في شرعه، وزعم أنه ناقص أو غير ملائم، أو أن غير حكم الله أحسن من حكمه، وذلك غاية التنقص فلا يجتمع مع التوحيد الخالص.
6 - صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله تعالى، وهو شرك القبوريين في هذه(17/126)
الأزمنة، فمن دعا ميتا أو رجاه أو علق قلبه به أو أحبه كحب الله أو انحنى له أو خشع وخضع عند القبر ونحوه، أو طاف به أو ذبح له أو نحو ذلك من أنواع العبادة، فقد أبطل شهادته أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وقد سبق شيء مما يتعلق بمعنى الإلهية والعبادة وما يدخل فيها.
7 - موالاة أعداء الله ومحبتهم وتقريبهم، ورفع مقامهم، واعتقاد أنهم على حق أو أنهم أولى بالتبجيل والاحترام من المسلمين، وسواء كانوا من أهل الكتابين أو من الوثنيين أو الدهريين، فإن طاعتهم وتوقيرهم وإعزازهم يوحي بأنهم على صواب، وأن المسلمين المخالفين لهم ضالون خاطئون، أو يدل احترامهم على تعظيم دنياهم أو علومهم الدنيوية، وكل ذلك ينافي حقيقة الشهادة.
8 - الطعن في رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو في شريعته، أو تكذيبه أو دعوى خيانته أو كتمانه لما أوحي إليه، وكذا إظهار سبه أو عيبه أو التهكم بسيرته أو شيء من أعماله أو أحواله أو تصرفاته، ونحو ذلك مما يدل على إنكار رسالته في الباطن، فإن الطعن فيه طعن في الرب تعالى، فهو الذي أرسله وحمله هذه الرسالة، وذلك يناقض كلمتي الشهادتين.
9 - الطعن في القرآن الذي هو كلام الله تعالى، كدعوى المشركين أنه سحر أو شعر أو أساطير الأولين، أو أنه مفترى مكذوب، وكذا من زعم أنه قول البشر، أو نفي إعجازه أو حاول معارضته بمثله، وأن ذلك ممكن أو كذب ببعض ما اشتمل عليه، أو أنكر بعض السور أو الآيات المنقولة بالتواتر أو نحو ذلك، فإنه كافر مكذب لله ورسوله، وذلك يناقض كلمة التوحيد.
10 - إنكار شيء من الأمور الغيبية التي أمر الله بالإيمان بها وأخبر بثبوتها وأحقيتها في كتابه، وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - كالملائكة والكتب، والرسل، والبعث بعد الموت، وحشر الأجساد والجنة والنار، وكذا عذاب القبر ونعيمه، ونحو ذلك، فإن من جحد منها شيئا فقد كذب الله وكذب رسوله - صلى الله عليه وسلم - وذلك أكبر الطعن في الرسالة، وما اشتملت عليه، فهو يخالف ما تستلزمه الشهادتان.(17/127)
وأقتصر على هذا القدر مما يتعلق بالشهادتين وما يكون به تحقيقهما، وذلك على وجه الاختصار، ومن أراد التفصيل وجد ذلك في كتب أئمة الدعوة - رحمهم الله - وكذا من سبقهم من علماء المسلمين، والله أعلم وأحكم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(17/128)
من أعلام المجددين
الإمام أحمد - رحمه الله
نشأته - علمه وفضله - محنته وصبره - آثاره
للدكتور صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله - عز وجل - الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه.
فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين (1) وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم وبعد: -
فمن المعلوم أنه كلما تأخر الزمان، وبعد الناس عن آثار الرسالة حدثت البدع والخرافات، وفشا الجهل واشتدت غربة الدين، وظن الناس أن ما وجدوا عليه
__________
(1) هذه خطبة الإمام أحمد في كتاب الرد على الجهمية رأينا مناسبتها للموضوع فقدمناه بها(17/129)
آباءهم هو الدين وإن كان بعيدا عنه، ولكن الله سبحانه لا يخلي الأرض من قائم لله بحجة. وقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن طائفة من المسلمين لا تزال على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى، كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه أبو داود وصححه الحاكم وغيره حيث قال: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها (1) » قال المناوي (2) في فيض القدير أي يقيض لها «على رأس كل مائة سنة (3) » من الهجرة أو غيرها والمراد الرأس تقريبا (من) أي رجلا أو أكثر «يجدد لها دينها (4) » أي يبين السنة من البدعة، وينشر العلم وينصر أهله، ويكسر أهل البدعة ويذلهم - قالوا ولا يكون إلا عالما بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة، قال ابن كثير: قد ادعى كل قوم في إمامهم أنه المراد بهذا الحديث والظاهر أنه يعم جملة من العلماء من كل طائفة وكل صنف من مفسر ومحدث وفقيه ونحوي ولغوي وغيرهم انتهى.
وقد وقع مصداق ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث فلا يزال - والحمد لله - فضل الله على هذه الأمة يتوالى بظهور المجددين عند اشتداد الحاجة إليهم ومن هؤلاء المجددين الإمام أحمد بن حنبل في القرن الثالث، وشيخ الإسلام ابن تيمية في آخر القرن السابع وأول الثامن، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر، وقد أحببت في هذه العجالة أن أقدم بعض المعلومات عن هؤلاء الأئمة وما قاموا به من تجديد هذا الدين مما لا تزال آثاره باقية في هذه الأمة ولله الحمد والمنة والقصد من ذلك تعريف من يجهل مجهود هؤلاء الأئمة والتنبيه للانتفاع بآثارهم والاقتداء بهم، والله الهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) سنن أبو داود الملاحم (4291) .
(2) فيض القدير للمناوي: (2 \ 281- 282) .
(3) سنن أبو داود الملاحم (4291) .
(4) سنن أبو داود الملاحم (4291) .(17/130)
الإمام أحمد بن حنبل
1 - نسبه:
هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي ابن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان (1)
__________
(1) مناقب الإمام أحمد بن حنبل لابن الجوزي ص 38.(17/131)
2 - نشأته وتعلمه:
قدم به والده من مرو وهو حمل، فوضعته أمه ببغداد في ربيع الأول من سنة أربع وستين ومائة، وتوفي أبوه وهو ابن ثلاث سنين فكفلته أمه، وقد كان في حداثته يختلف إلى مجلس القاضي أبي يوسف، ثم ترك ذلك وأقبل على سماع الحديث وكان سنه ست عشرة سنة، ثم حج عدة مرات، وجاور بمكة مرتين، ثم سافر إلى عبد الرزاق في اليمن وكتب عنه، وقد طاف في البلاد والآفاق وسمع من مشايخ العصر وكانوا يجلونه ويحترمونه (1) قال ابن الجوزي: ابتدأ أحمد - رضي الله عنه - في طلب العلم من مشايخ بغداد ثم رحل إلى الكوفة والبصرة ومكة والمدينة واليمن والشام والجزيرة، وكتب عن علماء كل بلد، ثم ذكر أسماء من لقي من كبار العلماء وروى عنهم مرتين على حروف المعجم من الآلف إلى الياء، ثم ذكر من روى عنهم ممن عرف بكنيته ولم يتحقق عنده اسمه، ثم ذكر من روى عنهن من النساء (2) وقد ذكر خلقا كثيرا من شيوخه.
__________
(1) البداية والنهاية لابن كثير (10 \ 369) .
(2) مناقب الإمام أحمد في الصفحات 46، 58، 81.(17/131)
3 - غزارة علمه:
قال إبراهيم الحربي: رأيت أحمد بن حنبل فرأيت كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف يقول ما شاء ويمسك ما شاء، وقال أحمد بن سعيد الرازي: ما رأيت أسود الرأس أحفظ لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أعلم بفقهه ومعانيه من أبي عبد الله أحمد بن حنبل.
وقال أبو عاصم: ليس ثمة ببغداد إلا ذلك الرجل - يعني أحمد بن حنبل - ما جاءنا من ثم أحد مثله يحسن الفقه، وقال الخلال: كان أحمد قد كتب كتب الرأي وحفظها ثم لم يلتفت إليها.
وكان إذا تكلم في الفقه تكلم كلام رجل قد انتقد العلوم فتكلم عن معرفة، وقال أبو زرعة كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث (1) فقيل له وما يدريك، قال ذاكرته فأخذت عليه الأبواب (2) وقال ابن الجوزي: وقد كان أحمد يذكر الجرح والتعديل من حفظه إذا سئل عنه كما يقرأ الفاتحة - ومن نظر في كتاب العلل لأبي بكر الخلال عرف ذلك، ولم يكن لأحد من بقية الأئمة، وكذلك انفراده في علم النقل بفتاوى الصحابة وقضاياهم وإجماعهم واختلافهم لا ينازع في ذلك، وأما علم العربية فقد قال أحمد كتبت من العربية أكثر مما كتب أبو عمرو الشيباني، وأما القياس فله من الاستنباط ما يطول شرحه (3) وقال الإمام ابن الجوزي: واعلم أنا نظرنا في أدلة الشرع وأصول الفقه، وسبرنا أحوال الأعلام المجتهدين، فرأينا هذا الرجل أوفرهم حظا من تلك العلوم، فإنه كان من الحافظين لكتاب الله - عز وجل - قال أبو بكر ابن حمدان القطيعي: قرأت على عبد الله بن أحمد بن حنبل قال لقنني أبي أحمد بن حنبل القرآن كله باختياره وقرأ ابن حنبل على يحيى بن آدم وعبيد بن الصباح وإسماعيل بن جعفر وغيرهم بإسنادهم.
__________
(1) يعني مليون حديث.
(2) مناقب الإمام أحمد في الصفحات (85، 89، 90) .
(3) المدخل للشيخ عبد القادر بن بدران ص 105.(17/132)
وكان أحمد لا يميل شيئا في القرآن ويروي الحديث: «أنزل مفخما ففخموه» وكان لا يدغم شيئا في القرآن إلا (اتخذتم) وبابه. كأبي بكر، ويمد مدا متوسطا وكان - رضي الله عنه - من المصنفين في فنون العلوم من التفسير والناسخ والمنسوخ والمقدم والمهر إلى غير ذلك، وأما النقل فقد سلم الكل له انفراده فيه بما لم ينفرد به سواه من الأئمة من كثرة محفوظة منه ومعرفة صحيحه من سقيمه وفنون علومه، وقد ثبت أنه ليس في الأئمة الأعلام قبله من له حظ في الحديث كحظ مالك. ومن أراد معرفة مقام أحمد في ذلك من مقام مالك فلينظر فرق ما بين المسند والموطأ (1) قال ابن بدران في كتاب المدخل (2) في ذكر مؤلفاته: والمسند وهو ثلاثون ألف حديث، وكان يقول لابنه عبد الله: احتفظ بهذا المسند فإنه سيكون للناس إماما، وقال عبد الله قرأ علينا أبي المسند وما سمعه منه غيرنا وقال لنا: هذا كتاب قد جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمائة ألف حديث. . . انتهى.
وهذا يدل على غزارة علمه بالحديث، وتميزه فيه وقوة نقده. وهكذا من يتعلم العلم من مصادره الأصيلة: كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ويتتلمذ على حملته من جهابذة العلماء مع النية الصادقة والعمل به، فإنه حري أن يوفق لتحمل العلم النافع، ويكون إماما في الدين، كما كان الإمام أحمد وغيره من أئمة الإسلام وحملة الشريعة، فعسى أن يكون في هذا حافزا لشباب المسلمين اليوم وقد توفرت لهم وسائل التعلم ليهبوا لحمل هذا العلم الذي به عزهم وشرفهم في الدنيا والآخرة - نرجو ذلك.
__________
(1) مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي هـ 599- 600.
(2) ص104(17/133)
4 - عمله وأخلاقه:
من المعلوم أن العلم وسيلة للعمل ومصحح له، فالغاية المطلوبة هي العمل الصالح والعلم وسيلة لتلك الغاية - وفي الحكمة المأثورة: " علم بلا عمل(17/133)
كشجرة بلا ثمر " والله تعالى يقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) والصحابة - رضي الله عنهم - يقول قائلهم: ما كنا نتجاوز عشر آيات حتى نتعلم معانيهن والعمل بهن، قالوا فتعلمنا العلم والعمل جميعا، وكان سلفنا الصالح على هذه الصفة، ومنهم الإمام أحمد فقد اتصف بالعلم الغزير والعمل الصالح والأخلاق الفاضلة.
ذكر ابن الجوزي في صفوة الصفوة (2) قال: وعن عبد الله بن أحمد قال كان أبي أصبر الناس على الوحدة، لم يره أحد إلا في مسجد أو حضور جنازة أو عيادة مريض، وكان يكره المشي في الأسواق.
وعنه قال: كان أبي يصلي في كل يوم وليلة ثلاثمائة ركعة، فلما مرض من تلك الأسواط (3) أضعفته فكان يصلي في كل يوم وليلة مائة وخمسين ركعة. وقد كان قرب من الثمانين، وكان يقرأ في كل يوم سبعا يختم في كل سبعة أيام، وكانت له ختمة في كل سبع ليال سوى صلاة النهار، وكان ساعة يصلي عشاء الآخرة ينام نومة خفيفة ثم يقوم إلى الصباح يصلي ويدعو، وحج أبي خمس حجات، ثلاث حجج ماشيا واثنتين راكبا، وأنفق في بعض حجاته عشرين درهما، وعنه قال: كنت أسمع أبي كثيرا يقول في دبر الصلاة: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك صنه عن المسألة لغيرك، وقال صالح بن أحمد بن حنبل: ورد كتاب علي ابن الجهم: أن أمير المؤمنين (يعني المتوكل) قد وجه إليك يعقوب المعروف بقوصرة ومعه جائزة ويأمرك بالخروج، فالله الله أن تستعفي أو ترد المال فيتسع القول لمن يبغضك، فلما كان من الغد ورد يعقوب فدخل عليه فقال: يا أبا عبد الله أمير المؤمنين يقرئك السلام ويقول قد أحبب أن آنس بقربك وأن أتبرك بدعائك - وقد وجهت إليك عشرة آلاف درهم معونة على سفرك وأخرج صرة فيها بدرة نحو مائتي
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) ص 197 جـ 2.
(3) يعني الأسواط التي ضربها بسبب امتناعه من القول بخلق القرآن في عهد المعتصم.(17/134)
دينار والباقي دراهم صحاح فلم ينظر إليها ثم شدها يعقوب، وقال له أعود غدا حتى أبصر ما تعزم عليه وانصرف فجئت بإجانة خضراء فكببتها على البدرة، فلما كان عند المغرب قال: يا صالح خذ هذا صيره عندك فصيرتها عند رأسي فوق البيت فلما كان سحرا فإذا هو ينادي يا صالح فقمت فصعدت إليه فقال: ما نمت ليلتي هذه فقلت: لم يا أبت؟ فجعل يبكي وقال: سلمت من هؤلاء حتى إذا كان في آخر عمري بليت بهم، قد عزمت على أن أفرق هذا الشيء إذا أصبحت فقلت ذلك إليك، فلما أصبح قال: جئني يا صالح بميزان، وقال: وجهوا إلى أبناء المهاجرين والأنصار. ثم قال: وجه إلى آل فلان، فلم يزل يفرقها كلها ونفضت الكيس ونحن في حالة الله تعالى بها عليم، وكتب صاحب البريد أنه قد تصدق بالدراهم من يومه حتى تصدق بالكيس، قال علي بن الجهم فقلت يا أمير المؤمنين قد علم الناس أنه قد قبل منك وما يصنع أحمد بالمال وإنما قوته رغيف، فقال لي صدقت يا علي - وبهذه النقولات عن ابني الإمام وقد عايشا أباهما معايشة خاصة أكبر دليل على مدى صلاح الإمام أحمد وتقواه وزهده وورعه.
وأما تواضعه:
فقد قال ابن الجوزي (1) بلغني عن أبي الحسن بن المنادي قال سمعت جدي يقول: كان أحمد من أحب الناس وأكرمهم نفسا وأحسنهم عشرة وأدبا كثير الإطراق، معرضا عن القبيح واللغو، لا يسمع منه إلا المذاكرة بالحديث، وذكر الصالحين والزهاد في وقار وسكون ولفظ حسن، وإذا لقيه إنسان بشيء به وأقبل عليه، وكان يتواضع للشيوخ تواضعا شديدا، وكانوا يكرمونه ويعظمونه، قال الخلال: وأخبرني محمد بن الحسين أن أبا بكر المروذي حدثهم قال: كان أبو عبد الله لا يجهل، وإن جهل عليه احتمل وحلم ويقول: يكفي الله، ولم يكن بالحقود ولا العجول، ولقد وقع بين عمه وجيرانه منازعة فكانوا يجيئون إلى أبي عبد الله فلا يظهر لهم ميله مع عمه ولا يغضب لعمه ويتلقاهم بما يعرفون من الكرامة، وكان كثير التواضع يحب الفقراء، لم أر الفقير في مجلس أعز منه في
__________
(1) مناقب الإمام أحمد الصفحات (277، 280، 281) .(17/135)
مجلسه، مائلا إليهم مقتصرا عن أهل الدنيا، تعلوه السكينة والوقار، إذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلم حتى يسأل، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدر يقعد حيث انتهى به المجلس، وكان لا يمد قدمه في المجلس ويكرم جليسه، وكان حسن الخلق، دائم البشر، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، وكان يحب في الله ويبغض في الله، وكان إذا أحب رجلا أحب له ما يحب لنفسه، وكره له ما يكره لنفسه ولم يمنعه حبه إياه أن يأخذ على يديه ويكفه عن ظلم وإثم أو مكروه إن كان منه، وكان إذا بلغه عن شخص صلاح أو زهد أو قيام بحق أو اتباع للأمر سأل عنه وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة. وأحب أن يعرف أحواله، وكان رجلا فطنا. إذا كان الشيء لا يرضاه اضطرب لذلك، ويغضب لله ولا يغضب لنفسه فلا ينتصر لها، فإذا كان في أمر من الدين اشتد له غضبه حتى كأنه ليس هو، لا تأخذه في الله لومه لائم، وكان حسن الجوار، يؤذى فيصبر ويحتمل الأذى من الجار انتهى.
هذه أخلاق الإمام أحمد. علم وعمل وتواضع وصبر واحتمال، وجدير بمن تربى على الكتاب والسنة وتتلمذ على العلماء العاملين وخالط الصالحين أن يكون كذلك، بخلاف من يتربى على نظريات الفلاسفة وأفكار الغرب فإنه سيتأثر بها ويتخلق بها، فيجب على المسلمين أن يوجهوا أولادهم إلى الكتاب والسنة وأخلاق السلف الصالح ليتربوا التربية الصحيحة، ويتجهوا الوجهة السليمة، ويزكوا استيراد النظريات التربوية من الكفار وفلاسفة الغرب.(17/136)
5 - محنته وصلابته في الحق:
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله (1) باب ذكر ما جاء في محنة أبي عبد الله أحمد بن حبنل \ في أيام المأمون ثم المعتصم ثم الواثق بسبب القرآن العظيم. وما أصابه من الحبس الطويل والضرب الشديد والتهديد بالقتل بسوء العذاب وأليم العقاب وقلة مبالاته بما كان منهم من ذلك إليه، وصبره عليه، وتمسكه بما كان عليه من الدين القويم والصراط المستقيم، وكان أحمد عالما بما ورد بمثل حاله من الآيات المتلوة
__________
(1) البداية والنهاية الصفحات 374، 376، 378، 379.(17/136)
والأخبار المأثورة. وبلغه بما أوصي به في المنام واليقظة فرضي وسلم إيمانا واحتسابا - وفاز بخير الدنيا ونعيم الآخرة، وهيأه الله بما آتاه من ذلك لبلوغ أعلى منازل أهل البلاء في الله من أوليائه، ثم قال ابن كثير - رحمه الله -: قد ذكرنا فيما تقدم أن المأمون كان قد استحوذ عليه جماعة من المعتزلة، فأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل، وزينوا له القول بخلق القرآن، ونفي الصفات عن الله - عز وجل - قال البيهقي: ولم يكن في الخلفاء قبله من بني أمية وبني العباس خليفة إلا على مذهب السلف ومنهاجهم، فلما ولي الخلافة اجتمع به هؤلاء فحملوه على ذلك، وزينوا له واتفق خروجه إلى طرسوس لغزو الروم فكتب إلى نائبه ببغداد - إسحاق بن إبراهيم بن مصعب - يأمره أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن، واتفق له ذلك آخر عمره قبل موته بشهور من سنة ثماني عشرة ومائتين، فلما وصل الكتاب كما ذكرنا استدعى جماعة من أئمة الحديث فدعاهم إلى ذلك فامتنعوا فتهددهم بالضرب وقطع الأرزاق فأجاب أكثرهم مكرهين، واستمر على الامتناع من ذلك الإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح الجنديسابوري، فحملا على بعير وسيرا إلى الخليفة عن أمره بذلك. وهما مقيدان متعادلان في محمل على بعير واحد - فلما اقتربا من جيش الخليفة ونزلوا دونه بمرحلة جاء خادم وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه ويقول: يعز علي يا أبا عبد الله أن المأمون قد سل سيفا لم يسله قبل ذلك، وأنه يقسم بقرابته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف، قال فجثا الإمام أحمد على ركبتيه ورمق بطرفه إلى السماء وقال سيدي غر حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أوليائك بالضرب والقتل، اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته، قال فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل، قال أحمد ففرحنا ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد ولي الخلافة، وقد انضم إليه أحمد بن أبي دؤاد وأن الأمر شديد، فردونا إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسرى ونالني منهم أذى كثير، وكان في رجليه القيود، ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق، وصلى عليه أحمد - فلما رجع أحمد إلى بغداد دخلها في رمضان فأودع السجن نحوا من ثمانية وعشرين شهرا وقيل نيفا وثلاثين شهرا، ثم أخرج إلى الضرب بين يدي المعتصم، وكان أحمد وهو في السجن هو الذي يصلي في أهل السجن والقيود في رجليه، ولما أحضره(17/137)
المعتصم من السجن زاد في قيوده، قال أحمد: فلم أستطع أن أمشي بها - فربطتها في التكة وحملتها بيدي، ثم جاءوني بدابة فحملت عليها، فكدت أن أسقط على وجهي من ثقل القيود. وليس معي أحد يمسكني فسلم الله حتى جئنا دار المعتصم، فأدخلت في بيت وأغلق علي، وليس عندي سراج فأردت الوضوء، فمددت يدي فإذا إناء فيه ماء، فتوضأت منه، ثم قمت ولا أعرف القبلة، فلما أصبحت إذا أنا على القبلة ولله الحمد - ثم دعيت فأدخلت على المعتصم.
وذكر ابن كثير - رحمه الله - المناظرة التي دارت بينه وبين خصومه بحضرة المعتصم في موضوع خلق القرآن - إلى أن قال: ثم لم يزالوا يقولون له يا أمير المؤمنين إنه ضال مضل كافر، فأمرني فقمت بين العقابين وجيء بكرسي فأقمت عليه، وأمرني بعضهم أن آخذ بيدي بأي الخشبتين، فلم أفهم فتخلعت يداي وجيء بالضرابين ومعهم السياط، فجعل أحدهم يضربني سوطين- ويقول له - يعني المعتصم - شد قطع الله يدك - ويجئ الآخر فيضربني سوطين ثم الآخر كذلك فضربوني أسواطا فأغمي علي وذهب عقلي مرارا - فإذا سكن الضرب يعود علي عقلي - وقام المعتصم إلي يدعوني إلى قولهم فلم أجبه - وجعلوا يقولون ويحك الخليفة على رأسك فلم أقبل. فأعادوا الضرب ثم عاد إلي فلم أجبه، فأعادوا الضرب ثم جاء الثالثة فدعاني فلم أعقل ما قال من شدة الضرب، ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي فلم أحس بالضرب، وأرعبه ذلك من أمري وأمر بي فأطلقت ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت وقد أطلقت الأقياد من رجلي، ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله، وكان جملة ما ضرب نيفا وثلاثين سوطا، وقيل ثمانين سوطا، ولكن كان ضربا مبرحا شديدا جدا، ولما رجع إلى منزله جاء الجرائحي فقطع لحما ميتا من جسده وجعل يداويه، ولما شفاه الله بالعافية بقي مدة وإبهاماه يؤذيهما البرد. - وجعل كل من آذاه في حل إلا أهل البدعة وكان يتلو في ذلك قوله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} (1) الآية ويقول ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك، انتهى باختصار.
وهكذا ثبت الإمام أحمد - رحمه الله - على الحق، وصبر على السجن والضرب ولم
__________
(1) سورة النور الآية 22(17/138)
تأخذه في الله لومة لائم، ولم ترهبه السلطة والجبروت، فكانت العاقبة له والعقوبة لأعدائه، ومع هذا يعفو ويصفح عن خصومه، ويجعلهم في حل ما عدا المبتدعة - لأن المبتدعة انتهكوا محارم الله، ولم تكن إساءتهم قاصرة عليه، إنه الإيمان الراسخ والتربية النافعة المستمدة من الكتاب والسنة، يصنعان الرجال ويبعثان على الثبات في مواقف الفتن والأهوال، وهكذا تكون مواقف الأبطال.(17/139)
6 - مميزات مذهبه والأصول التي بناه عليها:
مذاهب أهل السنة كلها مذاهب حق لا سيما مذاهب الأئمة الأربعة - أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وكل مذهب من هذه المذاهب السنية له مميزات، ويمتاز مذهب الإمام أحمد من بينها بقربه من النصوص (1) وفتاوى الصحابة.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله (2) رويت فتاويه ومسائله وحدث بها قرنا بعد قرن فصارت إماما وقدوة لأهل السنة على اختلاف طبقاتهم حتى إن المخالفين لمذهبه بالاجتهاد والمقلدين لغيره ليعظمون نصوصه وفتاواه ويعرفون لها حقها وقربها من النصوص وفتاوى الصحابة. ومن تأمل فتاواه وفتاوى الصحابة رأى مطابقة كل منهما على الأخرى، ورأى الجميع كأنها تخرج من مشكاة واحدة. حتى إن الصحابة إذا اختلفوا على قولين جاء عنه في المسألة روايتان، وكان تحريه لفتاوى الصحابة كتحري أصحابه لفتاويه ونصوصه بل أعظم، حتى إنه ليقدم فتاويهم على الحديث المرسل.
أصول مذهبه:
كان مذهبه مبنيا على خمسة أصول وهي:
1 - النصوص، فإذا وجد نصا أفتى بموجبه ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا من خالفه.
__________
(1) ولهذا يعتبر الإمام أحمد من الفقهاء المحدثين.
(2) أعلام الموقعين (1 \ 28، 29) .(17/139)
2 - ما أفتى به الصحابة - فإذا وجد لأحدهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يعدها إلى غيرها، ولم يقل إن ذلك إجماع - بل من ورعه في العبارة يقول: لا أعلم شيئا يدفعه أو نحو هذا.
3 - إذا اختلف الصحابة في المسألة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال للدليل حكى الخلاف ولم يجزم بقول.
4 - الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه ويرجع ذلك على القياس، والمراد بالحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح وقسم من أقسام الحسن، وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر ولا ما في روايته متهم.
5 - فإذا لم يكن هناك نص ولا قول للصحابة أو أحدهم ولا أثر مرسل أو ضعيف عدل إلى القياس فاستعمله للضرورة.
فهذه الأصول الخمسة هي أصول مذهبه - وقد يتوقف في الفتوى لتعارض الأدلة عنده، أو لاختلاف الصحابة فيها، أو لعدم اطلاعه فيها على أثر أو قول أحد من الصحابة والتابعين، وكان شديد الكراهية والمنع للإفتاء بمسألة ليس فيها أثر عن السلف - كما قال لبعض أصحابه: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام (1) أي لم يسبق أن قال بها أحد من الأئمة بشيء.
__________
(1) أعلام الموقعين لابن القيم (1 \ 29 \ 32) .(17/140)
7 - مؤلفاته:
قال الإمام ابن القيم (1) : كان الإمام أحمد - رحمه الله - شديد الكراهية لتصنيف، الكتب وكان يحب تجريد الحديث، ويكره أن يكتب كلامه ويشتد عليه جدا، فعلم الله حسن نيته وقصده فكتب من كلامه وفتواه أكثر من ثلاثين سفرا، ومن الله سبحانه علينا بأكثرها فلم يفتنا منها إلا القليل، وجمع الخلال نصوصه في الجامع الكبير فبلغ نحو عشرين سفرا أو أكثر، ورويت فتاويه ومسائله وحدث بها
__________
(1) أعلام الموقعين لابن القيم (1 \ 28) .(17/140)
قرنا بعد قرن، فصارت إماما وقدوة لأهل السنة على اختلاف طبقاتهم، وقال ابن الجوزي: كان الإمام أحمد - رضي الله عنه - لا يرى وضع الكتب، وينهى أن يكتب عنه كلامه ومسائله ولو رأى ذلك لكانت له تصانيف كثيرة ولنقلت عنه كتب (1) واقتصر الإمام أحمد على التصنيف في النقول - أي الأحاديث والآثار وهذه بعض مؤلفاته.
1 - المسند في الحديث، وكان يقول لابنه عبد الله: احتفظ بهذا المسند فإنه سيكون للناس إماما (2) 2 - التفسير - وهو مائة ألف وعشرون ألفا - يعنى بالأحاديث والآثار.
3 - الناسخ والمنسوخ.
4 - التاريخ.
5 - المقدم والمؤخر في القرآن.
6 - جوابات القرآن.
7 - المناسك الكبير والصغير.
8 - الزهد.
9 - الرد على الجهمية.
__________
(1) مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (248) .
(2) وجملة أحاديث المسند ثلاثون ألف حديث انتقاها من سبعمائة ألف حديث.(17/141)
8 - وفاته:
مرض في أول شهر ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومائتين، وتوفي ليلة الجمعة وهي ليلة الثاني عشر من هذا الشهر، ولما حضرته الوفاة أشار إلى أهله أن يوضئوه، فجعلوا يوضئونه وهو يشير إليهم أن خللوا أصابعي، وهو يذكر الله - عز وجل - في جميع ذلك، فلما أكملوا وضوءه توفي - رحمه الله ورضي عنه - فغسلوه وكفنوه بثوب كان قد غزلته جاريته، وخرج الناس بنعشه والخلائق حوله ما لم يعلم عددهم إلا الله، ثم صلي عليه، وأعيدت الصلاة عليه عند القبر. ثم أعيدت الصلاة أيضا(17/141)
على القبر بعد دفنه، ولم يستقر في قبره - رحمه الله - إلا بعد العصر، وذلك لكثرة الخلق الذين حضروا. وقد قدر عدد الذين صلوا عليه وشيعوه إلى قبره بألف ألف، وفي رواية وسبعمائة ألف - أي مليون وسبعمائة ألف - رحم الله الإمام أحمد رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا، وجعله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. . .(17/142)
مجال عمل المرأة
في الإسلام
إعداد
الدكتور محمد بن أحمد الصالح (1)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
1 - مكانة المرأة في الإسلام:
كانت المرأة في الجاهلية الأولى تعتبر من سقط المتاع، يتوارثه الناس كما يتوارثون الأرض والبناء والأثاث، بل كانوا يذهبون إلى اعتبارها عارا يتخلصون منه بجريمة قتل بشعة إذ يدفنونها حية، قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} (2) {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (3) وقال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} (4) {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (5) .
انتشل الإسلام المرأة من هذه الوهدة السحيقة، ليضعها في مكان كريم. .
ليضعها أولا في مكان "المساواة الإنسانية الكريمة «النساء شقائق الرجال (6) » ثم ليضعها في التكليف أو أمام التكليف مع الرجل سواء
__________
(1) ورد لكاتب البحث ترجمة في العدد العاشر ص 304.
(2) سورة النحل الآية 58
(3) سورة النحل الآية 59
(4) سورة التكوير الآية 8
(5) سورة التكوير الآية 9
(6) ضعفه الشوكاني، وصححه أحمد شاكر والألباني. أبو داود كتاب الطهارة باب الرجل يجد البلة في منامه 1 \ 162 تحقيق طبعة عزت الدعاس. الترمذي في أبواب الطهارة باب ما جاء فيمن يستيقظ ولا بجد بللا 1 \ 190 تحقيق أحمد شاكر، والإمام أحمد في المسند 6 \ 256 كلهم عن عائشة والدارمي باب في المرأة ترى في منا مها ما يرى الرجل 1 \ 160 طبعة اليماني عن أنس.(17/143)
بسواء، قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (1) بل وليجعلها مع الرجل في الجزاء سواء: قال الله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} (2) ثم ليضعها بعد ذلك في مكان عزيز وسط أسرتها. .
فهي أم موضع التكريم، بل تسبق الأب في هذا التكريم: عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال أمك: قال ثم من؟ قال أبوك (3) » .
والجنة تحت أقدام الأمهات، عن معاوية بن جاهمة «أن جاهمة - رضي الله عنه - أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (يا رسول الله أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك فقال: هل لك من أم؟ قال: نعم. قال: لا فالزمها فإن الجنة عند رجلها (4) » وهي زوجة كذلك موضع التكريم، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خيركم، خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي (5) » «ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء: الزوجة الصالحة (6) »
__________
(1) سورة النحل الآية 97
(2) سورة آل عمران الآية 195
(3) البخاري كتاب الأدب باب من أحق الناس بحسن الصحبة. مسلم كتاب البر والصلة باب بر الوالدين وأيهما أحق به ص 2974 طبعة فؤاد عبد الباقي.
(4) النسائي كتاب الجهاد باب الرخصة في التخلف لمن له والدة 5 \ 11، الطبعة الأولى تصوير دار الفكر. ابن ماجة كتاب الجهاد باب الرجل يغزو وله أبوان 2 \ 930.
(5) قال الترمذي حسن صحيح. الترمذي كتاب المناقب باب فضل أزواج النبي 0759 \ 5 الدارمي كتاب النكاح باب في حسن معاشرة النساء 2 \ 82 عن عائشة، وابن ماجة كتاب النكاح باب حسن معاشرة النساء 1 \ 636 عن ابن عباس.
(6) البخاري مع الفتح 3 \ 283 الطبعة السلفية.(17/144)
وهي إن كانت بتعبير " السنة " كنزا أو خير الكنوز. . فهي في القرآن جزء من النفس، قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (1) وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (2) وقال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (3) وهي في الوقت ذاته " مسكن " وعلاقتها مع زوجها هي علاقة " المودة " و " الرحمة ". أي تكريم بعد هذا التكريم، وأي مستوى للعلاقات الزوجية أكرم من هذا المستوى؟
وهي بعد ذلك مكرمة. . أختا أو بنتا أو رحما. .
فوصلها وصل للرحمن، وإحسان تربيتها وإكرامها. . وقاء من النار وطريق إلى الجنة. . عن عائشة - رضي الله عنها - قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من ابتلى من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار (4) » ، وعن عائشة قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله (5) » ، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «استوصوا بالنساء خيرا (6) » وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يفرك مؤمن مؤمنة إن ساءه منها خلق سره آخر (7) »
__________
(1) سورة الروم الآية 21
(2) سورة النساء الآية 1
(3) سورة الأعراف الآية 189
(4) البخاري كتاب الزكاة باب اتقوا النار ولو بشق تمرة، والأدب باب رحمة الولد وتقبيله 5 \ 426 ومسلم كتاب البر والصلة باب فضل الإحسان إلى البنات 4 \ 2027.
(5) مسلم كتاب البر والصلة باب صلة الرحم 4 \ 1981 البخاري بنحوه في كتاب الأدب باب من وصل وصله الله 11 \ 417.
(6) البخاري كتاب الأنبياء باب خلق آدم 6 \ 363 البخاري مع الفتح الطبعة السلفية. مسلم كتاب النكاح باب الوصية بالنساء 2 \ 1091.
(7) صحيح مسلم بشرح النووي 3 \ 657.(17/145)
ذاك طرف يسير. . من تكريم الإسلام وإكرامه للمرأة أيا كان مكانها.(17/146)
2 - شبهات حول المرأة في الإسلام:
ولقد حلا لأعداء الله أن يوقعوا الشقاق بين شطري المجتمع (الرجل والمرأة) لتقوم العلاقة بينهما على الريبة والشك والتربص. . بدلا من ذلك المستوى الكريم من السكن، والمودة، والتراحم! .
فصوروا للمرأة أن الإسلام يريدها في البيت سجينة، وأن سجانها الغليظ هو الرجل، الذي يمسك بالمفتاح يتحكم كيف يشاء، إن شاء سمح بالنور أو سمح بالهواء. . وإن لم يشأ لم يسمح! ، وراحت حكايات " الحريم " يرددها المبشرون والمستشرقون وتلاميذ هؤلاء وأولئك! .
ثم أثاروا الشبهات حول " الطلاق في الإسلام " وتعدد الزوجات في الإسلام وميراث المرأة في الإسلام. .
حتى دفعوا بعض " الجاهلين " و " العملاء " وأصحاب الأهواء الدنيئة إلى المناداة ثم التطبيق في المجالات بما يقولون وعلى غير ما أمر الله ورسوله، حيث اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون توازن المجتمع واستمرار نموه الطبيعي لكي يؤدي وظيفته على أكمل وجه بإدراك الترابط الوظيفي للرجل والمرأة داخل المجتمع الواحد، بل وعلى مستوى البشرية جمعاء، حيث يكمل كل منهم الآخر بأداء وظيفته المناطة به والتي تقبلها طبيعة كل منهما.
وعرفت بعض البلاد الإسلامية ما يسمى قوانين " الأحوال الشخصية " تقيد الطلاق وتحد من تعدد الزوجات وتساوي في الإرث بين الرجل والمرأة، وذلك على عكس الطبيعة الإنسانية وسننها. . كأنهم أرحم بها من الله. . أو كأنهم أعلم به وبها من الله. . . والله يسائلهم وأمثالهم {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} (1) واستجاب هؤلاء وأولئك مرة أخرى لكيد الأعداء فقذفوا بالمرأة بعيدا عن بيتها. . لتضرب في كل ميدان، ولتقتحم كل الأسوار، حتى ما يصادم فطرتها ويخدش حياءها
__________
(1) سورة البقرة الآية 140(17/146)
وأنوثتها، كل ذلك تحت دعوى " المساواة المطلقة " مع أن التسوية كذلك ظلم وعدوان، ولقد ظهرت في مقابل ذلك مقاومة لهذه الأفكار والتي بدأت من فضل الله على عباده تظهر بين هذه الأوساط الضالة، وبدأت الدعوات لرفع هذا الظلم والمغالطة. . والأدلة على ذلك كثيرة ومتعددة، حيث ظهر حديثا في أمريكا المناداة بمحاربة مبدأ (أي. آر. أي) وهو مبدأ المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، ومحاولة ضمه إلى القانون الأمريكي. . وبدأت الشواهد تظهر لهذا المجتمع الأمريكي مما سبب وجود جمعيات وتجمعات متعددة منها ما يرفض عمل المرأة مطلقا، ومنها ما يقوم بالمحاربة السياسية للاقتراح المقدم سابق الذكر. . ومنها ما يقوم بدورات وبرامج إعلامية تركز على أن كثيرا من التفكك الأسري والإجرام ومصائب الصغار والأطفال قد ساهمت فيه مثل هذه النظريات، ويمكن الرجوع إلى العديد من المراجع(17/147)
3 - ميدان العمل للمرأة:
لا شك - كما يعرف علماء الطبيعة والعلوم الأخرى- أن هناك سننا وقوانين أوجدها الله سبحانه بحكمة بالغة، وجعل من هذه القوانين الأدوار المحددة لكل مخلوق من ذكر وأنثى، وجعل ذلك مترابطا حيث برز دور المرأة في الحياة بشكل يدركه كل إنسان، بل وأصبح من المدركات العامة. فالله سبحانه خلق هؤلاء الزوجين وجعل لكل منهما دورا لا يتم يجدون دور الآخر، مما يتحتم عليه وجوده فيه. كل ذلك ندلف منه إلى الموضوع الذي نود أن نعالجه. .
هل يسمح الإسلام للمرأة أن تعمل. .؟ وإذا سمح فبأي الشروط؟ ثم إذا توافرت الشروط، فأي الميادين. .؟ وهذا ما نبذل جهدنا في الإجابة عليه فيما يلي من السطور بمشيئة الله.(17/147)
قبل الإجابة على هذا السؤال وجب تذكر التكليف الملقى على المرأة، والمتمثل في دورها العملي الهام في هذه الحياة، وهو ما تشير إليه الآيات والأحاديث الشريفة، وكذلك وجب تذكر الفترات الأولى من الإسلام ودور المرأة فيه. ومن هنا نرى أن مفهوم العمل مفهوم شامل، يعني مجموع النشاطات والجهود المبذولة في تحقيق هدف ما. وعليه فهل كانت المرأة معطلة لا تعمل؟ ثم إذا كانت غير معطلة هل يعني العمل تغيير المهام الملائمة والواجبات الأساسية إلى عمل آخر بغض النظر عن الدوافع؟ وإن تعاملنا مع المفهوم الرائج عن العمل تجاوزا يمكن أن نسأل:(17/148)
4 - هل سمح الإسلام للمرأة بالعمل؟
ونقول في هذا بعون الله: إن الإسلام لم يأمرها أن تعمل في ميادين الحياة العامة من أجل الكسب المادي. . لكنه كذلك لم ينهها عن العمل، ومن ثم بقي الأمر على الإباحة الأصلية، لكنه مشروط بالشروط المستمدة من النصوص ثم من مقاصد الشريعة، وما أذنت به من دفع المضار وجلب المنافع.(17/148)
5 - شروط العمل للمرأة:
يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء (1) » ويقول الله في كتابه {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) .
ونقول من وراء هذه النصوص، ثم من وراء مقاصد الشريعة، وما أذنت به من دفع المضار وجلب المنافع، وأخيرا من وراء طبيعة المرأة الخاصة وفطرتها التي امتازت بها عن الرجل:
__________
(1) البخاري كتاب النكاح باب ما يتقى من شؤم المرأة 9 \ 137 مع الفتح. ومسلم كتاب الذكر باب أكثر أهل الجنة الفقراء 4 \ 2097.
(2) سورة الأنفال الآية 25(17/148)
(أ) يجب ألا يكون عمل المرأة صارفا لها عن مهمتها الأصلية:
ومهمتها الأصلية أن تكون " زوجة " وأن تكون " أما " ومن ثم فالعمل المباح " للجزء " قد لا يكون مباحا " للكل " إذ ترتب عليه تفويت مصلحة أكبر.(17/148)
وحاجة الأمة الإسلامية إلى " الزوجة " وإلى " الأم " أكثر من حاجتها للعاملات اللاتي يمكن أن يحل محلهن في كثير من الأعمال الرجال، خاصة في بلاد وفي أوقات تنتشر فيها البطالة بين الرجال.(17/149)
(ب) يجب ألا يكون عمل المرأة في كل الأحوال مزاحما للرجل:
مما يؤدي إلى حلولها محل الرجل في أعمال قد يكون الرجل فيها أكفأ، لكنها توضع في هذه الأماكن إما " مجاملة " أو " توددا " أو " إظهارا " للتحضر والتمدن ومجاراة الغربيين أو المتغربين وهو ما يؤدي في " المجموع " إلى انتشار البطالة بين الرجال، وعمل الرجل يفتح به " بيتا " ويقيم به أسرة، وعمل المرأة نادرا ما تفتح به بيتا أو تقيم به أسرة. . إذ ما زال الرجل هو صاحب القوامة وهو المكلف بالإنفاق فالنادر لا حكم له.(17/149)
(ج) يجب ألا يعرضها العمل للفتنة أو يعرض الرجال للفتنة أيضا:
وذلك إذا وضعت في أماكن يكون فيها " الاختلاط " بين الرجال والنساء مما يعرضها أو يعرض الرجال للفتنة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صنفان من أهل النار لم أرهما بعد، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها (1) » ، كما ينبغي ألا يكون في زيها ما يشف أو يصف أو يلفت الأنظار. إذا قدر لها أن تنتقل لعمل مناسب.
مع ملاحظة. . أن الحياء يتأثر، وأن الأنظار تألف شيئا فشيئا ما قد يكون في البداية مثار إنكار.
__________
(1) مسلم كتاب اللباس باب النساء الكاسيات العاريات 3 \ 1680، مسند الإمام أحمد 2 \ 356.(17/149)
(د) يجب ألا يصادم العمل الفطرة الطبيعية:
وواضح أن التكوين العضوي " البيولوجي " و "النفسي " " السيكولوجي " في المرأة(17/149)
مغاير للرجل فوضع الرجل مكان المرأة مصادم للفطرة، ووضع المرأة مكان الرجل كذلك مصادم للفطرة.
فكما أن الرجل لا يصلح " للرضاعة "، " والحضانة " ولا يصلح " للحمل ولا للوضع ". . فكذلك المرأة لا تصلح في أعمال تتطلب " قوة جسدية " أو " خشونة " أو يكون فيها مساس بحياء المرأة أيا كان المساس. . والأمثلة كثيرة لا تحتاج إلى تعداد! .(17/150)
6 - مجالات العمل للمرأة:
(أ) فليس من الضرورة أن تعمل المرأة مهندسة معمارية أو مدنية:
(بل يجب أن لا تعمل. . . .) فتصعد " السقالة " وتختلط بالعمال، وتعطي لهم الأوامر وتتولى الإشراف. . لأنها فضلا عن أنها قد لا تستطيع، فإنها إن استطاعت أرهقت نفسها، وزاحمت الرجال أماكنهم المناسبة، وما يترتب على ذلك من أضرار البطالة وما تجره من أضرار " الاختلاط " وسائر الأضرار الاجتماعية والاقتصادية.
وقس على هذا اللون: (أعمال المناجم، أعمال الحفر والتنقيب، مجالات الصناعة المحتاجة إلى الخشونة، أو التي تفرض الاختلاط) .
(ب) يجب أن لا تعمل " سكرتيرة " خاصة أو عامة:
ونقصد بالخاصة الأعمال الخاصة التي يديرها أفراد أو شركات، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم (1) » وعن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما (2) » .
__________
(1) مسلم كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى الحج 2 \ 978. والبخاري بنحوه كتاب النكاح باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم 9 \ 330.
(2) الترمذي كتاب الفتن باب ما جاء في لزوم الجماعة 4 \ 465. (قال الترمذي حسن صحيح) . .(17/150)
ونقصد بالعامة مجالات العمل الحكومي أو شبه الحكومي.
ومهما قيل أن نجاح المرأة في هذا المجال أكثر من نجاح الرجل، فنحسب أن هذه " دعاية " مدروسة ومسمومة؛ لإشاعة هذا اللون من العمل؛ ليشيع نوعا أو أنواعا من " الخلوات " (جمع خلوة) قد لا يتحقق في غيره، وليتحقق فيه مزيد من التعرف الذي يأتي معه (الإعجاب) المتبادل الذي كثيرا ما يجري التنفيس عنه في مجالات ليست بالحلال، كما أنه كثيرا ما يترتب عليه " تصدع " البناء الأسري، وإصابة العلاقات الزوجية بالملل والفتور، والبعد والنفور، بالإضافة إلى ما تمليه علينا التجربة العالمية الإنسانية في هذا المجال، وخاصة في مجتمعات مفتوحة لا تعرف الحلال والحرام، بل يشرع فيها زواج الرجل من الرجل، وممارسة الجنس بأبشع أشكاله البهيمية. مما تتعرض له المرأة العاملة في هذه المجالات.
ونحن نحذر من مغبة التوسع في تدريب النساء على البرامج الآتية: (الحاسب الآلي، إدخال البيانات، مكتبات، نسخ إعدادي، شئون الموظفين. . .) لخريجات الثانوية، والمتوسطة وذلك " أملا في أن يتطور التدريب ليشمل برامج التدريب للأعمال المكتبية، ثم برامج التدريب للإدارة العليا " وعلى أي حال هل قمنا بدراسة وضع الطاقة البشرية لدينا قبل أن نقوم بزج بناتنا في هذا المجال؟ وهل أهلنا الرجال قبل النساء؟ وهل يمكن الاستفادة في مجالات أخرى غير هذه. .! ؟
وقد نشرت مجلة معهد الإدارة مقالا لإحدى الكاتبات تشير إلى أن عمل هؤلاء(17/151)
المدربات سيكون في أقسام خاصة بالسيدات، لتطمئن إلى عدم اختلاط المرأة، فإنه يخشى مع كثرة الخريجات، ومع الدعوات المسمومة بفتح مجال العمل للمرأة، أن نجد الفتاة المسلمة في يوم قريب تجلس سكرتيرة لمدير، أو تعمل في مجال آخر تختلط فيه مع الرجال!
جـ - ليس من الضرورة على الإطلاق أن تعمل مذيعة للإذاعة والتلفزيون:
فالعبرة هنا بإيصال الكلمة إلى المستمع أو المشاهد، وما عدا ذلك من أساليب الدعاية المادية، حيث نرى أن المرأة استعملت كوسيلة دعائية يتاجر من خلالها بخدعة المستمع أو الشاهد، وهذه من المبادئ الرأس مالية مما يوضح كل هذه الأمور التي نقوم بتقليدها دون استخلاص تجربة من سبقنا. لاعتمادها الأول على " صوتها " وفي الثاني على " صورتها " مع أن " صوتها " ولسنا نزعم أن صوت المرأة عورة. . لكنه مع ما يجري في الإذاعة من مقابلات وضحكات يصير كذلك، وغالبا ما يصحبه " اللين " أو " الخضوع " بالقول. . فيطمع الذي في قلبه مرض.
ومع الصورة يصير الأمر أشد، مع ما تعمد إليه الكثيرات في هذا المجال من تغيير خلق الله عن طريق ما عمت به البلوى من " موضات " المكياج وغيره.
وإذا كان عملها كمذيعة في هذا الميدان محل نظر، فما بعد ذلك أشد وأنكى. . التمثيل، والغناء، والرقص، وطريق الشيطان منزلق لا يكاد يلمس القدم أوله حتى يتزحلق إلى آخره أو قريبا من آخره! {عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} (1) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 109(17/152)
7 - إذن فما ميدان عمل المرأة؟
الميادين كثيرة. . .
أولها: ما كان خاصا بالنساء وبعيدا عن الاختلاط.
كالتدريس للبنات في المراحل المختلفة، والعمل الإداري في هذه المجالات النسائية، وكالتطبيب للنساء في التخصصات المختلفة، وكالتمريض للنساء (لا للرجال) في المجالات المختلفة، مع إحسان فصل الأقسام عن بعضها، وتشغيل الأطباء والممرضين من الرجال في أقسام الرجال، والانتهاء من المنكر القائم الذي يتيح الاختلاط داخل العنابر، وداخل الغرف بين العاملين والعاملات، وبين المرضى والعاملات! والأسواق والمصارف الخاصة بالنساء.
وآخرها: ما حكمت به الضرورة.
مثل ميادين القتال. . إذا احتجنا للنساء لعلاج الجرحى من المقاتلين، لتخصيص الرجال للقتال. . والضرورة تقدر بقدرها - كما ذهب إلى ذلك العلماء -.
ونحن إذا ألقينا نظرة على الأمم التي سبقتنا في ترك الحرية للمرأة أن تعمل سواء في أمريكا أو أوروبا أو بعض البلاد الشرقية نجد أن المرأة أتعس مخلوق؛ فهي تمارس الأعمال الشاقة، وتزاحم الرجال في كسب الرزق، وأهملت بيتها، وتأكل طعامها من الأسواق، ففقدت أنوثتها، وتبدد حلم السعادة الذي كانت تحلم به، لو خرجت إلى مجالات العمل، وتفككت أواصر الأسرة، وأهملت تربية الأبناء، وشاع الانحلال، وانتشرت البطالة بين الرجال، وصارت الأصوات ترتفع من النساء قبل الرجال بأن لا صلاح إلا بعودة المرأة إلى بيتها.
وصارت بعض الدول الإسلامية التي سبقت في هذا المضمار تشجع المرأة على أن تأخذ إجازة بنصف المرتب حتى تخلي مكانها لشاب عاطل، وتتفرغ لرعاية أبنائها وإصلاح بيتها، إنه دحض المحاولات الواهية المبنية على العاطفة والرغبة الشخصية المنحرفة، مثل محاولة الترويج والادعاء بأن نصف المجتمع معطل وما أشبه ذلك من ادعاءات كاذبة، ودحض هذه المفتريات لا يكون بألفاظ عاطفية، وإنما من خلال دراسة علمية جادة تتفهم إمكانياتنا البشرية المعطلة من خلال هذه الظواهر:(17/153)
1 - شباب يتسكع في الشوارع.
2 - إهدار للوقت بين العاملين.
3 - المبالغة والإسراف في استجلاب العمالة كمصدر للمفاخرة مما يترتب عليه رفع مستوى الخدمات في البلد كميا، وبالتالي زيادة الطلب في عمالة أخرى.
4 - البطالة المقنعة بين الموظفين من عدم الحرص على الوقت وأداء العمل في وقته.
5 - عدم إتاحة الفرصة، وتربية أبناء المدارس على الاعتماد على ذواتهم بعد الله، والاستفادة من العمل خارج أوقات دراستهم، لسد الحاجة في الأعمال البسيطة، ولإتاحة فرصة تربوية جادة لهم.
6 -. . . إلخ.
إن محاولة التقليد لمجتمعات يظن أنها متقدمة يجب أن لا يبرر هدم المجتمع بالقضاء على دعائمه الأساسية الذي يكون للمرأة الدور الكبير فيه، وذلك بأثرها على الرجل وعلى الأطفال، بل على الأسرة بأكملها، وإن التدليل على ذلك أمر يسير، وذلك لكثرة الدراسات التي أوضحت وضع الأسر في الغرب والمجتمعات الأخرى من إجرام وانحراف وتشرد وقتل وأنانية إلى غير ذلك من الأمور، والتي كان من أهم أسبابها تخلي المرأة عن دورها الذي يجب أن تؤديه في مجتمعها.
إن الدور الذي تقوم به المرأة هو عمل في غاية الأهمية، بل إنه إذا قيس بالأعمال الأخرى حسب أهميته، وجد في المقدمة بل هو الأصل والأساس. . ألم يكن ذلك عملا. إن إحصائيات الإجرام والمشكلات السلوكية كالانتحار والسرقة والقتل. . إلخ يكون تخلي المرأة عن دورها هو العامل الأول في مثل هذه الجرائم.
وهناك العديد من الدراسات والبحوث التي يجب أن ندرسها بعين العبرة والعظة، والتي ستجعلنا بأمر الله نتجنب كثيرا من السلبيات: التي يحاولون الآن تجنبها بأغلى ثمن.
ثم ونحن أمة إسلامية، وجب أن نحكم معيار الله سبحانه وتعالى فينا، حيث إن لا خيرة إلا فيما اختاره الله ورسوله. . هذا إذا أردنا أن نبني مجتمعا إنسانيا راقيا. .(17/154)
وحتى نكون قدوة لغيرنا علينا أن ندرك أهمية هذا الدين القويم مطيعين لمبادئه وتعاليمه بكل فخر واعتزاز، وحتى تجد المجتمعات الضالة القدوة والحل.
هذه تجارب الأمم قبلنا، فهل لنا أن نأخذ منها العظة والعبرة، ونرسم لأنفسنا ولأجيالنا المقبلة الطريق الآمن حتى لا يتعرض مجتمعنا الإسلامي إلى هزات وتغيرات. . ولا ينبغي أن نندفع مع العواطف إلى التقليد دون روية أو تفكير.
ولا يمكن أن تستقيم أحوال المجتمع بتخلي المرأة عن القيم والآداب والمثل العليا التي حباها بها الإسلام من التصون والعفاف والمرؤة والحياء وعدم الابتذال. . والله ولي التوفيق والهادي إلى سواء السبيل.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
انظر الكتب والمراجع الآتية:
1 - عمل المرأة في الميزان. د \ محمد علي البار.
2. Attempted suicide in children and adolescents. Oxford University. Journal of child psychology Oct Vol. 23 October. 1982. 3- six notes، sexuality and the recoverint woman alcoholic program is- sues Journal of Psychoacive Drugs 1982 jan-june Vol. 14 (1-2) .(17/155)
أثر الإيمان في إشاعة الاطمئنان
بقلم الدكتور: محمد بن سعد الشويعر
توطئة
الحمد لله رب العالمين، القائل في محكم التنزيل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (1) .
والصلاة والسلام على من سماه قومه قبل البعثة الأمين: فكان أمينا على أموالهم، وأمينا على أسرارهم، ثم أمينا على رسالة ربه بعد أن حمل أعباءها.
وبعد: -
فإن أثر الإيمان في إشاعة الأمن والاطمئنان من منظور القرآن والسنة، موضوع واسع ومتشعب، وتتبع النصوص من الكتاب الكريم، وهدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يستوجب حيزا أكبر، ومجالا أوسع. وكنت أتمنى الحصر في جانب من جوانب الأمن الاجتماعي، أو بعض التشريعات التي فرضت على المسلمين وأثرها في إشاعة الاطمئنان في حياتهم. أو عن الحدود ودورها في استتباب الأمن.
لأن راحة النفس لا تكون إلا بالإيمان، ورخاء المجتمع لا يكون إلا بالأمان، والأمان ثمرة من ثمار الإيمان، وحصيلة من حصائل العقيدة الصافية.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 96(17/156)
والإيمان والعقيدة الصافية لا يكونان إلا بعد الدخول في الإسلام وفهمه جيدا، وتطبيقه عملا.(17/157)
نفس. . . بلا إيمان
ونفس لا إيمان فيها تبقى مضطربة وقلقة، وتائهة وخائفة: -
فأما اضطرابها فلأنها كالسفينة التي تتقاذفها الرياح في البحر. فتموج بها تقلبات الجو يمينا وشمالا، وتتقاذفها العوامل المؤثرة التي تطغى عليها. فهي لم تجد ما يرسيها، أو يوصلها لبر الأمان؛ لأن كل نفس تأخذ مصدرا تشريعيا في سلوكها، أو منهجا عقديا في تصرفاتها. غير المصدر الذي أوجده الله للمؤمنين، وارتضاه سبحانه لعباده وبعث به رسله، فإنه لا يلبي رغبة، ولا يريح نفسا، ولا يحقق هدفا.
والمصدر الذي ارتضاه الله هو كتابه القويم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه تنزيل من عزيز حكيم، ثم ما بلغ به المصطفى من وحي عن ربه أو أوضحه من شرع لصالح الأمة، وإنقاذهم من الضلالة، مما يعالج ما يختلج في النفوس، ويؤرق الضمائر.
وبهذين المصدرين تسكن النفس من اضطرابها، وترتاح في مسيرتها، وتطمئن على حاضر أمرها ومستقبله.
أما كونها فلسفة: فإن من الغرائز التي أودعها الله في النفوس حب استجلاء المستقبل والتخوف من العواقب، ولكي تسير في اتجاهها: تلجأ يمينا وشمالا للبحث عما يحقق قبسا من أملها أو راحة من ضمير، ولا يمحو هذا القلق والحيرة من النفوس، إلا يقين يزيل دواعي هذا القلق، ويقضي على مسبباته، والإيمان بالقدر خيره وشره، واليقين بأن ما قدره الله كائن لا محالة، والرضا بما قسم الله: من أقوى دعائم هذا اليقين كما في حديث ابن عباس.
وأما كونها تائهة: فإن من يسير بغير هدى، أو معرفة لشرع الله الذي شرع لعباده: فإنه كالمسافر في طريق لا يعرف اتجاهه. وطرق المسالك في العبادة(17/157)
والعقيدة: كالطرق الموصلة من مكان لمكان، فالذي يأخذ المعروف منها بعلاماته وإرشاداته، فإنه قد سلك الآمن الموصل، أما غيره من الطرق فإنها تؤدي للضياع والاضطراب النفسي، وتدعو للخوف على النفس من المخاطر العديدة، وعلى المال والممتلكات، ألم يقل سبحانه: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) .
ويقترن بتلك الأمور كلها الخوف، فهو مصاحب للاضطراب، بل هو المحرك له وهو المؤثر في القلق، كما أنه هو الذي يثير التيهان، ويدعو لعدم الاطمئنان.
فالخوف على المصير، والخوف من المستقبل، والخوف من النتائج، والخوف مما يحيط بالإنسان: على نفسه وولده وماله، وكل عزيز لديه؛ لأن أنواع الخوف كثيرة، ودواعيها عديدة القياس لكن منهجها واحد.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153(17/158)
طريق الأمان
وقد رسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه بوسيلة إيضاح جيدة، ما يؤكد طريق الأمان، ويزيل المخاوف عنهم، وذلك باتباع ما جاء به من عند ربه: فقد خط خطا مستقيما في التراب، وأفهمهم أن هذا الطريق الموصل إلى الله، وهو ما بعثه الله به، ثم خط خطوطا جانبية متفرعة منه، وبين أن: هذه السبل، من اتبعها ضل وغوى وابتعد عن طريق الرشاد، ثم قرأ الآية السابقة.
وفي كتاب الله - جل وعلا - علاج سهل المأخذ لمن وفقه الله، يريح القلوب، ويطمئنها من كل أمر مؤرق، قال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (1) أي ترتاح وتهدأ، ويسهل الأمر الصعب، وهذا هو الأمن النفسي، الذي لا يكون إلا بتذكر عظمة الخالق سبحانه واستصغار ما دونه، فلا إله إلا الله: كلمة صغيرة في حروفها، سهلة في نطقها، لكنها عظيمة في مدلولها، كبيرة في معناها، عميقة في تأثيرها: فهي مطمئنة للنفس، ومهدئة للأعصاب، ومسكنة للجيشان.
__________
(1) سورة الرعد الآية 28(17/158)
ومادة أمن، قد جاءت في كتاب الله هي ومشتقاتها أكثر من ثمانمئة مرة " 800 "، فالمؤمنون والإيمان والأمانة، والأمين، والذين آمنوا، كلها من الأمور المرتبطة حسا ومعنى بالإيمان ونتائجه. وكلها تؤدي برابطة قوية مع الله، ومن منطلق التمسك بشرعه.
كما أن الكلمات التي تدل على معنى الراحة والسكينة، وتوفير السعادة للنفس وتذكيرها بالله وعقابه لمن عصى وانحرف، والنعيم والفوز لمن أطاع واستجاب كثيرة في كتاب الله.
وما ذلك الاهتمام الكثير في كتاب الله بهذا الجانب، إلا لما يوليه التشريع الإسلامي من عناية فائقة بالنفس البشرية، وعناية بتوجيهها، مع كفل ما يريحها ويؤمنها من المخاطر؛ حتى تعمل وهي مطمئنة على النتيجة، مع راحة بال بالوصول لثمرة ما كلفت به؛ لأن العمل قد حداه يقين وصدق.
والسنة النبوية قد اهتمت في هذا الجانب بترسيخ ما جاء في القرآن الكريم، لزيادة تمكينه، بزيادة الدلالة اللفظية والمعنوية؛ لأن زيادة تأكيد المبنى، زيادة في تمكين المعنى، كما يقول بذلك البلاغيون.(17/159)
التعريف اللغوي لكلمة أمن
والتعريف اللغوي لكلمة أمن أمنا وأمانا وأمانة وأمنا وإمنا وأمنة: اطمأن ولم يخف، فهو آمن وأمن وأمين يقال: لك الأمان أي قد آمنتك. والبلد: اطمأن أهله فيه، وأمن الشر ومنه: سليم، وأمن فلانا على كذا: وثق به واطمأن إليه، أو جعله أمينا، وفي التنزيل العزيز: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} (1) .
وأمن أمانة: كان أمينا، وآمن إيمانا: صار ذا أمن، وآمن به: وثق وصدقه،
__________
(1) سورة يوسف الآية 64(17/159)
وفي التنزيل العزيز: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} (1) وأمن فلانا: جعله يأمن.
وأمن على دعائه: قال: آمين، وأمن على ماله وعلى الشيء: دفع مالا منجما لينال هو أو ورثته قدرا من المال متفقا عليه، أو تعويضا عما فقد. يقال: أمن على حياته أو على داره أو سيارته، وأمن فلانا: جعله في أمن. وأمن فلانا على كذا: أمنه والأمانة الوفاء والوديعة، والأمنة، والأمنة: من يؤمن بكل ما يسمع، ويطمئن إلى كل أحد.
__________
(1) سورة يوسف الآية 17(17/160)
الأمن الذي تبحث عنه النفوس
والأمن الذي تبحث عنه النفوس في كل شأن من شئون الحياة، هو جزء من هذه المشتقات التي جاء بها اللغويون وأوضحوها، وقد جعل القرآن الكريم، وهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محور هذا الأمن الإيمان الذي مقره القلب، سواء كان ذلك فيما يتعلق بالنفس ومتطلباتها، كالأمن الصحي، والأمن النفسي، والأمن الغذائي، والأمن الاقتصادي والأمن الأخلاقي، وغيرها.
أو ما يتعلق بالمجتمع وترابطه: كالأمن في الأوطان، والأمن على الأعراض، والأمن على الأموال والممتلكات وغيرها.
أو ما يتعلق بالأمن على النفس من عقاب الله ونقمته بامتثال أمره، وطاعة رسوله، واتخاذ طريق المتقين مسلكا لكي تنقذ النفس بكسب رضا الله، واستجلاب رحمته والأمن من عذابه في نار جهنم وغيرها.
وكل هذه الأنواع من الأمن مطالب ملحة تسعى إليها البشرية في كل عصر، وفي كل مكان، وكل من حمل راية الزعامة في أي مجتمع وبيئة يدعو إليها،(17/160)
لأنها هي التي تلامس أوتار الخاصة والعامة. ذلك أن النفس البشرية تبحث عن ذلك، ولا تدرك مدى الحاجة له والضرورة الملحة إليه، إلا بفقدانه، أو انتقاص مرتبة من مراتبه.
ويؤصل هذا المدلول ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «نعمتان مجحودتان - وفي رواية مغبون فيهما كثير من الناس - الصحة في الأبدان، والفراغ (1) » رواه البخاري عن ابن عباس (2) ، ولئن كانت الزعامات البشرية تغفل عن الأمن الأخروي، والأمن من عقاب الله، فإنما هذا عائد لنقص الإيمان لديها.
أما نظرة القرآن الكريم، وتوجيهات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنها تؤصل الإيمان، الذي يجعل النفس البشرية مطمئنة، تؤمن بما قدر الله، وتستسلم لقضائه، وتحتسب ذلك عنده أجرا مدخرا.
ومن هنا فسوف نمر عرضا ببعض من المطالب البشرية، للاطمئنان على شئون الحياة، ليبرز من ذلك اهتمام التشريع الإسلامي بذلك في مصدريه: كتاب الله وسنة رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم -. ليتضح لنا اهتمام القرآن الكريم بالعلاج النفسي المريح، قبل اهتمام علماء ومفكري العالم به.
والفرق بين الاهتمامين أن الإسلام جاء لمصلحة النفس البشرية، وتوجيهها لما يسعدها، وأن المصلحة عائدة لهذه النفس في الأول والآخر، أما ما يضعه البشر من أنظمة، يخاطب بها ألباب الجماهير، وما تحمل من وعود ومطالب وخيالات، فإن هذه الأمور تتبدد كالسراب؛ لأن الواحد يسعى لنفسه حتى يحقق ما يطلب، ويصل إلى بغيته، حيث يتجاهل بعد ذلك وعده للآخرين بالسعي لمصالحهم، ويتنكر لما يطمئنهم.
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي بعثه الله رحمة للعالمين، قد كان قدوة صالحة في نفسه أولا، بمنهج السلوك والعمل، وبدعوته لتأصيل الإيمان، وتمكين العقيدة في الفئة المؤمنة؛ لأن ذلك مما يطمئن النفس ويريحها.
__________
(1) صحيح البخاري الرقاق (6412) ، سنن الترمذي الزهد (2304) ، سنن ابن ماجه الزهد (4170) ، مسند أحمد بن حنبل (1/258) ، سنن الدارمي الرقاق (2707) .
(2) وجاء في الأثر الصحة في الأبدان والأمن في الأوطان(17/161)
ومن هنا ندرك أهمية ما جاء في القرآن الكريم، وسيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من آيات وعبر تقوي دعائم الإيمان، وتمكنه من النفوس، في كل أمر يعترض الإنسان في أمور حياته وآخرته.(17/162)
الإيمان لغة وشرعا
وهذا يدعونا إلى إيراد تعريف للإيمان لغة وشرعا، ولأن من التعريف يرسخ المفهوم المراد، على ضوء ما يستعرض من أدلة.
فالإيمان لغة: هو التصديق والاطمئنان، وقد مر بنا جزء من تعريفات مادة أمن في اللغة، والتي توسعت فيها كتب اللغة توسعا يشبع فهم الباحث، وهي سهلة ميسرة لمن يريدها.
أما في الاصطلاح الشرعي: فهو الإيمان بالله، والإيمان بملائكته، والإيمان بكتبه. والإيمان برسله، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره.
فهذه الأمور الستة هي التي عليها مدار النفس وتفكيرها، في حاضرها ومستقبل أمرها، في شئون الحياة الدنيا، وما يصلح الأموال فيها، وفي المستقبل المنتظر حدوثه في هذه الحياة الدنيا، أو ما يحصل بعد الموت وعند البعث والنشور.(17/162)
القرآن الكريم وأثره في توطين النفس
فالقرآن الكريم قد أعطى هذا الجانب اهتماما كبيرا، لما له من أثر في توطين النفس البشرية على الرضى والاستسلام، والترقب والاهتمام، وفق منطلق عقدي، جعل له التوجيه الإسلامي قاعدة متينة يرتكز عليها، وسندا قويا يدعمه، لتشد بذلك جوانب النفس حتى لا تنحرف أو تزيغ.
وإذا كانت النفس البشرية في عصرنا الحاضر الذي تقاربت فيه الشعوب،(17/162)
وتداخلت الثقافات، وقد دهمها الاضطراب، بحيث أصبح القلق يؤرقها في كل شيء: فهي تخاف من بعضها البعض، وهي تخاف من كوارث الحياة، ريحا أو مطرا أو أعاصير أو ثلوج، وهي تخاف من الأمراض المتعددة والأوبئة، وخاصة ما يظهر جليا في وسائل الإعلام منذ عامين عن المرض القاتل ضعف المناعة المسمى "الإيدز" كما كانت تخاف من السرطان وغيره، وهي تخاف وتضطرب من أمور كثيرة ومتعددة لا يمكن حصرها، حتى أصبح الخوف والقلق سمة من سماتهم، وانتشر تبعا لذلك الانتحار، والرغبة من الخلاص من هذه الحياة. وما ذلك إلا من نقص الإيمان في قلوبهم، وضعف الوازع العقدي المرتبط بالله وبدينه الذي رضيه لعباده، ذلك الوازع الذي يجعل النفس تؤمن بقضاء الله وقدره، بدون تسخط أو تأفف وتحتسب الأجر فيما تتحمله النفس عند الله مدخرا في يوم الجزاء والنشور، عندما يحصل ما في الصدر، ويؤكد هذا المعنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث رواه ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «كنت رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما فقال: يا غلام!! احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك (1) » رواه الترمذي.
والله سبحانه وتعالى يسوق الكوارث على البشر في حياتهم الدنيا، لينبه النفوس من غفلتها، وليعيدها إلى خالقها، ويربطها بموجدها، ويذكرها به كلما بعدت، وهذا هو الإيمان بالله وبكتبه وبرسله، وهو معرفة الحق المطمئن، الذي جاء من عند الله، إيمانا به، واعتقادا بأنه من عند الله قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (2) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (3) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (4) .
فإذا كانت هذه البلوى في نزول المصائب على النفوس المؤمنة، من أجل أن يقوى إيمانها، وتستعين به على الصبر والتحمل في مجابهة ما ينزل من
__________
(1) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2516) ، مسند أحمد بن حنبل (1/308) .
(2) سورة البقرة الآية 155
(3) سورة البقرة الآية 156
(4) سورة البقرة الآية 157(17/163)
بلوى، فإن هذا من ترسيخ الإيمان، والاطمئنان بتمكينه، ذلك أن تسليم الأمور لله، وعدم الجزع مما حل لا يتحمله بصبر وثبات، ورضى واطمئنان، إلا النفوس المؤمنة المحتسبة، وقد سماهم الله في آخر الآيات بالمهتدين السائرين على الدرب المستقيم.
والصبر يأتي على ضربين: صبر المؤمن الذي يرجو أجر الله ويخاف عقابه، فيتحمل في سبيله باطمئنان ورضا أمورا كثيرة، وهذا هو الذي حث عليه القرآن الكريم في أكثر من ستين موضعا، وهذا أول نوع من الجهاد فرض في الإسلام. فقد مكث - صلى الله عليه وسلم - في مكة ثلاث عشرة سنة، يرسخ في أصحابه عقيدة التوحيد، ويأمرهم بالصبر على أذى قريش حتى يجعل الله لهم مخرجا، ويطمئنهم بنصر الله وتأييده، وأن الغلبة لله ولرسوله وللمؤمنين.
وصبر الكافر على ما ينزل عليه من مصائب وكوارث، فهو إن صبر فبغير احتساب، وصبره كصبر البهائم لما يحمل عليها من أثقال، أو تلقى من أصحابها في مشقة، وهو إن جزع فإنما يجزع بتسخط على الله الذي قدر الأشياء لحكمة وعبرة، فحياته قلق وضجر.
والقاسم المشترك ما بين المؤمن والكافر في تحمل المصائب والكوارث، والاستسلام للأمر وتطبيقه أو النكوص عنه، هو العامل الإيماني الذي تتفتح عنه النفوس، وتتقبله القلوب كما توضحه الآية الكريمة: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (1) .
والقرآن الكريم يربط كل عامل من عوامل الدنيا التي تجعل الإنسان قلقا بشأنها، بقوة العقيدة، وسلامة الإيمان ونقاوته، وبذلك تخف الوطأة، وتهون المصيبة، فهو يخاطب النفس بما يطمئنها ويريحها، ويهدئ ثائرتها، ولن يمر بالقارئ لكتاب الله آية إلا ويلمس فيها سرا عجيبا، وعلاجا مريحا، يزيل عن النفس كابوس القلق ومؤثر الاضطراب.
__________
(1) سورة محمد الآية 31(17/164)
وهذا هو أقوى علاج نفسي للخروج من ذلك المحيط، الذي لم يعرف وجوده لدى المسلمين، إلا بعد ضعف الوازع الإيماني، والتساهل في أمور الدين، والبعد عن كتاب الله الذي هو أكبر مؤثر يريح النفوس، وتطمئن به لما فيه من عظات وعبر، ووعد ووعيد، وهدي المصطفى الذي يعطي حديثا لكل حادثة، ويجعل لكل حالة مخرجا.
وليس هذا المفهوم منا معاشر المسلمين الذين نجد العلاج ماثلا قولا وعملا فقط، ولكن رجال الغرب المهتمين بالنفس البشرية، وما تعانيه في مجتمعاتهم في قرننا الحاضر من قلق واضطراب، وأزمات عديدة، قد جاءت دراسات منهم تقول: إن المسلمين لا يعرفون الانتحار المنتشر في بلاد الغرب، وإن المسلمين لا يعيشون الاضطرابات المتعددة التي وقع فيها أبناء الغرب. وبعضهم يطلق على أجيال ما بعد الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية أجيال القلق والضياع الفكري.
ومن هنا نلمس في ديارهم كثرة المصحات النفسية، وانتشار شركات التأمين على كل شيء يخشون ضياعه أو حلول كارثة فيه.
فاستغلت شركات التأمين التي أسسها ودعا إليها بوسائل إعلامه المختلفة مصاصوا دماء الشعوب وهم اليهود، عندما استغلوا القلق الذي يعيشه أولئك الذين فرغت قلوبهم من الإيمان بالله، فسهل عليهم جذبهم إلى مصائدهم، واستغلال نقطة الضعف فيهم، ومن هنا ندرك بعضا من سر عداوة اليهود للإسلام وأهله، حسبما أوضح الله عنهم في القرآن الكريم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (1) {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (2) {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} (3) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 82
(2) سورة المائدة الآية 83
(3) سورة المائدة الآية 84(17/165)
فاليهود وصفهم الله بشدة العداوة لأهل الإيمان؛ لأنهم يعرفون الله، ويعرفون الحق الذي أنزل على عباده، ويتركون العمل به وأتباعه قصدا، وبسابق إصرار وعن علم ودراية، فلذلك كانوا أعداء لله، ولأهل الإيمان، وأخذوا الأسبقية في هذا قبل المشركين عبدة الأصنام للمعاندة والمخالفة مع العلم، فقلوبهم قاسية وحاقدة.
أما النصارى ففيهم رقة تقربهم من المؤمنين، فإذا وضح لهم الحق استجابوا لندائه، فهم أقرب للإيمان بآيات الله كما وصفتهم الآية الكريمة.
وما يحصل من قساوة قادة النصارى، ورجال الكنيسة ضد الإسلام فهو لأحد سببين: -
- إما مصالح قيادية يخشى عليها.
- وإما بتحريض من اليهود الذين يوالون النصارى ليجتمعوا سويا في محاربة الإسلام.
ولذا امتن الله على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بطريق وسط بين غل والنصارى، وجحود اليهود، فالمؤمنون من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، والمصدقون بشرع الله الذي جاءهم من عند الله، والمطمئنة قلوبهم بمصدري التشريع في الإسلام عن عقيدة ويقين، يدعون الله بالاستقامة على الطريق المستقيم الذي يمثل عقيدة وسطا، وعملا لا مشقة فيه، فلا تكليف للنفس فوق طاقتها فتمل. يقول الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (1) {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (2) .
فالمغضوب عليهم هم اليهود الذين عصوا الله عن علم ومعرفة، والضالون هم النصارى الذين يعبدون الله عن جهل وضلال.
وقد قال سفيان الثوري - رحمه الله -: من فسد من عباد أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ففيه شبه بالنصارى، ومن فسد من علمائهم ففيه شبه باليهود.
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 6
(2) سورة الفاتحة الآية 7(17/166)
الإيمان الذي تطمئن به القلوب
فالإسلام هو دين الحق المطمئن بتعاليمه، المريح بمنهجه، وهو دين إبراهيم الخليل - عليه السلام - أب الأنبياء الذي عرف آيات الله في حداثة عمره، ففي حواره - عليه السلام - مع قومه عندما دعاهم للإيمان بعدما تبدت له الآيات، نراه - عليه السلام - يدعوهم لترك الأصنام، ويخوفهم بها؛ لأن قلوبهم متعلقة بها، لاعتقادهم النفع والضر منها، أما هو فلا يرى غير الله جالبا للنفع أو دافعا للضر، فهو سبحانه الذي يجب أن تؤمن به القلوب، وتسلم أمرها إليه لتهتدي وتطمئن، فتأمن وتستقر، ويبرز هذا العامل الإيماني في هاتين الآيتين الكريمتين اللتين حكاهما الله على لسان إبراهيم عليه السلام: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (2) .
فكان هذا الحوار الكريم من نبي الله - عليه السلام - دعوة قوية للإيمان الذي تطمئن القلوب به، كما أنها حجة قاطعة تسكت من يناقش، فإذا كان الإيمان غريزة في القلوب، والتعلق فطرة فطر الناس عليها، فما هو الطريق الأفضل، وما هو الشيء الذي يريح النفس، ويهدئ من ثائرتها، ويقضي على المشكلات التي تعترضها؟ ؟
إن ذلك لا بد أن يكون شيئا عمليا، تتجاوب فيه الأحاسيس مع الوجدانيات، وتتعاطف فيه الحواس مع الأعمال، ويكون فيه انسجام بين المعقول والمنقول، وبين الأخذ والمأخوذ منه.
وهذا كله لا يتأتى في علاقته بأوهام، ولا بمعبودات غير مستقرة لا تنفع أو تدفع عن نفسها شيئا.
ولذا جاء وصف الله - جل وعلا - لحوار إبراهيم الذي يدعو للإيمان عقيدة
__________
(1) سورة الأنعام الآية 81
(2) سورة الأنعام الآية 82(17/167)
وعملا، بمقارنته بين آلهتهم التي أشركوها مع الله، في عمل لم ينزل الله به سلطانا، وبين الرابطة مع الله الذي تطمئن بذكره القلوب، وترتاح بالتوكل عليه هواجس النفس، بحيث تبتعد عن المؤثرات عليها. جاء الوصف لذلك بأن هذه حجة قوية على قومه، حيث لم يجدوا لذلك جوابا؛ إذ لا شك أن الأمن مع الإيمان بالله، وراحة الضمير مع عقيدة الوحدانية به سبحانه فقال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (1) والإيمان الذي تطمئن به القلوب، وترتاح به النفوس، يدخل في كل شأن من شئون الإنسان، فالأعمال لا بد أن تنبثق عن الإيمان وترتبط به؛ لأن الإيمان بالنسبة للعمل بمثابة المرشح للماء، فالمرشح يصفي الماء، ويمسك الرواسب فيه، فلا يخرج إلا ماء صافيا، ونقيا صالحا للشرب، يحافظ على الصحة.
وكذلك الإيمان بالنسبة للأعمال قد أوضحه القرآن الكريم، والسنة المطهرة؛ لأن الأعمال الصالحة مهما كانت والخصال الحميدة التي ترنو إليها الأفئدة، ونقاوة النفس من الموبقات والمحظورات، كل ذلك ثمرة الإيمان، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان (2) » .
فإذا كان إماطة الأذى عن طريق الناس حتى لا يؤذيهم إذا مروا به أو وقعت عليها أقدامهم وهو من أبسط الأعمال، يعتبر من الإيمان الذي يطمئن القلوب، لوجود رابطة تضم شمل المؤمنين. وعاطفة تجعل بعضهم يهتم بالآخرين، ولو في الشيء البسيط من الأعمال والأقوال.
فإن دين الإسلام كما هي نصوص تعليماته، تتمكن فيه عقيدة الإيمان
__________
(1) سورة الأنعام الآية 83
(2) رواه مسلم.(17/168)
بأعمال أخرى، منها ما هو عائد للنفس وحدها كالحياء الذي أخبر عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه شعبة من شعب الإيمان الكثيرة، التي حدد عددها في هذا الحديث.
والإيمان لا يكون قويا إلا إذا وقر في القلب، وسيطر على المشاعر، وقد أوضح هذا المدلول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا (1) » .
وكان من دعاء مالك بن دينار - رحمه الله -: اللهم أذقني حلاوة الإيمان. ذلك أن للإيمان مذاقا مميزا، يحس به من تمكن من قلبه، وارتبطت به حواسه.
والعلم إذا اقترن بالإيمان صار درجة مرغوبة، ويحث عليها الإسلام، وهذا هو العلم الذي ينفع صاحبه، وينفع الآخرين؛ لأن الإيمان يرشد العالم لطريق الصواب، ويوجهه لما فيه الخير.
وهذا مشهد من مشاهد يوم القيامة يوضح فيه أهل العلم الذين آمنوا بالله: حقيقة معرفتهم ما أوجبه الله عليهم، بما علموه من العلم النافع المفيد، فطبقوه في حياتهم، واطمأنت به قلوبهم في يوم الفزع الأكبر، والخوف الشديد، فهم يقولون ذلك وبراحة نفس، واطمئنان قوي، حيث أمن الله روعهم، وسكن قلوبهم بعقيدة الإيمان، يحكي الله - جل وعلا - هذا المشهد بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2) .
__________
(1) رواه مسلم.
(2) سورة الروم الآية 56(17/169)
فأصبحت علومهم الدنيوية، ومقدرتهم في اللجاج والحجج لم تنفعهم، ولم يعتبر ذلك علما؛ لأنه لم ينقذهم من أهوال ذلك اليوم، ولم يوصلهم لباب من أبواب الاطمئنان والهدوء النفسي، عندما وقعوا في الأمر، ووصلوا إلى يوم البعث والجزاء، يوم القلق النفسي، أو الراحة أو الاطمئنان والنتيجة هذه لا تتأتى إلا بالعمل وفق منهج كتاب الله، وهدي رسوله، اللذين فيهما الدواء لكل داء، ولذا قال بعض العارفين من علماء الإسلام في صدره الأول: إذا سمعت في كتاب الله: يا أيها الذين آمنوا، فأصغ إليها سمعك، فهو إما خير يأمرك الله به، أو شر يحذرك الله منه.(17/170)
الإيمان وقته الحياة الدنيا
وموقف يوم القيامة يختلف عن المواقف الدنيوية، بل إن الإيمان في ذلك الموقف بعد أن تذهل النفوس، وتضطرب القلوب من هول ما ترى: لا ينفع؛ لأن وقت الإيمان والتبصر قد انتهى، فالإيمان وقته الحياة الدنيا، حيث الفسحة من العمر، وحيث الابتلاء والاختبار، وحيث موطن الصراع بين الخير والشر، بين الشيطان وأعوانه، وبين الاستجابة للحق وهو اتباع دين الله، وما جاء في كتبه، وأنزل على رسله.
وهذا ما يؤصله القرآن الكريم والسنة المطهرة، بأن موطن الاستجابة في الدنيا حيث تصارع النفس هواها، ويدعوها الهدي الشرعي للوقوف باطمئنان دون نوازع الشر المخالفة له.
فالتوبة التي جعلها الله تطهيرا للنفوس، ما هي إلا عودة للإيمان باطمئنان وراحة عندما تسرف النفوس في الابتعاد عن أوامر الله وتعاليم شرعه، وهي مدخل إيماني واسع تحث عليها المصادر الشرعية في مواطن كثيرة، وبترغيبات أوضحها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشد النفوس، وتقويها في الاستجابة، وتطمعها برجاء وخوف في الفضل العظيم المحسوس والملموس، استمع مثلا إلى قول الله(17/170)
تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (1) وباب التوبة مفتوح إلى يوم القيامة، كما أخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) .
وبالنسبة للنفس البشرية فمما يطمئنها أن التوبة مقبولة ما لم تغرغر الروح، وهذه بشارة مريحة تبعث الأمل.
وعلامة إقفال باب التوبة في هذه الحياة الدنيا خروج الدابة التي تسم الكافر والمؤمن بعقيدة كل منهما، فلا يخفى بعضهم عن بعض كما قال تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} (3) .
ذلك أن الخير في الإيمان، وأن النجاة في التمسك به، فظواهره في الدنيا بارزة في أمور من حياة الفرد والجماعة، سنمر ببعضها عرضا، أما الحديث عنها فيطول.
وفي الآخرة بالفوز والنجاة بما تجده النفس مدخرا، يتمثل أمامها عينا بارزة، بعد أن كان أمرا مخفيا فتتمنى العودة للإيمان، ولكن لا مجال لذلك يقول عز وجل في تخويف المكذبين المعاندين: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} (4) .
وكنموذج واقع يجب أن تأخذ منه النفوس عبرة يحكي الله قصة فرعون الذي طغى وتجبر، فبعد أن أدركه الغرق، وعاين العقاب، ضاع عنه عزه وسلطانه،
__________
(1) سورة الزمر الآية 53
(2) راجع أحاديث التوبة في صحيح البخاري ومسلم وهي كثيرة في بابها.
(3) سورة النمل الآية 82
(4) سورة الأنعام الآية 158(17/171)
ودب فيه الخوف؛ لأنه لم يستطع أن يدفع عن نفسه شيئا، فأراد أن يرجع للإيمان لعله ينقذه مما حل به، فقال الله - جل وعلا - موضحا هذه الحالة: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (2) {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} (3) .
فإيمان فرعون الذي تلفظ به: يريد به الأمان والاطمئنان من عذاب الله وعقابه، بعد أن عاين المصير، الذي سيؤل إليه كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: بأن الإنسان إذا مات فإن كان محسنا قال: عجلوني عجلوني، وإن كان مسيئا يصيح يا ويلتاه أين تذهبون بي؟ فيسمعه كل شيء إلا الثقلين الإنس والجن، ولو سمعوه لصعقوا (4) .
وما ذلك إلا أن الأول قد أري منزلته جزاء إحسانه فاطمأنت نفسه، وأحب الإسراع بالوصول إليها؛ لأنها تفضل من الله عليه.
وأما الثاني فلأنه أري منزلته السيئة جزاء تفريطه وإساءته العمل، فخاف من ذلك المصير فهو يريد الابتعاد عنها، ولكن لا مناص من ذلك. وأشد ما يستطيع الخائف التعبير عنه هو الصراخ، والدعوة بالويل والثبور، والرغبة في عدم مواجهة الأمر.
وفي عصرنا الحاضر تكونت أجهزة عديدة للمحافظة على المجتمعات، وتأمين سلامة الفرد، والجماعة، على أنفسهم وذويهم وممتلكاتهم، وسمي بعض هذه الأجهزة بالأمن.
وحرصت أجهزة الأمن هذه في كل دولة ومجتمع أن تأخذ بالأسباب التي تطمئن الفرد، وتشعره بالاهتمام به، بحسب متطلبات هذا الأمن، فوضعت النصائح، واتخذت الحيطة وتكونت الأجهزة، والأعمال السرية والعلنية،
__________
(1) سورة يونس الآية 90
(2) سورة يونس الآية 91
(3) سورة يونس الآية 92
(4) رواه مسلم.(17/172)
وابتكرت النماذج للمحافظة والاهتمام، مع الحيطة في محاربة الطرق المؤدية لذلك.
فهذا هو الأمن الاجتماعي، والأمن الصناعي، الذي يدخل تحته: -
حفظ المجتمع من انتشار الجريمة بالقتل، حتى لا يطغي قوي على ضعيف، وحتى لا يسفك دم مسلم بغير حق؛ لأن المجتمع الإسلامي قد حفظ بالقصاص والحدود، في مثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله تعالى (1) » ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة (2) » .
فالإسلام الذي اختاره الله دين آخر خير أمة أخرجت للناس، يؤمن النفس، ويحافظ عليها، ويعصمها من التعدي على غيرها، ويحفظ حقها من التعدي عليها بغير حق.
__________
(1) رواه مسلم جـ1 ص 210.
(2) رواه البخاري ومسلم.(17/173)
أهمية النفس في الإسلام
فالنفس في الإسلام ملك لله، لا بد أن تعيش آمنة مطمئنة وفق شرع الله، فلا يحق لصاحبها أن يوردها المهالك، أو يحملها فوق طاقتها، ولا أن يقتل المرء نفسه للخلاص من قلق حل به في الدنيا، لأي سبب من الأسباب.
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي (1) » ويقول- صلى الله عليه وسلم - في توعد لمن قتل نفسه: «من قتل نفسه بشيء فهو يجؤها به في نار جهنم (2) » ، وقاتل نفسه في النار، وحتى يأمن المسلم من أخيه
__________
(1) أخرجه الجماعة إلا الموطأ جامع الأصول 2: 554.
(2) جزء من حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة، جامع الأصول 10: 216.(17/173)
المسلم، ويطمئن إلى عدم إلحاق ضرر به منه، يقول - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الوداع: «أي يوم هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم: فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم (1) » .
فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يجهل اليوم والشهر والبلد، ولكنه سألهم سؤالا تقريريا ليمكن الجواب من نفوسهم، ويثبت ما سوف ينبني عليه من حكم، كما يقول بذلك البلاغيون. وكجزاء لعقاب تخويف المسلم. وزعزعة الأمن من نفسه، بالاعتداء عليه، جاء العقاب الشديد الذي جعله الله زاجرا لمن يقتل نفسا بغير حق فقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (2) إلى أن يقول سبحانه في عقاب العمد الذي أزال الاطمئنان من النفوس: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (3) (4) .
__________
(1) متفق عليه.
(2) سورة النساء الآية 92
(3) سورة النساء الآية 93
(4) اقرأ الآيات 92، 93 من سورة النساء.(17/174)
القصاص من أسباب الاطمئنان في المجتمع
وأنواع العقوبات المفروضة تطمئن المجتمع، وتزيل الحقد من النفوس، وتردع من تسول له نفسه الإقدام على أمر فيه جناية، وإخلال للمجتمع حيث يقول سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) .
فالقصاص من أسباب الاطمئنان في المجتمع والقضاء على الجريمة؛ لأنه يقضي على الفئات الفاسدة في المجتمع، حتى لا يتوسع نطاق عملها في أجزاء أخرى منه، حسبما نرى في المجتمعات الغربية، التي رأفت بالمجرم؛ لأنه في نظرهم يحتاج إلى الرعاية والعطف، فهو لم يرتكب الإجرام في نظر
__________
(1) سورة البقرة الآية 179(17/174)
المهتمين بأمره، إلا من مؤثرات تحيط به من صحية أو اجتماعية أو أسرية أو غيرها. . فماذا كانت النتيجة؟
إنها بالنسبة للمجتمع حسبما هو واقع الحال: خوف واضطراب، وقلق مستمر.
وبالنسبة للأفراد: انتهاك أعراض، وقتل أنفس بريئة، وتشويه بعمل إجرامي متعمد، وبالنسبة للأموال: نهب واعتداء وتسلط.
أما بالنسبة للمجرم نفسه: فسجن محدود، وغرامة مالية قليلة، ثم يخرج للمجتمع من جديد وبفن جديد في عالم الجريمة، وهكذا تستمر الحلقة، لكن شرع الله الذي شرع لعباده في القرآن الكريم، هو الذي يصلح المجتمعات، ويقضي على جذور الاعتداء، والاستخفاف بالنفوس، وإخافة الآمنين؛ لما فيه من جزاء رادع يقضي بتطبيقه على الشر؛ لأنه لا يصلح النفوس ويردها عن ذلك إلا هذا الأسلوب، قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (1) .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} (2) .
وهذا هو حكم الله الذي فيه طمأنينة المجتمع، وإخافة الفاعل، والردع عن التمادي في العمل الضار، قد أنزله سبحانه على بني إسرائيل في توراتهم، فخالفوا وعاندوا، وبذلوا، فكانت النتيجة جرائم متتالية، واضطرابات تزعزع النفوس، وسار على منوالهم النصارى فحل بهم ما لحق بسابقيهم، حسبما نلمسه اليوم في قوانينهم الوضعية من امتداد لذلك العمل؛ حيث تجنى الثمرات السيئة، فيما يطفح على الصحافة من أخبار، وما يبرز من تقارير الجريمة من أرقام.
__________
(1) سورة المائدة الآية 45
(2) سورة البقرة الآية 178(17/175)
واختار الله هذه الأمة لتطبيق ذلك فأمن مجتمعهم، واطمأن الناس على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم عند الامتثال، ثم دب القلق في بعض المجتمعات الإسلامية؛ لأن أقواما استبدلوا بحكم الله قانونا بشريا، وغيروا ما أراده الله، بما أخذوه عن غيرهم تقليدا، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
ولا شيء يؤمن المجتمع، ويحفظ الأمة، ويقضي على أسباب الخوف، إلا بتطبيق ما ارتضاه الله في شرعه، وأكده رسوله الكريم، بحماية الأفراد، والمحافظة على الجماعات؛ لأن الله بعباده رءوف رحيم.
حفظ الأموال من التعدي، والحقوق من التطاول، فالإسلام قد جعل لكل مال حرزه المعتاد حفظه فيه، فمن أخذ شيئا من حرزه اعتبر سارقا، والسارق أعطي جزاؤه بقطع يده، التي تطاولت على ما ليس لها، لضياع الأمانة في القلب، وضعف الإيمان في النفس، قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) .
فقطع اليد ليس عدوانا، أو بقصد التشويه للسارق أو السارقة، ولكنه جزاء لهما باستخفافهما بالأمن، وترويعهما الناس الآمنين، واعتدائهما على ما ليس لهما، وعدم احترامهما لشرع الله الذي يصون الحقوق، ويؤمن الناس بالمحافظة على الأنفس والأموال، من التعدي والتطاول بغير حق، ونكالا من الله لعدم الوقوف عند حدوده التي شرع لعباده؛ لأن التعدي استخفاف بذلك، والله عزيز في ملكه، حكيم في إرادته وتشريعه.
وقد يعتبر اللصوص بتنظيمهم وقدراتهم في إخافة الناس، وسطوهم هنا وهناك على ممتلكات الآخرين، فيقطعوا السبل، ويفسدوا في الأرض، ويعلنوها حربا على الله بامتهان شرعه، وتسلطا على المجتمع بقطع الطرق وإخافة الآمنين، والاعتداء على الأموال والأعراض، والإفساد في الأرض، حيث يضطرب ميزان العدل، وتتخلخل أركانه، فإذا نشأ شيء من ذلك في
__________
(1) سورة المائدة الآية 38(17/176)
مجتمع من المجتمعات أزعج السلطة، وضعف كيانها، وضاعت الحيلة لتهدئة المجتمع وإعادة الهدوء والأمن إليه، فيأتي شرع الله العزيز الحكيم، ليحل هذه المشكلة، فالله يقضي على هذه المعضلة، بحل قاطع حسبما يقول سبحانه: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) .
وقد قال الباحثون في أصول الجريمة، المهتمون بطمأنينة المجتمعات: إن الإسلام قد وضع قاعدة قوية في القضاء على الجريمة، في تحريمه الأمور التي تتسبب عنها، أو تدعو إليها: كالخمر والزنا والربا والميسر، ثم بوضعه قواعد تريح العاملين بها وفق منهج سليم يرضي النفوس، ويعطي كل ذي حق حقه، ويمنع التعدي، ثم يفرض جزاءات تجتث الشرور من المجتمع؛ لأن من فيه نزعة شر لا يرتاح إلا بإزعاج الآخرين، ومثل هؤلاء كالجرثومة التي لا بد أن تكافح، أو كالعضو الفاسد لا بد من بتره، وإلا استشرى الداء في الجسد كله.
وإن من تمعن في مدلول الآيات الكريمة الآنفة الذكر، يدرك منهج الإسلام الصارم في القضاء على الأمور التي يترتب عليها إخلال بالأمن، وإزعاج للبشر، وإضرار بالأمة. ومعلوم كما يقول علماء الاقتصاد: بأن رأس المال جبان لا يطمئن إلا بالأمان، ولا يتحرك وينمو إلا مع الأمن الوطني، والقضاء على مثيري القلاقل الآخذين بجهد الآخرين، المخيفين للسبيل، وذلك بسلطة تجازيهم في الدنيا، وتقطع دابرهم من المجتمع، وعمل هذه السلطة يدعمه تشريع قوي، ولا أقوى من حكم الله ورسوله، وتطبيقهما يخيف من تسول له نفسه العمل بمثل عملهم.
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) سورة المائدة الآية 34
(3) سورة المائدة الآية 35(17/177)
الإيمان مقترن بالأمان
وفي المجتمع الغربي والأمريكي بصفة خاصة الذي أزعجته الجريمة، وأقلقت مواطنيه وسائل الاستخفاف بالحياة، من فئة معنية من البشر، ضج الناس هناك، وتأثرت كثير من مصالحهم، فرأى بعض رجال الأمن عندهم أن الحل الوحيد في تخليص المجتمع الأمريكي مما يؤرقه، وتخفيف ما يسببه المجرمون للمجتمع من أمور كثيرة، يكمن في تعاليم الإسلام، الذي يجعل على النفس رقابة قوية، أقوى من رقابة البوليس وأنظمته.
وقد جاءوا بأمثلة: أن مجرمين متأصلين في الإجرام، ومن أصحاب السوابق، قد أسلموا في داخل السجن، فصلحوا، ولم يعودوا للسجن بعد ما خرجوا منه، أما من خرج منه وهو على ديانته السابقة، فإنه لا يلبث حتى يعود للسجن مرة ومرات.
ومن هذه الدعوة بدأت كثير من الولايات تدعو المشرفين الاجتماعيين والدعاة من المسلمين لتأدية محاضرات وزيارات منتظمة للسجون التي أصبحت أوسع ميدان للدعوة الإسلامية. وقد قال بعض المسئولين في الأمن عندهم: إن الخلاص من الجريمة لا يكون إلا على الإسلام والعمل وفق منهجه.
وهذا أكبر برهان محسوس على أن الإيمان يقترن بالأمان والاطمئنان وراحة النفس.(17/178)
المال موطن الأثرة لدى النفس ونظرة الإسلام إليه
ولما كان المال من أعز ما يملك الإنسان وهو الذي يسير الحياة في المجتمعات، فإن سبل الخوف عليه ساقت عباده اليهود، ومن يشايعهم إلى ابتكار أساليب للمحافظة عليه وكنزه، وكان مما فرضوه على المجتمعات التي يعيشون فيها: الربا. وهو زيادة المال بدون جهد، فلا يحصل النفع من المال(17/178)
بالتداول، ولا يزداد الفقير، إلا فقرا وحقدا على الغني، الذي تتضاعف أرباحه بجهد هذا الفقير.
ومن هنا جاء تشديد الإسلام في الربا، واعتباره محاربة لله، ومن ذا الذي يستطيع محاربة الله، ومحاربة رسوله.
وقد قرن الإيمان، وطمأنينة القلب على النفس، وعلى المال، بترك هذا الربا، وطرقه المتعددة، التي أخبر- صلى الله عليه وسلم - بأنها ثمانون بابا، أدناها أن ينكح الرجل أمه علانية (1) وهي كلها أمور مخيفة، تبعث القلق والقشعريرة في الإنسان وحواسه، ومن ذا الذي يجابه ربه، ويعاند رسوله في حرب معلنة، استمع إلى قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (3) .
وحتى يرتاح المدين وتطمئن نفسه إلى وجود قلوب رحيمة ترق له، وتهتم به، ولا تقسو عليه، وتراعي حالته التي حلت به، من عسر أو فقر أو كارثة، فقد أمر الله صاحب المال بمراعاة الموقف، وطمأنة إخوانه المسلمين، وعدم التضييق عليهم في المطالبة فقال تعالى موجها لهذا الأمر: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4) .
ويقول - صلى الله عليه وسلم - في حكاية الرجل الذي كان له ديون على الناس، فكان يرسل غلمانه فيقول لهم: «إذا رأيتم المعسر فتجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، فلقي الله وقد تجاوز عنه (5) » [لفظه في تفسير ابن كثير جـ 1 ص 332] .
وبعكس ذلك، فقد اعتبر - صلى الله عليه وسلم -: «مطل الغني ظلم (6) » ؛ لأنه قادر على الوفاء ويمنع الناس حقوقهم الواجبة.
__________
(1) نص الحديث في الترغيب والترهيب.
(2) سورة البقرة الآية 278
(3) سورة البقرة الآية 279
(4) سورة البقرة الآية 280
(5) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3480) ، صحيح مسلم المساقاة (1562) ، سنن النسائي البيوع (4695) ، مسند أحمد بن حنبل (2/263) .
(6) صحيح البخاري الحوالات (2287) ، صحيح مسلم المساقاة (1564) ، سنن الترمذي البيوع (1308) ، سنن النسائي البيوع (4691) ، سنن أبو داود البيوع (3345) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2403) ، مسند أحمد بن حنبل (2/380) ، موطأ مالك البيوع (1379) ، سنن الدارمي البيوع (2586) .(17/179)
وآيات الربا التي نزلت في تحريمه في سورة البقرة، وتأكيدات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الوداع، وفي توضيحاته لأنواع الربا، كل هذا من أجل تكوين مجتمع صالح، ومتماسك، لا يتسلط فيه قوي على ضعيف، أو يستغله من أجل ضعفه، ولا يكنز صاحب مال ماله لمنفعته الخاصة، أو لتحكم في قوت خلق الله.
بل لا بد أن يعمل فيه ما يسعد المجتمع، ويحقق الرخاء والنماء فيه، وليفتح مجالات العمل لفئات عديدة من البشر، هم في حاجة إليه ليقتاتوا بعمل شريف، وجهد حلال.
وحتى لا يترك أمر البيع أو الشراء بدون قيود، أو التدابر بدون محافظة، نظم القرآن الكريم كما في آية الدين في آخر سورة البقرة، ما يجعل صاحب المال متوثقا على ماله، مطمئنا على حقه بأنه سوف يأتي إليه عند حلول أجله، فيحصل بذلك النفع للآخذ والمعطي. واطمئنان كل منهما على الذي له والذي عليه.
وهذا ما يحقق أمنا اقتصاديا؛ لأنهم يقولون: رأس المال جبان، لا يتحرك إلا في الأمن والطمأنينة.
ولأن المال هو موطن الأثرة لدى البشر، وانتظام الحياة في المجتمعات، وموطن الشح للنفوس، فقد روعي فيه أمور تطمئن وتريح، وتنظم الحياة مثل:
كتابته والاستشهاد عليه: برجلين ثقتين، أو رجل وامرأتين ممن ترضى شهادتهم.
- تحديد الأجل.
- عدالة الكاتب والشهود.
- مراقبة الله بالنسبة للدائن والمدين، وأن تقواه سبحانه هي المحرك لكل منهما؛ لأنها تردع عن الظلم والجور.(17/180)
- الوصاية على من كان عليه الحق، إن كان سفيها أو ضعيفا. . . أو لا يستطيع الإملاء في هذا الدين بأن يتولى ذلك عنه وليه العدل.
عدم الإضرار بالكاتب أو الشهود، أو إخافتهم حتى لا يوجد حجاب دون التعاون بالخير وعليه.
- التأكيد على الاهتمام بالمعروف والتفضل من القادر على أخيه، وأن يكون التعامل حسنا، وعدم الإضرار بمن عليه الحق.
ثم تزيد تعاليم القران الأمر تمكينا بالترغيب في البذل والصدقة والإحسان في أوجه الخير التي تريح أبناء المجتمع الإسلامي، وتزيل عنهم أسباب البغضاء والقلق والحقد والكراهية، وذلك في مثل قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (1) وقوله: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} (2) ، وقوله سبحانه. {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} (3) ، أي ينفقون بسخاء ويخافون ألا يقبل منهم، فهم لا يريدون السمعة والجاه، بل يمتثلون أمر الله، وقوله: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} (4) {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (5) .
وفي سبيل الإنفاق والحث على عدم البخل بالمال، وتوضيح أوجه الخير التي يبذل المال فيها، ومقارنة ذلك بالجزاء الذي يريح النفوس، وتطمئن به الأفئدة، جاء حث كثير في كتاب الله الكريم على ذلك، مما يستوجب دراسة مستفيضة، وتأليفا واسعا.
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي بلغ شرع الله، واجتمعت القلوب نحوه قد زاد الأمر توضيحا بثروة كبيرة تعين الباحث، وتريح المتلقي في مثل قوله: «ما من يوم
__________
(1) سورة النور الآية 33
(2) سورة الحديد الآية 7
(3) سورة المؤمنون الآية 60
(4) سورة المعارج الآية 24
(5) سورة المعارج الآية 25(17/181)
يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعطي ممسكا تلفا (1) » وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (2) » ، وقوله: «من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة. . . ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة (3) » .
فالشحناء والبغضاء يقضي عليها الإسلام بالقضاء على مسبباتها، بحيث وضع حلولا تطمئن إليها الفئات المؤمنة، وترضى عنها؛ لأن هذا هو حكم الله، ومن لم يرض بحكم الله ويأتمر بأمره فقد وصف بأنه كافر وظالم وفاسق.
لذا تولى رب العزة والجلال تنظيم ما يتعلق بحياة الناس في الأموال؛ لأنها مبعث القلق النفسي في كل مجتمع: -
- فالتركات وزعت وأعطي كل فرد نصيبه ذكرا كان أو أنثى كما في سورة النساء.
- والمتوفى حدد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقدار ما يتصرف فيه بماله وهو الثلث والثلث كثير.
- ومنع الإنسان أن يوصي بشيء من ماله لأحد أبنائه حتى لا يفضل إخوته، واعتبره الرسول ظلما كما في قصة بشير بن سعد مع ابنه النعمان.
- والغنائم حددت أنصبة كل من يستحقها، وحرم الغلول، وهو الأخذ من مال الغنيمة قبل أن يقسم كما في سورة الأنفال.
- والمستحقون للزكاة وهم أهلها الثمانية الذين تدفع إليهم ولا يجوز دفعها إلى غيرهم حددتهم سورة التوبة.
- والربا ومداخله حرم كما في سورة البقرة.
- والبيع والمداينة أحلت ونظمت كما في سورة البقرة، لأن فيها قوام المجتمع بالتعامل والتسهيلات.
__________
(1) متفق عليه (باب الزكاة) .
(2) رواه مسلم.
(3) متفق عليه.(17/182)
- والصدقة على المحتاج واليتيم والقريب والإحسان إليهم. والإنفاق على الأولاد والزوجة نظمت ذلك آيات كثيرة في سور من كتاب الله الكريم.
كل هذا حرص عليه الإسلام لتسيير الحياة في المجتمع وإشعار أفراده بالراحة والاطمئنان على معاشهم، وانتظام أحوالهم، والتعاطف فيما بينهم. فالنفس لا تنتج عملا في جو مضطرب، أو إذا كانت غير مرتاحة، ولذا جاءت تعاليم الإسلام لتريح النفوس بما شرع أمامها، فيتهيأ الجو للعمل والإنتاج، وجوهر ذلك العلاقة مع الله، فيوصل ذلك العمل لرضاه وجنته في الأخرى، مع الثمرة المفيدة التي تعود على الفرد نفسه وعلى مجتمعه بالفائدة الظاهرة. وفي هذا يقول - صلى الله عليه وسلم -: «رحم الله امرأ صنع صنعة فأتقنها (1) » فمن تعاليم الإسلام التي جاءت في كتاب الله الكريم، أو في سنة رسوله المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وهي تخاطب أهل الإيمان، وتطمئنهم بنتيجة ما يعملون، وتريح نفوسهم بما تقوم به من عمل، يلمس المستقرئ نظاما متكاملا للناحية المالية، التي هي محك الأمور، وسبب المشكلات في المجتمعات في كل عصر.
وإذا كان أصحاب الأموال في المجتمعات غير الإسلامية - وخاصة اليهود منهم - قد حرصوا على زيادة أموالهم بأساليب الربا، فإنهم في هذا العصر قد ابتكروا أساليب جديدة من باب أخذ أموال الناس بالباطل، وأكلها بالإثم، لأن مبدأهم الحلال ما حل في يدك، وذلك بابتكار شركات التأمين المتعددة حيث نسمع ونقرأ عن: -
- شركات التأمين على الحياة بأنواعها لمن حياتهم وأعمالهم في الأرض أو البحر أو الجو.
- وشركات التأمين على الممتلكات من سيارات ومتاجر وبيوت ومزارع ومصانع وغيرها.
__________
(1) رواه مسلم.(17/183)
- وشركات التأمين ضد الأعاصير - كما هو الحال في أمريكا ضد الترنادو وغيره.
- وشركات التأمين على الحنجرة للمغنيين.
- والتأمين على الساقين للفتيات اللواتي يباهين بسيقانهن ويدخلن مسابقات تقام لهذا الغرض.
- والتأمين على العينين والعنق والذراعين والوجه ضد التشويه.
- والتأمين ضد السرطان، والتأمين على الكلاب والقطط.
- والتأمين ضد الحريق والكوارث الأخرى والأضرار المختلفة.
وغير هذا من أساليب التأمين التي حركتها دعاياتهم وإعلامهم لإخافة الناس، وجعل القلق يسيطر عليهم، فحياتهم في جحيم مستمر، وأعمالهم في بلبلة دائمة، لأن قلوبهم خالية من الإيمان، وقلب خلا من الإيمان أصبح نهبا للنوازع المختلفة، وقد وصفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بأنه كالبيت الخرب.
وإذا كان المسيطرون في مجتمعاتهم يعملون لهم تلك الأمور للسيطرة على عقولهم، والتحكم في مقدرات أمورهم، لسلب أموالهم واستعبادهم.
فإن الإسلام قضى على ذلك بحسن التوكل على الله، وملء القلب إيمانا بخشيته ومراقبته، فقد جاء في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله غيره: إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها (1) » ويقول - صلى الله عليه وسلم - في حسن التوكل، وتسليم الأمر لله: «لو تتوكلون على الله حق
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.(17/184)
التوكل لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا (1) » . وحسن التوكل على الله لا يكون إلا مع كمال الإيمان، ذلك العمل الذي يطمئن النفوس، ويزيل عن القلوب القلق والضجر.
وفي سبيل المحافظة على المال، والاهتمام بأداء حق الله فيه يقول - صلى الله عليه وسلم -: «ما نقص مال من صدقة، أو ما نقصت صدقة من مال - وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع عبد لله إلا رفعه الله (2) » وتحصين المال وحراسته والاطمئنان عليه، ليست بدفع أقساط لشركات التأمين، ولكن بالزكاة التي تذهب للفقراء والمحتاجين، فتحسن عن حالهم وتريح ضمائرهم كما جاء في الأثر: «حصنوا أموالكم بالزكاة» .
__________
(1) رواه الترمذي
(2) رواه مسلم والترمذي.(17/185)
الفرق بين المؤمن وغيره
والاعتماد على الله، وحسن التوكل عليه، مدخل إيماني قوي للنفوس ومبعث على الاطمئنان والراحة، كما في وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «كنت رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما. فقال: يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف (1) » . والأمن من الكوارث لا يكون إلا بقوة الإيمان وسلامة العقيدة ومراقبة الله دائما، فالمؤمن يدرك من نصوص كتاب الله، وهدي رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم -: أن الكوارث تساق للعبرة. والعظة، وتنبيه الغافلين، ومعاقبة العاصين المعاندين، وأن الخير الذي ينزل على النفوس ما هو إلا من عند الله، أما الشر فمما كسبت
__________
(1) رواه الترمذي.(17/185)
أيدي الناس، قال الله تعالى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (1) وأن المؤمن هو الذي يتعظ ويرتبط بالله، أما غيره فتمر عليه الأحداث كما تمر على الجمادات، بل إن من الجمادات ما يحس ويخاف قال تعالى: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} (2) وفرق بين المؤمن وغيره، بأن المؤمن يتحمل ما ينزل به في نفسه أو ماله أو ولده، أو ما يحيط به بصبر وطمأنينة ورضا، فيؤجر على ذلك، أما غيره فيتسخط ويجزع فلا يدفع عنه ذلك شيئا، وإنما يزداد مع وقوع النازلة ألما نفسيا، فيسخط ربه، ويبطل عمله، وتبقى نازلته عليه - كما قال بذلك بعض العارفين. يقول - صلى الله عليه وسلم -: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل (3) » ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يلقى الله وليس عليه ذنب (4) » ولذا قيل: المؤمن مبتلى، ليكون في ذلك محك لإيمانه، وميزان لدرجة صبره واطمئنان قلبه.
ومكر الله وعقابه، وغيرته سبحانه على نعمه، تكون دائما نصب عيني المؤمن، فهو يخشى ويخاف على نفسه أولا، وهل هو من المقبولين أم لا؟ كما جاء في الأثر «المؤمن بين مخافتين: أجل قد مضى، لا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه» . فهو يخشى من عقابه، ويخاف من مكره سبحانه ونقمته، قال تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (5)
__________
(1) سورة النساء الآية 79
(2) سورة يونس الآية 101
(3) رواه البخاري وأحمد في مسنده.
(4) رواه مسلم.
(5) سورة الأعراف الآية 99(17/186)
وخوف من نقمة عامة تصيب الجميع بعمل البعض قال تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} (1) {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} (2) أو قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} (3) {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} (4) وما سياق ما حصل للأمم السابقة التي عاندت شرع الله، وكذبت كتبه، ولم تؤمن برسله إلا عبر وعظات للقلوب المؤمنة، لتدرك أن الراحة والاطمئنان في أمور الحياة وبعد الممات في طاعة الله، واتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به من شرع من عند الله.
لكن من هو هذا المؤمن الذي تساق له التوجيهات، ويبلغ بالأوامر؟ ؟ .
إن مبعث الأمن في المجتمع هو الاعتقاد الجازم بسلامة الأوامر، والتصديق بها، وتطبيقها، وجعلها منهج حياة يقول - صلى الله عليه وسلم -: «والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن، قيل من هو يا رسول الله؟ . قال: من لا يأمن جاره بوائقه (5) » فهنا قرن الإيمان بتأمين الجار والمحافظة عليه، وهذا هو أدب من آداب الإسلام العالية، وكل آدابه عالية، لأنها مبعث للأمن، فقد روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه (6) » . وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه (7) »
__________
(1) سورة الأعراف الآية 97
(2) سورة الأعراف الآية 98
(3) سورة الملك الآية 16
(4) سورة الملك الآية 17
(5) رواه مسلم
(6) متفق عليه
(7) متفق عليه.(17/187)
والإيمان يهذب الطباع، ويزكي النفوس، ويعطيها نظاما يؤلف بين القلوب، فقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله في حديث رواه أبو هريرة: «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا- ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه (1) » متفق عليه (2)
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6066) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564) ، سنن النسائي البيوع (4506) ، مسند أحمد بن حنبل (2/394) ، موطأ مالك البيوع (1391) .
(2) متفق عليه.(17/188)
الإيمان - والإسلام.
فالإيمان مرتبة أعلى من الإسلام، لأنه أمكن في النفس، وأثبت للجنان قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (2) فالإيمان الذي يلامس بشاشة القلب، ليبعث الاطمئنان فيها، حيث يوجد مجتمعا مثاليا في نظامه وتسييره للحياة، وأفرادا متميزين في أعمالهم وتصرفاتهم، واهتمامهم بغيرهم، ويراقبون الله في كل عمل، ويخشونه ويخافون عقابه، فتطمئن قلوبهم، ويطمئنوا غيرهم.
هذا الإيمان الذي جاءهم هو منة من الله، ونعمة كبيرة، لا يحس بدورها إلا من ذاق طعمها؛ لأن لها تأثيرا في تخفيف المصاب، وتحمل الصعاب، والتبصر في الأمور، والصبر على كل نازلة، والرضى بقدر الله، والإنفاق في سبيله والطمع في جنته، والخوف من عقابه، والتعلق به في كل أمر، لأن له سبحانه الحكمة ويفعل ما يريد، قال الله تعالى {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} (3) {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (4)
__________
(1) سورة الحجرات الآية 14
(2) سورة الحجرات الآية 15
(3) سورة الحجرات الآية 16
(4) سورة الحجرات الآية 17(17/188)
وحقيقة هذا الإيمان هو الاستجابة لأمر الله طاعة لله، واستجابة لرسوله، وطاعة لولاة الأمور الذين سلمهم الله أمر قيادة الأمة، والنصح لهم، ما أطاعوا الله فينا، ولم يأمروا بمعصية تخالف شرع الله، قال تعالى مخاطبا الفئة المؤمنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} (1) والإيمان إذا استقر في القلوب، يشيع الأمن في المجتمع، ويدعو بوازع باطني كل فرد من أفراد هذا المجتمع - مهما كانت مسئوليته إلى إيجاد رقابة على نفسه واهتمامه بكل ما وكل إليه، ليعمل بهدوء، واطمئنان، رأفة بمن يتعلق به أمره من أبناء المجتمع احتسابا للنتيجة عند الله أجرا مدخرا، وائتمارا بهذا الدين وشرائعه. وهذا هو أكبر مهدئ للنفوس، وأقوى منشط يدفعها للعمل ونكران الذات ويطمئنها على النتائج، يلمس القارئ مثل هذا في نصوص كثيرة مثل حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه مسلم في صحيحه: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل معلق قلبه بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا فيه وافترقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه (2) » (3)
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) صحيح البخاري الحدود (6806) ، صحيح مسلم الزكاة (1031) ، سنن الترمذي الزهد (2391) ، سنن النسائي آداب القضاة (5380) ، مسند أحمد بن حنبل (2/439) ، موطأ مالك الجامع (1777) .
(3) رواه مسلم.(17/189)
أثر الإيمان في أمن المجتمع
وأثر الإيمان حسب النصوص الشرعية، يطمئن النفوس، ويهدئ(17/189)
المجتمعات من القلاقل، والفتن والأزمات، في أمور كثيرة، اضطربت فيها أنظمة الأمم، وتباينت فيها الآراء رغبة في وجود حل، والقضاء على مشكلة، أجد أن هذا الحيز لا يفيها كلها، ولكن حسبنا الإشارة إلى نماذج منها مثل: - الأمن الزراعي وتوفير الغذاء: نجد هذا في آيات كثيرة في كتاب الله الكريم مثل سورة يوسف والنحل وغيرهما.
- الأمن الصحي والاهتمام بالمريض، كوصايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزيارة المريض وهديه في العلاج الطبي حسبما ذكر ابن القيم في كتابه: زاد المعاد في هدي خير العباد.
- الأمن الأسري ورباط الزوجية، كما في قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} (1) .
وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (2) .
- الأمن العائلي والاهتمام بالأولاد، كما جاء في سورة النساء في تقسيم التركات، وفي قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس (3) » .
وفي منعه - صلى الله عليه وسلم - الوصية للولد وقوله: «لا وصية لوارث (4) » .
- الأمن التربوي وتعليم الأبناء، يوضح مثل هذا وصية لقمان لابنه، وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تعليم الأولاد الصلاة: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع (5) » .
__________
(1) سورة الفرقان الآية 74
(2) سورة الروم الآية 21
(3) رواه الترمذي في الجامع الصحيح ص 430.
(4) رواه الترمذي في الجامع الصحيح ص 434.
(5) رواه أبو داود، والترمذي، وأحمد عن عبد الله بن عمرو وسبرة.(17/190)
- الأمن في الأوطان وحمايتها كما جاء في الأثر: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الأمن في الأوطان، والصحة في الأبدان (1) » والبلد الآمن هو مكة التي جاء ذكرها في سورة البقرة، وسورة إبراهيم وغيرها.
- الآمن الأخلاقي وتهذيب النفوس، كما جاء في آيات من سورة النور في تحريم الزنا، ومنع الخوض في أعراض الناس، وفي آداب الاستئذان، وفي فرضية الحجاب وآياته في سورة الأحزاب.
- أمن العقيدة وسلامة القلوب لارتباطها بالله وحده، ونبذ كل ما سواه، يقول تعالى في هذا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (2) .
وآيات من سورة الروم، وسورة الواقعة، تربط الإنسان بخالقه المتصرف سبحانه في جميع الأمور.
- أمن المسكن وتوفير المعيشة، وتوضح ذلك آيات متعددة من كتاب الله الكريم، كما في سورة النحل.
- الأمن الاقتصادي وحرية الحركة في الأموال بيعا وشراء، بعد أداء حق الله فيها بالزكاة والصدقة، وقد حظيت الزكاة والصدقة بتوجيهات كبيرة من القرآن الكريم والسنة المطهرة، لتهذيب النفوس وتعويدها على البذل والعطاء براحة نفس واطمئنان خاطر، وفي السر آكد؛ لأنها أبعد عن المراءاة.
- تأمين الجار ورعايته في أهله حيث كان جبريل يوصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجار حتى ظن أنه سيورثه.
__________
(1) أما الحديث الذي رواه البخاري فلفظه:.. الصحة في الأبدان والفراغ.
(2) سورة الرعد الآية 28(17/191)
- الأمن بالهجرة لمكان آخر، إذا كان المرء لا يستطيع أداء شعائر دينه، أو يجد مضايقات من أعداء دينه، وهذا هو الأمن على العبادة، وقد حكى الله عمن لم ينج بدينه وهو قادر: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (1) .
ولكي يجعل الله مأمنا ومخرجا لهؤلاء المستضعفين غير القادرين على الهجرة والنجاة بأنفسهم، فإنما مما يطمئنهم أن الفئة المؤمنة مأمورة بالجهاد لتخليصهم ونصرتهم، قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} (2) .
- الأمن بالتوبة، وهذا هو أمن المصير، وراحة النفس في الدنيا بالابتعاد عن أمر يؤرق النفس ويخيفها التلبس به، وآيات التوبة في كتاب الله الكريم كثيرة ومتعددة (3) .
ويوضح نماذج من ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «الله أشد فرحا بتوبة أحدكم مع صاحب راحلة ضاعت منه في أرض فلاة، وعليها طعامه وشرابه، فلما أيس منها نام، فاستيقظ فإذا هي واقفة بجانبه، فقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك [أو كما قال] (4) » .
- أمن النفوس بمجاهدة الكفار، لإظهار دين الله، ولإسعاد البشرية بتبليغه، كما توضح ذلك سورة الأنفال، وسورة التوبة، وسورة البقرة وغيرها في مواطن كثيرة من كتاب الله؛ لأن قمع أعداء الله وأعداء رسالاته، لا يكون
__________
(1) سورة النساء الآية 97
(2) سورة النساء الآية 75
(3) اقرأ مثلا النحل الآية 72.
(4) أحاديث التوبة في البخاري ومسلم.(17/192)
إلا بقوة السلاح، ودفاع المجاهدين المتحمسين لإظهار دينه، يقول - صلى الله عليه وسلم -: «ما ترك قوم الجهاد إلا عمهم الله بالعذاب (1) » .
- تأمين النفوس من التأثيرات الخفية، وحفظها من أثر ذلك كالسحر ونفثات الشيطان، كما جاء في المعوذتين، وقل هو الله أحد، وآية الكرسي، ففي هذا حرز للنفس وأمان لها من المؤثرات النفسية، ووساوس الشيطان واتباعه.
- الرضا والقناعة بما قسم الله، حتى لا تتطلع النفس إلى ما في أيدي الناس، فيكون ذلك من دواعي كفر النعم، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا رأى أحدكم من فضل عليه بمال أو سلطان، فلينظر إلى من هو أسفل منه، ولا ينظر إلى من هو فوقه، فإن ذلك أجدر بشكر نعمة الله عليه (2) » .
- راحة النفس بالعبادة، وفي مقدمتها الصلاة فقد «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر أو أهمه قال: يا بلال أرحنا بالصلاة (3) » .
كما كان من قوله - عليه الصلاة والسلام -:. . . . «وجعلت قرة عيني في الصلاة (4) » .
- والأمن بالمشورة في كل أمر حتى يخف ما على كاهل الإنسان بإعطائه للآخرين، فيشاركون في الرأي: كما في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (5) .
- وغير هذا من الأمور التي جعلت الشريعة الإسلامية فيها حلولا لكل ما يعترض الإنسان في هذه الحياة، حيث يجد المرء في المخارج ما يريح نفسه، ويعينه على التغلب على المشكلة التي اعترضته؛ لأن في كتاب الله، وسنة نبيه - عليه الصلاة والسلام - ما ينير الطريق، ويوضح المعالم، ويهدئ النفوس.
__________
(1) رواه الطبراني بإسناد حسن.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه أحمد ك 5 رقم الحديث 264.
(4) رواه النسائي كتاب النساء الحديث 1.
(5) سورة آل عمران الآية 159(17/193)
وصدق الله إذ يقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (1) ، وقد وصف الله الفئة المؤمنة بآيات كريمات في مطلع سورة سميت باسمهم، أعطتهم صفاتا مطمئنة ومريحة؛ لأنهم في يقين ورضا، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (2) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (3) {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (4) {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} (5) {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (6) {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (7) {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (8) {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (9) {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (10) {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} (11) {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (12) .
أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وترك فيهم وصية خالدة تريح النفوس، وتهدئ المجتمعات وتضمن العدالة، وسمو المكانة والاستقرار لمن اتبع ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي (13) » . ففيهما المخرج من كل معضلة، وفيهما الحل لكل مشكلة، وفيهما هدوء البال، وراحة الضمير، والراحة من كل قلق، وفيهما الرابطة القوية بالله عملا وبشرعه منهجا وسلوكا.
فقد قال بعض العارفين: كنت كلما ألم بي مشكلة، أو ضجرت من أمر يقلقني، ألجأ لكتاب الله، فأفتحه وينفتح معه الهدوء والاطمئنان لنفسي؛ لأنني أجد فيه حلا لكل أمر، وخروجا من كل مصيبة.
نسأل الله أن يعيننا على فهم كتاب الله وسنة رسوله الكريم - عليه الصلاة والسلام - وامتثالهما عملا وتطبيقا، والسير وفق شرعهما باستحضارهما في كل وقت، والاهتمام بهما في كل مناسبة، والرضا بما فيهما، والعمل بهما فهما وتحقيقا. والله الموفق لكل خير.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 38
(2) سورة المؤمنون الآية 1
(3) سورة المؤمنون الآية 2
(4) سورة المؤمنون الآية 3
(5) سورة المؤمنون الآية 4
(6) سورة المؤمنون الآية 5
(7) سورة المؤمنون الآية 6
(8) سورة المؤمنون الآية 7
(9) سورة المؤمنون الآية 8
(10) سورة المؤمنون الآية 9
(11) سورة المؤمنون الآية 10
(12) سورة المؤمنون الآية 11
(13) سنن الترمذي تفسير القرآن (3075) ، سنن أبو داود السنة (4703) ، مسند أحمد بن حنبل (1/45) ، موطأ مالك الجامع (1661) .(17/194)
تحقيق رسالة عمر بن الخطاب
إلى أبي موسى الأشعري
* ناصر بن عقيل بن جاسر الطريفي
* ولد بحائل 1367 هـ
* الشهادات العلمية: كلية الشريعة بالرياض 89 \ 1390 هـ، والماجستير من المعهد العالي للقضاء 93 \ 1394 هـ، ورسالة الدكتوراه في "القضاء في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من كلية الشريعة بالرياض 1404 هـ بدرجة مرتبة الشرف الأولى بالفقه".
* العمل: عمل مدرسا بمعهد حائل العلمي، والرياض العلمي، ثم وكيلا لكلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية بالرياض سنة 1395 - 1397هـ، شارك في مؤتمر الفقه الإسلامي المنعقد في مدينة الرياض في غرة ذي القعدة 1396 هـ، والذي نظمته جامعة الإمام حيث عين أمينا مساعدا للمؤتمر.
* العمل الحالي: أستاذ مساعد في كلية الشريعة بالرياض.(17/195)
تحقيق رسالة عمر بن الخطاب
إلى أبي موسى الأشعري
وبيان
ما تضمنته من توجيهات للقضاة
للدكتور: ناصر بن عقيل بن جاسر الطريفي
أخذت هذه الرسالة من بين الرسائل التي بعث بها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى قضاته وعماله لما لها من الأهمية في سياسة القضاء ونظمه، ولما أثير حولها من كلام.
والكتب التي أرسل بها عمر كثيرة ومتنوعة، منها ما هو إجابة لأسئلة القضاة واستفساراتهم فيما يشكل عليهم من أمر القضاء مما جد في حياة الناس ويحتاج إلى معرفة حكم الله فيه، ومن هذه الرسائل ما هو نصائح وتوجيهات، وبيان لكيفية التداعي وأحكام الدعوى، وطريقة الفصل في القضايا. وفيما يلي أسوق نماذج من هذه الرسائل:
1 - روى القاضي وكيع قال: [حدثنا إبراهيم بن محسن بن معدان المروزي، قال: أخبرنا عبيدة بن حميد، قال: حدثنا حفص بن صالح أبو عمر الأسدي، عن الشعبي قال: كتب عمر بن الخطاب إلى معاوية وهو أمير بالشام: (أما بعد: فإني كتبت إليك في القضاء بكتاب لم آلك فيه ونفسي خيرا، فالزم خصالا يسلم دينك، وتأخذ بأفضل حظك عليك، إذا حضر الخصمان فالبينة العدول، والأيمان القاطعة، أدن(17/196)
الضعيف حتى يجترئ قلبه، وينبسط لسانه، وتعاهد الغريب، فإنه إن طال حبسه ترك حقه، وانطلق إلى أهله، وإنما أبطل حقه من لم يرفع به رأسا، واحرص على الصلح بين الناس ما لم يستبن لك القضاء] 2 - روى ابن القيم قال: [وفي كتاب عمر بن الخطاب إلى شريح: (إذا وجدت شيئا في كتاب الله فاقض به، ولا تلتفت إلى غيره، وإن أتاك شيء ليس في كتاب الله فاقض بما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن أتاك ما ليس في كتاب الله، ولم يسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاقض بما أجمع عليه الناس، وإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يتكلم فيه أحد قبلك، فإن شئت أن تجتهد رأيك فتقدم، وإن شئت أن تتأخر، فتأخر، وما أرى التأخر إلا خيرا لك) ذكره سفيان الثوري عن الشيباني عن الشعبي عن شريح أن عمر كتب إليه] .
3 - روى القاضي وكيع: (أن عمر بن الخطاب كتب إلى المغيرة بن شعبة أن يقضي بين الناس، وقال: إن أمير العامة أجدر أن يهاب. وقال: إذا رأيت من الخصم. فأوجع رأسه) (1) .، وروى نحوه عبد الرزاق
__________
(1) أخبار القضاة جـ 1 ص 274(17/197)
بسنده أن عمر كتب به إلى أبي موسى الأشعري فقال: (وكتب إليه ألا يقضي إلا أمير، فإنه أهيب للظالم ولشاهد الزور، وإذا جلس عندك الخصمان فرأيت أحدهما يتعمد الظلم فأوجع رأسه) (1) .
4 - روى القاضي وكيع قال: (حدثنا عبد الملك بن محمد الرقاشي، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة، عن فضيل بن معاذ، عن أبي جرير، عن الشعبي، قال: كتب عمر بن الخطاب إلى شريح: (لا تجيزن لامرأة في مالها أمرا حتى يحول عليها حول عند زوجها أو تلد ولدا) ، وساقه برواية أخرى قال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن يزيد، عن مجالد، عن الشعبي: أن عمر كتب إلى شريح: أن اقض بعين الدابة إذا فقئت بربع ثمنها، ولا تجيزن لامرأة هبة شيء حتى تلد بطنا، أو يحول عليها حول، وهي في بيت زوجها ولا تورث حميلا) 5 - وروى القاضي وكيع قال: [حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، قال: حدثنا يزيد بن أبي حكيم، قال: حدثنا سفيان، عن جابر، عن الشعبي، عن شريح قال: كتب إلي عمر: بخمس من صوافي الأمراء: إن الأسنان سواء، والأصابع سواء، وفي عين الدابة ربع ثمنها، وإن الرجل يسأل عند موته عن ولده فأصدق ما يكون عند موته، وجراحة الرجال والنساء سواء إلى ثلث دية الرجل) (2) .
__________
(1) المصنف، كتاب الجامع، باب القضاء جـ 11 ص 328 ـ 329.
(2) أخبار القضاة جـ 2 ص 193.(17/198)
6 - روى القاضي وكيع قال: أخبرنا عبد الله بن سعد بن إبراهيم، قال: حدثني عمي، قال: حدثنا أبي عن ابن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن شبرمة: أن قتيلا أصيب في وادعة من همدان ولا يعلم له قاتل، فكتب فيه شريح بن الحارث إلى عمر بن الخطاب، فكتب عمر: (أن خذ من وادعة خمسين رجلا، الخير والخير، ثم استحلفهم بالله ما قتلوا، ولا يعلمون له قاتلا، ففعل ذلك، ففعلوا فكتب إليه شريح: إنهم قد حلفوا، فكتب إليه عمر: بهذا برئوا من الدم، فما الذي يخرجهم من العقل؟ ضع عليهم عقله) (1) .
7 - وذكر ابن الجوزي قال: (عن عبد الله بن عمر قال: كنا مع عمر في منى، فأبصر رجلا يسرع في سيره، فقال: إن هذا الرجل يريدنا، فأناخ ثم ذهب لحاجته، فجاء الرجل فبكى عمر، وقال: ما شأنك؟ قال: يا أمير المؤمنين إني شربت الخمر، فضربني أبو موسى وسود وجهي، وطاف بي، ونهى الناس أن يجالسوني، فهممت أن آخذ سيفي فأضرب أبا موسى، أو آتيك فتحولني إلى بلد لا أعرف فيه، أو ألحق بأرض الشرك، فبكى عمر وقال: ما يسرني أن تلحق بأرض الشرك، وأن لي كذا وكذا، وقال: إني كنت لمن أشرب الناس الخمر في الجاهلية. ثم كتب إلى أبي موسى: إن فلانا أتاني، فذكر كذا وكذا، فإذا أتاك كتابي هذا فمر الناس أن يجالسوه، وأن يخالطوه، فإن تاب فاقبل شهادته، وكساه وأمر له بمائتي درهم) (2) .
إلى غير ذلك من الكتب الكثيرة التي حفلت بها كتب التأريخ والسير والآثار والفقه، مما كان يكتب به عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - إلى ولاته وقضاته، التي تحمل في ثناياها غزارة التوجيهات والنصائح للقضاة والعمال، وكان دافعه إلى ذلك خشيته أن تزل بالقاضي قدمه في معاملة الناس والقضاء
__________
(1) أخبار القضاة جـ 2 ص 193 - 194.
(2) تاريخ عمر بن الخطاب ص 153.(17/199)
عليهم والفصل في خلافاتهم، فيكون عمر المسئول عنها يوم القيامة، لم لم يتفقد رعيته ويشرف على عمله، «وكل راع مسئول عن رعيته (1) » .
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (893) ، صحيح مسلم الإمارة (1829) ، سنن الترمذي الجهاد (1705) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2928) ، مسند أحمد بن حنبل (2/108) .(17/200)
أهمية رسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري:
تتحدث رسالة القضاء التي كتبها عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قاضيه وواليه على البصرة، عن القواعد الأساسية التي يبنى عليها القضاء، ومن عدل بين الخصوم ورجوع إلى الحق، وطرق إجراءات التداعي وسير المحاكمة، والرجوع إلى نصوص كتاب الله تعالى وسنة رسوله في كل ما يصدر عن القاضي، فهي رسالة عظيمة الفائدة تحوي ما تشتت من أحكام القضاء، وتجمع ما تفرق من أسس التنظيم والإدارة للقضاء، وهي دستور قويم في نظام القضاء والتقاضي، وسجل حافل جامع لكثير من شئون القضاء ومسائله، تجمعها في كلمات قليلة موزونة تكاد أن تكون قطعة أدبية تحمل عناصر البلاغة والإيضاح.
لذا اهتم بها كثير من الدارسين والمؤلفين، فرواها أجلة من العلماء المتقدمين والمتأخرين من المحدثين والفقهاء، والمؤرخين والأدباء، وتناولوها بالبحث والاستنباط والثناء في كتب السنة والفقه والتأريخ والسير والأدب وغيرها.(17/200)
فالفقيه بحاجة إليها يستنبط منها الأحكام والتوجيهات، والأدباء يذكرونها في كتبهم، ويسوقونها في عيون أخبارهم، ليسترشدوا بها في نثرهم، وفصاحتهم، والمؤرخ يحقق نصوصها وروايتها، واللغوي يشرح كلماتها ومفرداتها، ويستنبط القواعد البلاغية في تركيباتها، يقول ابن تيمية - رحمه الله -: [ورسالة عمر المشهورة في القضاء إلى أبي موسى الأشعري تداولها الفقهاء، وبنوا عليها واعتمدوا على ما فيها من الفقه وأصول الفقه] (1) .
ويقول ابن فرحون: [ونبدأ بذكر رسالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - المعروفة برسالة القضاء، قال ابن سهل: وهذه الرسالة أصل فيما تضمنته من فصول القضاء ومعاني الأحكام، وعليها احتذى قضاة الإسلام، وقد ذكرها كثير من العلماء وصدروا بها كتبهم، منهم: عبد الملك بن حبيب، وهي:] (2) .
ويقول سيدي محمد المرير: [ومن العجيب أن هذه الرسالة يرويها
__________
(1) منهاج السنة ج3 ص146 الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
(2) تبصرة الحكام ج1 ص27 - 28.(17/201)
المحدث في جامعه، ويعتمد عليها الفقيه في أحكامه ومسائله، ويستدل بها الأصولي لتأسيس حججه ودلائله، ويجعلها الأديب أنموذجا لنسج خطبه ورسائله، فرحم الله زعيم الأمة وفاتح أقطارها، ومؤسس برامج سياستها الحربية ونظم قضائها] (1) .
ويقول الدكتور محمد يوسف موسى: [إنها عهد اعتبره جمهور قضاة الإسلام دستورا لهم، وهو حري بهذا التقدير منهم، ومن رجال القضاء جميعا في كل عصر، ففيه من أصول القضاء ونظمه، ومن قواعد المرافعات، ومن الآداب التي ينبغي أن يأخذ القاضي بها نفسه ما يجعله بحق دستورا يجب اتباعه] (2) .
ويقول الأستاذ ظافر القاسمي: [وفي حدود علمي أنه ترجم إلى أكثر لغات العالم، وقد تعب كثير من العلماء في نقله إلى اللغات الأخرى؛ لأنه مصدر أصلي من مصادر أصول المحاكمات، وكان إميل تيان ممن ترجمه إلى الفرنسية في كتابه: " تأريخ التنظيم القضائي في بلاد الإسلام "، وممن ترجمه إلى الإنكليزية الأستاذ هنري كتن.
وقد اعتبره مؤرخو الآداب العربية من جملة النصوص الهامة التي تدل على صفات أسلوب صدر الإسلام، وترسل الخلفاء، وعلى ما تحلى به الفاروق عمر بن الخطاب من بلاغة في التعبير مع إحكام الفكرة] (3) .
وفي هذه الرسالة يضع عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - القواعد الأساسية للقضاء، وكيفيته وطرقه والهدف منه. وسأورد بإذن الله تعالى هذه الرسالة، وطرق ورودها، وآراء العلماء والباحثين في هذه الطرق، وأشرح مفرداتها، ثم أستخلص القواعد القضائية التي تشتمل عليها هذه الرسالة.
__________
(1) كتاب الأبحاث السامية في المحاكم الإسلامية ج1 ص118 طبع تطوان سنة 1951م.
(2) تأريخ الفقه الإسلامي ص104 ـ 105.
(3) نظام الحكم في الشريعة والتأريخ الإسلامي - السلطة القضائية - ص 439.(17/202)
وقد اعتمدت النص الذي أورده القاضي وكيع بن محمد بن خلف بن حيان المتوفى سنة 306 هجرية الذي رواه بسنده قال:
(حدثني علي بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: حدثنا إبراهيم بن بشار قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا إدريس أبو عبد الله بن إدريس، قال: أتيت سعيد بن أبي بردة فسألته عن رسائل عمر بن الخطاب التي كان يكتب بها إلى أبي موسى الأشعري، وكان أبو موسى قد أوصى إلى أبي بردة فأخرج إلي كتبا، فرأيت في كتاب منها (1) ثم ساق نص الرسالة.
واعتمدت هذا النص للاعتبارات التالية:
أ - لأن القاضي وكيعا متقدم على غيره إذ توفي سنة 306 هـ.
ب - لأن رواية وكيع - كما يظهر من إسناده - تدل على أنها لم تكن من الحفظ، وإنما كانت مكتوبة. وهذا ما يسمى وجادة وهي على
__________
(1) أخبار القضاة ج1 ص70 - 71 الطبعة الأولى.(17/203)
التحقيق مما يجب العمل به عند حصول الثقة بها؛ إذ إن أبا موسى قبل وفاته أوصى لابنه أبي بردة، فكان هذا الكتاب الذي بخط عمر بن الخطاب عنده - كما نقلنا عن أخبار القضاة آنفا ثم وازنت رواية وكيع برواية ابن القيم (1) ، ورواية ابن خلدون (2) . المتوفى سنة 808 هـ.
ومن هذه الموازنة لم أجد فارقا بين تلك الروايات اللهم إلا في التقديم أو التأخير، أو إبدال عبارة بأخرى من الألفاظ التي لا يتغير بها المعنى. وهذا يحصل لمن يروي من حفظه. أما رواية وكيع - فكما سلف - أنها لم تكن من الحفظ وإنما كانت وجادة، وكذلك رواية ابن القيم إذ قال بعد سياقه لروايته: [قال أبو عبيد: فقلت لكثير: هل أسنده جعفر؟ قال: لا] (3) ، وقال في بداية السند: [فأخرج إلي كتبا فرأيت في كتاب منها، (4) . مما يدل على أنها وجادة مكتوبة، ولكنها غير مسندة إلى معمر البصري؛ إذ إسناد ابن القيم هكذا: [وقال أبو عبيد: ثنا كثير بن هشام عن جعفر بن برقان، وقال أبو نعيم عن جعفر بن برقان، عن معمر البصري، عن أبي العوام، وقال سفيان بن عيينة: ثنا إدريس أبو عبد الله بن إدريس قال: أتيت سعيد بن أبي بردة فسألته عن رسل عمر بن الخطاب التي كان يكتب بها إلى أبي موسى الأشعري، وكان أبو موسى قد أوصى إلى أبي بردة، فأخرج إلي كتبا فرأيت في كتاب منها] (5) .
__________
(1) إعلام الموقعين جـ 1 ص 92. المتوفى سنة 751
(2) المقدمة لابن خلدون ص221
(3) إعلام الموقعين جـ1 ص 92.
(4) إعلام الموقعين جـ 1 ص 91.
(5) إعلام الموقعين جـ 1ص 91.(17/204)
نص الرسالة:
أما بعد: فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له.(17/204)
واس (1) بين الاثنين في مجلسك ووجهك، حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس وضيع من عدلك، الفهم الفهم فيما يتلجلج (2) في صدرك ويشكل عليك، ما لم ينزل في الكتاب ولم تجر به سنة.
واعرف الأشباه والأمثال ثم قس الأمور بعضها ببعض، فانظر أقربها إلى الله وأشبهها بالحق فاتبعه واعمد إليه.
لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك، وهديت فيه لرشدك، فإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا حدا، أو مجربا عليه شهادة زور، أو ظنينا في ولاء قرابة.
واجعل لمن ادعى حقا غائبا أمدا ينتهي إليه، أو بينة عادلة، فإنه أثبت للحجة، وأبلغ في العذر، فإن أحضر بينة إلى ذلك الأجل أخذ بحقه، وإلا وجهت عليه القضاء.
البينة على من ادعى واليمين على من أنكر.
إن الله - تبارك وتعالى - تولى منكم السرائر، ودرأ عنكم الشبهات.
وإياك والغلق والضجر والتأذي بالناس، والتنكر للخصم في مجالس
__________
(1) واس: من المواساة، وهي التسوية والعدل، أي سو بينهم، في هذا كله، واجعل بعضهم أسوة بعض.
(2) يتلجلج: التلجلج هو التردد وعدم ظهور الأمر وجلاؤه(17/205)
القضاء التي يوجب الله فيها الأجر، ويحسن فيها الذخر، من حسنت نيته، وخلصت فيما بينه وبين الله كفاه الله ما بينه وبين الناس.
والصلح جائز فيما بين الناس إلا ما أحل حراما أو حرم حلالا.
ومن تزين للناس بما يعلم الله منه غير ذلك شانه الله، فما ظنك بثواب غير الله في عاجل دنيا، وآجل آخرة والسلام.(17/206)
طرق رسالة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه:
رويت هذه الرسالة بعدة طرق منها:
1 - طريق وكيع المتوفى سنة 306، قال: [حدثني علي بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال: حدثنا إبراهيم بن بشار، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا إدريس أبو عبد الله بن إدريس قال: أتيت سعيد بن أبي بردة فسألته عن رسائل عمر بن الخطاب التي كان يكتب بها إلى أبي موسى الأشعري - وكان أبو موسى قد أوصى إلى أبي بردة - فأخرج إلي كتبا فرأيت في كتاب منها] ، ثم ذكر الرسالة.
2 - طريق الدارقطني المتوفى سنة 385 هـ - في سننه قال: [حدثنا أبو جعفر محمد بن سليمان بن محمد النعماني، حدثنا عبد الله بن عبد الصمد بن أبي(17/206)
خداش، نا عيسى بن يونس، نا عبيد الله بن أبي حميد عن أبي المليح الهذلي قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري] ، ثم ساق الرسالة.
3 - طريق ابن حزم - المتوفى سنة 456 هـ - قال: فحدثنا بها أحمد بن عمر العذري، ثنا أبو ذر عبد الله بن أحمد الهروي، ثنا أبو سعيد الخليل بن أحمد القاضي السجستاني، ثنا يحيى بن محمد بن صاعد، ثنا يوسف بن موسى القطان، ثنا عبيد الله بن موسى، ثنا عبد الملك بن الوليد بن معدان عن أبيه قال:] (1) ثم ساق الرسالة.
وطريق آخر لابن حزم قال: [وحدثناها أحمد بن عمر، ثنا عبد الرحمن بن الحسن الشافعي، ثنا القاضي أحمد بن محمد الكرجي، ثنا: محمد بن عبد الله العلاف، ثنا أحمد بن علي بن محمد الوراق، ثنا: عبد الله بن سعد، ثنا أبو عبد الله محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، ثنا سفيان عن إدريس بن يزيد الأودي، عن سعيد بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه] (2) .
4 - طرق البيهقي - المتوفى سنة 458 هـ في سننه قال: [وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن إسحاق الصغاني ثنا ابن كناسة، ثنا جعفر بن برقان عن معمر البصري عن أبي العوام البصري، قال: كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما] . وذكرها بأكملها.
__________
(1) الإحكام في أصول جـ 7 ص 1002 - 1003 مطبعة الإمام بمصر.
(2) الإحكام في أصول الأحكام جـ 7 ص 1003.(17/207)
5 - طريق ابن القيم المتوفى سنة 751 هـ - قال: [وقال أبو عبيد: ثنا كثير بن هشام عن جعفر بن برقان، وقال أبو نعيم عن جعفر بن برقان، عن معمر البصري، عن أبي العوام، وقال سفيان بن عيينة: ثنا إدريس أبو عبد الله بن إدريس قال: أتيت سعيد بن أبي بردة، فسألته عن رسل عمر بن الخطاب التي كان يكتب بها إلى أبي موسى الأشعري - وكان أبو موسى قد أوصى إلى أبي بردة - فأخرج إليه كتبا فرأيت في كتاب منها] (1) ثم ذكر الرسالة.
وقال عند آخرها [قال أبو عبيد: فقلت لكثير: هل أسنده جعفر؟ قال: لا] (2) .
__________
(1) إعلام الموقعين لابن القيم جـ 1ص 91 طبع دار الكتب الحديثة بمصر.
(2) إعلام الموقعين جـ 1 ص 92.(17/208)
آراء العلماء والباحثين في رسالة عمر إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنهما -: لقد دار منذ القدم النقاش وحصل اختلاف بين العلماء والباحثين في شأن رسالة عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - إلى قاضيه على البصرة أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - فبعضهم يؤيدها ويثني عليها ويجعلها أساسا لبحثه واستنباطاته، فيصحح وردوها ومنتها.
وبعضهم يطعن فيها إما من ناحية سندها، أو اختلاف رواياتها، أو تأريخها، أو متنها، أو فيها جميعا.
فأما السند والرواية فقد طعنوا في رواتها، واتهموهم بعدم الثقة وبالانقطاع.
وأما اختلاف الروايات، فإن بين ألفاظ الروايات المتعددة اختلافا مما(17/208)
يدل على الوضع، وأما التأريخ فهو أن أبا موسى الأشعري لم يتول قضاء الكوفة.
وأما من ناحية المتن فقد استبعدوا أن تكون من كلام عمر بن الخطاب؛ لأنها اشتملت على اصطلاحات فقهية جدت بعد عصر الصحابة، كما أن فيها بعض الآراء التي ثبت مخالفة عمر لها.
وسأعرض فيما يلي لهذه الاعتراضات وأناقشها بإذن الله تعالى.(17/209)
مناقشة حجج منكري رسالة عمر إلى أبي موسى الأشعري:
أ - الطعن في السند:
لقد شن ابن حزم - رحمه الله تعالى - حمله على رسالة عمر إلى أبي موسى وطعن في سندها فقال: [قال أبو محمد: وهذا لا يصح؛ لأن السند الأول فيه عبد الملك بن الوليد بن معدان، وهو كوفي متروك الحديث ساقط بلا خلاف، وأبوه مجهول، وأما السند الثاني فمن بين الكرجي إلى سفيان مجهولون، وهو أيضا منقطع فبطل القول به جملة] (1) .
وقال أيضا: [وأما الرسالة عن عمر ففيها: " قس الأمور واعرف الأشباه والأمثال، ثم اعمد إلى أولاها بالحق وأحبها إلى الله فاقض به " وهذه رسالة لا تصح، تفرد بها عبد الملك بن الوليد بن معدان عن أبيه وكلاهما متروك، ومن طريق عبد الله بن أبي سعيد وهو مجهول، ومثلها بعيد عن عمر، وأحب الأشياء إلى الله لا يعرف إلا بإخبار الله ورسوله، وقد حرم تعالى أن تقولوا على الله ما لا تعلمون] (2) .
وقال أيضا: [فإن ادعوا أن الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعوا على القول بالقياس قيل لهم: كذبتم بل الحق أنهم كلهم أجمعوا على إبطاله، برهان
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام جـ 7 ص 1003.
(2) ملخص إبطال القياس ص 6 - 7 مطبعة جامعة دمشق سنة 1379 هـ.(17/209)
كذبهم: أنه لا سبيل لهم إلى وجود حديث عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - أنه أطلق الأمر بالقول بالقياس أبدا، إلا في الرسالة المكذوبة الموضوعة على عمر - رضي الله عنه - فإن فيها: " واعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور "، وهذه رسالة لم يروها إلا عبد الملك بن الوليد بن معدان عن أبيه وهو ساقط بلا خلاف، وأبوه أسقط منه أو من هو مثله في السقوط] (1) .
ومما لا شك فيه أن ابن حزم له باع طويل في معرفة طرق الرواية والأسانيد والرجال، فهو عالم من الطراز الأول، كما أنه غير متهم في دينه وخلقه. لذلك كان لطعنه في السند وراوي الرسالة وزن واعتبار لا يمكن إغفاله أو تجاهله، وخصوصا أنه عبر عنه بلغة الجزم والقطع، بل بلغة قاسية حين قال في راويها: " عبد الملك بن الوليد بن معدان عن أبيه وهو ساقط بلا خلاف، وأبوه أسقط منه أو من هو مثله في السقوط " (2) .
كما أن ابن القيم وافقه على انقطاع السند حيث قال: " قال أبو عبيد: فقلت لكثير: هل أسنده جعفر؟ قال: لا " (3) ، ثم قال: " وهذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شئ إليه وإلى تأمله والتفقه فيه" (4) ، ليدفع ما قد يتوهم بأن عدم إسناده يعرضه للطعن في صحته، إذ قبول العلماء له يكسبه نوعا من الإقرار بصحته والموافقة على ما فيه، ويجوز أن جعفرا يعلم الإسناد ولكنه حذفه اختصارا وإلا من أين جاء بالرسالة وهو ثقة.
لكن علماء الحديث لم يوافقوه في سقوط الراوي عبد الملك بن الوليد بن معدان، ولا أبيه الوليد بل عده علماء الرجال من الثقات.
ولم يوافقوه على ورودها من الطرفين اللذين ذكرهما بل ذكروا طرقا أخرى
__________
(1) المحلى جـ 1 ص 77 الناشر مكتبة الجمهورية العربية سنة 1387 هـ.
(2) المحلى جـ 1 ص 77.
(3) إعلام الموقعين جـ1 ص92.
(4) إعلام الموقعين جـ1 ص 92.(17/210)
موصولة. فقد قال الحافظ ابن أبي حاتم الرازي في الراوي: [عبد الملك بن الوليد بن معدان شيخ بصري روى عن أبيه، وعاصم بن بهدلة روى عنه بدل بن المحبر، وحرمي بن حفص، وأحمد بن عبد الله بن يونس. سمعت أبي يقول ذلك. قال أبو محمد روى عنه أبو داود الطيالسي، نا عبد الرحمن، قال ذكره أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه قال: عبد الملك بن الوليد ابن معدان صالح، نا عبد الرحمن قال: سألت أبي عن عبد الملك بن الوليد بن معدان فقال: ضعيف الحديث] (1) .
وقال الذهبي: [عبد الملك بن الوليد بن معدان عن عاصم بن أبي النجود قال ابن معين: صالح، وقال أبو حاتم: ضعيف، وقال ابن حبان: يقلب الأسانيد لا يحل الاحتجاج به، وقال البخاري: فيه نظر] (2) .
وقال الشيخ أحمد محمد شاكر - رحمه الله -: [أما عبد الملك فهو متوسط، ولم يضعفه أحد جدا إلا المؤلف - يعني به ابن حزم - وأما أبوه فهو ثقة معروف ذكره ابن حبان في الثقات] (3) .
أما عدم مرافقتهم له في ورودها من الطريقين اللذين ذكرهما، فقد سبق وأن ذكرت طرق ورودها - ومنها طريق وكيع عن علي بن محمد بن عبد الملك (4) إلخ. . . وطريق الدارقطني (5) ، وطريق البيهقي - بل طرق البيهقي (6) - فلم ينفرد بروايتها عبد الملك بن الوليد بن معدان كما يدعي ابن حزم.
وقال أحمد - رحمه الله - عن طرقه: [وخير هذه الأسانيد - فيما نرى - إسناد سفيان بن عيينة عن إدريس - وهو إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي
__________
(1) كتاب الجرح والتعديل جـ 5 ص 373 ـ 374 طبع في حيدر آباد سنة 1371هـ.
(2) ميزان الاعتدال جـ 2 ص 666 طبع الحلبي.
(3) التعليق على الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم جـ 7 ص 1003.
(4) أخبار القضاة جـ 1 ص 70.
(5) سنن الدارقطني جـ 4 ص 206.
(6) السنن الكبرى جـ 10 ص 115، 150، 155، 182، 197.(17/211)
وهو ثقة - أن سعيد بن أبي بردة بن أبي موسى أراه الكتاب وقرأه لديه، وهذه وجادة جيدة في قوة الإسناد الصحيح إن لم تكن أقوى منه، فالقراءة من الكتاب أوثق من التلقي عن الحفظ، وقد نقلها أيضا ابن الجوزي في سيرة عمر بن الخطاب ص 135 (1) " عن أبي عبد الله بن إدريس - وهو إدريس بن يزيد - قال: أتيت سعيد بن أبي بردة فسألته عن رسائل عمر بن الخطاب التي كان يكتب بها إلى أبي موسى، وكان أبو موسى قد أوصى إلى أبي بردة قال: فأخرج إلي كتبا فرأيت في كتاب منها] (2) إلخ.
بل إن ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - اعتبر اختلاف الروايات حتى ولو كانت منقطعة مما يقوي أصل الرسالة ويشد بعضها أزر بعض، فقال: [وساقه - يعنى رسالة عمر - ابن حزم من طريقين، وأعلهما بالانقطاع، لكن اختلاف المخرج فيهما مما يقوي أصل الرسالة، لا سيما وفي بعض طرقه أن راويه أخرج الرسالة مكتوبة (3) .
__________
(1) في طبع دار إحياء علوم الدين بدمشق ـ تأريخ عمر بن الخطاب ـ ص 155 ـ 156.
(2) التعليق على المحلى لابن حزم جـ 1 ص 79 الناشر مكتبة الجمهورية العربية سنة 1378 هـ.
(3) تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير جـ 4 ص 196 المدينة المنورة سنة 1384هـ.(17/212)
ب - الطعن فيها لاختلاف الروايات وتعددها:
تذرع بعض الباحثين لإبطال رسالة عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري باختلاف الروايات وتعددها، مما يدل على أنها مختلفة؛ إذ لو كانت مكتوبة لما حصل فيها هذا الاختلاف وتعدد الروايات، إذ ما يكتب لا يحصل فيه الاختلاف بخلاف ما يقال، إذ ربما يحصل القول بألفاظ مختلفة من القائل في كل مناسبة، يقول قولا مختلف اللفظ عن الأول، فينقل الراوي ما سمع. أما الرسائل فعادة تكون واحدة، لا عدة رسائل تحمل معنى واحدا إلى شخص واحد. وقد نقل الأستاذ عبد العزيز مصطفي المراغي ما قاله بعض هؤلاء فقال: [كتب الأستاذ مرجو ليوث، أستاذ اللغة العربية في جامعة أكسفورد - سابقا - فصلا عن هذا الكتاب في مجلة الجمعية الآسيوية، عمد فيه للمقارنة بين(17/212)
ثلاث روايات اختارها، وهي رواية الجاحظ، وابن قتيبة، وابن خلدون، وحاول أن يجعل من اختلاف الروايات سببا للتشكيك في صحة نسبة الكتاب إلى عمر، وعجب أن يكون هذا الكتاب قد نقل شفاها من عمر لأبي موسى] (1) .
فنقول: صحيح أنها رسالة مكتوبة، ولكن الرواة يتناقلونها عن طريق الحفظ، لذلك يقع تعدد الروايات واختلافها، علما بأنه لم يقع اختلاف بينها يذكر، اللهم إلا في اختلاف المفردات اللغوية. فيروي هذا كلمة وغيره يرويها بكلمة أخرى لا تغير المعنى والمقصود، أو يقدم جملة على أخرى. وقد أجاز علماء الحديث رواية الحديث بالمعنى إذا كان لا يحيله، فليس الاختلاف قادحا فيها وموجبا لردها، وخصوصا أنها عن عمر بن الخطاب.
يقول الأستاذ عبد العزيز المراغي: [اختلاف الروايات في الحديث لا يكون سببا قادحا فيه، وموجبا لرده، خصوصا وأن هذا الكتاب عن عمر لا عن الرسول، وهو مكتوب في معنى خاص، لا يغير من شأنه اختلاف الروايات فيه، مادامت كلها تحمل هذا المعنى، والعلماء الخبيرون بالأخبار، وطرق نقلها لم يشكوا في صحة الكتاب، ولم ينقل عن واحد منهم معنى من معاني رده، وقد تولى تفسيره كثير منهم، وإعلام الموقعين لابن القيم يكاد يكون كتابا موضوعا لشرح كتاب عمر، اتخذ التعليق عليه وسيلة للإفاضة في كثير من أسرار التشريع التي نصب ابن القيم نفسه لبيانها والدفاع عنها، ولم يشكك هو، ولا شيخه ابن تيمية في الكتاب من قريب أو بعيد، ولو كان في الكتاب مغمز ما ترددوا في بيانه] (2) .
أما ما ذكره من عجبه أن يكون هذا الكتاب قد نقل شفاها من عمر لأبي موسى الأشعري، فالرد عليه: أن الكتاب لم ينقل كذلك، وإنما هو رسالة مكتوبة بعث بها عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري، وحفظها عنده وقبيل وفاته أوصى لابنه بما عنده من أوراق ومستندات فحفظها عنده ابنه أبو بردة مع غيرها من رسائل عمر بن الخطاب لأبيه، ورواياتها تدور أغلبها على سعيد بن
__________
(1) الهامش على كتاب: أخبار القضاة لوكيع جـ1 ص 74.
(2) التعليق على أخبار القضاة لوكيع جـ 1 ص 74.(17/213)
أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، وفيها يقول الراوي: فأخرج لنا كتبا فيها كتاب عمر إلى أبي موسى (1) .
وبهذا يتضح أن الكتاب لم ينقل من عمر إلى أبي موسى شفاها كما يدعي مرجو ليوث، وعلى هذا فلا مدعاة لعجبه، ولا أساس هناك يعتمد عليه في إنكاره له.
__________
(1) انظر أخبار القضاة لوكيع جـ 1 ص 70، وإعلام الموقعين جـ 1 ص 91.(17/214)
الطعن فيها من الناحية التأريخية
لقد شكك المنكرون لرسالة عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري فيها من الناحية التأريخية حيث قالوا:
1 - إن الرسالة ورد فيها بعث عمر بن الخطاب إلى قاضيه على الكوفة أبي موسى الأشعري، حيث روى ابن خلدون قال: [وولى أبا موسى الأشعري بالكوفة، وكتب له في ذلك الكتاب المشهور الذي تدور عليه أحكام القضاة، وهي مستوفاة فيه] (1) .
وأبو موسى الأشعري لم تتحدث عنه كتب التأريخ أنه ولي الكوفة لعمر بن الخطاب، وإنما ولي له البصرة، ولم يل الكوفة إلا في عهد عثمان بن عفان - رضي الله تعالى عنه -. يقول حسن إبراهيم حسن: [ومن الثابت أن شريح بن الحارث الكندي كان قاضي الكوفة في عهد عمر، وأن أبا موسى الأشعري تولى قضاء البصرة من قبل عمر أيضا، وهذا يخالف ما ذكره بعض المؤرخين من أن عمر أرسل هذا الكتاب إلى أبي موسى الأشعري، وهو على قضاء الكوفة؛ لأنه لم يتقلد ولاية الكوفة إلا في خلافة عثمان بن عفان] (2) .
وقال الشيخ محمود بن محمد بن عرنوس: [من هذا البيان المختصر
__________
(1) مقدمة ابن خلدون ص 220 ـ 221.
(2) تأريخ الإسلام جـ 1 ص 486 مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة، الطبعة السابعة سنة 1964م.(17/214)
يظهر أن أبا موسى لم يل الكوفة في زمن عمر، وإنما وليها في زمن عثمان، وإنما كان قاضي الكوفة شريح، فمن هذه الوجهة يمكننا أن نرجح ما يقوله ابن حزم في هذه الرسالة] (1) .
2 - كما أن أبا موسى الأشعري لم يل لعمر بن الخطاب القضاء، وإنما ولي له الإمارة على البصرة، وقضى لعمر في أثناء ولاية أبي موسى للإمارة كعب بن سور (2) .
3 - لم ترد هذه الرسالة في كتب الأقدمين، وإنما وردت فيمن كتب بعد القرن الثالث الهجري: قال ظافر القاسمي نقلا عن إميل تيان: [وكما لاحظ ذلك مرجليوث، فإن المؤلفين الذين ذكروا كتاب عمر للمرة الأولى هم: الجاحظ، وابن عبد ربه، وابن قتيبة، وما من أحد منهم كان قبل القرن الثالث الهجري - التاسع والعاشر الميلادي - وفي أي نوع كان: التأريخ القضاء، الحديث، سابق على هذا العصر، لا نجد ذكرا لهذا النص الشهير.
وإذا أخذنا على سبيل الإيضاح بين هذه المؤلفات أشهرها التي تناولت تحت عناوين مختلفة القضاء نجد فيها صمتا يدعو إلى الاضطراب حول هذا الموضوع، فمالك بن أنس مؤسس المذهب المالكي الذي عاش في أول القرن الثاني للهجرة (97 - 179 هـ 715 - 795م) لا يشير في موضع من مؤلفه الشهير (الموطأ) إلى كتاب عمر، والموطأ يؤلف مع ذلك مجموعة من الأحاديث والأحكام، والحكم منسوبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى أصحابه، وإلى الشخصيات الهامة لصدر الإسلام، وكذلك الحال بالنسبة إلى مسند الإمام أحمد بن حنبل - رئيس المذهب الحنبلي - والشافعي (المتوفى 204 \ 819) لا يشير أية إشارة إلى هذه الوثيقة. وفي مسند زيد بن علي لا نجد أية إحالة على هذا الكتاب] (3) .
__________
(1) تأريخ القضاة في الإسلام ص 15 المطبعة المصرية الأهلية الحديثة بالقاهرة سنة 1352هـ، 1934م.
(2) نظرة عامة في تأريخ الفقه الإسلامي ص74.
(3) نظام الحكم في الشريعة والتأريخ الإسلامي ـ السلطة القضائية ـ ص 453.(17/215)
ويتابع الحديث والنقل إلى أن يقول: فمن الممكن إذن أن يبدو غريبا جدا أنه حتى نهاية القرن الثاني للهجرة، أي أكثر من مائة وخمسين سنة بعد وفاة الخليفة عمر، لا نرى نصا يذكر الكتاب الذي تسنده الروايات المتأخرة إلى عمر. إن المؤلفين الذين لاحظنا عندهم هذا الصمت كان يمكن أن يكون لهم أكبر الاهتمام في أن يذكروا في كتاباتهم المتعلقة بالسلطة القضائية هذه الوثيقة المزعومة لو وجدت حقيقة] (1) .
وأجيب عن هذا بما يأتي:
أولا: قولهم لم يل الكوفة:
إن أكثر الذين رووا الرسالة لم ينصوا على أن عمر أرسلها إلى قاضيه على الكوفة، وإنما قالوا: أرسلها إلى أبي موسى الأشعري. وابن خلدون - رحمه الله - وحده وهو الذي ذكر أن عمر أرسلها إلى أبي موسى وهو على الكوفة (2) .
ومن الممكن الإجابة على رواية ابن خلدون بما يأتي:
أ - لعلها سبقة قلم من ابن خلدون، أو سجلها من حفظه، فكتب الكوفة بدلا من البصرة لتقاربها في الموقع وتأريخ التأسيس، فتسبق إحداهما على الأخرى في الذهن، فيكاد المرء لا يفرق بينهما.
وخطأ بعض المؤرخين في تحديد الجهة التي كان فيها أبو موسى وقت إرسال الكتاب ليس معناه كذب الكتاب، أو مدعاة للطعن في صحته، وكذلك اختلاف التأريخ في الكوفة والبصرة ليس كافيا لرد الرسالة.
ب - يحتمل أن قولهم: قاضيه على الكوفة، إنما ذكرت في الرواية أيام كون أبي موسى قاضيا عليها - أيام عثمان بن عفان - فهو باعتبار الحال والزمان، ولكنه ليس قاضيا لعمر على الكوفة.
ج - ذكر الطبري (3) - رحمه الله - وابن الأثير (4) أن أهل الكوفة طلبوا من عمر بن
__________
(1) نظام الحكم في الشريعة والتأريخ الإسلامي ـ السلطة القضائية ـ ص 455.
(2) مقدمة ابن خلدون ص 220.
(3) تأريخ الأمم والملوك جـ4 ص262 دار الفكر بيروت سنة 1399هـ.
(4) الكامل في التأريخ جـ 3 ص 16 الناشر دار الكتاب العربي بيروت الطبعة الثالثة 1400هـ - 1980 م.(17/216)
الخطاب - رضي الله تعالى عنه - أن يعزل عنهم واليهم عمار بن ياسر؛ لأنه لا يحسن السياسة، ولا يعلم ما استعمل عليه، ففعل واستشارهم فيمن يوليه عليهم، فطلبوا أبا موسى الأشعري فولاه عليهم، ثم إنهم طلبوا عزله عن الكوفة؛ لأن غلامه يتجر في بعض أرزاقهم، وذلك بعد قرابة سنة من توليته، فعزله عمر عن الكوفة وصرفه إلى البصرة، وبعث إليهم المغيرة بن شعبة.
وبهذا يحتمل أن عمر - رضي الله عنه - أرسل رسالته في القضاء لأبي موسى في هذه السنة التي تولى فيها أبو موسى على الكوفة ليذكره بأمور القضاء وسياسته، وخاصة عند أناس تكثر لديهم المشاغبة.
ثانيا: قولهم لم يل القضاء، وإنما ولي إمارة البصرة:
من الثابت في كتب التأريخ أن ولاية أبي موسى الأشعري في زمن عمر بن الخطاب للبصرة كانت ولاية عامة، تشتمل الإمارة والقضاء، وفي آخر سنة من خلافة عمر بن الخطاب سنة ثلاث وعشرين يذكر ابن جرير الطبري بصيغة التمريض أنه ولى على قضاء البصرة كعب بن سور، فيقول: [وقيل: كان على قضاء الكوفة في السنة التي توفى فيها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - شريح وعلى البصرة كعب بن سور، وأما مصعب بن عبد الله، فإنه ذكر أن مالك بن أنس روى عن ابن شهاب أن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - لم يكن لهما قاض (1) .
ثم إنه حتى لو كان مع أبي موسى من يتولى القضاء لما كان هذا مانعا من أن يرسل عمر إلى واليه هذه النصائح في شئون القضاء ليستعين بها في الحكم بين الناس ليرى تطبيقها من قبل القاضي كعب بن سور، وإن عدل عنها رده لما فيها.
ثم في هذا تناقض من الدكتور علي حسن عبد القادر، فهو ينكر أن يكون عمر قد فصل القضاء عن الولاية العامة حيث يقول: [وحقيقة الأمر أنه لم يكن
__________
(1) تأريخ الأمم والملوك جـ5 ص 42 دار الكفر بيروت سنة 1399هـ.(17/217)
هناك قاض مستقل في العصر الأول يقوم بالقضاء على أنه وظيفة مستقلة، وقد جاء عن مالك أنه قال: " إن أبا بكر وعمر لم يكن لهما قاض، حتى كانت الفتنة فاستقضى معاوية " (1) .
وهنا يذكر أن أبا موسى لم يكن قاضيا، وإنما كان واليا، والقاضي كعب بن سور.
يقول الدكتور محمد بلتاجي: [وبعد هذه كله نستطيع أن نقول: - ونحن مطمئنون - أننا لو أخذنا بالرواية التي ذكرها الطبري عن مالك من أن عمر لم يكن له - كما لم يكن لأبي بكر - قاض مستقل، أو أخذنا بالرواية الأخرى التي ذكرت أن كعب بن سور كان قاضي عمر على البصرة عند مقتل عمر سنة 23هـ، أو أخذنا باحتمال أن يكون كعب بن سور أبرز الذين كان يستشيرهم أبو موسى عند القضاء بين الناس في البصرة، فليس هناك ما يمنع عقلا أو تأريخا من أن يكون عمر بن الخطاب قد أرسل إلى واليه أبي موسى الأشعري هذه الرسالة الشهيرة] (2) .
ثالثا: قولهم لم تذكرها كتب الأقدمين:
إن عدم ذكر حديث وأثر في كتاب معين لا يعني عدم صحته، إذ كثير من الأحاديث الصحيحة، والآثار الصحيحة لم ترد في كتاب الموطأ، ولا في كتاب صحيح البخاري، قال ظافر القاسمي بعد أن ذكر الشبهة: [هذا صحيح، ولكنه لا يمكن وفقا لعلم مصطلح الحديث أن يكون سببا في رد الكتاب، أو في اعتبار نسبته إلى عمر غير صحيحة؛ لأن البخاري جمع في صحيحه أقل من عشرة آلاف حديث من أصل ثلاثمائة ألف وقع عليها، ولا ريب في أن تعدد كتب الحديث النبوي قد أتاح لنا الفرصة لمعرفة الكثير مما هو من أصول الشريعة وفروعها، فعدم ورود كتاب عمر في المصادر التي أشار إليها تيان، ووروده مثلا عن الدارقطني والبيهقي، على الرغم من أنهما متأخران حتى عن
__________
(1) نظرة عامة في تأريخ الفقه الإسلامي ص 75 الناشر دار الكتب الحديثة بالقاهرة.
(2) منهج عمر بن الخطاب في التشريع ص 58 - 59 طبع دار الفكر العربي.(17/218)
الجاحظ والمبرد يدعو إلى اعتبار الحديث ما دام مستجمعا لشروط الصحة، غير أن تيان لم يبلغه ورود الكتاب عند هذين الإمامين من أئمة الحديث] (1) .
__________
(1) نظام الحكم في الشريعة والتأريخ الإسلامي ـ السلطة القضائية ـ ص 462.(17/219)
د - الطعن في المتن:
1 - قالوا: إن فيه بعض الاصطلاحات الفقهية التي لم تكن معروفة في عصر عمر بن الخطاب، وإنما جدت فيما بعد عصر الصحابة مثل: " واعرف الأشباه والأمثال ثم قس الأمور بعضها " إلخ. إذ كلمة " القياس " لم تستعمل في معنى الرأي في عصر الصحابة، وإنما كان استعمالها بعد ذلك.
نقل الدكتور علي حسن عبد القادر ما طعن به المستشرق جولدتسيهر ومتزوفلهوزن فقال: [شك بعض الباحثين المحدثين في هذه الرسالة، ورسالة شريح، وفي الرسائل التي جاءت بمعناها كوصية النبي لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن، واحتج بأن هذه الرسائل والوصايا تشتمل على اصطلاحات دقيقة تعتبر وليدة لعصر ما بعد الصحابة، وإذا سلمنا بأن هذه الرسائل والوصايا قد صدرت عن النبي وعن عمر حقا، فإنه من العسير أن نوفق بينها وبين مسلك أهل الحديث في كراهة الأخذ بالرأي والقياس، والتشديد في ذلك تشديدا بينا، ومن ثم فإنهم عمدوا إلى تضعيف هذه الروايات والتهوين من شأنها] .
2 - كما أن فيها بعض الآراء التي يخالفها عمر، مثل قوله: " والمسلمون عدول بعضهم على بعض " فقد روى مالك أن عمر قال: " لا يؤسر (1) المسلمون بغير العدول ". مما يدل على أنه لم يكتف بالإسلام في اعتبار العدالة، بل لا بد من تزكية ومعرفة بالصلاح والاستقامة وعدم
__________
(1) يؤسر: أي يحبس، والمعنى لا يحكم عليه - قاله ابن الأثير في النهاية غريب الحديث والأثر جـ 1 ص 48.(17/219)
الكذب والتزوير. يقول ابن حزم: [وفي هذه الرسالة نفسها أشياء خالفوا فيها عمر - رضي الله عنه - منه قوله فيها: " والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو ظنينا في ولاء أو نسب " وهم لا يقولون بهذا، يعني جميع الحاضرين من أصحاب القياس حنفيهم وشافعيهم ومالكيهم. وإن كان قول عمر - لو صح في تلك الرسالة - في القياس حجة فقوله في " أن المسلمين عدول كلهم إلا مجلودا في حد " حجة، وإن لم يكن قوله في ذلك حجة فليس قوله في القياس حجة لو صح، فكيف ولم يصح؟!] (1) .
1 - أما قولهم: إن فيها بعض الاصطلاحات الفقهية التي لم تكن معروفة في عصر عمر، فهو قول غير مسلم بدليلين:
أ - ورود هذه الاصطلاحات في هذه الرسالة الثابتة نسبتها إلى عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -.
ب - ذكر أئمة اللغة هذه الرسالة في كتبهم مثل: الجاحظ في البيان والتبيين (2) ، والمبرد في الكامل في اللغة والأدب (3) ، وابن قتيبة في عيون الأخبار (4) ، وهؤلاء الأئمة غايتهم في تأليف هذه الكتب جمع صور من بلاغة العرب في الشعر والنثر والخطب والرسائل، وهم من أعرف الناس بالنصوص، ومن أقدرهم على تمييز صحيحها من منحولها، وفصيحها من ركيكها، فلو اعترى كتاب عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أية شبهة في أسلوبه ولغته، واصطلاحاته مما يدل على أنه ليس من كلام البلغاء في صدر الإسلام لطرحوه، ولما ذكروه في كتبهم. قال ظافر القاسمي: [نرى في إثبات كل من الجاحظ والمبرد لنص الكتاب في كتابيهما دليلا على صحة الكتاب من الناحية
__________
(1) المحلى جـ1 ص 77 ـ 78 الناشر مكتبة الجمهورية العربية سنة 1387 هـ.
(2) جـ 2 ص 224.
(3) جـ 1 ص 7.
(4) جـ1 ص66.(17/220)
اللغوية والأدبية، وإلى أنه متفق مع أساليب العصر الأول، ولا يخالف ما عهد كبار العلماء من أسلوب عمر بن الخطاب في الكتاب والخطاب] (1) .
2 - أما ما فيها من الآراء التي يخالفها عمر مثل تعديل المسلم؛ لأنه مسلم، وأن الأصل فيه العدالة، إلا من تعرضت عدالته للشك، وهو القاذف، والمتهم في ولائه، أو متهم في نسبه. مع أن الإمام مالكا - رحمه الله - روى أن عمر قال: " والله لا يؤسر رجل في الإسلام بغير العدول". فالذي يظهر لي أنه لا تعارض بين قول عمر في الرسالة، وبين ما رواه مالك عن عمر - رضي الله عنه - إذ المعنى: أن المسلمين لا يؤسرون بشهادة غير العدول، والعدول يشترط فيهم الإسلام؛ إذ الأصل في المسلم العدالة ما لم تسلب منه بسبب القذف، أو تجريب الكذب عليه، أو الاتهام بتزوير ولائه لأحد غير مواليه، أو انتسابه لغير أهله، فيكون قوله: " لا يؤسر رجل في الإسلام بغير العدول " تأكيدا لقوله الذي في الرسالة. إذ لا تعارض حتى يقال: إنه رجع عما رآه أولا، وقد جاء في الحديث عن ابن عباس قال: «جاء أعرابي إلى النبي فقال: إني رأيت الهلال - يعني رمضان - فقال: أتشهد أن لا اله إلا الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، قال: يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا (2) » .
وعلى فرض وجود التعارض بين ما في الرسالة من عدالة المسلم، وبين ما رواه الإمام مالك من اشتراط العدالة زيادة على الإسلام، فإن هذا غير كاف
__________
(1) نظام الحكم في الشريعة والتأريخ الإسلامي - السلطة القضائية - ص 460.
(2) رواه الترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجة والحاكم - سنن الترمذي، جـ 3 ص 74، وسنن النسائي جـ4 ص 132، وسنن أبي داود جـ1 ص 547، وسنن ابن ماجة جـ 1 ص 529، والمستدرك جـ1 ص 424 وقال: [وهذا الحديث صحيح ولم يخرجاه] أ. هـ.(17/221)
لنفي صحة الرسالة وردها، بل ليس دليلا أصلا؛ إذ يدل على تغير اجتهاد عمر في هذه المسألة، بل يؤيد صحة الرسالة؛ إذ قدوم هذا الرجل يشتكي إليه استغلال الناس لاعتبار أن الأول في المسلمين العدالة، مما يدل على أن عمر قد أمر بهذا أولا كما جاء في الرسالة، ثم رجع عن هذا الأصل، واعتبر العدالة شيئا آخر، فقد يكون مسلما لكنه غير عدل في الشهادة.
فرجوع عمر - إن صح - لا يطعن في صدور الرسالة منه، بل يحمل على تغير الاجتهاد، وهو شيء وإنكار الرسالة جميعها شيء آخر. فهو حين كتب الرسالة إلى أبي موسى الأشعري لم تكن شهادة الزور قد فشت، فاكتفي من الشاهد تحقق الإسلام فيه، فلما فشت شهادة الزور شدد فيما يشترط في هذا الشاهد.
يقول ابن فرحون بعد ذكر الرسالة: قال ابن سهل: وقول عمر - رضي الله عنه - في هذه الرسالة: " المؤمنون عدول بعضهم على بعض " رجع عمر - رحمه الله - عن ذلك بما رواه مالك في الموطأ، قال ربيعه: قدم رجل من أهل العراق على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: قد جئتك بأمر لا رأس له ولا ذنب، فقال له عمر وما هو؟ فقال: شهادات الزور ظهرت بأرضنا، فقال عمر - رضي الله عنه -: " والله لا يؤسر رجل في الإسلام بغير العدول ". وهذا يدل على رجوعه عما في هذه الرسالة، ونحو ذلك نقله ابن عبد الحكم عن عمر - رضي الله عنه -، وذكر عن الحسن والليث بن سعد من التابعين الأخذ بما في هذه الرسالة في أمر الشهود، والأكثرون على خلافه بدليل قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (1) ، وقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (2) (3) .
كما أن مضمون العدالة في الآية {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (4) غير محدود، فترك الله مقاييس هذه العدالة للناس في كل جيل بدليل قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (5) وهذه المقاييس تتغير بتغير المكان والزمان والناس،
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة البقرة الآية 282
(3) تبصرة الحكام جـ 1 ص 28.
(4) سورة الطلاق الآية 2
(5) سورة البقرة الآية 282(17/222)
وعلى أولي الأمر أن يحددوا بناء على ظروف مجتمعهم وبيئتهم التي يعيشون فيها مقاييس تقاس بها عدالة الناس، فتقبل شهاداتهم بناء عليها أو ترفض. فاشتراط العدالة هو الذي نص عليه القرآن، أما كيفية هذه العدالة ومقاييسها فهو أمر اجتهادي يتعرض لما يتعرض له كل اجتهاد من التغيير والتبديل، وهذا ما حدث بالنسبة لهذه الجملة في رسالة عمر لأبي موسى.
أو نقول: إن عمر قصد في الرسالة غير ما في الموطأ؛ إذ يعتبر عمر عدالة المسلم فيما يقول، ويدعي بشكل عام - كما في الرسالة - أما الشهادة فيتشدد فيها كما في القرآن الكريم، لا تقبل إلا من العدل في الظاهر والباطن؛ لذلك قال عمر " لا يؤسر رجل في الإسلام بغير العدول ". وسيأتي بإذن الله تعالى زيادة إيضاح لهذه المسألة (1) .
وبعد هذه المناقشة لاعتراضات منكري رسالة عمر، والرد عليها، يتبين لنا أن ليس هناك مجال للطعن في الرسالة، أو التشكيك في صحتها، سواء أكان ذلك من ناحية سندها أم تعدد رواياتها، أم من الناحية التأريخية، أم من ناحية المتن، وليس هناك بعد هذا إلا التسليم بصحة صدورها عن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -.
ثم على فرض التسليم بعدم صحة هذه الرسالة ففي كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما يستدل به على الأحكام الواردة فيها. فعمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - متبع وليس مبتدع.
__________
(1) في مبحث المعاني والقواعد المستنبطة من الرسالة ص 609 - 612.(17/223)
القواعد والتوجيهات التي اشتملت عليها رسالة عمر في مجال القضاء:
إذا درسنا رسالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - إلى واليه على البصرة - أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه - وعرضناها على نصوص كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وجدناها لا تخرج عنها قيد أنملة، بل هي(17/223)
مستقاة منها، وحاشا الفاروق - رضي الله عنه - أن يحدث في دين الله ما ليس منه، «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » ، وعمر القائل: " إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا " (2) .
ومن هنا تبرز أهمية الرسالة؛ إذ هي خلاصة ما استنبطه عمر من نصوص كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - في أمور القضاء ونظمه، جمعها في كلمات معدودة؛ ليسهل على القضاة الرجوع إليها، يقول المبرد: [رسالة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى أبي موسى الأشعري في القضاء جمع فيها جمل الأحكام، واختصرها بأجود الكلام، وجعل الناس بعده يتخذونها إماما، ولا يجد محق عنها معدلا، ولا ظالم عن حدودها محيصا] (3) .
وسأذكر هذه القواعد والتوجيهات التي اشتملت عليها الرسالة، ثم أدلل على كل قاعدة، وأذكر آراء العلماء في ذلك بشيء من الاختصار والإيجاز؛ لأن موضع هذه الأحكام كتب الفقه والمذاهب، وإنما أردت أن أبين من خلالها قيمة الرسالة وأهميتها.
وأهم هذه القواعد هي:
1 - ضرورة القضاء ووجوبه، وكونه فريضة من فرائض الدين.
2 - وجوب فهم الدعوى والقضية عند التداعي قبل الحكم.
3 - وجوب إنفاذ الحكم، والمبادرة إلى ذلك بعد اتضاح الحق، وذلك لحفظ هيبة القضاء وتحقيق الغاية منه.
4 - وجوب العدل والإنصاف والمساواة بين الخصوم في مجلس القضاء،
__________
(1) رواه البخاري ومسلم عن عائشة - رضي الله تعالى عنها ـ صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب إذا اجتهد العامل فأخطأ - فتح الباري جـ 13 ص 317، وصحيح مسلم ـ كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور - صحيح مسلم بشرح النووي جـ 12 ص 16.
(2) رواه ابن جزم بسنده عن عمرو بن حريث في كتاب: الإحكام في أصول الأحكام جـ 6 ص 779 ـ 780.
(3) الكامل جـ1 ص8.(17/224)
وعدم الحيف والظلم، لئلا ينحصر لسان الخصم وينكسر قلبه؛ فلا يستطيع تأدية حجته فيؤدي ذلك إلى ظلمه.
5 - وجوب فهم أدلة الأحكام، ولزوم التثبيت في فهمها، وما تدل عليه عند الاشتباه في الحكم.
6 - إقرار الاجتهاد والقياس.
7 - الرجوع عن الحكم ونقض القضاء إذا تبين الخطأ في حكمه ومخالفته لكتاب الله وسنة رسوله، أما إذا كان لتجدد اجتهاد فلا ينقضه.
8 - الأصل عدالة المسلمين، ما لم تخدش هذه العدالة بأحد القوادح:
أ - مردود الشهادة بالقذف.
ب - مجرب عليه شهادة زور.
جـ - متهم في تزويره لنسبه أو ولائه.
9 - إمهال مدعي البينة والحق الغائب بعض الوقت ليتمكن من إكمال الدعوى، أو ردها إن كان مدعى عليه.
10 - من طرق إثبات الدعوى البينة، إن لم تكن فيحلف المدعى عليه، لأن البينة العادلة مقدمة على اليمين الفاجرة.
11 - الحكم على الظاهر بالبينات، أما السرائر فإلى الله تعالى.
12 - درء الحدود والشبهات.
13 - لا يجوز للقاضي أن يحكم وهو غضبان، أو مشغول الذهن، بل يجب أن يكون حال القضاء معتدل النفس والجسم، مرتاح الضمير، وعليه بالصبر وسعة الصدر، وعدم التأذي بالخصوم، والتأفف منهم ومن دعاويهم.
14 - مراعاة طلب الأجر والثواب في القضاء، ومراقبة الله في السر والعلانية.
15 - إقرار الصلح بشروطه.
16 - وجوب إخلاص النية في القضاء، وعدم الرياء والسمعة، فمن أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.(17/225)
1 - ضرورة القضاء ووجوبه:
يقول عمر في رسالته لأبي موسى: " فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة "
يقول الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - " لا بد للناس من حاكم أتذهب حقوق الناس؟ (1) ولقد فهم ابن القيم من كلام عمر أن ما يقضي به من الكتاب والسنة هو ما أحكم منهما فقال: يريد به أن ما يحكم به الحاكم نوعان: أحدهما فرض محكم غير منسوخ كالأحكام الكلية التي أحكمها الله في كتابه.
والثاني: أحكام سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) .
والذي يظهر لي أن عمر يقصد: أن القضاء فرض على المسلمين أن يقوموا به فهو محكم غير منسوخ وسنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيجب علينا اتباعها.
__________
(1) المقنع ـ بحاشيته ـ جـ 3 ص 607 المطبعة السلفية بمصر.
(2) إعلام الموقعين جـ 1 ص 93.(17/226)
2 - فهم القضية المدعاة المطلوب الحكم فيها:
قال عمر في رسالته: (فافهم إذا أدلي إليك) .
على القاضي أن يفهم القضية فهما دقيقا، وذلك بسماع بيان الخصمين، روى الحاكم بسنده عن علي - رضي الله عنه - قال: «بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن فقلت: تبعثني إلى قوم ذوي أسنان. وأنا حدث السن، قال: " إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض لأحدهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول (1) » قال علي فما زلت قاضيا. وعلى القاضي أن يدرس القضية دراسة عميقة واعية قبل النطق بالحكم، والإلزام به، ولا يجوز له أن ينطق بالحكم قبل أن يتبين له الحق. قال ابن القيم - رحمه الله -[صحة الفهم وحسن القصد
__________
(1) سنن الترمذي الأحكام (1331) ، سنن أبو داود الأقضية (3582) ، مسند أحمد بن حنبل (1/136) .(17/226)
من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أعطى عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما، بل هما ساقا الإسلام، وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم، الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة، وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد يميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، ويمده حسن القصد وتحري الحق، وتقوى الرب في السر والعلانية، ويقطع مادته اتباع الهوى وإيثار الدنيا، وطلب محمدة الخلق وترك التقوى] (1) .
والفهم المراد هو فهم القضية وملابساتها، وفهم طرائق الحكم، وأحكام القرآن، يقول ابن القيم: [ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم، أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر] (2) .
وقد ضرب عمر أروع المثل في التثبت من الادعاء، فلم تأخذه ضخامة الادعاء وهول المنظر، فطلب الخصم حتى يعلم ما عنده، وبناء على سماع ما عند الطرفين يحكم.
روى ابن حزم - رحمه الله - قال: [ما رويناه من طريق الكشوري عن الحذافي، نا عبد الملك الذماري، نا محمد الغفاري، حدثني ابن أبي ذئب الجهني عن عمرو بن عثمان بن عفان قال: أتى عمر بن الخطاب رجل قد فقئت عينه، فقال له عمر: تحضر خصمك؟ فقال له: يا أمير المؤمنين أما بك
__________
(1) إعلام الموقعين جـ 1 ص 93 -94.
(2) إعلام الموقعين جـ 1 ص 94.(17/227)
من الغضب إلا ما أرى (1) فقال له عمر: فلعلك قد فقأت عيني خصمك معا، فحضر خصمه قد فقئت عيناه معا، فقال عمر: إذا سمعت حجة الآخر بان القضاء] (2) .
يقول محمد شهير أرسلان في وصف القاضي عند سماع القضية المدعاة: [أما القاضي فطبيعة عمله تقتضي أن يكون سلبيا، أي أن يكون هادئا رزينا منصتا صابرا مفكرا، ولا تظهر إيجابيته إلا عند صدور قرار في إدارة الجلسة أو عند صدور الحكم] (3) .
__________
(1) أي لم تغضب على هول المنظر حيث فقئت عيني.
(2) المحلى جـ 10 ص 518- 519.
(3) القضاء والقضاة ص 237 الطبعة الأولى سنة 1389هـ.(17/228)
3 - سرعة البت في الدعوى والإلزام بالحكم:
قال عمر في رسالته لأبي موسى: " فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له ".
وقال في رسالة أخرى لمعاوية بن أبي سفيان: " تعاهد الغريب، فإنه إن طال حبسه (1) ترك حقه، وانطلق إلى أهله، وإنما أبطل حقه من لم يرفع به رأسا" (2) .
وقال في رسالة أخرى لابن مسعود: " إنا بلغني أنك تقضي ولست بأمير (3) .
وكتب إلى أبي موسى الأشعري: " أن لا يقضي إلا أمير، فإنه أهيب للظالم ولشاهد الزور (4) .
ومن هذه الآثار نتبين ضرورة الإسراع في البت والحكم في القضية
__________
(1) أي طالت إقامته وبعده عن أهله من أجل الدعوى
(2) أخبار القضاة جـ 1 ص 75.
(3) المصنف لعبد الرزاق - كتاب الجامع، باب القضاة جـ 11 ص 329.
(4) المصنف لعبد الرزاق- كتاب الجامع، باب القضاة جـ 11 ص 328- 329.(17/228)
المعروضة وعدم التريث إلا إذا كان هناك ما يدعو إلى ذلك لئلا تتعطل مصالح الناس الأخرى، فالتردد على مجلس القضاء طلبا للحكم قد يفوت بعض الوقت الذي يجب أن يصرف إلى مصلحة أخرى. وقد ضرب عمر المثل بالأعرابي الذي ليس له شغل في البلد ووراءه الأشغال الكثيرة في مقر إقامته، قد يدفعه هذا إلى ترك حقه والذهاب دون إنهاء الدعوى والسبب في ترك الحق هو مماطلة القاضي وعدم شعوره وتحسسه لمشاعر الناس.
كما أن الحق الذي يحكم به إذا لم تكن له سلطة تنفذه، سواء أكانت السلطة من داخل أنفس المتخاصمين، كما في المحكم، أو سلطة تنفيذية بيد القاضي، أو يأمرهما بالتنفيذ يصبح الحكم عديم الفائدة، إذ قيمة الحكم في الإلزام به. يقول ابن القيم - رحمه الله -: [ومراد عمر بذلك: التحريض على تنفيذ الحق إذا فهمه الحاكم، ولا ينفع تكلمه به إن لم يكن له قوة تنفذه، فهو تحريض منه على العلم بالحق والقوة على تنفيذه، وقد مدح الله سبحانه أولي القوة في أمره والبصائر في دينه، فقال: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} (1) .
فالأيدي: القوي على تنفيذ أمر الله، والأبصار: البصائر في دينه] (2) .
__________
(1) سورة ص الآية 45
(2) إعلام الموقعين جـ 1 ص 95.(17/229)
4 - المساواة بين المتخاصمين:
قال عمر في رسالته: " واس بين الاثنين في مجلسك ووجهك حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولاييأس وضيع من عدلك ".
وكتب إلى معاوية بن أبي سفيان: " أدن الضعيف حتى يجترئ قلبه وينبسط لسانه (1) كما طبق عمر - رضي الله تعالى عنه - المساواة على نفسه عندما تداعى مع أبي بن كعب عند زيد بن ثابت، فأتى مع خصمه زيدا في منزله، فلما دخلا عليه قال له عمر: جئناك لتقضي بيننا وفي بيته يؤتى الحكم، فتنحى
__________
(1) أخبار القضاة جـ1 ص 75.(17/229)
زيد عن صدر فراشه وألقى بوسادة إلى عمر، وقال هاهنا يا أمير المؤمنين، فقال عمر: جرت يا زيد في أول قضائك، ولكن أجلسني مع خصمي فجلسا بين يديه.
وعمر بأقواله وأفعاله ينفذ أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد روت أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده (1) » .
فالإسلام هو دين العدل والمساواة ورفع الظلم عن الجميع، ونصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة مليئة بالحض على العدل والإنصاف وعظم أجر العادلين، وقد ذكر الفقهاء - رحمهم الله تعالى - أنواعا من الأشياء التي يجب على القاضي أن يعدل فيها، كالدخول عليه، ومجلسهما منه، وطريقة مخاطبته لهما، والسماع منهما، إذ في تخصيص أحد الخصمين بشيء من البشاشة أو الإقبال ما يدفعه إلى الطمع في الحكم له ضد خصمه فيقوى قلبه وينطلق لسانه، ويجعل الخصم الآخر ييأس من العدل والإنصاف فيضعف قلبه وتنقبض نفسه، ولا ينطلق لسانه فيعجز عن إبداء حجته وعرض قضيته، وفي هذا مفسدة عظيمة وهي عدم الوصول إلى الحق الذي أمر الله به أنبياءه {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} (2) .
هذا ولقد انبهر بعض أبناء المسلمين بما لدى الغرب الديمقراطيين من العدل والمساواة بين أفراد الشعب والموطنين، فراحوا يتغنون بالديمقراطية وينادون بها، ناسين أن قضاة الإسلام وحكامه ضربوا أروع المثل في العدل والمساواة بين الناس حكاما ومحكومين، أغنياء وفقراء، شرفاء وسوقة. إذ نظام
__________
(1) رواه الدارقطني والبيهقي - سنن الدارقطني، كتاب الأقضية والأحكام جـ 3 ص 205 والسنن الكبرى، كتاب آداب القاضي، باب إنصاف الخصمين في المدخل عليه والاستماع منهما جـ 10 ص 135.
(2) سورة ص الآية 26(17/230)
الإسلام لا يعرف المحاباة والمداهنة، فالناس أمام الشرع سواسية. والعدل مطبق على الجميع، لا فرق بين فرد وفرد بل حتى الأعداء يظفرون بالعدل والمساواة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (1) .
والقضاة هم المعنيون بالدرجة الأولى بتطبيق العدل والإنصاف فنفذوه أروع تنفيذ وحققوه في ربوع المجتمع بأحسن وأجلى صوره منذ أقدم العصور الإسلامية، وعلى شتى مراحل التاريخ الإسلامي.
لقد عرف الإسلام العدل قبل الثورة الفرنسية التي نادت بحقوق الإنسان وحريته، فما أعظم الإسلام، وما أحرانا بالرجوع إليه واللوذ بكنفه الرحيم. وصدق الله العظيم {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 8
(2) سورة المائدة الآية 50(17/231)
5 - فهم مدارك الأحكام:
قال عمر في رسالته لأبي موسى: " الفهم، الفهم فيما يتلجلج في صدرك ويشكل عليك، ما لم ينزل في الكتاب، ولم تجر به سنة ".
يرى الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - وهو المشهور بالتشدد في تتبع النصوص وتطبيقها والتثبت في روايتها - وجوب فهم أدلة الأحكام التي تتردد في النفس، ولزوم التثبت في فهمها وما تدل عليه عند اشتباه القاضي في دلالتها على الأحكام.
فقد كتب في رسالته إلى شريح: " إذا جاءك أمر فاقض فيه بما في كتاب الله، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فاقض بما سن رسول الله، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله، ولم يسنه رسول الله فاقض بما أجمع عليه الناس، فإن(17/231)
جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يسنه رسول الله، ولم يتكلم به أحد، فاختر أي الأمرين شئت، فإن شئت فتقدم واجتهد رأيك، وإن شئت فأخره، ولا أرى التأخير إلا خيرا لك (1) .
فكون الحكم ينتهي إلى مدرك من كتاب الله تعالى، أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - هو ما يشغل ذهن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - لعلمه أن أي حكم لا يكون بهذا الشكل إنما هو حكم بالباطل مرفوض؛ لأن الله تعالى أمر نبيه داود بأن يحكم بين الناس بما أنزل الله، وسماه حقا، فأي حكم بغير ما أنزل الله فهو باطل، قال الله تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (2) .
__________
(1) أخبار القضاء لوكيع جـ2 ص 189 ـ 190.
(2) سورة ص الآية 26(17/232)
6 - إقرار الاجتهاد والقياس:
قال عمر في رسالته لأبي موسى: واعرف الأشباه والأمثال ثم قس الأمور بعضها ببعض، فانظر أقربها إلى الله وأشبهها بالحق فاتبعه واعمد إليه ".
للوصول إلى الحق أذن الله للقاضي بالاجتهاد في تطبيق النصوص على الحوادث وجعل له أجرا عظيما على هذا الاجتهاد، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر (1) » . وقال الله تعالى:
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه عن عمرو بن العاص، ورواه الترمذي والنسائي عن أبي هريرة ـ صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ ـ فتح الباري جـ 13 ص 318. وصحيح مسلم ـ كتاب الأقضية صحيح مسلم بشرح النووي جـ 12 ص 13. وسنن أبي داود كتاب الأقضية باب في القاضي يخطئ جـ 2 ص 286، سنن ابن ماجه كتاب الأحكام باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق جـ 2 ص 776 دار إحياء التراث العربي. سنن الترمذي كتاب الأحكام باب ما جاء في القاضي يصيب ويخطئ جـ 3 ص 615 دار إحياء التراث العربي ببيروت. سنن النسائي كتاب آداب القاضي باب الإصابة في الحكم جـ 8 ص 224 طبع دار الفكر العربي ببيروت.(17/232)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (1) .
فأوجبت الآية الرد بعرض ما يشكل على نصوص الكتاب والسنة.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل حينما بعثه إلى اليمن: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله، قال: فبسنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في كتاب الله قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله (2) » .
فالاجتهاد مطلب شرعي عمل به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته وبعد مماته وقد ذكر ابن القيم (3) طرفا من اجتهادات الصحابة التي علمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقرهم عليها، والأحكام التي قاسوها على نظائرها في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفي هذا يقول: [فالصحابة - رضي الله عنهم - مثلوا الوقائع بنظائرها وشبهوها بأمثالها، وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد ونهجوا لهم طريقه، وبينوا لهم سبيله] (4) .
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء جـ 2 ص 272 وابن حزم في كتاب إبطال القياس والرأي ص 14 وما بعدها يطعن في صحته.
(3) في كتابه إعلام الموقعين جـ 1 ص 222- 239.
(4) إعلام الموقعين جـ 1 ص 238.(17/233)
7 - نقض القضاء:
قال عمر في رسالته لأبي موسى: " لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك، فإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل ".(17/233)
روى ابن القيم بسنده، قال: [وعن عمر أنه لقي رجلا فقال: ما صنعت؟ قال: قضى علي وزيد بكذا، قال: لو كنت أنا لقضيت بكذا، قال: فما منعك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أدرك إلى كتاب الله، أو إلى سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - لفعلت، ولكني أدرك إلى رأي، والرأي مشترك، فلم ينقض ما قال علي وزيد] (1) .
وروي عن عمر أنه قضى في المشركة بإسقاط الإخوة من الأبوين ثم شرك بينهم بعد ذلك، فسئل فقال: " تلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا اليوم (2) .
يقول ابن القيم: فأخذ أمير المؤمنين في كلا الاجتهادين بما ظهر له أنه الحق، ولم يمنعه القضاء الأول من الرجوع إلى الثاني، ولم ينقض الأول بالثاني، فجرى أئمة الإسلام بعده على هذين الأصلين (3) .
والقاضي مقيد وملزم بالحكم بما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتخريج القضايا على نصوصها، إذ لم يكن في الحادثة نص صريح يشملها يقول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (4) .
وإذا لم يلتزم بهذا النهج فإن حكمه مردود، أما إذا كان ملتزما ولكن خفيت عليه بعض النصوص، أو اجتهد في فهم النصوص فلم يوفق فإن عليه الرجوع إلى الصواب الموافق لحكم الله في كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو ما حدا بعمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - إلى الكتابة إلى أبي موسى بتبيين وجهة نظره في هذه المسألة.
ولقد فهم بعض العلماء - رحمهم الله تعالى - من كلام عمر الذي كتب به إلى
__________
(1) إعلام الموقعين جـ 1 ص 68.
(2) المغني لابن قدامة جـ 9 ص 57، وإعلام الموقعين جـ 1 ص 119 -120.
(3) إعلام الموقعين جـ 1 ص 120.
(4) سورة المائدة الآية 49(17/234)
أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - في رسالة القضاء المشهورة أن القاضي ينقض جميع ما بان له خطؤه سواء أكان الحكم مبنيا على اجتهاد أم على نص صريح. قال ابن قدامة: [وحكي عن أبي ثور وداود أنه ينقض جميع ما بان له خطؤه؛ لأن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى أبي موسى: " لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت نفسك فيه اليوم فهديت لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل"؛ ولأنه خطأ فوجب الرجوع عنه كما لو خالف الإجماع، وحكي عن مالك أنه وافقهما في قضاء نفسه] (1) .
كما فهم بعض آخر من العلماء - رحمهم الله تعالى - من كلام عمر نفسه - أو نقول لقد جمع بين كلام عمر في هذه الرسالة وبين الروايات الأخرى عنه - على أنه لا ينقض ما حكم به، وإنما إذا ظهر له رأي آخر غير ما قضى به، فإنه يعمل به مستقبلا ولا يصر على الأول؛ لأنه قد فعل ذلك (2) .
يقول ابن القيم في شرح كلام عمر: [يريد أنك إذا اجتهدت في حكومة ثم وقعت لك مرة أخرى، فلا يمنعك الاجتهاد الأول من إعادته، فإن الاجتهاد قد يتغير، ولا يكون الاجتهاد الأول مانعا من العمل بالثاني، إذا ظهر أنه الحق، فإن الحق أولى بالإيثار؛ لأنه قديم سابق على الباطل، فإن كان الاجتهاد الأول قد سبق الثاني، والثاني هو الحق فهو أسبق من الاجتهاد الأول؛ لأنه قديم سبق على ما سواه، ولا يبطله وقوع الاجتهاد الأول على خلافه، بل الرجوع إليه أولى من التمادي على الاجتهاد الأول] (3) .
والذي يترجح أن المسائل الاجتهادية إذا حكم فيها بحكم لا ينقضه، وإذا تجدد له اجتهاد آخر فإنه يحكم به في القضايا اللاحقة.
أما القضايا المنصوص عليها في الكتاب والسنة أو أجمع عليها فإنه إذا
__________
(1) المغنى جـ 9 ص 56.
(2) تأريخ القضاء في الإسلام لمحمود عرنوس ص 29.
(3) إعلام الموقعين جـ 1 ص 119.(17/235)
حكم بخلافها فإنه ينقض. وقد ذهب جمهور العلماء (1) - رحمهم الله تعالى - على أن القاضي العدل إذا اجتهد فحكم أنه لا ينقض حكمه، ولا ينقض من قبل قاض آخر إذا لم يكن حكمه جورا، ولم يخالف نصا صريحا من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو إجماعا. يقول ابن قدامة: [ولنا على نقضه إذا خالف نصا أو إجماعا: أنه قضاء لم يصادف شرطه فوجب نقضه كما لو خالف الإجماع، وبيان مخالفته للشرط: أن شرط الحكم بالاجتهاد عدم النص بدليل خبر معاذ؛ ولأنه إذا ترك الكتاب والسنة فقد فرط فوجب نقض حكمه كما لو خالف الإجماع] (2) .
__________
(1) المغني جـ 9 ص56، والمقنع بحاشيته جـ 3 ص 613.
(2) المغني جـ9 ص56.(17/236)
8 - عدالة المسلم:
قال عمر في رسالته لأبي موسى: " المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا حدا أو مجربا عليه شهادة زور، أو ظنينا في ولاء قرابة ".
وقال: " إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسب سريرته ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة (1) .
لقد أكرم الله تعالى هذه الأمة وجعلها وسطا لتكون شاهدة على الناس بما استحفظها من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (2) .
والوسط الخيار العدل، فإذا كان المسلمون عدولا بمقتضى إسلامهم فشهادتهم على بعضهم أولى من شهادتهم على الأمم، إلا من نهي عن اعتبار
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الشهادات باب الشهداء العدول فتح الباري جـ5 ص251.
(2) سورة البقرة الآية 143(17/236)
عدالته، وأمر برد شهادته كمن جرب عليه شهادة الزور، أو جلد في حد القذف. قال الله تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (1) {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} (2) .
وفي الصحيحين «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، - وكان متكئا فجلس فقال - ألا وقول الزور، وشهادة الزور، ألا وقول الزور، وشهادة الزور، فما زال يقولها حتى قلت: لا يسكت (3) » وفي القذف يقول الله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4) .
وقد طلب الله تعالى في الشهود العدالة فقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (5) وقال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (6) .
وهذه الآيات لم تبين مفهوم العدالة، وما تحقق به، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينها وهي الإسلام. فالإسلام وحده كاف لتحقق العدالة في الشخص. فقد روى عكرمة عن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إني رأيت الهلال - يعني هلال رمضان - فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أن محمدا رسول الله قال: نعم، قال: يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا (7) » .
فالرسول - عليه الصلاة والسلام - اعتبر العدالة متحققة في هذا الشاهد بالإسلام لا غير.
وعمر - رضي الله تعالى عنه - في رسالته لأبي موسى أخذ بهذا وجعله مناط
__________
(1) سورة الحج الآية 30
(2) سورة الحج الآية 31
(3) صحيح البخاري كتاب الأدب. باب عقوق الوالدين من الكبائر. فتح الباري جـ 10ص 405.، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الكبائر وأكبرها - صحيح مسلم بشرح النووي جـ2 ص81-82.
(4) سورة النور الآية 4
(5) سورة الطلاق الآية 2
(6) سورة البقرة الآية 282
(7) رواه الترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه والحاكم - سنن الترمذي، جـ 3 ص 74، وسنن النسائي ج4 ص 132 وسنن أبي داود جـ ص 547، وسنن ابن ماجه جـ 1 ص 529، والمستدرك جـ1 ص 424 وقال: [وهذا الحديث صحيح ولم يخرجاه] أ. هـ.(17/237)
العدالة في رأيه، وقد وافقه على ذلك الحسن البصري والليث بن سعد - رضي الله عنهما - (1) .
ولكن بعض الفقهاء لما كثر الكذب والتزوير، وذهبت خير القرون أضافوا إلى اشتراط الإسلام في العدالة شروطا أخرى. قال ابن قدامة: [معرفة العدالة شرط في قبول الشهادة بجميع الحقوق، وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد، وعن أحمد رواية أخرى: يحكم بشهادتهما إذا عرف إسلامهما بظاهر الحال، إلا أن يقول الخصم هما فاسقان، وهذا قول الحسن، والمال والحد في هذا سواء لأن الظاهر من المسلمين العدالة، ولهذا قال عمر - رضي الله عنه -: " المسلمون عدول بعضهم على بعض "] (2) .
وعرف ابن حزم العدل - بالإضافة إلى الإسلام - بقوله: [والعدل هو من لم تعرف له كبيرة، ولا مجاهرة بصغيرة، والكبيرة هي: ما سماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبيرة، أو ما جاء فيه الوعيد. والصغيرة: ما لم يأت فيه وعيد. برهان ذلك: قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (3) .
وليس إلا فاسق أو غير فاسق. فالفاسق هو الذي يكون منه الفسق، والكبائر كلها فسوق، فسقط قبول خبر الفاسق، فلم يبق إلا العدل، وهو من ليس بفاسق] (4) .
وقد فهم بعض العلماء أن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - رجع عن رأيه في الاكتفاء بالإسلام لاعتبار العدالة فقال ابن فرحون: [قال ابن سهل: وقول عمر - رضي الله عنه - في هذه الرسالة: " المؤمنون عدول بعضهم على بعض "
__________
(1) تبصرة الحكام جـ 1 ص 28.
(2) المغني جـ9 ص 63-64.
(3) سورة الحجرات الآية 6
(4) المحلى جـ10 ص564.(17/238)
رجع عمر - رحمه الله - عن ذلك بما رواه مالك في الموطأ (1) . قال ربيعة قدم رجل من أهل العراق على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: قد جئتك بأمر لا رأس له ولا ذنب، فقال له عمر: وما هو؟ فقال: شهادات الزور ظهرت بأرضنا، فقال عمر - رضي الله عنه -: " والله لا يؤسر رجل في الإسلام بغير العدول " وهذا يدل على رجوعه عما في هذه الرسالة، (2) .
وروى ابن القيم قال: [روى أبو عبيد: ثنا الحجاج، عن المسعودي، عن القاسم بن عبد الرحمن قال: قال عمر بن الخطاب: " لا يؤسر أحد في الإسلام بشهداء السوء فإنا لا نقبل إلا العدول " (3) .
والذي يظهر لي أن ليس في هذا رجوع من عمر. إذ في رسالته ذكر أن المسلم عدل بإسلامه إلا المحدود في القذف، ومن جرب عليه شهادة الزور، أو اتهم في تزوير نسبه. ولا نبحث فيه غير ذلك، أما إذا قدح فيه الخصم ولم يرض شهادته نظر فإن كان قدحه لتعوده التزوير ردت الشهادة لأنها هي المعنية. أما إن ذكر عنه بعض المعاصي، فلا يلتفت إلى قدحه لأنه لا يسلم منها أحد، إذ الله - عز وجل - لم يرد من عباده أن يكونوا ملائكة لا يعصون الله، بل ركب فيهم قابلية المعصية، روى مسلم - رحمه الله - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم (4) » وقال - صلى الله عليه وسلم -: «كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون (5) » .
وقد جعل الله تعالى من صفات المؤمنين التوبة من الذنوب والفواحش، فقال بعد
__________
(1) موطأ الإمام مالك - كتاب الأقضية، باب ما جاء في الشهادات - شرح الزرقاني على الموطأ جـ3 ص 387- 388.
(2) تبصرة الحكام جـ 1 ص28.
(3) إعلام الموقعين جـ 1 ص 139.
(4) صحيح مسلم - كتاب التوبة، باب سقوط الذنوب بالاستعفار توبة - صحيح مسلم بشرح النووي جـ17ص65.
(5) رواه الترمذي وقال: حديث غريب. سنن الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع رقم الباب 49 جـ4، ص 659.(17/239)
أن عدد بعض صفات المؤمنين {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1) {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} (2) .
ثم إن الله تعالى أسقط شهادة القاذف وحرم قبولها، ولو كان إتيان المحرمات والكبائر ترد به الشهادة لما ذكر الله رد شهادة القاذف واعتبرها عقوبة له، ولاكتفى بردها بما هو معلوم من رد صاحب الكبيرة. والنص عليها يدل على أن إتيان الكبائر والمحرمات غير قادح في الشهادة، فهذا شيء وذاك شيء آخر.
فكثير من الناس ربما تسول له نفسه بفعل معصية من المعاصي ولكنه يمتنع أن يشهد بباطل وزور بينما آخرون على العكس من ذلك، يشهدون الزور ويتحدثون في أعراض الناس، ولكنهم لا يقعون في معاص أخرى.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 135
(2) سورة آل عمران الآية 136(17/240)
9 - إمهال مدعي البينة والحق الغائب:
قال عمر في رسالته لأبي موسى: " واجعل لمن ادعى حقا غائبا أمدا ينتهي إليه، أو بينة عادلة، فإنه أثبت للحجة، وأبلغ في العذر، فإن أحضر بينة إلى ذلك الأجل أخذ بحقه وإلا وجهت عليه القضاء ".
لاستكمال طرائق الحكم ومسوغاته لا بد من الاطلاع على أدلة الدعوى، ليحكم القاضي من خلالها في القضية المعروضة، وهذه الأدلة قد تكون غائبة عن مجلس الحكم، وقد يكون بعض الشهود مسافرا، فمقتضى العدل والإنصاف أن ينظر مدعي البينة مدة من الزمن كافية لإحضار بينته وأدلة دعواه؛ لذلك أوصى عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - قاضيه أبا موسى الأشعري بذلك.
يقول ابن القيم - رحمه الله -: [هذا من تمام العدل، فإن المدعي قد تكون حجته أو بينته غائبة، فلو عجل عليه بالحكم بطل حقه، فإذا(17/240)
سأل أمدا تحضر فيه حجته أجيب إليه، ولا يتقيد ذلك بثلاثة أيام، بل بحسب الحاجة، فإن ظهر عناده ومدافعته للحاكم، لم يضرب له أمدا، بل يفصل الحكومة. فإن ضرب هذا الأمد إنما كان لتمام العدل، فإذا كان فيه إبطال للعدل لم يجب إليه الخصم] (1) .
__________
(1) إعلام الموقعين جـ 1 ص119.(17/241)
10 - البينة على من ادعى واليمين على من أنكر:
قال عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - في رسالته لأبي موسى الأشعري - رضي الله تعالى عنه -: " البينة على من ادعى واليمين على من أنكر ".
معنى البينة:
في اللغة:
البينة في اللغة: ما يبين به الشيء من الدلالة الواضحة عقلية كانت أو(17/241)
محسوسة، قال. الله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} (1) .
وقال: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (2) .
وبان الشيء بيانا اتضح، فهو بين، قال الله تعالى في شأن النساء:
{وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} (3) . أي أن المرأة لا تكاد تستوفي ولا تبين عما في نفسها (4) .
فالبينة كل ما يبين الدعوى ويظهر المقصود، وهي حجة المدعي التي يثبت بها دعواه.
في الشرع:
ورد ذكر البينة في كثير من النصوص الشرعية منها.
«البينة أو حد في ظهرك (5) » قاله - صلى الله عليه وسلم - لهلال بن أمية حينما قذف زوجته.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - للأشعث بن قيس حين اختصم مع آخر في بئر: «بينتك أو يمينه (6) » .
__________
(1) سورة هود الآية 17
(2) سورة الأنفال الآية 42
(3) سورة الزخرف الآية 18
(4) تفسير أبي السعود جـ 5 ص80 مطبعة السعادة بالقاهرة.
(5) صحيح البخاري الشهادات (2671) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3179) ، سنن أبو داود الطلاق (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (1/239) .
(6) رواه البخاري عن موسى بن إسماعيل - كتاب الأيمان والنذور، باب قوله تعالى: '' إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا '' سورة آل عمران من الآية [77] . فتح الباري جـ 11 ص 558.(17/242)
وقد اختلف فقهاء الشريعة الإسلامية في تحديد معنى البينة:
1 - فذهب جمهور الفقهاء إلى أن المراد بالبينة الشهود.
2 - وذهب ابن تيمية (1) ، وابن القيم (2) ، وابن فرحون (3) ، وابن حجر العسقلاني (4) إلى أن البينة هي: كل ما يبين الحق ويظهره من الشهود والإقرار، والقرائن، وغير ذلك.
معنى اليمين:
هو ضد اليسار، ويطلق على القسم والحلف لأنهم كانوا يتماسحون بأيمانهم فيتحالفون.
أحكام اليمين:
لا يلجأ القاضي إلى تحليف المدعى عليه إلا عند عجز المدعي عن إقامة البينة. فإذا حلف المدعى عليه اليمين قضى الحاكم بإبرائه، فإن أحضر المدعي بينة بعد ذلك حكم بها القاضي (5) لقول عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -: " البينة الصادقة أحب إلي من اليمين الفاجرة ".
ومن توجهت إليه اليمين فعليه أن يحلف ولا يترك حقه، وقد أمر عمر بذلك فقال وهو على المنبر يخطب الناس وفي يده عصا: " يا أيها الناس لا تمنعكم اليمين من حقوقكم فوالذي نفسي بيده إن في يدي لعصا " (6) .
__________
(1) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية جـ3 ص 392.
(2) الطرق الحكمية ص 24، وإعلام الموقعين جـ1 ص 96.
(3) تبصرة الحكام جـ 1 ص 202.
(4) فتح الباري جـ 13 ص 160.
(5) فتح الباري جـ13 ص 174.
(6) المغني جـ 8 ص 681.(17/243)
وقد نفذ هذا على نفسه حينما تحاكم وأبي بن كعب إلى زيد بن ثابت في نخل ادعاه أبي، فتوجهت اليمين على عمر فقال زيد: " أعف أمير المؤمنين، فقال عمر: ولم يعف أمير المؤمنين؛ إن عرفت شيئا استحققته بيميني، وإلا تركته، والذي لا إله إلا هو إن النخل لنخلي، وما لأبي فيه حق، فلما خرجا، وهب النخل لأبي، فقيل له: يا أمير المؤمنين هلا كان هذا قبل اليمين؟ فقال: "خفت أن لا أحلف فلا يحلف الناس على حقوقهم بعدي فتكون سنة".
أما إذا أبى أن يحلف المدعى عليه فقد اختلف العلماء في ذلك.(17/244)
11 - الأخذ بالأدلة الظاهرة:
قال عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - في رسالته لأبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: " إن الله تبارك وتعالى تولى منكم السرائر ودرأ عنكم الشبهات ".
وقال - رضي الله تعالى عنه - فيما رواه عبد الله بن عقبة قال سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: " إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسب سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة ".
فالإسلام يبني أحكامه على الأدلة الظاهرة. ولا يأخذ بنظرية الشك التي(17/244)
يقول بها رينه ديكارت.
ولا بنظرية الغاية تبرر الوسيلة التي يقول بها ميكافيلي، فالأصل في المسلم بل الإنسان عدم الشك، ولا يحصل الاتهام والشك إلا بدليل، كما أن الغاية في الإسلام يجب أن تكون شريفة والوسيلة إليها شريفة أيضا، فلا يؤخذ الأشخاص لمجرد تهمة كاذبة أو ظن آثم، روى البخاري قال: [وقال الأشعث بن قيس قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «شاهداك أو يمينه (1) » وقال ابن أبي مليكة: لم يقد بها معاوية - أي القسامة - وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة - وكان أمره على البصرة في قتيل وجد عند بيت من بيوت السمانين: إن وجد أصحابه بينة وإلا فلا تظلم الناس فإن هذا لا يقضى فيه إلى يوم القيامة " (2) .
يقول ابن حزم - رحمه الله تعالى - في بيان أن الوسيلة يجب أن تكون شريفة كما أن الغاية يجب أن تكون شريفة فالوصول إلى الجاني مطلب شرعي ولكن يجب الوصول إليه بطريق شرعي. فقال - رحمه الله -: [لا يحل الامتحان في شيء من الأشياء بضرب، ولا بسجن، ولا بتهديد؛ لأنه لم يوجب ذلك القرآن، ولا سنة ثابتة، ولا إجماع، ولا يحل أخذ شيء من الدين إلا من هذه الثلاثة النصوص (الأصول) بل قد منع الله تعالى من ذلك على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام (3) » ،. فحرم الله تعالى البشر والعرض، فلا يحل ضرب مسلم، ولا سبه إلا بحق أوجبه القرآن، أو السنة الثابتة] (4) .
__________
(1) صحيح البخاري الرهن (2516) .
(2) صحيح البخاري، كتاب الديات، باب القسامة. فتح الباري جـ 12 ص 229.
(3) رواه البخاري عن أبي بكرة في صحيحه - كتاب الفتن باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: '' لا ترجعوا بعدي كفارا'' فتح الباري جـ 13 ص 26.
(4) المحلى جـ13 / 40 - 41.(17/245)
وهذا النهج الإسلامي القويم الذي يحترم الإنسان ويحقق له اعتباره ومكانته فلا يعتدي عليه، بل يبقى بريئا وعدلا ما لم يثبت خلاف ذلك قد شرعه الإسلام قبل الثورة الفرنسية التي نادت بحقوق الإنسان، وقبل إعلان هيئة الأمم المتحدة بأكثر من ثلاثة عشر قرنا قرره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونفذه. روت أم سلمة - رضي الله تعالى عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار (1) » .
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، وابن ماجه ومالك - صحيح البخاري كتاب الشهادات باب من أقام البينة بعد اليمين، فتح الباري جـ5 ص 288، وكتاب الحيل باب حكم الحاكم لا يحل ما حرمه الله ورسوله - فتح الباري جـ 12 ص 239، وكتاب الأحكام، باب موعظة الإمام للخصوم فتح الباري جـ 13 ص 157. وصحيح مسلم كتاب الأقضية، باب بيان أن حكم الحاكم لا يغير الباطن صحيح مسلم بشرح النووي جـ 12 ص 4-7، وسنن أبي داود كتاب الأقضية باب كيف القضاء جـ 2 ص 270. وسنن الترمذي، كتاب الأحكام، باب ما جاء في التشديد على من يقضى له بشيء ليس له أن يأخذه جـ 3 ص 624 وسنن النسائي: كتاب آداب القضاة، باب الحكم بالظاهر جـ 8 ص 233، وسنن ابن ماجه، كتاب الأحكام، باب قضية الحاكم لا تحل حراما ولا تحرم حلالا جـ 2 ص 777، وموطأ الإمام مالك كتاب الأقضية - شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك جـ 3 ص 383- 384.(17/246)
12 - درء الحدود بالشبهات:
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - في رسالته لأبي موسى الأشعري - رضي الله تعالى عنه -: " إن الله تبارك وتعالى تولى منكم السرائر ودرأ عنكم الشبهات ".
يحرص الإسلام على ستر المسلمين وعدم كشف عوراتهم، إذ لا أحد معصوم من الخطيئة، وحصول التوبة بين المسلم وبين ربه خير من إقامة العقوبة عليه.(17/246)
روى أبو داود بسنده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب (2) » .
ويطبق الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا عمليا فيلقن المتهم بالزنا والسرقة الحجة، فيعرض عن ماعز ويقول له: لعلك قبلت أو غمزت، أو نظرت؟ قال: لا يا رسول الله، قال: أنكتها؟ - لا يكني، ويقول للسارق: ما إخالك سرقت، قال: بلى، ثم قال: ما إخالك سرقت.
ويطلب من الحكام درء الحدود بالشبهة، روى الترمذي بسنده قال: عن عائشة قالت: قال رسول الله: - صلى الله عليه وسلم - «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة (3) » .
وفي رواية ابن ماجه: «ادفعوا الحدود ما وجدتم له مدفعا (4) » .
كما أنه درأ الحد عن المرأة المستكرهة على الزنى، عن وائل بن حجر قال: «استكرهت امرأة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدرأ عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحد وأقامه على الذي أصابها (5) » .
فالإسلام بهذا يكرم الإنسان، ويبقي له اعتباره فلا يعتدي عليه لمجرد الشبه والظنون، التي كثيرا ما تكون كاذبة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (6) .
__________
(1) سنن أبي داود - كتاب الحدود، باب العفو عن الحدود ما لم تبلغ السلطان جـ 2 ص 446.
(2) تعافوا: أمر بالعفو، وهذا الأمر موجه لعامة الناس غير القضاة والسلطان (1)
(3) سنن الترمذي - كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود جـ 4 ص33.
(4) سنن ابن ماجه - كتاب الحدود، باب الستر على المؤمن، ودفع الحدود بالشبهات جـ2 ص 850. وقال: [في الزوائد: في إسناده إبراهيم بن الفضل المخزومي، ضعفه أحمد وابن معين والبخاري وغيرهم] ا. هـ.
(5) سنن الترمذي - كتاب الحدود، باب ما جاء في المرأة إذا استكرهت على الزنا جـ 4 ص 155.
(6) سورة الحجرات الآية 12(17/247)
فلا يؤخذ الإنسان إلا بثبوت فعل الخطيئة ببينة عادلة، أو قرينة لا تحتمل غيرها كوجود الحمل في المرأة التي لا زوج لها ولا سيد، أو وجود رائحة الخمر وتقيئوه كما كان عمر يفعل ذلك (1) قال ابن حزم: [فإن لم يثبت الحد لم يحل أن يقام بشبهة لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام (2) ، وقال: [وأما إذا تبين وجوب الحد فلا يحل لأحد أن يسقطه لأنه من فرائض الله تعالى] (3) .
__________
(1) إعلام الموقعين جـ 1 ص 140.
(2) المحلى جـ 13 ص61.
(3) المحلى جـ 13 ص 63.(17/248)
13 - سعة الصدر والتحذير من الغضب:
قال الفاروق عمر بن الخطاب في رسالته لأبي موسى الأشعري - رضي الله عنهما - " وإياك والغلق والضجر، والتأذي بالناس، والتنكر للخصم في مجالس القضاء التي يوجب الله فيها الأجر ويحسن فيها الذخر ".
يجب على القاضي أن لا يكون منشغل الذهن حين القضاء بل يجب إزالة جميع الشواغل ومسببات القلق التي تحول بينه وبين كمال معرفته بالحق. فإن رأى من نفسه شيئا من الغضب والقلق والضجر أو البرد الشديد أو الحر الشديد أو العطش أو الجوع ونحو ذلك فلا يجوز له الحكم بين الخصوم حتى تذهب عنه هذه العوارض؛ لئلا يكون الدافع إلى الحكم حالة نفسية تدفعه إلى الاستعجال المخل في الحكم والقضاء.
روى شريح بن الحارث قال: شرط علي عمر حين ولاني القضاء " أن لا أبيع ولا أبتاع، ولا أرتشي، ولا أقضي وأنا غضبان " (1) .
قال ابن القيم في شرح كلام عمر: [التحريض على تنفيذ الحق والصبر عليه، وجعل الرضا بتنفيذه في موضع الغضب، والصبر في موضع القلق والضجر والتحلي به، واحتساب ثوابه في موضع التأذي فإن هذا دواء ذلك
__________
(1) المغني جـ9 ص79.(17/248)
الداء الذي هو من لوازم الطبيعة البشرية وضعفها، فما لم يصادفه هذا الدواء فلا سبيل إلى زواله. هذا مع ما في التنكر للخصوم من إضعاف نفوسهم وكسر قلوبهم، وإخراس ألسنتهم عن التكلم بحججهم خشية معرة التنكر، ولا سيما أن يتنكر لأحد الخصمين دون الأخر فإن ذلك الداء العضال] (1) .
__________
(1) إعلام الموقعين جـ 1 ص 154.(17/249)
14 - مراعاة طلب الأجر والثواب في القضاء:
قال عمر - رضي الله عنه - في رسالته لأبي موسى - رضي الله عنه -: " مجالس القضاء التي يوجب الله فيها الأجر، ويحسن فيها الذخر، من حسنت نيته وخلصت فيما بينه وبين الله كفاه الله ما بينه وبين الناس".
وقال: " فما ظنك بثواب عند الله في عاجل دنيا وآجل آخرة ".
كل عمل المسلم يجب أن ييتغي به وجه الله تعالى، وخاصة القضاء فإنه من أعظم القرب إلى الله تعالى، إذ به يكشف القاضي عن حكم الله تعالى في القضية، فعليه أن يراقب الله تعالى فيعدل بين الناس ابتغاء مرضاة الله وثوابه، وطلبا لثوابه، إذ مدار الأعمال على النيات.
قال ابن القيم - رحمه الله - في شرح كلام عمر: [هذا عبودية الحكام، وولاة الأمر التي تراد منهم، ولله سبحانه على كل أحد عبودية بحسب مرتبته سوى العبودية العامة التي سوى بين عباده فيها، فعلى العالم من عبوديته نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ما ليس على الجاهل، وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره. وعلى الحاكم من عبودية إقامة الحق وتنفيذه وإلزامه من هو عليه به، والصبر على ذلك والجهاد عليه ما ليس على المفتي. وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير] (1) .
__________
(1) إعلام الموقعين جـ 1 ص 154 - 155.(17/249)
15 - إقرار الصلح بين المتخاصمين:
قال عمر في رسالته لأبي موسى - رضي الله عنهما -: " والصلح جائز فيما بين الناس إلا ما أحل حراما أو حرم حلالا ".
وقال - رضي الله عنه -: " ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث الضغائن بين الناس " وخاصة إذا كانت بين المتخاصمين قرابة.
قال عمر: " ردوا الخصوم إذا كانت بينهم قرابة، فإن فصل القضاء يورث بينهم الشنآن " (1) فعلى القاضي أن يصلح بين الخصوم إذا لم يتبين له الحق.
كتب عمر إلى معاوية " احرص على الصلح بين الناس ما لم يستبن لك القضاء " (2) .
فالإسلام يحرص على بقاء وشائج الأخوة قوية متينة بين المسلمين، ويرغب في إزالة كل ما يعرضها للضعف والانقطاع فيأمر بالإصلاح ويرشد في آيات كثيرة منها:
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (3) .
{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (4) .
__________
(1) إعلام الموقعين جـ1 ص117. والشنآن: العداوة.
(2) أخبار القضاة لوكيع جـ1 ص 75.
(3) سورة الحجرات الآية 9
(4) سورة النساء الآية 128(17/250)
{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} (1) .
وروي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لا يرى أن يصلح القاضي بين المتخاصمين بمال يدفعه هو؛ لأن ذلك دليل ضعفه عن أن يحكم ويقضي ويلزم؛ ولأنه ربما دفع بعض الناس لافتعال الخصومة من أجل الظفر بدفع القاضي. روى القاضي وكيع بسنده قال: [عن أنس بن سيرين أن عمر استعمل قاضيا فاختصم إليه رجلان في دينار فحل (2) القاضي دينارا فأعطاه المدعي، فقال عمر: اعتزل قضاءنا " (3) .
والصلح له شروط وأهمها أن يكون متفقا مع شرع الله، فلا يحرم حلالا ولا يحل حراما، فإن كان لا يتفق مع أحكام الله نقضه القاضي إن كانوا عقدوه بمشورته. وعرض عليهم رأيه في الصلح، فإن قبلوه أمضاه عليهم وحكم به.
يقول ابن القيم في شرح كلام عمر: [والصلح الذي يحل الحرام، ويحرم الحلال كالصلح الذي يتضمن تحريم بضع حلال، أو إحلال بضع حرام، أو إرقاق حر، أو نقل نسب، أو ولاء عن محل إلى محل، أو أكل ربا، أو إسقاط واجب، أو تعطيل حد، أو ظلم ثالث، وما أشبه ذلك، فكل هذا صلح جائر مردود، فالصلح الجائز بين المسلمين هو الذي يعتمد فيه رضى الله سبحانه، ورضى الخصمين، فهذا أعدل الصلح وأحقه، وهو يعتمد العلم والعدل، فيكون المصلح عالما بالوقائع، عارفا بالواجب، قاصدا للعدل، فدرجة هذا أفضل من درجة الصائم القائم، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصائم والقائم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين الحالقة، أما إني لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين (4) » ،.
__________
(1) سورة النساء الآية 114
(2) حل أي حل صرة معه.
(3) أخبار القضاة جـ 1 ص 81.
(4) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2509) ، سنن أبو داود الأدب (4919) ، مسند أحمد بن حنبل (6/445) .(17/251)
وقد اشترط بعض العلماء للصلح أن يلتبس الحكم على القاضي، أما إذا بان له فلا يصلح بينهما بل يحكم بينهما. قال ابن قدامة: [وإذا اتصلت به الحادثة، واستنارت الحجة لأحد الخصمين حكم، وإن كان فيها لبس أمرهما بالصلح، فإن أبيا أخرهما إلى البيان، فإن عجلها قبل البيان لم يصلح حكمه. وممن رأى الإصلاح بين الخصمين شريح وعبد الله بن عتبة وأبو حنيفة والشعبي والعنبري، وروي عن عمر أنه قال: " ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يحدث بين القوم الضغائن " قال أبو عبيد: إنما يسعه الصلح في الأمور المشكلة، أما إذا استنارت الحجة لأحد الخصمين وتبين له موضع الظالم فليس له أن يحملهما على الصلح، ونحوه قول عطاء واستحسنه ابن المنذر، وروي عن شريح أنه ما أصلح بين متحاكمين إلا مرة واحدة] (1) .
__________
(1) المغني جـ9 ص52 - 53.(17/252)
16 - الإخلاص لله في القضاء:
قال الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - في رسالته لأبي موسى - رضي الله عنه -: " ومن تزين للناس بما يعلم الله منه غير ذلك شأنه الله ".
يجب إخلاص النية لله تعالى لأنها مدار الأعمال قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (1) وقال - صلى الله عليه وسلم - «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (2) » . وقال الله
__________
(1) سورة البينة الآية 5
(2) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عمر بن الخطاب صحيح البخاري، كتاب الحيل باب في ترك الحيل وأن لكل امرئ ما نوى فتح الباري جـ12 ص 327، وصحيح مسلم كتاب الإمارة باب قوله - صلى الله عليه وسلم - إنما الأعمال بالنية - صحيح مسلم بشرح النووي جـ13، ص 53، وسنن أبي داود كتاب الطلاق باب فيما عنى به الطلاق والنيات جـ1، ص 510. وسنن الترمذي، كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء فيمن يقاتل رياء وللدنيا جـ4 ص179. وسنن النسائي، كتاب الطهارة باب النية في الوضوء جـ1 ص 58 - 60، وسنن ابن ماجه كتاب الزهد باب النية جـ2 ص 1413.(17/252)
تعالى في الحديث القدسي الذي رواه أبو هريرة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تبارك وتعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه (1) » .
وتوعد الله المرائين بعذاب جهنم فقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} (2) {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (3) {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} (4) {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (5) .
وجعل الحياة من أجل الابتلاء والامتحان في إخلاص العمل والسير به على منهج الله فقال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (6) .
قال الفضيل بن عياض: هو أخلص العمل وأصوبه، فسئل عن معنى ذلك فقال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا، فالخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة (7) .
قال ابن القيم في شرح قول عمر: [" فمن خلصت نيته في الحق، ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس فيه شأنه الله " هذا شقيق كلام النبوة، وهو جدير بأن يخرج من مشكاة المحدث الملهم، وهاتان الكلمتان من كنوز العلم، ومن أحسن الإنفاق منهما نفع غيره، وانتفع غاية الانتفاع، فأما الكلمة الأولى: فهي منبع الخير وأصله، والثانية: أصل الشر وفصله، فإن العبد إذا خلصت نيته لله تعالى، وكان قصده وهمه وعمله لوجهه سبحانه، كان الله معه، فإنه سبحانه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون،
__________
(1) رواه مسلم - في كتاب الزهد، باب تحريم الرياء - صحيح مسلم بشرح النووي جـ 18 ص 115.
(2) سورة الماعون الآية 4
(3) سورة الماعون الآية 5
(4) سورة الماعون الآية 6
(5) سورة الماعون الآية 7
(6) سورة الملك الآية 2
(7) إعلام الموقعين ج 2 ص 161.(17/253)
ورأس التقوى والإحسان: خلوص النية لله في إقامة الحق، والله سبحانه لا غالب له، فمن كان معه، فمن ذا الذي يغلبه، أو يناله بسوء؟ فإن كان الله مع العبد فمن يخاف؟ وإن لم يكن معه فمن يرجو؟ وبمن يثق؟ ومن ينصره من بعده؟ فإذا قام العبد بالحق على غيره، وعلى نفسه أولا، وكان قيامه بالله ولله لم يقم له شيء، ولو كادته السماوات والأرض والجبال لكفاه الله مؤنتها، وجعل له فرجا ومخرجا] (1)
__________
(1) إعلام الموقعين جـ 2 ص 156-157.(17/254)
شهادة الزور وخطرها
الشيخ عبد الله بن صالح القصير.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فإن شهادة الزور من أفحش الأقوال وأقبح الأعمال وأخطر الظواهر السيئة تأثيرا في المجتمع وأعظمها ضررا وسوء عاقبة في الدين والدنيا والآخرة. فهي داء عضال ومرض قتال. لذا أحببت أن أخصها بالذكر في هذا المقال تحذيرا للمسلمين منها، وتذكيرا بواجبهم نحوها، فإن الدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) فالشهادة: هي الإخبار بصحة الشيء عن مشاهدة وعيان، مشتقة من المشاهدة لأن الشاهد يخبر عما حضره أو شاهده فعلمه بيقين، يقال: شهد الشيء حضره، وشهد بالشيء أخبر به، وشهد فلان عند الحاكم لفلان على فلان بكذا إذا حضر وأخبر بما علم به فهو شاهد والجمع شهود (2) .
وأما الزور فأصله - تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته حتى يخيل لمن سمعه أنه بخلاف ما هو به مأخوذ من الازورار بمعنى الميل ولهذا يطلق اصطلاحا على كل شيء أميل عن حقيقته لقصد تحسينه من قول أو فعل أو محل فالزور هو الميل
__________
(1) مسلم ج 1 ص - 74.
(2) لسان العرب - ج 2 ص 174، والمصباح المنير ص 325.(17/255)
عن الحق الثابت إلى الباطل الذي لا حقيقة له قولا وفعلا، فهو يطلق على الكلام الباطل (1) ومنه قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} (2) .
وعلى العمل الباطل، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور (3) » . وعلى العين الباطلة نفسها ومنه تسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - للشعر الذي يوصل به زورا.
فشهادة الزور إذا هي القول المائل عن الحق خبرا أو إنشاء، أو حضور المجلس الذي يعمل فيه بغير الحق قولا أو فعلا أو حالا. فهي قول الباطل وحضوره على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.
__________
(1) فتح الباري ج 5، ص 261، وإغاثة اللهفان ج1 ص 242.
(2) سورة المجادلة الآية 2
(3) صحيح البخاري النكاح (5219) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2130) ، سنن أبو داود الأدب (4997) ، مسند أحمد بن حنبل (6/345) .(17/256)
أولا: قول الزور:
وهو أعم من شهادة الزور؛ لأنه يعم كل باطل من القول من شهادة أو غيبة أو بهت أو كذب (1) على الله تعالى أو على خلقه فهو من أكبر الذنوب وأعظم المحرمات كما بين الله ذلك بقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (2) .
فرتب سبحانه المحرمات ترتيبا تصاعديا جعل القول عليه بلا علم في أعلاها، فجعله بعد الشرك في الترتيب مما يدل على أنه أعظم منه وذلك - والله أعلم - لأنه أعم من الشرك، فالشرك من أنواعه حيث إن ادعاء شريك لله قولا أو فعلا هو من القول على الله بلا علم، ولذلك أضافه الله تعالى إلى الكفار الذين: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (3) .
__________
(1) نيل الأوطار ج8 \ 337.
(2) سورة الأعراف الآية 33
(3) سورة الفرقان الآية 3(17/256)
فقال تعالى حاكيا عنهم ما قالوه من الزور: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} (1) .
هذا قولهم في الرسول - صلى الله عليه وسلم - والقرآن، ولهذا كذبهم سبحانه وبين حقيقة قولهم وأنه من زور القول أي كذبه وباطله فقال: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} (2) .
فقول الكذب وعمل الباطل هو من شأن الكفار والمشركين الذي يجب على الموحد لله المخلص له أن يجتنبه كما يجتنب الشرك، ولهذا قال سبحانه: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (3) .
فأمر سبحانه باجتناب قول الزور كما أمر باجتناب الشرك، فكلاهما أظلم الظلم وأكبر الكبائر. وقول الزور أنواع كثيرة ذكر منها المفسرون - رحمهم الله تعالى - على سبيل المثال: دعاء غير الله. وتعظيم الأنداد، وتحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله ونحو ذلك، فإن ذلك كله من القول على الله بلا علم ومن الافتراء عليه (4) .
وكذلك من قول الزور الافتراء على الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثل ما يتفوه به الكفار الحاقدون قديما وحديثا في حقه - صلى الله عليه وسلم -، كنسبة السحر والكهانة إليه أو أن النبوة أمر كسبي ليست اصطفاء واجتباء من الله تعالى.
وقولهم - لعنهم الله - ببشرية القرآن وأنه من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - من كلامه أو تلقاه عن غيره من اليهود والنصارى وغيرهم. وكذلك قولهم في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعدد الزوجات وغيرها من المسائل التي يتفوه بها الكافرون والمنافقون والمستشرقون كذبا وزورا: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} (5) .
__________
(1) سورة الفرقان الآية 4
(2) سورة الفرقان الآية 4
(3) سورة الحج الآية 30
(4) تفسير ابن جرير جـ 19 \ 48، وابن كثير جـ 3 \ 328.
(5) سورة الكهف الآية 5(17/257)
وكذلك مما يدخل في قول الزور: الغناء المحرم - بكلماته وآلاته - والاستهزاء والغيبة، والنميمة، والقصص الغرامية الفاجرة، والمسلسلات الداعرة، والأفلام الأفاكة ونحوها. وشهادة الزور من أولى ما يدخل في قول الزور وهي: أن يشهد إنسان لشخص آخر أو عليه بغير ما علم أو سمع، فيقول: رأيت أو سمعت وهو لم ير ولم يسمع، فإن قائل ذلك قائل بالزور وله نصيب مما توعد الله به قائل الزور، ولذلك بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن شهادة الزور تعدل بالشرك بالله تعالى الذي توعد الله عليه بالخلود في النار وحرم الله على صاحبه الجنة، فقال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود - وغيره - بسنده عن خريم بن فاتك - رضي الله عنه - قال: «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح فلما انصرف قام قائما فقال: عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله - ثلاث مرات - ثم قرأ: (4) » .
وكيف لا تعدل شهادة الزور بالشرك وهي معدودة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أكبر الكبائر كما في حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - وهو في الصحيحين قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر - ثلاثا - قلنا: بلى يا رسول الله. فقال: الإشراك بالله - وعقوق الوالدين - وجلس وكان متكئا فقال: ألا وقول الزور. قال: فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت (5) » فقد عظم النبي - صلى الله عليه وسلم - شأن شهادة الزور بثلاثة وجوه من البيان:
1 - أنه ذكرها في سياق بيان كبائر الذنوب، بل إنه - صلى الله عليه وسلم - عدها أكبر الكبائر، ففي الصحيحين عن أنس - رضي الله عنه - قال «ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكبائر فقال: الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: قول الزور. أو قال: شهادة الزور (6) » .
__________
(1) سنن الترمذي الشهادات (2300) ، سنن أبو داود الأقضية (3599) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2372) ، مسند أحمد بن حنبل (4/321) .
(2) القسطلاني ج 13 ص (38) . (1)
(3) سورة الحج الآية 30 (2) {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}
(4) سورة الحج الآية 31 (3) {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ}
(5) فتح الباري ج5 ص 262.
(6) فتح الباري ج 5 ص 262.(17/258)
2 - الاهتمام عند ذكرها بالفعل والهيئة وذلك ما عبر عنه أبو بكرة بقوله: وجلس وكان متكئا. فإن ذلك يشعر بمزيد الاهتمام عند ذكرها، ويفيد تأكيد تحريم قول الزور عموما، والشهادة به على وجه الخصوص. ويعلل ابن حجر سبب الاهتمام بأنه: كون قول الزور أو شهادة الزور أسهل وقوعا على الناس والتهاون بها أكثر - من الشرك وعقوق الوالدين - فإن الإشراك ينبو عنه قلب المسلم والعقوق يصرف عنه الطبع وأما الزور فالحوامل - أي الدوافع - عليه كثيرة كالعداوة والحسد وغيرها. فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمه.
3 - تعظيمه بالقول حيث كرر - صلى الله عليه وسلم -: «ألا وقول الزور (1) » كعادته - صلى الله عليه وسلم - في التأكيد على الأمور المهمة لتفهم عنه وتعرف منزلتها فكرر - صلى الله عليه وسلم - ذكر قول الزور حتى تمنى الصحابة - رضوان الله عليهم - سكوته إشفاقا منهم عليه رحمة به.
وقد ورد التصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - بسوء عاقبة شاهد الزور في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من شهد على مسلم شهادة ليس لها بأهل فليتبوأ مقعده من النار (2) » .
وروى ابن ماجه والحاكم - وقال صحيح الإسناد - عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لن تزول قدما شاهد الزور يوم القيامة حتى تجب له النار (3) » .
فإذا تبين خطر قول الزور - ومنه الشهادة بغير الحق - ومنزلته من الكبائر وأنه من أكبر الكبائر وأنه يعدل بالشرك الأكبر الذي لا يغفر إلا بالتوبة ويوجب الخلود في النار والحرمان من دخول الجنة وأهله هم الظالمون وما للظالمين من أنصار فإليك
__________
(1) صحيح البخاري الشهادات (2654) ، صحيح مسلم الإيمان (87) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3019) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37) .
(2) الترغيب والترهيب ج 3 \ 286.
(3) الكبائر للذهبي ص 34.(17/259)
أمثلة من قول الزور التي يتلبس بها بعض الناس دون مبالاة في سوء عاقبتها وعظيم ضررها عليهم وعلى غيرهم في الدنيا والآخرة منها:(17/260)
(1) الشهادة بلا علم لأحد أو عليه عند القاضي أو غيره من جهات الاختصاص في الدولة أو عند أحد من الناس بدافع من حسد أو عداوة أو مراعاة لقرابة أو طمعا في مادة أو ثقة في قول المدعي أو رحمة به أو بالشهود عليه أو لغير ذلك من الأسباب. فإن التهاون في هذه الشهادة قد أصبح شيئا عاديا عند كثير من الناس حتى إنهم يشهدون لمن طلبها منهم ولو كانوا لا يعرفونه ولا يعرفون المشهود عليه. وقد لا يعلمون وجوده على قيد الحياة حقيقة - كالذين يشهدون بالنسب والوصايا ونحوها كالجنايات وحدود الأملاك، وغالب من يتجرأ على شهادة الزور الإحجام عن أداء شهادة الحق لله، ولذلك روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في مسند أحمد عن ابن مسعود مرفوعا «إن من بين يدي الساعة - فذكر أشياء - ثم قال: وظهور شهادة الزور وكتمان شهادة الحق (1) » . وشهادة الزور فادحة الخطر عظيمة الضرر حيث يترتب عليها عظائم وجرائم منها:
1 - تضليل الحكام عن الحق والتسبب في الحكم بالباطل حيث إن الحكم ينبني على أمور منها البينة والشهادة من أنواعها، فإذا كانت البينة كاذبة أثرت على الحكم فكان بخلاف الحق - والتبعة على الشاهد - ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل أحدكم ألحن بحجته من الآخر فأقضي له نحو ما أسمع (2) » .
2 - الظلم لمن شهد له بأن ساق إليه ما ليس بحق بسبب شهادة الزور فوجبت له النار لقوله - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح «من قضيت له من مال أخيه بغير حق فلا يأخذه فإنما هو قطعة من النار (3) » .
__________
(1) فتح الباري ج 5 \ 288.
(2) فتح الباري ج 5 \ 288.
(3) فتح الباري ج 5 \ 288.(17/260)
3 - الظلم لمن شهد عليه حيث أخذ منه ماله أو حقه بالشهادة الكاذبة فيتعرض الشاهد بذلك لدعوة المشهود عليه بغير الحق ظلما ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب (1) فهي لا ترد بل يرفعها الله تعالى فوق السحاب ويقول: «وعزتي وجلالي لأنصرك ولو بعد حين (2) » .
4 - تخليص المجرمين من عقوبة الجريمة بتبرئتهم من الجريمة بالشهادة الباطلة، وبذلك تقوض دعائم الأمن حيث يتجرأ الناس على ارتكاب الجرائم واقتراف الآثام وادعاء ما ليس لهم اتكالا على وجود تلك الفئة المجرمة التي تحرف شهادة الزور مقابل أطماع مادية أو حمية جاهلية.
5 - وبالجملة فإنه يترتب على شهادة الزور إباحة المحرمات وانتهاك الحرمات وإزهاق النفوس المعصومة وأكل الأموال بالباطل، والحكم والمحكوم له أو عليه بالباطل خصماء لشاهد الزور عند أحكم الحاكمين يوم القيامة.
__________
(1) رواه البخاري الفتح جـ 5 \ 100.
(2) سنن الترمذي صفة الجنة (2525) ، مسند أحمد بن حنبل (2/305) .(17/261)
(ب) تزكية الإنسان بما ليس أهلا له:
فإن التزكية شهادة من المزكي للمزكى بمضمونها فإذا كانت حال المزكى وواقعه بخلاف مضمون التزكية، فإن المزكي شاهد بالزور حيث شهد بخلاف الحق أو بما لا يعلم حقيقته. وكثير من الناس يتهاون بهذه المسألة فيزكي شخصا لوظيفة ليس لها بأهل، أو يثني عليه بقيامه بوظيفته والواقع بخلاف ذلك، أو يعتذر له عن تقصيره في الواجب عليه بعذر غير صحيح، أو يشهد له أنه قام بمهمة في وقت معين وهو لم يباشرها ولم يأت جهتها. وقد يستشار الإنسان في شخص لتزويج أو شركة أو صحبة فيزكيه مثلا، أو يطعن فيه وحقيقة الأمر ليست كذلك. فإن كل ذلك من الغش للمسلمين والظلم لهم حيث إنه قول كذب وشهادة باطلة وقد قال - صلى الله عليه وسلم - «الدين النصيحة (1) » وأخبر أن «المستشار مؤتمن (2) » وجعل
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4197) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(2) سنن الترمذي الزهد (2369) .(17/261)
«من حق المسلم على أخيه أن ينصح له إذا استنصحه» وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من غشنا فليس منا (1) » ، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى} (2) .
فيجب على الإنسان أن يزكي بما علم وأن يشهد بما ظهر له وعرفه بسماع أو مشاهدة أو معاشرة ونحوها من طرق المعرفة، وأن يكون قصده وجه الله فيما يشهد به لأحد من الناس له أو عليه. وليعلم أن الشهادة بمثل هذه الأمور خطيرة، فإن كانت كاذبة فضررها أعم وأعظم من شهادة الزور عند القضاة على عظمها؛ لأن هذه الأمور تتعلق بمصالح عموم المسلمين فيعمهم الضرر بتولية شئونهم من ليس أهلا لها، أو الاطلاع على أسرارهم من ليس منهم ونحو ذلك، فالشهادة الكاذبة في هذه الأمور من أعظم قول الزور ومن التعاون على الإثم والعدوان ومن تضييع الأمانة ووسد الأمر إلى غير أهله والغش لرعاة المسلمين ورعيتهم. ففيها من الضرر والفساد ما لا يحصيه إلا الله.
__________
(1) رواه مسلم، الإيمان جـ 1 \ 144.
(2) سورة النساء الآية 135(17/262)
(ج) القول في دين الله بغير الحق:
فإن ذلك من أعظم الفتنة ومن أخطر أسباب الصد عن سبيل الله ومن أقوى عوامل إضلال الناس وهو من الجرأة على الله وهو من أوضح الأدلة على جهل قائله - خاصة إذا تبين له الحق فلم يرجع إليه - أو على نفاقه وإلحاده، وقد قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} (1) .
__________
(1) سورة النحل الآية 116(17/262)
وقد «قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوم كان معهم رجل به جراحه - وهم في سفر - فأصابته جنابة فسأل أصحابه: هل لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: إنما عليك الغسل. فاغتسل فمات. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين بلغه الخبر: قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا إنما شفاء العي السؤال (1) » .
فما أكثر هذا الصنف من الناس - اليوم - الذين يفتون الناس بما لا يعلمون صحته ويتصدرون لما ليسوا أهلا له لجهلهم العظيم بحقيقة أنفسهم وما يتكلمون فيه وما ينبني على فتاواهم من فساد وقد قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2) {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} (3) ومثلهم أولئك الذين يحرمون ما أحل الله لهم من طعام ونساء وسكن ومركوب ونحوه لأدنى سبب فيحلفون بتحريم ذلك عند أتفه الأمور تكريما لأحد أو توفيرا عليه أو منعا له من شيء أو تأديبا أو حمية جاهلية فيتجرءون على الله وشرعه وينتهكون حرماته تعظيما لأشياء عادية بسيطة ولكن أكثرهم لا يعلمون أن ذلك من زور القول الذي أمروا باجتنابه وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} (4) .
وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (5) .
وأخطر من هؤلاء وأولئك قوم يكتمون الحق مع علمهم به ويظهرون الباطل ويدعون إليه الناس ويزينونه لهم بما يسمونه به من زخرف القول أسماء يخترعونها من قبل أنفسهم تزويرا للحقائق وكذبا على الله ورسوله وفتنة للعامة كأولئك
__________
(1) سبل السلام ج1 ص 99.
(2) سورة النحل الآية 43
(3) سورة النحل الآية 44
(4) سورة المجادلة الآية 2
(5) سورة المائدة الآية 87(17/263)
الذين يجعلون من خلق الله أنداد يدعونهم ويتضرعون إليهم، ويقبلون أعتابهم ويحجون إليهم، ويقسمون بهم، وينادونهم عند الشدائد وحال الرخاء، ويدعون الناس إلى اتباعهم على ذلك الشرك برب العالمين، ويظهرون للناس أن ذلك من محبتهم ومن حقهم على الناس. ويخترعون لذلك المناسبات العديدة والذكريات الموسمية، ويؤلفون لهم مناسك تتلى بكل مناسبة، ويسوقون استدلالا على ذلك حشدا من الأحاديث الضعيفة والموضوعة والقصص الخرافية والرؤى المنامية، بل وأحلام اليقظة، حيث يصرحون أنهم يرون من يزعمون محبته وتلقوا عنه العديد من النصائح والأوراد والبشارات وقصدهم في ذلك التشبيه على العامة والتغرير بهم لنهب أموالهم وطلب المنزلة عندهم واستعبادهم لهم إلى غير ذلك من الأغراض الدنيئة والمطامع السافلة.
وعلى شاكلة هؤلاء في قول الزور وصناعة الإفك لقصد الإفساد ونشر الفساد قوم منحرفون فكرا وسلوكا وعقيدة وخلقا، وهم الداعون إلى تبرج النساء واختلاطهن بالأجانب والخروج على شريعة الله وهدي رسوله في شتى الميادين، شعارهم الدعوة إلى التجديد والتطور والتحرير وتحصيل حقوق النساء المسلوبة - زعموا - وحقيقتهم رفع شعار العلمانية والمناداة بالمبادئ الماسونية والولع بما كان عليه الكفار شرقا وغربا من انحراف وهمجية اتباعا للهوى وذلة للأعداء وإشباعا للشهوات وحبا للباطل، ومن عظم البلية وشدة الفتنة أنهم يستدلون على باطلهم وأهوائهم المنحرفة بنصوص شرعية - مع عدم إيمانهم بها على الحقيقة - يسوقونها في غير سياقها الشرعي ويحرفون فيها الكلم عن مواضعه ويضربون بعضها ببعض وغالب ما يستدلون به منها منقول من كتابات أسيادهم المستشرقين وغيرهم من شياطين الإنس الذين خاضوا المعركة ضد الإسلام منذ سنين طويلة وفي أمصار عديدة؛ فصار شأن هؤلاء اليوم بين المسلمين شأن سلفهم من المنافقين في عصور الإسلام الأولى الذين يأخذون شبهاتهم وأفكارهم من اليهود(17/264)
والنصارى والمشركين يعارضون بها شرع الله ويفتنون بها عباده {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} (1) .
فهؤلاء {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} (2) {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} (3) .
وحقيقتهم أنهم {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} (4) {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} (5) .
وحالهم {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (6) .
وهم أيضا {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (7) {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (8) .
{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} (9) .
__________
(1) سورة النساء الآية 62
(2) سورة البقرة الآية 11
(3) سورة البقرة الآية 12
(4) سورة النساء الآية 51
(5) سورة النساء الآية 52
(6) سورة النساء الآية 142
(7) سورة البقرة الآية 9
(8) سورة البقرة الآية 10
(9) سورة المنافقون الآية 4(17/265)
ثانيا: حضور الأماكن التي يفعل فيها الباطل ويعرض:
فإن ذلك هو المعنى الآخر لشهادة الزور فإن حضور مجالس الباطل ومشاهدته ومخالطة أهله حال تلبسهم به وظهورهم بمظهره دون نكير عليهم أمر عظيم(17/265)
الحرمة شديد الخطر حيث يدل على ضعف الإيمان أو على انتفائه بالكلية إذ لا يقر المنكر إلا عاجز أو فاسد، والعاجز أقل أحواله هجر المكان أو الشخص لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان، وفي رواية وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة خردل (1) » .
وقد قال تعالى في شأن قوم حضرتهم الوفاة حال إقامتهم مع أهل المنكر حال استطاعتهم على مفارقتهم والبعد عنهم ومع ذلك لم يفعلوا: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (2) {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} (3) {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} (4) وقد روى الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل - يعني على المعصية - فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض (5) » ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (6) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (7) .
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .
(2) سورة النساء الآية 97
(3) سورة النساء الآية 98
(4) سورة النساء الآية 99
(5) تفسير ابن كثير ج 2 ص 82.
(6) سورة المائدة الآية 78
(7) سورة المائدة الآية 79(17/266)
فكان من أسباب اللعن والسخط الذي تعرض له أولئك القوم هو حضور مجالس المعاصي ومخالطة العصاة حال معصيتهم ومؤاكلتهم ومشاربتهم ومجالستهم، ولذلك نهى الله تعالى عباده المؤمنين عن حضور المجالس التي تشتمل على الخوض في آيات الله والاستهزاء بها والكفر فيها فيفعل في تلك المجالس ما يضاد ما جاءت به آيات الله من الأمر بالطاعة والتعاون على البر والتقوى والأمر بترك المعصية والتعاون على الإثم والعدوان، فقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (1) .
وذكر الرحمن من جليل أعمال عباده المخلصين في عبادته والمتبعين لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أنهم {لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} (2) .
قال الإمام ابن كثير (3) والأظهر من السياق أن المراد بـ {لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} (4) أي لا يحضرون الزور، وإذا اتفق مرورهم به مروا ولم يتدنسوا منه بشيء ولهذا قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (5) .
ثم ساق ما رواه ابن أبي حاتم بسنده عن ابن مسعود: أنه مر بلهو فلم يقف، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريما» واللهو من اللغو وكلاهما داخلان في الزور المنهي عن قوله وفعله وحضوره؛ لأنه باطل لميله عن الحق كما سبق، ولذلك تنوعت عبارات المفسرين - رحمهم الله تعالى - في المراد بالزور وفي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} (6)
فمنهم من قال: هو الشرك، ومنهم من قال: هو الغناء. ومنهم من قال: هو الكذب، ومنهم من قال: هو أعياد المشركين، ومنهم من قال: شرب الخمر (7) واختلاف
__________
(1) سورة النساء الآية 140
(2) سورة الفرقان الآية 72
(3) تفسير ابن كثير ج 3، ص 328.
(4) سورة الفرقان الآية 72
(5) سورة الفرقان الآية 72
(6) سورة الفرقان الآية 72
(7) تفسير ابن جرير ج19 ص 48، وتفسير القرطبي ج 12 ص 55.(17/267)
عبارتهم في تفسيره هو من اختلاف التنوع فليس اختلاف تضاد؛ لأن كل ما ذكروه - رحمهم الله - هو من أنواع الباطل الذي يزوره أهله بتحسينه إلى الناس وتزيينه في أعينهم ليتبعوهم عليه. فمعنى الآية إخبار الله تعالى أن عباده لا يحضرون شيئا من الباطل لا شركا ولا كذبا ولا غناء ولا عيدا من أعياد الجاهلية، ولا يحضرون موائد الخمر والقمار فتميزوا بأنهم لا يحضرون شيئا مما يوصف شرعا بأنه باطل وزور. وإذا كانوا لا يحضرونه فمن باب أولى أن لا يقولوا به ولا يفعلوه، فلا يشهدون بما لم يستيقنوا صحته أو عرفوا بطلانه، ولا يفعلون شيئا من الباطل، ولا يكثرون سواد أهله ويعمرون مجالسهم لكمال، لبغضهم للزور وأهله ومحبتهم للحق وأهله فهم كما قال ربهم سبحانه في وصفهم: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (1) .
فدلت آية سورة الفرقان السابقة وهي قوله تعالى في وصف عباده: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (2) أنه يتعين على المسلم الحق أن يتجنب مواطن الزور واجتماعات أهلها لما تشتمل عليه من الفسوق والعصيان وينبعث منها من الفتنة والضلالة خوفا من ربه وشحا بدينه وحذرا من مكر أعدائه ومن هذه المواطن:
__________
(1) سورة الإسراء الآية 57
(2) سورة الفرقان الآية 72(17/268)
(أ) الأماكن والتجمعات التي يحتفل بها بأعياد ميلاد الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - والصالحين أو من تعتقد فيه الولاية والزعماء والأحزاب والمنشئات ونحوها؛ لأنها مناسبات محدثة لا أصل لها في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهي مناسبات جاهلية؛ لأنها من أحكامها {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 50(17/268)
وقد حكم الله لأهل الإسلام بعيدين: الأضحى والفطر وهو العليم الحكيم. ولأن أعياد الجاهلية من أخص شرائع الكفر، وأظهر شعائره فحضورها دليل الموافقة عليها، فموافقتهم موافقة في عمل من أخص ما يتميزون به من أسباب سخط الله فتحرم موافقتهم فيها كما تحرم موافقتهم في سائر شرائع الجاهلية وشعائرها. ولا ريب أن موافقتهم قد تنتهي بالشخص إلى الكفر في الجملة، وأقل أحوالها أنها معصية للرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي أمر بمزايلة المشركين ومفارقتهم. وكذلك موافقة أهل البدع حقيقتها موافقة لهم في أمر أحدثوه وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » ، وقال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » ، (3) . ونفى الإيمان عمن لم يكن هواه تابعا لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في قوله: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به (4) » . ووصف - صلى الله عليه وسلم - خطر الإحداث في الدين فقال: «وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار (5) » .
فليس من شأن المؤمن المخلص في طاعة الله ومتابعة رسوله أن يرضى بالبدع والمحدثات والضلالات التي هي شر الأمور.
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(3) جامع العلوم والحكم ص (51)
(4) أخرجه الخطيب في تاريخه (4\491) ، والبغوي في شرح السنة (ح\104) ، والحسن بن سفيان كما في فتح الباري، وقال ابن حجر: رجاله ثقات، وقد صححه النووي في آخر الأربعين. انظر: فتح الباري (13\289) .
(5) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .(17/269)
(ب) تجمعات المكاء والتصدية: وهي المجالس التي يعلوها الضجيج ويأخذ أهلها بما كان عليه المشركون من المظاهر والأقوال والحال. حيث ترتفع فيها الأصوات من غير طائل، وتفوه أهلها بفاحش القول والعبادة، كما قال تعالى في المشركين: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} (1) .
فالمكاء هو الصفير، والتصدية التصفيق ويتكلمون عند أدنى الأسباب وأبسط المؤثرات بما لا يعقلون معناه ولا يدركون عواقبه نتيجة الانفعال والحماس، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (2) .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 35
(2) سورة الأنفال الآية 32(17/269)
ويتمادون في غيهم وضلالهم وهم في غمرة انفعالهم، فإذا دعوا إلى الخير والحق استهزءوا بالداعي وما يدعو إليه: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} (1) .
وإذا مشوا على الأرض مشوا مشية تتأذى منها الأرض ويشتكي منها الخلق وهي التي نهى الله عنها بقوله على لسان لقمان: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (2) {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (3) .
فحضور هذه التجمعات مما يذهب الوقار، ويميت الغيرة، ويذهب المروءة، ويغضب الله - عز وجل - وقد وصف الله تعالى صالحي عباده بقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (4) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 58
(2) سورة لقمان الآية 18
(3) سورة لقمان الآية 19
(4) سورة القصص الآية 55(17/270)
(ج) مجالس تفعل فيها عظائم المنكرات وكبائر الذنوب من إعلان ترك الصلاة، أو تناول المسكرات وأنواع المخدرات، أو إبرام العقود المحرمة كالربا والرشوة وغيرها من صور أكل أموال الناس بالباطل، أو ليستباح فيها الزنا أو تنتهك فيها حرمة شهر رمضان بالفطر - دون عذر شرعي - أو يحصل فيها التواطؤ على الكيد للإسلام وأهله بعقد المؤتمرات ورسم الخطط لإشعال الفتنة بين المسلمين وتأجيج نار العداوة والفرقة بينهم ونحو ذلك، فإن ذلك كله من شهادة الزور أي حضوره: وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شهد الباطل مقرا له سواء كان منتفعا أو غير منتفع ونفى عنه الإيمان لاشتراكه في التواطؤ والرضا بالباطل فقد «لعن رسول - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه (1) » «ولعن
__________
(1) سنن النسائي الزينة (5103) ، مسند أحمد بن حنبل (1/83) .(17/270)
- صلى الله عليه وسلم - في الخمر عشرة عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له (1) » . وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر (2) » .
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1295) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3381) .
(2) سنن الترمذي الأدب (2801) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) ، سنن الدارمي الأشربة (2092) .(17/271)
(د) مجالس الكذب التي يعرض فيها الباطل مسموعا أو مرئيا عبر المسلسلات والأفلام والمسرح وغيرها من الوسائل والتي يقوم بتنفيذ الأدوار فيها عملاء الماسونية والصهيونية من النصارى والمنحرفين من أبناء المسلمين يستهزئون من خلالها بالشعائر والقيم الإسلامية والأخلاق والفضائل، ويغرون الناس فيها بالجرائم كالسرقة والاختطاف والنهب وإفساد المرافق العامة، ويدفعونهم إلى الاستهانة بالأنظمة، ويزينون لهم الفواحش من الزنا واللواط وغيرهما من أنواع الشذوذ الجنسي ومقدماته ووسائله وذرائعه، ويهيجونهم إلى تعاطي المخدرات وترويجها والتفنن في ذلك. ويسهلون عليهم الخروج على سلطة الآباء والأمهات. ويقذفون في أذهانهم المبادئ الوثنية والعقائد الشركية والوثنية من نصرانية وغيرها والأفكار الحزبية الجاهلية ونحوها مما يخدم المصالح الماسونية ويحقق الأغراض والمصالح الاستعمارية في البلاد الإسلامية. فإن المجالس التي تعرض فيها هذه الأمور وغيرها وتمارس فيها من قبل بعض الحاضرين هي حقيقة مواطن عدوى ومصادر فتنة وخلايا فساد ومعاول هدم بما تنشره من الشر وأنواع الزور الذي تتفنن في عرضه بوسائل ساحرة فاتنة منها الصوت والصورة والمظهر والفكرة والرحلة والعشرة والشريط والنشرة إلى غير ذلك من وسائل الغزو التي تفنن فيها الأعداء. لذا وجب هجر هذه المواطن المزورة؛ لما تنشره من الفتنة في الأرض والفساد الكبير ولما فيها من الخطر العظيم والضرر البالغ الذي لا يقتصر على من حضره بل يتعداه إلى سائر طبقات المجتمع وعموم جهاته إضافة إلى ما تجلبه من سخط الجبار وعذاب النار والخزي والذلة والعار في الدنيا والآخرة.(17/271)
وبهذا يتبين لك أخي المسلم خطورة قول الزور وفعله وعظيم ضرره على الفرد والمجتمع، وتتضح لك بعض وجوه الحكمة في النهي عنه والوعيد عليه في الدنيا والآخرة، وأن الذي يشهد بالزور أو يشهده حقيقة أمره أنه محاد لله ورسوله ومعاد لعباده المؤمنين ومفسد في الأرض من جوانب متعددة ونواحي كثيرة، هذا وأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يعصمني وإياك وإخواننا المسلمين من قول الزور وفعله وشر أهله وأن يهدينا صراطه المستقيم ويثبتنا عليه حتى نلقاه عليه وأن يحشرنا {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (1) .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
__________
(1) سورة النساء الآية 69(17/272)
عبد الرزاق بن همام الصنعاني.
[126هـ - 211هـ] (1) .
بقلم: أحمد بن عبد الرحمن الصويان.
هو عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري مولاهم الصنعاني (2) ، ويكنى بأبي بكر.
بيته: لا نعرف عن بيته إلا القليل، فأما أبوه فهو: همام بن نافع، قال عنه الذهبي: " له في الكتب حديث عن الترمذي " (3) ، لكن همام هذا ليس بالقوي، لذلك قال معمر بن راشد لعبد الرزاق " لو أدركت أباك ما أردت أن يسند لي حديثا " (4) . واعتبره ابن حجر في التقريب: " مقبول الحديث " (5) . أي عند المتابعة وإلا فلين الحديث.
أما أخوه فهو: عبد الوهاب بن همام وكان شديد التشيع (6) ، ترجم له الذهبي في الميزان، فقال: " وثقه ابن معين في رواية أحمد بن أبي مريم عنه وقال أبو حاتم: كان يغلو في التشيع. وقال الأزدي: يتكلمون فيه، وقال آخر: كان مغفلا ". اهـ (7) .
__________
(1) في صنعاء بإجماع من ترجم له.
(2) نسبة إلى صنعاء اليمن لا صنعاء غوطة دمشق. انظر معجم البلدان (3 \ 428) واللباب (2 \ 248) .
(3) الميزان (4 \ 308) .
(4) الضعفاء للعقيلي (4 \ 371) .
(5) التقريب (2 \ 321) ، وانظر التهذيب (11 \ 67) .
(6) انظر الضعفاء (3 \ 74) والميزان (2 \ 684) .
(7) الميزان (2 \ 684) واللسان (4 \ 93) .(17/273)
أما ابن أخته فهو: أحمد بن داود وقيل ابن عبد الله، يروي عن عبد الرزاق وغيره. قال الذهبي: قال ابن معين: لم يكن بثقة. وقال أحمد: " كان من أكذب الناس. وقال ابن عدي: عامة أحاديثه مناكير، وحديثه قليل ". ا. هـ (1) . وقال أيضا: " قال ابن حبان كان يدخل على عبد الرزاق الحديث، فكل ما وقع في حديث عبد الرزاق من المنكاير فبليته منه ". ا. هـ (2) .
قلت: أما عبد الرزاق فهو أعلمهم وأجلهم.
__________
(1) الميزان (1 \ 97)
(2) الميزان (1 \ 109) واللسان (1 \ 169) وانظر تأريخ بن معين (2 \ 19) .(17/274)
روى عن:
إسرائيل بن يونس - الأوزاعي - حجاج بن أرطاة - ثور بن يزيد - ابن جريج - سفيان الثوري - سفيان بن عيينة - عبد الله بن سعيد - عبيد الله بن عمر العمري - مالك بن أنس - معمر بن راشد - همام بن نافع، وخلق سواهم (1) .
ويعتبر شيخه معمر أكثرهم تأثيرا عليه حيث لزمه ثمان أو سبع سنين (2) ، وتأثر به تأثرا شديدا وملحوظا، حيث إنه كان يعتمد اعتمادا كبيرا عليه، وكتب عنه عشرة آلاف حديث (3) .
وقد تأثر به أيضا من الناحية الفقهية وهذا واضح من ترجيحاته في المصنف.
وبشكل عام يعتبر عبد الرزاق أثبت الناس في معمر كما قرر ذلك ابن معين في تأريخه (4) وكان أحمد يقول: " إذا اختلف أصحاب معمر فالحديث لعبد الرزاق (5) .
__________
(1) اعتمدت في سردهم على الترتيب الهجائي، وانظر في شيوخه سير الأعلام (9 \ 564) وغيره من كتب التراجم.
(2) الجرح والتعديل (6 \ 38) والميزان (2 \ 609) وتصحفت إلى ثمانين سنة في معجم البلدان (3 \ 428) .
(3) شرحا ألفية العراقي (1 \ 51) .
(4) تأريخ ابن معين (2 \ 364) وانظر الجرح والتعديل (6 \ 38) والنبلاء (9 \ 565) .
(5) معجم البلدان (3 \ 428) وتأريخ أسماء الثقات لابن شاهين (ص 180) ت. السامرائي.(17/274)
روى عنه:
أحمد بن حنبل (1) - أحمد بن منصور الرمادي - إسحاق بن إبراهيم الدبري - إسحاق بن راهويه - عبد بن حميد - علي بن المديني - يحيى بن معين - يحيى بن موسى خت، وأمم سواهم (2) .
قلت: وحديثه مخرج في المسند والكتب الستة وغيرها من كتب السنة.
__________
(1) كما أن عبد الرزاق روى عن أحمد أيضا، انظر طبقات الحنابلة (1 \ 209) .
(2) النبلاء (9 \ 564) وغيره من كتب التراجم.(17/275)
تشيعه:
رماه عدد من العلماء بالتشيع منهم ابن عدي حيث قال: (وعبد الرزاق أيضا يعد في الشيعة) (1) ونسب ذكر ذلك إلى ثقات المسلمين حيث قال: (وقد رحل إليه ثقات المسلمين وأئمتهم وكتبوا عنه ولم يروا بحديثه بأسا إلا أنهم نسبوه إلى التشيع) (2) وقال ابن الأثير في تأريخه (من مشايخ أحمد بن حنبل وكان يتشيع) (3) .
وقال العقيلي: (حدثنا أحمد بن زكير الحضرمي، قال: حدثنا محمد بن إسحاق بن يزيد البصري، قال: سمعت مخلد الشعيري يقول: كنت عند عبد الرزاق، فذكر رجل عنده معاوية، فقال: لا تقذر مجلسنا بذكر ولد أبي سفيان) (4) .
ولعل أبا داود قد اعتمد على هذه الرواية حينما قال: (كان عبد الرزاق يعرض بمعاوية (5) .
قلت: فأما مخلد الشعيري: فقد سأل ابن أبي حاتم عنه أباه فقال: (لا
__________
(1) الكامل (5 \ 1951) .
(2) الكامل (5 \ 1952) .
(3) الكامل لابن الأثير (5 \ 215) .
(4) الضعفاء (3 \ 109) والميزان (2 \ 610) .
(5) التهذيب (6 \ 314)(17/275)
أعرفه) (1) ولكن الصواب توثيقه (2) . أما بقية رجال الإسناد فلم أجد من ترجم لهم، ومن ثم لا نستطيع الحكم على هذا النص.
كما روى العقيلي أيضا بسنده أن عبد الرزاق قال عن عمر بن الخطاب: (انظروا إلى هذا الأنوك) (3) ولكن الذهبي قال تعليقا على هذا الخبر: (في هذه الحكاية إرسال، والله أعلم بصحتها) (4) . كما أنها معارضة بما رواه سلمة بن شبيب أنه قال: (سمعت عبد الرزاق يقول: والله ما انشرح صدري قط أن أفضل عليا على أبي بكر وعمر - رحمهما الله - ورحم عثمان وعليا من لم يحبهم فما هو بمؤمن أوثق عملي حبي إياهم) (5) بل إنه: يكفر الروافض (6) .
وعلى فرض صحة هاتين الروايتين فهناك أمران:
الأول: أن هذا لا يقدح بحديث عبد الرزاق كما هو مقرر في علم الجرح والتعديل.
الثاني: أن الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - قد عوتب في روايته عن عبد الرزاق لتشيعه فذكر أن عبد الرزاق رجع (7) والذي نرجحه أن عبد الرزاق كان متشيعا لكنه من معتدلي الشيعة وذلك أن عبد الله بن أحمد قال: (سألت أبي هل كان عبد الرزاق يتشيع ويفرط في التشيع؟ فقال: أما أنا فلم أسمع منه في هذا شيئا، ولكنه كان رجلا يعجبه أخبار الناس) .
__________
(1) الجرح والتعديل (6 \ 349) .
(2) انظر تأريخ بغداد (13 \ 175) والميزان (4 \ 82) والتقريب (2 \ 235) .
(3) الضعفاء (3 \ 110) .
(4) الميزان (2 \ 611)
(5) النبلاء (9 \ 573) والميزان (2 \ 612) والتذكرة (1 \ 364) والتهذيب (6 \ 312) .
(6) الكامل (5 \ 1949) والميزان (2 \ 613) .
(7) التهذيب (7 \ 53) .(17/276)
أما من قال بأن عبد الرزاق يروي الكذب في فضائل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقد رد عليه شيخ الإسلام بقوله: (مع أن عبد الرزاق كان يميل إلى التشيع ويروي كثيرا من فضائل علي وإن كانت ضعيفة، لكنه أجل قدرا من أن يروي مثل هذا الكذب الواضح) (1) .
وقد اطلعت على مخطوط لتفسير عبد الرزاق وقرأت فيه تفسير بعض الآيات التي اختلف فيها أهل السنة عن الشيعة فلم أجد فيه شيئا من آراء الشيعة والله أعلم.
وأخيرا أقول: إن عبد الرزاق - رحمه الله - كان يسعى لتطبيق السنة خلافا للشيعة الذين هم من أبعد الناس عن السنة النبوية المشرقة، انظر مثلا قول محمد بن رافع: (كنت مع أحمد وإسحاق عند عبد الرزاق فجاءنا يوم الفطر فخرجنا مع عبد الرزاق إلى المصلى ومعنا ناس كثير، فلما رجعنا دعانا عبد الرزاق إلى الغداء ثم قال لأحمد وإسحاق: رأيت اليوم منكما عجبا لم تكبرا فقال أحمد إسحاق: يا أبا بكر كنا ننتظر هل تكبر فنكبر فلما رأيناك لم تكبر أمسكنا، قال: وأنا كنت أنظر إليكما هل تكبران فأكبر " (2) .
__________
(1) منهاج السنة (4 \ 4) .
(2) النبلاء (9 \ 566) .(17/277)
ثناء العلماء عليه:
قال عنه شيخه معمر: (وأما عبد الرزاق فخليق أن تضرب إليه أكباد الإبل) (1) لذلك قال ابن أبي السري: (فوالله لقد أتعبها) (2) يعني: لكثرة من رحل إليه.
__________
(1) التهذيب (6 \ 312) .
(2) التهذيب (6 \ 312) .(17/277)
وقال هشام بن يوسف: (كان عبد الرزاق أحفظنا وأعلمنا) (1) .
وقال أحمد بن صالح: قلت لأحمد بن حنبل: (رأيت أحدا أحسن حديثا من عبد الرزاق؟ قال: لا) (2) . .
ثم أتبع الذهبي هذه العبارة بقوله: (قال كاتبه: ما أدري ما عنى أحمد بحسن حديثه، هل هي جودة الإسناد، أو جودة المتن أو غير ذلك) (3) .
وقال إبراهيم بن عباد الدبري: (كان عبد الرزاق يحفظ نحوا من سبع عشرة ألف حديث) (4) .
وقال محمد بن إسماعيل الضراري (5) (بلغني ونحن بصنعاء أن أحمد ويحيى تركا حديث عبد الرزاق فدخلنا غم شديد فوافيت ابن معين في الموسم فذكرت له فقال: يا أبا صالح لو ارتد عبد الرازق ما تركنا حديثه) (6) .
ولا يخفى ما في كلام يحي بن معين - رحمه الله - من المبالغة لكنه أراد الرفع من منزلة الإمام عبد الرزاق - رحمه الله -.
ويكفي عبد الرزاق منزلة أن الشيخين ارتضياه وخرجا حديثه في الصحيحين.
__________
(1) النبلاء (9 \ 580) والتهذيب (6 \ 312) ومقدمة فتح الباري (ص 415) .
(2) النبلاء (9 \ 569) والميزان (2 \ 614) والتهذيب (6 \ 311) .
(3) النبلاء (9 \ 569) .
(4) التهذيب (6 \ 314) .
(5) في التهذيب الفزاري وفي النبلاء الصراري والصواب ما اثبتناه.
(6) الكامل (5 \ 1948) والضعفاء (3 \ 110) والنبلاء (9 \ 573) والتهذيب (6 \ 312) .(17/278)
تغير حاله:
استمرت ثقة العلماء بعبد الرزاق إلى أن كف بصره حيث أخذ يحدث من(17/278)
حفظه فكان يهم. قال أبو زرعة الدمشقي: أخبرنا أحمد قال: أتينا عبد الرزاق قبل المئتين وهو صحيح البصر ومن سمع منه بعد ما ذهب بصره فهو ضعيف السماع) .
وقال الأثرم عن أحمد: (من سمع منه بعد ما عمي فليس بشيء) (1) .
لذلك قال النسائي - رحمه الله -: (فيه نظر لمن كتب بآخره، كتبوا عنه أحاديث مناكير) (2) .
وممن حدث عنه بعد اختلاطه (3) .
1 - أحمد بن محمد بن شبويه (4) .
2 - محمد بن حماد الطهراني (5) .
3 - إبراهيم بن بسار الرمادي (6) (أو أحمد بن منصور الرمادي) (7) .
ومنهم الجماعة الذين سمع منهم الطبراني في رحلته إلى صنعاء من أصحاب عبد الرزاق وهم:
1 - إسحاق بن إبراهيم الدبري (8)
__________
(1) مقدمة فتح الباري (ص 419) .
(2) الميزان (2 \ 610) ومقدمة الفتح (ص 419) وابن الصلاح في المقدمة (596) ت. بنت الشاطئ.
(3) انظر الكواكب النيرات لابن كيال (ص274) .
(4) انظر ترجمته في التهذيب (1 \ 71) .
(5) ترجمته في التهذيب (9 \ 124) .
(6) ترجمته في التهذيب (1 \ 108) .
(7) ترجمته في التهذيب (1 \ 83) .
(8) سوف يأتي الحديث عنه في رواة المصنف.(17/279)
2 - إبراهيم بن محمد بن برة الصنعاني (1) .
3 - إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن سويد (2) .
4 - الحسن بن عبد الأعلى الصنعاني (3) .
لذلك عندما سئل الإمام أحمد عن حديث: «النار جبار (4) » قال هذا باطل من يحدث به عن عبد الرزاق؟ فقال الأثرم: حدثني أحمد بن شبويه قال: هؤلاء سمعوا منه بعدما عمي. كان يلقن فلقنه وليس هو في كتبه. وقد اسندوا عنه أحاديث ليست في كتبه كان يلقنها بعد ما عمي اهـ) (5) .
وقال ابن الصلاح: (وقد وجدت فيما روي عن الطبراني عن إسحاق بن إبراهيم الدبري عن عبد الرزاق أحاديث استنكرتها جدا فأحلت أمرها على ذلك، فإن سماع الدبري منه متأخر جدا. قال إبراهيم الحربي: مات عبد الرزاق وللدبري ست سنين أو سبع سنين) (6) .
__________
(1) ترجمته في السير (13 \ 351) .
(2) ترجمته في السير (13 \ 352) .
(3) ترجمته في السير (13 \ 351) .
(4) تابع ابن شبويه محمد بن المتوكل، وتابع عبد الرزاق عبد الملك الصنعاني انظر سنن أبي داود (4 \ 197) ، كما تابع ابن شبويه أيضا أحمد بن الأزهر عند ابن ماجه (2 \ 892) . وقال الخطابي: (لم أزل أسمع أصحاب الحديث يقولون: غلط فيه عبد الرزاق إنما هو '' البئر جبار '' حتى وجدته لأبي داود عن عبد الملك عن معمر، فدل أن الحديث لم ينفرد به عبد الرزاق ا. هـ '' مختصر سنن أبي داود (6 \ 385) .
(5) الميزان (2 \ 610) .
(6) المقدمة (597) .(17/280)
آراء شاذة:
لم يسلم عبد الرزاق - رحمه الله - من نقد الناقدين حتى بلغ الأمر ببعضهم أن(17/280)
اتهمه بالكذب. قال العقيلي: (لما قدم العباس بن عبد العظيم من عند عبد الرزاق من صنعاء قال لنا - ونحن جماعة - ألست قد تجشمت الخروج إلى عبد الرزاق، فدخلت عليه، وأقمت عنده حتى سمعت منه ما أردت، والله الذي لا إله هو إن عبد الرزاق كذاب والواقدي أصدق منه) (1) .
وما أجمل ما قاله الذهبي حينما أورد هذه الرواية حيث قال: (بل والله ما بر العباس في يمينه، ولبئس ما قال، يعمد إلى شيخ الإسلام ومحدث الوقت ومن احتج به كل أرباب الصحاح، وإن كانت له أوهام مغمورة وغيره أبرع في الحديث منه، فيرميه بالكذب ويقدم الواقدي الذي أجمعت الحفاظ على تركه فهو في مقالته هذه خارق للإجماع بيقين ا. هـ) (2) .
وقد تعقب ابن حجر الإمام الذهبي في قوله هذا حيث قال: (وهذا إقدام على الإنكار بغير تثبت فقد ذكر الإسماعيلي عن الفرهياني أنه قال: حدثنا عباس العنبري عن زيد بن المبارك قال: كان عبد الرزاق كذابا يسرق الحديث. وعن زيد قال: لم يخرج أحد من هؤلاء الكبار من عنده إلا وهو مجمع أن يحدث عنه - انتهى. وهذا مردود على قائله، فغرض من ذكره الإشارة إلى أن العباس بن عبد العظيم موافقا. ا. هـ) (3) ، ولم يأت ابن حجر في تعقبه هذا بشيء يخالف ما قرره الذهبي من عدم الالتفات إلى من قال بتكذيب الإمام عبد الرزاق - رحمه الله -.
قلت: ولأول وهلة قد يظن الباحث أن العباس بن عبد العظيم وزيد بن
__________
(1) الضعفاء للعقيلي (3 \ 109) وسير الأعلام (9 \ 571) والتهذيب (6 \ 315) والكامل (5 \ 1948) .
(2) سير الأعلام (9 \ 572) .
(3) التهذيب (6 \ 315) ولعدم الاعتداد بقول العباس راجع مقدمة فتح الباري (ص 419) .(17/281)
المبارك ممن لا يعتمد قولهما في الجرح والتعديل بشكل عام، وليس بذاك بل هما من الحفاظ. فأما العباس فقال عنه ابن حجر: (ثقة حافظ) (1) كما أن الذهبي - رحمه الله - ذكره في رسالته: (ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل) (2) .
وأما زيد بن المبارك وإن كان أقل منزلة من العباس إلا أنه " صدوق عابد " (3) كما ذكر ذلك ابن حجر العسقلاني - رحمه الله -.
وبهذا يتبين لك أن الذي تكلم فيه ليس من رعاع الناس أو أدعياء العلم بل هما من العلماء الثقات فعش رجبا تر عجبا.
وإذا كان الإمام عبد الرزاق لم يسلم من طعن الطاعنين فإن هذا ليس بمستغرب حينما أقول لك أن هناك من تكلم في الإمام مالك والإمام الشافعي - رحمهما الله تعالى - (4) . بل إن هناك من ترك حديث الإمام البخاري الذي أطبقت الأمة على فضله وعلمه وحفظه (5) وما أحسن قول أبي العتاهية:
ومن ذا الذي ينجو من الناس سالما ... وللناس قال بالظنون وقيل
وقول الأخر:
يا ناطح الجبل العالي ليكلمه ... أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل (6)
__________
(1) تقريب التهذيب (1 \ 397) .
(2) (ص 181) ت. عبد الفتاح أبو غدة. وانظر ترجمته في التهذيب (5 \ 121) .
(3) التقريب (1 \ 277) وانظر ترجمته في التهذيب (3 \ 424) .
(4) انظر جامع بيان العلم (2 \ 161)
(5) انظر الجرح والتعديل (3 \ 2 \ 191) .
(6) هذا البيت والذي قبله تجدهما في جامع بيان العلم (2 \ 161) .(17/282)
شبهة والرد عليها:
لعله من المناسب في هذا المجال أن نتطرق إلى شبهة قد ترد ألا وهي: أن الجرح مقدم على التعديل فيجب الأخذ بهذه القاعدة، وبالتالي تكذيب الإمام عبد الرزاق لا توثيقه. .
الرد على هذه الشبهة:
للرد على هذه الشبهة نقول: إن القاعدة لا شك بصحتها، يقول الإمام النواوي: " وإذا اجتمع فيه جرح وتعديل فالجرح مقدم " (1) ونقله الخطيب عن جمهور العلماء (2) . ولكن يجب أن يعلم أن هذه القاعدة ليست على إطلاقها بل يجب التأني والتثبت، يقول الإمام أحمد: (كل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد حتى يتبين ذلك عليه بأمر لا يحتمل غير جرحه) (3) .
وقال الذهبي: (كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، وما ينجو منه إلا من عصمه الله، وما علمت أن عصرا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين ولو شئت لسردت من ذلك كراريس) (4) .
وقال السبكي: (والحذر الحذر من هذا الحسبان بل إن الصواب عندنا أن من
__________
(1) تدريب الراوي (1 \ 309) .
(2) تدريب الراوي (1 \ 309) .
(3) التهذيب (7 \ 273) .
(4) ميزان الاعتدال في ترجمة أبي نعيم الأصبهاني (1 \ 111) .(17/283)
ثبتت إمامته وعدالته وكثر مادحوه ومزكوه وندر جارحوه وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه من تعصب مذهبي أو غيره، فإنا لا نلتفت إلى الجرح فيه ونعمل فيه بالعدالة، ولو فتحنا هذا الباب وأخذنا تقديم الجرح على إطلاقه لما سلم لنا أحد من الأئمة؛ إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون وهلك فيه هالكون ا. هـ) (1) .
وقد أسهب الحافظ ابن حجر في مقدمته فتح الباري في هذا الموضوع وبين أن تجريح بعض رجال الصحيحين لا يعبأ به على الإطلاق، فراجعه فإنه قيم (2) .
وأخيرا نجد أن الإمام ابن الصلاح - رحمه الله - يوجه قول العباس بن عبد العظيم السابق الذكر توجيها جيدا، حيث حمل زيارة العباس لعبد الرزاق بعد اختلاطه (3) .
قلت: ويمكن أن يكون سبب جرحه لعبد الرزاق بسبب تشيعه، وقد قدمنا بأن هذا لا يؤدي إلى ترك حديثه.
__________
(1) قاعدة في الجرح والتعديل (ص 13) ت. عبد الفتاح أبو غدة.
(2) مقدمة فتح الباري. الفصل التاسع (ص 384) .
(3) مقدمة ابن الصلاح (ص 597) ت. بنت الشاطئ وانظر الكواكب النيرات (273) .(17/284)
الخلاصة:
عبد الرزاق بن همام أحد الحفاظ الأثبات وثقه الأئمة كلهم ما عدا العباس بن عبد العظيم وزيد بن المبارك ولا يعتد بقولهما. ومن حدث عنه قبل المئتين فحديثه صحيح مثل الإمام أحمد والشيخين وأصحاب السنن، ومن حدث عنه بعد ما كف بصره واختلط فحديثه ضعيف مثل أحمد بن شبويه وغيره.(17/284)
آثاره:
المصنف: وسوف نتحدث عنه بعد قليل.
التفسير: قال عنه سزكين: (هذا الكتاب في جوهره صورة معدلة لكتاب معمر بن راشد) . وقال: (ولقد نقل الطبري في تفسيره كل تفسير مؤلفنا هذا برواية الحسن بن الحجر أبي علي بن أبي الربيع الجرجاني) (1) .
قلت: كما يروي التفسير أيضا محمد بن حماد الطهراني عن عبد الرزاق وسلمة بن شبيب عن عبد الرزاق (2) .
وبلغني أن الدكتور عبد الله أبو السعود بدر يعمل على تحقيق هذا الكتاب ولعله في اللمسات الأخيرة الآن.
كتاب الصلاة: قلت: ولعله جزء من المصنف اقتطعه أحد الرواة.
الأمالي في آثار الصحابة (3) : ويتخذ هذا الكتاب أهميته من أنه يمكن أن يعطينا تصورا واضحا عن موقف عبد الرزاق من جميع الصحابة.
المسند: قال ابن كثير: (ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائتين وفيها توفي عبد الرزاق بن همام الصنعاني صاحب المصنف والمسند) (4) .
السنن في الفقه.
المغازي: ولعله الكتاب الموجود في المصنف اقتطعه أحد الرواة.
تزكية الأرواح عن مواقع الإفلاح (5) .
__________
(1) تأريخ التراث (1 \ 1 \ 185) .
(2) فهرسة ما رواه عن شيوخه للأشبيلي (ص 54 - 56) .
(3) أورد هذا الكتاب والكتب التي قبله سزكين (1 \ 1 \ 185) .
(4) البداية والنهاية (10 \ 265) .
(5) أورد هذا والكتابين الذين قبله في هداية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين (1 \ 566) .(17/285)
المصنف:
تعريفه باصطلاح المحدثين: (هو الكتاب المرتب على الأبواب الفقهية والمشتمل على الأحاديث المرفوعة والموقوفة والمقطوعة. أي فيه الأحاديث النبوية وأقوال الصحابة وفتاوى التابعين وفتاوى أتباع التابعين أحيانا) (1) .
__________
(1) أصول التخريج للطحان (ص 134) .(17/286)
الحديث عن المصنف:
المصنف أحد الكتب الجليلة التي وصلت إلينا وصفه الإمام الذهبي بأنه " خزانة علم" (1) وصدق - رحمه الله - فالمصنف مليء بكنوز العلم والمعرفة. رتبه عبد الرزاق على الأبواب الفقهية فكان أولها كتاب الطهارة ثم كتاب الحيض ثم كتاب الصلاة وهكذا حتى وصل إلى كتاب الجامع وهو نهاية الكتاب، وتحت كل كتاب من هذه الكتب أبواب عديدة قد تزيد وقد تقل، وتحت كل باب مجموعة من الأحاديث المرفوعة والموقوفة والمقطوعة وغيرها ولم أهتد إلى الأسلوب الذي رتبها به، ولعله لم يتخذ أسلوبا معينا.
والمصنف من منشورات المجلس العلمي بالهند طبعه وأشرف على تحقيقه فضيلة الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي أحد علماء الهند، وصدرت الطبعة الأولى سنة (1392 هـ) .
__________
(1) الميزان (2 \ 609) .(17/286)
عمل المحقق:
لم يقدم المحقق للكتاب ولم يذكر تعريفا لا بالمؤلف ولا بمؤلفه ولا بعمله في(17/286)
تحقيق هذا الكتاب. لكنه وعد بأن يفرد المقدمة بمؤلف خاص يتحدث فيه عن هذه الأمور، ولكن هذا المؤلف لم يظهر حتى الآن.
وبنظرة عاجلة لأجزاء الكتاب يمكن استنتاج عمل المحقق بالنقاط الآتية:
(أ) عمل على تحقيق الكتاب على عدد من المخطوطات كلها ناقصة ما عدا واحدة فهي شبه كاملة، لكنه لم يصف لنا هذه المخطوطات ولا تأريخ كتابتها لكي نعرف مدى أصالتها؛ لأن المخطوطة التي تكتب في القرن الرابع أو الخامس وعليها سماعات من كبار المحدثين تختلف عن المخطوطة المكتوبة في القرن العاشر أو الحادي عشر وليس عليها سماعات.
(ب) حكم على بعض الأحاديث بالصحة أو الضعف: ولكن هذا قليل جدا بالنسبة لعدد أحاديث المصنف.
(جـ) يعزو بعض أحاديثه إلى بعض كتب السنة ويعتمد اعتمادا كبيرا على كنز العمال، وبشكل عام عزوه للأحاديث يعتبر ضعيفا.
(د) عمل على شرح الكلمات الغريبة ويترجم لبعض الرجال والبلدان والأماكن أحيانا.
) هـ) عمل على ترقيم أحاديث المصنف.
) و) وضع فهرسا موضوعيا لكل مجلد على حده.
قلت وهذه الملاحظات يمكن أن تنطبق على كل كتاب حققه الشيخ حبيب الرحمن.
ونتيجة لهذا الأسلوب من التحقيق وقعت كثير من الأخطاء والتصحيفات لذلك قال الدكتور سهيل زكار: " ولدى قراءتي لكثير من مواد المصنف لاحظت أن هذا الكتاب الجليل محشو بالأخطاء والتصحيفات وأن المحقق عجز عن قراءة نص الكتاب، ثم قرأت قسم المغازي أكثر من مرة فوجدت أن هذا القسم أصابه تشويه كامل بحيث تكاد لا تخلو جملة من جمله من تصحيف أو أكثر " (1) .
__________
(1) المغازي النبوية للإمام الزهري (ص 22) ت. سهيل زكار.(17/287)
وإن كان في هذا شيء من المبالغة والإطلاق غير العلمي: إلا أن فيه شيئا من الصحة لكثرة الأخطاء والتصحيفات في المصنف.(17/288)
رواة المصنف:
1 - (أ) يروي معظم كتب المصنف: أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري قال: قرأنا على عبد الرزاق.
(ب) ويرويه عن إسحاق الدبري أبو القاسم عبد الأعلى بن محمد بن الحسن بن عبد الأعلى البوسي القاضي بصنعاء، وذلك في كتاب المكاتب فقط.
(ج) ويرويه عن إسحاق بن إبراهيم الدبري: أحمد بن خالد وذلك في كتاب الفرائض والجامع فقط.
2 - ويروي كتابي أهل الكتاب والبيوع: أبو الحسن علي بن أحمد الأصبهاني قال: حدثنا محمد بن الحسين بن إبراهيم الطوسي قال: قرأت على محمد بن علي النجار قال: حدثنا عبد الرزاق.
3 - أما كتاب أهل الكتابين فيرويه أبو عمر أحمد بن خالد، قال: حدثنا أبو محمد عبيد بن محمد الكشوري، قال: حدثنا محمد بن يوسف الحذاقي، قال: أخبرنا عبد الرزاق.
وهناك بعض الكتب لم تصدر براو لها ككتاب العقيقة والاعتكاف والمغازي والمواهب والوصايا وغيرها.(17/288)
الحديث عن رواة المصنف:
الطريق الأول: (أ) - أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي: قال عنه الذهبي في تذكرة الحفاظ: " كان ثقة ثبتا عارفا عابدا ربانيا كبير القدر بعيد الصيت " (1) .
__________
(1) تذكرة الحفاظ (3 \ 852) وانظر طبقات الحفاظ للسيوطي (ص 352) .(17/288)
وقال أيضا: " كان كبير الشأن بعيد الصيت عالي الإسناد " (1) .
ولد سنة (246 هـ) ، وتوفي سنة (340 هـ) - رحمه الله -.
إسحاق بن إبراهيم الدبري:
الدبري: نسبة إلى دبر: " بفتح أوله وثانيه: قرية من نواحي صنعاء باليمن " (2) . قال الذهبي: " ورواية عبد الرزاق سمع منه تصانيفه في سنة عشر ومائتين باعتناء أبيه به، وكان حدثا فإن مولده - على ما ذكره الخليلي - في سنة خمس وتسعين ومائة وسماعه صحيح " (3) أي أنه سمع من عبد الرزاق بعد اختلاطه.
وقال إبراهيم الحربي: " مات عبد الرزاق وللدبري ست سنين أو سبع سنين " (4) . وقال ابن عدي: استصغرني عبد الرزاق أحضره أبوه عنده وهو صغير جدا، فكان يقول قرأنا على عبد الرزاق، أي قرأ غيره وحضر صغيرا وحدث عنه بحديث منكر " (5) .
وقال الذهبي تعليقا على قول ابن عدي: " ساق له ابن عدي حديثا واحدا من طريق ابن أنعم الأفريقي يحتمل مثله فأين المناكير؟ والرجل قد سمع كتبا فأداها كما سمعها، ولعل النكارة من شيخه فإنه أضر بآخرة والله أعلم " (6) .
لذلك قال ابن الصلاح: " وقد وجدت فيما روي عن الطبراني عن إسحاق بن إبراهيم الدبري عن عبد الرزاق أحاديث استنكرتها جدا. فأحلت أمرها على ذلك، فإن سماع الدبري منه متأخر جدا " (7) .
__________
(1) النبلاء (15 \ 408) .
(2) معجم البلدان (2 \ 437) والأنساب (5 \ 304)
(3) النبلاء (13 \ 416) .
(4) مقدمة ابن الصلاح (597) ت. بنت الشاطئ.
(5) الكامل (1 \ 338) .
(6) النبلاء (13 \ 417) .
(7) المقدمة (ص 597) ت. بنت الشاطئ.(17/289)
وقال الحاكم: " سألته - أي الدارقطني - عن إسحاق الدبري؟ فقال: صدوق ما رأيت فيه خلافا، إنما قيل لم يكن من رجال هذا الشأن، قلت: ويدخل في الصحيح؟ قال: أي والله ".
وقد احتج أبو عوانة به في صحيحه وأكثر عنه الطبراني (1) ، وقال مسلمة في الصلة: " كان لا بأس به وكان العقيلي يصحح روايته وأدخله في الصحيح الذي ألفه " (2) .
الخلاصة:
صحيح أن إسحاق الدبري تفرد برواية بعض كتب المصنف عن عبد الرزاق وهذا لا يضر، فإنه قد سمع منه بلا ريب، وإذا كان قد سمع منه وهو في سن الخامسة عشرة - على ما ذكر الخليلي - فهو قد سمع في سن واعية وفهم جيد.
وصنيع أبي عوانة والعقيلي في احتجاجهما به في صحيحهما ثم ثناء الدارقطني عليه بقوله: صدوق ما رأيت فيه خلافا، وقوله جوابا لمن سأله: هل يدخل في الصحيح بقوله: إي والله. يفيدنا أنهم يميلون إلى سلامته وصحة روايته، وهم من النقد بمكان وخاصة: الدارقطني. وذلك أن المناكير التي جاءت في روايته ليست منه عندهم، وإنما هي من مناكير عبد الرزاق، رواها إسحاق عنه كما سمعها منه. وبهذا يتحقق قول الدارقطني فيه: " صدوق ما رأيت فيه خلافا، ويدخل في الصحيح "، وقد قال ابن حجر: " والمناكير التي تقع: من حديث عبد الرزاق، فلا يلحق الدبري منه تبعة إلا أنه صحف أو حرف وإنما الكلام في الأحاديث التي عنده في غير التصانيف فهي التي فيها المناكير، وذلك لأجل سماعه منه في حالة
__________
(1) انظر الميزان (1 \ 181) .
(2) لسان الميزان (1 \ 349) .(17/290)
الاختلاط والله أعلم ا. هـ " (1) وكلام ابن حجر هذا وهم جدا، فما يرويه الدبري عن عبد الرزاق صحيح في التصانيف كالمصنف مثلا، لكن ما يرويه في غيره لا يصح. والخطأ الحاصل إنما هو من عبد الرزاق لا من إسحاق الدبري والله أعلم.
الطريق الأول: (ب) أبو القاسم عبد الأعلى بن محمد بن الحسن بن عبد الأعلى البوسي القاضي بصنعاء: وبوس: " بالفتح ثم السكون والسين مهملة قرية بصنعاء اليمن يقال لها: بيت بوس " (2) ولم أجد من ترجم له. وجده الحسن بن عبد الأعلى أحد أصحاب عبد الرزاق (3) .
الطريق الأول:
أحمد بن خالد: لم أعرفه.
الطريق الثاني: لم أجد من ترجم لرواته الثلاثة.
الطريق الثالث: أحمد بن خالد: تقدم أني لم أعرفه.
- أما أبو محمد عبيد بن محمد الكشوري: فالنسبة إلى: " كشور: بالكسر ثم السكون وفتح الواو ثم راء: من قرى صنعاء باليمن " (4) .
قال أبو يعلى الخليلي: " هو عالم حافظ له مصنفات مات سنة ست وثمانين، وقال غيره بل مات في سنة أربع وثمانين ومائتين " (5) .
وأما محمد بن يوسف الحذاقي: فقد قال السمعاني: " ومن أهل صنعاء رجلان أخوان حدثا عن عبد الرزاق بن همام وغيره، وهما محمد وإسحاق ابنا يوسف الحذاقي
__________
(1) اللسان (1 \ 349) .
(2) معجم البلدان (1 \ 508) وانظر اللباب (1 \ 187) .
(3) ترجمته في النبلاء (13 \ 351) والأنساب (1 \ 123) و (2 \ 332) واللباب (1 \ 187) .
(4) معجم البلدان (4 \ 463) وانظر الأنساب (10 \ 439) واللباب (3 \ 100) .
(5) النبلاء (13 \ 350) .(17/291)
روى عنهما عبيد بن محمد الكشوري الصنعاني ذكر هذا جميعه الدارقطني " (1) .
__________
(1) الأنساب (4 \ 98) وانظر اللباب (1 \ 350) .(17/292)
عدد أحاديث المصنف:
يحوي الكتاب (21033) حديثا على حسب ترقيم المحقق. ويحتوي الكتاب على أحاديث مكررة كثيرة، بل تجد أن كتاب " أهل الكتاب " في المجلد السادس يتكرر في المجلد العاشر بعنوان " أهل الكتابين " لكن راوي الكتاب الأول يختلف عن راوي الكتاب الثاني، وبمقارنة هذين الكتابين نجد أن معظم الأبواب تكررت مع العلم أنه يوجد عدد لا بأس به من الكتب في كل مجلد لا يوجد في المجلد الآخر. لذلك قال الأشبيلي: " وكتاب أهل الكتابين من رواية النجار أكمل من رواية الكشوري (1) . وتكرار الأحاديث قد نستفيد منه أحيانا وذلك بأن يروى الحديث في مكان مختصرا وفي مكان آخر مطولا، ومثال ذلك حديث رقم (19125) ذكر مختصرا بينما ذكر برقم (10159) و (20060) مطولا. وأحيانا يذكر للحديث طريقا آخر وذلك يفيدنا في دراسة الإسناد، ومثال ذلك حديث رقم (19375) ذكره برقم (9996) بنفس الإسناد لكن أضاف إليه طريقين آخرين وهما برقم (9997) و (9998) ولكن ذلك قليل.
__________
(1) فهرسة ما رواه عن شيوخه (ص 128) .(17/292)
زوائد المصنف:
تقدم الأستاذ يوسف محمد صديق بأطروحة بعنوان: " زوائد مصنف الحافظ عبد الرزاق الصنعاني على الكتب الست " وذلك لنيل شهادة الدكتوراه بإشراف الدكتور محمود الطحان في كلية أصول الدين: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
- منهجه في الزوائد: قال الباحث: " استعرضت الأحاديث التي في المصنف(17/292)
حديثا حديثا ونظرت في كل حديث على حدة ثم بحثت عنه في الكتب الستة فإن كان فيها أو في أحد منها بلفظه أو بنحوه، وهو عن الصحابي نفسه الذي رواه عنه عبد الرزاق في مصنفه تركته، وإن كان غير موجود فيها جميعا أو وجد ولكن عن صحابي آخر اعتبرته زائدا وسجلته "، (1) .
وقد بلغت الزوائد " 14 ألف حديث زائد " (2) .
قلت: وقد عمل الباحث فهرسا لأطراف الأحاديث الزائدة. وخلال تتبعي لمعظم أحاديث الزوائد تبين لي أن (90%) تقريبا أو يزيد أحاديث موقوفة أو مقطوعة، ونسبة الأحاديث المرفوعة منها قليل جدا، وبهذا يتبين سهولة العمل الذي قام به الباحث حيث إن السنن الأربعة ليس فيها آثارا، وكذا الأمر بالنسبة لصحيح مسلم، أما البخاري فيحوي صحيحه عددا من الآثار. لذلك حينما يقابل الباحث أي أثر في المصنف فإنه ينظر في البخاري فقط، فإن لم يكن فيه فهو قطعا من الزوائد. ولذلك يعتبر المصنف مصدرا خصبا للأحاديث الموقوفة والمقطوعة وما دونها، وكنت أتمنى أن الباحث حاول الحكم على هذه الآثار ولو بشكل مختصر.
__________
(1) رسالة الدكتوراه ''زوائد مصنف عبد الرزاق'' (ص 2) .
(2) رسالة الدكتوراه زوائد مصنف عبد الرزاق (ص2) .(17/293)
نسبة الجامع إلى المصنف:
يرجح الدكتور محمد رأفت السعيد أن: كتاب الجامع الموجود في آخر مصنف عبد الرزاق هو لشيخه معمر وما عبد الرزاق إلا راوية لهذا الكتاب وذلك لعدة أسباب وهي:
1 - ثبت لدينا أن معمرا - رحمه الله - ألف مؤلفا أسماه " الجامع ". ذكر ذلك في طبقات فقهاء اليمن.
2 - أن معظم أحاديث الجامع يرويها عبد الرزاق عن معمر حيث بلغت روايات الجامع (1614) رواية جميعها لمعمر ما عدا (57) رواية. يرى الدكتور(17/293)
بأنها مقحمة فيه إقحاما ويرجح بأن الذي أقحمها هو إسحاق بن إبراهيم راوي كتاب الجامع عن عبد الرزاق.
3 - قال الأشبيلي - رحمه الله -: (وحدثني أيضا بالجامع المضاف إلى مصنف عبد الرزاق وهو جامع معمر) . والأشبيلي من العلماء المتقدمين حيث توفي سنة (575 هـ) .
ومع ذلك يقول الدكتور محمد: (على أن الأمر في ذلك لا يتجاوز الشبهة، لأنه يمكن أن يقال: إن عبد الرزاق بفرط تأثره بشيخه معمر قد أخذ كل مروياته أو جلها وجعلها في كتاب الجامع) (1) .
وفي الطبعة الثانية لمصنف عبد الرزاق الصادرة عام (1403 هـ) صدر كتاب الجامع بالآتي: " كتاب الجامع للإمام معمر بن راشد الأزدي رواية الإمام عبد الرزاق الصنعاني " وظننت أن الشيخ حبيب الرحمن اقتنع بذلك؛ لأن هذا لا يمكن أن يكون تصرفا من الناشر حتى وجدت للشيخ حبيب الرحمن ما يخالف ذلك. ففي مجلة البعث الإسلامي (2) كتب مقالا حول هذا الموضوع وقال: " ونحن متأكدون من أنه لعبد الرزاق لا لغيره كائنا من كان " ويعجب ممن ينسب الجامع لمعمر فيقول: " لكن من العجائب أن هناك من يدعي أن كتاب الجامع الذي ختم به المصنف لعبد الرزاق هو الجامع لمعمر بن راشد ولم يفطن له محقق الكتاب فألحقه في آخر المصنف ". ثم ذكر الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي الأدلة التي تثبت نسبة الجامع لعبد الرزاق، لكن خلال تتبعي لهذه الأدلة لم أجد دليلا قويا يمكن الاعتماد عليه، فالمرجح عندنا نسبة كتاب الجامع لمعمر بن راشد ودور عبد الرزاق فيه هو الرواية فقط.
__________
(1) انظر كتاب معمر بن راشد لمحمد رأفت السعيد (ص83 - 84) (ص121 - 128) .
(2) مجلة البعث الإسلامي الهندية العدد العاشر المجلد (29) رجب (1405 هـ) .(17/294)
نسبة كتاب المغازي أيضا:
يرجح الأستاذ الدكتور سهيل زكار أن: كتاب المغازي الموجود في مصنف(17/294)
عبد الرزاق للإمام الزهري رواه عن تلميذه معمر بن راشد الذي رواه عنه عبد الرزاق - رحمه الله -. لذلك أفرده الدكتور سهيل بالطبع وحققه وعلق عليه (1) .
كما أن الدكتور محمد مصطفى الأعظمي بعد أن ذكر أن ابن النديم نسب لمعمر كتابا في المغازي قال: " ويبدو أنه كتاب المغازي للزهري مع بعض الإضافات من قبل معمر " (2) .
كما يرى نسبة كتاب المغازي الموجود في المصنف لمعمر الدكتور محمد رأفت السعيد أيضا (3) .
__________
(1) انظر كتاب المغازي للزهري. ت. سهيل زكار.
(2) دراسات في الحديث النبوي (1 \ 312) .
(3) معمر بن راشد لمحمد السعيد (ص 84) .(17/295)
درجته:
من أهم مميزات مصنف عبد الرزاق علو إسناده وكونه مرجعا أساسيا لكثير من كتب السنة المتأخرة كالمسند والكتب الستة وغيرها، لكنه يستقي نوعية مادته من مصادر قليلة: حيث نجد أنه يكثر بدرجة ملحوظة عن ثلاثة من شيوخه وهم معمر بن راشد وابن جريج والإمام سفيان الثوري - رحمهم الله أجمعين -، ولا شك بأن تنوع مصادر المادة العلمية من الأمور الهامة جدا.
ومصنف عبد الرزاق كتاب نفيس وسفر عظيم يحوي من الكنوز ما لا حصر لها، ولكنه مع ذلك يحوي عددا كثيرا من الأحاديث الضعيفة بل والأحاديث الموضوعة أيضا.
ولنضرب عل الأحاديث الموضوعة مثالا:
أخبرنا عبد الرزاق عن أبيه عن ميناء عن عبد الله بن مسعود قال: «كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة وفد الجن. قال: فتنفس، فقلت ما شأنك يا رسول الله؟ قال: نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود! قلت: فاستخلف: قال: من؟ قلت: أبو بكر (1) » . . . الحديث (2) .
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/449) .
(2) مصنف عبد الرزاق كتاب الجامع باب في ذكر علي بن أبي طالب (11 \ 317) رقم (20646) .(17/295)
وفيه ميناء وهو كذاب.
وقال ابن حجر العسقلاني - رحمه الله -: " مما أنكر على عبد الرزاق روايته عن الثوري عن عاصم بن عبيد الله عن سالم عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «رأى على عمر ثوبا فقال: أجديد هذا أم غسيل (1) » . الحديث قال الطبراني في الدعاء: رواه ثلاثة من الحفاظ عن عبد الرزاق وهو مما وهم فيه عن الثوري، والصواب عن عمر عن الزهري عن سالم. انتهى. وقد قال النسائي: ليس هذا من حديث الزهري ا. هـ. " (2) .
قلت: لم أجده بهذا الإسناد في المصنف بل وجدته في المصنف من حديث معمر أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى على عمر قميصا أبيض (3) » . . . . . الحديث (4) .
أي أنه في المصنف من الطريق الصحيح، مع العلم أن الإمام أحمد رواه في مسنده عن طريق عبد الرزاق، وصحح إسناده أحمد شاكر (5) . وقال الهيثمي بعد أن عزاه إلى أحمد والطبراني: " ورجالهما رجال الصحيح " (6) .
قلت: فلعل الرواية التي انتقدت عليه بذاك السند إنما هي من حفظه لا من كتابه، أو أنها في أحد كتبه التي لا تطبع كالأمالي في آثار الصحابة أو غيره والله أعلم.
__________
(1) سنن ابن ماجه اللباس (3558) ، مسند أحمد بن حنبل (2/89) .
(2) التهذيب (6 \ 315) .
(3) سنن ابن ماجه اللباس (3558) ، مسند أحمد بن حنبل (2/89) .
(4) مصنف عبد الرزاق (11 \ 223) رقم (20382) .
(5) المسند (8 \ 25) ت. شاكر.
(6) مجمع الزوائد (9 \ 73 - 74) ''.(17/296)
سبيل الاحتجاج بأحاديث المصنف:
ولعل سائلا يسأل: " إذا كان المصنف يحتوى على الأحاديث الضعيفة والموضوعة فما هو السبيل للاحتجاج بأحاديثه ". قلنا له: أجاب على ذلك الحافظ ابن حجر - رحمه الله - قال: " السبيل لمن أراد الاحتجاج بحديث من السنن(17/296)
الأربعة لا سيما سنن ابن ماجه، ومصنف ابن أبي شيبة، ومصنف عبد الرزاق مما الأمر فيه أشد، أو بحديث في المسانيد لأن هذه لم يشترط جامعوها الصحة والحسن: أنه إن كان أهلا للنقل والتصحيح فليس له أن يحتج بشيء من القسمين حتى يحيط به، وإن لم يكن أهلا لذلك فإن وجد أهلا لتصحيح أو تحسين قلده وإلا فلا يقدم على الاحتجاج كحاطب ليل فلعله يحتج بالباطل، وهو لا يشعر؟ ! " (1) .
وقال ولي الله دهلوي بعد أن قسم طبقات الحديث إلى خمس طبقات: " والطبقة الثالثة: مسانيد وجوامع ومصنفات قبل صنف قبل البخاري ومسلم وفي زمانهما وبعدهما جمعت بين الصحيح والحسن والضعيف والمعروف والغريب والشاذ والمنكر والخطأ والصواب والثابت والمقلوب. ولم تشتهر في العلماء ذلك الاشتهار كمسند أبي يعلى ومصنف عبد الرزاق ومصنف أبي بكر بن أبي شيبة ومسند عبد بن حميد ومسند الطيالسي وكتب البيهقي والطحاوي والطبراني. وكان قصدهم جمع ما وجدوه لا تلخيصه وتهذيبه وتقريبه من العمل، ولم يتداول الفقهاء ما تفردت به كثير تداول. ولم يفحص المحدثون عن صحتها وسقمها كثير فحص. ولم يخدمه لغوي بشرح غريب ولا فقيه بتطبيقه بمذاهب السلف ولا محدث ببيان مشكله ولا مؤرخ بذكر أسماء رجاله، ولا أريد المتأخرين المتعمقين وإنما كلامي في الأئمة المتقدمين من أهل الحديث. فهي باقية على استتارها واختفائها وخمولها، فلا يباشرها للعمل عليها والقول بها إلا النحارير الجهابذة الذين يحفظون أسماء الرجال وعلل الحديث. نعم ربما يؤخذ فيها المتابعات والشواهد، وقد جعل الله لكل شيء قدرا " (2) .
والخلاصة في ذلك أنه يجب عرض أحاديث المصنف على القواعد الحديثية وذلك بتتبع رجاله تتبعا دقيقا وسبر متنه سبرا واعيا.
__________
(1) المرقاة شرح المشكاة لعلي الغازي (1 \ 21) .
(2) حجة الله البالغة (1 \ 107) .(17/297)
توصيات واقتراحات:
من خلال جولتنا التي عشناها مع المصنف قبل قليل رأينا أنه في حاجة ماسة للأمور التالية:
1 - يجب مراجعته على عدد من المخطوطات ويحرص على المتقدم منها لأصالتها: وإثبات الفروق بين هذه المخطوطات.
2 - تحقيق صحة نسبة الكتاب لعبد الرزاق وتتبع رواة المصنف تتبعا دقيقا، وتحقيق صحة نسبة الكتب للمصنف خاصة وأنا قد رأينا قبل قليل أن بعض الباحثين يرى نسبة بعض الكتب لشيوخه لا له.
3 - مقارنة المصنف مع الكتب الحديثة المتأخرة عنه والتي تعتمد عليه كالمسند والكتب الستة وغيرها.
4 - تخريج أحاديثه تخريجا علميا دقيقا يعتمد فيه على الكتب الأصلية كالمسند والكتب التسعة وغيرها من كتب السنة. ولا يعتمد فيه على الكتب الوسيطة ككنز العمال وتحفة الأشراف وجامع الأصول وتكون هي الأساس.
5 - الحكم على أحاديثه من حيث الصحة والضعف على حسب القواعد الحديثية المقررة في مصطلح الحديث، ويستنار في ذلك بأحكام المتقدمين عليها.
6 - إخراج الكتاب بصورة علمية أفضل مما هي عليه الآن. بالإضافة إلى مقارنة أبواب الكتاب مع بعضها البعض والإشارة إلى ما يتكرر من الأحاديث.
7 - إخراج تهذيب للمصنف يقتصر فيه على الأحاديث النبوية غير المكررة مع مزيد ترتيب وتنظيم وإخراج.
8 - ضبط غريبه وشرحه والرجوع في ذلك لكتب اللغة كاللسان والقاموس والصحاح وغيرها بالإضافة إلى ترجمة ما يشكل من رجاله.
9 - وضع فهارس علمية لأطراف الأحاديث، تفصل فيه الأحاديث عن الآثار. وإن كان في ذلك شيء من الصعوبة إلا أن الأمر يقتضي ذلك، لكي يخرج الكتاب بشكل جيد.
هذا ما تيسر طرحه من مقترحات، ولا شك أن هذا يحتاج إلى جهد وعمل(17/298)
ليس باليسير، لكن أهمية الكتاب تتطلب منا ذلك، ونسأل الله - عز وجل - أن يقيض لكتب السنة رجالا أكفاء يقصدون بعملهم وجه الله - عز وجل - إنه ولي ذلك وهو على كل شيء وكيل.(17/299)
أمثلة للأحاديث التي رواها الأئمة من طريقه:
(أ) مسند الإمام أحمد:
1 - قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، ثنا معمر عن قتادة عن مطرف عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في سجوده أو ركوعه: «سبوح قدوس رب الملائكة والروح (1) » .
2 - وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن عائشة وابن عباس أخبراه: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما حضرته الوفاة جعل يلقي على وجهه طرف خميصة له فإذا اغتم كشفها عن وجهه وهو يقول: " لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (2) » . تقول عائشة: يحذر مثل الذي صنعوا.
(ب) البخاري:
قال البخاري: حدثنا يحيى، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن همام، سمع أبا هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن
__________
(1) المسند (6 \ 200) ورواه من طرق مختلفة في (6 \ 34 - 35و 94 و 115 و 148و 149و 176و 193و 244 و 265 و 226) وهو في المصنف لعبد الرزاق (2 \ 157) برقم (2884) كما رواه مسلم (1 \ 353) برقم (487) وأبو داود (1 \ 230) برقم (872) والنسائي (2 \ 224) والبغوي في شرح السنة (3 \ 106) وكلهم من طريق قتادة عن مطرف عن عائشة.
(2) صحيح البخاري المغازي (4444) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .(17/299)
شئت، ارحمني إن شئت، ارزقني إن شئت، وليعزم مسألته إنه يفعل ما يشاء لا مكره له (1) » .
(جـ) مسلم:
قال مسلم: حدثنا حجاج بن الشاعر، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه «أن رجلا نشد في المسجد فقال: " من دعا إلى الجمل الأحمر " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له (2) » .
(د) وأخيرا من أجمل الأمثلة ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ. قال فقال له رجل من أهل حضرموت ما الحدث يا أبا هريرة قال: فساء وظراط (3) » .
هذا الحديث رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي جميعهم من طريق الإمام عبد الرزاق.
__________
(1) البخاري (13 \ 448) ورواه من طريق آخر (11 \ 139) وهو في مصنف عبد الرزاق (10 \ 441) ورواه أيضا مالك (1 \ 213) وأحمد (2 \ 463 و 464) والحميدي (2 \ 427) ومسلم برقم (1878) من مختصر المنذري وابن ماجه (2 \ 346) والترمذي من طريق مالك (5 \ 526) والنسائي في عمل اليوم والليلة (ص 387) والبيهقي في الاعتقاد من طريق عبد الرزاق والطبراني في الصغير (1 \ 63) وأبو نعيم في تأريخ أصبهان من طريق الطبراني (2 \ 187) .
(2) مسلم (1 \ 397) من طريق عبد الرزاق كما رواه أيضا من طريق ابن أبي شيبة. وهو في مصنف عبد الرزاق (1 \ 440) برقم (1721) كما رواه الطيالسي (ص 108) وأحمد (5 \ 360و 361) وابن ماجه (1 \ 138) رقم (749) وابن خزيمة (2 \ 273) رقم (1301) وجميعهم من طريق علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه.
(3) مصنف عبد الرزاق (1 \ 139) برقم (350) وأحمد (15 \ 16) برقم (8064) ت. شاكر والبخاري (1 \ 234) رقم (135) ومسلم (3 \ 104) شرح النووي والترمذي (1 \ 110) رووه كلهم من طريق عبد الرزاق بواسطة. أما أحمد فرواه مباشرة عن عبد الرزاق كما رواه أبو داود (2 \ 16) رقم (60) من طريق أحمد عن عبد الرزاق.(17/300)
الاحتساب الحاجة إليه ومنزلته في الأديان السابقة
الاسم: محمد عثمان صالح.
تاريخ الميلاد: 1942 م.
محل الميلاد: مروى - شمال السودان.
الدراسة الجامعية: بكالوريوس شريعة جامعة أم درمان الإسلامية 1966 م.
الدراسات العليا: ماجستير ودكتوراه في مقارنة الأديان.
من جامعة أدنبرة بالمملكة المتحدة 1982 م.
الوظائف الإدارية والعلمية:
- رئيس سابق لقسم العقيدة ومقارنة الأديان بجامعة أم درمان.
- عميد سابق لكلية الدراسات الإسلامية بأم درمان حتى 1982 م.
- حاليا معار للمعهد العالي للجامعة الإسلامية " جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - بالمدينة المنورة ".
- رئيس قسم الاستشراق فيه.
النشاطات العلمية:
- حضر عديدا من المؤتمرات العلمية.
- يشارك ببعض البحوث والمقالات في الصحف والمجلات.
- له بعض البحوث والكتب تحت الطبع، منها:
- المدخل لدراسة الأديان.
- صراع أهل الأديان.
- الاحتساب وأثره في بناء المجتمع.
النشاطات الأدبية:
- له مشاركات أدبية وخاصة في مجال الشعر.
- عضو اتحاد الأدباء السودانيين.
- من الأعضاء المؤسسين لجامعة الفكر والثقافة الإسلامية بالسودان.(17/301)
الاحتساب
الحاجة إليه ومنزلته في الأديان السابقة
وتفضيل أمة الإسلام به.
بقلم: د. محمد عثمان صالح.
(أ) التعريف به:
الاحتساب لغة - هو العد والإحصاء، من الفعل احتسب يحتسب إذا عد، ويأتي أيضا بلفظ الحسبة إذا جاء من الفعل حسب يحسب. والحساب - كما هو معروف - العد والإحصاء. قال الجوهري: " حاسبته من المحاسبة، واحتسب عليه كذا إذا أنكرته عليه. قال ابن دريد: واحتسبت بكذا أجرا عند الله. والاسم الحسبة، وهي الأجر. ولذا يقال لمن مات له ولد أنه احتسب أجره عند الله تعالى.
والإنسان الذي يقوم بما يتعلق بهذا الأمر يسمى (محتسبا) لأن الأصل فيه أن يحتسب أجره عند الله تعالى. ويوضحه قول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (1) » . متفق عليه.
__________
(1) رواه البخاري - في الإيمان - فتح الباري شرح صحيح البخاري ص 92.(17/302)
أما تعريف الاحتساب في الاصطلاح فهو:
أمر بمعروف إذا ظهر تركه. ونهي عن منكر إذا ظهر فعله. وعلى هذا فالاحتساب ينبني على عمودين:
العمود الأول:
" الأمر بالمعروف، والمطلوب فيه دعوة الناس إلى الحق والخير والعدل، إذ المعروف هو كل قصد، أو قول، أو فعل حسنه الشرع وأمر به، وتعارف عليه الناس أنه من أمر الله.
والعمود الثاني:
هو " النهي عن المنكر "، والمطلوب فيه إرشاد الناس، بحبسهم عن الوقوع في الإثم والظلم والشر؛ لأن هذه المعاني تئول كلها إلى المنكر " من العزائم والأقوال والأفعال، التي أنكرها الشرع وقبحها، ونهى عنها، وتعارف الناس على أنها شر فأنكروها فأصبحت لذلك " منكرا ". وبعبارة حديثة الحسبة: هي رقابة اجتماعية يقوم بها الأفراد، أو المجتمع. أو رقابة إدارية تنظمها الدولة تحقيقا للخير والعدل، ودفعا للشر والإثم.(17/303)
(ب) حاجة الطبيعة البشرية للاحتساب:
" إن الطبيعة البشرية المتفردة، المتغيرة، في حاجة دائمة للاحتساب الذي هو دعوة متجددة إلى الخير، ونهي مستمر عن الشر. ذلك أن الإنسان - في الغالب - كائن غريب الأطوار، لا يستقر على حال، خاصة في أمر الهدى والضلال، والطاعة والعصيان، أو الكفر والإيمان. . . فهو يحتاج للاحتساب لأمور تتعلق بقلبه، وعقله، ونفسه، وطبعه.(17/303)
أولا: فيما يتعلق بقلبه: فإن القلب سمي بذلك؛ لأنه متقلب لا يستقر على حال. كما قال الشاعر فيه وفي حامله:
وما سمي الإنسان إلا لنسيه ... وما القلب إلا أنه يتقلب
فهو يتقلب بين غني مطغي، وفقر منسي، وهو في حالة كفره ليس كمثله في حالة إيمانه، وهو في حالة إيمانه بين أصبعين من أصابع الرحمن، ولذا لزم تذكيره، والدعاء له بالثبات، بمثل دعاء المصطفى - صلى الله عليه وسلم: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك (1) » .
ثانيا: فيما يتعلق بعقله: فإن العقل وحده لا يكفي في الوصول إلى الرشاد، إذ لا يعدو أن يكون في بعض الأحيان مثل آله - لا يحسن استخدامها، فتضر أكثر مما تفيد، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (2) .
ثالثا: فيما يتعلق بنفسه فهي في جبلتها أمارة بالسوء، فلا بد أن يتولاها صاحبها بالمجاهدة، ويتعهدها المربون بالعناية والتذكير حتى ترتفع من درجة الأمارة؟ إلى درجة (اللوامة) إلى درجة (المطمئنة) ؛ لأن الله فطرها قابلة لتنزل الخير والشر قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} (3) {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (4) {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} (5) {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (6) .
رابعا: فيما يتعلق بطبعه مما ركب فيه من ميول وغرائز وجنوح للشهوات يقول الله تعالى مبينا هذا الجانب:
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (7) .
__________
(1) سنن الترمذي القدر (2140) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3834) .
(2) سورة الأعراف الآية 179
(3) سورة الشمس الآية 7
(4) سورة الشمس الآية 8
(5) سورة الشمس الآية 9
(6) سورة الشمس الآية 10
(7) سورة آل عمران الآية 14(17/304)
ولذا فإن الإنسان إذا ما حصل على بغيته من متاع الدنيا، وسارت معه ريح الشهوات كما يهوى، فإنه ينسى كل شيء حتى نفسه التي بين جنبيه، بل وينسب لها ما ليس لها، ويدعي فيما أوتي من متاع مثل ادعاء قارون:
{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} (1) .
ولذا لزم تذكيره، كي لا يعدو قدره، ويتجاوز حده. . . . ومن طبع الإنسان أيضا حين يحصل مراده، وما تشتهيه نفسه أن يجنح إلى الطغيان، وتلك حقيقة ثابتة قررها القرآن الكريم في قوله عز وجل:
{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} (2) {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (3) .
ومن شأن الطغيان أن يحمل على الظلم، ومن شأن صاحبه أن يكون كنودا جحودا كما جاء بيانه في الآية:
{إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} (4) {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} (5) {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (6) .
ولكن بإيزاء هذه الصفات التي تصطرع في داخله، نرى أن الله تعالى قد منحه صفات أخرى فيها من السمو والكمال ما يرفعه إلى آفاق عليا - إذا استقام عليها وأخذ بعزائمها، فقد أعطاه منحة العقل، الذي به يعرف الهدى، أعطاه خاصية التعبير الذي به يبين، وميزه بفضيلة التعليم حتى يغاير البهيم. وذلك كله من رحمته - سبحانه - التي تجلت في اسمه الفريد " الرحمن "، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ} (7) {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} (8) {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} (9) {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (10) . ومن الصفات التي امتن الله تعالى بها على الإنسان، وجعلها من آياته: الرحمة التي أودعت بين جنبيه، والمودة التي تملأ نفسه، والعطف الذي يخالط شغاف
__________
(1) سورة القصص الآية 78
(2) سورة العلق الآية 6
(3) سورة العلق الآية 7
(4) سورة العاديات الآية 6
(5) سورة العاديات الآية 7
(6) سورة العاديات الآية 8
(7) سورة الرحمن الآية 1
(8) سورة الرحمن الآية 2
(9) سورة الرحمن الآية 3
(10) سورة الرحمن الآية 4(17/305)
قلبه، والصبر الذي يتحلى به، والحياء الذي يزينه، والعفة التي ترفعه، والإيمان والتقوى اللذان يحلقان به بعيدا عن دنيا الغافلين.
ولكن هذه الأخلاق قلما تصفو في النفس، وقلما يحتمل الصبر على عنتها معظم الناس، لذا فإن الحق تبارك اسمه يقول:
{وَالْعَصْرِ} (1) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (2) .
ولا يستثنى من ذلك: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} (3) بقلوبهم ونطقوا بألسنتهم، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (4) بجوارحهم، {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} (5) وهو أداء الطاعات، وترك المحرمات {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (6) على المصاب، وأذى من يؤذي، ممن يأمرونه بالمعروف، وينهونه عن المنكر (7) .
وعند التأمل في هذه السورة، نعلم أنها قد شخصت الداء وأعطت الناجع من الدواء. . . روي عن الإمام الشافعي - رضي الله عنه - أنه قال: " لو فكر الناس كلهم في سورة العصر لكفتهم ".
وخلاصة القول نجدها فيما ذكر الإمام ابن تيمية - رحمه الله - إن الأمر والنهي لازمان للإنسان. ". . . وكل البشر على وجه الأرض فلا بد له من أمر ونهي، ولا بد أن يؤمر وينهى، حتى لو أنه وحده لكان يأمر نفسه وينهاها، إما بمعروف، وإما بمنكر كما قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} (8) انتهى.
ولا شك أن هذا الذي قررناه يسقط زعم بعض مرضى القلوب، ممن يرفضون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنهم يخدعون الناس ببريق الألفاظ الزائفة
__________
(1) سورة العصر الآية 1
(2) سورة العصر الآية 2
(3) سورة العصر الآية 3
(4) سورة العصر الآية 3
(5) سورة العصر الآية 3
(6) سورة العصر الآية 3
(7) انظر مختصر تفسير ابن كثير للصابوني، ج 3، ص 674 (طبع دار القرآن) ، بيروت 1981 م) .
(8) سورة يوسف الآية 53(17/306)
" كاحترام الحرية الشخصية " و " رفض الوصاية على الناس " و " رفض التعصب " و " البعد عن الهوس الديني ".
أما حقيقة ما يريد هؤلاء فهو شيوع الفاحشة، وإباحة المعصية، واتباع الشيطان، ومخالفة أمر الرحمن، وأصدق دليل على هذا نقول - قول الله تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} (1) .
ولنستعرض الآن بعض هذه الألفاظ التي يصرفون بها الناس عن تلقي الهدى، أو الدعوة إليه، لنرى أي مهلكة يريدها هؤلاء للمؤمنين؟ فدعوى الحرية الشخصية (التي راجت في المجتمعات الغربية) تقف في وجه الدعوة إلى الله؛ لأنهم يأخذونها بمعنى (الإباحة، لكل ما هو محظور، وإتيان كل (منكر) والامتناع عن أداء كل ما هو " معروف ". فهم بهذه الدعوة يريدون منع " الاحتساب " على أصحاب المعاصي. وهذه دعوى باطلة لأن حرية الشخص تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، بمعنى أن فاعلي الشرور والآثام إذا تركوا على هواهم فإنهم لا ريب ضارون ومنقصون لحريات الآخرين، فإذا ترك الأمر للسكارى والمدمنين مثلا - على ما يشتهون - كما يكون الحال قبل الأخذ بالأحكام الشرعية أو حين التراخي في تطبيقها - فإنهم لن يتركوا موضعا إلا وتفوح منه رائحة الخمر، ولا يرضيهم إلا أن تكون الخمر والمخدرات في كل ركن وبيت كما كان مشاهدا.
وإذا تركت الأمور لأهل الخنا والفجور، فإنهم لا يرضون بديلا لإشاعة الفاحشة؛ لتعم رائحة الرذيلة كل الأرجاء. . . وإذا تركنا الأمر للطامعين في أموال الناس ومقدرات الأمة، من اللصوص الكبار والمرتشين والغاصبين فكيف الحال ساعتئذ؟ . وقد رأى الناس منهم الويلات رأي العين! ! .
أما قضية " رفض الوصاية على الآخرين " فإنها بدعة روجها العلمانيون والشيوعيون، ودعاة " الطاهوية " من الجمهوريين. . . لأن هؤلاء يريدون للمجتمع أن يكون بلا دعاة أو رعاة أو آباء مربين أو قوم صالحين، ولذا تركزت
__________
(1) سورة النساء الآية 27(17/307)
حملاتهم على من أسموهم برجال الدين في كل المؤسسات الإسلامية، كالقضاء الشرعي والمعاهد العلمية، حتى إذا ما شوهوا صورتهم عند الناس، خلا لهم الجو ليروجوا الباطل من دعوتهم.
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (1) .
إن حال الذين يصرفون الناس عن الحق بهذه الحجة ليس بأفضل من حال زعيم الجاهلية الذي ذمه الله تعالى بقوله:
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} (2) {عَبْدًا إِذَا صَلَّى} (3) {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى} (4) {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} (5) {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} (6) {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} (7) .
أو كشأن الجاهلي الآخر الذي نهى الله عن طاعته فقال:
{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} (8) {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} (9) {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} (10) {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} (11) {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} (12) {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (13) .
فعلى أبناء المسلمين أن ينتبهوا لما يدبر لهم من أخطار، وعلى كافة الأمة الأخذ على أيدي السفهاء. . . وعلى علماء الأمة بيان حالهم الذي يسهل كشفه حتى لو احتمى بعض هؤلاء " بالتقية " وإظهار التكيف مع الأوضاع الجديدة، وعلى أولياء الأمور ورجال الدعوة معرفة المندسين والمدسوسين مهما احتموا بحصون النفاق والمسايرة، وإن معرفتهم يسيرة إذ يقول الله تعالى فيهم:
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} (14) {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} (15) .
__________
(1) سورة يوسف الآية 21
(2) سورة العلق الآية 9
(3) سورة العلق الآية 10
(4) سورة العلق الآية 11
(5) سورة العلق الآية 12
(6) سورة العلق الآية 13
(7) سورة العلق الآية 14
(8) سورة القلم الآية 10
(9) سورة القلم الآية 11
(10) سورة القلم الآية 12
(11) سورة القلم الآية 13
(12) سورة القلم الآية 14
(13) سورة القلم الآية 15
(14) سورة محمد الآية 29
(15) سورة محمد الآية 30(17/308)
(ج) الاحتساب في الأديان السابقة:
الدعوة إلى الله تعالى هي طريق كل الدعاة الصادقين، والنهج الرباني لهذه(17/308)
الدعوة هو الذي سارت عليه الأنبياء ومن تبعهم من الأمم " منذ أن تفضل الله بهدايته على الإنسان عبر الأزمان، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1) .
وقال سبحانه:
{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} (2) .
من هنا نعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانا في الأديان السابقة، ولذا فإننا نرد دعوى من ادعى أن ذلك الأمر خاص بأمة محمد دون الأمم الأخرى، ذلك أن الإنسان في كل الأزمان وعلى كل الأحوال - كما بينا - يحتاج إلى الهداية، والموعظة، والتذكير، ثم الزجر، والمنع، والردع. . . وحيثما كانت رسالة كانت دعوة، وحيثما كانت دعوة فهناك احتساب.
وصحيح أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصبح ميزة من مميزات أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنها هي التي حافظت عليه حين أضاعته الأمم الأخرى من يهود ونصارى. وهذه الميزة أضحت مناط أفضلية أمة الإسلام على الأمم الأخرى كما سنذكره - إن شاء الله - لكن الاحتساب بمعنى الدعوة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قديم قدم انحرافات البشرية؛ لأن أمرها على هذا لا يستقيم بدونه، وأول الإشارات فيه تعود إلى عهد نوح (عليه السلام) . فقد جاء في القرآن الكريم:
{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا} (3) {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} (4) {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} (5) {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا} (6) {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} (7) .
__________
(1) سورة الحديد الآية 25
(2) سورة هود الآية 116
(3) سورة نوح الآية 5
(4) سورة نوح الآية 6
(5) سورة نوح الآية 7
(6) سورة نوح الآية 8
(7) سورة نوح الآية 9(17/309)
ومن بعد نوح جاء لقمان (عليهما السلام) وكانت وصيته لابنه وهو يعظه دليلا على اهتمام واضح بدعوى الاحتساب كما جاء في الآية:
{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (1) .
وهذه الوصية تجمع ثلاث خصال من خصائص الأمة التي تأمن الخسران في الدنيا، وتضمن الجنات في الآخرة: وهذه الخصال هي:
- العمل الصالح المتمثل في الصلاة.
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- الصبر. . الذي هو عدة الدعاة.
ثم جاءت رسالة موسى وهارون (عليهما السلام) ، والتي اهتدى بهداها من شاء الله له الإيمان والنجاة، وضل عنها آخرون من السفهاء البغاة. وترددت في القرآن الكريم أصداء مواقف هؤلاء المؤمنين وأولئك الكافرين، فعن الفئة الأولى المؤمنة يقول تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (2) .
أما عن الفئة الثانية الباغية فيقول سبحانه:
{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (3) .
ويدور الحوار بين الفئتين حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. . حتى ليظن بعض أفراد الفئة المؤمنة أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (بالوعظ والتذكير) قد لا يفيد مع المعاندين، ولكن سلامة الفهم عند بعضهم تشير إلى قضية أخرى هامة، وهي أن الاحتساب في حد ذاته أمر واجب، وبه يحصل الإعذار. . . وقد تحصل به التزكية والتسامي على الباطل. وهذا كله نجده في قوله تعالى عن جيل من بني إسرائيل:
__________
(1) سورة لقمان الآية 17
(2) سورة الأعراف الآية 159
(3) سورة الأعراف الآية 166(17/310)
{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (1) {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (2) .
ثم شاع الانحراف في اليهود بعد ذلك حيث طال عليهم الأمد وقست قلوبهم ونسوا حظا مما ذكروا به، وضلوا كما ضلت قبلهم أمم، وكان السبب الأساسي لانحرافهم هو ترك الاحتساب كما قال الصادق المصدوق محمد - صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول، يا هذا اتق الله، دع ما تصنع، فإنه لا يحل لك! ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض (3) » .
وفي كتب أنبياء بني إسرائيل في " العهد القديم " دعوة صريحة لإقامة الاحتساب، والحض على الأمر والنهي، وتعلم العلم، ففي سفر الأمثال المنسوب لسليمان (عليه السلام) جاء:
" لتعط الجهال ذكاء، والشاب معرفة وتدبرا. . يا بني لا تسلك في الطريق معهم، امنع رجلك عن مسالكهم؛ لأن أرجلهم تجري إلى الشر، وتسرع إلى سفك الدم ".
ثم يخاطب الجميع قائلا:
" ارجعوا عند توبيخي. . . لأني دعوتكم فأبيتم؟ ومددت يدي وليس من يبالي، بل رفضتم مشورتي " (4) .
وفي سفر أرمياء:
" ويل للرعاة الذين يهلكون، ويبددون غنم رعيتي. . . . هاأنذا أعاقبكم على شر
__________
(1) سورة الأعراف الآية 164
(2) سورة الأعراف الآية 165
(3) هذا النص من رواية أبي داود رواه الترمذي وقال حسن غريب.
(4) أمثال 1: 1 - 25.(17/311)
أعمالكم. . . لأن الأرض امتلأت من الفاسقين؛ لأنه من أجل اللعن ناحت الأرض وجفت مراعي البرية وصار سعيهم للشر، وجبروتهم للباطل. . . ولو وقفوا في مجلس لأخبروا شعبي بكلامي، وردوهم عن طريقهم الرديء، وعن شر أعمالهم " (1) .
ومن أجل أن بني إسرائيل تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يستمعوا لنداءات الأنبياء أو المصلحين الصادقين حكم الله عليهم - من أجل ذلك - بالطرد من رحمته واللعن، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (2) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (3) .
ويوم أن انصرفوا عن الهدى جاء الإنذار بتصرم عهدهم، كما جاءت البشرى ببزوغ فجر جديد، ونور مضيء، حادي ركبه الرسول النبي الأمي، والمهتدون به هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. كما جاء وصفهم في التوراة والإنجيل وأكده القرآن الكريم في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (4) .
__________
(1) أرمياء 23: 1 - 3، 10 - 11، 23.
(2) سورة المائدة الآية 78
(3) سورة المائدة الآية 79
(4) سورة الأعراف الآية 157(17/312)
(د) تفضيل أمة الإسلام بالاحتساب:
لقد مر بنا قبل قليل أن الله تعالى وصف نبيه محمدا (صلى الله عليه وسلم) في كتبه المقدسة بأنه الرسول النبي الأمي الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، الذي يضع عن أمته إصرهم والأغلال. وذلك بفضل الله ثم بالدعوة الخالصة. ولقد تجاوز فضل الدعوة مداه إذ لم يقف الأمر عند حد الآصار والأغلال بل(17/312)
فاضت البركات على أمة البشير النذير حيث تمثلت هديه، وامتثلت أمره، وتأسست باحتسابه، فرفع الله مقامها بإيمانها، وفضلها على سائر الأمم باحتسابها. قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) ، فجعل الله تعالى هذه الخيرية متعلقة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما علق الأمر والنهي بالإيمان ذاته بل ذلك من أصدق علاماته، كما أن عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أظهر علامات النفاق.
في المثال الأول يقول سبحانه:
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) .
كما جعل ذلك مع المحافظة على الحدود تاجا لصفات؛ بها يتحقق كمال العبودية لله تعالى. أما الذين يتحلون بذلك التاج فهم:
{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} (3) .
وفي المثال الثاني يقول عز من قائل:
{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4) .
وهم في ذلك إنما يتبعون خطوات الشيطان الذي لا يضره شيء مثل قيام الناس بهذه الفريضة، ولا يسره شيء مثل ترك الناس لها.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة التوبة الآية 112
(4) سورة التوبة الآية 67(17/313)
{فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (1) .
ومن أجل إبعاد الشيطان، وإبطال كيده، أمر الله بالذكر والتذكير وتجنب مخالطة العصاة من أصحاب السوء قال تعالى في كتابه الكريم:
{وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (2) .
ويقول جل شأنه:
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (3) .
__________
(1) سورة النور الآية 21
(2) سورة الأنعام الآية 68
(3) سورة الأعراف الآية 201(17/314)
مناهجنا والتربية الإسلامية
للدكتور: محمد عثمان كشميري.
مقدمة:
إن مسألة التعليم في البلاد الإسلامية مسألة مستقلة قائمة بذاتها؛ لأن الأمة الإسلامية أمة خاصة في طبيعتها ووضعها، وهي أمة ذات مبدأ وعقيدة، ورسالة ودعوة، فيجب أن يكون تعليمها خاضعا لهذا المبدأ والعقيدة، وهذه الرسالة والدعوة. و " التعليم " أداة الأجيال التي تؤمن بهذا المبدأ، وتدين بهذه العقيدة، وتحمل هذه الرسالة، وتؤدي هذه الدعوة، وكل تعليم لا يؤدى هذا الواجب أو يغدر بذمته، ويخون في أمانته فليس هو التعليم الإسلامي بل هو التعليم الأجنبي، وليس هو البناء والتعمير بل هو الهدم والتخريب، وأولى للبلاد الإسلامية أن تتجرد منه وتحرم من ثماره المادية، فالأمية خير لها من التعليم الذي يرزأها في طبيعتها وعقيدتها.
إن قضية البحث حول أسلمة المعرفة تأخذ أشكالا ومظاهر واهتمامات متعددة، أهمها قضية ازدواجية المعرفة وجمودها وتخلفها لدي الأمة الإسلامية.
إن أسلمة المعرفة إنما يعني في الحقيقة ذلك المجهود الذي يستوعب هذه العلوم داخل هيكل إسلامي، يهدف استعمالها لجني أكبر مردود للمجتمع الإسلامي. إنها محاولة لفهم ربما لتبني - كل ما هو جيد في هذه العلوم وإدماجه مع العلوم(17/315)
الإسلامية (1) .
وسوف نستعرض في هذا البحث حقيقة الواقع الإسلامي ومناهجه التربوية، والمشكلات التي تعترضه والمقترحات لتطويره.
__________
(1) م أقاضى - أسلمة المعارف الحديثة.(17/316)
الحضارة الغربية وموقفها من الإنسانية:
في هذه الفترة الحرجة التي تمر بها البشرية - الفترة التي يصل فيها الفزع إلى غايته، والقلق إلى أقصاه - يبدو واضحا إلى أي مدى تخبطت البشرية حين ابتعدت عن الله وعن منهجه للحياة.
لقد تخبطت البشرية ما بين عبادة العقل وعبادة المادة وعبادة الحتمية التاريخية، والحتمية الاقتصادية، والحتمية الاجتماعية، إلى آخر هذه الآلهة المزعومة التي يعبدها الناس في هذا الجهل ليهربوا بها من عبادة الله، فكانت الشعوذة التي تفسد الأعصاب والنفوس، وكان العذاب الذي يمس الأفراد والجماعات، وكان الفزع الدائم من الدمار الرهيب (1) .
لقد حققت الحضارة الغربية المعجزات في عالم الاكتشافات وعالم العلوم، ولكنها فقدت في أعماق نفسها البعد الذي كان يروح عليها ويرفه عنها ويسندها في وقت المحن؛ لأنه يربطها بوجود الله، فقد قادت العالم إلى حربين شاملتين خلال ربع قرن، كما قادته إلى انقسام بين الكتلتين الشرقية والغربية، وإلى تهديد دائم بحرب ثالثة، وإلى اضطرابات في كل مكان وإلى جوع وعري وبؤس في ثلاثة أرباع المعمورة، وأن النظام العالمي كله اليوم في حالة ذعر واضطراب وبحث عن أسس جديدة وتنقيب عن زاد روحي يرد الإنسانية إلى ثقتها بالمبادئ الإنسانية (2) .
إن حضارة القرن العشرين قد أفقدت وأتلفت قداسة الوجود في النفوس وفي الثقافة، وفي الضمائر لقد أتلفت القداسة لأنها اعتبرتها شيئا تافها لا حاجة
__________
(1) مالك بن نبي، دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين. الدار العلمية 1974 م، ص 40.
(2) مالك بن نبي، دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين. الدار العلمية 1974 م، ص 24.(17/316)
للإنسانية به، لقد انجرفت في إتلافها هذا بسبب منشأ ثقافتها التي يطلق عليها اليوم (العلمية) منذ عهد ديكارت، لقد حاولت أوربا ونجحت في خطها الجديد هذا. ونجاحها قد يفسر لنا اليوم على المدى البعيد فشلها في الاستمرار عن البحث عن معنى الحياة، وتأكيد القيمة الكيفية، لقد نجحت في إخضاع كل شيء لمقاييس الكم، ولكن نجاحها يفسر بالتالي الأزمة التي تمر بها حضارتها التي فقدت كل مبررات وجودها؛ لأنها أفقدت الوجود وقداسته (1) .
وبقدر ما تراكمت الإمكانيات الحضارية الكمية اضمحلت القاعدة الأخلاقية الروحية المعنوية التي تتحمل في كل مجتمع عبأ الأثقال الاجتماعية والمادية، إذ لا بد من قاعدة روحية متينة تتحمل هذه الأعباء التي ترزح وهي في خضم الأشياء التي تنتجها التكنولوجيا. إن الإنسانية بشطرها المتخلف وبشطرها المتحضر تعاني من هذه الأزمة الخطيرة، والتي هي أخطر أزمة في وجودها على سطح الأرض، ونحن باعتبارنا مسلمين وأمة تشاطر الإنسانية مصيرها، إذا أردنا أن نسد هذا الفراغ في النفوس المتعطشة فلا بد أن نرفع مستوانا إلى مستوى الحضارة أو أعلى منها؛ كي نرفع الحضارة بذلك إلى قداسة الوجود، إلى ربانية الوجود، ولا قداسة لهذا الوجود إلا بوجود الله (2) .
إن المشوار الحضاري للأمة الإسلامية طويل وصعب وتعترضه عقبات ومحاذير، وتحيط به متاهات ومشكلات، وتصحبه تحولات في السلوك والأخلاق، وتغيرات في العادات وأساليب الحياة، ولا بد للأمة الإسلامية أن تستعد لكل هذا إذ لا مناص منه. ولأن القضية خطيرة والأمر جد، فإن على مثقفي المجتمع ومفكريه أن يمارسوا دورهم ويقوموا بما هو منتظر منهم من توعية وتبصير للمجتمع لتكوين المناخ الإسلامي الصحيح. إن عملية توعية المجتمع بما تتضمنه من ممارسات وتبعات تستدعي تضافر كل الجهود في المنزل والمدرسة والجامعة والمسجد (3) .
__________
(1) مالك بن نبي، دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين. الدار العلمية 1974 م، ص 26.
(2) مالك بن نبي، دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين. الدار العلمية 1974 م، ص 40
(3) محمود محمد سفر الحضارة. . تحد! ط 1، 1400 هـ، الناشر تهامة ص 37.(17/317)
إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلة الحضارة ما لم يرتفع بفكره إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها. . وما الحضارات المعاصرة، والحضارات الضاربة في ظلام الماضي، والحضارات المستقبلة إلا عناصر للملحمة الإنسانية منذ فجر التاريخ. فلنعلن للدنيا بدء فجر جديد لحضارة القيم تتآلف فيه أسس التطور المبني على العلم والإيمان وتقدير الإنسانية، لننفك من التيه المقفر الذي يعيش العالم المعاصر أسيرا له. . تظللنا العقيدة ويغمرنا الإيمان (1) .
كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) .
__________
(1) محمود محمد سفر الحضارة. . تحد! ط 1، 1400 هـ، الناشر تهامة، ص 40.
(2) سورة يوسف الآية 108(17/318)
واقع التعليم في العالم الإسلامي والعربي:
يواجه العالم الإسلامي اليوم تحديا متصلا من الدول الصناعية، وذلك لطبيعة الموقع الاستراتيجي للعالم الإسلامي إلى ثروته البشرية والمادية. لقد أصبح حزام الدول الإسلامية ميدانا للتنافس المتصاعد بين القوى العديدة. إن نزاعات الحدود في المناطق المختلفة أصبحت غالبا موجهة لإيجاد أسواق حاضرة للأسلحة والذخائر لكي تبقى هذه الدول مرتبطة ومنشغلة عن دفع عجلة تقدمها أو رفع معدل نموها، بحيث تظل تحت الخضوع الدائم والتأثير المستمر الواقع عليها من الدول المتقدمة، فضلا عن ذلك فقد ترك المستعمر خلفه في كثير من الدول الإسلامية نماذج من المؤسسات التعليمية التي تتسم بالثنائية والانقسام الحاد (1) .
إن غالبية النظام التعليمي السائد حاليا في العالم الإسلامي نظام متوارث من عهود الاستعمار، إنه غير كفء لبعث الشباب المسلم أو لمساعدته في حل مشاكل
__________
(1) م - أ - قاضى - أسلمة المعارف العلمية الحديثة، مجلة المسلم المعاصر، العدد 35 ص 35، 1403 هـ.(17/318)
الأمة الإسلامية لقد أثبت - حقيقة - أن له إنتاجية مضادة ويحتاج إلى إصلاح جذري عنيف (1) .
ولعل المشكلة العظمى التي نواجهها هي تسليم الكثير، صراحة أو ضمنا، بأن المسلمين لكي يسايروا الرقي العالمي ويلحقوا بعجلة التقدم، فإنه لا بد أن يأخذوا بالمنهج الاجتماعي والاقتصادي الذي أفرزته الأمم التي سبقتهم على هذا الطريق، سواء في الغرب أو في الشرق، وإن تقليد هذه المدنيات هو السبيل إلى الخروج من مظاهر التخلف واللحاق بالأمم المتقدمة.
" إن نظم التعليم في البلاد الإسلامية اليوم نظم تقوم على الازدواج التعليمي، بمعنى أن بكل بلد منها نظامين للتعليم، لا نظاما واحدا، فهنالك نظام يتخذ من الدين الإسلامي محورا له، سواء سمي هذا النظام بالنظام الديني أو النظام القديم، وهناك نظام ثان، يتخذ من العلوم الحديثة محورا له سواء سمي هذا النظام بالنظام الحديث، أو بالنظام الغربي (2) .
والازدواج التعليمي - كما نعلم جميعا - وافد إلينا من الغرب، مع ما وفد إلينا منه من مخترعات تكنولوجية، ومن آراء وأفكار، كان يحكم علاقتنا بها (الإحساس بالتخلف) الذي سيطر علينا فترة من الزمن، أول لقائنا بالغرب في العصور الحديثة، وفي الوقت الذي بدأت حدة الازدواج التعليمي فيه تخف في الغرب. بدأت هذه الحدة ذاتها تزيد في بلاد المسلمين، بفعل الاستعمار الغربي، الذي أراد ذلك لحاجة في نفسه. ".
إن معظم أنظمة التعليم في البلاد العربية والإسلامية لا تزال تستمد أفكارها الرئيسية وتعالج موضوعاتها من وجهة نظر غربية صرفة، لا تشير من بعيد أو قريب
__________
(1) م - أ - قاضى - أسلمة المعارف العلمية الحديثة، مجلة المسلم المعاصر، العدد 35 ص 36، 1403 هـ.
(2) د. عبد الغني عبود، التربية الإسلامية في القرن الخامس عشر الهجري، دار الفكر العربي، 1976، ص 102(17/319)
إلى الفكر الإسلامي أو إلى علمائه. فما تأثير هذا على طلابنا وموجهي التربية في بلادنا وخاصة من نعدهم ليربوا لنا أجيالنا الناشئة؟ إن التفتح على كل التجارب الإنسانية النافعة، والاستفادة منها، والتفاعل معها من واقع الواثق بفكره وذاته وثقافته، أمر ضروري ومطلوب. ولكن لا بد أن يكون في حدود قيم ديننا وظروفنا وإمكانياتنا، ولا يقتلعنا من جذورنا الثقافية أو يشككنا في مقدرتنا وشخصيتنا الإسلامية العربية. إن التعليم الذي نعطيه لأبنائنا في المدارس ليس مرتكزا على القاعدة الإسلامية ولا يستمد من الروح الإسلامية. ثم ماذا في حياتنا إلا القليل من بقايا الفكر الإسلامي والتصور الإسلامي والسلوك الإسلامي. ينبغي أن نكون صريحين مع أنفسنا، وواقعنا بعيد بعدا كبيرا عن الإسلام وإن كانت فيه بين الحين والحين في بعض بلدان العالم الإسلامي بقايا من الإسلام» (1) . إن نظمنا التعليمية السائدة في العالم الإسلامي تشكوا من ضعف في غرس الفضيلة والعقيدة في الجيل الجديد. كما تشكو من تقصير في إعداد الناشئة للحياة المعاصرة لا سيما في حقل التقنيات وفي الاتصال بالحياة العملية والاقتصادية. إن نظمنا التعليمية السائدة ومعظمها مستورد من الغرب تجعل هدف التعليم حفظ المعلومات لاجتياز الامتحانات بدل أن تفسح للطالب المجال الكافي لهضم المادة والتفكير والتحقيق والتطبيق فالهدف هو المعلومات وليس الطالب. يقول الشيخ أبو الحسن الندوي: «لقد أهملت المراكز التربوية كلها جانب العاطفة والحب والإيمان واعتبرته من خصائص بعض النظم التي كانت محدثة دخيلة على الإسلام والتي تنافي في نظر بعض قادة التعليم ورجال الفكر روح الشريعة الإسلامية والطريقة السلفية، مع أنه حاجة من حاجات البشر ومطلب
__________
(1) محمد قطب، منهج التربية الإسلامية – دار الفكر بالقاهرة، ص20(17/320)
من مطالب الإسلام إذا نقي مما التصق به في العهود الأخيرة، وقد اتصف بهذا الجانب الرعيل الأول من المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولولا هذا الإيمان القوي والولوع والحب العميق وقوة العاطفة لما ظهرت منهم هذه الروائع الإيمانية والبطولات التي لا نظير لها في تاريخ الأمم ".
إن إهمال هذا الجانب قد جنى على نظامنا التعليمي جناية كبيرة، وأفقده العمق والرقة والسمو، وقوة المقاومة، وصلاحية الإبداع، وإشعال القرائح وتدفقها، فأصبح نظامنا التعليمي نظاما خشبيا جامدا لا حياة فيه ولا حركة، ولا نمو فيه ولا ازدهار، وأصبحت مراكزنا الثقافية وجامعاتنا الإسلامية مراكز حياة رتيبة جامدة يسود عليها الركود، ويهيمن عليها الجمود، وتتحكم فيها القوانين واللائحات.
إن أهم نقاط الضعف التي جعلت تعليمنا يبتعد عن أصالته هو عدم اعتماد فلسفة تربوية مستمدة من فلسفتنا الحياتية الكلية لتوجيه البحث في العلوم المختلفة بنوعيها الطبيعي والإنساني، والعلاج يكمن في أسلمة هذه العلوم، وإعادة النظر في طرق البحث المستعملة في بعضها، ومن ثم يجب أن تدرس هذه العلوم بطريقة تساعد على بيان عظمة الخالق - عز وجل - وترسيخ إيماننا به، وإحكام سيطرتنا على الطبيعة والكون واستغلال ثرواتهما.
كما أن هناك قضية أكبر ألا وهي مشكلة التغريب الثقافي الذي تتعرض له الأجيال الإسلامية، وهو تغريب ناجم عن التبعية للأجنبي في الشرق والغرب فكرا وسلوكا، وعن الانجذاب إلى ثقافته، انطلاقا من فكرة شاعت - بتأثير الثقافة الأجنبية نفسها - قوامها أن هناك نموذجا ثقافيا واحدا ووحيدا، هو النموذج الغربي، وأن كل ابتعاد عنه عجز وتخلف. إن هذا التغريب ما يزال يحول بيننا وبين أن نختار طريقنا الثقافي الإسلامي المتميز، اختيارا واعيا، وإن الخلاص منه وكسر التبعية للغرب هما اللذان يمكنانا من أن نحقق التكامل(17/321)
بين ثقافتنا وثقافة سوانا، من دون عقد أو خوف أو رفض عاطفي، فلك أن التضامن الحقيقي، والحوار الخصب بين الثقافات، هو الذي يتم في إطار عملها جميعها، من أجل رفض النموذج الذي يريد أن يستلبها كلها، وينفيها جميعا.
وقد عرفت البلاد العربية الأهداف الحقيقية لهذا التغريب، ولمستها لمس اليد، عن طريق تجربة الجزائر مع الاستعمار الفرنسي، فلقد استهدفت استراتيجية التغريب التي ساقها المستعمر - كما هو معروف - العزل القسري للتراث العربي الإسلامي، وطمس الهوية الثقافية الراسخة في الجزائر، والقضاء على اللغة العربية، لغة القرآن، ذلك عن طريق السعي إلى استئصال المناعة الإسلامية، والجذور الإسلامية، التي تقف وحدها عقبة كأداء في طريق بلوغ الأهداف الاستعمارية.
ومما يزيد في خطورة التغريب، والتبعية، للنموذج الحضاري الأجنبي في الغرب والشرق، أن هذا النموذج قد وصل إلى طريق مسدود، وفشل في بناء مجتمع جدير بالإنسان، وإن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والنفسية، التي يعاني منها هذا النموذج الحضاري، التي أطنب في الحديث عنها الغربيون أنفسهم إلى فشله في علاج مشكلات العالم المتقدم نفسه، وإلى توسيعه للهوة القائمة بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية، وتعاظم اللا مساواة بين الشعوب، واستغلال ثرواتها المادية والبشرية.
وإن الخلل الأساسي في هذا النموذج هو فشله في تحقيق التوازن بين التطهر العلمي والتكنولوجي من جانب، والتطور الإنساني الروحي من جانب آخر، بحيث جعل الإنسانية أكثر تقدما في الظاهر، دون أن يجعلها أكثر سعادة، وبحيث نأى بها عن رسالتها الحقيقية، رسالة تسخير الكون لخدمة الإنسان، ولتحقيق المزيد من إنسانيته وقيمه.(17/322)
إن الملجأ الحقيقي الذي يحمي الحضارة العالمية جملة - والحضارات القديمة خاصة - هو في سعي الثقافات المختلفة إلى العودة إلى فواتها، وينابيعها الأصيلة، لتبحث فيها عن طريق الخلاص وليتكون من تفاعل هذه الثقافات فيما بينها بعد ذلك طريق جديد للإنسانية جمعاء، والثقافة الإسلامية التي جعلها الدين الإسلامي شاهده على الناس رحمة للعالمين، مدعوة خاصة إلى أن تعود إلى أصولها وينابيعها، حفاظا على ذاتها، وسعيا لهداية الإنسانية، بل أن ارتباطها بهويتها هو سبيلها إلى النجاح في معارك التحرير التي تخوضها، ولا سيما مع العدو الصهيوني، ومع القوى الطامعة في خيراتها.
إن الدعوة إلى الرجوع إلى الإسلام وأسلمة المعرفة ليست مجرد دعوة إلى تراث ماض يجب الحفاظ عليه، بل هي إلى مصدر حيوي دينامي متجدد متطور على مر العصور والأزمان، ويمتلك من المرونة في قواعده العامة المتعلقة بتنظيم الحياة ما يجعله صالحا لكل زمان ومكان، فضلا عن ذلك، فإن هذا الرجوع سيكون ربطا لحاضرنا بماضينا، وتأصيلا لفكرنا الفلسفي والتربوي، وتأكيدا لشخصيتنا الثقافية والتربوية، وتحصينا لعقول أبنائنا ضد أخطار الاستشراق ودسائس أعداء الإسلام (1) .
__________
(1) م - أ - قاضي - أسلمة المعارف الحديثة، مجلة المسلم المعاصر، العدد 35 ص 38، 1403 هـ.(17/323)
الطرق والوسائل الواجب اتباعها نحو أسلمة المعرفة:
وضع منهاج للتعليم الإسلامي:
يعلم المطلعون على حقائق العلوم وفلسفة التعليم، أن للعلوم والكتب روحا وضميرا، كالكائنات الحية، وهو باطن هذه العلوم، والروح السارية في الكتب. فالعلوم التي أنشأها الإسلام، وصاغها في قالبه، قد سرت فيها روح الإيمان بالله، والتقوى والخشية لله، والفضيلة والإيمان بالآخرة والعلوم التي وضعها اليونان أو رتبوها اشتملت على خرافاتهم، وعلى روحهم الجاهلية، وكذلك العلوم التي دونتها أمم أوروبا الملحدة، والكتب التي ألفها أدباؤها وفلاسفتها، وقد سرى(17/323)
فيها الإلحاد والجمود، والإيمان بالماديات والمحسوسات فقط، وقلة التقدير لما لا يأتي تحت الحس والوزن، والعد والتجربة، وما لا يحصل له لذة أو نفع محسوس في الأخلاق، وسرت هذه الروح في علمهم وفلسفتهم وأدبهم وشعرهم وقصصهم وتمثيلهم.
فلا يكون من الحكمة التعليمية، ومن النصح للمسلمين نقل هذه العلوم، والكتب المؤلفة فيها إلى الشيء المسلم بروحها وضميرها، بل يجب أن تلون هذه العلوم من جديد تلوينا إسلاميا، وتؤلف فيها كتب مبتكرة، وتشيع بالروح الدينية، وتستخرج منها نتائج لا تعارض الدين، بل تؤيده وتبعث اليقين والإيمان، وهكذا يجب أن يعمل مع التاريخ والجغرافية، والعلوم الطبيعية، فلكل منها اتصال بالدين وكل منها مؤثر في الدين.
والحاصل أننا في البلاد الإسلامية في حاجة ملحة إلى نظام تعليمي إسلامي في الروح والوضع، والسبك والترتيب، لا يخلو كتاب من الكتب التي تعلم مبادئ اللغة إلى آخر كتاب يدرس في العلوم الطبيعية، أو الآداب الإنجليزية من روح الدين والإيمان، هذا إذا أردنا أن ينشأ جيل يفكر بالعقل الإسلامي، ويكتب بقلم مسلم، ويدير دفة البلاد بسيرة مسلم وخلقه، ويدير سياسة التعليم والمالية بمقدرة مسلم وبصيرة مسلم، وتكون البلاد الإسلامية إسلامية حقا في عقلها وتفكيرها، وسياستها وماليتها وتعليمها.(17/324)
وفيما يلي بعض المقترحات التي يمكن تبنيها في نظامنا التعليمي:
القرآن الكريم:
على التربية الاهتمام بالقرآن الكريم وجعله مادة أساسية في المنهج، فكتاب الله العظيم الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} (1) هو أقوى شيء في
__________
(1) سورة فصلت الآية 42(17/324)
تكوين العقول والأخلاق والنفوس، وهو يمد التلميذ بذخيرة لغوية تنفعه نفعا كبيرا في حياته العلمية، وبذخيرة من الأساليب التي لا يستطيع البشر الإتيان بها، وبذخيرة من العقيدة والإيمان. ولقد أثبتت البحوث التي أجرتها إدارة التعليم على الطلبة الذين يحفظون القرآن الكريم في مساجد الأحياء، أن 90 % من هؤلاء الطلاب مبرزون في جميع دروسهم الأخرى بما فيها الرياضيات والعلوم والجغرافيا.
لهذا فإنه يجب على الأمة الإسلامية رعاية مراكز تحفيظ القرآن، والعمل على تعميمها بواسطة ربطها بالمساجد، وإنشاء مدارس خاصة بها، وليس تدني مستوى الخرجين في العالم الإسلامي اليوم - بصفة عامة - في اللغة والفكر، والعقيدة والسلوك والقيم والأخلاق إلا نتيجة من نتائج حرمانهم من الثقافة القرآنية في الصغر، وتقليص مراكز تحفيظ القرآن التي كانت سائدة في الأحياء والقرى كالكتاتيب والمساجد، واستبدال ذلك بآيات متناثرة على مدى التعليم قبل الجامعي تحفظ لتنسى دون نطق سليم أوفهم رشيد (1) .
وإذا أريد لأجيال المسلمين القادمة أن تحفظ من الانصهار تحت وطأة التحديات المعاصرة، علينا أن نعيد لمراكز تحفيظ القرآن الكريم مجدها وانتشارها، وجعل القرآن الكريم مادة أساسية في جميع مناهج التعليم النظامي على مدى مراحله قبل الجامعي.
__________
(1) د. زغلول راغب محمد النجار، أزمة التعليم المعاصر، ط 1 مكتبة الفلاح، الكويت 1400 هـ، ص 119.(17/325)
الحديث والسيرة النبوية:
يجب أن يهتم المنهج الإسلامي بتدريس الحديث النبوي والسيرة الشريفة للمصطفى - صلى الله عليه وسلم - لتعميق الإيمان، وترسيخ العقيدة في نفوس التلاميذ، باعتبار أن الحديث مكمل للقرآن ومفسر لآياته وأحكامه كما أن دراسة(17/325)
السيرة النبوية وما احتوت عليه من مضامين عميقة وصور شامخة للإسلام، والتي هي أجمل شيء في الوجود، التي ترقى إلى الأفئدة وتأخذ سبيلها إلى النفوس بغير شفيع ووسيط.
كما يجب أن يتضمن المنهج فصولا مختارة من تاريخ الخلفاء الراشدين والصحابة - رضوان الله عليهم - ليستشعر التلميذ تاريخ أمته، ويستلهم ما خلفوه من تراث عامر بالبطولة والعطاء، وليتصور كذلك عمق إيمانهم ومحنتهم وحسن بلائهم وجهادهم وفتوحاتهم، وزهدهم واستقامتهم. وهو تاريخ يملأ القلب إيمانا وحماسة، ويشجع على التقليد ويرتقى بإنسانية الفرد من حب الذات والأنانية إلى الإيثار والتضحية والوفاء.(17/326)
(3) الاهتمام باللغة العربية:
يجب على المنهج الإسلامي العناية باللغة العربية - لغة القرآن - وجعلها مادة إجبارية في كل العالم الإسلامي؛ لأنها مفتاح فهم القرآن والدين - وهي أساس التراث ووعاء الثقافة. إن فهم اللغة العربية والحذق بها هو الطريق إلي معرفة القرآن الكريم والتعمق في أسراره وأحكامه؛ لأن عروبة القرآن (أي نزوله بلسان عربي مبين) يحتم على كل مسلم أن يعرف اللغة العربية ويتمرس بها، كما أن الإلمام بها يقود الأمة الإسلامية إلى الوحدة التي تطمح إليها.
كما أنه من واجب الدول الإسلامية دعم مراكز تعليم اللغة العربية في العالم أجمع وبين أبناء المسلمين الذين لا يحسنون التحدث بها، كذلك العمل على تنشيط وتوسيع الجهود الرامية إلى ترجمة أمهات الكتب في مختلف مجالات المعرفة، ففي عصر النهضة الإسلامية انفتحت الثقافة العربية على جميع الثقافات الأخرى دون أن تفقد شخصيتها الأصيلة، كما اهتم العرب بتعلم اللغات الأجنبية ولكنهم أصروا على أن لا يكون التعليم والبحث والكتابة بغير لغة القرآن الكريم؛ اعتزازا بإسلامهم ولغتهم وحرصا على إشاعة المعرفة وتوفيرها لجميع الأمة الإسلامية، وعدم اقتصارها على نفر ممن يعرفون اللغة الأجنبية.(17/326)
(4) الاهتمام بتدريب المعلم:
تشترط التربية الإسلامية فيمن يقوم بدور المربي شروطا خاصة أهمها الصلاح والعلم والفن (أي الفهم لأساليب التربية وطرائقها وواجباتها، ولنفسية المتعلمين واستعداداتهم وملكاتهم) .
فالصلاح وحده لا يصنع معلما، والعلم وحده لا يصنع مربيا، ولكن لا بد من هذه الشروط الثلاثة مجتمعة لتكوين المربي الناجح، ولا يمكن التنازل عن أي منها، وذلك لأن المربي هو الذي يعد أجيال المستقبل، وأي نقص ظاهر فيه أو في سلوكه لا بد وأن ينعكس على تلك الأجيال مضاعفا متفاقما.
ومن هنا كان من الواجب التدقيق في اختيار المعلمين وحسن إعدادهم، خاصة أولئك الذين يقومون بمهمة التربية في مراحلها الأولى حيث تشكل شخصيات الصغار.
فلا يكفي أن يكون المربي متمكنا من مادته، ملما بأحدث النظريات التربوية، محبا للعمل، بل يجب أن يكون قبل كل شيء إنسانا مؤمنا ورعا صالحا، مدركا لجسامة مسئوليته، متميزا بمحبته لطلابه وقدرته على اكتساب محبتهم وتقديرهم، وبالتالي سهولة الوصول إلى قلوبهم وعقولهم (1) .
فالجهد التربوي في الإسلام هو في أساسه جهد في مجال الدعوة الإسلامية، والإعداد لإقامة المجتمع الإسلامي الأمثل والمحافظة عليه وتطويره، فإذا لم يكن المربي مؤمنا بذلك ملما بتفاصيله، ملتزما بتعاليمه، فأنى له أن يربي جيلا مؤمنا عالما ملتزما.
وبما أن عملية إعداد المعلم تعتبر جزءا لا يتجزأ من العملية التربوية، فيجب أن تكون فلسفتها وأهدافها وأسسها ومحتواها وأساليبها ووسائلها ومنهجيتها هي تلك التي تميز التربية الإسلامية المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
__________
(1) د. زغلول راغب محمد النجار، أزمة التعليم المعاصر، ط 1 مكتبة الفلاح، الكويت 1400هـ، ص 146.(17/327)
أيضا يجب بذل كل تعاون في إقامة التدريب المستمر لرفع مستوى المعلم بصفة عامة، ولإعداده بصفة خاصة ليعمل في ضوء الجديد الذي ننشده للتعليم، وذلك لكي يتسنى له الفهم الصحيح، ولكي يتمكن من المعرفة المطلوبة التي تيسر له رفع مستواه العلمي والثقافي والمسلكي بالقدر الكافي المتطور، الذي يستطيع أن يغذي النشء بأسلوب يساير روح العصر ويتفق معه، فالمعلم هو الأداة الحقة التي ينفذ بها المنهج المقترح، وإعداده بالمفهوم الجديد لنهجنا هو الخطوة الأولى لضمان تنفيذه بنجاح، وأن لا تقتصر دراسة من يتخصصون في مواد الدين على هذه المواد وحدها، بل يجب أن تمتد هذه الدراسة إلى الإحاطة بالعلوم الحديثة وهضمها، إذ بذلك يمكننا تطبيق واقعية الارتباط القائم بين مفاهيم إسلامنا، وهذه العلوم الحديثة، وبذلك يصبح المتخصصون في هذه المواد قادرين أن يحكموا على كل مفهوم حديث بما يتبين لهم نتيجة لهذه الدراسة بعد تفكير تحليلي وبحث منطقي، كما أن يكون في توجيه إعداد مدرسي المواد الحديثة قدر يمكنهم من تفهم مواد الدين؛ لكي يستشعروا قدرة الله في ظواهر الكون والحياة، وأن يعرفوا أن العلم يقود للإيمان وأن يغرسوا هذا المفهوم في طلابهم كي يتعودوه وينشأوا عليه ويعملوا وفقا لمنهجهم.(17/328)
(5) إزالة الازدواج التعليمي:
إن عملية تقسيم التربية إلى دينية ودنيوية قد انتقلت عدواه إلى بلاد المسلمين من النظم التربوية العلمانية، فالإسلام إضافة إلى اهتمامه الزائد بالتخصص في الدراسات الإسلامية إلا أنه في تاريخه الطويل لم يعرف هذا الازدواج التعليمي، ولم يهمل أي جانب من جوانب المعرفة الإنسانية، وهذا هو سر ما نراه من معرفة تامة بعلوم الدين لدى علماء الطبيعة والكيمياء والطب والجغرافيا وتاريخ المسلمين.
والفصل بين المعارف إلى دينية ودنيوية قد عزل العلوم الدينية عن ركب الحياة ومشاكلها وتطورها، مما زهد الناس فيها ودعاهم إلى هجرها، كما عزل العلوم الدنيوية عن الحكمة وجعلها تدور في الأطر المادية للأشياء فقط. إنه لا يمكن(17/328)
رفض المعارف فهي تراث الإنسانية كلها ووسيلتها إلى عمران الحياة على الأرض، وأيضا لا يمكن فرضها بصورتها الحالية التي تنطلق من منطلق إلحادي منكر وأسس علمانية صرفة.
والحل يكمن في أن تقوم جميع مؤسسات التعليم في العالم الإسلامي على تحرير التعليم في كل مراحله من آثار التبعية الفكرية والثقافية، بتكوين هيئات ومراكز بحث وتخطيط توفر لها ما تحتاج إليه في ميدان إعادة صياغة المناهج، بما يعيد إليها إسلاميتها ويكفل لها البعد عن العلمانية والإلحاد.
كذلك إيجاد التقارب بين العلماء الشرعيين والعلماء الطبيعيين، والعمل على إعادة فحص شاملة للثقافة الإسلامية؛ لإدراكها وامتصاصها والتكامل معها بغية تحقيق هذا الأمل في أسلمة المعارف العلمية والفلسفية.(17/329)
(6) ترشيد ابتعاث أبناء المسلمين إلى الخارج:
إن التوسع الهائل في ابتعاث شبابنا إلى الخارج بدون ضوابط وضمانات قد تهدر القيمة الأساسية المرجوة من ورائه، إن طلب العلم فرض واجب على كل مسلم ومسلمة والحكمة ضالة المسلم، فحيث وجدها فهو أحق بها، غير أن هناك تخوفا من فتنة طلاب البعثات في البلاد الخارجية خصوصا لدى الطلاب المتخرجين حديثا من المرحلة الثانوية.
ولكي لا يهزم الهدف الأساسي لمبدأ الابتعاث يجب أن يقتصر ابتعاث الطلاب على المجالات العلمية غير المتوفرة في العالم الإسلامي، مع حسن اختيار العناصر الصالحة من الطلاب فكرا وسلوكا وعقيدة، كذلك ضرورة توفير مجالات الدراسات الإسلامية والعربية في جميع الجامعات الإسلامية، والحد من إرسال البعثات إلى الخارج في مثل هذه التخصصات.(17/329)
(7) تدعيم مراكز البحث العلمي:
التوسع في إنشاء مراكز البحث العلمي والمعاهد والمؤسسات التعليمية(17/329)
الإسلامية في العالم الإسلامي وخارجه، والحث على إنشاء المزيد منها بحيث تقوم هذه المراكز والمؤسسات، بتحقيق حاجة العاملين في المنظمات الإسلامية مع كشف خطط أعداء الإسلام، وتزويد الحركة الإسلامية بالخطط والوسائل اللازمة لمقاومتهم.
كما أنه يجب توجيه الرسائل العلمية التي تسجل في الجامعات الإسلامية لدراسة الفكر التربوي الإسلامي والإسلام وتحديات العصر، وإذا نجحت الدول الإسلامية في إعداد الباحثين الذين يعرفون كيف يتناولون تراثنا التربوي، وكيف يعالجونه، وكيف يتعاملون معه، وكيف يستفيدون منه، فسنكون - ولا شك - قد فتحنا الباب على مصراعيه نحو مستقبل نستطيع أن نتعامل فيه مع الأفكار التربوية الأجنبية دون ما خوف من أن ننقلها - كما نفعل اليوم - إلى نظم التعليم الإسلامية؛ لأنها في هذه الحالة ستعرف طريقها إلى التأقلم والتكيف - وفق - فلسفة إسلامية تخدم مجتمعا مسلما ناهضا عرف قدر نفسه فعرف الآخرون قدره.(17/330)
ملخص البحث:
إن مسألة التعليم في البلاد الإسلامية مسألة مستقلة بذاتها؛ لأن الأمة الإسلامية أمة خاصة في طبيعتها ووصفها وهي أمة ذات مبدأ وعقيدة ورسالة ودعوة، فيجب أن يكون تعليمها خاضعا لهذا المبدأ وهذه العقيدة، وكل تعليم لا يؤدي هذا الواجب أو يغدر بذمته فليس هو التعليم الإسلامي، بل هو التعليم الأجنبي، وليس هو البناء والتعمير بل هو الهدم والتخريب.
إنه لمما يؤسف أن غالبية النظام التعليمي السائد في معظم البلدان الإسلامية نظام متوارث عن عهود الاستعمار ولا يزال يستمد أفكاره ويعالج موضوعاته من وجهة نظر غربية صرفة، لا تشير من بعيد أو قريب إلى الفكر الإسلامي أو إلى علمائه، فما تأثير هذا على طلابنا وموجهي التربية في بلادنا.
وهذا البحث يتطرق إلى وصف طبيعة وواقع النظام التعليمي في البلاد الإسلامية، ومدى ملاءمته للعقيدة الإسلامية والفكر الإسلامي، والتعرف على الأسباب التي أدت إلى وجود مثل هذا النظام.
وكذلك يتعرض البحث إلى الحضارة الغربية وموقفها من الإنسانية، وتأثير ذلك على طبيعة الأنظمة التعليمية الإسلامية إن هي أخذت مبادئ الحضارة الغربية وطبقتها.
وفي الختام يحاول الباحث إيراد أهمية المنهج الإسلامي وضرورة وجود فلسفة تربوية إسلامية تتضمن جميع المواد الدراسية، وأسلمة المعارف التي ترد إلى العالم الإسلامي من الغرب، وذلك بترجمتها واختيار الأفضل منها، واستبعاد الشاذ والغريب وما لا يلائم عقيدتنا وإسلامنا، وقد تضمن الختام عدة توصيات مقترحة نحو أسلمة المعرفة في العالم الإسلامي بجعلها عين الاعتبار في المنهج الإسلامي وهي كالآتي:(17/331)
1 - الاهتمام بالقرآن الكريم.
2 - الاهتمام بالحديث والسيرة.
3 - الاهتمام باللغة العربية.
4 - الاهتمام بتدريب المعلم.
5 - إزالة الازدواج التعليمي.
6 - ترشيد ابتعاث أبناء المسلمين إلى الخارج.
7 - تدعيم مراكز البحث العلمي.(17/332)
Abstract
Islamic World has it، s own unique educationl system، in its nature and quality. Islamic Education should maintain the principles of Islam which it would lead to fulfill the needs and philosophy of Moslim. If the Islamic Education system is not taking these principles into consideration، then this would guide the society to the wrong direction ; by changing the aims and goals of the Islamic teaching. Islamic belief، thoughts and philosophy are considered to be the corner stone in the Islamic Educational Sustem. Unfortunately، the majority of Moslim World was colonized andover - run for along period of time، by different out side powers. usually، the occupiers would try to spread their ideas and philosophy through the educational system.
In this article، the researcher will discuss the Islamic Educational System، showing its advantage to people. He will discuss the Western Educational system and its influences over the society and how it effects the educational system as a whole.
The researcher will summerize the effectiveness and accuarcy of the Islamic Educational System to the Muslim People. He suggested the following ideas which it would comply with the Islamic curriculim:
1. Consideration of the Quran.
2. Consideration of Al-Hadeeth.
3. Consideration of the Arabic Language.
4. Training teachers.
5. Avoid imitating non-Islamic Systems.
6. Establishing research ceters.(17/333)
مكتبة الأمويين
الدكتور محمد إبراهيم زغروت.
ولد عام 1943 م في مدينة فاقوس إحدى مدن محافظة الشرقية بجمهورية مصر العربية، وتلقى تعليمه الإعدادي والثانوي بها.
تلقى تعليمه العالي في كلية دار العلوم جامعة القاهرة وتخرج فيها عام 1970 م ثم عمل مدرسا للغة العربية والتربية الدينية في المدارس الثانوية بمصر.
حصل على ماجستير في التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية عام 1981 م، وعمل محاضرا للتاريخ الإسلامي والعسكري في كلية الطيران والدفاع الجوى بصنعاء.
حصل على درجة الدكتوراه في التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية بمرتبة الشرف الأولى من كلية دار العلوم، ويعمل الآن في وظيفة أستاذ مساعد للثقافة الإسلامية بكلية الملك خالد العسكرية بالرياض.
أما من حيث الإنتاج العلمي فإن للكاتب مجموعة من الأبحاث والمقالات قد نشرت في مجلات المملكة العربية السعودية، كمجلة الدارة، ومجلة التوعية الإسلامية في الحج، ومجلة الجندي المسلم، ومجلة الدفاع التي تصدر من وزارة الدفاع، ومجلة كلية الملك خالد العسكرية، وما زالت لدى الكاتب مجموعة من الأبحاث التي لم تنشر، وبعض الكتب تحت الطبع الآن.(17/334)
مكتبة الأمويين الإسلامية في قرطبة وتأثيرها الفكري في شعوب غرب أوربا
الدكتور محمد إبراهيم زغروت(17/335)
مقدمة عامة
:
إن التأريخ للمكتبات الإسلامية تأريخ للفكر الإسلامي طوال حقبه المختلفة، وذلك لأن الدور الذي لعبته المكتبات في تاريخ الحضارة ولا سيما في القرن الرابع الهجري جد وخطير، فقد قامت هذه المكتبات بنشر الثقافة الإسلامية وتوطيد الصلات العلمية بين المسلمين وغيرهم من شعوب أوروبا، فقد امتدت إشعاعات هذه المكتبات لتبدد دياجير الجهل التي رانت على عقول أهل هذه القارة خلال القرون الوسطى، مما كان لها أكبر الأثر في بناء الفكر الأوربي وتوجيهه وجهة حضارية، ما زال الأوروبيون إلى اليوم ينعمون بجني ثمارها.
وتشير روايات التاريخ الأندلسي إبان تلك الحقبة التاريخية أن مكتبة كبرى قد تكونت في قرطبة في عهدي الخليفتين عبد الرحمن الناصر الأموي وابنه الحكم المستنصر، قد ضارعت في عظمتها وتأثيرها الثقافي أشهر مكتبات ذلك العصر في بغداد والإسكندرية والقيروان وغيرها من مكتبات، وقد حظيت هذه المكتبة باعتناء الأمراء والخلفاء من بني أمية، فكانوا يشجعون العلماء والأدباء وأرباب الفكر في أي مكان، ويغدقون عليهم العطايا والهبات حتى تم لهم استقطاب كل حركة علمية أو فكرية بزغت في أي بلد من البلدان وشجعوا أهلها في الهجرة إلى(17/335)
الأندلس حتى غدت قرطبة خلال هذه الفترة مهرجانا علميا وثقافيا كبيرا يموج بالعلماء والأدباء والمفكرين في شتى المجالات.
فلا غرو إذا أن تحظى مكتبة الأمويين بدراسة موضوعية جادة توضح الأثر الحضاري الذي لعبته في ازدهار الحضارة التي نعم بها مسلمو الأندلس وفاضت بخيرها على شعوب أوربا، متخطية كل الحواجز المكانية والعنصرية لتمديد العون لهذه الشعوب، وتزيد من حصيلة إبداعها الفكري وتنشطه، وتساهم بدورها الإنساني الفريد في دفع حركة التقدم الحضاري لشعوب الأرض والتي لا سبيل لها سوى نشر المعرفة وتنمية الصلات العلمية والودية بين الأمم والشعوب.
ومن هذا المنطلق انفتحت نوافذ الفكر الإسلامي في الأندلس أمام الشعوب الأوروبية، وأقبل طلاب العلم وعشاق المعرفة للاغتراف من معينه والنهل من موارده التي لا تنضب، وبدأت عملية الاحتكاك الثقافي والعلمي في أجمل صورها، وتعددت وسائل التأثير والنقل العلمي في شتى مجالات العلم والمعرفة.
وكان لهذا الاحتكاك الثقافي والتأثر العلمي بثقافة المسلمين الراقية آثاره الواضحة، والتي يمكن رصدها في تاريخ الفكر الأسباني خاصة، والفكري الأوربي عامة حتى وقتنا الحالي، وقد اعترف المنصفون من المفكرين والباحثين الأسبان وغيرهم بهذه الحقيقة التي لا مراء فيها.
وقد اشتمل هذا البحث على مقدمة عامة، وثلاثة مباحث وخاتمة على النحو التالي:
المبحث الأول: نشأة المكتبة وتطورها.
المبحث الثاني: تنظيم المكتبة ويضم:
(أ) قسم الترجمة. (ب) قسم التدقيق. (ج) قسم الوراقين. (د) قسم الفهرسة. (هـ) قسم التأليف:
1 - برمجة التأليف. 2 - المنهج العلمي في التأليف.
المبحث الثالث: أثر المكتبة الفكري في شعوب غرب أوربا.
الخاتمة.(17/336)
المبحث الأول: نشأة المكتبة وتطورها
:
اشتهرت الأسرة الأموية بحبها للعلم وإكبارها للعلماء، ويظهر ذلك واضحا منذ أن وطئت أقدامهم أرض الأندلس، فكان عبد الرحمن الداخل (138 هـ 756 م) - وهو أول أمير أموي - معروفا باتساع ثقافته وحسن قريضه للشعر وتقربه من العلماء، وقد اتخذ من قرطبة دارا لإمارته وقام بتجميلها وإحاطتها بسور كبير، وشيد بها المباني الضخمة والحمامات والفنادق، وانبنى بظاهرها قصر الرصافة (1) وبرزت قرطبة بدورها الحضاري وغشيها العلماء والأدباء من كل بلد.
ونهج الأمراء الأمويون من بعده نفس النهج في عنايتهم بالعلم والأدب ونشر الثقافة الإسلامية بين شعوبهم، فقد أشار ابن سعيد إلى أن مكتبة كبرى للأمويين أسست في قرطبة في عهد الأمير عبد الرحمن بن الحكم " الأوسط " (206 هـ - 821 م) وقد زودها بكتب كثيرة اشتراها من المشرق الإسلامي (2) ، وعلى ما يبدو أن هذه المكتبة كانت النواة الأولى لمكتبة الخلافة الأموية الكبرى في قرطبة، والتي تألقت في القرن الرابع الهجري.
ولا غرو أن تتألق مكتبة الأمويين في هذه الحقبة التاريخية ويبرز دورها الحضاري واضحا، وقد أولاها الخليفة عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم جل اهتمامهما وعظيم رعايتهما، فإن شغفهما الكبير بجمع الكتب قد طبقت الآفاق ووصلت إلى مسامع الناس في كل مكان. فها هو الإمبراطور " قسطنطين " السابع حاكم بيزنطة لم يجد شيئا يتقرب به إلى قلب الناصر حينما عزم على عقد معاهدة معه سوى أن يهديه كتابا جديدا لم يعرفه من قبل، وهو كتاب " ديوسقوريدس " في الطب، وجاءت رسله إلى قرطبة تحمل ذلك الكتاب في مجلد جميل مكتوبا باللغة الإغريقية، وقد ذهبت حروفه، وزينت صفحاته بالرسوم الجميلة لبعض النباتات والأشجار التي ورد ذكرها في الكتاب، ولم يكتف إمبراطور بيزنطة بذلك، بل أوفد بعد ذلك " نقولا الراهب " ليقوم بترجمته من اللغة الإغريقية إلى اللغة العربية (3) .
__________
(1) د \ أحمد شلبي موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية جـ 4 ط 6 ص 41.
(2) ابن سعيد. المغرب في حلي المغرب جـ 1 ص 44 - 352.
(3) - خوليان ريبيرا. التربية الإسلامية في الأندلس. ترجمة الطاهر أحمد مكي دار المعارف ص 190.(17/337)
وإذا كان هذا هو شأن الناصر، فإن ابنه الحكم لم يكن أقل منه شأنا في هذا الصدد، فقد بلغ حرصه على اقتناء الكتب أنه كان يبذل جهدا كبيرا في الحصول عليها أو شرائها قبل أن تظهر أو تشيع في مواطنها ". . . وكان يبعث في الكتب إلى الأقطار رجالا من التجار، ويسرب إليهم الأموال لشرائها حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه " (1) وقد أرسل إليه رجاله الذين بعثهم إلى المشرق لاقتناء الكتب أن أبا الفرج الأصفهاني قد أوشك أن ينتهي من تأليف كتابه " الأغاني " فبعث إليه ألف دينار من الذهب، وحصل منه على نسخة مبكرة من ذلك الكتاب قبل أن يشيع في العراق (2) .
وقد أثمرت جهود الحكم عن تكوين مكتبة كبرى لم يحفل بمثلها حاكم من قبل، حيث غصت خزائنها بالعديد من الكتب النادرة، يقول في وصفها ابن حزم: " أخبرني بكية الخصي - وكان على خزانة العلوم والكتب بدار بني مروان - أن عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة، وفي كل فهرسة عشرون ورقة ليس فيها إلا أسماء الدواوين فقط، وأقام للعلم والعلماء سلطانا نفقت فيها بضائعه من كل قطر " (3) .
ولم تقتصر همة هذا الخليفة على جمع الكتب فقط، وإنما كان على قدر كبير من الفهم والإدراك لما تحتويه من معلومات وأفكار، وكان يقضي أغلب وقته في القراءة والاطلاع، وقد ضاقت بها خزائن مكتبته، واستغرق نقلها ستة أشهر (4) .
والغريب أنه لا يقوم بقراءة هذه الكتب فحسب، وإنما كان يعلق على كل كتاب يقرأه بخط يده، ويدلي فيه برأيه، وكان يكتب عليه اسم صاحبه وكنايته وألقابه ونسبه ومولده ووفاته، وما يستتبع ذلك من غرائب وحكايات صادفت المؤلف في حياته (5) .
وهواية جمع الكتب واقتنائها لم تكن وقفا على الأمراء والخلفاء والأمويين على نحو ما وضحنا، وإنما كانت هواية قد تأصلت أيضا في نفس الشعب الأندلسي قبل حكامه، حتى صارت عندهم من علامات الرفعة والسؤدد، لا يستغني الرجل منهم عن تأسيس مكتبة في بيته حتى وإن لم يكن على قدر من المعرفة
__________
(1) ابن خلدون. تاريخه جـ 4 ص 146 القاهرة 1282 هـ.
(2) جودة هلال، محمد محمود فاس. قرطبة في التاريخ الإسلامي ط 1962 ص 80.
(3) ابن خلدون. تاريخه جـ 4 ص 146.
(4) المقري. نفح الطيب جـ 1 ص 394، 395. تحقيق إحسان عباس 1968.
(5) المقري. نفح الطيب جـ 1، ص 395. تحقيق إحسان عباس 1968.(17/338)
فكل همه أن يقال عنه: فلان عنده خزانة كتب، والكتاب الفلاني ليس عند أحد غيره، والكتاب الذي بخط فلان قد تحصل عليه وظفر به، ولعل في القصة التي رواها المقري نقلا عن الحضرمي الذي غشى سوق الكتب في قرطبة لشراء أحد الكتب ما يؤكد هذه الهواية: " قال الحضرمي: أقمت بقرطبة ولازمت سوق كتبها مدة أترقب فيه وقوع كتاب لي بطلبه اعتناء، إلى أن وقع وهو بخط فصيح وتفسير مليح، ففرحت به أشد الفرح، فجعلت أزيد في ثمنه، فيرجع إلى المنادي بالزيادة إلى أن بلغ فوق حده، فقلت له: يا هذا. . . أرني من يزيد في هذا الكتاب حتى بلغه إلى ما يساوي، قال: فأراني شخصا عليه لباس رئاسة، فدنوت منه وقلت له: أعز الله سيدنا الفقيه، إن كان لك غرض في هذا الكتاب تركته لك، فقد بلغت به الزيادة بيننا فوق حده، قال: فقال لي: لست بفقيه، ولا أدري ما فيه، ولكني أقمت خزانة كتب، واحتفلت فيها لأتجمل بها بين أعيان البلد، وبقي فيها موضع يساوي هذا الكتاب، فلما رأيته حسن الخط جيد التجليد استحسنته، ولم أبال بما أزيد فيه، والحمد لله على ما أنعم به من الرزق فهو كثير. قال الحضرمي: فأحرجني وحملني على أن قلت له: نعم لا يكون الرزق كثيرا إلا عند مثلك " يعطى الجوز لمن لا أسنان له " وأنا الذي أعلم ما في هذا الكتاب وأطلب الانتفاع به يكون الرزق عندي قليلا، وتحول قلة ما بيدي بيني وبينه (1) .
تلك هي هواية جمع الكتب التي تمكنت في قلوب الأندلسيين، وكان لها أكبر الأثر في نشر الثقافة الإسلامية ومحو أمية الكثيرين منهم، ويقول " دوزى ": إن أغلب الناس في الأندلس خلال القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي أصبحوا قادرين على القراءة والكتابة (2) .
ولكن الأحداث التي توالت على الخلافة الأموية بعد عهد المستنصر قد أثرت على هذه المكتبة تأثيرا بالغا، حيث قام المنصور بن أبي عامر بحرق كتب الفلسفة والفلك ليرضي فقهاء الأندلس ويكسب تأييدهم له (3) ، وحين قضي على خلافة بني أمية وزال ملكهم وتوزعت الأندلس إلى دويلات، وبدأ ما عرف في التاريخ بعصر الطوائف، بيعت تلك المكتبة وتوزعت كتبها في دويلات الأندلس القائمة آنذاك (4) .
__________
(1) المقري. نفح الطيب جـ 1 ص 463. تحقيق إحسان عباس 1968.
(2) محمد ماهر حمادة. المكتبات في الإسلام ط ثانية 1978 ص 99.
(3) ابن خلدون تاريخه جـ 4 ص 146.
(4) خوليان ريبيرا. التربية الإسلامية في الأندلس. ترجمة الطاهر أحمد مكي دار المعارف ص 156.(17/339)
وعلى الرغم من مرارة هذه الأحداث التي أودت بمكتبة الأمويين في قرطبة، فإن هواية جمع الكتب والنهضة العلمية والأدبية التي نماها الخليفة الناصر وابنه الحكم لم تتوقف، فقد انتهى الحال بهذه المكتبة إلى أيدي عشاق الكتب، وانتهى بها المطاف إلى خزائنهم في إشبيلية والمرية وبطليوس وطليطلة وسرقسطة وبلنسية وغيرها من أمراء الطوائف الذين عبروا عن هويتهم العلمية والأدبية، وكانوا سببا في تعدد المكتبات الخاصة في بلاد الأندلس، حيث كثر هواة الكتب وراجت تجارة الوراقة، ويكفي أن نضرب لذلك مثلا واحدا، فقد ذكر المؤرخون أن الوزير أحمد بن عباس جمع في مكتبته بالمرية وحدها ما يزيد على الأربعمائة ألف كتاب، فضلا عن الرسائل والكراسات (1) .
ونخلص من هذا السرد التاريخي لمكتبة الأمويين في قرطبة أنها قامت بدورها الحضاري في نشر الثقافة الإسلامية إبان القرن الرابع، وظل تأثيرها في تحبيب الأندلسيين لجمع الكتب واقتنائها وحفظ التراث العربي والإسلامي باقيا، حتى بعد انتهاء عصر خلافة بني أمية وزوال مكتبتهم في قرطبة، حيث بدأ ملوك الطوائف يقلدون الخلفاء الأمويين في تعلقهم بالعلم والعلماء، وتشجيع الكتاب والمؤلفين، وجمع الكتب النادرة، وإقامة المكتبات الخاصة بحواضرهم والتي تليق بجلال القدر وأبهة الحكم في عواصمهم، ففي الوقت الذي انعدمت فيه مركزية الحكم، تعددت المكتبات الكبرى بتعدد الدويلات التي أقامتها ملوك الطوائف، وحوت خزائنهم الآلاف من المجلدات والمخطوطات النادرة في شتى فروع العلم والمعرفة، وظلت هواية جمع الكتب التي وضع أساسها الخليفة الناصر متمكنة في نفوس الناس بالأندلس طوال حكم المسلمين بها إلى أن استولى الملك فرناندو على غرناطة - آخر معقل إسلامي في الأندلس - وفي عام 1492م أصدر أمره بجمع المخطوطات الإسلامية من أيدي المسلمين، وجمع منها وقتذاك مليونين من المخطوطات وتم إحراقها في ميدان باب الرملة في غرناطة على مشهد ومرأى من الجماهير.
__________
(1) خوليان ريبيرا. التربية الإسلامية في الأندلس. ترجمة الطاهر أحمد مكي دار المعارف ص 156.(17/340)
المبحث الثاني: تنظيم المكتبة:
كانت مكتبة الأمويين في قرطبة دارا علمية بمعنى الكلمة، فلم تكن مجرد دار لخزن الكتب وفهرستها على نحو ما هو مألوف الآن فقط، وإنما نظمت تنظيما دقيقا لتوفر الغاية المرجوة منها، وقد أقيمت هذه المكتبة بقصر الخلافة في قرطبة (1) . وإن كانت المصادر التي وقعت بين أيدينا لم تمدنا بمعلومات وافية عن وصف بناء المكتبة، إلا أنه من المرجح أن بناءها قد لقي عناية فائقة من الناصر الذي عني بقصر قرطبة عناية عظيمة، حتى قيل إنه لم يبق فيه (بنية إلا وله فيها أثر محدث إما بتجديد أو بتزييد) (2) وحسبك ببناء يتسع لأربعمائة ألف كتاب فكيف يكون اتساعه وعدد حجراته؟ لقد كانت عدد غرف مكتبة الخلفاء الفاطميين أربعين غرفة في قصورهم الداخلية (3) فمن المحتمل أن تكون عدد غرف مكتبة الأمويين في قصر الخلافة مساويا له إن لم يفقه عددا، وقد زودت بالبسط والسجاجيد والستائر والمقاعد، ونظمت حجراتها على نحو يكفل الراحة لروادها، فكانت هناك غرفا للمطالعة وأخرى من أجل المناظرات والاجتماعات والبحث، ومخازن خاصة لخزن الكتب قد أعدت إعدادا خاصا، ونوعا آخر من الغرف تضم الهيئات العاملة في المكتبة عن النساخين والرسامين والخطاطين والمترجمين والمدققين. وغيرهم، وقد زودت هذه الحجرات بما يلزم العاملين من أحبار وأوراق وأدوات كتابية وأصماغ وأصباغ. ولعل في وصف المقري لمكتبة الحكم وإن كان مختصرا ما يعضد وصفنا لها: " وقد جمع في قصره الحذاق في صناعة النسخ والمهرة في الضبط والإجادة في التجليد فأوعى في ذلك كله. . " (4) وسوف نقوم الآن بوصف سريع لأهم أقسام المكتبة لنقف على كيفية إعداد الكتب فيها.
__________
(1) أحمد فكري. قرطبة في العصر الإسلامي ط 1983 ص 179.
(2) أحمد فكري. قرطبة في العصر الإسلامي ط 1983 ص 179.
(3) محمد ماهر حمادة. المكتبات في الإسلام ط ثانية 1978 ص 148.
(4) نفح الطيب جـ 1 ص 386.(17/341)
(أ) قسم الترجمة.
يضم هذا القسم أعدادا كبيرة من المترجمين المجيدين للغات الإغريقية(17/341)
واللاتينية والأسبانية وغيرها، وكان أغلبهم من النصارى والصقالبة واليهود، وقليل من المسلمين، نذكر منهم: عبد الله الصقلي، ومحمد النباتي، والبسياسي، وأبا عثمان الخزار الملقب باليابسة، ومحمد بن سعيد، وعبد الرحمن بن إسحاق بن الهيثم، وحسداي بن شبروط (1) ، وقد ساهمت هذه المجموعة في ترجمة كتاب الطب الذي أهداه إمبراطور الروم إلى الخليفة الناصر والذي سبق الحديث عنه، وكان الخلفاء الأمويون يعتنون بهذا القسم أشد الاعتناء، يجزلون العطاء للعاملين فيه مما ساعد على ترجمة العديد من الكتب الإغريقية في مجالات الطب والهندسة والفلسفة والفلك وغير ذلك في مجالات العلوم المختلفة.
__________
(1) خوليان ريبيرا. التربية الإسلامية في الأندلس. ترجمة الطاهر أحمد مكي دار المعارف ص 191.(17/342)
(ب) قسم التدقيق والمراجعة.
يعمل في هذا القسم نخبة من العلماء المعروفين بغزارة علمهم ودقة استنباطهم وحذقهم في القياس، والضاربين بقسط وافر في اللغة والأدب وعلوم الدين وعلوم الحياة، كل حسب تخصصه ومواهبه، وكانت مهمة هذا القسم مراجعة الكتب وتصحيحها والتعليق عليها بعد نقدها وتفنيدها، نذكر منهم: الرباجي محمد بن يحيى بن عبد السلام الأزدي النحوي، وكان ضليعا في علم النحو، وقد استأدبه الخليفة الناصر على ابنه المغيرة، وفي عهد الحكم زاول مهنة المراجعة والتدقيق في مكتبته وأوسع له هذا الخليفة في الجراية والعطاء (1) .
ومن المدققين أيضا محمد بن أبي الحسين الفهري القرطبي، ومحمد بن معمر الجياني، وكانا خبيرين في النحو وعلم اللغة، وقد كلفهما الحكم بتدقيق وتهذيب ما لم يهذبه أبو علي القالي من كتابه " البارع في اللغة " حيث قام المؤلف بتصحيح كتاب الهمزة وكتاب العين، ثم توليا المدققان الباقي منه بالتصحيح والتهذيب، ولما اكتمل الكتاب، خرج بخط فصيح في مائة وأربعة وستين جزءا وعدد أوراقها أربع آلاف وأربع مائة وست وأربعون ورقة، ورفعاه إلى الحكم المستنصر الذي قام هو أيضا بالمقابلة بينه وبين كتاب العين للخليل بن أحمد، وأضاف عليه إضافات أخرى (2) .
__________
(1) ابن القرضي. تاريخ العلماء. طبعة الدار المصرية ترجمة رقم 1292.
(2) خوليان ريبيرا. التربية الإسلامية في الأندلس. ترجمة الطاهر أحمد مكي دار المعارف ص 192.(17/342)
(جـ) قسم الوراقين
يضم هذا للقسم مجموعات كبيرة من الوراقين الذين يقومون بنسخ الكتب وتزيينها بالصور وتجليدها ثم عرضها في المكتبة، نذكر منهم الأديب اللغوي محمد بن أبي الحسين الفهري، وعباس بن عمرو بن هارون الصقلي، الذي عينه الحكم وراقا في مكتبته، وكان يأنس إليه كثيرا ويوسع له في الرزق (1) .
ومما ساعد على ظهور مهنة الوراقة هذه والتي لعبت دورا بارزا في تكوين مكتبة الأمويين ظهور الورق وانتشاره في الأندلس، حيث تأسس أول مصنع لصناعة الورق عام 950 م في مدينة شاطبة ينتج جمع أنواع الورق بما فيها الأبيض والملون (2) والذي ساعد بطبيعة الحال على تأليف الكتب، وسهل تداولها بين الناس، جعل أهل الأندلس أحذق الناس في الوراقة (3) .
وأعمال النسخ من الأعمال الأساسية للوراقين، وقد أعدت لهم غرف خاصة، زودت بمستلزمات النسخ من مقاعد ومحابر وأقلام وأوراق، ويشترط فيمن يمتهن مهنة النسخ جودة الخط ووضوحه وصحته، وأن يكون على حظ كبير من المعرفة والثقافة، حاضر الذهن يقظا متنبها لما يكتب، معروفا بالأمانة والصدق بين الناس.
وطريقة النسخ المتبعة غالبا أن يقوم الناسخ بنسخ المخطوط مباشرة من مخطوط آخر أمامه، فإذا انتهى من نسخه يدفعه إلى قسم المراجعة والتدقيق للتأكد من صحة ما نسخ، وإذا ما طلب أكثر من نسخة كان يجلس مجموعة من النساخ بعدد النسخ المطلوبة، ويملي عليهم شخص آخر من المخطوط المراد نسخه، ثم تدفع النسخ جميعها للمراجعة والتدقيق (4) .
فإذا ما انتهى النساخ من عملهم تمر الكتب على قسم الزخرفة لتزيين صفحاتها وتحليتها بالذهب والفضة وبعض الرسومات الجميلة، ثم تمر بعد ذلك إلى قسم التجليد ليبطن بعضها بالديباج والحرير، ثم تجلد بالأدم الجيد المجلوب من مدينة مالقة بالأندلس، والتي كانت من أكبر مراكز صناعة الجلود الفاخرة والتجليد الممتاز (5) .
__________
(1) نفح الطيب جـ 3 ص 111 طبعة إحسان عباس.
(2) محمد ماهر حمادة. المكتبات في الإسلام ط ثانية 1978 ص 74.
(3) رواية المقدسي عن أحمد أمين. ظهور الإسلام جـ 3 ص 13.
(4) محمد ماهر حمادة. المكتبات في الإسلام ط ثانية 1978ص 176.
(5) محمد ماهر حمادة. المكتبات في الإسلام ط ثانية 1978 ص 183.(17/343)
(د) قسم الفهرسة.
يقوم هذا القسم بفهرسة الكتب التي في المخازن وتصنيفها وتنظيمها حتى يسهل تناولها واستعمالها، وقد كانت مكتبة الأمويين مرتبة حسب المواضيع، فقد كان لكل موضوع فهارسه الخاصة، وهو نظام قريب من الفهرسة الموضوعية السائدة الآن في بعض المكتبات، ويتميز هذا النوع من الفهرسة بالسهولة وسرعة حصر محتويات المكتبة، فهي مكتوبة في مجلدات تستعمل كالكتب يمكن الرجوع إليها بسهولة، فلا غرو أن يرد في بعض الروايات العربية حصرا لأمهات الكتب في مكتبة الحكم، فيروي المقري نقلا عن ابن حزم (أن عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة، وفي كل فهرسة عشرون ورقة ليس فيها إلا أسماء الدواوين) . وهذه الفهارس هي على ما يبدو فهارس الدواوين الشعرية، فكيف يكون إذن سائر الموضوعات من فلسفة وعلوم دينية ونحوية وتاريخية وطبية وعلمية. . إلخ؟ .(17/344)
(هـ) قسم التأليف:
مهمة هذا القسم الإشراف على تأليف الكتب لحساب المكتبة الأموية، وينحصر عمله في اتجاهين: تلقي المؤلفات من خارج الأندلس، أو يوصى بالتأليف لأحد العلماء المبرزين في الأندلس، ومن أمثلة الاتجاه الأول مراسلة أبي الفرج الأصفهاني صاحب كتاب " الأغاني " للحصول منه على أول نسخة من هذا الكتاب، كما وضحنا سابقا، بل كانوا في بعض الأحيان تتم مراسلة مع المؤلف نفسه وإغرائه بالهجرة أو الرحيل إلى الأندلس، كما حدث مع أبي علي القالي صاحب كتاب (الأمالي) الذي ترك العراق ورحل إلى الناصر الأموي واستقبله استقبالا طيبا في قرطبة، وكان يتم الاتصال بين المؤلفين في المشرق الإسلامي عن طريق بعض الرسل المبعوثين على نفقة الخلافة الأموية، وكان أغلبهم ممن يمتهن الوراقة ولهم دراية بصناعة الكتب، وينتشرون في البلدان لانتخاب غرائب التواليف والبحث عنها ومن جملة هؤلاء الرسل: محمد بن طرخان في بغداد،(17/344)
وأبو إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان، وأبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب الكندي في مصر، وهما من أكبر فقهاء المالكية، وكان الحكم يدر عليهما أموالا كثيرة لاقتناء الكتب النادرة التي تظهر لدى علماء مصر.
ومن أمثلة الاتجاه الثاني، وهو تكليف بعض علماء الأندلس التأليف في تخصصات معينة، أبو عبد الله بن محمد بن أحمد بن يحيى الذي ألف للحكم كتبا في الفقه (1) ومحمد بن الحارث الخشني. الذي ألف لمكتبة الأمويين مجموعة ضخمة من الكتب منها " تاريخ قضاة قرطبة " وقد نقل عنه ابن الفرضي في كتابه (تاريخ علماء الأندلس) كثيرا في تراجم الرجال، ومن كتبه أيضا: فضائل الإمام مالك، ومناقب سحنون، وفقهاء المالكية، وتاريخ الأفريقيين، وكتاب الرواة عن مالك، وكتاب التعريف وكتاب الاقتباس، وكتاب المولد والوفاة، وكتاب النسب، وأغلب هذه الكتب تعد من كتب الطبقات التي تثبت غزارة علم الخشني وقوة إداركه بالأخبار وأسماء الرجال وأنسابهم.
ومن مصنفات الخشني في الفقه: كتاب الاتفاق والاختلاف في مذهب مالك، وكتاب رأي مالك الذي خالفه فيه أصحابه وكتاب الفتيا، وكتاب المحاضر، وكتاب التحاصر والمغالاة، وهذه المجموعة من كتب الفقه على ما يبدو كانت بتكليف من الناصر الأموي وابنه الحكم؛ لتدعيم المذهب المالكي مذهب أهل السنة والجماعة في الأندلس، وذلك للوقوف أمام دعاة المذهب الإسماعيلي الذي حاول الفاطميون في الشمال الأفريقي تسريبه إلى الأندلس.
__________
(1) نفح الطيب طبعة إحسان عباس جـ 2 ص 218.(17/345)
برمجة التأليف:
والمتأمل في أغلب المصنفات التي صنفت لمكتبة الأمويين بناء على طلب الخليفة الناصر وابنه الحكم، يقف على ملاحظة هامة جديرة بالدراسة الموضوعية وهي ربط التأليف الخاص بالمكتبة بالاتجاهات العامة والسياسة العليا للدولة سواء على الصعيد المحلي أو الصعيد الخارجي.
فقد تألق نجم الدولة وبلغت ذروة مجدها في عصر الناصر مما دفعه إلى إلغاء(17/345)
نظام الإمارة وإعلان الخلافة الأموية، وبذلك أظهر استقلال بلاده وانفصالها سياسيا عن الخلافة العباسية في بغداد، واستتبع ذلك أن يبرز شخصية بلاده العلمية في إطار مستقل عن المشرق الإسلامي، فنرى الناصر يكلف العالم الأندلسي " مطرف بن عيسى الغساني " أن يؤلف كتابا عن كور الأندلس فيؤلف له كتاب " المعارف في أخبار كورة البيرة وأهلها وبوائرها وأقاليمها وغير ذلك من منافعها " (1) .
ثم ينحى التأليف بعد ذلك منحى جديدا، وتظهر بعض الكتب الأندلسية التي تعارض الكتب المشرقية، فنرى ابن فرج الجياني الأديب الأندلسي المعروف يؤلف كتابا سماه (الحدائق) عارض فيه كتاب (الزهرة) لابن داود الأصفهاني، وكان كتاب ابن داود يتكون من مائة باب في كل باب مائة بيت من الشعر، أما كتاب الجياني فقد جاء في مائتي باب، في كل باب مائتا بيت من الشعر ليس في أبوابه تكرار، وكل أشعاره من شعر الأندلسيين، وقد أثنى عليه ابن حزم قائلا: " أحسن الاختيار ما شاء، وأجاد فبلغ الغاية، فأتى الكتاب فردا في معناه " (2) .
ثم تظهر النزعة القومية في التأليف، وتظهر بعض المؤلفات الخاصة بتاريخ بني أمية في المشرق والمغرب، فنرى الخليفة الحكم المستنصر يكلف عبد الله بن محمد بن الصفار الأديب الأندلسي أن يؤلف في أشعار خلفاء بني أمية على غرار كتاب الصولي الذي ألفه في أشعار بني العباس، ويهتم الخليفة الأموي بهذا الأمر اهتماما بالغا، إلى درجة أنه أمر بأن يفرد له مكان في دار الخلافة المطلة على النهر، وانكب ابن الصفار على دراسة أشعار بني العباس أولا، ثم قام بتأليف الكتاب الذي كلف به في مجلد صالح، ثم خرج به الحاجب إلى الحكم فسر به سرورا عظيما (3) .
وكانت لسياسة الأمويين تجاه أعدائهم الفاطميين في الشمال الأفريقي أثرها الواضح في برمجة التأليف، فكان الخليفة الناصر يخشى أن تتسرب مبادئ التشيع إلى بلاده، وتعدد الفرق المذهبية بها، وتصاب الأندلس من جراء ذلك بتمزق جبهته الداخلية، التي وحدها المذهب المالكي، مذهب أهل السنة والجماعة في هذه
__________
(1) ابن بشكوال. الصلة. ترجمة رقم 1367.
(2) الضبي. بغية الملتمس. . ترجمة رقم 331.
(3) الضبي. بغية الملتمس. . ترجمة رقم 331.(17/346)
البلاد؛ لذا نراه يحظر على علماء الأندلس التأليف في مسائل الفلسفة أو الفكر الاعتزالي أو الشيعي، حتى استقر في أذهان الأندلسيين أن تناول أمثال هذه الأفكار تعد كفرا وخروجا عن الدين القويم، ويروي المقدسي عن الأندلسيين قولهم: " لا نعرف إلا كتاب الله وموطأ مالك " (1) وظل هذا الحظر قائما طوال عهد الناصر مدعما من السلطة الحاكمة من جهة، ومن حرص فقهاء المالكية على سلامة العقيدة من جهة أخرى إلى أن رحل الفاطميون إلى مصر.
وبعد رحيل الفاطميين إلى مصر نهجت الحكومة الأموية نهجا آخر في التأليف، حيث أمر الحكم باتساع حركة التأليف لتشمل شتى أنواع الفكر - بما فيه فكر خصومه من الفاطميين - حيث لم يعد هناك ما يهدد أمن بلاده، وأصبح لديه ولدى شعبه من الوعي الديني ما يضمن عدم انحراف عقيدتهم، فيطلب من العلماء التصنيف في أخبار الفاطميين وأنسابهم، فنرى معاوية بن هشام المرواني - المعروف بابن الشباني - يؤلف له كتابا في نسب العلويين اسمه " التاج السني في نسب آل علي " وهو كتاب يحتوي على أخبار الشيعة في المغرب والأندلس.
أما فيما يخص شئون الشمال الأفريقي، فقد كلف الحكم " محمد بن يوسف الوراق " بتأليف كتاب ضخم في إفريقية ومسالكها وممالكها وحروبها والقائمين عليها، وألف له أيضا في أخبار تيهرت ووهران وتنس وسجلماسة ونكور وغيرها تواليف حسانا، ثم أهداها للحكم (2) .
__________
(1) نقلا عن ليفي بروفنسال. الحضارة العربية في أسبانيا. ترجمة الطاهر مكي ص 163.
(2) ابن الأبار. تكملة ترجمة رقم 1050، نفح الطيب جـ 3 ص 163.(17/347)
المنهج العلمي في التأليف:
عرفنا فيما سبق أن الخليفة الحكم المستنصر كان قارئا واعيا وذا بصيرة مستنيرة لما يقرأه، وتشير الرواية الإسلامية أنه قلما خلا كتاب من كتب مكتبته إلا وعليه تعليق بخط يده كانت هذه التعليقات موضع تقدير واستفادة من العلماء الذين عاصروه، وأتوا بعده، فاعترفوا له بالعلم وسعة الاطلاع (1) .
__________
(1) قضاة قرطبة ص 11 نشره عزت العطار الحسيني سنة 1953.(17/347)
المبحث الثالث: أثر المكتبة الفكري في شعوب غرب أوربا:
قبل الحديث عن الأثر الحضاري الذي تركته مكتبة الأمويين في شعوب غرب أوربا، أود أن أثير نقطة هامة كان لها الفضل الأكبر في هذا التأثير الحضاري، وقد أشار إليها كثير من المؤرخين المنصفين من الغرب، وهي سياسة التسامح الحكيمة والهادفة التي سار عليها الأمويون في الأندلس مع رعاياهم من النصارى واليهود، حيث لم يستثنوهم من تولي الوظائف العامة بما فيها العمل في قصر الخلافة ومكتبته الكبرى، فقد كانت تعيش طوائف مسيحية ويهودية كثيرة العدد في عاصمة الخلافة، تمارس طقوسها الدينية في حرية تامة، وينعمون بالأمن والرخاء في ظل حماية الدولة الإسلامية لهم، ويشاركون المسلمين في حياتهم العامة، فسرت إليهم العادات الإسلامية، وأقبلوا على تعلم اللغة العربية وآدابها، وكتبوا بها مؤلفاتهم العلمية، وشاركوا مشاركة فعالة في خدمة الكتب والحركة العلمية في الأندلس، فقد كان منهم مترجمون ونساخون ومجلدون، واقتنى الكثيرون منهم مكتبات كبرى أغلب كتبها باللغة العربية، ولعل هذه النعمة التي نعم بها هؤلاء المسيحيون الأسبان في ظل الحضارة الإسلامية في الأندلس، والتي شهد بها المطران " الفيرو القرطبي " alvaro de cordoba عندما أصبح مطران العاصمة، وكان متعصبا لبني جلدته حيث كتب يقول: ". . . من الذي يعكف اليوم بين أتباعنا من المؤمنين بديننا على دراسة الكتب المقدسة، أو يرجع إلى كتاب أي عالم من علمائها ممن كتبوا في اللغة اللاتينية؟ من منهم يدرس الإنجيل أو الأنبياء أو الرسل؟ إننا لا نرى غير شبان مسيحيين هاموا حبا باللغة العربية، يبحثون عن كتبها ويقتنونها، ويدرسونها في شغف، ويعلقون عليها، ويتحدثون بها في طلاقة، ويكتبون بها في جمال وبلاغة، ويقولون فيها الشعر في رقة وأناقة. يا للحزن! مسيحيون يجهلون كتابهم وقانونهم ولاتينيتهم، وينسون لغتهم نفسها؛ لأن الفصاحة العربية تسكرهم، ولا يكاد الواحد منهم يستطيع أن يكتب رسالة معقولة لأخيه مسلما عليه، وتستطيع أن تجد جمعا لا يحصى يظهر تفوقه وقدرته وتمكنه من اللغة العربية.(17/348)
ولعل في شهادة هذا القس المتعصب ما يقيم دليلا قويا شهد به أعداء الإسلام، على ما تتميز به الحضارة الإسلامية من طابع إنساني رفيع، فهي تكفل للإنسان إنسانيته مهما كان جنسه ودينه، ولا تسلبه حقوقه الإنسانية في طلب العلم والتعلم، وفي الوقت الذي فتح فيه الأمويون أبواب مكتباتهم وجامعاتهم العلمية أمام كل طالب علم، يستوي في ذلك المسلم وغير المسلم، نرى أبناء المسلمين اليوم يعانون كثيرا من الأزمات في طلب العلم وتحصيله، حيث تقوم بعض المؤسسات العلمية في الغرب بحبس الكثير من النتائج العلمية ولا سيما في مجالات العلم والتكنولوجيا، وتناسى هؤلاء القوم أنهم تعلموا على أيدي علماء بررة، لا يكتمون علما ولا يحبسون أسراره عن أحد عملا بقول نبي الإسلام - صلوات الله عليه: «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة (1) » ، (2) . فشتان إذن بين حضارتين: حضارة ترى العلم فرض كفاية إن لم يوجد في الأمة من يقوم به أثمت الأمة جميعها فلا تحول بينه وبين طلابه من أجل إسعاد البشرية، وحضارة تضن به وتقصره على أبنائها من أجل السيطرة والاستعلاء.
ولم يقتصر التأثير الفكري على نصارى أهل الأندلس، بل امتد ليعم أثره شعوب غرب أوربا قاطبة، وهذه حقيقة لا مراء فيها، فتشير الروايات إلى تأثر الإيطاليين والألمان والفرنسيين بمؤثرات الفكر الإسلامي عن طريق صقلية والأندلس إبان القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي.
فقد نقل شاباط بن إبراهيم، وكان يهوديا، علوم الطب من (بالرمو) عاصمة صقلية إلى شبه الجزيرة الإيطالية، وفي سنة 953 م بعث الإمبراطور أوتو الكبير " جان غورتز " في بعثة سياسية إلى الخليفة عبد الرحمن الناصر في الأندلس، وقد مكث فيها ثلاث سنوات تعلم أثناءها اللغة العربية، وعندما رجع إلى ألمانيا حمل معه مجموعة كبيرة من الكتب العربية، ويرجح الدكتور محمد ماهر حمادة أن بعضها كان كتبا علمية، مستدلا على ذلك بالازدهار الملحوظ في دراسة العلوم خلال القرن الحادي عشر (3) .
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2649) ، سنن أبو داود العلم (3658) ، سنن ابن ماجه المقدمة (261) ، مسند أحمد بن حنبل (2/344) .
(2) رواه أبو داود والترمذي.
(3) محمد ماهر حمادة. المكتبات في الإسلام ط ثانية 1978 ص 212.(17/349)
كما كانت كثير من المدن الأندلسية مراكز علمية كبرى ساهمت في نقل الفكر الإسلامي إلى أوربا، مثل قرطبة، إشبيلية، بطليوس، بلنسية، سرقسطة طليطلة، وقد شهدت الأخيرة أكبر حركة لتأثر الأوربيين بالفكر الإسلامي، فقد غصت مكتباتها وجوامعها بالكتب العربية في شتى العلوم المختلفة، ولا سيما العلمية، وأنشئت فيها مدرسة للترجمة من العربية إلى اللاتينية أغلبها من اليهود والنصارى الذين يجيدون اللغتين، وقاموا بنقل العديد من المؤلفات العربية ولا سيما بعد سقوط هذه المدينة في أيدي ألفونسو السادس الذي شجع حركة الترجمة هذه، ولم يأت القرن الثالث عشر إلا وكانت معظم المؤلفات العربية تدرس في أوربا (1) .
ويكفينا في هذا المقام شهادة " أنجل جنثالث بالنسيا " palencia مؤلف تاريخ الفكر الأندلسي والذي نقله عن الأسبانية " الدكتور حسين مؤنس " يقول: " إن الفضل في قيام الدراسات الطبية في أوربا يرجع إلى ما كتبه العرب. العرب الذين كانوا يبعثون بالسفراء لاستجلاب الكتب القيمة ما بين إغريقية ولاتينية، ويقيمون المراصد لدراسة الفلك، ويقومون بالرحلات ليستزيدوا من العلم بالتاريخ الطبيعي، وينشئون المدارس لتدرس فيها العلوم بشتى صنوفها " (2) .
__________
(1) محمد ماهر حمادة. المكتبات في الإسلام ط ثانية 1978 ص 214.
(2) علي محمد راضي. الأندلس والناصر. دار الكتاب العربي للطباعة والنشر ص 115، 116.(17/350)
الخاتمة
:
وبعد، فهذه مكتبة الأمويين في قرطبة، وقد نظمت تنظيما علميا على نحو ما رأينا، فكانت لؤلؤة زمانها، وسراج العلم في عصرها، ولا غرو في ذلك، فإن دورها في توطيد الصلات العلمية بين المشرق الإسلامي ومغربه لا ينكر، وتأثيرها الفكري في شعوب أوربا لا يجحد، ورحم الله الناصر الأموي وطيب ثراه بما أسداه للمسلمين وللإنسانية جمعاء، فقد أثمرت جهوده الطيبة في خدمة العلم والعلماء، وتألقت على يديه تلك المكتبة العظمى التي سطرت صفحة مشرقة في تاريخ الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية.(17/350)
صفحة فارغة(17/351)
صفحة فارغة(17/352)
صفحة فارغة(17/353)
الجهاد في الأفغان جهاد
إسلامي يجب على
المسلمين دعمه ومساندته.
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد،
فبمناسبة فراغ الحجاج من أداء مناسكهم وتقديم هديهم وضحاياهم لله سبحانه، يسرني أن أذكر المسلمين في كل مكان بإخوان لهم يقدمون أنفسهم وأموالهم جهادا في سبيل الله، وإعلاء لكلمته، وحماية لأوطان المسلمين، وإنقاذا لها من مكائد العدو الظالم الغاشم، وهم إخواننا في الله والمجاهدون في سبيله من أبناء الأفغان، ولبيان الحقيقة يسرني أن أخبر إخواني المسلمين أن هذا الجهاد قد أوشك على إنهاء عامه الثامن، والشعب الأفغاني المجاهد يحمل سلاحه، ويرفع رايته أمام أشرس قوى الأرض وأعتاها وهو ثابت لا يتراجع، صلب لا يتزعزع ولسان حاله ومقاله يردد قول الله: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ} (1) {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} (2) . وقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (3) {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (4) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 195
(2) سورة الأعراف الآية 196
(3) سورة آل عمران الآية 173
(4) سورة آل عمران الآية 174(17/354)
وهم إذ يقفون كالجبال الرواسي فإنهم بحمد الله لا يزالون في نشاط متزايد، وهمم عالية وصبر ومصابرة في مقارعة الأعداء لإخراجهم من بلادهم بالقوة بدون قيد ولا شرط إن شاء الله، ثقة بالله سبحانه واعتمادا عليه وإيمانا بما وعد به من النصر لمن نصر دينه وجاهد في سبيله، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) .
وما كان أغلب الناس يتوقعون أن يقف شعب أعزل فقير صغير أمام دولته التي باعت نفسها للكافرين، وأمام الاتحاد السوفييتي والعالم الشرقي والدول التي تدور في فلكه، ما كان الناس يظنون أن هذا الشعب الذي جعل الله جهاده مفخرة للأمة الإسلامية - سيقف طويلا طودا شامخا أمام هذه القوى الكافرة الغاشمة، وهذا هو ظن روسيا التي كانت تحسبها نزهة مريحة وسفرا قاصدا، وظنها هذا هو الذي أرداها فخسرت وخابت وانزلقت أقدامها على سفوح جبال الجهاد في أرض الأفغان، وكانت تحسب أنها ستجد أمر الأفغان كأمر عدد من الدول التي انهارت أمامها في يوم أو يومين.
ولقد اطلعت على إحصائية للمجاهدين عن نتائج المعارك في العام الأخير، فكانت النتيجة بحمد الله تشرح الصدر، وتسر القلب، وتدل على توفيق إلهي وتأييد رباني لهؤلاء المجاهدين الشعث الغبر، الذين أذل الله بهم أعتى قوى الكفر في عصرنا.
يقول التقرير:
لقد سقط للروس ثلاثمائة طائرة وطائرتان، وحطم المجاهدون ألفا ومائتين وثلاثا وستين دبابة، وثلاثة آلاف سيارة وسيارتين، وتسعة وسبعين سلاحا ثقيلا، وغنموا سبعا وثلاثين دبابة، ومائة وإحدى وستين سيارة، وثلاثمائة وثمانية وعشرين سلاحا ثقيلا، وأربعة آلاف ومائة واثنين وتسعين سلاحا خفيفا، وقتل المجاهدون سبعمائة وثمانية وسبعين ضابطا، وجرحوا تسعمائة ضابط، وقتلوا من جند الكفر
__________
(1) سورة محمد الآية 7(17/355)
عشرين ألفا وتسعة وستين جنديا، وجرحوا خمسة عشر ألفا وخمسمائة وستة وثلاثين جنديا، وأسروا ألفين وستمائة وتسعة، وانضم إليهم من الجنود أربعة آلاف وسبعمائة وأحد عشر.
هذه الأرقام عن مصادر المجاهدين التي عودت العالم رواية الأخبار كما هي بدون مجازفة.
وهذه النتيجة فوق أنها تبهج نفوس المؤمنين، فإنها تبين مدى ضخامة المعركة، وشراسة القتال، وأنها حرب طاحنة لم تشهد بعض الأقطار التي اشتركت في الحرب العالمية الثانية مثلها.
ولقد أحرز المجاهدون انتصارات عظيمة في الأشهر الأخيرة، رغم تصعيد الروس للمعركة إلى ذروتها، وبعد أن ألقوا ما في جعبتهم من أفتك الأسلحة التي اهتزت لها جبال الأفغان، وصمد أمامها ودحرها - بإذن الله - الرجال الصادقون.
ولقد شد الجهاد الأفغاني إليه أعصاب المؤمنين، ولفت أنظار العالم أجمع، ولا زالت القلوب والعيون مبهورة بما يجري على أرض أفغانستان ويتابع الناس مسلمهم وكافرهم هذا الجهاد، وهم يترقبون نتيجته باهتمام بالغ.
ولقد وقف المسلمون بمشاعرهم الطيبة مع الجهاد الأفغاني، ولكن هذا الشعور لم يتبع بخطى عملية كافية في واقع الأمر. فلم يلقوا بثقلهم في المعركة، وإن ما قدمه بعضهم من مال وما بذله بعضهم من جهد لا يتناسب مع حجم هذا الجهاد ولا مع حجم الأمة الإسلامية وإمكاناتها المتاحة، وليس هناك تناسب بين الحاجات الملحة المفروضة على المسلمين التي يفرضها حجم وثقل المعركة وأثرها في واقع الحياة، وبين ما قدمه المحسنون من أبناء هذه الأمة.
وإن أخوة الإسلام لها حقوق وواجبات، ونصرة المسلمين بعضهم بعضا من الفرائض التي افترضها رب العزة من فوق سبع سماوات فقال سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) ، وقال سبحانه
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(17/356)
{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (1) الآية. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه (2) » متفق على صحته.
فمساعدة إخواننا المجاهدين والمهاجرين الأفغان ومناصرتهم فرض عين على المسلمين اليوم بالمال والنفس أو بأحدهما حسب الاستطاعة، وخاصة أصحاب الكفايات والإمكانات من دعاة وأطباء ومهندسين ومعلمين، وقد أبلغنا المطلعون أن حاجتهم إلى الدعاة الحكماء أكبر من حاجتهم إلى الأطباء، وأن حاجتهم إلى الرجال لا تقل عن حاجتهم إلى المال، وإن كان عوزهم للمال شديدا وحاجتهم إليه ملحة.
ولقد حصلت كرامات أثناء هذا الجهاد حدث بها الثقات يصل مجموعها إلى حد التواتر، وعقيدة أهل السنة والجماعة أن الكرامات مستمرة في المسلمين إما لإقامة حجة وإما لحاجة، ولا ينكر وقوعها إلا جاهل أو مبتدع، وإن صرف الزكاة للمجاهدين عامة من أوجب الواجبات وأعظم القربات.
كما أن نصرة هذا الجهاد من أعظم الواجبات على المسلمين ترجيحا لمصلحة الدين ونصرة للمسلمين، ومراعاة لمقاصد الشريعة؛ لأن الجهاد في أفغانستان يمر بمرحلة حساسة، إما أن ينتصر المسلمون وإما أن تنتصر الشيوعية - والعياذ بالله - التي إن انتصرت فستعمل على مسح القرآن والسنة من أفغانستان، وستعمل على اجتثاث الدين من أصوله، وهذه هي الماحقة - والعياذ بالله - ولا يمكن للمسلم أن يتردد لحظة في اختيار نصرة المسلمين الأفغان على الشيوعية الكافرة المدمرة، فكيف يتردد مسلم بعد هذا في مساندته ومعاونته للمجاهدين الأفغان؟ .
كما يجب على المجاهدين بذل مزيد من الجهد لتوحيد صفوفهم وجمع كلمتهم وإصلاح ذات بينهم.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 72
(2) البخاري في كتاب المظالم، ومسلم في كتاب البر.(17/357)
وختاما أسأل الله العلي العظيم أن يجمع كلمة المجاهدين على الحق وأن يوحد صفوفهم، وأن يوفق المسلمين حكاما ومحكومين إلى مساندتهم ونصرتهم، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويصلح أحوال المسلمين في كل مكان، ويمنحهم الفقه في الدين، وينصرهم على عدوهم؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
رئيس المجلس التأسيسي
لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة
والرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(17/358)
أثر المرأة في حياتكم سؤال
من مجلة الجيل إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن سار على دربهم إلى يوم الدين وبعد:
فإن للمرأة المسلمة أثرا كبيرا في حياة كل مسلم، فهي المدرسة الأولى في بناء المجتمع الصالح، وخاصة إذا كانت هذه المرأة تسير على هدى من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأن التمسك بهما يبعد كل مسلم عن الضلال في كل شيء، وضلال الأمم وانحرافها لا يحصل إلا بابتعادها عن نهج الله سبحانه وتعالى، وما جاء به أنبياؤه ورسله - عليهم الصلاة والسلام - قال - صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم أمرين لا تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي (1) » .
ولقد جاء في القرآن الكريم كما فصلت السنة المطهرة: أهمية المرأة أما وزوجة وأختا وبنتا مالها من حقوق وعليها من واجبات.
والأهمية تكمن فيما يلقى عليها من أعباء وما تتحمل من مشاق تفوق في بعضها أعباء الرجل.
لذلك كان من أهم الواجبات شكر الوالدة وبرها وحسن صحبتها وهي مقدمة في ذلك على الوالد قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (2) .
__________
(1) رواه مالك في الموطأ بهذا المعنى في كتاب القدر
(2) سورة لقمان الآية 14(17/359)
وجاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا رسول الله: من أحق الناس بحسن صحابتي، قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال: أبوك (1) » ومقتضى ذلك أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر.
ومكانة الزوجة وتأثيرها على هدوء النفوس أبانته الآية الكريمة قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (2) .
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: {مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (3) المودة هي المحبة، والرحمة هي الرأفة فإن الرجل يمسك المرأة إما لمحبته لها، أو الرحمة بها بأن يكون لها منه ولد.
ولقد كان للوقفة الفريدة التي وقفتها خديجة - رضي الله عنها - أكبر الأثر في تهدئة روع رسولنا - صلى الله عليه وسلم - عندما شاهد جبريل - عليه السلام - بين السماء والأرض لأول مرة، فقالت: أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
وأيضا لا ننسى أثر عائشة - رضي الله عنها - حيث أخذ عنها الحديث كبار الصحابة وكثير من النساء الأحكام المتعلقة بهن.
وبالأمس القريب وعلى زمن الإمام محمد بن سعود - رحمه الله - نصحته زوجته بأن يتقبل دعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - عندما عرض عليه دعوته فإن لنصيحتها له أكبر الأثر في اتفاقهما على تجديد الدعوة ونشرها، حيث نلمس بحمد الله اليوم أثر ذلك برسوخ العقيدة في أبناء هذه الجزيرة.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأدب '' باب من أحق الناس بحسن الصحابة '' للبخاري على فتح الباري ج 10 ص 401، ومسلم في كتاب البر والصلة ج 16 ص 102 واللفظ له
(2) سورة الروم الآية 21
(3) سورة الروم الآية 21(17/360)
ولا شك أن لوالدتي - رحمة الله عليها - فضلا كبيرا وأثرا عظيما في تشجيعي على الدراسة والإعانة عليها ضاعف الله مثوبتها وجزاها عني خير الجزاء.
ولا شك في أن البيت الذي تسوده المودة والمحبة والرأفة والتربية الإسلامية سيؤثر على الرجل، فيكون بإذن الله موفقا في أمره ناجحا في أي عمل يسعى إليه من طلب علم أو كسب تجارة، أو زراعة إلى غير ذلك من أعمال.
والله أسأل أن يوفق الجميع لما يحب ويرضى، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(17/361)
الجواب المفيد
في حكم التصوير
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
السؤال: ما قولكم في حكم التصوير الذي قد عمت به البلوى وانهمك فيه الناس؟ تفضلوا بالجواب الشافي عما يحل منه وما يحرم. أثابكم الله تعالى.
الجواب: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد فقد جاءت الأحاديث الكثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحاح والمسانيد والسنن دالة على تحريم تصوير كل ذي روح، آدميا كان أو غيره، وهتك الستور التي فيها الصور، والأمر بطمس الصور، ولعن المصورين وبيان أنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة، وأنا أذكر لك جملة من الأحاديث الصحيحة الواردة في هذا الباب، وأذكر بعض كلام العلماء عليها، وأبين ما هو الصواب في هذه المسألة إن شاء الله.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى(17/362)
الله عليه وسلم - قال الله تعالى: «ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة (1) » لفظ مسلم.
وفيهما أيضا عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون (2) » .
ولهما عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم (3) » لفظ البخاري.
وروى البخاري في الصحيح عن أبي جحيفة - رضي الله تعالى - عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي ولعن آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشمة والمصور (4) » .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ (5) » متفق عليه.
وخرج مسلم عن سعيد بن أبي الحسن قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني رجل أصور هذه الصورة فأفتني فيها، فقال له: ادن مني. فدنا منه، ثم قال: ادن مني، فدنا منه حتى وضع يده على رأسه فقال: أنبئك بما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كل مصور في النار ويجعل له بكل صورة صورها نفسا فتعذبه في جهنم (6) » وقال: «إن كنت لا بد فاعلا فاصنع الشجر وما لا نفس له (7) » .
وخرج البخاري قوله: «إن كنت لا بد فاعلا (8) » إلخ في آخر الحديث الذي قبله بنحو ما ذكره مسلم.
وخرج الترمذي في جامعه، وقال حسن صحيح عن أبي الزبير عن جابر رضي
__________
(1) صحيح البخاري التوحيد (7559) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2111) ، مسند أحمد بن حنبل (2/232) .
(2) صحيح البخاري اللباس (5950) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2109) ، سنن النسائي الزينة (5364) ، مسند أحمد بن حنبل (1/375) .
(3) صحيح البخاري اللباس (5951) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2108) ، سنن النسائي الزينة (5361) ، مسند أحمد بن حنبل (2/55) .
(4) صحيح البخاري اللباس (5962) ، مسند أحمد بن حنبل (4/308) .
(5) صحيح البخاري اللباس (5963) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2110) ، سنن النسائي الزينة (5358) ، سنن أبو داود الأدب (5024) ، مسند أحمد بن حنبل (1/241) .
(6) صحيح مسلم اللباس والزينة (2110) ، مسند أحمد بن حنبل (1/308) .
(7) صحيح مسلم بشرح النووي ج 14 ص 93 طبعة دار الفكر ببيروت.
(8) صحيح البخاري البيوع (2225) ، مسند أحمد بن حنبل (1/308) .(17/363)
الله عنه قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصورة في البيت، ونهى أن يصنع ذلك (1) » .
وعن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: «دخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل، فلما رآه هتكه وتلون وجهه، وقال: " يا عائشة أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله " قالت عائشة: فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين (2) » رواه مسلم (3) .
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سفر وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيه تماثيل، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هتكه وقال: أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله. قالت: فجعلناه وسادة أو وسادتين (4) » خرجه البخاري ومسلم، وزاد بعد قوله «هتكه: وتلون وجهه (5) » . اهـ.
وعنها قالت: «قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - من سفر وعلقت درنوكا فيه تماثيل، فأمرني أن أنزعه فنزعته (6) » . رواه البخاري ورواه مسلم بلفظ: وقد سترت على بابي درنوكا فيه الخيل ذوات الأجنحة، فأمرني فنزعته.
وعن القاسم بن محمد «عن عائشة أيضا قالت: اشتريت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام على الباب فلم يدخل فعرفت في وجهه الكراهية. قالت: يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله؛ ما أذنبت؟ قال: ما بال هذه النمرقة؟ فقالت: اشتريتها لتقعد عليها وتوسدها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم وقال: إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة (7) » . رواه البخاري ومسلم. زاد مسلم من رواية ابن الماجشوني قالت: «فأخذته فجعلته مرفقتين، فكان يرتفق بهما في البيت (8) » .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) سنن الترمذي اللباس (1749) ، مسند أحمد بن حنبل (3/335) .
(2) صحيح مسلم اللباس والزينة (2107) .
(3) صحيح مسلم بشرح النووي ج 14 ص 89
(4) صحيح البخاري اللباس (5954) .
(5) صحيح مسلم اللباس والزينة (2107) .
(6) صحيح البخاري اللباس (5956) .
(7) صحيح البخاري اللباس (5957) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2107) ، مسند أحمد بن حنبل (6/246) ، موطأ مالك الجامع (1803) .
(8) صحيح مسلم اللباس والزينة (2107) .(17/364)
«لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة (1) » . متفق عليه. واللفظ لمسلم.
وخرج مسلم عن زيد بن خالد عن أبي طلحة مرفوعا قال: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تماثيل (2) » .
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم: «أن جبريل عليه السلام قال: لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة (3) » .
وخرج مسلم عن عائشة وميمونة مثله.
وخرج مسلم أيضا عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي - رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته. وخرج أبو داود بسند جيد عن جابر - رضي الله عنه - «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب زمن الفتح، وهو بالبطحاء، أن يأتي الكعبة فيمحوا كل صورة فيها، فلم يدخلها النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى محيت كل صورة فيها (4) » .
وخرج أبو داو الطيالسي في مسنده «عن أسامة قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة ورأى صورا؟ فدعا بدلو من ماء فأتيته به فجعل يمحوها ويقول: قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون» قال الحافظ: إسناده جيد.
قال: وخرج عمر بن شبه من طريق عبد الرحمن بن مهران، عن عمير مولى ابن عباس، «عن أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فأمرني فأتيته بماء في دلو، فجعل يبل الثوب ويضرب به على الصور ويقول: قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون» اهـ.
وخرج البخاري في صحيحه عن عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إلا نقضه (5) » . رواه الكشميهني بلفظ " تصاوير " وترجم عليه البخاري - رحمه الله - بـ " باب نقض الصور " وساق هذا الحديث.
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3322) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2106) ، سنن الترمذي الأدب (2804) ، سنن النسائي الزينة (5348) ، سنن ابن ماجه اللباس (3649) ، مسند أحمد بن حنبل (4/30) .
(2) صحيح مسلم اللباس والزينة (2106) .
(3) صحيح مسلم اللباس والزينة (2105) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4276) ، سنن أبو داود اللباس (4157) ، مسند أحمد بن حنبل (6/330) .
(4) سنن أبو داود اللباس (4156) ، مسند أحمد بن حنبل (3/335) .
(5) صحيح البخاري اللباس (5952) ، سنن أبو داود اللباس (4151) .(17/365)
وفي الصحيحين عن بسر بن سعيد عن زيد بن خالد عن أبي طلحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة (1) » . قال بسر: ثم اشتكى زيد فعدناه فإذا على بابه ستر فيه صورة، فقلت لعبيد الله الخولاني ربيب ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول؟ فقال عبيد الله: ألم تسمعه حين قال: إلا رقما في ثوب؟ وفي رواية لهما من طريق عمرو بن الحارث عن بكير الأشج عن بسر، فقلت لعبيد الله الخولاني: ألم يحدثنا في التصاوير؟ قال: إنه قال: إلا رقما في ثوب. ألم تسمعه؟ قلت: لا. قال: بلى قد ذكر ذلك.
وفي المسند وسنن النسائي عن عبيد الله بن عبد الله أنه دخل على أبي طلحة الأنصاري يعوده فوجد عنده سهل بن حنيف، فأمر أبو طلحة إنسانا ينزع نمطا تحته، فقال له سهل: لم تنزع؟ لأنه فيه تصاوير، وقد قال فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قد علمت. قال: ألم يقل إلا رقما في ثوب؟ قال: بلى، ولكنه أطيب لنفسي اهـ. وسنده جيد وأخرجه الترمذي بهذا اللفظ، وقال: حسن صحيح.
وخرج أبو داود والترمذي والنسائي بإسناد جيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل فقال لي: أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتان منبوذتان توطآن، ومر بالكلب فليخرج، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا بالكلب لحسن أو حسين كان تحت نضد لهم فأمر به فأخرج (2) » . هذا لفظ أبي داود، ولفظ الترمذي نحوه ولفظ النسائي: «استأذن جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (ادخل) فقال: كيف أدخل وفي بيتك ستر فيه تصاوير؟ فإما أن تقطع رءوسها أو تجعل بساطا يوطأ، فإنا معشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه تصاوير (3) » . اهـ.
وفي الباب من الأحاديث غير ما ذكرنا كثير، وفي هذه الآحاديث وما جاء في معناها دلالة ظاهرة على تحريم التصوير لكل
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3226) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2106) ، سنن أبو داود اللباس (4155) ، مسند أحمد بن حنبل (4/30) .
(2) سنن الترمذي الأدب (2806) ، سنن أبو داود اللباس (4158) ، مسند أحمد بن حنبل (2/305) .
(3) سنن النسائي الزينة (5365) .(17/366)
ذي روح، وأن ذلك من كبائر الذنوب المتوعد عليها بالنار.
وهي عامة لأنواع التصوير سواء كان للصورة ظل أم لا، وسواء كان التصوير في حائط أو ستر أو قميص أو مرآة أو قرطاس أو غير ذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفرق بين ما له ظل وغيره، ولا بين ما جعل في ستر أو غيره بل لعن المصور، وأخبر أن المصورين أشد الناس عذابا يوم القيامة، وأن كل مصور في النار وأطلق ذلك ولم يستثن شيئا.
ويؤيد العموم أنه لما رأى التصاوير في الستر الذي عند عائشة هتكه وتلون وجهه وقال: «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله (1) » ، وفي لفظ أنه قال عندما رأى الستر: «إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم (2) » فهذا اللفظ ونحوه صريح في دخول المصور للصور في الستور ونحوها في عموم الوعيد.
وأما قوله في حديث طلحة وسهل بن حنيف «إلا رقما في ثوب (3) » فهذا استثناء من الصور المانعة من دخول الملائكة لا من التصوير، وذلك واضح من سياق الحديث، والمراد بذلك إذا كان الرقم في ثوب ونحوه يبسط ويمتهن، ومثله الوسادة الممتهنة، كما يدل عليه حديث عائشة المتقدم في قطعها الستر، وجعله وسادة أو وسادتين. وحديث أبي هريرة وقول جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم: «فمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتان منبوذتان توطآن، ففعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم (4) » .
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5954) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2107) ، سنن النسائي الزينة (5356) ، مسند أحمد بن حنبل (6/219) .
(2) صحيح البخاري النكاح (5181) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2107) ، مسند أحمد بن حنبل (6/246) ، موطأ مالك الجامع (1803) .
(3) صحيح البخاري اللباس (5958) ، سنن النسائي الزينة (5349) ، موطأ مالك الجامع (1802) .
(4) سنن الترمذي الأدب (2806) ، سنن النسائي الزينة (5365) ، سنن أبو داود اللباس (4158) ، مسند أحمد بن حنبل (2/305) .(17/367)
ولا يجوز حمل الاستثناء على الصورة في الثوب المعلق أو المنصوب على باب أو جدار أو نحو ذلك؛ لأن أحاديث عائشة صريحة في منع مثل هذا الستر ووجوب إزالته أو هتكه كما تقدم ذكرها بألفاظها.
وحديث أبي هريرة صريح في أن مثل الستر مانع من دخول الملائكة حتى يبسط أو يقطع رأس التمثال الذي فيه فيكون كهيئة الشجرة، وأحاديثه عليه الصلاة والسلام لا تتناقض بل يصدق بعضها بعضا. ومهما أمكن الجمع بينها(17/367)
بوجه مناسب ليس فيه تعسف وجب وقدم على مسلكي الترجيح والنسخ، كما هو مقرر في علم الأصول ومصطلح الحديث، وقد أمكن الجمع بينها هنا كما ذكرناه فلله الحمد.
وقد رجح الحافظ في الفتح الجمع بين الأحاديث بما ذكرته آنفا، وقال: قال الخطابي: والصورة التي لا تدخل الملائكة البيت الذي هي فيه ما يحرم اقتناؤه، وهو ما يكون من الصور التي فيها الروح مما لم يقطع رأسه أو لم يمتهن. اهـ.
وقال الخطابي أيضا - رحمه الله تعالى: إنما عظمت عقوبة المصور؛ لأن الصور كانت تعبد من دون الله، ولأن النظر إليها يفتن وبعض النفوس إليها تميل.
وقال النووي - رحمه الله - في شرح مسلم (باب تحريم تصوير صورة الحيوان وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة بالفرش ونحوه، وأن الملائكة - عليهم السلام - لا يدخلون بيتا فيه صورة أو كلب.
قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر؛ لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث، وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره فصنعته حرام بكل حال؛ لأن فيه مضاهاة لخلق الله تعالى، وسواء ما كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها، وأما تصوير صورة الشجر ورجال الإبل وغير ذلك مما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام.
هذا حكم نفس التصوير. وأما اتخاذ المصور فيه صورة حيوان؛ فإن كان معلقا على حائط أو ثوبا ملبوسا أو عمامة أو نحو ذلك مما لا يعد ممتهنا فهو حرام، وإن كان في بساط يداس ومخدة ووسادة ونحوها مما يمتهن فليس بحرام إلى أن قال: لا فرق في هذا كله بين ما له ظل وما لا ظل له.
هذا تلخيص مذهبنا في المسألة، وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وهو مذهب الثوري ومالك وأبي حنيفة وغيرهم.(17/368)
وقال بعض السلف: إنما ينهى عما كان له ظل، ولا بأس بالصور التي - ليس لها ظل. وهذا مذهب باطل فإن الستر الذي أنكر النبي صلى الله عليه وسلم الصورة فيه لا يشك أحد أنه مذموم، وليس لصورته ظل مع باقي الأحاديث المطلقة في كل صورة. اهـ (1) .
قال الحافظ بعد ذكره لملخص كلام النووي هذا: قلت ويؤيد التعميم فيما له ظل وما لا ظل له ما أخرجه أحمد في حديث علي - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنا إلا كسرة، ولا صورة إلا لطخها (2) » أي طمسها. الحديث.
وفيه «من عاد إلى صنعة شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (3) » .
(قلت) ومن تأمل: الأحاديث المتقدمة تبين له دلالتها على تعميم التحريم وعدم الفرق بين ما له ظل وغيره كما تقدم توضيح ذلك.
فإن قيل: قد تقدم في حديث زيد بن خالد عن أبي طلحة أن بسر بن سعيد الراوي عن زيد قال: ثم اشتكى زيد فعدناه، فإذا على بابه ستر فيه صورة. . فظاهر هذا يدل على أن زيدا يرى جواز تعليق الستور التي فيها الصور.
فالجواب: أن أحاديث عائشة المتقدمة وما جاء في معناها دالة على تحريم تعليق الستور التي فيها الصور، وعلى وجوب هتكها، وعلى أنها تمنع دخول الملائكة، وإذا صحت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم تجز معارضتها بقول أحد من الناس ولا فعله كائنا من كان، ووجب على المؤمن: اتباعها والتمسك بما دلت عليه ورفض ما خالفه كما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (4) .
وقال تعالى {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (5) .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي ج 14، ص 81 - 82.
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/87) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (1/87) .
(4) سورة الحشر الآية 7
(5) سورة النور الآية 54(17/369)
فقد ضمن الله سبحانه في هذه الآية الهداية لمن أطاع الرسول. وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) .
ولعل زيدا - رضي الله عنه - لم يعلم الصورة التي في الستر المذكور أو علمها لكن استجازه؛ لأنه لم تبلغه الأحاديث الدالة على تحريم تعليق الستور التي فيها الصور، فأخذ بظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم: «إلا رقما في ثوب (2) » فيكون معذورا لعدم علمه بها، وأما من علم الأحاديث الصحيحة الدالة على تحريم نصب الستور التي فيها الصور فلا عذر له في مخالفتها، ومتى خالف العبد الأحاديث الصحيحة الصريحة اتباعا للهوى أو تقليدا لأحد من الناس استوجب غضب الرب ومقته، وخيف عليه من زيغ القلب وفتنته كما حذر سبحانه من ذلك في قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} (3) .
وفي قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (4) .
وقوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ} (5) الآية.
وتقدم في حديث أبي هريرة الدلالة على أن الصورة إذا قطع رأسها جاز تركها في البيت؛ لأنها تكون كهيئة الشجرة، وذلك يدل على أن تصوير الشجر ونحوها مما لا روح فيه جائز كما تقدم صريحا من رواية الشيخين عن ابن عباس.
ويستدل بالحديث المذكور أيضا على: أن قطع غير الرأس من الصورة كقطع نصفها الأسفل ونحوه لا يكفي ولا يبيح استعمالها، ولا يزول به المانع من دخول الملائكة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بهتك الصور ومحوها، وأخبر أنها تمنع من دخول الملائكة إلا ما امتهن منها، أو قطع رأسه، فمن ادعى مسوغا لبقاء
__________
(1) سورة النور الآية 63
(2) صحيح البخاري اللباس (5958) ، سنن النسائي الزينة (5349) ، موطأ مالك الجامع (1802) .
(3) سورة النور الآية 63
(4) سورة الصف الآية 5
(5) سورة التوبة الآية 77(17/370)
الصورة في البيت غير هذين الأمرين فعليه الدليل من كتاب الله أو سنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الصورة إذا قطع رأسها كان باقيها كهيئة الشجرة، وذلك يدل على أن المسوغ لبقائها خروجها عن شكل ذوات الأرواح ومشابهتها للجمادات. والصورة إذا قطع أسفلها وبقي رأسها لم تكن بهذه المثابة لبقاء الوجه، وفيه من بديع الخلقة والتصوير ما ليس في بقية البدن، فلا يجوز قياس غيره عليه عند من عقل عن الله ورسوله مراده.
وبذلك يتبين لطالب الحق أن تصوير الرأس وما يليه من الحيوان داخل في التحريم والمنع؛ لأن الأحاديث الصحيحة المتقدمة تعمه، وليس لأحد أن يستثني من عمومها إلا ما استثناه الشارع.
ولا فرق في هذا بين الصور المجسدة وغيرها من المنقوشة في ستر أو قرطاس أو نحوها، ولا بين صور الآدميين وغيرها من كل ذي روح، ولا بين صور الملوك والعلماء وغيرهم، بل التحريم في صور الملوك والعلماء ونحوهم من المعظمين أشد؛ لأن الفتنة به أعظم، ونصب صورهم في المجالس ونحوها وتعظيمها من أعظم وسائل الشرك وعبادة أرباب الصور من دون الله، كما وقع ذلك لقوم نوح، وتقدم في كلام الخطابي الإشارة إلى هذا.
وقد كانت الصور في عهد الجاهلية كثيرة معظمة معبودة من دون الله، حتى بعث الله نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - فكسر الأصنام، ومحا الصور وأزال الله به الشرك ووسائله، فكل من صور صورة أو نصبها أو عظمها، فقد شابه الكفار فيما صنعوا، وفتح للناس باب الشرك ووسائله، ومن أمر بالتصوير أو رضي به، فحكمه حكم فاعله في المنع، واستحقاق الوعيد؛ لأنه قد تقرر في الكتاب والسنة وكلام أهل العلم تحريم الأمر بالمعصية والرضا بها كما يحرم فعلها وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (1) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 68(17/371)
وقوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (1) فدلت الآية على أن من حضر المنكر ولم يعرض عن أهله فهو مثلهم.
فإذا كان الساكت عن المنكر مع الإنكار أو المفارقة مثل من فعله، فالآمر بالمنكر أو الراضي به يكون أعظم جرما من الساكت، وأسوأ حالا، وأحق بأن يكون مثل من فعله، والأدلة في هذا المعنى كثيرة يجدها من طلبها في مظانها.
وبما ذكرناه في هذا الجواب من الأحاديث وكلام أهل العلم يتبين لمريد الحق أن توسع الناس في تصوير ذوات الأرواح في الكتب والمجلات والجرائد والرسائل خطأ بين ومعصية ظاهرة، يجب على من نصح نفسه الحذر منها، وتحذير إخوانه من ذلك بعد التوبة النصوح مما قد سلف.
ويتبين له أيضا مما سلف من الأدلة أنه لا يجوز بقاء هذه التصاوير المشار إليها على حالها بل يجب قطع رأسها أو طمسها ما لم تكن في بساط ونحوه مما يداس ويمتهن، فإنه لا بأس بتركها على حالها كما تقدم الدليل على ذلك في أحاديث عائشة وأبي هريرة، وأما اللعب المصورة على صورة شيء من ذوات الأرواح فقد اختلف العلماء في جواز اتخاذها للبنات وعدمه.
وقد ثبت في الصحيحين «عن عائشة قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل يتقمعن منه، فيسر بهن إلي فيلعبن معي (2) » .
قال الحافظ في الفتح: استدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ صور البنات واللعب من أجل لعب البنات بهن، وخص ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور، وبه جزم عياض ونقله عن الجمهور، وأنهم أجازوا بيع اللعب للبنات لتدريبهن من صغرهن على أمر بيوتهن وأولادهن، قال: وذهب بعضهم إلى أنه
__________
(1) سورة النساء الآية 140
(2) فتح الباري ج 10 ص 526 ط: المطبعة السلفية ومكتبتها.(17/372)
منسوخ، وإليه مال ابن بطال وحكي عن ابن أبي زيد عن مالك: أنه كره أن يشتري الرجل لابنته الصور، ومن ثم رجح الداودي أنه منسوخ.
وقد ترجم ابن حبان " الإباحة لصغار النساء اللعب باللعب " وترجم له النسائي " إباحة الرجل لزوجته اللعب بالبنات " فلم يقيد بالصغر، وفيه نظر.
قال البيهقي بعد تخريج الأحاديث: ثبت النهي عن اتخاذ الصور، فيحمل على أن الرخصة لعائشة في ذلك كانت قبل التحريم، وبه جزم ابن الجوزي - إلى أن قال - وأخرج أبو داود والنسائي من وجه آخر «عن عائشة قالت: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك أو خيبر - فذكر الحديث في هتكه الستر الذي نصبته على بابها - قالت: فكشف ناحية الستر على بنات لعائشة لعب، فقال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي. قالت: ورأى فيها فرسا مربوطا له جناحان، فقال: ما هذا؟ قلت: فرس. قال: فرس له جناحان؟ قلت: ألم تسمع أنه كان لسليمان خيل لهل أجنحة؟ فضحك (1) » - إلى أن قال - قال الخطابي: في هذا الحديث أن اللعب بالبنات ليس كالتلهي بسائر الصور التي جاء فيها الوعيد، وإنما أرخص لعائشة فيها لأنها إذ ذاك كانت غير بالغة.
قلت: وفي الجزم به نظر لكنه محتمل؛ لأن عائشة كانت في غزوة خيبر بنت أربع عشرة سنة، إما أكملتهما أو جاوزتها أو قاربتها، وأما في غزوة تبوك فكانت قد بلغت قطعا، فيترجح رواية من قال " في خيبر " ويجمع بما قال الخطابي؛ لأن ذلك أولى من التعارض اهـ. المقصود من كلام الحافظ (2) .
إذا عرفت ما ذكره الحافظ - رحمه الله تعالى - فالأحوط ترك اتخاذ اللعب المصورة؛ لأن في حلها شكا لاحتمال أن يكون إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة على اتخاذ اللعب المصورة قبل الأمر بطمس الصور، فيكون ذلك منسوخا بالأحاديث التي فيها الأمر بمحو الصور وطمسها، إلا ما قطع رأسه أو كان ممتهنا، كما ذهب إليه البيهقي وابن الجوزي، ومال إليه ابن بطال، ويحتمل أنها مخصوصة من النهي كما
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (4932) .
(2) فتح الباري ج 10 ص 527.(17/373)
قاله الجمهور لمصلحة التمرين؛ ولأن في لعب البنات بها نوع امتهان، ومع الاحتمال المذكور والشك في حلها الأحوط تركها، وتمرين البنات بلعب غير مصورة حسما لمادة بقاء الصور المجسدة، وعملا بقوله - صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (1) » ، وقوله في حديث النعمان بن بشير المخرج في الصحيحين مرفوعا «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه (2) » والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
__________
(1) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) .
(2) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .(17/374)
حديث شريف
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل (1) » ، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك
(رواه البخاري) .
__________
(1) صحيح البخاري الرقاق (6416) ، سنن الترمذي الزهد (2333) ، سنن ابن ماجه الزهد (4114) ، مسند أحمد بن حنبل (2/41) .(17/375)
تنويه واعتذار
نعتذر للإخوة القراء عن الخطأ المطبعي الذي وقع في العدد السادس عشر بالصفحة 222 السطر الثاني حيث كتب اسم عبد المطلب والصواب عبد اللطيف.(17/376)
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} (1)
(سورة الأنعام الأية 70)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 70(18/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(18/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - الرياض
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(18/3)
المحتويات
الافتتاحية
وجوب عبادة الله وحده وبيان أسباب النصر على الأعداء لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
موضوع العدد:
بحث الشفعة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 13
الفتاوى:
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 71
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 117
بحوث في الفقه:
تعقيب على مقال الدكتور إبراهيم بن عبد الله الناصر: (موقف الشريعة الإسلامية من المصارف) سماحة الشيخ عبد العزيز ابن عبد الله بن باز 121
دراسة لمقال الدكتور إبراهيم بن عبد الله الناصر: (موقف الشريعة الإسلامية من المصارف) الدكتور محمد بن أحمد الصالح 137
بل الفائدة المصرفية من ربا النسيئة الدكتور شوقي أحمد دنيا 163(18/4)
تراجم:
من أفذاذنا العلماء الشيخ محمد بن إبراهيم الشيخ عبد الله بن سليمان المنيع 211
من أعلام المجددين شيخ الإسلام ابن تيمية الدكتور صالح بن فوزوان الفوزان 239
تحقيق مخطوطة:
مخطوطة (التمييز في معرفة أقسام الألفات) تحقيق الدكتور علي حسين البواب 265
دراسة في السنة:
أحاديث الصحيحين بين الظن واليقين الشيخ حافظ ثناء الله الزاهدي 289
مقابلة وكلمة:
مقابلة مع سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز أجرتها صحيفة تكبير الباكستانية 329
وجوب أداء الصلاة في الجماعة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 337(18/5)
صفحة فارغة(18/6)
الافتتاحية
وجوب عبادة الله وحده وبيان
أسباب النصر على أعداء الله.
سماحة الشيخ / عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد فإن أهم واجب على المكلف وأعظم فريضة عليه أن يعبد ربه سبحانه رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم القائل في كتابه الكريم {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (1) وأخبر سبحانه في موضع آخر في كتابه أنه خلق الثقلين لعبادته فقال عز وجل {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 54
(2) سورة الذاريات الآية 56(18/7)
وهذه العبادة التي خلق الله الثقلين من أجلها هي توحيده، بأنواع العبادة من الصلاة والصوم والزكاة والحج والركوع والسجود والطواف والذبح والنذر والخوف والرجاء والاستغاثة والاستعانة والاستعاذة وسائر أنواع الدعاء ويدخل في ذلك طاعته سبحانه في جميع أوامره وترك نواهيه على ما دل عليه كتابه الكريم وسنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم وقد أمر الله سبحانه جميع الثقلين بهذه العبادة التي خلقوا لها وأرسل الرسل جميعا وأنزل الكتب لبيان هذه العبادة وتفصيلها والدعوة إليها والأمر بإخلاصها لله وحده، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) وقال عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (2) ومعنى قضى في هذه الآية أمر وأوصى وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (3) والآيات في هذا المعنى في كتاب الله كثيرة وقال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (4) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (5) وقال عز وجل: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (6) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 21
(2) سورة الإسراء الآية 23
(3) سورة البينة الآية 5
(4) سورة الحشر الآية 7
(5) سورة النساء الآية 59
(6) سورة النساء الآية 80(18/8)
وقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) ، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2) وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (3) {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} (4) .
فهذه الآيات المحكمات وما جاء في معناها من كتاب الله كلها تدل على وجوب إخلاص العبادة لله وحده وأن ذلك هو أصل الدين وأساس الملة كما تدل على أن ذلك هو الحكمة في خلق الجن والإنس وإرسال الرسل وإنزال الكتب فالواجب على جميع المكلفين العناية بهذا الأمر والتفقه فيه والحذر مما وقع فيه الكثيرون من المنتسبين إلى الإسلام من الغلو في الأنبياء والصالحين والبناء على قبورهم واتخاذ المساجد والقباب عليها وسؤالهم والاستغاثة بهم واللجاء إليهم وسؤالهم قضاء الحاجات وتفرج الكروب وشفاء المرضى والنصر على الأعداء إلى غير ذلك من أنواع الشرك الأكبر وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوافق ما دل عليه كتاب الله عز وجل، ففي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ فقال معاذ: قلت الله ورسوله أعلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا (5) » الحديث، وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار (6) »
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة الأنبياء الآية 25
(3) سورة هود الآية 1
(4) سورة هود الآية 2
(5) صحيح البخاري الاستئذان (6267) ، صحيح مسلم الإيمان (30) ، سنن الترمذي الإيمان (2643) ، سنن ابن ماجه الزهد (4296) ، مسند أحمد بن حنبل (5/238) .
(6) صحيح البخاري تفسير القرآن (4497) ، صحيح مسلم الإيمان (92) ، مسند أحمد بن حنبل (1/443) .(18/9)
وخرج مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار (1) » والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وهذه المسألة هي أهم المسائل وأعظمها وقد بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى التوحيد والنهي عن الشرك فقام بتبليغ ما بعثه الله به عليه الصلاة والسلام أكمل قيام وأوذي في الله أشد الأذى فصبر على ذلك وصبر معه أصحابه رضي الله عنهم على تبليغ الدعوة حتى أزال الله من الجزيرة العربية جميع الأصنام والأوثان ودخل الناس في دين الله أفواجا وكسرت الأصنام التي حول الكعبة وفي داخلها وهدمت اللات والعزى ومناة وكسرت جميع الأصنام التي في قبائل العرب ثم توجه المسلمون بالدعوة والجهاد إلى خارج الجزيرة وهدى الله بهم من سبقت له السعادة من العباد ونشر الله بهم الحق والعدل في غالب أرجاء المعمورة وصاروا بذلك أئمة الهدى وقادة الحق ودعاة العدل والإصلاح وسار على سبيلهم من التابعين وأتباعهم بإحسان أئمة الهدى ودعاة الحق ينشرون دين الله ويدعون الناس إلى توحيد الله ويجاهدون في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم لا يخافون في الله لومة لائم فأيدهم الله ونصرهم وأظهرهم على من ناوأهم ووفى لهم بما وعدهم به في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (2) .
وقوله عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (3) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (4) ثم غير الناس بعد
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (93) ، مسند أحمد بن حنبل (3/325) .
(2) سورة محمد الآية 7
(3) سورة الحج الآية 40
(4) سورة الحج الآية 41(18/10)
ذلك وتفرقوا وتساهلوا بأمر الجهاد وآثروا الراحة واتباع الشهوات وظهرت فيهم المنكرات إلا من عصم الله سبحانه.
فغير الله عليهم وسلط عليهم عدوهم جزاء بما كسبوا وما ربك بظلام للعبيد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (1) فالواجب على جميع المسلمين حكومات وشعوبا الرجوع إلى الله سبحانه وإخلاص العبادة له وحده والتوبة إليه مما سلف من تقصيرهم وذنوبهم والبدار بأداء ما أوجب الله عليهم من الفرائض والابتعاد عما حرم عليهم والتواصي فيما بينهم بذلك والتعاون عليه.
ومن أهم ذلك إقامة الحدود الشرعية وتحكيم الشريعة بين الناس في كل شيء والتحاكم إليها وتعطيل القوانين الوضعية المخالفة لشرع الله وعدم التحاكم إليها وإلزام جميع الشعوب بحكم الشرع، كما يجب على العلماء تفقيه الناس في دينهم ونشر التوعية الإسلامية بينهم والتواصي بالحق والصبر عليه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتشجيع الحكام على ذلك كما يجب محاربة المبادئ الهدامة من شيوعية واشتراكية وبعثية وتعصب للقوميات وغيرها من المبادئ والمذاهب المخالفة للشريعة.
وبذلك يصلح الله للمسلمين ما كان فاسدا ويرد لهم ما كان شاردا ويعيد لهم مجدهم السالف وينصرهم على أعدائهم ويمكن لهم في الأرض كما قال تعالى وهو أصدق القائلين: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (3)
__________
(1) سورة الرعد الآية 11
(2) سورة الروم الآية 47
(3) سورة النور الآية 55(18/11)
وقال سبحانه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (1) {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (2) .
والله المسؤول سبحانه أن يصلح قادة المسلمين وعامتهم وأن يمنحهم الفقه في الدين ويجمع كلمتهم على التقوى ويهديهم جميعا صراطه المستقيم وينصر بهم الحق ويخذل بهم الباطل وأن يوفقهم جميعا للتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر عليه إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله وخيرته من خلقه نبينا وإمامنا سيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
الرئيس العام لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) سورة غافر الآية 51
(2) سورة غافر الآية 52(18/12)
موضوع العدد:
الشفعة
إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده، وبعد: فبناء على ما تقرر في الدورة السابعة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في النصف الأول من شهر شعبان عام 1395 هـ من إدراج موضوع الشفعة بالمرافق الخاصة في جدول أعمال الدورة الثامنة المتقرر انعقادها في أول ربيع الثاني عام 1396 هـ وحيث إن دراسة أي موضوع يستلزم إعداد بحث فيه، فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الموضوع يشتمل على تعريف الشفعة في اللغة وفي الاصطلاح الشرعي وعلى مستند مشروعيتها وحكمة ذلك، وعلى مجموعة من مسائل الشفعة مما هي موضع خلاف بين أهل العلم وفي مقدمة ذلك الشفعة بالمرافق الخاصة، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.،،.(18/13)
الشفعة في اللغة:
الشفعة من شفع يشفع شفعا كمنع، بمعنى الضم والزيادة، وتطلق أيضا فيراد بها المال المشفوع فيه وتطلق ويراد بها تملك ذلك المال، قال في المصباح المنير: شفعت الشيء شفعا من باب نفع ضممته إلى الفرد وشفعت الركعة جعلتها ثنتين، ومن هنا اشتقت الشفعة وهي مثال غرفة لأن صاحبها يشفع ماله بها، وهي اسم للملك المشفوع مثل اللقمة اسم للشيء الملقوم، وتستعمل بمعنى التملك لذلك الملك ومنه قولهم: من ثبت له شفعة فأخر الطلب بغير عذر بطلت شفعته، ففي هذا المثال جمع بين المعنيين فإن الأولى للمال والثانية للتملك. أهـ.
وفي لسان العرب: الشفع من الأعداد ما كان زوجا تقول كان وترا فشفعته بآخر وشفعة الضحى ركعتا الضحى- إلى أن قال- وسئل أبو العباس عن اشتقاقها في اللغة فقال: الشفعة الزيادة وهو أن يشفعك فيما تطلب حتى تضمه إلى ما عندك فتزيده وتشفعه بها أي تزيده بها أي أنه كان وترا واحدا فضم إليه ما زاده وشفعه به. اهـ.(18/14)
الشفعة في الاصطلاح الشرعي:
اختلف الفقهاء رحمهم الله تعالى في تعريف الشفعة تبعا لاختلافهم في موجباتها وشروطها وفيمن لهم حق الشفعة، فذهب الحنفية إلى أن الشفعة حق تملك المرء ما بيع من عقار أو ما هو في حكم العقار مما هو متصل بعقاره من شركة أو جوار بمثل الثمن الذي قام عليه المشتري وذلك لدفع ضرر الشراكة أو الجوار.(18/14)
وذهب المالكية إلى أن الشفعة استحقاق شريك أخذ مبيع شريكه بثمنه. قوله شريك قيد أخرج به الجار والشريك في حق المبيع. وقوله مبيع قيد أخرج- الموهوب بلا عوض وكذا الموروث (1) .
وذهب الشافعية إلى أن الشفعة استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه المنتقل عنه من يد من انتقلت إليه بمثل العوض المسمى (2) .
وذهب الحنابلة إلى أن الشفعة استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه من يد من انتقلت إليه إن كان مثله أو دونه بعوض مالي بثمنه الذي استقر عليه العقد، فقوله: الشريك قيد خرج به الجار والشريك في حق المبيع. وقوله: إن كان مثله أو دونه قيد خرج به الكافر فلا شفعة له على مسلم وقوله بثمنه الذي استقر عليه العقد خرج به الموهوب والموروث وما كان صداقا أو عوض خلع أو نحوهما (3) .
مما تقدم تتضح العلاقة بين المعنيين اللغوي والشرعي فإذا كانت الشفعة لغة بمعنى الضم والزيادة فإن الشفيع بانتزاعه حصة شريكه من يد من انتقلت إليه بضم تلك الحصة إلى ما عنده فيزيد بها تملكه فالضم والزيادة موجودان في المعنيين اللغوي والشرعي غير أن الشفعة في عرف الشرع اعتبر فيها قيود جعلتها أخص من معناها في اللغة.
__________
(1) مواهب الجليل شرح مختصر خليل جـ 2 ص296.
(2) مغني المحتاج جـ 2 ص296.
(3) المغني جـ5 ص255 حاشية المقنع جـ 2 ص256.(18/15)
مشروعية الشفعة:
الشفعة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع:(18/15)
أما الكتاب فقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة فيما لم يقسم (2) » .
وأما السنة فقد ورد بمشروعيتها جملة أحاديث وآثار نذكر منها ما يلي:
1) روى البخاري في صحيحه وأبو داود والترمذي في سننهما بإسنادهم إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وضعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (3) » . . ولمسلم بسنده إلى جابر قال «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة ما لم تقسم ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك وإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به حتى يؤذنه (4) » . وفي رواية للترمذي «من كان له شريك في حائط فلا يبيع نصيبه من ذلك حتى يعرضه على شريكه (5) » .
2) ولأبي داود بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قسمت الدار وحددت فلا شفعة فيها» . قال الشوكاني في النيل ورجال إسناده ثقات ورواه ابن ماجه بمعناه.
3) وللترمذي بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشريك شفيع والشفعة في كل شيء (6) » ورجاله ثقات إلا أنه أعل بالإرسال كما قال الترمذي. وفي رواية للطحاوي بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) سنن أبو داود البيوع (3515) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2497) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2214) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) .
(4) صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3513) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .
(5) سنن الترمذي البيوع (1312) .
(6) سنن الترمذي الأحكام (1371) .(18/16)
في كل شيء» ، قال الشوكاني في النيل إسناد حديث جابر لا بأس برواته كما قاله الحافظ.
4) وللبخاري وأبي داود والنسائي واللفظ للبخاري بإسناده إلى عمرو بن الشريد قال وقفت على سعد بن أبي وقاص فجاء المسور بن مخرمة فوضع يده على إحدى منكبي إذ جاء أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا سعد ابتع مني بيتي في دارك فقال سعد والله ما أبتاعهما فقال المسور والله لتبتاعنهما فقال سعد والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة أو مقطعة فقال أبو رافع لقد أعطيت بها خمسمائة دينار ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الجار أحق بسقبه (1) » ما أعطيتكها بأربعة آلاف وأنا أعطى بها خمسمائة دينار فأعطاه إياها.
هـ) ولأحمد والأربعة بإسنادهم إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا (2) » قال في البلوغ ورجاله ثقات. قال الصنعاني في شرحه: أحسن المصنف بتوثيق رجاله وعدم إعلاله وإلا فإنهم قد تكلموا في هذه الرواية بأنه انفرد بزيادة قوله: إذا كان طريقهما واحدا، عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي. قلت وعبد الملك ثقة مأمون لا يضر انفراده كما عرف في الأصول وعلوم الحديث.
6) وفي الموطأ أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: إذا وقعت الحدود في الأرض فلا شفعة فيها ولا شفعة في بئر ولا في فحل النخل. قال مالك: وعلى هذا الأمر عندنا.
7) ولابن ماجه بسند ضعيف إلى ابن عمر رضي الله عنهما: الشفعة
__________
(1) صحيح البخاري الشفعة (2258) ، سنن النسائي البيوع (4702) ، سنن أبو داود البيوع (3516) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2495) ، مسند أحمد بن حنبل (6/10) .
(2) سنن أبو داود البيوع (3518) .(18/17)
كحل العقال ورواه ابن حزم وزاد: فإن قيدها مكانه ثبت حقه وإلا فاللوم عليه. وأخرج عبد الرزاق عن شريح: إنما الشفعة لمن واثبها.
وأما الإجماع، فقد أجمع أهل العلم على القول بها ولم يعرف فيها مخالف إلا ما نقل عن أبي بكر بن الأصم من إنكارها بحجة أن في إثباتها إضرارا بأرباب الأملاك حيث إن المشتري يحجم عن الشراء إذا علم أن ما يشتريه سينتزع منه فيتضرر الملاك بذلك.
وقد رد ابن قدامة رحمه الله شبهته في معرض بحثه إجماع الأمة على القول بالشفعة فقال: وأما الإجماع فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على إثبات الشفعة للشريك الذي لم يقاسم فيما بيع من أرض أو دار أو حائط والمعنى في ذلك أن أحد الشريكين إذا أراد أن يبيع نصيبه وتمكن من بيعه لشريكه وتخليصه مما كان بصدده من توقع الحصة والاستخلاص فالذي يقتضيه حسن العشرة أن يبيعه منه ليصل إلى غرضه من بيع نصيبه وتخليص شريكه من الضرر فإذا لم يفعل ذلك وباعه لأجنبي سلط الشرع الشريك على صرف ذلك إلى نفسه. ولا نعلم أحدا خالف هذا إلا الأصم فإنه قال لا تثبت الشفعة لأن في ذلك إضرارا بأرباب الأملاك فإن المشتري إذا علم أنه يؤخذ منه إذا ابتاعه لم يبتعه ويتقاعد الشريك عن الشراء فيستضر المالك. وهذا ليس بشيء لمخالفته الآثار الثابتة والإجماع المنعقد قبله. والجواب عما ذكره من وجهين:
أحدهما: أنا نشاهد الشركاء يبيعون ولا يعدم من يشتري منهم غير شركائهم ولم يمنعهم استحقاق الشفعة من الشراء.(18/18)
الثاني: أنه يمكنه إذا لحقته بذلك مشقة أن يقاسم فيسقط استحقاق الشفعة. اهـ (1) .
__________
(1) المغني جـ 5 ص255.(18/19)
دفع شبه القول بمنافاتها للقياس.
لقد تكلم بعض أهل العلم في الشفعة من حيث زعم بعضهم منافاتها لبعض الأصول والمبادئ الشرعية فقال السرخسي: وزعم بعض أصحابنا رحمهم الله أن القياس يأبى ثبوت حق الشفعة لأنه يتملك على المشتري ملكا صحيحا له بغير رضاه وذلك لا يجوز فإنه من نوع الأكل بالباطل وتأيد هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه (1) » ولأنه بالأخذ يدفع الضرر عن نفسه على وجه يلحق الضرر بالمشتري في إبطال ملكه عليه وليس لأحد أن يدفع الضرر عن نفسه بالإضرار بغيره. اهـ (2) .
وأورد ابن القيم رحمه الله شبهة لنفاة الحكم والتعليل والقياس فقال: وحرم أخذ مال الغير إلا بطيب نفس منه ثم سلطه علما أخذ عقاره وأرضه بالشفعة. وقد رد رحمه الله على هذه الشبهة وعلى دعوى منافاة مشروعية الشفعة لأصول الشريعة ومبادئها فقال: من محاسن الشريعة وعدلها وقيامها بمصالح العباد ورودها بالشفعة، ولا يليق بها غير ذلك، فإن حكمة الشارع اقتضت رفع الضرر عن المكلفين ما أمكن، فإن لم يمكن رفعه إلا بضرر أعظم منه بقاه على حاله. وإن أمكن رفعه بالتزام ضرر دونه رفعه به.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/73) .
(2) المبسوط جـ14 ص90.(18/19)
ولما كانت الشركة منشأ الضرر في الغالب، فإن الخلطاء يكثر فيهم بغي بعضهم على بعض، شرع الله سبحانه رفع هذا الضرر بالقسمة تارة، وانفراد كل من الشريكين بنصيبه، وبالشفعة تارة، وانفراد أحد الشريكين بالجملة، إذا لم يكن على الآخر ضرر في ذلك فإن أراد بيع نصيبه وأخذ عوضه كان شريكه أحق به من الأجنبي وهو يصل إلى غرضه من العوض من أيهما كان فكان الشريك أحق بدفع العوض من الأجنبي، ويزول عنه ضرر الشركة، ولا يتضرر البائع لأنه يصل إلى حقه من الثمن، وكان هذا من أعظم العدل وأحسن الأحكام المطابقة للعقول والفطر ومصالح العباد. اهـ (1)
__________
(1) إعلام الموقعين جـ 2 ص111.(18/20)
الحكمة في مشروعية الشفعة
لا شك أن الشريعة الإسلامية تهدف بتشريعاتها إلى تحقيق العدل وتعميم الرخاء وتحصيل المصالح ودرء المفاسد فهي عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه. والشفعة شرع الله شرعها تعالى بلسان رسوله صلى الله عليه وسلم فلا شك أن لمشروعيتها حكمة اقتضاها عدله تعالى بين عباده ورحمته بين خلقه، ولا شك أن من الحكمة في مشروعيتها إزالة الضرر بين الشركاء أو الضرر مطلقا فإن الشركات في الغالب تعتبر موطنا للخصومات ومحلا للتضرر والتعديات قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} (1) قال ابن القيم رحمه الله: ولما كانت الشركة منشأ الضرر في الغالب فإن الخلطاء يكثر فيهم بغي بعضهم على بعض شرع الله سبحانه رفع هذا الضرر بالقسمة تارة وانفراد
__________
(1) سورة ص الآية 24(18/20)
كل من الشريكين بنصيبه، وبالشفعة تارة وانفراد أحد الشريكين بالجملة. اهـ (1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الشفعة: فإنها شرعت لتكميل الملك للشفيع لما في الشركة من التضرر. اهـ (2) .
ونقل علي حيدر عن مجمع الأنهر: أن الحكمة في مشروعيتها دفع ما ينشأ من سوء الجوار من الضرر على وجه التأييد كإيقاد النار وإعلاء الجدار وإثارة الغبار ومنع ضوء النهار وإقامة الدواب والصغار. اهـ (3) .
وباستعراض ما تقدم من تعاريف الشفعة لدى أهل العلم وحكمة مشروعيتها يتضح ما يلي:
ا) اتفاقهم على القول بالشفعة على وجه الإجمال.
2) اتفاقهم على ثبوت الشفعة للشريك المسلم بشرطه.
3) اتفاقهم على عدم اعتبار رضا الشريك والمشفوع عليه في انتزاع الشفيع حصة شريكه من يد من انتقلت إليه.
4) اتفاقهم في الجملة على ثبوت الشفعة في العقار.
5) اختلافهم في سبب الشفعة حيث اتفق الأئمة الثلاثة مالك، والشافعي، وأحمد على أن الشفعة خاصة للشريك فلا شفعة بجوار ولا بمرفق خاص مشترك كطريق وبئر ومسيل وخالف في ذلك الإمام أبو حنيفة حيث أثبت الشفعة بالجوار وبالمرافق الخاصة ووافقه في ذلك الإمام أحمد في رواية عنه في الشفعة بالمرافق الخاصة.
__________
(1) إعلام الموقعين جـ 2 ص111.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية جـ 29 ص 178.
(3) درر الأحكام شرح مجلة الأحكام جـ 4 ص672.(18/21)
6) اختلافهم في الشركة فيما لا يقبل القسمة من العقار كالحمام الصغير والحانوت.
7) اختلافهم في الشركة في المنقولات هل فيها شفعة.
8) اختلافهم في الكافر هل له حق الشفعة على المسلم حيث اتفق الأئمة الثلاثة أبو حنيفة، ومالك والشافعي على إثبات الشفعة له على المسلم وخالفهم في ذلك الإمام أحمد حيث منعها عنه بحجة أنه ليس له مثل حق المسلم.
9) اختلافهم فيما إذا انتقلت الحصة إلى الغير بعوض غير مسمى.
10) اختلافهم في الوقف هل تثبت فيه وبه الشفعة.
11) اختلافهم في شفعة غير المكلف كالصبي والمجنون.
12) اختلافهم في شفعة الغائب.
13) اختلافهم في إرث الحق في الشفعة.(18/22)
وفيما يلي ذكر بعض من أقوال أهل العلم فيما اختلفوا فيه مما ذكر.
1 - الاشتراك فيما لا يقبل القسمة من العقار:
اختلف أهل العلم في ثبوت الشفعة بالشركة فيما لا يقبل القسمة من العقار كالحمام الصغير والحانوت فذهب جمهور الشافعية والحنابلة إلى أن الشركة في ذلك لا تعتبر سببا للأخذ بالشفعة لأن الشفعة مشروعة لدفع ضرر مؤنة القسمة واستحداث المرافق وهذا غير موجود فيما لا يقبل القسمة، فانتفت الشفعة. قال في المنهاج: وكل ما لو قسم بطلت منفعته المقصودة، كحمام ورحى لا شفعة فيه على الأصح اهـ (1) .
وقال في المجموع: ولا تجب إلا فيما تجب قسمته عند الطلب، فأما
__________
(1) المنهاج ومعه شرحه المغنى جـ 2 ص297.(18/22)
مالا تجب قسمته كالرحى والبئر الصغيرة والدار الصغيرة فلا تثبت فيه الشفعة، وقال أبو العباس: تثبت فيه الشفعة لأنه عقار فتثبت فيه الشفعة قياسا على ما تجب قسمته والمذهب الأول لما روي عن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه أنه قال: لا شفعة في بئر والأرف تقطع كل شفعة ولأن الشفعة إنما تثبت للضرر الذي يلحقه بالمقاسمة وذلك لا يوجد فيما لا يقسم. اهـ (1) .
وذكر الشربيني وجه الخلاف في المذهب في ذلك فقال: هذا الخلاف مبني على ما مر من أن علة ثبوت الشفعة دفع ضرر مؤونة القسمة واستحداث المرافق إلخ. . . والثاني مبني على أن العلة دفع ضرر الشركة فيما يدوم وكل من الضررين حاصل قبل البيع ومن حق الراغب فيه من الشريكين أن يخلص صاحبه منهما بالبيع له فإذا باع لغيره سلطه الشرع على أخذه منه لما روى مسلم عن جابر: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك، فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به (2) » . اهـ (3) .
وقال ابن قدامة رحمه الله: الشرط الثالث أن يكون المبيع مما يمكن قسمته فأما ما لا يمكن قسمته من العقار كالحمام الصغير والرحى الصغير والعضادة والطريق الضيقة والعراص الضيقة فعن أحمد روايتان، إحداهما: لا شفعة فيه وبه قال يحيى بن سعيد وربيعة والشافعي. . والثانية فيها الشفعة- إلى أن قال- والأول ظاهر المذهب لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لا شفعة في فناء ولا طريق ولا منقبة» والمنقبة الطريق الضيقة رواه أبو الخطاب في رؤوس المسائل، وروي عن عثمان رضي
__________
(1) المجموع جـ14 ص132، والأرف جمع أرفة كغرفة وهى الحد بين الشيئين.
(2) صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3513) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .
(3) مغني المحتاج جـ2 ص297.(18/23)
الله عنه أنه قال: لا شفعة في بئر ولا فحل. ولأن إثبات الشفعة في هذا يضر بالبائع لأنه لا يمكنه أن يتخلص من إثبات الشفعة في نصيبه بالقسمة وقد يمنع المشتري لأجل الشفيع فيتضرر البائع وقد يمتنع البيع فتسقط الشفعة فيؤدي إثباتها إلى نفيها ويمكن أن يقال أن الشفعة إنما تثبت لدفع الضرر الذي يلحقه بالمقاسمة لما يحتاج إليه من إحداث المرافق الخاصة ولا يوجد هذا فيما لا ينقسم.
وقولهم إن الضرر ههنا أكثر لتأبده، قلنا إلا أن الضرر في محل الوفاق من غير جنس هذا الضرر وهو ضرر الحاجة إلى إحداث المرافق الخاصة فلا يمكن التعدية وفي الشفعة ههنا ضرر غير موجود في محل الوفاق وهو ما ذكرناه فتعذر الإلحاق. اهـ (1) .
وقد اختلفت الرواية عن الإمام مالك رحمه الله في ذلك قال أبو عبد الله المواق: قال ابن رشد: الشفعة إنما تكون فيما ينقسم من الأصول دون ما لا ينقسم وهذا أمر اختلف فيه أصحاب مالك في المدونة قال مالك إذا كانت نخلة بين رجلين فباع أحدهما حصته فلا شفعة لصاحبه فيها وفي المدونة أيضا قال مالك في الحمام الشفعة وهو أحق أن تكون فيه الشفعة من الأرض لما في قسم ذلك من الضرر وقاله مالك وأصحابه أجمع. اهـ (2) .
وذهب الحنفية ومن وافقهم من الشافعية والمالكية والحنابلة إلى ثبوت الشفعة في العقار مطلقا سواء أمكن قسمته أم لم تمكن وهذا القول رواية عن الإمام أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره من أصحابه كما اختاره بعض أصحاب الشافعي كأبي العباس بن سريج وهو رواية المهذب عن الإمام مالك رحمه الله.
__________
(1) المغني جـ 5 ص259-260.
(2) التاج والإكليل على شرح مختصر خليل جـ 5 ص315.(18/24)
قال السرخسي: واستحقاق الشفعة في الحمام والرحى قولنا- وذكر توجيه ذلك- بأنه لدفع ضرر البادئ بسوء المجاورة على الدوام وذلك فيما لا يحتمل القسمة موجود لاتصال أحد المالكين بالآخر على وجه التأبيد والقرار وحجتنا في ذلك ما روينا من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشفعة في كل شيء ربع أو حائط (1) » . ولأن الحمام لو كان مهدوما فباع أحد الشريكين نصيبه كان للشريك الشفعة وما يستحق بالشفعة مهدوما يستحق بالشفعة مثبتا كالشقص من الجدار ثم أجاب عن القول بأن علة الشفعة دفع ضرر مؤونة القسمة وأنه لا قسمة فيما لا يقبلها فقال: وبهذا يتبين أن مؤونة المقاسمة إن كانت لا تلحقه في الحال فقد تلحقه في الثاني وهو ما بعد الانهدام إذا طلب أحدهما قسمة الأرض بينهما. اهـ (2) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: اتفق الأئمة على ثبوت الشفعة في العقار الذي يقبل القسمة قسمة الإجبار كالقرية والبستان ونحو ذلك وتنازعوا فيما لا يقبل قسمة الإجبار وإنما يقسم بضرر أو رد عوض فيحتاج إلى التراضي، هل تثبت فيه الشفعة على قولين، أحدهما: تثبت وهو مذهب أبي حنيفة واختاره بعض أصحاب الشافعي كابن سريج وطائفة من أصحاب أحمد كأبي الوفاء بن عقيل وهي رواية المهذب عن مالك وهذا القول هو الصواب كما سنبينه إن شاء الله. والثاني: لا تثبت فيه الشفعة- ثم قال- والقول الأول أصح فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من كان له شريك في أرض أو ربعة أو حائط فلا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به (3) » ، ولم يشترط النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض والربعة
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3513) .
(2) المبسوط جـ14 ص135.
(3) صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3513) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .(18/25)
والحائط أن يكون مما يقبل القسمة فلا يجوز تقييد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير دلالة من كلامه لا سيما وقد ذكر هذا في باب تأسيس إثبات الشفعة وليس عنه لفظ صحيح صريح في الشفعة أثبت من هذا ففي الصحيحين «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (1) » . فلم يمنع الشفعة إلا مع إقامة الحدود وصرف الطرق وهذا الحديث في الصحيح عن جابر وفي السنن عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا (2) » . فإذا قضى بها للاشتراك في الطريق فلأن يقضي بها للاشتراك في رقبة الملك أولى وأحرى- إلى أن قال- وأيضا فمن المعلوم أنه إذا أثبت النبي صلى الله عليه وسلم الشفعة فيما يقبل القسمة فما لا يقبل القسمة أولى بثبوت الشفعة فيه فإن الضرر فيما يقبل القسمة يمكن رفعه بالمقاسمة وما لا يمكن فيه القسمة يكون ضرر المشاركة فيه أشد، وظن من ظن أنها تثبت لرفع ضرر المقاسمة لا لضرر المشاركة كلام ظاهر البطلان فإنه قد ثبت بالنص والإجماع أنه إذا طلب أحد الشريكين القسمة فيما يقبلها وجبت إجابته إلى المقاسمة. ولو كان ضرر المشاركة (3) أقوى لم يرفع أدنى الضررين بالتزام أعلاهما ولم يوجب الله ورسوله الدخول في الشيء الكثير لرفع الشيء القليل فإن شريعة الله منزهة عن مثل هذا.
وأما قولهم هذا يستلزم ضرر الشريك البائع فجوابه أنه إذا طلب المقاسمة ولم يمكن قسمة العين فإن العين تباع ويجبر الممتنع على البيع ويقسم الثمن بينهما وهذا مذهب جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد. اهـ (4) .
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2214) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) .
(2) سنن أبو داود البيوع (3518) .
(3) هكذا في المطبوع ولعل الصواب: ضرر المقاسمة.
(4) المجموع جـ 30 ص (381- 384) .(18/26)
وقال ابن قدامة رحمه الله: في معرض توجيه القول بثبوت الشفعة فيما لا تمكن قسمته بعد أن ذكر أنه رواية عن الإمام أحمد رحمه الله: ووجه هذا عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «الشفعة فيما لم يقسم (1) » وسائر الألفاظ العامة ولأن الشفعة ثبتت لإزالة ضرر المشاركة والضرر في هذا النوع أكثر لأنه يتأبد ضرره. اهـ (2) .
وسئل الشيخ حمد بن ناصر والشيخ عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله عن الشفعة في أرض لا تمكن قسمتها إجبارا فأجابا: هذه المسألة اختلف الفقهاء فيها وفيها قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد الأولى أن الشفعة لا تثبت إلا في المبيع الذي تمكن قسمته فأما ما لا تمكن قسمته من العقار كالحمام الصغير والعضادة والطريق الضيقة فلا شفعة فيه وبه قال يحيى بن سعيد وربيعة والشافعي وهذا هو المذهب عند المتأخرين من الحنابلة. قال الموفق في المغني وهو ظاهر المذهب لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا شفعة في فناء ولا في طريق ولا في منقبة» . والمنقبة الطريق الضيق رواه أبو الخطاب في رؤوس المسائل، والرواية الثانية تثبت الشفعة فيه وهو قول أبي حنيفة والثوري وابن سريج ورواية عن مالك واختاره ابن عقيل وأبو محمد الجوزي والشيخ تقي الدين، قال الحارثي وهو الحق لعموم قوله صلى الله عليه وسلم الشفعة فيما لم يقسم وسائر الألفاظ ولأن الشفعة تثبت لإزالة الضرر بالمشاركة والضرر في هذا النوع أكثر لأنه يتأبد ضرره وهذا هو المفتى به عندنا وهو الراجح. اهـ (3) .
وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله إجابة لسؤال وجه إليه عن رأيه في اشتراط أن تكون الشفعة في أرض تجب قسمتها ما نصه:
__________
(1) سنن النسائي البيوع (4704) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) ، موطأ مالك الشفعة (1420) .
(2) المغني جـ 5 ص259.
(3) الدرر السنية جـ5 ص (226) .(18/27)
وأما المسألة الثانية وهي أنهم رحمهم الله لم يثبتوا الشفعة إلا في العقار الذي يمكن قسمته دون ما لا تمكن قسمته فهذا ضعيف أيضا لأن حديث جابر المرفوع «قضى صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم (1) » - وهو في الصحيح - صريح في عموم الشفعة في كل عقار لم يقسم سواء أمكنت قسمته بلا ضرر أم لا.
ومن جهة المعنى الذي أثبت الشارع الشفعة فيه للشريك لإزالة ضرر الشركة وهذا المعنى موجود في الأرض التي لا يمكن قسمتها أكثر من غيرها لتمكنه في غيرها بإزالة ضرر الشركة في القسمة فيما يقسم بلا ضرر وأما ما لا يمكن قسمته إلا بضرر فهو أعظم ضررا من غيره فكيف لا تثبت به وهذا هو الصحيح وهو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد. اهـ (2) .
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2214) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) .
(2) الفتاوى السعدية ص437.(18/28)
2 - الاشتراك في المنقولات:
لا يخلو أمر المنقول من حالين إما أن يكون متصلا بالأرض كالبناء والغراس مما يباع مع الأرض فهذا يؤخذ بالشفعة تبعا لأصله قال ابن قدامة رحمه الله بعد أن حكاه قولا واحدا في المذهب بغير خلاف: ولا نعرف فيه بين من أثبت الشفعة خلافا. اهـ (1) .
وإما أن يكون منفصلا عنه كالزرع والثمرة وغيرهما من المنقولات فذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الشفعة لا تثبت فيه تبعا ولا منفردا لأن الشفعة بيع في الحقيقة وما كان منفصلا لا يدخل في البيع تبعا. قال الشربيني في شرحه قول صاحب المنهاج: لا تثبت في منقول. ما نصه: لا تثبت الشفعة في منقول كالحيوان والثياب سواء أبيعت وحدها أم
__________
(1) المغني جـ 5 ص258.(18/28)
مضمومة إلى أرض للحديث المار فإنه يخصها بما تدخله القسمة والحدود والطرق وهذا لا يكون في المنقولات ولأن المنقول لا يدوم بخلاف العقار فيتأبد فيه ضرر المشاركة والشفعة تملك بالقهر فناسب مشروعيتها عند شدة الضرر والمراد بالمنقول ابتداء لتخرج الدار إذا انهدمت بعد ثبوت الشفعة فإن نقضها يؤخذ بالشفعة. اهـ.
وقال أيضا في شرحه قول صاحب المنهاج: وكذا ثمر لم يؤبر في الأصح. ما نصه: ويأخذ الشفيع الشجر بثمرة حدثت بعد البيع ولم تؤبر عند الأخذ لأنها قد تبعت الأصل في البيع فتبعته في الأخذ بخلاف ما إذا أبرت عنده فلا يأخذها لانتفاء التبعية. أما المؤبرة عند البيع إذا دخلت بالشرط فلا تؤخذ لما سبق من انتفاء التبعية فتخرج بحصتها من الثمن. اهـ (1) .
وقال ابن قدامة رحمه الله: القسم الثاني ما لا تثبت فيه الشفعة تبعا ولا مفردا وهو الزرع والثمرة الظاهرة تباع مع الأرض فإنه لا يؤخذ بالشفعة مع الأصل، ثم ذكر توجيه ذلك بقوله لأنه لا يدخل في البيع تبعا فلا يؤخذ بالشفعة كقماش الدار وعكسه البناء والغراس وتحقيقه أن الشفعة بيع في الحقيقة لكن الشارع جعل له سلطان الأخذ بغير رضا المشتري فإن بيع الشجر وفيه ثمرة غير ظاهرة كالطلع غير المؤبر دخل في الشفعة لأنها تتبع في البيع فأشبهت الغراس في الأرض، وأما ما بيع مفردا من الأرض فلا شفعة فيه سواء كان مما ينقل كالحيوان والثياب والسفن والحجارة والزرع والثمار أو لا ينقل كالبناء والغراس إذا بيع مفردا وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي. اهـ (2) .
__________
(1) مغنى المحتاج جـ 2 ص (296- 297) .
(2) المغني جـ (5) ص 258.(18/29)
وذهب الحنفية إلى أن التمرة في الأرض تابعة للأرض في استحقاق الشفعة استحسانا إذا شرطها المبتاع، وأما القياس فإن الشفيع لا يأخذها لأنها في حكم المنفصل أشبه المتاع في الدار قال في الهداية: " ومن ابتاع أرضا وعلى نخلها ثمر أخذها الشفيع بثمرها " ومعناه إذا ذكر الثمر في البيع لأنه لا يدخل من غير ذكر وهذا الذي ذكره استحسان وفي القياس لا يأخذه لأنه ليس بتبع ألا يرى أنه لا يدخل في البيع من غير ذكر فأشبه المتاع في الدار، وجه الاستحسان أنه باعتبار الاتصال صار تبعا للعقار كالبناء في الدار وما كان مركبا فيه فيأخذه الشفيع. اهـ (1) .
وأما ما كان منفصلا عن الأرض كأثاث الدار والعروض والسفن والحيوانات وغير ذلك من المنقولات فلا شفعة فيها لأن الشفعة إنما وجبت لدفع ضرر سوء الجوار على الدوام والملك في المنقول لا يدوم مثل دوامه في العقار فلا تلحق به (2) .
واختلفت الروايات عن الإمام مالك رحمه الله في الثمرة على الأرض هل تؤخذ بالشفعة أم لا. قال ابن رشد: فتحصيل مذهب مالك أنها في ثلاثة أنواع: أحدها مقصود وهو العقار من الدور والحوانيت والبساتين. . والثاني ما يعلق بالعقار مما هو ثابت لا ينقل ولا يحول كالبئر. . والثالث ما تعلق بهذه كالثمار وفيها عنه خلاف. اهـ (3) .
وقد ذكر ابن رشد في مقدماته أن النخل يوم الابتياع لا تخلو من ثلاثة أوجه، الأول ألا يكون فيها ثمرة أصلا أو يكون فيها ثمرة إلا أنها لم تؤبر وهذه الحال لا خلاف في أن الشفيع يأخذ النخل بثمرته، الثاني أن يكون فيها يوم الابتياع ثمرة مؤبرة وقد ذكر الخلاف في استحقاق
__________
(1) الهداية جـ (4) ص 34.
(2) فتح القدير لابن الهمام جـ (7) ص434.
(3) بداية المجتهد جـ (2) ص254.(18/30)
الثمرة تبعا للأصل فذكر أن قول المدنيين في المدونة وهو قول أشهب وأكثر الرواة أنه لا حق للشفيع في الثمرة إذا لم يدركها حتى أبرت وأصل الخلاف في ذلك هل الأخذ بالشفعة كالأخذ بالبيع أو أن الثمرة تصير غلة بالإبار، والثالث أن يكون في النخل يوم الابتياع ثمرة قد أزهت وهذا الوجه وهذا الوجه الثاني فيه الخلاف بين أحاب مالك وقد قال ابن القاسم في المدونة أن الشفيع أحق بها ما لم تجد ويأخذها الشفيع بحكم الاستحقاق لا بحكم الشفعة. (1) .
وأما المنقولات المنفصلة كالسفن والحيوانات والأثاث وغيرها فلا شفعة فيها. قال في المدونة: قلت ولا شفعة في دين ولا حيوان ولا سفن ولا بر ولا طعام ولا في شيء من العروض ولا سارية ولا حجر ولا في شيء من الأشياء سوى ما ذكرت لي كان يقسم أو لا يقسم في قول مالك؟ قال: نعم لا شفعة في ذلك ولا شفعة فيما ذكرت لك. اهـ (2) .
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الشفعة ثابتة في كل شيء حتى في الثوب لما روى الترمذي بسند جيد عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس مرفوعا: «الشريك شفيع والشفعة في كل شيء (3) » ، ورواه مرسلا وصحح المرسل. قال الحافظ: ورواه الطحاوي بلفظ: «قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء» ورجاله ثقات (4) . ولأن الشفعة شرعت لدفع ضرر المشاركة. وهذا القول رواية عن الإمام أحمد. قال ابن قدامة رحمه الله في معرض كلامه على الشفعة في المنقولات ما نصه: واختلف عن مالك وعطاء فقالا مرة كذلك ومرة قالا الشفعة في كل شيء في
__________
(1) مقدمات ابن رشد جـ 2 ص (586 - 589) .
(2) المدونة جـ5 ص (402) .
(3) سنن الترمذي الأحكام (1371) .
(4) بلوغ المرام ومعه شرحه السبل جـ 3 ص (62) .(18/31)
الثوب. قال ابن أبي موسى وقد روي عن أبي عبد الله رواية أخرى أن الشفعة واجبة فيما لا ينقسم كالحجارة والسيف والحيوان وما في معنى ذلك اهـ (1) .
وقال في حاشية الروض المربع للشيخ عبد الله العنقري على قول الشارح فلا شفعة في منقول كسيف ونحوه ما نصه:
قوله فلا شفعة في منقول إلى قوله ونحوها. قال في الإنصاف: والرواية الثانية فيه الشفعة اختاره ابن عقيل وأبو محمد الجوزي والشيخ تقي الدين قال الحارثي: وهو الحق، وعنه يجب في كل مال، حاشا منقولا ينقسم. اهـ (2) .
وممن قال بذلك ابن حزم ففي المحلى ما نصه: الشفعة واجبة في كل جزء بيع مشاعا غير مقسوم بين اثنين فصاعدا من أي شيء كان مما ينقسم ومما لا ينقسم من أرض أو شجرة واحدة فأكثر أو عبد أو ثوب أو أمة أو من سيف أو من طعام أو من حيوان أو من أي شيء بيع. اهـ (3)
__________
(1) المغني جـ 5 ص (258) .
(2) الروض المربع جـ 2 ص (402) .
(3) المحلى جـ9 ص (101) .(18/32)
3 - الجوار:
لا يخلو أمر الجار من حالين إما أن يكون شريكا لجاره في مرافق خاصة كشرب ومسيل وطريق غير نافذ ونحو ذلك وإما ألا يشاركه في شيء من ذلك فإن كان شريكا لجاره في المرافق الخاصة فقد ذهب جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة إلى القول بعدم الشفعة في ذلك لما في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «إنما(18/32)
جعل النبي صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (1) » ، ولما روى مسلم في صحيحه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الشفعة في كل شرك في أرض وربع أو حائط (2) » . حيث دل الحديثان على حصر الشفعة فيما هو مشترك ولم يقسم فإذا قسم فلا شفعة ولأن الشفعة مشروعة لرفع ضرر الاشتراك والمقاسمة ولما في المقاسمة من احتمال نقص قيمة حصة الشريك بعد المقاسمة لما تستلزمه المقاسمة في الغالب من إحداث مرافق خاصة لما يقتسم.
قال في المدونة: قلت لابن القاسم أرأيت لو أن قوما اقتسموا دارا بينهم فعرف كل رجل منهم بيوته ومقاصره إلا أن المساحة بينهم لم يقتسموها أتكون الشفعة بينهم أم لا في قول مالك؟ قال: قال مالك لا شفعة بينهم إذا اقتسموا، قلت وإن لم يقتسموا المساحة وقد اقتسموا البيوت فلا شفعة بينهم في قول مالك؟ قال نعم. . . . . قلت أرأيت السكة غير النافذة تكون فيها دار لقوم فباع بعضهم داره أيكون لأصحاب السكة الشفعة أم لا في قول مالك؟ قال لا شفعة لهم عند مالك قلت ولا تكون الشفعة في قول مالك بالشركة في الطريق؟ قال نعم لا شفعة بينهم إذا كانوا شركاء في طريق. ألا ترى أن مالكا قال لا شفعة بينهم إذا اقتسموا الدار. اهـ (3) .
وقال ابن رشد في معرض تعداد ما لا شفعة فيه: وكذلك لا شفعة عنده في الطريق ولا في عرصة الدار. اهـ (4) . وقال الشربيني على قول صاحب المنهاج: ولا شفعة إلا لشريك. ما نصه: ولا شفعة إلا لشريك في رقبة العقار فلا تثبت للجار لخبر البخاري المار ولا للشريك
__________
(1) صحيح البخاري الشركة (2495) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن أبو داود البيوع (3513) ، مسند أحمد بن حنبل (3/316) .
(3) المدونة ج5 ص 402.
(4) بداية المجتهد ج2 ص 255.(18/33)
في غير رقبة العقار كالشريك في المنفعة فقط. . . . . ولو باع دارا وله شريك في ممرها فقط التابع لها فإن كان دربا غير نافذ فلا شفعة له فيها، لانتفاء الشركة فيها. اهـ (1) .
وقال النووي: وأما المقسوم فهل تثبت فيه الشفعة بالجوار، فيه خلاف، فذهب الشافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء لا تثبت بالجوار وحكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعمر بن عبد العزيز والزهري ويحيى الأنصاري وأبي الزناد وربيعة ومالك والأوزاعي والمغيرة بن عبد الرحمن وأحمد وإسحاق وأبي ثور. اهـ (2) .
وذكر ابن قدامة رحمه الله أن الشفعة لا تثبت إلا بشروط أربعة أحدها أن يكون الملك مشاعا غير مقسوم فأما الجار فلا شفعة له. ثم ذكر من اختار هذا القول من أهل العلم ومن خالفه كأبي حنيفة وغيره ثم وجه القول بحصر الشفعة في الملك غير المقسوم فقال: ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم «الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (3) » ، وروى ابن جريج عن الزهري، عن سعيد بن المسيب أو عن أبي سلمة أو عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قسمت الأرض وحددت فلا شفعة (4) » . رواه أبو داود.
ولأن الشفعة تثبت في موضع الوفاق على خلاف الأصل لمعنى معدوم في محل النزاع فلا تثبت فيه وبيان انتفاء المعنى هو أن الشريك ربما دخل عليه شريك فيتأذى به فتدعوه الحاجة إلى مقاسمته أو يطلب الداخل المقاسمة فيدخل الضرر على الشريك بنقص قيمة ملكه وما يحتاج
__________
(1) مغني المحتاج ج2 ص 298.
(2) شرح النووي لصحيح مسلم ج11 ص 46.
(3) سنن النسائي البيوع (4704) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) ، موطأ مالك الشفعة (1420) .
(4) سنن أبو داود البيوع (3515) .(18/34)
إلى إحداثه من المرافق وهذا لا يوجد في المقسوم- إلى أن قال- إذا ثبت هذا فلا فرق بين كون الطريق مفردة أو مشتركة. قال أحمد في رواية ابن القاسم في رجل له أرض تشرب هي وأرض غيره من نهر واحد فلا شفعة له من أجل الشرب إذا وقعت الحدود فلا شفعة. اهـ (1) .
وقال البهوتي رحمه الله: ومن أرضه بجوار أرض لآخر ويشربان من نهر أو بئر واحدة فلا شفعة بذلك. اهـ (2) .
وذهب الحنفية ومن وافقهم من أهل العلم إلى أن الشفعة تثبت للخليط في حق المبيع إذا لم يكن ثم من يحجبه عنه كوجود خليط في المبيع نفسه وذلك لما روى الحسن عن سرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جار الدار أحق بالدار (3) » . رواه الترمذي وقال حديث حسن صحح. وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الجار أحق بداره ينتظر به إذا كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا» رواه الترمذي وقال حديث حسن. وقال الحافظ في البلوغ رواه أحمد والأربعة ورجاله ثقات. ولأن اتصال ملكه به يدوم ويتأبد فهو مظنة التضرر بالاختلاط في حقوق المبيع كالشركة. قال في الهداية في معرض توجيهه القول بثبوت الشفعة للخليط في حق المبيع ثم للجار ما نصه: ولنا ما روينا ولأن ملكه متصل بملك الدخيل اتصال تأبيد وقرار فيثبت له حق الشفعة عند وجود المعاوضة بالمال اعتبارا بمورد الشرع. وهذا لأن الاتصال على هذه الصفة إنما انتصب سببا فيه دفع ضرر الجوار إذ هو مادة المضار على ما عرف وقطع هذه المادة بتملك الأصل أولى. اهـ (4) . . وقد قال بثبوت الشفعة بالشركة في مصالح
__________
(1) المغني جـ 5 ص 256- 257.
(2) شرح المنتهى جـ 2 ص 434- 435
(3) سنن الترمذي الأحكام (1368) ، سنن أبو داود البيوع (3517) ، مسند أحمد بن حنبل (5/8) .
(4) الهداية جـ 4ص 24- 25(18/35)
العقار بعض الحنابلة واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وصاحب الفائق وهو اختيار الحارثي. قال أبو الحسن المرداوي: وهو ظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب وقد سأله عن الشفعة، فقال إذا كان طريقهما واحدا لم يقتسموا فإذا صرفت الطرق وعرفت الحدود فلا شفعة وهذا هو الذي اختاره الحارثي. . . . . وذكر ظاهر كلام الإمام أحمد المتقدم ثم قال وهذا الصحيح الذي يتعين المصير إليه ثم ذكر أدلته وقال في هذا المذهب جمعا بين الأخبار دون غيره فيكون أولى بالصواب. اهـ (1) . .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد تنازع الناس في شفعة الجار على ثلاثة أقوال أعدلها هذا القول إنه إن كان شريكا في حقوق الملك ثبتت له الشفعة وإلا فلا. اهـ (2) . .
وقال ابن القيم رحمه الله: والصواب القول الوسط الجامع بين الأدلة الذي لا يحتمل سواه وهو قول البصريين وغيرهم من فقهاء الحديث إنه إن كان بين الجارين حق مشترك من حقوق الأملاك من طريق أو ماء أو نحو ذلك ثبتت الشفعة وإن لم يكن بينهما حق مشترك ألبتة بل كان كل واحد منهما متميزا ملكه وحقوق ملكه فلا شفعة وهذا الذي نص عليه أحمد في رواية أبي طالب فإنه سأله عن الشفعة لمن هي فقال إذا كان طريقهما واحدا، فإذا صرفت الطرق وعرفت الحدود فلا شفعة وهو قول عمر بن عبد العزيز وقول القاضيين سوار بن عبيد الله وعبيد الله بن الحسن العنبري - إلى أن قال- والقياس الصحيح يقتضي هذا القول فإن الاشتراك في حقوق الملك شقيق الاشتراك في الملك والضرر
__________
(1) الإنصاف جـ 6 ص 255
(2) مجموع الفتاوى ص (383) جـ 30(18/36)
الحاصل بالشركة فيها كالضرر الحاصل بالشركة في الملك أو أقرب إليه، ورفعه مصلحة للشريك من غير مضرة على البائع ولا على المشتري. فالمعنى الذي وجبت لأجله شفعة الخلطة في الملك موجود في الخلطة في حقوقه، فهذا المذهب أوسط المذاهب وأجمعها للأدلة وأقربها إلى العدل وعليه يحمل الاختلاف عن عمر رضي الله عنه حيث قال لا شفعة فيما إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق وحيث أثبتها فيما إذا لم تصرف الطرق فإنه قد روي عنه هذا وهذا وكذلك ما روي عن علي رضي الله عنه قال: إذا حدت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة، ومن تأمل أحاديث شفعة الجار رآها صريحة في ذلك وتبين له بطلان حملها على الشريك، وعلى حق الجوار غير الشفعة. وأجاب رحمه الله عن حديث أبي هريرة: «فإذا وقعت الحدود فلا شفعة (1) » بأن تصريف الطرق داخل في وقوع الحدود ومن كل وجه يستلزم أو يتضمن تصريف الطرق. (2) . .
وسئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هل تثبت الشفعة بالشركة في الطريق والبئر والشركة في السيل فأجاب: تثبت للجار إذا كان شريكا في الطريق والبئر ولا تثبت الشفعة بالشركة بالجدار ولا بالشركة في السيل. وأجاب ابنه عبد الله بما نصه: قولك هل تثبت الشفعة بالشركة في البئر والطريق ومسيل الماء فالمفتى به عندنا أنها تثبت بذلك كما هو اختيار الشيخ تقي الدين وغيره من العلماء.
وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله عن ثبوت الشفعة بالشركة بالسيل فأجاب: المذهب عدم ثبوت الشفعة بالطريق، والسيل مثله، واختيار الشيخ التشفيع بمرافق الأملاك من الطرق والبئر والسيل وهو
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2497) .
(2) إعلام الموقعين جـ 2 ص 126- 130(18/37)
الذي عليه الفتوى عند أئمة الدعوة لحديث «الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا (1) » ولمفهوم حديث « (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) (2) » وهو الذي نفتي به. اهـ (3) . .
وقال ابن حزم: والشفعة واجبة وإن كانت الأجزاء مقسومة إذا كان الطريق إليها واحدا متملكا نافذا أو غير نافذ لهم فإن قسم الطريق أو كان نافذا غير متملك لهم فلا شفعة حينئذ، كان ملاصقا أو لم يكن. برهان ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (4) » فلم يقطعها عليه السلام إلا باجتماع الأمرين وقوع الحدود وصرف الطرق لا بأحدهما دون الآخر. اهـ (5) . .
وأما الجار غير الشريك فقد ذهب الحنفية إلى القول بحقه في الأخذ بالشفعة على شرط انتفاء من هو أحق منه بها كالخليط في المبيع أو في حقه وذهب إلى القول بذلك ابن شبرمة والثوري وابن أبي ليلى. قال في الهداية: الشفعة واجبة للخليط في نفس المبيع ثم للخليط في حق المبيع كالشرب والطريق ثم للجار. أفاد هذا اللفظ ثبوت حق الشفعة لكل واحد من هؤلاء وأفاد الترتيب. جار الدار أحق بالدار ينتظر له وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا. ولقوله عليه الصلاة والسلام: «جار الدار أحق بالدار ينتظر له وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا) (6) » . ولقوله عليه الصلاة والسلام: «الجار أحق بسقبه قيل يا رسول ما سقبه قال شفعته (7) » . ويروى: «الجار أحق بشفعته (8) » - إلى أن قال- وأما الترتيب فلقوله عليه الصلاة والسلام: «الشريك أحق من
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3518) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2213) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) .
(3) الدرر السنية جـ 5 ص 224- 225
(4) صحيح البخاري البيوع (2213) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) .
(5) المحلى جـ 9 ص 121
(6) سنن الترمذي الأحكام (1368) ، سنن أبو داود البيوع (3517) ، مسند أحمد بن حنبل (5/8) .
(7) صحيح البخاري الشفعة (2258) ، سنن النسائي البيوع (4702) ، سنن أبو داود البيوع (3516) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2495) ، مسند أحمد بن حنبل (6/10) .
(8) سنن الترمذي الأحكام (1369) .(18/38)
الخليط والخليط أحق من الشفيع،» فالشريك في نفس المبيع والخليط في حقوق المبيع والشفيع هو الجار) اهـ (1) .
__________
(1) الهداية جـ 2 ص 24.(18/39)
أدلة القائلين بقصر الشفعة على الشريك في المبيع دون الجار أو الشريك في حق المبيع ومناقشتها:
استدل القائلون بقصر الشفعة على الشريك في المبيع دون الشريك في حق المبيع أو الجار بما يأتي:
(1) ما في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (1) » ، وفي لفظ: «إنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل ما لم يقسم (2) » ... إلخ
(2) ما في صحيح مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر قال: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط ولا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه (3) » إلى آخر الحديث.
(3) ما روى الشافعي بإسناده إلى أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة (4) » .
(4) ما في سنن أبي داود بإسناد صحيح إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قسمت الأرض وحددت فلا شفعة فيها (5) » .
(5) ما في الموطأ بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم فإذا صرفت الطرق ووقعت الحدود فلا شفعة (6) » .
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2214) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) .
(2) صحيح البخاري الشركة (2495) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3513) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .
(4) سنن النسائي البيوع (4704) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) ، موطأ مالك الشفعة (1420) .
(5) سنن أبو داود البيوع (3515) .
(6) سنن ابن ماجه الأحكام (2497) .(18/39)
(6) ما ذكره سعيد بن منصور بإسناده إلى عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين قال إذا صرفت الحدود وعرف الناس حدودهم فلا شفعة بينهم.
فهذه الأحاديث والآثار تدل على أن الشفعة مشروعة فيما هو مشاع غير مقسوم ولأن الضرر اللاحق بالشركة هو ما توجبه من التزاحم في المرافق والحقوق والأحداث والتغيير والإفضاء إلى التقاسم الموجب لنقص قيمة الملك بالقسمة. أما إذا قسمت الأرض فوقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة حينئذ لانتفاء الضرر بذلك. ووجه القائلون بذلك القول حصر الشفعة للشريك دون غيره وأجابوا عن الأحاديث الواردة بالشفعة للجار فقال ابن القيم رحمه الله:
قالوا: وقد فرق الله بين الشريك والجار شرعا وقدرا ففي الشركة حقوق لا توجد في الجوار فإن الملك في الشركة مختلط وفي الجوار متميز ولكل من الشريكين على صاحبه مطالبة شرعية ومنع شرعي أما المطالبة ففي القسمة وأما المنع فمن التصرف، فلما كانت الشركة محلا للطلب ومحلا للمنع كانت محلا للاستحقاق بخلاف الجوار فلم يجز إلحاق الجار بالشريك وبينهما هذا الاختلاف، والمعنى الذي وجبت به الشفعة رفع مؤونة المقاسمة وهي مؤونة كثيرة، والشريك لما باع حصته من غير شريكه فهذا الدخيل قد عرضه لمؤونة عظيمة فمكنه الشارع من التخلص منها بانتزاع الشقص على وجه لا يضر بالبائع ولا بالمشتري، ولم يمكنه الشارع من الانتزاع قبل المبيع لأن شريكة مثله ومساو له في الدرجة فلا يستحق عليه شيئا إلا ولصاحبه مثل ذلك الحق عليه فإذا باع صار المشتري دخيلا والشريك أصيل فرجح جانبه وثبت له الاستحقاق.(18/40)
قالوا: وكما أن الشارع يقصد رفع الضرر عن الجار فهو أيضا يقصد رفع الضرر عن المشتري ولا يزيل ضرر الجار بإدخال الضرر على المشتري فإنه محتاج إلى دار يسكنها هو وعياله فإذا سلط الجار على إخراجه وانتزاع داره منه أضر به إضرارا بينا. وأي دار اشتراها وله جار فحاله معه هكذا وطلبه دارا لا جوار لها كالمتعذر عليه أو كالمتعسر فكان من تمام حكمة الشارع أن أسقط الشفعة بوقوع الحدود وتصريف الطرق لئلا يضر الناس بعضهم بعضا ويتعذر على من أراد شراء دار لها جار أن يتم له مقصوده وهذا بخلاف الشريك وإن المشتري لا يمكنه الانتفاع بالحصة التي اشتراها والشريك يمكنه ذلك بانضمامها إلى ملكه فليس على المشتري ضرر في انتزاعها منه وإعطائها ما اشتراها به. قالوا: وحينئذ فتعين حمل أحاديث شفعة الجوار على مثل ما دلت عليه أحاديث شفعة الشركة فيكون لفظ الجار فيها مرادا به الشريك. ووجه هذا الإطلاق المعنى والاستعمال. أما المعنى فإن كل جزء من ملك الشريك مجاور لملك صاحبه فهما جاران حقيقة وأما الاستعمال فإنهما خليطان متجاوران ولذا سميت الزوجة جارة كما قال الأعشى:
أجارتنا بيني فإنك طالقة
فتسمية الشريك جارا أولى وأحرى. وقال حمل بن مالك: كنت بين جارتين لي. . هذا إن لم يحتمل إلا إثبات الشفعة فأما إن كان المراد بالحق فيها حق الجار على جاره فلا حجة فيها على إثبات الشفعة وأيضا فإنه إنما أثبت له على البائع حق العرض عليه إذا أراد البيع، فأين ثبوت حق الانتزاع من المشتري ولا يلزم من ثبوت هذا الحق ثبوت حق الانتزاع. اهـ (1) .
__________
(1) إعلام الموقعين جـ 2 ص (122- 124) .(18/41)
وقد ناقش القائلون بثبوت الشفعة للجار هذه الأدلة بما يأتي:
(1) بالنسبة لحديث جابر فإن قوله: «فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (1) » . . فقد ذكر أبو حاتم بأنه مدرج من قول جابر قالوا ويؤيد ذلك أن مسلما لم يخرج هذه الزيادة وأجيب عن ذلك بأن الأصل أن كل ما ذكر في الحديث فهو منه حتى يثبت الإدراج. بدليل فضلا عن أن هذه الزيادة قد وردت في حديث آخر كحديث أبي هريرة.
(2) وأما القول بأن العقار إذا كان مقسوما معروف الحدود مصرفة طرقه فلا ضرر على مالكه بتداول الأيدي المجاورة فغير صحيح. ذلك أن من الضرر الذي قصد الشارع رفعه ضرر سوء الجوار فإن الجار قد يسيء الجوار غالبا فيعلي الجدار ويتتبع العثار ويمنع الضوء ويشرف على العورة ويطلع على العثرة ويؤذي جاره بأنواع الأذى وقد أجمعت الأدلة على ثبوت الشفعة للشريك لدفع الضرر الناشئ عنه اشتراك في الغالب فإذا ثبتت الشفعة في الشركة في العقار لإفضائها إلى المجاورة فحقيقة المجاورة أولى بالثبوت فيها.
(3) وأما الاحتجاج بما في صحيح البخاري: «فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (2) » ، فعلى فرض انتفاء الإدراج من جابر فإن الجار المشترك مع غيره في مرفق خاص ما، مثل أن يكون طريقهما واحدا أو أن يشتركا في شرب أو مسيل أو نحو ذلك من المرافق الخاصة لا يعتبر مقاسما مقاسمة كلية بل هو شريك لجاره في بعض حقوق ملكه وإذا كان طريقهما واحدا لم تكن الحدود كلها واقعة بل بعضها حاصل وبعضها منتف إذ وقوع الحدود من كل
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2213) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2213) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) .(18/42)
وجه يستلزم أو يتضمن تصريف الطرق (1) .
(4) وأما القول بأن الشفعة شرعت للشريك لدفع ضرر المقاسمة فغير مسلم به فمشروعيتها لرفع الضرر مطلقا سواء كان الضرر ناتجا عن المقاسمة أم عن الاشتراك. وتخصيص الشفعة برفع ضرر معين دون غيره من الأضرار تخصيص يحتاج إلى ما يسنده شرعا، وأيضا فلو كانت الشفعة مشروعة لدفع ضرر المقاسمة فقط لثبتت مشروعيتها في المنقولات المشتركة لرفع ضرر المقاسمة فيها.
__________
(1) انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص (116- 126) ، ونيل الأوطار جـ 5 ص (352- 353) .(18/43)
أدلة القائلين بثبوت الشفعة بحق المبيع والجوار ومناقشتها:
استدل القائلون بثبوت الشفعة بالمرافق الخاصة وبالجوار بما يأتي:
1 - ما روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن الشريد قال " وقفت على سعد بن أبي وقاص فجاء المسور بن مخرمة فوضع يده على إحدى منكبي إذ جاء أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا سعد ابتع مني بيتي في دارك فقال سعد والله ما أبتاعهما فقال المسور والله لتبتاعنهما فقال سعد والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة أو مقطعة فقال أبو رافع لقد أعطيت بها خمسمائة دينار ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الجار أحق بسقبه (1) » ما أعطيتكها بأربعة وأنا أعطي بها خمسمائة دينار فأعطاها إياه ".
وجه الدلالة من ذلك قوله: «الجار أحق بسقبه (2) » أي بقربه أي إن الجار أحق بالدار من غيره لقربه ويدل على أن المقصود بأحقية الجار شفعته الأحاديث الآتية:
2 - روى أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي بإسناده إلى جابر بن عبد
__________
(1) صحيح البخاري الشفعة (2258) ، سنن النسائي البيوع (4702) ، سنن أبو داود البيوع (3516) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2495) ، مسند أحمد بن حنبل (6/10) .
(2) صحيح البخاري الشفعة (2258) ، سنن النسائي البيوع (4702) ، سنن أبو داود البيوع (3516) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2495) ، مسند أحمد بن حنبل (6/10) .(18/43)
الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا (1) » وقد حسنه الترمذي.
3 روى أحمد وأبو داود والترمذي وصححه عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جار الدار أحق بالدار من غيره (2) » .
4 - روى أحمد والنسائي وابن ماجه عن الشريد بن سويد قال: «قلت يا رسول الله أرضي ليس لأحد فيها شرك ولا قسم إلا الجوار فقال: " الجار أحق بسقبه ما كان (3) » . . .
كما استدلوا من جهة المعنى بقولهم:
واللفظ لابن القيم رحمه الله: إن حق الأصيل وهو الجار أسبق من حق الدخيل وكل معنى اقتضى ثبوت الشفعة للشريك فمثله في حق الجار فإن الناس يتفاوتون في الجوار تفاوتا فاحشا ويتأذى بعضهم ببعض ويقع بينهم من العداوة ما هو معهود والضرر بذلك دائم متأبد ولا يندفع ذلك إلا برضا الجار إن شاء أقر الدخيل على جواره وإن شاء انتزع الملك بثمنه واستراح من مؤونة المجاورة ومفسدتها وإذا كان الجار يخاف التأذي على وجه اللزوم كان كالشريك يخاف التأذي بشريكه على وجه اللزوم. . . . . فوجب بحكم عناية الشارع ورعايته لمصالح العباد إزالة الضررين جميعا على وجه لا يضر البائع. اهـ (4) .
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3518) .
(2) سنن الترمذي الأحكام (1368) ، سنن أبو داود البيوع (3517) ، مسند أحمد بن حنبل (5/8) .
(3) سنن النسائي البيوع (4703) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2496) ، مسند أحمد بن حنبل (4/389) .
(4) إعلام الموقعين جـ 2 ص (120- 121) .(18/44)
المناقشة:
أجاب القائلون بحصر الشفعة في الشريك دون غيره بما يأتي:
(1) بالنسبة لحديث أبي رافع رضي الله عنه فقد ذكر الحافظ بن حجر(18/44)
في معرض شرحه هذا الحديث وإيراده وجه استدلال الحنفية به على ثبوت الشفعة للجار، وإلزام الشافعية بالقول به لكون الجار حقيقة في المجاور مجازا في الشريك قال ما نصه: إن محل ذلك عند التجرد، وقد قامت القرينة هنا على المجاز فاعتبر للجمع بين حديثي جابر وأبي رافع، فحديث جابر صريح في اختصاص الشفعة بالشريك وحديث أبي رافع مصروف الظاهر اتفاقا لأنه يقتضي أن يكون الجار أحق من كل أحد حتى من الشريك. والذين قالوا بشفعة الجار قدموا الشريك مطلقا ثم المشارك في الطريق ثم الجار على من ليس بمجاور فعلى هذا يتعين تأويل قوله (أحق) بالحمل على الفضل أو التعهد ونحو ذلك. اهـ (1) . .
(2) بالنسبة لحديث جابر: «الجار أحق بشفعة جاره إلخ (2) » ، فقال الترمذي: لا نعلم أحدا روى هذا الحديث غير عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر وقد تكلم شعبة في عبد الملك من أجل هذا الحديث- ثم قال- سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال لا أعلم أحدا رواه عن عطاء غير عبد الملك تفرد به ويروى عن جابر خلاف هذا. اهـ. . . . قال شعبة سها فيه عبد الملك فإن روى حديثا مثله طرحت حديثه ثم ترك شعبة التحديث عنه.
وقال أحمد: هذا الحديث منكر. وقال ابن معين: لم يروه غير عبد الملك وقد أنكروه عليه. اهـ (3) .
وقد أجاب ابن القيم رحمه الله عن الطعن في حديث جابر فقال: إن عبد الملك هذا حافظ ثقة صدوق ولم يتعرض له أحد بجرح
__________
(1) فتح الباري جـ 4 ص 438
(2) سنن أبو داود البيوع (3518) .
(3) نيل الأوطار جـ 5 ص 355.(18/45)
ألبتة، وأثنى عليه أئمة زمانه ومن بعدهم، وإنما أنكر عليه من أنكر هذا الحديث ظنا منهم أنه مخالف لرواية الزهري عن أبي سلمة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (1) » .
ولا تحتمل مخالفة العرزمي لمثل الزهري وقد صح هذا من رواية جابر عن الزهري عن أبي سلمة عنه ومن رواية ابن جريج عن أبي الزبير عنه. ومن حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عنه، فخالفهم العرزمي ولهذا شهد الأئمة بإنكار حديثه ولم يقدموه على حديث هؤلاء - إلى أن قال - وحديث جابر الذي أنكره من أنكره على عبد الملك صريح فيه فإنه قال: الجار أحق بسقبه ينتظر به وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا. فأثبت الشفعة بالجوار مع اتحاد الطريق ونفاها به مع اختلاف الطريق بقوله: فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. فمفهوم حديث عبد الملك هو بعينه منطوق حديث أبي سلمة فأحدهما يصدق الآخر ويوافقه لا يعارضه ويناقضه وجابر روى اللفظين- إلى أن قال- وحديث أبي رافع الذي رواه البخاري يدل على مثل ما دل عليه حديث عبد الملك فإنه دل على الأخذ بالجوار حالة الشركة في الطريق فإن البيتين كانا في نفس دار سعد والطريق واحد بلا ريب. اهـ (2) .
(3) وأما حديث الشريد بن سويد فقال الخطابي: قد تكلم أهل الحديث في إسناده واضطراب الرواة عنه فقال بعضهم عن عمرو بن الشريد عن أبي رافع وقال بعضهم عن أبيه عن أبي رافع وأرسله بعضهم. وذكر ابن قدامة رحمه الله عن ابن المنذر قوله: الثابت عن رسول
__________
(1) سنن النسائي البيوع (4704) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) ، موطأ مالك الشفعة (1420) .
(2) إعلام الموقعين جـ 2 ص 119 وص 125.(18/46)
الله صلى الله عليه وسلم حديث جابر الذي رويناه وما عداه من الأحاديث فيها مقال (1) . وأجيب عن ذلك بما ذكره ابن القيم رحمه الله عن البخاري بخصوص حديث الشريد بن سويد أو عمرو بن الشريد قال: قال البخاري هو أصح عندي من رواية عمرو عن أبي رافع - يعني حديث أبي رافع مع سعد بن أبي وقاص - وقال أيضا كلا الحديثين عندي صحيح (2) .
وقال ابن حزم في معرض مناقشته: الأحاديث والآثار التي استدل بها أهل هذا القول ما نصه:
ثم نظرنا في حديث عمرو بن الشريد عن أبي رافع عن أبيه فوجدناه لا متعلق لهم به لأنه ليس فيه إلا الجار أحق بسقبه وليس فيه للشفعة ذكر ولا أثر وقد حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكن حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعب الثقفي قال: سمعت عمرو بن الشريد يحدث عن الشريد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المرء أحق وأولى بصقبه (3) » ، قلت لعمرو ما صقبه، قال الشفعة، قلت زعم الناس أنها الجوار قال الناس يقولون ذلك، فهذا راوي الحديث عمرو بن الشريد لا يرى الشفعة بالجوار ولا يرى لفظ ما روي يقتضي ذلك فبطل كل ما موهوا به. ثم لو صحت هذه الأحاديث ببيان واضح أن الشفعة للجار لكان حكمه عليه الصلاة والسلام وقوله وقضاؤه فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة يقضي على ذلك كله ويرفع فكيف ولا بيان في شيء منها اهـ (4) .
__________
(1) المغني جـ 5 ص 257.
(2) إعلام الموقعين جـ 2 ص 117.
(3) سنن النسائي البيوع (4703) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2496) ، مسند أحمد بن حنبل (4/389) .
(4) المحلى جـ 9 ص 127.(18/47)
(4) وأما حديث سمرة ففي سماع الحسن من سمرة مقال معروف لدى علماء الحديث. قال يحيى بن معين لم يسمع الحسن من سمرة وإنما هي صحيفة وقعت إليه وقال غيره لم يسمع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة، وقد أجاب عن ذلك ابن القيم رحمه الله حيث قال قد صح سماع الحسن من سمرة وغاية هذا أنه كتاب ولم تزل الأمة تعمل بالكتب قديما وحديثا وأجمع الصحابة على العمل بالكتب وكذلك الخلفاء بعدهم وليس اعتماد الناس في العلم إلا على الكتب فإن لم يعمل بما فيها تعطلت الشريعة وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب كتبه إلى الآفاق والنواحي فيعمل بها من تصل إليه ولا يقول هذا كتاب وكذلك خلفاؤه من بعده والناس إلى اليوم. فرد السنن بهذا الخيال البارد الفاسد من أبطل الباطل والحفظ يخون والكتاب لا يخون. اهـ (1) . ويمكن أن يجاب عن قول ابن القيم رحمه الله بأن الغالب على طالب العلم أن يسجل كل ما عن له من صحيح وضعيف وما له وجه وما لا وجه له على أمل أن يتم له النظر لإبعاد ما لا وجه له ولا صحة ويحتمل أن يعاجله الأجل قبل ذلك بخلاف ما يؤلفه طالب العلم وينشره بين الناس فإنه بنشره يعتبر في حكم المقتنع بوجاهته وصحة ما فيه مما يراه وكذا ما يكتبه الوالي إلى عماله أو غيرهم فإنه يكتب ما يكتب عن اقتناع بوجاهة ما كتبه.
(5) وأما الاحتجاج على مشروعية الشفعة للجار بالمعنى فقد أجاب عن ذلك ابن القيم رحمه الله وسبق نقل ذلك عنه (2) . .
__________
(1) إعلام الموقعين جـ 2 ص 117.
(2) انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 122- 124(18/48)
4 - الشفعة فيما انتقل إلى الغير بعوض غير مسمى:
إذا انتقل ما يجب فيه الشفعة إلى الغير بعوض غير مسمى فقد ذهب الحنفية إلى نفي الشفعة فيه قال في الهداية: ولا شفعة في الدار التي يتزوج الرجل عليها أو يخالع المرأة بها أو يستأجر بها دارا أو غيرها أو يصالح بها عن دم عمد أو يعتق عليها عبدا لأن الشفعة عندنا إنما تجب في مبادلة المال بالمال لما بينا. وهذه الأعواض ليست بأموال فإيجاب الشفعة فيها خلاف المشروع وقلب الموضوع- إلى أن قال- أو يصالح عنها بإنكار. . . . لأنه يحتمل أنه بذل المال افتداء ليمينه وقطعا لشغب خصمه كما إذا أنكر صريحا. اهـ (1) . .
وذهب المالكية إلى إثباتها قال في المدونة، قلت أرأيت إن تزوجت على شقص من دار أو خالعت امرأتي على شقص من دار أيكون في ذلك الشفعة في قول مالك قال نعم مثل النكاح والخلع. قلت فبماذا يأخذ الشفيع في الخلع والنكاح والصلح في دم العمد الشقص. قال أما في النكاح والخلع فقال لي مالك يأخذ الشفيع الشقص بقيمته وأرى الدم العمد مثله يأخذه بقيمته اهـ (2) .
وذهب الشافعية إلى ثبوت الشفعة فيما أخذ بعوض غير مالي قال الشربيني على قول صاحب المنهاج: وإنما تثبت في ملك بمعاوضة ملكا لازما متأخرا عن ملك الشفيع كمبيع ومهر وعوض خلع وصلح دم ونجوم وأجرة ورأس مال مسلم. قال: بمعاوضة محضة كالبيع أو غير محضة كالمهر، أما البيع فبالنص والباقي بالقياس عليه بجامع الاشتراك في المعاوضة مع لحوق الضرر. اهـ (3) .
__________
(1) الهداية جـ 4 ص 35- 36
(2) المدونة جـ 5 ص 441. .
(3) مغني المحتاج جـ 2 ص 298.(18/49)
وأما الحنابلة فالصحيح من المذهب أنه لا شفعة فيه لأنه مملوك بلا مال أشبه الموهوب والموروث ولأنه يمتنع أخذه بمهر المثل وبقيمته لأنها ليست عوض الشقص.
قال المرداوي:
قوله ولا شفعة فيما عوضه غير المال كالصداف وعوض الخلع والصلح عن دم العمد في أحد الوجهين وأطلقهما في الهداية والمذهب والمستوعب والتلخيص والمحرر والرعاية الكبرى والفروع والفائق. وظاهر الشرح الإطلاق، أحدهما لا شفعة في ذلك وهو الصحيح من المذهب قال في الكافي: لا شفعة فيه ظاهر المذهب. قال الزركشي هذا أشهر الوجهين عند القاضي وأكثر أصحابه قال ابن منجا هذا أولى. قال الحارثي أكثر الأصحاب قال بانتفاء الشفعة، منهم أبو بكر وابن أبي موسى وأبو علي بن شهاب والقاضي وأبو الخطاب في رؤوس المسائل وابن عقيل والقاضي يعقوب والشريفان أبو جعفر وأبو القاسم الزبدي والعكبري وابن بكروس والمصنف وهذا هو المذهب ولذلك قدمه في السنن. اهـ وهو ظاهر كلام الخرقي وصححه في التصحيح والنظم وجزم به في العمدة والوجيز والمنور والحاوي الصغير وغيرهم وقدمه في المغني والشرح وشرح الحارثي وغيرهم. والوجه الثاني: فيه الشفعة اختاره ابن حامد وأبو الخطاب في الانتصار وابن حمدان في الرعاية الصغرى وقدمه ابن رزين في شرحه. فعلى هذا القول يأخذه بقيمته على الصحيح. اهـ (1) .
__________
(1) الإنصاف جـ 6 ص 252- 253.(18/50)
5 - الشفعة بشركة الوقف:
اختلف العلماء رحمهم الله في جواز الشفعة في الوقف فذهب الحنفية(18/50)
إلى أن لا شفعة للوقف ولا في الوقف لأنه لا مالك له معين. قال في الدر المختار ما نصه: ولا شفعة في الوقف ولا له نوازل ولا بجواره. . . . . قال المصنف قلت وحمل شيخنا الرملي الأول: على الأخذ به، والثاني: على أخذه بنفسه إذا بيع، وأما إذا بيع بجواره أو كان بعض المبيع ملكا وبعضه وقفا وبيع الملك فلا شفعة للوقف. وقال في الحاشية: قوله أو كان بعض المبيع ملكا إلخ. حاصله أنه لا شفعة له بجوار ولا بشركة فهو صريح بالقسمين كما أشار إليه الشارح بنقل عبارة النوازل ونبهنا عليه. قوله فلا شفعة للوقف إذ لا مالك له. اهـ (1) .
وقال الكاساني في معرض تعداده شروط الأخذ بالشفعة ما نصه: ومنها ملك الشفيع وقت الشراء في الدار التي يأخذها بالشفعة لأن سبب الاستحقاق جوار الملك والسبب إنما ينعقد سببا عند وجود الشرط والانعقاد أمر زائد على الوجود فإذا لم يوجد عند البيع كيف ينعقد سببا، فلا شفعة له بدار يسكنها بالأجار والإعارة ولا بدار باعها قبل الشراء ولا بدار جعلها مسجدا ولا بدار جعلها وقفا وقضى القاضي بجوازه أو لم يقض على قول من يجيز الوقف لأنه زال ملكه عنها لا إلى أحد. اهـ (2) .
وذهب المالكية إلى أنه لا شفعة بالوقف إلا للواقف نفسه بشرط أن يضيف ما يأخذ بالشفعة إلى ما أوقفه أو أن يجعل ذلك للناظر بأن ينص في ولايته على الأخذ بالشفعة إلى ما أوقفه أو أن يجعل ذلك للناظر بأن ينص في ولايته على الأخذ بالشفعة ليضاف إلى الوقف أو أن يؤول الوقف إلى الموقوف عليهم فلهم حق الأخذ بالشفعة ولو لم يوقفوا أو أن يؤول النظر أو الاستحقاق إلى بيت المال فللسطان الأخذ له بالشفعة.
__________
(1) حاشية ابن عابدين جـ 6 ص 223.
(2) بدائع الصنائع جـ 6 ص 4 / 270.(18/51)
قال أبو البركات أحمد الدردير في معرض تعداد من يجوز لهم الأخذ بالشفعة ما نصه:
أو كان الشفيع محبسا لحصته قبل بيع شريكه فله الأخذ بالشفعة ليحبس الشقص المأخوذ أيضا قال منها دار بين رجلين حبس أحدهما نصيبه على رجل وولده وولد ولده فباع شريكه في الدار نصيبه فليس للذي حبس ولا للمحبس عليهم أخذ بالشفعة إلا أن يأخذ المحبس فيجعله في مثل ما جعل نصيبه الأول. انتهى. وهذا إذا لم يكن مرجعها له وإلا فله الأخذ ولو لم يحبس كأن يوقف على عشرة مدة حياتهم أو يوقف مدة معينة فله الأخذ مطلقا كسلطان له الأخذ بالشفعة لبيت المال. قال سحنون في المرتد يقتل وقد وجبت له شفعة، إن للسلطان أن يأخذها إن شاء لبيت المال. اهـ (1) .
وذهب الشافعية إلى أن الوقف إن كان عاما كالوقف على الفقراء والمساكين ونحو ذلك فلا شفعة به وإن كان خاصا فلا شفعة لواقفه لزوال ملكه عنه وقد اختلف علماء الشافعية في ثبوت الشفعة للموقوف عليه العين لاختلاف ما نقل عن الشافعي رحمه الله هل يملك الموقوف عليه رقبة الوقف أم لا؟
قال في المجموع:
وإما إذا كانت حصة الخليط وقفا نظر في الوقف فإن كان عاما كالوقف على الفقراء والمساكين أو كان خاصا لا يملك كالوقف على جامع فلا يستحق به شفعة في المبيع وإن كان خاصا على مالك الوقف على رجل بعينه أو على جماعة بأعيانهم فلا يملك به الواقف شفعة لزوال ملكه من الوقف فأما الموقف عليه فقد اختلف قول الشافعي هل يكون مالكا لرقبة الوقف أم لا على قولين أحدهما يستحق به الشفعة لثبوت ملكه واستضراره بسوء المشاركة،
__________
(1) الشرح الكبير ومعه حاشية الدسوقي جـ 3 ص 425.(18/52)
والوجه الثاني لا شفعة له لأنه ليس بتام الملك ولا مطلق التصرف. اهـ (1) . وذهب جمهور الحنابلة إلى القول بنفي الشفعة عن الخلطة بالوقف لأن من شروط الأخذ بالشفعة أن يكون الشفيع مالكا لما يشفع به والوقف لا يعتبر ملكا تماما لمن هو بيده سواء كان ناظرا أو موقوفا عليه لأنه ليس مطلق التصرف فيه.
قال ابن قدامة رحمه الله:
ولا شفعة لشركة الوقف ذكره القاضيان ابن أبي موسى وأبو يعلى وهو ظاهر مذهب الشافعي لأنه لا يؤخذ بالشفعة فلا تجب فيه كالمجاور وغير المنقسم ولأننا إن قلنا هو غير مملوك فالموقوف عليه غير مالك وإن قلنا هو مملوك فملكة غير تام لأنه لا يفيد إباحة التصرف في الرقبة فلا يملك به ملكا تاما. وقال أبو الخطاب إن قلنا هو مملوك وجبت به الشفعة لأنه مملوك بيع في شركة شقص فوجبت الشفعة كالطلق ولأن الضرر يندفع عنه بالشفعة كالطلق فوجبت فيه كوجوبها في الطلق. وإنما لم يستحق بالشفعة لأن الأخذ بها بيع وهو مما لا يجوز بيعه. اهـ (2) .
وللشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله رأي في ثبوت الشفعة به فقد قال ما نصه:
فلو باع الشريك الذي ملكه طلق فلشريكه الذي نصيبه وقف الشفعة لعموم الحديث المذكور ووجود المعنى. بل صاحب الوقف إذا لم يثبت له شفعة يكون أعظم ضررا من صاحب الطلق ليتمكن المالك من البيع بخلاف مستحق الوقف فانه يضطر إلى بقاء الشركة. وأما استدلال
__________
(1) المجموع جـ 14 ص 141.
(2) المغني جـ 5 ص 284.(18/53)
الأصحاب بقولهم: إن ملكه ناقص فالحديث لم يفرق بين الذي ملكه ناقص أو كامل. ومنعنا إياه من البيع لتعلق حقوق من بعده به. فالصواب إثبات الشفعة إذا باع الشريك سواء كان شريكه صاحب ملك طلق أو مستحقا للوقف. اهـ (1) .
وقال المنقور نقلا عن جمع الجوامع:
للوقف ثلاث صور، الأولى: إذا كان البعض وقفا والبعض ملكا فبيع الملك، هل يأخذ رب الوقف بالشفعة؟ على وجهين. والثانية: إذا كان كذلك وبيع الوقف حيث جاز بيعه هل يأخذ الشريك بالملك؟ على وجهين. المختار نعم. الثالثة: إذا كان الكل وقفا وبيع البعض حيث جاز بيعه فهل يجوز لرب الوقف الآخر الأخذ بها؟ على وجهين. الصحيح لا يجوز. اهـ (2) . .
ولعل مصدر الاختلاف في ذلك الخلاف هل لجهات الوقف شخصية اعتبارية تكون أهلا للإلزام والالتزام كالحال في جماعة المسلمين حيث يتكافؤون ويسعى بذمتهم أدناهم فيكون الوقف ملكا لهم فإذا تصرف بعضهم أو النائب عنهم وهو الناظر تصرفا فيه مصلحة للوقف وغبطة لجهاته كان كتصرفهم جميعا أم أن الوقف لا مالك له في الحقيقة وأن الإصابة الاعتبارية وهم وخيال لا مجال لها في واقع الأمر وحقيقته.؟
__________
(1) الفتاوى السعدية ص 438.
(2) الفواكه العديدة في المسائل المفيدة جـ 1 ص 397(18/54)
6 - شفعة غير المسلم:
اتفق الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي على القول بجواز شفعة غير المسلم. قال السرخسي: والذكر والأنثى والحر(18/54)
والمملوك والمسلم والكافر في حق الشفعة سواء لأنه من المعاملات وإنما ينبني الاستحقاق على سبب متصور في حق هؤلاء وثبوت الحكم بثبوت سببه اهـ (1) .
وفي المدونة ما نصه:
قيل لابن القاسم هل لأهل الذمة شفعة في قول مالك فقال سألت مالكا عن المسلم والنصراني تكون الدار بينهما فيبيع المسلم نصيبه هل للنصراني فيه شفعة قال نعم أرى ذلك له مثل ما لو كان شريكه مسلما. اهـ (2) .
وقال النووي: وأما قوله صلى الله عليه وسلم فمن كان له شريك فهو عام يتناول المسلم والكافر والذمي فتثبت للذمي الشفعة على المسلم كما تثبت للمسلم على الذمي هذا قول الشافعي ومالك وأبي حنيفة والجمهور. اهـ (3) .
وانفرد الإمام أحمد رحمه الله عنهم بمنع شفعة الكافر على المسلم لأن تسليط الكافر على المسلم يعتبر سبيلا إليه قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (4) قال ابن قدامة رحمه الله على قول الخرقي " ولا شفعة لكافر على مسلم ":
وجملة ذلك أن الذمي إذا باع شريكه شقصا لمسلم فلا شفعة له عليه روي ذلك عن الحسن والشعبي وروي عن شريح وعمر بن عبد العزيز أن له الشفعة وبه قال النخعي وإياس بن معاوية وحماد بن أبي سليمان والثوري ومالك والشافعي والعنبري وأصحاب الرأي لعموم قوله
__________
(1) المبسوط جـ 14 ص 99.
(2) المدونة جـ 5 ص 399.
(3) شرح صحيح مسلم جـ 11 ص 46.
(4) سورة النساء الآية 141(18/55)
صلى الله عليه وسلم: «لا يحل له أن يبيع حتى يستأذن شريكه وإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به (1) » ، ولأنه خيار ثابت لدفع الضرر بالشراء فاستوى فيه المسلم والكافر كالرد بالعيب.
ولما روى الدارقطني في كتاب العلل بإسناده عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا شفعة لنصراني» . وهذا يخص عموم ما احتجوا به ولأنه معنى بتملك به يترتب على وجود ملك مخصوص فلم يجب للذمي على المسلم كالزكاة ولأنه معنى يختص العقار فأشبه الاستعلاء في البنيان بحقيقة أن الشفعة إنما تثبت للمسلم دفعا للضرر عن ملكه فقدم دفع ضرره على دفع ضرر المشتري، ولا يلزم من تقديم دفع ضرر المسلم على المسلم تقديم دفع ضرر الذمي فإن حق المسلم أرجح ورعايته أولى ولأن ثبوت الشفعة في محل الإجماع على خلاف الأصل رعاية لحق الشريك المسلم وليس الذمي في معنى المسلم فيبقى فيه على مقتضى الأصل. ا (2) .
هـ وقد نصر ابن القيم رحمه الله القول بنفي شفعة الكافر على المسلم وناقش القائلين بثبوتها ورد عليهم قولهم فقال ما نصه: ولهذا لم يثبت عن واحد من السلف لهم حق شفعة على مسلم وأخذ بذلك الإمام أحمد وهي من مفرداته التي برز بها على الثلاثة لأن الشقص يملكه المسلم إذا أوجبنا فيه شفعة لذمي كنا قد أوجبنا على المسلم أن ينقل الملك في عقاره إلى كافر بطريق القهر للمسلم وهذا خلاف الأصول. والشفعة في الأصل إنما هي من حقوق أحد الشريكين على الآخر بمنزلة الحقوق التي تجب للمسلم على المسلم كإجابة الدعوة وعيادة المريض وكمنعه أن يبيع على بيع أخيه أو يخطب على خطبته. قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن الذمي اليهودي والنصراني لهم شفعة قال: لا، وكذلك نقل أبو طالب وصالح
__________
(1) سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3513) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .
(2) المغني جـ 5 ص320- 321.(18/56)
أبو الحارث والأثرم كلهم عنه: ليس للذمي شفعة. زاد أبو الحارث: مع المسلم. قال الأثرم قيل له: لم؟ قال لأنه ليس له مثل حق المسلم.
واحتج فيه، قال الأثرم حدثنا الطباع حدثنا هشيم أخبرنا الشيباني عن الشعبي أنه كان يقول ليس لذمي شفعة. وقال سفيان عن حميد عن أبيه إنما الشفعة لمسلم. ولا شفعة لذمي. وقال أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن زيد عن ليث عن مجاهد أنه قال: ليس ليهودي ولا لنصراني شفعة. قال الخلال أخبرني محمد بن الحسن بن هارون قال سئل أبو عبد الله وأنا أسمع الشفعة للذمي قال: ليس لذمي شفعة.
ليس له حق المسلم. أخبرني عصمة بن عصام حدثنا حنبل قال سمعت أبا عبد الله قال ليس ليهودي ولا لنصراني شفعة قيل: ولم؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب (1) » . وهذا مذهب شريح والحسن والشعبي واحتج الإمام أحمد بثلاث حجج إحداها أن الشفعة من حقوق المسلمين بعضهم على بعض فلا حق للذمي فيها. ونكتة هذا الاستدلال أن الشفاعة من حق المالك لا من حق الملك. الحجة الثانية قول النبي صلى الله عليه وسلم «لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه (2) » وتقرير الاستدلال من هذا أنه لم يجعل لهم حقا في الطريق المشترك عند تزاحمهم مع المسلمين فكيف يجعل لهم حقا إلى انتزاع ملك المسلم منه قهرا بل هذا تنبيه على المنع من انتزاع الأرض من يد المسلم وإخراجه منها لحق الكافر لنفي ضرر الشركة عنه وضرر الشركة على الكافر أهون عند الله من تسليطه على إزالة ملك المسلم عنه قهرا. الدليل الثالث قوله صلى الله عليه وسلم «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب (3) » . ووجه الاستدلال من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بإخراجهم من أرضهم ونقلها إلى المسلمين لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين
__________
(1) موطأ مالك الجامع (1651) .
(2) صحيح مسلم السلام (2167) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2700) ، سنن أبو داود الأدب (5205) ، مسند أحمد بن حنبل (2/444) .
(3) موطأ مالك الجامع (1651) .(18/57)
كله لله فكيف نسلطهم على انتزاع أراضي المسلمين منهم قهرا وإخراجهم منها.
وأيضا، فالشفعة حق يختص العقار فلا يساوي الذمي فيه المسلم كالاستعلاء في البنيان. يوضحه أن الاستعلاء تصرف في هواء ملكه المختص به فإذا منع منه فكيف يسلط على انتزاع ملك المسلم منه قهرا وهو ممنوع من التصرف في هوائه تصرفا يستعلي فيه على المسلم. فأين هذا الاستعلاء من استعلائه عليه بإخراجه من ملكه قهرا. وأيضا فالشفعة وجبت لإزالة الضرر عن الشفيع وإن كان فيها ضرر بالمشتري فإذا كان المشتري مسلما فسلط الذمي على انتزاع ملكه منه قهرا كان فيه تقديم حق الذمي على حق المسلم وهذا ممتنع. وأيضا فإنه يتضمن مع إضراره بالمسلم إضراره بالدين وتملك دار المسلمين منهم قهرا وشغلها بما يسخط الله بدل ما يرضيه وهذا خلاف قواعد الشرع. ولذلك حرم عليهم نكاح المسلمات إذ كان فيه نوع استعلاء عليهن ولذلك لم يجز القصاص بينهم وبين المسلمين. ولا حد القذف ولا يمكنون من تملك الرقيق المسلم قال الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (1) ومن أعظم السبيل تسليط الكافر على انتزاع أملاك المسلمين منهم وإخراجهم منها قهرا وقد قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} (2) إلى أن قال- وأيضا فلو كانوا مالكين حقيقة لما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجهم من جزيرة العرب وقال: «لئن عشت لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب (3) » ، هذا مع بقائهم على عهدهم وعدم نقضهم له فلو كانوا مالكين لدورهم حقيقة لما أخرجهم منها ولم ينقضوا عهدا ولهذا احتج الإمام أحمد بذلك على أنه لا شفعة
__________
(1) سورة النساء الآية 141
(2) سورة الحشر الآية 20
(3) صحيح مسلم الجهاد والسير (1767) ، سنن الترمذي السير (1607) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3030) ، مسند أحمد بن حنبل (1/32) .(18/58)
لهم على مسلم- إلى أن قال- وليس مع الموجبين للشفعة نص من كتاب الله ولا سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إجماع من الأمة، وغاية ما معهم إطلاقات وعمومات كقوله: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم (1) » ، وقوله «من كان له شريك في ربعة أو حائط فلا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه (2) » . ونحو ذلك مما لا يعرض فيه للمستحق وإنما سبقت الأحكام الأملاك لا لعموم الأملاك (3) . من أهل الملة وغيرهم وليس معهم قياس استوى فيه الأصل والفرع في المقتضى للحكم فإن قياس الكافر على المسلم من أفسد القياس وكذلك قياس بعضهم من تجب له الشفعة بمن تجب عليه من أفسد القياس أيضا، ثم ذكر مجموعة من الأحكام يختلف فيها المسلم عن الكافر ثم قال- وكذلك قياس بعضهم الأخذ بالشفعة على الرد بالعيب من هذا النمط فإن الرد بالعيب من باب استدراك الظلامة وأخذ الجزء الفائت الذي يترك على الثمن في مقابلته فأين ذلك من تسليطه على انتزاع ملك المسلم منه قهرا واستيلائه عليه إلى آخر ما ذكره (4) .
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2497) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1608) .
(3) كذا في المطبوع ولعل الصواب: الملاك.
(4) أحكام أهل الذمة جـ 1 ص 291- 299.(18/59)
7 - شفعة غير المكلف من صبي أو مجنون:
ذهب جمهور أهل العلم منهم الحسن وعطاء وأبو حنيفة ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وسوار العنبري إلى القول بثبوت الشفعة للصبي والمجنون يتولاها وليه إن رأى له في ذلك مصلحة وغبطة. قال السرخسي: والصغير كالكبير في استحقاق الشفعة- ثم ذكر توجيه ذلك فقال- ولكنا نقول سبب الاستحقاق متحقق في حق الصغير وهو الشركة أو الجوار من حيث اتصال حق ملكه بالبيع على وجه التأبيد(18/59)
فيكون مساويا للكبير في الاستحقاق به- ثم قال- ثبت له حق الشفعة ثم يقوم بالطلب من يقوم مقامه شرعا في استيفاء حقوقه. . . . . . . فإن لم يكن له أحد من هؤلاء فهو على شفعته إذا أدرك لأن الحق قد ثبت له ولا يتمكن من استيفائه قبل الإدراك. اهـ (1) .
وفي المدونة: قلت أرأيت لو أن صبيا وجبت له الشفعة من يأخذ له بشفعته؟ قال: الوالد، قيل: فإن لم يكن له والد قال فالوصي قيل فإن لم يكن له وصي قال فالسلطان قلت فإن كان في موضع لا سلطان فيه ولا أب له ولا وصي قال فهو على شفعته إذا بلغ قال وهذا كله قول مالك. اهـ (2) .
وقال ابن قدامة رحمه الله على قول الخرقي: وللصغير إذا كبر المطالبة بالشفعة ما نصه:
وجملة ذلك أنه إذا بيع في شركة الصغير شقص تبتت له الشفعة قي قول عامة الفقهاء منهم الحسن وعطاء ومالك والأوزاعي والشافعي وسوار والعنبري وأصحاب الرأي ثم قال بعد مناقشة القائلين بمنع شفعة الصبي - إذا ثبت هذا فإن ظاهر قول الخرقي أن للصغير إذا كبر الأخذ بها سواء عفا عنها الولي أو لم يعف وسواء كان الحظ في الأخذ بها أو في تركها. وهو ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور له الشفعة إذا بلغ فاختار ولم يفرق وهذا قول الأوزاعي وزفر ومحمد بن الحسن وحكاه بعض أصحاب الشافعي عنه لأن المستحق للشفعة يملك الأخذ بها سواء كان الحظ فيها أو لم يكن فلم يسقط بترك غيره كالغائب إذا ترك وكيله الأخذ بها - إلى أن قال- والحكم في المجنون المطبق كالحكم في الصغير سواء لأنه محجور عليه لحظه وكذلك السفيه لذلك.
__________
(1) المبسوط جـ 14 ص98- 99.
(2) المدونة جـ 5 ص403.(18/60)
وأما المغمى عليه فلا ولاية عليه وحكمه حكم الغائب والمجنون ينتظر إفاقته. اهـ (1) .
وذهب بعض أهل العلم إلى القول بمنع الصغير من الشفعة حيث لا يمكنه أخذها في الحال ولا يمكن الانتظار بها حتى يبلغ لما في ذلك من الإضرار بالمشتري وليس لوليه أخذها لأنه لا يملك العفو عنها فهو لا يملك الأخذ بها. وروى هذا القول عن النخعي والحارث العلكي وابن أبي ليلى وقد رد ابن قدامة رحمه الله على أهل هذا القول فقال ما نصه:
قولهم لا يمكن الأخذ غير صحيح فإن الولي يأخذ بها كما يرد المعيب، وقولهم لا يمكنه العفو يبطل بالوكيل فيها وبالرد بالعيب فإن ولي الصبي لا يمكنه العفو ويمكنه الرد ولأن في الأخذ تحصيلا للملك للصبي ونظرا له وفي العفو تضييع وتفريط في حقه ولا يلزم من ملك ما فيه الحظ ملك ما فيه التضييع ولأن العفو إسقاط لحقه والأخذ استيفاء له - إلى أن قال - وما ذكروه من الضرر في الانتظار يبطل بالغائب. اهـ (2) .
__________
(1) المغني جـ 5 ص (280- 283) .
(2) المغني جـ 5 ص 281.(18/61)
8 - شفعة الغائب:
ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الغائب على حقه في الشفعة وإن طالت غيبته روي ذلك عن شريح والحسن وعطاء وبه قال الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والليث والثوري والأوزاعي والعنبري لعموم قوله صلى الله عليه وسلم «الشفعة فيما لم يقسم (1) » قال ابن رشد:. . . .
فإن الذي له الشفعة رجلان حاضر أو غائب فأما الغائب فأجمع العلماء على أن الغائب على شفعته ما لم يعلم ببيع شريكه. واختلفوا إذا
__________
(1) سنن النسائي البيوع (4704) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) ، موطأ مالك الشفعة (1420) .(18/61)
علم وهو غائب فقال قوم تسقط شفعته وقال قوم لا تسقط وهو مذهب مالك والحجة له ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر أنه قال: «الجار أحق بسقبه أو قال بشفعته ينتظر بها إذا كان غائبا (1) » . وأيضا فإن الغائب في الأكثر معوق عن الأخذ بالشفعة فوجب عذره. وعمدة الفريق الثاني أن سكوته مع العلم قرينة تدل على رضاه بإسقاطها اهـ (2) .
وفي المدونة: قلت أرأيت الغائب إذا علم بالشراء وهو شفيع ولم يقدم يطلب الشفعة حتى متى تكون له الشفعة قال: قال مالك: لا تقطع عن الغائب الشفعة بغيبته. قلت: علم أو لم يعلم؟ قال: ليس ذلك عندي إلا فيما علم وأما فيما لم يعلم فليس فيه كلام ولو كان حاضرا. اهـ (3) .
وقال ابن قدامة رحمه الله على قول الخرقي: ومن كان غائبا وعلم بالبيع وقت قدومه فله الشفعة وإن طالت غيبته. ما نصه:
وجملة ذلك أن الغائب له شفعة في قول أكثر أهل العلم. وذكر توجيه القول بذلك فقال ولنا عموم قوله عليه السلام: «الشفعة فيما لم يقسم (4) » وسائر الأحاديث ولأن الشفعة حق مالي وجد سببه بالنسبة إلى الغائب فتثبت له كالإرث، ولأنه شريك لم يعلم بالبيع فتثبت له الشفعة عند علمه كالحاضر إذا كتم عنه البيع والغائب غيبة قريبة. اهـ (5) .
وذهب بعض أهل العلم إلى القول بمنع الغائب من الشفعة لما فيه من الإضرار بالمشترى بامتناعه عن التصرف في ملكه حسب اختياره خشيه انتزاعه منه وهذا القول مروي عن النخعي والحارث العكلي والبتي.
__________
(1) صحيح البخاري الشفعة (2258) ، سنن النسائي البيوع (4702) ، سنن أبو داود البيوع (3516) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2495) ، مسند أحمد بن حنبل (6/10) .
(2) بداية المجتهد جـ 2 ص259.
(3) المدونة جـ 5 ص 418.
(4) سنن النسائي البيوع (4704) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) ، موطأ مالك الشفعة (1420) .
(5) المغني جـ 5 ص274.(18/62)
ورد ابن قدامة القول بتضرر المشتري بأن ضرره يندفع بإيجاب القيمة له.
وقد يرد على ذلك بأن غيبته ما دامت غير محددة بحيث تصل إلى عشر سنين أو أكثر فإن تضرر المشتري ببقاء مشتراه معلقا حتى يحضر فيقرر رغبته في الشفعة من عدمها لا يقابل برد القيمة إليه لما في ذلك من تعطل هذه القيمة عن الإدارة فضلا عما في ذلك من تعطيل هذه العقار عن التعمير لتكون منفعته العامة والخاصة أكثر.(18/63)
9 - شفعة الوارث:
اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في جواز شفعة الوارث من عدمه تبعا لاختلافهم في متعلق حق الشفعة هل هو متعلق بالملك فيورث أم بالمالك فيمنع إرثه لموت صاحبه وقد تحصل من اختلافهم في المسألة ثلاثة أقوال. أحدها: إذا لم يأخذها الشفيع قبل موته فلا يجوز لوارثه أخذها مطلقا سواء طالب بها مورثه أم لم يطالب بها لأن سبب أخذه الشفعه زال بموته وهو الملك وقيام السبب إلى وقت الأخذ شرط لثبوت الحق في ذلك وقد قال بهذا القول جمهور أهل الرأي.
قال السرخسي: وإذا مات الشفيع بعد البيع وقبل أن يأخذ بالشفعة لم يكن لوارثه حق الأخذ بالشفعة عندنا - ثم علل ذلك بقوله- ونحن نقول مجرد الرأي والمشيئة لا يتصور فيه الإرث لأنه لا يبقى بعد موته ليخلفه الوارث فيه والثابت له بالشفعة مجرد المشيئة بين أن يأخذ أو يترك ثم السبب الذي به كان يأخذ بالشفعة يزول بموته وهو ملكه وقيام السبب إلى وقت الأخذ شرط لثبوت حق الأخذ له. اهـ (1) .
__________
(1) المبسوط جـ 14 ص 116.(18/63)
وقال في الدر المختار: ويبطلها موت الشفيع قبل الأخذ بعد الطالب أو قبله ولا تورث خلافا للشافعي. قال في الحاشية: قوله ويبطلها موت الشفيع إلخ. لأنها مجرد حق التملك وهو لا يبقى بعد موت صاحب الحق فكيف يورث. اهـ (1) .
الثاني أن حق الشفعة لا يورث إلا إذا طالب بها الشفيع قبل موته لأن الحق متعلق بالمالك دون الملك فحيث مات قبل طلب حقه في الشفعة فإن موته مسقط لذلك الحق وهذا قول جمهور العلماء من الحنابلة وغيرهم. . قال ابن قدامة رحمه الله في كلامه على قول الخرقي: والشفعة لا تورث إلا أن يكون الميت طالب بها ما نصه:
وجملة ذلك أن الشفيع إذا مات قبل الأخذ بها لم يخل من حالين: أحدهما: أن يموت قبل الطلب بها فتسقط ولا تنتقل إلى الورثة. وقال أحمد الموت يبطل به ثلاثة أشياء الشفعة، والحد إذا مات المقذوف، والخيار إذا مات الذي اشترط الخيار لم يكن للورثة، هذه الثلاثة الأشياء إنما هي بالطلب فإذا لم يطلب فليس تجب إلا أن يشهد أني على حقي من كذا وكذا وأني قد طلبته، فإن مات بعده كان لوارثه الطلب به. وروي سقوطه بالموت عن الحسن وابن سيرين والشعبي والنخعي وبه قال الثوري وإسحاق وأصحاب الرأي - ثم ذكر المستند لذلك فقال: ولنا أنه حق فسخ ثبت لا لفوات جزء فلم يورث كالرجوع في الهبة ولأنه نوع خيار جعل للتمليك أشبه خيار القبول.
الحال الثاني: إذا طالب بالشفعة ثم مات فإن حق الشفعة ينتقل إلى الورثة قولا واحدا ذكره أبو الخطاب وقد ذكرنا نص أحمد عليه لأن الحق يتقرر بالطلب ولذلك لا يسقط بتأخير الأخذ بعده وقبله يسقط.
__________
(1) حاشية ابن عابدين جـ 6 ص241.(18/64)
وقال القاضي يصير الشقص ملكا للشفيع بنفس المطالبة وقد ذكرنا أن الصحيح غير هذا فإنه لو صار ملكا للشفيع لم يصح العفو عن الشفعة بعد طلبها كما لا يصح العفو عنها بعد الأخذ بها. فإذا ثبت هذا فإن الحق ينتقل إلى جميع الورثة على حسب مواريثهم لأنه حق مالي موروث فينتقل إلى جميعهم كسائر الحقوق المالية. أهـ (1) .
القول الثالث: ثبوت الشفعة للورثة إذا مات مورثهم قبل العفو والأخذ لكون الشفعة حقا متعلقا بالملك الموروث فهي حق من حقوقه وقد قال بهذا القول مالك والشافعي والعنبري وغيرهم وذكر أبو الخطاب من الحنابلة أن هذا القول يمكن تخريجه لأنه خيار ثابت لدفع الضرر عن المال فيورث كخيار الرد بالعيب قال الشيرازي:
وإذا مات الشفيع قبل الأخذ والعفو انتقل حقه من الشفعة إلى ورثته لأنه قبض استحقه بعقد البيع فانتقل إلى الورثة كقبض المشتري في البيع ولأنه خيار ثابت لدفع الضرر عن المال فورث كالرد بالعيب (2) .
وقال ابن رشد في معرض ذكره جملة من أحكام الشفعة هي موضع خلاف بين أهل العلم ما نصه:
فمن ذلك اختلافهم في ميراث حق الشفعة فذهب الكوفيون إلى أنه لا يورث كما أنه لا يباع. وذهب مالك والشافعي وأهل الحجاز إلى أنها موروثة قياسا على الأموال (3) .
وقد رد ابن قدامة رحمه الله على أبي الخطاب في قياسه الشفعة على
__________
(1) المغني جـ 5 ص310- 311
(2) المجموع ومعه المهذب جـ 14 ص176
(3) المدونة جـ 2 ص260(18/65)
خيار الرد بالعيب فقال: ولنا أنه حق فسخ ثبت لا لفوات جزء فلم يورث كالرجوع في الهبة ولأنه نوع خيار جعل للتمليك أشبه خيار القبول فأما خيار الرد بالعيب فإنه لاستدراك جزء فات من المبيع. أهـ (1) .
هذا ما تيسر ذكره، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.،،
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الله بن منيع ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) المغني جـ 5 ص310(18/66)
قرار رقم 44 وتاريخ 13 \ 4 \ 1396 هـ. . . .
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
فبناء على ما تقرر في الدورة السابعة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في مدينة الطائف في النصف الأول من شهر شعبان عام 1395 هـ. من إدراج مسألة الشفعة بالمرافق الخاصة في جدول أعمال الدورة الثامنة فقد جرى دراسة المسألة المذكورة في دورة المجلس الثامنة المنعقدة في النصف الأول من شهر ربيع الآخر في مدينة الرياض. كما جرى دراسة مسألة الشفعة فيما لا تمكن قسمته من العقار.
وبعد الاطلاع على البحث المعد في ذلك من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
وبعد تداول الرأي والمناقشة من الأعضاء وتبادل وجهات النظر قرر المجلس بالأكثرية أن الشفعة تثبت بالشركة في المرافق الخاصة كالبئر والطريق والمسيل ونحوها. كما تثبت الشفعة فيما لا تمكن قسمته من العقار كالبيت والحانوت الصغيرين ونحوهما لعموم الأدلة في ذلك، ولدخول ذلك تحت مناط الأخذ بالشفعة وهو دفع الضرر عن الشريك في المبيع وفي حق المبيع، ولأن النصوص الشرعية في مشروعية الشفعة تتناول ذلك. ومن ذلك ما رواه الترمذي بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشريك شفيع والشفعة في كل شيء (1) » . وفي رواية الطحاوي بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل شيء (2) » . قال الحافظ حديث جابر لا بأس برواته، ولما روى الإمام أحمد والأربعة بإسنادهم إلى جابر بن
__________
(1) سنن الترمذي الأحكام (1371) .
(2) سنن أبو داود البيوع (3515) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2497) .(18/67)
عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا (1) »
ثقات، ولما روى البخاري في صحيحه وأبو داود والترمذي في سننها بإسنادهم إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (2) » . ووجه الاستدلال بذلك ما ذكره ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين: إن الجار المشترك مع غيره في مرفق خاص ما، مثل أن يكون طريقهما واحدا أو أن يشتركا في شرب أو مسيل أو نحو ذلك من المرافق الخاصة لا يعتبر مقاسما مقاسمة كلية بل هو شريك لجاره في بعض حقوق ملكه وإذا كان طريقهما واحدا لم تكن الحدود واقعة بل بعضها حاصل وبعضها منتف. إذ وقوع الحدود من كل وجه يستلزم أو يتضمن تصريف الطرق. ا- هـ.
وبالله التوفيق وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.،،،
رئيس الدورة الثامنة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3518) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2214) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) .(18/68)
الأعضاء:
عبد الله بن حميد ... عبد الله بن خياط ... عبد الرزاق عفيفي
محمد الحركان ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح
صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد
محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين
صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع(18/69)
صفحة فارغة(18/70)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء علي ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شؤونهم الدينية والاجتماعية.(18/71)
فتوى برقم 437 في 18 \ 4 \ 1393 هـ
السؤال: رجل أراد بناء بيت أو توسعته أو أي مباني أخرى في سعة عند مزرعته ووجد فيما يريد بناءه قبرا أو قبرين أو ثلاثة قبور أو أكثر فماذا يصنع؟
الجواب: الأصل أنهم قد قبروا في أرض موات ملكوها بقبرهم فيها فلا يجوز التعرض لها لا بنبش ولا باستطراق ولا بابتذال وينبغي أن تحاط بسور يمنع عنها الامتهان والابتذال ويحفظ لأصحابها كرامتهم لأن حرمة الميت من المسلمين كحرمته حيا. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(18/72)
فتوى برقم 1778 في 3 \ 2 \ 1396 هـ
السؤال: شخص يقول أنا رجل أملك مبلغا من المال وأستثمره في شراء سيارات نقدا، ثمن السيارة تسعة آلاف ريال ثم أبيع السيارة بالتقسيط لمدة سنة وسنتين أربعة عشر ألفا أو بعشرة آلاف ريالا بعد أن آخذ مقدما ألفي ريال أو ثلاثة آلاف ريال وأنا في شك هل هذا البيع صحيح أو ربا وما حكم ما سبق في هذا البيع علما أن لي مدة سنتين بهذه الطريقة؟ .(18/72)
الجواب: لقد أحل الله البيع وحرم الربا فقال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) وكان مما أحله من البيع إلى أجل، يدل على مشروعية ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ} (2) الآية.
قال القرطبي: في تفسيره هي تتناول جميع المداينات إجماعا وثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها «أن بريرة باعها أهلها بتسع أواق تسعة أقساط في كل عام أوقية فأقر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم (3) » وبهذا يعلم جواز التعامل بالصورة التي سأل عنها السائل لدخولها في عموم الآية. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 282
(3) صحيح البخاري البيوع (2168) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن أبو داود العتق (3929) .(18/73)
فتوى برقم 1419 وتاريخ 28 \ 12 \ 1396 هـ
السؤال الأول: فيه أناس يشترون ثمار النخيل عند بدء الصلاح بقيمة معينة ثم يبيعونه بربح وهو باق على رؤوسه فهل هذا جائز أم لا؟
الجواب: هذا التصرف جائز لدخوله في عموم أدلة البيع من الكتاب والسنة ولا نعلم دليلا يخرجه عن دخوله في هذا العموم ولأنه مقبوض بالتخلية.(18/73)
السؤال الثاني: إذا أسلم رجل دراهم في تمر أوزان معلومة فهل يسوغ أن يأخذ عن ذلك عددا من النخيل خرصا بقدر ماله من الأوزان عند بدء الصلاح، فهل يجوز أم لا؟
الجواب: حكم هذه المسألة فيه خلاف فمن أهل العلم من أجازه ومنهم من منعه، والذين أجازوه قيدوه بما إذا كان الثمر المأخوذ دون ما في الذمة بيقين وتراضيا على ذلك ولم يكن بينهما شرط لذلك عند العقد واستدلوا بقصة جابر الثابتة في الصحيح وبأن باب الإبقاء أوسع من باب البيع ويفتقر فيه مالا يفتقر في البيع وبأنه من باب أخذ بعض الحق والإبراء عما بقي وبأنه إرفاق بالمدين وإحسان إليه وسماحة بأخذ الحق ناقصا. والذين منعوه هم الجمهور وحجتهم حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن بين معلوم إلى أجل معلوم (1) » . ومضمون هذا الحديث عام، وقد يقال بأن قضية جابر قضية عين لا عموم لها، ويترجح المنع بهذا سدا للذريعة، ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما المخرج في الصحيحين في النهي عن المزابنة وهي أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلا بثمر كيلا، وإن كان زرعا بطعام كيلا، وإن كان كرما بزبيب كيلا، والقول الأول أرجح لأن حديث جابر نص ظاهر في إباحة ذلك ولما تقدم من الوجوه المقتضية لحله وأما إذا كان يحتمل أنه دون حقه أو مثله أو فوقه فهذا متفق على منعه لعموم الحديث السابق عن ابن عمر.
السؤال الثالث: إذا كان فيه نساء متزوجات وهن قرابة للرجل كبنت عم وخال وخالة وأزواجهن غير موسرين وينقصهن بعض حوائجهن الخاصة فهل يجوز دفع الزكاة لهن؟
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2241) ، مسند أحمد بن حنبل (1/222) .(18/74)
الجواب: غير خاف أن من مصارف الزكاة الفقراء والمساكين وتحقيق كون النساء المسؤول عنهن من الفقراء والمساكين يرجع إلى المعرفة بأحوالهن فإذا كانت هذه الحوائج الخاصة لها تعلق بالنفقة والكسوة، والأزواج غير قادرين على ذلك فلا مانع من الدفع لهن. أما إذا كان المراد بالحوائج الخاصة شراء كماليات كالذهب ونحو ذلك فلا يجوز الدفع لهن.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(18/75)
فتوى برقم 1434 وتاريخ 22 \ 1 \ 1397 هـ
السؤال الأول: بعض ملاك العقارات يختلق بعض المبررات لإخراج المستأجر من عقاره فمرة يمنع الحارس من تنظيف المنزل، ومرة يحبس عنه الماء ونحو ذلك من المضايقات فهل يبيح له الشرع هذه الأضرار أم لا؟
الجواب: يجب على المالك أن يفي للمستأجر بما تعاقدا عليه من تسليم المنزل والقيام بمقتضى الشروط المشروعة التي اتفقوا عليها أو جرى فيها عرف، وذلك في المدة التي نص عليها في العقد لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمنون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا (2) » فإذا انتهت مدة العقد فإن تراضى الطرفان على تجديد المدة وجب على كل منهما الوفاء فيها لصاحبه على نحو ما تقدم، وإن أبى المالك تجديد المدة وجب على المستأجر أن يسلم
__________
(1) سورة المائدة الآية 1
(2) سنن الترمذي الأحكام (1352) .(18/75)
له المنزل ولا يضاره بالبقاء فيه، فإنه لا يحل مال المسلم إلا بطيب نفسه.
السؤال الثاني: اشترى رجل جهاز تلفزيون وقال لزوجته إذا فتحت التلفزيون على أي برنامج غير ديني فأنت محرمة علي ثم دخل فوجد التلفزيون يعرض تمثيلية، فسألها عن ذلك فقالت: نسيت إغلاقه بعد البرنامج الديني فما الحكم؟
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكر من أنها نسيت إغلاقه بعد البرنامج الديني فلا يحنث الزوج لكن قوله لزوجته ابتداءا إن فتحت. . فأنت محرمة علي لا يجوز بل هو اعتداء على حق الله لأن التحريم والتحليل إلى الله وحده قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (1) وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) وعلى الزوجة أن لا تفتح التلفزيون على غير البرامج الدينية وأن تنتبه لإغلاقه إذا انتهى البرنامج الديني وعلى الزوج كفارة يمين إذا فتحته متعمدة على بعض البرامج التي أراد الزوج منعها منها لأن هذا الكلام في حكم اليمين في أصح أقوال العلماء والواجب على جميع المسلمين عدم فتح التلفزيون على البرامج المحرمة من الأغاني وآلات الطرب والتمثيليات المنكرة وغير ذلك مما حرمه الله وبالله التوفيق. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
السؤال الثالث: هل يقام الحد على شاة إذا واقعها إنسان؟
الجواب: أحل الله للإنسان أن يستمتع بزوجته وأمته وأن يقضي وطره
__________
(1) سورة المائدة الآية 87
(2) سورة التحريم الآية 1(18/76)
منهما إلا في الحالات التي حرم الاستمتاع بالزوجة والأمة فيها كحال الحيض، وحرم عليه قضاء وطره بالجماع ونحوه في غيرهما وجعله اعتداء على حدوده قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (1) {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (2) {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (3) وعلى هذا فوقاع الإنسان للشاة ونحوها من الحيوانات محرم واعتداء على حدود الله، لكنه لا يوجب الحد كما يوجبه الزنا بامرأة بل يوجب التعزير للإنسان فقط على ما يراه الحاكم.
أما الشاة فلا حد ولا تعزير بالنسبة لها لأنها غير مكلفة بأحكام الشريعة ولكن يستحق إبعادها عن الجهة التي وقعت فيها الجريمة إما ببيعها ونقلها إلى جهة أخرى، وإما بذبحها عسى أن تنسى الجريمة وينقطع حديث الناس فيها ولا يعتبر ذلك حدا أو تعزيرا فإن لمالكها أن يذبحها وأن يبيعها دون أن يعتدي عليها أحد هذا الاعتداء وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «أمر بقتل الدابة الموطوءة» .
وعلى هذا فذبحها أولى إذا كانت مأكولة اللحم كالشاة ونحوها عملا بهذا الحديث وأمانة لخبرها.
السؤال الرابع: اشترى رجل عددا من الأسهم العقارية، ثم ذهب ليسترد ماله، فأعطاه صاحب الشركة ماله وزاد عليه 40% (أربعين في المائة) ، فهل يعد ذلك ربا أم لا؟
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكر من أن صاحب الشركة أعطى المساهم رأس ماله وزاده نسبة في المائة من رأس المال فالزيادة جائزة إذا قومت سهام الشركة يوم أعطاه وعرفت نسبة الربح لكل سهم فأعطاه صاحب الشركة من الربح بقدر ما يخص سهامه فكان أربعين في المائة (40%)
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 5
(2) سورة المؤمنون الآية 6
(3) سورة المؤمنون الآية 7(18/77)
من رأس ماله فهذا جائز وليس ربا ولا جهالة فيه ولا غرر، وكذا تجوز هذه الزيادة إذا اشترى من صاحب الشركة سهامه من العقار وزاد أربعين في المائة ربحا لسهامه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(18/78)
فتوى برقم 1526 في 16 \ 4 \ 1397 هـ
السؤال الأول: رجل يقول بأن عندهم شركات مساهمة خاصة بالأعمال التجارية والزراعية والبنوك وشركات التأمين والبترول ويحق للمواطن المساهمة فيها هو وأفراد عائلته فما هو الحكم الشرعي في ذلك؟
الجواب: يجوز للإنسان أن يساهم في هذه الشركات إذا كانت لا تتعامل بالربا. فإن كان تعاملها بالربا فلا يجوز ذلك لثبوت تحريم التعامل بالربا في الكتاب والسنة والإجماع، وكذلك لا يجوز للإنسان أن يساهم في شركات التأمين التجاري لأن عقود التأمين مشتملة على الضرر والجهالة والربا، والعقود المشتملة على الضرر والجهالة والربا محرمة في الشريعة الإسلامية.
السؤال الثاني: بالنسبة للشركات المذكورة إذا أراد شخص أن يساهم ببيع شهادات الميلاد الخاصة بأفراد عائلته بالإضافة إلى شهادة الجنسية بمبالغ كبيرة فهل هذا حلال أم لا؟ .
الجواب: لا يجوز للإنسان أن يبيع شهادات الميلاد الخاصة بعائلته على(18/78)
شخص آخر من أجل أن يساهم في مثل هذه الشركات بأسماء أصحابها بناءا على أنهم أولاده وهم في الواقع ليسوا بأولاده وكذلك شهادة الجنسية. فإن منح الجنسية له أنظمة وقد تختلف هذه الأنظمة باختلاف الدول فعلى من يتعامل بما ذكر أن يتقيد في أنظمة الدولة بالنسبة لشهادات الميلاد وبالنسبة للجنسية إذا كانت هذه الأنظمة لا تتعارض مع الشرع الإسلامي فإن هذا من التعاون على البر والتقوى وقد أمر الله به في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) والخروج من أنظمتها بما يعود على الفرد والمجتمع والدولة بالفساد من التعاون على الإثم والعدوان وقد حرمه الله بقوله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) ولأن هذا كذب والكذب حرام لأنه من أكل أموال الناس بالباطل من الجانبين لأن كل واحد منهما أخذ المال بربح محرم وهو الكذب والغش والخيانة للدولة.
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة المائدة الآية 2(18/79)
فتوى برقم 1638 وتاريخ 7 \ 8 \ 1397 هـ
السؤال: أراد رجل الزواج وليس عنده ما يكفي مبلغ الصداق فذهب إلى صاحب تجارة ليستدين منه فقال له صاحب التجارة أبيعك سيارة(18/79)
بسبعة عشرة ألفى ريال سعودي دينا تدفعها كاملة عند نهاية السنة. فهل هذا ربا؟ مع العلم أن قيمة السيارة نقدا عشرة آلاف وخمسمائة ريال سعودي فقط، وهذه السيارة هي التي اشترط عليها وهي محور الاشتراط ما بين هذا البائع ومن يريد الزواج.
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكر من شراء شخص من آخر سيارة لأجل بثمن أكثر مما تباع به نقدا عاجلا ليبيعها المشتري إلى من شاء سوى من باعها عليه ومن في حكمه فليس ربا، بل هو عقد بيع صحيح جائز. أما إذا اشترى السيارة مثلا من شخص لأجل على أن يردها عليه بثمن عاجل أقل مما اشتراها به فذلك بيع نقد بنقد مع التفاضل وهو الربا الذي حرمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والعقد على السيارة صوري قصد به الخداع والاحتيال على الربا وأكل الأموال بالباطل، وكذا لو باع المشتري السيارة على شخص عرف أنه تابع للبائع الأول في عمله أو شخص وسيط تواطأ معه لتعود السيارة في النهاية إلى البائع الأول فكل هذا من الخداع، والاحتيال على الربا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(18/80)
فتوى برقم 1670 وتاريخ 6 \ 10 \ 1397 هـ
السؤال الأول: هل يحل للمسلم أن يتعامل مع البنوك التي تعطي زيادة على رأس المال أو تعطي المقترض زيادة.(18/80)
الجواب: لا يجوز للشخص أن يودع نقوده عند بنك يعطيه زيادة مضمونة سنويا- مثلا- ولا يجوز أيضا أن يقترض من بنك بشرط أن يدفع له زيادة في الوقت الذي يتفقان عليه لدفع المال المقترض كأن يدفع له عند الوفاء زيادة خمسة في المائة وهاتان الصورتان داخلتان في عموم أدلة تحريم الربا من الكتاب والسنة والإجماع وهذا واضح بحمد الله.
وأما التعامل مع البنوك بتأمين النقود بدون ربح بالتحويلات. فإما بالنسبة لتأمين النقود بدون ربح فإن لم يضطر إلى وضعها في البنك فلا يجوز أن يضعها فيه لما في ذلك من إعانة أصحاب البنوك على استعمالها في الربا وقد قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) وإن دعت إلى ذلك ضرورة فلا نعلم قي ذلك بأسا إن شاء الله تعالى.
وأما بالنسبة لتحويل النقود من بنك لآخر ولو بمقابل زائد يأخذه البنك المحول فجائز دون الزيادة التي يأخذها البنك أجرة في مقابل عملية التحويل.
السؤال الثاني: كيف تخرج زكاة سيارات الأجرة والناقلات هل تخرج من قيمتها أو من كسبها؟
الجواب: مادامت هذه السيارات معدة للأجرة فالزكاة تجب في أجرتها إذا حل عليها الحول لا في قيمتها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(18/81)
فتوى برقم 1974 وتاريخ 20 \ 6 \ 1398 هـ
السؤال الأول: رجل يعمل ببيع وشراء المجوهرات فيأتي إليه شخص معه ذهب مستعمل فيشتريه منه وتعرف قيمته بالريالات وقبل دفع القيمة في المكان والزمان يشتري منه البائع له الذهب المستعمل ذهبا جديدا وتعرف قيمته ويدفع المشتري الباقي عليه، فهل هذا جائز أم أنه لا بد من تسليم قيمة الأول كاملة إلى البائع ثم يسلم البائع قيمة ما اشتراه من ذهب جديد من تلك النقود أو من غيرها.
الجواب: في مثل هذه الحالة يجب دفع قيمة الذهب المستعمل، ثم البائع بعد قبض القيمة بالخيار إن شاء يشتري ممن باع عليه ذهبا جديدا أو من غيره وإن اشترى منه أعاد عليه نقوده أو غيرها قيمة للجديد حتى لا يقع المسلم في الربا المحرم من بيع رديء الجنس الربوي بجيده متفاضلا لما روى البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر فجاءه بتمر جنيب (جيد) فقال أكل تمر خيبر هكذا قال لا إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة فقال لا تفعل مع الجمع بع التمر الذي أقل من ذلك بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا (1) » . ولأن المقاصة في مثل هذا البيع ولو كانت في زمان ومكان البيع قد تؤدي إلى بيع الذهب بالذهب متفاضلا وذلك محرم لما روى مسلم رحمه الله تعالى عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (2) » وفي رواية عن ابن سعيد «فمن زاد أو استزاد فقد أربا الآخذ والمعطي سواء (3) » .
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2202) ، صحيح مسلم المساقاة (1593) ، سنن النسائي البيوع (4553) ، موطأ مالك البيوع (1315) ، سنن الدارمي البيوع (2577) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن النسائي البيوع (4565) ، مسند أحمد بن حنبل (3/97) .(18/82)
السؤال الثاني: رجل أعطى سبيكة من الذهب لصائغ وقال له اعمل لي هذه السبيكة أسورة، وقال أضف على السبيكة النحاس الذي يحول الذهب من عيار [24] إلى عيار [21] وأعطيك وزن النحاس والذهب أسورة مدقوقة وآخذ قيمة العمل، فهل هذا جائز أم لا؟
الجواب: إذا كان يدفع له الذهب بوزن ليحوله حليا أو غير ذلك ويعيده إليه فلا بأس بذلك إن شاء الله تعالى بالأجرة المتفق عليها. أما إن كان يأخذ السبيكة ويعطيه أسورة من ذهب آخر فذلك لا يجوز إلا بشرط تماثل الذهب بالوزن والنحاس جميعا، ولا بأس بأخذ الأجرة مقابل الصنعة.
السؤال الثالث: هل يجوز بيع الذهب على شكل صورة من صور الحيوان، وبيع العملة الذهبية التي فيها نصف صورة إنسان؟
الجواب: بيع صورة ذوات الأرواح وشراؤها محرم لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله ورسوله حرما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام (1) » . متفق عليه. ولما قد يسببه ذلك من غلو في أهلها كما قد وقع ذلك في قوم نوح فقد جاء في صحيح الإمام البخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (2) قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ومسخ العلم عبدت ولغير ذلك من النصوص الكثيرة التي وردت في تحريم التصوير واستعمال ذوات الأرواح. هذا بالنسبة لما هو على شكل صور ذي روح أما ما كان عليه
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2236) ، صحيح مسلم المساقاة (1581) ، سنن الترمذي البيوع (1297) ، سنن النسائي الفرع والعتيرة (4256) ، سنن أبو داود البيوع (3486) ، سنن ابن ماجه التجارات (2167) ، مسند أحمد بن حنبل (3/324) .
(2) سورة نوح الآية 23(18/83)
صور شيء من ذوات الأرواح سواء كان عملة ذهبية أو فضية أو ورقية أو كان قماشا أو آلة فإن كان تداوله بين الناس لتعليقه بالحيطان ونحوها مما لا يعتبر امتهانا له فالتعامل فيه محرم لشموله بأدلة تحريم التصوير واستعمال صور ذوات الأرواح وإن كان ما عليه الصورة من ذلك يمتهن كآلة يقطع بها أو بساط يداس أو وسادة يرقد عليها ونحو ذلك فيجوز لما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها «أنها نصبت سترا وفيه تصاوير فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزعه قالت فقطعته وسادتين فكان يرتفق عليها، (1) » وفي لفظ أحمد «قطعته مرفقتين فلقد رأيته متكئا على إحداهما وفيها صورة (2) » . مع العلم بأن تصوير ذوات الأرواح محرم لا يجوز فعله لا في العمل ولا في الملابس ولا غير ذلك لما تقدم به الأدلة في ذلك. وبالله التوفيق. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم اللباس والزينة (2107) ، سنن النسائي الزينة (5355) .
(2) سنن ابن ماجه اللباس (3653) ، مسند أحمد بن حنبل (6/247) .(18/84)
فتوى برقم 2161 وتاريخ 25 \ 10 \ 1398 هـ
السؤال: شخص يقول: عندنا طريقة الدراويش ويوجد معهم رجل من أقربائنا شرب شربة ماء من السيد صاحب الطريقة وهو رجل أمي وليس لديه خفة ولا معرفة ليتسنى له إظهار الدجل والشعوذة أمام الناس ومع هذا يضرب بطنه بكل آلة جارحة من خنجر وسيف وخشبة وطلقة رصاص. . . الخ. علما بأنه لا يتمسك بالإسلام ولا يؤدي الفرائض التي فرضها ربنا سبحانه وتعالى من صلاة وصوم وغيرها فما الحكم؟
والجواب: ختم الله الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم بالنص والإجماع لقوله تعالى:(18/84)
{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (1) وتواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبينة أنه خاتم النبيين وأجمع المسلمون على ذلك. والأولياء قسمان أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وقد بين الله سبحانه وتعالى في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن لله أولياء من الناس وللشياطين أولياء ففرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان فقال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (2) {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (3) {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (4) وقال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (5) وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله من عادي لي وليا فقد بارزني بالمحاربة- أو فقد آذنته بالحرب (6) » الحديث، فبين النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل أنه من عادى وليا لله فقد بارز الله بالمحاربة وذكر الله سبحانه أولياء الشيطان فقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (7) {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (8) {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} (9) وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} (10) وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} (11) وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 40
(2) سورة يونس الآية 62
(3) سورة يونس الآية 63
(4) سورة يونس الآية 64
(5) سورة البقرة الآية 257
(6) صحيح البخاري الرقاق (6502) .
(7) سورة النحل الآية 98
(8) سورة النحل الآية 99
(9) سورة النحل الآية 100
(10) سورة النساء الآية 119
(11) سورة الأعراف الآية 27(18/85)
إلى قوله تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (1) .
وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (2) - وقال الخليل عليه السلام: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} (3) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} (4) الآيات إلى قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (5) .
وثبت في الصحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول جهارا من غير سر «إن آل أبي فلان ليسوا بأولياء- يعني طائفة من أقاربه- إنما وليي الله وصالح المؤمنين (6) » .
فالفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان أن أولياء الرحمن هم المؤمنون المتقون كما قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (7) {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (8) وأولياء الشيطان هم المعادون لله التاركون للعمل بشرعه.
وأفضل أولياء الله هم رسله، والله جل وعلا يجعل على يد رسله المعجزات والكرامات أو يجعل على يد أوليائه الكرامات وما يقع على يد أولياء الشيطان فهو من الأحوال الشيطانية قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وإن كان اسم المعجزة يعم كل خارق للعادة في اللغة وعرف الأئمة المتقدمين كالإمام أحمد بن حنبل وغيره ويسمونها الآيات لكن كثير من
__________
(1) سورة الأعراف الآية 30
(2) سورة الأنعام الآية 121
(3) سورة مريم الآية 45
(4) سورة الممتحنة الآية 1
(5) سورة الممتحنة الآية 5
(6) صحيح البخاري الأدب (5990) ، صحيح مسلم الإيمان (215) ، مسند أحمد بن حنبل (4/203) .
(7) سورة يونس الآية 62
(8) سورة يونس الآية 63(18/86)
المتأخرين يفرق في اللفظ بينهما فيجعل المعجزة للنبي والكرامة للولي وجماعهما الأمر الخارق للعادة انتهى. إذا علم هذا فالشخص المذكور هو من أولياء الشيطان والأعمال المذكورة من الأحوال الشيطانية ومن الخداع والتلبيس على أعين الناس ولا شيء في الحقيقة لما يفعله وإنما هو التلبيس على أعين الناس بواسطة الشياطين.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(18/87)
فتوى برقم 2795 وتاريخ 26 \ 1 \ 1400 هـ
السؤال الأول: الإخوان السلفيون يقولون برد القبض بعد السجود؟
الجواب: دلت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه كان يقبض بيمينه على شماله إذا كان قائما في الصلاة كما دلت على أنه كان عليه الصلاة والسلام يأمر بذلك.
السؤال الثاني: في أثناء الصلاة أي شيء يسبق إلى الأرض هل الركبتان أو الكفان؟
الجواب: لقد ورد إلى اللجنة سؤال عن ذلك فأجابت عنه بما نصه: (ذهب الجمهور إلى أن الأفضل أن يضع المصلي ركبتيه قبل يديه عند النزول للسجود وأن يرفع يديه عن الأرض قبل ركبتيه عند القيام للركعة التي بعد ذلك واستدلوا بحديث وائل بن حجر قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شد وضع ركبتيه عند قبل يديه وإذا نهض رفع يديه(18/87)
قبل ركبتيه (1) » رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه لكن في سنده شريك القاضي وقد تفرد به وشريك ليس بالقوى فيما تفرد به وفي الباب عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «انحط بالتكبير فسبقت ركبتاه يديه» أخرجه الحاكم والبيهقي والدارقطني وقال الحاكم هو على شرطهما ولا أعلم له علة، وقال الدارقطني تفرد به العلاء بن إسماعيل وهو مجهول وقال ابن أبي حاتم عن أبيه أنه منكر وقد روى في هذا أحاديث أخر لا تخلو من لين إما انقطاع أو إرسال.
وذهب آخرون إلى استحباب وضع اليدين قبل الركبتين عند الهبوط للسجود منهم الأوزاعي ومالك وابن حزم قال أبي داود وهو قول أهل الحديث واستدلوا بحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه (2) » رواه أحمد وأبو داود والنسائي وفي رواية «وليضع يديه ثم ركبتيه (3) » لكن في سنده مقال وقد رجح جماعة حديث وائل بن حجر وما في معناه ومنهم ابن القيم في كتابه زاد المعاد ورجح آخرون حديث أبي هريرة وما في معناه والمسألة اجتهادية والأمر فيها واسع ولذا خير بعض الفقهاء المصلي بين الأمرين، إما لضعف الأحاديث من الجانبين وإما لتعارضها وعدم رجحان بعضها على بعض في نظره ونتيجة هذا السنة والتخيير بين الهيئتين) .
السؤال الثالث: في وقت صلاة الظهر هل تجوز صلاة تحية المسجد أم لا؟
الجواب: من دخل المسجد في وقت النهي كالوقت الذي تقف فيه الناس وسط النهار فإنه يصلي ركعتين تحية المسجد لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين (4) » وهذا الحديث
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (268) ، سنن النسائي التطبيق (1089) ، سنن أبو داود الصلاة (838) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (882) ، سنن الدارمي الصلاة (1320) .
(2) سنن الترمذي الصلاة (269) ، سنن النسائي التطبيق (1091) ، سنن أبو داود الصلاة (840) ، مسند أحمد بن حنبل (2/381) ، سنن الدارمي الصلاة (1321) .
(3) سنن الترمذي الصلاة (269) ، سنن النسائي التطبيق (1091) ، سنن أبو داود الصلاة (840) ، مسند أحمد بن حنبل (2/381) ، سنن الدارمي الصلاة (1321) .
(4) صحيح البخاري الجمعة (1167) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (714) ، سنن الترمذي الصلاة (316) ، سنن النسائي المساجد (730) ، سنن أبو داود الصلاة (467) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1013) ، مسند أحمد بن حنبل (5/311) ، سنن الدارمي الصلاة (1393) .(18/88)
مخصص لأحاديث النهي عن الصلاة في أوقات النهي ومن جلس ولم يصل ركعتين تحية المسجد في أوقات النهي فلا ينكر عليه ولا ينبغي التشديد والتنازع في مثل هذه المسائل.
السؤال الرابع: هل يمكن أن تهجر المساجد التي تكثر فيها البدع؟
الجواب: ينبغي للمسلم أن يسعى في إزالة هذه البدع ما أمكنه فإذا تعذرت إزالتها فإنه يتركها ويصلي في المسجد الذي ليس فيه بدع. وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(18/89)
فتوى برقم 3548 وتاريخ 18 \ 3 \ 1401 هـ
السؤال الأول: يقول الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (1) .
إن ظاهر الآية السابقة يمنع الاستغفار للمشركين ولو كانوا من ذوي القرابة، والكثير منا نحن أعراب البادية من له والدان وأقرباء وقد اعتادوا الذبح عند القبور والتوسل بأهلها وتقديم النذور والاستعانة بتوسيط أهل القبور في فك الكربات وشفاء المرضى وقد ماتوا على ذلك ولم يصلهم من يعرفهم معنى التوحيد ومعنى لا إله إلا الله ولم يصلهم من يعلمهم أن النذور والدعاء عبادة لا يصح صرفها إلا لله وحده فهل يصح المضي في جنائزهم والصلاة عليهم والدعاء والاستغفار لهم وقضاء حجهم والتصدق عليهم.
__________
(1) سورة التوبة الآية 113(18/89)
الجواب: من مات على الحالة التي وصفت لا يجوز المشي في جنازته ولا الصلاة عليه ولا الدعاء ولا الاستغفار له ولا قضاء حجه ولا التصدق عنه لأن أعماله المذكورة أعمال شركية وقد قال سبحانه وتعالى في الآية السابقة {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} (1) ولما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال (استأذنت ربي في الاستغفار لأمي فلم يأذن لي واستأذنته في زيارة قبرها فأذن لي) . وليسوا معذورين بما يقال عنهم أنهم لم يأتهم من يبين لهم أن هذه الأمور المذكورة التي يرتكبونها شرك لأن الأدلة عليها في القرآن الكريم واضحة وأهل العلم موجودون بين أظهرهم ففي إمكانهم السؤال عما هم عليه من الشرك لكنهم قد أعرضوا ورضوا بما هم عليه.
السؤال الثاني: هل تصح الصلاة وراء حالق اللحية إذا كان إماما ثابتا في مسجد أو اختارته الأغلبية للصلاة بهم؟
الجواب: تصح الصلاة خلفه وأمثاله من العصاة في أصح قولي العلماء وقد سبق أن ورد إلى اللجنة الدائمة سؤال مماثل أجابت عنه بالفتوى الآتي نصها (حلق اللحية حرام لما رواه البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «خالفوا المشركين وفروا اللحى وأحفوا الشوارب (2) » ولما رواه مسلم وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس (3) » والإصرار على حلقها من الكبائر فيجب نصح حالقها والإنكار عليه ويتأكد إذا كان في مركز قيادي ديني وعلى هذا فإذا لم ينتصح هذا الإمام وجب عزله إن تيسر ولم تحدث فتنة وإلا وجبت الصلاة وراء غيره من أهل الصلاح على من تيسر له ذلك زجرا له وإنكارا
__________
(1) سورة التوبة الآية 113
(2) صحيح البخاري اللباس (5892) ، صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن أبو داود الترجل (4199) .
(3) صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن النسائي الزينة (5224) ، سنن أبو داود الترجل (4199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/16) ، موطأ مالك الجامع (1764) .(18/90)
عليه إن لم يترتب على ذلك فتنة وإن لم تتيسر الصلاة وراء غيره شرعت الصلاة وراءه تحقيقا لمصلحة الجماعة وإن خيف من الصلاة وراء غيره حدوث فتنة صلى وراءه درءا للفتنة وارتكابا لأخف الضررين.
السؤال الثالث: توجد أدلة في الفقه عل تحريم وسم البهائم أو الدواب في وجهها ونحن معشر البادية نضطر إلى وسم الدواب للتمييز بين الدواب حيث تختلط في المراعي مع دواب الغر وحيث تمنع السارق ويصعب عليه بيعها فهل يجوز لنا ذلك.
الجواب: نعم يجوز ذلك للغرض المذكور في السؤال إذا كان في غير الوجه لما روى الشيخان رحمهما الله في صحيحهما عن أنس رضي الله عنه قال «غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافيته في يده الميسم يسم إبل الصدقة (1) » وفي لفظ لأحمد وابن ماجه رحمهما الله عنه «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسم غنما في آذانها (2) » . أما الوسم في الوجه فلا يجوز لأن الرسول صلى الله عليه وسلم زجر عن ذلك.
السؤال الرابع: هل يصح الاستغفار والصدقات لمن مات تاركا الصلاة أو كان يصلي أحيانا وأحيانا لا يصلي وهل يجوز حضور جنازته ودفنه في مقابر المسلمين؟
الجواب: من ترك الصلاة جاحدا لوجوبها كفر بإجماع المسلمين ومن تركها تهاونا وكسلا كفر على القول الصحيح من قولي العلماء وعليه فمن مات تاركا للصلاة عمدا لا يجوز الاستغفار له ولا الصدقة عنه ولا حضور جنازته ولا دفنه في مقابر المسلمين. لقول النبي صلى الله عليه وسلم «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (3) » رواه أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح وقوله صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة (4) » أخرجه مسلم في صحيحه.
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1502) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2144) .
(2) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5542) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2119) ، سنن أبو داود الجهاد (2563) ، مسند أحمد بن حنبل (3/254) .
(3) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(4) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/370) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .(18/91)
وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(18/92)
فتوى برقم 3623 وتاريخ 15 \ 5 \ 1401 هـ
السؤال الأول: رجل يبيع سلعة بسعر فوري بمبلغ 10 جنيه مثلا وبالقسط على أقساط شهرية بمبلغ أكبر من هذا المبلغ فهل هذه الزيادة تعد ربا- أم لها نسبة يجب أن يلتزم بها البائع إن أراد البيع بالقسط؟
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكر جاز بيع السلعة إلى أجل بأكثر من سعرها الحاضر سواء كان دفع الثمن أقساطا أم مرة واحدة عند الأجل لكن بشرط ألا يفترقا حتى يعينا نوع البيع ويتفقا علا كونه نقدا أو لأجل وليست الزيادة ربا وليس في الشرع نص على تحديد مقدار الزيادة في البيع لأجل عن البيع نقدا، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم حث على السماحة في البيع والشراء والقضاء والاقتضاء.
السؤال الثاني: ما حكم الإسلام في بعض الناس الذين يشربون الدخان ثم إذا حضر إلى المسجد قام بتمضمض فمه بقليل من الماء ولا يتوضأ بحجة أنه كان على وضوء ونحن نعلم أن السجائر من الخبائث والخبائث تفسد الوضوء لكن ليس عندنا دليل كاف لصحة ما أقول؟
الجواب: شرب الدخان حرام، وعلى من ابتلى بشربه أن ينظف فمه عند ذهابه للمسجد إزالة لرائحته الخبيثة وحرصا على دفع ضررها وأذاها(18/92)
عن المصلين ولكن شرب الدخان لا ينقض الوضوء وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(18/93)
فتوى برقم 3599 وتاريخ 5 \ 4 \ 1401 هـ
السؤال الأول: ما حكم وضع السترة أمام المصلي داخل المسجد؟
الجواب: الصلاة إلى سترة سنة في الحضر والسفر قي الفريضة والنافلة وفي المسجد وغيره لعموم حديث «إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها (1) » رواه أبو داود بسند جيد ولما روى البخاري ومسلم من حديث أبي حنيفة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم ركزت له العنزة فتقدم وصلى الظهر ركعتين يمر بين يديه الحمار والكلب لا يمنع (2) » وروى مسلم من حديث طلحة بن عبيد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل ولا يبال من مر وراء ذلك (3) » . ويسن له دنوه من ستر له لما في الحديث وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يبتدرون سواري المسجد ليصلوا إليها النافلة. وذلك في الحضر في المسجد لكن لم يعرف عنهم أنهم كانوا ينصبون أمامهم ألواحا من الخشب ليكون سترة في الصلاة بالمسجد بل كانوا يصلون إلى جدار- المسجد وسواريه فينبغي عدم التكلف في ذلك فالشريعة سمحة ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ولأن الأمر بالسترة للاستحباب لا للوجوب لما ثبت
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (509) .
(2) صحيح البخاري المناقب (3566) ، صحيح مسلم الصلاة (503) ، سنن النسائي الصلاة (470) ، سنن أبو داود الصلاة (688) ، مسند أحمد بن حنبل (4/307) ، سنن الدارمي الصلاة (1409) .
(3) صحيح مسلم الصلاة (499) ، سنن الترمذي الصلاة (335) ، سنن أبو داود الصلاة (685) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (940) ، مسند أحمد بن حنبل (1/161) .(18/93)
من أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس بمنى إلى غير جدار ولم يذكر في الحديث اتخاذه سترة ولما روى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضاء وليس بين يديه شيء (1) » .
السؤال الثاني: ما حكم دخول الأطفال الغير مميزين داخل صفوف المصلين أي الوقوف بينهم أثناء الصلاة؟
الجواب: دخول الأطفال غير المميزين بين صفوف المصلين أثناء الصلاة لا ينبغي لأنها لا تجوز مصافتهم في الصلاة ولأنهم ليسوا من أهل الصلاة ولأنهم غالبا يعبثون ويشوشون على المصلين.
السؤال الثالث: ما حكم من دخل المسجد ووجد الصفوف قائمة ولم يجد مكانا بينهم فصلى خلف الصفوف منفردا هل صلاته صحيحة أم خطأ؟
الجواب: إذا دخل رجل المسجد وقد أقيمت الصلاة وامتلأ الصفوف اجتهد أن يدخل في الصفوف فإن لم يتيسر ذلك فإنه يدخل مع الإمام ويكون عن يمينه فإن لم يتمكن انتظر حتى يحضر من يصف معه فإن لم يتيسر أحد صلى وحده بعد انتهاء صلاة الجماعة.
السؤال الرابع: دخل رجلان المسجد ومعهما طفل واحد عمره بحدود السبع أو الثمان سنوات فتقدم أحدهما فصلى بالرجل والطفل حيث صف الرجل والطفل خلف الإمام ما حكم صلاتهما وهل هي صحيحة أو خطأ وكم من العمر يبلغ من يعدل الصف بالصلاة؟
الجواب: الذي تشرع مصافاته من الغلمان هو الذي بلغ سن التكليف وذلك بأن يكون قد أكمل خمسة عشر سنة أو احتلم أو نبت به شعر
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/224) .(18/94)
خشن حول القبل وتجوز مصافة من بلغ سبعا على القول الصحيح من قولي العلماء.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(18/95)
فتوى برقم 1404 وتاريخ 7 \ 11 \ 1401 هـ
السؤال الأول: طلب مني شخص أن أشتري له سيارة وقدم لي مبلغا من قيمتها والباقي على أقساط شهرية، بحيث أحصل على مكسب يقرب من ثلاثة آلاف ريال، علما بأني أعرف هذا المكسب قبل عقد البيع والشراء، كما أن استمارة السيارة تسجل باسم طالب ذلك الشراء ابتداء. فما حكم ذلك؟
الجواب: إذا اشتريت السيارة وقبضتها ثم بعتها على شخص إلى أجل معلوم بثمن زائد عن ثمنها الحال فهذا جائز لعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1) الآية. أما إذا بعتها عليه قبل أن تقبضها لم يجز ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع السلع قبل قبضها (2) » وهكذا لو اتفقت معه على أن تبيعه سيارة معلومة قبل أن تشتريها وبعد الاتفاق على الثمن والربح تذهب وتشتريها باسمه كما ذكرت في السؤال فهذا لا يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم لا تبع ما ليس عندك.
السؤال الثاني: إذا اشتريت سيارة لشخص بالتقسيط علما بأن التقسيط تكون قيمة السيارة زائدة ثم طلب مني أن اشتريها منه بأقل مما شراها
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) صحيح البخاري البيوع (2165) ، صحيح مسلم البيوع (1517) ، سنن النسائي البيوع (4499) ، سنن أبو داود البيوع (3436) .(18/95)
مني فما حكم ذلك.
الجواب: هذه المسألة تسمى مسألة العينة وحكمها التحريم والأصل في ذلك ما ورد من الأدلة الشرعية الدالة على النهي عن ذلك.
وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(18/96)
فتوى برقم 4216 وتاريخ 16 \ 12 \ 1401 هـ
السؤال الأول: شخص يقول: هناك بضائع تدخل المزادات العلنية بحكم أنه لم يستدل على صاحبها كأن تكون نزلت في ميناء غير المقرر شحنها إليه وأوصلت غير مستكملة البيانات كذلك قد تكون عند نزولها للميناء خزنت في محزن غير المخزن المقرر تخزينها فيه أو غير ذلك من الأسباب التي تجعل من الصعب الاستدلال على صاحبها فهل شراء هذه البضائع حلال أم حرام؟
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكر من أنه لم يعرف أصحاب هذه البضائع لسبب ما فعرضت في المزاد وصعب الاستدلال عليه جاز الشراء منها والمسؤول عن إيصال ثمنها إلى صاحبها من تولى بيعها أو أمر به لأن في ترك الشراء ضررا على أصحابها وضياعا للمال.
السؤال الثاني: إذا لم نتمكن من التمييز بين البضائع المصادرة لعدم تمكن صاحبها من سداد الجمارك والبضائع التي تدخل في المزاد لصعوبة(18/96)
الاستدلال على صاحبها فهل الشراء من المزاد جائز أم لا؟
الجواب: من اختلط عليه أمر هذه البضائع ولم يتميز لديه حلالها من حرامها جاز له أن يشتري منها لعدم تعيين الحرام وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشتري من اليهود والكفار عموما ويقبل هداياهم مع علمه باختلاط حلالها بحرامها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(18/97)
فتوى برقم 4788 وتاريخ 9 \ 8 \ 1402هـ
السؤال الأول: تسري الآن فكرة بين الناس كسريان النار في الهشيم وتقوم هذه الفكرة على نظرية رياضية بسيطة جدا وهي نظرية المتوالية. وذلك عن طريق إحدى الجهات التي لم يعرف غرضها المستتر. أما الغرض المعلن لهذه الجهة فهو إتاحة الفرصة أمام أي فرد مشترك ليكسب ما يزيد عن 5000 دولارا خلال شهور معدودة. باتباع الخطوات الآتية:(18/97)
1 - يقوم الفرد بشراء قائمة بمبلغ عشرة دولارات أو ما يعادلها (مرفق نموذج للقائمة التي تضم ست خانات لستة أسماء) .
2 - يكتب المشتري اسمه وعنوانه في الخانة المخصصة للمشترك الجديد في أسفل القائمة.
3 - يرسل المشترك الجديد القائمة بعد كتابة اسمه وعنوانه إلى الجهة صاحبة الفكرة مرفقا بها شيكين إثنين أو شيكين سياحيين كل منها بمبلغ عشرة دولارات الأول صادر لأمر المشترك المدون اسمه بالخانة رقم (1) بالقائمة والثاني باسم الجهة صاحبة الفكرة لتتصرف في قيمته دون منازع.
4 - بعد فترة قصيرة (برجوع البريد) يصل المشترك الجديد ثلاث قوائم جديدة يظهر اسمه في كل منها بالخانة رقم (6) بينما ترتقي الأسماء الأخرى إلى أعلى.
5 - يقوم المشترك الجديد ببيع القوائم الثلاث إلى مشتركين جدد مقابل 10 دولارات أو ما يعادلها لكل قائمة وبذلك يستعيد كل ما سبق أن دفعه.
6 - يقوم المشتركون الجدد بنفس الخطوات التي سبق ذكرها فتصل إلى كل منهم ثلاث قوائم (المجموع 9) يرتفع في كل منها اسم المشترك الجديد إلى الرقم (5) في كل من القوائم التسع ثم إلى الرقم (4) في الـ 27 قائمة التالية. ثم إلى الرقم (3) في الـ 81 قائمة التالية ثم إلى الرقم (2) في الـ 243 قائمة التالية ثم إلى الرقم (1) في الـ 729 قائمة التالية. حيث يتم نفس الشيء لكل من المشتركين الجدد.
وفي هذه الحالة يكون قد تم إصدار 729 شيكا كل منها(18/98)
بمبلغ 10 دولارات لأمر المشترك الذي يحتل اسمه الخانة رقم (1) في القائمة أو يحصل على مبلغ 7290 دولارا بعدها يرفع اسمه في القائمة ليحل محله الاسم التالي في القائمة.
وفي نفس الوقت أيضا تحصل الجهة صاحبة الفكرة على مبلغ مماثل تماما للمبلغ الذي يحصل عليه كل مشترك يحتل اسمه الخانة رقم (1) في أية قائمة. وتكون المبالغ الصادرة لأمر تلك الجهة تحت تصرفها ودون أي منازع.
ومما تقدم يتضح أن الفكرة تسير دون توقف وفي جميع الاتجاهات من العالم وأيضا مدى الحياة. حيث يحق للمشترك أن يضم اسمه إلى أية قائمة وكذلك إلى أي عدد من القوائم التي يمكنه الحصول عليها.
كما يتضح أيضا أن مسار الفكرة لا يتمشى مع المبادىء الواضحة لديننا الحنيف.
والمطلوب التكرم بإفادتي على وجه السرعة بالرأي والمشورة لتوجيه مسار هذه الفكرة إلى ما يتمشى مع مبادئ الإسلام حيث تتجه بعض الآراء لمجموعة من أصدقائي في تنفيذ نفس الفكرة على أن يكون أحد الشيكين صادرا باسم أحد جمعيات البر والإحسان المسجلة في العالم الإسلامي والشيك الآخر صادرا باسم الفائز بالخانة رقم (1) بالقائمة عن طريق نفس الجمعية الخيرية التي يمكنها تبني الفكرة. فما الحكم؟
الجواب: هذه المعاملة لا تجوز بل هي من المنكرات ومن أعظم كبائر الذنوب لما اشتملت عليه من ربا الفضل، وربا الفضل وربا النسيئة وكلاهما محرم بإجماع المسلمين. ولما فيه(18/99)
من التلاعب بأموال الناس وأكلها بالباطل وهي بهذا المعنى في حكم الميسر- القمار- المحرم بالنص والإجماع وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(18/100)
فتوى برقم 5107 وتاريخ 6 \ 12 \ 1402 هـ
السؤال الأول: بعص الناس يقطع النافلة إذا أقيمت الفريضة فهل يجوز ذلك.
الجواب: إذا أقيمت الصلاة فلا يجوز الدخول في نافلة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة (1) » رواه مسلم وغيره وإذا أقيمت الصلاة وهو في النافلة قطعها للحديث المذكور ولأن الفريضة أهم منها.
السؤال الثاني: بعض الناس يؤدي تحية المسجد حتى ولو كان وقت نهي ويقضي سنة الفجر بعد الصلاة مباشرة فهل يجوز ذلك.
الجواب: أولا: إذا دخل الرجل المسجد في وقت النهي فلا يجلس حتى يصلي تحية المسجد لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين (2) » .
ثانيا: أما ركعتا الفجر فإذا لم يتمكن من فعلهما قبل الفريضة صلاهما بعدها لما رواه أبو داود بسنده عن قيس بن عمر قال رأى رسول الله
__________
(1) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (710) ، سنن الترمذي الصلاة (421) ، سنن النسائي الإمامة (865) ، سنن أبو داود الصلاة (1266) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1151) ، مسند أحمد بن حنبل (2/455) ، سنن الدارمي الصلاة (1448) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (1167) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (714) ، سنن الترمذي الصلاة (316) ، سنن النسائي المساجد (730) ، سنن أبو داود الصلاة (467) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1013) ، مسند أحمد بن حنبل (5/311) ، سنن الدارمي الصلاة (1393) .(18/100)
صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الصبح ركعتان (1) » فقال الرجل إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلهما فصليتهما الآن فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا يدل على أن من لم يتمكن من أداء الركعتين قبل الفريضة صلاهما بعدها وإن صلاهما بعد ارتفاع الشمس فهو أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم: «من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعد ما تطلع الشمس (2) » رواه الترمذي وأخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك وقال حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأخرجه الدارقطني والبيهقي في السنن.
السؤال الثالث: كثيرا ما يكون الرجل خارج المملكة للعلاج ويقدم له اللحم الذي لا يعلم عنه شيئا". فما حكمه؟
الجواب: الأصل في ذبائح أهل الكتاب الحل فلا يحرم منها إلا ما علم تحريمه شرعا وقد سبق منا جواب مفصل في ذلك هذا نصه (إذا كان مذكي الأنعام أو الطيور غير كتابي ككفار روسيا وبلغاريا وما شابهها في الإلحاد ونبذ الديانات فلا تؤكل ذبيحته سواء ذكر اسم الله عليها أم لا لأن الأصل حل ذبائح المسلمين فقط واستثنى ذبائح أهل الكتاب بالنص وإن كان من ذكاها من أهل الكتاب اليهود أو النصارى فإن كانت تذكيته إياها بذبح رقبتها أو نحر في ليتها وهي حية وذكر اسم الله عليها أكلت اتفاقا لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (3) وإن لم يذكر اسم الله عليها عمدا ولا اسم غيره ففي جواز أكلها خلاف وإن ذكر اسم غير الله عليها لم تؤكل وهي ميتة لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (4) وإن ضربها في رأسها
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (1267) .
(2) سنن الترمذي الصلاة (423) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1155) .
(3) سورة المائدة الآية 5
(4) سورة الأنعام الآية 121(18/101)
بمسدس أو سلط عليها تيارا كهربائيا مثلا فماتت من ذلك فهي موقوذة ولو قطع رقبتها بعد ذلك وقد حرمها الله في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ} (1) إلا إذا أدركت حية بعد ضرب رأسها مثلا وذكيت فتؤكل لقوله تعالى آخر هذه الآية: {وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} (2) فاستثنى سبحانه من المحرمات ما ذكي منها إذا أدرك حيا لأن التذكية لا تأثير لها في الميتة إما ما خنق منها حتى مات أو سلط عليه تيار كهربائي حتى مات فلا يؤكل بالاتفاق وإن ذكر اسم الله عليه حين خنقه أو تسلط الكهرباء عليه أو عند أكله أما قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «سموا وكلوا فإنه كان في ذبائح ذبحها قوم أسلموا لكنهم حديثو عهد بجاهلية (3) » ولم يعلم أذكروا اسم الله عليها أم لا فأمر المسلمين الذين شكوا في تسمية هؤلاء على ذبائحهم أن يفعلوا ما عليهم وهي التسمية عند الأكل وأن يحملوا أمر هؤلاء الذابحين على ما عهد في المسلمين من التسمية عند الذبح وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة المائدة الآية 3
(3) صحيح البخاري البيوع (2057) ، سنن النسائي الضحايا (4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976) .(18/102)
فتوى برقم 5253 وتاريخ 1 \ 2 \ 1403 هـ
السؤال الأول: ما حكم تبرع إنسان بالدم لآخر وما حكم تبرع غير(18/102)
المسلم بدمه للمسلمين؟
الجواب: يجوز التبرع بالدم لمسلم سواء كان المتبرع مسلما أو كافرا كتابيا أو وثنيا إذا أمن من حصول ضرر على المتبرع به وكان المتبرع له في ضرورة إليه.
السؤال الثاني: أرجو التكرم ببيان علامات الساعة وأشراطها وكيفية الوقاية والحذر منها وماذا يعمل من صادفه مثل هذه الفتن جزاكم الله خير الجزاء.
الجواب: أشراط الساعة كثيرة. منها ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام من قوله له «إذا ولدت الأمة ربتها. وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان (1) » ومنها خروج المسيح الدجال ونزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام من السماء وطلوع الشمس من مغربها وخروج دابة الأرض ومنها استفاضة المال حتى يعطى الرجل الكثير من المال فيظل ساخطا ومنها كثرة الفتن حتى لا يبقى بيت من بيوت العرب إلا دخلته. وعليك بقراءة كتاب النهاية لابن كثير رحمه الله ففيه شرح الكثير منها وفيه عظات وعبر وبيان ما يقي الإنسان به نفسه من الفتن.
السؤال الثالث: كيف يسلم المسلم وماذا يعمل المسلم في هذه الحياة المادية التي طغت فيها المادة على الناس طغيانا شديدا حتى قست قلوبهم والعياذ بالله من ذلك -.
ما هي نصائحكم وتوجيهاتكم لي كشاب في سن العشرين مقبل على الدنيا وما هي الكتب التي تنصحوننا بقراءتها.
الجواب: عليك بتقوى الله وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والاعتصام بكتابه تعالى وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والتزام ما يعنيك واجتناب مالا يعنيك والبعد عن الفتن وملازمة الأخيار ومجانبة الأشرار والإكثار من تلاوة
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4777) ، صحيح مسلم الإيمان (10) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4991) ، سنن ابن ماجه المقدمة (64) ، مسند أحمد بن حنبل (2/426) .(18/103)
القرآن مع تدبر معانيه والمحافظة على الأذكار الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم مع تذلل وحضور قلب والقراءة في الكتب التي تكثر فيها الحكم والمواعظ مثل كتاب الفوائد وكتاب الداء والدواء كلاهما لابن القيم وادع الله في سجودك بما ورد في السنة من الأدعية مع تضرع وخشوع عسى أن يهديك ويشرح صدرك للخير ويدفع عنك الفتن ما ظهر منها وما بطن ومن الكتب المفيدة زاد المعاد في هدي خير العباد وإغاثة اللهفان كلاهما لابن القيم رحمه الله وفتح المجيد بشرح كتاب التوحيد مع العناية بالصحيحين وتفسير ابن كثير وصلى الله على نبينا محمد وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(18/104)
فتوى برقم 5309 وتاريخ 15 \ 2 \ 1403 هـ
السؤال الأول: جميع الشركات المساهمة إذا صار لهم رصيد بالبنك يدفع لهم البنك مصلحة 8% وإذا احتاجوا لمشروع أخذوا من البنك دينا بمصلحة10% فهل على المساهمين إثم وهل يعتبر مكسبهم حراما؟
الجواب: وضع شركة المساهمة أو غيرها رصيدا في البنك تأخذ عليه فائدة قليلة أو كثيرة نوع من الربا فكان حراما ويأثم بذلك المباشر بعملية الربا ومن علم بذلك من المساهمين والكسب من وراء ذلك حرام.
السؤال الثاني: إذا فتح التاجر اعتمادا على شركة بالخارج مثلا في أرز أو سكر أو شاي يقوم التاجر بتأمين المال عند إحدى شركات التأمين(18/104)
ضد الغرق والحريق والتلف ويدفع للتأمين نسبة 2% على قيمة المال وإذا وصل المال وحصل فيه تلف طالب التأمين ودفعوا له قيمة التلف حتى لو غرقت الباخرة تدفع له شركة التأمين قيمة المال كله. فما الحكم؟
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكر فذلك من التأمين التجاري المحرم لما فيه من الضرر الفاحش والمقامرة وكلاهما من كبائر الذنوب. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(18/105)
فتوى برقم 5394 وتاريخ 17 \ 3 \ 1403 هـ
السؤال الأول: هل يجوز أن تصرف المرأة زكاة مالها إلى زوجها (بعلها) إذا كان فقيرا.
الجواب: يجوز أن تصرف المرأة زكاة مالها لزوجها إذا كان فقيرا لعموم قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (1) دفعا لفقره.
السؤال الثاني: المسلم كان تحته وفي عصمته أربع نسوة فأصاب إحداهن مرض الجنون أيحل له أن يتزوج امرأة أخرى والمريضة حية أم هي محرمة لكونها خامسة لهن.
الجواب: لا يحل له أن يتزوج أكثر من أربع ولو كانت إحداهن مريضه بالجنون أو غيره أو كلهن مريضات مادام في عصمته أربع زوجات لعموم
__________
(1) سورة التوبة الآية 60(18/105)
نصوص المنع من الجمع بين أكثر من أربع زوجات.
السؤال الثالث: إمامة من أنكر سنة الأضحية فلم يضح مع استطاعته دفع ثمنها وتيسر وجودها.
الجواب: من أنكر سنة الأضحية فهو كافر إذا كان يعيش في بلاد إسلامية انتشر فيها العمل بهذه السنة لأنها بذلك معلومة من الدين بالضرورة ولا تجوز إمامته إلا أن تكون عنده شبهة في إنكار سنة الأضحية فتقام عليه الحجة لتزال عنه الشبهة. ومن اعترف بأنها مشروعة لكنه بخل فلم يضح كان تاركا لسنة وتصح الصلاة وراءه.
السؤال الرابع: ما حكم من صلى مع الإمام العشاء الآخرة فصلى به الشفع والوتر هل عليه الشفع والوتر أخرى إذا صلى في بيته النوافل فيما بعد.
الجواب: إذا كان الواقع ما ذكر فلا يعيد الوتر بعد ما صلى من النوافل ليلا - لحديث «لا وتران في ليلة (1) » .
السؤال الخامس: هل يحل أكل الحيوانات الآتية: السلحفاة - فرس البحر- التمساح- القنفذاء أم هي حرام أكلها؟
الجواب: وأما القنفذ فحلال أكله لعموم آية {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (2) ولأن الأصل الجواز حتى يثبت ما ينقل عنه. وأما السلحفاة فقال جماعة من العلماء يجوز أكلها ولو لم تذبح لعموم قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} (3) وقول النبي صلى الله عليه وسلم في البحر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته (4) »
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (470) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1679) ، سنن أبو داود الصلاة (1439) .
(2) سورة الأنعام الآية 145
(3) سورة المائدة الآية 96
(4) سنن الترمذي الطهارة (69) ، سنن النسائي المياه (332) ، سنن أبو داود الطهارة (83) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (386) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) ، موطأ مالك الطهارة (43) ، سنن الدارمي الطهارة (729) .(18/106)
لكن الأحوط ذبحها خروجا من الخلاف. أما التمساح فقيل يؤكل كالسمك لعموم ما تقدم من الآية والحديث وقيل لا يؤكل لكونه من ذوات الأنياب من السباع والراجح الأول. وأما فرس البحر فيؤكل لما تقدم من عموم الآية والحديث وعدم وجود المعارض ولأن فرس البر حلال بالنص ففرس البحر أولى بالحل.
السؤال السادس: المسبوق في الصلاة إذا أدرك الركعة الثالثة من صلاة العشاء مع الإمام فكيف يتم ما فاته من الركعات بعد أن يسلم الإمام وعلى أي كيفية تكون قراءته جهرية أو سرية؟
الجواب: يصلي هذا المسبوق ركعتين باتفاق العلماء ويقرأ في كل منهما الفاتحة فقط سرا على الصحيح من قولي العلماء لأن الصحيح أن ما صلاه المسبوق مع الإمام هو أول صلاته وما صلاه بعد سلام إمامه هو آخر صلاته لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتيتم الصلاة فعليكم السكينة. فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا (1) » رواه البخاري ومسلم.
السؤال السابع: هل يجوز أن نصلي صلاة الجنازة على الميت الغائب كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع حبيبه النجاشي أو ذلك خاص به.
الجواب: تجوز صلاة الجنازة على الميت الغائب لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وليس ذلك خاصا به فإن أصحابه رضي الله عنهم صلوا معه على النجاشي ولأن الأصل عدم الخصوصية لكن ينبغي أن يكون ذلك خاصا بمن له شأن في الإسلام لا في حق كل أحد. وصلىا الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (635) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (603) ، مسند أحمد بن حنبل (5/306) ، سنن الدارمي الصلاة (1283) .(18/107)
فتوى برقم 5969 وتاريخ 6 \ 8 \ 1403 هـ
السؤال: يصدر بعض البنوك في بعض الدول شهادات استثمار وهي عبارة عن شهادات تشترى من البنك ويجري السحب عليها (الشهادات المشتراه) شهريا والشهادة التي تفوز تربح مبلغا كبيرا من المال. مع احتفاظ صاحب الشهادة برد الشهادة إلى البنك وأخذ قيمتها في أي وقت شاء. فما حكم الشرع في هذا المبلغ الطائل من المال الذي يفوز به صاحب الشهادة الرابحة) .
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكر فهذه المعاملة من الميسر- القمار- وهو من كبائر الذنوب، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (2) فعلى من يتعامل به أن يتوب إلى الله ويستغفره ويجتنب التعامل به وعليه أن يتخلص مما كسبه منه عسى الله أن يتوب عليه. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 90
(2) سورة المائدة الآية 91(18/108)
فتوى برقم 6605 وتاريخ 10 \ 2 \ 1404هـ
السؤال الأول: عندنا في بلدي بنوك كثيرة منها بنوك استثمارية وغير استثمارية فأما البنوك غير الاستثمارية فهي حرام بدون شك وأما البنوك الاستثمارية فأريد أن أعرف هل فوائدها حلال أم حرام. مع العلم أن البنك الاستثماري يقوم بمشروعات رابحة دائما مثل بناء عمارات وإيجارها للناس وغيرها من المشروعات التي تشبه ذلك.
الجواب: إذا كانت هذه البنوك تستثمر ما لديها من أموال في معاملات ربوية أو تأمينات تجارية أو نحو ذلك فحرام على المسلم استثمار أمواله فيها، وكان ما يتحقق من ربح وفوائد لذلك محرما، وإلا جاز الاستثمار فيها، وكان ما نشأ عنه من الربح حلالا.
السؤال الثاني: عندنا أيضا في بلدي ما يسمى بشهادات الاستثمار التي تباع في البنوك وهي بدون فوائد أي لو اشتريت شهادة ثم أردت أن أردها ولو بعد عشر سنوات أو أكثر أو أقل فهي ترد بنفس السعر الذي اشتريت به. وبعد ذلك يقوم الكمبيوتر بسحب رقم من أرقام الشهادات المباعة في البلاد ويكون هذا هو الفائز الأول ويوجد فائز ثاني وثالث إلى أكثر من (400) فائز. ويحصل الفائز الأول على عشرين ألف جنيه قيمة الفائزية. فأريد أن أعرف أنه لو اشتريت من هذه الشهادات ثم كنت من أحد الفائزين فهل يجوز لي أن آخذ هذا المبلغ أم لا؟ وهل أكون مرتكب إثم؟
الجواب: ما ذكرته في سؤالك مما يتعلق بشهادة الاستثمار نوع من أنواع القمار- اليانصيب- وهو محرم- بل من كبائر الذنوب بالكتاب والسنة(18/109)
والإجماع. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(18/110)
فتوى برقم 6717 وتاريخ14 \ 3 \ 1404 هـ
السؤال الأول: هل يجوز أن تؤدي صلاة الجمعة في مسجد لم ينو إقامة الجمعة فيه عند أول تأسيسه. أي هل يلزم الإنسان المسلم الذي ينوي بناء مسجد إخبار المسلمين الآخرين في المدينة بأنه يقيم مسجده لله جل شأنه على أساس أن تقام فيه الصلوات الخمس مع صلاة الجمعة وهل تصح إقامة صلاة الجمعة فيه وإن لم يقل بذلك بانيه عند وضع قواعد المسجد؟
الجواب: إذا كان الأمر كما ذكر فلا مانع من تحويل المسجد من كونه لإقامة صلاة الجماعة إلى جعله مسجدا تقام فيه صلاة الجمعة والجماعة وكونه نوى المسجد عند بنائه لإقامة صلاة الجماعة أو لم ينو إقامة صلاة الجمعة لا يمنع من تحويله بعد انتهاء البناء أو قبله من جعله مسجدا تقام فيه صلاة الجمعة بالإضافة إلى إقامة صلاة الجماعة ولا نعلم أحدا من أهل العلم قال بهذا الشرط فهو شرط لا أصل له في الكتاب ولا في السنة.
السؤال الثاني: هل تصح إقامة صلاة الجمعة في عدة مساجد في مدينة كبيرة إذا وجد أكثر من مسجد واحد أو يلزم المسلمين جميعا في تلك المدينة التجميع في مسجد واحد لتأدية صلاة الجمعة وترك بقية المساجد(18/110)
حتى ولو وجد أئمة خطباء وعدد من جماعة المسلمين في كل من تلك المساجد؟
الجواب: يجوز تعدد إقامة صلاة الجمعة في أكثر من مسجد في أكثر إذا دعت الحاجة إلى ذلك كسعة البلد وتباعد أقطاره وبعد الجامع أو ضيقه أو خوف فتنة فيجوز التعدد بحسبها فقط لأنها تفعل في الأمصار في مواضع كثيرة فكان إجماعا. ذكر ذلك العلامة ابن مفلح في كتابه المبدع شرح المقنع وذكره الطحاوي وغيره من اتباع الأئمة أنه الصحيح من أقوال أهل العلم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يجوز التعدد للحاجة. وذكر الإمام السرخسي أن الصحيح من مذهب أبي حنيفة جواز إقامتها في مصر واحد في مسجدين أو أكثر.
وفي تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار وتؤدي في مصر واحد بمواضع كثيرة مطلقا على المذهب وعليه الفتوى.
وقال الخرقي وإذا كان البلد كبيرا يحتاج إلى جوامع فصلاة الجمعة في جميعها جائزة وأوضح ذلك العلامة ابن قدامة في شرحه المغني المختصر فقال: وجملته أن البلد متى كان كبيرا يشق على أهله الاجتماع في مسجد واحد ويتعذر ذلك لتباعد أقطاره أو ضيق مسجده عن أهله كبغداد وأصبهان ونحوهما من الأمصار الكبار جازت إقامة الجمعة بما يحتاج إليه من جوامعها وهذا قول عطاء وأجازه أبو يوسف في بغداد دون غيرها لأن الحدود تقام فيها في موضعين والجمعة حيث تقام الحدود. وهذا قول ابن المبارك. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي لا تجوز الجمعة في بلد واحد في أكثر من موضع واحد لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجمع لا في مسجد واحد وكذلك الخلفاء بعده ولو جاؤا لم يعطلوا المساجد حتى(18/111)
قال ابن عمر لا تقام الجمعة إلا في المسجد الأكبر الذي يصلي فيه الإمام ولنا أنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة فجازت فيما يحتاج إليه من المواضع كصلاة العيد وقد ثبت أن عليا رضي الله عنه كان يخرج يوم العيد إلى المصلى ويستخلف على ضعفة الناس أبا مسعود البدري فيصلي بهم فأما ترك النبي صلى الله عليه وسلم إقامة جمعتين فلغناهم عن إحداهما لأن أصحابه كانوا يريدون سماع خطبته وشهود جماعته وإن بعدت منازلهم لأنه المبلغ عن الله وشارع الأحاكم. ولما دعت الحاجة إلى ذلك في الأمصار صليت في أماكن ولم ينكر فصار إجماعا وقول ابن عمر يعني أنها لا تقام في المساجد الصغار ويترك الكبار وأما اعتبار ذلك بالحدود فلا وجه له. قال أبو داود سمعت أحمد يقول: أقام مصعب بن عمير الجمعة في المدينة حين قدمها وهم مختبئون في دار، فجمع بهم وهم أربعون. انتهى كلام ابن قدامة.
والقول بجواز تعدد الجمعة في البلد الواحد إذا دعت إلى ذلك الحاجة هو الصواب الموافق لقواعد الشرع المطهر ولعمل المسلمين فيما مضى من الأعصار في جميع الأمصار التي يحتاج سكانها إلى التعدد. وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(18/112)
فتوى برقم 6840 وتاريخ 18 \ 4 \ 1404 هـ
سؤال: رجل يقول إننا نعاني من مشكلة منذ زمن وهي فقدنا النقود. في عدة أماكن من المنزل ووصل الأمر إلى فقدان المصوغات الذهبية علما(18/112)
بأننا نسكن في المنزل المكون من ثلاثة أدوار أنا وأبنائي وعائلاتهم ولا يوجد لدينا غريب ولا يوجد لدينا شك في أحد الموجودين في المنزل. وبسؤالنا بعض من لهم خبرة في هذا المجال فمنهم من يقول بأن هناك جان ومنهم من يقول (منكم وفيكم) ولا يستطيع أن يوضح اسم الفاعل. هذا مع ملاحظة أن جميع من بالمنزل ممن يتقون الله ويخافونه ويؤدون الفرائض على الوجه الصحيح ولا يؤذون أحدا أو يرتكبون المحرمات ومن كثرة المشاكل التي نواجهها مشكلة أخيرة حصلت منذ أسبوع فقد أحضر أحد الأبناء مبلغا وقدره (عشرة آلاف ريال) ولم يمضي على وجودها سوى ساعتين أو ثلاث ساعات على الأكثر للذهاب بها إلى البنك ولكن فوجئ بفقدان مبلغ أربعة آلاف ريال من المبلغ الأصلي على الرغم من وجود المبلغ بأجمعه في الحقيبة الخاصة به وفي شهر رمضان المبارك تم وضع مبلغ 1050 ريال وخرج صاحب المبلغ لأداء صلاة التراويح على الرغم من قيامه بقراءة آية الكرسي على النقود وبعض الآيات المستحبة ولكن رجع ولم يجد المبلغ على الرغم من عدم وجود أي شخص في المنزل.
هذه من المشاكل التي نواجهها في فقدان النقود والذهب المتكررة لذا نرجو إفادتنا والإفتاء في موضوعنا الذي أصبح يزعجنا وأصبحنا نقوم بحفظ نقودنا ومصوغاتنا في أحد منازل أبنائي القريبة من منزلي أو في البنك فنحن لا نستطيع الاحتفاظ بأدنى مبلغ في المنزل مع العلم بأن الإنسان لا يستغنى عن وجود مبلغ بسيط للصرف على الاحتياجات اليومية أفيدونا في حل مشكلتنا أفادكم الله وجزاكم عنا خير الجزاء.
الجواب: إذا ثبت أن ما يؤخذ منكم لم يكن بفعل أحد من الآدمين لا سكان البيت ولا غيرهم فهو والله أعلم من عمل شياطين الجن لأن(18/113)
مثل هذا يقع منهم كثيرا بإذن الله وقد ورد في القرآن والسنة ما يدل عليه قال تعالى عن نبيه سليمان عليه الصلاة والسلام: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (1) {قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} (2) الآية. وثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: « (وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة قال فخليت عنه فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة " قال: قلت يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته وخليت سبيله قال: "أما إنه قد كذبك وسيعود، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه سيعود" فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال دعني فإني محتاج وعلي عيال لا أعود فرحمته وخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة " قلت يا رسول الله شكا حاجة وعيالا فرحمته فخليت سبيله قال: " أما إنه قد كذبك وسيعود " فرصدته الثالثة فجاء يحثو الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات إنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود فقال. دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت وما هي قال إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما فعل أسيرك البارحة " قلت يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله قال: " ما هي "
__________
(1) سورة النمل الآية 38
(2) سورة النمل الآية 39
(3) البخاري 3 / 63 - 64، 4 / 92، 6 / 104 (تعليقا) ، والنسائي في (عمل اليوم والليلة) ص / 532 - 533 برقم (959) وابن خزيمة 4 / 91 - 92 برقم (2424) ، والبيهقي في (الدلائل) 7 / 107 - 108. وانظر (تغليق التعليق) لابن حجر 3 / 295، 296.(18/114)
قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: وقال لي لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى - تصبح وكانوا أحرص شيء على الخير- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أما إنه صدقك وهو كذوب تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة "؟ قلت لا، قال: " ذاك شيطان (2) » كذا رواه البخاري معلقا بصيغة الجزم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 255 (3) {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}
(2) سورة البقرة الآية 255 (1) {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}(18/115)
فتوى برقم 1182 وتاريخ 13 \ 3 \ 1405 هـ
السؤال: المعاملة مع البنك هل هي ربا أم جائزة لأن فيه كثيرا من المواطنين يقترضون منها.
الجواب: يحرم على المسلم أن يقترض من أحد ذهبا أو فضة أو ورقا نقديا على أن يرد أكثر منه سواء كان المقرض بنكا أم غيره لأنه ربا وهو من أكبر الكبائر ومن تعامل هذا التعامل من البنوك فهو بنك ربوي. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(18/115)
فتوى برقم 1733 وتاريخ 6 \ 7 \ 1404هـ
السؤال: بعض البنوك تعطي أرباحا بالمبالغ التي توضع لديها من قبل المودعين ونحن لا ندري حكم هذه الفوائد هل هي ربا أم هي ربح جائز يجوز للمسلم أخذه. وهل يوجد في العالم العربي بنوك تتعامل مع الناس حسب الشريعة الإسلامية؟
الجواب: أولا: الأرباح التي يدفعها البنك للمودعين على المبالغ التي أودعوها فيه تعتبر ربا. ولا يحل له أن ينتفع بهذه الأرباح. وعليه أن يتوب إلى الله من الإيداع في البنوك الربوية، وأن يسحب المبلغ الذي أودعه وربحه ويحتفظ بأصل المبلغ وينفق ما زاد عليه في وجوه البر من فقراء ومساكين وإصلاح مرافق عامة ونحو ذلك.
ثانيا: يبحث عن محل لا يتعامل بالربا ولو دكانا ويوضع المبلغ فيه على طريق التجارة مضاربة على أن يكون ذلك جزءا مشاعا معلوما من الربح كالثلث أو يوضع المبلغ فيه أمانة بدون فائدة. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبة وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(18/116)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
السؤال الأول: بعد أن يأخذ عزرائيل أرواح الخلق جميعا والملائكة أجمعين ويأخذ أرواح جبريل وعزرافيل "لعلك تعني إسرافيل" وحملة العرش. والمهم هو بعد أخذ أرواح حملة العرش وهم الثمانية كيف يحمل العرش بعدهم؟ . وبعد قبض عزرائيل روحه بنفسه بأمر الله ماذا يحدث بعد ذلك؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة ومبلغا للثقلين وآله وصحبه وبعد:
فالله سبحانه هو الذي أقام العرش والسماوات والأرض وأمسك الجميع بقدرته العظيمة وليس هو سبحانه في حاجة إلى حملة العرش ولا غيرهم كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} (1) الآية. وقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} (2) الآية.
أما عزرائيل فالله يميته بقدرته العظيمة كما يشاء كما يميت غيره. والموت ليس هو عزرائيل بل هو شيء آخر وإنما عزرائيل ملك موكل بالموت كما قال سبحانه: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (3) الآية. فإذا أراد الله إماتة الوكيل فهو سبحانه على كل شيء قدير يدبر الأمور كما يشاء.
__________
(1) سورة فاطر الآية 41
(2) سورة الروم الآية 25
(3) سورة السجدة الآية 11(18/117)
السؤال الثاني: امرأة تقول توفيت أمي عني وعن أختها من أمها وأبيها وعن ثلاثة أبناء أخ لأمي من أبيها وأمها وأخت لهم. فما الحكم.
الجواب: إذا كان الواقع هو كما ذكرت فإن التركة التي خلفتها أمك رحمها الله تكون بينك وبين أختها نصفين وليس لأولاد أخيها شيء لأن أختها في مثل هذه المسألة تحجب أبناء الأخ وإن كانت أمك أوصت بشيء فوصيتها مقدمة عليك وعلى أختها إذا كانت بالثلث أو أقل على وجه شرعي وإن كان عليها دين ثابت فابدئي بقضاء دينها قبل الوصية وقبل قسم الميراث بينك وبين أختها.(18/118)
السؤال الثالث: هل يجوز لي أن أعطي أحد أبنائي مالا أعطيه لآخر لكون الآخر غنيا؟
الجواب: ليس لك أن تخصي أحد أولادك الذكور والإناث بشيء دون الآخر بل الواجب العدل بينهم حسب الميراث أو تركهم جميعا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم (1) » . متفق على صحته. لكن إذا رضوا بتخصيص أحد منهم بشيء فلا بأس إذا كان الراضون بالغين مرشدين وهكذا إن كان في أولادك من هو مقصر عاجز عن الكسب لمرض أو علة مانعة من الكسب وليس له والد ولا أخ ينفق عليه وليس له مرتب من الدولة يقوم بحاجته فإنه يلزمك أن تنفقي عليه قدر حاجته حتى يغنيه الله عن ذلك.
__________
(1) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587) ، صحيح مسلم الهبات (1623) .(18/118)
السؤال الرابع: حجت أمي سبع حجات فهل يجوز لي أن أحج عنها بنفسي أم لا؟
الجواب: نعم يجوز لك أن تحجي عنها حجة ثامنة أو أكثر وهذا من برها ولك في ذلك أجر عظيم إذا كنت قد حججت عن نفسك. وأسأل(18/118)
الله عز وجل أن يمنحني وإياك الفقه في دينه والثبات عليه.(18/119)
السؤال الخامس: شخص يقول: إحدى قريباتي امرأة ثيب وعندها ثلاثة أولاد وهي ذات دين وتمسك بسنة محمد صلى الله عليه وسلم: هل أؤجر من الله سبحانه وتعالى على زواجي منها ومساعدتها على تربية أولادها وعفتها مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم حث على زواج البكر وقال إنهن أطهر أفواها وكذلك إن والدي لا يوافقان على زواجي من تلك المرأة مع علمهم تماما أنها ذات دين ولكن خوفا علي أن أرهق نفسي في النفقات على أولادها. وهل مخالفة الوالدين في هذا الأمر يعتبر عقوقا لهما. مع العلم- ولله الحمد- أن الله أعطاني من فضله الخير الكثير وكذلك الوالدين يعيشان في رغد من العيش. أفتوني في أمري جزاكم الله عني وعن المسلمين كل خير؟
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن سار على دربهم إلى يوم الدين وبعد:
متى تزوجت المذكورة بالنية المذكورة. فأنت مأجور إن شاء الله لأنك جامع بين الإحسان إليها بالنكاح وبصلة الرحم. وأبشر بالخير والخلف الجزيل عما تنفقه عليها وعلى أولادها لقول الله سبحانه: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (1) الآية. ولكن نرى أن تستأذن والديك بأسلوب حسن حتى لا يكون بينك وبينهما شيء من الوحشة أو العقوق.
__________
(1) سورة سبأ الآية 39(18/119)
رد سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
على مقالة الدكتور إبراهيم بن عبد الله الناصر
حول موقف الشريعة الإسلامية من المصارف
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد:
فقد اطلعت على البحث الذي أعده الدكتور إبراهيم بن عبد الله الناصر تحت عنوان (موقف الشريعة الإسلامية من المصارف) فألفيته قد حاول فيه تحليل ما حرم الله من الربا بأساليب ملتوية وحجج واهية وشبه داحضة ورأيت أن من الواجب على مثلي بيان بطلان ما تضمنه هذا البحث ومخالفته لما دل عليه الكتاب والسنة وإحماع علماء الأمة من تحريم المعاملات الربوية وكشف الشبهة التي تعلق بها وبيان بطلان ما استند إليه في تحليل ربا الفضل وربا النسيئة ما عدا مسألة واحدة وهي ما اشتهر من ربا الجاهلية من قول الدائن للمدين المعسر عند حلول الدين إما أن تربي وإما أن تقضي فهذه المسألة عند إبراهيم المذكور هي المحرمة من مسائل الربا وما سواها فهو حلال ومن تأمل كتابته اتضح له منها ذلك وسأبين ذلك إن شاء الله بيانا شافيا يتضح به الحق ويزهق به الباطل والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله. وإلى القارىء بيان ذلك.(18/121)
أولا: قال إبراهيم في أول بحثه ما نصه: يمكن القول بأنه لن تكون هناك قوة إسلامية بدون قوة اقتصادية ولن تكون هناك قوة اقتصادية بدون بنوك ولن تكون هناك بنوك بلا فوائد.
والجواب: أن يقال يمكن تسليم المقدمة الأولى لأن المسلمين في كل مكان يجب عليهم أن يعنوا باقتصادهم الإسلامي بالطرق التي شرعها الله سبحانه حتى يتمكنوا من أداء ما أوجب الله عليهم وترك ما حرم الله عليهم وحتى يتمكنوا بذلك من الإعداد لعدوهم وأخذ الحذر من مكائده. قال الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (2) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} (3) إلى قوله سبحانه {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} (4) الآية وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (5) الآية. وقال سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (6) الآية. والآيات في هذا المعنى كثيرة وهي مشتملة على توجيه الله سبحانه لعباده إلى
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة المائدة الآية 1
(3) سورة البقرة الآية 282
(4) سورة البقرة الآية 282
(5) سورة النساء الآية 29
(6) سورة الأنفال الآية 60(18/122)
التعاون على كل ما ينفعهم في أمر دينهم ودنياهم وأمرهم بالتعاون على البر والتقوى وتحذيرهم من التعاون على الإثم والعدوان كما أمرهم سبحانه بالوفاء بالعقود وإثبات حقوقهم بالطرق الشرعية وحذرهم من أكل أموالهم بالباطل وأمرهم سبحانه بالإعداد لعدوهم ما استطاعوا من قوة وبذلك يستقيم اقتصادهم الإسلامي ويحصل بذلك تنمية الثروات وتبادل المنافع والوصول إلى حاجاتهم ومصالحهم بالوسائل التي شرع الله لهم كما حذرهم سبحانه في آيات كثيرات من الكذب والخيانة وشهادة الزور وكتمان شهادة الحق ومن أكل أموالهم بينهم بالباطل والإدلاء بها إلى الحكام ليميلوا عن الحق إلى الحكم بالجور وعظم سبحانه شأن الأمانة وأمر بأدائها في قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (1) وقوله سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} (2) الآية. وحذرهم عز وجل من خيانة الأمانة في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) ووصف عباده المؤمنين في سورة المؤمنون وفي سورة المعارج بأنهم يرعون الأمانات والعهود وذلك في قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (4) فمتى استقام المسلمون على هذا التعليم والتوجيه وتواصوا به وصدقوا في ذلك فإن الله عز وجل يصلح لهم أحوالهم ويبارك لهم في أعمالهم وثرواتهم ويعينهم على بلوغ الآمال والسلامة من مكائد الأعداء وقد أكد هذه المعاني سبحانه في قوله عز وجل:
__________
(1) سورة النساء الآية 58
(2) سورة الأحزاب الآية 72
(3) سورة الأنفال الآية 27
(4) سورة المعارج الآية 32(18/123)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (1) وفي قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (2) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (3) وقال سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (4) الآية. وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (5) والآيات في هذا أكثر من أن تحصر وأما المقدمتان الثانية والثالثة وهما قوله ولن تكون هناك قوة اقتصادية بدون بنوك ولن تكون هناك بنوك بلا فوائد فهما مقدمتان باطلتان والأدلة الشرعية التي قدمنا بعضها وما درج عليه المسلمون من عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم إلى أن أنئشت البنوك كل ذلك يدل على بطلان هاتين المقدمتين فقد استقام اقتصاد المسلمين طيلة القرون الماضية وهي أكثر من ثلاثة عشر قرنا بدون وجود بنوك وبدون فوائد ربوية وقد نمت ثرواتهم واستقامت معاملاتهم وحصلوا على الأرباح الكثيرة والأموال الجزيلة بواسطة المعاملات الشرعية وقد نصر الله المسلمين في عصرهم الأولى على أعدائهم وسادوا غالب المعمورة وحكموا شرع الله في عباده وليس هناك بنوك ولا فوائد ربوية بل الصواب عكس ما ذكره الكاتب
__________
(1) سورة التوبة الآية 119
(2) سورة النساء الآية 135
(3) سورة المائدة الآية 8
(4) سورة الأنفال الآية 60
(5) سورة النساء الآية 71(18/124)
إبراهيم وهو أن وجود البنوك والفوائد الربوية صار سببا لتفرق المسلمين وانهيار اقتصادهم وظهور الشحناء بينهم وتفرق كلمتهم إلا من رحمه الله وما ذاك إلا لأن المعاملات الربوية تسبب الشحناء والعداوة وتسبب المحق ونزع البركة وحلول العقوبات كما قال عز وجل: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (1) ولأن ما يقع بين الناس بسبب الربا من كثرة الديون ومضاعفتها بسبب الزيادة المتلاحقة كل ذلك يسبب الشحناء والعداوة مع ما ينتج عن ذلك من البطالة وقلة الأعمال والمشاريع النافعة لأن أصحاب الأموال يعتمدون في تنميتها على الربا ويعطلون الكثير من المشاريع المفيدة النافعة من أنواع الصناعات وعمارة الأرض وغير ذلك من أنواع الأعمال المفيدة وقد شرع الله لعباده أنواعا من المعاملات يحصل بها تبادل المنافع ونمو الثروات والتعاون على كل ما ينفع المجتمع ويشغل الأيدي العاطلة ويعين الفقراء على كسب الرزق الحلال والاستغناء عن الربا والتسول وأنواع المكاسب الخبيثة ومن ذلك المضاربات وأنواع الشركات التي تنفع المجتمع وأنواع المصانع لما يحتاج إليه الناس من السلاح والملابس والأواني والمفارش وغير ذلك وهكذا أنواع الزراعة التي تشغل بها الأرض ويحصل بها النفع العام للفقراء وغيرهم وبذلك يعلم كل من له أدنى بصيرة أن البنوك الربوية ضد الاقتصاد السليم وضد المصالح العامة ومن أعظم أسباب الانهيار والبطالة ومحق البركات وتسليط الأعداء وحلول العقوبات المتنوعة والعواقب الوخيمة فنسأل الله أن يعافي المسلمين من ذلك وأن يمنحهم البصيرة والاستقامة على الحق.
ثانيا: قال إبراهيم: إن وظيفة الجهاز المصرفي في اقتصاد ما تشبه إلى حد قريب وظيفة القلب بالنسبة لجسم الإنسان تماما. . . الخ.
__________
(1) سورة البقرة الآية 276(18/125)
والجواب: ليس الأمر كما قال بل يمكن أن يقوم الجهاز المصرفي بما ذكره الكاتب من غير حاجة إلى الربا ولا ضرورة إليه كما قام اقتصاد المسلمين في عصورهم الماضية وفي عصرهم الأول الذهبي بأكمل اقتصاد وأطهره من دون وجود بنوك ربوية كما تقدم وقد نصر الله بهم دينه وأعلى بهم كلمته وأدر عليهم من الأرزاق والغنى وأخرج لهم من الأرض ما كفاهم وأغناهم وأعانهم على جهاد عدوهم وحماهم به من الحاجة إلى ما حرم الله عليهم ومن درس تاريخ العالم الإسلامي من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما قبل إنشاء المصارف الربوية علم ذلك يقينا وإنما يؤتى المسلمون وغيرهم في اقتصادهم ونزع البركات مما في أيديهم بأسباب انحرافهم عن شريعة الله وعدم قيامهم بما أوجب الله عليهم وعدم سيرهم على المنهج الذي شرعه الله لهم فيما بينهم من المعاملات وبذلك تنزل بهم العقوبات وتحل بهم الكوارث بأسباب أعمالهم المخالفة لشرع الله كما قال عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (1) وقال عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (2) وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (3) {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} (4) الآية. وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (5) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (6) .
__________
(1) سورة الشورى الآية 30
(2) سورة الأعراف الآية 96
(3) سورة المائدة الآية 65
(4) سورة المائدة الآية 66
(5) سورة الطلاق الآية 2
(6) سورة الطلاق الآية 3(18/126)
وقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (1) .
ثالثا: ذكر إبراهيم في بحثه ما نصه: والسؤال الذي لم نعثر له على جواب حتى الآن هو كيف ينظر فقهاء المسلمين إلى الظاهرة الاقتصادية للفائدة ولماذا يعتبر القرض بالفائدة محرما في نظرهم. . . الخ
والجواب: عما ذكره هنا إلى نهاية بحثه المشار إليه أن يقال إنما نظر الفقهاء من سائر علماء المسلمين في أمر الفائدة وعلقوا بها التحريم لأن الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أناطت بها التحريم وهي أحاديث مستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا مغمز فيها وهي تدل دلالة صريحة قطعية على أن بيع المال الربوي بجنسه مع أي زيادة ولو قلت ربا صريح محرم ولكن الكاتب إبراهيم المذكور هداه الله وألهمه رشده أعرض عنها كلها ولم يلتفت إليها وإنما تكلم على الربا المجمل الوارد في القرآن الكريم وحاول بكل ما استطاع أن يحصر الربا في مسألة واحدة وهي ما إذا أعسر المدين واتفق مع الدائن على إمهاله بفائدة معينة هذا ملخص بحثه وما سوى ذلك فقد حاول في هذا البحث إلحاقه بقسم الحلال لحاجة الناس بزعمه إلى ذلك وأن هذا هو الذي تقوم به المصارف وزعم أن الحاجة داعية إلى ذلك وأن مصالح العباد لا تتم إلا بهذه المعاملات الربوية التي تستعملها البنوك وقد تعلق بأشياء مجملة من كلام الموفق ابن قدامة وشيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم رحمهم الله جميعا فيما ذكروه عن المصلحة وأن الشرع الشريف لا يمنع تحقيق المصالح التي تنفع المسلمين بدون ضرر على أحد ولا مخالفة لنص من الشرع المطهر وهذا كله لا حجة له فيه لأن المصالح التي أراد هؤلاء الأئمة وأمثالهم تحقيقها إنما أرادوا ذلك حيث لا مانع شرعي يمنع من ذلك وذلك في المسائل
__________
(1) سورة الطلاق الآية 4(18/127)
الاجتهادية التي لا نص فيها يوضح الحكم الشرعي وقد دلت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم على تحريم ربا الفضل وعلى تحريم ربا النسيئة وذكر بعض أهل العلم أن تحريم ربا الفضل من باب تحريم الوسائل لأن عاقلا لا يبيع شيئا بأكثر منه من جنسه يدا بيد وإنما يكون ذلك إذا كان أحد العوضين مؤجلا أو كان أحدهما أنفس من الآخر ولهذا لما باع بعض الصحابة رضي الله عنهم صاعين من التمر الرديء بصاع واحد من التمر الطيب وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أوه عين الربا عين الربا لا تفعل (1) » الحديث متفق عليه وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائبا بناجز (2) » . وفي صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (3) » والأحاديث في هذا المعنى كثيرة في الصحيحين وغيرهما. وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه: «إنما الربا في النسيئة (4) » فالمراد به عند أهل العلم معظم الربا وليس مراده صلى الله عليه وسلم كل أفراد الربا للحديثين السابقين وما جاء في معناهما من الأحاديث الصحيحة وقد علم أن المعاملات الربوية تجمع بين ربا الفضل وربا النسيئة فإن المودع بالفائدة قد جمع هو وصاحب البنك بين الأمرين وهما النسيئة والفائدة فباءا بإثم المعاملتين. وأما كون المرابي الباذل للفائدة قد يكون محتاجا فهذا ليس هو الموجب للتحريم وحده بل قد جمع هذا العقد بين الربا وبين ظلم المعسر بتحميله الفائدة وقد عجز عن الأصل وبذلك تكون
__________
(1) صحيح البخاري الوكالة (2312، 2312) ، صحيح مسلم المساقاة (1594، 1594) ، سنن النسائي البيوع (4557) ، مسند أحمد بن حنبل (3/62) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/4) ، موطأ مالك البيوع (1324) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(4) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .(18/128)
المعاملة معه على هذا الوجه أعظم تحريما وأشد إثما لأن الواجب إنظاره وعدم تحميله ما حرم الله من الربا وأما اشتراك الدائن والمدين في الانتفاع بالمعاملة الربوية وأن كل واحد منهما يحصل منها على فائدة فهذا الاشتراك لا ينقل المعاملة من التحريم إلى الحل ولا يجعلهما معاملة شرعية يباح فيها الربا لأن الشارع الحكيم لم يلتفت إلى ذلك بل حرم الفائدة تحريما مطلقا ونص على ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة منها ما تقدم ولو كان انتفاع المدين بالفائدة يحلها لنص عليه المولى سبحانه وبينه في كتابه الكريم أو على لسان رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم وقد قال الله عز وجل في سورة النحل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (1) وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم (2) » ومعلوم أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو أفضل الرسل وأكملهم بلاغا وأتمهم بيانا فلو كانت المعاملة بالفائدة المعينة جائزة إذا كان المدين ينتفع بها لبينها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته وأوضح لهم حكمها فكيف وقد بين صلى الله عليه وسلم في صريح أحاديثه تحريمها والتحذير منها والوعيد على ذلك وقد علم أن السنة الصحيحة تفسر القرآن وتدل على ما قد يخفى منه كما قال تعالى في سورة النحل {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (3) وقال عز وجل: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (4) والآيات في
__________
(1) سورة النحل الآية 89
(2) صحيح مسلم الإمارة (1844، 1844) ، سنن النسائي البيعة (4191، 4191) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4248) ، سنن ابن ماجه الفتن (3956، 3956) ، مسند أحمد بن حنبل (2/191، 2/191) .
(3) سورة النحل الآية 44
(4) سورة النحل الآية 64(18/129)
هذا المعنى كثيرة وأما ما نقله الشيخ رشيد رضا في إجازته الربا في صندوق التوفير فهو غلط منه ولا يجوز أن يعول عليه والحجة قائمة عليه وعلى غيره من كل من يحاول مخالفة النصوص برأيه واجتهاده وقد تقرر في الأصول أنه لا رأي لأحد ولا اجتهاد لأحد مع وجود النص وإنما محل الرأي والاجتهاد في المسائل التي لا نص فيها فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر إذا كان أهلا للاجتهاد واستفرغ وسعه في طلب الحق لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر (1) » متفق على صحته. من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه مثله. أما المسائل التي نص على حكمها القرآن الكريم أو الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته فليس لأحد أن يجتهد في مخالفة ما دل عليه النص بل الواجب التمسك بالنص وتنفيذ مقتضاه بإجماع أهل العلم والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
رابعا: ثم قال الكاتب الدكتور إبراهيم في نهاية البحث ما نصه. . وخلاصة البحث بعد هذه المقارنة الواضحة بين الربا الذي ورد تحريمه في القرآن الكريم وبين المعاملات المصرفية يتضح لنا أن المعاملات المصرفية تختلف تماما عن الأعمال الربوية التي حذر منها القرآن الكريم لأنها معاملات جديدة لا تخضع في حكمها للنصوص القطعية التي وردت في القرآن الكريم بشأن حرمة الربا ولهذا يجب علينا النظر إليها من خلال مصالح العباد وحاجاتهم المشروعة اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في إباحته بيع (السلم) رغم ما فيه من بيع غير موجود وبيع ما ليس عند البائع مما قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأصل وقد أجمع العلماء على أن إباحة السلم كانت لحاجة الناس إليه وهكذا فقد اعتمد العلماء على (السلم)
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7352، 7352) ، صحيح مسلم الأقضية (1716، 1716) ، سنن أبو داود الأقضية (3574، 3574) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2314، 2314) ، مسند أحمد بن حنبل (4/198، 4/204) .(18/130)
وعلى أمثاله من نصوص الشريعة في إباحة الحاجات التي لا تتم مصالح الناس في معاشهم إلا بها.
والجواب: أن يقال إن المعاملات المصرفية لا تختلف عن المعاملات الربوية التي جاء النص بتحريمها والله سبحانه بعث نبيه صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين وشرع لهم من الأحكام ما يعم أهل زمانه ومن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة فيجب أن تعطى المعاملات الجديدة حكم المعاملات القديمة إذا استوت معها في المعنى أما اختلاف الصور والألفاظ فلا قيمة له إنما الاعتبار بالمعاني والمقاصد. ومعلوم أن مقاصد المتأخرين في المعاملات الربوية من جنس مقاصد الأولين وإن تنوعت الصور واختلفت الألفاظ فالتفريق بين المعاملات الربوية القديمة والجديدة بسبب اختلاف الألفاظ والصور مع اتحاد المعنى والمقاصد تفريق باطل وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم قول من قال يوم حنين اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط مثل قول بني إسرائيل لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ولم ينظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى اختلاف الألفاظ لما اتحد المعنى وهكذا عاقب الله بني إسرائيل لما نصبوا الشباك يوم الجمعة ليصيدوا بها الصيد المحرم عليهم يوم السبت ولم يعذرهم بهذه الحيلة مع أنهم لم يأخذوا الصيد من الشباك إلا يوم الأحد وذلك لاتحاد المعنى وإن اختلفت الوسيلة والأمثلة في هذا كثيرة في النصوص الشرعية وقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل» وأما التشبيه بالسلم فهو من باب المغالطة والتعلق بما لا ينفع فإن إباحة السلم من محاسن الشريعة الكاملة وقد أباحه الله سبحانه لحاجة العباد إليه وشرط فيه شروطا تخرجه عن المعاملات المحرمة فهو عقد على موصوف في الذمة بصفات تميزه وتبعده عن الجهالة والغرر إلى أجل معلوم بثمن معجل في المجلس يشترك فيه البائع والمشتري في المصلحة المترتبة على ذلك فالبائع ينتفع بالثمن في(18/131)
تأمين حاجاته الحاضرة والمشتري ينتفع بالمسلم فيه عند حلوله لأنه اشتراه بأقل من ثمنه عند الحلول وذلك في الغالب فحصل للمتعاملين في عقد السلم الفائدة من دون ضرر ولا غرر ولا جهالة ولا ربا أما المعاملات الربوية فهي مشتملة على زيادة معينة نص الشارع على تحريمها في بيع جنس بجنسه نقدا أو نسيئة وجعله من أكبر الكبائر لماله سبحانه في ذلك من الحكمة البالغة ولما للعباد في ذلك من المصالح العظيمة والعواقب الحميدة التي منها سلامتهم من تراكم الديون عليهم ومن تعطيلهم المشاريع النافعة والصناعات المفيدة اعتمادا على فوائد الربا.
وأما زعم الكاتب إبراهيم أن المصارف والأعمال المصرفية حاجة من حاجات العباد لا تتم مصالح معاشهم إلا بها. . . الخ. فهو زعم لا أساس له من الصحة وقد تمت مصالح العباد في القرون الماضية قبل القرن الرابع عشر وقبل وجود المصارف ولم تتعطل حاجاتهم ولا مشاريعهم النافعة وإنما يأت الخلل وتعطل المصالح من المعاملات المحرمة وعدم قيام المجتمع بما يجب عليه في معاملة إخوانه من النصح والأمانة والصدق والبعد عن جميع المعاملات المشتملة على الربا أو الضرر أو الخيانة أو الغش والواقع بين الناس في سائر الدنيا يشهد بما ذكرنا ولا سبيل إلى انتعاش المصالح وتحقيق التعاون المفيد إلا بسلوك المسلك الشرعي المبني على الصدق والأمانة والابتعاد عن الكذب والخيانة وسائر ما حرم الله على العباد في معاملاتهم كما قال الله سبحانه في كتابه المبين {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (2) الآية. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة النساء الآية 58
(3) سورة الأنفال الآية 27(18/132)
وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} (1) الآية. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (2) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (3) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما (4) » متفق على صحته وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى. الآخذ والمعطي فيه سواء (5) » رواه أحمد والبخاري. وعن جابر رضي الله عنه قال «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء (6) » رواه مسلم. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء (7) » متفق عليه وقال عليه الصلاة والسلام: «من غشنا فليس منا (8) » رواه مسلم وقال عليه الصلاة والسلام: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر فقالوا بلى يا رسول الله فقال: (الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال ألا
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) سورة الأحزاب الآية 70
(3) سورة الأحزاب الآية 71
(4) صحيح البخاري البيوع (2079) ، صحيح مسلم البيوع (1532) ، سنن الترمذي البيوع (1246) ، سنن النسائي البيوع (4464) ، سنن أبو داود البيوع (3459) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) ، سنن الدارمي البيوع (2547) .
(5) صحيح البخاري البيوع (2176، 2202) ، صحيح مسلم المساقاة (1584، 1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241، 1241) ، سنن النسائي البيوع (4565، 4565) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (3/50، 3/97) ، موطأ مالك البيوع (1324، 1324) .
(6) صحيح مسلم المساقاة (1598) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) .
(7) صحيح البخاري البيوع (2134، 2134) ، صحيح مسلم المساقاة (1586، 1586) ، سنن الترمذي البيوع (1243، 1243) ، سنن النسائي البيوع (4558، 4558) ، سنن أبو داود البيوع (3348، 3348) ، سنن ابن ماجه التجارات (2253، 2253) ، مسند أحمد بن حنبل (1/45، 1/45) ، موطأ مالك البيوع (1333، 1333) ، سنن الدارمي البيوع (2578، 2578) .
(8) صحيح مسلم الإيمان (101) ، مسند أحمد بن حنبل (2/417) .(18/133)
وقول الزور ألا وشهادة الزور) (1) » متفق عليه والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. ولا يجوز لأحد من الناس أن يحلل ما حرم الله بالنص قياسا على ما حلل بالنص ومن حاول أن يحلل ما حرم الله من الربا قياسا على ما أحل الله من السلم فقد أتى منكرا عظيما وقال على الله بغير علم وفتح للناس باب شر عظيم وفساد كبير وإنما يجوز القياس عند أهل العلم القائلين به في المسائل الفرعية التي لا نص فيها إذا استوفى الشروط التي تلحق الفرع بالأصل كما هو معلوم في محله وقد حرم الله القول عليه بغير علم وجعله في مرتبة فوق مرتبة الشرك وبين عز وجل أن الشيطان يدعو إلى ذلك ويأمر به كما يدعو إلى الفحشاء والمنكر قال الله سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (2) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (3) {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (4) فنسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين وأن يمنحهم الفقه في الدين وأن يوفق علماءهم لبيان ما أوجب عليهم من أحكام شرعه والدعوة إلى دينه والتحذير مما يخالفه وأن يكفيهم شر أنفسهم وشر دعاة الباطل وأن يوفق الكاتب إبراهيم للرجوع إلى الحق والتوبة مما صدر منه وإعلان ذلك على الملأ لعل الله يتوب عليه كما قال عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (5) وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (6) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (7) .
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (5976، 5976) ، صحيح مسلم الإيمان (87، 87) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3019، 3019) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37، 5/37) .
(2) سورة الأعراف الآية 33
(3) سورة البقرة الآية 168
(4) سورة البقرة الآية 169
(5) سورة النور الآية 31
(6) سورة البقرة الآية 159
(7) سورة البقرة الآية 160(18/134)
ولا شك أن مقاله يحتاج إلى أكثر مما كتبت ولكن أرجو أن يكون فيما بينته مقنع وكفاية لطالب الحق والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(18/135)
صفحة فارغة(18/136)
دراسة لمقال الدكتور إبراهيم بن عبد الله الناصر
موقف الشريعة الإسلامية من المصارف
للدكتور / محمد بن أحمد الصالح (1) .
تقديم: الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: فقد قرأت هذا المقال القيم المتضمن الرد على ما كتبه الدكتور إبراهيم بن عبد الله الناصر في موضوع الربا تحت عنوان: موقف الشريعة الإسلامية من المصارف. الصادر من فضيلة الدكتور محمد بن أحمد بن صالح، فألفيته قد أعطى المقام حقه واستوفى الأدلة الدالة على بطلان ما حاوله الدكتور إبراهيم من تحليل أنواع الربا ما عدا مسألة واحدة، وهي: ما إذا أعسر المدين واتفق مع الدائن على التأجيل بفائدة معلومة. ولا ريب أن ما حاوله الدكتور إبراهيم في بحثه المذكور من تحليل أنواع الربا ما عدا المسألة المذكورة، قد حاد فيه عن الصواب بشبه واهية أوضح الدكتور محمد في مقاله المذكور بطلانها وكشف زيفها. فجزاه الله خيرا وضاعف مثوبته وجعلنا وإياه وسائر إخواننا من أنصار الحق.
ومن تأمل نصوص الكتاب والسنة الصحيحة علم تحريم ربا الفضل وربا النسيئة في جميع الصور التي تتعامل بها البنوك وبعض التجار الذين
__________
(1) ورد لكاتب البحث ترجمة في العدد العاشر، ص 304(18/137)
لا يتحرجون من المعاملات الربوية. وقد توعد الله المرابين بأشد الوعيد فقال سبحانه {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (2) ، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (4) ، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء (5) » .
والأحاديث في تحريم الربا بأنواعه كلها كثيرة جدا، فالواجب على كل مسلم أن يحذر المعاملات الربوية وأن يبتعد عنها وألا يغتر ببعض من زلت قدمه في تحليلها أو التساهل فيها.
ونسأل الله أن يوفق المسلمين لكل خير وأن يمنحهم الفقه في الدين وأن يوفق أخانا الدكتور محمد بن أحمد للمزيد من العلم النافع والعمل الصالح وأن يشكر له سعيه ويجزل مثوبته.
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 276
(3) سورة البقرة الآية 278
(4) سورة البقرة الآية 279
(5) صحيح مسلم المساقاة (1598) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) .(18/138)
وأن يهدي الدكتور إبراهيم بن عبد الله الناصر للحق وأن يلهمه رشده ويعيذه من شر نفسه إنه جواد كريم. وصلي الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.(18/139)
بداية الدراسة: يتضمن هذا المقال: محاولة إثبات أن الربا الذي جاء القرآن بتحريمه غير متحقق في معاملة المصارف بالاستدانة منها بفائدة يحددها المصرف ويلتزم المستدين بدفعها إلى المصرف مع أصل الدين، ومن ثم تكون هذه المعاملة مشروعة.
وقبل أن نناقش ما جاء في هذا المقال نحب أن نقرر هنا أمورا: أ) إن إخضاع الشريعة لواقع الناس في معاملاتهم وتصرفاتهم غير جائز شرعا، ومن ثم يجب رفضه؛ لأن الشريعة حاكمة يخضع الناس لأوامرها ونواهيها، وليست محكومة لواقع الناس وأهوائهم وأغراضهم يتبعونها عندما تحلو لهم، وينأون عنها إذا لم تصادف هوى في نفوسهم، يقول الله تعالى في تقرير هذا المبدأ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) . ويقول جل شأنه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (2) ، ويقول عز وجل: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) .
إذن فمحاولة إضفاء الشرعية على العملية المصرفية المذكورة وما يترتب عليها من فوائد تبريرا لما يتعامل به الناس مع المصارف أمر غير جائز شرعا؛ لأنه هدم للشريعة ومحاولة للتخلص من اتباعها.
ب) إن فقهاء الأمة في كل عصر ومصر مطالبون بإيجاد البديل عن
__________
(1) سورة النساء الآية 65
(2) سورة الأحزاب الآية 36
(3) سورة النور الآية 51(18/140)
المعاملات التي يحتاج إليها الناس في معايشهم ولا تقرها الشريعة، إما بسبب انحراف الناس عن اتباع سنن الشريعة فيها، أو تقليد غير المسلمين في تعاملهم بها، وهذا البديل لا بد أن يكون في ظل الشريعة، فإن كان حكم المعاملة منصوصا عليه طبق عليها، وإلا ففي ميدان السياسة الشرعية التي يبنى فيها الحكم على المصلحة متسع له بشرط ألا يخالف نصا أو إجماعا، فإن أعوزنا النص ولم تسعفنا السياسة الشرعية - ونادرا ما يحصل هذا - حكمنا ببطلان هذه المعاملة؛ لظهور تحقق المفسدة فيها حينئذ.
ج) إن أحكام الشريعة يأخذها المرء من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا كان أهلا للاستنباط منهما، فإن لم يكن أهلا أخذها من أقوال فقهاء أهل الشريعة المعترف بإمامتهم وحذقهم في فهم الكتاب والسنة واستنباط الأحكام منهما.
أما أدعياء الاجتهاد والبحث الذين لم ينشأوا في رحاب الشريعة، ولم يتمرسوا بها، ولكنهم أقحموا أنفسهم في ميدانها لغرض من الأغراض، فهؤلاء لا تؤخذ عنهم شريعة الله ولو ظهرت لهم كتب أو مقالات أو أبحاث تحمل أسمائهم وذلك لعدم الثقة بها والاطمئنان إليها.
د) إن فقهاء الشريعة يقسمون أحكامها إلى قسمين: 1 - أحكام قطعية: ويريدون بها الأحكام التي ثبتت بأدلة قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، وهي الأحكام الثابتة بنصوص القرآن الكريم أو السنة المتواترة، إذا كانت دلالتها على المعنى لا تحتمل معنى آخر غير ما تدل عليه بأصل وضعها اللغوي.
2 - أحكام ظنية: وهي التي ثبتت بأدلة ظنية الثبوت والدلالة معا، أو قطعية الثبوت ظنية الدلالة، أو ظنية الثبوت قطعية الدلالة،(18/141)
وهي الأحكام الثابتة بنصوص القرآن الكريم إذا كانت دلالتها تحتمل أكثر من معنى، والأحكام الثابتة بالسنة غير المتواترة، سواء كانت ظنية الدلالة أو قطعيتها.
ولا يعني هذا التقسيم أن الأحكام الظنية لا يجوز العمل بها؛ لأن أدلتها ضعيفة، أو لمعارضة مصلحة لها فتترجح عليها، بل على العكس يجب العمل بها؛ لأن الإجماع قد قام على وجوب العمل بالأحكام الظنية التي بينا حقيقتها، ويؤيد ذلك أن أغلب أحكام الشريعة أحكام ظنية، أما التقسيم المذكور فالغرض منه بيان تنوع الأحكام الشرعية وخصائص كل نوع، وإذن فالتشكيك في قيمة الأحكام الظنية أو توهين العمل بها بقصد أو بدون قصد، أو جعلها عرضة لأهواء بعض المعاصرين يرفضونها بأهوائهم استنادا إلى المصالح التي يزعمونها يعتبر هدما للأحكام الشرعية.
هـ) إن بتر النص والاستشهاد ببعضه الذي يؤيد دعوى المدعى وإغفال البعض الآخر الذي لا يؤيده، أو الاستشهاد بنص مع إغفال النصوص الأخرى وعدم ربط بعضها ببعض يعتبر ذلك كله خارجا عن المنهج السليم في البحث، ويشبه أن يكون من باب الإيمان ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر وهذا أمر مذموم بنص القرآن الكريم.
وإذن فالإدعاء بأن فلانا من الفقهاء المعترف لهم بالإمامة قال كذا، بدون ذكر صدر القول أو عجزه، أو بدون ربطه بما ذكره هذا الفقيه في مواضع أخرى من مؤلفه أو مؤلفاته قول لا قيمة له في البحث العلمي، وهو منهج مرفوض ومسلك مردود في مجال الإثبات والاستدلال لدى أهل الجدل والبحث والمناظرة من الفقهاء والعلماء.
و) يعرف الفقهاء الربا بأنه: فضل مال بلا عوض لأحد المتعاقدين في(18/142)
معاوضة مال ربوي بجنسه ويقسون الربا إلى قسمين: ربا النسيئة وربا الفضل.
فربا النسيئة عبارة عن الزيادة في مقابل الأجل، ومنه الربا الذي كان معروفا في الجاهلية، وهو أن يكون للشخص دين على آخر فيقول الدائن للمدين عند حلول الأجل إما أن تقضي وإما أن تربي، فإن لم يقضي المدين زاده في المال وزاد الدائن في الأجل.
أما ربا الفضل فهو: الزيادة التي لا يقابلها عوض في معاوضة مال بمال، سواء كانت في الأشياء الستة الواردة في الصحيحين وغيرهما، وهي: الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح، أو في غيرها بطريق القياس عليها، والربا بقسميه محرم بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقول الله تبارك وتعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) ، فإن النص يفيد تحريم الربا بجميع أقسامه، لأن - أل - في الربا للجنس، و - أل - الجنسية تفيد العموم كما نص على ذلك الأصوليون، فيكون تحريم جميع أنواع الربا ثابتا بعموم النص القرآني.
أما السنة فالأحاديث الكثيرة في ذم الربا، والوعيد الشديد لمن يمارسه، والتقبيح والتشنيع على من يتعامل به وكذلك الأحاديث الواردة في المنع من ربا الفضل، مثل حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - المتفق عليه وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، - أي لا تزيدوا - ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز (2) » ، وفي لفظ «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) صحيح البخاري البيوع (2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/4) ، موطأ مالك البيوع (1324) .(18/143)
والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح، مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء (1) » رواه أحمد والبخاري (2) . وفي لفظ «لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء (3) » رواه أحمد ومسلم ففي الأحاديث الثلاثة الصحيحة دلالة على تحريم ربا الفضل؛ لورودها بصيغة النهي الدالة على التحريم والفساد والبطلان كما هو مقرر عند علماء الأصول) .
أما الإجماع: فقد اتفق المجتهدون من الأمة من لدن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يومنا هذا على تحريم الربا بنوعيه ربا النسيئة وربا الفضل، والاختلاف بين الفقهاء ليس في أصل تحريم ربا الفضل، إنما هو في جريان الربا في غير الأصناف الستة الواردة في تلك الأحاديث، وذلك بسبب اختلافهم في مناط الحكم وعلته، بدليل أن الأصناف الربوية الستة التي نص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على حرمتها ليست محل خلاف بين أحد من الفقهاء. أما ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - من جواز ربا الفضل، فقد صح رجوعه عن هذا القول عندما بلغته الأحاديث الصحيحة بالتحريم التي لم يكن قد اطلع عليها، على أن العلماء لم يسوغوا هذا الخلاف لورود الأحاديث الصحيحة بتحريم ربا الفضل في الصحيحين وغيرهما، والخلاف الذي لا يسوغه العلماء لا قيمة فيه لرأي المخالف، وذكره في الكتب لمجرد الحكاية والتاريخ، وأيضا فقد نقل التحريم عن الجم الغفير من الصحابة رضوان الله عليهم.
وبعد هذه المقدمة الموجزة والتي تضمنت أمورا في غاية الأهمية نتناول مقالة الكاتب بالدراسة والتحليل فنقول:
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2176، 2202) ، صحيح مسلم المساقاة (1584، 1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241، 1241) ، سنن النسائي البيوع (4565، 4565) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (3/50، 3/97) ، موطأ مالك البيوع (1324، 1324) .
(2) كتاب البيوع 3 \ 6.
(3) صحيح البخاري البيوع (2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/4) ، موطأ مالك البيوع (1324) .(18/144)
1 - إن قول صاحب المقال (إن الربا المجمع على تحريمه هو ربا النسيئة فقط) . خطأ فاحش لما قدمنا من الإجماع على أصل تحريمه في الأصناف الستة وإن الاختلاف بينهم إنما هو في غير الأصناف الستة بسبب اختلافهم في مناط الحكم وعلته، أي أنه اختلاف في التطبيق وليس اختلافا في الأصل (1) .
2 - إن ما جاء في المقال من (أن النص عند عقد الدين على الزيادة على أصل الدين في مقابلة الأجل هو ربا الفضل) . خطأ أيضا، وهو خلط بين القسمين لأن الزيادة في مقابل الأجل من خصائص النسيئة غالبا، وقد يجتمع النوعان في ربا النسيئة كما لو باع ذهبا بذهب أكثر منه أو أقل إلى أجل أو فضة بفضة أكثر منها أو أقل منها إلى أجل وهكذا ما يشبه ذلك من أصناف الربا، ثم أي فرق بين الزيادة لأجل الأجل في ابتداء عقد الدين، والزيادة لأجل الأجل في المرة الثانية عند عجز المدين عن الوفاء وطلبه التأجيل؟ ولماذا كانت الزيادة في المرة الأولى جائزة مع وجود ربا الفضل والنسيئة ومحرمة عند أنظاره في آخر العقد عند العجز؟ . اللهم إن هذا حكم لا يقوم عليه دليل وخلط غير مستقيم.
3 - إن بعض الكتاب المعاصرين من الذين يدعون التحرر والاجتهاد ويقسمون الربا إلى نوعين: ربا استهلاك وربا استثمار.
ويريدون بربا الاستهلاك الربا الذي يدفعه المدين مع القرض الذي استهلكه في حاجة نفسه وأولاده من طعام وكسوة وسكنى ودواء ودفع حاجة ونحوها.
ويريدون بربا الاستثمار: ما يدفعه المدين مع القرض الذي
__________
(1) انظر نيل الأوطار للشوكاني 5 \ 161 - 167(18/145)
صرفه في توسيع تجارته أو مصانعه أو أرضه بقصد الربح والفائدة. ويقولون إن النوع الأول هو المحرم؛ لأن الغني يستغل حاجة الفقر المحتاج. أما النوع الثاني فإنهم يقولون بجوازه وحله، ومن هؤلاء صاحب المقال الذي بين أيدينا، وسيأتي بيان وجهة نظرهم والرد عليها.
4 - أما بالنسبة لإضفاء الشرعية على المعاملة المصرفية وهي الاقتراض من المصرف بفائدة تدفع مع أصل الدين حسب اتفاق المصرف مع المدين، إن الكاتب استند في ادعاء هذه الشرعية إلى شبه نوردها ثم نبدي رأينا فيها:(18/146)
الشبهة الأولى: إن الزيادة الأولى في الدين المؤجل هي من ربا الفضل وربا الفضل حرم سدا للذريعة، وما كان كذلك فيجوز التعامل به إذا اقتضت مصلحة الناس هذا التعامل، وقد اقتضت المصلحة ذلك لأن معاش الناس لا يتم إلا بهذا التعامل. وقد استند في هذه الشريعة إلى فتوى الشيخ رشيد رضا وأقوال لابن تيمية وابن القيم وابن قدامة وابن حزم - ص 4 من المقال.
تفنيد هذه الشبهة: نرد على هذه الشبهة بالنقاط التالية: أ- إن الزيادة الأولى ليست من ربا الفضل وحده، بل هي جامعة لربا الفضل والنسيئة كما تقدم لأنها في مقابل التأجيل قطعا، واعتبارها من ربا الفضل وحده قول لا نعلمه لأحد من أهل العلم ممن يعتد بقوله من الفقهاء المتقدمين والمتأخرين، فهو قول باطل وفيه مغالطة وتلبيس.
2 - إن القول بأن ربا الفضل حرام سدا للذريعة قول باطل لا يقوم على دليل، إذ إن ربا الفضل محرم ابتداء وقصدا، كما تدل عليه(18/146)
الأحاديث الخاصة بتحريمه، ونسبة هذا القول لابن القيم خطأ إذ لم يقل به أصلا (1) . وإنما تحدث رحمه الله عن بيع المعدوم وأشار إلى أن الشريعة تراعي المصالح ولم يتحدث عن ربا الفضل أصلا، وقد ساق الكاتب عبارته عن الأخذ بالمصالح مبتورة محرفة.
3 - إن القول بجواز التعامل به إذا اقتضت المصلحة ذلك بناء على أن تحريمه مبني على سد الذريعة قول باطل؛ لأن تحريم ربا الفضل ثابت بنصوص السنة الصحيحة الصريحة القوية في دلالتها ومثل هذه لا يجوز معارضتها بالمصلحة؛ لأن المصلحة لا اعتبار لها أمام النصوص الصحيحة، إذ هي لا تعتبر إلا في الوقائع المسكوت عنها، أي التي لم يرد بحكمها نص بالاعتبار أو الإلغاء، أو في الوقائع التي بني الحكم فيها على سد الذريعة ابتداء، على أن القول بتحكيم المصلحة في النصوص قول باطل لم يؤثر إلا عن نجم الدين الطوفي من فقهاء الحنابلة في القرن الثامن، وقد رفضه العلماء قديما وحديثا مبينين بطلانه وفساده إذ لو حكمت المصالح في النصوص تهدمت الشريعة وخضعت لأهواء الناس وفي ذلك ضياع لها والعياذ بالله.
4 - إن القول بأن معايش الناس لا تتم إلا بهذه المعاملة قول لا يؤيده شيء من النصوص أو واقع المعاملات بين الناس، بل إن النصوص ومعاملات الناس تدل على استقامة الحياة وتمام المعيشة بدون هذه المعاملة الربوية، ولما دخلت هذه المعاملة حياة الناس أوجدت الكثير من النكد والتنغيص وفساد الحالة الاقتصادية، ومما يؤيد ذلك ما
__________
(1) في الكتاب الذي أشار إليه صاحب المقال وهو '' زاد المعاد ''(18/147)
قرره أساطين الاقتصاد في العالم من أن أكبر ضربة قاصمة توجه إلى اقتصاد أي دولة تأتي من ناحية الربا، ولقد حرمت روسيا الملحدة التعامل بالربا، فهل ضعف اقتصادها وهل أصاب معيشة أهلها شيء من الضنك والضيق والمشقة بسبب عدم التعامل بالربا؟
بل إن ما أصابهم ويصيبهم من الضيق والضنك إنما هو لجور الأنظمة الماركسية. إن اقتراض التجار وأصحاب رؤوس الأموال من الأغنياء لا تدعو إليه حاجة فضلا عن الضرورة، فالتاجر يقترض من المصرف لتوسيع تجارته وصاحب المصنع يقترض للتوسع في صناعته وأصحاب المزارع يقترضون للتوسع في الزراعة ووفرة الإنتاج، وهذه ليست أمورا أساسية لا تتم حياة الناس ومعايشهم إلا بها، وإنما هي أمور توسيعيه لا تشكل حاجة في حياة الناس فضلا عن الضرورة.
وقد يقال إن الأمة في حاجة إلى التوسع في وسائل الإنتاج لتكون قوية وقادرة على مواجهة الأحداث الاقتصادية ومواجهة الدول التي تستغل الدول الإسلامية نتيجة ضعفها المادي والاقتصادي. والجواب عن هذا: إن الحاجة إلى التوسع المذكور تسد من قبل الدولة أو من قبل الأفراد بتكوين الشركات الضخمة والمصانع العملاقة واستصلاح الأراضي البور، وذلك كله وظيفة الدولة وهي وظيفة واجبة كلها ومسؤولة عنها أمام الله سبحانه وتعالى.
5 - أما فتوى الشيخ رشيد رضا التي استند إليها الكاتب في كلامه فإنه ليس ممن يحتج بقوله إذا كان معه غيره فما بالك إذا انفرد وخالف النص، أما ما نقله الكاتب عن ابن قدامة وابن تيمية وابن القيم وابن حزم فهي نصوص بعضها مبتور عن أصله، وبعضها غير(18/148)
موافق لما قالوه في غير هذه المواضع وكلا الأمرين غير صالح للاحتجاج.(18/149)
الشبهة الثانية: أن الحكمة في تحريم الربا هي إزالة الظلم الناشئ عن استغلال الغني حاجة المحتاج، والظلم غير متحقق في اقتراض كبار التجار وأصحاب رؤوس الأموال من المصارف بالفوائد لتنمية أموالهم وتجارتهم ومصانعهم؛ لأنهم ليسوا محتاجين ويستأنس الكاتب بقول الشيخ رشيد رضا: ولا يخفى أن المعاملة التي ينتفع ويرحم فيها الآخذ والمعطي التي لولاها فاتتهما المنفعة معا لا تدخل في هذا التعليل {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (1) .
الرد على هذه الشبهة: إن الشبهة ليست بشيء في مقام الاستدلال لما يأتي: أ) إن حكمة تحريم الربا ليست منحصرة في إزالة الظلم الناشئ عن استغلال الغني حاجة الفقر، بل هناك حكم أخرى للتحريم، منها القضاء على البطالة والكسل بالنسبة للدائنين ودفعهم إلى العمل واستخلاص الرزق بالسعي في الأرض والمشي في مناكبها. ومنها أنه يؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل لعدم العوض المقابل للزيادة الربوية. ومنها أنه يؤدي للعداوة والبغضاء والمشاحنات والخصومات؛ لأنه ينزع عاطفة التراحم من القلوب وتضيع به المودة ويذهب المعروف بين الناس وتحل القسوة محل الرحمة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 279(18/149)
ب) إن هذا الوجه في الاستدلال تعليل بالحكمة والراجح لدى الأصوليين هو عدم التعليل بالحكمة لعدم انضباطها وظهورها.
ج) إنه على فرض جواز التعليل بالحكمة وانحصارها في إزالة الظلم فإنها ليست منحصرة في الفقير المحتاج، بل هي أيضا متحققة أيضا بالنسبة للغني غير المحتاج، إذ هي أكل لماله بالباطل لعدم المقابل للزيادة الربوية من مال أو منفعة أو مصلحة، ويؤيد ذلك أن النص القرآني الوارد في تحريم الربا لم يفرق بين الفقير المحتاج والغني غير المحتاج؟ كما يؤيده أيضا قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع « (وأول ربا أضعه تحت قدمي هاتين ربا عمي العباس) (1) » ومعروف أن العباس يتعامل مع تجار قريش من الأغنياء، ولم يكن مع الفقراء المحتاجين؛ لأن مكانته من ذلك معروفة بإطعام الحجاج وسقايتهم ومواساة المحتاجين لا يسيغ هذا الإدعاء.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1785) ، صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن الترمذي الحج (856) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، موطأ مالك الحج (836) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .(18/150)
الشبهة الثالثة: إن عملية الاقتراض من المصرف بفائدة تعتبر من البيع، والبيع جائز حلال، وفي ذلك يقول الكاتب نقلا عن الشيخ رشيد رضا ومقرا لقوله: إن المعاملة التي يقصد بها الاتجار لا القرض للحاجة هي من قسم البيع لا من قسم استغلال حاجة المحتاج. ثم يضيف إلى ذلك قولا للشيخ رشيد وهو: أنه ليس في أخذ الربح من صندوق التوفير والمصارف ظلما لأحد ولا قسوة على محتاج حتى في دار الإسلام. اهـ.
الرد على هذه الشبهة: للرد على هذه الشبهة نقول: إن المعاملة المصرفية التي نحن بصدد مناقشتها لا تعتبر بيعا بأي معيار أو قياس من المعايير أو المقاييس الشرعية إذ ليس فيها بائع ومشتري ومبيع وثمن، وإنما هي قرض بفائدة مقابل الأجل وهذا هو الربا بعينه، نعم قد يبيع المقترض ويشتري ويتاجر بما اقترضه ولكن ذلك مع غير المصرف والمصرف لا علاقة له بهذه التجارة؛ لأنه لم يعطه المال مشاركة أو مضاربة(18/150)
أو على أي وجه من الوجوه التجارية، وإذن فالادعاء بأن هذه المعاملة من قسم البيع ادعاء باطل وتخرج سخيف لا يقصد منه في نظرنا إلا التمويه على الناس لدفعهم إلى التعامل بالربا.
أما فتوى الشيخ رشيد رضا بحل أخذ الربح من صناديق الادخار والتوفر والمصارف فهي فتوى مخالفة للنصوص الشرعية، إذ لا يجوز أخذ الربح من صندوق التوفر أو من المصارف التي تدفع أرباحا عن الأموال المودعة بها، وذلك لأن صناديق التوفر والمصارف لا تستثمر أموالها في تجارة أو صناعة أو زراعة تحصل منها على أرباح وأموالها تأتي عن طريق إقراضها بفوائد فيأخذ البنك حصة منها ويعطي المدخر أو المودع البعض الآخر، فالكثير من البنوك الآن يعطي المودع 6% فوائد بينما يأخذ هذا البنك نفسه من المقترض 14 % كما أفاد البنك المركزي المصري دار الإفتاء المصرية بذلك، وإذن فما يأخذه المدخر أو المودع يعتبر أكلا للمال بالباطل وهذا ظلم فبطلت هذه الشبهة.(18/151)
الشبهة الرابعة: إن خصائص الربا القرآني - في نظر الكاتب - لا تتحقق في المعاملة المصرفية التي نحن بصددها وهي الاقتراض بالفائدة. ويحدد الكاتب خمس خصائص للربا القرآني التي يسميها أسبابا ثم يري أنها ليست متحققة في المعاملة المصرفية، ومن ثم تكون هذه المعاملة جائزة في نظر الشريعة الإسلامية ونستعرض هذه الخصائص وتطبيقها ثم نبين وجه البطلان فيها أو في تطبيقها أو فيهما معا: أ) يرى الكاتب أن الخاصة الأولى من الربا القرآني المحرم هي: أن المدين لا بد أن يكون محتاجا للصدقة عملا بظروف الدين ولذلك فهو مظلوم بأخذ الربا منه.
ويمكن أن نرد شبهة الكاتب ومن سبقه في هذا الميدان بأن النصوص(18/151)
القرآنية المحرمة للربا وردت عامة أو مطلقة لم تفرق بين الفقير المحتاج والغني القادر، فتخصيصها أو تقييدها بما يكون مع الفقير المحتاج يحتاج إلى دليل، وما ذكر على أنه دليل للتخصيص أو التقييد لا يعتبر دليلا أو شبه دليل لما يلي: أولا: أن الحث على التصدق لم يرد في كل آيات الربا وحسبنا أن آية التحريم الصريحة هي قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) لم يعقبها الحث على الصدقة.
ثانيا: أن الحث على التصدق الوارد عقب بعض الآيات ليس خاصا بالمدين دينا ربويا، بل يشمله ويشمل غيره، لورود الحث على الصدقة بصيغ عامة.
ثالثا: أن الغرض من الحث على الصدقة في بعض الآيات هو بيان الطريق السوي الأمثل الذي يجب أن يسلكه المرابي بدل طريق الربا المحرم، بل هو حث له ولغيره فلا علاقة للحث على الصدقة التي تكون للفقير المحتاج بحقيقة الربا المحرم.
رابعا: أنه على فرض دلالة الحث على الصدقة على أن الربا المحرم هو الذي يكون مع الفقير المحتاج فإنه لا طريق لذلك إلا الاقتران، ودلالة الاقتران دلالة غير معتبرة عند كثير من العلماء ومن يعتبرها فإنه يقرر أنها دلالة ضعيفة.
خامسا: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أهدر ربا عمه العباس - رضي الله عنه - ومن المعروف أن العباس كان يرابي مع التجار الأغنياء ولم يكن يرابى مع المحتاجين من الفقراء كما قررناه من قبل، وهذا يدل على أن الربا المحرم ليس قاصرا على المعاملة مع الفقراء المحتاجين، والرسول عليه الصلاة والسلام
__________
(1) سورة البقرة الآية 275(18/152)
مبين لما جاء في القرآن الكريم وكل ذلك يدل على بطلان هذه الخاصة.
سادسا: أن العرب كانوا تجارا وكانت تجارتهم تمتد إلى خارج بلادهم في الشام واليمن فما المانع لهم من التعامل بالربا في التجارة؟ ثم الذي يقول (إنما البيع مثل الربا) هم التجار أو الفقراء المحتاجون للصدقة؟ أليسوا هم التجار الذين يتعاملون بالربا ويقيسونه على البيع ويجعلونه نوعا من أنواع البيع كما يقول بعض كتاب هذا العصر؟ وما دخل الفقراء المحتاجين في جعل الربا مثل البيع وهم لا يزاولون بيعا ولا تجارة؟ ثم أليس في مقابلة الربا بالبيع في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) ما يشعر بأن العرب كانت تتعامل في الربا للأغراض التجارية؟ إن ذلك كله يدل على أن تحريم الربا نزل في مجتمع كان فريق التجار فيه يتعاملون بالربا، وهو ربا استغلالي وليس ربا استهلاكيا، ومعنى هذا أن تحريم الربا يشمل الربا الاستهلاكي والاستغلالي ومن ثم تبطل شبهتهم ودعواهم في قصر الربا على الربا الاستهلاكي. ثم هل قامت المصارف أو تقوم بإقراض أهل الحاجة والفقر قروضا حسنة بدون فوائد؟ أو أنها سلبتهم البقية الباقية من أموالهم بدون إشفاق على ضعفهم أو رحمة بصغارهم أو مراعاة لحاجتهم وأحوالهم.
سابعا: أن قصر الربا القرآني المحرم على المعاملة مع الفقير المحتاج دون الغني القادر، أو بعبارة أخرى قصره على الربا الاستهلاكي دون الربا الاستغلالي لم يقل به أحد من المفسرين ولا أحد من الفقهاء، ولم يظهر منه شيء في تعريفاتهم للربا على اختلاف مذاهبهم ومناهجهم، ولم يظهر القول به إلا في هذا العصر على لسان من يدعي التحرر والاجتهاد ومن هؤلاء صاحب المقال. ولكنه بكل أسف على حساب الشريعة بإخضاعها لواقع الناس وأهوائهم، إننا لسنا ضد التجديد والاجتهاد بل
__________
(1) سورة البقرة الآية 275(18/153)
على العكس ندعو إلى فتح أبوابهما على مصاريعها ولكن في إطار نصوص الشريعة وقواعدها الكلية، وفي الحدود المرسومة للاجتهاد والاستنباط من الكتاب والسنة، ونخلص من ذلك كله إلى أن الاحتياج للصدقة ليس خاصية للربا المحرم ولا جزءا من حقيقته ولا وصفا لازما له، وإن الرأي القائل بأن الربا القرآني المحرم هو ربا الاستهلاك أي الربا الذي يأخذه الدائن من الفقير الذي يستهلك الدين في حاجته الضرورية من طعام وشراب وكساء ومأوى ودواء دون ربا الاستغلال أي الربا الذي يأخذه الدائن من الغني الذي يقصد بدينه الاستثمار في التجارة أو الزراعة أو الصناعة، قول باطل لعدم استناده إلى دليل من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس أو لغة أو نظر سليم أو قول لأحد من الفقهاء، بل الأدلة قائمة على تحريم كل من ربا الاستهلاك وربا الاستغلال بما ذكرناه سابقا وبما سيأتي.
ونختم هذه النقطة بفتوى مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة في مؤتمره الثاني المنعقد في شهر المحرم 1385 هـ (مايو 1965م) ونصها: والفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم لا فرق بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي (الاستغلالي) ، وكثير الربا في ذلك وقليله حرام، والإقراض بالربا محرم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة والاقتراض بالربا كذلك، ولا يرتفع إثمه إلا إذا دعت إليه ضرورة، وكل امرئ متروك لدينه في تقدير الضرورة. وقد جاء في بحث هيئة كبار علمائنا ما نصه (1) : أما الفوائد على بقاء الودائع لدى المودع فأمرها جلي واضح في أنها تجمع بين نوعي الربا، ربا الفضل وربا النسيئة حيث يأخذ المودع زيادة على ما دفع مع التأخير.
ب) يرى الكاتب أن الخاصة الثانية في الربا القرآني هي أن الدائن ينفرد
__________
(1) مجلة البحوث الإسلامية، العدد الثامن، ص 41، 42(18/154)
وحده بالمنفعة من الربا وهذه الخاصة غير متحققة في المعاملات المصرفية التي نحن بصددها؛ لأن الدائنين فيها وهم الملاك الصغار - نقصد الذين أودعوا أموالهم في البنوك ابتغاء الفائدة - ويمثلهم المصرف لا يختص وحده بالمنفعة دون المدين، بل يشترك مع الكبار في المنفعة بموجب عقد رضائي تجاري لا استغلال فيه. ويوضح الكاتب هذا المعنى فيقول في ص 6: لأن المدين وهو المالك الكبير مشترك في المنفعة مع الدائن وهو المالك الصغير وذلك باستثماره أموال الدين بما فيه مصلحة الجميع. ونرد على هذا التوجيه بأن المنفعة التي جاءت عن طريق الكبار واشترك فيها الصغار منفعة غير مشروعة، إذ لا سند لها سوى ما ادعاه الكاتب من أنها تمت بموجب عقد تجاري رضائي، وهذه دعوى غير صحيحة إذ ما هو نوع العقد التجاري؟ إن كان بيعا فأين هو البائع؟ إن كان صغار المالكين فهؤلاء لا يعرفهم الآخذ من المصرف ولا يعرفونه، وإن كان المصرف فأين المبيع الذي وقع التعاقد عليه، وإن كان نوع العقد شركة، فتحديد المصرف نسبة معينة يبطل الشركة بإجماع الفقهاء، لماذا تكون هذه النسبة ضئيلة في الغالب؟ ثم إن كانت شركة فلماذا لا يتحمل المصرف الخسارة كما هو الشأن في سائر الشركات، وإن كان نوع المعاملة رهنا فأين العين المرهونة؟ لا شيء من ذلك كله، إذا فأين الحقيقة؟ إن النظر الفقهي السليم لا يمكن أن يكيف هذه المعاملة إلا بأنها قرض بفائدة، وهذا هو عين الربا.
ثم إن قول الكاتب إن المدين دائما يكون من كبار المالكين قول ينقضه الواقع، إذ إن كثيرا ممن يتعامل مع المصارف ليسوا من كبار المالكين، بل فيهم الموظف الذي يقترض بضمان مرتبه وغير الموظف الذي يقترض بضمان أحد القادرين، فهذا التعميم الذي ادعاه الكاتب غير صحيح(18/155)
من ناحية الواقع العملي ويؤدي إلى أن تعامل المصرف مع هؤلاء غير جائز شرعا في نظر الكاتب؛ لأن هؤلاء محتاجون إلى الصدقة فيعود هذا التعميم على أصله بالنقض وهو مالا يرضاه الكاتب.
وقول الكاتب إن المالك الكبير يستثمر أموال الدين بما فيه مصلحة الجميع مغالطة مكشوفة، إذ أن المالك الكبير يستثمر أموال الدين لمصلحته فقط ويعطي المصرف الفائدة المتفق عليها فقط دون المشاركة في الربح، والقول بغير هذا مكابرة وإنكار لواقع المعاملة.
ج) ويذهب الكاتب إلى أن الخاصة الثالثة للربا المحرم هي مجرد تنمية لمال الدائن في أموال المدين من تجارة ينتفع بها الطرفان، وإن هذه الخاصة ليست متحققة في المعاملة المصرفية؛ لأنها تجارة من نوع جديد جرى التعارف عليها ودعت إليها حاجة الناس أجمعين حتى أصبحت مصالحهم في معاشهم لا تتم إلا بها وينتفع بها الطرفان المعطي والآخذ، ثم قال والمعاملة التي يقصد بها الاتجار لا القرض للحاجة هي من قسم البيع لا من قسم استغلال حاجة المحتاج، ويؤيد هذا المبدأ في شرعية المنفعة التي لا ضرر فيها على أحد قول ابن قدامة: إن ما فيه مصلحة من غير ضرر بأحد فهو جائز، وإن الشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا ضرر فيها وإنما يرد بمشروعيتها، وقول شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه: إن كل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج وهو منتف شرعا.
ونرد على الكاتب بأن المعاملة المصرفية التي نحن بصددها ليست من التجارة ولا من قسم البيع لعدم سمات التجارة فيها، ولأنه لا يوجد بها مبيع يقع عليه عقد البيع وإنها لا تتم في المصرف على أنها بيع، بل على أنها قرض بفائدة محددة تدفع في كل عام، والتدليل على أنها تجارة بتعارف الناس عليها تعليل غير سليم؛ لأن الناس جميعا لم يتعارفوا عليها(18/156)
ولو فرض تعارفهم فهو عرف فاسد لمخالفته نصوص الربا العامة والمطلقة، وكل عرف في مقابل النص فهو عرف فاسد لا يبنى عليه حكم، وكذلك التدليل بأن هذا النوع من المعاملة قد دعت إليه حاجة الناس أجمعين تعليل غير سليم؛ لأن الواقع الفعلي أن حاجة الناس جميعا لا تدعو إلى هذه المعاملة، بل إن هذه المعاملة المصرفية تشكل حرجا للناس في معاملاتهما وتضعف اقتصاد الأمم والشعوب كما قرر ذلك أساطين الاقتصاد في العالم. وكثير من الناس - والحمد لله - يزاولون نشاطهم التجاري بدون أي حاجة إلى هذا النوع من المعاملة، وقول ابن قدامة وابن تيمية وارد في المصالح التي سكت الشارع عليها، فلم يرد باعتبارها أو إلغائها نص من الشارع، كما صرحوا بذلك في كثير من المواضع وصرح به الأصوليون في كلامهم على حجية المصالح المرسلة.
وقول الكاتب إن الدائنين في المعاملات المصرفية هم من صغار المالكين لم يستغلوا المدينين الذين هم جميعهم هنا من كبار المالكين، بل قد تبادلوا المنافع معهم بصورة تجارية وعقد رضائي من غير أن يكون هناك ظالم أو مظلوم: قول غير صحيح لأن جل المنفعة يستأثر بها المدينون الذين هم من كبار الأغنياء، وليس للدائنين وهم صغار المالكين إلا نسبة ضئيلة محدودة وقعت الاستدانة من المصرف على أساسها، وقد أشرنا إلى شيء من ذلك فيما سبق.
د) ويرى الكاتب أن الخاصة الرابعة للربا القرآني تجعل صاحب الدين المرابي عند عجز المدين عن أداء الدين كالذي يتخبطه الشيطان من المس إلى آخر ما جاء في الآية الكريمة؛ لأنه فقد رأس ماله فوق فقده لأرباحه الربوية. وهذه الخاصة ليست متحققة في المعاملة المصرفية لأن المتعاملين فيها من معط وآخذ جميعهم يشعرون بالأمان والاطمئنان وذلك لقيام(18/157)
إدارة المصرف نيابة عنهم باتخاذ جميع الإجراءات والضمانات اللازمة لسلامة المعاملة على السواء لمصلحة الدائن والمدين.
والرد على ما ذكره الكاتب في هذه الخاصة: أن التصوير المقترح لمن يأكل الربا ليس تصويرا له عند عجز المدين عن الوفا أو عند تخوفه من عدم الوفاء، وإنما هو تصوير له عند قيامه من قبره كما تظافرت بذلك أقوال المفسرين وعلى رأسهم ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد، ويؤيد ذلك التفسير قراءة ابن مسعود (لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم الذي يتخطبه الشيطان من المس) . وإذا لم يكن هذا تصوير للدائن في الدنيا فإنه لا يصلح أن يكون خاصة له، لأن خاصة الشيء تكون لازمة للشيء، والشيء الذي لا يتحقق إلا في الآخرة لا يكون ملازما له في الدنيا لانفكاك الجهة على أن هذا التصوير البشع جزاء المرابي في الآخرة، أي أنه مترف بأكل الربا. وأثر الشيء لا يكون جزءا من حقيقته ولا وصفا له ولا ملازما له ملازمة عقلية لحصول الأثر عقب المؤثر، فانتفى أن يكون هذا الوصف خاصة للربا القرآني.
على أن كلام الكاتب يقصر التصوير على آكل الربا الذي عجز المدين فيه عن الوفاء أو تخوف الدائن من عدم الوفاء مع أن التصوير القرآني يشمل أيضا من سلم له رأس المال والربح، بل إن التصوير قاصر على من سلم له رأس المال والربح بدليل التعبير بيأكلون، ولا يوصف بذلك إلا من سلم له رأس المال والربح، وإذن فكيف يكون هذا التصوير خاصا بالدائن الذي عجز مدينه عن الوفاء. ثم يدلل الكاتب على انتفاء هذه الخاصة في المعاملة المصرفية بأنه لا يوجد فيها خوف من العجز عن الوفاء لقيام المصرف باتخاذ الإجراءات التي تمنع هذا الخوف. . . إلخ.(18/158)
ما قاله من الأمن والسلامة في المعاملة المصرفية. نقول ردا على هذا: إن الأمن غير متحقق أيضا في المعاملة المصرفية رغم قيام المصرف بالمراقبة والإشراف، وذلك لحصول الإفلاس من المدين في كثير من الأحيان والواقع الفعلي يؤيد هذا كما ظهر أخيرا من معاملات المدينين مع مصارف القاهرة؛ حيث هربوا عن البلاد وضاع على المصارف ما دفعته إليهم، وكما حدث في سوق المناخ بالكويت، وإذن فالأمن منعدم في عملية المصرف كما هو منعدم في عملية المرابي.
هـ) ويرى الكاتب أن الخاصة الخامسة للربا القرآني هي أن الربا زيادة طارئة في الدين تفرض على المحتاج للصدقة وتشترط عليه بعد حلول أجل الدين وعجز المدين عن الوفاء، وهي زيادة بعقد جديد مستقل عن العقد الأول ولا يقابلها في هذا العقد الجديد إلا تأجيل الاستيفاء من المدين من غير أي نفع مادي للمدين؛ لأن التأجيل لا ينتفع به المدين في طعامه أو تجارته على حين أن الزيادة في الربا للدائن كانت زيادة مالية وقد اقتصرت عليه فقط دون مقابل للمدين، وهذا من أكل أموال الناس بالباطل، ثم قال وهذه الخاصة منتفية في المعاملة المصرفية لأن الزيادة فيها تشترط في أصل عقد الدين لأغراض تجارية مع مدينين أغنياء من رجال الأعمال وليست طارئة عند حلول الأجل مع المدين المحتاج، وذلك يجعلها ذات صفة تجارية في المعاملات المصرفية أي في مقابل منافع متبادلة. ونقول في الرد على ذلك أن ادعاء الكاتب أن الزيادة في المعاملة المصرفية تشترط في أصل عقد الدين لأغراض تجارية قول ينقضه الواقع؛ لأن العملية المصرفية لا تحدد للدائن نوع نشاطه الاقتصادي ولا نوع التجارة التي يزاولها، وأقصى ما يقوم به المصرف هو التوثق من الدين وكل ما يهمه بعد ذلك هو الحصول على الفائدة المتفق عليها، والمدين بعد ذلك حر في نشاطه ولا يتبادل مع المصرف منفعة ما سوى الفائدة، أما ثمرة نشاط(18/159)
المدين بعد الفائدة فكله له هذا إن ربح، أما إذا خسر فلا يتحمل المصرف شيئا من خسارته، وهذا أكبر دليل على أن العلاقة بين المصرف والمدين ليست علاقة تجارية، وإنما هي قرض بفائدة معينة يدفعها المدين في كل عام. على أنه إذا كانت العلة في تحريم الربا القرآني هي مقابلة الزيادة بالأجل فهذا المعنى متحقق في المعاملة المصرفية؛ لأن الزيادة فيها عن الدين في مقابل الأجل فأي فرق بين المعاملتين؟
أما ادعاء الكاتب أن الربا القرآني هو الزيادة الطارئة عند عجز المدين عن الوفاء في مقابل الأجل وذلك بعقد مستقل، فقد سبق إبطال هذا الادعاء وبينا أن الزيادة في ابتداء الدين في مقابل الأجل ربا صريح، والقول بغير هذا قول باطل لا أساس له.
وقد اختتم الكاتب مقارنته بين الربا الذي ورد تحريمه في القرآن وبين المعاملة المصرفية بقوله: يتضح لنا أن المعاملات المصرفية تختلف تماما عن الأعمال الربوية التي حذر منها القرآن الكريم؛ لأنها معاملات جديدة لا تخضع في حكمها للنصوص القطعية التي وردت في القرآن الكريم بشأن حرمة الربا؛ ولهذا يجب علينا النظر إليها من خلال مصالح العباد وحاجاتهم المشروعة اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إباحته بيع السلم رغم ما فيه من بيع غير موجود، وبيع ما ليس عند البائع مما قد نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأصل، وقد أجمع العلماء على أن إباحة السلم كانت لحاجة الناس إليه، وهكذا فقد اعتمد العلماء على السلم وعلى أمثاله من نصوص الشريعة في إباحة الحاجات التي لا تتم مصالح الناس في معاشهم إلا بها، إن المصارف والأعمال المصرفية حاجة من حاجات العباد ولا تتم مصالح معاشهم إلا بها، ولذلك فإنه من غير الجائز التسرع والحكم عليها بأنها من الربا المقطوع فيه، وذلك لأن حظرها يوقع العباد في حرج في معاشهم(18/160)
لا مثيل له، بل إن حظرها يهدد كيان الدولة والأمة الإسلامية ويقضي نهائيا على مصالحهم الاقتصادية ويجعلهم تحت رحمة أعدائهم وأعداء دينهم الذين يتحكمون في ثرواتهم، بل يستخدمونها لزيادة قوتهم ضد أمة الإسلام.
وردنا على ما انتهى إليه الكاتب في موضوع الأسباب الذي ألمحنا إليه يتلخص فيما يلي: أ) إنه قد سبق لنا عند مناقشة الأسباب ومقارنتها بيان أن ما ذكره الكاتب من أسباب للربا المحرم بعضه ليس من باب الأسباب، والبعض الآخر متحقق في المعاملة المصرفية وأنه لذلك تنطبق عليها حقيقة الربا المحرم، إذ هي قرض بفائدة محددة في مقابل الأجل وأن القول بغير هذا إما جهل أو مكابرة، ومن ثم فإنه لا يجوز النظر في إباحتها من خلال المصالح المدعاة إذ لا عبرة للمصلحة في مقابل النص.
ب) إن جواز المعاملة المصرفية قياسا على السلم لعلة الحاجة قياس غير سليم من وجهين: الأول: أن علة الحاجة غير متحققة في الفرع وهو المعاملة المصرفية، إذ حاجة الناس تتم دون هذه المعاملة ومن ثم لا حاجة إليها.
الثاني: إن السلم ثابت شرعا بالنصوص الصحيحة الصريحة من السنة المطهرة هذا مع العلم بأنه لو فتح باب إبطال النصوص بالمصالح والحاجات المدعاة؛ لكان في ذلك إبطال الشريعة وهدمها بأهواء الناس والعياذ بالله.
ج) إن حظر المعاملة المصرفية لا يوقع الناس ولا الدولة في حرج لا مثيل له كما يدعي الكاتب، ولا يقضي نهائيا على المصالح الاقتصادية لأن الناس عاشوا ويعيشون بدون هذه المعاملة المصرفية، وتتم مصالحهم المعيشية بدونها بل العكس هو الصحيح، فإن شيوع الربا عن طريق المصارف أو(18/161)
غيرها أكبر ضربة توجه إلى اقتصاد الدول والشعوب كما صرح بذلك أساطين الاقتصاد كما أشرنا إلى ذلك آنفا.
د) إن القول بحضر هذه المعاملة ليس مبنيا على ارتياح النفس أو عدم ارتياحها، وإنما هو مبني على النص والإجماع المحرمين لهذه المعاملة التي لا تكييف لها إلا أنها قرض بفائدة محدودة مقابل الأجل، ومع ذلك فإننا نقول بالبديل عنها وهو نظام المضاربة (القراض) المجمع على جوازه شرعا، وهو ما تعامل به المسلمون في سائر العصور إذ لا يتحقق في هذه المعاملة الربا، ويتحمل فيها كل من صاحب المال والعامل نصيبه من الربح والخسارة ومن ثم ينتفي فيها الظلم عن كل منهما.
والخلاصة أن الكاتب لم يوفق في إضفاء الشرعية على معاملة المصارف التي تقرض المستغلين من أصحاب المصانع والمتاجر والعقارات ونحوهم بفائدة محدودة، وأن كل ما ذكره لإثبات هذه الشرعية إنما هي شبهات واهية لا يثبت بها ما يدعيه. ولم يزد على أن جاء بملخص لما سبقه إليه الدكتور معروف الدواليبي في مقاله الذي نشره باللغة الفرنسية عام 1371 هـ الموافق 1951م (1) ، وقد اطلعت عليه في العام الماضي مكتوبا باللغة العربية. والذي نراه بديلا لهذه المعاملات الربوية هي المضاربة إذا التزم فيها أحكام الشرع التي قررها الفقهاء استنباطا من كتاب الله العزيز وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع فقهاء الأمة.
والله تعالى ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
محمد بن أحمد الصالح
__________
(1) انظر تاريخ الفكر الاقتصادي ص57 للدكتور لبيب شقير.(18/162)
بل الفائدة المصرفية من ربا النسيئة
رد على بحث الدكتور إبراهيم بن عبد الله الناصر حول "موقف الشريعة الإسلامية من المصارف.
" للدكتور / شوقي أحمد دنيا
الاسم شوقي أحمد دنيا.
الميلاد من مواليد جمهورية مصر العربية.
المؤهل 1) بكالوريوس تجارة قسم الاقتصاد كلية التجارة جامعة الأزهر.
2) ماجستير في الاقتصاد بعنوان " الإسلام والتنمية الاقتصادية " من تجارة الأزهر.
3) دكتواره في الاقتصاد بعنوان " تمويل التنمية في الاقتصاد الإسلامي - دراسة مقارنة من تجارة الأزهر.
العمل عضو هيئة التدريس بقسم الاقتصاد الإسلامي - كلية الشريعة - الرياض.
الإنتاج العلمي: من مؤلفاته: (1) دراسات في الاقتصاد الإسلامي " كتاب ".
(2) أعلام الاقتصاد الإسلامي " كتاب ".
(3) نقد لكتاب في الفكر الاقتصادي الإسلامي للدكتور فاضل عباس الحسب " بحث منشور ".
(4) النقود بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد الوضعي " بحث منشور ".
(5) تقلبات القوة الشرائية للنقود وأثر ذلك على الائتمان الاقتصادي والاجتماعي " بحث منشور ".
بالإضافة إلى أبحاث أخرى في مؤتمرات وندوات خاصة بالاقتصاد الإسلامي.(18/163)
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله محمد بن عبد الله وعلى اله وصحبه ومن عمل بشريعته وتمسك بسنته إلى يوم الدين.
وبعد: فهذه ورقة حول الدراسة التي قدمها الدكتور إبراهيم الناصر المستشار القانوني بمؤسسة النقد السعودي بشأن " موقف الشريعة الإسلامية من المصارف ".
وبداية نحب أن نؤكد على أن مهمة وحدود هذه الورقة هي مجرد مناقشة الورقة التي قدمها الدكتور إبراهيم، وبيان ما فيها وما عليها، مع العلم بأن الموضوع في ذاته هو أكبر بكثير من هذه الورقة، وهو برغم كثرة ما كتب فيه بحاجة إلى بحث معمق يحتاج إلى مزيد من الجهد ومن الوقت، نرجو الله تعالى أن ييسر لنا ولغيرنا ذلك.
ومجمل مناقشتنا يخلص إلى مخالفة الدكتور إبراهيم فيما قدمه من مقدمات وفيما توصل إليه من نتائج. منهجنا في هذه الورقة هو مناقشة التحليلات والمقدمات التي طرحها الأخ الكاتب، وكذلك مناقشة ما توصل إليه من نتائج، مع إعطاء لمحة سريعة عن البديل الإسلامي.
ويمكن إجمال ما قدمه الكاتب في ورقته في صيغتها الثانية الأكثر شمولا وتفصيلا بأنه تناول مفهوم الربا في كل من القرآن والسنة كما فهمه. ثم عرض لموقف بعض العلماء من المصارف مضيفا إلى ذلك. مناقشة لطبيعة الأعمال المصرفية وبوجه خاص ومراكز، بل وأساسي عملية " الإيداع " وبعجالة عملية " الإقراض المصرفي " وخلص من بحثه هذا إلى نتائج تتلخص في أن الأعمال المصرفية الحالية لا تدخل في الربا القرآني المجمع على تحريمه، وإنما هي معاملة مستجدة تخضع للقواعد العامة للشريعة ومقاصدها المتمثلة في تحقيق مصالح الناس.(18/164)
ولم يقف عند هذا الحد بل واصل القول مصرحا بأنها حلال استنادا إلى أنها ليست من الربا الذي حرمه القرآن الكريم وعملا بالمصلحة التي نوه بها بعض العلماء واستئناسا بموقف العلماء المعاصرين، كما دعم هذا الموقف بما أشار إليه من أن بعض أنواع الربا حرمت تحريم وسائل لا تحريم مقاصد فتباح عند الحاجة، كما أن فكرة الترخيص معتد بها شرعا وهناك سوابق في إباحة بعض المحظورات كالسلم، كذلك فقد استند إلى التقلبات الكبيرة في قيمة النقود والهبوط المستمر لها، ومن ثم فمن العدل القول بإباحة الفائدة على القروض خاصة إذا ما أخذنا في الحسبان الأهمية الكبيرة التي تحتلها المصارف في حياتنا المعاصرة.
هذه هي الفكرة الأساسية التي تدور حولها ورقة الأخ الكاتب.
وقبل المناقشة التفصيلية لما في هذه الورقة من مقدمات ونتائج نرى من الضروري أولا الإشارة في عجالة وإجمال إلى بعض النقاط الأساسية التي تعتبر بمثابة قواعد أو مسلمات أساسية لا يقوم أي نقاش علمي جاد لهذا الموضوع في غيبتها.
نقاط جوهرية يجب التنويه بها: 1- القرآن الكريم والسنة الشريفة كلاهما مصدران أساسيان للتشريع الإسلامي، وما تحرمه السنة فهو محرم قطعيا، وتحريمه ليس في الحقيقة قاصرا على السنة بل هو محرم في القرآن وبالقرآن أيضا، قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (1) ،
__________
(1) سورة النساء الآية 80(18/165)
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (1) ، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (2) ، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (3) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (4) . إذن كافة ما حرم في القرآن أو في السنة سواء كان بنص صريح جزئي من القرآن أو بنص صريح من السنة هو في الحقيقة محرم فيها معا وبها معا، ولا فرق بين هذا وذاك، وليس لهذا درجة تحريم وللثاني درجة أعلى أو أقل.
2 - مهمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - هي تبليغ دين الله وشرعه لمن أرسل إليهم من العباد وتبيينه لهم بيانا واضحا كوضوح الشمس في كبد السماء بل أكثر وضوحا. قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (5) ، {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (6) ، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (7) ، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (8) ، {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} (9) . ومعنى هذا أنه يجب الإذعان والاعتقاد الكامل بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بين للناس كل ما في القرآن من أحكام ومبادئ وكل ما يريده الله تعالى من عباده، ولم يلتحق بالرفيق الأعلى وهناك شيء من الإسلام غامض أو غير مبين، بل تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها. ومن الواضح أن أهمية
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة آل عمران الآية 31
(3) سورة النجم الآية 3
(4) سورة النجم الآية 4
(5) سورة النور الآية 54
(6) سورة النحل الآية 44
(7) سورة إبراهيم الآية 4
(8) سورة العنكبوت الآية 18
(9) سورة الحجر الآية 89(18/166)
هذه القاعدة تجعلها أكبر بكثير من أن تعارض ببعض أقوال منسوبة لهذا الصحابي أو لذاك، وعلينا أن نتحرى جيدا في توثيق ما قد يكون هناك من أقوال منسوبة، ثم تحديد مضمونها بما لا يتعارض مع تلك القاعدة التي لو اهتزت قيد أنملة لانهار الإسلام من أساسه.
3 - من الحقائق الثابتة ثبوتا لا يقبل الشك أن العرب في الجاهلية كانوا يتعاملون بالربا، بل لقد كان إحدى حقائق عصرهم ومعيشتهم واقتصادهم، وأن صور هذا التعامل الربوي لم تكن واحدة بل كانت متعددة سواء من حيث الشكل والصورة أو من حيث الدوافع والأهداف، فمن حيث الصورة والشكل وجدت الزيادة على الدين التي تشترط ويتفق عليها عند عقد الدين، كما وجدت الزيادة التي تحدث عند انتهاء الأجل وعدم المقدرة على السداد، هذه ثابتة وهذه ثابتة، ومن يطلع على كتب التفسير والتاريخ وغيرها يعلم ذلك يقينا. وسوف نعرض لذلك في حينه.
ومن حيث الدوافع والأهداف كان هناك الدين بربا لأغراض الاستهلاك، وكان هناك بكثرة وغالبية الدين بربا لأغراض البيع والتجارة والإنتاج (1) ، ويكفي أن نشير إلى أنه كان مصدرا أساسا من مصادر تمويل رحلتي الشتاء والصيف " تمويل التجارة الخارجية " كما أنه لم يكن قاصرا على ضعف المركز المالي للمدين في مواجهة المركز المالي للدائن بل كثيرا ما كان العكس، تاجر كبير أو قبيلة كبيرة تتاجر فتحصل على التمويل " الدين بربا " من أفراد عديدة فتذهب لتشتري وتبيع وتسدد الدين برباه.
هذا كله ثابت ثبوتا راسخا بمصادر علمية موثقة.
__________
(1) د. محمد فاروق النبهان '' مفهوم الربا في ظل التطورات المعاصرة '' ص80.(18/167)
4 - القرآن الكريم حرم الربا دون أن يخصص ذلك بنوع دون نوع وصورة دون أخرى، وليس هناك نص قراني أو حتى نبوي أن الربا الذي حرمه القرآن هو فقط ربا الجاهلية.
ومعنى ذلك أنه إذا كانت هناك صورة قائمة عند نزول التحريم أو قبله فإنها تحرم، فإذا أحدثت صور أخرى للربا فإنها تحرم هي الأخرى بنص القرآن الكريم، ومعنى ذلك أن كل صور الربا تحرم بالنص حتى ولو لم تظهر إلا بعد آلاف السنين من نزول القرآن؛ لأن القرآن لم ينزل لعصر دون عصر بل نزل لأمة ممتدة عبر الزمن موغلة في الاستقبال، ويخاطب به آخر فرد زمنا في أمة الدعوة تماما كما خوطب به أول فرد فيها. وإذن فلا وجه لمن يقول ولو كان القائل فقيها إن الربا المحرم في القرآن هو ربا الجاهلية فقط، وإلا فسوف يطرد ذلك على كل المحرمات، زنا الجاهلية، كذب الجاهلية، سرقة الجاهلية. . إلخ. يضاف إلى ذلك أنه كما هو معروف فإن آيات الربا في سورة البقرة هي من أواخر آيات النزول. هذه المسلمة لها دلالتها الخطيرة في موضوعنا هذا، فمن المعروف أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد قال وفعل وأقر الكثير والكثير خلال فترة الدعوة الممتدة، ومن ذلك ما يتعلق بالربا، سواء ما كان معروفا لدى الجاهلية أو ما كان يمارس دون أن يعرف بأنه ربا، وعندما باع صحابي تمرا بتمر بزيادة قال الرسول - صلى الله عليه وسلم: «أوه عين الربا (1) » وكررها. من الواضح أن تلك صورة جديدة لم تكن تدخل في صور الربا المعروفة وإلا ما عملها الصحابي أو أن هذه كانت بداية التشريع في موضوع الربا. وسواء كان هذا أو ذاك فإن قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «عين الربا (2) » يفهم منه
__________
(1) صحيح البخاري الوكالة (2312، 2312) ، صحيح مسلم المساقاة (1594، 1594) ، سنن النسائي البيوع (4557) ، مسند أحمد بن حنبل (3/62) .
(2) صحيح البخاري الوكالة (2312) ، صحيح مسلم المساقاة (1594) ، سنن النسائي البيوع (4557) ، مسند أحمد بن حنبل (3/62) .(18/168)
أن جوهر الربا وحقيقته ومعناه واحد والذي يتميز ويختلف هو الصور والأشكال. وهناك احتمالان، إما أن هذا الحديث وغيره مما يدخل في موضوعنا قد قاله الرسول عليه السلام قبل نزول آيات الربا أو بعده. فإن كانت الآيات قد نزلت سلفا، فتكون تلك الأحاديث مبينة وشارحة لمضمون الربا الذي ورد في القرآن الكريم، بالإضافة إلى ما هو معهود أصلا لديهم من صوره التي كانت تمارس في الجاهلية. وإن كانت الآيات قد نزلت لاحقا فمعنى ذلك أن الربا في القرآن الذي ورد ودون تخصيص أو تغيير يشمل كل صور الربا، سواء منها ما كان معروفا في الجاهلية أو ما بينته السنة الشريفة، وكذلك كل صورة تجد له إلى قيام الساعة حيث بقاء الأمة والدعوة.
5 - من القواعد الهامة أن العبرة بالمعاني والمقاصد يقول الإمام مالك: " إنما تعبدنا بالمعاني والمقاصد " أي أن الاسم أو الصورة أو الشكل أو الأسلوب كل ذلك لا أثر له طالما أن المعنى والمقصود والمضمون واحد. وبالطبع فذلك واضح تماما من القرآن الكريم " قصة أصحاب السبت " وكذلك من السنة المطهرة، فإذا كان الشائع هو كون المدين شخصا فأصبح مؤسسة أو شركة أو حتى دولة فإن الدين هو الدين، وسواء سميت رشوة أو عمولة أو هدية أو إكرامية أو أتعاب. . إلخ. فإن الحكم واحد طالما أن المضمون والمقصود والمعنى متحد، والأمثلة في كل باب أكثر من أن تحصى.
6 - لا أحد ينكر أن المصلحة مقصود التشريع الإسلامي. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (1) ، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ} (2)
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 107
(2) سورة الإسراء الآية 82(18/169)
لكن من الذي يدرك جوهر المصلحة وحقيقتها على مر الأيام إنه الخالق عز وجل، وإذن ففي كل ما في الإسلام من أحكام بالحرمة أو الإباحة أو الوجوب إلخ نجد المصلحة ولا مصلحة دون ذلك، بمعنى أن ما ينص عليه الإسلام بالقرآن أو بالسنة فهو المصلحة، وإن بدا للبعض غير ذلك. ويترتب على ذلك أنه مع النص الصريح الثابت لا كلام عن مصلحة تغايره على الإطلاق، وإنما يرد الكلام عنها عند عدم وجود نص، عند ذلك نتلمس المصلحة ملتزمين في ذلك بقول الثقاة من العلماء الذين يخشون الله ولا يخشون أحدا إلا الله. في ضوء تلك الحقيقة الكلية ينبغي أن ندرس ونفهم ما قاله العلماء في باب المصلحة.
هذه بعض الأساسيات التي كان لا بد لنا من التمهيد بها قبل الدخول في المناقشة التفصيلية للورقة التي قدمها أخونا الدكتور إبراهيم. وآن لنا هنا أن نجري تلك المناقشة، فنقول وبالله التوفيق: في بداية كلامه يقول الكاتب " يمكن القول إنه لن تكون هناك قوة إسلامية بدون قوة اقتصادية، ولن تكون هناك قوة اقتصادية بدون بنوك، ولن تكون هناك بنوك بلا فوائد " واضح تماما أنه يريد أن يقول إنه لن تكون هناك قوة إسلامية بلا فوائد. وهذا خطأ بالاعتبار الشرعي والاعتبار التاريخي، أما الاعتبار الشرعي فسنفصل القول فيه من خلال هذه الورقة، أما الاعتبار التاريخي فمن الثابت والمعلوم بالضرورة أن القوة الإسلامية وجدت كأحسن ما تكون دون قوة اقتصادية، ثم وجدت القوة الإسلامية ومعها القوة الاقتصادية دون بنوك وفوائد. كما أن القوة الإسلامية والقوة الاقتصادية للمسلمين قد ضعفتا كأقوى ما يكون(18/170)
الضعف بوجود تلك المصارف بفوائدها، وهذه قضية لا تحتاج إلى نظر بعيد. كما أنه في بداية حديثه قد صرح بأن مجال الدراسة هو القرض بفائدة، وقد تساءل بتعجب وإنكار: لماذا يعتبر ذلك محرما في نظر الفقهاء؟ وهذه نقطة لها أهميتها حيث إنه يحاول جاهدا طوال بحثه أن يخرج الأعمال المصرفية " الإيداع " من حيز القروض ويدخلها في حيز التجارة. في عرضه لمفهوم الربا في القرآن الكريم يشير إلى ما هنالك من ربط بين التحذير من الربا والصدقة على المدين، مع أن الربط بالمعنى الذي يحاول الكاتب أن يبرزه ليستخدمه مقدمة يصل منها إلى ما يريد من نتائج هذا الربط غير وارد، وعلى سبيل المثال لقد ذكر الآية الكريمة: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} (1) ، والآية الكريمة {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (2) لا نرى مثل هذا التصور الذي يتصوره الكاتب ليصل إلى أن المصرف ليس محلا للصدقة، ومن ثم فمعاملته بعيدة تماما عن هذا النطاق الربوي. كل ما هنالك أن الآيتين الكريمتين تبرزان سلوكين، سلوك الربا والاستغلال والظلم والتقاطع، وسلوك التراحم والتعاون والتكامل، كما تبين عاقبة كل من هذين السلوكين.
__________
(1) سورة الروم الآية 39
(2) سورة البقرة الآية 276(18/171)
وبعد ذكر الكاتب لبعض آيات الربا بين فهمه لها وما رآه من أسباب لتحريم الربا المذكور منها وقد ذكر لذلك خمسة أسباب، نناقشها واحدا تلو الآخر.(18/171)
السبب الأول: هو أن المدين محتاج للصدقة عملا بظروف الدين، ولذلك فهو مظلوم بأخذ الربا منه. أما أن المدين محتاج للصدقة فهذا لا يسلم به على إطلاقه، وليس كل مدين يحتاج للصدقة، وعند الإعسار فإنه يحتاج للصدقة باعتبار الغرم كما هو مفصل في بند الغارمين، لكن ليس هناك علاقة على الإطلاق بين حرمة الربا وبين كون مصير المدين الإعسار واحتياجه للصدقة فيما بعد. أما أن المدين مظلوم بأخذ الربا منه فهذا حق، ومن الحق الذي لا يقل عنه أيضا أنه ظالم بتعامله الربوي وإعطائه الربا لغيره، فالظلم قد وقع من الطرفين بل من كل أطراف العملية كما سنوضح ذلك فيما بعد.
السبب الثاني: هو أن الدائن ينفرد وحده بالمنفعة من الربا ويستغل أبشع استغلال ظروف ذلك المحتاج للصدقة، ولذلك فهو ظالم استحق الوعد الكبير إن لم يذر الربا مع مدينه. أما قوله بانفراد الدائن بالمنفعة فهذا غير مسلم به فالمدين يستفيد من الدين وينتفع به انتفاعا مؤكدا حتى ولو كان الدين لأغراض الاستهلاك ناهيك عن أغراض الإنتاج، يضاف إلى ذلك أن هذا غير مؤثر في الحكم، والتمويل الربوي للتجارة في الجاهلية لم يكن هذا الاستغلال ظاهرا فيه كما يتصور الكاتب ومع ذلك حرم، ولو كان أحد الطرفين مستغلا ومظلوما ما كان آثما وما استحق العذاب الشديد شأنه شأن الطرف الثاني بنص الحديث الشريف «لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال هم في الإثم سواء (1) » إذن العملية كلها ملوثة وذميمة وكل من يشارك فيها ولو لم يكن أحد ركني العقد فهو آثم.
السبب الثالث: أن الربا تنمية من جانب واحد، بمعنى أن العائد فيها لطرف والغرم أو التكلفة على الطرف المقابل، فهو غنم من جانب وغرم
__________
(1) سنن النسائي الزينة (5102) .(18/172)
من جانب آخر. ولنفرض أن هذا صحيح في بعض الصور إلا أن ذلك لا يخدم الكاتب فيما استهدفه.
السبب الرابع: قدم تفسيرا لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} (1) ، والكاتب ليس من رجال التفسير من جهة حيث للتفسير رجاله المستكملون لشروطه، وما قدمه من تفسير هو مجرد رأي محتمل. وما رأيه فيمن ذهب من المفسرين إلى أن الأكل في الآية معناه التعامل، ويكون المعني الذين يتعاملون بالربا وهو فوق هذا وذاك لا يعتبر سببا من أسباب التحريم، فهل يعقل أن يكون سبب تحريم الربا أن آكله يتخبط كما يتخبط المجنون!!!
السبب الخامس: هو أن الربا زيادة طارئة في الدين تفرض على المدين المحتاج للصدقة وتشترط عليه بعد حلول أجل الدين وعجز المدين عن الوفاء، وتلك هي زيادة بعقد جديد مستقل عن العقد الأول، ولا يقابلها في هذا العقد الجديد غير تأجيل الاستيفاء من المدين أي " الإنساء " وهو ربا النسيئة القطعي من غير أي نفع مادي للمدين وهو أكل أموال الناس بالباطل، ولذا كان هذا ظلما صريحا. . إلخ. جوهر هذا السبب يدور حول فكرة أن ربا الجاهلية المحرم قطعيا كان عبارة عن زيادة طارئة مشترطة على المدين نظير تأجيل استيفاء الدين، وبالطبع فإن المعاملة المصرفية الحالية ليست هكذا، فهي زيادة في صلب العقد الأول، ومن ثم فإنها لا تدخل في الحرمة لهذا الاختلاف. هذه هي أهم فكرة يدور حولها بحث الكاتب كله، وهي عند التحقيق أوهن من بيت العنكبوت. أما دعواه بأن ربا الجاهلية كان فحسب زيادة طارئة، فهذا خطأ باعتراف
__________
(1) سورة البقرة الآية 275(18/173)
المفسرين والمؤرخين وغيرهم من علماء الإسلام، والكاتب بنفسه قد سجل ذلك مما نقله عن ابن حجر وعن الرازي، فالصورة الثانية وهي الزيادة الأصلية كانت قائمة وسائدة حتى أن الجصاص في " أحكام القرآن " ذهب إلى أنه لم يكن موجودا سواها.
هذه هي الأسباب الخمسة التي ذهب الكاتب إلى أنها كانت وراء تحريم الربا في القرآن، وقد رأينا أنها كلها تنهار واحدا تلو الآخر، ثم إنه ما كان أحرى بالكاتب وهو يتصدى لهذا الموضوع أن يرجع إلى مراجع التفسير والفقه وأصول الفقه والحديث؛ ليتأكد على الأقل من معنى السبب وعلاقته بالحكم الشرعي.
خلاصة القول هنا أن الكاتب قد انطلق من منطلق خاطئ هو اعتباره الربا هو فقط الزيادة الطارئة بعد حلول أجل الدين، وأن المدين هو دائما محتاج للصدقة مظلوم مستغل، وكل ذلك غير صحيح وبفرض صحة بعضه فلا أثر له في الحكم، وهب أن المدين غني جدا هل يجوز إقراضه بفائدة؟
انتقل الكاتب بعد ذلك إلى بيان مفهوم الربا في السنة الشريفة، وجاء كلامه عنها وفيها قاصرا إلى غاية الغاية. ولا أدري تفسيرا لذلك على وجه التحديد، وهل هو عدم الدراية الكافية بالسنة؟ أم هو موقف متعمد حيث إن المزيد من الدراسة والبدل يجلب على الكاتب مالا يود الوصول إليه؟ يبدأ الكاتب بقوله لم يرد تعيين الأموال الربوية في القرآن الكريم، وإنما ورد تعيينها في السنة. ومبدئيا فإذا كان قد ورد تعيينها في الحديث فما الذي يبقى للكاتب أو لغيره؟ هل نحذف بعض هذه الأموال؟ وهل ما لدينا من أموال مغاير لتلك الأموال المعينة في الحديث؟(18/174)
يضاف إلى ذلك أن كلامه غير مسلم به على علاته، فإن الحديث الشريف الذي حدد أموالا معينة قد حددها على ورود ربا البيع فيها كما صرحت بعض روايات الحديث، ولذا فقد اشتهر على ألسنة الفقهاء أن هناك ربا بيوع وهناك ربا ديون، وإذا كان ربا البيوع بنوعيه إنما يرد في أموال معينة، فإن ربا الديون ومنه ربا القروض يرد في كل مال سواء كان من تلك الأموال التي وردت في الحديث أو من غيرها. وفي ذلك يقول ابن رشد: " واتفق العلماء على أن الربا يوجد في شيئين؛ في البيع وفيما تقرر في الذمة من بيع أو سلف أو غير ذلك " (1) ، وقال ابن حزم: " والربا لا يجوز - أي لا يقع - في البيع والسلم إلا في ستة أشياء فقط. . . وهو في القرض في كل شيء " (2) . وقال الجصاص: " والربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به " (3) وقال الرازي: " أما ربا النسيئة فهو الأمر الذي كان مشهورا متعارفا في الجاهلية، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدرا معينا، ويكون رأس المال باقيا ثم إذا حل الدين طالبوا المديون برأس المال فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق وفي الأجل " (4) وقال القرطبي: " وأجمع المسلمون نقلا عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - على أن اشتراط الزيادة في السلف ربا ولو كان قبضة من علف كما قال ابن مسعود أو حبة واحدة " (5) .
__________
(1) بداية المجتهد 2 \ 140 دار الفكر.
(2) المحلى 9 \ 503 مكتبة الجمهورية.
(3) أحكام القرآن 1 \ 464 دار الكتاب العربي.
(4) التفسير الكبير 7 \ 85 دار الكتب العلمية.
(5) الجامع لأحكام القرآن 3 \ 241 دار الكتاب العربي.(18/175)
أعتقد أنه من الواضح البين أن هناك ربا ديون أو قروض وهناك ربا بيوع، وأن الأول لا يختص بمال دون مال، ونحب أن نذكر أخانا الكاتب هنا بتساؤله الذي صدر به بحثه بتعجب وإنكار لم حرمت الفائدة على القرض في نظر الفقهاء؟ كما أحب أن أذكره بنص عبارة الرازي وعبارة الجصاص حتى يراجع نفسه في ادعائه بأن ربا الجاهلية كان فقط زيادة طارئة ولم يكن هناك تراض بين الطرفين، وكل ذلك مغاير للمعاملة المصرفية فهي زيادة أصلية ونتجت عن تراض بين الطرفين.
هذا هو كل ما ذكره عن الربا في السنة الشريفة ثم سرعان ما ركز على وجود تيارين متعارضين في أمر الربا حتى في الصدر الإسلامي الأول، مبينا أنه كان هناك المتشددون فيه وهناك المتلطفون معه، ثم ينقل كلمة منسوبة إلى سيدنا عمر - رضي الله عنه - دون أن يجري حولها أية دراسة من حيث التوثيق والمضمون، وما إذا كانت قد وردت فعلا عن سيدنا عمر وأقوال الثقاة من العلماء فيها، بل إنه لم يشر مجرد إشارة إلى مصادره في ذلك، وقد سبق أن علقنا على تلك المسألة وغيرها في صدر الورقة. ثم يقول الكاتب: " إن هناك تيارا يتلطف في الربا ويحصره في ربا الجاهلية الذي نزل فيه القرآن، لكن ما لبث هذا التيار أن جرفه التيار المعارض " ونحب أن نقول للأخ الكاتب إن المسألة لا تدخل في باب العواطف والمشاعر حتى يكون فيها تلطف وقسوة وتشدد بل هي(18/176)
أحكام شرعية وأمانة الالتزام الكامل بها، كما أنها ليست معركة ولا حربا حتى يجرف تيار تيارا، إنما هو الإقناع والاقتناع.(18/177)
ثم انتقل الكاتب بعد ذلك سريعا إلى القول بوجود ثلاثة اتجاهات متدرجة في التضييق من منطقة الربا هي: 1 - أقلها تضييقا لنطاق الربا هو ما ذهب إليه ابن رشد وابن القيم من التفرقة بين الربا الجلي ربا النسيئة والربا الخفي ربا الفضل. وقبل أن نناقش الكاتب في مقولته هذه نناقشه أولا في نسبة هذه المقولة إلى ابن رشد، وحتى يكون النقاش أكثر فعالية نضع نص عبارة ابن رشد والتي نقلها الكاتب في ورقته. يقول ابن رشد: " واتفق العلماء على أن الربا يوجد في شيئين: في البيع وفيما تقرر في الذمة من بيع أو سلف أو غير ذلك، فأما الذي تقرر في الذمة فهو صنفان، صنف متفق عليه وهو ربا الجاهلية، والثاني ضع وتعجل وهو مختلف فيه " (1) .
وسؤالنا للأخ الكاتب هو: في أي فقرة من تلك العبارة فرق فيها ابن رشد بين ربا الفضل وربا النسيئة؟ وأين هو الجلي والخفي في كلام ابن رشد؟ ربما يكون الأخ الكاتب قد ظن أن قولة ابن رشد " والثاني هو ضع وتعجل " يقصد بها ربا الفضل، وهذا بالطبع لا يحتاج إلى مناقشة هنا وبيان، بل يحتاج من الكاتب الرجوع إلى كتب الفقه للتعرف على مضمون تلك الجملة " ضع وتعجل " وموقف العلماء منها، ولعل القارئ يلاحظ أن ابن رشد ينقل اتفاق العلماء على ربا البيوع دون تفصيل، أما الذي فصل فيه فهو ربا الديون.
__________
(1) ابن رشد '' بداية المجتهد '' جـ 2 ص 140.(18/177)
ثم أخذ الكاتب بعد ذلك يتحدث عن ابن القيم ورأيه، ومبدئيا فإن ابن القيم واحد من آلاف العلماء يؤخذ منه ويرد، ولا يعتبر رأيه حجة إلا باستناده إلى القواعد والمبادئ الإسلامية، وكيف يؤخذ كلامه هنا على علاته في ضوء الحديث الشريف الذي قاله لمن اشترى تمرا بتمر حالا متفاضلا: «أوه عين الربا (1) » ومن الواضح أن الحلول هنا بين جلي وليس فيه شبهة ولا ذريعة للتأجيل، ومع ذلك بين المصطفى صلى الله عليه وسلم «أنه عين الربا (2) » ، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن ابن القيم رحمه الله قد حاول أن يجد تفسيرا لحرمة ربا الفضل بالمقارنة بربا النسيئة، فقال إنه حرم لأنه قد يفضي إلى ربا النسيئة (3) ، وهب أن هذا تفسير مقبول، هل يؤدي ذلك إلى اختلاف في الحرمة؟ لا، وهذا ما نص عليه ابن القيم، يضاف إلى ذلك وربما تكون أهم نقطة من حيث موضوعنا وهي: ما علاقة هذا بموضوع الورقة التي قدمها الكاتب؟ وهب أن في ربا الفضل من حيث نطاقه كلاما وكلاما - مع أن الجميع متفق على أن هناك ربا فضل وأنه محرم في الأصناف الستة بنص الحديث، ولا اجتهاد في ذلك، لكن ما علاقة هذا بالمعاملة المصرفية الحالية!!! فهل هي من باب ربا الفضل أم من باب ربا الدين؟ العجيب أن الكاتب في بعض عبارته يشير إلى أنها من ربا الفضل بينما الزيادة الطارئة هو فقط من ربا الدين استنادا إلى كلام عزاه للشيخ رشيد رضا، لكن ذلك مرفوض منه ومن المرحوم الشيخ رشيد إن كان قد قال ذلك. فأين البيع هنا حتى يكون ربا فضل، وما هو الفرق بين حقيقة وطبيعة
__________
(1) صحيح البخاري الوكالة (2312، 2312) ، صحيح مسلم المساقاة (1594، 1594) ، سنن النسائي البيوع (4557) ، مسند أحمد بن حنبل (3/62) .
(2) صحيح البخاري الوكالة (2312) ، صحيح مسلم المساقاة (1594) .
(3) للرجوع إلى نص كلام ابن القيم انظر إعلام الموقعين جـ 2 ص 154 وما بعدها.(18/178)
الزيادتين؛ الأصلية والطارئة؟ لا فرق ولا خلاف اللهم إلا في زعم الكاتب فقط، فقد زعم أن الزيادة الطارئة هي في نظير التأجيل ليس إلا فهي نسيئة، أما الزيادة الأصلية فليست كذلك والسؤال هو إذا لم تكن نظير التأجيل أو على الأقل لم يكن التأجيل عنصرا بارزا فيها ففي نظير أي شيء تكون؟ وهل نسي الكاتب أنه في الكثير الغالب من عباراته يسلم بأننا في مجال القرض بفائدة؟ وبعد ذلك يخلص الكاتب ما ترتبه التفرقة بين ربا النسيئة وربا الفضل من نتائج أهمها أن الحرمة في ربا النسيئة أشد من الحرمة في ربا الفضل، ومن ثم لا يجوز ربا النسيئة إلا عند الضرورة بينما يجوز ربا الفضل عند الحاجة، وذلك عندما لا يمكن اتخاذه ذريعة لربا النسيئة فينتفي سبب التحريم. سبحان الله، من الذي له سلطة المفاضلة بين المحرمات وعمل سلم لها؟
ومن الذي له سلطة إباحة المحرم وتحديد الضرورة وتحديد الحاجة؟ وبفرض التسليم بذلك فإن الكاتب يناقض نفسه ويناقض كلام ابن القيم الذي اعتمد عليه، فهو يقول عند الحاجة يباح ربا الفضل عند ما لا يمكن أن يتخذ ذريعة لربا النسيئة، فإذا ما جئنا لنطبق ذلك على المعاملة المصرفية " الإيداع " وبفرض أنها من باب ربا الفضل، ألم تؤد هذه المعاملة إلى ربا النسيئة؟ وأليس هناك تأجيل صريح واضح؟ يا أخي الكريم ما قاله ابن القيم هو أن 5 مقابل 6 حالا حرم حتى لا يكون الحلول فيه ظاهريا فقط، والحقيقة هو التأجيل أي تأجيل الستة، وما يحدث في المعاملة المصرفية أن المودع لا يأخذ مثل ماله مع إضافة الفائدة حالا بل مؤجلا، وهذا أمر بدهي: أليس هذا هو النسيئة بعينه؟ وهو الذي خشي ابن القيم من الوصول إليه خفية فإذا بنا نصل إليه(18/179)
مباشرة وعلانية وهذا عن الاتجاه الأول كما عرضه الكاتب، فهل فيه ما يؤيد وجهة نظره من قريب أو بعيد؟(18/180)
2 - الاتجاه الثاني: هو الذي يميز بين ربا القرآن وربا السنة. وقد وصف ربا القرآن بالربا الجلي وربا السنة بالربا الخفي، وقد بين أن هذا الاتجاه يقسم الربا ثلاثة أنواع هي: أ- ربا الجاهلية: وهو الربا الذي نزل فيه القرآن الكريم، وحقيقته كما ذكر الكاتب أن يقول الدائن للمدين عند حلول الأجل إما أن تقضي وإما أن تربي.
ب- ربا النسيئة الوارد في الحديث الشريف. وقد قال فيه الكاتب إنه أوسع كثيرا في مداه من ربا الجاهلية، بل ويختلف عنه اختلافا بينا في كثير من الصور.
جـ- ربا الفضل الوارد في الحديث وهو بيع المكيل أو الموزون بجنسه متفاضلا أو بيع الطعام أو الثمن بجنسه متفاضلا.
هذا كل ما قاله الأخ الكريم عن الاتجاه الثاني. والحقيقة أن الكاتب هنا قد وضع نفسه في موضع لا يحسد عليه. فهل ما ذكره هنا يعتبر اتجاها ذهب إليه بعض العلماء؟ أم أنه تفصيل من العلماء كلهم لصور وأنواع الربا؟ وهل هناك فقيه واحد لا يقول بتلك الأنواع للربا؟ إنها عملية تفصيل وتميز بين الأنواع المختلفة للربا، وليس لهذا التفصيل أي مدخل من قريب أو بعيد في الحل والحرمة فكلها محرمة. فكيف يقال عن ذلك إن هذا هو اتجاه من الاتجاهات التي تضيق من نطاق الربا، فأين هو التضييق والتوسيع فيما ذكره من هذا الاتجاه؟ وبالطبع فإن كلامه عن النوع الأول هو غير صحيح، وسبق أن فندناه أما النوع الثاني فتارة(18/180)
يقول عنه هو أوسع كثيرا من ربا الجاهلية، وتارة يقول إنه يختلف عنه اختلافا بينا. ولا يخفى ما في ذلك من التضارب فالتباين غير العموم والشمول. ثم إن قوله عن الثاني هو أوسع بكثير عن الأول غير مسلم به، فهذا في بيع وهذا في دين أو قرض، وهذا أصل بذاته وذاك أصل بذاته. ومع ذلك فالكل حرم بنصوص إسلامية لا فرق بين هذا وذاك.
ونحب أن نعلق بكلمة أخيرة بمناسبة تركيز الكاتب على وصف بعض الأنواع بالجلي وبعضها بالخفي، والذي نحب أن يكون واضحا وجليا في ذهن القارئ أن مقصود من قال بذلك من العلماء لا يحمل على الإطلاق تفرقة في الحرمة أو في درجتها، فالربا الخفي لا يقل حرمة عن الربا الجلي، وليس كل خفي أقل ضررا وخطورة من الجلي.(18/181)
3 - الاتجاه الثالث: يقول عنه الكاتب هو الذي لا يحرم إلا ربا الجاهلية الوارد في القرآن الكريم وحده، ويقول إنه على رأس هذا الاتجاه ابن عباس ويستدل بحديث «لا ربا إلا في النسيئة (1) » فأصحاب هذا الاتجاه لا يحرمون ربا الفضل بل فقط ربا النسيئة. ونقاشنا للكاتب يدور حول تلك النقاط. فمن جهة، هذا - إن صدق - فهم لبعض العلماء يعارضه فهم الغالبية. مع ملاحظة أن الكاتب في صدر حديثه يقول عن هذا التيار إن التيار المتشدد قد جرفه، بمعنى أنه لم يبق هناك إلا تيار واحد، ثم يعود فيقول إن ابن عباس ظل على موقفه هذا حتى الوفاة. وهنا مفارقة، والعجيب أن الكاتب يرجع في قوله هذا عن ابن عباس إلى غير مرجع فهو يرجع إلى مجلة " المسلمون " وهل تلك المجلة - مع
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي البيوع (4580) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (5/209) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .(18/181)
احترامنا لها - تعد مصدرا لمثل تلك المعلومة الخطيرة؟ كنا نتوقع من الكاتب أن يتحقق لنا من ذلك وينقل لنا بأمانة ودقة ما قاله العلماء الثقاة في الحديث المذكور وفي موقف ابن عباس، لكن الكاتب لم يفعل ذلك ولا شيئا منه، وفي الغالب خشية أن يوصله ذلك إلى غير ما يريد الوصول إليه. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فهب جدلا أن ما قاله هنا صحيح فما وجه تدعيم ذلك لوجهة نظر الكاتب؟ ليس له وجه ولو خافتا، فهذا في مجال آخر ونحن في مجال آخر هناك التفاضل يدا بيد، وهو ما عبر عنه السبكي بـ " النقد " وهنا التأخير والتأجيل، فأين هذا من ذاك؟ ومن جهة أخرى فإن مما يدلنا على أن نسبة هذا الكلام لابن عباس وبقاءه عليه فيها الكثير من النظر، إنه من غير المتصور أن يبيع شخص ذهبا بذهب من نفس النوع والجودة حالا متفاضلا، هذا غير متصور، والمتصور إحدى اثنتين، إما أن أحدهما ردئ أو أن أحدهما مؤجلا حتى يكون للتفاضل وجه يتصور من خلاله، أما التأجيل فلا خلاف بين ابن عباس أو غيره في حرمته، وأما الرداءة والجودة فهي الصورة الوحيدة التي يمكن تصورها فيما لو ثبت ذلك عن ابن عباس. وعندئذ فهي خارجة عن مجالنا لأنها حالة من جهة ومغايرة صفة من جهة أخرى.(18/182)
ثم خلص الكاتب من ذكر تلك الاتجاهات إلى ما أسماه حقيقة لا تحتاج إلى دليل وهي: ما ملخصه أن الربا المحرم هو الذي نزل فيه القرآن الكريم وهو ربا الجاهلية وخاصيته - كما يقول - هو الزيادة عند حلول الأجل نظير تمديد الأجل، وهو الربا الذي ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع قال: «ألا وإن ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا عمي العباس بن عبد المطلب (1) » ، أما ربا الفضل فهو محرم أيضا، لكن تحريم وسائل وما حرم سدا للذريعة يباح للمصلحة الراجحة. ثم أضاف إلى ذلك معلومة أخرى وهي أن الربا المحرم قطعيا هو الذي يتخذ صورة التضعيف. ثم ينقل سببا من أسباب نزول الآية الكريمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (2) مشيرا إلى أن الجاهلية كانوا يضاعفون الدين بمضاعفة الأجل. هذا ملخص للحقيقة التي لا تحتاج إلى دليل. والغريب أن الكاتب ينقل بعض الفقرات ويترك بعضها، وكنا نود منه طالما أنه تعرض لهذه المسألة أن يعرض لنا أقوال العلماء والمفسرين في معنى هذه الآية وما وراء هذا القيد أضعافا مضاعفة ومدى تدخله في الحل والحرمة، وهل لو كان الربا غير مضاعف كان حلالا. وهل التضعيف يرجع للدين أم يرجع للربا كما هو واضح من الآية. وهل يخفى على القارئ نوعية الفائدة المصرفية وهل هي بسيطة أم مركبة؟ وهل يخفى عليه ما هنالك من ديون تضاعفت أضعاف أضعاف بفعل الفائدة المصرفية؟
إن هذا الوصف ما ذكر لتقييد الحرمة به بل هو لشناعة وبشاعة ما يؤول إليه التعامل الربوي من نتائج، لا لأن ما عدا تلك الصورة.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1785) ، صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن الترمذي الحج (856) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، موطأ مالك الحج (836) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .
(2) سورة آل عمران الآية 130(18/183)
- بفرض حدوثها - غير محرم أو أقل حرمة، إن القطرة من الخمر لا تقل في حرمتها عن الدن منها. والأمثلة في ذلك كثيرة لا تحتاج إلى بيان.
ولا أدري ماذا وراء قول الكاتب في حقيقته هذه " وهو الربا الذي ذكره الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع "، وهل يفهم من ذلك أن هذا هو الحرام وما عداه من صور الربا فهي غير ذلك؟ وهل يعني وضع ربا الجاهلية أن ربا غير الجاهلية غير موضوع!!!
مع أنني لست من المختصين في الحديث ولا في أصول الفقه إلا أنه في حدود فهمي للحديث الشريف - وأرجو أن يصحح لي هذا الفهم أهل الاختصاص - أن آيات الربا نزلت متأخرة وإلى نزولها كان هناك آثار باقية من عمليات ربوية تمت في الجاهلية، فعندما نزلت آيات الربا ثم جاءت حجة الوداع في هذا الحشد الهائل من كل صوب وحدب بين الرسول الكريم أن كل الآثار المترتبة والمتبقية من ربا الجاهلية موضوعة بمعنى أنه لا حق لدائن قبل مدين إلا برأس المال فقط، ومن باب القدوة والأسوة بدأ بالديون التي لعمه العباس على الغير. ماذا في ذلك؟ وما علاقته بحرمة بقية أنواع الربا التي بينتها السنة، وبالطبع فإنها تلاشت في المجتمع الإسلامي ولم يعد لها بقاء أو أثر حتى يوضع، بل عولجت معالجة كاملة قاطعة في حينها. أما ربا الجاهلية فربما كان يظن أنه طالما تم ذلك في الجاهلية، فيكون من حق الدائنين الحصول عليها كاملة فبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن ربا الجاهلية موضوع.(18/184)
وفي فقرته الثالثة تناول الكاتب ما أسماه بموقف أهل العلم وكبار رجال الفتوى في الإسلام من المصارف. ومن استعراضه غير المدون في ورقته لمجمل كلامهم تبين له:(18/184)
1 - أن الربا محرم تحريما قطعيا لا شك فيه.
2 - أن الربا المجمع على تحريمه بلا شك هو ربا النسيئة الذي كان في الجاهلية، أم ربا الفضل فقد حرم سدا للذريعة، وما كان كذلك فيجوز للمصلحة.
3 - أن الحكمة في تحريم الربا هي إزالة الظلم بنص القرآن الكريم وعدم استغلال الغني حاجة الفقير، وبعد أن يستعرض بعض كلام للشيخ رشيد رضا يضيف قائلا: " إن المصارف هي مؤسسات تجارية حديثة لم تكن معروفة في عهد نزول أحكام الربا في الشريعة الإسلامية، ولذلك تخضع المصارف لأحكام الشريعة على طريق القياس، فإذا كان الشبه كاملا من غير أي فرق بينهما وبين ما قد حرمته الشريعة من الربا القطعي فهي محرمة أيضا قطعا أما إذا اختلفت المصارف عن الربا القطعي ولو في بعض الوجوه فليست محرمة تحريما قطعيا. وإنما يجب النظر فيها على أساس مصالح الناس في معاشهم فإن كان معاشهم لا يتم إلا بها فهي جائزة من غير ريب. . إلخ ".
ولا ندري ما هو سر تركيز الكاتب وترديده لعبارة محرم تحريما قطعيا لا شك فيه. وهل هناك محرم غير قطعي؟ وهل هناك شك في أي تحريم ثبت كونه حراما؟ ونحن نتفق معه في أن من جوانب حكمة تحريم الربا إزالة الظلم، لكن ما هو هذا الظلم؟ وهل هو ظلم طرف أطرف في العملية؟ وما هو الطرف الظالم والطرف المظلوم؟ أم أن كلا منهما ظالم ومظلوم؟ أم أنهما معا ظالمان لغيرهما من شتى أفراد المجتمع الحاضرين والمستقبلين؟ وماذا عن ترديده وإصراره على قوله أهل العلم وكبار رجال الفتوى؟ وهل من تحدث عنهم هم كبار رجال الفتوى؟ أم أنهم نفر من رجال الفتوى؟ يعارض رأيهم جمهور إن لم يكن سائر من عداهم.(18/185)
وفي فقرته الرابعة يتناول الكاتب طبيعة أعمال المصارف. ويقول: إنه بعد دراسة مفهوم الربا في القرآن والسنة وموقف أهل العلم من المصارف ندرس طبيعة أعمال المصارف لنرى هل تقع ضمن الأعمال الربوية التي ورد تحريمها في القرآن تحريما قطعيا لا شك فيه أم أنها تختلف عنها تمام الاختلاف، وبالتالي ينظر إليها ضمن حدود القواعد العامة للشريعة، وبالتالي عدم الحجر على العباد فيما لا بد منه ويخلص إلى هذه النتيجة: إن طبيعة أعمال المصارف تختلف عن الربا المحرم في القرآن على النحو التالي: أولا: لأن الدائن في المعاملات المصرفية هو دائما من المالكين لرأس المال غير أنه يملك سيولة صغيرة لا يستطيع استثماره، أما المدين فهو دائما من كبار المالكين لرأس المال غير أنه لا يملك أية سيولة لتسيير أعماله الكبرى، أي أن الذي يحتاج للآخر في تلك المعاملة هم دائما الأغنياء الكبار الذين يمدون أيديهم لوفر المالكين الصغار دون العكس، ويترتب على ذلك أن هؤلاء المدينين لا تحل لهم الصدقة فيما لو طلبنا إلى هؤلاء أن يتوبوا ويتصدقوا برؤوس أموالهم على المدينين الأغنياء، عملا بقوله تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (1) ، وهذا هو أول ما يميز أعمال المصارف عن الربا المحرم في القرآن الكريم؛ حيث إن المدين يحتاج للصدقة عكس المدين في المعاملات المصرفية. هذا ما قاله الأخ الكاتب تعمدت نقله نقلا شبه حرفي حتى تكون مناقشته حضوريا.
وأعتقد أن ما يريد أن يقوله الكاتب في هذه الفقرة من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى توضيح، لكن ترد عليه الأمور التالية دائما ما يركز على أنه في تلك المعاملة الدائن دائما أقل غنى من المدين، لكن
__________
(1) سورة البقرة الآية 280(18/186)
كون ذلك دائما فهذا غير صحيح خاصة إذا ما علمنا حقيقة المصارف وأنها في غالبيتها شركات مساهمة قد لا تكون ملكية الفرد فيها ذات شأن، بالإضافة إلى أن هناك من أصحاب الإيداعات من هم من أصحاب الملايين بل والبلايين. (2) حسنا أن صرح الكاتب بأن العلاقة المصرفية هي علاقة دائنية ومديونية أي أننا في مجال " الدين " وحيث إن الدين إما من بيع أو إجارة أو قرض إلخ، وحيث إن المصرف لم يشتر ولم يستأجر شيئا من الدائن فيبقى أن يكون مصدر الدين هو القرض، وعلى أية حال فنحن في مجال الدين، وقد أجمع العلماء على أن الزيادة المشترطة في عقد الدين هي من الربا القطعي التحريم " بتعبير الكاتب " لأنها صورة من صور ربا الجاهلية. (3) علينا أن نلاحظ أن المدين إذا أعسر فقد صار مركزه المالي سيئا جدا، بحيث لم يعد يستطيع سداد ما عليه بغض النظر عما كان عليه في الماضي، وفي تلك الحالة تجوز عليه الصدقة من الدائن أو غيره، وهب أن مصرفا قد أفلس وهب أن أعماله مشروعة فما المانع في تلك الحالة من التصدق على مالكيه. (4) يضاف إلى ذلك أنه كما هو معروف في العقود، فإن لكل عقد أركانه وطالما استوفى العقد تلك الأركان دخل في نطاق العنوان المتعارف عليه، فهناك دائن وهناك مدين وهناك دين إذن عقد الدين استكمل مقدماته، ولا أثر بعد ذلك فيما لو كان الدائن أغنى أو أقل غنى من المدين، وهكذا نصل إلى أنه ليس كل مدين محتاجا للصدقة، وكل مدين معسر يحتاج إلى ذلك، مصرفا كان أو غيره.
ثانيا: لأن الدائن في المعاملة المصرفية لا يختص وحده بالمنفعة دون المدين عكس ما حذر منه القرآن الكريم، كما أنه لا يستغل محتاجا للصدقة، بل يشترك مع الأغنياء في المنفعة بموجب عقد رضائي تجاري لا استغلال فيه.(18/187)
ومبدئيا نقول إن هذا الكلام كله بفرض التسليم بصحته لا أثر له في الحكم على الإطلاق، بل المعول عليه هو وقوع زيادة مشترطة منصوص عليها في دين. وهذا قائم وموجود هنا ثم إن عملية التراضي هي الأخرى لا أثر لها في حل أو حرمة، فكم من عقد تم بتراضي طرفيه ولكنه حرام ومحظور وفاسد وباطل مثل الكثير من البيوع وغيرها. وكون المنفعة مشتركة هي الأخرى لا أثر لها، فكم من عقود نجد منفعتها مشتركة لكنها محرمة مثل الزنا والكثير من البيوع والإجارات إلخ، كما أن قوله لا استغلال فيه غير مسلم به فالاستغلال قائم وموجود حتى ولو كان من قبل المدين. إن عملية الظلم مرفوضة من دائن أو مدين، من غني لفقير أو من فقير لغني. ولقد اعترف الخبراء باستغلالية المصرف لكل من الطرفين، المودع " الدائن " والمقترض " المدين ". ووصف الكاتب العقد بكونه تجاريا قاصدا بذلك أننا في عمليات بيع وتجارة وليس في عمليات إقراض اقتراض كما هو الحال في الربا في القرآن الكريم. لكن يرد عليه بأنه بنفسه اعترف أكثر من مرة بأننا هنا أمام دين ودائن ومدين، بل لقد صرح أكثر من مرة بالقرض، يضاف إلى ذلك أن كون المصرف أو حتى الطرفين قد حولا القرض إلى صورة تجارة، وهذا هو الواقع فنحن نعلم أن المصرف يعرف بأنه تاجر ائتمان أي أن يتاجر في عمليات الإقراض والاقتراض، وبالطبع فإن عملية التجارة هذه لا تخرج الأمر عن طابعه وطبيعته وهو " القرض " وعلينا أن ندرك أن ربا الجاهلية في الكثير من صوره كان لأغراض تجارية.
ثالثا: كرر الكاتب هنا ما قاله في " ثانيا " ومن ثم فلن نعيد الرد عليه اللهم إلا تركيزه على قصد الاتجار هنا وليس القرض لحاجة وأن ذلك من قسم البيع. ونقول للأخ الكريم طالما أنه يصر على ترديد ذلك وكأنه(18/188)
عنصر جديد ومؤثر في العملية. من تعنى بمن يقصد الاتجار من طرفي العقد إن كان المدين فهذا لا أثر له. ومن الذي قال إن القرض كان في الجاهلية أو في صدر الإسلام أو في أي عصر أو في عصرنا هذا إنما يكون بقصد الاستهلاك فحسب من قبل المدين أو المقترض؟ وإن كان الكامن لذلك هو الدائن " المقرض " بأن يستخدم إقراضه أو دائنيته لغيره لإدرار العوائد والفوائد متخذا من ذلك نشاطا تجاريا، فيقول الإسلام له إن ذلك منك حرام مهما كانت نوعية المقترض أو المدين، وإذا أردت توظيف مالك توظيفا اقتصاديا فالباب أمامك مفتوح على مصراعيه للولوج منه، أما أن تترك الباب المشروع لتوظيف الأموال؛ شركة، مضاربة، إلخ بقوانينها وضوابطها ثم تلج من باب القرض ذي الطبيعة الخاصة والقانون المميز مستخدما له استخدام مجال التوظيف الاقتصادي فهذا هو الحرام بعينه. وهذا فإن قصد الاتجار لا يحيل الحرام حلالا طالما نستخدم نفس الأدوات التي لا يجوز أن تستخدم في الاتجار، وإلا فما أيسر أن تقتصر التجارة في أعمال كثيرة محظورة، فهل يحيلها هذا القصد المجرد إلى حلال مباح؟ ؟ إننا نرى اليوم عشرات الأعمال المحظورة والمحرمة أصبحت محلا للتجارة بل وللصناعة - وكلاهما نشاط اقتصادي مشروع - مثل التجارة في الفوائد الدائنة والمدينة " الأعماق المصرفية "، الزنا وأعمال العهر، المخدرات، الملاهي والقمار. . إلخ وادعاء الكاتب بعدم وجود ضرر في تلك المعاملة غير صحيح، فماذا عن المجتمع، وماذا عن المديونية التي تجثم على صدر العديد من الدول الإسلامية ومعظمها مصدره الافتراض بفائدة؟ وماذا عن الآثار الضارة للفائدة على الإنتاج وهيكله ومستواه، والتوزيع والعمالة، والاستقرار الاقتصادي مما هو مدون في أمهات كتب الاقتصاد الوضعي؟ ؟ أليست هذه كلها أضرارا!!!(18/189)
رابعا: في هذه الفقرة أضاف بعدا جديدا هو الشعور بالأمان والاطمئنان في المعاملة المصرفية لكل من الدائن والمدين، لكن ذلك مفتقر في الربا الذي حذر منه القرآن الكريم؛ حيث لا ضمان لأموال المرابين لدى العاجزين عن الوفاء.
سبحان الله!! وهل يتباكى الكاتب على أحوال المرابين وسوء أوضاعهم، وكأنه يطالب لهم بأمان أكبر. وهل نسي الضمانات المأخوذة هنا وهناك؟ وهل أمان المصرف على أمواله ميزة تميزه عن المرابي القديم ومن ثم تجعل عمله حلالا؟ ثم ما هذا الخلط؟ الكاتب تكاد تقوم ورقته كلها على موضوع " الإيداع " وحديثه هنا لا يتصور انصرافه إلا إلى إقراض البنك للعملاء، فأين الأمان الذي تتحدث عنه للبنك؟ أم أنه يتحدث عن ضمان وحماية مال صغار المالكين " الدائنين للبنك " بينما لم يكن ذلك موجودا في الدائن المرابي في الماضي؟ ما هذا؟
خامسا: في هذه الفقرة يكرر ما سبق قوله في أن الزيادة في الأعمال المصرفية إنما تشترط في أصل عقد الدين لأغراض تجارية من مدينين أغنياء من رجال الأعمال، وليست طارئة عند حلول الأجل مع المدين المحتاج للصدقة، وذلك ما يجعلها في الأصل ذات صفة تجارية في المعاملات المصرفية أي في مقابل منافع متبادلة، وهذه الزيادة تختلف تماما عن الزيادة التي أشار إليها القرآن الكريم، والتي اعتبرها محرمة لأنها لا تشترط إلا على رجل محتاج للصدقة. ومبدأ حلول أجل الدين وعجز المدين عن الوفاء، هذه عبارة كررت كثيرا ورددنا عليها في أكثر من مكان، ومضمونها في النهاية خاطئ ولا يعتبر تمييزا بين الربا المحرم وبين تلك الأعمال من قريب أو بعيد.
سادسا: ذكر الكاتب في هذه الفقرة عبارة غريبة عجيبة ننقلها بنصها(18/190)
لتكون شاهدا حاضرا أمام عين القارئ. يقول الأخ الكاتب: " الفائدة جزء من ربح المضاربة، فنحن نعرف أن البنك يقدم قرضين، قرض استهلاكي وقرض إنتاجي. وقرض الإنتاج ما هو إلا أخذ مبلغ من المال من البنك للاستثمار والنماء عن طريق النشاط التجاري أو الصناعي أو كليهما معا، ويلتقي هذا التصرف مع نظير له في المعاملات الإسلامية أقره الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويعرف باسم المضاربة أو القرض، وقوامه المال من شخص والعمل لاستثمار هذا المال من شخص آخر بجزء مسمى على جهة الشيوع من الربح، وبناء عليه فالفائدة التي تؤخذ على القرض الإنتاجي يمكن احتسابها جزءا من ربح المضاربة المشروعة " ثم أخذ في تعريف المضاربة وبيان حكمها ورأي بعض العلماء المناصرين فيها.
نلاحظ أن حديث الكاتب ينصرف أساسا بل كلية إلى مديونية البنك وليس إلى دائنيه، لكنه هنا يتحدث عن دائنية البنك وهذا خلط واضح، ويدعى أن الفائدة جزء من ربح المضاربة. أية مضاربة؟ وأية فائدة؟ لا نجد إجابة. ثم يقول الأخ الكاتب بجرأة غريبة إن ما يقدمه البنك من قروض إنتاجية نظير ما هو معروف بالمضاربة، ويخلص من ذلك إلى إمكانية احتساب الفائدة على القرض الإنتاجي جزءا من ربح المضاربة المشروعة. إذن من المؤكد أنه الآن بصدد الحديث عن الفائدة الدائنة التي هي للبنك على ما يقدمه من قروض.
يضاف إلى ذلك أن الكاتب يصرح بإباحتها على أساس أنها نظير شيء جائز ومعروف في الإسلام. ومن يمعن النظر في كلام الكاتب يجده يناقض بعضه بعضا، فطوال ما مضى من حديث له كان يبنيه على أساس أن المعاملة المصرفية مغايرة للربا؛ حيث المدين فيها وهو البنك أغنى بكثير من الدائنين عكس ما هو كائن في الربا. لكن ما نراه الآن يقلب الكلام(18/191)
رأسا على عقب فها هو المصرف أصبح دائنا والمقترضون أقل غنى منه بكثير طبقا لكلام الكاتب، أي أنه في تلك الحالة ينطبق عليه تماما ما يتصوره الكاتب في ربا الجاهلية فكيف جوز تلك المعاملة؟ ونلاحظ أيضا أنه يعترف صراحة هنا بكونها عملية قرض، والمتفق عليه أن أي زيادة مشترطة في القرض ربا. ثم إنه يمتلك من الجرأة ما تجعله يقول إن القرض نظير المضاربة وما دامت جائزة فيجوز نظيرها. من الذي قال إن القرض نظير المضاربة؟ وفي تناوله للمضاربة بحيث يؤكد على هذا التشابه والتناظر، كما يقول ذكر آراء بعض المعاصرين الذين يرى الكاتب رأيهم. ونلاحظ أن من تكلم في المضاربة من المعاصرين من أمثال الشيخ خلاف رحمه الله إنما ناقش مسألة اشتراط كون الربح نسبة وليس مبلغا محددا، وذهب إلى أن هذا الشرط لا يجب التقيد به لأنه من كلام الفقهاء وليس من القرآن ولا من السنة. ونحن هنا لا نناقش الشيخ خلاف فيما ذهب إليه لسبب بسيط هو أن مجال حديثه غير مجالنا، فنحن نتكلم عن معاملة مصرفية اعترف الكاتب بأنها قرض وهو يتكلم عن المضاربة وشتان بين هذا وذاك. وهب أن كلام الشيخ خلاف له وجه - مع عدم التسليم به - فإن ذلك لا يخدم وجهة نظر الكاتب لا من قريب ولا من بعيد، وذلك لأن القرض عقد ينقل الملكية نقلا كاملا للمقترض بتسلمه للقرض فيصبح القرض ملكا ومالا للمقترض يتصرف فيه كيف يشاء وهو ملتزم برد مثله للمقرض مهما كانت الظروف (1) .
بينما المضاربة عقد شركة لا ينقل ملكية المال بل يظل مملوكا لصاحبه وكل ما للمضارب فيه هو العمل عليه؛ ولذلك لو تلف أو فقد أو خسر بلا إهمال أو تعد من المضارب، فإن ذلك كله يحسب على صاحبه عكس
__________
(1) انظر في ذلك: الكاساني: '' بدائع الصنائع '' ج8 ص3596 نشر زكريا يوسف.(18/192)
القرض، إذن الطبيعة مختلفة والأركان مختلفة والمقاصد مختلفة. يضاف إلى ذلك أن من تكلم من المعاصرين في المضاربة إنما تكلم فحسب في مسألة الربح وليس في مسألة الضمان ونقل الملكية، فالكل متفق على بقاء المال على ملك صاحبه.
تبقى لنا كلمة هنا، لقد نقل الكاتب عن الشيخ خلاف قوله: " واشتراط الفقهاء لصحة العقد ألا يكون لأحدهما من الربح نصيب معين اشتراط لا دليل عليه، وكما يصح أن يكون بالنسبة يصح أن يكون حظا معينا ولا يدخل في ربا الفضل ولا في ربا النسيئة؛ لأنه نوع من المضاربة وهذا الاشتراط مخالف لأقوال الفقهاء ولكنه غير مخالف نصا في القرآن الكريم أو السنة "، والتعليق هنا يقتصر فقط على الجزء الأخير من تلك العبارة. إن كل من له اطلاع على كتب الفقه على اختلاف مذاهبها يجد الإجماع على هذا الشرط " نسبية الربح "؛ إذن هناك إجماع فقهي ليس على مستوى مذهب أو مذهبين بل على مستوى المذاهب الأربعة، بل على مستوى الفقه الإسلامي بما فيه من المذهب الظاهري والزيدي والشيعي. . إلخ وإذا كان ذلك كذلك فكيف يقال إن تحديد مقدار معين من الربح يخالف أقوال الفقهاء ولكنه لا يخالف نصا من قرآن أو سنة؟ لو صح هذا لوقعنا في مأزق حرج، فلو كان القائل بهذا الشرط فقيه أو مذهب أو مذهبان مع مخالفة غيرهما لأمكن مخالفته، لكن أن يكون القائل هم كل علماء الإسلام على اختلاف مذاهبهم فيخالف هذا القول الإجماعي، ثم يقال إنه كلام فقهاء وليس كلام الله ولا كلام الرسول! وكيف أجمع هؤلاء العلماء على ذلك؟ وما مستندهم إن لم يكن كتاب الله وسنة رسوله؟ إن مثل هذا القول فيه تشكيك رهيب في الفقه الإسلامي بل وفي الشريعة نفسها! هذه كلمة خطيرة - سامح(18/193)
الله شيخنا الفاضل فيها - ونحن نجزم بأنها لو صحت عنه فإنه لم يكن على دراية كاملة بمدلولها ومفهومها وما يترتب عليها.
ثم ينقل الكاتب عما أسماه بالأستاذ وفيق القصار كلاما في فائدة القرض لا يخرج قيد أنملة عما سبق، وردده رجال الكنيسة في العصور الوسطى تبريرا للفائدة وما يستمر في ترديده الآن رجال الفكر الغربيون. هذا عن الفقرة الرابعة التي تحدث فيها الكاتب عن طبيعة الأعمال المصرفية ومدى مخالفتها للأعمال الربوية كما ذهب الكاتب، وبعد تلك المناقشة هل هناك خلاف حقيقي بينهما فعلا أم أنه خلاف متخيل متوهم؟(18/194)
الفقرة الخامسة: بعد ذلك يذكر الكاتب خلاصة لبحثه لا يزيد فيها عما سبق أن كرره كثيرا وما سبق أن رددنا عليه. ولكنا نحب أن نلفت نظر الأخ الكاتب هنا إلى نقطة صغيرة هي أن الأعمال المصرفية " الإيداع " باتفاق رجال الاقتصاد والقانون في الغرب هي من باب القرض وإن تسميت بوديعة أو بغيرها من التسميات. حتى إن تعريفهم للفائدة ينص صراحة على أنها ثمن استعمال النقود المقترضة. إذن كيف يتضح الخلاف والاختلاف؟!! والعجيب أنه يقول ما نصه: " لأنها معاملات جديدة لا تخضع في حكمها للنصوص القطعية التي وردت في القرآن الكريم بشأن حرمة الربا) سبحان الله! وهل مجرد كونها جديدة يجعلها تختلف عن القديم، وهل كل جديد يخالف القديم؟ والأكثر فزعا قوله طالما هي جديدة فلا تخضع في حكمها للنصوص القطعية القرآنية. وكأن القرآن الكريم إنما جاء للمعاملات القديمة التي كانت في الجاهلية وإبان نزوله فحسب، ثم ما يجد من معاملات يبحث له عن مصدر آخر للتعرف على حكمه. مع أنه من المعلوم من الدين بالضرورة أن كل ما في القرآن والسنة هي نصوص خالدة وليست(18/194)
تاريخية وتطبق على كل ما حدث وما يحدث وما سوف يحدث إلى قيام الساعة، ثم يواصل في خلاصته قائلا: " إن علينا في ضوء ذلك أن ننظر لها من خلال مصالح العباد وحاجاتهم اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إباحته للسلم رغم ما فيه من بيع غير موجود وبيع ما ليس عند البائع، وقد أجمع العلماء على أن إباحة السلم كانت لحاجة الناس إليه) لقد نسي الكاتب أن النصوص الإسلامية كفتنا مؤنة النظر هنا الذي يطالب به الأخ فنصت على حرمة الربا والذي من صوره الأساسية الدين بزيادة مشترطة.
والعمل المصرفي من صميمه. والعجيب أن يقول اقتداء برسول الله في إباحته السلم. وكأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يجد نصا أو وجد نصا محرما للسلم ولكن مصالح العباد اقتضت أن ينظر في الأمر فيبيحه. وهل يجهل الكاتب أن الرسول الكريم مشرع في الأول والأخير؟ وكل ما يقوله هو نصوص شرعية واجبة النفاذ؟ وهل هناك نص صريح يفيد حرمة السلم؟ وبفرض وجود ذلك فهل إذا جاء الرسول الكريم وقال نصا مغايرا هل يعتبر الحكم الثاني مصدره العمل بالمصلحة أم بالنص الإسلامي؟ ومن قال من العلماء إن السلم يدخل في باب بيع ما يسمى عندك هم فئة من العلماء وليس كل العلماء، وهناك منهم من أكد على غير ذلك (ابن تيمية وغيره) حيث ذهبوا إلى أن السلم أصل بذاته وليس هو رخصة أو مستثنى من محرم للحاجة، ثم يواصل الكاتب قائلا: " والمصارف والأعمال المصرفية حاجة من حاجات العباد لا تتم مصالح معاشهم إلا بها " أما أن المصارف من حيث المبدأ حاجة اقتصادية عصرية فنعم، لكن ذلك لا يؤدي إلى اعتبار كل عمل تقوم به في حد ذاته حاجة من حاجات الناس. وإلا فيمكن القول أيضا وبنفس القوة إن الربا كان حاجة من حاجات المجتمع الجاهلي، وكان يمثل مصدرا أساسيا(18/195)
من مصادر تمويل التجارة ذات الأهمية القصوى في حياتهم واقتصادهم، بل ولشدة تمسكهم به وحاجتهم إليه شبهوه بالبيع بل شبهوا البيع بقولهم: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (1) . فهل أبيح للحاجة والمصلحة؟
بل الصواب أن يقال إن المصارف كمؤسسات تمويلية حاجة هامة، وعلينا نحن المسلمين أن نتعرف على الأعمال التي تؤديها خدمة للمجتمع بما لا يخالف الشريعة وقواعدها وأحكامها، والحمد لله هناك عمل كبير قد تم في هذا الشأن على المستوى النظري وعلى المستوى التطبيقي، وبفرض أن في هذا العمل بعض الثغرات فإن الجهد المطلوب ليس هو نقص ما تم، بل تطويره وتحسينه بحيث يقدم الخدمة المطلوبة على أحسن وجه. ونحن نخالف الكاتب تمام المخالفة من الناحية الاقتصادية فوق مخالفتنا له من الناحية الشرعية، وذلك في ادعائه بأن تحريم المعاملات المصرفية " الإقراض والاقتراض " يهدد كيان الدولة والأمة الإسلامية. . إلخ ما يقول. فالحقيقة الدافعة أن تلك الأعمال بوضعها الراهن هي إحدى الأدوات الفتاكة التي تحقق ما تخوف منه الكاتب. والتبعية النقدية والمصرفية والسيطرة الغربية على أجهزة المصارف والنقد في العالم والمديونية الهائلة التي تتضاعف عاما بعد عام على المستوى الدولي وعلى المستوى المحلي كلها أمور أوضح من أن تناقش هنا، وكذلك الآثار الاقتصادية المدمرة لسعر الفائدة على الإنتاج والاستثمار والتوزيع والاستقرار الاقتصادي، ومن ثم على تقدم المجتمعات وتحقيق الرخاء الحقيقي لكل أفرادها كل ذلك معروف ومدون في كتب الاقتصاد الوضعي، فكيف يجيء كاتب مسلم ويقول إنه بلا الفائدة لن تكون قوة اقتصادية، وبلا قوة اقتصادية لن تكون قوة إسلامية. وهكذا يوصلنا إلى
__________
(1) سورة البقرة الآية 275(18/196)
مقولة من أغرب ما قيل وهي: إن الإسلام والمسلمين والدولة الإسلامية كل ذلك رهين وجود الفائدة. وفي نظري أن الأكثر جدوى من إبداء مثالب نظام الفائدة هو تقديم لمحة عن البديل الإسلامي.
وهل البديل الإسلامي عاجز عن إشباع تلك الحاجة وتحقيق هذه المصلحة على وجه أكمل من هذا الأسلوب المحرم؟ للإجابة على ذلك نعرض في كلمة لهذا البديل ثم لنرى إلى أي مدى يحقق المصلحة لكافة الأطراف.
إن البديل المتعارف عليه حاليا والمتفق عليه بين علماء المسلمين يتمثل في نظام ينحي الفائدة جانبا بكل صورها ويحل محلها أداتين، القرض الحسن " بلا فوائد " والمضاربة.
فهل هذا البديل يحقق المصلحة التي يتشدق بها أنصار النظام الربوي أم لا؟
إن الحاجة أو المصلحة برغم تداخلها وترابطها إلا أنه يمكن تحليلها إلى أربع: (1) حاجة صاحب المال. (2) حاجة صاحب المشروع. (3) حاجة الوسيط المالي " المصرف ". (4) حاجة المجتمع.
أولا: حاجة صاحب المال. وقبل أن نناقش تلك الحاجة يهمنا أن نشير إلي أن أنصار النظام الربوي عادة، بل غالبا ما يركزون على تلك الحاجة في مناقشاتهم مدعين أن تلك الحاجة إنما تتحقق على الوجه الأكمل في النظام الوضعي عكس النظام الإسلامي. وبمنطق علمي هادئ نناقش تلك المقولة.
إن حاجة صاحب المال تتمثل في توظيف ماله بما يحقق له عائدا مجزيا مع توفير أكبر قدر ممكن من الأمن على ماله، وقد تتمثل في المحافظة(18/197)
على ماله والسحب منه عندما يحتاج.
أما عن توظيف ماله فإن نظام المضاربة يحقق له ذلك من خلال ما يقدمه له من حصة في الأرباح كبرت هذه الحصة أو قلت، كما أن الفائدة ترتفع وتهبط. وبرغم ذلك فعادة ما تثار الغيوم والشكوك. ومن ذلك أن الفائدة مضمونة ومعروفة سلفا وفي ذلك إغراء وتشجيع وأمن كبير.
والجواب عن ذلك متعدد الأبعاد لكنا نكتفي بأنه ليس كل مغر معترفا به شرعا سواء في المعاملات المالية أو في غيرها فالإغراء على العمل في حد ذاته ليس هو المعول عليه في التحليل أو التحريم. ولقد حفت النار بالشهوات وإغراء الشهوة في كل مجال معروف. كذلك قد يقال إن المال نفسه مضمون هناك ومعرض للمخاطر هنا.
والجواب عن ذلك يتمثل في: (1) المال في المصرف الوضعي غير مضمون ضمانا كاملا من الناحية الحقيقية الاقتصادية، بل هو مجرد ضمان شكلي قانوني ويكفي أن تعرف نسبة رأسمال المصرف إلى ودائعه إنها عادة لا تصل إلى 1: 5 فأي ضمان هذا؟ (2) إن المصرف هو المصرف فكيف يمنح الثقة الكاملة في حالة الفائدة وتسلب منه هذه الثقة في حالة المضاربة؟ (3) وهل هناك ما يمنع من وجود دراسات وسياسات للاستثمار وضوابط للمشروعات التي يمارسها المصرف على غرار " عدم السير في بطن الوادي وعدم الاتجار في حيوان وعدم ركوب البحر "؟ (4) وهل إذا وظف الشخص ماله في مشروع خاص أو شركة هل يضمن رأسها له وأرباحه مائة في المائة؟ (5) وهب جدلا أن بعض المصارف لم يكن على المستوى المطلوب من حيث الكفاية والأمانة ترى هل يظل قائما في السوق؟ أم سينصرف عنه المتعاملون مما يدفعه دفعا(18/198)
إلى بذل كل جهد حرصا على النجاح والاستمرار؟ (6) وهل هناك ما يمنع من رقابة وإشراف الحكومة وقيامها بوضع الضوابط الكفيلة بمنع أي تلاعب أو انحراف؟ وقد يقال إن عودة المال إلى صاحبه عندما يحتاجه متيسرة في ظل نظام الفائدة وغير متيسرة في ظل نظام المضاربة. والجواب: أما أنها متيسرة هناك بلا قيد ولا شرط فهذا غير صحيح، فالودائع الاستثمارية عادة محددة الفترات، وأما أنه غير متيسر هنا فهو الآخر إلى حد كبير غير صحيح إذ من الممكن في الكثير من الحالات سحب المال أو جزء منه. وعلينا أن نعلم أن التجارة والصناعة وغيرها من جوانب النشاط الاقتصادي تحتاج إلى الزمن، ويجب أن نحترم هذا العنصر، وإلا ما تم مشروع واعتقد أن ذلك مصلوب اقتصاديا، وهب أن الشخص يعمل لحسابه، فهل من السهولة بمكان أن يقض مشروعه ويحصل على أمواله نقدا عندما يريد؟ أظن أن الإجابة على ذلك من الناحية الاقتصادية معروفة ولا تحتاج إلى تعليق.
أما عن حاجة صاحب المال المتمثلة في مجرد المحافظة على ماله والسحب منه عند ما يريد على غرار ما هو معروف بالوديعة الجارية. فهل البديل الإسلامي يعجز عن ذلك؟ إن الفقه الإسلامي قد خصص من أبوابه بابا أسماه بالوديعة، وقدم لها من الأحكام والضوابط ما يجعلها تنهض نهوضا كاملا بتلبية مصلحة رب المال. وليس هنا مجال مناقشة ذلك لكنا نشير إلى مجرد جزئية فيها لأهميتها. وهي أن الأصل أن يحتفظ المستودع " المصرف " بالوديعة دون التصرف فيها لكن طالما أن الوديعة تأخذ الشكل النقدي والنقد غير متعين عند الكثير من العلماء إلا في حالات معينة، وطالما أن من حق المستودع أن يتصرف في الوديعة بإذن، وطالما أن من حقهما " الطرفين " أن يحولا الوديعة إلى قرض يصبح(18/199)
مالكا له المستودع " المقترض " ويتصرف فيه كما يشاء وله الغنم وعليه الغرم طالما أن ذلك كله متاح في الإسلام. فهل بعد ذلك يعجز البديل الإسلامي عن تلبية مصلحة صاحب المال في حفظ ماله والسحب منه عندما يحتاج؟ مع ملاحظة أن المودع للوديعة الجارية في النظام الربوي لا يحصل عادة على فوائد، بل كثيرا ما يدفع مصاريف وهو هنا أيضا لا يحصل على عوائد، بل ربما يدفع أجرة الحفظ والصيانة اللهم إلا إذا صرح له بالتصرف فيها متحملا الغرم مستفيدا بالغنم، فعند ذلك تتحول الوديعة إلى قرض لا يحصل المودع على شيء منه ولا يدفع مصروفا له. هذا عن حاجة صاحب المال ومصلحته فهل عجز البديل الإسلامي عن تحقيقها؟
ثانيا: حاجة صاحب المشروع. إن صاحب المشروع يحتاج إلي تأمين التمويل الكافي لإقامة مشروعه ولاستمراريته. ومن الحقائق المدونة في دنيا الاقتصاد أن حصول صاحب المشروع على خدمات عناصر الإنتاج المختلفة والتي منها خدمة رأس المال لا يتم مجانا وبلا مقابل عادة، بل لا بد من دفع المقابل أو الثمن. هذا معروف في الاقتصاد الوضعي ولا يعرف غيره. فهل البديل الإسلامي يحقق ذلك فقط؟ أم لمحققه وزيادة؟ أم لا يحققه؟ بالتحري والتدقيق نجد البديل الإسلامي يحقق ذلك وزيادة. فأمام صاحب المشروع أن يذهب للمصرف ويتفاهم معه حول تمويل مشروعه بعد دراسته دراسة جيدة والاطمئنان على سلامته من الناحية الاقتصادية ومن الناحية الشرعية. وأمامهما عند ذلك أكثر من وسيلة لإنجاز هذا المطلوب من بينها دفع التمويل على سبيل المضاربة أي بحصته فيما يتحقق من أرباح. وهنا نجد أن حاجة صاحب المشروع قد لبيت فقد حصل على التمويل اللازم، وكل ما عليه أن يتنازل عن حصته(18/200)
من الربح للمصرف إذا تحقق ربح. كما أنه يمكنه الحصول على قرض حسن من المصرف " الودائع الجارية " وعندئذ يلتزم التزاما قانونيا برده وفي نظير ذلك له كل ما يتحقق من ربح. وإذن فمن الممكن إجراء ترتيب بمقتضاه يمكن منح صاحب المشروع حاجته أو بعضها من التمويل دون دفع ثمن. وهذه الصورة غير موجودة على الإطلاق في النظام الربوي. وهنا قد تثار بعض الشكوك والغيوم، والتي منها أن صاحب المشروع قد يتعرض للتدخلات الكثيرة والمعوقة من المصرف في أعماله وهذا ما لا يرغبه عكس نظام الفائدة. والجواب عن ذلك إن هذه العملية نظرا لأهميتها وموضوعيتها قد احترمها الإسلام، ووضع من الأحكام والضوابط ما يجعل هذا التدخل في أدنى الحدود بالقدر الذي يعتبر في حقيقته من مصلحة صاحب المشروع أما ما عدا ذلك فلا تدخل من المصرف، وأحكام المضاربة تنص بوضوح وتفصيل على ذلك. وفي ضوء ذلك فمن مصلحة صاحب المشروع التعامل بنظام المضاربة بدلا من نظام الفائدة. ذات العبء الثابت والمال المضمون الذي لا بد له من إرجاعه بغض النظر عما قد يحدث للمشروع مع عدم الإهمال.
أما في نظام المضاربة فليس هناك عبء ثابت وليس هناك التزام قانوني برد المال إلا عند الإهمال أو التعدي كما أن هناك دراسة مشتركة لجدوى المشروع مما يخفف من العبء على صاحب المشروع.
ثالثا: حاجة الوسيط المالي "المصرف". سوف نسلم بأن عملية الوساطة المالية أو عملية الصرافة عملية مباحة ومتاحة أمام من يرغب في ذلك من الأفراد فكما أن من حق الأفراد أن يقيموا شركات تجارية أو زراعية أو صناعية الخ فمن حقهم أن يقيموا مؤسسات أو شركات تمارس عمليات الوساطة أو بمعنى آخر عمليات الربط بين أصحاب الأموال(18/201)
وأصحاب المشروعات. فهل البديل الإسلامي يعجز عن تلبية مصلحة هؤلاء؟ إن مصلحتهم تتمثل في وجود إقبال من أصحاب الأموال عليهم وبالمثل من أصحاب المشروعات. وفي الوقت نفسه الحصول على عائد مجزي من جراء تلك العملية أو ممارسة هذا النشاط. من الملاحظ أن نظام المضاربة يحقق ذلك وذلك من حيث إنه يحقق مصلحة كل من أصحاب الأموال وأصحاب الأعمال، وفي الوقت نفسه فإنه يبيح للمصرف الحصول على عائد مجزي إما على سبيل العمولة أو الأجرة أو على أساس اعتباره طرفا أصيلا في العملية مع كل من أصحاب الأموال من جانب وأصحاب المشروعات من جانب آخر. وبالمثل فقد تثار هنا بعض الشكوك حول تخوف المصارف من إعطاء الأموال لأصحاب المشروعات دون ضمان قانوني برجوعها أو الحصول على عوائدها. ولكن الرد على ذلك جد يسير فمن حقها الدراسة الجادة والمتابعة القويمة وأخذ الضمانات الكفيلة لسلامة العملية، ثم بعد ذلك فإن ما قد يحدث من تلاعب هو وارد على كل نظام، كما أنه سرعان ما يقضي على نفسه بنفسه. وقد يقال ما مصلحتها في إعطاء قروض حسنة؟ والجواب على ذلك يمثل في: وما ضررها في ذلك طالما أنها هي بنفسها تحصل على قروض حسنة؟ يضاف إلي ذلك أن هذه القروض عادة ما تؤدي إلى توثيق الصلة مع أصحاب المشروعات بل وتوسيع أعمالهم ونشاطهم مما يجعلهم في حاجة إلى المزيد من التمويل عن طريق المضاربة. مع ملاحظة. أن الكثير من عمليات التمويل في النشاط الاقتصادي عادة ما تتم بأساليب غير قرضية.
رابعا: حاجة المجتمع. ونحب أن نشير هنا إلى أن تلك المسألة كثيرا ما تستخدم من قبل أنصار النظام الربوي فدائما ما نسمع صيحات عالية(18/202)
عن مصلحة المجتمع ومصلحة الاقتصاد القومي وحاجة البلد إلى التنمية والتقدم والقوة والرخاء والعمالة. . الخ. وكأن البديل الإسلامي يناقض كل ذلك!! علما بأنه عند التحري نجد البديل الإسلامي يحقق تلك المصلحة كأحسن ما يكون ذلك. دعونا من ترديد كلمات وعبارات جوفاء وتعالوا نحدد بدقة مضمون حاجة المجتمع ومصلحته في هذا الشأن. ليمكن الحكم العملي على مدى تحقق تلك المصلحة من عدمه في ظل البديل الإسلامي.
إن مصلحة المجتمع هنا يمكن إجمالها في كلمة هي توظيف وتشغيل كل ما لديه من موارد وطاقات والعمل المستمر على توسعة تلك الطاقات ووضعها في خدمة إنتاج ما يحتاجه المجتمع من سلع وخدمات. في إطار من قيمه وعقيدته وأخلاقياته. في ضوء هذا التحديد لمصلحة المجتمع فإنني أطلب من كل من لديه اعتراض على البديل الإسلامي أن يدلنا دلالة صحيحة بينة على نقطة الضعف أو العجز في هذا البديل حيال تلك المصلحة. فمن حيث الأموال هل يعجز هذا البديل عن توظيف وتعبئة وجذب كل ما هو متاح من أموال!! ومن حيث المشروعات فهل هناك مشروعات تنتج سلعا وخدمات يحتاجها المجتمع لا يمد لها البديل الإسلامي يد التمويل الذي تحتاجه!! .
هذا هو البديل الإسلامي لنظام الفائدة الربوي فهل هو عاجز عن سد حاجة المجتمع وتحقيق مصلحته؟ وإلى هذه المرحلة من البحث قد يقال إن ذلك يمكن قبوله على المستوي الداخلي. لكن ما العمل على(18/203)