وغاب عنهم أن الاستحسان المعتبر هو ما ليس للرأي فيه مدخل ولا للعقل فيه نصيب؛ فلهذا ضلوا وأضلوا. وقد استدلوا بالحديث المروي عن ابن مسعود رضي الله عنه: ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن. ووجه الدلالة منه أنه قال: ما رآه المسلمون: والظاهر ما رأوه بعقولهم فرجع التحسين إليهم فهم المخترعون. ولو كان التحسين بالدليل لما نسب الرؤية إلى المسلمين فدل على أن البدعة إذا استحسنها المسلمون كانت مشروعة والجواب عن هذه الشبه من وجوه:
1 - أن هذا الحديث ليس بمرفوع بل هو أثر موقوف على ابن مسعود: فليس بحجة.
2 - وعلى التسليم بأنه حجة فهو خبر واحد في مسألة قطعية فلا يسمع.
3 - وعلى التسليم بحجيته فليس المراد جنس المسلمين الصادق بالمجتهد وغيره لاقتضائه أن كل ما رآه آحاد المسلمين حسنا فهو حسنا وكل ما رآه آحاد المسلمين قبيحا فهو قبيح وهذا باطل لوجهين:
أحدهما: أنه يناقض حديث «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة (1) » ووجه المناقضة أن الحديث الأول يفيد كل مسلم لا يخطئ؛ لأنه يرى أن ما ذهب إليه حسن فلا يكون في النار، والثاني أفاد نقيض ذلك. وهذا باطل.
ثانيهما: أنه يقتضي كون العمل الواحد حسنا عند بعض الناس يصح التقرب به إلى الله تعالى، قبيحا عند البعض الآخر لا يصح التقرب به وهو باطل.
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2641) .(14/198)
4 - أن ظاهره يدل على أن ما رآه المسلمون حسنا فهو حسنا، والأمة لا تجتمع على باطل، فاجتماعهم على حسن شيء يدل على حسنه شرعا؛ لأنه إجماع والإجماع يتضمن دليل شرعي. فالحديث دليل على هؤلاء لا لهم.
5 - أنه إذا لم يقصد به أهل الإجماع وأريد بعضهم فليلزم عليه استحسان العوام وهو باطل بالإجماع. 6 - ويجوز أن يكون الحديث فيما لم يرد فيه نص يأباه من كتاب ولا سنة ولا أصل معتبر من الأصول الشرعية العامة، بحيث لو عرض على العقول السليمة لتلقته بالقبول، ولم يكن من العبادات فعلى هذا يمكن أن يكون استحسانا مقبولا.
فالحاصل أن تعلق المبتدعة بمثل هذا الأثر هو تعلق بما يغنيهم ولا ينفعهم (1) ألبتة. لأن الأدلة الصحيحة نصت على أن «كل بدعة ضلالة (2) » وهو عام في كل ما أحدث في الدين مما لا أصل له من كتاب ولا سنة ولا دليل معتبر.
فبهذا بطل ما احتج به هؤلاء المبتدعة وتبين أنهم قد تمسكوا بحجج واهيه لا تسمن ولا تغنى من جوع.
__________
(1) انظر الاعتصام 152 \ 2، والإبداع في مضار الإبداع 117و131.
(2) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .(14/199)
مبحث:
بعد هذه الدراسة عن البدع والمبتدعين أرى أن نأتي بأمثلة من البدع بها يستكمل البحث، ويزداد وضوحا زيادة على ما جاء في ثنايا هذا البحث من أمثلة.(14/199)
فمن ذلك:
1 - الإعراض عن العلم وطلبه والاشتغال عن ذلك بالعبادة، وهذا جهل دخل على بعض الناس وزينه لهم إبليس. قال أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله: وقد لبس إبليس على كثير من المتعبدين بقلة علمهم؛ لأن جمهورهم يشتغل بالتعبد ولم يحكم العلم. فأول تلبيسه عليهم إيثارهم التعبد على العلم، والعلم أفضل من النوافل، فأراهم أن المقصود من العلم العمل، وما فهموا من العلم إلا عمل الجوارح (فقط) ، وما علموا أن العمل عمل القلب (أيضا) ، وعمل القلب (لا يقل) عن عمل الجوارح. قال مطرف بن عبد الله: فضل العلم خير من فضل العبادة. وقال يوسف بن أسباط: باب من العلم تتعلمه أفضل من سبعين غزاة. وقال المعافى بن عمران: كتابة حديث واحد أحب إلي من صلاة ليلة. فلما مر عليهم هذا التلبيس، وآثروا التعبد بالجوارح على العلم، تمكن إبليس من التلبس عليهم في فنون التعبد (1) . اهـ. فتمادوا في طريق الابتداع، وجاءوا بها بدعة بدعة بسبب تركهم العلم وبعدهم عنه، واستبدالهم الجهل الذي أودى بعقولهم حتى استحسنت ما ليس بالحسن، وبعدت عن السنن السليمة.
2 - ومن البدع التي تسبب الحرج والمشقة في الدين: ما يفعله بعض الموسوسين من طول المكث في الخلاء، والمشي والقيام بحركات، كأن يرفع قدما ويحط أخرى زاعما أنه بهذا يستنقي، والواقع أنه كلما زاد في هذا نزل البول؛ لأن الماء يستقر في المثانة، فإذا تهيأ الإنسان للبول خرج ما اجتمع، فإذا مشى وتنحنح أو تزحر وتوقف رشح شيء آخر. فالرشح لا ينقطع (2) .
__________
(1) تلبيس إبليس 134.
(2) نقد العلم والعلماء 134.(14/200)
فالمبالغة في الاستنقاء بدعة محدثة لم ينزل الله بها من سلطان.
3 - التلفظ بالنية:
ومن البدع التي يقع فيها بعض المسلمين التلفظ بالنية، وهذا أمر لا يشرع إلا في الإحرام خاصة؛ لوروده عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الصلاة والطواف وغيرهما فينبغي عدم التلفظ في شيء بالنية، فلا يقال: نويت أن أصلي كذا وكذا، ولا نويت أن أطوف كذا، بل التلفظ بذلك من البدع المحدثة، والجهر بذلك أقبح وأشد إثما، ولو كان التلفظ بالنية مشروعا؛ لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم وأوضحه للأمة بفعله أو قوله، ولسبق إليه السلف الصالح. فلما لم ينتقل ذلك عنه صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه رضي الله عنهم؛ علم أنه بدعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (1) » . رواه مسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
والنية محلها القلب باتفاق العلماء، فإن نوى بقلبه ولم يتكلم بلسانه أجزأته النية باتفاقهم، وقد خرج بعض أصحاب الشافعي وجها من كلام الشافعي غلط فيه على الشافعي؛ فإن الشافعي إنما ذكر الفرق بين الصلاة والإحرام بأن الصلاة في أولها كلام فظن بعض الغالطين أنه أراد التكلم بالنية وإنما أراد التكبير. والنية تتبع العلم فمن علم ما يريد فعله فلا بد أن ينويه ضرورة، فمن عرف هذا تبين له أن النية مع العلم في غاية اليسر، لا تحتاج إلى وسوسة وآصار وأغلال؛ ولهذا قال بعض العلماء: الوسوسة إنما تحصل للعبد من الجهل بالشرع أو خبل بالعقل (2) . اهـ.
__________
(1) انظر: التحقيق والإيضاح لمسائل الحج والعمرة للشيخ عبد العزيز بن باز.
(2) مجموع الفتاوى 262 \ 18.(14/201)
من هذا يظهر أن ما يفعله بعض الموسوسين في نية الصلاة بدعة منكرة، كمن يقول: نويت أصلي صلاة كذا ثم يعيد هذا ظنا منه أنه نقض النية. وكمن يكبر ثم ينقض ثم يكبر ثم ينقض، فإذا ركع الإمام كبر الموسوس وركع معه. فهذه البدعة فوتت عليه فضيلة تكبيرة الإحرام (1) في وقتها ومتابعة الإمام وقراءته وهو يظن أنه على شيء من الهدى، وهو أبعد ما يكون عنه. فالشريعة سمحة سهلة سليمة من هذه الآفات وما جرى الرسول صلى الله عليه وسلم عليه هو المعيار الصحيح للسير إلى الله.
وإذا كان بعض العلماء يجيز التلفظ بالنية فبالرغم من أنه مرجوح لعدم الدليل عليه، إلا أن هؤلاء المجيزين يتلفظون بها سرا دون ترديد أو تردد، كهذا الذي يفعله بعض الجهلة من التلفظ بتكبيرة الإحرام، ثم إعادتها زعما منه أن الأولى لم تنعقد.
4 - ومن البدع الشائعة: اتخاذ اليوم الذي يوافق مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدا: جرت عادة بعض المسلمين على إقامة عيد سنوي بمناسبة ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا العيد تقام الاحتفالات المشتملة على الخطب والقصائد وقراءة القرآن، والإشادة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذكر شمائله وإظهار محاسنه، وبيان معجزاته وتوضيح سيرته، والمعروف أن من أحدث هذا بمصر هم الفاطميون في القرن الرابع، فابتدعوا عيد المولد النبوي، ومولد بعض آل البيت كعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم، وبقيت هذه الموالد إلى أن أبطلها الأفضل بن أمير الجيوش الأيوبي، ثم أعيدت في خلافة الحاكم بأمر الله سنة أربع وعشرين وخمسمائة للهجرة بعد ما كاد الناس
__________
(1) انظر تلبيس إبليس 138.(14/202)
ينسونها، وقد استمر العمل بالموالد إلى يومنا هذا، وتوسع الناس فيها وابتدعوا بكل ما تهواه أنفسهم، وتوجه شياطين الجن والإنس.
ولا نزاع أنها من البدع، ومع هذا فقد قال البعض: إنها وإن كانت بدعة إلا أنها من البدع الحسنة، واستدل هؤلاء لهذا الرأي بما يأتي:
1 - أنها تشتمل على أنواع من الخير: كإطعام الطعام، وتلاوة القرآن، وقراءة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وقصائد مدحه، وإظهار شمائله. وهذه محاسن تتمشى مع رغبة الشارع وأهداف الشريعة. وهي وإن لم تكن موجودة في عهد الصحابة والتابعين لعدم حاجتهم لقرب عهدهم بنور النبوة ومزيد عنايتهم بنشر الشريعة، إلا أن الناس في العصور المتأخرة قد بعد عهدهم بالنبوة، وزادت حاجتهم إلى تذكيرهم بمحاسن الإسلام ورسوله تذكيرا لعامتهم من النساء والأطفال والشيوخ؛ لتقوية صلتهم برسولهم صلى الله عليه وسلم وتمكين محبته في نفوسهم، فهذه سنة حسنة مندوبة لانطباق قواعد الندب وأدلته العامة عليها.
2 - الدليل الثاني: أن «النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة وجد اليهود يوم عاشوراء فسألهم فقالوا: هذا يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى فيه موسى؛ فنحن نصومه شكرا لله تعالى، فصامه صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه (1) » . فيستفاد من ذلك فعل الشكر لله تعالى على ما من الله به في يوم معين، من إسداء نعمة، ودفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة.
وحيث أقر الرسول صلى الله عليه وسلم فعل هذا الشكر وعمل به، وقال «نحن أولى بموسى منكم (2) » وأمر أن نصومه على أن نصوم يوما قبله أو بعده مخالفة لهم، فحيث جاز هذا شكرا لله على فضله في إنجاء موسى وإغراق فرعون، فإنه يجوز أن يشكر سبحانه على تفضله بمحمد رسولا لهذه الأمة.
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (2004) ، صحيح مسلم الصيام (1130) ، سنن أبو داود الصوم (2445) ، سنن ابن ماجه الصيام (1734) ، مسند أحمد بن حنبل (1/310) ، سنن الدارمي الصوم (1759) .
(2) صحيح البخاري المناقب (3943) ، صحيح مسلم الصيام (1130) ، سنن أبو داود الصوم (2444) ، سنن ابن ماجه الصيام (1734) ، مسند أحمد بن حنبل (1/310) .(14/203)
وشكره سبحانه يكون بإقامة عيد سنوي لميلاده، وفي هذا العيد يتلى القرآن، ويذكر الناس بفضل الله: حيث بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا؛ فلهذا وذاك يكون عيد المولد النبوي سنة حسنة مندوبة.
أما الرأي الصحيح وهو رأي من يعتد به من العلماء فهو أن الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم من البدع المذمومة في الدين للأمور الآتية:
1 - لأن السلف من الصحابة والتابعين لم يستحسنوها، ولم يفعلوها حيث لم ينقل عن أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم أو بعضهم أحيا هذه الفعلة، وأقام عيدا بمناسبة ذكرى ميلاده صلى الله عليه وسلم، ولو حصل هذا لنقل إلينا؛ لأنه يتعلق بأمر يهم الأمة في دينها ورسولها.
وذلك كما نقلوا أقواله وأفعاله في العيدين وفي رمضان والتراويح وليلة القدر وصيام ست من شوال وصوم عاشوراء ونحوه.
2 - أن هذا العيد داخل تحت المحدثات المذمومة في الدين مثل قوله صلى الله عليه وسلم «وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (1) » . 3 - ومما يدل على أنها بدعة مذمومة ما ثبت بالتجربة والتتبع التاريخي: أن إحياء المولد كل عام قد زاد الجهال من المسلمين بعدا عن دينهم وتشويها لسنة نبيهم؛ حيت صاحب هذه الموالد منكرات يشيب لهولها الوليد، ويتقطر قلب المسلم الغيور حسرة وأسفا على ما يرتكب باسم الرسول، وما يقترف على الإسلام باسم إكرام رسول الإسلام أمثال:
1 - إضاعة الأموال وارتكاب مزيد من المحرمات كالمبالغة في إنارة
__________
(1) سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(14/204)
المساجد والطرقات وإيقاد الشموع والمصابيح عند الأضرحة، واتخاذها أعيادا ومناجاة أهل القبور وذبح الذبائح عندهم.
2 - ومنها انتهاك حرمة المساجد بتقذيرها، وكثرة اللغط والكلام غير المشروع ودخول الأطفال بأوساخهم وصراخهم، مما يفقد المساجد حرمتها.
3 - ومنها خروج النساء متبرجات مع الاختلاط بالرجال إلى حد لا يؤمن معه وقوع المحذور.
4 - ومنها استعمال المزامير والأغاني والأهازيج التي يستعملها المحترفون لإقامة هذه الموالد والذين يقتدي بهم المحبون لهذه الموالد، وهذا وذاك من المحرمات في الدين.
5 - ومنها تلاوة القرآن بشكل مبتدع لم يكن مألوفا في عهد النبوة، كالتلحين والترجيع والتشدق، والقيام بحركات أثناء القراءة كالتمايل يمينا وشمالا وأماما وخلفا، وكترديد المستمعين للقارئ أذكارا ودعوات بشكل جماعي جهرا. وكون المقرئ والمستمعين له يتابعون القرآن من حيث الصوت لا المعنى، بحيث يظهرون بمظهر الطرب الذي لا يختلف عما يحصل أثناء الغناء، وهذا ينشأ عنه إهانة لكتاب الله وابتذال له ضد ما وصف الله به المؤمنين عند سماع كلامه (1) . حيث قال سبحانه {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (2) .
__________
(1) انظر الإبداع 239.
(2) سورة المائدة الآية 83(14/205)
6 - وهذه المفاسد التي ذكرنا طرفا منها تعارض المحاسن التي ذكروها، وإذا وجد مفاسد ومصالح يقدم العمل بدرء المفاسد على جلب المصالح، كما هو معلوم في الأصول.
الرد على ما احتج به مروجو هذه البدعة:
1 - ما قيل من أن هذه البدعة سبب لحمل الناس على فعل الخير فهذا لأن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها. فالوصول إلى الخير لا يكون بوسيلة محرمة لأن تلاوة القرآن والصدقات والتذكير بمعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم هي من أمور الخير ولكنها جاءت في وقت ومكان غير مشروعين؛ لأنها عبادات والأصل في العبادات التوقيف يتبع فيها صاحب الشرع ولا يبتدع. فمثل هذه الأعمال الخيرة مثل الصلاة إذا جاءت في غير وقتها بقصد التعبد فإنها مردودة على صاحبها.
ثم إن هذا اجتهاد فيما لا يجوز فيه الاجتهاد فيرد. ثم إن هذه المحاسن معارضة بما ذكرنا من المساوئ فتسقط هذه وتقدم تلك عملا بالقاعدة الأصولية " درء المفاسد مقدم على جلب المصالح " كما ذكرنا قريبا.
2 - أما الدليل الثاني وهو حديث صوم عاشوراء شكرا لله. فلا دليل فيه على المدعي؛ لأن ما يدل عليه هو العمل بشيء سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا لا خلاف فيه؛ لأنه وحي من عند الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فثبوته ليس استحسانا ولا ابتداعا حتى يقال بأنه دليل على أن نستحسن أو نبتدع. بل الذي ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » رواه مسلم.
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(14/206)
ومن هذا يظهر أن الاحتفال بعيد المولد هو بدعة منكرة يتعدى ضررها ويعم شرها لمصاحبتها كثيرا من البدع والخرافات والمحرمات من الكبائر ومساوئ الأعمال كما ذكرنا والله الهادي إلى أقوم طريق، وبهذا القدر نكون قد أنهينا البحث عن البدع وما يتصل بها. وختاما نسأل الله سبحانه أن يجنب هذه الأمة مضلات الفتن ومزالق الشيطان، وأن يأخذ بيدها لتسير إليه سبحانه على ما أنزله في كتابه وشرعه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، إنه جل جلاله خير مسئول، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.(14/207)
صفحة فارغة(14/208)
بسم الله الرحمن الرحيم
الإلحاد وعلاقته باليهود والنصارى
د. محمد بن سعد الشويعر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد: -.
فمنذ خلق الله الإنسان والصراع قائم بينه وبين الشيطان، ثم ازداد الأمر مع ذريته. الشيطان وأعوانه من الجن والإنس، يريدون إغواء بني آدم وصرفهم عن المنهج القويم. ونصب الحبائل لإبعادهم عن أمر الله وشرعه، وعن طاعة رسله واتباع كتبه التي أنزل، والمؤمنون من بني آدم يأتمرون بأمر الله ويتبعون رسله ويعملون بما أنزل عليهم، فهم عباد الله المخلصون له، الذين حماهم الله من الشيطان وحبائله، وأشد الناس عداوة وحسدا للمسلمين هم اليهود والذين أشركوا، وذلك لعداوتهم لله وتحديهم لرسالاته ووقوفهم ضدها، وكراهيتهم لأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، يقول الله تبارك وتعالى مخبرا عن اليهود وعدائهم للمسلمين، وأنهم متلازمون في هذا يعنى اليهود مع الملاحدة وعبدة الأوثان {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (1) {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (2) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 82
(2) سورة المائدة الآية 83(14/209)
ويقول تبارك وتعالى مخبرا عما حل بهم بعد أن تجاوزوا الحد في المعصية والمعاندة: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (1) .
وكما حرص اليهود في بث السموم والعداء للديانة النصرانية، وفي وقوفهم ضد عيسى والحواريين فإن مواقفهم مع محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة معروفة في كتب السير، وسجلها التاريخ، بل أبان القرآن نماذج من حوارهم وعنادهم في أكثر من موضع، كما رصدت من قبل كثير من كتب النصارى وتأريخهم مواقف للعداء المستحكم بين اليهودية والنصرانية.
وبدءوا أسلوبا جديدا في حربهم للإسلام على يد عبد الله بن سبأ اليهودي الذي دخل الإسلام ظاهرا، أما باطنه فكان الإضلال والمباعدة بين المسلمين ودينهم، فأنشأ الفرقة البأية، وكان مما فتن الناس فيه قوله: بأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يقتل وإنما هو حي في السحاب، ولو أتيتمونا بدماغه في سبعين صرة ما صدقنا موته، ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 61
(2) انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم ج5 ص 36.(14/210)
حرك اليهود الجدل في تأريخ الإسلام منذ حل محمد صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرا، بل إن هناك أخبارا تعطينا الدلالة على اتصال اليهود بالمدينة - واسمها ذلك الوقت يثرب - بكفار مكة وإخبارهم ببعض الأمور التي تطرح أسئلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم للتعجيز والحجاج، لا للفائدة والوصول للحقيقة، كالأسئلة التي وردت إجاباتها في سورة الكهف وهي مكية. لأن عرب الجزيرة قبل البعثة لم يكونوا أهل علم، ولا معرفة بأحوال الأمم السابقة.
ولذا يؤدب الله جلت قدرته أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بعد الهجرة للمدينة، التي يسكنها قوم من أهل الكتاب في طريقة الحوار معهم، والنقاش فيما يطرح من مسائل، وهو اللين والرفق، لينجذب طالب الحقيقة، وتقوم الحجة على المعاند والمكابر، فيقول سبحانه وتعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (1) .
ولما كان اليهود يضمرون العداء لمحمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، فإنهم سلكوا طرقا ملتوية لإضلال الناس، فحركوا في الأمم المغلوبة كالفرس والروم جذور دياناتهم السابقة ليأتوا بطرق ظاهرها الإسلام، وباطنها محاربته للتشكيك فيه.
فظهرت الزندقة في العهد العباسي، كما تحرك النصارى وبدءوا يطرحون شبههم ويحاولون الظهور على المسلمين، وكان أول رد جدلي حسب ما وصلنا خبره رسالة الجاحظ في " الرد على النصارى "، وما ذكره
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 46(14/211)
المسعودي من جدل بين الرشيد وملوك الروم (1) .
وفي الحروب الصليبية حول النصارى الناحية الجدلية إلى قوات عسكرية ناوأت المسلمين، حتى هيأ الله لهم قائدا رفع راية الإسلام عالية في بلاد الشام ومصر ضد عباد الصليب إنه صلاح الدين الأيوبي رحمه الله 532 - 589، الذي حرص أن يبني قاعدة وعقائد المسلمين، قبل أن يحارب بهم أعداءهم، فحرص رحمه الله على القضاء على دولة الفاطميين في مصر؛ لأنها نشرت البدع وأماتت في المسلمين حب الجهاد في سبيل الله، وقد حول مصر من التشيع الذي اهتمت به الدولة الفاطمية إلى السنة عندما استقدم علماء من الشام، ووزعهم في أنحاء مصر لإصلاح عقائد أهل مصر قبل أن يدخل بهم المعركة ضد النصارى.
وقد نشط الجدل بين النصارى والمسلمين في العراق والشام ومصر، ولكنه بلغ الذروة في الأندلس لكثرة النصارى واليهود في تلك البلاد، خاصة وأن اليهود يحركون الشبه لدى النصارى ليجعلوهم في الصورة الجدلية وإلقاء العقبات في فهم الإسلام.
ومن الرسائل الجدلية القصيرة التي كتبها علماء الإسلام في الأندلس.
- الرد على اليهود للرقيلي.
- الرد على النصارى لأبي القاسم العتبي.
- وكتاب ابن أبي عبيد في الرد على النصارى.
__________
(1) راجع مروج الذهب للمسعودي ج1 ص 365 - 374.(14/212)
- كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم وهو من أقواها (1) .
فالصراع بين الحق والباطل قائم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد أخبر الصادق المصدوق في حديث رواه عوف بن مالك الأشجعي الأنصاري رضي الله عنه، بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «اعدد يا عوف ستا بين يدي الساعة: أولهن: موتي، والثانية: فتح بيت المقدس، والثالثة: موتان يكون في أمتي يأخذهم مثل مقاص الغنم، والرابعة: فتنة تكون في أمتي وعظمها، والخامسة: يفيض المال فيكم حتى إن الرجل ليعطى المائة دينار فيتسخطها والسادسة: هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيسيرون إليكم على ثمانين غاية، قلت: ما الغاية. قال: الراية تحت كل راية اثنا عشر ألفا (2) » .
ولعل من تلك الرايات موجة الإلحاد التي حرص أعداء الإسلام على نشرها بين المسلمين لتشكيكهم في قدرة الإسلام على مسايرة الحياة الحاضرة من مالية وتربوية وعلمية وأمنية وغيرها بعد أن خسروا الحوار الجدلي بين الإسلام والنصرانية التي يدعون إليها.
إذ بدأ رجال خدموا الكنيسة وفي مناصب قيادية، يندسون في بعض المجتمعات الإسلامية لإظهار - أولا: تمردهم على الكنيسة التي وجدوا تعليماتها وطقوسها لا تتفق مع منطق العقل ولا مع متطلبات العصر، وما فيه من مستحدثات.
__________
(1) راجع الفصل ج1 ص15.
(2) راجع هذا الحديث بكماله في الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل ج24 ص 24 - 25.(14/213)
وثانيا: وهذا هو هدفهم الأساسي لصرف المسلمين عن دينهم، بالمعادلات التي لمسوها في عقائد أصحاب الديانات الأخرى، فينصرف إليهم من لا خلفيات عقائدية أو علمية لديه في أمور الدين الإسلامي. وسوف أضرب في هذا الموقف مثالا واحدا، من الأمثلة الكثيرة التي تنتشر في العالم الإسلامي بأسره، ولدى الأقليات الإسلامية في أوروبا وأميركا وأستراليا مما يوجب اتخاذ عمل جماعي وموحد، لتبصير أبناء الإسلام بما يراد بهم، وتوضيح تلك الشبهات المطروحة أمامهم لصرفهم عن دينهم، وشاهده من كتاب الله قول الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} (1) .
ومما لا شك فيه أن العالم الغربي والشرقي يمر بمرحلة إلحادية عارمة نشأت عن الشيوعية والعلمانية، حيث التمسوا في متاهاتهم الفكرية، ما يحل قضاياهم المتشابكة، فأصبحوا كالمستجير من الرمضاء بالنار، حيث التجئوا للإلحاد للتمرد على الكنيسة وظلمها.
ومصداقا لقول الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (2) .
أجد أن الحالة التي سأذكر هنا، وهي نموذج لحالات كثيرة تخرج هنا وهناك عن أولئك القوم، تعطي فكرة عن الجهود التي تبذل لإخراج المسلمين عن جادة الصواب، التي هي منهج الإسلام، إلى متاهات
__________
(1) سورة البقرة الآية 109
(2) سورة البقرة الآية 120(14/214)
فوضوية، لكي يقولوا لبني جلدتهم بلسان الحال والمقال: إن المسلمين أيضا قد شعروا بالضجر الذي مر بنا، فتركوا دينهم، فتغتنم ذلك الكنيسة لتكثيف التبشير، وجذب أولئك البشر روحانيا وعقائديا إليها؛ لأن النفس البشرية مهما ابتعدت بالإلحاد والانصراف، فهي في حاجة إلى الانتماء العقائدي لأي شيء يطرح أمامها.
وهي والله مكيدة يمكرون من ورائها بالمسلمين {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (1) ليخرجوهم من الإسلام بالبعد عن مصدري التشريع فيه، ثم جذبهم لتعاليم الكنيسة.
فلقد وصلتني من أحد الأخوة الغيورين على دينهم من دبي - بدولة الإمارات العربية المتحدة، رسالة قد أرفق معها كتابا باللغة المليبارية بالهند واسمه: القرآن دراسة انتقادية من تأليف: جوزف ايدا ماروك. وقد صدر هذا الكتاب في شهر يوليو عام 1982 م.
يقع الكتاب في 174 صفحة باللغة المليباريه، أما ترجمته إلى اللغة العربية فتقع في 79 صفحة.
وقد نشرت هذا الكتاب جمعية النشر الإلحادية الهندية، ودار الكتب الزندقية هناك برقم (1) واحد. مما نستنتج معه أن هذه الجميعة جديدة التكوين، وجديدة النشاط أيضا، وأنها مركزة علمها في منطقة إسلامية في الهند، وبلغة أكثر من يتكلمها المسلمون.
وقبل أن نعطي فكرة عن الكتاب ومداخل المؤلف في التلبيس، فإن القارئ المسلم يجدر به أن يعرف شيئا عن المؤلف وأعماله حتى يتقي
__________
(1) سورة الأنفال الآية 30(14/215)
شره، ويسعى بما أعطاه الله من جهد وعلم للتعريف به في أوساط المسلمين للرد على شبهاته، وتوضيحا للمسلمين في كل مكان لمحاربة هذا المعاند لله ولرسالاته، فالمؤلف هو جوزف - يوسف - ايدامارك، ولد في أسرة من الأسر المسيحية السورية بمقاطعة " أيدوكي " " كيرالا " في عام 1934 م، وكان أول أمره معروفا بتدينه وتمسكه بالنصرانية، وكان خطيبا من خطباء التبشير، ومعلما في إحدى مدارس الأحد، وقد قام بخدمات سياسية، وكان عضوا للجنة المركزية الشيوعية وأمينا لفرع كيرالا.
وألف في عام 1953 م كتاب " إنما عيسى بشر " فغضبت عليه الكنيسة وأخرج من مجلس: " مهارون شولي " وهو مجلس من مجالس المسيحية في الهند.
تزوج بامرأة هندوكية في كيرالا عام 1954 م. فبدأ من ذلك التأريخ نشاطه الإلحادي وأصدر: مجلة إلحادية شهرية باسم ايسكرا أي " شرارة النار " وقد انقطع إصدارها وكان حظه كبيرا في إصدار المنشورات الإلحادية مثل " تيرالى " و " يوكتى " وغيرهما، كما كان مديرا للتحرير لكل من المجلات التالية: " مجلة سينما " و " حولية متوراما " و " منو راجيم ". وهو الآن مراسل دلهي لمجلة " كيرالا شبدم " أي " صوت كيرالا " الأسبوعية. وكانت له اليد الطولى في تأسيس " جمعية كيرالا الإلحادية " منذ عام 1956 م، وكان من المؤسسين للمنظمة التي انتشرت في الهند للتحضيض (الحث) على مناكحة أهل الأديان المختلفة فيما بينهم، وهم يريدون في ذلك أن تزوج المسلمات من غير المسلمين ليسهل تضليل المسلمين.(14/216)
ولعل نشاط جوزف ايدا مارك هذا في الهند وفي المناطق الإسلامية بالذات في كيرالا - أي خير الله -. وفي الدخول على المسلمين من ناحية التزاوج والانصهار العرقي، وفي طباعة كتب ونشرات الإلحاد في المناطق الإسلامية في الهند وباللغات التي يتكلمها المسلمون بالذات، مع جهوده المكثفة وتشكيكهم في دينهم، كل هذه الاعتبارات وغيرها لعلها هي التي أهلته لأخذ الجائزة الإلحادية العالمية عام 1978 م. حيث يعتبر أول من نالها من آسيا.
ومع هذه النبذة عن حياته المليئة بما يغضب الله تعالى نذكر كلمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قوله: عجبت لأهل الباطل وحرصهم على باطلهم، وهذا ليس بغريب فعدو الله إبليس يعرف عن نفسه أنه على باطل، ومع هذا يصر على السير في طريقه وإغواء الناس، ولن أذكر هنا مضامين هذا الكتاب؛ لأنه من أوله إلى آخره مليء بشبهات وأحقاد على الإسلام والرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، بآراء غير مركزه ولا مرتبة، وفي جملتها هي من الشبهات التي يطرحها اليهود، ويثيرها النصارى في هجومهم على الإسلام والقرآن الكريم، الذي يصفونه دائما بأنه من وضع محمد. ثم بما يعرضون له من آراء حول الحدود الشرعية التي يصفونها بالقسوة، وعن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم العائلية وزواجه، وتلك الأمور في مخرجها الأساسي شبهات من اليهود رددها النصارى، وأثارها غيرهم من أصحاب الملل والنحل.
بل إن المبشرين ودعاة الكنيسة في كل مكان وزمان يثيرون هذه الشبه التي تعرض لها هذا المؤلف. . من باب التشكيك في صحة القرآن الكريم، وإيهام الآخرين أنه من وضع البشر وليس من عند(14/217)
الله. وهم يأخذون هذا من طريقة الجدل بين اليهود والنصارى، التي تشكك كل طائفة في الأخرى، وتصف كتابها بالتعديل والتغيير، وأنه من وضع أحبارهم ورهبانهم وزعماء الدين فيهم.
وإذا كانت المجتمعات غير الإسلامية قد ظهرت فيها مظالم، وتسلط القوي على الضعيف ونتج عن ذلك أمور عديدة: من تفكك الأسرة، وفقدان الرابطة الاجتماعية، وخلو القلوب من الوازع، وانتشار الجريمة، واضطراب النفوس، وكثرة القلق والحقد على الآخرين، وغلبة الأنانية. . وغير هذا من النوازع التي تسعى إلى تخريب المجتمعات، وضياع الرابطة الأسرية.
فإن الإسلام فيه الحل لكل ما يعترض من مشكلة، وما مر أو يمر بالعالم من اضطراب لتخليص أبناء الإسلام أولا من الغزو الإلحادي الموجه إليهم، ولإشعار الأمم الأخرى بقدرة الإسلام على تخليصها من المشكلات التي تعاني منها، لما في تشريعه وحدوده من قضاء على تلك المشكلات بالقضاء على مسبباتها.
فبالنسبة لأبناء المسلمين الذين غزوا في عقر دورهم، وبلغاتهم القومية، فإن الحل يكمن في تعاون المسلمين على الأمور التالية: -.
أ - تعليم أبناء المسلمين منذ صغرهم أمور دينهم حتى يتسلحوا ضد أعدائهم وأعداء دين الله.
2 - وإذا كانت دراساتهم النظامية في مدارس علمانية لا تهتم بالدين الإسلامي فإن المسئولية تقع على الآباء والأمهات بتعليم الأولاد في المنزل ما يصلح شأنهم وعقائدهم.
3 - تنظيم مجموعات لأبناء المسلمين لتعليمهم في المسجد أو في المراكز(14/218)
الإسلامية، وأن يتطوع القادر بتخصيص جزء من وقته أداء لحق الله الذي منحه القدرة والكفاءة، ولا يبخل من لديه قدرة ومتسع من الوقت بالتعاون معه امتثالا لقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} (1) .
4 - تنمية الحجاب لدى المرأة المسلمة، وتشجيع الانفصال في التعليم عن الرجل لإيجاد الشخصية الإسلامية من البداية حسب أمر الله {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (2) .
5 - تنظيم الندوات والمحاضرات الإسلامية للرجال والنساء وتشجيع النقاش وطرح الأسئلة، والإجابة على الشبهات وتوضيح اختلاف نظرة الإسلام لكثير من الأمور عن النصرانية واليهودية، حتى تتسع مدارك أبناء المسلمين لأن الإسلام يخاطب العقل.
6 - تقوية الرابطة في المجتمعات الإسلامية وخاصة عندما يكون المسلمون في بلاد بها معتقدات مختلفة.
7 - الاهتمام فيما بينهم بالمناسبات الإسلامية كالأعياد ويوم الجمعة، وشهر الصوم وتشجيع التزاور والنقاش في الفوارق بين مناسبات المسلمين وغيرهم. ونبذ المناسبات الطارئه على المجتمع الإسلامي التي دخلته من أصحاب الأهواء والبدع.
أما بالنسبة للمسلمين عموما، فإن هناك أمورا إذا أخذ بها، كانت خير سلاح للوقوف بحزم وقوة ضد ظاهرة الإلحاد التي برزت في هذا العصر بصورة أكثر مما كانت معروفة به من قبل في مثل: -.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة الأحزاب الآية 53(14/219)
1 - تمكين عقيدة التوحيد من القلوب. فالإلحاد لم ينشأ إلا من خراب القلوب حيث حلها الشيطان واستوطنها.
يقول الله جلت قدرته {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (2) {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (3) .
فالفرد إذا امتلأ قلبه بمعرفة الله، وأخلص له سبحانه بالعبادة والوحدانية، لن يجد هؤلاء الملاحدة منفذا يدخلون معه، ولا تجد أفكارهم إلى نفسه سبيلا.
2 - ترابط المسلمين واهتمامهم بإخوانهم؛ ليكونوا كالجسد الواحد كما جاء في الحديث الشريف، فيعرفوا ما يحاك ضد إخوانهم في أي مكان من مكائد، وما يطرح من شبهات فيعينوهم في الوقوف ضد ذلك حتى لا يقعوا فيه.
3 - العناية بالتعليم الإسلامي لتنمية العقيدة الصحيحة، ونبذ الخلافات التي دخلت المجتمعات الإسلامية وغذاها أعداء الإسلام، من باب " فرق تسد ".
4 - بذل المساعدات المالية والعلمية لأبناء المسلمين حتى يزدادوا علما ومعرفة لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم. ومن ثم توجيه الثقافة والتعريف بالنافع من الضار.
5 - التصدي لشبهات الملاحدة التي تثار، وتوضيحها بالدليل العقلي، والدليل المنقول؛ لأنها شبهات باطلة تتهاوى هشة أمام التوضيح والمناقشة، وصدق الله إذ يقول: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (4) .
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة الذاريات الآية 57
(3) سورة الذاريات الآية 58
(4) سورة النجم الآية 23(14/220)
6 - العناية بالتوجيه الإعلامي من مسموع أو مقروء أو منظور، وربط الأمور بمنطلق العقيدة الإسلامية، فوسائل الإعلام في العصر الحاضر مدرسة لتوجيه أفراد المجتمع على اختلافهم، وتبصيرهم بما يجب عليهم وما لهم؛ لأنها تدخل كل بيت وتتحدث بكل لغة. 7 - الاهتمام بالتربية الخلقية، والتأدب بآداب الإسلام فالإحسان إلى الآخرين من آداب الإسلام ويستبعد الآخرين، والعدل بين الناس، والصبر على أذاهم وغير هذا من الأمور التي تجذب الكافر وأصحاب النحل الأخرى إلى حظيرة الإسلام. هذه بعض الأمور التي تعين في التغلب على ظاهرة الإلحاد، والكيد للإسلام وأهله. ويحضرني في هذا الموقف واقعتان حصلتا في العهد العباسي منهما نجد أسلوب علمائنا الأفاضل في معالجة مثل هذه الظاهرة بأسلوب مقنع.
- الأولى حصلت لأحد علماء بغداد عندما طلب إليه مناظرة أحد الملاحدة في ميدان عام بالرصافة، وقد تجمع الناس والعلماء، فتأخر هذا الشيخ عن الحضور والناس ينتظرون، وجاء بعد طول انتظار، فابتدر الجميع قائلا، وهو يعني الملحد الذي سوف يناظر: لقد تأخرت لأنني منذ وقت طويل، وأنا جالس تحت تلك الشجرة أنتطرها تقطع نفسها ثم تصنع لي قاربا من جذرها فأركبه إليكم زورقا.
فضحك الملحد قائلا إن الشجرة لا بد لها من عامل معه فأس(14/221)
يقطعها، ثم نجار ينشر خشبها، ثم مسامير ومطرقة، ليجمع من أعوادها قاربا، ثم عمال يحركون المجاديف لتجتاز بك النهر حتى تصل إلينا.
فقال الشيخ: إذا كيف تقول: إن المصنوع في هذه الحياة ليس له صانع يوجده من العدم، فما دام لا بد من عامل يعمل، ونجار يصنع من أجل إصلاح قارب؛ فلا بد إذا لهذا الكون من خالق يدبره وهو الله جل وعلا. فالأشياء لا توجد نفسها. فسكت الملحد وانخذل.
- أما الثانية فهي قصة أبي حنيفة رحمه الله مع جاره اليهودي الذي آذاه بفتح بيت الخلاء عليه ليؤذيه بالرائحة الكريهة، فصبر الإمام أبو حنيفة عليه خمسة عشر عاما أداء لحق الجوار، مع أنه قادر بكلمة واحدة لأمير المؤمنين أن ينتقم من هذا اليهودي شر انتقام، وكان أن مرض أبو حنيفة فزاره اليهودي من جملة من زاره، وقد تعمد أن يضع يده على أنفه إظهارا للاستياء مما يشم، وبعد أن جلس عند أبي حنيفة، قال له: منذ متى وهذه الرائحة الكريهة عندكم؟ فقال: منذ جاورتنا، منذ خمسة عشر عاما. فقال اليهودي: وقد صبرت من ذلك التاريخ؟ قال: نعم. لأن ديننا يأمرنا بحسن الجوار. فبهت اليهودي، ثم قال: دين هذه أخلاق علمائه فإنه خير دين، أشهدك أنني أسلمت، ونطق بالشهادتين، ومن هذا كله ندرك علاقة النصرانية واليهودية بموجة الإلحاد السائدة في هذا العصر وحرصهما على مباعدة المسلمين عن دينهم.
نسأل الله السلامة والعافية لأمة الإسلام وأبناء المسلمين، وأن يرزقهم التفقه في دينهم، ومعرفة الحق حقا ويرزقهم اتباعه، والباطل(14/222)
باطلا ويزرقهم اجتنابه، وإنها لأمانة ملقاة على كاهل العلماء في توضيح حقيقة الإسلام، وشرح تعاليمه، والتصدي لكل شبهة تطرح على أي مستوى، وفي أي مكان، بالتفنيد والإيضاح، وتبصير المسلمين بما يجب عليهم، وهذا من نصر دين الله، وأداء حق ما تحملته النفوس من علم بالدعوة والتوجيه، والله كفيل بتأييدهم ونصرهم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} (2) .
والله الهادي سواء السبيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة محمد الآية 8(14/223)
صفحة فارغة(14/224)
محمد بن عمر بن عبد الرحمن العقيل
. * الشهرة العلمية - أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري
. * المولد سنة 1357 هـ بشقراء
. * يحمل الماجستير في التفسير - ثاني فوج من معهد القضاء العالي.
* عمل موظفا بإمارة المنطقة الشرقية وديوان الخدمة المدنية ورئاسة تعليم البنات \ ويعمل الآن مديرا عاما للإدارة القانونية بوزارة البلديات والشئون القروية، وعمل رئيسا للنادي الأدبي بالرياض ولا يزال أحد أعضائه طبع له أربعون كتابا ونيفا - أهمها - لن تلحد، وهموم عربية، وابن حزم خلال ألف عام.(14/225)
صفحة فارغة(14/226)
بسم الله الرحمن الرحيم
مسند بلال بن رباح رضي الله عنه
لأبي علي الزعفراني
بتحقيق: أبي عبد الرحمن بن عقيل
توطئة عاجلة: -.
بدار الكتب المصرية مجموع برقم 1558 \ حديث يضم ستة وأربعين مؤلفا ما بين كتاب وجزء ورسالة. وقد عرفت بهذا المجموع في مقدمتي لكتاب التذكرة للحميدي. وهذا المجموع بخط يوسف بن شاهين (سبط ابن حجر) يتميز بإثبات الرواية والسماع لكل جزء.
وهو بخط تعليق واضح يهمل الحروف ولا يعجمها ويكتب الكاف لاما.
أما راويه وناسخه سبط ابن حجر فقد قال عنه السخاوي في الضوء اللامع: (وليس خطه بالطائل لا سندا ولا متنا، بل ولا يعتمد عليه في كثير مما يبديه لتساهله) .
وضمن هذا المجموع بضعة أحاديث رواها الزعفراني بإسناده إلى بلال رضي الله عنه مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب عليها (مسند بلال بن رباح) .(14/227)
وراويها أبو علي الحسن بن محمد بن الصباح - بتشديد الباء - الزعفراني صاحب الإمام الشافعي.
ترجم له - أو ذكره - ابن النديم في الفهرس، والشيرازي في طبقات الفقهاء، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، وابن عدي في الكامل، والخطيب في تاريخ بغداد، وابن قانع في المعجم، وابن عبد البر في الانتقاء، وأبو الوليد الباجي في كتابه التعديل والتجريح لمن خرج عنه البخاري في الصحيح، والذهبي في سير أعلام النبلاء، والعبر، وتذكرة الحفاظ، والكاشف، وأبو يعلى في طبقات الحنابلة، وابن طاهر في الجمع بين رجال الصحيحين، والسمعاني في الأنساب، والنووي في تهذيب الأسماء، وابن خلكان في وفيات الأعيان، وابن خير في الفهرس، وياقوت في معجم البلدان، وابن السبكي في طبقات الشافعية الكبرى، وابن كثير في طبقات الشافعية، وفي البداية والنهاية، والأسنوي في طبقات الشافعية، والعبادي في طبقات الشافعية، وابن هداية في الطبقات، وابن الأثير في اللباب، وابن تغري بردي في النجوم الزاهرة، وابن الجوزي في المنتظم، والصفدي في الوافي، واليافعي في مرآة الجنان، وابن حبان في الثقات، والمزي في تهذيب الكمال، وابن حجر في تهذيب التهذيب، والخزرجي في الخلاصة، والعليمي في المنهج الأحمد، وابن العماد في شذرات الذهب، والخوانساري في روضات الجنات، والزركلي، وكحالة وسزكين.
ولم يذكر جمهور من ترجم له أن له شيئا من المؤلفات، وإنما ذكر ابن خلكان وتابعه ابن العماد أن له مؤلفات في الفقه والحديث. وذكر له ابن خير حديث أبي علي الزعفراني في أربعة أجزاء وأسنده إليه بعدة طرق من طريق ابن الأعرابي عن الزعفراني، وكذلك ذكره(14/228)
صاحب صلة الخلف الذي ذكر له مسند بلال، وخباب، وعمار بإسناده إلى الفخر بن البخاري إلى الدجاجي إلى القطان عن الزعفراني.
ولعله من جمع تلميذه ابن الأعرابي.
ولم يصل إلينا شيء من آثار الزعفراني غير هذه الضميمة من حديث بلال، ولعلها من جمع تلميذه أبي عبد الله القطان. ذكر سزكين لهذه الضميمة نسخة أخرى بدار الكتب المصرية برقم 25585 حديثة النسخ في سنة 1351 هـ.
والزعفراني منسوب إلى الزعفرانية قرية بسواد العراق، ثم سكن ببغداد، فقيل للدرب الذي يسكن فيه درب الزعفراني نسبة إليه. وهذا تصحيح من ابن السبكي لقول شيخه الذهبي: إن الزعفراني منسوب إلى الدرب.
والعكس هو الصحيح.
روى عنه الستة إلا مسلما، كما روى عنه من ألف في الصحيح كابن خزيمة وأبي عوانة. وثقه النسائي، بل أجمعوا على إمامته وتوثيقه. كان نبطيا، ولكنه من أفصح أهل زمانه، ومن أهل اللغة.
ورد عند ابن عبد البر والسمعاني: (أنه الزعفراني البزار) ولم أر هذا عند غيرهما، ولعل السمعاني تابع ابن عبد البر، ويكون ابن عبد البر اختلط عليه الزعفراني بالحسن بن الصباح صاحب الإمام أحمد.
وفي طبقات الحنابلة لأبي يعلى: روى عنه الشافعي كتابه القديم.(14/229)
قال أبو عبد الرحمن: لعل هذا تطبيع، وأن العبارة (عن) بدون هاء الغائب.
قال ابن عبد البر عن الزعفراني:.
كان يذهب إلى مذهب أهل العراق فتركه وتفقه للشافعي. .
وكان نبيلا فقيها مأمونا قرأ على الشافعي الكتاب كله نيفا على ثلاثين جزءا، وكتبه عنه.
وهو الكتاب المعروف بالبغدادي، وبالقديم.
ويقال لكتابه (المصري الذي كتبه بمصر الجديد) . اهـ.
وقال ابن النديم: (روى المبسوط عن الشافعي على ترتيب ما رواه الربيع، وفيه خلف يسير) .
وليس يرغب الناس فيه، ولا يعملون عليه. وإنما يعمل الفقهاء على ما رواه الربيع.
ولا حاجة إلى تسمية الكتب التي رواها الزعفراني؛ لأنها قد قلت، واندرس أكثرها. وليس ينسخ فيما بعد) . اهـ.
قال أبو عبد الرحمن: إنما رغب الناس عنها فقها؛ لأنها القول القديم للشافعي، أما الأحاديث فلا بد أنها بقيت في رواية الزعفراني والبيهقي وغيرهما.
اختلف المؤرخون في تاريخ وفاة الزعفراني، فقال السمعاني مات في ربيع الآخر سنة 249 هـ.(14/230)
وقال ابن عبد البر: توفي سنة 259 هـ.
وقال الجمهور وقدماء المؤرخين توفي سنة 260 هـ إلا أن بعضهم قال: في شعبان، وبعضهم قال: في رمضان، وحدده ابن طاهر بيوم الاثنين لثمان بقين من رمضان سنة 260 هـ.
ولم يذكروا تاريخ مولده، إلا أن الذهبي اختار أنه ولد سنة 160 هـ ثم قال: وهو في عشر التسعين. قال هذا في تذكرة الحفاظ، وقال في السير: ولد سنة بضع وسبعين ومائة.
أما صلة الزعفراني بالشافعي فقد حددها بقوله: (قدم علينا الشافعي بغداد سنة 195 هـ) اهـ.
وقد سمع بقراءته الكتب على الشافعي: أحمد، وأبو ثور، والكرابيسي.(14/231)
أسانيد الكتاب وسماعاته:
سيأتي سند الكتاب في صدره، ولكنني أضيف ما جاء في طرة الجزء وآخره.
جاء في الطرة: (مسند بلال بن رباح المؤذن رضي الله عنه: تأليف الإمام أبي علي الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني رحمه الله تعالى: رواية أبي عبد الله الحسن بن يحيى بن عياش القطان عنه: رواية أبي محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله الأسدي عنه: رواية أبي الغنائم محمد بن علي بن الحسن الدجاجي عنه: رواية أبي منصور عبد الرحمن بن محمد بن عبد الواحد القزاز: رواية أبي حفص عمر بن محمد بن معمر بن طبرزد البغدادي عنه: رواية أبي الحسن علي بن(14/231)
أحمد بن عبد الواحد بن البخاري، وأبي العباس أحمد بن شيبان بن تغلب الدمشقي، وأم أحمد زينب بنت مكي بن علي بن كامل الحرانية. ثلاثتهم عنه) . اهـ.
قال أبو عبد الرحمن: ابن العياش القطان [239 - 334] هـ، ترجم له الخطيب في تاريخ بغداد 8 \ 148.
والأسدي هو ابن الأكفاني [- 405 هـ] . ترجم له في تاريخ بغداد 10 \ 141 - 142.
وابن الدجاجي البغدادي توفي سنة 463 هـ.
وأبو منصور القزاز شيباني بغدادي يعرف بابن زريق توفي سنة 535 هـ.
وابن طبرزد 516 - 607 هـ، ترجمته في التكملة للمنذري 3 \ 334 - 337، والمحقق لبشار عواد معروف ص 6 5 - 57.
وابن البخاري 596 - 690 هـ، ترجمته في معجم المؤلفين 7 \ 19.
وابن تغلب [598 - 685 هـ] ، ترجمته في الوافي للصفدي 6 \ 417 - 418 وكناه أبا المعالي بدر الدين الشيباني الصالحي العطار ثم الخياط.
وزينب [624 أو 594 - 688 هـ[ترجمتها في أعلام النساء لكحالة 2 \ 116 - 119.
وورد في الطرة: (الحمد لله وحده، وبعد فقد سمع جميع هذا الجزء على أم الفضل هاجر بنت الشرف محمد القدسي مسندة فيه بقراءة(14/232)
العلامة الأوحد الزين محمد بن الزين عبد الرحمن بن محمد الأسدي الدمشقي الشافعي فسمعه: الشهاب أحمد بن داود بن سليمان البيجوري، وأبو الطيب الطبيب محمد بن محمد بن يحيى بن أبي علي التقاوسي القسنطيني.
وذا خطه، وصح وثبت في ليلة لأربعاء العشرين من محرم سنة 873 هـ إجازته، ولله الحمد.
قرأ محمد المظفري جميع هذا الجزء على سيدنا الشيخ بدر الدين محمد بن المحب: أنا شيخ الإسلام أحمد بن حجر بسنده فيه.
سمعه الشيخ العلامة جلال الدين البلبيسي وأجاز المسمع بتاريخ ثالث وعشرين ربيع الثاني من اثني عشر وتسع مائة.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. (صح ذلك قاله محمد بن المحب المالكي.) اهـ.
وورد في آخر الجزء: (على الأصل المنقول منه: سمع جميع هذا الجزء - وهو مسند بلال للزعفراني - على (عمر بن محمد بن طبرزد) بقراءة الحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي: علي بن عبد الواحد المقدسي، وزينب بنت مكي، وأحمد بن شعبان، وآخرون في القريب من شوال سنة 603 هـ. وسمعه على (أبي الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد المقدسي - عرف بابن البخاري) بقراءة محمود بن أبي بكر الأرموي: نور الدين علي بن حسن بن علي الأرموي في آخرين.
وصح في رمضان سنة 688 بمنزل المسمع بسفح قاسيون.(14/233)
وسمعه علي أبي الحسن علي بن حسن بن علي الأرموي سماعه أعلاه بقراءة ناصر الدين محمد بن أبي القاسم بن إسماعيل الفارقي: أبو بكر بن قاسم بن أبي بكر الرحبي، وابنه أحمد - وعلي بن قيران بن عبد الله السكزي، والإمام أبو الحسن علي بن أبي محمد عبد الله بن أبي الحسن الأردبيلي (1) . التبريزي، وآخرون في يوم الثلاثاء خامس عشر جمادى الآخر سنة 726 هـ.
وسمعه عليه أيضا جماعة منهم أحمد بن حسن بن محمد بن محمد بن زكريا السويداوي سنة 738 هـ.
وسمعه على أبي العباس أحمد بن الحسن بن محمد القدسي السويداوي بقراءة كاتب السماع أحمد بن علي بن محمد العسقلاني:.
ولد المسمع أبو البقاء محمد الأصغر. (وصح سماع المسمع في الثالث عشر من المحرم سنة 799 وأجاز.) . اهـ.
قال أبو عبد الرحمن: هاجر بنت محمد بن محمد بن أبي بكر بن أبي الطاعة [790 - 874] ترجم لها السخاوي في الضوء اللامع. وضياء الدين [569 - 643 هـ] هو الحافظ الإمام صاحب المختارة في الصحاح.
ومحمود الأرموي: فيه اثنان بهذا الاسم:
أحدهما: محمود بن أبي بكر الأرموي التنوخى [594 - 682 هـ] .
__________
(1) في الأصل: الأربلي.(14/234)
وثانيهما: محمود بن أبي بكر الأرموي الحسني صفي الدين [646 - 722 هـ] .
ولعل هذا الأخير هو المقصود؛ لأن السماع بقراءته في 688 هـ، والأول توفي قبل هذا التاريخ.
ونور الدين [652 - 736 هـ] ، شافعي ترجمته في الدرر الكامنه 3 \ 109.
والفارقي [676 - 761 هـ] ، ترجمته في الدرر 4 \ 265.
والرحبي [666 - 749 هـ] ، ترجمته في الدرر 1 \ 487.
وابن قيران توفي سنة 744 هـ وله ست وثمانون سنة، وترجمته في الدرر 3 \ 169.
والأردبيلي [677 - 741 هـ] ، ترجمته في معجم المؤلفين لكحالة 7 \ 134.
والسويداوي [725 - 826 هـ] ، ترجمته في الضوء اللامع 1 \ 278 - 279.
والحافط ابن حجر توفي سنة 825 ومولده سنة 773 هـ.(14/235)
نص الجزء من مسند بلال
: أخبرنا. جدي لأمي شيخ الإسلام والحفاظ أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني - إجازة إن لم يكن سماعا - والمسندة المكرمة أم الفضل هاجر بنت محمد بن محمد بن أبي بكر القدسي قراءة عليها في شوال سنة 868 هـ قالا: أنا المسند شهاب الدين أحمد بن حسن بن محمد السويداوي - سماعا للأول بقراءته، وإجازة للثانية إن لم يكن سماعا -: أنا أبو الحسن علي بن حسن بن علي الأرموي، وأنبأنا غير واحد منهم المسند عز الدين عبد الرحيم بن محمد بن عبد الرحيم بن الفرات (1) . إجازة إن لم يكن سماعا عن ست العرب بنت البخاري:
أنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد المقدسي الشهير بابن البخاري: أنا أبو حفص عمر بن محمد بن معمر بن طبرزد البغدادي سماعا عليه في العشرين من شوال سنة ثلاث وست مائة: أنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد بن عبد الواحد القزاز - قراءة عليه ونحن نسمع: أنا أبو الغنائم محمد بن علي بن علي بن الحسن بن الدجاجي: أنا القاضي أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم الأسدي - قراءة عليه ونحن نسمع في شهر ربيع الأول سنة
__________
(1) ولد سنة 759 وتوفي سنة 851 هـ ترجمته في الضوء اللامع 14 \ 186 - 188.(14/236)
394 في جامع الرصافة بالجانب الشرقي من مدينة السلام -: أنا أبو عبد الله الحسين بن يحيى بن عياش القطان: أنا أبو علي الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني قال:(14/237)
حديث أبي عبد الله بلال بن رباح
: حدثنا يحيى بن عباد، ثنا حماد بن زيد: ثنا عمرو بن دينار: أن ابن عمر حدث عن بلال رضي الله عنهم: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة (1) » .
حدثنا حسين بن الحسن. عن ابن عون (2) ، عن نافع: عن ابن عمر رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة ومعه بلال، وأسامة وعثمان بن طلحة. وقد أجاف عليهم الباب. قال: فقعدت بالأرض مليا، ثم خرج، فدخلت، فقلت: أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: قالوا: هاهنا.
__________
(1) رواه الطبراني بإسناده إلى مسدد وعلي بن عبد العزيز، وذلك في المعجم الكبير.
(2) هو جعفر بن عون المخزومي الكوفي ثقة توفي سنة 206 هـ.(14/237)
ونسيت أن أسأل كم صلى (1) » .
حدثنا سعيد بن منصور: ثنا حماد بن زيد: عن عمرو بن دينار: عن ابن عمر: عن بلال رضي الله عنهم: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في جوف الكعبة (2) » .
حدثنا: سعيد بن سليمان. ثنا عبد الله بن المؤمل، سمعت ابن أبي مليكة (3) ، عن ابن عباس (4) . رضي الله عنهما قال: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة، فكان بلال والفضل على الباب. فقال بلال: سجد. وقال الفضل: إنما كان يركع (5) » .
__________
(1) رواه الطبراني في المعجم الكبير بإسناده إلى ابن عون.
(2) صحيح البخاري المغازي (4400) ، صحيح مسلم الحج (1329) ، سنن الترمذي الحج (874) ، سنن النسائي القبلة (749) ، سنن أبو داود المناسك (2023) ، سنن ابن ماجه المناسك (3063) ، مسند أحمد بن حنبل (6/12) ، موطأ مالك الحج (910) ، سنن الدارمي المناسك (1866) .
(3) هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي ملكية زهير بن عبد الله بن جدعان القرشي ثقة مات سنة 117 هـ.
(4) هكذا في الأصل تهميش غير ظاهر رسمه هكذا (عور) والظاهر أنه ابن عمر لا ابن عباس رضي الله عنهم.
(5) أصل الحديث عن صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم في الكعبة وارد في الصحيحين والموطأ وأبي داود والدارمي والنسائي وأحمد وأبي عوانة وعبد الرزاق والمعجم الكبير للطبراني وتاريخ مكة للأرزقي. ويعارضه حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر ولم يصل فيه. ولكن الحافظ ابن حجر في فتح الباري نفى التعارض؛ لأن ابن عباس أثبت التكبير ولم يتعرض له بلال. أما الصلاة فإثبات بلال أصح - لأنه كان معه، أما ابن عباس فلم يكن معه إنما كان يروي عن أسامة والفضل. فأما الفضل فلم يكن معه إلا في رواية شاذة. وأما أسامة فاختلف عليه في النفي والإثبات. وهناك وجوه من الجمع ذكرها الشوكاني في نيل الأوطار. قال أبو عبد الرحمن: اختلاف بلال والفضل بموجب هذه الراوية التي ذكرها الزعفراني يؤيد رأي من جمع بين الحديثين بأن الفضل وأسامة وبلالا رضي الله عنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة، وأنها بعد إغلاق الباب كانت ظلاما، وأن أسامة والفضل كانا بعيدين، وأن بلالا رضي الله عنهم أقرب منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأثبتوا ما سمعوه من التكبير، وأثبت بلال ما رآه من الصلاة، وورد أيضا النص على أن الفضل كان حاضرا عند الطبراني في المعجم الكبير 1 \ 332 بهذا الإسناد: حدثنا أبو يزيد القراطيسي: ثنا يعقوب بن أبي عباد المكي: ثنا مسلم بن خالد: عن إسماعيل بن أمية: عن نافع: عن ابن عمر.(14/238)
حدثنا شبابة (1) ، ثنا الليث: عن ابن شهاب: عن سالم: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال.
«دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت، وأسامة، وبلال، وعثمان بن طلحة رضي الله عنهم فأغلقوا الباب، فلما فتحوا كنت أول من ولج، فلقيت بلالا فسألته عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم؟
فقال: نعم صلى بين العمودين اليمانيين (2) » .
حدثنا داود بن مهران. يعني العطار: عن موسى (3) ، عن نافع: «أن عبد الله بن عمر سأل بلالا رضي الله عنهم
__________
(1) ابن سوار صدوق يعاب بالإرجاء وأنه يخطئ من حفظه توفي سنة 255 هـ.
(2) رواه الطبراني في المعجم الكبير 1 \ 332 فقال: حدثنا مطلب بن شعيب الأزدي: ثنا عبد الله بن صالح: حدثني الليث. . إلخ.
(3) ابن عقبة صاحب المغازي ثقة مات سنة 141 هـ.(14/239)
- وكان دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة -: هل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة؟ فقال بلال: نعم. وقد نسيت أن أسأله كم صلى (1) » .
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2988) ، صحيح مسلم الحج (1329) ، سنن الترمذي الحج (874) ، سنن النسائي القبلة (749) ، سنن أبو داود المناسك (2023) ، سنن ابن ماجه المناسك (3063) ، مسند أحمد بن حنبل (6/12) ، سنن الدارمي المناسك (1866) .(14/240)
[باب المسح على الخفين]
حدثنا يحيى بن عباد: ثنا شعبة: أخبرني الحكم (1) ، عن ابن أبي ليلى: قال: قال بلال رضي الله عنهم: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين والخمار (2) » .
حدثنا عفان (3) ، ثنا شعبة قال: قال أبو بكر بن حفص (4) . سمعت أبا عبد الله مولى لبني تيم بن مرة يحدث عن أبي عبد الرحمن (5) . أنه كان قاعدا، فمر بلال رضي الله عنهم، فسألوه عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي الحاجة، فيدعو بالماء.
فكنت آتيه بالماء فيمسح على موقيه وعمامته (6) » .
__________
(1) ابن عتيبة الكندي الجمهور على ثقته وإمامته [50 - 113 هـ] .
(2) رواه عبد الرزاق في المصنف عن الثوري: عن الأعمش: عن الحكم بن عتيبة: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى. ورواه أحمد والطبراني.
(3) ابن مسلم الصفار الإمام الجليل [134 - 220 هـ] .
(4) هو عبد الله بن حفص بن عمر بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم ثقة.
(5) انظر عن أبي عبد الله، وأبي عبد الرحمن تهذيب التهذيب 12 \ 151 و 155.
(6) عند أحمد في المسند 6 \ 12: ثنا محمد بن بكر، وعبد الرزاق قالا: أنا ابن جريج: أخبرني أبو بكر بن حفص بن عمر: أخبرني أبو عبد الرحمن: عن أبي عبد الله: أنه سمع عبد الرحمن بن عوف يسأل بلالا. ورواه كما عند الزعفراني 6 \ 13 إلا أنه ذكر ابن عوف ورواه الطبراني بإسناده إلى أبي عبد الرحمن بن عبد الله، ورواه عبد الرزاق في المصنف.(14/240)
حدثنا عاصم (1) ، ثنا محمد بن راشد: عن مكحول: عن نعيم بن عمار (2) ، عن بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «امسحوا على الخفين والخمار (3) » .
حدثنا عاصم: ثنا شعبة قال: سألت حمادا عن المرأة تمسح على خمارها بماء؟
قال: قال لي إبراهيم: تنزع خمارها وتمسح على رأسها. قال شعبة: كنت إذا سألت الحكم عن هذا قال: سمعت ابن أبي ليلى يحدث عن بلال رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح على الخمار والخفين (4) » .
حدثنا علي، ثنا ابن ثوبان (5) ، عن أبيه: عن محكول: عن الحارث بن معاوية، وسهيل بن أبي جندل. أنهما سألا بلالا رضي الله
__________
(1) ابن علي بن عاصم الواسطي وثقه الجمهور.
(2) قال ابن عبد البر - كما في تهذيب التهذيب - حديث مكحول عنه منقطع لم يسمع منه بينهما كثير بن مرة.
(3) صحيح مسلم الطهارة (275) ، سنن الترمذي الطهارة (101) ، سنن النسائي الطهارة (106) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (561) ، مسند أحمد بن حنبل (6/12) .
(4) رواه عبد الرزاق عن محمد بن راشد، ورواه الإمام أحمد في مسنده. ورواه الطبراني في المعجم الكبير 1 \ 336 بإسناده إلى الأوزاعي عن مكحول، ورواه بإسناده إلى عبد الرزاق: عن محمد بن راشد: أخبرني مكحول. . إلخ بلفظ: امسحوا على الخفين والخمار.
(5) هو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان متفق على صلاحه، والجمهور على ضعفه في الرواية. وأبوه ثقة باتفاق.(14/241)
عنه عن المسح؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «امسحوا على الخفين والموق» .
حدثنا علي: ثنا زهير: عن حميد: عن أبي رجاء: عن عمه أبي إدريس: «أنه كان قاعدا بدمشق في يوم بارد فأراد أن يخلع خفيه فمر به بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنه، فقال: يا بلال: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ قال: كان يمسح على الخفين والخمار. قال: وترك خفيه فلم يخلعها (1) » .
حدثنا علي: ثنا سفيان: عن أبان بن تغلب: عن الحكم: عن ابن أبي ليلى: عن بلال رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين والخمار (2) » .
__________
(1) رواه الطبراني في المعجم الكبير: عن علي بن عبد العزيز - صاحب المنتخب - بإسناده إلى مالك بن إسماعيل: عن زهير.
(2) قال الحميدي في مسنده 1 \ 82: ثنا سفيان: ثنا أبان بن تغلب، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى. ورواه الطبراني في المعجم الكبير 1 \ 342 بإسناده إلى سفيان عن ابن أبي ليلى، وأبان بن تغلب: عن الحكم. وحديث بلال رواه الجماعة إلا البخاري وأبا داود. وأحاديث المسح على العمامة صحاح ثابتة عن عمرو بن أمية، والمغيرة، وأبي أمامة، وأبي موسى، وأبي طلحة، وخزيمة، وثوبان رضي الله عنهم. وهو مذهب جمهور الصحابة والتابعين. نقل الشوكاني في نيل الأوطار قول عمر رضي الله عنه - كما أسنده إليه الخلال في الجامع -: من لم يطهره المسح على العمامة فلا طهره الله.(14/242)
باب أفطر الحاجم والمحجوم:
حدثنا يزيد بن هارون: ثنا أبو العلاء، عن قتادة: عن شهر بن حوشب (1) . عن بلال رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفطر الحاجم والمحجوم (2) » .
__________
(1) قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه البزار، وشهر لم يلق بلالا.
(2) استوفى تخريجه الزيلعي في نصب الراية، وصححه الألباني في إرواء الغليل 4 \ 65 - 75.(14/243)
باب الأذان
حدثنا عفان: ثنا شعبة قال: منصور وسليمان أخبراني عن إبراهيم: عن الأسود: عن بلال: أنه سمعه يؤذن. الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. آخر مسند بلال للزعفراني. الحمد لله وحده. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. حسبنا الله ونعم الوكيل.(14/243)
صفحة فارغة(14/244)
الاجتهاد ومدى إمكانه في هذا الزمان
بقلم الدكتور \ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
بحث حول موضوع فتح باب الاجتهاد
الحمد لله وحده. والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وآله وصحبه وبعد: فهذا بحث حول موضوع فتح باب الاجتهاد قمت بتوفيق الله وإعانته بكتابة ما تيسر حول هذا الموضوع مسترشدا بأدلة الكتاب والسنة وكلام أهل العلم، ويتلخص هذا البحث في النقاط التالية:
- تعريف الاجتهاد لغة وشرعا - حكم الاجتهاد وأدلته - متى وجد الاجتهاد في هذه الأمة - شروط المجتهد وأنواع الاجتهاد - حكم الاجتهاد في هذا الزمان وهو ما يعبر عنه بفتح باب الاجتهاد، خاتمة نبين فيها ثمرات البحث ونتائجه. إذ كثيرا ما نسمع دعوات تطالب بفتح باب الاجتهاد ومن المعلوم أن ديننا كامل وشامل لكل متطلبات الحياة.
- قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} (2) وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (3) وقد استنبط علماؤنا الأوائل من هذا الكتاب العلم الغزير الذي غطى حاجتهم ومهدوا منه القواعد العلمية التي يسترشد بها من جاء بعدهم، ولا يزال القرآن يشتمل على بيان حكم كل نازلة إلى يوم القيامة، وسنة
__________
(1) ورد لكاتب البحث ترجمه في العدد السابع صفحه 238.
(2) سورة المائدة الآية 3
(3) سورة النحل الآية 89(14/245)
رسول الله صلى الله عليه وسلم تفسره وتبينه، وبالرجوع إليها وتدبرها نحصل على العلم الغزير والفقه الكثير؛ لأنها وحي من عند الله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (1) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (2) وهكذا بعلم الكتاب والسنة تحل المشكلات وتحصل الهداية التامة وصدق الله العظيم: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (3) {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (4) نسأل الله أن يمن علينا بالعلم النافع والعمل الصالح والتمسك بكتابه وسنة نبيه وأن يتوفانا مسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) سورة النجم الآية 3
(2) سورة النجم الآية 4
(3) سورة طه الآية 123
(4) سورة طه الآية 124(14/246)
1 - تعريف الاجتهاد لغة وشرعا: الاجتهاد لغة: بذل الوسع والمجهود (1) . - مأخوذ من الجهد (بضم الجيم) وهو الطاقة كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} (2) في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في أي فعل كان (3) .، وأما الاجتهاد في اصطلاح الأصوليين فهو: بذل المجهود في العلم بأحكام الشرع (4) . وبين التعريف اللغوي والتعريف الاصطلاحي عموم وخصوص، فالتعريف الاصطلاحي أخص من التعريف اللغوي؛ إذ التعريف اللغوي يهم بذل الوسع في تحصيل أي شيء يحتاج تحصيله إلى بذل وسع، أما التعريف الاصطلاحي فإنما يعني بذل الوسع في معرفة الحكم الشرعي خاصة.
__________
(1) انظر الصحاح للجوهري (1 \ 460) بتحقيق الأستاذ عبد الغفور عطار.
(2) سورة التوبة الآية 79
(3) المحصول للرازي (3 \ 7 - 8) بتحقيق الدكتور طه العلواني.
(4) روضة الناظر لابن قدامة ص 190.(14/246)
2 - أدلة الاجتهاد في الشريعة: الأصل في الاجتهاد قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (1) إذ من المعلوم أن الحكمين يجتهدان في الجزاء المناسب في الصيد الذي يقتله المحرم متعمدا - وقوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} (2) فداود وسليمان عليهما السلام حكما بالاجتهاد بدليل قوله تعالى في الآية التي تليها {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} (3) ولو حكما بالنص لم يخص سليمان بالتفهيم. والدليل في السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران (4) » .
__________
(1) سورة المائدة الآية 95
(2) سورة الأنبياء الآية 78
(3) سورة الأنبياء الآية 79
(4) الحديث رواه مسلم (12 \ 13) .(14/247)
3 - وأما وقت وجود الاجتهاد في هذه الأمة فقد وجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال معاذ رضي الله عنه: (أجتهد رأيي) (1) . وصوبه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص: «احكم في بعض القضايا. فقال: أجتهد وأنت حاضر: فقال: نعم إن أصبت فلك أجران. وإن أخطأت فلك أجر (2) » . وفوض صلى الله عليه وسلم الحكم في بني قريظة إلى سعد بن معاذ رضي الله عنه وصوبه (3) . قال الإمام ابن القيم رحمه الله (4) . وكان التبليغ عنه من عين تبليغ ألفاظه وما جاء به وتبليغ معانيه، كان العلماء من أمته منحصرين في قسمين:
__________
(1) من حديث رواه الترمذي (4 \ 556) وأبو داود (9 \ 509) .
(2) من حديث رواه الحاكم (4 \ 88) وقال: صحيح الإسناد.
(3) انظر صحيح البخاري (7 \ 411) .
(4) إعلام الموقعين (1 \ 8 - 9) .(14/247)
أحدهما حفاظ الحديث وجهابذته والقادة الذين هم أئمة الأنام وزوامل الإسلام الذين حفظوا على الأمة معاقد الدين ومعاقله. وحموا من التغيير والتكدير موارده ومناهله، حتى ورد من سبقت له من الله الحسنى تلك المناهل صافية من الأدناس، لم تشبها الآراء تغييرا، ووردوا فيها عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا، وهم الذين قال فيهم الإمام أحمد بن حنبل في خطبته المشهورة في كتابه في الرد على الزنادقة والجهمية: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من تائه قد هدوه. فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون في المتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتنة المضلين.
قال ابن القيم: القسم الثاني فقهاء الإسلام، ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام، الذين خصوا باستنباط الأحكام، وعنوا بضبط قواعد الحلال والحرام، فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} (1) .
__________
(1) سورة النساء الآية 59(14/248)
قال عبد الله بن عباس في إحدى الروايتين عنه وجابر بن عبد الله والحسن البصري وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح والضحاك ومجاهد في إحدى الروايتن عنه: أولو الأمر هم العلماء، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وقال أبو هريرة وابن عباس في الرواية الأخرى وزيد بن أسلم، والسدي ومقاتل: هم الأمراء. وهو الرواية الثانية عن أحمد انتهى.
وهكذا نجد أن الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية قديم ومستمر في تاريخ الإسلام؛ لأنه هو الفقه في الدين الذي قاله عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » . وقال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} (2) وعملا بذلك أقبل علماء الإسلام على نصوص الكتاب والسنة فحفظوها واستنبطوا منها الأحكام الشرعية وفجروا منها ينابيع العلم، واجتهدوا في تطبيقها على النوازل فكان من آثار هذا العمل الجليل تلك الأسفار الضخمة التي تزخر بها المكتبات الإسلامية، إنها كتب الفقه الإسلامي التي نعتز بها ونجد فيها حلولا لمشكلاتنا ونجد فيها أكبر عون على فهم الكتاب والسنة.
فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ووفق الله الخلف للانتفاع بعلم السلف.
__________
(1) رواه البخاري (1 \ 164) مع فتح الباري.
(2) سورة التوبة الآية 122(14/249)
4 - أما شروط الاجتهاد، فإنه لما كانت مرتبة الاجتهاد واستنباط الأحكام مرتبة خطيرة؛ لأن ذلك يتضمن الإخبار عن حكم الله والاجتهاد عرضة للخطأ وهذا يترتب عليه آثار سيئة على الأجيال اللاحقة بحيث تكون تلك الأخطاء الاجتهادية سببا في ضلال من يأخذ بها وابتعاده عن الكتاب والسنة؛ لذلك صار منصب الاجتهاد منصبا عاليا لا يناله إلا من توافرت فيه المؤهلات العلمية.
قال العلامة ابن القيم (1) رحمه الله: ولما كان التبليغ عن الله سبحانه وتعالى يعتمد على العلم بما يبلغ والصدق فيه لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق - فيكون عالما بما يبلغ صادقا فيه - ويكون مع ذلك حسن الطريقة مرضي السيرة، عدلا في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله. وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات، فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه. ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به - فإن الله ناصره وهاديه. وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب - فقال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} (2) . وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفا وجلالة؛ إذ يقول في كتابه {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} (3) وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه
__________
(1) إعلام الموقعين (1 \ 10 - 11)
(2) سورة النساء الآية 127
(3) سورة النساء الآية 176(14/250)
وليوقن أنه مسئول غدا بين يدي الله. انتهى.
ولما كان منصب الاجتهاد بهذه الخطورة فقد وضع العلماء شروطا لمن يتولى هذا المنصب لأجل تلافي الأخطار الناجمة عن اجتهاد من لا تتوفر فيه تلك الشروط واعتبار اجتهاده غير معترف به، ولا يجوز العمل به وهذه الشروط كما يلي (1) :
1 - إحاطة المجتهد بمدارك الأحكام المثمرة لها من كتاب وسنة وإجماع واستصحاب وقياس ومعرفة الراجح منها عند ظهور التعارض وتقديم ما يجب تقديمه منها كتقديم النص على القياس.
2 - علمه بالناسخ والمنسوخ ومواضع الإجماع والاختلاف، ويكفيه أن يعلم أن ما يستدل به ليس منسوخا، وأن المسألة لم ينعقد فيها إجماع من قبل.
3 - معرفته بالعام والخاص والمطلق والمقيد والنص والظاهر والمؤول والمجمل والمبين والمنطوق والمفهوم والمحكم والمتشابه.
4 - معرفته بما يصلح للاحتجاج به من الأحاديث من أنواع الصحيح والحسن والتمييز بين ذلك وبين الضعيف الذي لا يحتج به، وذلك بمعرفته بأسباب الضعف المعروفة في علم الحديث والأصول.
5 - أن يكون على علم بالنحو واللغة العربية يمكنه من فهم الكلام.
تلك أهم الشروط التي لا بد من توافرها في المجتهد، والعدالة ليست شرطا من أصل الاجتهاد، وإنما هي شرط في قبول فتوى المجتهد، ولا يشترط كذلك حفظه لآيات الأحكام وأحاديثها، بل يكفي علمه بمواضعها في المصحف، وكتب الحديث ليراجعها عند الحاجة.
__________
(1) انظر روضة الناظر ص190 - 191.(14/251)
5 - أنواع الاجتهاد: قال الإمام علاء الدين علي بن سليمان المرداوي في كتابه الإنصاف (1) : واعلم أن المجتهد ينقسم إلى أربعة أقسام: القسم الأول: المجتهد المطلق وهو الذي اجتمعت فيه شروط الاجتهاد والتي ذكرها المصنف في آخر كتاب القضاء (2) على ما تقدم هناك إذا استقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية العامة والخاصة وأحكام الحوادث منها ولا يتقيد بمذهب أحد إلى أن قال: قال في آداب المفتي والمستفتي: ومن زمن طويل عدم المجتهد المطلق مع أنه الآن أيسر منه في الزمن الأول؛ لأن الحديث والفقه قد دونا. وكذا ما يتعلق بالاجتهاد من الآيات والآثار وأصول الفقه والعربية وغير ذلك، لكن الهمم قاصرة. والرغبات فاترة، وهو فرض كفاية قد أهملوه وملوه ولم يعقلوه ليفعلوه، انتهى. القسم الثاني: مجتهد في مذهب إمامه أو إمام غيره وأحواله أربعة:
الحالة الأولى: أن يكون غير مقلد لإمامه في الحكم والدليل، لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتوى ودعا إلى مذهبه وقرأ كثيرا منه على أهله فوجده صوابا، وأولى من غيره وأشد موافقة فيه وفي طريقه - إلى أن قال: وفتوى المجتهد المذكور كفتوى المجتهد المطلق في العمل بها والاعتداد بها في الإجماع والخلاف.
الحالة الثانية: أن يكون مجتهدا في مذهب إمامه مستقلا بتقريره بالدليل، لكن لا يتعدى أصوله وقواعده مع إتقانه للفقه وأصوله وأدلة مسائل الفقه، عالما بالقياس ونحوه، تام الرياضة، قادرا على التخريج والاستنباط وإلحاق الفروع بالأصول والقواعد التي لإمامه. إلى أن قال:
__________
(1) الجزء 12 ص258.
(2) يعني من كتاب المقنع لموفق الدين بن قدامة.(14/252)
وهذا شأن أهل الأوجه والطرق والمذاهب وهو حال أكثر علماء الطوائف الآن.
فمن علم يقينا هذا فقد قلد إمامه دونه؛ لأن معوله على صحة إضافة ما يقول إلى إمامه لعدم استقلاله بتصحيح نسبته إلى الشارع بلا واسطة إمامه، والظاهر معرفته بما يتعلق بذلك من حديث ولغة ونحو - إلى أن قال: والحاصل أن المجتهد في مذهب إمامه هو الذي يتمكن من التفريع على أقواله، كما يتمكن المجتهد المطلق من التفريع على ما انعقد عليه الإجماع ودل عليه الكتاب والسنة والاستنباط.
الحالة الثالثة: أن لا يبلغ به رتبة أئمة المذاهب أصحاب الوجوه والطرق، غير أنه فقيه النفس حافظ لمذهب إمامه عارف بأدلته قائم بتقريره ونصرته يصور ويحرر ويمهد ويقوي ويزيف ويرجح، لكنه قصر عن درجة أولئك إما لكونه لم يبلغ في حفظ المذهب مبلغهم، وإما لكونه غير متبحر من أصول الفقه ونحوه. قال: وهذه صفة كثير من المتأخرين الذين رتبوا المذاهب وحرروها وصنفوا فيها تصانيف بها يشتغل الناس اليوم غالبا ولم يلحقوا من يخرج الوجوه ويمهد الطرق في المذاهب.
الحالة الرابعة: أن يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه، فهذا يعتمد نقله وفتواه به فيما يحكيه من مسطورات مذهبه من منصوصات إمامه أو تفريعات أصحابه المجتهدين في مذهبه وتخريجاتهم. وما لا يجده منقولا في مذهبه - فإن وجد في المنقول ما هذا معناه بحيث يدرك من غير فضل فكر وتأمل أنه لا فارق بينهما. كما في الأمة بالنسبة إلى العبد المنصوص عليه في إعتاق الشريك جاز له إلحاقه به والفتوى به، وكذلك ما يعلم اندراجه تحت ضابط ومنقول ممهد محرر في المذهب. وما لم يكن كذلك فعليه الإمساك عن الفتيا فيه - إلى أن قال: ثم إن هذا الفقيه لا يكون(14/253)
إلا فقيه النفس؛ لأن تصوير المسائل على وجهها ونقل أحكامها بعده لا يقوم به إلا فقيه النفس، ويكفي استحضاره أكثر المذهب قدرته على مطالعة بقيته قريبا.
القسم الثالث: المجتهد في نوع من العلم: فمن عرف القياس وشروطه فله أن يفتي في مسائل منه قياسية لا تتعلق بالحديث، ومن عرف الفرائض فله أن يفتي فيها وإن جهل أحاديث النكاح وغيره وعليه الأصحاب. وقيل: يجوز ذلك في الفرائض دون غيرها وقيل: بالمنع فيهما وهو بعيد. القسم الرابع: المجتهد في مسائل أو مسألة، وليس له الفتوى في غيرها. وأما فيها فالأظهر جوازه. ويحتمل المنع لأنه مظنة القصور والتقصير. قاله في آداب المفتي والمستفتي قلت: المذهب الأول. قال ابن مفلح في أصوله: يتجزأ الاجتهاد عند أصحابنا وغيرهم انتهى.
وتجزؤ الاجتهاد الذي أشار إليه هو أن يكون العالم قد تحصل له في بعض المسائل ما هو مناط الاجتهاد من الأدلة دون غيرها (1) - فإذا حصل له ذلك فهل له أن يجتهد فيها أو لا بد أن يكون مجتهدا مطلقا عنده ما يحتاج إليه في جميع المسائل، فذهب جماعة إلى أنه يتجزأ وعزاه الصفي الهندي إلى الأكثرين، وحكاه صاحب النكت عن أبي علي الجبائي وأبي عبد الله البصري. قال ابن دقيق العيد: وهو المختار؛ لأنها قد تمكن العناية بباب من الأبواب الفقهية حتى تحصل المعرفة بمأخذ أحكامه، وإذا حصلت المعرفة بالمآخذ أمكن الاجتهاد.
قال الغزالي والرافعي: يجوز أن يكون العالم منتصبا للاجتهاد في باب دون باب. وذهب آخرون إلى المنع؛ لأن المسألة في نوع من الفقه ربما كان أصلها من نوع آخر منه.
__________
(1) إرشاد الفحول للصنعاني ص254 - 255.(14/254)
احتج الأولون بأنه لو لم يتجزأ الاجتهاد لزم أن يكون المجتهد عالما بجميع المسائل. واللازم منتف، فكثير من المجتهدين قد سئل فلم يجب، وكثير منهم سئل عن مسائل فأجاب في البعض وهم مجتهدون بلا خلاف.
ومن ذلك ما روي أن مالكا سئل عن أربعين مسألة فأجاب في أربع منها وقال في الباقي: لا أدري (1) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (2) : والاجتهاد ليس هو أمرا واحدا لا يقبل التجزؤ والانقسام. بل قد يكون الرجل في فن أو باب أو مسألة دون فن وباب ومسألة، وكل أحد فاجتهاده بحسب وسعه، فمن نظر في مسألة تنازع العلماء فيها ورأى مع أحد القولين نصوصا لم يعلم لها معارضا بعد نظر مثله فهو بين أمرين: إما أن يتبع قول القائل الآخر لمجرد كونه الإمام الذي اشتغل على مذهبه، ومثل هذا ليس بحجة شرعية بل مجرد عادة يعارضها عادة غيره، واشتغال على مذهب إمام آخر، وإما أن يتبع القول الذي ترجح في نظره بالنصوص الدالة عليه، وحينئذ فتكون موافقته لإمام يقاوم ذلك الإمام، وتبقى النصوص سالمة في حقه عن المعارض بالعمل، فهذا هو الذي يصح. وإنما تنزلنا هذا التنزيل؛ لأنه قد يقال: إن نظر هذا قاصر وليس اجتهاده قائما في هذه المسألة؛ لضعف آلة الاجتهاد في حقه، أما إذا قدر على الاجتهاد التام الذي يعتقد معه أن القول الآخر ليس معه ما يرفع به النص، فهذا يجب عليه اتباع النصوص وإن لم يفعل كان متبعا للظن وما تهوى الأنفس، وكان من أكبر العصاة لله ولرسوله بخلاف من يقول قد يكون للقول الآخر حجة راجحة على هذا النص، وأنا لا أعلمها فهذا يقال له: قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (3) وقال النبي
__________
(1) المرجع السابق.
(2) مجموع الفتاوى (20 \ 212 - 213) .
(3) سورة التغابن الآية 16(14/255)
صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (1) » .
والذي تستطيعه من العلم والفقه في هذه المسألة قد دلك على أن هذا القول هو الراجح فعليك أن تتبع ذلك. ثم إن تبين لك فيما بعد أن للنص معارضا راجحا كان حكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل إذا تغير اجتهاده، وانتقال الإنسان من قول إلى قول لأجل ما تبين له من الحق هو محمود فيه بخلاف إصراره على قول لا حجة معه عليه. وترك القول الذي وضحت حجته أو الانتقال عن قول إلى قول لمجرد عادة واتباع هوى، فهذا مذموم. انتهى. وقال الإمام الموفق في روضة الناظر (2) : فليس من شرط الاجتهاد في مسألة بلوغ رتبة الاجتهاد في جميع المسائل. بل متى علم أدلة المسألة الواحدة وطرق النظر فيها فهو مجتهد فيها، وإن جهل حكم غيرها، فمن ينظر في مسألة المشركة يكفيه أن يكون فقيه النفس عارفا بالفرائض أصولها ومعانيها، وإن جهل الأخبار الواردة وتحريم المسكرات والنكاح بلا ولي؛ إذ لا استمداد لنظر هذه المسألة منها، فلا تضر الغفلة عنها ولا يضره أيضا قصوره عن علم النحو الذي يعرف به قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (3) وقس عليه كل مسألة. ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم والأئمة من بعدهم قد كانوا يتوقفون في مسائل.
وسئل مالك عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين لا أدري، ولم يكن توقفه في تلك المسائل مخرجا له عن درجة الاجتهاد. والله أعلم، انتهى. ومن هذه النقولات عن هؤلاء الأئمة يتضح أن القول بتجزؤ الاجتهاد هو القول الصحيح الراجح الذي يؤيده الدليل والواقع وبالله التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الحج (1337) ، سنن الترمذي العلم (2679) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .
(2) روضة الناظر ص191.
(3) سورة المائدة الآية 6(14/256)
6 - الخاتمة: نتيجة لما سبق بحثه في هذه العجالة في موضوع الاجتهاد نأتي على القول في المسألة المطروحة للبحث وهي فتح باب الاجتهاد في هذا الزمان فنقول: إن الاجتهاد مطلوب من علماء المسلمين في كل وقت لشدة حاجة المسلمين إليه بسبب تجدد المشكلات التي تحتاج إلى بحث لمعرفة حكمها في الإسلام؛ لأن شريعة الإسلام صالحة وشاملة لكل زمان ومكان إلى قيام الساعة، وفي كتب الفقه الإسلامي المستنبط من الكتاب والسنة أكبر عون لحل المشكلات وإلحاقها بنظائرها مما تحويه تلك الكتب، ولكن الشأن فيمن يتولى تلك المهمة ومن يقوم بهذا الواجب، إن المجتهد المطلق لا نكاد نطمع بوجوده وقد اشتكى فقده الفقهاء منذ زمن طويل، كما مر في كلام صاحب الإنصاف حيث نقل عن ابن حمدان في (آداب المفتي والمستفتي) أنه قال: ومن زمن طويل عدم المجتهد المطلق، هذا في زمان ابن حمدان وفي زمننا هذا فقده أشد حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بانتزاع العلم بموت العلماء في آخر الزمان حتى لا يبقى عالم ولا حول ولا قوة إلا بالله - فلم يبق إلا الأنواع الأخرى من الاجتهاد وهي الاجتهاد المذهبي (1) .، والاجتهاد الجزئي (2) .
فهذان النوعان يمكن الاستفادة منهما في سد حاجة المسلمين واستعمالهما فيما يجد من المشاكل التي تجد في المعاملات ونظم الاستثمارات الحديثة، وما يجد في حياة الناس مما تجلبه التكنولوجيا الحديثة من مستجدات يحتاج الحكم عليها بالحل
__________
(1) وهو اختيار القول الراجح من أقوال الفقهاء، مما يكون فيه الحل للمشكلة العارضة والمتجددة
(2) وهو أن يكون مستوفيا لمقومات الاجتهاد في بعض المسائل دون البعض الآخر، كما سبق بيانه(14/257)
أو الحرمة إلى بحث واجتهاد، لا سيما في المجامع العلمية والاجتهادات الجماعية في المجامع الفقهية والمؤتمرات والندوات العلمية التي تعقد بين حين وآخر ويلتقي فيها الكثير من علماء المسلمين بمختلف تخصصاتهم وخبراتهم، وحبذا لو شكل مركز علمي على مستوى العالم الإسلامي توفر له كل الإمكانات ليتولى جمع ما يصدر عن تلك المجامع والمؤتمرات والندوات العلمية من توصيات وبحوث علمية، ثم يقوم بترتيبها وتبويبها وفهرستها على غرار كتب الفقه المعروفة أو تلحق بها؛ لتكون مكملة لها حتى يتسنى لكل مسلم الاستفادة من هذا النتاج العلمي، ويتابع هذا المركز العلمي انعقاد تلك المجامع والمؤتمرات والندوات العلمية بصفة مستمرة أينما انعقدت للحصول على نتاجها العلمي ليضمه إلى نظيره ويضعه في مكانه من تلك المجموعة.
فطالما سمعنا عن انعقاد مؤتمرات ومجامع فقهية، لكن لا نرى لها بعد ذلك أثرا علميا يصل إلى أيدي الباحثين والدارسين، وحبذا لو تزود كليات الشريعة والدراسات العليا الإسلامية بهذه الحصيلة العلمية؛ ليستفاد منها في مجال الدراسة المنهجية. إنني لا أرى مجالا لفتح باب الاجتهاد بغير ما ذكرت، فما كان فيه من صواب فهو بفضل الله وتوفيقه، وما كان فيه من خطأ فهو نتيجة قصوري وتقصيري - هذا وأسأل الله أن ينصر دينه وأن يصلح علماء المسلمين وولاة أمورهم وعامتهم، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
كتبه:
صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان.
الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وعضو المجمع الفقهي.(14/258)
بسم الله الرحمن الرحيم
* الدكتور عبد الله بن محمد بن أحمد الطريقي
* من مواليد مدينة الزلفى عام 1366 هـ
* تخرج من كلية الشريعة بالرياض عام 1392 هـ
* نال درجة الماجستير في المعهد العالي للقضاء بتقدير امتياز عام 1396 هـ
* ثم حصل على درجة الدكتوراه بدرجة الشرف من المعهد العالي للقضاء جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1401 هـ بالفقه المقارن عمل في مجال التعليم العام والجامعي منذ تخرجه وحتى الآن ويشغل الآن رئاسة قسمي الدراسات الإسلامية والدراسات القرآنية بالكلية المتوسطة بالرياض على وظيفة أستاذ مساعد
* له من المؤلفات: -
1 - أحكام الأطعمة في الشريعة الإسلامية مطبوع
2 - أحكام الذبائح واللحوم المستوردة في الشريعة الإسلامية مطبوع
3 - أحكام الصيد في الشريعة الإسلامية مطبوع
4 - الأحكام المتعلقة بضرورة الغذاء والدواء مخطوط
5 - تحقيق كتاب أحكام الخواتم وما يتعلق بها لابن رجب تحت الطبع
6 - تحقيق كتاب نزهة الأسماع في مسألة السماع لابن رجب تحت الطبع(14/259)
صفحة فارغة(14/260)
حكم بيع العينة
إعداد الدكتور عبد الله بن محمد الطريقي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحابته ومن اهتدى بهداه وبعد: -
فهذا بحث عن مسألة كثر وقوعها والسؤال عنها ألا وهي مسألة " العينة " التي هي من أنواع الربا المحرم الذي قد آذن الله آكله بالحرب
ومن المعلوم أن احتياجات الناس قد تنوعت وتشعبت خاصة في هذا العصر الذي كثر فيه احتكاك الشعوب مع بعضها ومن باب أولى احتكاك التجار مع بعضهم مما نتج عنه تنوع معاملات الناس وتشابه الكثير منها
وحيث إن المسلم مأمور بالأخذ بالأحوط لدينه ودنياه وترك المتشابه
لذا أردت أن أوضح بعض المعاملات التي تتصل بهذا الموضوع ألا(14/261)
وهو " بيع العينة "، ليتضح جانب من جوانب تعامله مع الآخرين ويكون على بينة واضحة من أمر تعامله
والله نسأل أن يوفقنا في ما نصبو إليه، إنه سميع مجيب، وبالإجابة جدير وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين(14/262)
معنى العينة: -
معناها في اللغة: -
تطلق العينة على معان منها: السلف وخيار المال ومادة الحرب قال صاحب القاموس: العينة بالكسر السلف وخيار المال ومادة الحرب. ومن النعجة: ما حول عينيها. وثوب عينة -مضافة- حسن المرآة (1) .
وتطلق أيضا على الربا. قال في لسان العرب: العين والعينة الربا، وعين التاجر: أخذ العينة أو أعطى بها، والعينة السلف. . . . (2)
والمعنى المراد من هذه المعاني هو الربا أو أنها نوع من أنواع السلف على لغة أهل العراق، وهو السلم، وذلك على اعتبارها من أنواع السلم الذي هو ربا لأن السلم هو ما عجل ثمنه وأجل مثمنه، وفي العينة بعض هذا المعنى على ما سنوضحه في صورتها
معناها في الشرع: -
عرف الفقهاء العينة بعدة معان كل واحد يختلف عن الآخر بعض الاختلاف في الصورة وفي الحكم. أشهر هذه الأقوال ما يأتي: -
__________
(1) القاموس المحيط فصل العين باب النون مادة '' عين '' جـ4 ص252.
(2) لسان العرب مادة '' عين '' جـ13 ص306.(14/262)
" أن يبيع سلعة بثمن مؤجل ثم يشتريها منه نقدا بأقل مما باعها قال في لسان العرب قال الأزهري: يقال عين التاجر يعين تعيينا، وعينة قبيحة وهي الاسم، وذلك إذا باع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل معلوم ثم اشتراها منه بأقل من الثمن الذي باعها به. ا \ هـ (1) .
وهذا المعنى هو الذي عرفها به أكثر الفقهاء، ورتب عليه الحكم، وهو مشتق من المعنى اللغوي
وقيل إن العينة أن يأتي الرجل المحتاج إلى آخر ويستقرضه عشرة دراهم ولا يرغب المقرض في الإقراض طمعا في فضل لا يناله بالقرض فيقول لا أقرضك ولكن أبيعك هذا الثوب إن شئت باثني عشر درهما، وقيمته في السوق عشرة ليبيعه في السوق بعشرة فيرضى به المستقرض فيبيعه كذلك فيحصل لرب الثوب درهمان وللمشتري عشرة
وقال بعضهم هي أن يدخلا بينهما ثالثا فيبيع المقرض ثوبه من المستقرض باثني عشر درهما ويسلمه إليه ثم يبيعه المستقرض من الثالث بعشرة ويسلمه إليه ثم يبيعه الثالث من صاحبه وهو المقرض بعشرة ويسلمه إليه ويأخذ منه العشرة ويدفعها للمستقرض فيحصل للمستقرض عشرة ولصاحب الثوب عليه اثنا عشر درهما (2) .
وقال آخرون إن أهل العينة قوم نصبوا أنفسهم لطلب شراء السلع
__________
(1) لسان العرب مادة '' عين '' ج 13 ص306.
(2) حاشية ابن عابدين جـ5 ص273.(14/263)
منهم وليست عندهم فيذهبون إلى التجار فيشترونها منهم ليبيعوها لمن طلبها منهم فهي بيع من طلب منه سلعة قبل ملكه إياها لطالبها بعد شرائها.
والمعنى الذي يرتب عليه أكثر الفقهاء حكم العينة هو المعنى الأول وما عداه فهو من أنواع البيوع الأخرى ولها أحكام تخصها، أو هو من صور العينة وله حكم خاص، ولهذا سوف نجعل كلامنا مقتصرا على المعنى الأول لأنه المعنى الذي رتب عليه الفقهاء أحكام العينة، لأن العينة سميت بذلك لأن مشتري السلعة إلى أجل يأخذ بدلها عينا أي نقدا حاضرا (1) .
أو لأنه يعود للبائع الأول عين ماله
__________
(1) مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى جـ3 ص59.(14/264)
حكم بيع العينة
اختلف الفقهاء في حكم بيع العينة على النحو الآتي: -
(1) قال الشافعي رحمه الله تعالى: -
من باع سلعة من السلع إلى أجل وقبضها المشتري فلا بأس أن يبيعها من الذي اشتراها منه بأقل من الثمن أو أكثر أو دين أو نقد لأنها بيعة غير البيعة الأولى (1) . وقد نصر هذا القول ابن حزم في المحلى.
(2) وقال جمهور الفقهاء من الحنفية (2) . والمالكية (3) . والحنابلة (4) . إن بيع العينة محرم لا يجوز وقد روي هذا عن ابن عباس وعائشة والحسن وابن سيرين والشعبي والنخعي وأبي الزناد وربيعة وعبد العزيز بن أبي سلمة والثوري والأوزاعي وإسحاق (5) . قال محمد بن الحسن:
__________
(1) تكملة المجموع جـ10 ص124 وانظر مختصر المزني مع الأم جـ2 ص201.
(2) حاشية ابن عابدين جـ5 ص226.
(3) بداية المجتهد ص142 ومقدمات ابن رشد جـ2 ص535.
(4) المغني جـ4 ص193.
(5) المرجع السابق.(14/265)
هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال ذميم اخترعه أكلة الربا. ا \ هـ (1) .
استدل الشافعي على جواز بيع العينة بما يأتي: -
أ- ما روى أبو سعيد الخدري وأبو هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «استعمل رجلا (3) . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعل بع الجمع. بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا» متفق عليه واللفظ للبخاري.
وجه الاستدلال: أنه صلى الله عليه وسلم قال له: بع التمر الرديء بالدراهم واشتر بها تمرا جيدا بدون أن يفصل بين أن يشتري التمر الجيد من المشتري الأول أو من غيره، فدل ذلك على جواز بيع العينة لعدم التفصيل في موضع البيان
قال النووي: واحتج بهذا الحديث أصحابنا وموافقوهم في أن
__________
(1) حاشية ابن عابدين جـ5 ص326.
(2) صحيح البخاري المغازي (4247) ، صحيح مسلم المساقاة (1593) ، سنن النسائي البيوع (4553) ، موطأ مالك البيوع (1315) ، سنن الدارمي البيوع (2577) .
(3) (2) . على خيبر فجاءه بتمر جنيب الجنيب: نوع جيد من التمر.(14/266)
مسألة العينة ليست بحرام وهي الحيلة التي يعملها بعض الناس توصلا إلى مقصود الربا بأن يريد أن يعطيه مائة درهم بمائتي فيبيعه ثوبا بمائتين ثم يشتريه منه بمائة وموضع الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا ولم يفرق بين أن يشتري من المشتري أو من غيره فدل على أنه لا فرق، وهذا كله ليس بحرام عند الشافعي وآخرين ا \ هـ (1) .
ونوقش هذا الاستدلال بأن الحديث في غير محل الدعوى فلا يصلح دليلا، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم بين له فساد هذا البيع الذي فعله وهو أن يشتري الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة لعلة الربا. أما هل يشتري من المشتري الأول فهذا لم يبينه صلى الله عليه وسلم، ولو اشترى من المشتري الأول طعاما جيدا بسعر معروف فماذا يحصل إذ المنهي عنه أن يشتري عين ماله أما غيره فلا بأس
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: واستدل بالحديث على جواز بيع العينة وهو أن يبيع السلعة من رجل بنقد ثم يشتريها منه بأقل من الثمن لأنه لم يخص بقوله: " ثم اشتر بالدراهم جنيبا " غير الذي باع له الجمع. وتعقب بأنه مطلق والمطلق لا يشمل ولكن يشيع فإذا عمل به في صورة سقط الاحتجاج به فيما عداها، ولا يصح الاستدلال به على جواز الشراء ممن باعه تلك السلعة بعينها، وقيل إن وجه الاستدلال به لذلك من جهة ترك الاستفصال ولا يخفى ما فيه. ا \ هـ (2) .
ب- ما روى الدارقطني والبيهقي عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته
__________
(1) شرح صحيح مسلم للنووي جـ11ص21.
(2) فتح الباري جـ4 ص401.(14/267)
أنها دخلت على عائشة رضي الله عنها فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم الأنصاري وامرأة أخرى فقالت أم ولد زيد بن أرقم يا أم المؤمنين إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة وإني ابتعته بستمائة درهم نقدا فقالت لها عائشة بئسما اشتريت وبسئما شريت، إن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بطل إلا أن يتوب " رواه الدارقطني والبيهقي واللفظ للدارقطني.
وجه الدلالة منه: أن هذا البيع لو كان غير صحيح لما أقدم عليه زيد بن أرقم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنكار عائشة مجمل فهو على تقدير ثبوته يحتمل أن تكون عائشة عابت البيع إلى العطاء ولأنه أجل غير معلوم. وزيد صحابي وإذا اختلفوا ذهبنا إلى القياس وهو مع زيد، ونحن لا نثبت مثل هذا على عائشة
وإذا كانت هذه السلعة لي كسائر مالي لم لا أبيع ملكي بما شئت وشاء المشتري (1) .
ونوقش هذا الاستدلال بما يأتي: -
أولا: إن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لم تنكر هذا البيع إلا وعندها الدليل القاطع على تحريمه. إذ لو لم تكن متأكدة من الحكم لم تستجز أن تقول مثل هذا بالاجتهاد ولا سيما إن كانت قد قصدت أن العمل يحبط بالردة وأن استحلال الربا كفر وهذا منه. ولكن زيدا معذور لأنه لم يعلم أن هذا محرم، ولهذا قالت في بعض الروايات: " أبلغيه " ويحتمل أن تكون قد قصدت أن هذا من الكبائر التي يقاوم
__________
(1) مختصر المزني مع كتاب الأم للشافعي جـ2 ص201.(14/268)
إثمها ثواب الجهاد فيصير بمنزلة من عمل حسنة وسيئة بقدرها فكأنه لم يعمل شيئا، ولو كان مقصودها إنكار البيع إلى العطاء لم تستنكره هذا الاستنكار، ولما جعلته محبطا للعمل، لأن الجاهل بمثل هذه الأحكام يعلم، وغاية ذلك أن يبين الأجل أو يفسد البيع لا أن يكون ذلك محبطا للعمل. وقد وجه الرسول صلى الله عليه وسلم من اشترى فضة بنقد ونسيئة أن ما كان يدا بيد فخذوه وما كان بنسيئة فردوه (1) . ولم يجعل ذلك محبطا للعمل.
ثانيا: قولهم إن زيدا من الصحابة وقد خالفها. هذا غير وارد لأن زيدا لم يقل هذا حلال، بل فعله، وفعل المجتهد لا يدل على قوله على الصحيح لاحتمال سهو أو غفلة أو تأويل أو رجوع ونحوه. وكثيرا ما يفعل الرجل الشيء ولا يعلم مفسدته فإذا نبه له انتبه ولا سيما أم ولده فإنها دخلت على عائشة تستعتبها وطلبت الرجوع إلى رأس مالها، وهذا يدل على الرجوع عن ذلك العقد. ولم ينقل عن زيد أنه أصر على ذلك (2) .
ثالثا: إن عائشة رضي الله عنها قد أنكرت على زيد هذا الفعل، ولو كان البيع جائزا لما أنكرته أم المؤمنين على وجه التغليظ والتشديد.
قال الشوكاني: تصريح عائشة بأن مثل هذا الفعل موجب لبطلان الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على أنها قد علمت تحريم ذلك بنص من الشارع، إما من جهة العموم كالأحاديث القاضية بتحريم الربا الشامل لمثل هذه الصورة أو على جهة الخصوص كحديث
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه كتاب الشركة باب الاشتراك في الذهب والفضة وما يكون فيه الصرف جـ3 ص112.
(2) تهذيب سنن أبي داود لابن القيم مع معالم السنن للخطابي جـ5 ص105.(14/269)
العينة. . . ولا ينبغي أن يظن بها أنها قالت هذه المقالة من دون أن تعلم بدليل يدل على التحريم (1) .
جـ- القياس على بقية البيوع الجائزة؛ لأن البيع وقع من أهله في محله باكتمال شروطه وأركانه فهو بيع صحيح. والبيعة الثانية غير البيعة الأولى (2) .
ونوقش هذا الاستدلال بأنه قياس في مقابلة النص فلا يصح؛ إذ لا قياس مع النص.
ثم إن قياسه على بقية البيوع الجائزة فاسد؛ إذ كثير من البيوع تتوفر فيها الأركان ومع هذا فالبيع قد يكون فاسدا، وهنا الشروط غير متوفرة؛ لأن البيع منهي عنه والدليل الحاظر مقدم على الدليل المبيح مع أنه ليس هناك دليل مبيح، وإنما الشافعي أجازه بناء على الأصل.
__________
(1) نيل الأوطار جـ5 ص233.
(2) المجموع شرح المذهب جـ10 ص124.(14/270)
واستدل الجمهور على تحريم بيع العينة بما يأتي:
أ- عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم (1) » رواه أبو داود وأحمد والبيهقي.
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (2/84) .(14/270)
وجه الاستدلال من الحديث: أن فيه التصريح من الرسول صلى الله عليه وسلم على أن التبايع بالعينة من أسباب تسليط الله الذل على المسلمين وما هذا إلا لأنها محرمة، وهذا يدل على أنها من أنواع الربا المحرم.
ونوقش هذا الاستدلال بأن إسناد الحديث الذي صححه ابن القطان معلول لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحا لأن الأعمش مدلس ولم يذكر سماعه من عطاء. وعطاء يحتمل أن يكون هو عطاء الخراساني فيكون فيه تدليس التسوية بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر. . . وأيضا فالحديث رواه أحمد والطبراني من طريق أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن عطاء عن ابن عمر ورواه أحمد وأبو داود من طريق عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر. وقال المنذري في مختصر السنن ما لفظه: في إسناده إسحاق بن أسيد أبو عبد الرحمن الخراساني نزيل مصر لا يحتج بحديثه، وفيه أيضا عطاء الخراساني وفيه مقال. ا \ هـ (1) .
والجواب عن هذا أن الحديث رواه أحمد في مسنده حدثنا الأسود بن عامر حدثنا أبو بكر عن الأعمش عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم (2) » .
__________
(1) نيل الأطار جـ5 ص233.
(2) رواه أحمد في مسنده في باب المعاملات جـ7 ص27.(14/271)
ورواه أبو داود بإسناد صحيح إلى حيوة بن شريح المصري عن إسحاق أبي عبد الرحمن الخراساني أن عطاء الخراساني حدثه أن نافعا حدثه عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. . . فذكره. وهذان إسنادان حسنان يشد أحدهما الآخر.
فأما رجال الأول فأئمة مشاهير، وإنما يخاف أن لا يكون الأعمش سمعه من عطاء أو أن عطاء لم يسمعه من ابن عمر.
والإسناد الثاني يبين أن للحديث أصلا محفوظا عن ابن عمر فإن عطاء الخراساني ثقة مشهور وحيوة كذلك. وأما إسحاق أبو عبد الرحمن فشيخ روى عنه أئمة المصريين مثل حيوة والليث ويحيى بن أيوب وغيرهم.
وله طريق ثالث: رواه السري بن سهل حدثنا عبد الله بن رشيد حدثنا عبد الرحمن بن محمد عن ليث عن عطاء عن ابن عمر قال: لقد أتى علينا زمان وما منا رجل يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة وتركوا الجهاد واتبعوا أذناب البقر أدخل الله عليهم ذلا لا ينزعه حتى يتوبوا ويرجعوا إلى دينهم (1) » . .
وهذا يبين أن للحديث أصلا وأنه محفوظ (2) .
قال الذهبي في الميزان: قال النسائي: أبو أيوب عطاء بن عبد الله بلخي سكن الشام ليس به بأس روى عنه مالك. وقال أيضا أبو أيوب عطاء بن ميسرة روى عنه عروة بن رويم. وقال عثمان بن عطاء عن
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (2/28) .
(2) تهذيب سنن أبي داود لابن القيم جـ5 ص104 وانظر إعلام الموقعين جـ3 ص214.(14/272)
أبيه: قدمت المدينة وقد فاتني عامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أحمد ويحيى العجلي وغيرهم: ثقة.
وقال يعقوب بن شيبة: ثقة معروف بالفتوى والجهاد.
وقال أبو حاتم لا بأس به ا \ هـ كلام الذهبي (1) .
وقال الحافظ ابن حجر: ورواه أحمد من رواية عطاء ورجاله ثقات وصححه ابن القطان (2) .
وقال الشوكاني: وهذه الطرق يشد بعضها بعضا (3) .
وقال في الفتح الرباني عن هذا الحديث: أخرجه الإمام أحمد وسنده جيد (4) .
ب- عن يونس بن أبي إسحاق عن أمه العالية قالت: خرجت أنا وأم محبة إلى مكة فدخلنا على عائشة فسلمنا عليها فقالت لنا من أنتن؟ قلنا من أهل الكوفة قالت: فكأنها أعرضت عنا. فقالت لها أم محبة: يا أم المؤمنين كانت لي جارية وإني بعتها من زيد بن أرقم الأنصاري بثمانمائة درهم إلى عطائه وأنه أراد بيعها فابتعتها منه بستمائة درهم نقدا، قالت فأقبلت علينا فقالت: بئسما شريت وبئسما اشتريت فأبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب. فقالت لها: أرأيت إن لم آخذ
__________
(1) ميزان الاعتدال للذهبي جـ3 ص73.
(2) بلوغ المرام ص152.
(3) نيل الأوطار جـ5 ص234.
(4) الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني جـ15 ص [44] .(14/273)
منه إلا رأس مالي قالت: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (1)
وفي رواية عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأة أنها دخلت على عائشة رضي الله عنها فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم الأنصاري وامرأة أخرى فقالت أم ولد زيد بن أرقم: يا أم المؤمنين إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة وإني ابتعته بستمائة درهم نقدا فقالت لها عائشة: - بئسما اشتريت وبئسما شريت إن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بطل إلا أن يتوب. أخرجه الدارقطني.
قال أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي في التعليق المغني على الدارقطني: الحديث أخرجه البيهقي وعبد الرزاق أيضا. وأم محبة بضم الميم وكسر الحاء هكذا ضبطه الدارقطني في كتاب المؤتلف والمختلف، وقال: إنها تروي عن عائشة، وروى حديثها أبو إسحاق السبيعي عن امرأته العالية. ورواه أيضا يونس بن أبي إسحاق عن أمه العالية بنت أيفع عن أم محبة عن عائشة وقال: أم محبة والعالية مجهولتان لا يحتج بهما وأخرجه أحمد في مسنده حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته أنها دخلت على عائشة وأم ولد زيد بن أرقم فقالت أم ولد زيد بن أرقم لعائشة: إني بعت من زيد غلاما بثمانمائة درهم نسيئة واشتريت بستمائة درهم نقدا فقالت: - بلغي زيدا أن قد أبطلت جهادك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن تتوب، بئسما اشتريت وبئسما شريت. انتهى قال في التنقيح إسناده جيد ا \ هـ
__________
(1) سورة البقرة الآية 275(14/274)
كلام أبي الطيب (1) .
ووجه الاستدلال من الحديث إنكار عائشة رضي الله عنها هذا البيع وهو نفسه بيع العينة وهي رضي الله عنها لم تنكره هذا الإنكار إلا وعندها العلم بتحريمه وإلا لم تستجز أن تقول مثل هذا الكلام بالاجتهاد.
قال الشوكاني: في هذا الحديث دليل على أنه لا يجوز لمن باع شيئا بثمن نسيئة أن يشتريه من المشتري بدون ذلك الثمن نقدا قبل قبض الثمن الأول. أما إذا كان المقصود التحيل لأخذ النقد في الحال ورد أكثر منه بعد أيام فلا شك أن ذلك من الربا المحرم الذي لا تنفع في تحليله الحيل الباطلة (2) .
فإن قيل إن الدارقطني قال: إن أم محبة والعالية مجهولتان (3) . قلنا: أم محبة في رواية الدارقطني لم ترو الحديث وإنما ذكر أنها حضرت القصة مع من روى الحديث.
وأما العالية فقد قال ابن الجوزى: هي امرأة معروفة جليلة القدر. ذكرها ابن سعد في الطبقات فقال (4) : العالية بنت أيفع بن شراحيل امرأة أبي إسحاق السبيعي سمعت من عائشة، واسم أبي إسحاق السبيعي عمرو بن عبد الله الهمداني الكوفي (5) .
__________
(1) التعليق المغني على الدارقطني مع سنن الدارقطني جـ3 ص52.
(2) نيل الأوطار جـ5 ص232.
(3) سنن الدارقطني جـ3 ص52.
(4) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد جـ8 ص487 دار صادر بيروت.
(5) تهذيب سنن أبي داود جـ5 ص100.(14/275)
قال ابن القيم: فإن قيل لا نسلم ثبوت الحديث فإن أم ولده زيد مجهولة؟ .
قلنا: أم ولده لم ترو الحديث وإنما كانت هي صاحبة القصة وأما العالية فهي امرأة أبي إسحاق السبيعي وهي من التابعيات وقد دخلت على عائشة وروى عنها أبو إسحاق وهو أعلم بها وفي الحديث قصة وسياق يدل على أنه محفوظ وأن العالية لم تختلق هذه القصة ولم تضعها بل يغلب على الظن غلبة قوية صدقها فيها وحفظها لها ولهذا رواها عنها زوجها ميمون ولم ينهها ولا سيما عند من يقول: رواية العدل عن غيره تعديل له، والكذب لم يكن فاشيا في التابعين فشوه فيمن بعدهم وكثير منهم كان يروي عن أمه وامرأته ما يخبرهن به أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحتج به. ا \ هـ (1) .
وأيضا فهذه امرأة أبي إسحاق السبيعي - وهو أحد أئمة الإسلام الكبار وهو أعلم بامرأته وبعدالتها فلم يكن ليروي عنها سنة يحرم بها على الأمة وهي عنده غير ثقة ولا يتكلم فيها بكلمة بل يحابيها في دين الله هذا لا يظن بمن هو دون أبي إسحاق.
وأيضا فإن هذه امرأة من التابعين قد دخلت على عائشة رضي الله عنها وسمعت منها وروت عنها، ولا يعرف أحد قدح فيها بكلمة، وأيضا فإن الكذب والفسق لم يكن ظاهرا في التابعين بحيث ترد به روايتهم.
وأيضا فإن هذه امرأة معروفة واسمها العالية وهي جدة إسرائيل كما رواه حرب من حديث إسرائيل حدثني أبو إسحاق عن جدته العالية
__________
(1) تهذيب سنن أبي داود ج5 ص105.(14/276)
يعني جدة إسرائيل، فإنه إسرائيل بن يونس بن إسحاق والعالية امرأة أبي إسحاق ووالدة يونس وقد حملا عنها هذه السنة وإسرائيل أعلم بجدته، وأبو إسحاق أعلم بامرأته.
وأيضا فلم يعرف أحد قط من التابعين أنكر على العالية هذا الحديث ولا قدح فيها من أجله ويستحيل في العادة أن تروي حديثا باطلا ويشتهر في الأمة ولا ينكره عليها منكر (1) .
جـ- قال ابن القيم: قال المحرمون للعينة الدليل على تحريمها من وجوه: -
أحدها: إن الله تعالى حرم الربا، والعينة وسيلة إلى الربا بل هي من أقرب وسائله، والوسيلة إلى الحرام حرام، فهنا مقامان: -
أحدهما: بيان كونها وسيلة.
والثاني: بيان أن الوسيلة إلى الحرام حرام.
فأما الأول: فيشهد له النقل والعرف والنية والقصد، وحال المتعاقدين.
فأما النقل: فيما ثبت عن ابن عباس " أنه سئل عن رجل باع من رجل حريرة بمائة، ثم اشتراها بخمسين؟ فقال: دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينها حريرة ".
وفي كتاب محمد بن عبد الله الحافظ المعروف بمطين، عن ابن
__________
(1) إعلام الموقعين ج3 ص216.(14/277)
عباس: أنه قال " اتقوا هذه العينة، لا تبيعوا دراهم بدراهم بينهما حريرة ".
وفي كتاب أبي محمد النجشي الحافظ عن ابن عباس " أنه سئل عن العينة، يعني بيع الحريرة؟ فقال: إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله ورسوله ".
وفي كتاب الحافظ مطين عن أنس " أنه سئل عن العينة -يعني بيع الحريرة- فقال: إن الله لا يخدع. هذا مما حرم الله ورسوله ".
وقول الصحابي " حرم رسول الله كذا، أو أمر بكذا، وقضى بكذا، وأوجب كذا " في حكم المرفوع اتفاقا عند أهل العلم، إلا خلافا شاذا لا يعتد به، ولا يؤبه له.
وشبهة المخالف: أنه لعله رواه بالمعنى، فظن ما ليس بأمر، ولا تحريم كذلك، وهذا فاسد جدا.
فإن الصحابة أعلم بمعاني النصوص، وقد تلقوها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يظن بأحد منهم أن يقدم على قوله " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو حرم أو فرض " إلا بعد سماع ذلك، ودلالة اللفظ عليه، واحتمال خلاف هذا كاحتمال الغلط والسهو في الرواية. بل دونه، فإن رد قوله " أمر " ونحوه بهذا الاحتمال، وجب رد روايته لاحتمال السهو والغلط، وإن قبلت روايته: وجب قبول الآخر.
وأما شهادة العرف بذلك: فأظهر من أن تحتاج إلى تقرير، بل قد علم الله وعباده من المتبايعين ذلك: قصدهما أنهما لم يعقدا على السلعة عقدا يقصدان به تملكها، ولا غرض لهما فيها بحال. وإنما الغرض(14/278)
والمقصود بالقصد الأول: مائة بمائة وعشرين، وإدخال تلك السلعة في الوسط تلبيس وعبث، وهي بمنزله الحرف الذي لا معنى له في نفسه، بل جيء به لمعنى في غيره، حتى لو كانت تلك السلعة تساوي أضعاف ذلك الثمن. أو تساوي أقل جزء من أجزائه لم يبالوا بجعلها موردا للعقد، لأنهم لا غرض لهم فيها، وأهل العرف لا يكابرون أنفسهم في هذا.
وأما النية والقصد: فالأجنبي المشاهد لهما يقطع بأنه لا غرض لهما في السلعة وإنما القصد الأول مائة بمائة وعشرين، وفضلا عن علم المتعاقدين ونيتهما، ولهذا يتواطأ كثير منهم على ذلك قبل العقد، ثم يحضران تلك السلعة محللا لما حرم الله ورسوله.
وأما المقام الثاني -وهو أن الوسيلة إلى الحرام حرام- فبانت بالكتاب والسنة والفطرة والمعقول.
فإن الله سبحانه مسخ اليهود قردة وخنازير لما توصلوا إلى الصيد الحرام بالوسيلة التي ظنوها مباحة، وسمى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون مثل ذلك مخادعة، كما تقدم.
وقال أيوب السختياني " يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه كان أسهل ".
والرجوع إلى الصحابة في معاني الألفاظ متعين، سواء كانت لغوية أو شرعية والخداع حرام.
وأيضا: فإن هذا العقد يتضمن إظهار صورة مباحة وإضمار ما هو من أكبر الكبائر فلا تنقلب الكبيرة مباحة بإخراجها في صورة البيع الذي لم يقصد نقل الملك فيه أصلا وإنما قصده حقيقة الربا.(14/279)
أيضا: فإن الطريق متى أفضت إلى الحرام، فإن الشريعة لا تأتي بإباحتها أصلا؛ لأن إباحتها وتحريم الغاية جمع بين النقيضين، فلا يتصور أن يباح شيء ويحرم ما يفضي إليه بل لا بد من تحريمهما أو إباحتهما، والثاني باطل قطعا، فيتعين الأول.
وأيضا: فإن الشارع إنما حرم الربا، وجعله من الكبائر، وتوعد آكله بمحاربة الله ورسوله، لما فيه من أعظم الفساد والضرر، فكيف يتصور -مع هذا- أن يبيح هذا الفساد العظيم بأيسر شيء يكون من الحيل؟ .
فيا لله العجب، أترى هذه الحيلة أزالت تلك المفسدة العظيمة، وقلبتها مصلحة بعد أن كانت مفسدة؟ .
وأيضا: فإن الله سبحانه عاقب أهل الجنة الذين أقسموا ليصرمنها مصبحين وكان مقصودهم منع حق الفقراء من الثمر المتساقط وقت الحصاد، فلما قصدوا منع حقهم منعهم الله الثمرة جملة.
ولا يقال: فالعقوبة إنما كانت على رد الاستثناء وحده، لوجهين:
أحدهما: أن العقوبة من جنس العمل، وترك الاستثناء عقوبته: أن يعوق وينسى لا إهلاك ماله، بخلاف عقوبة ذنب الحرمان، فإنها حرمان كالذنب.
الثاني: أن الله تعالى أخبر عنهم أنهم قالوا: {أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} (1) ورتب العقوبة على ذلك، فلو لم يكن لهذا الوصف
__________
(1) سورة القلم الآية 24(14/280)
مدخل في العقوبة لم يكن لذكره فائدة فإن لم يكن هو العلة التامة كان جزءا من العلة.
وعلى التقديرين: يحصل المقصود.
وأيضا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الأعمال بالنيات (1) » والمتوسل بالوسيلة التي صورتها مباحة إلى المحرم إنما نيته المحرم، ونيته أولى به من ظاهر عمله.
وأيضا: فقد روى ابن بطة وغيره بإسناد حسن عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل» وإسناده مما يصححه الترمذي.
وأيضا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها، وأكلوا أثمانها (2) » و " جملوها " يعني: أذابوها وخلطوها وإنما فعلوا ذلك ليزول عنها اسم الشحم، ويحدث لها اسم آخر، وهو الودك، وذلك لا يفيد الحل، فإن التحريم تابع للحقيقة، وهي لم تتبدل بتبدل الاسم.
وهذا الربا تحريمه تابع لمعناه وحقيقته، فلا يزول بتبدل الاسم بصورة البيع كما لم يزل تحريم الشحم بتبديل الاسم بصورة الجمل والإذابة، وهذا واضح بحمد الله.
وأيضا: فإن اليهود لم ينتفعوا بعين الشحم، إنما انتفعوا بثمنه، فيلزم من وقف مع صور العقود والألفاظ، دون مقاصدها وحقائقها: أن لا يحرم ذلك، لأن الله تعالى لم ينص على تحريم الثمن، وإنما حرم عليهم نفس الشحم، ولما لعنهم على استحلالهم الثمن وإن لم ينص على تحريمه دل على أن الواجب النظر إلى المقصود وإن اختلفت الوسائل
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3460) ، صحيح مسلم المساقاة (1582) ، سنن النسائي الفرع والعتيرة (4257) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3383) ، مسند أحمد بن حنبل (1/25) ، سنن الدارمي الأشربة (2104) .(14/281)
إليه، وأن ذلك يوجب أن لا يقصد الانتفاع بالعين، ولا ببدلها.
ونظير هذا: أن يقال: لا تقرب مال اليتيم، فتبيعه وتأكل عوضه، وأن يقال: لا تشرب الخمر، فتغير اسمه وتشربه، وأن يقال: لا تزن بهذه المرأة، فتعقد عليها عقد إجارة، وتقول: إنما استوفي منافعها. وأمثال ذلك.
وقالوا: ولهذا الأصل -وهو تحريم الحيل المتضمنة إباحة ما حرم الله أو إسقاط ما أوجبه الله عليه - أكثر من مائة دليل، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم «لعن المحلل والمحلل له (1) » مع أنه أتى بصورة عقد النكاح الصحيح لما كان مقصوده التحليل، ولا حقيقة النكاح، وقد ثبت عن الصحابة أنهم سموه زانيا ولم ينظروا إلى صورة العقد. ا \ هـ (2) .
د- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي الله وسلم: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا (3) » رواه أبو داود (4) .
قال ابن القيم: وللعلماء في تفسيره قولان: -
أحدهما: أن يقول بعتك بعشرة نقدا، أو عشرين نسيئة، وهذا هو الذي رواه أحمد عن سماك، ففسره في حديث ابن مسعود قال «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة (5) » . قال سماك: الرجل يبيع البيع، فيقول: -
هو على نساء بكذا، وبنقد بكذا " (6) .
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/448) .
(2) تهذيب سنن أبي داود لابن القيم جـ 5 ص 101-103.
(3) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) ، سنن أبو داود البيوع (3461) ، مسند أحمد بن حنبل (2/432) .
(4) رواه أبو داود في سننه وسكت عنه، كتاب البيوع باب فيمن باع بيعتين في بيعة جـ3 ص 274.
(5) مسند أحمد بن حنبل (1/398) .
(6) انظر الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل جـ15 ص45.(14/282)
وهذا التفسير ضعيف، فإنه لا يدخل الربا في هذه الصورة، ولا صفقتين هنا وإنما هي صفقة واحدة بأحد الثمنين.
والتفسير الثاني: أن يقول: أبيعكها بمائة إلى سنة على أن أشتريها منك بثمانين حالة، وهذا معنى الحديث، الذي لا معنى له غيره، وهو مطابق لقوله " فله أوكسهما أو الربا " فإنه إما أن يأخذ الثمن الزائد فيربي، أو الثمن الأول فيكون هو أوكسهما، وهو مطابق لصفقتين في صفقة، فإنه قد جمع صفقتي النقد والنسيئة في صفقة واحدة ومبيع واحد، وهو قد قصد بيع دراهم عاجلة بدراهم مؤجلة أكثر منها، ولا يستحق إلا رأس ماله، وهو أوكس الصفقتين، فإن أبى إلا الأكثر كان قد أخذ الربا.
فتدبر مطابقة هذا التفسير لألفاظه صلى الله عليه وسلم، وانطباقه عليها.
ومما يشهد لهذا التفسير: ما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن بيعتين في بيعة (1) » عن سلف وبيع " (2) فجمعه بين هذين العقدين في النهي لأن كلا منهما يؤول إلى الربا، لأنهما في الظاهر بيع وفي الحقيقة ربا.
ومما يدل على تحريم العينة: حديث ابن مسعود يرفعه "، «لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه، والمحلل والمحلل له (3) » .
ومعلوم أن الشاهدين والكاتب إنما يكتب ويشهد على عقد صورته جائزة الكتابة والشهادة، لا يشهد بمجرد الربا، ولا يكتبه. ولهذا قرنه
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (368) ، سنن النسائي البيوع (4517) ، سنن ابن ماجه التجارات (2169) ، موطأ مالك الجامع (1704) .
(2) رواه الإمام أحمد في مسنده جـ2 ص174.
(3) انظر مسند الإمام أحمد جـ1 ص450، 462.(14/283)
بالمحلل والمحلل له، حيث أظهرا صورة النكاح ولا نكاح، كما أظهر الكاتب والشاهدان صورة البيع ولا بيع.
وتأمل كيف لعن في الحديث الشاهدين والكاتب والآكل والموكل؟ فلعن المعقود له، والمعين له على ذلك العقد، ولعن المحلل والمحلل له، فالمحلل له: هو الذي يعقد التحليل لأجله، والمحلل: هو المعين له بإظهار صورة العقد، كما أن المرابي: هو المعان على أكل الربا بإظهار صورة العقد المكتوب المشهود به.
فصلوات الله على من أوتي جوامع الكلم. ا \ هـ (1) .
__________
(1) تهذيب مسند أبي داود جـ1 ص106.(14/284)
الترجيح: -
من خلال ما سبق من عرض أدلة كل فريق ومناقشتها يظهر لنا أن الراجح تحريم بيع العينة كما هو قول جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وذلك للأدلة الدالة على ذلك، ولأن من أجاز بيعها استدل بالأدلة العامة الدالة إلى إباحة البيع، وهذه الأدلة معارضة بأدلة تحريم العينة والدليل المحرم مقدم على الدليل المبيح احتياطا.
ولأن بيع العينة وسيلة إلى الربا بل هو من أهم الوسائل إليه، والوسيلة إلى الحرام حرام لأن للوسيلة حكم الغاية.
قال ابن القيم رحمه الله: وأيضا فلو لم يأت في هذه المسألة أثر لكان محض القياس ومصالح العباد وحكمة التشريع تحريمها أعظم من تحريم الربا، فإنها ربا مستحل بأدنى الحيل. . . . وأيضا فكيف يليق بالشريعة الكاملة التي لعنت آكل الربا وموكله وبالغت في تحريمه وآذنت صاحبه(14/284)
بحرب من الله ورسوله أن تبيحه بأدنى الحيل مع استواء المفسدة " ا \ هـ (1) .
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إذا استقمت بنقد فبعت بنقد فلا بأس وإذا استقمت بنقد فبعت بنسيئة فلا خير فيه، تلك ورق بورق ".
ومعنى كلامه أنك إذا قومت السلعة بنقد ثم بعتها بنسيئة كان مقصود المشتري شراء دراهم معجلة بدراهم مؤجلة، وإذا قومتها بنقد ثم بعتها به فلا بأس فإن ذلك بيع المقصود منه السلعة لا الربا (2) .
وهذا الذي ذكرناه من تحريم بيع العينة خاص بالصورة التي ذكرناها في صدر هذا البحث وهي: أن يبيع سلعة بثمن مؤجل يشتريها منه نقدا بأقل مما باعها به.
وعلى هذا فلا بد من توفر هذه الشروط: -
(1) أن يكون العقد الثاني قبل قبض الثمن الأول.
(2) أن يكون المشتري الثاني هو البائع الأول أو وكيله.
(3) أن يشتريها المشتري الثاني من المشتري الأول أو وكيله.
(4) أن يكون الثمن الثاني نقدا بجنس الثمن الأول.
__________
(1) إعلام الموقعين جـ3 ص216، 217.
(2) تهذيب سنن أبي داود جـ5 ص107.(14/285)
(5) أن يكون الثمن الثاني أقل من الثمن الأول.
(6) أن لا يتغير المبيع بنحو مرض أو عيب.
إذا توفرت هذه الشروط فالعقد الثاني باطل ومحرم لما أسلفناه أما العقد الأول ففيه خلاف.
حكم العقد الأول: -
اختلف الفقهاء الذين قالوا ببطلان العقد الثاني في حكم العقد الأول.
على النحو الآتي: -
(1) قال بعضهم يصح البيع الأول إن كان بلا مواطأة (1) .
لأنه بيع تام بأركانه وشروطه فطريان الثاني عليه لا يبطله وهو قول ابن القاسم من المالكية (2) .
(2) وقال آخرون: إن البيع الأول باطل بدليل قول عائشة رضي الله عنها في الحديث المتقدم " بئسما شريت وبئسما اشتريت " ففيه دليل على بطلان العقدين معا لأنها رضي الله عنها ذمت الشراء والبيع على هذه الصفة.
وبهذا قال أكثر الفقهاء. قال ابن القيم: وهذا هو الصحيح من
__________
(1) الإنصاف جـ4 ص335.
(2) انظر مقدمات ابن رشد جـ2 ص535.(14/286)
المذهب ا \ هـ قال في مطالب أولي النهى: قال الشيخ تقي الدين: القول ببطلان العقد الأول هو قول الإمام أحمد والإمام أبي حنيفة والإمام مالك (1) .
أما قول من قال: إن البيع تم بأركانه وشروطه فغير صحيح لأن البيع الأول لم يكن مقصودا لذاته وإنما جعله وسيلة إلى الربا فهو طريق إلى المحرم ووسيلة إليه، والوسيلة لها حكم الغاية.
__________
(1) مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى جـ3 ص59.(14/287)
بعض المسائل المتفرعة عن مسألة العينة: -
هناك بعض المسائل التي تشبه مسألة العينة لكنها قد تختلف بعض الاختلاف، لذا رغبنا التنبيه عليها وبيان أقوال العلماء فيها ليتضح حكمها، ومن هذه المسائل ما يأتي: -
* هل يشترط في التحريم أن يشتريها المشتري الثاني بنقد؟ .
في ذلك خلاف.
فعند بعضهم أن التحريم خاص فيما لو اشتراها المشتري الثاني بنقد، أما إن اشتراها بأقل مما باعها به لنسيئة فلا بأس.
وقال آخرون: لا يشترط في التحريم أن يشتريها الثاني بنقد بل يحرم شراؤها سواء كان بنقد أو نسيئة (1) .
* إن اشتراها الثاني بعوض أو كان بيعها الثاني بعوض فاشتراها بنقد جاز وبه قال أبو حنيفة. قال في المغني لا نعلم فيه خلافا لأن
__________
(1) انظر الإنصاف جـ4 ص336.(14/287)
التحريم إنما كان لشبهة الربا ولا ربا بين الأثمان والعروض (1) .
* إذا باعها بنقد ثم اشتراها بنقد آخر مثل أن يبيعها بمائتي درهم ثم يشتريها بعشرة دنانير. في ذلك خلاف.
(1) قال بعضهم يجوز لأنهما جنسان لا يحرم التفاصل بينهما فجاز كما لو اشتراها بعوض أو بمثل الثمن.
(2) وقال أبو حنيفة لا يجوز استحسانا لأنهما كالشيء الواحد في معنى الثمنية أو لأن ذلك يتخذ وسيلة إلى الربا فأشبه ما لو باعها بجنس الثمن الأول، ورجح هذا صاحب المغني فقال: وهذا أصح (2) .
* عكس مسألة العينة: هي أن يبيع سلعة بنقد ثم يشتريها بأكثر منه نسيئة.
وفيها خلاف:
(1) فقال بعضهم إن وقع ذلك اتفاقا من غير قصد جاز لأن الأصل حل البيع وإنما حرم في مسألة العينة بالأثر الوارد فيه وليس هذا في معناه، ولأن التوسل بالعينة إلى الربا أكثر فلا يلحق به ما دونه.
(2) وقال أحمد في رواية حرب لا يجوز ذلك إلا أن يغير السلعة لأن ذلك يتخذه وسيلة إلى الربا فأشبه مسألة العينة (3) .
__________
(1) المغني جـ4 ص194 وانظر الإنصاف جـ4 ص336.
(2) المغني جـ4 ص195، الإنصاف جـ4 ص336.
(3) المغني جـ4 ص195.(14/288)
قال في الإنصاف: عكس العينة مثلها في الحكم على الصحيح من المذهب نص عليه ابن قدامة في المغني والشرح والفروع والفائق. ا \ هـ.
وقال ابن القيم: فإن قيل فما تقولون فيمن باع سلعة بنقد ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة؟ .
قلنا: قد نص أحمد في رواية حرب على أنه لا يجوز إلا أن تتغير السلعة لأن هذا يتخذ وسيلة إلى الربا، فهو كمسألة العينة سواء وهي عكسها صورة، وفي الصورتين قد ترتب في ذمته دراهم مؤجلة بأقل منها نقدا لكن في إحدى الصورتين البائع هو الذي اشتغلت ذمته وفي الصورة الأخرى: المشتري هو الذي اشتغلت ذمته. فلا فرق بينهما.
وقال بعض أصحابنا يحتمل أن تجوز الصورة الثانية إذا لم يكن ذلك حيلة ولا مواطأة بل واقع اتفاقا.
وفرق بينهم وبين الصورة الأولى بفرقين: -
أحدهما: أن النص ورد فيها فيبقى ما عداها على أصل الجواز.
والثاني: أن التوسل إلى الربا بتلك الصورة أكثر من التوسل بهذه.
والفرقان ضعيفان: أما الأول فليس في النص ما يدل على اختصاص العينة بالصورة الأولى حتى تقيد به نصوص مطلقة على تحريم العينة، والعينة فعلة من العين، والنقد. قال الشاعر: -(14/289)
أندان أم نعتان (1) أم ينبري لنا ... فتى مثل نصل السيف ميزت مضاربه
قال الجوزجاني: أنا أظن أن العينة إنما اشتقت من حاجة الرجل إلى العين من الذهب والورق فيشتري السلعة ويبيعها بالعين الذي احتاج إليها وليست به إلى السلعة حاجة.
وأما الفرق الثاني. فكذلك لأن المعتبر في هذا الباب هو الذريعة ولو اعتبر فيه الفرق من الاتفاق والقصد لزم طرد ذلك في الصورة الأولى وأنتم لا تعتبرونه. ا \ هـ (2) وإن اشترى المبيع في مسألة العينة بعد قبض ثمنه أو بعد تغير صفته بأن هزل العبد أو نسي صنعته أو تخرق الثوب أو اشتراه من غير مشتريه أو وهبه ونحوه ثم اشتراه بائعه الأول ممن صار إليه جاز ذلك لعدم تحقق شروط العينة السابقة. وكذلك إن اشتراه أبو بائعه الأول أو ابنه أو مكاتبه أو زوجته بلا حيلة إلى التوصل إلى مسألة العينة جاز ذلك أيضا.
قال ابن قدامة في المغني: فإن نقصت مثل أن هزل العبد أو نسي صناعة أو تخرق الثوب أو بلي جاز له شراؤها؛ لأن نقص الثمن لنقص المبيع لا للتوسل إلى الربا. وإن نقص سعرها أو زاد لذلك أو لمعنى حدث فيها لم يجز بيعها بأقل من ثمنها كما لو كانت بحالها. نص أحمد على هذا كله. ا \ هـ (3)
__________
(1) معنى نعتان: أي نشتري عينة.
(2) تهذيب سنن أبي داود جـ5 ص108.
(3) المغني جـ4 ص194.(14/290)
* مسألة التورق (1)
التورق هو أن يحتاج إلى دراهم ولا يجد من يقرضه فيشتري سلعة بثمن مؤجل ثم يبيع السلعة على شخص آخر غير الذي اشتراها منه، وقد اختلف العلماء في حكم هذا البيع على النحو الآتي: -
(1) قيل يكره وهو رواية في مذهب الإمام أحمد.
(2) وقيل يحرم وهو رواية في مذهب الإمام أحمد (2) وبالتحريم قال شيخ الإسلام ابن تيمية (3) وابن القيم (4) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: -
وقد تنوزع في كراهته، فكرهه عمر بن عبد العزيز والإمام أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين، وقال عمر بن عبد العزيز: التورق أخية الربا، أي أصل الربا وهذا القول أقوى. ا \ هـ (5) (3) وقيل إنه جائز. قال في الإنصاف: وهو المذهب وعليه الأصحاب (6) .
__________
(1) (*) من الورق وهي الفضة، سيمت بذلك لأن مشتري السلعة يبيعها بالورق، فإن مقصوده أخذ الورق.
(2) الإنصاف جـ4 ص337.
(3) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية جـ29 ص431.
(4) إعلام الموقعين لابن القيم جـ3 ص220.
(5) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية جـ29 ص431.
(6) الإنصاف جـ4 ص337.(14/291)
استدل من قال بالكراهة أو التحريم بما يأتي:
أ- ما روى الإمام أحمد في المسند أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: [يأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يده، قال: ولم يؤمر بذلك] قال الله عز وجل: -
{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} (1) وينهد الأشرار ويستذل الأخيار ويبايع المضطرون. قال: وقد «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطرين، وعن بيع الضرر، وعن بيع الثمرة قبل أن تدرك (2) » . رواه أحمد وأبو داود (3) .
وجه الاستدلال أن في الحديث التصريح بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن بيع المضطر، والنهي يقتضي التحريم كما يراه جمهور الأصوليين، والبيع على الصفة المذكورة في مسألة التورق بيع للمضطر، لأن الموسر يضن عليه بالقرض فيضطر إلى أن يشتري منه سلعة ثم يبيعها ليحصل على النقد. وبيع المضطر منهي عنه بنص الحديث المذكور.
ب- أن البيع في هذه المسألة قريب من الربا ولا يبعد عن بيع العينة لأن مقصود المشتري الحصول على النقد، لذا روي عن عمر بن
__________
(1) سورة البقرة الآية 237
(2) سنن أبو داود البيوع (3382) ، مسند أحمد بن حنبل (1/116) .
(3) مسند الإمام أحمد جـ1 ص116 وانظر سنن أبي داود كتاب البيوع باب في بيع المضطر جـ3 ص255.(14/292)
العزيز أنه قال: -
التورق أخية الربا (1) .
قال ابن القيم: وعن أحمد فيه روايتان: وأشار في رواية الكراهة إلى أنه مضطر وهذا من فقهه رحمه قال: فإن هذا لا يدخل فيه إلا مضطر وكان شيخنا رحمه الله يمنع من مسألة التورق وروجع فيها مرارا وأنا حاضر فلم يرخص فيها وقال: المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها، فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه. ا \ هـ (2) .
واستدل من قال بالجواز بما يأتي: -
أ- أن الرجل يشتري السلع ويكون غرضه إما عين السلعة وإما عوضها وكلاهما غرض صحيح للمشتري فالعقد المبني عليهما صحيح كذلك.
ب- أن البيع تم بأركانه وشروطه وكون غرض المشتري المال أي العوض عن العين المشتراة لا بأس به لأن من أسباب تحريم بيع العينة عودة العين إلى صاحبها وزيادة المال له بسبب المال، وهذا المعنى غير موجود في التورق.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين: ولكن نظرا لحاجة الناس اليوم وقلة المقرضين ينبغي القول بالجواز بشروط: -
(1) أن يكون محتاجا إلى الدراهم، فإن لم يكن محتاجا فلا يجوز كمن
__________
(1) انظر فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية جـ29 ص431 وإعلام الموقعين جـ3 ص220.
(2) إعلام الموقعين جـ3 ص220.(14/293)
يلجأ إلى هذه الطريقة ليدين غيره.
(2) أن لا يتمكن من الحصول على المال بطرق أخرى مباحة كالقرض والسلم، فإن تمكن من الحصول على المال بطريقة أخرى لم تجز هذه الطريقة لأنه لا حاجة به إليها.
(3) أن لا يشتمل العقد على ما يشبه صورة الربا مثل أن يقول بعتك إياها العشرة أحد عشر أو نحو ذلك فإن اشتمل على ذلك فهو إما مكروه أو محرم، نقل عن الإمام أحمد أنه قال في مثل هذا: كأنه دراهم بدراهم لا يصح، هذا كلام الإمام أحمد. وعليه فالطريق الصحيح أن يعرف الدائن قيمة السلعة ومقدار ربحه ثم يقول للمستدين بعتك إياها بكذا وكذا إلى سنة.
(4) أن لا يبيعها المستدين إلا بعد قبضها وحيازتها لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السلع قبل أن يحوزها التجار إلى رحالهم.
فإذا تمت هذه الشروط الأربعة فإن القول بجواز مسألة التورق متوجه كيلا يحصل تضييق على الناس وليكن معلوما أنه لا يجوز أن يبيعها المستدين على الدائن بأقل مما اشتراها به بأي حال من الأحوال، لأن هذه هي مسألة العينة. ا \ هـ (1) .
__________
(1) بهجة الناظرين فيما يصلح الدنيا والدين ص 298.(14/294)
صفحة فارغة(14/295)
صفحة فارغة(14/296)
بسم الله الرحمن الرحيم
تحريم الرشوة
بقلم: يوسف بن عبد الرحمن البرقاوي
الأصل في المسلم أنه معصوم الدم والمال فلا يجوز الاعتداء عليه بحال من الأحوال، واعتبر الإسلام الموت في سبيل الدفاع عن المال والدم والشرف نوعا من أنواع الشهادة، والأدلة على حرمة دم المسلم وما له كثيرة: قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} (1) وقال تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (2) .
(1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله صلى عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه (3) » .
(2) وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، الثيب الزاني والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة (4) » .
__________
(1) سورة البقرة الآية 188
(2) سورة المائدة الآية 32
(3) رواه مسلم.
(4) متفق عليه.(14/297)
(3) وعن السائب بن يزيد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جادا ولا لاعبا، وإذا أخذ أحدكم عصا أخيه فليردها عليه (1) » .
(4) وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليم وسلم قال: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه (2) » .
(5) وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ظلم شبرا من الأرض طوقه الله من سبع أرضين (3) » .
هذه الأدلة المتقدمة وغيرها من الأدلة المستفيضة تفيد حرمة المسلم وحرمة ماله ودمه وعرضه وأرضه فلا يجوز الاعتداء عليه ولا على شيء مما يملك إلا بحق الإسلام كما لا يجوز أخذ ماله ومتاعه إلا برضاه وطيب نفسه. وهذا ما أكده رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حيث قال: «أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا (4) » .
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
(2) رواه الدارقطني وغيره.
(3) متفق عليه.
(4) مسند أحمد بن حنبل (4/76) .(14/298)
الأكل من الطيبات: -
فالإسلام حض المؤمنين وأمر المسلمين بالأكل من الطيبات والمباحات واجتناب المحرمات والخبائث والمكروهات وترك الأشياء المشتبهات.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (1) {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 172
(2) سورة البقرة الآية 173(14/298)
والأحاديث في هذا الباب كثيرة منها: -
(1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: وقال تعالى: ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له (3) » .
(2) وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب (4) » .
__________
(1) رواه مسلم.
(2) سورة المؤمنون الآية 51 (1) {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}
(3) سورة البقرة الآية 172 (2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}
(4) رواه البخاري ومسلم.(14/299)
أدلة تحريم الرشوة: -
فالرشوة كسب خبيث وأكل لأموال الناس بالباطل وإعانة على(14/299)
الظلم والعدوان وهدر لكرامة الإنسان لما يترتب عليها من ضياع الحقوق وفساد المجتمعات وقد توعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلة الرشوة والمتعاملين بها بالطرد والإبعاد عن مظان الرحمة كما جاءت الأحاديث مصرحة بذلك.
(1) فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي (1) » .
(2) وعن ثوبان رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش يعني الذي يمشي بينهما (2) »
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي وحسنه.
(2) رواه أحمد والحاكم.(14/300)
تعريف الرشوة: -
قال ابن حجر العسقلاني: الرشوة: بضم الراء وكسرها ويجوز الفتح وهي ما يؤخذ بغير عوض ويعاب أخذه (1) وقال ابن العربي: " الرشوة كل مال دفع ليبتاع به من ذي جاه عونا على ما لا يحل والمرتشي قابضه والراشي معطيه والرائش الواسطة " اهـ من فتح الباري. قال الأمير الصنعاني: والراشي هو الذي يبذل المال ليتوصل به إلى الباطل مأخوذ من الرشا وهو الحبل الذي يتوصل به إلى الماء في البئر (2) وقال أيضا: وفي النهاية لابن الأثير قال: الراشي من يعطي الذي يعينه على الباطل والمرتشي الآخذ والرائش هو الذي يمشي بينهما وهو السفير بين الدافع والآخذ. وإن لم يأخذ على سفارته أجرا فإن أخذ فهو أبلغ (أي بالإثم والحرمة) (3) .
__________
(1) فتح الباري ص221 جـ5.
(2) سبل السلام ص43 جـ2.
(3) سبل السلام ص 124 جـ 4.(14/300)
قال القرضاوي في كتابه الحلال والحرام: " ومن أكل أموال الناس بالباطل أخذ الرشوة وهي ما يدفع من مال إلى ذي سلطان أو وظيفة عامة ليحكم له أو على خصمه بما يريد هو أو ينجز له عملا أو يؤخر لغريمه عملا، وهلم جرا " (1) .
__________
(1) الحلال والحرام للقرضاوي ص24.(14/301)
حكم هدايا العمال والحكام وعامة الناس: -
أ- فقد وردت أحاديث صحيحة بحرمة هدية الحاكم من قضاة ومسئولين وغيرهم واعتبرت من الرشوة الذي صرح النبي صلى الله عليه وسلم بحرمتها وأكل أموال الناس بالباطل وخصوصا إذا كان هناك مصلحة للمهدي عند المهدى إليه وبالأدلة الشرعية على حرمتها يتضح ذلك.
ب- وهناك من أباح هدية الحاكم لدفع ظلم أو تحقيق حق كما سيأتي.
جـ- وهناك من أباح للمهدي للحصول على حقه وحرم على الآخذ أي المهدى إليه. والحق في ذلك أن الأحاديث الصحيحة تفيد الحرمة على الجميع المهدي والمهدى إليه للأدلة الصريحة في التحريم والتحذير.
(1) فعن أبي حميد عبد الرحمن بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: «استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد -يقال له: ابن اللتبية - على الصدقة فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي - فقام رسول صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول: هذا لكم وهذا هدية أهديت إلي أفلا جلس في بيت أبيه أو أمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا والله لا(14/301)
يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله تعالى يحمله يوم القيامة فلا أعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رؤي بياض إبطيه فقال اللهم هل بلغت (1) » متفق عليه.
(2) وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «" من شفع لأخيه شفاعة فأهدي له هدية فقد أتى بابا عظيما من الربا (2) » .
(3) وعن حذيفة بن اليمان مرفوعا: «هدايا العمال حرام» . وعن أبي حميد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هدايا العمال غلول (3) » .
__________
(1) رواه البخاري ج4 ص202 كتاب الحيل بشرح السدي ومسلم في باب تحريم هدايا العمال ج12 ص220 بشرح النووي بهذا المعنى.
(2) رواه أحمد وفي إسناده مقال.
(3) رواهما أحمد والطبراني والبيهقي.(14/302)
رفض الخلفاء الهدية خوفا من الشبهة: -
وكان سلفنا الصالح يتورعون عن قبول الهدايا خوفا من الشبهة وخصوصا إذا تقلد أحدهم عملا من أعمال المسلمين. ولهذا فقد بوب البخاري في صحيحه بابا وقال: [باب من لم يقبل الهدية لعلة] .
ذثم ساق البخاري أثر عمر بن عبد العزيز رحمه الله قوله " كانت الهدية في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية واليوم رشوة ".
وقال ابن حجر العسقلاني في هذا الباب قال فرات بن مسلم: اشتهى عمر بن عبد العزيز التفاح فلم يجد في بيته شيئا يشترى به فركبنا معه فتلقاه غلمان الدير بأطباق تفاح فتناول واحدة فشمها ثم رد الأطباق، فقلت له في ذلك.
فقال لا حاجة لي فيه. فقلت ألم يكن رسول الله صلى الله عليه(14/302)
وسلم وأبو بكر وعمر يقبلون الهدية؟ .
فقال أي عمر بن عبد العزيز: إنها لأولئك هدية وهي للعمال بعدهم رشوة (1) .
__________
(1) فتح الباري ص220 جـ5.(14/303)
أقوال العلماء في هدايا الحكام وغيرهم: -
(1) جمهور علماء الإسلام لا يجيزون هدايا الحكام ولا العمال للأدلة المتقدمة لما في ذلك من أكل أموال الناس بالباطل واعتبروها من السحت وإعانة على الظلم لما يترتب على ذلك من محابات المهدي بسبب هديته.
(2) وهناك من جعلها في درجة الكفر ولعل هذا القول فيه مغالاة وسيأتي بيانه في موضعه. ولربما كان مقصدهم الكفر العملي لا الاعتقادي والله أعلم.
(3) وهناك من أجاز هدية الحاكم من باب المكافأة والإثم على الحاكم لا على المهدي إذا كان لا يتوصل إلى حقه إلا بالهدية.
ونقل ابن حجر العسقلاني قول فرات بن مسلم في هذا الموضع في فتح الباري. قال رحمه الله: " إن لم يكن المهدى له حاكما والإعانة لدفع مظلمة أو إيصال حق فهو جائز ولكن يستحب له ترك الأجر. وإن كان حاكما فهو حرام " (1) .
وللقارئ الكريم أقوال علماء الإسلام في هذه المسألة: -
(1) قال ابن قدامة (2) في المغني قال: فأما الرشوة في الحكم ورشوة
__________
(1) فتح الباري ص321 جـ5.
(2) المغني ص69 جـ10.(14/303)
العامل فحرام بلا خلاف، قال الله تعالى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (1) .
قال الحسن البصري وسعيد بن جبير في تفسيره هو الرشوة وقال إذا قبل القاضي الرشوة بلغت به إلى الكفر. . . إلى أن قال ولأن المرتشي إنما يرتشى ليحكم بغير الحق أو ليوقف الحكم عنه وذلك من أعظم الظلم.
ثم قال ابن قدامة: قال مسروق: سألت ابن مسعود عن السحت أهو الرشوة في الحكم قال: لا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (2) - {هُمُ الظَّالِمُونَ} (3) - {هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4) ولكن السحت أن يستعينك الرجل على مظلمة فيهدي لك فلا تقبل.
وقال قتادة: قال كعب: الرشوة تسفه الحليم وتعمي عين الحكيم -إلى أن قال ابن قدامة - فأما الراشي فإن رشاه ليحكم له بباطل أو يدفع عنه حقا فهو ملعون. وإن رشاه ليدفع عنه مظلمة ويجزيه على واجبه، فقد قال عطاء وجابر بن زيد والحسن؛ لا بأس أن يصانع على نفسه.
قال ابن قدامة: قال جابر بن زيد: ما رأينا في زمن زياد أنفع لنا من الرشا ولأنه يستنقذ له كما يستنقذ الرجل أسيره. فإن ارتشى الحاكم أو قبل هدية ليس له قبولها فعليه ردها إلى أربابها لأنه أخذها بغير حق فأشبه المأخوذ بعقد فاسد. ويحتمل أن يضعها في بيت المال لأن النبي
__________
(1) سورة المائدة الآية 42
(2) سورة المائدة الآية 44
(3) سورة المائدة الآية 45
(4) سورة المائدة الآية 47(14/304)
صلى الله عليه وسلم لم يأمر ابن اللتبية بردها إلى أربابها. ا. هـ من المغني.
قال الشوكاني في نيل الأوطار (1) : " قال ابن رسلان في شرح السنن ويدخل في إطلاق الرشوة: الرشوة للحاكم والعامل على أخذ الصدقات وهي حرام بالإجماع. قال الإمام المهدي في البحر (2) في كتاب الأجارات فيه مسألة، وتحرم رشوة الحاكم إجماعا بقوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الراشي والمرتشي (3) » وقال الشوكاني أيضا: قال المنصور بالله وأبو جعفر وبعض أصحاب الشافعي وإن طلب بذلك حقا مجمعا عليه جاز. قيل وظاهر المذهب المنع لعموم الخبر.
__________
(1) نيل الأوطار للشوكاني ص277 جـ8.
(2) البحر: كتاب فقه للشيعة الزيدية يسمى [البحر الزخار] .
(3) سنن الترمذي الأحكام (1337) ، سنن أبو داود الأقضية (3580) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2313) ، مسند أحمد بن حنبل (2/190) .(14/305)
رد وتعقيب للإمام الشوكاني: -
وقال الشوكاني ردا على أئمة الزيدية: " والتخصيص لطالب الحق بجواز تسليم الرشوة منه للحاكم لا أدري بأي مخصص. فالحق التحريم مطلقا أخذا بعموم الحديث. ومن زعم الجواز في صورة من الصور فإن جاء بدليل مقبول وإلا كان تخصيصه ردا عليه فالأصل في مال المسلم التحريم {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (1) .
ثم قال الشوكاني: والأصل أن الدافع للرشوة إنما دفعه لأحد أمرين: -
الأول: - إما لينال به حكم الله إن كان محقا وذلك لا يحل لأن المدفوع في مقابلة أمر واجب أوجب الله عز وجل على الحاكم الصدع به. فكيف
__________
(1) سورة البقرة الآية 188(14/305)
لا يفعل حتى يأخذ عليه شيئا من الحطام.
الثاني: - وإن كان الدافع للمال من صاحبه لينال به خلاف ما شرعه الله إن كان مبطلا فذلك أقبح، لأنه مدفوع في مقابلة أمر محظور، فهو أشد تحريما من المال المدفوع للبغي في مقابلة الزنا بها، لأن الرشوة يتوصل بها إلى أكل مال الغير الموجب لإحراج صدره والإضرار به بخلاف المدفوع للبغي. فالتوسل به إلى شيء محرم وهو الزنا لكنه مستلذ للفاعل والمفعول به. وهو أيضا ذنب بين العبد وربه. وهو أسمح الغرماء ليس بين العاصي وبين المغفرة إلا التوبة ما بينه وبين الله، وبين الأمرين فرق بعيد. ثم ساق الأدلة على تحريم الرشوة (1) .
ثم قال الشوكاني: وقال أبو وائل شقيق بن سلمة أحد التابعين: القاضي إذا أخذ الهدية فقد أكل السحت، وإذا أخذ الرشوة بلغت به الكفر. رواه ابن أبي شيبة، بإسناد صحيح وقال: ويدل على المنع من قبول هدية من استعان بها على دفع مظلمته ما أخرجه أبو داود عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من شفع لأخيه شفاعة فأهدي له عليها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا (2) » وفي إسناده مقال.
ثم قال الشوكاني: فليحذر الحاكم المتحفظ لدينه المستعد للوقوف بين يدي ربه من قبول هدايا من أهدى إليه بعد توليته القضاء فإن للإحسان تأثيرا في طبع الإنسان، والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، فربما مالت نفسه إلى المهدي إليه ميلا يؤثر الميل عن الحق عند عروض المخاصمة بين المهدي وبين غيره والقاضي لا يشعر بذلك ويظهر أنه لم يخرج عن الصواب بسبب ما قد زرعه الإحسان في قلبه. والرشوة
__________
(1) نيل الأوطار للشوكاني ص278 جـ8.
(2) سنن أبو داود البيوع (3541) ، مسند أحمد بن حنبل (5/261) .(14/306)
لا تفعل زيادة على هذا، إلى أن قال الشوكاني: ومن هذه الحيثية امتنعت عن قبول الهدايا بعد دخولي في القضاء ممن كان يهدي إلى قبل الدخول فيه بل من الأقارب فضلا عن سائر الناس. وقد ذكر المغزلي في شرح بلوغ المرام في شرح حديث الرشوة كلاما في غاية السقوط وقال ما معناه: يجوز أن يرتشي من كان يتوصل بالرشوة إلى نيل حق أو دفع باطل، وكذلك قال: يجوز للمرتشي أن يرتشي إذا كان ذلك في حق لا يلزمه فعله - إلى أن قال: ولا يغتر بمثل هذا الأمر إلا من لا يعرف كيفية الاستدلال. اهـ كلام الشوكاني بإيجاز واختصار من كتابه نيل الأوطار (1) .
(3) وقال الأمير الصنعاني (2) في كتابه سبل السلام: والرشوة حرام بالإجماع سواء كانت للقاضي أو للعامل على الصدقة أو لغيرهما وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) .
ثم قال: وحاصل ما يأخذه القضاة من الأموال على أربعة أقسام: -
الأول: الرشوة إن كانت ليحكم له الحاكم بغير حق فهي حرام على الآخذ والمعطي. وإن كانت ليحكم له بالحق على غريمه فهي حرام على الحاكم دون المعطي لأنها لاستيفاء حقه فهي كجعل الآبق، وأجرة
__________
(1) نيل الأطار ص277-280 جـ8.
(2) سبل السلام ص124 جـ4.
(3) سورة البقرة الآية 188(14/307)
الوكالة على الخصومة. وقيل تحرم لأنها توقع الحاكم في الإثم.
الثاني: الهدية فإن كانت ممن يهاديه قبل الولاية فلا تحرم استدامتها وإن كان لا يهدي إليه إلا بعد الولاية، فإن كانت ممن لا خصومة بينه وبين أحد عنده جازت وكرهت، وإن كانت ممن بينه وبين غريمه خصومة عنده فهي حرام على الحاكم والمهدي.
الثالث والرابع: الأجرة، وأما الأجرة فإن كان للحاكم جراية من بيت المال ورزق حرمت بالاتفاق (يعني حرمت الهدية للحاكم بالاتفاق) لأنه إنما أجري له الرزق لأجل الاشتغال بالحكم فلا وجه للأجرة.
وإن كانت لا جراية له من بيت المال جاز له الأجرة على قدر عمله غير حاكم، فإن أخذ أكثر مما يستحقه حرم عليه، لأنه إنما يعطى الأجرة لكونه عمل عملا لا لأجل كونه حاكما ولا يستحق لأجل كونه حاكما شيئا من أموال الناس اتفاقا.
فأجرة العمل أجرة مثله فأخذ الزيادة على أجرة مثله حرام.
لذا قيل إن تولية القضاء لمن كان غنيا أولى من تولية من كان فقيرا، وذلك لأنه لفقره يصير متعرضا إلى ما لا يجوز له تناوله إذا لم يكن له رزق من بيت المال.
(4) قال القرضاوي في كتابه الحلال والحرام (1) : وقد حرم الإسلام على المسلم أن يسلك طريق الرشوة للحكام وأعوانهم، كما حرم على هؤلاء أن يقبلوها إذا بذلت لهم، كما حظر على غيرهم أن
__________
(1) الحلال والحرام ص24.(14/308)
يتوسطوا بين الآخذين والدافعين - ثم ساق الأدلة على تحريم ذلك. . . . . . . ثم قال: والإسلام يحرم الرشوة في أي صورة كانت وبأي اسم سميت، فتسميتها باسم الهدية لا يخرجها من دائرة الحرام إلى الحلال.(14/309)
الرشوة لرفع ظلم: -
ثم قال القرضاوي في كتابه المذكور (1) : ومن كان له حق مضيع لم يجد طريقة للوصول إليه إلا بالرشوة أو دفع ظلم لم يستطع دفعه عنه إلا بالرشوة فالأفضل له أن يصبر حتى ييسر الله له أفضل السبل لرفع الظلم ونيل الحق.
فإن سلك سبيل الرشوة من أجل ذلك فالإثم على الآخذ المرتشي وليس عليه (إثم الراشي) . وهذه الحالة ما دام قد جرب كل الوسائل فلم تأت بجدوى، وما دام يرفع عن نفسه ظلما أو يأخذ حقا له دون عدوان على حقوق الآخرين.
ثم قال: وقد استدل بعض العلماء على ذلك بأحاديث الملحفين الذين كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة فيعطيهم وهم لا يستحقون، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحدكم ليخرج بصدقته من عندي متأبطها أي يحملها تحت إبطه وإنما هي له نارا- قال عمر: يا رسول الله كيف تعطيه وقد علمت أنها له نار؟ قال فما أصنع يأبون إلا مسألتي ويأبى الله عز وجل لي البخل (2) » .
__________
(1) الحلال والحرام ص241.
(2) رواه أبو يعلى بإسناد جيد وروي عن أحمد نحوه ورجاله رجال الصحيح.(14/309)
وقال القرضاوي معقبا على ذلك: فإذا كان ضغط الإلحاح جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يعطي السائل ما يعلم أنه نار على آخذه فيكف يكون ضغط الحاجة على دفع ظلم أو أخذ حق مهدور؟ ؟ .
(5) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الفتاوى: قال رحمه الله رحمة واسعة (1) : ولهذا قال العلماء يجوز رشوة العامل لدفع الظلم لا لمنع الحق وإرشاؤه حرام فيهما، وكذلك الأسير والعبد المعتق إذا أنكر سيده عتقه له أن يفتدي نفسه بمال يبذله يجوز له بذله وإن لم يجز للمستولي عليه بغير حق أخذه.
وكذلك المرأة المطلقة ثلاثا إذا جحد الزوج طلاقها فافتدت منه بطريق الخلع في الظاهر كان حراما عليه ما بذلته ويخلصها من رق استيلائه. مستدلا بحديث عمر بن الخطاب المتقدم - قال ابن تيمية: ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتلظاها نارا قالوا: يا رسول الله فلم تعطيهم؟ قال يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل (2) » ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن ذلك ما وقى به المرء عرضه فهو صدقة، فلو أعطى الرجل شاعرا أو غير شاعر لئلا يكذب عليه أو يهجوه أو يتكلم في عرضه كان بذله لذلك جائزا.
وجاء في الفتاوى لشيخ الإسلام (3) وسئل شيخ الإسلام عن رجل أهدى الأمير هدية يطلب حاجة أو التقرب أو للاشتغال بالخدمة عنده أو ما أشبه ذلك فهل تجوز هذه الهدية على هذه الصورة أم لا؟ ؟ فأجاب
__________
(1) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ص258 ج29.
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/16) .
(3) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ص258 ج31.(14/310)
رحمه الله: الحمد لله ففي سنن أبي داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من شفع لأخيه شفاعة فأهدي له هدية فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا (1) » .
وقال: وسئل ابن مسعود عن السحت فقال: هو أن تشفع لأخيك شفاعة فيهدي لك هدية فتقبلها فقال له: أرأيت إن كانت هدية في باطل؟ فقال: ذلك كفر، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (2) ولهذا قال العلماء: إن من أهدى هدية لولي أمر ليفعل معه ما لا يجوز كان حراما على المهدي والمهدى إليه - وهذه من الرشوة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الراشي والمرتشي (3) » .
والرشوة تسمى البرطيل، والبرطيل في اللغة هو الحجر المستطيل فاه. فأما إذا أهدى له هدية ليكف ظلمه عنه أو ليعطيه حقه الواجب كانت هذه الهدية حراما على الآخذ، وجاز للدافع أن يدفعها إليه - ثم ساق شيخ الإسلام ابن تيمية حديث عمر بن الخطاب المتقدم. . . . وقد أسهب ابن تيمية في هذه المسألة فمن أراد المزيد من الاطلاع فليراجع الفتاوى من ص285 إلى ص288 من المجلد الحادي والثلاثين.
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3541) ، مسند أحمد بن حنبل (5/261) .
(2) سورة المائدة الآية 44
(3) سنن الترمذي الأحكام (1337) ، سنن أبو داود الأقضية (3580) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2313) ، مسند أحمد بن حنبل (2/190) .(14/311)
حكم هدية غير الحكام والعمال:
(1) أما هدية غير الحكام والعمال فإذا توصل بها إلى تحقيق ظلم أو إبطال حق فلا خلاف بين علماء الإسلام على أنها حرام.
(2) وأما إذا لم يتوصل بها إلى تحقيق ظلم أو إبطال حق وإنما قصد بها منفعة للمهدى إليه فهي جائزة ومشروعة.(14/311)
(3) وهناك من أجاز للمهدي أن يتوصل إلى حقه ومنعها على المهدى إليه - واستدل المانعون بعموم النصوص الواردة بتحريم أكل أموال الناس بالباطل وبغير حق ومن غير طيب نفس.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا (1) » رواه أحمد.
وقال الأمير الصنعاني (2) : وفيه دليل على تحريم الهدية في مقابلة الشفاعة وظاهره سواء كان قاصدا لذلك عند الشفاعة أو غير قاصد.
وقال الصنعاني (3) : والرشوة حرام بالإجماع سواء كانت للقاضي أو العامل على الصدقة أو لغيرهما وقد تقدم كلامه. . . .
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3541) ، مسند أحمد بن حنبل (5/261) .
(2) سبل السلام ص42 جـ3.
(3) سبل السلام ص124جـ4.(14/312)
خلاصة القول في المسألة:
والظاهر من الأدلة الصريحة أن الرشوة حرام بجميع ضروبها وأشكالها وألوانها إذا كان يتوصل بها إلى إبطال حق أو إقرار ظلم لما يترتب على ذلك من المفاسد والأضرار.
والإسلام راعى أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والتسامح بجواز الرشوة يعود الناس على أكل الحرام وعدم الشعور بالمسئولية لما يترتب على ذلك من تعطيل مصالح المسلمين وتأخير أعمالهم وعدم إنجازها إلا بالرشوة - فتنعدم الثقة بين الناس وتقل أواصر المودة والمحبة بينهم وهذا مما حذر منه القرآن الكريم ونهى عنه النبي الكريم(14/312)
صلوات الله وسلامه عليه. قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) .
وفي الحديث الشريف عن جرير بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «" من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء (2) » رواه مسلم.
ولا شك أن الرشوة قتل لروح التعاون بين المسلمين وهدر لكرامة المؤمنين. ومن عود نفسه على أخذ الرشوة وأكلها فقد سن في الإسلام سنة سيئة عليه إثمها وإثم من استن به وقلده بهذا الجرم.
جاء في كتاب الحلال والحرام للقرضاوي (3) قال: ولا غرابة في تحريم الإسلام للرشوة وتشديده على كل من اشترك فيها فإن شيوعها في مجتمع شيوع للفساد والظلم من حكم بغير الحق أو امتناع عن الحكم بالحق وتقديم من يستحق التأخير وتأخير من يستحق التقديم وشيوع روح النفعية في المجتمع لا روح الواجب. اهـ والحق أن الإسلام حرم على المسلم كل فعل أو قول أو واسطة تساعد على الباطل أو يتوصل بها إلى الحرام، كآكل الربا ومعطي الربا وكاتب المعاملة بينهما والشاهد عليها واعتبر الإسلام الجميع في الجرم سواء.
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء (4) » رواه
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، سنن ابن ماجه المقدمة (203) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (514) .
(3) الحلال والحرام ص240.
(4) صحيح مسلم المساقاة (1598) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) .(14/313)
مسلم فالحديث الشريف شمل الجميع بالإثم لأن عملية الربا تقوم على أربعة أركان لا تتم إلا بهذه الأركان الأربعة فكل ركن منها ساعد على الظلم وأعان على الباطل، فدخل في غضب الله ووعيده. وهذا ما يتعارض مع قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) وكذا الحال في الرشوة. فكل من أعان على ترويجها بين الأفراد وفي المجتمعات فهو على خطر عظيم دخل في الوعيد الشديد. فليحذر المؤمن من المروجين للباطل والمزينين للحرام، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: «وإن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه (2) » .
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) متفق عليه.(14/314)
محاسبة العمال:.
عن أبي حميد عبد الرحمن بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: «استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له: ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد: فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول: هذا لكم وهذا هدية أهديت إلي، أفلا جلس في بيت أبيه أو أمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا، والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله تعالى يحمله يوم القيامة، فلا أعرفن أحد منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رؤي بياض(14/314)
إبطيه فقال: اللهم هل بلغت (1) » . متفق عليه قال ابن حجر العسقلاني (2) بعد أن ساق هذا الحديث حديث ابن اللتبية قال في الحديث:
1- مشروعية محاسبة المؤتمن.
2 - منع العمال من قبول الهدية ممن له عليه حكم وأنها إذا أخذت تجعل في بيت المال ولا يختص العامل منها إلا بما أذن له الإمام.
3 - قال ابن حجر: وقال ابن بطال: يلحق بهدية العامل الهدية لمن له دين ممن عليه الدين ولكن له أن يحاسب بذلك من دينه.
4 - وفيه إبطال كل طريق يتوصل بها من يأخذ المال إلى محاباة المأخوذ منه والانفراد بالمأخوذ.
5 - وفيه من رأى متأولا أخطأ في تأويل يضر من أخذ به أن يشهر القول للناس ويبين خطأه ليحذر من الاغترار به.
6 - وفيه جواز توبيخ المخطئ واستعمال المفضول في الإمارة والإمامة والأمانة مع وجود من هو أفضل منه. وقال ابن حجر العسقلاني (3) :
قال المهلب: حديث الباب (أي حديث ابن اللتيبة المتقدم) أصل في محاسبة المؤتمن وأن المحاسبة تصحيح أمانته وأن سبب محاسبته ما وجد معه من جنس مال الصدقة وادعى أنه أهدي إليه.
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7174) ، صحيح مسلم الإمارة (1832) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2946) ، مسند أحمد بن حنبل (5/424) ، سنن الدارمي الزكاة (1669) .
(2) فتح الباري ص167 ج17.
(3) فتح الباري ص366 ج3.(14/315)
مكافأة المحسن:
الإسلام دعا إلى مكافأة المحسن بما يستطيعه المسلم من أنواع الإحسان ولو كان ذلك بالكلمة الطيبة والدعاء له بالخير، واعتبر الإسلام ملاقاة المسلم لأخيه المسلم بطلاقة الوجه وبشاشة النفس(14/315)
اعتبره معروفا وإحسانا له يؤجر على ذلك المحسن - وهذا من كمال هذا الدين وشموله وآدابه ومحاسنه لتبقى المودة والألفة والمحبة خلقا للمسلمين وشعارا لهم.
1 - فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والكلمة الطيبة صدقة (1) » متفق عليه.
2 - وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق (2) » رواه مسلم.
3 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من استعاذكم بالله فأعيذوه ومن سألكم بالله فأعطوه ومن أتى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا فادعوا له (3) » .
قال الأمير الصنعاني (4) عند حديث ابن عمر المذكور ودل الحديث على وجوب المكافأة للمحسن إلا إذا لم يجد فإنه يكافئه بالدعاء وأجزأه إن علم أنه قد طابت نفسه أو لم تطب وهو ظاهر الحديث ومثل هذه المكافأة لا تعتبر من باب الرشوة إلا إذا تواطأ معه واشترطها لنفسه. أهـ كلام الصنعاني.
هذا وأسأل الله تعالى أن يبصرنا في ديننا وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه إنه على ما يشاء قدير وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
كتبه الفقير إلى عفو ربه يوسف عبد الرحمن البرقاوي.
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2989) ، صحيح مسلم الزكاة (1009) ، مسند أحمد بن حنبل (2/316) .
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2626) ، سنن الترمذي الأطعمة (1833) .
(3) رواه الحاكم والبيهقي وأبو داود والترمذي.
(4) سبل السلام ص170 ج4.(14/316)
بيان مذهب أهل السنة: في الاستواء وسائر الصفات
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه وبعد: -.
فقد اطلعت أخيرا على ما نشر في مجلة البلاغ بعددها رقم637 من إجابة الشيخ أحمد محمود دهلوب على السؤال الآتي (ما تفسير قوله تعالى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (1) وجاء في هذه الإجابة جملة نسبها إلى السلف وهي قوله (وقال أهل السلف استوى على العرش استولى عليه وملكه كقولهم:
استوى بشر على العراق ... من غير سيف أو دم مهراق
وحيث إن هذه النسبة إلى السلف غلط محض. أحببت التنبيه على ذلك لئلا يغتر من يراها فيظنها من قول العلماء المعتبرين. والصواب أن هذا التفسير هو تفسير الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم في نفي الصفات وتعطيل الباري سبحانه وتعالى عما وصف به نفسه من صفات الكمال. وقد أنكر علماء السلف رحمهم الله مثل هذا التأويل وقالوا إن القول في الاستواء كالقول في سائر الصفات وهو إثبات الجميع لله على الوجه اللائق به سبحانه من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل قال الإمام مالك رحمه لله (الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به
__________
(1) سورة الأعراف الآية 54(14/317)
واجب والسؤال عنه بدعة) .
وعلى هذا درج علماء السلف من أهل السنة والجماعة رحمهم الله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة الحموية (فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة: مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في أن الله سبحانه وتعالى هو العلي، وهو فوق كل شيء، وهو عال على كل شيء وأنه فوق العرش وأنه فوق السماء: مثل قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (1) {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (2) {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} (3) {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} (4) {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (5) {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (6) {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} (7) {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} (8) {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (9) في ستة مواضع {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (10) إلى أمثال ذلك مما لا يكاد يحصى إلا بالكلفة. وفي الأحاديث الصحاح والحسان مما لا يحصى
__________
(1) سورة فاطر الآية 10
(2) سورة آل عمران الآية 55
(3) سورة الملك الآية 16
(4) سورة الملك الآية 17
(5) سورة النساء الآية 158
(6) سورة المعارج الآية 4
(7) سورة السجدة الآية 5
(8) سورة النحل الآية 50
(9) سورة الأعراف الآية 54
(10) سورة طه الآية 5(14/318)
إلا بالكلفة مثل قصة معراج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه، ونزول الملائكة من عند الله وصعودها إليه وقوله في الملائكة الذين يتعاقبون فيكم بالليل والنهار: فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم.
وفي الصحيح في حديث الخوارج «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحا ومساء (1) » إلى أن قال (إلى أمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله مما هو من أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية التي تورث علما يقينا من أبلغ العلوم الضرورية أن الرسول المبلغ عن الله ألقى إلى أمته المدعوين أن الله سبحانه على العرش وأنه فوق السماء كما فطر الله على ذلك جميع الأمم عربهم وعجمهم في الجاهلية والإسلام إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته. ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جمع لبلغ مئين أو ألوفا إلخ) (2) ا. هـ.
وبما ذكرناه يتضح للقراء أن ما نسبه أحمد محمود دهلوب إلى السلف من تفسير الاستواء بالاستيلاء غلط كبير وكذب صريح لا يجوز الالتفات إليه بل كلام السلف الصالح في ذلك معلوم ومتواتر وهو ما أوضحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من تفسير الاستواء بالعلو فوق العرش وأن الإيمان به واجب وأن كيفيته لا يعلمها إلا الله سبحانه وقد روي هذا المعنى عن أم سلمة أم المؤمنين وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك رحمه الله وهو الحق الذي لا ريب فيه وهو قول أهل السنة والجماعة بلا ريب. وهكذا القول في باقي الصفات من السمع والبصر والرضى والغضب، واليد والقدم والأصابع والكلام والإرادة وغير ذلك. كلها
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4351) ، صحيح مسلم الزكاة (1064) ، مسند أحمد بن حنبل (3/5) .
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج5 الفتوى الحموية 12- 15.(14/319)
يقال فيها أنها معلومة من حيث اللغة العربية، فالإيمان بها واجب والكيف مجهول لنا، لا يعلمه إلا الله سبحانه مع الإيمان أن صفاته سبحانه كلها كاملة وأنه سبحانه لا يشبه من خلقه فليس علمه كعلمنا ولا يده كأيدينا ولا أصابعه كأصابعنا ولا رضاه كرضانا إلى غير ذلك كما قال سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) وقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (3) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (4) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (5) وقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (6) والمعنى أنه لا أحد يساميه سبحانه أي: يشابهه، وقال عز وجل {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (7) والآيات في هذا المعنى كثيرة والواجب على المؤمن التمسك بما أخبر الله به ورسوله ودرج عليه سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان، والحذر من مقالات أهل البدع الذين أعرضوا عن الكتاب والسنة وحكموا أفكارهم وعقولهم فضلوا وأضلوا والله المسئول أن يحفظنا وجميع المسلمين من مضلات الفتن وأن يعيذنا وسائر المسلمين من نزغات الشيطان واتباع خطواته إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة الإخلاص الآية 1
(3) سورة الإخلاص الآية 2
(4) سورة الإخلاص الآية 3
(5) سورة الإخلاص الآية 4
(6) سورة مريم الآية 65
(7) سورة النحل الآية 74(14/320)
" وجوب استعمال الماء عند القدرة عليه في الطهارتين وتحريم التيمم في هذه الحال ".
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أما بعد: -.
فقد ذكر لي بعض الثقات أن بعض البادية يستعملون التيمم للصلاة مع توافر الماء لديهم وهذا منكر عظيم يجب التنبيه عليه وذلك لأن الوضوء للصلاة شرط من شروط صحتها عند وجود الماء كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (1) . الآية.
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ (2) » . وقد أباح الله سبحانه وتعالى التيمم وأقامه مقام الوضوء في حال فقد الماء أو العجز عن استعماله لمرض ونحوه للآية السابقة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (3) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) صحيح البخاري الوضوء (135) ، صحيح مسلم الطهارة (225) ، سنن الترمذي الطهارة (76) ، سنن أبو داود الطهارة (60) ، مسند أحمد بن حنبل (2/308) .
(3) سورة النساء الآية 43(14/321)
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فصلى بالناس فإذا هو برجل معتزل فقال ما منعك أن تصلي قال أصابتني جنابة ولا ماء قال صلى الله عليه وسلم عليك بالصعيد فإنه يكفيك (1) » متفق عليه.
ومن هذا يعلم أن التيمم للصلاة لا يجوز مع وجود الماء والقدرة على استعماله بل الواجب على المسلم أن يستعمل الماء في وضوئه وغسله من الجنابة أين ما كان ما دام قادرا عليه. وليس بمعذور في تركه والاكتفاء بالتيمم وتكون صلاته حينئذ غير صحيحة لفقد شرط من شروطها وهو الطهارة بالماء عند القدرة عليه وكثير من البادية هداهم الله وغيرهم من يذهب إلى النزهة يستعملون التيمم والماء عندهم كثير والوصول إليه ميسر وهذا بلا شك تساهل عظيم وعمل قبيح لا يجوز فعله لكونه خلاف الأدلة الشرعية وإنما يعذر المسلم في استعمال التيمم إذا بعد عنه الماء أو لم يبق عنده منه إلا اليسير الذي يحفظه لإنقاذ حياته وأهله وبهائمه مع بعد الماء عنه فالواجب على كل مسلم أين ما كان أن يتق الله سبحانه في جميع أموره وأن يحذر مخالفة شرعه في كل شيء وأن يلتزم بما أوجب الله عليه ومن ذلك الوضوء بالماء عند القدرة عليه كما يلزمه أن يحذر ما حرمه الله عليه ومن ذلك التيمم مع وجود الماء والقدرة على استعماله وأسأل الله أن يوفقنا والمسلمين جميعا للفقه في دينه والثبات عليه وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام.
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
__________
(1) صحيح البخاري التيمم (344) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (682) ، سنن النسائي الطهارة (321) ، مسند أحمد بن حنبل (4/435) ، سنن الدارمي الطهارة (743) .(14/322)
علم الحساب لا يعتمد عليه في إثبات الصوم
والفطر والأحكام الشرعية بإجماع سلف الأمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فقد رأست الدورة السادسة لندوة توحيد التقويم الهجري المنعقدة في مكة المكرمة من يوم الثلاثاء 10 \ 1 \ 1406هـ حتى يوم الخميس 12 \ 1 \ 1406هـ.
وقد أعد في هذه الجلسات بيانات توضح مطالع الشهور القمرية لعامي 1407هـ و1408 هـ وخمسة أشهر من عام 1409هـ وفق الحساب الذي يستعمله الفلكيون، ولم أوقع على البيان والجداول خشية أن يظن من يطلع عليها أنني موافق على إثبات الصوم والفطر والأحكام الشرعية بالحساب.
وقد أفهمت اللجنة ذلك وأوضحت لها أن إثبات الأهلة والأحكام الشرعية إنما يكون بالرؤية أو إكمال العدد كما نص على ذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أحاديث صحيحة منها قوله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين (1) » متفق عليه. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة (2) » رواه النسائي وأبو داود بإسناد صحيح. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا وعقد الإبهام في الثالثة والشهر هكذا وهكذا وهكذا يعني تمام الثلاثين (3) » متفق عليه. وهذا لفظ مسلم.
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (688) ، سنن النسائي الصيام (2124) ، سنن أبو داود الصوم (2327) ، موطأ مالك الصيام (635) ، سنن الدارمي الصوم (1686) .
(2) سنن النسائي الصيام (2126) ، سنن أبو داود الصوم (2326) ، مسند أحمد بن حنبل (4/314) .
(3) صحيح البخاري الصوم (1913) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2140) ، سنن أبو داود الصوم (2319) ، مسند أحمد بن حنبل (2/43) .(14/323)
أما توحيد التقويم بالحساب فلا مانع أن يعتمد عليه في المسائل الإدارية ونحوها وللإيضاح والنصيحة وبراءة الذمة رأيت نشر هذا البيان وفق الله الجميع لما يحب ويرضى إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
الرئيس العام.
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز.(14/324)
بيان ما يلزم المحدة على زوجها من الأحكام
أولا: تلزم بيتها الذي مات زوجها وهي ساكنة فيه ولا تخرج منه إلا لحاجة أو ضرورة كمراجعة المستشفى عند المرض وشراء حاجتها من السوق كالخبز ونحوه إذا لم يكن لديها من يقوم بذلك.
ثانيا: تجتنب الملابس الجميلة وتلبس ما سواها.
ثالثا: تجتنب أنواع الطيب ونحوها إلا إذا طهرت من حيضها فلا بأس أن تتبخر بالبخور.
رابعا: تجتنب الحلي من الذهب والفضة والماس وغيرها سواء كان ذلك قلائد أو أسوره أو غير ذلك.
خامسا: تجتنب الكحل لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى المحدة عن هذه الأمور كلها ولها أن تغتسل بالماء والصابون والسدر متى شاءت ولها أن تكلم من شاءت من أقاربها وغيرهم ولها أن تجلس مع محارمها وتقدم لهم القهوة والطعام ونحو ذلك ولها أن تعمل في بيتها وحديقة بيتها وأسطحة بيتها ليلا ونهارا في جميع أعمالها البيتية كالطبخ والخياطة وكنس البيت وغسل الملابس وحلب البهائم ونحو ذلك مما يفعله غير المحدة ولها المشي في القمر سافرة كغيرها من النساء ولها طرح الخمار عن رأسها إذا لم يكن عندها غير محرم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(14/325)
صفحة فارغة(14/326)
-تنويه واستدراك-
نعتذر للإخوة القراء فقد حدث سهوا نقص في الفتوى رقم 1610 وتاريخ 10 \ 7 \ 1397هـ في العدد الثالث عشر صفحة 74 حيث سقطت كلمة [طواف الإفاضة] بعد كلمة أو التقصير في الإجابة على السؤال، والصواب [حتى يتحلل التحلل الكامل وذلك برمي جمرة العقبة والحلق أو التقصير وطواف الإفاضة والسعي إن كان عليه سعي. . .
حدت خطأ مطبعي في الفتوى رقم 2030 وتاريخ 16 \ 7 \ 1398هـ صفحة 81 السطر الخامس، وردت عبارة أو أنثى من المعز والصواب أو ثني من المعز.
وبالله التوفيق(14/327)
صفحة فارغة(14/328)
حديث شريف
قال عليه الصلاة والسلام: «من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله فقد غزا (1) »
رواه مسلم
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2843) ، صحيح مسلم الإمارة (1895) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1628) ، سنن النسائي الجهاد (3181) ، سنن أبو داود الجهاد (2509) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2759) ، مسند أحمد بن حنبل (5/193) ، سنن الدارمي الجهاد (2419) .(14/329)
بسم الله الرحمن الرحيم
{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} (1)
(سورة الحديد، الآية " 11 ")
__________
(1) سورة الحديد الآية 11(15/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(15/2)
مجلة البحوث الإسلامية
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا
العدد
الخامس عشر
ربيع الأول - ربيع الثاني - جمادى الأولى - جمادى الآخرة 1406 هـ(15/3)
المحتويات
الافتتاحية
حكم الاختلاط في التعليم سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 6
ما هكذا الدعوة إلى إصلاح الأوضاع يا حمد سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 12
موضوع العدد
حكم الأسورة المغناطيسية اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 16
الفتاوى
فتاوى خاصة بالصلاة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 63
بحوث في العقيدة والفقه
أطوار الاجتهاد الفقهي الدكتور عبد الله الزايد 88
موقف الشريعة من نكاح التحليل الدكتور محمد أحمد الصالح 139
اهتمام علماء المسمين بعقيدة السلف الدكتور أبو اليزيد العجمي 172(15/4)
بحوث تاريخية
زيد بن حارثة اللواء محمد شيت خطاب 205
ابن خلدون وريادته لعلم تفسير التأريخ الدكتور عبد الحليم عويس 237
تعليقات - وردود - وإيضاحات
التعليق على العقيدة الطحاوية سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز 257
الشريعة الإسلامية منهاج رباني الشيخ سعد الخرعان 269
توضيح عمل المرأة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز 274
أسئلة موجهة من جريدة الجزيرة لقاء مع سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز 278
تحذير من بعض الكتب سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز 286
كشاف مجلة البحوث الإسلامية:
من العدد الأول إلى الخامس عشر إعداد أمين سليمان سيدو 288(15/5)
الافتتاحية:
حكم الاختلاط في التعليم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فقد اطلعت على ما نشرته جريدة السياسة الصادرة يوم 24 \ 7 \ 1404 هـ بعددها 5644 منسوبا إلى مدير جامعة صنعاء عبد العزيز المقالح الذي زعم فيه أن المطالبة بعزل الطالبات عن الطلاب مخالفة للشريعة، وقد استدل على جواز الاختلاط بأن المسلمين من عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- كانوا يؤدون الصلاة في مسجد واحد، الرجل والمرأة وقال: (ولذلك فإن التعليم لا بد أن يكون في مكان واحد) ، وقد استغربت صدور هذا الكلام من مدير لجامعة إسلامية في بلد إسلامي، يطلب منه أن يوجه شعبه من الرجال والنساء إلى ما فيه السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولا شك أن هذا الكلام فيه جناية عظيمة على الشريعة الإسلامية؛ لأن الشريعة لم تدع إلى الاختلاط حتى تكون المطالبة بمنعه مخالفة لها، بل هي تمنعه وتشدد في ذلك كما قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (1) الآية. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (2) ، وقال سبحانه:
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 33
(2) سورة الأحزاب الآية 59(15/6)
{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} (1) إلى أن قال سبحانه: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) .
وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (3) الآية، وفي هذه الآيات الكريمات الدلالة الظاهرة على شرعية لزوم النساء لبيوتهن؛ حذرا من الفتنة بهن، إلا من حاجة تدعو إلى الخروج، ثم حذرهن سبحانه من التبرج تبرج الجاهلية، وهو إظهار محاسنهن ومفاتنهن بين الرجال، وقد صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء (4) » متفق عليه من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه، وخرجه مسلم في صحيحه، عن أسامة وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنهما جميعا، وفي صحيح مسلم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء (5) » .
ولقد صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن الفتنة بهن عظيمة، ولا سيما في هذا العصر الذي خلع فيه أكثرهن الحجاب، وتبرجن فيه تبرج الجاهلية، وكثرت بسبب ذلك الفواحش والمنكرات، وعزوف الكثير من الشباب والفتيات عما شرع الله من الزواج في كثير من البلاد، وقد بين الله سبحانه أن الحجاب أطهر لقلوب الجميع، فدل ذلك على أن زواله أقرب إلى نجاسة قلوب الجميع وانحرافهم عن طريق الحق، ومعلوم أن جلوس الطالبة مع الطالب في كرسي الدراسة من أعظم أسباب الفتنة، ومن أسباب ترك الحجاب الذي شرعه الله للمؤمنات ونهاهن عن أن يبدين زينتهن لغير من بينهم الله سبحانه في الآية السابقة من سورة النور، ومن زعم أن الأمر بالحجاب خاص بأمهات المؤمنين
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة الأحزاب الآية 53
(4) صحيح البخاري النكاح (5096) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2741) ، سنن الترمذي الأدب (2780) ، سنن ابن ماجه الفتن (3998) ، مسند أحمد بن حنبل (5/210) .
(5) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2742) ، سنن الترمذي الفتن (2191) ، سنن ابن ماجه الفتن (4000) ، مسند أحمد بن حنبل (3/61) .(15/7)
فقد أبعد النجعة وخالف الأدلة الكثيرة الدالة على التعميم، وخالف قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (1) ؛ فإنه لا يجوز أن يقال: إن الحجاب أطهر لقلوب أمهات المؤمنين ورجال الصحابة دون من بعدهم، ولا شك أن من بعدهم أحوج إلى الحجاب من أمهات المؤمنين ورجال الصحابة رضي الله عنهم لما بينهم من الفرق العظيم في قوة الإيمان والبصيرة بالحق؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم رجالا ونساء ومنهن أمهات المؤمنين هم خير الناس بعد الأنبياء، وأفضل القرون بنص الرسول -صلى الله عليه وسلم- المخرج في الصحيحين، فإذا كان الحجاب أطهر لقلوبهم فمن بعدهم أحوج إلى هذه الطهارة، وأشد افتقارا إليها ممن قبلهم، ولأن النصوص الواردة في الكتاب والسنة لا يجوز أن يخص بها أحد من الأمة إلا بدليل صحيح يدل على التخصيص، فهي عامة لجميع الأمة في عهده -صلى الله عليه وسلم- وبعده إلى يوم القيامة؛ لأنه سبحانه بعث رسوله -صلى الله عليه وسلم- إلى الثقلين في عصره وبعده إلى يوم القيامة، كما قال عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (2) ، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (3) ، وهكذا القرآن الكريم لم ينزل لأهل عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنما أنزل لهم ولمن بعدهم ممن يبلغه كتاب الله، كما قال الله تعالى: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (4) ، وقال عز وجل: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (5) الآية، وكان النساء في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يختلطن بالرجال لا في المساجد ولا في الأسواق الاختلاط الذي ينهى عنه المصلحون اليوم، ويرشد القرآن والسنة وعلماء الأمة إلى التحذير منه حذرا من فتنته، بل كان النساء في مسجده -صلى الله عليه وسلم- يصلين خلف الرجال في صفوف متأخرة عن الرجال، وكان يقول -صلى الله عليه وسلم-: «خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها (6) » حذرا من افتتان
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 53
(2) سورة الأعراف الآية 158
(3) سورة سبأ الآية 28
(4) سورة إبراهيم الآية 52
(5) سورة الأنعام الآية 19
(6) صحيح مسلم الصلاة (440) ، سنن الترمذي الصلاة (224) ، سنن النسائي الإمامة (820) ، سنن أبو داود الصلاة (678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1000) ، مسند أحمد بن حنبل (2/340) ، سنن الدارمي الصلاة (1268) .(15/8)
آخر صفوف الرجال بأول صفوف النساء، وكان الرجال في عهده -صلى الله عليه وسلم- يؤمرون بالتريث في الانصراف حتى يمضي النساء ويخرجن من المسجد؛ لئلا يختلط بهن الرجال في أبواب المساجد مع ما هم عليه جميعا رجالا ونساء من الإيمان والتقوى، فكيف بحال من بعدهم؟ وكانت النساء ينهين أن يتحققن الطريق، ويؤمرن بلزوم حافات الطريق؛ حذرا من الاحتكاك بالرجال والفتنة بمماسة بعضهم بعضا عند السير في الطريق، وأمر الله سبحانه نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن حتى يغطين بها زينتهن حذرا من الفتنة بهن، ونهاهن سبحانه عن إبداء زينتهن لغير من سمى الله سبحانه في كتابه العظيم حسما لأسباب الفتنة، وترغيبا في أسباب العفة، والبعد عن مظاهر الفساد والاختلاط، فكيف يسوغ لمدير جامعة صنعاء -هداه الله وألهمه رشده - بعد هذا كله أن يدعو إلى الاختلاط، ويزعم أن الإسلام دعا إليه، وأن الحرم الجامعي كالمسجد، وأن ساعات الدراسة كساعات الصلاة! ومعلوم أن الفرق عظيم، والبون شاسع لمن عقل عن الله أمره ونهيه وعرف حكمته سبحانه في تشريعه لعباده، وما بين في كتابه العظيم من الأحكام في شأن الرجال والنساء، وكيف يجوز لمؤمن أن يقول: إن جلوس الطالبة بحذاء الطالب في كرسي الدراسة مثل جلوسها مع أخواتها في صفوفهن خلف الرجال، هذا لا يقوله من له أدنى مسكة من إيمان وبصيرة يعقل ما يقول.
هذا لو سلمنا وجود الحجاب الشرعي، فكيف إذا كان جلوسها مع الطالب في كرسي الدراسة مع التبرج وإظهار المحاسن والنظرات الفاتنة والأحاديث التي تجر إلى فتنة؟ فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال الله عز وجل: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (1) .
وأما قوله: (والواقع أن المسلمين منذ عهد الرسول كانوا يؤدون الصلاة في مسجد واحد الرجل والمرأة؛ ولذلك فإن التعليم لا بد أن يكون في مكان واحد)
__________
(1) سورة الحج الآية 46(15/9)
فالجواب عن ذلك أن يقال: هذا صحيح، لكن كان النساء في مؤخرة المساجد مع الحجاب والعناية والتحفظ مما يسبب الفتنة، والرجال في مقدم المسجد فيسمعن المواعظ والخطب، ويشاركن في الصلاة، ويتعلمن أحكام دينهن مما يسمعن ويشاهدن، «وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- في يوم العيد يذهب إليهن بعدما يعظ الرجال فيعظهن ويذكرهن؛ لبعدهن عن سماع خطبته» وهذا كله لا إشكال فيه ولا حرج فيه، وإنما الإشكال في قول مدير جامعة صنعاء -هداه الله وأصلح قلبه وفقهه في دينه-: (ولذلك فإن التعليم لا بد أن يكون في مكان واحد) فكيف يجوز له أن يشبه التعليم في عصرنا بصلاة النساء خلف الرجال في مسجد واحد مع أن الفرق شاسع بين واقع التعليم المعروف اليوم وبين واقع صلاة النساء خلف الرجال في عهده صلى الله عليه وسلم؟ ولهذا دعا المصلحون إلى إفراد النساء عن الرجال في دور التعليم، وأن يكن على حدة والشباب على حدة حتى يتمكن من تلقي العلم من المدرسات بكل راحة من غير حجاب ولا مشقة؛ لأن زمن التعليم يطول بخلاف زمن الصلاة، ولأن تلقي العلوم من المدرسات في محل خاص أصون للجميع وأبعد لهن من أسباب الفتنة، وأسلم للشباب من الفتنة بهن، ولأن انفراد الشباب في دور التعليم عن الفتيات مع كونه أسلم لهم من الفتنة، فهو أقرب إلى عنايتهم بدروسهم وشغلهم بها وحسن الاستماع إلى الأساتذة وتلقي العلم عنهم بعيدين عن ملاحظة الفتيات والانشغال بهن، وتبادل النظرات المسمومة والكلمات الداعية إلى الفجور.
وأما زعمه -أصلحه الله- أن الدعوة إلى عزل الطالبات عن الطلبة تزمت ومخالف للشريعة، فهي دعوة غير مسلمة، بل ذلك هو عين النصح لله ولعباده والحيطة لدينه، والعمل بما سبق من الآيات القرآنية والحديثين الشريفين، ونصيحتي لمدير جامعة صنعاء أن يتقي الله عز وجل، وأن يتوب إليه سبحانه مما صدر منه، وأن يرجع إلى الصواب والحق؛ فإن الرجوع إلى ذلك هو عين الفضيلة، والدليل على تحري طالب العلم للحق والإنصاف، والله المسئول سبحانه أن يهدينا جميعا سبيل الرشاد، وأن يعيذنا وسائر المسلمين من القول عليه بغير علم، ومن مضلات الفتن ونزغات الشيطان، كما أسأله سبحانه أن يوفق(15/10)
علماء المسلمين وقادتهم في كل مكان لما فيه صلاح البلاد والعباد في المعاش والمعاد، وأن يهدي الجميع صراطه المستقيم، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
بالمملكة العربية السعودية
ورئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة(15/11)
ما هكذا الدعوة إلى
إصلاح الأوضاع يا حمد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد اطلعت على ما نشر في جريدة السياسة بعددها 668 في 19 \ 8 \ 1404هـ لكاتبه حمد السعيدان، وقد نسب إلي - هداه الله - كلاما عن حلق اللحية، تجرأ فيه بشيء لم أقله، ومما ذكر أني قلت: أي فتوى تصدر باسمي يجب أن تكون ممهورة بخاتمي، ومصدقة من وزارة الأوقاف الإسلامية، وهذا الكلام ظاهر البطلان؛ لأني لم أشترط يوما ما تصديق وزارة الأوقاف الإسلامية على ما يصدر مني من الفتاوى، ثم استرسل في الكلام على حلق اللحية وغيرها، وزعم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى (1) » يقتضي بهذا العصر أن نحلق اللحى؛ لأن المجوس والمشركين واليهود والسيخ وغيرهم يطلقون اللحى، وقال: (وعليه يجب مخالفة هذه الفئات نحلق لحانا، وقد قام رجال الأزهر بتطبيق هذا الحديث وهو مخالفة المشركين وغيرهم وحلقوا لحاهم. . .) إلى آخر ما قال، ولا شك أن هذه جرأة من الكاتب، وسوء أدب منه مع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبيانه صلى الله عليه وسلم واضح، وأمره واجب الامتثال والتنفيذ، ويخشى على مخالفه من العاقبة السيئة، كما قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) وأمره -صلى الله عليه وسلم- بإعفاء
__________
(1) رواه البخاري في كتاب اللباس، باب تقليم الأظافر ص264، ومسلم بشرح النووي في كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة ج2 ص147 واللفظ له.
(2) سورة النور الآية 63(15/12)
اللحية واضح، وتنفيذه واجب إلى قيام الساعة، سواء وفر الكفار لحاهم أم حلقوها، وموافقتهم لنا في شيء من شرعنا كإعفاء اللحية لا يقتضي أن نخالف شرعنا، كما أن دخولهم في الإسلام أمر واجب عليهم ومحبوب لنا، ونحن مأمورون بدعوتهم إلى ذلك، ولا يقتضي ذلك خروجنا من الإسلام إذا دخلوا فيه حتى نخالفهم بل علينا أن ندعوهم إلى دين الله، وألا نتشبه بهم فيما خالفوا فيه شرع الله، وهذا أمر معلوم عند جميع أهل العلم.
وهذه الجرأة من الكاتب في حمل الحديث الشريف على وجوب حلقها؛ لأن المشركين وغيرهم تركوا حلقها جرأة شنيعة في نشر الباطل والدعوة إليه، ثم هي مخالفة للواقع، فليس كل الكفار وفروا لحاهم بل فيهم من يعفيها وفيهم من يحلقها، ولو فرضنا أنهم كلهم أعفوها لم يجز لنا أن نخالف أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فنحلقها لمخالفتهم، وهذا لا يقوله من له أدنى علم وبصيرة بشرع الله عز وجل، ويلزم عليه لوازم باطلة ومنكرات كثيرة، وأما ما ذكره عن شيوخ الأزهر من كونهم حلقوا لحاهم لما رأوا بعض الكفار قد أعفاها، فهذا لو سلمنا صحته لا حجة فيه؛ فإن مخالفة بعض المسلمين لما شرعه الله لا يحتج بها على ترك الشرع المطهر في مسائل كثيرة، إما لجهل الدليل وإما لأسباب أخرى، ولا يجوز أن يكون حجة في جواز مخالفة ما علم من الشرع؛ لكونهم لم يأخذوا به، بل غاية ما هناك أن يعتذر عنهم بأن الشرع لم يبلغهم، أو بلغهم من وجه لم يثبت لديهم أو لأعذار أخرى، كما بسط ذلك الإمام العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في كتابه الجليل (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) . وقد أجاد فيه وأفاد وأوضح أعذار أهل العلم فيما خالفوا من الشرع، فليراجع؛ فإنه مفيد جدا لطالب الحق.
وإني أنصح الكاتب (حمد) بأن يتقي الله، ويحذر من لمز الملتحين وسوء الظن بهم، كما أنصحه بأن يحسن الظن بجميع إخوانه المسلمين الذين يحرصون على تطبيق الشريعة، ويتتبعون سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويتأسون به في أقواله وأعماله، وأن يحملهم على أحسن المحامل عملا بقول الله - عز وجل - في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1)
__________
(1) سورة الحجرات الآية 11(15/13)
ومعنى قوله: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} (1) أي: لا يلمز بعضكم بعضا، واللمز العيب، ثم قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (2) . الآية. فأمر سبحانه باجتناب كثير من الظن وأخبر أن بعضه إثم، وهو الظن الذي لا دليل عليه، ولا أمارة شرعية ترشد إليه، ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث (3) » .
وهذا كله لا يمنع نصيحة من أخطأ من أهل العلم أو الدعاة إلى الله في شيء من عمله أو دعواه أو سيرته بل يجب أن يوجه إلى الخير، ويرشد إلى الحق بأسلوب حسن، لا باللمز وسوء الظن والأسلوب العنيف؛ فإن ذلك ينفر من الحق أكثر مما يدعو إليه، ولهذا قال عز وجل لرسوليه موسى وهارون لما بعثهما إلى أكفر الخلق في زمانه: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (4) . وأخبر الله عن نبيه -صلى الله عليه وسلم- بما جبله عليه من الرفق والحكمة واللين واللطف في الدعوة، فقال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (5) . الآية. وأمره سبحانه أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، فقال عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (6) . وهذا الأمر ليس خاصا به - صلى الله عليه وسلم - بل هو موجه إليه وإلى جميع علماء الأمة وإلى كل داع يدعو إلى حق؛ لأن أوامر الله سبحانه لنبيه -صلى الله عليه وسلم- لا تخصه بل تعم الأمة جميعا، إلا ما قام الدليل على أنه خاص به، ولقول الله سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (7) . الآية ولقوله عز.
__________
(1) سورة الحجرات الآية 11
(2) سورة الحجرات الآية 12
(3) صحيح البخاري النكاح (5144) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2563) ، سنن الترمذي البر والصلة (1988) ، مسند أحمد بن حنبل (2/465) ، موطأ مالك الجامع (1684) .
(4) سورة طه الآية 44
(5) سورة آل عمران الآية 159
(6) سورة النحل الآية 125
(7) سورة الأحزاب الآية 21(15/14)
وجل: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) . وقوله سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2) .
وصح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله (3) » . وقال عليه السلام: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (4) » . وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: «إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف (5) » . في أحاديث كثيرة تدل على أن الواجب على الدعاة إلى الله سبحانه والناصحين لعباده أن يتخيروا الأساليب المفيدة، والعبارات التي ليس فيها عنف ولا تنفير من الحق، والتي يرجى من ورائها انصياع من خالف الحق إلى قبوله والرضا به، وإيثاره والرجوع عما هو عليه من الباطل، وأن لا يسلك في دعوته المسالك التي تنفر من الحق، ويدعو إلى رده وعدم قبوله، وأسأل الله أن يوفقنا وسائر المسلمين للفقه في دينه، والثبات عليه، والدعوة إليه على بصيرة، وأن يعيذنا وسائر المسلمين من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ومن القول عليه سبحانه وعلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- بغير علم إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأعراف الآية 157
(2) سورة التوبة الآية 100
(3) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2592) ، سنن أبو داود الأدب (4809) ، سنن ابن ماجه الأدب (3687) ، مسند أحمد بن حنبل (4/366) .
(4) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/125) .
(5) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2593) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2701) ، مسند أحمد بن حنبل (6/37) .(15/15)
حكم الأسورة المغناطيسية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه، وبعد:
فبناء على ما رأى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من إدراج موضوع ما يسمى بالأسورة المغناطيسية لعلاج الروماتزم ضمن جدول هيئة كبار العلماء في الدورة الثالثة عشرة وإعداد بحث في ذلك أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الموضوع يشتمل على ما يلي:
1) ذكر قاعدة سد الذرائع.
2) ذكر الأسباب المادية والأسباب الروحية.
3) ذكر نصوص وآثار جزئية ونقول عن العلماء في ذلك.
وبالله التوفيق.
وفيما يلي ذكر ذلك.(15/16)
1 - قاعدة سد الذرائع:
الأصل الكلي في تحريم لبس الحلقة وتعليق التمائم والودع والخرز وربط الخيط، وما في معنى ذلك من الحروز التي يستشفي بها الجهلة والمبتدعة سد الذرائع، وقاعدة سد الذرائع كلية يقينية ثبتت باستقراء أدلة الكتاب والسنة في جميع أبواب الشريعة عقائد وعبادات ومعاملات وغير ذلك، وقد أطال ابن تيمية الكلام على الاستدلال عليها بأدلة من جميع أبواب الشريعة، فاستدل عليها بقوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (1) وينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، وبالنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وعن الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله، وبالنهي عن الجمع بين المرأة وعمتها، وبالنهي عن بيع وسلف وعن اشتراء الإنسان السلعة ممن باعه إياها لأجل بأقل من ثمنها، وكفه عن قتل المنافقين خشية أن يقال إن محمدا يقتل أصحابه، وبتحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية والسفر بها ولو في مصلحة دينية، وبتحريم خطبة المعتدة أو العقد عليها في العدة، وبحرمان القاتل من ميراث قتيله، كقتل الجماعة بالواحد، وتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون صوما قد اعتاده فليصمه، وبإقامة الحدود والتعزيرات سدا للتذرع إلى المعاصي. . . إلى غير ذلك من الأدلة المتنوعة. يتبين ذلك من كلمته وكلمة تلميذه ابن القيم فيما يلي مع زيادة تفصيل في أنواع الذرائع: قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله (2) :
(الوجه الرابع والعشرون) : إن الله سبحانه ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها.
والذريعة ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء، لكن صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم، ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة. ولهذا قيل: الذريعة الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل
__________
(1) سورة الأنعام الآية 108
(2) الفتاوى الكبرى ج3 ص 256 وما بعدها.(15/17)
المحرم. أما إذا أفضت إلى فساد ليس هو فعلا كإفضاء شرب الخمر إلى السكر وإفضاء الزنا إلى اختلاط المياه، أو كان الشيء نفسه فسادا كالقتل والظلم فهذا ليس من هذا الباب؛ فإنا نعلم أنما حرمت الأشياء لكونها في نفسها فسادا بحيث تكون ضررا لا منفعة فيه، أو لكونها مفضية إلى فساد بحيث تكون هي في نفسها فيها منفعة وهي مفضية إلى ضرر أكثر منه فتحرم، فإن كان ذلك الفساد فعلا محظورا سميت ذريعة. وإلا سببا ومقتضيا ونحو ذلك من الأسماء المشهورة، ثم هذه الذرائع إذا كانت تفضي إلى المحرم غالبا فإنه يحرمها مطلقا وكذلك إن كانت قد تفضي وقد لا تفضي لكن الطبع متقاض لإقضائها. وأما إن كانت إنما تفضي أحيانا فإن لم يكن فيها مصلحة راجحة على هذا الإفضاء القليل، وإلا حرمها أيضا.
ثم هذه الذرائع منها ما يفضي إلى المكروه بدون قصد فاعلها، ومنها ما تكون إباحتها مفضية للتوسل بها إلى المحارم، فهذا القسم الثاني يجامع الحيل بحيث قد يقترن به الاحتيال تارة وقد لا يقترن، كما أن الحيل قد تكون بالذرائع، وقد تكون بأسباب مباحة في الأصل ليست ذرائع فصارت الأقسام (ثلاثة) :
(الأول) : ما هو ذريعة وهو مما يحتال به كالجمع بين البيع والسلف وكاشتراء البائع السلعة من مشتريها بأقل من الثمن تارة وبأكثر أخرى. وكالاعتياض عن ثمن الربوي بربوي لا يباع بالأول نسأ وكقرض بني آدم.
(الثاني) : ما هو ذريعة لا يحتال بها كسب الأوثان فإنه ذريعة إلى سب الله تعالى، وكذلك سب الرجل والد غيره فإنه ذريعة إلى أن يسب والده وإن كان هذان لا يقصدهما مؤمن.
(الثالث) : ما يحتال به من المباحات في الأصل كبيع النصاب في أثناء الحول؛ فرارا من الزكاة وكإغلاء الثمن لإسقاط الشفعة.
والغرض من هذا أن الذرائع حرمها الشارع، وإن لم يقصد بها المحرم خشية إفضائها إلى المحرم، فإذا قصد بالشيء نفس المحرم كان أولى بالتحريم من الذرائع.(15/18)
وبهذا التحرير يظهر علة التحريم في مسائل العينة وأمثالها وإن لم يقصد البائع الربا؛ لأن هذه المعاملة يغلب فيها قصد الربا، فيصير ذريعة فيسد هذا الباب؛ لئلا يتخذه الناس ذريعة إلى الربا، ويقول القائل: لم أقصد به ذلك. ولئلا يدعو الإنسان فعله مرة إلى أن يقصد مرة أخرى، ولئلا يعتقد أن جنس هذه المعاملة حلال ولا يميز بين القصد وعدمه، ولئلا يفعلها الإنسان مع قصد خفي يخفى من نفسه على نفسه.
وللشريعة أسرار في سد الفساد وحسم مادة الشر؛ لعلم الشارع بما جبلت عليه النفوس، وبما يخفى على الناس من خفي هداها الذي لا يزال يسري فيها حتى يقودها إلى الهلكة، فمن تحذلق على الشارع واعتقد في بعض المحرمات أنه إنما حرم لعلة كذا، وتلك العلة مقصودة فيه فاستباحه بهذا التأويل فهو ظلوم لنفسه جهول بأمر ربه، وهو إن نجا من الكفر لم ينج غالبا من بدعة أو فسق أو قلة فقه في الدين وعدم بصيرة.(15/19)
أما شواهد هذه القاعدة فأكثر من أن تحصر فنذكر منها ما حضر
(فالأول قوله) سبحانه وتعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (1) حرم سب الآلهة مع أنه عبادة لكونه ذريعة إلى سبهم لله سبحانه وتعالى؛ لأن مصلحة تركهم سب الله سبحانه راجحة على مصلحة سبنا لآلهتهم.
(الثاني) : ما روى حميد بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: «من الكبائر شتم الرجل والديه. قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه (2) » . متفق عليه. ولفظ البخاري: «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه. قالوا: يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه (3) » . فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الرجل سابا لاعنا لأبويه إذا سب سبا يجزيه الناس عليه بالسب لهما، وإن لم يقصده وبين هذا والذي قبله فرق؛ لأن سب آباء
__________
(1) سورة الأنعام الآية 108
(2) صحيح البخاري الأدب (5973) ، صحيح مسلم الإيمان (90) ، سنن الترمذي البر والصلة (1902) ، سنن أبو داود الأدب (5141) ، مسند أحمد بن حنبل (2/216) .
(3) صحيح البخاري الأدب (5973) ، صحيح مسلم الإيمان (90) ، سنن الترمذي البر والصلة (1902) ، سنن أبو داود الأدب (5141) ، مسند أحمد بن حنبل (2/216) .(15/19)
الناس هنا حرام، لكن قد جعله النبي -صلى الله عليه وسلم- من أكبر الكبائر؛ لكونه شتما لوالديه؛ لما فيه من العقوق، وإن كان فيه إثم من جهة إيذاء غيره.
(الثالث) : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة؛ لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس: إن محمدا -صلى الله عليه وسلم- يقتل أصحابه؛ لأن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه وممن لم يدخل فيه، وهذا النفور حرام.
(الرابع) : أن الله سبحانه حرم الخمر؛ لما فيه من الفساد المترتب على زوال العقل هذا في الأصل ليس من هذا الباب. ثم إنه حرم قليل الخمر وحرم اقتناءها للتخليل، وجعلها نجسة؛ لئلا تقضي إباحته مقاربتها بوجه من الوجوه لا لإتلافها على شاربها، ثم إنه قد نهى عن الخليطين، وعن شرب العصير والنبيذ بعد ثلاث، وعن الانتباذ في الأوعية التي لا نعلم بتخمير النبيذ فيها حسما لمادة ذلك. وإن كان في بقاء بعض هذه الأحكام خلاف. وبين صلى الله عليه وسلم أنه إنما نهى عن بعض ذلك؛ لئلا يتخذ ذريعة، فقال: «لو رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه (1) » . يعني صلى الله عليه وسلم أن النفوس لا تقف عند الحد المباح في مثل هذا.
(الخامس) : أنه حرم الخلوة بالمرأة الأجنبية والسفر بها ولو في مصلحة دينية؛ حسما لمادة ما يحاذر من تغير الطباع وشبه الغير.
(السادس) : أنه نهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن من فعل ذلك ونهى عن تكبير القبور وتشريفها وأمر بتسويتها، ونهى عن الصلاة إليها وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا. وحرم ذلك على من قصد هذا ومن لم يقصده بل قصد خلافه سدا للذريعة.
(السابع) : أنه نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها وكان من حكمة ذلك أنهما وقت سجود الكفار للشمس، ففي ذلك تشبيه بهم، ومشابهة الشيء لغيره ذريعة إلى أن يعطى بعض أحكامه، فقد يفضي ذلك إلى السجود للشمس أو أخذ بعض أحوال عابديها.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/207) .(15/20)
(الثامن) : أنه نهى -صلى الله عليه وسلم- عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة مثل قوله: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم (1) » «إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم (2) » . وقوله صلى الله عليه وسلم في عاشوراء: «لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع (3) » . وقال في موضع: «لا تشبهوا بالأعاجم» . وقال فيما رواه الترمذي: «ليس منا من تشبه بغيرنا (4) » . حتى قال حذيفة بن اليمان: من تشبه بقوم فهو منهم. وما ذلك إلا لأن المشابهة في بعض الهدي الظاهر يوجب المقاربة ونوعا من المناسبة يفضي إلى المشاركة في خصائصهما التي انفردوا بها عن المسلمين والعرب، وذلك يجر إلى فساد عريض.
(التاسع) : أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها وقال: «إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» . حتى لو رضيت المرأة أن تنكح عليها أختها، كما رضيت بذلك أم حبيبة «لما طلبت من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتزوج أختها درة، لم يجز ذلك (5) » ، وإنما زعمتا أنهما لا تتباغضان بذلك؛ لأن الطباع تتغير، فيكون ذريعة إلى فعل المحرم من القطيعة، وكذلك حرم نكاح أكثر من أربع؛ لأن الزيادة على ذلك ذريعة إلى الجور بينهن في القسم، وإن زعم أن العلة إفضاء ذلك إلى كثرة المؤونة المفضية إلى أكل الحرام من مال اليتامى وغيرهن، وقد بين العلة الأولى بقوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (6) . وهذا نص في اعتبار الذريعة.
(العاشر) : أن الله سبحانه حرم خطبة المعتدة صريحا حتى حرم ذلك في عدة الوفاة، وإن كان المرجع في انقضائها ليس هو إلى المرأة؛ فإن إباحته الخطبة قد يجر إلى ما هو أكبر من ذلك.
(الحادي عشر) : إن الله سبحانه حرم عقد النكاح في حال العدة وفي حال الإحرام؛ حسما لمادة دواعي النكاح في هاتين الحالتين، ولهذا حرم التطيب في هاتين الحالتين.
(الثاني عشر) : إن الله سبحانه اشترط للنكاح شروطا زائدة على حقيقة
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3462) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2103) ، سنن النسائي الزينة (5071) ، سنن أبو داود الترجل (4203) ، سنن ابن ماجه اللباس (3621) ، مسند أحمد بن حنبل (2/309) .
(2) سنن أبو داود الصلاة (652) .
(3) صحيح مسلم الصيام (1134) ، سنن أبو داود الصوم (2445) ، مسند أحمد بن حنبل (1/236) .
(4) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695) .
(5) صحيح البخاري النكاح (5107) ، صحيح مسلم الرضاع (1449) ، سنن النسائي النكاح (3285) ، سنن أبو داود النكاح (2056) ، سنن ابن ماجه النكاح (1939) ، مسند أحمد بن حنبل (6/428) .
(6) سورة النساء الآية 3(15/21)
العقد تقطع عنه شبهة بعض أنواع السفاح به، مثل اشتراط إعلانه إما بالشهادة أو ترك الكتمان أو بهما، ومثل اشتراط الولي فيه، ومنع المرأة أن تليه، وندب إلى إظهاره حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة، وكان أصل ذلك في قوله تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} (1) و {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} (2) ، وإنما ذلك لأن في الإخلال بذلك ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة النكاح وزوال بعض مقاصد النكاح من حجر الفراش. ثم إنه وكد ذلك بأن جعل للنكاح حريما من العدة يزيد على مقدار الاستبراء، وأثبت له أحكاما من المصاهرة وحرمتها ومن الموارثة زائدة على مجرد مقصود الاستمتاع، فعلم أن الشارع جعله سببا وصلة بين الناس بمنزلة الربح كما جعل بينهما في قوله تعالى: {نَسَبًا وَصِهْرًا} (3) وهذه المقاصد تمنع اشتباهه بالسفاح، وتبين أن نكاح المحلل بالسفاح أشبه منه بالنكاح، حيث كانت هذه الخصائص غير متيقنة فيه.
(الثالث عشر) «إن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يجمع الرجل بين سلف وبيع (4) » وهو حديث صحيح، ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر صح. وإنما ذاك لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفا ويبيعه ثمانمائة بألف أخرى، فيكون قد أعطاه ألفا وسلعة بثمانمائة؛ ليأخذ منه ألفين، وهذا هو معنى الربا.
ومن العجب أن بعض من أراد أن يحتج للبطلان في مسألة مد عجوة قال: إن من جوزها يجوز أن يبيع الرجل ألف دينار ومنديلا بألف وخمسمائة دينار تبر. يقصد بذلك أن هذا ذريعة إلى الربا، وهذه علة صحيحة في مسألة مد عجوة لكن المحتج بها ممن يجوز أن يقرضه ألفا ويبيعه المنديل بخمسمائة، وهي بعينها الصورة التي نهى عنها رسول صلى الله عليه وسلم. والعلة المتقدمة بعينها موجودة فيها، فكيف ينكر على غيره ما هو مرتكب له؟
(الرابع عشر) : إن الآثار المتقدمة في العينة فيها ما يدل على المنع من
__________
(1) سورة النساء الآية 24
(2) سورة النساء الآية 25
(3) سورة الفرقان الآية 54
(4) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، مسند أحمد بن حنبل (2/205) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .(15/22)
عودة السلعة إلى البائع وإن لم يتواطأ على الربا، وما ذاك إلا سدا للذريعة.
(الخامس عشر) : أنه تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منع المقرض قبول هدية المقترض، إلا أن يحسبها له أو يكون قد جرى ذلك بينهما قبل القرض. وما ذاك إلا لئلا تتخذ ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية فيكون ربا إذا استعاد ماله بعد أن أخذ فضلا. وكذلك ما ذكر من منع الوالي والقاضي قبول الهدية ومنع الشافع قبول الهدية؛ فإن فتح هذا الباب ذريعة إلى فساد عريض في الولاية الشرعية.
(السادس عشر) إن السنة مضت بأنه ليس لقاتل من الميراث شيء، إما القاتل عمدا كما قال مالك، والقاتل مباشرة كما قاله أبو حنيفة على تفصيل لهما. أو القاتل قتلا مضمونا بقود أو دية أو كفارة. أو القاتل بغير حق، أو القاتل مطلقا في هذه الأقوال في مذهب الشافعي وأحمد، وسواء قصد القاتل أن يتعجل الميراث أو لم يقصده؛ فإن رعاية هذا القصد غير معتبرة في المنع وفاقا، وما ذاك إلا لأن توريث القاتل ذريعة إلى وقوع هذا الفعل، فسدت الذريعة بالمنع بالكلية مع ما فيه من علل أخر.
(السابع عشر) : إن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ورثوا المطلقة المبتوتة في مرض الموت، حيث يتهم بقصد حرمانها الميراث بلا تردد، وإن لم يقصد الحرمان؛ لأن الطلاق ذريعة، وأما حيث لا يتهم ففيه خلاف معروف، مأخذ الشارع في ذلك أن المورث أوجب تعلق حقها بماله، فلا يمكن من قطعه أو سد الباب بالكلية، وإن كان في أصل المسألة خلاف متأخر عن إجماع السابقين.
(الثامن عشر) : إن الصحابة وعامة الفقهاء اتفقوا على قتل الجمع بالواحد، وإن كان قياس القصاص يمنع ذلك؛ لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء.
(التاسع عشر) : «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن إقامة الحدود بدار الحروب؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اللحاق بالكفار» .(15/23)
(العشرون) : «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون صوما كان يصومه أحدكم فليصمه (1) » ، «ونهى عن صوم يوم الشك (2) » إما مع كون طلوع الهلال مرجوحا وهو حال الصحو، وإما سواء كان راجحا أو مرجوحا أو مساويا على ما فيه من الخلاف المشهور، وما ذاك إلا لئلا يتخذ ذريعة إلى أن يلحق بالفرض ما ليس منه، وكذلك حرم صوم اليوم الذي يلي آخر الصوم وهو يوم العيد وعلل بأنه «يوم فطركم من صومكم (3) » تمييزا لوقت العبادة من غيره؛ لئلا يفضي الصوم المتواصل إلى التساوي، وراعى هذا المقصود في استحباب تعجيل الفطور وتأخير السحور، واستحباب الأكل يوم الفطر قبل الصلاة، وكذلك ندب إلى تمييز فرض الصلاة عن نفلها وعن غيرها، فكره للإمام أن يتطوع في مكانه وأن يستديم استقبال القبلة، وندب المأموم إلى هذا التمييز، ومن جملة فوائد ذلك سد الباب الذي قد يفضي إلى الزيادة في الفرائض.
(الحادي والعشرون) : أنه صلى الله عليه وسلم كره الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله سبحانه وأحب لمن صلى إلى عمود أو عود ونحوه أن يجعله على أحد حاجبيه ولا يصمد إليه صمدا؛ قطعا لذريعة التشبيه بالسجود لغير الله سبحانه.
(الثاني والعشرون) : أنه سبحانه منع المسلمين من أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (راعنا) مع قصدهم الصالح؛ لئلا تتخذه اليهود ذريعة إلى سبه صلى الله عليه وسلم، ولئلا يتشبه بهم، ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسدا.
(الثالث والعشرون) : أنه أوجب الشفعة لما فيه من رفع الشركة، وما ذاك إلا لما يفضي إليه من المعاصي المعلقة بالشركة والقسمة؛ سدا لهذه المفسدة بحسب الإمكان.
(الرابع والعشرون) : أن الله سبحانه أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بالظاهر مع إمكان أن يوحي إليه بالباطن، وأمره أن يسوي الدعاوى بين العدل والفاسق وألا يقبل شهادة ظنين في قرابة وإن وثق بتقواه، حتى لم يجز للحاكم أن يحكم بعلمه عند أكثر الفقهاء؛ لينضبط طريق الحكم؛ فإن التمييز بين الخصوم والشهود يدخل فيه من الجهل والظلم ما لا يزول إلا بحسم هذه المادة، وإن أفضت في آحاد الصور إلى الحكم بغير الحق؛ فإن فساد ذلك قليل إذا لم يتعمد في جنب
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1914) ، صحيح مسلم الصيام (1082) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2173) ، سنن أبو داود الصوم (2335) ، سنن ابن ماجه الصيام (1650) ، مسند أحمد بن حنبل (2/281) ، سنن الدارمي الصوم (1689) .
(2) صحيح البخاري الصوم (1994) ، صحيح مسلم الصيام (1139) ، مسند أحمد بن حنبل (2/139) .
(3) صحيح البخاري الصوم (1990) ، صحيح مسلم الصيام (1137) ، سنن الترمذي الصوم (771) ، سنن أبو داود الصوم (2416) ، سنن ابن ماجه الصيام (1722) ، مسند أحمد بن حنبل (1/34) ، موطأ مالك النداء للصلاة (431) .(15/24)
فساد الحكم بغير طريق مضبوط من قرائن أو فراسة أو صلاح خصم أو غير ذلك، وإن كان قد يقع بهذا صلاح قليل مغمور بفساد كثير.
(الخامس والعشرون) : أن الله سبحانه منع رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان بمكة من الجهر بالقرآن، حيث كان المشركون يسمعون فيسبون القرآن ومن أنزله ومن جاء به.
(السادس والعشرون) : أن الله سبحانه أوجب إقامة الحدود سدا للتذرع إلى المعاصي، إذا لم يكن عليها زاجر، وإن كانت العقوبات من جنس الشر، ولهذا لم تشرع الحدود إلا في معصية تتقاضاها الطباع كالزنا والشرب والسرقة والقذف، دون أكل الميتة والرمي بالكفر ونحو ذلك فإنه اكتفى فيه بالتعزير، ثم إنه أوجب على السلطان إقامة الحدود إذا رفعت إليه الجريمة، وإن تاب العاصي عند ذلك، وإن غلب على ظنه أنه لا يعود إليها؛ لئلا يفضي ترك الحد بهذا السبب إلى تعطيل الحدود مع العلم بأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
(السابع والعشرون) : أنه صلى الله عليه وسلم سن الاجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى وفي الجمعة والعيدين والاستسقاء وفي صلاة الخوف وغير ذلك مع كون إمامين في صلاة الخوف أقرب إلى حصول الصلاة الأصلية؛ لما في التفريق من خوف تفريق القلوب، وتشتت الهمم، ثم إن محافظة الشارع على قاعدة الاعتصام بالجماعة وصلاح ذات البين، وزجره عما قد يفضي إلى ضد ذلك في جميع التصرفات لا يكاد ينضبط، كل ذلك يشرع لوسائل الألفة، وهي من الأفعال، وزجر عن ذرائع الفرقة، وهي من الأفعال أيضا.
(الثامن والعشرون) : أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم وكراهة إفراد يوم الجمعة، وجاء عن السلف ما يدل على كراهة صوم أيام أعياد الكفار، وإن كان الصوم نفسه عملا صالحا؛ لئلا يكون ذريعة إلى مشابهة الكفار، وتعظيم الشيء تعظيما غير مشروع.
(التاسع والعشرون) : أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب وغيرها لئلا تفضي(15/25)
مشابهتهم إلى أن يعامل الكافر معاملة المسلم.
(الثلاثون) : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي أرسل معه بهديه إذا عطب شيء منه دون المحل أن ينحره، ويصبغ نعله الذي قلده بدمه، ويخلي بينه وبين الناس، ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد من أهل رفقته. قالوا: وسبب ذلك أنه إذا جاز له أن يأكل أو يطعم أهل رفقته قبل بلوغ المحل، فربما دعته نفسه إلى أن يقصر في علفها وحفظها مما يؤذيها؛ لحصول غرضه بعطبها دون المحل، كحصوله ببلوغها المحل من الأكل والإهداء، فإذا أيس من حصول غرضه في عطبها كان ذلك أدعى إلى إبلاغها المحل، وأحسم لمادة هذا الفساد، وهذا من ألطف سد الذرائع.
والكلام في سد الذرائع واسع لا يكاد ينضبط ولم نذكر من شواهد هذا الأصل إلا ما هو متفق عليه أو منصوص عليه، أو مأثور عن الصدر الأول شائع عنهم، إذ الفروع المختلف فيها يحتج لها بهذه الأصول لا يحتج بها، ولم يذكر الحيل التي يقصد بها الحرام كاحتيال اليهود، ولا ما كان وسيلة إلى مفسدة ليست هي فعلا محرما، وإن أفضت إليه كما فعل من استشهد للذرائع؛ فإن هذا يوجب أن يدخل عامة المحرمات في الذرائع، وهذا وإن كان صحيحا من وجه فليس هو المقصود هنا.
ثم هذه الأحكام في بعضها حكم آخر غير ما ذكرناه من الذرائع، وإنما قصدنا أن الذرائع مما اعتبرها الشارع إما مفردة أو مع غيرها، فإذا كان الشيء الذي قد يكون ذريعة إلى الفعل المحرم إما بأن يقصد به المحرم أو بأن لا يقصد به، يحرمه الشارع بسب الإمكان ما لم يعارض ذلك مصلحة توجب حده أو وجوبه، فنفس التذرع إلى المحرمات بالاحتيال أولى أن يكون حراما، وأولى بإبطال ما يمكن إبطاله منه إذا عرف قصد فاعله، وأولى بأن لا يعان صاحبه عليه، وهذا بين لمن تأمله، والله الهادي إلى سواء الصراط.(15/26)
وقد اتبع ابن القيم شيخه ابن تيمية - رحمهما لله - في إثبات قاعدة سد الذرائع بأدلة الاستقراء من الكتاب والسنة فقال رحمه الله:(15/26)
فصل (1)
في سد الذرائع
لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها، ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل، فإذا حرم الرب تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقا لتحريمه وتثبيتا له، ومنعا أن يقرب حماه. ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه كان ذلك نقضا للتحريم وإغراء للنفوس به.
وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك؛ فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء، ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه لعد متناقضا ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده، وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه. وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه. فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟ ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها، والذريعة: ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء.
ولا بد من تحرير هذا الموضع قبل تقريره؛ ليزول الالتباس فيه فنقول:
الفعل أو القول المفضي إلى المفسدة قسمان:
أحدهما: أن يكون وضعه للإفضاء إليها كشرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر، وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفرية. والزنا المفضي إلى اختلاط المياه وفساد الفراش ونحو ذلك، فهذه أفعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد وليس لها ظاهر غيرها.
والثاني: أن تكون موضوعة للإفضاء إلى
__________
(1) إعلام الموقعين ج 3 ص 175 - 183.(15/27)
أمر جائز أو مستحب فيتخذ وسيلة إلى المحرم إما بقصده أو بغير قصد منه، فالأول: كمن يعقد النكاح قاصدا به الربا، أو يعقد البيع قاصدا به الربا، أو يخالع قاصدا به الحنث ونحو ذلك.
والثاني: كمن يصلي تطوعا بغير سبب في أوقات النهي، أو يسب أرباب المشركين بين أظهرهم، أو يصلي بين يدي القبر لله. ونحو ذلك، ثم هذا القسم من الذرائع نوعان: أحدهما: أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته. والثاني: أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته.
فهاهنا أربعة أقسام: الأول: وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة. الثاني: وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة. الثالث: وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالبا، ومفسدتها أرجح من مصلحتها. الرابع: وسيلة موضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها.
فمثال القسم الأول والثاني قد تقدم، ومثال الثالث: الصلاة في أوقات النهي ومسبة آلهة المشركين بين ظهرانيهم. وتزين المتوفى عنها في زمن عدتها. وأمثال ذلك، ومثال الرابع النظر إلى المخطوبة والمستامة والمشهود عليها ومن يطؤها (1) ويعاملها. وفعل ذوات الأسباب في أوقات النهي، وكلمة الحق عند ذي سلطان جائر ونحو ذلك. فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة. وجاء بالمنع من القسم الأول كراهة أو تحريما بحسب درجاته في المفسدة. بقي النظر إلى القسمين الوسط: هل هما مما جاءت الشريعة بإباحتهما أو المنع منهما فنقول:
الدلالة على المنع من وجوه:
الوجه الأول: قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (2) فحرم الله تعالى سب آلهة المشركين - مع كون السب غيظا وحمية لله وإهانة لآلهتهم- لكونه ذريعة إلى سبهم الله تعالى. وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم وهذا كالتنبيه
__________
(1) قوله: يطؤها. كذا في الأصل، والصواب: يطبها.
(2) سورة الأنعام الآية 108(15/28)
بل كالتصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سببا في فعل ما لا يجوز.
الوجه الثاني: قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} (1) فمنعهن من الضرب بالأرجل، وإن كان جائزا في نفسه؛ لئلا يكون سببا إلى سمع الرجال صوت الخلخال، فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن.
الوجه الثالث: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} (2) الآية. أمر تعالى مماليك المؤمنين ومن لم يبلغ منهم الحلم أن يستأذنوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة؛ لئلا يكون دخولهم هجما بغير استئذان فيها ذريعة إلى اطلاعهم على عوراتهم وقت إلقاء ثيابهم عند القائلة والنوم واليقظة. ولم يأمرهم بالاستئذان في غيرها، وإن أمكن في تركه هذه المفسدات؛ لندورها وقلة الإفضاء إليها فجعلت كالمقدمة (3) .
الوجه الرابع: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} (4) نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة - مع قصدهم بها الخير - لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم؛ فإنهم كانوا يخاطبون بها النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقصدون بها السب، يقصدون فاعلا من الرعونة فنهي المسلمون عن قولها سدا لذريعة المشابهة، ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم تشبها بالمسلمين، يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون.
الوجه الخامس: قوله تعالى لكليمه موسى وأخيه هارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} (5) {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (6)
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة النور الآية 58
(3) كذا بالأصل وصوابه كالمعدوم.
(4) سورة البقرة الآية 104
(5) سورة طه الآية 43
(6) سورة طه الآية 44(15/29)
فأمر تعالى أن يلينا القول لأعظم أعدائه وأشدهم كفرا وأعتاهم عليه؛ لئلا يكون إغلاظ القول له - مع أنه حقيق به - ذريعة إلى تنفيره وعدم صبره لقيام الحجة فنهاهما عن الجائز لئلا يترتب عليه ما هو أكره إليه تعالى.
الوجه السادس: أنه تعالى نهى المؤمنين في مكة عن الانتصار باليد، وأمرهم بالعفو والصفح؛ لئلا يكون انتصارهم ذريعة إلى وقوع ما هو أعظم مفسدة من مفسدة الإغضاء واحتمال الضيم ومصلحة حفظ نفوسهم ودينهم وذريتهم راجحة على مصلحة الانتصار والمقابلة.
الوجه السابع: أنه تعالى نهى عن البيع وقت نداء الجمعة؛ لئلا يتخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها.
الوجه الثامن: ما رواه حميد بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: «من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه (1) » متفق عليه. ولفظ البخاري: «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه (2) » فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل سابا لاعنا لأبويه بتسببه إلى ذلك وتوسله إليه وإن لم يقصده.
الوجه التاسع: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين - مع كونه مصلحة - لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس عنه وقولهم: إن محمدا يقتل أصحابه؛ فإن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه ومن لم يدخل فيه، ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم، ومصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل.
الوجه العاشر: أن الله تعالى حرم الخمر؛ لما فيها من المفاسد الكثيرة المترتبة على زوال العقل، وهذا ليس مما نحن فيه. لكن حرم القطرة الواحدة منها. وحرم إمساكها للتخليل، ونجسها؛ لئلا تتخذ القطرة ذريعة إلى الحسوة، ويتخذ إمساكها للتخليل ذريعة إلى إمساكها للشرب. ثم بالغ في سد الذريعة
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (5973) ، صحيح مسلم الإيمان (90) ، سنن الترمذي البر والصلة (1902) ، سنن أبو داود الأدب (5141) ، مسند أحمد بن حنبل (2/216) .
(2) صحيح البخاري الأدب (5973) ، صحيح مسلم الإيمان (90) ، سنن الترمذي البر والصلة (1902) ، سنن أبو داود الأدب (5141) ، مسند أحمد بن حنبل (2/216) .(15/30)
فنهى عن الخليطين وعن شرب العصير بعد ثلاث. وعن الانتباذ في الأوعية التي قد يتخمر النبيذ فيها ولا يعلم به؛ حسما لمادة قربان المسكر وقد صرح صلى الله عليه وسلم بالعلة في تحريم القليل فقال: «لو رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه (1) » .
الوجه الحادي عشر: أنه صلى الله عليه وسلم حرم الخلوة بالأجنبية ولو في إقراء القرآن، والسفر بها ولو في الحج وزيارة الوالدين؛ سدا لذريعة ما يحاذر من الفتنة وغلبات الطباع.
الوجه الثاني عشر: أن الله تعالى أمر بغض البصر - وإن كان إنما يقع على محاسن الخلقة والتفكر في صنع الله - سدا لذريعة الإرادة والشهوة المفضية إلى المحظور.
الوجه الثالث عشر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بناء المساجد على القبور ولعن من فعل ذلك، ونهى عن تجصيص القبور وتشريفها واتخاذها مساجد، وعن الصلاة إليها وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها، وأمر بتسويتها، ونهى عن اتخاذها عيدا، وعن شد الرحال إليها؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا والإشراك بها. وحرم ذلك على من قصده ومن لم يقصده بل قصد خلافه؛ سدا للذريعة.
الوجه الرابع عشر: «أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها (2) » ، وكان من حكمة ذلك أنهما وقت سجود المشركين للشمس، وكان النهي عن الصلاة لله في ذلك الوقت؛ سدا لذريعة المشابهة الظاهرة التي هي ذريعة إلى المشابهة في القصد مع بعد هذه الذريعة فكيف بالذرائع القريبة.
الوجه الخامس عشر: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة كقوله: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم (3) » وقوله: «إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم (4) » ، وقوله في عاشوراء: «خالفوا اليهود، صوموا يوما قبله ويوما بعده (5) » ، وقوله: «لا تشبهوا بالأعاجم» وروى الترمذي عنه: «ليس منا من تشبه بغيرنا (6) » وروى الإمام أحمد عنه «من تشبه بقوم فهو منهم (7) » وسر
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/207) .
(2) صحيح البخاري الحج (1629) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (829) ، سنن النسائي المواقيت (563) ، مسند أحمد بن حنبل (2/13) ، موطأ مالك النداء للصلاة (513) .
(3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3462) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2103) ، سنن النسائي الزينة (5071) ، سنن أبو داود الترجل (4203) ، سنن ابن ماجه اللباس (3621) ، مسند أحمد بن حنبل (2/309) .
(4) سنن أبو داود الصلاة (652) .
(5) مسند أحمد بن حنبل (1/241) .
(6) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695) .
(7) سنن أبو داود اللباس (4031) .(15/31)
ذلك أن المشابهة في الهدي الظاهر ذريعة إلى الموافقة في القصد والعمل.
الوجه السادس عشر: أنه صلى الله عليه وسلم «حرم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها وقال: إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم (1) » . حتى لو رضيت المرأة بذلك لم يجز؛ لأن ذلك ذريعة إلى القطيعة المحرمة كما علل به النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه السابع عشر: أنه حرم نكاح أكثر من أربع؛ لأن ذلك ذريعة إلى الجور. وقيل: العلة فيه أنه ذريعة إلى كثرة المؤنة المفضية إلى أكل الحرام. وعلى التقديرين فهو من باب سد الذرائع. وأباح الأربع - وإن كان لا يؤمن الجور في اجتماعهن - لأن حاجته قد لا تندفع بما دونهن، فكانت مصلحة الإباحة أرجح من مفسدة الجور المتوقعة.
الوجه الثامن عشر: أن الله تعالى حرم خطبة المعتدة صريحا، حتى حرم ذلك في عدة الوفاة، وإن كان المرجع في انقضائها ليس إلى المرأة؛ فإن إباحة الخطبة قد تكون ذريعة إلى استعجال المرأة بالإجابة والكذب في انقضاء عدتها.
الوجه التاسع عشر: أن الله تعالى حرم عقد النكاح في حال العدة وفي الإحرام، وإن تأخر الوطء إلى وقت الحل؛ لئلا يتخذ العقد ذريعة إلى الوطء، ولا ينتقض هذا بالصيام؛ فإن زمنه قريب جدا، فليس عليه كلفة في صبره بعض يوم إلى الليل.
الوجه العشرون: أن الشارع حرم الطيب على المحرم؛ لكونه من أسباب دواعي الوطء فتحريمه من باب سد الذريعة.
وهكذا فقد استمر رحمه الله في ذكر أدلة المنع حتى أوصلها تسعة وتسعين دليلا. . .) ، ثم قال: وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان: أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني: وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان: أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين. اهـ
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5109) ، صحيح مسلم النكاح (1408) ، سنن الترمذي النكاح (1126) ، سنن أبو داود النكاح (2066) ، سنن ابن ماجه النكاح (1929) ، مسند أحمد بن حنبل (2/452) ، سنن الدارمي النكاح (2178) .(15/32)
2 - الأسباب المادية والأسباب الروحية:
الأسباب نوعان مادية عادية وروحية. فالمادية العادية هي التي عرف كونها سبب باب التجارب وتكرار نشوء أشياء عن أخرى، فحكم بأنها مسببة عنها عادة بتقدير الله لا بنفسها استقلالا. مثل حرث الأرض وسقيها وزرعها وغرسها طلبا للحبوب والثمار، وكالأدوية من حبوب وشراب ونحوهما لعلاج الأمراض، وليس منها الحلقة المسئول عنها فإنها ليست سببا عاديا، لعدم ثبوت ما يدعى أن بها مادة تصلح لعلاج الروماتزم، والناس في هذه الأسباب ثلاث طوائف، فمنهم من غلا في إثباتها وتأثيرها، فزعم أنها يترتب عليها مسبباتها بطبيعتها استقلالا، وهذا شرك في الربوبية، ومنهم من ألغاها ولم يعتبر لها شأنا في ترتيب مسبباتها عليها أصلا، وهذا مخالف لمقتضى العقل ولأدلة الشرع، ومنهم من اعتبرها أسبابا عادية ينشأ عنها مسبباتها بتقدير من الله، فإذا وجد السبب التام وانتفت الموانع ترتب عليه مسببه بإذن الله وتقديره لا استقلالا، وهذا هو الحق الذي شهدت له الأدلة وعليه أهل السنة والجماعة.
أما الأسباب الروحية فمصدر معرفتها الشرع كالرقى والأذكار الشرعية، واللجوء إلى الله وصدق التوكل عليه، والدعاء لتفريج كربة وشفاء مرض، وغير ذلك من الشدائد. فهذه قد وردت الأدلة باعتبارها أسبابا لجلب نفع ودفع ضر، وليس منها الحلقة المسئول عنها؛ فإنها لم يدل دليل على اعتبارها شرعا، ولا ثبت في مجاري العادات اعتبارها سببا عاديا، وعلى هذا يقال: إن لبسها رجاء الشفاء من مرض نوع من الشرك.
وفيما يلي نقول عن بعض العلماء في ذلك:
قال ابن القيم رحمه الله (1) :
ونحن نقول إن هاهنا أمرا آخر نسبة طب الأطباء إليه كنسبة طب الطرقية والعجائز إلى طبهم، وقد اعترف به حذاقهم وأئمتهم فإن ما عندهم من العلم بالطب، منهم من يقول: هو قياس، ومنهم من يقول: هو تجربة، ومنهم من يقول: هو
__________
(1) زاد المعاد جزء 3 ص139 \ 143.(15/33)
إلهامات ومنامات وحدس صائب، ومنهم من يقول أخذ كثير منه من الحيوانات البهيمية، كما نشاهد السنانير إذا أكلت ذوات السموم، تعمد إلى السراح فتلغ في الزيت تتداوى به، وكما رؤيت الحيات إذا خرجت من بطون الأرض وقد غشيت أبصارها تأتي إلى ورق الرازيانح فتمر عيونها عليها، وكما عهد من الطير الذي يحقن بماء البحر عند انحباس طبعه، وأمثال ذلك مما ذكر في مبادئ الطب، وأين يقع هذا وأمثاله من الوحي الذي يوحيه الله إلى رسوله بما ينفعه ويضره، فنسبة ما عندهم من الطب إلى هذا الوحي كنسبة ما عندهم من العلوم إلى ما جاءت به الأنبياء، بل هاهنا من الأدوية التي تشفي من الأمراض ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم من الأدوية القلبية والروحانية، وقوة القلب واعتماده على الله والتوكل عليه والالتجاء إليه، والانطراح والانكسار بين يديه والتذلل له والصدقة والدعاء والتوبة والاستغفار والإحسان إلى الخلق، وإغاثة الملهوف والتفريج عن المكروب؛ فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها، فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء ولا تجربته ولا قياسه، وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أمورا كثيرة ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية، بل تصير الأدوية الحسية عندها بمنزلة الأدوية الطرقية عند الأطباء، وهذا جار على قانون الحكمة الإلهية ليس خارجا عنها، ولكن الأسباب متنوعة؛ فإن القلب متى اتصل برب العالمين وخالق الداء والدواء ومدبر الطبيعة ومصرفها على ما يشاء كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد منه المعرض عنه.
وقد علم أن الأرواح متى قويت وقويت النفس والطبيعة تعاونا على دفع الداء وقهره، فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه وفرحت بقربها من بارئها وأنسها به وحبها له وتنعمها بذكره وانصراف قواها كلها إليه وجمعها عليه، واستعانتها به وتوكلها عليه أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية؟ وأن توجب لها هذه القوة دفع الألم بالكلية؟ ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس وأعظمهم حجابا وأكثفهم نفسا وأبعدهم عن الله وعن حقيقة الإنسانية.
وسنذكر إن شاء الله السبب الذي به أزالت قراءة الفاتحة داء اللدغة عن اللديغ الذي رقي بها فقام حتى كأن ما به قلبة، فهذان نوعان من الطب النبوي، ونحن بحول الله نتكلم عليهما بحسب الجهد والطاقة ومبلغ علومنا القاصرة ومعارفنا المتلاشية(15/34)
جدا وبضاعتنا المزجاة، ولكنا نستوهب من بيده الخير كله ونستمد من فضله؛ فإنه العزيز الوهاب.
(فصل) : روى مسلم في صحيحه من حديث أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل (1) » . وفي الصحيحين، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء (2) » . وفي مسند الإمام أحمد والسنن من حديث زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك قال: «كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ فقال: نعم يا عباد الله تداووا؛ فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء، غير داء واحد. قالوا: ما هو؟ قال: الهرم (3) » وفي لفظ: «إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله (4) » . وفي المسند من حديث ابن مسعود، يرفعه: «إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه وجهله من جهله (5) » .
وفي المسند والسنن عن أبي خزامة قال: قلت: «يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ فقال: هي من قدر الله (6) » . فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وإبطال قول من أنكرها ويجوز أن يكون قوله: «لكل داء دواء (7) » . على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة، والأدواء التي لا يمكن لطبيب أن يبرئها، ويكون الله عز وجل قد جعل لها أدوية تبرئها، ولكن طوى علمها عن البشر، ولم يجعل لهم إليه سبيلا؛ لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم الله، ولهذا علق النبي صلى الله عليه وسلم الشفاء على مصادقة الدواء للداء؛ فإنه لا شيء من المخلوقات إلا له ضد، وكل داء له ضد من الدواء به يعالج.
فعلق النبي صلى الله عليه وسلم البرء بموافقة الداء للدواء، وهذا قدر زائد على مجرد وجوده؛ فإن الدواء متى جاوز درجة الداء في الكيفية أو زاد في الكمية على ما ينبغي نقله إلى داء آخر، ومتى قصر عنها لم يف بمقاومته، وكان العلاج قاصرا، ومتى لم يقع المداوي على الدواء (8) . لم يحصل الشفاء، ومتى لم يكن الزمان صالحا لذلك الدواء لم ينفع، ومتى كان البدن غير قابل له أو القوة عاجزة عن حمله أو ثم مانع يمنع من تأثيره لم يحصل البرء؛ لعدم المصادفة، ومتى تمت
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2204) ، مسند أحمد بن حنبل (3/335) .
(2) صحيح البخاري الطب (5678) ، سنن ابن ماجه الطب (3439) .
(3) سنن الترمذي الطب (2038) ، سنن أبو داود الطب (3855) ، سنن ابن ماجه الطب (3436) .
(4) سنن ابن ماجه الطب (3438) ، مسند أحمد بن حنبل (1/443) .
(5) سنن ابن ماجه الطب (3438) ، مسند أحمد بن حنبل (1/443) .
(6) سنن الترمذي الطب (2065) ، سنن ابن ماجه الطب (3437) .
(7) صحيح مسلم السلام (2204) ، مسند أحمد بن حنبل (3/335) .
(8) أو لم يقع الدواء على الداء(15/35)
المصادفة حصل البرء بإذن الله ولا بد، وهذا أحسن المحملين في الحديث.
والثاني: أن يكون من العام المراد به الخاص لا سيما والداخل في اللفظ أضعاف أضعاف الخارج منه، وهذا يستعمل في كل لسان، ويكون المراد أن الله لم يضع داء يقبل الدواء إلا وضع له دواء، فلا يدخل في هذا الأدواء التي لا تقبل الدواء، وهذا كقوله تعالى في الريح التي سلطها على قوم عاد {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} (1) أي: كل شيء يقبل التدمير، ومن شأن الريح أن تدمره، ونظائره كثيرة، ومن تأمل خلق الأضداد في هذا العالم ومقاومة بعضها لبعض ودفع بعضها ببعض وتسليط بعضها على بعض تبين له كمال قدرة الرب تعالى وحكمته وإتقانه ما صنعه، وتفرده بالربوبية والوحدانية والقهر، وأن كل ما سواه فله ما يضاده ويمانعه، كما أنه الغني بذاته وكل ما سواه محتاج بذاته.
وفي هذه الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل؛ فإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب وإلا كان معطلا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلا، ولا توكله عجزا، وفيها رد على من أنكر التداوي، وقال: إن كان الشفاء قد قدر فالتداوي لا يفيد، وإن لم يكن قد قدر فكذلك. وأيضا فإن المرض حصل بقدر الله، وقدر الله لا يدفع ولا يرد، وهذا السؤال هو الذي أورده الأعراب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأما أفاضل الصحابة فأعلم بالله وبحكمته وصفاته من أن يوردوا مثل هذا، وقد أجابهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بما شفى وكفى فقال: هذه الأدوية والرقى والتقى هي من قدر الله، فما خرج شيء عن قدره، بل يرد قدره بقدره. وهذا الرد من قدره فلا سبيل إلى الخروج عن قدره بوجه ما، وهذا كرد قدر الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، وكرد قدر
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 25(15/36)
العدو بالجهاد، وكل من قدر الله الدافع والمدفوع، ويقال لمورد هذا السؤال: هذا يوجب عليك أن لا تباشر سببا من الأسباب التي تجلب بها منفعة أو تدفع بها مضرة؛ لأن المنفعة والمضرة إن قدرتا لم يكن بد من وقوعهما، وإن لم تقدرا لم يكن سبيل إلى وقوعهما، وفي ذلك خراب الدين والدنيا وفساد العالم، وهذا لا يقوله إلا دافع للحق معاند له، فيذكر القدر؛ ليدفع حجة المحق عليه كالمشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} (1) والذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا} (2) فهذا قالوه؛ دفعا لحجة الله عليهم بالرسل، وجواب هذا السائل أن يقال: بقي قسم ثالث لم تذكره، وهو أن الله قدر كذا وكذا بهذا السبب، فإن أتيت بالسبب حصل المسبب وإلا فلا، فإن قال: إن كان قدر لي السبب فعلته، وإن لم يقدره لي لم أتمكن من فعله. قيل له: فهل تقبل الاحتجاج من عبدك وولدك وأجيرك إذا احتج به عليك فيما أمرته به ونهيته عنه فخالفك، فإن قبلته فلا تلم من عصاك وأخذ مالك وضربك وقذف عرضك وضيق حقوقك، وإن لم تقبله فكيف يكون مقبولا منك في دفع حقوق الله عليك.
وقال أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله (3) :
ولنقدم قبل الشروع في المطلوب (مقدمة كلامية) مسلمة في هذا الموضع:
وهي أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا، وهذه دعوى لا بد من إقامة البرهان عليها صحة أو فسادا. وليس هذا موضع ذلك. وقد وقع الخلاف فيها في علم الكلام، وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معللة بعلة البتة، كما أن أفعاله كذلك، وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد، وأنه اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين. ولما اضطر في
__________
(1) سورة الأنعام الآية 148
(2) سورة النحل الآية 35
(3) ج2 ص6-7.(15/37)
علم أصول الفقه إلى إثبات العلل للأحكام الشرعية أثبت ذلك على أن العلل بمعنى العلامات المعروفة للأحكام خاصة ولا حاجة إلى تحقيق الأمر في هذه المسألة.
والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره؛ فإن الله تعالى يقول في بعثه الرسل وهو الأصل: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (1) ،: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (2) . وقال في أصل الخلقة: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (3) : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (4) ،: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (5) .
وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى، كقوله بعد آية الوضوء: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} (6) وقال في الصيام: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (7) وفي الصلاة: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (8) وقال في القبلة: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} (9) وفي الجهاد: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} (10) وفي القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} (11)
__________
(1) سورة النساء الآية 165
(2) سورة الأنبياء الآية 107
(3) سورة هود الآية 7
(4) سورة الذاريات الآية 56
(5) سورة الملك الآية 2
(6) سورة المائدة الآية 6
(7) سورة البقرة الآية 183
(8) سورة العنكبوت الآية 45
(9) سورة البقرة الآية 150
(10) سورة الحج الآية 39
(11) سورة البقرة الآية 179(15/38)
وفي التقرير على التوحيد: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (1) والمقصود التنبيه.
وإذا دل الاستقراء على هذا، وكان في مثل هذه القضية مفيدا للعلم، فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة، ومن هذه الجملة ثبت القياس والاجتهاد فلنجر على مقتضاه، ويبقى البحث في كون ذلك واجبا أو غير واجب موكولا إلى علمه.
وقال القرطبي رحمه الله (2) :
واختلف العلماء في حقيقة التوكل، فسئل عنه سهل بن عبد الله فقال: قال فرقة: الرضا بالضمان وقطع الطمع من المخلوقين. وقال قوم: التوكل ترك الأسباب والركون إلى مسبب الأسباب. فإذا شغله السبب عن المسبب زال عنه اسم التوكل. قال سهل: من قال: إن التوكل يكون بترك السبب فقد طعن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله عز وجل يقول: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} (3) فالغنيمة اكتساب، وقال تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (4) فهذا عمل. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب العبد المحترف» . وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرضون على السرية. وقال غيره: وهذا قول عامة الفقهاء، وأن التوكل على الله هو الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماض، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم في السعي فيما لا بد منه من الأسباب من مطعم ومشرب، وتحرز من عدو، وإعداد الأسلحة، واستعمال ما تقتضيه سنة الله تعالى المعتادة. وإلى هذا ذهب محققو الصوفية، لكنه لا يستحق اسم التوكل عندهم
__________
(1) سورة الأعراف الآية 172
(2) التفسير ج4 ص189 - 190.
(3) سورة الأنفال الآية 69
(4) سورة الأنفال الآية 12(15/39)
مع الطمأنينة إلى تلك الأسباب والالتفات إليها بالقلوب؛ فإنها لا تجلب نفعا ولا ضرا، بل السبب والمسبب فعل الله تعالى، والكل منه وبمشيئته، ومتى وقع من المتوكل ركون إلى تلك الأسباب فقد انسلخ عن ذلك الاسم. ثم المتوكلون على حالين: الأول حال المتمكن في التوكل، فلا يلتفت إلى شيء من تلك الأسباب بقلبه، ولا يتعاطاه إلا بحكم الأمر. الثاني: حال غير المتمكن، وهو الذي يقع له الالتفات إلى تلك الأسباب أحيانا غير أنه يدفعها عن نفسه بالطرق العلمية والبراهين القطعية والأذواق الحالية، فلا يزال كذلك إلى أن يرقيه الله بجوده إلى مقام المتوكلين ويلحقه بدرجات العارفين.
وجاء في شرح العقيدة الطحاوية:
ومما ينبغي أن يعلم ما قاله طائفة من العلماء وهو: أن الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل والإعراض عن الأسباب كالكلية قدح في الشرع. ومعنى التوكل والرجاء يتألف من وجوب التوحيد والعقل والشرع.
وبيان ذلك أن الالتفات إلى السبب هو اعتماد القلب عليه ورجاؤه والاستناد إليه، وليس في المخلوقات ما يستحق هذا؛ لأنه ليس بمستقبل ولا بد له من شركاء وأضداد مع هذا كله. فإن لم يسخره مسبب الأسباب لم يسخر.(15/40)
3 - نصوص وآثار جزئية في موضوع البحث ونقول عن العلماء في ذلك:
ما سبق بيانه في الأمر الأول والثاني تقعيد كل عام يندرج فيه موضوع البحث ونحوه، أما الأمر الثالث ففيه أدلة جزئية من السنة النبوية، وآثار عن الصحابة هي نص في الموضوع، ونقول عن العلماء في حكم ذلك نذكرها فيما يلي:
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله على حديث أبي بشير الأنصاري - رضي الله عنه - في قطع القلادة (1) والوتر.
قال ابن الجوزي: وفي المراد بالأوتار ثلاثة أقوال؛ أحدها أنهم كانوا يقلدون الإبل أوتار القسي؛ لئلا تصيبها العين بزعمهم، فأمروا بقطعها إعلاما بأن الأوتار لا ترد من أمر الله شيئا، وهذا قول مالك. (قلت) : وقع ذلك متصلا بالحديث من كلامه في الموطأ، وعند مسلم وأبي داود وغيرهما قال مالك: أرى أن ذلك من أجل العين، ويؤيده حديث عقبة بن عامر، رفعه: «من علق تميمة فلا أتم الله له (2) » أخرجه أبو داود أيضا، والتميمة: ما علق من القلائد خشية العين ونحو ذلك. وقال ابن عبد البر: إذا اعتقد الذي قلدها أنها ترد العين فقد ظن أنها ترد القدر، وذلك لا يجوز اعتقاده.
ثانيها: النهي عن ذلك؛ لئلا تختنق الدابة، عن محمد بن الحسن - صاحب أبي حنيفة - وكلام أبي عبيدة يرجحه؛ فإنه قال: نهى عن ذلك لأن الدواب تتأذى بذلك، ويضيق عليها نفسها ورعيها، وربما تعلقت بشجرة فاختنقت، أو تعوقت عن السير.
ثالثها: أنهم كانوا يعلقون فيها الأجراس، حكاه الخطابي، وعليه يدل تبويب البخاري، وقد روى أبو داود والنسائي من حديث أم حبيبة أم المؤمنين، مرفوعا: «لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس (3) » . أخرجه النسائي من حديث أم سلمة أيضا، والذي يظهر أن البخاري أشار إلى ما ورد في بعض طرقه، فقد أخرجه الدارقطني من طريق عثمان بن عمر المذكور بلفظ: «لا تبقين قلادة من وتر ولا جرس في عنق بعير إلا قطع (4) » . (قلت) : ولا فرق بين الإبل وغيرها في ذلك إلا على
__________
(1) فتح الباري - ج6- ص106 - 107.
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/154) .
(3) سنن أبو داود الجهاد (2554) ، مسند أحمد بن حنبل (6/327) ، سنن الدارمي الاستئذان (2675) .
(4) صحيح البخاري الجهاد والسير (3005) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2115) ، سنن أبو داود الجهاد (2552) ، مسند أحمد بن حنبل (5/216) ، موطأ مالك الجامع (1745) .(15/41)
القول الثالث، فلم تجر العادة بتعليق الأجراس في رقاب الخيل، وقد روى أبو داود والنسائي من حديث أبي وهب الحساني، رفعه: «اربطوا الخيل وقلدوها، ولا تقلدوها الأوتار (1) » فدل على أن لا اختصاص للإبل، فلعل التقييد بها في الترجمة للغالب، وقد حمل النضر بن شميل الأوتار في هذا الحديث على معنى الثأر، فقال: معناه لا تطلبوا بها ذحول الجاهلية. قال القرطبي: وهو تأويل بعيد. وقال النووي: ضعيف. وإلى نحو قول النضر جنح وكيع، فقال: المعنى: لا تركبوا الخيل في الفتن؛ فإن من ركبها لم يسلم أن يتعلق به وتر بطلب به، والدليل على أن المراد بالأوتار جمع الوتر بالتحريك لا الوتر بالإسكان، ما رواه أبو داود أيضا من حديث رويفع بن ثابت: «من عقد لحيته أو تقلد وترا فإن محمدا برئ منه (2) » ؛ فإنه عند الرواة أجمع بفتح المثناة. انتهى.
__________
(1) سنن النسائي الخيل (3565) ، سنن أبو داود الجهاد (2553) ، مسند أحمد بن حنبل (4/345) .
(2) سنن النسائي الزينة (5067) ، سنن أبو داود الطهارة (36) ، مسند أحمد بن حنبل (4/109) .(15/42)
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (1) .
باب - " من الشرك: لبس الحلقة والخيط ونحوهما؛ لرفع البلاء أو دفعه ". وقول الله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (2) .
عن عمران بن حصين رضي الله عنه، «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة من صفر، فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة. فقال: انزعها؛ فإنها لا تزيدك إلا وهنا، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا (3) » . رواه أحمد بسند لا بأس به.
وله عن عقبة مرفوعا: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له (4) » ، وفي رواية: «من تعلق تميمة فقد أشرك (5) » .
ولابن أبي حاتم عن حذيفة أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى
__________
(1) فتح المجيد من ص116 إلى ص133: باستثناء الشرح الذي في ص119.
(2) سورة الزمر الآية 38
(3) سنن ابن ماجه الطب (3531) ، مسند أحمد بن حنبل (4/445) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (4/154) .
(5) مسند أحمد بن حنبل (4/156) .(15/42)
فقطعه وتلا قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (1) .
فيه مسائل:
الأولى: التغليظ في لبس الحلقة والخيط ونحوهما لمثل ذلك.
الثانية: أن الصحابي لو مات وهي عليه ما أفلح، فيه شاهد لكلام الصحابة أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر.
الثالثة: أنه لم يعذر بالجهالة.
الرابعة: أنها لا تنفع في العاجلة، بل تضر لقوله: «لا تزيدك إلا وهنا (2) » .
الخامسة: الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك.
السادسة: التصريح بأن من تعلق شيئا وكل إليه.
السابعة: التصريح بأن من تعلق تميمة فقد أشرك.
الثامنة: أن تعليق الخيط من الحمى من ذلك.
التاسعة: تلاوة حذيفة الآية دليل على أن الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر، كما ذكر ابن عباس في آية البقرة.
العاشرة: أن تعليق الودع عن العين من ذلك.
الحادية عشرة: الدعاء على من تعلق تميمة أن الله لا يتم له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له. أي: ترك الله له.
__________
(1) سورة يوسف الآية 106
(2) سنن ابن ماجه الطب (3531) ، مسند أحمد بن حنبل (4/445) .(15/43)
قال حفيده عبد الرحمن بن حسن رحمه الله:
قوله: " باب من الشرك: لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه ".(15/43)
رفعه: إزالته بعد نزوله. ودفعه: منعه قبل نزوله.
قال: وقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} (1) قال ابن كثير: أي لا تستطيع شيئا من الأمر: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} (2) أي: الله كافي من توكل عليه: {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (3) كما قال هود عليه الصلاة والسلام حين قال قومه: {إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُون} (4) {مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} (5) {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (6) قال مقاتل في معنى الآية: فسألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فسكتوا: أي لأنهم لا يعتقدون ذلك فيها.
وإنما كانوا يدعونها على معنى أنها وسائط وشفعاء عن الله، لا على أنهم يكشفون الضر، ويجيبون دعاء المضطر، فهم يعلمون أن ذلك لله وحده، كما قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (7) {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} (8) .
قلت: فهذه الآية وأمثالها تبطل تعلق القلب بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر، وإن ذلك شرك بالله، وفي الآية بيان أن الله تعالى وسم أهل الشرك بدعوة غير الله والرغبة إليه من دون الله. والتوحيد ضد ذلك. وهو أن لا يدعو إلا الله، ولا يرغب إلا إليه، ولا يتوكل إلا عليه، كذا جميع أنواع العبادة لا يصلح منها شيء لغير الله. كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة وأئمتها، كما تقدم.
قال: " وعن عمران بن حصين، «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلا في يده حلقة
__________
(1) سورة الزمر الآية 38
(2) سورة الزمر الآية 38
(3) سورة الزمر الآية 38
(4) سورة هود الآية 54
(5) سورة هود الآية 55
(6) سورة هود الآية 56
(7) سورة النحل الآية 53
(8) سورة النحل الآية 54(15/44)
من صفر. فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة. قال: انزعها؛ فإنها لا تزيدك إلا وهنا، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت (1) » رواه أحمد بسند لا بأس به ".
قال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا المبارك، عن الحسن قال:
أخبرني عمران بن حصين، «أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر على عضد رجل حلقة - قال: أراها من صفر - فقال: ويحك، ما هذه؟ قال: من الواهنة. قال: أما إنها لا تزيدك إلا وهنا، انبذها عنك، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا (2) » رواه ابن حبان في صحيحه فقال: «فإنك إن مت وكلت إليها» والحاكم وقال: صحيح الإسناد. وأقره الذهبي.
وقال الحاكم: أكثر مشايخنا على أن الحسن سمع من عمران. وقوله في الإسناد: " أخبرني عمران " يدل على ذلك.
قوله: " عن عمران بن حصين " أي: ابن عبيد بن خلف الخزاعي، أبو نجيم - بنون وجيم مصغر - صحابي ابن صحابي. أسلم عام خيبر، ومات سنة اثنتين وخمسين بالبصرة.
قوله: " رأى رجلا " في رواية الحاكم: «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عضدي حلقة صفر، فقال: ما هذه؟ (3) » الحديث. فالمبهم في رواية أحمد هو عمران راوي الحديث.
قوله: " ما هذه؟ " يحتمل أن الاستفهام للاستفصال عن سبب لبسها، ويحتمل أن يكون للإنكار. وهو أظهر.
قوله: " من الواهنة " قال أبو السعادات: الواهنة: عرق يأخذ في المنكب وفي اليد كلها فيرقى منها. وقيل: هو مرض يأخذ في العضد، وهي تأخذ الرجال دون النساء، وإنما نهى عنها؛ لأنه إنما اتخذها على أنها تعصمه من الألم، وفيه اعتبار المقاصد.
__________
(1) سنن ابن ماجه الطب (3531) ، مسند أحمد بن حنبل (4/445) .
(2) سنن ابن ماجه الطب (3531) ، مسند أحمد بن حنبل (4/445) .
(3) سنن ابن ماجه الطب (3531) ، مسند أحمد بن حنبل (4/445) .(15/45)
قوله: «انزعها؛ فإنها لا تزيدك إلا وهنا (1) » النزع: هو الجذب بقوة، أخبر أنها لا تنفعه، بل تضره وتزيده ضعفا، وكذلك كل أمر نهي عنه، فإنه لا ينفع غالبا، وإن نفع فضره أكبر من نفعه.
قوله: «فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا (2) » ؛ لأنه شرك. والفلاح: هو الفوز والظفر والسعادة.
قوله: " وله عن عقبة بن عامر مرفوعا: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له (3) » وفي رواية: «من تعلق تميمة فقد أشرك (4) » الحديث الأول رواه الإمام أحمد كما قال المصنف ورواه أبو يعلى، والحاكم قال: صحيح الإسناد. وأقره الذهبي.
قوله: " وفي رواية " أي: من حديث آخر رواه أحمد. فقال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، حدثنا يزيد بن أبي منصور، عن دجين الحجري، عن عقبة بن عامر الجهني، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إليه رهط، فبايع تسعة وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله بايعت تسعة وأمسكت عن هذا؟ فقال: إن عليه تميمة، فأدخل يده فقطعها، فبايعه وقال: من تعلق تميمة فقد أشرك (5) » ورواه الحاكم بنحوه، ورواته ثقات.
قوله: " عن عقبة بن عامر " صحابي مشهور، فقيه فاضل، ولي إمارة مصر لمعاوية ثلاث سنين. ومات قريبا من الستين.
قوله: " من تعلق تميمة " أي: علقها متعلقا بها في طلب خير أو دفع شر.
قال المنذري: خرزة كانوا يعلقونها يرون أنها تدفع عنهم الآفات، وهذا جهل وضلالة؛ إذ لا مانع ولا دافع غير الله تعالى.
وقال أبو السعادات: التمائم جمع تميمة، وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم، يتقون بها العين في زعمهم، فأبطلها الإسلام.
قوله: " فلا أتم الله له " دعاء عليه.
__________
(1) سنن ابن ماجه الطب (3531) ، مسند أحمد بن حنبل (4/445) .
(2) سنن ابن ماجه الطب (3531) ، مسند أحمد بن حنبل (4/445) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (4/154) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (4/156) .
(5) مسند أحمد بن حنبل (4/156) .(15/46)
قوله: «ومن تعلق ودعة (1) » بفتح الواو وسكون المهملة. قال في مسند الفردوس: شيء يخرج من البحر يشبه الصدف يتقون به العين.
قوله: (فلا ودع الله له) بتخفيف الدال: أي لا جعله في دعة وسكون. قال أبو السعادات: وهذا دعاء عليه.
قوله: (وفي رواية: «من تعلق تميمة فقد أشرك (2) » قال أبو السعادات: إنما جعلها شركا؛ لأنهم أرادوا دفع المقادير المكتوبة عليهم، وطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه.
قال المصنف رحمه الله: (ولابن أبي حاتم، عن حذيفة أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه، وتلا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (3) .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن الحسين بن إبراهيم بن إشكاب، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا ابن سلمة، عن عاصم الأحول، عن عروة قال: (دخل حذيفة على مريض، فرأى في عضده سيرا، فقطعه - أو انتزعه - ثم قال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (4) .
وابن أبي حاتم: هو الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي التميمي الحنظلي الحافظ، صاحب الجرح والتعديل والتفسير وغيرهما. مات سنة سبع وعشرين وثلاثمائة.
وحذيفة: هو ابن اليمان: واسم اليمان: حسيل - بمهملتين مصغرا - ويقال: حسل - بكسر ثم سكون- العبسي- بالموحدة - حليف الأنصار، صحابي جليل من السابقين، ويقال له: صاحب السر، وأبوه أيضا صحابي. مات حذيفة في أول خلافة علي -رضي الله عنه- سنة ستة وثلاثين.
قوله: (رأى رجلا في يده خيط من الحمى) أي: عن الحمى. وكان
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/154) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/156) .
(3) سورة يوسف الآية 106
(4) سورة يوسف الآية 106(15/47)
الجهال يعلقون التمائم والخيوط ونحوها؛ لدفع الحمى، وروى وكيع عن حذيفة (أنه دخل على مريض يعوده فلمس عضده، فإذا فيه خيط، فقال: ما هذا؟ قال: شيء رقي لي فيه. فقطعه، وقال: لو مت وهو عليك ما صليت عليك) . وفيه: إنكار مثل هذا، وإن كان يعتقد أنه سبب، فالأسباب لا يجوز منها إلا ما أباحه الله تعالى ورسوله مع عدم الاعتماد عليها. وأما التمائم والخيوط والحروز والطلاسم ونحو ذلك، مما يعلقه الجهال فهو شرك يجب إنكاره وإزالته بالقول والفعل، وإن لم يأذن فيه صاحبه.
قوله: (وتلا قوله {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (1) استدل حذيفة رضي الله عنه بالآية على أن هذا شرك، ففيه صحة الاستدلال على الشرك الأصغر بما أنزله الله في الشرك الأكبر؛ لشمول الآية له، ودخوله في مسمى الشرك، وتقدم معنى هذه الآية عن ابن عباس وغيره في كلام شيخ الإسلام وغيره. والله أعلم.
وفي هذه الآثار عن الصحابة: ما يبين كمال علمهم بالتوحيد وما ينافيه أو ينافي كماله.
__________
(1) سورة يوسف الآية 106(15/48)
وقال الشيخ -رحمه الله- باب: (ما جاء في الرقى والتمائم) :
في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه: «أنه كان مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره. فأرسل رسولا: أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت (1) » .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك (2) » رواه أحمد وأبو داود.
(التمائم) : شيء يعلق على الأولاد من العين، لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه، ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود رضي الله عنه.
و (الرقى) : هي التي تسمى العزائم، وخص منه الدليل ما خلا من الشرك، رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة.
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3005) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2115) ، سنن أبو داود الجهاد (2552) ، مسند أحمد بن حنبل (5/216) ، موطأ مالك الجامع (1745) .
(2) سنن أبو داود الطب (3883) ، سنن ابن ماجه الطب (3530) ، مسند أحمد بن حنبل (1/381) .(15/48)
و (التولة) : شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته.
وعن عبد الله بن عكيم مرفوعا «من تعلق شيئا وكل إليه (1) » رواه أحمد والترمذي.
وروى أحمد عن رويفع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا رويفع، لعل الحياة ستطول بك، فأخبر الناس: أن من عقد لحيته أو تقلد وترا. أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدا بريء منه (2) » .
وعن سعيد بن جبير قال: من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة. رواه وكيع.
وله عن إبراهيم قال: " كانوا يكرهون التمائم كلها، من القرآن وغير القرآن ".
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الرقى والتمائم.
الثانية: تفسير التولة.
الثالثة: أن هذه الثلاث كلها من الشرك من غير استثناء.
الرابعة: أن الرقية بالكلام الحق من العين والحمة ليس من ذلك.
الخامسة: أن التميمة إذا كانت من القرآن فقد اختلفت العلماء: هل هي من ذلك أم لا؟
السادسة: أن تعليق الأوتار على الدواب عن العين من ذلك.
السابعة: الوعيد الشديد على من تعلق وترا.
الثامنة: فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان.
التاسعة: أن كلام إبراهيم لا يخالف ما تقدم من الاختلاف؛ لأن مراده أصحاب عبد الله.
__________
(1) سنن الترمذي الطب (2072) .
(2) سنن النسائي الزينة (5067) ، سنن أبو داود الطهارة (36) ، مسند أحمد بن حنبل (4/109) .(15/49)
وقال حفيده رحمه الله:
قوله: (باب ما جاء في الرقى والتمائم) .
أي: من النهي وما ورد عن السلف في ذلك.
قوله: " في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري «أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فأرسل رسولا: أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت (1) » هذا الحديث في الصحيحين.
قوله: " عن أبي بشير " بفتح أوله وكسر المعجمة، قيل: اسمه قيس بن عبيد، قاله ابن سعد، وقال ابن عبد البر: لا يوقف له على اسم صحيح، وهو صحابي، شهد الخندق، ومات بعد الستين. ويقال أنه جاوز المائة.
قوله: " في بعض أسفاره " قال الحافظ: لم أقف على تعيينه.
قوله: " فأرسل رسولا " هو زيد بن حارثة. روى ذلك الحارث بن أبي أسامة في مسنده، قاله الحافظ.
قوله: " أن لا يبقين " بالمثناة التحتية والقاف المفتوحتين، و" قلادة " مرفوع على أنه فاعل. و" الوتر " بفتحتين. واحد أوتار القوس.
وكان أهل الجاهلية إذا اخلولق الوتر أبدلوه بغيره، وقلدوا به الدواب، اعتقادا منهم أنه يدفع عن الدابة العين.
قوله: " أو قلادة إلا قطعت " معناه: أن الراوي شك هل قال شيخه: قلادة من وتر أو قال: قلادة، وأطلق ولم يقيده؟ ويؤيد الأول ما روي عن مالك: أنه سئل عن القلادة فقال: ما سمعت بكراهتها إلا في الوتر. ولأبي داود: " ولا قلادة ". بغير شك.
قال البغوي في شرح السنة: تأول مالك أمره عليه الصلاة والسلام بقطع القلائد على أنه من أجل العين، وذلك أنهم كانوا يشدون تلك الأوتار والتمائم والقلائد ويعلقون عليها العوذ، يظنون أنها تعصمهم من الآفات، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنها، وأعلمهم أنها لا ترد من أمر الله شيئا.
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3005) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2115) ، سنن أبو داود الجهاد (2552) ، مسند أحمد بن حنبل (5/216) ، موطأ مالك الجامع (1745) .(15/50)
قال أبو عبيد: كانوا يقلدون الإبل الأوتار؛ لئلا تصيبها العين، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإزالتها إعلاما لهم بأن الأوتار لا ترد شيئا. وكذا قال ابن الجوزي وغيره.
وقال الجاحظ: ويؤيده حديث عقبة بن عامر، رفعه: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له (1) » رواه أبو داود، وهي ما علق من القلائد خشية العين ونحو ذلك. انتهى.
قال المصنف: " وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك (2) » رواه أحمد وأبو داود ".
وفيه قصة، ولفظ أبي داود: عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: «إن عبد الله رأى في عنقي خيطا، فقال: ما هذا؟ قلت: خيط رقي لي فيه. قالت: فأخذه ثم قطعه، ثم قال: لأنتم آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن الرقى والتمائم والتولة شرك. فقلت: لقد كانت عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي فإذا رقى سكنت. فقال عبد الله: إنما ذاك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقى كف عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أذهب الباس، رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما (3) » . ورواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال: صحيح وأقره الذهبي.
قوله: " إن الرقى " قال المصنف: (هي التي تسمى العزائم، وخص منه الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من العين والحمة) يشير إلى أن الرقى الموصوفة بكونها شركا هي التي يستعان فيها بغير الله، وأما إذا لم يذكر فيها إلا أسماء الله وصفاته وآياته، والمأثور عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فهذا حسن جائز، أو مستحب.
قوله: (فقد رخص فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من العين والحمة) كما تقدم ذلك في باب من حقق التوحيد. وكذا رخص في الرقى من غيرها، كما في صحيح مسلم، عن عوف بن مالك «كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله، كيف
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/154) .
(2) سنن أبو داود الطب (3883) ، سنن ابن ماجه الطب (3530) ، مسند أحمد بن حنبل (1/381) .
(3) سنن أبو داود الطب (3883) ، سنن ابن ماجه الطب (3530) ، مسند أحمد بن حنبل (1/381) .(15/51)
ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا علي رقاكم. لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا (1) » وفي الباب أحاديث كثيرة.
قال الخطابي: وكان عليه السلام قد رقى ورقي، وأمر بها وأجازها؛ وإنما جاءت الكراهة والمنع فيما كان منها بغير لسان العرب؛ فإنه ربما كان كفرا أو قولا يدخله شرك.
قلت: من ذلك ما كان على مذاهب الجاهلية التي يتعاطونها، وأنها تدفع عنهم الآفات ويعتقدون أن ذلك من قبل الجن ومعونتهم، وبنحو هذا ذكر الخطابي.
وقال شيخ الإسلام: كل اسم مجهول فليس لأحد أن يرقي به فضلا عن أن يدعو به، ولو عرف معناه؛ لأنه يكره الدعاء بغير العربية، وإنما يرخص لمن لا يحسن العربية، فأما جعل الألفاظ الأعجمية شعارا فليس من دين الإسلام.
وقال السيوطي: قد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن تكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي وما يعرف معناه، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى.
قوله: " والتمائم " قال المصنف: " شيء يعلق على الأولاد من العين " وقال الخلخالي: التمائم: جمع تميمة، وهي ما يعلق بأعناق الصبيان من خرزات وعظام لدفع العين، وهذا منهي عنه؛ لأنه لا دافع إلا الله، ولا يطلب دفع المؤذيات إلا بالله وبأسمائه وصفاته.
قال المصنف: " لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه ويجعله من المنهي عنه. منهم ابن مسعود ".
اعلم أن العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم اختلفوا في جواز تعليق التمائم التي من القرآن وأسماء الله وصفاته، فقالت طائفة: يجوز ذلك. وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو ظاهر ما روي عن عائشة، وبه قال أبو جعفر الباقر وأحمد في رواية. وحملوا الحديث على التمائم التي فيها شرك.
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2200) ، سنن أبو داود الطب (3886) .(15/52)
وقالت طائفة: لا يجوز ذلك، وبه قال ابن مسعود وابن عباس. وهو ظاهر قول حذيفة وعقبة بن عامر وابن عكيم، وبه قال جماعة من التابعين، منهم أصحاب ابن مسعود وأحمد في رواية اختارها كثير من أصحابه وجزم بها المتأخرون، واحتجوا بهذا الحديث وما في معناه.
قلت: هذا هو الصحيح؛ لوجوه ثلاثة تظهر للمتأمل. الأول: عموم النهي ولا مخصص للعموم، الثاني: سد الذريعة؛ فإنه يفضي إلى تعليق ما ليس كذلك، الثالث: أنه إذا علق فلا بد أن يمتهنه المعلق بحمله معه في حال قضاء الحاجة والاستنجاء ونحو ذلك.
وتأمل هذه الأحاديث وما كان عليه السلف - رضي الله تعالى عنهم - يتبين لك بذلك غربة الإسلام، خصوصا إن عرفت عظيم ما وقع فيه الكثير بعد القرون المفضلة من تعظيم القبور واتخاذ المساجد عليها والإقبال عليها بالقلب والوجه، وصرف جل الدعوات والرغبات والرهبات وأنواع العبادات التي هي حق الله تعالى إليها من دونه، كما قال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (1) {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (2) ونظائرها في القرآن أكثر من أن تحصر.
قوله: " التولة " قال المصنف: هي " شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته ". وبهذا فسرها ابن مسعود راوي الحديث، كما في صحيح ابن حبان والحاكم " قالوا: يا أبا عبد الرحمن، هذه الرقى والتمائم قد عرفناها. فما التولة؟ قال: شيء تصنعه النساء يتحببن به إلى أزواجهن ".
قال الحافظ: التولة - بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففا - شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها، وهو ضرب من السحر. والله أعلم.
__________
(1) سورة يونس الآية 106
(2) سورة يونس الآية 107(15/53)
وكان من الشرك لما يراد به دفع المضار وجلب المنافع من غير الله تعالى.
قال المصنف: " وعن عبد الله بن عكيم مرفوعا: «من تعلق شيئا وكل إليه (1) » رواه أحمد والترمذي " ورواه أبو داود والحاكم. وعبد الله بن عكيم: هو بضم المهملة مصغرا. ويكنى أبا معبد الجهني الكوفي. قال البخاري: أدرك زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يعرف له سماع صحيح. وكذا قال أبو حاتم. قال الخطيب: سكن الكوفة وقدم المدائن في حياة حذيفة. وكان ثقة. وذكر ابن سعد عن غيره: أنه مات في ولاية الحجاج.
قوله: «من تعلق شيئا وكل إليه (2) » التعلق يكون بالقلب ويكون بالفعل، ويكون بهما " وكل إليه " أي: وكله الله إلى ذلك الشيء الذي تعلقه، فمن تعلق بالله وأنزل حوائجه به، والتجأ إليه، وفوض أمره إليه، كفاه وقرب إليه كل بعيد ويسر له كل عسير، ومن تعلق بغيره أو سكن إلى رأيه وعقله ودوائه وتمائمه ونحو ذلك، وكله الله إلى ذلك وخذله، وهذا معروف بالنصوص والتجارب، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (3) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا هشام بن القاسم، حدثنا أبو سعيد المؤدب، حدثنا من سمع عطاء الخراساني قال: لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت فقلت: حدثني حديثا أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز. قال: نعم، أوحى الله تبارك وتعالى إلى داود: يا داود، أما وعزتي وعظمتي، لا يعتصم بي عبد من عبادي دون خلقي، أعرف ذلك من نيته، فتكيده السماوات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن إلا جعلت له من بينهن مخرجا، أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني، أعرف ذلك من نيته، إلا قطعت أسباب السماء من يده، وأسخت الأرض من تحت قدميه، ثم لا أبالي بأي أوديتها هلك.
قال المصنف: " وروى الإمام أحمد عن رويفع قال: قال لي رسول الله
__________
(1) سنن الترمذي الطب (2072) .
(2) سنن الترمذي الطب (2072) .
(3) سورة الطلاق الآية 3(15/54)
صلى الله عليه وسلم: «يا رويفع، لعل الحياة ستطول بك، فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وترا أو استنجى برجيع دابة أو عظم، فإن محمدا بريء منه (1) » .
الحديث رواه الإمام أحمد عن يحيى بن إسحاق والحسن بن موسى الأشيب كلاهما عن ابن لهيعة. وفيه قصة اختصرها المصنف. وهذا لفظ الحسن: حدثنا ابن لهيعة، حدثنا عياش بن عباس عن شييم بن بيتان قال: حدثنا رويفع بن ثابت قال: «كان أحدنا في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأخذ جمل أخيه على أن يعطيه النصف مما يغنم وله النصف، حتى إن أحدنا ليصير له النصل والريش، وللآخر القدح. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) » الحديث. ثم رواه أحمد عن يحيى بن غيلان، حدثني الفضل، حدثنا عياش بن عباس: أن شييم بن بيتان أخبره، أنه سمع شيبان القتباني. الحديث. ابن لهيعة فيه مقال. وفي الإسناد الثاني: شيبان القتباني. قيل فيه: مجهول. وبقية رجالهما ثقات.
قوله: " لعل الحياة ستطول بك " فيه علم من أعلام النبوة؛ فإن رويفعا طالت حياته إلى سنة ست وخمسين فمات ببرقة من أعمال مصر أميرا عليها، وهو من الأنصار. وقيل: مات سنة ثلاث وخمسين.
قوله: " فأخبر الناس " دليل على وجوب إخبار الناس، وليس هذا مختصا برويفع، بل كل من كان عنده علم ليس عند غيره مما يحتاج إليه الناس وجب إعلامهم به فإن اشترك هو وغيره في علم ذلك فالتبليغ فرض كفاية، قاله أبو زرعة في شرح سنن أبي داود.
قوله: " أن من عقد لحيته " بكسر اللام لا غير، والجمع لحى بالكسر والضم. قاله الجوهري قال الخطابي: أما نهيه عن عقد اللحية فيفسر على وجهين. أحدهما: ما كانوا يفعلونه في الحرب، كانوا يعقدون لحاهم، وذلك من زي بعض الأعاجم يفتلونها ويعقدونها. قال أبو السعادات: تكبرا وعجبا، ثانيهما: أن معناه معالجة الشعر ليتعقد ويتجعد وذلك من فعل أهل التأنيث. قال أبو زرعة بن العراقي: والأولى حمله على عقد اللحية في الصلاة، كما دلت عليه رواية محمد بن الربيع. وفيه " أن من عقد لحيته في الصلاة ".
__________
(1) سنن النسائي الزينة (5067) ، سنن أبو داود الطهارة (36) ، مسند أحمد بن حنبل (4/109) .
(2) سنن النسائي الزينة (5067) ، سنن أبو داود الطهارة (36) ، مسند أحمد بن حنبل (4/108) .(15/55)
قوله: " أو تقلد وترا " أي: جعله قلادة في عنقه أو عنق دابته. وفي رواية محمد بن الربيع: " أو تقلد وترا يريد تميمة ".
فإذا كان هذا فيمن تقلد وترا فكيف بمن تعلق بالأموات، وسألهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، الذي جاء النهي عنه وتغليظه في الآيات المحكمات؟
قوله: «أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدا بريء منه (1) » قال النووي: أي برئ من فعله، وهذا خلاف الظاهر. والنووي كثيرا ما يتأول الأحاديث بصرفها عن ظاهرها، فيغفر الله تعالى له.
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا «لا تستنجوا بالروث ولا العظام؛ زاد إخوانكم من الجن (2) » " وعليه لا يجزئ الاستنجاء بهما، كما هو ظاهر مذهب أحمد؛ لما روى ابن خزيمة والدارقطني، عن أبي هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستنجى بعظم أو روث، وقال: إنهما لا يطهران (3) » .
قوله: " وعن سعيد بن جبير قال: «من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة» . رواه وكيع " هذا عند أهل العلم له حكم الرفع؛ لأن مثل ذلك لا يقال بالرأي، ويكون هذا مرسلا؛ لأن سعيد تابعي وفيه: فضل قطع التمائم؛ لأنها شرك.
ووكيع: هو ابن الجراح بن وكيع الكوفي، ثقة إمام صاحب تصانيف، منها الجامع وغيره. روى عنه الإمام أحمد وطبقته. ومات سنة سبع وتسعين ومائة.
وقوله: " وله عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن ". وإبراهيم هو الإمام إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي، يكنى أبا عمران، ثقة من كبار الفقهاء. قال المزي: دخل على عائشة، ولم يثبت له سماع منها، مات سنة ست وتسعين، وله خمسون سنة أو نحوها.
قوله: " كانوا يكرهون التمائم - إلى آخره " مراده بذلك: أصحاب عبد الله بن مسعود، كعلقمة والأسود وأبي وائل والحارث بن سويد، وعبيدة
__________
(1) سنن النسائي الزينة (5067) ، سنن أبو داود الطهارة (36) ، مسند أحمد بن حنبل (4/109) .
(2) صحيح مسلم الصلاة (450) ، سنن الترمذي الطهارة (18) ، مسند أحمد بن حنبل (1/459) .
(3) صحيح مسلم الطهارة (262) ، سنن الترمذي الطهارة (16) ، سنن النسائي الطهارة (41) ، سنن أبو داود الطهارة (7) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (316) ، مسند أحمد بن حنبل (5/439) .(15/56)
السلماني ومسروق والربيع بن خثيم وسويد بن غفلة وغيرهم، وهم من سادات التابعين، وهذه الصيغة يستعملها إبراهيم في حكاية أقوالهم، كما بين ذلك الحفاظ كالعراقي وغيره.(15/57)
وقال الشيخ محمد صديق حسن رحمه الله (1) .
فصل في شرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلايا ودفعها، ومعنى رفع الشيء إزالته بعد نزوله، ومعنى دفع الشيء منعه قبل نزوله.
عن عمران بن حصين رضي الله عنه، «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة (2) » - وفي رواية الحاكم، «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عضدي حلقة - من صفر (3) » - فالمبهم في هذه الرواية هو عمران راوي الحديث.
قال: ما هذه؟ يحتمل أن يكون الاستفهام للاستفصال عن سبب لبسها أو يكون للإنكار وهو أظهر قال: من الواهنة. قال أبو السعادات: " الواهنة " عرق يأخذ بالمنكب وفي اليد كلها فيرقى منها، وقيل: مرض يأخذ في العضد، وهي تأخذ الرجال دون النساء.
قال: انزعها، نهى عنه لأنه إنما اتخذها على أنها تعصمه من الألم، وفيه اعتبار المقاصد، والنزع هو الجذب بقوة.
فإنها لا تزيدك إلا وهنا. أخبر أنها لا تنفعك بل تضرك وتزيدك ضعفا، وكذلك كل أمر نهى عنه فإنه لا ينفع غالبا، وإن نفع بعضه في اعتقاده الكاذب فضرره أكبر من نفعه «فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا (4) » ؛ لأنه شرك استعان صاحبه بغير الله تعالى و (الفلاح) هو الفوز والظفر والسعادة.
وفي هذا شاهد لكلام الصحابة إن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر وأنه لم يعذره بالجهالة. وفيه الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك، رواه أحمد بسند لا بأس به. وله رضي الله عنه، عن عقبة بن عامر مرفوعا: «من تعلق تميمة (5) » أي علقها متعلقا بها في قلبه في طلب خير أو شر وضير. قال المنذري: خرزة كانوا
__________
(1) الدين الخالص ج2 ص130 - 134.
(2) سنن ابن ماجه الطب (3531) ، مسند أحمد بن حنبل (4/445) .
(3) سنن ابن ماجه الطب (3531) ، مسند أحمد بن حنبل (4/445) .
(4) سنن ابن ماجه الطب (3531) ، مسند أحمد بن حنبل (4/445) .
(5) مسند أحمد بن حنبل (4/154) .(15/57)
يعلقونها يرون أنها تدفع عنهم الآفات، وهذا جهل وضلال، إذ لا مانع ولا دافع غير الله تعالى.
وقال أبو السعادات: التمائم جمع تميمة، وهي خرزة كانت العرب تعلقها على أولادهم، يتقون بها العين في زعمهم، فأبطلها الإسلام، فلا أتم الله له. دعاء عليه ومن تعلق ودعة بفتح الواو وسكون المهملة. قال في مسند الفردوس: الودع شيء يخرج من البحر شبه الصدف يتقون به العين فلا ودع الله له بتخفيف الدال، أي: لا جعله له في دعة وسكون.
قال أبو السعادات: هذا دعاء عليه. وروى هذا الحديث أيضا أبو يعلى، والحاكم وقال: صحيح الإسناد وأقره الذهبي. وفي رواية لأحمد: «من تعلق تميمة فقد أشرك (1) » وهذا أصرح من الأول، ورواه الحاكم أيضا بنحوه، ورواته ثقات.
قال ابن الأثير: إنما جعلها شركا لأنهم أرادوا دفع المقادير المكتوبة عليهم وطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه.
قال: ولابن أبي حاتم، عن حذيفة، أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (2) .
وفي لفظ: دخل حذيفة على مريض فرأى في عضده سيرا فقطعه أو انتزعه، ثم قال: {وَمَا يُؤْمِنُ} (3) الخ.
كان الجهال يعلقون التمائم والخيوط ونحوها لدفع الحمى واستدل حذيفة بالآية على أن هذا شرك.
وفيه صحة الاستدلال على الشرك الأصغر بما أنزل الله تبارك في الشرك الأكبر؛ لشمول الآية له ولدخوله في مسمى الشرك.
وفي رواية عن حذيفة بلفظ: أنه دخل على مريض فلمس عضده، فإذا فيه خيط، فقال: ما هذا؟ قال: شيء رقي لي فيه. فقطعه، وقال: لو مت وهي عليك ما صليت عليك.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/156) .
(2) سورة يوسف الآية 106
(3) سورة يوسف الآية 106(15/58)
وفي إنكار مثل هذا وإن كان يعتقد أنه سبب، فالأسباب لا يجوز منها إلا ما أباحه الله ورسوله مع عدم الاعتماد عليها.
وأما التمائم والخيوط والحروز والطلاسم ونحو ذلك مما يعلقه الجهلة البطلة فهو شرك، يجب إنكاره وإزالته بالقول والفعل، وإن لم يأذن فيه صاحبه.
وفي هذه الآثار عن الصحابة ما يبين كمال علمهم بالتوحيد، وبما ينافيه من أنوع الشرك أو ينافي كماله.
وقال: في فصل في رد شرك الرقى والتمائم
عن أبي بشير الأنصاري، «أنه كان مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في بعض أسفاره - قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على تعيينه - فأرسل رسولا - هو زيد بن حارثة، رواه الحارث بن أسامة في مسنده كما قال الحافظ - أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر - بفتحتين واحد أوتار القوس، وكان أهل الجاهلية إذا اخلولق الوتر أبدلوه بغيره وقلدوا به الدواب؛ اعتقادا منهم أنه يدفع عن الدابة العين - أو قلادة إلا قطعت (1) » . رواه الشيخان في الصحيحين.
والشك فيه من الراوي: هل قال شيخه: قلادة من وتر. أو قال: قلادة. وأطلق ولم يقيد. ويؤيد الأول ما روي عن مالك: أنه سئل عن القلادة فقال: ما سمعت بكراهتها إلا في الوتر.
ولأبي داود قلادة بغير شك.
قال البغوي في شرح السنة: تأول مالك أمره عليه السلام بقطع القلائد على أنه من أجل العين، وذلك أنهم كانوا يشدون تلك الأوتار والتمائم والقلائد ويعلقون عليها العوذ، ويظنون أنها تعصمهم من الآفات. فنهاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها، وأعلمهم أنها لا ترد من أمر الله شيئا.
وقال أبو عبيدة: كانوا يقلدون الإبل الأوتار لئلا تصيبها العين. فأمرهم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم - بإزالتها إعلاما لهم بأن الأوتار لا ترد شيئا، وكذا قال ابن الجوزي وغيره.
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3005) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2115) ، سنن أبو داود الجهاد (2552) ، مسند أحمد بن حنبل (5/216) ، موطأ مالك الجامع (1745) .(15/59)
قال الحافظ: ويؤيده حديث عقبة المتقدم، وهي ما علق من القلائد وخشية العين ونحو ذلك. أهـ. وعن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك (1) » رواه أحمد وأبو داود وفيه قصة. ولفظ أبي داود: عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود، أن عبد الله رأى في عنقي خيطا فقال: ما هذا؟ قلت: خيط رقي لي فيه. قالت: فأخذه ثم قطعه، ثم قال: أنتم آل عبد الله لأغنياء عن الشرك. سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول. . . إلخ.
فقلت: لقد كانت عيني تقذف وكنت أختلف إلى فلان اليهودي فإذا رقى سكنت. فقال عبد الله: إنما ذلك عمل الشيطان كان ينخسها بيده، فإذا رقى كف عنها.
إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما (2) » . رواه أيضا ابن ماجه وابن حبان، والحاكم وقال: صحيح. وأقره الذهبي.
سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، عن حكم استعمال الأسورة المغناطيسية فأجاب حفظه الله:
والذي أرى في هذه المسألة هو ترك الأسورة المذكورة وعدم استعمالها؛ سدا لذريعة الشرك، وحسما لمادة الفتنة بها والميل إليها، وتعلق النفوس بها، ورغبة في توجيه المسلم بقلبه إلى الله سبحانه ثقة به واعتمادا عليه، واكتفاء بالأسباب المشروعة المعلومة إباحتها بلا شك، وفيما أباح الله ويسر لعباده غنية عما حرم عليهم، وعما اشتبه أمره، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه (3) » . وقال عليه الصلاة والسلام: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (4) » ، ولا ريب أن تعليق الأسورة المذكورة يشبه ما تفعله الجاهلية في سابق الزمان، فهو إما من الأمور المحرمة الشركية أو من وسائلها وأقل ما يقال
__________
(1) سنن أبو داود الطب (3883) ، سنن ابن ماجه الطب (3530) ، مسند أحمد بن حنبل (1/381) .
(2) صحيح البخاري الطب (5750) ، صحيح مسلم السلام (2191) ، سنن ابن ماجه الطب (3520) ، مسند أحمد بن حنبل (6/45) .
(3) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .
(4) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) .(15/60)
فيه أنه من المشتبهات، فالأولى بالمسلم والأحوط له أن يترفع بنفسه عن ذلك، وأن يكتفي بالعلاج الواضح الإباحة البعيد عن الشبهة، هذا ما ظهر لي ولجماعة من المشائخ والمدرسين (1) .
هذا ما تيسر جمعه والله الموفق. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) مجلة الجامعة الإسلامية - السنة الثالثة ص139 شوال عام 92.(15/61)
صفحة فارغة(15/62)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شؤونهم الدينية والاجتماعية.(15/63)
فتوى برقم 1319 في 3 \ 7 \ 1396هـ
السؤال الأول: ما هو المسجد لغة وشرعا؟
الجواب: المسجد لغة موضع السجود.
وشرعا: كل ما أعد ليؤدي فيه المسلمون الصلوات الخمس جماعة، وقد يطلق على ما هو أعم من هذا فيدخل فيما يتخذه الإنسان في بيته ليصلي فيه النافلة أو ليصلي فيه الفريضة عند العجز عن صلاتها في المسجد الذي يقيم الناس فيه الجماعة، ومن ذلك ما رواه البخاري وغيره، عن جابر قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي؛ نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل (1) » . . . الحديث.
__________
(1) صحيح البخاري التيمم (335) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521) ، سنن النسائي الغسل والتيمم (432) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي الصلاة (1389) .(15/64)
السؤال الثاني: ما هي حدود المسجد شرعا؟ وهل تعتبر الشوارع المجاورة للمسجد تابعة للمسجد تصح فيها صلاة الجمعة عند ضيق المسجد لكثرة الناس مع أنه توجد مساجد أخرى لم تمتلئ بالمصلين؟
الجواب: حدود المسجد الذي أعد ليصلي فيه المسلمون الصلوات الخمس جماعة هو ما أحاط به من بناء أو أخشاب أو جريد أو قصب أو نحو ذلك، وهذا هو الذي يعطى حكم المسجد من منع الحائض والنفساء والجنب ونحوهم من المكث فيه، ويجوز لمن جاء إلى المسجد وقد ضاق بالمصلين أن يصلي خارج المسجد الجمعة أو غيرها من الفرائض والنوافل في أقرب مكان إلى المسجد من الطريق المجاور له ما دام يضبط صلاته بصلاة إمامه للحاجة إلى ذلك، بشرط ألا يكون أمام الإمام، لكن لا يكون لها حكم المسجد، والله أعلم.(15/64)
السؤال الثالث: هل الطرقات تدخل في المواضع المنهي عن الصلاة فيها؟(15/64)
وما الدليل على ذلك؟ وكيف الجمع بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا (1) » ؟
الجواب: نعم محجة الطريق وهي قارعته التي يقصد إليها المارة في سيرهم وتقرعها الأرجل داخلة في المواضع السبعة التي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الصلاة فيها، فقد روى ابن ماجه في سننه، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «سبع مواطن لا تجوز فيها الصلاة؛ ظاهر بيت الله، والمقبرة، والمزبلة، والمجزرة، والحمام، وعطن الإبل، ومحجة الطريق (2) » .
وهذا الحديث وإن كان ضعيف الإسناد غير أنه وردت أحاديث أخرى في بيان المواضع المنهي عن الصلاة فيها، ويجمع بينها وبين حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول -صلى الله عليه وسلم- قال: «جعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل حيث أدركته (3) » . رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم - بأن حديث جابر وغيره من أحاديث الإذن في الصلاة في أي مكان عامة، وأحاديث النهي عن الصلاة في المواضع التي ثبت النهي فيها خاصة، فتخص عموم أحاديث الإذن بالصلاة في كل موضع تطبيقا للقاعدة المعروفة في الجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض، لكن إذا دعت الحاجة أو الضرورة للصلاة في موضع من المواضع المنهي عنها جازت.
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (317) ، سنن أبو داود الصلاة (492) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (745) .
(2) سنن الترمذي الصلاة (346) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (747) .
(3) صحيح البخاري التيمم (335) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521) ، سنن النسائي الغسل والتيمم (432) ، المساجد (736) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي الصلاة (1389) .(15/65)
السؤال الرابع: هل يعتبر من صلى الجمعة خارج المسجد في الشوارع مثلا حاضرا الجمعة؟ مع أن الملائكة تكون على أبواب المساجد يكتبون من يحضر الأول فالأول، ومع أن من صلى خارج المسجد تفوته مثل صلاة تحية المسجد والاعتكاف بالمسجد وسماع الخطبة، ولا تستقيم صفوفهم غالبا؟
الجواب: نعم يعتبر من صلى الجمعة خارج المسجد في الشوارع مثلا حاضر الجمعة، ما دام يضبط صلاته بصلاة إمامه، لكن لا يكون ثوابه كثواب من صلى داخل المسجد، وخاصة من صلى في الصفوف الأولى، وتكتب الملائكة أجر تبكيره حسب الساعة التي حضر فيها قبل صعود الخطيب المنبر؛ لدخوله في عموم الحديث الوارد في ذلك؛ فإن العبرة في الحديث بالحضور، لا بكونه داخل المسجد، وينقص من ثوابه بقدر ما فاته من انتظار الصلاة ومن سماع الخطبة،(15/65)
وما حدث من عدم تسوية الصفوف، والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(15/66)
فتوى برقم 1427 في 28 \ 12 \ 1369 هـ
السؤال: هل الأفضل أن يضع المصلي ركبتيه قبل يديه عند النزول للسجود، وأن يرفع يديه عن الأرض قبل ركبتيه عند القيام للركعة التي بعد ذلك أم لا؟
الجواب: ذهب الجمهور إلى أن الأفضل أن يضع المصلي ركبتيه قبل يديه عند النزول للسجود وأن يرفع يديه عن الأرض قبل ركبتيه عند القيام للركعة التي بعد ذلك، واستدلوا بحديث وائل بن حجر قال: «رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه (1) » رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه. لكن في سنده شريك القاضي وقد تفرد به، وشريك ليس بالقوي فيما تفرد به.
وبحديث أنس رضي الله عنه، «أن النبي صلى الله عليه وسلم انحط بالتكبير، فسبقت ركبتاه يديه» أخرجه الحاكم والبيهقي والدارقطني، وقال الحاكم: هو على شرطهما ولا أعلم له علة. وقال الدارقطني: تفرد به العلاء بن إسماعيل وهو مجهول، وقال ابن أبي حاتم: عن أبيه: إنه منكر. وقد روى هذا أحاديث لا تخلو من مطعن إما انقطاع أو إرسال.
وذهب آخرون إلى استحباب وضع اليدين قبل الركبتين عند الهبوط للسجود، منهم الأوزاعي ومالك وابن حزم. قال ابن أبي داود وهو قول أهل
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (268) ، سنن النسائي التطبيق (1089) ، سنن أبو داود الصلاة (838) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (882) ، سنن الدارمي الصلاة (1320) .(15/66)
الحديث، واستدلوا بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه (1) » رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وفي رواية: «وليضع يديه ثم ركبتيه (2) » لكن في سنده مقال، وقد رجح جماعة حديث وائل بن حجر وما في معناه، والمسألة اجتهادية والأمر فيها واسع، ولذا خير بعض الفقهاء المصلين بين الأمرين. إما لضعف الأحاديث من الجانبين، وإما لتعارضها وعدم رجحان بعضها على بعض في نظره، ونتيجة هذا السعة والتخيير بين الهيئتين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (269) ، سنن النسائي التطبيق (1091) ، سنن أبو داود الصلاة (840) ، مسند أحمد بن حنبل (2/381) ، سنن الدارمي الصلاة (1321) .
(2) سنن الترمذي الصلاة (269) ، سنن النسائي التطبيق (1091) ، سنن أبو داود الصلاة (840) ، مسند أحمد بن حنبل (2/381) ، سنن الدارمي الصلاة (1321) .(15/67)
فتوى برقم 1433 في 22 \ 1 \ 1397 هـ
السؤال الأول: إذا دخل الإنسان المسجد بعد أذان الظهر وقبل أن تقام الصلاة، فهل تسقط عنه تحية المسجد ويصلي سنة الظهر القبلية؟ أو يصلي ركعتين تحية المسجد قبل أن يصلي السنة؟
الجواب: يصلي سنة الظهر القبلية، وتكفيه عن تحية المسجد أيضا.
السؤال الثاني: هل تجوز الصلاة خلف إمام لا يطمئن أم لا؟
الجواب: الطمأنينة في الركوع وفي القيام بعد الرفع منه وفي السجود وفي الجلوس بين السجدتين من فرائض الصلاة، فمن لم يطمئن في ركن من الأركان فصلاته باطلة، ولا تصح صلاة من اقتدى به، ويجب على من علم منه ذلك أن يرشده وينصح له، فإن انتصح فالحمد لله وإلا وجب ترك الصلاة وراءه، ورفع أمره إلى الجهة المسئولة حيث أمكن حتى تعزله عن الإمامة وتعين غيره ممن يحسن(15/67)
الصلاة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(15/68)
فتوى برقم 1357 في 15 \ 1 \ 1379 هـ
السؤال: الطلبة الذين يدرسون في الخارج يواجهون صعوبة في أداء الصلاة في وقتها بسبب تعارضها مع مواعيد الدراسة هناك، وبسبب اختلاف الحياة من النواحي الاجتماعية عما هي عليه في السعودية، وكذلك يواجهون صعوبة في أداء الفرائض في أغلب الأماكن، فما الحكم؟ وهل يجوز لهم القصر والجمع باعتبارهم مسافرين وإن طالت المدة؟
الجواب: الصلاة أهم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وقد قال الله تعالى فيها: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (1) وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أوقاتها، وحذر أمته من تأخيرها عن أوقاتها وكان صلى الله عليه وسلم يحافظ على أدائها في أوقاتها، ولو في أحرج الأوقات وأشد الأحوال، كحال الجهاد في سبيل الله، امتثالا لقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (2) {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (3) فيجب على كل مسلم أن يحرص على أداء الصلوات الخمس جماعة في أوقاتها، وما ذكر من أن الحياة الاجتماعية تختلف في البلاد الأجنبية عما هي عليه في السعودية، ومن أن أغلب الأماكن يصعب تأدية الفرائص فيها لا يعتبر عذرا شرعيا؛ فإن الأرض كلها مسجد وطهور، فأينما أدركت المسلم الصلاة فليصل، ولا يجوز له أن يخجل من إظهار شعائر الدين مجاملة للمشركين أو مخافة سخريتهم به، ولا يليق بالمسلم أن يصده ذلك عن أداء ما فرض الله عليه، أما تعارض أداء الصلوات الخمس في أوقاتها مع مواعيد الدراسة، فيمكن أن توجد فرصة بين
__________
(1) سورة النساء الآية 103
(2) سورة البقرة الآية 238
(3) سورة البقرة الآية 239(15/68)
محاضرة وأخرى لأداء ما حضر وقته منها، ولو في وسط وقتها أو آخره على أن بعضها في غير وقت الدراسة كصلاة الفجر والعشاء، وعلى تقدير أن يضطر إلى الجمع بين الصلاتين في بعض الأوقات فيجمع أحيانا عند الضرورة بين الظهر والعصر جمع تقديم وجمع تأخير حسب ما تقتضي به الضرورة، ويجمع بين المغرب والعشاء كذلك. أما صلاة العصر فيحرم تأخيرها إلى غروب الشمس على أي حال، وكذلك العشاء يحرم تأخيرها إلى الفجر، والفجر يحرم تأخيره إلى طلوع الشمس، ولا يجوز قصر الصلاة في مثل هذه الأحوال؛ لأنهم مقيمون فلهم حكم المستوطنين لا المسافرين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(15/69)
فتوى برقم 1459 في 25 \ 1 \ 1397 هـ
السؤال: هل يجوز للرجل أن يصلي بأطفاله وعائلته في كل وقت إذا كان لا يوجد عنده جماعة ولا مسجد؟
الجواب: إذا كان الأمر كما ذكر فله أن يصلي بمن تجب عليه الصلاة أو تصح منه من أولاده؛ لعموم قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة التغابن الآية 16(15/69)
فتوى برقم 1460 في 25 \ 1 \ 1397 هـ
السؤال: هل يشترط لصحة صلاة النساء مع الرجال خلف الإمام نية خاصة بهن؟ أو تكفي نية الإمام مطلقا من غير تفضيل بين الرجال والنساء؟
الجواب: نية الإمام للإمامة كافية للرجال والنساء الذين يصلون خلفه، ولا داعي لإفراد النساء بنية تخصهن؛ لعدم الدليل على ذلك، وقد كن يصلين مع رسول صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل أنه خصهن بنيته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(15/70)
فتوى برقم 1517 في 19 \ 3 \ 1397 هـ
السؤال: بعض العلماء في تنزانيا يقولون: إن الدف وتحية المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب الناس حرام، فهل هذا صحيح أم لا؟
الجواب: يشرع لمن يدخل المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب خطبة الجمعة أن يصلي ركعتين تحية المسجد؛ لما رواه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «دخل رجل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: أصليت؟ قال: لا. قال: فصل ركعتين (1) » وروى أحمد ومسلم وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما (2) » وبهذا قال الحسن وابن عيينة
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (931) ، سنن الترمذي الجمعة (510) ، سنن النسائي الجمعة (1409) ، سنن أبو داود الصلاة (1115) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1112) ، مسند أحمد بن حنبل (3/363) ، سنن الدارمي الصلاة (1555) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (930) ، صحيح مسلم الجمعة (875) ، سنن الترمذي الجمعة (510) ، سنن النسائي الجمعة (1409) ، سنن أبو داود الصلاة (1116) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1114) ، مسند أحمد بن حنبل (3/317) ، سنن الدارمي الصلاة (1555) .(15/70)
والشافعي وأحمد وإسحاق ومكحول وأبو ثور وابن المنذر، وحكاه النووي عن فقهاء المحدثين، وقال أبو حنيفة ومالك والنووي والليث وجماعة: أنه إذا دخل يوم الجمعة والإمام يخطب فليجلس ولا يصليها، والصحيح هو القول الأول، والأحاديث الصحيحة الدالة على ذلك، ولعل من لم يتصل بذلك من العلماء المذكورين وغيرهم لم تبلغهم هذه السنة.
أما ضرب الدف قبل الخطبة عند دخول الإمام المسجد وصعوده المنبر أو ضرب الدف أثناء الخطبة فهذا بدعة ممنوعة، فيجب على العلماء إنكارها، ويجب على ولاة الأمور منعها أو إزالتها. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(15/71)
فتوى برقم 1537 في 12 \ 5 \ 1397 هـ
السؤال: بعض الناس يعتاد مصافحة الإمام وبعضهم بعضا لا سيما بعد صلاة الفجر، فهل لهذه العادة أصل في الشرع أم لا؟
الجواب: لا يخفى أن العبادات مبنية على التوقيف، بمعنى أن مشروعية أي عبادة لا يكون إلا بما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير، ولا نعلم دليلا يدل على مشروعية مصافحة الإمام بعد الصلاة أو مصافحة بعض المأمومين بعضا، ولم ينقل عن أحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم كانوا يفعلونه مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا مع بعضهم بعضا، وقد سئل عن هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فأجاب بقوله: المصافحة عقيب الصلاة ليست مسنونة بل هي بدعة.(15/71)
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(15/72)
فتوى برقم 1559 في 29 \ 5 \ 1397 هـ
السؤال: هل قوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة (1) » يختص بحدود مسجده التي كانت في عهده أو يعم المبنى الحالي؟
الجواب: مسجده صلى الله عليه وسلم كان أصغر مما هو الآن وكذلك المسجد الحرام لكن زاد فيهما الخلفاء الراشدون ومن بعدهم، وحكم الزيادة حكم المزيد عليه في جميع الأحكام.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1190) ، صحيح مسلم الحج (1394) ، سنن الترمذي الصلاة (325) ، سنن النسائي مناسك الحج (2899) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1404) ، مسند أحمد بن حنبل (2/485) ، موطأ مالك النداء للصلاة (461) .(15/72)
فتوى برقم 1593 في 4 \ 7 \ 1397 هـ
السؤال: بعض الوظائف تستمر أعمالها طيلة أيام الأسبوع، بما في ذلك أيام الجمعة، ويوجد موظفون مناوبون، ولا تسمح لهم أعمالهم بتركها ولو دقيقة(15/72)
واحدة؛ لأن ذلك يؤثر في العمل، فهل يترك هؤلاء الموظفون أعمالهم ويذهبون إلى الصلاة؟ أم يجوز لهم التأخير؟
الجواب: الأصل وجوب الجمعة على الأعيان؛ لقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1)
ولما روى مسلم وأحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم (2) » .
ولما روى مسلم عن أبي هريرة وابن عمر - رضي الله عنهما - «أنهما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على أعواد منبره: لينتهين أقوام عن ودعهم الجماعات أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين (3) » . ولإجماع أهل العلم على ذلك، ولكن إذا وجد عذر شرعي لدى من تجب عليه الجمعة كأن يكون مسئولا مسئولية مباشرة عن عمل يتصل بأمن الأمة وحفظ مصالحها يتطلب قيامه عليه وقت صلاة الجمعة مثلا كحال رجال الأمن والمرور والمخابرات اللاسلكية والهاتفية ونحوهم الذين عليهم النوبة وقت النداء الأخير لصلاة الجمعة أو إقامة الصلاة جماعة فإنه وأمثاله يعذر بذلك في ترك الجمعة والجماعة لعموم قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (4) وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا فيه ما استطعتم (5) » ، ولأنه ليس بأقل عذرا ممن يعذر بالخوف على نفسه أو ماله ونحو ذلك ممن ذكر العلماء أنهم يعذرون بترك الجمعة والجماعة ما دام العذر قائما، غير أن ذلك لا يسقط عنه فرض الظهر بل عليه أن يصليها في وقتها، ومتى أمكن فعلها جماعة وجب ذلك كسائر الفروض الخمسة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الجمعة الآية 9
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (652) ، مسند أحمد بن حنبل (1/402) .
(3) صحيح مسلم الجمعة (865) ، سنن النسائي الجمعة (1370) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (794) ، مسند أحمد بن حنبل (1/239) ، سنن الدارمي الصلاة (1570) .
(4) سورة التغابن الآية 16
(5) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الفضائل (1337) ، سنن الترمذي العلم (2679) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/467) .(15/73)
فتوى برقم 1594 في 4 \ 7 \ 1397 هـ
السؤال: هل يشترط في سجاد الصلاة أن يحمل رسومات دينية كصورة الحرمين الشريفين أو صورة بعض المساجد الأخرى أو آيات قرآنية. . إلخ، وما الرأي بالنسبة للرسومات التي تكون بعرض السجادة وليست بطولها؟ وما الحكم الشرعي فيما يتعلق بجواز الصلاة على سجاد يحمل رسوم الحيوانات أو الطيور وما شابه ذلك من عدمه؟
الجواب: لا يجوز أن يرسم على السجاد المتخذ للصلاة آيات قرآنية أو حيوانات أو طيور لما في كتابة الآيات القرآنية في سجاد الصلاة من امتهان القرآن ولأن تصوير ذوات الأرواح لا يجوز، ولا يشترط في سجاد الصلاة أن يحمل رسومات دينية كصورة الحرمين الشريفين أو صورة بعض المساجد الأخرى، بل يكره ذلك؛ لأن المصلي ينشغل بالنظر إليها وهذا يضعف الخشوع في الصلاة، وهو مطلوب شرعا، فقد أثنى الله على الخاشعين فقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (1) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (2) الآيات.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 1
(2) سورة المؤمنون الآية 2(15/74)
فتوى برقم 1620 في 11 \ 7 \ 1397 هـ
السؤال: ما حكم الصلاة في البدلة المكونة من جاكيت وبنطلون؟
الجواب: إن كان ذلك اللباس لا يحدد العورة لسعته، ولا يشف عما وراءه لكونه(15/74)
صفيقا جازت الصلاة فيه، وإن كان يشف عما وراءه بأن ترى العورة من ورائه بطلت الصلاة فيه، وإن كان يحدد العورة فقد كرهت الصلاة فيه إلا أن لا يجد غيره.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(15/75)
فتوى برقم 1647 في 14 \ 8 \ 1397 هـ
السؤال الأول: هل الأذان الأول يوم الجمعة بدعة؟
الجواب: ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ (1) » . . . الحديث.
والنداء يوم الجمعة كان أوله حين يحل الإمام على المنبر في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان خلافة عثمان وكثر الناس أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الأول - الآن - وليس ببدعة؛ لما سبق من الأمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين، والأصل في ذلك ما رواه البخاري والنسائي والترمذي وابن ماجه وأبو داود واللفظ له، عن ابن شهاب، أخبرني السائب بن يزيد «أن الأذان كان أوله حين يجلس الإمام على المنبر يوم الجمعة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان خلافة عثمان وكثر الناس أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث فأذن به على الزوراء فثبت الأمر على ذلك (2) » .
وقد علل القسطلاني في شرحه للبخاري على هذا الحديث بأن النداء الذي زاده عثمان، هو عند دخول الوقت وسماه ثالثا باعتبار كونه مزيدا على الأذان بين يدي الإمام والإقامة للصلاة، وأطلق على الإقامة أذانا تغليبا بجامع
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (916) ، سنن الترمذي الجمعة (516) ، سنن النسائي الجمعة (1392) ، سنن أبو داود الصلاة (1087) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1135) ، مسند أحمد بن حنبل (3/449) .(15/75)
الإعلام فيهما وكان هذا الأذان لما كثر المسلمون، فزاده اجتهادا منه ووافقه سائر أصحابه بالسكوت وعدم الإنكار فصار إجماعا سكوتيا.(15/76)
السؤال الثاني: هل يجوز أن يقول الشخص بعد ما يقول المقيم للصلاة: قد قامت الصلاة: أقامها الله وأدامها؟
الجواب: المشروع أن يقول مثل ما يقول المقيم؛ لأن الإقامة أذان، وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول (1) » ، متفق عليه. وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يقول عند قول المقيم: قد قامت الصلاة: أقامها الله وأدامها؛ لما رواه أبو داود في سننه بسنده عن أبي أمامة - أو عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - «أن بلالا أخذ بالإقامة فلما أن قال: قد قامت الصلاة قال النبي - صلى الله عليه وسلم - أقامها الله وأدامها (2) » ولكن هذا الحديث لا يخلو من مقال.
وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (384) ، سنن الترمذي المناقب (3614) ، سنن النسائي الأذان (678) ، سنن أبو داود الصلاة (523) ، مسند أحمد بن حنبل (2/168) .
(2) سنن أبو داود الصلاة (528) .(15/76)
فتوى برقم 1667 في 22 \ 9 \ 1397 هـ
السؤال: ما حكم من كان أبواه مسلمين وقد امتنع عن الصلاة ثم ندم وصلى؟ هل يقضي ما فاته من الصلوات أم لا؟
الجواب: إذا كان الأمر كما ذكر من تركه للصلاة عمدا فالصحيح من أقوال العلماء في ذلك أنه لا يقضي ما فات وقته منها؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (1) فذكر سبحانه وتعالى أن الصلوات المفروضة موقوتة بأوقات، وبينها جبريل للنبي - عليهما الصلاة والسلام - عقب ليلة المعراج،
__________
(1) سورة النساء الآية 103(15/76)
وحددها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته عملا وقولا، فلا تشرع صلاتها في غير أوقاتها ولا تصح، ولأن الصحيح من أقوال العلماء أن تاركها كافر، فإذا تاب لم يقض ما مضى أيام كفره من العبادات الموقوتة، وإذا كان صادقا في توبته فإنه يرجى له الخير وليكثر من أفعال البر ونوافل الخير، ويؤيد ذلك مفهوم الخطاب في قوله صلى الله عليه وسلم: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك (1) » فإنه عليه الصلاة والسلام أمر من نام عنها أو نسيها أن يصليها إذا ذكرها، ومفهومه أن العامد ليس كذلك، ولا يصح قياس العامد على النائم والناسي؛ لأن العامد غير معذور، فلم يجعل له وقت آخر يستدرك فيه ما فاته، والنائم والناسي معذوران فيجعل لهما وقت آخر يستدركان فيه ما فاتهما.
__________
(1) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (597) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (684) ، سنن الترمذي الصلاة (178) ، سنن النسائي المواقيت (613) ، سنن أبو داود الصلاة (442) ، سنن ابن ماجه الصلاة (696) ، مسند أحمد بن حنبل (3/269) ، سنن الدارمي الصلاة (1229) .(15/77)
السؤال الثاني: هل يجب قضاء الصلاة على من تركها عمدا ثم تاب؟
الجواب: الصحيح عدم وجوب القضاء على من ترك الصلاة عمدا ثم تاب، وأنه يرجى أن يتقبل الله منه توبته، ويغفر له ما قد مضى من ذنوبه التي تاب فيها توبة صادقة، ويدل على صحة ما ذكر قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (1) الآية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما قبلها (2) » .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 38
(2) صحيح مسلم الإيمان (121) ، مسند أحمد بن حنبل (4/204) .(15/77)
السؤال الثالث: رجل سافر في قطار مسافة 80 كيلو مترا ثم صلى الرباعية قصرا، فسأله بعض الركاب ما دليلك؟ قال: إن الإنسان يصلي حيثما أدركته الصلاة ولو بالتيمم إذا لم يجد الماء، فأنكر عليه بدليلين:
الأول: قال: هذا قطار كفار والماء الذي معهم نجس فلا تجوز الصلاة بناء على هذا.
الثاني: سألني: هل تعرف القبلة؟ قلت: لا، فقال: إذن لا تجوز الصلاة في القطار لعدم معرفتك القبلة بل يركع الإنسان حيث يعرفها، ثم إن توجه به القطار فلا شيء عليه، فما الحكم؟
الجواب: السنة أن يقصر المسافر الصلوات الرباعية فيصليها ركعتين ركعتين، وإن كان المسافر في قطار مثلا ودخل وقت الصلاة وخاف أن يخرج وقتها ولو(15/77)
الوقت الاختياري اجتهد في معرفة القبلة إن كان مثله يمكنه ذلك، وإلا سئل أهل المعرفة بالجهات عنها، ثم يصلي إليها بقدر ما تيسر له، ودعوى أن من لم يعرف القبلة لا تجوز صلاته في القطار دعوى غير صحيحة؛ لمخالفتها لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) وما في معناه من الأحاديث الصحيحة، وإن وجد ماء تطهر به وإن كان ماء كافر، ودعوى أن الماء الذي في قطار الكفار نجس دعوى باطلة؛ لأن الأصل طهارته سواء كان ماء مسلم أم كافر، وإن لم يجد الماء تيمم وصلى في الوقت، وكذا زعمه أن الصلاة في قطار الكفار لا تصح زعم باطل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة التغابن الآية 16(15/78)
فتوى برقم 1686 في 11 \ 11 \ 1397 هـ
السؤال: بعض المساجد والأماكن المعدة لصلاة العيدين والاستسقاء قد أقيمت على مقربة من المقابر بحيث إن المقبرة في قبلة المسجد لا يفصلها عن ذلك إلا بضعة أمتار، والبعض الآخر ملاصق للمقبرة، وبعض الأماكن المعدة لصلاة العيدين والاستسقاء محاطة بحائط يفصلها عن المقبرة، والبعض الآخر بدون حائط يفصلها عن المقبرة فما الحكم؟
الجواب: إذا لم تبن هذه المساجد ولم تعد أماكن صلاة العيدين والاستسقاء قريبا من المقابر من أجل المقابر تكريما لمن قبر فيها أو طلبا لمزيد الثواب والأجر بالصلاة فيها لقربها من المقابر، فبناؤها وإعدادها للصلاة والتقرب إلى الله فيها جائز، والصلاة فيها مشروعة، وعمارتها بها وبسائر القربات التي من شأنها أن(15/78)
تقام فيها مرغوب فيه شرعا، وما أحيط منها بحائط يفصلها عن المساجد فقد كفيتم مؤنته، وما لم يحط منها بسور فيعمل لها سور يفصلها عن المساجد وأماكن صلاة العيد والاستسقاء، وإذا تيسر جعل فراغ جدار المسجد ومصلى العيد والاستسقاء وبين جدار المقابر كان ذلك أحوط، أما إن كانت إقامة المساجد حول المقابر من أجل تعظيم القبور فلا تجوز الصلاة فيها، ويجب هدمها لأن إقامتها على الوجه المذكور من وسائل الشرك بأهل القبور، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها (1) » وصح عنه أيضا أنه قال عليه الصلاة والسلام: «إنه من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (2) » رواهما مسلم في صحيحه، والأحاديث في هذا الباب لا تخفى، وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (972) ، سنن الترمذي الجنائز (1050) ، سنن النسائي القبلة (760) ، سنن أبو داود الجنائز (3229) ، مسند أحمد بن حنبل (4/135) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .(15/79)
فتوى برقم 1694 في 11 \ 11 \ 1397 هـ
السؤال: هل يجوز أن يصلي الفريضة شخص خلف من يصلي التراويح أم لا؟
الجواب: نعم يجوز أن يصلي الفريضة شخص خلف من يصلي التراويح؛ لورود الأدلة الدالة على جواز اقتداء المفترض بالمتنفل، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم، عن جابر رضي الله عنه «أن معاذا كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء الآخر ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة (1) » .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (701) ، صحيح مسلم الصلاة (465) ، سنن الترمذي الجمعة (583) ، سنن النسائي الإمامة (835) ، سنن أبو داود الصلاة (790) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (986) ، مسند أحمد بن حنبل (3/308) ، سنن الدارمي الصلاة (1296) .(15/79)
فتوى برقم 1693 في 11 \ 11 \ 1397 هـ
السؤال: هل تجوز الصلاة خلف العاصي كحالق اللحية مثلا؟ وكيف الحكم إذا لم يجد غيره وخشي فوات الجماعة؟
الجواب: حلق اللحية حرام؛ لما رواه البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «خالفوا المشركين وفروا اللحى واحفوا الشوارب (1) » . ولما رواه مسلم وأحمد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس (2) » . والإصرار على حلقها من الكبائر، فيجب نصح حالقها والإنكار عليه، ويتأكد ذلك إذا كان في مركز قيادي ديني، وعلى هذا فإذا لم ينتصح هذا الإمام وجب عزله إن تيسر ذلك ولم تحدث فتنة، وإلا وجبت الصلاة وراء غيره من أهل الصلاح على من تيسر له ذلك زجرا له وإنكارا عليه إن لم يترتب على ذلك فتنة.
وإن لم تتيسر الصلاة وراء غيره شرعت الصلاة وراءه تحقيقا لمصلحة الجماعة، وإن خيف من الصلاة وراء غيره حدوث فتنة صلي وراءه درءا للفتنة وارتكابا لأخف الضررين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5892) ، صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن النسائي الطهارة (12) ، سنن أبو داود الترجل (4199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/118) .
(2) صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن النسائي الزينة (5224) ، سنن أبو داود الترجل (4199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/16) ، موطأ مالك الجامع (1764) .(15/80)
فتوى برقم 1687 في 11 \ 11 \ 1397 هـ
السؤال: شخص لحق الجماعة في بعض الصلاة، ثم أتى شخص آخر ليصلي(15/80)
ووجد الشخص قد قام لإتمام صلاته، فهل يجوز للشخص الأخير الإتمام والاقتداء بالشخص الأول؟
الجواب: نعم يجوز للشخص الذي جاء متأخرا أن يقتدي بالشخص الذي لحق الجماعة في بعض الصلاة، ثم قام ليتم ما بقي من صلاته بعد سلام الإمام، والأصل في ذلك ما أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه، وابن خزيمة وصححه، وابن حبان والحاكم، «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يصلي وحده فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟ (1) » وبما رواه الجماعة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «بت عند خالتي ميمونة، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل، فقمت أصلي معه، فقمت عن يساره فأخذ برأسي وأقامني عن يمينه (2) » .
وما رواه أحمد ومسلم، عن أنس - رضي الله عنه - قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في رمضان، فجئت فقمت خلفه، وقام رجل فقام إلى جانبي ثم جاء آخر حتى كنا رهطا، فلما أحس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا خلفه تجوز في صلاته، ثم قام فدخل منزله، فصلى صلاة لم يصلها عندنا فلما أصبحنا قلنا: يا رسول الله أفطنت بنا الليلة؟ قال نعم: فذلك الذي حملني على ما صنعت (3) » . وعن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في حجرته وجدار الحجرة قصير، فرأى الناس شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام ناس يصلون بصلاته، فأصبحوا فتحدثوا، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الليلة الثانية، فقام ناس يصلون بصلاته (4) » رواه البخاري. هذه الأدلة وردت في جواز انتقال المنفرد إلى الإمامة في أثناء الصلاة. والأصل عدم الفرق بين الفرض والنفل إلا بدليل يقتضي التخصيص، وكونه مسبوقا لا يمنع اقتداء غيره به فيما بقي عليه؛ ليحصل على فضل الجماعة، في أصح قول العلماء.
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (574) ، مسند أحمد بن حنبل (3/85) ، سنن الدارمي الصلاة (1368) .
(2) صحيح البخاري الأذان (699) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (763) ، سنن الترمذي الصلاة (232) ، سنن النسائي الغسل والتيمم (442) ، سنن أبو داود الصلاة (1357) ، مسند أحمد بن حنبل (1/369) ، موطأ مالك النداء للصلاة (267) ، سنن الدارمي الصلاة (1255) .
(3) صحيح مسلم الصيام (1104) ، مسند أحمد بن حنبل (3/193) .
(4) صحيح البخاري الأذان (729) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (761) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1604) ، سنن أبو داود الصلاة (1373) ، مسند أحمد بن حنبل (6/268) ، موطأ مالك النداء للصلاة (250) .(15/81)
فتوى برقم 1704 في 11 \ 11 \ 1397 هـ
السؤال: هل يمكن للرجل أن يصلي في بيته بدون عذر شرعي؛ علما بأنه يسمع الأذان؟
الجواب: لا يجوز للرجل أن يصلي الصلاة المفروضة في بيته بدون عذر شرعي؛ لأن صلاة الجماعة واجبة على الأعيان، والأدلة من القرآن والسنة على وجوبها في الجماعة كثيرة وظاهرة، ولا إشكال فيها بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن سار على نهجهم فيما نعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(15/82)
فتوى برقم 1456 في 25 \ 11 \ 1397 هـ
السؤال: من كان في عمل رسمي مثل العسكري الذي يحين عليه وقت الصلاة وهو في خفارته كحارس، فهل له إتمام حراسته ومن بعدها يؤدي الصلاة؟ أو يترك حراسته ويؤدي الصلاة. علما بأن تركه الحراسة يترتب عليه عقوبة من رئيسه؟
الجواب: صلاة الجماعة واجبة على الرجال الأحرار القادرين، ولو كانوا مسافرين، وفي شدة خوف؛ لأن صلاة الجماعة وجوب عين؛ لثبوت الأدلة في ذلك، وقد جاءت أدلة دالة على سقوط الجمعة والجماعة لوجود العذر كالمرض وضياع(15/82)
المال وفواته وضرر فيه، وسواء كان هذا للشخص أو مستحفظ عليه ونحو ذلك، والصورة المسئول عنها داخلة في ذلك فللسائل أن يتم حراسته، ومن بعدها يؤدي الصلاة على أن يؤديها في وقتها، فإن خشي فوات الوقت صلاها في وقتها في محل حراسته ولو فردا؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم (2) » متفق عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الحج (1337) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .(15/83)
فتوى برقم 1940 في 24 \ 5 \ 1398 هـ
السؤال: حضر في المسجد جماعة من المسافرين وغير المسافرين وامتلأ المسجد من المسلمين في وقت صلاة العصر، وقال الذين في المسجد: من يصلي بالحاضرين في المسجد فصلى بهم واحد ولما كبر تكبيرة الإحرام وقرأ الفاتحة حضر الإمام الراتب (الرسمي) ، وأخر الإمام وتقدم وصلى بالناس وحصل خلل في الصفوف، فما الحكم؟
الجواب: الأصل أن لا يصلي أحد إماما بالناس في مسجد له إمام راتب إلا بإذنه؛ لأنه بمنزلة صاحب البيت، وهو أحق بالإمامة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن الرجل الرجل في بيته إلا بإذنه (1) » فإن تأخر عن وقته المعتاد حضوره فيه جاز أن يتقدم غيره للصلاة بالناس دفعا للحرج، فإذا حضر الإمام الراتب فله أن يتقدم للإمامة وله أن يصلي مأموما. وعلى هذا فما فعله الإمام في المسألة المذكورة من حقه. والصلاة صحيحة إن شاء الله. وقد «تأخر النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة في السفر؛ ليقصد حاجته فجاء عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - يصلي بالناس، فأراد عبد الرحمن أن يتأخر فأشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه أن يستمر وصلى مأموما وراء
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (673) ، سنن الترمذي الصلاة (235) ، سنن النسائي الإمامة (780) ، سنن أبو داود الصلاة (582) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (980) ، مسند أحمد بن حنبل (4/121) .(15/83)
عبد الرحمن (1) » ، «وتأخر مرة أخرى في المدينة؛ ليصلح بين عمر وابن عوف، ثم جاء وأبو بكر رضي الله عنه يصلي بالناس. فلما أحس أبو بكر تأخر إلى الصف وتقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى بالناس إماما (2) » .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (274) ، سنن النسائي الطهارة (109) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1236) ، مسند أحمد بن حنبل (4/249) .
(2) صحيح البخاري الأذان (684) ، صحيح مسلم الصلاة (421) ، سنن النسائي السهو (1183) ، سنن أبو داود الصلاة (940) ، مسند أحمد بن حنبل (5/336) ، موطأ مالك النداء للصلاة (392) .(15/84)
فتوى برقم 1943 في 24 \ 5 \ 1398 هـ
السؤال الأول: ما حكم إلقاء الخطبة يوم الجمعة بغير العربية؟
الجواب: يلقي الخطيب خطبة صلاة الجمعة بالعربية، ثم يفسرها بلغة الحاضرين إذا كانوا لا يفهمون العربية.
السؤال الثاني: ما حكم الصلاة خلف من يكتب بعض آيات القرآن ويمحوه ثم يعطيه لمن يغتسل به؟
الجواب: تجوز الصلاة خلفه.
السؤال الثالث: ما حكم كتابة بعض الآيات القرآنية لمن يدفع المال لهذا الكاتب هل تصح الصلاة خلفه أم لا؟
يجوز دفع المال لما ذكر، وتصح الصلاة خلف الكاتب الذي يأخذ الأموال.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(15/84)
فتوى برقم 1978 في 20 \ 6 \ 1398 هـ
السؤال: هل تجب صلاة الجمعة على الطلبة الذين يدرسون في الخارج ونحوهم؟ وهل لا بد لإقامة الجمعة من أربعين رجلا أم لا؟
الجواب: من كان مقيما إقامة تمنع قصر الصلاة في السفر فعليه إقامة صلاة الجمعة على الصحيح من أقوال العلماء، ولا يشترط لوجوبها ولا لصحتها أن يكون العدد أربعين رجلا، بل يكفي أن يكونوا ثلاثة فأكثر على الصحيح أيضا من أقوال العلماء؛ لعموم قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين (2) » رواه مسلم.
أما ما مضى من تركهم صلاة الجمعة من قبل لعلمهم أنها لا تجب عليهم إلا إذا كانوا أربعين رجلا فنرجو أن يعفو الله عما سلف.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الجمعة الآية 9
(2) صحيح مسلم الجمعة (865) ، سنن النسائي الجمعة (1370) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (794) ، مسند أحمد بن حنبل (1/239) ، سنن الدارمي الصلاة (1570) .(15/85)
فتوى برقم 1997 في 2 \ 7 \ 1398 هـ
السؤال: هل يجوز لمن يدخل المسجد فيما بين العصر والمغرب أن يصلي تحية المسجد؟
الجواب: الصحيح من قولي العلماء أنه يشرع لمن دخل المسجد أن يصلي(15/85)
ركعتين هما تحية المسجد قبل جلوسه؛ لما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين (1) » رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن. وهكذا القول في سائر ذوات الأسباب من النوافل كتحية المسجد لمن دخل المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب، فلا تكره بالنسبة له ولا تحرم بل يؤمر بصلاتها قبل أن يجلس؛ لما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليصل ركعتين، وليتجوز فيهما (2) » رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
وأما ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس (3) » فمحمول على المنع من صلاة النفل المطلق في هذين الوقتين، وبذلك يجمع بين الأدلة.
ومعنى كون تحية المسجد من ذوات الأسباب أنها طلبت من الإنسان من أجل دخوله المسجد، كما طلبت صلاة الكسوف من أجل كسوف الشمس، ولو لم يحصل هذا السبب أو نحوه ما أمر بها بل لا يجوز له أن يصلي صلاة الكسوف دون حصول الكسوف، ولا يجوز لمن كان جالسا في المسجد أن يصلي نفلا بعد العصر أو أثناء خطبة الجمعة ولا في أي وقت من أوقات النهي عن الصلاة إلا إذا كان هناك سبب اقتضى ذلك كما تقدم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1167) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (714) ، سنن الترمذي الصلاة (316) ، سنن النسائي المساجد (730) ، سنن أبو داود الصلاة (467) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1013) ، مسند أحمد بن حنبل (5/311) ، سنن الدارمي الصلاة (1393) .
(2) سنن الترمذي الجمعة (511) ، سنن الدارمي الصلاة (1553) .
(3) صحيح البخاري الحج (1864) ، سنن النسائي المواقيت (567) .(15/86)
فتوى برقم 2027 في 16 \ 7 \ 1398 هـ
السؤال: إذا حصل في الصلاة سهو وقام الإمام إلى الركعة الخامسة ماذا(15/86)
يفعل المأموم؟ هل يتابع الإمام أم يجلس وهو متأكد أنها الركعة الخامسة ونبه الإمام واستمر على قيامه؟
الجواب: إذا قام الإمام في الصلاة الرباعية إلى الخامسة ونبه واستمر وجب على كل من علم خطأه مفارقته ويسلم لنفسه أو ينتظر ويسلم معه، وقد سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - رحمه الله - عن هذه المسألة فقال: لا ينبغي لهم أن يتابعوه بل ينتظرونه حتى يسلم بهم، أو يسلموا قبله والانتظار أحسن. اهـ.
لكن من تابعه جاهلا بالحكم الشرعي فصلاته صحيحة كمن تابعه جاهلا بأنها زائدة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(15/87)
أطوار الاجتهاد الفقهي
للدكتور \ عبد الله الزايد
- توطئة -
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ومن نزغات الشياطين، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد، فإنه لمن دواعي رغبتي في الكتابة أن أتقدم ببحثي هذا إلى مجلة البحوث الإسلامية التي تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، فلها قيمتها العلمية الخاصة بين طلاب العلم ومحبي المعرفة ورواد البحث، أو أنه يجب أن تكون لها هذه المنزلة لديهم، وأرجو أن يكون هذا البحث مما يجدر أن تضمه هذا المجلة الرائدة.
وقد اشتمل البحث على أطوار الاجتهاد من عهد الصحابة - رضوان الله عليهم - إلى ما بعد عهود التابعين - رحمهم الله - وقد راعيت فيه أن يكون متمشيا مع كل الأطوار التي استدعت ما يناسبها من الاجتهاد وقد حاولت أن يستنتج القارئ بنفسه في كثير من فصول البحث الفرق بين أطوار الاجتهاد، وقد حاولت أن يستنتج القارئ بنفسه في كثير من فصول البحث الفرق بين أطوار الاجتهاد، وسيجد ذلك واضحا في الفرق بين اجتهاد الصحابة رضوان الله عليهم، وبين اجتهاد من جاء بعدهم، وهكذا الفرق بين اجتهاد التابعين وبين اجتهادات غيرهم.
وإلى جانب ذلك سيجد القارئ الكريم تراجم للأعلام الذين جاء ذكرهم في البحث أو أكثرهم.
وأرجو أن يمن الله بفرصة أستطيع أن أواصل فيها البحث عن أهم أبواب الأصول، وأكثرها صلة بحياة الناس وإفادة الباحثين وطلاب المعرفة، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه في البدء وفي الانتهاء وسلم.(15/88)
الطور الأول من أطوار الاجتهاد في:
عهد الخلفاء الراشدين:
إن مما لا جدال فيه أن مصدر التشريع في عصر النبوة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان موئل الاستفتاء والاستقصاء، فلما لحق بربه - عز وجل - وانقطع الوحي بذلك انقلبت قيادة الأمة في أمور الدنيا والدين إلى خلفائه الراشدين، وكبار الصحابة فاضطلعوا بهذه المهمة، ونهضوا بأعبائها على خير وجه، كيف لا وقد استفادوا من صحبته - صلى الله عليه وسلم - وعلوا بعد أن نهلوا من مجالستهم إياه سفرا وحضرا، سلما وحربا ما أكسبهم الذوق التشريعي السليم حين تعرض عليهم الحوادث، فيزنونها بميزان الشرع، ولهذا كان حكمهم أصح من أحكام غيرهم، ذلك بالإضافة إلى ما قد رباهم النبي - صلى الله عليه وسلم - تربية تشريعية محكمة يشاهدونه وهو يجتهد في حادثة؛ لأنها تشتمل على وصف كذا، ويرون تطبيقه لأحكام القرآن في غير ما حادثة، والقرآن قد ينزل على سبب فيطبق على سببه وعلى غيره، كل ذلك أكسبهم هذا الذوق وصدق التقدير الشرعي فيما لم ينص على حكمه.
ولقد دفعتهم سرعة الأحداث ومجريات الأمور إلى ولوج باب الاجتهاد والتصدي للفتوى ببصيرتهم النافذة، فلم تمض لحظات على وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى خطب أبو بكر في الناس يفتيهم في أمرهم، ويوضح لهم ما ينبغي أن تكون عليه الحال بعد أن اختلفت وجهات القوم وكاد يتفاقم الأمر فيما بين المسلمين فكان لكلامه بين الناس الواقع الجميل. وللفتاته على النفس برد وسلام ردهم إليه به من هويات كادت(15/89)
تعصف بالأمة في أودية من الخلاف، الذي ما إن ينشب بمخلب واحد حتى يمزق الأمة، كما حصل في عهود الخلاف والتفرق.
أولم يكن الصديق رضي الله عنه صاحب الموقف الأول ذلك الموقف الإيجابي البديع حين ترامى إلى مسامع الناس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بكت على وفاته السماء والأرض، وقال قائلهم: إنه لم يمت. وهدد آخر بقوله: من قال إن محمدا مات فلأفعلن به ولأفعلن. فقال الصديق رضي الله عنه: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. وتلا قوله تعالى رضي الله عنه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (1) .
وما إن استقر أمر الخلافة حتى واجهتهم المهمة الشاقة باتساع الفتوحات، وامتداد نفوذ المسلمين إلى ما وراء الجزيرة إلى مصر والشام وفارس والعراق حتى دخل الناس في دين الله أفواجا، وانضوت أمم وشعوب مختلفة تحت راية الإسلام، ولا بد أن لهذه الشعوب من العادات والأعراف والنظم الاجتماعية والاقتصادية وسائر أمور تعاملهم في الحياة ما هو غريب على عهد المسلمين الذين فتح الله على أيديهم هذه الأمصار والأقاليم.
فتطلب الأمر من المجتهدين البحث عن أحكام شرعية لتلك الأمور حتى يقام منهج الله، وغني عن القول أنه لم ينص على أشخاص الحوادث لا في الكتاب العزيز ولا في السنة المطهرة، فكان لزاما عليهم
__________
(1) سورة آل عمران الآية 144(15/90)
أن يجتهدوا في تطبيق القواعد الكلية المقررة لنص من الكتاب والسنة على أشخاص هذه الحوادث الطارئة عليهم، فبذلوا قصارى جهدهم ووقفوا نشاطهم على استنباط أحكام ما جد من مسائل دون أن يتجاوزوها إلى الافتراضيات.
وكان اجتهاد الصحابة - رضي الله عنهم - بمعناه الواسع، فقد نظروا في دلالة النصوص، وقاسوا واستحسنوا إلى غير ذلك من العمل بالأمارات وقرائن الأحوال، إلا أنهم كانوا يطلقون كلمة الرأي على ما يراه القلب بعد فكر وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب فيما تتعارض فيه الأمارات.
وإذ هم يستعملون الرأي بمعناه الواسع لم يكونوا ليطلقوا على أضرب الاجتهاد مصطلحاته الأصولية التي عرفت فيما بعد، كالاستحسان والمصالح المرسلة، والقياس بأنواعه، وقاعدة سد الذرائع، وعموم البلوى ونحو ذلك.
وقد كان الاجتهاد في هذا العصر- كما أشرنا- مقصورا على استنباط الأحكام لما هو واقع، دون أن يلجئوا إلى الافتراضات، فلم يكونوا يفترضون مسائل لم تقع ثم يبحثون عن حكمها، كما سيأتي فيمن بعدهم.
وقد روي عن بعض الصحابة نهي الناس عن الخوض فيما لم يقع، ومن ذلك ما روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، أنه كان إذا استفتي في(15/91)
مسألة سأل عنها، فإن قيل له: وقعت. أفتى فيها، وإن قيل له: لم تقع. قال: دعوها حتى تكون. ويروى مثل ذلك عن عمر رضي الله عنه (1)
__________
(1) ارجع إلى إعلام الموقعين إن شئت 1 \ 69 وما بعدها، ونشأة الفقه لمحمد السايس ص24.(15/92)
ب- أسباب ترك الصحابة الافتراض في الأحكام:
لم يترك الصحابة رضي الله عنهم افتراض المسائل وتقدير أحكامها لأنهم منصرفون عن ذلك بجهاد أو غيره. إذ العلم من الجهاد بل من أعظم الجهاد، وإذا دعت الحاجة إليه فلا ينبغي أن يشغل عنه شاغل، ولكن حقيقة تركهم تعود إلى أمرين هامين:
أحدهما:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يسلك هذا المسلك، وهو المدرسة المعصومة التي تخرج فيها هؤلاء الصفوة.
ولو سلك التشريع هذا المسلك- أعني الافتراض- لنتج عنه محذورات ثلاثة:
المحذور الأول:
أن هذا خلاف كون الشريعة جاءت أحكامها عامة كلية في غير ما تناولته وقت الوحي أو المسائل التي لا يجوز فيها الاجتهاد. وقد تقرر أن الشريعة جاءت أحكامها كلية وعامة، بل حتى ما نزل به الوحي مفصلا في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأوامر والنواهي يعتبر كليا بالنسبة لما بعد التشريع حين نزوله.
المحذور الثاني:
لو سلك التشريع هذا المسلك لكانت الشريعة غير ما قص الله علينا من أنه ما جعل علينا في الدين من حرج، ووجه الحرج هاهنا أن الصور لا نهاية لها إلا بقيام الساعة، وهذا أمر مستحيل عادة أن يتحمله جيل لكل الأجيال إلى ذلك الحين، ولكن الله عز وجل تكرم ولطف بأن جعل الشريعة يسرا لا حرج فيها، كما شرع تعالى لا تبديل لشرعه كما لا تبديل لخلقه.(15/92)
المحذور الثالث:
لو سلك التشريع مسلك الافتراض لأدى بكثير من العقول إلى الفتنة التي جاءت الشريعة منقذة منها، والفتنة والكفر أو الحيرة التي أنقذ الله منها بهداه من شاء من عباده، وإنما الحيرة من دعوة الشيطان يستهوي بها إلى الضلال بعضا من الغاوين.
ووجه ذلك أن كثيرا من الأمور التي تتناولها قواعد الشريعة الكلية وعموم أحكامها، لو ذكرت تفاصيلها للأجيال الأولى لأدت إلى ما قلنا، مع أنه لا حاجة إليهم بذكر التفاصيل ويكفي من بعدهم وضع التقعيد العام الذي ينتظم حكم ما سيجد بينهم، ولنضرب لذلك مثلا في الركوب وحمل الأثقال والمتاع والزينة، فإنه قد جد لهذه المرافق من أمور الناس من الطائرات السابحة في أجواء الفضاء على اختلاف أنواعها، ومن السفن الماخرة في عباب المحيطات كذلك، سواء منها ما يجري على متون البحار، أو يسير في قيعانها، ومن وسائط النقل البري المختلفة من حاملة ضخمة إلى (سيارة) لا تحمل إلا شخصين أو ثلاثة وتلك أمور تستدعي أحكاما متعددة:
1 - من جهة حل ركوبها واستعمالها وقد جاء قوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} (1) {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} (2) {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (3) {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (4) .
فجملة: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (5) تنتظم جميع هذه الوسائل وغيرها مما هو في علمه تبارك وتعالى.
2 - ومن جهة الأحكام المتعلقة بالسفر والترخص بقصر الصلاة الرباعية والفطر في رمضان، فقد جاءت أحكام ذلك صالحة لكل سفر سواء ما كان معروفا في زمن الوحي أو في زمننا هذا، إذ لم تحدد بمسافة بل جيء بما يصلح
__________
(1) سورة النحل الآية 5
(2) سورة النحل الآية 6
(3) سورة النحل الآية 7
(4) سورة النحل الآية 8
(5) سورة النحل الآية 8(15/93)
لكل زمان من إطلاق اسم السفر دون إشارة إلى ذكر آلات السفر.
فلو ذكرت هذه على وجه التفاصيل لعاش كثير من الناس في صراع مع الحيرة داخل أعماق نفوسهم إذ العقل لا قبل له بتسليم هذه الأشياء إلا في عالم الذهنيات إلا أن يكون قد بلغ في الإيمان مبلغ أبي بكر وعمر ونحوهما. ولأدت هذه الحيرة إلى اهتزاز الإيمان في النفس والبعد كثيرا عن الإيمان بالله ورسوله بعد أن دخلوا فيه دون أن يكون ثم داع إلى إقحام العقول في مثل هذه الورطة، وإنك لترى التشريع ينحو هذا النحو حتى عند تطلع الصحابة إلى معرفة بعض أمور لا حاجة إليها سوى المعرفة بحقيقتها، ومن ذلك ما قيل في سبب نزول قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (1) .
فقد ذكر القرطبي في تفسيره أن معاذا رضي الله عنه قال:
__________
(1) سورة البقرة الآية 189(15/94)
يا رسول الله، إن اليهود تغشانا ويكثرون مسألتنا عن الأهلة؟ فما بال الهلال يبدو دقيقا، ثم يزيد حتى يستوي ويستدير، ثم ينتقص حتى يعود كما كان؟ فأنزل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} (1) الآية.
وقيل: إن سبب نزولها سؤال قوم من المسلمين النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الهلال وما سبب محاقه (2) وكماله ومخالفته لحال الشمس قاله ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم (3) .
وقال العوفي: عن ابن عباس، سأل الناس رسول صلى الله عليه وسلم عن الأهلة، فنزلت هذه الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} (4) يعلمون بها حل دينهم وعدة نسائهم ووقت حجهم (5) .
فإن الحاجة داعية إلى معرفة ما أجيبوا به لا ما سألوا عنه.
ولقد كان من طبع اليهود كثرة المسائل التي تورث الاختلاف منهم على أنبيائهم، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحابة عن ذلك بقوله عليه السلام «إنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم (6) » فاليهود في هذه الأمة - عليهم لعنة الله - أرادوا أن يشغلوا المسلمين بما ارتكسوا فيه من الشغب والتفرق عن الحق والمعاندة للرسل، فحمى الله صدر هذه الأمة؛ لأنه المثال الخير لكل القرون بعده. وكان من تلك الحماية هذا المسلك الرائد إلى الهدى على يد معلم الهدى صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سورة البقرة الآية 189
(2) المحاق يقال بكسر الميم وفتحها وضمها وهو استرار القمر ليلتين فلا يرى غدوة ولا عشية.
(3) الجامع لأحكام القرآن 2 \ 341.
(4) سورة البقرة الآية 189
(5) تفسير ابن كثير 1 \ 225.
(6) رواه مسلم في كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر ص 412 ط عبد الباقي، ورواه غيره.(15/95)
حتى لا تضل القرون وتهلك الأمة في متاهات الحيرة والتشكك.
وقد جنت الأمة بعد الجيل الأول من ثمار هذه التربية خيرا كثيرا بما هيئ لهم من فرض الاجتهاد وترك تنزيل الأحكام على الحوادث رهنا باجتهاد ذوي الاجتهاد في كل بلد بما يناسب الحال في إطار الشريعة الإسلامية السمحة فيما لا نص فيه من كتاب أو سنة.
الأمر الثاني من الأمرين الهامين:
أن الصحابة تركوا افتراض المسائل وتقدير أحكامها فيما لم يقع بينهم، إدراكا منهم لما يأتي:
1 - أن الأمة لا يزال فيها من يفتيها في أمور دينها قياما بأمر الله الذي وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بأن هذه الأمة لا يزال فيها من يقوم به حتى تقوم الساعة.
2 - أن الاجتهاد ليس حكرا عليهم دون الأجيال.
وخوفا من الوقوع في المأثم المترتب على الخطأ في الرأي الذي يقررونه لجيل غير جيلهم، وكأنه حكم معصوم بالوحي، والحكم المعصوم بالوحي انتهى بما تقرر بالنص في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مما أراد تعالى أن تكون الأمة عليه في أمر معاشها ومعادها. وليس من حق أحد بعده أن يقرر هذا التقرير.
ولقد رأينا سلامة هذا المسلك من الصحابة - رضي الله عنهم - بعد أن اشتغل الفقهاء بتلك الأمور من الفرضيات التي كان كثير منها أقرب إلى اللهو ومضعية الوقت منه إلى الجد والمحافظة على الأوقات، مع ما أثارت من تبلد في أذهان الذين ورثوا هذه الكتب المشحونة بها إلى أن وصل الفقه بين المسلمين إلى حد ليس بعده إلا الموت، وقل في الأمة من يقال عنه إنه مجتهد مطلق أو قريب منه منذ قرون.
وفي وقتنا الحاضر لا أعلم من يطلق عليه هذا اللقب مع شديد الأسف، وإنما يوجد أفراد جد قلائل يمكن أن يطلق على بعضهم مجتهد مذهب.
فرضي الله عن صحابة محمد صلى الله عليه وسلم الذين اختارهم لحمل الأمانة إلى الأجيال، فسلموها إليها صافية المنهل طيبة المجتنى.(15/96)
جـ - طريقة الصحابة رضي الله عنهم في استنباط الأحكام:
كان للصحابة رضي الله عنهم، وبخاصة في عهد الخلفاء الراشدين الأربعة مجالات ثلاثة يسلكونها للوصول إلى حكم الوقائع بشريعة الله - عز وجل - وتلك هي:
1 - أخذ الحكم الشرعي من ظاهر النص، أي: تطبيق النصوص على الحوادث المندرجة تحتها، ويدخل في هذا المسلك إجماع الصحابة على الحكم، كما كان معروفا في عهد أبي بكر وعمر (فإنه عندما يعييهما) أن يجدا نصا لحكم الواقعة في القرآن أو السنة يلجئان إلى جمع رءوس الناس وخيارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضيا به، إلا أن عمر كان ينظر قبل تلك الخطوة في المأثور عن أبي بكر.
2 - القياس على الأشباه والنظائر، وهو أمر دربهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه باجتهاده، كما في قصة «المرأة التي سألته عن الحج عن أمها وقد ماتت (1) » .
أ- كتاب عمر بن الخطاب إلى قاضيه باليمن أبي موسى: " اعرف الأشباه والنظائر، ثم قس الأمور عند ذلك " الخ.
ب - ما روي من قضائهم في الجد والإخوة في الميراث، وتشبيههم إياها بالجدولين من النهر أو بالغصنين من الشجرة.
جـ - ما ذكر من قياسهم الشارب على القاذف من أجل إقرار الحد ثمانين جلدة إلى غير ذلك مما أثر عنهم، رضي الله عنهم.
3 - استنباطهم الحكم مراعين فيه مقاصد الشريعة وقواعدها الكلية، التي منها قاعدة سد الذرائع ونحوها.
ويمثل لذلك بما جرى بين أمير المؤمنين عمر وبين حذيفة بن اليمان رضي الله عنهم، وقد تزوج حذيفة بكتابية بالمدائن فكتب إليه
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7315) ، سنن النسائي مناسك الحج (2633) ، مسند أحمد بن حنبل (1/279) .(15/97)
عمر: أن خل سبيلها؛ فإني أخاف أن يقتدي بك المسلمون فيختاروا نساء أهل الذمة لجمالهن، وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين.
هذا هو أسلوبهم فيما كان يعرض عليهم من قضايا، وبه أوصوا قضاتهم الذين كانوا يبعثونهم إلى المدن والأمصار وذلك بعد أن فصلت مهمة القضاء من الولاية العامة في عهد الفاروق، وحين كثرت الأعمال في عهده، فقد أثر عنه رضي الله عنه أنه لما ولى شريحا الكندي قضاء الكوفة قال له:
اقض بما استبان لك من قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أحله إن لم تجد ذلك على قضاء الأئمة المجتهدين بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم على الاجتهاد.
ومع استعمالهم رضي الله عنهم للرأي لم يجرؤ أحد منهم أن يجزم بأن ما وصل إليه هو حكم الله، وأنه الحق والصواب وأن ما عداه هو الخطأ، بل كان هديهم في هذا كما قال أبو بكر رضي الله عنه:
" أقول فيها برأيي، فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني " الخ (1) .
ولما سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن المفوضة التي ماتت قبل أن يدخل بها زوجها، قال: أقول فيها برأيي: "لها مهر المثل لا وكس ولا شطط، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان (2)
__________
(1) تلخيص الحبير 3 \ 89.
(2) نشأة الفقه لمحمد السايس 24 وإعلام الموقعين 1 \ 63.(15/98)
د- سبب اختلاف فقهاء الصحابة في بعض الأحكام:
في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لا مجال للاختلاف في الأحكام بإطلاق، وذلك نظرا إلى وحدة التشريع وتركيز الفتوى والقضاء في شخص النبي - صلى الله عليه وسلم - أما في عصر الصحابة فقد تغيرت الحال: فأصبحت الأحكام طائفتين:
طائفة: هي محل وفاق بينهم، وطائفة اختلفوا فيها باختلاف وجهات أنظارهم في القاعدة التي تحكم الحادثة المعروضة أو الواقعة.
ولكن مهما كان الاختلاف موجودا في عهد الصحابة؛ فإنه أضيق دائرة من اختلاف من جاء بعدهم وكانت أسباب اختلافهم ترجع إلى أمور أهمها ما يلي:
1 - الاختلاف في فهم القرآن:
فقد يكون اللفظ الوارد فيه مشتركا بين معنيين، فيحمله أحدهم على أحد المعنيين، ويحمله الآخر على المعنى الثاني لقرينة تظهر له، فقد اختلفوا في تفسير لفظ القرء الوارد في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (1) . لأن القرء في اللغة يطلق على الحيضة والطهر.
وقد ذهب ابن مسعود - رضي الله عنه - إلى أن عدة المطلقة لا تنتهي إلا باغتسالها من الحيضة الثالثة؛ لأنه يرى أن القرء هو الحيضة، وهو رأي عمر أيضا، ولكن زيد بن ثابت يرى أن القرء هو الطهر، ولهذا ذهب إلى أن العدة تنتهي متى دخلت المطلقة في الحيضة الثالثة دون أن تنتظر حتى تطهر منها (2) .
وأحيانا يكون الخلاف راجعا إلى حمل اللفظ الوارد في القرآن على الاشتراك المعنوي، كما في مسألة الجد والإخوة؛ فإن من حجب الإخوة به رأى أن معنى الأبوة متحققة فيه كما قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} (3) وهو الجد
__________
(1) سورة البقرة الآية 228
(2) الشريعة الإسلامية لبدران أبي العينين ص59.
(3) سورة الأعراف الآية 26(15/99)
الأول للبشرية جمعاء. وكما في قوله عز وجل عن يوسف: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} (1) .
ومنهم من رأى عدم الاشتراك بتسميته جدا، ونظر إلى معنى آخر وهو اشتراك الجد والإخوة في قربهم من الميت باستواء.
وأحيانا يكون الاختلاف راجعا إلى تعارض نصين عامين في القرآن، فقد ذهب عمر وابن مسعود إلى أن الحامل المتوفى عنها زوجها تكون عدتها وضع الحمل، وذهب علي وابن عباس إلى أنها تعتد بأبعد الأجلين (وضع الحمل أو عدة الوفاة) . وسبب الخلاف أن قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (2) يدل على أن عدة الحامل وضع الحمل.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} (3) . يفيد أن عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام من غير تفصيل بين الحامل وغيرها، فذهب علي وابن عباس إلى العمل بالآيتين معا، فتكون كل آية منهما مخصصة لعموم الأخرى، وذهب عمر وابن مسعود إلى أن آية: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} (4) خاصة بغير الحامل؛ لتأخير آية: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} (5)
والصواب ما ذهب إليه عمر وابن مسعود بلا شك؛ لحديث سبيعة بنت الحارث الأسلمية، «فقد توفي عنها زوجها سعد بن خولة - رضي الله عنه - في حجة الوداع، وهي حامل فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت من نفاسها (أي: طهرت من نفاسها) تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك (رجل من بني عبد الدار) فقال لها: ما لي أراك متجملة؟ لعلك ترجين النكاح؟ إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشرة. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله
__________
(1) سورة يوسف الآية 38
(2) سورة الطلاق الآية 4
(3) سورة البقرة الآية 234
(4) سورة البقرة الآية 234
(5) سورة الطلاق الآية 4(15/100)
صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزوج إن بدا لي (1) » .
2 - الاختلاف في أمور تتصل بالسنة:
إن من الصحابة المقل ومنهم المكثر في محفوظه من السنة المطهرة، فقد كان فيهم الملازم للنبي صلى الله عليه وسلم لا يشغله شاغل عنها، ومنهم من شغله الصفق في الأسواق طلبا للرزق الذي أباحه الله - عز وجل - وآخرون يقاتلون في سبيل الله، في السرايا التي كان ينظمها النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك ولتعليم الناس دين الله عز وجل، ولجباية الزكوات، ولا ريب أن ذلك سيكون له أثر في الأحكام التي يفتي بها كل من هؤلاء وهؤلاء، ولهذا كان بعض الصحابة إذا أفتى برأيه واستبانت له السنة رجع عنه. ومن ذلك: ما روي أن أبا موسى الأشعري. رضي الله عنه أفتى برأيه في ميراث بنت الابن مع البنت والأخت فقسم المال بين البنت والأخت نصفين ولم يفرض لبنت الابن شيئا. وقال للسائل: وائت ابن مسعود فسيتابعني. فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى به النبي - صلى الله عليه وسلم - للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت، فأتيا أبا موسى فأخبراه بقول ابن مسعود، فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم.
__________
(1) خرجه البخاري 9 \ 469 بشرح فتح الباري 3 \ 704 -705 والسياق لمسلم. بشرح النووي.(15/101)
3 - الاختلاف في الرأي:
علمنا من طريقتهم في الاستنباط أنهم رضي الله عنهم إنما يلجئون إلى العمل بالرأي إذا لم يجدوا نصا من كتاب أو سنة، ومما لا شك فيه أن الرأي يختلف باختلاف الناظرين؛ وفتاوى الصحابة رضي الله عنهم التي اختلفت وجهات نظرهم فيها إنما مردها إلى اختلاف منازعهم في المأخذ، ولكل وجهة هو موليها.
ومع أنه قد حصل شيء من الاختلاف فيما بينهم من جهة الرأي فقد كان شيئا قليلا بالنسبة لمن بعدهم ويرجع ذلك إلى الأمور الآتية:
1 - تيسر الإجماع في هذا الدور؛ لأن المفتين من الصحابة، وكبارهم كانوا مجتمعين في المدينة عاصمة الخلافة آنذاك، وقد ساعد على ذلك أن عمر كان ينهاهم عن الخروج من المدينة إلا بإذنه وعند الحاجة الشديدة.
2 - تمسكهم بمبدأ الشورى، وهو من الأمور التي لا يجد الخلاف معها سبيلا في الغالب.
3 - قلة روايتهم لأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خوف الوقوع في الكذب، ولهذا كانوا يتشددون في قبولهم، فأبو بكر وعمر كانا يطلبان شاهدا خلاف الراوي (أحيانا) ، وروي عن علي قوله: " كنت إذا سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه محدث استحلفته فإن حلف لي صدقته ".
4 - قلة الحوادث في عصرهم، وتورعهم عن الفتيا، فقد كانوا يميلون على بعضهم، يقول ابن القيم: وكان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتيا، ويود كل واحد منهم أن يكيفه إياها غيره، فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل جهده في معرفة حكمها من الكتاب أو السنة أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى (1) .
__________
(1) الشريعة الإسلامية لبدران أبي العينين 61- 62 وارجع إلى كلام ابن القيم في إعلام الموقعين 1 \ 33.(15/102)
هـ- خلاصة ما تقدم:
ويتلخص لنا مما سلف:
1 - واقعية التشريع وارتباطه بالحوادث التي تقع وعدم افتراض وقوع حوادث، ثم تقدير أحكام لها، وذلك للأسباب التي ذكرناها.
2 - قلة المسائل الخلافية؛ لما منحهم الله من الذوق السليم لفهم الشريعة التي شاهدوا مبلغها صلى الله عليه وسلم، وتلقوا تربيتهم على يديه، وواكبوا أسباب التنزيل إلى جانب ما أسلفنا بيانه.
3 - تفاوتهم في استعمال الرأي، فقد كان من بينهم من يتحرج من الخوض فيه إلا في حالات نادرة، ومنهم من يتوسع فيه إذا لم يجد نصا وينسب الخطأ إلى نفسه، فالأولون كعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت والآخرون كعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم جميعا. وقد كان هذا الأمر مقدمة لبروز مدرستي الحديث والرأي فيما بعد.(15/103)
4 - عدم تدوين الفقه بالمعنى الذي صار إليه في عهد من بعدهم حين بدأ تدوين العلوم الإسلامية، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وإنما هي فتاوى وأحكام محفوظة في الصدور تتناقل عنهم (1) اللهم إلا ما كان من كتابات الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض عماله، ككتابه إلى عمرو بن حزم ببيان أنصبة الزكوات، «وأن لا يمس المصحف إلا طاهر (2) » وما أشبه ذلك مما هو مدون في هذا الكتاب وقد طعن فيه المحققون من أهل الحديث بعدة علل، ومهما يكن من أمر فإن العلماء يسيرون على مضمون هذا الكتاب، مما يشهد لصحته معنى وإن لم يثبت سندا.
ومن ذلك كتابة عمر إلى بعض قضاته، ككتابته إلى شريح القاضي وإلى أبي موسى.
كما أن بعض الصحابة كعبد الله بن عمرو كان يكتب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديثه التي يسمعها منه. ولهذا كان من أكثر الصحابة حظا في تجارة الحديث.
5 - حدوث اجتهادات قائمة على المصلحة، ولم تكن هذه الأحكام على ما عهد عليه الحال في عهد النبوة ومن ذلك:
1 - أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى ألا تعطى المؤلفة قلوبهم من سهمهم من الزكاة.
__________
(1) الشريعة الإسلامية ص62- 63.
(2) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .(15/104)
ومبنى هذا الرأي؛ أن الله عز وجل أعز الإسلام وأهله ومكن له في البلاد، وأذل لهم رقاب العباد (1) فقد نظر عمر رضي الله عنه إلى الباعث على الحكم فقرر أنه مؤقت بوصف متى زال ما بنى عليه وهذا الوصف ضعف المسلمين وقوة عدوهم وقد أعزهم الله ومكن لهم في الأرض فليس هناك حاجة إلى الإبقاء على هذا السهم.
وقال آخرون: بل هو باق ونظروا إلى أمرين:
الأول: أن النص القرآني الكريم واضح في هذا، وهو لم ينسخه شيء مع أنه لم يقترن بعلة تدل على وضوح العلة التي أشير لها تبريرا للرأي الأول و (أل) في المؤلفة قلوبهم تؤكد بقاء هذا السهم ما وجد سبب للتألف على الإسلام، وهو رجاء إسلام الكافر بدفعه إليه، أو كف شره، أو نحو ذلك، مما ذكر من دواعي التأليف في كتب الفقه. الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تألف على الإسلام بعد فتح مكة وكسر هوازن في وقت قد أعز الله الإسلام وأهله ومكن لهم في البلاد وبين العباد (2) .
وهذا ما عليه الجمهور.
2 - ما صح عن عمر رضي الله عنه: أنه جعل الطلاق ثلاثا بلفظ واحد ثلاث طلقات، تبين به الزوجة بينونة كبرى، ولا تحل لمطلقها كذلك حتى تنكح زوجا غيره في نكاح صحيح.
وقال مبينا مبنى رأيه: أن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم عقوبة لهم على تسرعهم في الطلاق إلى أبغض حلال إلى الله.
فقد روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما:
__________
(1) تفسير ابن كثير 2 \ 365.
(2) تفسير ابن كثير 2 \ 365.(15/105)
«كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر رضي الله عنه طلاق الثلاث واحدة. فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم (1) » .
وعمر رضي الله عنه لم يخف عليه أن السنة ما كان إلى السنتين الأولين من خلافته، وأنها توسعة من الله تعالى لعباده إذ جعل الطلاق مرة بعد مرة، وما كان مرة لم يملك المكلف إيقاع مرات كلها جملة واحدة كاللعان؛ فإنه لو قال: أشهد بالله أربع مرات أني لمن الصادقين كان مرة واحدة ولو حلف في القسامة وقال: " أقسم بالله خمسين يمينا أن هذا قاتل " كان ذلك يمينا واحدا.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال في يومه: سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر (2) » .
فلو قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يحصل له هذا الثواب حتى يقولها مرة بعد مرة. فهذه النصوص وغيرها مما في معناها مما دل على اعتبار إيقاع المعدود بعدد مرة بعد مرة، هو الذي يدل عليه المعقول من اللغة والعرف.
وقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (3) بابها وتلك النصوص واحد ومشكاتها واحدة.
ومما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما مما كان أمر الطلاق في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم، ولم يأتي بعده إجماع يبطله.
ولكن رأى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: أن الناس قد استهانوا بأمر
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 2 \ 668.
(2) رواه البخاري في كتاب الدعوات باب فضل التسبيح ص206 البخاري بشرح فتح الباري ج 11 ورواه مسلم في كتاب الذكر.
(3) سورة البقرة الآية 229(15/106)
الطلاق وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم؛ ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة، وحرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، نكاح رغبة يراد للدوام لا نكاح تحليل؛ فإنه كان أشد الناس فيه، فإذا علموا ذلك كفوا عن الطلاق المحرم، فرأى عمر رضي الله عنه أن هذا مصلحة لهم في زمانه، ورأى أن ما كانوا عليه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد الصديق وصدرا من خلافته كان الأليق بهم؛ لأنهم لم يتتابعوا فيه، وكانوا يتقون الله في الطلاق، وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجا، فلما تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله، وطلقوا على غير ما شرعه الله ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم.
6 - أن مصادر التشريع في هذه الفترة هي:
الكتاب. 2- السنة. 3- الإجماع. 4- الرأي بمعناه الأعم.
هذا هو ما أردت أن أتطرق إليه من أهم عوامل تطور أصول الفقه في هذا الدور. والله المستعان.(15/107)
الطور الثاني:
عصر الأمويين - أو عصر صغار الصحابة رضي الله عنهم
أ- في هذا الدور الأول الذي يبدأ من ولاية معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - سنة 41 هـ إلى الوقت الذي عرضت فيه بوادر الضعف في الدولة الأموية وذلك في أوائل القرن الثاني الهجري، في هذا الدور سار الاجتهاد على نحو ما سبق في عصر الراشدين من حيث اعتماده على الكتاب والسنة، ثم الإجماع ثم الرأي إلا أنه قد جدت أحداث سياسية وأخرى غير سياسية كان لها أثر ظاهر في الحركة الاجتهادية.
فعلى الرغم من أن العام الحادي والأربعين يسمى بعام الجماعة إذ إن كلمة المسلمين قد اجتمعت على خلافة معاوية بعد تنازل الحسن بن علي - رضي الله عنهما - له عن الخلافة حقنا للدماء وجمعا لشتات المسلمين، وحذرا من تفرق جمعهم إلا أن ذلك لم يمنع من وجود طوائف تضمر الكيد والخلاف لمعاوية كالخوارج والشيعة، فكان المسلمون بسبب هذا الخلاف ثلاث طوائف
1 - خوارج. 2- شيعة. 3- وجمهور.
أما الخوارج: فهم الذين انشقوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حين رضي بالتحكيم بينه وبين معاوية بحجة أنه جعل الحكم إلى الرجال ولا حكم إلا لله.(15/108)
وقد تعددت فرق الخوارج حتى أحصاها بعضهم نحوا من عشرين إلا أن أشهرها خمس فرق:
1 - الأزارقة: أتباع نافع بن الأزرق، ومذهب هذه الفرقة يقوم على تكفير المسلمين ما عداهم.
2 - الصفرية: أتباع زياد بن الأصفر، وهي أشبه بالأزارقة في أكثر ما يختص بها.
3 - النجدات: أتباع نجدة بن عطية بن عامر الحنفي، وأهم ما تنفرد به هذه الطائفة، أن الدين أمران معرفة الله ومعرفة رسوله.
4 - البيهسية: أتباع أبي بيهس: هيجم بن جابر.
5 - الإباضية: أتباع عبد الله بن إباض المري، ولا تزال منها بقايا إلى اليوم، أعني الإباضية في عمان من الخليج العربي والجزائر وشرقي أفريقية (1) .
وأما الشيعة: فهم فرقة لا يرون الخلافة حقا إلا لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وآل بيته؛ لما يرونه من أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بالخلافة له من بعده، ومن ثم يكون من سلبهم هذا الحق ظالما، لا تصح ولايته، ونتيجة لذلك لم يعترفوا بخلافة الأمويين، وجوزوا الخروج عليهم إذا واتتهم الفرصة، وهم فرق أشهرها الإمامية والكيسانية والزيدية.
والزيدية: هم أتباع زيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب - رضي الله عنه - ولم يدع زيد الإمامية لنفسه، وإنما خرج للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن شيعة الكوفة لما رأوا رأيه في الثورة على الأمويين قالوا بإمامته (2) ، وتتمركز
__________
(1) الشريعة 65- 66 نقله عن النظم الإسلامية للدكتور صبحي الصالح ص 123 وتاريخ التشريع 144 - 145.
(2) الشريعة 66.(15/109)
الآن في اليمن من جنوب شبه الجزيرة العربية.
ب- والذي يهمنا في هذا الفصل استبانة مدى أثر هذه الفرق على الاجتهاد في الفقه الإسلامي فنقول:
أولا: أثر الخوارج:
إن أهم ما يتميز به مذهب الخوارج: التكفير بالذنوب مطلقا، سواء أكانت مما يكفر بجنسه عند أهل السنة والجماعة (الجمهور) أم لا، ويقولون أي الخوارج بخلود صاحبها في النار أبد الآباد، إذ من دخل النار لا يخرج منها مطلقا.
وبهذا نرى أنهم ألغوا الكثير من نصوص الشريعة إذ لم يأخذوا إلا(15/110)
بنصوص الوعيد وتركوا نصوص الوعد، وانهدم تبعا لذلك الجمع بين ما ظاهره التعارض من النصوص خاصة ما جاء في الوعد والوعيد.
والأصل في هذا عندهم أن نصوص الوعيد محمولة على الاستقلال بإفادة الحكم الذي تضمنه دون النظر إلى أدلة أخرى ثابتة مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (1) .
فإنهم لا يقيدون الإطلاق في هذه الآية ونحوها من نصوص الوعيد بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2) .
فإنه ظاهر من مذهبهم أن المغفرة لما دون الشرك إنما تكون للمؤمن بعد
__________
(1) سورة النساء الآية 93
(2) سورة النساء الآية 48(15/111)
التوبة، هذا هو الظاهر من كلام بهجة الأنوار المتقدم الذكر (1) ؛ فإنه يلوح منه أن المحاسبة للمؤمن المقصر التائب، هي ثمرة فهمهم لآيات الوعد الكريم من الله الوارد في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مع طعنهم في الأحاديث التي لا ترد عن طريق أهل ملتهم ولا يقبلون من الإجماع إلا الإجماع الحاصل قبل خلافهم مع علي رضي الله عنه، هذا أهم أصل خالفوا فيه أهل السنة في أمر التوحيد.
أما في الجانب الفقهي فإن لم اجتهاداتهم الخاصة، ومن ذلك أنهم لا يرجمون الزاني، ولا يقبلون في الجملة ما ورد من اجتهادات عن كبار الصحابة بعد الفرقة التي كانت زعامتها فيهم، نعوذ بالله من الفرقة عن الحق والتفرق عن أهله، ولهم مفاهيمهم الفقهية الخاصة بهم.
وأما الشيعة:
فكان لانفرادهم في نزعتهم سوء ظنهم بمن يخالفهم في التشيع الأثر العميق في الاجتهاد الفقهي، وذلك أن الفقه عندهم وإن كان يعتمد على كتاب السنة أصلا إلا أن منهجهم في الاستنباط يخالف مذهب أهل السنة والجماعة من وجوه:
أحدها: كونهم لا يقبلون من الأحاديث ولا من الأصول أو الفروع شيئا إلا ما كان عن طريق أئمتهم.
الثاني: أنهم ما كانوا يرون الأخذ بالإجماع أو استعمال الرأي في بعض كتبهم القول بالإجماع بشرط أن يكون فيهم المعصوم، وتلك خديعة حاذقة، ذلك أن مبنى هذا أن عدم وجود الإمام المعصوم مفسد للإجماع، فوجوده إذا هو المعتبر دون غيره، إذ لو أجمعت الأمة كلها على مر عصورها وتعاقب أجيالها ولا يكون في الأمة في أي جيل هذا المعصوم فلا عبرة بإجماعها.
__________
(1) انظر حاشية ص27.(15/112)
فاعتقادهم العصمة في أئمتهم وسوء الظن بغيرهم جعلهم لا يعتدون بخيار الأمة من الرعيل الأول في إجماع ولا في رأى ولا في نقل حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذا كان مذهبهم أن الأخذ من الكتاب والسنة إنما يكون عن طريق أئمتهم فهما ونقلا.
الثالث: أنهم كانوا يفسرون القرآن الكريم تفسيرا يتفق ومبادئهم، ولا يأخذون بتفسير غيرهم ولا بما يعتمد على حديثه لغير أئمتهم (1) .
ومن الواضح أن مسلكهم هذا أوجد مفاهيم شاذة عن الجادة التي عليها جمهور المسلمين، وحملهم على نبذ الكثير من الأحاديث القوية والآراء السديدة، وليس لذلك من سبب سوى أنها عن غير الشيعة.
ومخالفتهم فيما خالفوا فيه من أصول استتبع مخالفتهم أهل السنة في كثير من الأحكام منها:
نكاح المتعة فهم لا يرون فيه بأسا بل هو جائز إلى يوم القيامة، بل يرونه قربة إلى الله، ويستشهدون لذلك بظاهر قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (2) ويقول بعض أئمتهم: ليس منا من لم يستحل المتعة، والآية عند كافة أهل السنة والجماعة على ما استقر الأمر أخيرا عليه فهي عندهم محمولة على النكاح المعروف (3) وما يجب للزوجة من المهر كاملا، وقد صحت السنة بالنهي عن نكاح المتعة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وممن روى النهي عن نكاح المتعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حيث قال.
«إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر (4) » ، وفي رواية: «نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية (5) » . متفق عليه.
وهذا مثال على ما خالفوا فيه الجمهور، ولهم مخالفات عديدة ولهم
__________
(1) تاريخ التشريع 162 - 163.
(2) سورة النساء الآية 24
(3) نيل الأوطار على منتقى الأخبار 6 \ 115 ط \ مصطفى الحلبي سنة 1347 هـ.
(4) صحيح البخاري الحيل (6961) ، صحيح مسلم النكاح (1407) ، سنن الترمذي النكاح (1121) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4334) ، سنن ابن ماجه النكاح (1961) ، مسند أحمد بن حنبل (1/79) ، موطأ مالك النكاح (1151) ، سنن الدارمي النكاح (2197) .
(5) صحيح البخاري المغازي (4216) ، صحيح مسلم النكاح (1407) ، سنن الترمذي النكاح (1121) ، سنن النسائي النكاح (3366) ، سنن ابن ماجه النكاح (1961) ، مسند أحمد بن حنبل (1/142) ، سنن الدارمي النكاح (2197) .(15/113)
كتبهم في الفروع والأصول تخدم مذهبهم، وهنالك يمكن لنا أن نطلع على العديد من الصور والمسائل التي خالفوا فيها أهل السنة والجماعة.
وما عدا الشيعة والخوارج ومن نهج سبيلهم من الفرق المخالفة لأهل السنة ما عدا هؤلاء هم الجمهور: أهل السنة والجماعة من المسلمين.
ومذهبهم قبول الأخذ بما صح من الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم حسب ضوابط وأصول وضعوها لمعرفة الصحيح من غيره.
هذا التفرق السياسي ووجود الفرق به هو السبب الأول للتأثير على الحركة الاجتهادية في هذا الدور على نحو ما أشرنا إليه.
أما السبب الثاني: فإنه يرجع إلى اتساع رقعة الخلافة وانتشار الصحابة في الأمصار والمدن، وذلك في عهد عثمان رضي الله عنه وقد صاحب هذا التوسع في الفتوحات إذن الخليفة عثمان رضي الله عنه للصحابة في الانتشار وسكنى البلاد المفتوحة، فتفرقوا في الأقطار واستوطنوها عمالا ومعلمين ومرابطين وكانت الأمصار متعطشة لمعرفة دين الإسلام والاستفادة من(15/114)
علومه على أيدي تلامذة المعلم الأول صلى الله عليه وسلم فتدفق الناس على الصحابة كل في بلده ومدينته يستفتونهم ويروون عنهم مسموعاتهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتعلمون منهم العلم.
ومن المسلم به أن الصحابة لم يكونوا في المحفوظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا في الفهم سواء، كما أن الأمصار المفتوحة لم تكن متفقة عاداتها ولا أعرافها ولا نظمها الاجتماعية والاقتصادية، ولا طرقها في العيش والتعامل، فإذا انضاف إلى هذه الاعتبارات بعد الشقة بين عاصمة الخلافة والبلدان المفتوحة وصعوبة الاتصالات بين العلماء والصحابة في شتى هذه المدن والأمصار؛ ليستفيد بعضهم من بعض؛ فإنه من السهل أن ندرك أن ذلك سينتج عنه اختلاف الاجتهادات والفتاوى الفقهية في المسألة الواحدة بين المسائل الكثيرة، وأن كل أهل قطر سيتمسكون بفتاوى علمائهم وأحاديثهم ويعولون على ما جرى عليه عملهم، وحكم به قضاتهم لمبلغ ثقتهم بهم وخبرتهم بأحوالهم وسيرتهم، فكان للمصريين فتاوى وللشاميين أخرى ولليمنيين وسائر المدن غيرها وكان بعد ذلك أن شعر التابعون بأن في الأمصار الأخرى علما غير علمهم، فأكثروا من الرحلة وعملوا على توثيق الروابط العلمية بين الأمصار، فكان لذلك أثر لا ينكر في تقليل وجود الخلاف السبب الثالث: ظهور الوضع في الحديث:
وهذا السبب كان له الأثر السيئ في عرقلة تقدم الاجتهاد الفقهي وفي صعوبة مهمة الفقيه.
فلقد كان للإسلام أعداؤه المتربصون بأهله الدوائر من اليهود وغيرهم ممن تغلب عليهم المسلمون بقوة الإسلام وسلطانه، وربما ساعدهم على هذا الوهم كون المسلمين يعتمدون على حفظهم في الصدور ما يروونه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سنته القولية أو الفعلية أو التقريرية طيلة بعثته في الثلاث والعشرين سنة، فما عليهم إلا أن يختلقوا من الأقاويل التي تخدم مآربهم ما(15/115)
ينسبونه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حديثا طمعا في استرداد ما ضاع منهم من مجد وجاه ودولة عن طريق تحذير المسلمين بما يضعونه من أحاديث.
فأما الكتاب العزيز فلحفظ الله إياه حفظا من مظاهر انتشاره بين المسلمين وتلقيه عن طريق الكواف من الأئمة كانوا على يقين أنهم لن يجدوا سبيلا لتضليل الناس فيه. فعمدوا إلى تكوين الجمعيات المخربة وكان أول جمعية سرية بقيادة عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أسلم ظاهرا؛ ليتمكن من الدس والتنكيل بالمسلمين فلما ظهر أمره اختفى وصار إلى تنظيم النشاط المخرب سرا.
ومما لا ريب فيه أن هذه الحملة الشريرة تمادت حتى استطاعت أن تروج لمفترياتها في كل باب من أبواب العلم في الإسلام.
فوجدت أحاديث في الأسماء والصفات للباري تبارك وتعالى تتضمن تشبيه الباري بالحوادث وتعطيله وفي باب العبادات أحاديث تتضمن من(15/116)
البدع ما يحرف السالك عن الصراط السوي، وأحاديث في باب الحلال والحرام، حتى كثر الوضع كثرة مزعجة مروعة بتصدع الوحدة الإسلامية، وظهور الفرق الدينية، فاستباح الشيعة لأنفسهم أن يضعوا الأحاديث التي تؤيد مذاهبهم، وكذلك الخوارج، وكثرت بعد ذلك الأسباب الحاملة على الوضع، ومما يدل على مبلغ الوضع في هذا الدور، أن ابن عباس رضي الله عنهما وهو المعروف بالرغبة في جمع الحديث والجد في طلبه يقول فيما يرويه مسلم: " إنما كنا نحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ لم يكن يكذب عليه، فلما ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه ".
وفي رواية عنه: إنما كنا نحفظ الحديث والحديث يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما إذا ركبتم كل صعب وذلول فهيهات (1) .
وعن مجاهد قال: جاء بشير العدوي إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل ابن عباس لا يأذن (2) لحديثه ولا ينظر إليه، فقال: يا ابن عباس: ما لي لا أراك تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع؟ فقال ابن عباس: " إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف ".
وعن ابن أبي مليكة قال: كتبت إلى ابن عباس أسأله أن يكتب لي كتابا ويخفى عني فقال: " ولد ناصح أنا اختار له الأمور اختيارا أو أخفي عنه ". قال: " فدعا بقضاء علي فجعل يكتب منه أشياء ويمر به الشيء فيقول: والله ما قضى بهذا علي إلا أن يكون ضل ".
__________
(1) 1 \ 67 صحيح مسلم بشرح النووي.
(2) لا يأذن لحديثه أي لا يستمع إليه ولا يعيره سمعه(15/117)
وقال طاوس: " أتى ابن عباس بكتاب فيه قضاء علي رضي الله عنه فمحاه إلا قدر - وأشار سفيان بن عينة، (أحد رواة الخبر) - بذراعه " (1) .
وعن أبي إسحاق قال: لما أحدثوا تلك الأشياء بعد علي رضي الله عنه قال رجل من أصحاب علي: قاتلهم الله. أي علم أفسدوا.
وقال النووي على قوله: " قاتلهم الله، أي علم أفسدوا " أنه إشارة إلى ما أدخلته الروافض والشيعة في علم علي رضي الله عنه وحديثه، وتقولوه عليه من الأباطيل وأضافوه إليه من الروايات والأقاويل المفتعلة والمختلفة وخلطوه بالحق فلم يتميز ما هو صحيح عنه مما اختلفوه (2) .
وإذا كان الزنادقة والمتربصون بالإسلام من أهل سائر ملل الكفر قد طوع لهم كفرهم وأطماعهم وأحقادهم أن يختلقوا ما اختلقوا من أحاديث قذفوا
__________
(1) مسلم 1 \ 78 - 70.
(2) النووي على مسلم ص70.(15/118)
بها في نحور الأمة الإسلامية علهم يصيبون منها مقتلا؛ لتدور لهم الدائرة بعد أن هزموا بفكر الإسلام وسيفه، فإن هذا المنكر لم يقف عند حد هؤلاء بل قد سلك مسلكهم بعض الجهلة المتسمين بسمة الزهاد، فوضعوا أحاديث في أبواب الترغيب والترهيب، فقالوا: كذب للرسول صلى الله عليه وسلم ولا نكذب عليه. وما دروا أن هذه طامة الطوام ودويهية أصفر الأنامل، إذ يتضمن هذا - إلى جانب استحلال الكذب عليه صلى الله عليه وسلم وهو غاية الحرام - اتهامه بالتقصير في الإبلاغ حتى جاءوا يكملون ما به أخل، ويتممون ما نقص، ويكذبون قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} (1) .
فتلاقى على هذه المكيدة حقد ومكيدة الكافرين وجهل وغباوة الجاهلين، ومما لا شك ولا افتراء فيه أن ذلك الجهل في الأغبياء ثمرة من ثمرات أولئك الزنادقة.
__________
(1) سورة المائدة الآية 3(15/119)
وقد ظهر بما تقدم بعض الأسباب الحاملة على الوضع ويمكننا أن نجملها لك في سطور.
1 - العداوة الدينية
لقد رأينا كيف أن ابن سبأ اليهودي وأضرابه تستروا بالإسلام، وأخفوا وراء التشيع أغراضهم الدنيئة، وتذرعوا بإظهار حب آل البيت؛ ليدسوا على المسلمين ما أرادوا به أن يطفئوا نور الله، ولكن الله عز وجل وعد بأن يخيب آمالهم، ويتم نوره مهما حولوا إطفاءه.
2 - التعصب المذهبي:
وذلك أن بعض الفرق المنتمية إلى الإسلام كان يدفعها غلوها في تأييد(15/119)
ما تشهد إليه إلى وضع أحاديث تشهد بصحة ما ترى، قال الحاكم أبو عبد الله: " كان محمد بن القاسم الطائكاني من رؤساء المرجئة يضع الحديث على مذهبهم ".
3 - متابعة بعض ما يتسمون بسمة العلم لهؤلاء الأمراء والخلفاء، يضعون لهم ما يعجبهم رغبة فيما في أيديهم، كالذي حكى عن غياث بن إبراهيم، أنه دخل على المهدي بن المنصور، وكان يعجبه اللعب بالحمام فروى حديثا لا سبق إلا في خف أو حافر أو جناح. فزاد كذبا أو: " جناح ". فأمر له المهدي بعشرة آلاف درهم، فلما قام ليخرج قال المهدي: أشهد أن قفاك قفا كذاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال: "جناح " ولكنه أراد أن يتقرب إلينا.
4 - تساهل بعضه في باب الفضائل والترغيب والترهيب كالذي روى في فضائل القرآن سورة سورة.
5 - تغالي بعض الناس في أنهم لا يقبلون اجتهادات الصحابة وغيرهم، فدعا ذلك بعض الوضعة إلى أن يعمد في كلام الصحابة وغيرهم وحكم العرب والحكماء فينسبها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
تكفل الله عز وجل بحفظ كتابه يشمل حفظه سنة رسوله صلى الله عليه وسلم
إذا كان أعداء الإسلام قد أدركوا ما يرومون بوضع المفتريات ونسبوها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المسلمين ضياع سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم بين المفتريات والأباطيل؛ فإن الله عز وجل قد تكفل بحفظ كتابه. والسنة تفسير الكتاب وبيانه، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1) ولا يتم بيان التنزيل بسنة ضائعة بين ركام الكذب، ومن أجل ذلك قيض الله من أذكياء العالم ما أهلهم لهذه المهمة فقاموا لله يذبون عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فبينوا بالتحميص والتنقيب ونبذ الزائف وتحقيق الحق ما تحقق به وعد ربنا؛ فإنه تعالى لا يخلف الميعاد.
__________
(1) سورة النحل الآية 44(15/120)
ومن ذلك الوقت تكون فرع من فروع الحديث هو علم الجرح والتعديل، وقد أجهد أئمة هذا العلم أنفسهم وترقبوا الوضاعين، وفضحوا عملهم، وحذروا من كل واحد باسمه، ولم يقبلوا مما حدثوا به شيئا، وبينوا أعيان الأحاديث التي وضعوها، والأغراض التي حملتهم على الوضع حتى سلم الله الشريعة بفضله ومنه من كيدهم.
وقد بدأ الكلام في الجرح والتعديل من عهد صغار الصحابة، فقد رويت أقوال من ذلك عن عبد الله بن عباس كما أسلفنا، وعن عبادة بن الصامت وأنس، وكثر القول في ذلك من التابعين ومن أقوالهم ما نذكر لبعضهم فيما يلي:
1 - قال عبد الله بن المبارك الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. وقال أيضا: دعوا حديث عمرو بن ثابت؛ فإنه كان يسب السلف. 2- وحدث أبو عقيل صاحب بهية قال: كنت جالسا عند القاسم بن عبد الله ويحيى بن سعيد، فقال يحيى للقاسم: يا أبا محمد إنه قبيح على مثلك عظيم أن تسأل عن شيء من أمر هذا الدين فلا يوجد عندك منه علم ولا فرج أو علم ولا مخرج. فقال له القاسم: وعم ذاك؟ قال: لأنك ابن إمامي هدى ابن أبي بكر وعمر. قال يقول له القاسم: أقبح من ذلك عند من عقل عن الله أن أقول بغير علم أو آخذ عن غير ثقة. قال: فسكت فما أجابه.
3 - قال يحيى بن سعيد: سألت سفيان الثوري وشعبة ومالكا وابن عيينة عن الرجل لا يكون ثبتا في الحديث فيأتيني الرجل فيسألني عنه قال: أخبر عنه أنه ليس ثبتا.
4 - وقال شعبة: لقيت شهرا فلم أعتد به يعنى شهر بن حوشب أبا سعيد، ويقال أبو عبد الله وأبو عبد الرحمن وأبو الجعد الأشعري الشامي الحمصي وقيل الدمشقي (1)
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 1 \ 73- 78.(15/121)
وقد ذكر جلال الدين عبد الرحمن السيوطي في شرح تقريب النواوي المسمى بتدريب الراوي ضوابط في الوضع وأقسام الواضعين فذكر من الأول:
1 - الإقرار بالوضع من الواضع وذكر خلاف الأصوليين في ذلك.
2 - معنى إقراره كأن يحدث بحديث عن شيخ ويسأل مولده فيذكر تاريخا لعام وفاة ذلك قبله، ولا يعرف ذلك الحديث إلا عنده.
3 - قرينة في الراوي أو المروي وذكر من ذلك طول الأحاديث مع ركة لفظها ومعانيها.
قال الربيع بن خثيم: إن للحديث ضوءا كضوء النهار تعرفه وظلمة كظلمة الليل تنكره. . . . إلى أن قال: أو يكون خبرا عن أمر جسيم تتوفر الدواعي على نقله بمحضر الجمع، ثم لا ينقله منهم إلا واحد. ومنها الإفراط بالوعيد الشديد على الأمر الصغير أو الوعد العظيم على الفعل الحقير، وهذا كثير في فعل القصاص، والأخير راجع إلى الركة. وقال: قلت: ومن القرائن كون الراوي رافضيا والحديث في فضائل أهل البيت. . . الخ (1) وذكر للوضع أقساما فقال: والواضعون أقسام بحسب الأمر الحامل لهم على الوضع أعظمهم ضررا قوم ينسبون إلى الزهد وضعوه احتسابا للأجر عند الله في زعمهم الفاسد فقبلت موضوعاتهم ثقة بهم وركونا إليهم؛ لما نسبوا إليه من الصلاح. وذكر كلاما ليحيى القطان هنا منه: ولكن الواضعون منهم وإن خفي حالهم على كثير من الناس فإنه لم يخف على جهابذة الحديث ونقاده، وقد قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث الموضوعة؟ فقال: تعيش لها الجهابذة: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2) .
ومن أمثلة ما وضع حسبة: ما رواه الحاكم بسنده إلى أبي عمار المروزي، أنه قيل لأبي عصمة نوح بن أبي مريم: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟
__________
(1) 98 - 99 تدريب الراوي.
(2) سورة الحجر الآية 9(15/122)
فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن إسحاق، فوضعت هذا الحديث حسبة. وكان يقال لأبي عصمة هذا: نوح الجامع. قال ابن حيان: جمع كل شيء إلا الصدق. . . . . الخ.
الثاني: قوم كانوا يتكسبون بذلك ويرتزقون به في قصصهم كأبي سعيد المدائني.
الضرب الثالث: أرباب النحل والمذاهب البدعية؛ كالكرامية: نسبة إلى محمد بن كرام - بتشديد الراء - السجستاني المتكلم.
الرابع: وضع الزنادقة فقد وضعت جملا من الأحاديث؛ ليفسدوا بها الدين.
روى العقيلي بسنده إلى حماد بن زياد، قال: وضعت الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر ألف حديث؛ منهم عبد الكريم بن أبي العوجاء الذي قتل وصلب في زمن المهدي (1) .
ومما تقدم يتضح أن الوضاعين وإن لم يبلغوا مأربهم من الدين؛ لمناهضة العلماء لهم ومقاومتهم إياهم إلا أنهم قبحهم الله - إلا من ثاب إلى رشده منهم - وضعوا في طريق المجتهدين ما عرقل سيرهم وجعله بطيئا وعسيرا، فبعد أن كان الفقيه لا يشغله شاغل بعد سماع الحديث عن النظر فيه والاستنتاج منه وهو واثق مطمئن، أصبح واجبا عليه أن يعنى قبل كل شيء ببحث الحديث متنا وإسنادا، والتثبت من صحتهما حتى إذا تبددت غياهب الشك حل له أن ينظر ويستنبط، فلا يبلغ ما يروم إلا بعد جهد ومشقة وطول عناء.
أما السبب الرابع: من الأسباب التي لها الأثر في الاجتهاد في هذه الفترة فهو انقسام العلماء:
شاء الله عز وجل أن ينقسم جمهور الأمة الذين سلمهم الله من بدعتي الخروج والتشيع إلى أهل حديث وأهل رأي.
__________
(1) هذا باختصار عرض لبعض ما ذكر في تدريب الراوي عن أقسام الوضع وذويه 102 - 103.(15/123)
وذلك نتيجة لما سلكوا في الفقه فجماعة: امتازت بشدة الاشتغال بالنصوص والآثار والتمسك بها. وآخرون: امتازوا بالتوسع في استعمال الرأي، ومن هنا نشأت تسمية الفريق الأول بأهل الحديث وتسمية الفريق الثاني بأهل الرأي.
وكان الفريق الأول بالحجاز، وزعيمه سعيد بن المسيب القرشي إذ رأى هو وأصحابه أن أهل الحرمين الشريفين أثبت الناس في الحديث والفقه وأعلمهم بفتاوى الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأكب على حفظ ما بأيديهم من الآثار، ورأى أنه بعد ذلك في غنية عن استعمال الرأي.
أما الفريق الثاني فكان مركزه العراق وعلى رأسهم: إبراهيم النخعي وطريقتهم مبنية على أن أحكام الشرع معقولة المعنى مشتملة على مصالح راجعة إلى العباد ذات أصول محكمة وعلل ضابطة لتك المعاني والحكم، فكانوا يبحثون عن هذه المعاني والعلل، ويستجلون الحكم التي شرعت الأحكام لأجلها حتى يستقر عندهم دوران الحكم معها.
وربما رد بعض هذا الفريق شيئا من الأحاديث إذا لم تتمش مع تلك الضوابط والأصول؛ لأن تلك الأصول والضوابط عنده تبلورت من جملة نصوص، والنص الواحد لا يقاوم العدد.
أما الفريق الأول فكان بحثه عن النصوص أكثر من بحثه عن العلل إلا فيما لم يجد فيه أثرا.(15/124)
ويرجع شيوع الرأي في العراق إلى:
أولا: أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هو أستاذ في هذه المدرسة، وقد كان من المتأثرين بعمر بن الخطاب في الاجتهاد الفقهي، الذي يعتمد على استعمال الرأي، فكان تأثير ابن مسعود على مدرسته أمرا طبيعيا.
ثانيا: أن العراق منبع الشيعة ومقر الخوارج، فقد شاع فيها الوضع في الحديث، فاشترط علماؤها شروطا لقبول الحديث لا يسلم معها إلا القليل، ضم إلى هذا اكتفاؤهم بمروي نزلاء العراق من الصحابة من الحديث كان المعول عليه من الأثر قليلا، فلا مندوحة لهم حينئذ من التوسع في الرأي.
ثالثا: أن المسائل التي تحتاج إلى تعرف أحكامها في العراق أكثر وأعقد منها في الحجاز، إذ كان الحجاز بمنأى عن تلك النشاطات الفكرية والاجتماعية التي ماج بها العراق؛ لما جد من حركة التشيع والخروج مع ذات طبيعة أهله، وهذا بلا شك مع قلة المعول عليه من الأحاديث عامل قوي في التوسع في استعمال الرأي.
ولقد كان الفقه في مدرسة الحديث واقعيا، فلم يفرضوا المسائل ويقدموا لها أحكامها، أما في مدرسة الرأي ففي أول الأمر كان واقعيا، ثم ما لبث أن اتجه إلى الفروض والتقديرات خصوصا حين وضعوا الضوابط والقواعد؛ ليفرعوا عليها.
تلك أهم أحداث هذه المرحلة، ومنها اتسعت دائرة الخلاف، مما يتعذر معه الإجماع إلا ما كان اتفاقا.
هذا وقد انقضت هذه المرحلة دون أن يدون فيها شيء من العلوم بصفة ذاتية، ولم تتكون فيها مذاهب معينة: فهي تشبه المرحلة السابقة من تلك الناحية، وتخالفها من جهة كثرة الاختلاف وتشعب الآراء للأسباب التي ذكرت.(15/125)
الطور الثالث من أطوار الاجتهاد الفقهي
أ- الربط بين هذا الدور والدور الذي قبله.
ب- بدء نشوء مدرستي الظاهر والرأي.(15/125)
جـ- التغيرات التي طرأت في هذا الدور على الاجتهاد الفقهي.
د- تدوين أصول الفقه.
هـ- منهج الشافعي في الرسالة.
وأصول الفقه بعد الإمام الشافعي رضي الله عنه.
ز- التدوين لأصول الفقه من نهاية القرن الرابع إلى آخر القرن الرابع عشر الهجري.
ح- طريقة المتكلمين في أصول الفقه ومؤلفاتها وخصائصها.
ط- طريقة الفقهاء في تأليف أصول الفقه ومؤلفاتها وخصائصها.
ي- المؤلفات الجامعة للطريقتين.(15/126)
الطور الثالث للاجتهاد الفقهي من أول القرن الثاني إلى الآن
أ- الربط بين هذا الدور والذي قبله:
ظل الصحابة رضي الله عنهم بعد أن لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى ملتزمين المنهج الذي تركهم عليه هذا النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - في الفتوى والقضاء والإجابة عن الأسئلة التي كانت تعرض إليهم، حتى كان واقعهم رضي الله عنهم بمثابة العرض الأمين لما كان عليه الحال في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم سواء في ذلك ما يتصل بشئون العباد في حياتهم اليومية على وجه يزيل الحرج ويضمن المصلحة التي جاء بها هذا الدين.
ولقد اتسعت الدولة وامتد الفتح وتعددت الأفعال وتنوعت التصرفات، ومع ذلك فقد كان الصحابة رضي الله عنهم إذا عرضت الوقائع عليهم أفتوا فيها بمعاني النصوص، وبمقتضى الإشارات والإيماءات والاقتضاءات والضرورات، وبطريق القياس والاستحسان والمصالح وسد الذرائع، والأخذ بالقرائن والاهتداء بالأمارات، وبما وقر في نفوسهم من الثقة بالمروي، وبما شرطه أحدهم في الحديث من شروط؛ خوفا من الكذب والغلط على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء مخصصا أو مقيدا أو مفسرا، وقد انعكست هذه الطرق على الكيفيات والصور، وغطت الاجتهادات أفعال الناس بالأحكام.
وهكذا استمد العلم بالمعاني اللغوية والعربية والمعاني الشرعية المفهومة من الرسول صلى الله عليه وسلم والمعلومة من النصوص في قلوب التابعين بعد الصحابة، فامتلأت هذه القلوب بعلم الاجتهاد، وبقي اللسان العربي سليما فصيحا يفهم المعاني، وتقدم الحقيقة على التجوز ودلالة النص على الفهم بالرأي، والمحكم والمفسر على المحتمل الظاهر.(15/127)
ب- بدء نشوء الأخذ بالظاهر والمعني أو مدرستي الظاهر والرأي:
وأخذ التابعون من قصة بني قريظة علما بجواز سلوك طريق ظاهر النص، وجواز البحث عن المقاصد والأسرار، فوجد بذلك طريقان أو مدرستان:
مدرسة غلب على أهلها تقديم النصوص وكثرة الاعتماد في الاستنباط(15/127)
على أصلها لعدم الحاجة إلى الرأي بسب قلة الحوادث وكثرة النصوص، والثقة بصدقها؛ لعدم الكاذبين الضالين هناك، وأهل هذه المدرسة هم أهل الحديث أو أهل المدينة، كما سلفت الإشارة إلى ذلك.
ثانيا: تكثر من الاجتهاد بالرأي وتشترط شروطا كثيرة وشديدة لقبول الحديث، لا يسلم معها إلا القليل.
وينجم هذا من حال البلد الذي يعيش فيه هذا العالم، وحال الصحابي الذي اختار هذا البلد مسكنا له حين هاجر من الحجاز، وما عليه أهل البلد من أعراف في شئونهم المختلفة.
وبذلك تأسست المدارس الفقهية الإسلامية.
وفي كل مصر كان علماء من الصحابة والتابعين وأئمة بعدهم لهم لغتهم وعلمهم وروايتهم وآراؤهم وتلاميذهم، ومع هذا وسعت مبادئ الشريعة والاجتهادات والآراء حتى عمت رحمتها وعدالتها كل الناس.
ولا ريب أنه كلما كان العهد قريبا بحياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته ومعاني التنزيل حتى شرحها والفتاوى والأحكام التي صدرت منه، كانت الأحكام التي تؤسس على هذا المنهج على كمالها: علما وحفظا وفهما وسنة وعربية، وخشية من الله عز وجل، هي النبراس الذي يضيء الطريق، والهادي الأمين إلى الحياة الشرعية التي يريد الله تعالى أن يكون عليها البشر في هذه الدار.(15/128)
جـ- التغيرات التي طرأت على الاجتهاد الفقهي في هذا الدور وأسبابها:
وقد حدثت في هذا الدور الذي نكتب فيه تغيرات طرأت على الاجتهاد الفقهي، نلخص بعضا من ظواهرها فيما يلي:
أولا: عناية الخلفاء العباسيين بالفقه والفقهاء، فقد كانوا لا يقصرون همهم على النواحي السياسية وحسب كما كان الشأن في العهد الأموي، بل كان اهتمامهم بالفقه والفقهاء يتخذ أشكالا متعددة، فمنهم من يدني الفقهاء ويؤثرهم بخاصته كأبي جعفر المنصور، ومنهم من يتعقب الزنادقة ويشتد في(15/128)
تعذيبهم، حتى أنشأ دائرة متخصصة للبحث عنهم، والتنكيل بهم (1) .
وكان الرشيد يخص أبا يوسف بالصحبة والملازمة، والمأمون يشاطر العلماء الجدل العلمي، ويستنهض همهم إلى النقاش الحاد، ويثير القول بخلق القرآن، تلك الفتنة العمياء التي كانت نكتة داكنة في تاريخ المأمون لن تنسى مهما كانت محاسنه. وامتحن فيها علماء سلف الأمة وأئمتها، وكان أشدهم أذى الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - حيث عذب عذابا لم ينله أحد قبله، وكان صابرا محتسبا ثابتا على الحق.
وقد كان لهذه العناية من الخلفاء الأثر الواضح في التشريع إذ اتسع مجال الفقه وغدا المحور الذي تدور عليه وحوله شئون الدولة في جميع المجالات، فكتاب الخراج لأبي يوسف من ثمار هذا النشاط، وقد عالج أبو يوسف فيه كل ما يتعلق بجباية الأموال.
بل إن الأمر تجاوز معالجة واقع الناس إلى افتراض المسائل وتقدير أحكام لها حتى تضخم الفقه، ونما نموا عظيما، شاهده ما حفلت به المدونات الفقهية في ذلك العصر.
__________
(1) ضحى الإسلام لأحمد أمين 163.(15/129)
ثانيا: اتساع الجدل وشيوع الخلاف:
لقد امتازت هذه الفترة ببلوغ الجدل فيه أشده، واتساع مداه؛ لكثرة العلماء وانفراج الحياة الاجتماعية عما كانت عليه من قبل والتوسع في الرأي، والاعتماد عليه في القياس واستمداد أساليب الجدل من المنطق. وكان الجدل بين العلماء يدور حول تحديد معاني الألفاظ اللغوية، وحمل الكلام على الحقيقة أو المجاز حول الكتاب بالسنة والعكس، وعمل الصحابي أهو حجة أم لا؟ والقياس ومداه ومتى يصح ومتى لا يصح، إلى غير ذلك مما يعتمد عليه الفقيه في الاستنباط واستخراج الأحكام.
ومما يؤكد لنا شغف القوم بالجدل والمناظرة أن كل مكان يلتقي فيه العلماء تدور بينهم المناقشات الجدلية والنظرية سواء في حلقات الدروس، أو المنازل أو في المساجد أو في مواسم الحج أو غيرها بالمكاتبة أو المشافهة(15/129)
واقرأ من أوثق المدونات في أوائل هذا العصر: الأم للإمام محمد بن إدريس الشافعي والرسالة كذلك تجد أثر هذا الأسلوب جليا واضحا في تأليفهما، واقرأ ما شئت سواهما من كتب هذا العهد التي زخرت بتلك المناظرات، حتى كانت مرآة صافية تعكس عقلية أولئك العلماء وقوة ذهنهم وقدرتهم على التركيز؛ لما يفهمونه من الأحكام، وحتى ساعدت المتأخرين على معرفة وجه الرأي بين أسلافهم، وهدتهم إلى مآخذ الحكم عند كل فريق. وكان غذاء للروح العلمي فيما بعد، غير أن تلك المناظرات لم تنقل كلها إلينا على حقيقتها بل تناولها المتأخرون بالتحوير والتحريف، بل ربما اختلقوا مناظرات ونسبوها إلى الأولين ترويجا لمذهبهم واستجابة لداعي العصبية المذهبية.
من سيئات الجدل في هذا الدور:
بعد أن كان الجدل يقصده العلماء للوصول إلى الحق فحسب أصبح في هذا الدور يستخدم كثيرا؛ لمجرد التغلب على الخصم، وتزييف مذهب المخالف حتى انحرف عن السنن، وحشد فيه ما لا يتصل بجوهر الموضوعات، ولذلك نرى كثيرا مما وصل إلينا غريبا على العلم، وزائدا عن الحاجة.
نموذج للمناظرات التي كانت تجري بين العلماء في هذا الدور:
روى الفخر الرازي: " أن محمد بن الحسن. (صاحب(15/130)
أبي حنيفة) قال للشافعي يوما: بلغني أنك تخالفنا في مسائل الغصب. قال الشافعي: أصلحك الله إنما هو شيء أتكلم به في المناظرة، قال: فناظرني. . . قال محمد: ما تقول في رجل غصب ساحة وبنى عليها جدارا وأنفق عليها ألف دينار فجاء صاحب الساحة وأقام شاهدين على أنها ملكه؟
فقال الشافعي: أقول لصاحب الساحة ترضى أن تأخذ قيمتها؟ فإن رضي - وإلا قلعت البناء ودفعت ساحته إليه.
قال محمد بن الحسن: فما تقول في رجل غصب لوحا من خشب فأدخله في سفينة، ووصلت السفينة إلى لجة البحر فأتى صاحب اللوح بشاهدين عدلين، أكنت تنزع اللوح من السفينة؟ قال: لا. قال (محمد) : الله أكبر تركت قولك. ثم قال (محمد) : ما تقول في رجل غصب خيطا من إبريسم فمزق بطنه، فخاط بذلك الإبريسم تلك الجراحة، فجاء صاحب الخيط بشاهدين عدلين أن هذا الخيط مغصوب أكنت تنزع الخيط من بطنه؟ قال: لا. قال (محمد) : الله اكبر تركت قولك. وقال أصحابه أيضا: تركت قولك.
قال الشافعي: فقلت: لا تعجلوا، أرأيت لو كان اللوح لوح نفسه، ثم أراد أن ينزع ذلك اللوح من السفينة حال كونها في لجة البحر، أمباح له ذلك أم(15/131)
محرم عليه؟ قال: يحرم عليه. قلت: أرأيت لو كان الخيط خيط نفسه، وأراد أن ينزعه من بطنه، ويقتل نفسه، أمباح له ذلك أم محرم؟ قال: بل محرم، قلت: أرأيت لو جاء مالك الساحة، وأراد أن يهدم البناء أيحرم عليه ذلك أم يباح؟ قال: بل يباح. قال الشافعي: فكيف تقيس مباحا على محرم؟ قال محمد: فكيف تصنع بصاحب السفينة؟ قلت: آمره أن يسيرها إلى أقرب السواحل، ثم أقول له: انزع اللوح وادفعه إليه. فقال محمد بن الحسن: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام (1) » فقال الشافعي: من ضره؟ هو ضر نفسه. ثم قال الشافعي: ما تقول في رجل من الأشراف غصب جارية لرجل من الزنج في غاية الرذالة، ثم أولدها عشرة كلهم قضاة سادة أشراف خطباء، فأتى صاحب الجارية بشاهدين عدلين أن هذه الجارية التي هي أم هؤلاء الأولاد مملوكة له، ماذا تعمل؟ قال محمد: أحكم بأن أولئك الأولاد مماليك لذلك الرجل. قال الشافعي: أنشدك الله أي هذين أعظم ضررا؟ أن تقلع الساحة وتردها إلى مالكها، أو تحكم برق هؤلاء الأولاد؟ فانقطع محمد بن الحسن.
هذه المحاورة بين هذين الإمامين أنموذج حي لما كان يجري من مجالس علمية، تمتحن فيها أصول كل إمام بما يقرر من جزئيات، فهذا الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول لمحمد بن الحسن (. . فكيف تقيس مباحا على محرم؟) ويقول أيضا لما قال له محمد بن الحسن رحمه الله ك: فكيف تصنع بصاحب السفينة؟ وأجابه: فقال محمد بن الحسن: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام (2) » . أي: وأمر صاحب السفينة بتسييرها إلى الساحل؛ لنزع اللوح المغصوب ضرر عليه. فقال الشافعي: من ضره؟ هو ضر نفسه. فبين أن هذا الحكم مستثنى من قاعدة: لا ضرر ولا ضرار. ثم أجرى موازنة بين مفسدة استرقاق الأحرار العشرة الذين ولدتهم الزنجية المغصوبة وبين مفسدة هدم الجدار المقام على الأرض المغصوبة، وأن المفسدة الأولى أعظم من المفسدة الثانية باتفاق، ولهذا انقطع محمد بن الحسن رحمهما الله.
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .
(2) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .(15/132)
هذه المناظرة واحدة من عديد المناظرات التي تجري بين العلماء في ذلك العصر، وإن حكاها كل جماعة بما يتفق وعصبيته المذهبية وسعت دائرة الاجتهاد الفقهي والحركة الفقهية، وتكون منها آراء قانونية لها قيمتها، وحملت الكثيرين من الفقهاء على أن يتسلحوا بأسلحة مناظريهم، فالقياسيون يتسلحون بالحديث، والمحدثون يتسلحون بالرأي، وقربت كثيرا من أوجه النظر المتباعدة، وربما كان أقرب مثال لذلك الشافعي ومحمد بن الحسن في النموذج المتقدم آنفا، فكلاهما اطلع على الناحيتين وتسلح بالسلاحين. هذا ولم يقتصر الأمر على المناظرات الشفوية بل تجاوزها إلى المكاتبة، فهذا الليث بن سعد. يكتب من مصر إلى مالك بالمدينة يجادله في حجية عمل أهل المدينة، ويرد عليه مالك (1) .
__________
(1) جواب الليث على رد مالك ذكره ابن القيم في إعلام الموقعين 3 \ 83.(15/133)
ثالثا: اتساع الدولة وكثرة الوقائع
ضمت الدولة الإسلامية في هذا العهد شعوبا وأمما مختلفة في الدين والحضارات والعادات والتقاليد والنظم الاجتماعية وطرق المعيشة، وفي أنواع كثيرة من المعاملات، ففي العراق سادت العادات الفارسية والقبطية وغيرها، فمن دخل في الإسلام، عرض ما قد كان عليه قبل الإسلام على أبي حنيفة مثلا، وفي الشام عرضت الأوضاع الرومانية ونظم القضاء الروماني وقضاياه على الأوزاعي وفي مصر عرضت العادات المصرية والرومانية والإغريقية على الليث بن سعد.(15/133)
وقد عمل هؤلاء الفقهاء وغيرهم على تمحيص ما عرض عليهم، فأقروا بعضه وعدلوا بعضه، وأنكروا بعضه على ضوء ما عندهم من علم شرعي، حتى غدت الحياة العامة في كل إقليم ومصر مصطبغة بالصبغة الإسلامية.
ومما ساعد على تقريب وجهات النظر بين المجتهدين في هذا العصر أن كل قطر من الأقطار المفتوحة وجدت فيه أحكام لم تكن موجودة في غيره؛ نظرا لاختلاف البيئات والفوارق الإقليمية، فلقد أحس العلماء في كل إقليم بحاجتهم إلى التعرف على ما في الإقليم الآخر من اجتهادات فقهية، فنشأت الرحلات العلمية، فالشافعي رحل إلى المدينة والعراق ومصر. وربيعة الرأي رحل إلى العراق، ورحل محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة إلى المدينة، ورحل أحمد بن حنبل إلى الحجاز وإلى اليمن، فآتت هذه الرحلات ثمراتها في إزالة كثير من أوجه الخلاف، وأشعرت كلا بحاجته إلى ما عند غيره من العلم والفقه.(15/134)
رابعا: نمو الحركة العلمية
كان بدء هذه الحركة في أواخر الدور السابق، لكنها في هذا الدور نمت نموا عظيما بوصول المدنيات القديمة إلى رؤوس المفكرين من علماء المسلمين، وقد ساعد على وصول هذه المدنيات عوامل أهمها:
أ- ترجمة العلوم والفلسفة اليونانية إلى لغة العرب، ولم تبلغ الترجمة شأوها إلا في عهد المأمون بن الرشيد في القرن الثالث من الهجرة إذ كان مغرما(15/134)
بالآداب اليونانية وبآراء أرسططاليس على وجه خاص، ولقد انتشرت هذه الكتب انتشارا هائلا، فكانت العامل المهم في تكوين معلومات أهل الكلام.
ب- الموالي فقد دخلوا في الإسلام بأعداد عظيمة من الفرس والروم والمصريين. فمنهم من أسر صغيرا، وتربى تحت كنف سادته من المسلمين، فورثوا ما عندهم من العلوم الإسلامية التي أساسها الكتاب والسنة، فحملوا عنهم شيئا كثيرا، وكان منهم القراء الكبار والمحدثون بجانب إخوانهم من العرب.
ومنهم من دخل في الإسلام وهو كبير، فكان من نتيجة ذلك تلاحم الأفكار وإنضاج العقول.(15/135)
خامسا: التدوين.
سوف نعنى هاهنا بما يتصل بالتدوين لأصول الفقه إذ هو الموضوع الذي عقدت هذه الدراسة التاريخية من أجله.
أما التدوين من حيث هو فحسبنا أن نشير إلى أن عمر بن عبد العزيز. الخليفة الأموي رضي الله عنه كتب قبل موته بسنة إلى عامله على المدينة أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم: أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنته فاكتبه؛ فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء.(15/135)
كما أن التدوين من حيث هو تدوين بصرف النظر عن ترتيبه وتنظيمه والاهتمام به على النحو الذي وصل إليه في عهد التدوين الزاهي - كان موجودا على حياة رسول - صلى الله عليه وسلم - فقد خرج أحمد في مسنده، «عن عبد الله بن عمرو بن العاص حين نهته قريش عن كتابة كل ما يسمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه بشر يتكلم في الغضب والرضا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اكتبه، فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق (1) » .
وقد جمع العلماء بين نهيه (2) صلى الله عليه وسلم عن الكتابة، وأمره ثانيا بها: بأن النهي كان قبل أن يميز الصحابة بين ما هو قرآن وبين غيره من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما تميز عندهم زال المحذور، فأذن عليه الصلاة والسلام بالكتابة عنه.
وأرى من المفيد أن نمر بالقارئ على موجز ما ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله. حيث ذكر أن آثار النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن في عصر أصحابه وكبار تبعهم مدونة في الجوامع ولا مرتبة، وعلل ذلك بأمور ثلاثة:
1 - نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أول الأمر خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم.
__________
(1) سنن أبو داود العلم (3646) ، مسند أحمد بن حنبل (2/162) ، سنن الدارمي المقدمة (484) .
(2) عن تاريخ التشريع الإسلامي للسبكي وزميله ص 212.(15/136)
2 - سعة حفظهم وسيلان أذهانهم.
3 - ولأن أكثرهم لا يعرفون الكتابة.
ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار وتبويب الأخبار وعلل ذلك:
1 - بانتشار العلماء في الأمصار.
2 - ظهور فرق المبتدعة من الخوارج والروافض والمعتزلة.
ويبين أن أول من جمع ذلك الربيع بن صبيح (1) . وسعيد بن أبي عروبة (2) . وغيرهما.
وكانوا يصنفون كل باب على حدة. إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة (وأهل هذه الطبقة هي التي اصطلحنا على إدماجها ضمن فئات الدور الرابع من أدوار الاجتهاد الفقهي) فدونوا الأحكام. فصنف الإمام مالك الموطأ وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز، ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ومن بعدهم.
وصنف أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج بمكة، وأبو عمر وأبو عبد الرحمن بن عمر الأوزاعي بالشام، وأبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري. بالكوفة وأبو سلمة حماد بن سلمة بن دينار
__________
(1) مجاهد صالح توفي غازيا في بحر السند سنة 160 هـ
(2) وفاته سنة 156 هـ ولهما ترجمة في تهذيب التهذيب. محب الدين الخطيب حاشية الهدي الساري ص 6.(15/137)
بالبصرة. . . إلخ (1) .
هذه إشارات عابرة إلى بداية التدوين وتطوره، أرجو أن يطلع منها القارئ على ما يهديه إلى نشأة هذا النشاط واهتمام السلف الصالح به.
__________
(1) تاريخ التشريع الإسلامي للسايس وزميله ص 291.(15/138)
موقف الشريعة الإسلامية من نكاح التحليل
للدكتور \ محمد بن أحمد الصالح (1) .
تمهيد:
الزواج أساس الأسرة ودعامتها، والقاعدة التي يقوم عليها بناء المجتمع. والأسرة هي اللبنة الأولى في بناء الأمة، والزواج عقد وضعه الشارع الحكيم؛ ليفيد بطريق الأصالة ملك استمتاع الرجل بالمرأة، وحل استمتاع المرأة بالرجل، كما أن الزواج عقد أريد به الدوام والاستمرار إلا لمعارض راجح كاستحباب الطلاق للضرر، أو وجوب الطلاق، إذا أبى المولى الفيء، إلى غير ذلك من الحالات التي شرع فيها الطلاق أو الفرقة.
قال الله تبارك وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (2) .
ولقد سن الشارع الحكيم سننا قويمة، ووضع لذلك تشريعا كاملا محكما، تنشأ فيه رابطة الزوجية على أساس من الطهر والثقة والتقدير المتبادل، وتقوم فيه علاقة الزوجين على أساس من المودة والرحمة
__________
(1) ورد لكاتب البحث ترجمة في العدد العاشر صفحة 304.
(2) سورة الروم الآية 21(15/139)
والسكينة حتى تنبت فيه شجرة الأسرة قوية الجذور، باسقة الفروع، وتنمو وتزدهر وتثمر أينع الثمر، وتنشر في الناس ظلا ظليلا ورائحة زكية.
ولقد رتب الشارع على عقد الزواج حقوقا وواجبات تثبت لكل من الزوجين على الآخر، وطالبهما بحسن العشرة، والاعتدال في المعاملة، والتعاون على الحياة المشتركة بينهما، ورسم الطريق القويم لعلاج ما قد ينشأ بينهما من خلاف ومشكلات، وشرع الطلاق للخلاص حين تستعصي على الزوجين إقامة حدود الله والوقوف على ما رسمه الشارع؛ للسير في علاقة الزوجية، ولقد أباحت الشريعة الطلاق عندما تسوء العشرة بين الزوجين، ويتحكم الشر في نفوسهما، حيث تذهب الثمرات المطلوبة من الزواج من السكن والمودة والرحمة، التي كان يجب توفرها بين الزوجين، وحينئذ فللزوج معالجة ما حصل بينهما من الشقاق والنزاع بإيقاع طلقة واحدة، وهو في حال من الرضى والهدوء، والمرأة في طهر لم يجامعها فيه، وفي هذه الحالة يثبت له الحق في الرجعة قبل مضي العدة، بدون عقد، فإذا ما عاد سوء العشرة بينهما وحل الخصام محل الوئام أبيح له أيضا أن يطلق طلقة واحدة أخرى، وله أن يراجع زوجته ما دامت في عدتها، فإن استقامت حالهما وصلح أمرهما وحسنت العشرة كان بها، وإن ساءت العلاقة ولم ينفع العلاج بالطلقتين الماضيتين أبيح له أن يطلق الطلقة الثالثة، وفي هذه المرة تنفض عرى الزوجية تماما، وتبين البينونة الكبرى، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، زواجا شرعيا نكاح رغبة، يقصد منه إقامة الزوجية وبناء الأسرة والعشرة الدائمة، بدون شرط أو قصد التحليل، فإذا صادف ولم يحالف زواجها الثاني التوفيق وحسن العشرة بل ساءت العلاقة بينهما، وطلقها زوجها الثاني، أو توفي عنها حلت لزوجها الأول بعد فراغ عدتها من الثاني، والأصل في ذلك قول الله تبارك وتعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (1) . وقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري
__________
(1) سورة البقرة الآية 230(15/140)
قال: حدثنا سعيد بن عفير، حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة رضي الله عنها أخبرته «أن امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن رفاعة طلقني فبت طلاقي، وإني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي، وإنما معه مثل الهدبة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته (1) » .
وعن عائشة رضي الله عنها، «أن رجلا طلق امرأته ثلاثا، فتزوجت فطلق؛ فسئل النبي صلى الله عليه وسلم أتحل للأول؟ قال: لا، حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول (2) » .
__________
(1) صحيح البخاري بشرح فتح الباري ص 361 ج 9.
(2) صحيح البخاري بشرح فتح الباري ص 362 ج 9.(15/141)
آراء العلماء في نكاح التحليل:
إذا طلق رجل امرأته ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره؛ لقوله تعالى بعد قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1) {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (2) .
وهذا قدر متفق عليه بين جميع أهل العلم، لا نعلم خلافا في ذلك، وإنما الخلاف في شيء وراء هذا، وهو هل المراد من النكاح في قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ} (3) العقد كما قال الإمام سعيد بن المسيب، أم الوطء كما قال جمهور الفقهاء وهو المعول عليه؟ ولكنهم بعد اتفاقهم على هذا اختلفوا فيمن تزوج المطلقة ثلاثا؛ ليحلها للزوج الأول، أي: نوى من زواجه بها ذلك أو شرط عليه ذلك في العقد أو قبله، هل تحل للزوج الأول بعد أن يطلقها الزوج الثاني أو لا تحل؟ اختلف الفقهاء في ذلك، وتفصيل القول فيما يأتي:
إذا بانت الزوجة بينونة كبرى من زوجها فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره نكاحا صحيحا، يطؤها فيه، ثم يطلقها وتنقضي عدتها، فإذا نكحت المرأة هذا الرجل الثاني بدون شرط التحليل وبدون نيته في صلب العقد، وإنما تجردت نية الزوج للإمساك المطلق والرغبة في النكاح، فهو عقد صحيح بالإجماع سواء في هذه الحالة حصل شرط أو قصد قبل العقد، ثم تجرد العقد عنهما أو لا، وسواء أيضا نوت الزوجة أو وليها عند العقد أم لا.
أما إذا شرط التحليل أو نواه الزوج في صلب العقد فهو عقد المحلل الذي حصل فيه النزاع، فقد ذهب الإمامان مالك وأحمد - رضي الله عنهما - إلى أن عقد الزواج للمحلل باطل مطلقا شرط فيه التحليل أو نواه الزوج وإلى ذلك ذهب عامة أهل العلم، وجملة
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة البقرة الآية 230
(3) سورة البقرة الآية 230(15/142)
القول أن نكاح المحلل حرام باطل في قول عامة أهل العلم؛ منهم الحسن والنخعي وقتادة والليث والثوري وابن المبارك، وهو المعروف عن عامة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم جميعا، فقد روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قوله: «إنا كنا نعده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سفاحا ولا يزالان زانيين ولو مكثا عشرين سنة (1) » .
وذهب الإمام الشافعي - رضي الله عنه - إلى أنه إذا شرط في العقد أنه إذا وطئ طلق أو بانت منه أو فلا نكاح بينهما أو نحو ذلك فالعقد باطل إلا أن في اشتراط التطليق قولا ضعيفا للشافعي: أنه لا يضر. وقد نقل الإمام النووي في شرح الروضة: أنه لو تزوجها على أن يحلها للأول ففيه وجهان للأصحاب، وجزم الماوردي بالصحة. اهـ.
ولم أجد من تعرض في شروح المنهاج لهذه المسألة بخصوصها، والذي في المهذب: أن العقد باطل فيها، ولم يذكر خلافا، حيث قال: ولا يجوز نكاح المحلل، وهو أن ينكحها على أنه إذا وطئها فلا نكاح بينهما، أو أن يتزوجها على أن يحلها للزوج الأول. أما إذا لم يشترط التحليل ولكن نواه الزوج في العقد فقد اتفقت الشافعية على صحته مع الكراهة.
قال أبو إسحاق الشيرازي في المهذب: (وإن تزوجها على أنه إذا وطئها طلقها، ففيه قولان: أحدهما: أنه باطل؛ لما ذكرناه من العلة، يعني أنه نكاح شرط انقطاعه دون غايته فشابه نكاح المتعة، والثاني: أنه يصح؛ لأن النكاح مطلق وإنما شرط قطعه بالطلاق، فبطل الشرط وصح العقد، فإن تزوجها واعتقد أنه يطلقها إذا وطئها كره ذلك؛ لما روى أبو مرزوق التجيبي، أن رجلا أتى عثمان - رضي الله عنه - فقال: إن جاري طلق امرأته في غضبه ولقي شدة فأردت أن
__________
(1) الشرح الكبير على مختصر خليل لأبي البركات أحمد بن محمد الدردير المتوفى 1201 هـ، ط \ عيسى الحلبي، وحاشية الدسوقي ص 258 وما بعدها ج 2، بداية المجتهد ونهاية المقتصد لمحمد بن رشد المتوفى 595 هـ، ط \ مصطفى الحلبي سنة 1379 هـ، ص 58 ج 2، المغني لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المتوفى سنة 620 هـ، والشرح الكبير ص 574 وما بعدها ج 7، والفروع لأبي عبد الله محمد بن مفلح المتوفى سنة 763 هـ، ط \ دار مصر للطباعة ص 215 ج 5. الإنصاف في مسائل الخلاف لأبي الحسن علي بن سليمان المرداوي، المتوفى 885 هـ ص 161 ج 8، كشاف القناع عن متن الإقناع للشيخ منصور البهوتي المتوفى سنة 1051 هـ ص 94 ج5، مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام الإمام أحمد بن تيمية المتوفى سنة 728 هـ ص 150 ج 32، والفتاوى الكبرى ص 155 وما بعدها ج 3 ط \ الكردي 1328 هـ.(15/143)
أحتسب نفسي ومالي فأتزوجها، ثم أبني بها، ثم أطلقها فترجع إلى زوجها الأول. فقال رضي الله عنه: لا تنكحها إلا بنكاح رغبة.
فإن تزوج على هذه النية صح النكاح؛ لأن العقد إنما يبطله بما شرط لا بما قصد، ولهذا لو اشترى عبدا بشرط أن لا يبيعه بطل، ولو اشتراه بنية أن لا يبيعه لم يبطل. اهـ.
وأما القول الضعيف الصحيح لاشتراط التطليق، فقال: إنه لا يضر شرطه، كما لو نكحها بشرط أن لا يتزوج عليها. ورد بالفرق، بأن عدم التزويج أمر خارج عن النكاح لا ينافي ذاته ومقصوده، بخلاف شرط التطليق؛ فإنه مناف لذلك.
وذهب الإمام أبو حنيفة وزفر - رضي الله عنهما - إلى أن نكاح المحلل صحيح مطلقا، إلا أنه يكره إن شرط التحليل، ويكون هذا الشرط فاسدا، ونقل عنه قول بصحته حتى ولو امتنع المحلل من الطلاق أجبر عليه. وذهب محمد بن الحسن إلى أنه يصح مطلقا إلا أنه لا يحلها للأول إذا شرط التحليل. وذهب أبو يوسف إلى أنه إن شرط التحليل بطل العقد وإن نواه صح، وهذا موافق للمعتمد في مذهب الشافعية إلا أنه لا يقول بالكراهة مثلهم.(15/144)
أدلة القائلين بجواز نكاح التحليل ومناقشتها
أولا: قالوا: إن الله تعالى يقول: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (1)
وجه الاستدلال: أن هذا زواج قد عقد بمهر وولي ورضا الزوجة، وخلوها من الموانع الشرعية، وهو راغب في ردها إلى زوجها الأول، فدخل هذا النكاح تحت قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (2) كما دخل في حديث ابن عباس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إلا نكاح رغبة» ، فكان النكاح صحيحا معتبرا كغيره من باقي الأنكحة.
نوقش هذا الدليل بما يأتي:
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد فسر المراد من النكاح في قوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (3) وتبين أنه هو النكاح الذي يتأتى أن يطلق فيه أو لا يطلق، لا أنه هو النكاح المقصود أصلا الطلاق، ونكاح المحلل ليس كذلك، وما ذكر من المهر وغيره مما قالوه أمور ظاهرة، ليس المقصود منها حقيقتها بل المقصود به التوصل إلى ما يريدون من حلها للزوج الأول، وليس المقصود بالرغبة الرغبة في ردها إلى الزوج الأول، إنما المقصود الرغبة في المرأة، ودوام النكاح والعشرة، ونكاح المحلل ليس من هذا القبيل.
__________
(1) سورة البقرة الآية 230
(2) سورة البقرة الآية 230
(3) سورة البقرة الآية 230(15/145)
الدليل الثاني:
قالوا: إنما شرط في عودها للأول بمجرد ذوق العسيلة بينهما حلت له بالنص، وأما لعنه -صلى الله عليه وسلم- فلا ريب أنه لم يرد كل محلل ومحلل له؛ فإن الولي محلل لما كان حراما قبل العقد، والحاكم والزوج محلل بهذا الاعتبار، والبائع أمته محلل للمشتري وطأها، ومع ذلك فلم يقل أحد بأن هؤلاء ملعونون. فإن قيل: إن هذا العام مخصص. قلنا: إن كان العام بعد التخصيص مجملا فلا احتجاج بالحديث، وإن كان حجة فيما عدا محل التخصيص قلنا: إن ذلك مشروط ببيان(15/145)
المراد منه، ولسنا ندري المحلل المراد بالنص، أهو الذي نوى التحليل، أم هو الذي شرط عليه ذلك قبل العقد، أم هو الذي شرط ذلك عليه في العقد، أهو الذي أحل ما حرمه الله تعالى ورسوله؟ ووجدنا من تزوج مطلقة ثلاثا، فإنه محلل ولو لم يشترط التحليل أو لم ينوه؛ فإن الحل حصل بوطئه وعقده، ومعلوم قطعا أنه لم يدخل في النص، فعلم أن النص إنما أراد به من أحل الحرام بفعله أو عقده، وكل مسلم لا يشك في أنه أهل للعنة، وأما من قصد الإحسان إلى أخيه المسلم، ورغب في جمع شمله بزوجته ولم شعثه وشعث أولاده وعياله فهذا محسن، {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} (1) فضلا عن أن تلحقه لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونوقش هذا الدليل بما يلي:
أن هذا قول جانبه الصواب؛ لأن الله تعالى شرط في عودها للأول أن تنكح زوجا غيره نكاحا بالمعنى الذي فسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي ينشأ عنه ذوق العسيلة، والذي إذا طلق فيه الزوج الثاني وانقضت العدة منه وعقد عليها الزوج الأول حلت له، فليس الشرط مجرد ذوق العسيلة كما تقولون، وقولهم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لعن المحلل والمحلل له (2) » ، ولم يرد به كل محلل. . . . إلى آخر ما قالوه، فهذا كلام يقصد به المغالطة، فالصحابة والتابعون - رضي الله عنهم - جميعا كانوا يفهمون من المحلل عند الإطلاق، هو الذي يتزوج المرأة ليحللها لزوجها الذي طلقها ثلاثا دون أن يكون راغبا في بقائها، وأن المحلل له هو الزوج الذي طلق ويرغب في عود من طلقها إليه، فهذا التشكيك غير مقبول، ومثل هذا لا يقال: إنه محسن، وما على المحسنين من سبيل، بل يقال: إنه أساء؛ لأنه سلك طريقا لم يأذن له الشارع فيه، ومن هذا شأنه فهو مسيء، والمسيء يستحق الذم جزاء على إساءته وعقابا على عمله، ولذلك لعنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجعله مطرودا من رحمة الله تعالى.
__________
(1) سورة التوبة الآية 91
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/448) .(15/146)
الدليل الثالث:
قالوا: إنه نكاح خلا من شرط يفسده، فأشبه ما لو نوى طلاقها لغير الإحلال أو نوت المرأة ذلك.
نوقش هذا القول: بأنه يكاد أن يكون مصادرة على المطلوب؛ لأننا لا(15/146)
نسلم أنه خلا من شرط يفسده، بل نقول: إن نية التحليل وعدم نية لزوم النكاح ودوامه فيه منافاة للمقصود من النكاح، وهو دوام العشرة والألفة والمودة، وليس هناك بعد هذا ما يفسد النكاح، فكيف يقال: إنه خلا من شرط يفسده؟ أليس هذا شرطا ينافي المقصود من العقد؟ كل شرط ينافي المقصود من العقد فإنه يفسده. وقولهم: إنه يشبه ما لو نوى طلاقها لغير الإحلال. كلام ظاهر البطلان؛ لأنه متى تزوجها زواجا معتبرا لا خلل فيه فلا عبرة بما وراء ذلك، طلقها للإحلال أو لغيره، الأمر في ذلك سواء، ولا عبرة بنية المرأة التحليل؛ لأن الطلاق ليس بيدها بل بيد من أخذ بالساق، فالتشبيه غير صحيح.(15/147)
الدليل الرابع:
قالوا: لو اشترى إنسان عبدا بشرط أن يبيعه لم يصح، ولو نوى ذلك لم يبطل؛ فنكاح المحلل مثله.
نوقش هذا الدليل بما يلي: قياس نكاح المحلل على من اشترى عبدا بشرط أن يبيعه قياس مع الفارق؛ لأن شرط البيع لا ينافي المقصود من البيع؛ لأن المقصود من البيع التملك، والتملك: أن يتصرف في ملكه كيف شاء، بخلاف النكاح المحلل؛ فإن المقصود من النكاح دوام العشرة والألفة واللزوم والاستمرار، فشرط التحليل ينافي المقصود من النكاح، فكان هذا الشرط مفسدا للنكاح.(15/147)
الدليل الخامس:
قالوا: روى أبو حفص بإسناده، عن محمد بن سيرين قال: قدم مكة رجل ومعه إخوة له صغار، وعليه إزار بين يديه رقعة ومن خلفه رقعة، فسأل عمر فلم يعطه شيئا، فبينما هو كذلك إذ نزغ الشيطان بين رجل من قريش وبين امرأته فطلقها، فقال لها: هل لك أن تعطي ذا الرقعتين شيئا يحلك لي؟ قالت: نعم. وتزوجها ودخل بها، فلما أصبحت أدخلت إخوته الدار، فجاء القرشي يحوم حول الدار يقول: يا ويلاه غلب على امرأتي، فأتى عمر فقال: يا أمير المؤمنين غلب على امرأتي. قال: من ذلك؟ قال: ذو الرقعتين. قال: أرسلوا إليه. فلما جاء الرسول قالت له المرأة: كيف موضعك من قومك؟ قال: ليس بموضعي بأس. قالت: إن أمير المؤمنين يقول لك: طلق امرأتك، فقل: لا والله لا أطلقها؛ فإنه لا يكرهك.(15/147)
وألبسته حلة، فلما رآه عمر قال: الحمد لله الذي وفق ذا الرقعتين. فدخل عليه، وقال: أتطلق امرأتك؟ قال: لا والله لا أطلقها. قال عمر: لو طلقتها لأوجعت رأسك بالسوط.
وجه الاستدلال: أن هذا نكاح تقدم فيه الشرط على العقد، ولم ير به عمر بأسا.
نوقش هذا الدليل بما يلي: ما ذكروه من قصة ذي الرقعتين، وأن عمر هدده لو طلقها معارض بما ثبت عن عمر - رضي الله عنه - أنه خطب على المنبر وقال: لا أوتى بمحلل ومحلل له إلا رجمتهما. وهذا روي بإسناد جيد، وما روي من قصة ذي الرقعتين فهذا لا سند له، وما لا سند له لا يعارض ما له سند. وسنذكر في أدلة القائلين ببطلان نكاح المحلل أوجه تخريج هذه القصة من وجوه عدة.
وبعد هذه المناقشة لأدلة القائلين بصحة نكاح التحليل ظهر لنا ضعفها وقصورها، وأنه لا يمكن الأخذ بها؛ لما ورد عليها من مناقشات وأجوبة مقنعة. ومن ثم فلا يجوز الأخذ بهذا الرأي، وإنما يتعين الأخذ بما ذهب إليه الجمهور، وهو القول ببطلان نكاح التحليل، الذي تبناه الإمام العلامة شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية - رضي الله عنه - المتوفى عام ثمان وعشرين وسبعمائة للهجرة، ودافع عنه دفاعا قويا، وساق من الحجج والبراهين على بطلان هذا الموضوع من الأنكحة ما لا يتسع له المقام، وقد ألف - رضي الله عنه - كتابا سماه "إقامة الدليل على إبطال التحليل" وهو كتاب فريد في موضوعه، حيث لم يصنف في هذه المسألة مثله لا قبله ولا بعده، وقد استوفى - رضي الله عنه - أدلة إبطال الحيل في الدين عموما والتحليل خصوصا عقلا ونقلا، وتطبيقا على الأصول من وجوه عدة، وقد جاء في مائتين وأربع وستين صفحة في الجزء الثالث من الفتاوى الكبرى طبعة الكردي سنة (1328 هـ) . وقد اطلعنا على نسخة خطية من الكتاب في مكتبة المدينة العلمية العامة بالمدينة المنورة تحت رقم عام (10) ورقم خاص (257) وعدد أوراقه (180) طول (31) وعرض (22) نسخ السيد محمد، سنة (1218 هـ) . فيمكن لمن أراد المزيد من المعرفة الرجوع إلى هذا الكتاب القيم.(15/148)
أدلة الجمهور:
استدل الجمهور رحمهم الله على بطلان نكاح المحلل بالكتاب والسنة والإجماع، وقدم الاستدلال بالسنة على الكتاب، مع أن الشأن عند تساوي هذه الأدلة في الدلالة أن يقدم الكتاب؛ لأن السنة في الأدلة أبين كما قال ذلك العلامة ابن تيمية رضي الله عنه.
وفي طريق الاستدلال على المطلوب مسالك:
المسلك الأول (1) :
ما رواه سفيان الثوري، عن ابن قيس الأزدي، عن هذيل بن شرحبيل، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الواشمة والموشومة، والواصلة والموصولة، والمحلل والمحلل له، وآكل الربا وموكله (2) » . رواه أحمد والنسائي، وروى الترمذي من هذا الحديث «لعن المحلل والمحلل له (3) » . وقال: حديث حسن صحيح، والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر، وهو قول الفقهاء من التابعين.
وقال في وجه الاستدلال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن المحلل، فعلم أن فعله حرام؛ لأن اللعن لا يكون إلا على معصية، بل لا يكاد يلعن إلا على فعل الكبيرة إذ الصغيرة تقع مكفرة بالحسنات إذا اجتنبت الكبائر - واللعنة هي الإقصاء والإبعاد عن رحمة الله - ولم يستوجب ذلك إلا بكبيرة، فقد روي عن ابن عباس أنه قال: كل ذنب ختم بغضب أو لعنة أو عذاب أو نار فهو كبيرة. رواه عنه ابن أبي طلحة، وهذا دليل على بطلان العقد؛ لأن النكاح المحرم باطل باتفاق الفقهاء، يدل لذلك أنهم حملوا نهيه عليه السلام أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها على التحريم والفساد.
ثم إنه لعن المحلل له فتبين من ذلك أنها لم تحل له بذلك، إذ لو حلت له لكان نكاحه مباحا، فلم يستحق اللعن عليه، فعلم أن الذي فعله المحلل حرام باطل، وإن تزوج المطلق ثلاثا لأجل هذا التحليل فزواجه حرام باطل. ومع أن مجرد تحريم عقد النكاح كاف في بطلانه، ففي خصوص هذا الحديث ما يدل على فساد العقدين؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لعن المحلل له، فلا يخلوا إما أن يكون حل
__________
(1) الفتاوى الكبرى ص 155 ج 3 \ ط - الكردي سنة 1328 هـ.
(2) صحيح مسلم اللباس والزينة (2125) ، سنن الترمذي الأدب (2782) ، سنن النسائي الطلاق (3416) ، سنن أبو داود الترجل (4169) ، سنن ابن ماجه النكاح (1989) ، مسند أحمد بن حنبل (1/448) ، سنن الدارمي الاستئذان (2647) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (1/448) .(15/149)
للثاني تزوجها، وإما أن لا يكون حل، والأول باطل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعنه، ولو كانت قد حلت له لكان تزوجه بها جائزا، ولم يجز لعنه، فيتعين الثاني. وإذا لم تكن حلالا للثاني، فكل امرأة يحرم التزوج بها فالعقد عليها باطل، وهذا ثابت بالإجماع المتيقن، بل بالعلم الضروري من الدين. وذلك أن محل العقد كالمبيع والمنكوحة إذا لم تكن مباحا كالميتة والدم والمعتدة والمزوجة كان العقد عليها باطلا بالضرورة والإجماع.
وإذا ثبت إنها لم تحل للثاني وجب أن يكون عقد الأول عليه باطلا؛ لأنه لو كان صحيحا لحصل به الحل كسائر الأنكحة الصحيحة، والكلام المحفوظ لفظا ومعنى في قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (1) . ومن قال: إن النكاح صحيح، وهي لا تحل له فقد أثبت حكما بلا أصل ولا نظير، وهذا لا يجوز.
نوقش هذا الدليل: بأن التحريم وإن اقتضى فساد العقد فإنما ذلك إذا كان التحريم ثابتا من الطرفين، فإذا كان التحريم ثابتا من أحدهما لم يجب الفساد كبيع المصراة والمدلس، وهذا التحليل المكتوم إنما هو حرام على الزوج المحلل، فأما المرأة ووليها فليس حراما عليهما إذا لم يعلما بقصد الزوج، فلا يكون العقد فاسدا كما ذكرنا من النظائر، إذ في إفساده إضرار المغرور من المرأة والولي، وصار هذا كما لو اشترى سلعة؛ ليستعين بها على معصية، والبائع لا يعلم قصده، فإن هذا العقد لا يحكم بفساده، وإنما حرم على المشتري، فالموجب للتحريم كتمان أحدهما لنقص المعقود عليه أو كذبه في وصفه، وإذا كان هذا العقد غير فاسد أثبت الحل؛ لأنه مقتضى العقد الصحيح، ثم قد يقال: تحل بهذا العقد للزوج الأول؛ عملا بعموم اللفظ والمعنى، وطردا للقياس كما قال بعضهم، وقد يقال: لا تحل به للأول كما قال محمد بن الحسن؛ لأن السبب معصية، والمعصية لا تكون سببا للاستحقاق، والحل وإن حكم بصحة العقد ووقوع السبب، ولا يلزم من حلها للزوج المحلل حلها للزوج المطلق؛ لأن الحل للأول حصل ضرورة تصحيح العقد لأجل حق العاقد الآخر، ومتى صح بالنسبة للمرأة فقد استحقت الصداق والنفقة واستحلت الاستمتاع؛ ولا يثبت هذا إلا مع استحقاق الزوج ملك النكاح واستحلاله الاستمتاع، بخلاف
__________
(1) سورة البقرة الآية 230(15/150)
المطلق؛ فإنه لا ضرورة هناك تدعو إلى تصحيح عقده. يقوي هذا أن بعض السلف منهم عمر وعطاء قد روي عنهم جواز إمساك الثاني لها إذا حدثت له الرغبة ومنعوا عودها للأول.
ويجاب عن هذه المناقشة: بما قال ابن تيمية، رحمه الله: إذا انفرد أحد العاقدين بعلمه بسبب التحريم فإما أن يكون التحريم لأجل حق العاقد الآخر، وإما أن يكون لحق الله، فإن كان لأجل حق الآخر كما في بيع المدلس والمصراة ونكاح المعيبة المدلسة ونحو ذلك، فهذا العقد صحيح في حق هذا المغرور باطنا وظاهرا، بحيث يحل له ما ملكه بالعقد، وإن علم فيما بعد أنه كان مغرورا، وأما في حق الغار، فهل يكون باطلا في الباطن بحيث يحرم عليه الانتفاع؟ أو لا يكون باطلا؟ أو يقال: ملكه ملكا حسيا، هذا مما قد يختلف فيه الفقهاء، وما معنا ليس من هذا القبيل.
وإن كان التحريم لغير حق المتعاقدين بل لحق الله سبحانه، أو لحق غيرهما، مثل أن يبيعه ما لا يملكه، والمشتري لا يعلم، أو يبيعه لحما يقول: هذا مذكى. وهو ذبيحة مجوسي أو وثني، ومثل أن يتزوج امرأة، وهو يعلم أنها أخته من الرضاعة وهي لا تعلم ذلك، أو يكون أحد المتبايعين محجورا عليه، وهو يعلم بالحجر الآخر أو بالعكس، أو لا يعلم أن هذا الحجر يبطل التصرف، إلى غير ذلك من الصور التي يكون العقد ليس محلا في نفس الأمر. أو العاقد ليس أهلا من الطرفين، فهنا العقد باطل في حق العالم بالتحريم باطنا وظاهرا.
وإن كان الفقهاء قد اختلفوا هل تستحق المرأة في مثل هذا مهرا؟ فعن أحمد روايتان؛ إحداهما: تستحقه، وهو قول الشافعي، والأخرى: لا تستحقه، وهو قول مالك، ومن أوجب المهر فذلك مخافة أن يخلو الوطء الملحق للنسب عن عوض.
ووجوب المهر والعدة والنسب ليست من اختصاص العقد الصحيح؛ فإن هذه الأشياء تثبت في وطء الشبهة، فإيجاب المهر لا يقضي بصحة العقد، كما أن إيجاب العدة وإلحاق النسب لا يقضيان بصحة العقد، فقد يجب كل منهما مع بطلان العقد، بل كل نكاح فاسد يثبت فيه ذلك وإن كان مجمعا على فساده.
ومسألتنا من النوع الثاني الذي ثبت التحريم فيه لحق الله تعالى؛ فإن قصد التحليل إنما حرم لحق الله سبحانه بحيث لو علمت المرأة أو وليها بقصده التحليل لم تجز مناكحته، فالتحليل هنا لم يقع في أهلية العاقد ولا في(15/151)
محلية المعقود عليه، وإنما وقع في نفس العقد بمنزلة الشرط الذي يعلم أحدهما بإفساده للعقد دون الآخر.
وإذا كان التحريم لحق الله سبحانه فالعقد باطل، والوطء والاستمتاع حرام على الزوج في مثل هذا وفاقا، وهل هو حرام على المرأة في الباطن أو ليس بحرام؟ قولان: أرجحهما الأول، وإن كان هذا الخلاف لا يعود إلى أمر عملي، وإن عاد إلى أمر ظاهري فيقال: هل فعلها في الظاهر حلال أو هو عفو؟
قولان: أرجحهما الثاني، فقد وقع الاتفاق على أن المرأة لا تؤاخذ على شيء من ذلك، وإذا ثبت ذلك ظهر الجواب عن قول الخصم: إنما نحكم بفساد العقد إذا كان التحريم ثابتا من الطرفين، وما معنا ليس كذلك، أو يقال له: أتريد بالتحريم التحريم وإن كان في الباطن فقط؟ أو التحريم الظاهر؟ إن أردت به الأول فلا نسلم أن التحريم ثابت على الزوج وحده، بل نقول: هو ثابت على كل منهما، لكن انتفى حكمه في حق المرأة؛ لفوات الشرط وهو العلم؛ فإن المرأة لو علمت بهذا القصد لحرم العقد عليها، وهذا هو التحريم الباطن، وإذا كان كذلك فقد فسد العقد في الباطن؛ لوجود التحريم في الباطن من الطرفين، وفسد في الظاهر في حق الزوج؛ لوجود التحريم في حق الزوج ظاهرا، فترتب على كل تحريم من الفساد ما يناسبه في محله ظاهرا وباطنا من الطرفين أو من أحدهما.
وإن أردت بالتحريم التحريم الظاهر أو الظاهر والباطن من الطرفين فلا نسلم أن هذا هو الشرط في الفساد، فقد ثبت أن بيع المصراة والمدلس فاسد مع أن الذي يعلم هو البائع فقط والآخر لا إثم عليه؛ لأنه لا يعلم، ولو سلمنا أن هذا العقد صحيح، هل هو صحيح من الطرفين؟ أو من جانب الزوجة فقط؟ أما الأول فممنوع وإن قاسه على المصراة؛ لأنا لا نسلم أن انتفاع البائع بجميع الثمن في صورة التصرية حلال، ولا يلزم من ملك المشتري المبيع ملك البائع العوض، إذا كان ظلما؛ فإن الغاصب الظالم الذي حال بين الشخص وملكه للمظلوم أن يطالبه بالبدل ينتفع به حلالا، والغاصب الظالم لا يملك العين المغصوبة، ولا يحل له الانتفاع بها ونظير ذلك كثير، وإذا لم يقم دليل على صحة العقد من الطرفين فلا نسلم أن النكاح المبيح لعودها إلى الأول هو ما كان صحيحا من أحد الطرفين دون الآخر، وأما قولهم: إن المشتري إذا اشترى سلعة ليستعين بها على معصية ولم يعلم البائع بذلك، فإن البيع لا يفسد(15/152)
بهذا، فكذا نكاح المحلل.
فالجواب أنه ما دام عدم العلم مستصحبا فلا إشكال، أما إذا علم البائع بقصد المشتري فلا نسلم أن البائع لا يجب عليه في الحال استرجاع المبيع ورد الثمن، لو ثبت أن هذا القصد كان موجودا وقت العقد، ولو سلمت هذه الصورة فالفرق بينها وبين نكاح المحلل قائم؛ فإن القصد في صورة الشراء لم يناف نفس العقد وهو الملك والانتفاع، أما قصد التحليل؛ فإنه مناف لمقتضى العقد، إذ مقتضاه الدوام والاستمرار، وقد ارتفع ذلك بنية إرجاعها للأول.
وأما قولهم: إن عمر - رضي الله عنه - جوز للزوج الثاني إمساكها بهذا العقد، ومقتضى هذا أن العقد صحيح يترتب عليه أثره.
فالجواب عنه أنه قد ثبت ما يخالف ذلك عن عمر، وعلى فرض أن عمر قال هذا، فذلك لا يقضي بصحة العقد إذا زالت النية الفاسدة؛ لأن العقد إن كان صحيحا مع وجودها - كما ذهب إليه بعض الطوائف - إلا أن الشرط الفاسد الملحق بالعقد إذا حذف بعده صح العقد، وهذا مما اختلف فيه الفقهاء، على أن كثيرا من الصحابة غير عمر قد ذهب إلى ما ذهب إليه أكثر الفقهاء، وهو أنه لا بد من استئناف عقد جديد، وبالجملة فهذا موضع اجتهاد، وأما صحة عقد المحلل بكل حال فلم ينقل لا عن عمر ولا عن غيره من الصحابة بعد البحث التام.(15/153)
الثاني من مسالك الاستدلال (1) :
ما روى أبو إسحاق الجوزجاني: حدثنا ابن أبي مريم أنبأنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: «سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحلل فقال: لا إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة، ولا استهزاء بكتاب الله، ثم يذوق العسيلة» .
رواه ابن شاهين في غرائب السنن، والدلسة من التدليس، وهو الكتمان والتغطية للعيوب، والمدالسة المخادعة، يقال: فلان لا يدالسك، أي: لا يخادعك، ولا يخفي عليك الشيء، فكأنه يأتيك في الظلام، والدلس بالتحريك الظلمة، وذلك لأن من قصد التحليل فقد دلس مقصوده الذي يبطل العقد، وكتم النية الرديئة بمنزلة الخادع المدالس الذي يكتم الشر ويظهر الخير، ووجه الاستدلال ظاهر؛ فإن ابن عباس لما سئل عن نكاح المحلل من حيث إنه يحلل المطلقة لزوجها الأول، قال: لا إلا نكاح رغبة. وإسناد هذا الحديث جيد إلا إبراهيم بن إسماعيل فقد اختلف فيه، قال فيه ابن معين: هو صالح. وقال فيه أحمد: هو ثقة من أهل الذمة. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: هو ضعيف. وقال فيه أبو أحمد بن عدي: هو صالح في باب الرواية، ونكتب حديثه على ضعفه.
واختار ابن تيمية ما قاله فيه ابن عدي حيث قال: والذي قاله ابن عدي عدل من القول فإن في الرجل ضعفا لا محالة، وضعفه إنما هو من جهة الحفظ وعدم الإتقان، لا من جهة التهمة، وله عدة أحاديث بهذا الإسناد. روى منها الترمذي وابن ماجه، ومثل هذا يكتب حديثه للاعتبار به ويعضده حديث مرسل يوافق ما رواه.
قال أبو بكر بن أبي شبية: حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن موسى بن أبي الفرات، عن «عمرو بن دينار أنه سئل عن رجل طلق امرأته، فجاء رجل من أهل القرية بغير علمه ولا علمها فأخرج شيئا من ماله فتزوجها ليحلها له. فقال: لا، ثم ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن مثل ذلك فقال: لا حتى ينكحها مرتغبا لنفسه، حتى يتزوجها مرتغبا لنفسه» ، فإذا فعل ذلك لم تحل له
__________
(1) الفتاوى الكبرى ص195 وما بعدها ج3.(15/154)
حتى تذوق العسيلة. وهذا الحديث المرسل حجة؛ لأن الذي أرسله احتج به. ولولا ثبوته عنده لما جاز أن يحتج به من غير أن يسنده. وإذا كان التابعي قد قال: إن هذا الحديث ثبت عندي. كفى ذلك؛ لأنه أكثر ما يكون قد سمعه من بعض التابعين عن صحابي أو عن تابعي آخر عن صحابي. وفي مثل ذلك يسهل العلم بثقة الراوي. وموسى بن أبي الفرات هذا ثقة وثقه يحيى بن معين، وذكر عن أبيه أبي حاتم أنه قال: هو ثقة وناهيك عما يوثقه هذان مع صعوبة تزكيتهما، ولا أعلم أحدا جرحه، وأما ابن أبي شيبة وحميد بن عبد الرحمن الذي روى عنه ويعرف بالراوي من مشاهير العلماء الثقاة، وابن أبي شيبة أحد الأئمة، فهذا المرسل حجة جيدة في المسألة.
ثم إن الحديث الضعيف إذا روي من طريق آخر عضد أحدهما الآخر، فكان في ذلك دليل على أن للحديث أصلا محفوظا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فصح الاحتجاج به على أن الحديث روي من طريق آخر إسناده جيد ورجاله مشاهير ثقاة، فقد روى وكيع بن الجراح، عن أبي غسان المدني، عن عمر بن نافع، عن أبيه، أن رجلا سأل ابن عمر عمن طلق امرأته ثلاثا فتزوجها هذا السائل من غير مؤامرة منه، أتحل لمطلقها؟ قال ابن عمر: لا إلا نكاح الرغبة، كنا نعده سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا الحديث نص في أن التحليل المكتوم كانوا يعدونه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سفاحا.(15/155)
الثالث من مسالك الاستدلال (1) :
أن التحليل لو كان جائزا لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل عليه من طلق ثلاثا؛ فإنه كان أرحم الناس بأمته وأحبهما لمياسير الأمور، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، وقد جاءته امرأة رفاعة القرظي مرة بعد مرة، وهي تروي من حرصها على العود إلى زوجها ما يرق القلب لحالها، ويوجب إعانتها على مراجعة الأول إن كانت ممكنة، ومعلوم أن التحليل إذا لم يكن حراما فلا يحصى من يتزوجها فيبيت عندها ليلة ثم يفارقها، وقد كان يمكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لبعض المسلمين حلل هذا لزوجها، فلما لم يأمر هو ولا أحد من خلفائه بشيء من ذلك مع مسيس الحاجة إليه علم أن هذا لا سبيل إليه، وأن من أمر به فقد تقدم بين يدي الله ورسوله. ولم تسعه السنة حتى تعداها إلى بدعة زينها الشيطان لمن أطاعه، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. قال ابن تيمية: ومن تأمل هذا المسلك وعلم كثرة وقوع الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه، وأنهم لم يأذنوا لأحد في التحليل، علم قطعا أنه ليس من الدين؛ فإن المقتضى للفعل إذا كان قديما قويا وجب وجوده، إلا أن يمنع منه مانع، فلما لم يوجد التحليل مع قوة مقتضيه علم أن في الدين ما يمنع منه، وهذا مسلك حسن وجيه.
__________
(1) الفتاوى الكبرى ج3 ص196 وما بعدها.(15/156)
الرابع من مسالك الاستدلال (1) :
فقد روى قبيصة بن جابر، عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما. رواه أبو بكر بن أبي شيبة وأبو إسحاق الجوزجاني وحرب الكرماني وأبو بكر الأثرم، وهو مشهور ومحفوظ عن عمر. وعن يزيد بن عياض بن جعد أنه سمع نافعا يقول: إن رجلا سأل ابن عمر عن المحلل، فقال ابن عمر: عرفت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لو رأى شيئا من ذلك لرجم فيه. (وزيد هذا وإن كان ضعيفا إلا أن حديثه محفوظ من غير طريقه) ، وعن سليمان بن يسار قال: رفع إلى عثمان - رضي الله عنه - رجل تزوج
__________
(1) الفتاوى الكبرى ج3 ص197.(15/156)
امرأة ليحلها لزوجها ففرق بينهما، وقال: لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة.
وعن أبي مرزوق التجيبي، أن رجلا أتى عثمان قال: إن جاري طلق امرأته في غضبه ولقي شدة، فأردت أن أحتسب نفسي ومالي فأتزوجها، ثم أبني بها ثم أطلقها، فترجع إلى زوجها الأول. قال له عثمان: لا تنكحها إلا نكاح رغبة.
وعن يزيد بن أبي حبيب، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في المحلل: لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة ولا استهزاء بكتاب الله. وقال سعيد في سننه: حدثنا هشيم، حدثنا الأعمش، عن عمران بن الحارث السلمي، قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إن عمه طلق امرأته ثلاثا فندم. فقال: عمك عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا. قال: أرأيت إن أنا تزوجتها عن غير علم منه أترجع إليه؟ قال: من يخادع الله يخدعه الله.
فهذه الآثار وغيرها مشهورة عن الصحابة، وفيها بيان أن المحلل عندهم اسم لمن قصد التحليل سواء ظهر ذلك أو لم يظهر، وأن عمر كان ينكل من يفعل ذلك، وأنه يفرق بين المحلل والمرأة، وإن حصلت له رغبة بعد العقد، إذا كان في الابتداء قصد التحليل، وأن المطلق ثلاثا وإن تأذى وندم ولقي شدة من الطلاق، فإنه لا يحل التحليل له، وإن لم يشعر هو ذلك، وهذه الآثار مع ما فيها من تغليظ التحليل فهي من أبلغ الدليل على أن تحريم ذلك واستحقاق صاحبه العقوبة كان مشهورا على عهد عمر، ومن بعده من الخلفاء الراشدين، ولم يخالف فيه من خالف في المتعة كابن عباس بل اتفقوا كلهم على تحريم هذا التحليل، فكان هذا إجماعا.
نوقش هذا: بأن تلك الآثار معارضة بما روي عن عمر بن الخطاب من أنه توعد ذا الرقعتين إذا هو طلق المرأة التي تزوجها؛ ليحلها لزوجها الأول، وروي ذلك من طرق متعددة، وكان ذلك بمرأى من الصحابة ومسمع، ولم ينكر عليه أحد، ذلك مما يدل على وجود الخلاف وعدم الاتفاق، وقد رويت تلك القصة من طرق متعددة نكتفي منها بما رواه أبو حفص العكبري في كتابه، عن ابن سيرين قال: قدم رجل مكة ومعه إخوة له صغار وعليه إزار، من بين يديه رقعة ومن خلفه رقعة، فسأل عمر فلم يعطه شيئا، فبينما هو كذلك إذ نزغ الشيطان بين رجل من قريش وبين امرأته فطلقها، فقال لها (أي زوجها) : هل لك أن تعطي ذا الرقعتين(15/157)
شيئا، ويحلك لي؟ قالت: نعم إن شئت. فأخبره ذلك، قال: نعم. فتزوجها فدخل بها، فلما أصبحت أدخلت إخوته الدار، فجاء القرشي يحوم حول الدار، ويقول: يا ويلاه غلب على امرأتي. فأتى عمر فقال: يا أمير المؤمنين غلبت على امرأتي، قال: من غلبك؟ قال: ذو الرقعتين. قال: أرسلوا إليه. فلما جاء الرسول قالت له المرأة (أي لمن تزوجها) : كيف موضعك من قومك؟ قال: ليس بموضعي بأس. قالت: إن أمير المؤمنين يقول لك: أتطلق امرأتك؟ فقل: والله لا أطلقها؛ فإنه لا يكرهك. وألبسته حلة، فلما رآه عمر من بعيد قال: الحمد لله الذي وفق ذا الرقعتين. فدخل عليه، فقال له: أتطلق امرأتك؟ قال: لا، والله لا أطلقها. فقال له عمر: لو طلقتها لأوجعت رأسك بالسوط. فهذا عن عمر - رضي الله عنه - وهو شرط تقدم العقد، وقد حكم عمر بصحته، وإذا كان الأمر كذلك صارت المسألة خلافية، ويحمل ما ثبت عن عمر من أنه نهى عن نكاح المحلل على الشرط المقرون بالعقد، فتتفق الروايات عن عمر.
وأجاب ابن تيمية عن ذلك بوجوه، نذكر منها ما يأتي: أولا:
أن هذا منقطع ليس له إسناد، يدل لذلك ما رواه أبو حفص عن أبي النضير قال: سمعت أبا عبد الله يقول في المحلل والمحلل له: أن يفسخ نكاحه في الحال. قلت: أوليس يروى عن عمر حديث ذي الرقعتين حيث أمره عمر ألا يفارقها؟ قال: ليس له إسناد. وقال أبو عبيد: هذا حديث مرسل؛ لأن ابن سيرين وإن كان مأمونا لم ير عمر ولم يدركه، فأين هذا من الذين سمعوا عمر يخطب على المنبر لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما. ثم أين هذا مما روي عن ابن عمر، أنه سئل عن تحليل المرأة لزوجها فقال: ذلك السفاح، لو أدرككم عمر لنكلكم. والمنقطع إذا عارض المسند لم يلتفت إليه.
ثانيا: إن كان هذا له أصل، فلعل الإرادة فيه لم تكن من الزوج الثاني، وإنما كانت من الزوج الأول المطلق، وذلك لا يضر ما دام الزوج الثاني لم ينو التحليل، ويقوي هذا أن الرجل لما جاء إلى عمر - رضي الله عنه - إنما قال: غلبت على امرأتي. ولم يقل: غدر بي، ولا مكر بي، ولا خدعت. ولو كان الزوج قد واطأه على أن يخلعها أو يطلقها لكانت شكاية إلى عمر، واحتجاجه أولى بما قاله؛ فإنه أقل ما في ذلك أن ذو الرقعتين يكون قد صدق فكذبه، ووعده فأخلفه.(15/158)
ثالثا: أنه ليس في القصة أنهم واطؤوه على أن يحلها للأول، ولا أشعروه أنها مطلقة، وإنما فيها أنهم واطؤوه على أن يبيت عندها ليلة ثم يطلقها، وهذا من جنس نكاح المتعة، الذي يكون للزوج فيه رغبة في النكاح إلى وقت، ونكاح المتعة قد كانوا يستحلونه صدرا من خلافة عمر، حتى أظهر عمر السنة بتحريمه، فلعل هذه القصة كانت قبل تحريم نكاح المتعة، ثم إن عمر - رضي الله عنه - أظهر بعد هذا تحريم المتعة وتوعد عليه.
رابعا: أن هذا الأثر ليس فيه عودها إلى المطلق، بل فيه النهي عن ذلك، وليس فيه دوام نية التحليل، بل فيه أنه صار نكاح رغبة بعد أن كان تحليلا، فإن كان بنكاح مستأنف فلا كلام، وإن كان باستدامة النكاح الأول فهذا مما يسوغ فيه الخلاف، كما في النكاح بدون إذن المرأة، أو نكاح العبد بدون إذن سيده، أو نكاح الفضولي؛ فإنه قد اختلف فيه هل هو مردود أو موقوف؟ وبعض الفقهاء يقول: إن الشرط الفاسد إذا حذف بعد العقد صح، فيمكن أن يكون قول عمر - رضي الله عنه - مخرجا على هذا؛ فإن الصحابة قد اختلفوا فيه، ونية التحليل كاشتراطه، فيكون هذا الشرط الفاسد إذا حذف صح العقد وإلا فسد، وإذا كانت هذه الحكاية بهذه المثابة من الإسناد والاحتمال لم تعارض ما عرف من كلام عمر - رضي الله عنه - فيما رواه عنه ابنه ومن سمعه يخطب على منبر المدينة.
خامسا: أنه لو ثبت عن عمر - رضي الله عنه - أنه صحح نكاح المحلل فيجب أن يحمل هذا منه على أنه رجع عن ذلك؛ لأنه ثبت عنه من غير وجه التغليظ في التحليل والنهي عنه، وأنه خطب الناس على المنبر فقال: لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما. وكذلك ذكر ابنه أن التحليل سفاح، وأن عمر لو رأى أصحابه لنكلهم، وبين أن التحليل يكون باعتقاد التحليل وقصده، كما يكون بشرطه، وقد كانوا في صدر خلافته يستحلون المتعة بناء على ما تقدم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها من الرخصة، ثم بعد هذا بلغ عمر - رضي الله عنه - النهي عن التحليل، فخطب به وأعلن حكمه، كما خطب بالنهي عن المتعة وأعلن حكمها، ولا يمكن أن يكون رخص في التحليل بعد النهي عنه؛ لأن النهي إنما يكون عن علم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخلاف ترك الإنكار؛ فإنه يكون عن الاستصحاب وما(15/159)
نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولعن فاعله؛ فإنه لا يمكن تغيير ذلك بعد موته، فثبت أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يختلفوا في ذلك.(15/160)
الخامس من مسالك الاستدلال (1) :
أن الله سبحانه وتعالى قال بعد قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (2) وبعد ذكر الخلع {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (3) ، ونكاح المحلل والمتعة ليس بنكاح عند الإطلاق، وليس المحلل والمتمتع بزوج، وذلك لأن النكاح في اللغة الجمع والضم على أتم الوجوه، فإن كان اجتماعا بالأبدان فهو الإيلاج الذي ليس بعده غاية في اجتماع البدنين، وإن كان اجتماعا بالعقود فهو الجمع بينهما على وجه الدوام واللزوم، ولهذا يقولون: استنكحه المذي، إذا لزمه وداومه، يدل على ذلك أن ابن عباس سئل عن المتعة - وكان يبيحها - أنكاح هي أم سفاح؟ فقال: ليست بنكاح ولا سفاح ولكنها متعة. فأخبر بأنها ليست بنكاح كما لم يكن مقصودها الدوام والملازمة، ولذا لم يثبت فيها أحكام النكاح المختصة بالعقد من الطلاق والعدة والميراث، وإنما ثبت فيها أحكام الوطء، ولذلك قال ابن مسعود وغيره من الصحابة والتابعين: نسخ المتعة النكاح والطلاق والعدة والميراث، فإذا كان المستمتع الذي له قصد في الاستمتاع بها إلى أجل ليس بناكح؛ لأنه لم يقصد دوام الاستمتاع ولزومه، فالمحلل الذي لم يقصد شيئا من ذلك أولى أن لا يكون ناكحا، ويكون قوله: نكحت أو تزوجت، وهو يقصد أن يطلقها بعد ساعة أو ساعتين، وليس له فيها غرض أن تدوم معه ولا تبقى، كذب منه وخداع، ويكون قول الولي له: زوجتك أو أنكحتك وقد شارطه أن يطلقها إذا وطئها كذب وخداع كذلك.
وهذا المعنى هو ما قصده ابن عمر - رضي الله عنه - حين سئل عن تحليل المرأة لزوجها، فقال: ذلك السفاح لو أدرككم عمر لنكل بكم. وقال: لا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة، إذا علم الله أنهما أرادا أن يحلها له. وهو معنى قول عمر - رضي الله عنه - لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما.
__________
(1) الفتاوى الكبرى ص205 وما بعدها ج3.
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة البقرة الآية 230(15/160)
ويبين هذا أن المطلق في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (1) إنما يعقل منه الرجل الذي يقصد مقامه ودوامه مع المرأة، بحيث ترضى مصاهرته وتعتبر كفاءته وتطيق المرأة ووليها أن يملكها، وهذا المحلل الذي جيء به للتحليل ليس بالزوج، وإنما هو تيس استعير للضرابة، والله عز وجل قد علم من المرأة ووليها أنهم لا يرضونه زوجا، فإذا أظهروا في العقد قولهم: زوجناك أو أنكحناك. وهم لا يرغبونه زوجا كان هذا خداعا، واستهزاء بآيات الله تعالى، ويقوي هذا أن الله تعالى حرم المطلقة حتى تنكح زوجا غيره، والنكاح المفهوم في عرف أهل الخطاب إنما هو نكاح الرغبة، ولا يفهمون عند الإطلاق إلا هذا، ولذا لو قال الرجل لابنه: اذهب فانكح. فصار محللا، لعده أهل العرف غير ممتثل لأمر أبيه.
وما دون النكاح المطلق لا يطلق على نكاح إلا مقيدا، فيقال: نكاح المتعة ونكاح المحلل، كما يقال: بيع الخمر وبيع الخنزير، والله سبحانه وتعالى قال: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (2) ولم يرد به كل ما يسمى نكاحا مع الإطلاق أو التقييد إجماعا؛ فإن ذلك يدخل فيه نكاح المحارم، فتعين أن يراد به ما يفهم من لفظ النكاح عند الإطلاق في عرف المسلمين، وهو نكاح الرغبة والدوام واللزوم. ويؤيد هذا أن التحريم قبل هذا النكاح ثابت بلا ريب، ونكاح الرغبة رافع لهذا التحريم اتفاقا، ونكاح المحلل لا نعلمه مرادا من هذا الخطاب ولا هو مفهوم منه عند الإطلاق، فيبقى التحريم ثابتا حتى يقوم الدليل على أنه نكاح مباح، ومعلوم أنه لا يمكن لأحد أن يذكر نصا يحل هذا النكاح، ولم يثبت دخوله في اسم النكاح المطلق، ولا يمكن حله بقياس؛ فإنه لا يلزم من حل نكاح الرغبة حل نكاح المحلل؛ لوجود الفارق؛ فإن الراغب مريد للنكاح، فناسب أن يباح له ذلك، وأما المحلل فليس له غرض في النكاح ولا إرادة، فلا يلزم أن يباح له ما لا رغبة له فيه؛ إذ الإرادة مظنة الحاجة.
كما يقوي هذا أيضا أن الله سبحانه أطلق النكاح التام الذي يحصل فيه مقصود النكاح، وهو الجماع المتضمن ذوق العسيلة، فعلم أنه لم يكتف بمجرد ما يسمى نكاحا مع التقييد، وإنما أراد ما هو النكاح المعروف الذي يفهم عند الإطلاق، وذلك إنما هو نكاح الرغبة المتضمن ذوق العسيلة، وإذا ثبت
__________
(1) سورة البقرة الآية 230
(2) سورة البقرة الآية 230(15/161)
أن هذا ليس بنكاح ثبت أنه حرام؛ لأن الفرج حرام إلا بنكاح أو ملك يمين، وثبت أنها لا تحل للمطلق؛ إذ إن الله حرمها عليه حتى تنكح زوجا غيره، وهو المطلوب.(15/162)
السادس من مسالك الاستدلال (1) :
أن الله سبحانه وتعالى قال بعد أن قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (2) : يعني فإن طلقها الزوج الثاني فلا جناح عليها، ولا على الزوج الأول أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله، ووجه الاستدلال أنه سبحانه عبر بإن فقال: " فإن طلقها ". ولم يقل: " إذا ". وفرق بين الحرفين؛ فإن " إن " في لسان العرب تستعمل فيما يمكن وقوعه وعدم وقوعه، أما " إذا " فإنها تستعمل فيما يقع لازما أو غالبا، ولذلك تقول العرب: إذا احمر البسر فأتني. ولم يقولوا: إن احمر البسر فأتني؛ لأن احمرار البسر واقع لازما أو غالبا، والإتيان بإن هاهنا يفيد أن النكاح في قوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (3) نكاح يقع فيه الطلاق تارة ولا يقع فيه تارة أخرى، وهذا ليس شأن نكاح المحلل؛ فإنه نكاح يقع فيه الطلاق لازما أو غالبا، فأفاد ذلك أنه ليس داخلا في قوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (4) وإلا فيقال: فإذا طلقها وبذلك يعلم أن الآية دالة على أن النكاح المقصود في الآية نكاح معتبر يفيد الدوام واللزوم، فلا يكون نكاح المحلل داخلا، فلا تكون الآية دالة عليه فلا يعتبر في تحليل المرأة لزوجها الأول، فإن قيل: إن الآية عمت كل نكاح فلهذا قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} (5) ؛ إذ من الناكحين من يطلق ومنهم من لا يطلق، وإن كان غالب المحللين أنه يطلق فيكون نكاح المحلل داخلا.
وقد أجاب ابن تيمية عن ذلك فقال: لو أراد سبحانه ذلك لقال: فإن فارقها؛ لأن الزوج الثاني قد يموت عنها، وقد تفارقه بانفساخ النكاح بحدوث أمر كرضاع أو لعان أو بفسخه لعسرة أو غيره فتحل للزوج بواحد من هذه الأشياء، ومعلوم أن هذه الأشياء ليست بيد الزوج، وأن الذي بيده خاصة هو
__________
(1) الفتاوى الكبرى ص207 وما بعدها جـ3.
(2) سورة البقرة الآية 230
(3) سورة البقرة الآية 230
(4) سورة البقرة الآية 230
(5) سورة البقرة الآية 230(15/162)
الطلاق، فلما عدل عن لفظ المفارقة إلى لفظ الطلاق الذي يملكه الزوج الثاني فقط، كان ذلك لفائدة خاصة وهي الإيذان بأن هذا نكاح قد يكون فيه الطلاق لا نكاح معقود لوقوع الطلاق، يقوي هذا أن لفظة الفراق أعم فائدة وبه جاء القرآن في قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (1) فلو لم يكن في خصوص لفظ الطلاق فائدة لكان ذكر الأعم أولى، وما ذكر هو الإيذان بأن هذا نكاح قد يقع فيه الطلاق لا أنه معقود للطلاق تصلح أن تكون فائدة، فيجب الحمل عليها، وبذلك لا يكون نكاح المحلل داخلا في قوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (2)
يوضح ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (3) ؛ فإن التطهير لما كان مقصودا جيء فيه بحرف التوقيت وهو " حتى "، ولما كان الطلاق هنا غير مقصود جيء فيه بحرف التعليق وهو " إن "، فلو كان نكاح المحلل مما يدخل في قوله: {حَتَّى تَنْكِحَ} (4) لكان هو الغالب على نكاح المطلقات. وكان الطلاق فيه مقصودا فتتفق الآية التي معنا مع هذه الآية وهي: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (5) لكن لما لم يكن الأمر كذلك فرق الله بين الآيتين في التعبير غاية الأمر، أنه توقف الحل في آية الحيض على شرطين قال: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (6)
فبين أن التحريم الثابت بقول الله زال بوجود الطهر ثم بقي نوع آخر أخف منه يمكن زواله بفعل الآدمي، فبين حكمه بقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (7) وفي الآية التي معنا لم يرد بقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} (8) بيان توقف الحل على طلاقها لأمر بها؛ لأن ذلك معلوم قد بينه بقوله تعالى في جملة المحرمات والمحصنات من النساء، ولأن الطلاق وحده لا يكفي في الحل حتى تنقضي عدة المطلقة، ولا شك أن العلم بأن المتزوجة لا تحل أظهر من العلم بأن المعتدة لا تحل، فلو أريد هذا المعنى لكان ذكره العدة أوكد وأظهر، فتبين من هذا كله أنه لا بد من فائدة لذكر هذا الشرط: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} (9) ثم في ذكر حرف " إن " وما ذاك إلا لبيان أن النكاح المتقدم المشروط هو الذي يصح أن يقال فيه: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} (10) ونكاح المحلل ليس كذلك فثبت ما ندعيه.
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة البقرة الآية 230
(3) سورة البقرة الآية 222
(4) سورة البقرة الآية 230
(5) سورة البقرة الآية 222
(6) سورة البقرة الآية 222
(7) سورة البقرة الآية 222
(8) سورة البقرة الآية 230
(9) سورة البقرة الآية 230
(10) سورة البقرة الآية 230(15/163)
السابع من مسالك الاستدلال على إبطال التحليل (1) :
قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} (2) .
فقد روى ابن ماجه وابن بطة بإسناد جيد، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ويستهزءون بآياته؛ طلقتك راجعتك؛ طلقتك راجعتك (3) » .
وجه الدلالة أن الله سبحانه حرم على الرجل أن يرتجع المرأة يقصد بذلك مضارتها بأن يطلقها، ثم يمهلها حتى تشارف انقضاء العدة، ثم يرتجعها ثم يطلقها قبل جماع أو بعده، ويمهلها حتى تشارف انقضاء العدة، ثم يرتجعها ثم يطلقها فتصير العدة تسعة أشهر، هكذا فسره عامة العلماء من الصحابة والتابعين، وجاء فيه حديث مسند.
ومعلوم أن هذا الفعل لو وقع اتفاقا غير قصد منه بأن يرتجعها راغبا فيها ثم يبدو له فيطلقها، ثم يبدو له فيرتجعها راغبا، ثم يبدو له فيطلقها لم يحرم ذلك عليه، لكن لما فعله لا للرغبة، لكن لمقصود آخر وهو أن يطلقها بعد ذلك؛ ليطيل العدة عليها، حرم ذلك عليه، وتطويل العدة هنا لما يحرم؛ لأنه في نفسه ضرر؛ فإنه لو كان كذلك لحرم، وإن لم يقصد الضرر كالطلاق في الحيض أو بعد الوطء قبل أن يتبين له أنها حامل، وإنما حرم لأنه قصد الضرر، فالضرر هنا إنما حصل بأن قصد بالعقد فرقة توجب ضررا لو حصل بغير قصد إليه لم يكن سببه حراما، كما أن المحلل قصد بالعقد فرقة توجب تحليلا لو حصل بغير قصد لم يكن سببه حراما.
فإما أن يكون القصد لغير مقصود العقد محرما للعقد أو لا يكون، فإن لم يكن محرما للعقد والفعل المقصود هنا وهو الطلاق الموجب للعدة ليس محرما في نفسه، فيجب أن يكون صحيحا على أصل من يعتبر ذلك، وهو خلاف القرآن، وإن كان محرما للعقد فيجب أن يكون نكاح المحلل باطلا.
__________
(1) الفتاوى الكبرى ص211 وما بعدها جـ3.
(2) سورة البقرة الآية 231
(3) سنن ابن ماجه الطلاق (2017) .(15/164)
وذلك أن الطلاق المنضم إلى النكاح المتقدم يوجب العدة المحرمة لنكاحها، ويوجب حلها للزوج الأول، فلا فرق بين أن يقصد بالنكاح وجود تحريم شرع ضمنا، أو وجود تحليل شرع ضمنا؛ فإنما شرع الله من التحريم أو التحليل ضمنا وتبعا لا أصلا وقصدا، ومتى أراده الإنسان أصلا وقصدا فقد ضاد الله في حكمه، يوضح ذلك أن الطلاق سبب لوجوب العدة، وإذا وقع كانت العدة عبادة الله تثاب المرأة عليها إذا قصدت ذلك، فكان الطلاق الثاني سببا يحل المطلقة، والرجعة مقصودها المقام مع الزوج لا فراقها، كما أن النكاح مقصوده ذلك، ولكن في العدة ضرر بالمرأة يحتمل من الشارع إيجاب ما يتضمنه ولا يحتمل من العقد قصد حصوله، وكذلك في طلاق الزوج الثاني حل لمحرم، وزوال ذلك التحريم يتضمن زوال المصلحة الحاصلة في ذلك التحريم، إذ لولا ما في تحريمها على المطلق من المصلحة لما شرعه الله، وزوال هذه المصلحة يحتمل من الشارع إثبات ما يتضمنه، ولا يحتمل من العبد قصد حصوله، ولا فرق في الحقيقة بين قصد تحليل ما لم يشرع تحليله مقصودا، وبين قصد تحريم ما لم يشرع تحريمه مقصودا.(15/165)
المسلك الثامن من مسالك الاستدلال على إبطال التحليل (1) :
قوله تعالى: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} (2) ووجه الدلالة أن من آيات الله شرائع دينية في النكاح والطلاق والرجعة والخلع؛ لأنها الطريقة التي يحل بها الحرام من الفروج، أو يحرم بها الحلال وهي من دين الله الذي شرعه لعباده، وكل ما دل على أحكام الله فهو من آياته، والعقود دلائل على الأحكام الحاصلة بها، وذكره هذه الآية بعد أن أباح أشياء من هذه العقود، وحرم أشياء دليل على أن العقود من آيات الله، وإلا كان ذكرها عقيب ذلك غير مناسب.
ويعضده أن العقود من آيات الله ما روي عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ويستهزءون بآياته؛ طلقتك راجعتك، طلقتك راجعتك (3) » وإذا كانت العقود من آيات الله فاتخاذها هزوا فعلها
__________
(1) الفتاوى الكبرى ص212 وما بعدها ج3.
(2) سورة البقرة الآية 231
(3) سنن ابن ماجه الطلاق (2017) .(15/165)
مع عدم اعتقاد حقائقها التي شرعت هذه الأسباب لها، كما أن استهزاء المنافقين أنهم {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} (1) فيأتون بكلمة الإيمان غير معتقدين حقيقتها بل مظهرين خلاف ما يبطنون، فكل من أتى بالرجعة غير قاصد بها مقصود النكاح بل التحليل أو نحوه، فقد اتخذ آيات الله هزوا، حيث تكلم بكلمة العقد وهو غير معتقد للحقيقة التي توجبها هذا الكلمة من مقصود النكاح، فهو والمنافق في أصل الدين سواء، غير أن المنافق في أصل الدين، وهذا منافق في شرائعه، فقول الإنسان: آمنت، كقوله: تزوجت، هو إخبار عما في باطنه من الاعتقاد المتضمن التصديق والإرادة من وجه، وهو إنشاء لعقد الإيمان وعقد النكاح من حيث هو يبتدئ الدخول في ذلك من وجه، فإذا لم يكن صادقا في الإخبار عما في باطنه؛ لأنه لا تصديق ولا إرادة ولا هو داخل في حقيقة الإيمان والنكاح بل إنما تكلم بكلمة، ذلك لحصول بعض الأحكام التي هي من توابع ذلك، فليس صادقا لا من حيث الإنشاء ولا من حيث الإخبار.
وإذا ثبت أن التحليل من اتخاذ آيات الله هزوا ثبت أنه حرام، ويلزم من تحريمه فساده بإبطال مقصود المحلل من ثبوت نكاحه، ثم نكاح المطلقة، كما ثبت أن الهازل لما كان يقصد عدم النكاح بطل مقصوده، فصح نكاحه كذلك.
__________
(1) سورة البقرة الآية 14(15/166)
المسلك التاسع من مسالك الاستدلال على إبطال التحليل (1) :
أن الله تعالى حرم المطلقة ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره، ومعلوم أن الله حرم ذلك لاشتمال هذا التحريم على مصلحة المعتدة وحصول مفسدة في حلها له بدون الزوج الثاني وابتلاء وامتحانا لهم؛ ليميز من يطيعه ممن يعصيه، وقد كان الطلاق في الجاهلية من غير عدد. فكلما شاء الرجل طلق المرأة، ثم راجعها فقصر الله الأزواج على ثلاث تطليقات؛ ليكف الناس عن الطلاق ولا يقدمون عليه إلا عند الضرورة؛ فإن الرجل إذا علم أن المرأة تحرم عليه بالطلاق
__________
(1) الفتاوى الكبرى ص215 جـ3.(15/166)
كف عنه إلا إذا كان زاهدا فيها، فإذا كان هذا التحريم يزول بهذا الطريق السهل، وهو أن يرغب إلى بعض الأراذل في أن يطأ المرأة ويعطي شيئا على ذلك؛ فإن هذا أقرب منه إلى اللعب منه إلى الجد، فما أكثر من يريد أن يطأ ويبذل، فكيف إذا أعطي على ذلك جعلا؟
فإن قيل: إن هذا النكاح حلال كان معنى هذا أن المرأة تحرم على زوجها حتى ينزو عليها فحل من الفحول، وإن لم يكن له رغبة في نكاحها بل يعطي على ذلك جعلا، فكان قد ادعى أن الله حرم المطلقة حتى توطأ وطئا شبيها بالزنا، بل هو زنا كما سماه ابن عمر: بأن هذا سفاح. ولما رأى كثير من أهل الكتاب أن بعض المسلمين يقول: إن المطلقة تحرم حتى توطأ على هذا الوجه، ورأى أن ذلك هو معنى الزنا، وحسب أن هذا من الدين المأخوذ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو تجاهل بإظهار ذلك أخذ يعير المسلمين بهذا ويقول: إن في دينكم أن المطلقة تحرم حتى تزني، وإذا زنت حلت، حتى اعتمد بعض أعداء الله النصارى فيما يهجو به شرائع الإسلام على مسألة التحليل، أخذ ينفر أهل دينه عن الإسلام بالتشنيع بها، وما يعلم عدو الله أن هذا لا أصل له في الدين، ولا هو مأخوذ عن السابقين ولا عن التابعين لهم بإحسان، بل قد حرمه الله ورسوله.
وبالجملة فإن دين الله أزكى وأطهر من أن يحرم فرجا من الفروج حتى يستعار له تيس من التيوس، لا يرغب في نكاحه ولا في مصاهرته ولا يراد بقاؤه مع المرأة أصلا فينزو عليها وتحل بذلك؛ فإن هذا بالسفاح أشبه منه بالنكاح، فكيف يكون الحرام محللا؟ أم كيف يكون الخبيث مطيبا؟ أم كيف يكون النجس مطهرا؟ وغير خاف على من شرح الله صدره للإسلام ونور قلبه بالإيمان أن هذا من أقبح القبائح التي لا تأتي بها سياسة عاقل فضلا عن شرائع الأنبياء، لا سيما أفضل الشرائع وأشرف المناهج، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يشرع مثل هذا.
هذه هي أدلة الطرفين على المتنازع فيه، وبهذا ظهر الحق وزهق الباطل، وتبين لكل من له نظر سليم وذوق ليس بسقيم بأن رأي الجمهور الذي تبناه الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية ودافع عنه هو الرأي المعقول، الذي يتعين الأخذ به(15/167)
والمصير إليه؛ لأن أدلته واضحة ظاهرة، يعضد بعضها بعضا، وأن ما ورد عليها من مناقشات قد دنت وذهبت أدراج الرياح، فلم يبق إلا أن يكون هذا الرأي هو المختار حتى نسد الباب على كل طاعن، ونغلقه عن كل طارق فلا نسب إلى الدين ما ليس منه، ولا يرد عليه ما أورده أعداء الدين من المفاسد، من أن بعض التيوس المستعارة صار يحلل الأم وبنتها، ويجمع ماؤه في أكثر من أربع نسوة بل أكثر من عشر؛ لأنه لا غرض له في النكاح ولا في المصاهرة حتى يتجنب المحرم، ومنها أن كثيرا ما يتواطؤ المحلل مع المرأة على أن يطأها وليس له رغبة في ذلك، والمرأة لا تعده زوجا فتستحي وتهابه من أن تمكنه من نفسها؛ لاستشعارها أنه لا يتخذ زوجا.(15/168)
الزواج مع شرط التحليل أو قصده حرام
إن الأصل في مشروعية الزواج الدوام والاستمرار، والمحلل لا يقصد شيئا من ذلك، وإنما هو مسمار نار أراد تثبيتها للأول فقط، ومن هذا تكاثرت الأدلة في سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام وخلفائه الراشدين والآثار الصحيحة عن الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان على تحريم التحليل، ولعن المحلل، واعتبار فعله من الزنا الذي يستحق إقامة الحد عليه، كيف لا يكون نكاح التحليل حراما وهو زواج يفعله أصحابه بتكتم وتستر؟ خوف الفضيحة والعار إذا علم واشتهر، مما يدل على أنه نكاح مقت منكر لا تتقبله النفوس، فلا يمكن أن يكون مشروعا أو مباحا، ولا يصح التماس مسوغ يبرر جوازه، بل إنه من مكائد الشيطان التي بلغ فيها مراده حيث يقترف أفراد جريمة الزنا في ظل نكاح مزعوم ملعون فاعله على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكتف بلعنه بل شبهه بالتيس المستعار.
وقد عير به المسلمون وجعل وسيلة للطعن والتشهير؛ لما يحصل به من الشر والفساد، ثم إن نكاح التحليل لا تحصل فيه المودة والرحمة التي جاء ذكرها في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (1) ثم إن
__________
(1) سورة الروم الآية 21(15/168)
المحلل لا يراقب الله ولا يتقيه، ولا يقف عند حدوده، فقد يجمع بين الأم وابنتها في عقدين، ويجامع أكثر من أربع، وقد يجمع بين الأم وابنتها، وإن لم يكن هذا من لوازم نكاح التحليل، إلا أن التحليل يعطي الفرصة للرجل الفاسد رقيق الدين خبيث الطوية للعبث وارتكاب المحرم.
وإذا كان هذا شأنه وهذه صفاته فهو جدير باللعن كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المحلل والمحلل له (1) » .
ونكاح التحليل لا تحل به المرأة لزوجها الأول، بل تبقى حراما عليه؛ لأن المحلل مخادع لله، ومن يخادع الله يخدعه، والبائن بينونة كبرى لا تحل للأول إلا بنكاح رغبة لا نكاح دلسة، وإن الشريعة الإسلامية التي هي خاتمة الأديان، والإسلام دين الله الذي اختاره واصطفاه وطهره جدير بالاحترام والعناية، ويجب تطهيره من الحيل الذميمة التي تشوه الدين، وتعطي الفرص للمغرضين بالعيب على الإسلام والمسلمين.
وقد جاءت شريعة الإسلام بحمد الله واضحة ظاهرة فالحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ولقد عنيت شريعتنا الغراء بأمر الزواج، واهتمت أعظم الاهتمام بالأسرة والزواج، ووضعت لذلك نظاما كاملا محكما تنشأ فيه رابطة الزوجية على أساس من الطهر والثقة والتقدير المتبادل، وتقوم فيه علاقة الزوجين على أساس من المودة والرحمة والسكينة حتى تنبت فيه شجرة الأسرة قوية الجذور باسقة الفروع، وتنمو وتزدهر وتثمر أينع الثمر، وتنشر في الناس ظلا وارفا وأريجا عطرا، ولقد كانت عناية الشريعة الإسلامية بالزواج أكبر وأوسع من أي شريعة أخرى، إذ جعلها الله سبحانه وتعالى من آياته في خلقه، وعده من نعمه على عباده، وفي هذا يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (2) وقد بينت الشريعة ما يحل نكاحه من النساء وما يحرم وأحاطت عقد الزواج بأوثق الضمانات التي تكفل سعادة الزوجين وتأتي
__________
(1) أخرجه البخاري وهو جزء من ص149 ج6، والترمذي ص43 ج5، والبيهقي ص208 - ط \ حيدر آباد.
(2) سورة الروم الآية 21(15/169)
بالخير لأسرتهما وللمجتمع، وقد جعلت الشريعة لكل من الزوجين حقوقا وواجبات يؤديها له، وطالبتهما بحسن العشرة والاعتدال في المعاملة والتعاون على الحياة المشتركة بينهما، ورسمت الطريق القويم لعلاج ما قد ينشأ بينهما من خلاف ومشكلات، ولا عجب أن يحظى الزواج بهذا القدر الكبير من الاهتمام والتنظيم فهو قاعدة الأسرة ونواة المجتمع، وهو وسيلة الإنسان العاقل لتنظيم الفطرة والغريزة التي أودعها الله فيه على وجه يحقق غاية استخلافه في الأرض بتعمير الكون، وبعث الحياة فيه قوية رائعة مثمرة، والتعاون على تدبير المصالح والمنافع، والسير بالحياة في مجال الخير والإصلاح.
وهي أيضا وسيلة الإنسان العاقل إلى حفظ نوعه وتخليد ذكراه بالتوالد والتناسل، قال الله تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} (1) . ومن أجل هذا كله كان الزواج ذا شأن خطير وأثر بالغ في حياة الإنسانية وتوجيهها، وكان عقد الزواج من أخطر العقود التي يتعامل بها الإنسان في الحياة، وقد وصفه القرآن بأنه ميثاق غليظ. قال الله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (2) {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (3) .
ووصف النبي عليه الصلاة والسلام عقد النكاح بقوله: «إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله (4) » .
والميثاق يجب الوفاء به وتقديره، وأمانة الله واجبة الرعاية، وكلمة الله واجبة التنفيذ والاحترام، فزواج هذا شأنه من السمو والرفعة في تحقيق المثل العليا والأخلاق الكريمة والآداب السامية يتعين صيانته والمحافظة عليه، ولا يتحقق في نكاح التحليل شيء من هذا، وإذن فلا يصح بعد هذا كله أن يقال عن نكاح التحليل إنه نكاح جائز، بل هو نكاح باطل محرم، ملعون فاعله على لسان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لأن الأصل في مشروعية الزواج الدوام والاستمرار والمحلل لا
__________
(1) سورة النحل الآية 72
(2) سورة النساء الآية 20
(3) سورة النساء الآية 21
(4) أخرجه مسلم عن جابر بن عبد الله ص183 ج8.(15/170)
يقصد شيئا من ذلك، وليس له غرض صحيح في هذا الزواج.
ولهذا يترجح عندنا القول ببطلان نكاح التحليل، وأنه يتعين على كل مسلم يريد المحافظة على دينه وصيانة عرضه أن يتجنب مثل هذا النوع من الأنكحة.
نسأل الله أن يرزقنا الفقه في الدين، واتباع سنة سيد المرسلين، ويهدينا سواء السبيل. . وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(15/171)
اهتمام علماء المسلمين
بعقيدة السلف - ظروفه - وآثاره
للدكتور \ أبو اليزيد أبو زيد العجمي
تلقي تعليمه في الأزهر، وتخرج من كلية دار العلوم جامعة القاهرة 1967 م.
حصل على الماجستير من دار العلوم 1977م.
حصل على الدكتوراه من دار العلوم 1981م.
التخصص " عقيدة وفلسفة إسلامية ".
الإنتاج العلمي:
1 - حقيقة الإنسان في ضوء التصور القرآني (تأليف) .
2 - الذريعة إلى مكارم الشريعة، للراغب الأصفهاني (تحقيق) .
3 - نجاة الخلف في اعتقاد السلف، للشيخ ابن قائد البخوي (تحقيق) .
4 - الفقهاء وبحوث العقيدة الإسلامية (تأليف) .
أسهم في عد من المجلات العلمية منها:
1 - أضواء الشريعة (بالرياض) .
2 - حولية دار العلوم (بالقاهرة) .
3 - المسلم المعاصر (الكويت) .
4 - البحوث الإسلامية (بالرياض) .
الوظيفة \ مدرس بكلية دار العلوم جامعة القاهرة.
أستاذ مساعد بكلية الشريعة بالرياض.(15/172)
الاهتمام بعقيدة السلف:
إن من يتفحص الكتب التي صنفت في العقائد يصادف عددا غير قليل يظهر أو يدافع عن العقيدة عن عقيدة السلف الصالح ضد التيارات الأخرى، ولا نريد هنا أن نستقصي هذا اللون من مؤلفات العقيدة، ولكن حسبنا أن نشير إلي بعض هذه المؤلفات.
ففي القرنين الثاني والثالث الهجريين نجد ما ينسب للإمام أبي حنيفة النعمان (150هـ) من رسائله التي تعالج مسائل في العقيدة تقارب منهج السلف الصالح، الذي أوجزه أو كتب بعده في متن الفقه الأكبر الذي حظي بشروح عديدة. كما نجد الفقه الأكبر للإمام الشافعي (204هـ) ، والرد على الجهمية للإمام أحمد بن حنبل (242هـ) .
وفي القرن الرابع الهجري نجد لابن خزيمة (311هـ) كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب جل وعلا، ونجد العقيدة الطحاوية (321هـ) ، وقد حظيت بشروح عديدة أيضا، كما نجد للإمام الأشعري (الإبانة عن أصول الديانة) (توفي سنة بضع وعشرين وثلاثمائة) ، وفي القرن نفسه نجد الإبانة لابن بطة العكبري (ت 387هـ) .
وفي القرن الخامس الهجري نجد الاعتقاد على مذهب السلف أهل السنة والجماعة للإمام البيهقي (المتوفى 458هـ) رغم ما فيه من بعض التأويلات التي هي خلاف منهج السلف.(15/173)
ويمكننا أن نعتبر كتاب البغدادي "الفرق بين الفرق" في الاتجاه نفسه؛ لأنه يظهر باطل معتقداتهم، ويذيل ببيان عقيدة أهل السنة والجماعة (توفي 429هـ) .
فإذا انتقلنا إلى عصر شيخ الإسلام ابن تيمية أعني القرنين السابع والثامن الهجريين، وجدنا لشيخ الإسلام ولابن القيم ولتلاميذهما من بعدهما حشدا هائلا من المصنفات في خدمة عقيدة السلف.
وقد استمر هذا الاتجاه حتى العصر الحاضر حيث مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومن تتلمذ على هذه المدرسة كما هو واضح في الرسالة المسماة "نجاة الخلف في اعتقاد السلف" - للشيخ أحمد بن عثمان بن قائد النجدي (1097هـ) .
وهذا الحشد الهائل من المصنفات التي تمثل اتجاها يعنى بيان عقيدة السلف الصالح يوحي بسؤال مؤداه: لماذا كل هذا الاهتمام بعقيدة السلف، وهي موجودة في الكتاب والسنة؟ وبلفظ آخر: ما هي البواعث التي أدت إلى وجود هذا الاتجاه ظاهرا في تاريخ الفكر الإسلامي؟
للإجابة على هذا السؤال نقول: لا بد أن ندرك أن مرحلتين تتشابهان إلى حد كبير مر بهما الفكر الإسلامي، فكانت الظروف في المرحلتين باعثة على هذا الاهتمام بعقيدة السلف الصالح، ولا بد للأمر من بيان المرحلتين، يسبقهما تحديد لمصطلح السلف والخلف.(15/174)
السلف والخلف:
كثر استعمال هاتين اللفظتين في صورة الاقتران والعطف، فقد يراد بهما(15/174)
مجرد الدلالة اللغوية التي تعني السبق والمتابعة، فسلف بمعنى سبق وتقدم، وبمعنى مضى وانقضى، وسلف السائر سلفا أي: تقدمه وسبقه، وأما خلف ففي المعجم: خلف فلانا خلفا: جاء بعده فصار مكانه، وفي القرآن الكريم: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} (1) {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} (2) وكذا الخلف: والعوض والبدل (3) .
وقد حملت بعض الكتب أسماء تؤدي هذا المعنى اللغوي، مثل: " صلة الخلف بموصول السلف " لمحمد بن سليمان المغربي (ت 1094هـ) ، والكتاب عبارة عن ثبت بأسماء كتب ألفها السابقون من العلماء، وهي تفيد الذين أتوا بعدهم (4) .
وكذلك كتاب ابن رجب الحنبلي " معان فضل السلف على الخلف " وفيه عدة رسائل في باب العلم والآداب، كما يحوي كلاما موجزا في العقائد (5) .
وقد يراد بهما معنى اصطلاحي مشتق من المعنى اللغوي، كما في عنوان رسالة الشيخ عثمان بن أحمد النجدي: " نجاة الخلف في اعتقاد السلف " إذ لا يعقل أن الأمر هنا مجرد دلالة لغوية، فيكون المعنى نجاة من لحق في اتباعه لمن سبق، دون تقييد لصفات أخرى تجعل هذا السابق جديرا بأن يكون اتباعه منجيا.
وقد حدد ابن تيمية مفهوم السلف بما يفيد أنهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون وتابعوهم المعنيون بـ: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (6) » .
__________
(1) سورة المائدة الآية 95
(2) سورة مريم الآية 59
(3) المعجم الوسيط 1 \ 250، 446. وانظر: محمد فريد وجدي \ دائرة المعارف 5 \ 229.
(4) مخطوط بجامعة الإمام محمد بن سعود تحت رقم 3874.
(5) مخطوط بجامعة الإمام محمد بن سعود تحت رقم 3292.
(6) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي، جامع الأصول \ 9 \ في فضائل الصحابة حديث رقم \ 6345 - طبعة دار الإفتاء بالرياض.(15/175)
يقول ابن تيمية: فإنا لما أردنا أن نبين مذهب السلف ذكرنا طريقين: أحدهما: أنا ذكرنا ما تيسر من ذكر ألفاظهم ومن روى ذلك عنهم من أهل العلم بالأسانيد المعتبرة.
والثاني: أنا ذكرنا من نقل مذهب السلف من جميع طوائف المسلمين من طوائف الفقهاء الأربعة، ومن أهل الحديث والتصوف، وأهل الكلام كالأشعري وغيره، فصار مذهب السلف مقبولا بإجماع الطوائف وبالتواتر، لم نثبته بمجرد دعوى الإصابة لنا والخطأ لمخالفنا كما يفعل أهل البدع (1) .
ثم يقول: " فعلم أن شعار أهل البدع هو ترك انتحال اتباع السلف، ولهذا قال الإمام أحمد في رسالة عبدوس بن مالك " أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - " (2) .
ويقرر شيخ الإسلام في موضع آخر أن هناك اتفاقا بين أهل السنة والجماعة من جميع الطرق على أن خير القرون ما ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة من علم وعمل، وإيمان وعقل، ودين وبيان،. . . كما قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: " من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم؛ فإنهم كانوا على الهدي المستقيم. . . ". وما أحسن ما قاله الشافعي - رضي الله عنه - في رسالته: " هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل، وكل سبب ينال به علم أو يدرك به هدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا. . . . . . ".
فإن عامة ما عند السلف من العلم والإيمان هو ما استفادوه من نبيهم
__________
(1) الفتاوى 4 \ 152.
(2) الفتاوى 4 \ 155.(15/176)
- صلى الله عليه وسلم - الذي أخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، وهداهم به إلى صراط العزيز الحميد (1) .
وبهذا يكون قد تحدد مفهوم السلف اصطلاحيا حين يذكر في باب اعتقادهم والأخذ عنهم.
أما مفهوم الخلف: فقد حدده شيخ الإسلام بأنه يراد به جماعة المتكلمين ومن تابع منهجهم ومنهج الفلاسفة، وابتعد عن منهاج أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهما منهم أن ذلك خير من مذهب السلف، ويصدق هذا المفهوم على الآخذين بهذا المنهج قديما وحديثا.
ولا سيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلط في معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهاية أقدامهم بما انتهى إليه أمرهم حيث يقول:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر ... على ذقن أو قارعا سن نادم (2)
ويبين شيخ الإسلام خطأ فهم الخلف لمنهج السلف، وبيان ضلال من يزكي مذهب الخلف أنفسهم؛ فإن هؤلاء المبتدعين الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم على طريقة السلف إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} (3) .
وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات. . . وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف، فجمعوا بين الجهل بطريق السلف في الكذب
__________
(1) الفتاوى 5 \ 157 - 159.
(2) الفتاوى 5 \ 10، جـ11 \ 366 - 373.
(3) سورة البقرة الآية 78(15/177)
عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف (1) .
وبهذا فإن لفظ السلف حين يطلق يجب أن ينصرف لا إلى مجرد السبق الزمني، بل إلى أصحاب الرسول وتابعيهم ومن بعدهم بشرط الالتزام بمنهجهم والذين يتأخر بهم الزمن أن يسموا سلفا إذا كانوا على نهج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما لفظ الخلف فإنه لا يعني مجرد التأخر في الزمن، ولكنه يضم إلى هذا معنى آخر هو البعد عن منهج السلف واتباع منهج الجدل العقلي وغيره من طرق البشر في التفكير الذي لا يستند إلى كتاب أو سنة. وقد حمل بعض العلماء شهرة بلقب السلفي، وتناقلها كتب التراجم والطبقات أمثال: الحافظ أبي طاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم سلفة الأصبهاني، وهو أحد الحفاظ المحدثين. ولد \ 472 هـ وتوفي 576 هـ وعاش مائة وأربع سنين، وكان مشهورا بلقب السلفي (2) وقد أخطأ فريد وجدي في هذا. والأصح: أنه السلفي بكسر ففتح.
وكما اشتهر هذا الوصف - في فهمنا - عن التحديد الذي أشرنا إليه من التزام منهج الصحابة والتابعين.
وجدير بالذكر أنه إلى جانب هذين اللفظين قد يحمل مصطلح أهل السنة معنى " السلف " كما نراه كثيرا في استعمالات ابن تيمية، وقد يكون أكثر اتساعا إذا أطلق في مقابل لفظ " الشيعة "، ولكن الأغلب أن يتحدد مفهوم أهل السنة بأهل الحديث ومن تابعهم من الفقهاء.
__________
(1) الفتاوى 5 \ 9.
(2) محمد فريد وجدي \ دائرة المعارف 5 \ 229.(15/178)
المرحلة الأولى:
تكاتفت عوامل عديدة لتجعل القرنين الثاني والثالث الهجريين فترة(15/178)
اتسمت بالجدل حول قضايا العقيدة، وأدت بطريق أو بآخر إلى بداية التأليف في بحوث العقائد الأمر الذي أوجد بالمكتبة الإسلامية كثيرا من المؤلفات في هذا الموضوع وما يتصل به من تأريخ للملل والنحل.
ولعل أبرز هذه العوامل ما يلي:
1 - وجود الفرق واشتغالها بمسائل استتبعت ردا من المخالفين لهذه الفرقة أو تلك ممن يختلفون في الأصول، وتعصب كل فرقة لأصولها التي حكمتها في القضايا، وحكمت بها على مسائل الخلاف، ولكي ندرك أثر هذا العامل يجب أن نعي حقيقتين هامتين:
الحقيقة الأولى: أن قضايا العقيدة كانت موضع اهتمام القرآن الكريم باعتباره كتاب الإسلام، الذي يؤسس بناء الفرد على عقيدة التوحيد، ويفرع منها كل نواحي النشاط الإنساني، سواء في جانب علاقة الإنسان بربه في العبادات، أو علاقة الإنسان بالناس في المعاملات والآداب، أو علاقة الإنسان بالكون تسخيرا وتأملا وتحقيقا للخلافة والعمارة من خلاله.
وسواء جاء الاهتمام بالتوحيد وتقريره في صورة إخبار عن حقيقة مؤكدة مثل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (2) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (3) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (4) ، ومثل: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (5) . أو في صورة بيان يفهمه العقل ويصدقه الواقع المشاهد، مثل قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (6) وقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (7) .
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2) سورة الإخلاص الآية 2
(3) سورة الإخلاص الآية 3
(4) سورة الإخلاص الآية 4
(5) سورة البقرة الآية 163
(6) سورة الأنبياء الآية 22
(7) سورة المؤمنون الآية 91(15/179)
أقول: سواء جاءت المعالجة بهذه الصورة أو تلك أو غيرهما، فإن المؤكد أن القرآن قد بين (أن الإيمان بإله واحد له صفات الكمال والجلال لا شريك له في ملكه، ولا نظير له في الخلق والإيجاد والتأثير والتقدير، هو الذي يتفق مع ما نشاهده ونلاحظه من دقة ونظام في هذا الكون الذي يجري على سنن ثابتة وقوانين مطردة لا تختل ولا تتخلف) (1) .
وكما اهتم القرآن بإرساء الأصل وهو التوحيد عقيدة الإنسان حين لم تنحرف فطرته، اهتم كذلك بمحاربة الانحراف الذي حدث عند بعض الأقوام عن هذا الأصل معيدا الناس إليه: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (2) : {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} (3) . وبنفس المنهج يدحض فرية الشركاء والمشركين في كثير من الآيات، والقرآن في إرسائه أصل العقيدة التوحيد يربط بين هذا الاعتقاد والعمل المرتبط به كمظهر عملي للتوحيد الذي يمثل أساس البناء ومنهج الحركة في الحياة (4) ، نقرأ مثلا قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} (5) ، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (6) {لَا شَرِيكَ لَهُ} (7) .
والتذكير بهذه الحقيقة يظهر أثر الفرق فيما جد على الناس من جدل واختلاف كفر البعض فيه من ليس على فكرهم، ذلك أن اهتمام القرآن
__________
(1) د. عبد الحميد مدكور \ مذكرات في علم الكلام \ 28. (دار العلوم 1976) .
(2) سورة النحل الآية 51
(3) سورة المائدة الآية 73
(4) مدكور \ مذكرات في علم الكلام \ 39.
(5) سورة فصلت الآية 6
(6) سورة الأنعام الآية 162
(7) سورة الأنعام الآية 163(15/180)
بالتوحيد إنما هو من باب تصحيح عقيدة، يرى أكثر الباحثين أنها عقيدة الإنسان منذ نشأته، وأن هذه العقيدة لم تنفك عنها أمة من الأمم، وأن الإنسان قد انجرف إلى ألوان من الوثنية والتعدد لم يكن عليها في القديم (1) .
ولنفس الغاية كان الاهتمام بدحض شبهات الشرك والتعدد ومجادلة المنحرفين من أهل الكتاب. وقد جاء الحديث عن صفات الله الواحد القادر المريد، بما لا يحدث انفصالا بين الذات والصفات، وقد فهم سلف الأمة هذه الحقيقة فساقوا الكلام سوقا واحدا، ووصفوا الله بما وصف به نفسه، فإذا جئنا إلى التوحيد لدى فرق المتكلمين وجدنا تشقيقات ليس للمسلمين بها عهد، فهناك علاقة الصفات بالذات الإلهية، وهل وجودها يتعارض مع الوحدانية أم لا؟ وهناك من لا يفرقون بين صفات الله المتفرد بالجلال والذي ليس كمثله شيء، وبين صفات مخلوقاته تشبيها أو تمثيلا، وهناك غير هذا من مهاترات الفرق، وتشقيقات المجادلين.
وقد أدى هذا الفهم الغريب للتوحيد بفرقة كالمعتزلة - والتوحيد واحد من أصولها الخمسة - إلى أن تنفي عن الله أكثر الصفات الثبوتية، كالقدرة والإرادة والعلم، بحجة أن هذا يتنافى مع التوحيد، ويقترب بالمسلمين من تعدد كتعدد النصارى، كما أدى بهم فهمهم هذا إلى التأويل في الصفات الخبرية التي تثبت لله يدا وعينا وغير ذلك، وقد أوقعهم فهمهم هذا إلى القول بخلق القرآن، وما جره على المسلمين من بلاء واضطراب.
وقد أدى بهم هذا الفهم إلى جدل طويل مع الفرق الأخرى وعلى رأسهم الأشعرية الذين يخالفونهم الرأي، كما أدى بهم إلى أن وصفهم غيرهم بأنهم المعطلة وأنهم أخذوا آراءهم هذه من الزنادقة وليت الأمر يقف عند حد الجدل بل هو مخالفة صريحة للنصوص القرآنية الواردة في هذا الصدد
__________
(1) د. محمد عبد الله دراز \ الدين \ 112، 113 (الطبعة الثانية) .(15/181)
" وسواء أخذ المعتزلة آراءهم هذه عن الزنادقة كما يذكر الأشعري، أم عن الفلاسفة كما يذكر الشهرستاني، فإن رأي المعتزلة لا يشهد له الشرع، بل إنه يؤدي إلى إنكار كثير من آيات القرآن التي تصف الله سبحانه بصفات العلم والقدرة والإرادة وغيرها " (1) .
الحقيقة الثانية: هي أن كثيرا مما أثير بين الفرق، بل مما أخذت الفرق منه أسماءها قد يكون له جذور أسبق من القرنين الثاني والثالث، كما يرى مثلا بعض العلماء في أمور القدر والجبر والخوارج. فالخروج الذي يستحقه من يخرج على الحق يرى البعض أن جذوره تمتد إلى يوم أن «قال ذو الخويصرة التميمي لرسول الله عقب قسمته لذهبة آتته من اليمن: اعدل يا محمد؛ فإنك لم تعدل. حتى قال عليه السلام: " إن لم أعدل فمن يعدل؟ ". فعاود وقال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله تعالى (2) » . ويقول الشهرستاني عن هذا الموقف: " ولو صار من اعترض على الإمام الحق خارجيا فمن اعترض على الرسول الحق أولى أن يصير خارجيا، أو ليس ذلك قولا بتحسين العقل وتقبيحه، وحكما بالعقل في مقابلة النص، واستكبارا على الأمر بقياس العقل؟ ".
كذلك فإن مسألة القدر والجبر قد أثيرت على ألسنة المشركين كما يحكي الله تعالى عنهم في قوله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} (3) .
وواضح أنهم لا يريدون الاعتذار عن القبائح التي يعتقدونها، بل مرادهم بذلك الاحتجاج على أن ما ارتكبوه حق ومشروع ورضي الله عنه بناء على أن
__________
(1) مدكور \ مذكرات في علم الكلام \ 35.
(2) صحيح البخاري فرض الخمس (3138) ، صحيح مسلم الزكاة (1063) ، سنن ابن ماجه المقدمة (172) ، مسند أحمد بن حنبل (3/354) .
(3) سورة الأنعام الآية 148(15/182)
المشيئة والإرادة تساوي الأمر عندهم. ويذكر الشهرستاني أنها قد أثيرت أيضا على ألسنة المنافقين الذين قالوا يوم أحد: {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} (1) وقولهم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} (2) وقولهم: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} (3) فهل ذلك إلا تصريح بالقدر (4) ؟
نقول: قد يكون هناك جذور للقضايا التي طال الجدل فيها بين الفرق كما ذكرنا أمثلة منها، لكن هذه الجذور لم تكن بالقوة التي تثير جدلا وتخلق بلبلة، وأظن الأمر يختلف كثيرا إذا قورن بما أحدثه الخوارج إثر خروجهم بعد مسألة التحكيم، وما ناقشوه من قضايا مرتكب الكبيرة، وتكفيرهم غيرهم، وما تبع هذا من موقف المرجئة الذين غالى بعضهم إذ اعتبر أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة.
كذلك إذا نظرنا القدرية وجدنا أن ما كان في آخر عصر الصحابة والذي امتد إلى العصر الأموي والعباسي أصبح شيئا آخر غير الجذور الأولى خطرا وفكرا. يقول ابن تيمية: " ثم حدث في آخر عصر الصحابة القدرية. . . وأما القدرية فخاضوا في قدره بالباطل، وأصل ضلالتهم: أن القدر ينافي الشرع. . . فصاروا حزبين: حزبا يغلب الشرع فيكذب بالقدر وينفيه أو ينفي بعضه. وحزبا يغلب القدر فينفي الشرع في الباطن، أو ينفي حقيقته ويقول: لا فرق بين ما أمر الله به وما نهى عنه في نفس الأمر الجميع سواء " (5) .
وكذلك فإن الجبر أصبح نحلة، واعتنقه ناس يدعون إليه ويدرسونه ويبينونه للناس، وسواء كان أصله نحلة يهودية كما يقول ابن نباتة المصري صاحب سرح العيون في رسالة ابن زيدون، أم هو نحلة أصلها فارسي كما يذكر المرتضى في المنية والأمل، فإن المقرر أن الجبر أحدث جدلا طويلا على
__________
(1) سورة آل عمران الآية 154
(2) سورة آل عمران الآية 154
(3) سورة آل عمران الآية 156
(4) الملل والنحل \ 1 \ 18.
(5) ابن تيمية \ الفرقان بين الحق والباطل \ 158. (الجزء الأول من الرسائل طبعة صبيح) .(15/183)
الساحة الفكرية أخذ المعتزلة موقفا مضادا له، وأخذ الأشاعرة موقفا متوسطا، وفي كل ذلك جدل ومناظرات كانت سمة العصر وطابع الفكر الإسلامي آنذاك (1) .
أقول في ضوء الحقيقتين السابقتين: يجب أن ننظر إلى الفرق باعتبارها عاملا هاما في ازدهار حركة الجدل الديني في القرنين الثاني والثالث الهجريين، ومقارنة معتقدات كل وأصولها بمعتقدات وأصول غيرها، ثم رصد ما حدث بينهم من مناظرات ومراسلات يظهر أثرهم في الفكر الإسلامي، وليس تفصيل هذا من خطتنا، وإنما حسبنا أن نشير إلى الظاهرة وندل عليها في مظانها من كتب الفرق والملل والنحل، كما نشير إلى أن أثر الفرق ليس راجعا إلى موضوعات الجدل بقدر ما هو راجع إلى منهج تناول هذه الموضوعات والهدف المرتبط به.
__________
(1) أبو زهرة \ مالك \ 117 - 121. وأبو حنيفة \ 80 - 90. (دار الفكر العربي دت) .(15/184)
2 - وجود طوائف غير مسلمة في المجتمع الإسلامي:
ضم المجتمع الإسلامي آنذاك فئات شتى، اختلفت اتجاهاتهم، وتباين بمقدار هذا حقدهم على الإسلام، بل وطريقة الكيد له، فلقد كان هناك من دخلوا الإسلام من أصحاب العقائد والحضارات الأخرى، كالفرس الذين دخلوا الإسلام لكنهم لم ينتسبوا إليه إلا بمقدار ما يظهر في سلوكهم الخارجي، أما حقيقة الأمر فقد تجلت في بثهم بين المسلمين كثيرا من أفكارهم القديمة التي تخالف الفهم الإسلامي الصحيح كما في مسألة الجبر مثلا، حيث كانت من البحوث التي طرقها الزرادشتية والمانوية وغيرهم، فقد جاء في كتاب المنية والأمل للمرتضى عن الحسن: «أن رجلا من فارس جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: رأيت أهل فارس ينكحون بناتهم وأخواتهم، فإن قيل لهم لم تفعلون؟ قالوا: قضاء الله وقدره. فقال عليه السلام: سيكون في أمتي من يقولون مثل ذلك، وأولئك مجوس أمتي» (1) .
__________
(1) أبو زهرة \ تاريخ المذاهب 1 \ 117.(15/184)
كما تجلت في تسترهم تحت التصوف والتشيع لإيجاد فرق باطنية عرف الفكر الإسلامي خطرها وشرها (1) وخصوصا في مجال تأويل النصوص والخروج بها عن ظاهرها، وقطع الصلة بينها وبين أسباب نزولها تمهيدا لاستغلالها في مكائدهم (2) .
ويقرر ابن حزم الأندلسي أن مكائد الفرس كانت سببا في خروج أكثر الطوائف الغالبة، وبخاصة طوائف الشيعة عن الإسلام، ويرجع ذلك إلى أن زوال دولتهم على أيدي العرب، والفرس كانوا يظنون أنفسهم أحرارا وغيرهم - والعرب منهم - عبيدا، جعلهم يكيدون للإسلام بالمحاربة. . . فرأوا أن كيده على الحيلة أنجع، فأظهر قوم منهم الإسلام، واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبة أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستشناع ظلم علي - رضي الله عنه - ثم سلكوا بهم مسالك شتى حتى أخرجوهم عن الإسلام " (3) ويذكر ابن حزم الغلاة الذين اتخذوا بهذا كالحلوليين، ومسقطي الشرائع، ومنكري النبوات وغيرهم.
أما اليهود والنصارى فقد شاركوا الفرس وغيرهم في إثارة الشكوك، وبذر بذور الفرقة بين المسلمين، ففكرة الجبر التي تقضي بأن الإنسان مجبور لا إرادة له قيل: إن أول من دعا إليها يهودي بالشام، وتعلمها منه الجعد بن درهم ونشرها بين الناس بالبصرة، وتلقاها عن الجعد الجهم بن صفوان الذي أضاف إلى فكرة الجبر أفكارا أخرى ليست من الإسلام في شيء، وفي صدد الحديث عن الجعد بن درهم يقول صاحب سرح العيون: " تعلم منه الجهم بن صفوان القول الذي نسب إليه الجهمية، وقيل: إن الجعد أخذ ذلك على أبان بن سمعان، وأخذه أبان عن طالوت بن أخت لبيد بن أعصم اليهودي " وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي.
وهذه الرواية لا تنفي إسهام الفرس وغيرهم في بث بذور الفرقة بين
__________
(1) ابن تيمية \ الفرقان بين الحق والباطل \ 157، وقد سبقت إشارتنا إلى ذلك.
(2) البغدادي \ الفرق بين الفرق \ 281 - 312. تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد.
(3) الفصل \ 2 \ 115.(15/185)
المسلمين، والشيء نفسه نجده عند النصارى كما يروى، " قيل إن أول من تكلم في القدر رجل من أهل العراق كان نصرانيا فأسلم ثم تنصر، وأخذ عنه معبد الجهني وغيلان الدمشقي.
ومن هذا نرى: أن الفكرة دخيلة في الإسلام، راجت بين المسلمين من عنصر أجنبي دعا إليها باسم الإسلام وهو يضمر غيره (1) .
وإلى جانب هذا: كان اليهود يثيرون من الأفكار ما يدعو إلى الرد والمناظرة، فقد شكك أحدهم أهل البصرة في نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ودعاهم إلى الوقوف عند نبوة موسى فهي الثابتة دون غيرها، الأمر الذي جعل علماء السلف يناظرون هذا اليهودي وغيره ويفحمونهم.
كما ادعى بعضهم أن رسالة محمد إلى العرب خاصة، بل ادعى هذا - وهو عيسى بن يعقوب الأصبهاني - النبوة لنفسه وزعم أن الله كلمه، وأنه أرسل من قبل المسيح المنتظر (2) .
كذلك كان اليهود وراء مشكلات كثيرة مثل مشكلة خلق القرآن، والدعوة إلى فهم النصوص على ظاهرها في مسألة الصفات مما أدى إلى التمثيل والتشبيه (3) .
كذلك كان بعض النصارى يعلمون أتباعهم كيف يجادلون المسلمين بطريقة تشككهم في عقيدتهم كما فعل يوحنا الدمشقي الذي كان يعلم النصارى حوارا " إذا سألك العربي: ما تقول في المسيح؟ فقل: إنه كلمة الله. ثم ليسأل النصراني المسلم: بم سمي المسيح في القرآن؟ وليرفض أن يتكلم بشيء حتى يجيب المسلم؛ فإنه سيضطر إلى أن يقول: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} (4) فإذا أجاب بذلك فاسأله عن كلمة الله وروحه مخلوقة أو غير مخلوقة. فإن قال: مخلوقة. فليرد عليه: بأن
__________
(1) تاريخ المذاهب \ 1 \ 125.
(2) الملل والنحل \ 2 \ 55.
(3) الملل والنحل \ 1 \ 141.
(4) سورة النساء الآية 171(15/186)
الله كان ولم تكن له كلمة ولا روح، فإن قلت ذلك فستفحم العربي يعني المسلم؛ لأن من يرى هذا الرأي زنديق في نظر المسلمين (1) .
وواضح أنها المغالطة التي يرمي من ورائها إلى تراجع المسلم عن عقيدته حول خلق المسيح من جهة، كما يهدف عن طريق المغالطة إلى أن يصل إلى أن المسيح قديم مشارك لله في صفاته (2) ، والمعلوم أن السلف فصلوا في ما يجب لله من كمال يليق به وردوا على نفاة الصفات وعلى غيرهم من الفرق الضالة، والقرآن قد وضح عقيدة المسلمين في عيسى ابن مريم وأنه عبد الله ورسوله.
فإذا أضفنا إلى ذلك إثارتهم لشبه تتعلق بأمور مثل تعدد الزوجات والمحلل، وأضفنا أكاذيبهم حول شخصية الرسول الكريم وسيرته، ومسألة الحجر الأسود، كل هذا يؤكد أثرهم كغيرهم من اليهود والفرس في إثارة جدل تصدى له علماء الكلام أحيانا، كما تصدى له الفقهاء أحيانا أخرى (3) .
__________
(1) أبو زهرة \ أبو حنيفة \ 86.
(2) مدكور \ مذكرات في علم الكلام \ 11.
(3) أبو زهرة \ أبو حنيفة \ 87.(15/187)
3 - الاتصال بالثقافات الأخرى:
عامل لا يمكن إغفاله، ونعني به ما سعى المسلمون إلى تحصيله من الأفكار عن طريق الترجمة إلى العربية التي ابتدأت في عهد الأمويين، وقد كان تأثير هذا العامل وسط الجو المضطرب بتيارات وتشكيكات بالغ الأهمية، فقد عرف المسلمون المنطق الأرسطي - وإن كان قبوله لم يكن من جميع المسلمين في درجة واحدة؛ بل حورب من البعض واستخدموه في صياغة البراهين والأدلة إلى جانب طرقهم الإسلامية في الاستدلال.
كما عرفوا مصطلحات جديدة من الفلسفة الطبيعية كالجواهر والأعراض والأجسام والحركة والزمان وغيرها.
وإذا كانت الترجمة واتصال الثقافة الإسلامية بغيرها قد أحدثت اضطرابا وجدلا في باب المصطلح، وفي باب المنهج في الاستدلال، فإن(15/187)
الخطر الحقيقي يكمن فيما دس من أفكار عن طريق الترجمة، استهدفت نشر عقائد الفرس والمجوس وتقديم ما يطعن في الإسلام.
وقد وضح هذا في كتاب كليلة ودمنة الذي ترجمه عبد الله بن المقفع (139 هـ) ؛ ليكون لهوا في الظاهر، وتسلية للخواص والعوام باعتباره متحدثا عن الأخلاق والآداب على ألسنة الحيوانات والطير، ويكون تثقيفا في حقيقته للخاصة أكثر، حيث أضيف إليه في العربية باب يسمى "باب برزويه " ليس منه في الأصل الهندي، بل هو زائد عليه، وكان مكتوبا بالفارسية، وهذا الباب به إثارة للبلبلة والاضطراب حيث يشكك في إمكان الوصول إلى الحق الذي يقنع العقل ويزيل الحيرة (1) .
وفي نهاية المطاف يقول برزويه: " فحينئذ - بعد استعراضه لكثير من الآمال التي تصبح سرابا - صار أمري إلى الرضا بحالي وإصلاح ما استطعت إصلاحه من عملي، لعلي أصادف في باقي أيامي زمانا أصيب فيه دليلا على هذه الحال " (2) .
وإذا كان ما سبق يشكك في أحقية الإسلام بالخاتمية لوفائه بحاجات الناس وتقديم الأمن لهم، فإن اسم المقفع نفسه قد نسب إليه أنه ألف معارضات للقرآن، أراد بها أن يطعن في إعجاز القرآن والتحدي الذي وجهه الله إلى الإنس والجن، حيث أخبر الله - سبحانه - أن الإنس والجن يعجزون عن الإتيان بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (3) .
فإذا عرف العرب هذا عن طريق الترجمة، فإن كثيرا من الذين لا يملكون القدرة على التحليل والتعقل، كانوا هدفا لسهام الزنادقة الذين وجدوا في هذه الأفكار وغيرها من فلسفات اليونان حبائل للشر، يتصيدون بها من عبدوا الله على حرف ومن على شاكلتهم من الضعفاء والمترددين.
__________
(1) مدكور \ علم الكلام \ 9.
(2) ابن المقفع \ كليلة ودمنة \ 46. طبعة دار العودة \ بيروت د. ت.
(3) د. يحيى فرغل \ عوامل وأهداف نشأة علم الكلام: 185، 186. طبعة مجمع البحوث الإسلامية.(15/188)
ولا تقتصر أثر الترجمة على العوام، بل كان أكبر أثره على المتجادلين في العقائد، حيث وجد كل منهم سندا لكلامه في استخدام الجدل والمنطق لإفحام خصومه.
وقد انحرف هذا الجدل مما جعله لمجرد الغلبة والانتصار كما يقول الشيخ أبو حامد الإسفرائيني الذي يرويه أبو حيان التوحيدي.
قال التوحيدي: سمعت الشيخ أبا حامد يقول: " لا تعلق كثيرا ما تسمع مني في مجالس الجدل؛ فإن الكلام يجري فيها على ختل الخصم ومغالطته ودفعه ومغالبته، فلسنا نتكلم لوجه الله خالصا، ولو أردنا ذلك لكان خطونا إلى الصمت أسرع من تطاولنا في الكلام " (1) .
ومثله قول ابن قتيبة حين وصف الجدلي النفعي في زمانه فقال: " كان طالب العلم فيما مضى يسمع ليتعلم، ويعلم ليعمل، ويتفقه في دين الله لينتفع وينفع، وقد صار الآن يسمع ليجمع، ويجمع ليذكر، ويحفظ ليغالب ويفخر " (2) .
__________
(1) تاريخ هلال الصابي \ 4 - 5 حاشية \ 1 القاهرة 1337هـ -، 1، 1م.
(2) اختلاف اللفظ والرد على الجهمية نقلا عن كتاب زبدة بنت الحارث لمحمد قطب \ 20. مصر 1399هـ - 1978م.(15/189)
عصر الجدل والمناظرات:
لعل ما ذكرنا من العوامل يشير إلى أن حركة فكرية واسعة النطاق وعميقة الأثر كانت تظل الفكر الإسلامي في عصر الفقهاء، وأن جو الجدل والمناظرات كان سمة هذا الفكر آنذاك، ولم يكن الهدف من وراء هذا النشاط الفكري إلا خدمة العقيدة الإسلامية، وذلك ببيان حقيقتها والرد على شبهات أهل الأهواء والبدع، ولذا اشترك فيه كل من يعنيه انتصار هذه العقيدة، اشترك فيه المعتزلة وناظروا كثيرا من أهل الأهواء والبدع، بل وألفوا كتبا مستقلة للرد على الملاحدة، ويفتخر المعتزلة بذلك. فالخياط صاحب(15/189)
الانتصار يقول: " هل على الأرض أحد رد على الدهريين سوى المعتزلة كإبراهيم النظام، وأبي الهذيل ومعمر، والأسواري وأشباههم؟ وهل عرف أحد صحيح التوحيد واحتج لذلك بالحجج الواضحة، وألف فيه الكتب الواضحة، ورد فيه على أصناف الملحدين من الدهريين والثنوية سواهم ".
ولسنا بصدد الحكم على صواب المعتزلة أو خطئهم، ولكنا فقط نشير إلى أن العصر اقتضت طبيعة الفكر فيه نشاطا من هذا الصنف.
وقد خاض الفقهاء غمار هذه الحركة في الرد على الدهرية وغيرهم، فأبو حنيفة يجادل الدهرية ويوجههم إلى ضرورة الإيمان بمنشئ هذا العالم: " ما تقولون في رجل يقول لكم: إني رأيت سفينة مشحونة، مملوءة بالأمتعة والأحمال، قد احتوشتها في لجة البحر أمواج متلاطمة، ورياح مختلفة، وهي من بينها تجري مستوية ليس فيها ملاح يجريها ويقودها، ولا متعهد يدفعها ويسوقها، هل يجوز ذلك في العقل؟ فقالوا: لا. هذا شيء لا يقبله العقل، ولا يجيزه الوهم. فقال أبو حنيفة - رحمه الله -: فيا سبحان الله، إذا لم يجز في العقل وجود سفينة مستوية من غير متعهد ولا مجر، فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها. وتغير أمورها وأعمالها، وسعة أطرافها، وتباين أكنافها من غير صانع وحافظ ومحدث لها؟ " (1) .
وقد ضاع من تراث المسلمين كثير من المناظرات والردود، لكن بعض الكتب الموثقة حفظت لنا صورا من مجادلات بين أهل السنة وبين أهل الجبر أو القدر، وعلى فرض أن ما يحكيه ابن القيم من مناظرة بين سني وجبري، ومناظرة بين سني وقدري، على فرض أنه تصوره هو، فإن الواقع من خلال ما مر من عوامل يشهد بوجود مثل هذه المناظرات، وإن لم تصلنا حرصا من الاتجاه السني على عقيدة المسلمين الحقة وفق منهج القرآن والسنة.
__________
(1) المكي \ مناقب أبي حنيفة \ 178.(15/190)
وهذا جزء من مناظرة بين جبري وسني:
- قال الجبري: القول بالجبر لازم لصحة التوحيد، ولا يستقيم التوحيد إلا به، لأننا إن لم نقل بالجبر أثبتنا فاعلا للحوادث غير الله مع الله، إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وهذا شرك لا يخلص منه إلا القول بالجبر.
وقال السني: بل القول بالجبر مناف للتوحيد، فهو مناف للشرائع ودعوة الرسل والثواب والعقاب، فلو صح الجبر لبطلت الشرائع، ولبطل الأمر والنهي، ويلزم من بطلان الثواب والعقاب (1) .
ويستمر الجدال بينهما مؤكدا ما يهدف إليه كل من الطرفين، وكذلك الأمر فيما ذكره ابن القيم بين سني وقدري. وإذا كان هذا الجدول في باب العقائد، فقد كان للفقهاء مناظراتهم في باب الفقه وفي مواسم الحج، وكانت مجادلات الفقهاء أخصب وأعم خيرا، وأكثر إنتاجا من مجادلات الفرق المختلفة، وإذا كان هذا لا ينفي ما وجد من جدل تعصب فيه كل لموطنه البصرة أو الكوفة، وفي ذلك ما فيه من لجج وخصومة (2) .
ويصور الشيخ أبو زهرة حالة العصر الذي نحن بصدده فيقول: " والعصر كان عصر مناظرات وجدل، فمناظرات شديدة اللجب، قوية الأثر بين الفرق المختلفة وبين الشيعة والجماعة، وبين الخوارج وغيرهم، وبين أهل الأهواء جملة، وبين المعتزلة والمدافعين عن الآراء الإسلامية والعقيدة السليمة القوية، يرحل العلماء لأجل هذه المناظرات، وقد رأيت أن أبا حنيفة قد رحل إلى البصرة نحو اثنتين وعشرين مرة لأجل مناظرة الفرق الكثيرة المختلفة (3) .
وقد ارتبط بهذا الجو بعض المظاهر العلمية التي بقيت وأثرت في الفكر الإسلامي بين أخذ ورد، أعني وجود علم الكلام بمدارسه المختلفة والكتب التي ألفت في العقائد والنحل. وسنفرد كلا بكلمة وجيزة.
__________
(1) ابن القيم \ شفاء الغليل في مسائل القضاء والقدر والتعليل \ 75 (طبعة صبيح) .
(2) أبو زهرة \ أبو حنيفة \ 89.
(3) أبو زهرة \ أبو حنيفة \ 89.(15/191)
علم التوحيد والتأليف في قضاياه:
لا نريد أن نؤرخ لهذا العلم وأن نتتبع مراحله وقضاياه، ولكنا نعني هنا بالدرجة الأولى ببيان نقاط تربط بين هذا العلم وبين العوامل السابقة التي أنتجته خلاصة أو جماعا للجدل الذي دار في القرنين الثاني والثالث الهجريين ونكتفي من النقاط بما يلي:
أ - أن وجود هذا العلم ناتج عن العوامل السابقة إنما هو مظهر من مظاهر الاهتمام بالعقيدة الإسلامية فهما واستدلالا ودفاعا ضد الهجمات التي أشرنا إليها سابقا، ويتضح هذا حين نتذكر كيف أن جذور القضايا التي أثارتها الفرق موجودة في القرآن بدعوته إلى النظر والاستدلال، ورده على المشركين ومثيري الشبهات، مع تذكرنا أن الفرق بالغت فأضفت إلى أصول القضايا فروعا نأت بها عن خدمة الأصول غالبا، وحتى المعتزلة الذين هوجم علم الكلام من قبلهم كانوا يتفيون الأصول إلى الحق بمنهج غلب على ظنهم أنه الصواب في خدمة العقيدة وإثبات التوحيد دون لبس أو غموض لكن المعتزلة لما أن خاضوا في علم الكلام تولد عن خوضهم العديد من الشبهات التي أدت بهم وبغيرهم إلى التوقف والحيرة والشك في الاعتقاد.
وإن نظرة إلى تعريف هذا العلم تكفي في تأكيد ما أشرنا إليه، وقد عرف بتعريفات عديدة نذكر منها: تعريف الفارابي (399 هـ) والذي يقول فيه: " وصناعة الكلام ملكة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال،. . . التي صرح بها واضع الملة (الرسول) وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل " (1) .
وتعريف ابن خلدون (808) الذي يقول فيه: " هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذهب السلف وأهل السنة " (2) .
__________
(1) إحصاء العلوم \ 107 تحقيق: د. عثمان أمين (الطبعة الأولى) .
(2) مقدمة ابن خلدون \ 424 طبعة الشعب القاهرة.(15/192)
والمسائل التي يهتم بها هذا العلم تؤكد ما نذهب إليه من كونه مظهرا من مظاهر الاهتمام بالتوحيد (توحيد الربوبية) بصرف النظر عما لحقه في بعض مراحله ومناهجه من أخطاء، فقد ذكر بعض الباحثين أن موضوعاته أربعة هي:
1 - دراسة العقائد الدينية، أو ما يسمى بأصول الدين، ويشمل الإلهيات والنبوات والسمعيات.
2 - مجادلة المخالفين للعقائد الدينية والرد عليهم وإبطال أدلتهم وبراهينهم.
3 - علم النظر أو المنطق نظرا للحاجة إليه لمجادلة الخصوم.
4 - موضع الإمامة (1) .
وهذه الأربعة هي التي فصلها الخوارزمي في اثنتي عشرة مسألة، هي:
1 - حدوث الأجسام للرد على الدهريين القائلين بقدم الدهر.
2 - إثبات أن للعالم محدثا هو الله سبحانه.
3 - وأنه واحد للرد على الثنوية والمثلثة من المجوس والزنادقة والنصارى.
4 - وأنه لا يشبهه شيء للرد على المشبهة والممثلة.
5 - الكلام في الرؤية ونفيها وإثباتها.
6 - الكلام في الصفات للرد على المعطلة.
7، 8 - الكلام في أفعال العباد وأنه سبحانه يخلقها وأنه يريدها.
9 - حكم مرتكب الكبيرة وصلة هذا بماهية الإيمان.
10 - الدلالة على النبوة بصفة عامة للرد على المبطلين.
11 - الدلالة على نبوة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) د. مدكور \ علم الكلام \ 20.(15/193)
12 - القول في الإمامة (1) .
ب - أن الفرق بمغالاتها في تأصيل الاختلاف بين بعضهم البعض قد أخرجت هذا العلم من مكانته التي كانت له حين كان نتاجا طبيعيا لظروف اقتضته خدمة للعقيدة الإسلامية، بل وجرت عليه خصومات الفقهاء والمحدثين والصوفية الأوائل وعامة السلف الصالح، وحق للناقدين لهذا العلم أن يتهموه بالخروج عن مهمته حيث تحول الجهد الذي كان مبذولا للرد على المخالفين إلى مناظرات بين الفرق حول إثبات أفضلية أصول كل على الآخرين.
وحيث أصبح هم كل فرقة أن تنتصر لرأيها وإثبات بطلان رأي غيرها، الأمر الذي أفقد نتائج مناظراتهم العمق واليقين القلبي. وإلى جانب ذلك فقد دفعتهم المغالاة - كما سبق أن أشرنا - إلى التناقض وإلى مصادمة نصوص صريحة تقضي بخلاف ما يقولون به (2) .
وإذا كان علماء الكلام قد دافعوا عن ما وجه إليهم من مآخذ، بل وشاركهم في هذا الدفاع بعض الفلاسفة الذين اعتبروا دور علماء الكلام كدور الجنود في حماية الدين والوطن. أقول: إذا كان هذا قد حدث فإن دفاع علماء الكلام عن أنفسهم لم يكن مقنعا بدرجة كافية، وأن هؤلاء لا يستطيعون أن ينكروا ما وقع فيه بعض علماء الكلام من انقسام ترتبت عليه آثار ضارة كالتعصب والتقليد (تقليد كل فرقة لأشياخها في كل ما يقولون به في الغالب) والتكفير، والجدل الكريه، وما أدى إليه من عدم كفاية هذا العلم سبيلا إلى الإيمان واليقين، وهذه كلها أمور لا يجد علماء الكلام ردا مقنعا أو إجابة يسهل قبولها " (3) .
ب - أننا ونحن نهتم بقضية التوحيد وسط تيارات الإلحاد المعاصرة يمكننا أن نفيد من الخير الذي بدأ به هذا العلم متجاوزين أخطاءه حذرين منها؛ لأن حاجتنا الآن في تقديم العقيدة الإسلامية بلغة واضحة وأدلة مقنعة،
__________
(1) مفاتيح العلوم 1851 طبعة ليدن، بدائرة المعارف الإسلامية \ 5 \ 530.
(2) الغزالي \ فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة \ 171 (مكتبة الجندي د. ت) .
(3) مدكور \ علم الكلام \ 69 - 152.(15/194)
وحاجتنا - إلى تفهم كيف نجادل الملحدين ومثيري الشبهات، هذا كله يجعلنا نستفيد من بعض ما جاء في هذا العلم بعيدا عن الغلو وعدوى التعصب البغيض للرأي ".
وعلينا أن نتذكر أن هذا العلم كان من أبرز مدارسه المعتزلة الذين غالوا في قيمة العقل وبالغوا في تقدير الحرية الإنسانية، فجلبوا على العلم ذاته هجوما من أهل السنة والجماعة، حتى إن بعض العلماء يقول: " إن الفقهاء مثل أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد حين يذمون علم الكلام إنما يقصدون المعتزلة في المقام الأول " (1) وكان منهم أبو الحسن الأشعري رحمه الله ثم رجع عن مذهبهم وخالفهم في أمور كثيرة، ورد على باطلهم بما عرف فيما بعد بمذهب الأشعري، وتبعه جماعة في مذهبه الجديد على ما فيه من أخطاء تخالف مذهب أهل السنة والجماعة، ومن أشهرهم إمام الحرمين، ثم رجع أبو الحسن في آخر حياته عن مذهبه، وقال بقول أهل السنة في غالب ما خالف فيه وألف كتابيه - الإبانة ومقالات الإسلاميين - وبقي أتباعه يناصرون مذهبه الذي رجع عنه.
__________
(1) أبو زهرة \ أبو حنيفة \ 152 وهو مذموم عند السلف بعامته. 2- السابق \ 152.(15/195)
آثار هذه المرحلة:
بعد أن ألمحنا بالظروف الفكرية للعصر الذي نتحدث عنه: يمكننا أن نوجز الآثار الفكرية فيما يلي:
أولا: دخل ميدان البحث في العقائد ومجادلة الخصوم من عرف عنهم كراهيتهم لهذا اللون من الفكر أمثال أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، كما يتضح من خلال مؤلفاتهم التي ذكرناها سابقا، والأمثلة التي ذكرناها من مناظرة أبي حنيفة للدهريين.(15/195)
ولئن كان ما قدمه ابن القيم عن المناظرة بين سني وجبري، أو سني وقدري متأخرا في الزمن من حيث التأليف، فإنه يصور المرحلة التي نتحدث عنها وإن سبقت ابن القيم.
وما كان لفقهاء السلف أن يصمتوا والجدل دائر حولهم في مجال هم يرون الفقه فيه هو الفقه الأكبر، أعني مجال العقيدة، ولذلك دخلوا بقدر وحذر، وهدفهم الحفاظ على عقيدة السلف الصالح ببيانها في مقابل شطط الفرق وغلو المتطرفين.
ثانيا: وجد الاهتمام ببحوث العقائد في علم استقل عن غيره من العلوم كما وضح هذا من تعريفه وموضوعاته، وقد بدأ هذا العلم - كما ذكرنا - أصيلا ويهدف إلى غاية نبيلة. غير أن الفرق حادت به عن الصراط في كثير من بحوثها داخله. حيث المغالاة والانحراف بالجدل إلى ما لا يحبه الله.
ثالثا: ألفت كتب في عقائد الفرق، كل فرقة حرصت على أن تثبت أصولها لتعلمها للناس من جهة، ولترويها على غيرها من جهة أخرى، كما فعلت المعتزلة في " الأصول الخمسة " والانتصار، وغير هذا كثير.
رابعا: وسط هذا الجو المفعم بالجدل، والمهتم بتأصيل الأصول حتى ولو كانت تخالف المنهاج القرآني، وسط هذا كان على علماء السلف فرضا ضروريا أن يقدموا المعتقد السليم للناس مواجهة للتطرف، وحرصا على هذه الأمة التي حفظ الله لها أصول دينها، وقيض لها حماة مخلصين، فكانت المؤلفات التي أثارت سؤال سبب الاهتمام، والاطلاع على منهجها يظهر تعاضد جهود الفقهاء وأهل الحديث في هذا الباب.
ولعلنا من خلال ما قدمنا نكون قد أظهرنا أن ما أنتجته هذه المرحلة من اهتمام العلماء بالعقيدة السلفية كان مسوغا وضروريا من الوجهة العلمية، وهذا نفسه ينطبق على المرحلة الثانية التي يجب أن نعالجها كنقطة هامة تكمل الإجابة على السؤال المطروح.(15/196)
المرحلة الثانية:
قد أنتجت المرحلة الأولى في قرنيها الثاني والثالث الهجريين اهتماما امتد حتى القرن الخامس الهجري، ولعله وضح من خلال المؤلفات التي أشرنا إليها في أول هذا البحث. ثم أصيب العالم الإسلامي بموجة تشبه الموجة التي كانت في عصر الجدل والمناظرات؛ من حيث سوء الحال في السياسة والاجتماع، وتفرق الناس في العقيدة فرقا وأحزابا، حتى إذا جاء عصر شيخ الإسلام ابن تيمية (661 - 728 هـ) وجدنا الحال أسوأ من سابقتها الأمر الذي جعل المعركة شديدة في نفسه بين ما علم وما يرى في عصره من ظلمة شديدة وفساد في كل نواحيه.
رأى في ماضي الإسلام عزة واتحادا، وفي حاضره ذلة وانقساما، فتقدم الرجل ليصلح وليداوي. وقد جاء الدواء بأيسر كلفة، ووجد هذه الأمة لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها.
ولو فتشت عن البواعث التي بعثت ذلك العالم التقي على المجاهرة بآراء معينة، لوجدت أن الذي بعث على هذه المجاهرة عيب في الزمان في الفكر، أو في العمل، أو فيهما معا (1) .
وإذا كانت هذه العبارة تمثل وصفا مجملا للعصر الذي تشير إليه، فإن كتب التاريخ فصلت القول في مظاهر الخلل التي استدعت بالضرورة اهتمام المخلصين بإنقاذ هذه الأمة بتنقية عقيدتها مما شابها.
وهاهي ذي بعض مظاهر الفساد آنذاك.
أولا: ذبول الحس الإسلامي: وهذا يفقد الناس حميتهم الإسلامية وارتباطهم بأحكامه، واستعدادهم للتضحية في سبيل نصرته، وقد تجلى هذا الأمر في صور نذكر منها:
1 - فساد عقائد الناس وإيمانهم بفرضية الجهاد، حتى أن بعض
__________
(1) أبو زهرة تاريخ المذاهب الإسلامية \ 2 \ 447. دار الفكر العربي.(15/197)
المسلمين كان يناصر التتار ويؤذي الجنود المسلمين، ويذكر ابن كثير في حوادث سنة (700 هـ) هذا الأمر فيقول: " وفي شوال فيها عرفت جماعة ممن كان يلوذ بالتتر ويؤذي المسلمين، وشنق منهم طائفة، وسمر آخرون، وكحل بعضهم، وقطعت ألسن، وجرت أمور كثيرة. . . . . . . . .
وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية ومعه خلق كثير من المتطوعة والحوارنة لقتال أهل تلك الناحية [يشير إلى جبال الجرد وكسراوات] بسبب فساد نيتهم وعقائدهم وكفرهم وضلالهم، وما كانوا عاملوا به العساكر لما كسرهم التتار وهربوا حين اجتازوا ببلادهم وثبوا عليهم ونهبوهم وأخذوا أسلحتهم وخيولهم، وقتلوا كثيرا منهم، فلما وصلوا إلى بلادهم جاء رؤوسهم إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية فاستتابهم وبين لكثير منهم الصواب، وحصل بذلك خير كثير (1) .
2 - تدخل بعض السياسيين بالفتوى فيما لا يعلمه، يذكر ابن كثير في حوادث سنة تسع وسبعمائة: أن السلطان الناصر محمد بن قلاوون جمع العلماء في مجلسه وسألهم فيما قاله ابن الخليلي وزيرهم في شأن إعادة أهل الذمة إلى لبس العمائم البيضاء لقاء أن يدفعوا للديوان سبعمائة ألف في كل سنة، ولم يتكلم الحاضرون، وكان من بينهم قضاة وعلماء، لكن ابن تيمية انبرى للسلطان مبينا له خطأ هذا التصرف قائلا: حاشاك أن يكون أول مجلس جلسته في أبهة الملك تنصر فيه أهل الذمة لأجل حطام الدنيا الفانية، فاذكر نعمة الله عليك إذ رد ملكك إليك وكبت عدوك ونصرك على أعدائك (2) وفي هذا الأمر ما فيه دلالة على طلب الدنيا وتدل رفعة الإسلام من الوزير، ودلالة على موقف بعض العلماء بالسكوت، إيثارا للسلامة، في مقابل الحق دون خشية لمخلوق.
3 - تجرؤ بعض النصارى على رسول الإسلام، إذ أن رجلا يدعى عساف النصراني قد سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحين علم العلماء بذلك، ومنهم:
__________
(1) ابن كثير \ البداية والنهاية \ 14 \ 11، 12. مطبعة المتوسط، بيروت لبنان.
(2) ابن كثير \ البداية والنهاية \ 14 \ 46، 47.(15/198)
ابن تيمية حرضوا الناس عليه وعلى من استجار به، فأطلق الناس عليهما الحجارة، وقد استدعي ابن تيمية والشيخ الفاروقي، وضربا نتيجة لهذا، وقد كانت هذه الواقعة سببا في أن كتب ابن تيمية (الصارم المسلول على شاتم الرسول) (1) فانظر إلى أي حد هان على الناس أمر إسلامهم.
__________
(1) ابن كثير \ البداية والنهاية \ 13 \ 318.(15/199)
ثانيا: فساد المعتقدات: ونعني بهذا المظهر من مظاهر الخلل أن بعض الناس فقدوا تقدير المصادر الإسلامية كالكتاب والسنة، كما بلغ الاستهتار حدا تمثل في ادعاء المهدية وادعاء النبوة وبعض الغلو الفاحش في أمور العقيدة لدى بعض الطوائف، مثل: الصوفية آنذاك.
ويمكن أن نقدم دليلا على هذا المظهر بعض الأحداث التي سجلها لنا التاريخ، منها:
1 - قتل رجل لكفره واستهتاره بآيات الله، والاستهانة بالنبوة. ففي حوادث سنة (726 هـ) يذكر ابن كثير " وفي يوم الثلاثاء حادي عشر ربيع الأول بكرة ضربت عنق ناصر بن الشرف أبي الفضل بن إسماعيل بن الهيثمي بسوق الخيل على كفره واستهانته واستهتاره بآيات الله، وصحبته الزنادقة كالنجم بن خلكان، والشمس محمد الباجريقي، وابن المعمار البغدادي، وكل فيهم انحلال وزندقة مشهور بها بين الناس.
قال الشيخ علم الدين البرزالي: وبما زاد هذا المذكور المضروب العنق عليهم بالكفر والتلاعب بدين الإسلام، والاستهانة بالنبوة والقران (1) .
2 - ادعاء المهدية وتبديل الشهادتين، حدث هذا عام (717 هـ) حين خرجت النصيرية عن الطاعة وكان بينهم رجل سموه محمد بن الحسن المهدي القائم بأمر الله، وتارة يدعى علي بن أبي طالب فاطر السماوات والأرض، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وتارة يدعي أنه محمد بن عبد الله صاحب البلاد، وخرج يكفر المسلمين، وأن النصيرية على حق، واحتوى هذا الرجل على عقول كثير من كبار لنصيرية الضلال، وعين لكل إنسان منهم
__________
(1) البداية والنهاية \ 14 \ 106.(15/199)
تقدمة ألف، وبلاد كثيرة ونيابات. وحملوا على مدينة جبلة فدخلوها وقتلوا خلقا من أهلها، وخرجوا منها يقولون: لا إله إلا علي، ولا حجاب إلا محمد، ولا باب إلا سلمان وسبوا الشيخين، وصاح أهل البلد، واإسلاماه، واسلطاناه، واأميراه، فلم يكن لهم يومئذ ناصر ولا منجد، وجعلوا يبكون ويتضرعون إلى الله عز وجل " (1) .
فانظر كم انقلبت الأوضاع، من أفتى العلماء بكفرهم يعلنون أن منهم المهدي ولكن أقوالهم وأفعالهم تشهد أنهم أبعد أهل عصرهم عن دين الله الإسلام.
3 - قتل شخص يدعي النبوة، ففي سنة عشرين وسبعمائة للهجرة حدث أن ضربت عنق شخص يقال له: عبد الله الرومي، وكان غلاما لبعض التجار، وكان قد لزم الجامع، ثم ادعى النبوة واستتيب فلم يرجع فضربت عنقه، وكان أشقر أزرق العينين جاهلا، وكان قد خالطه شيطان حسن له ذلك، واضطرب عقله في نفس الأمر، وهو في نفسه شيطان إنسي (2) .
4 - الصوفية وغلوهم: لقد كان لابن تيمية مع صوفية عصره مواقف قاسى فيها منهم الكثير، فلقد ادعى عليه صوفية القاهرة ما لم يقله في أمور الشفاعة وابن عربي وشكوه إلى القاضي، ونتج عن هذا أنه خير بين السفر إلى دمشق أو الإسكندرية بشروط أو الحبس، فاختار الحبس، ثم سافر إلى دمشق بعد ذلك (3) .
على أن هذه المكائد من الصوفية لابن تيمية لم تكن إلا لأنه أظهر لهم فساد عقائدهم وما يلبسون به على الناس، ففي سنة (755 هـ) كان له مع أصحاب الطريقة الأحمدية موقف، إذ طلبوا من نائب السلطنة أن يتركهم ابن تيمية وحالهم ودجلهم على الناس بدخول النار. ولكن شيخ الإسلام أصر على أن كل حال لا بد أن تدخل تحت الكتاب والسنة، وأظهر للناس خطأ فهمهم،
__________
(1) البداية والنهاية \ 14 \ 72.
(2) البداية والنهاية \ 14 \ 83.
(3) البداية والنهاية \ 14 \ 39، 40.(15/200)
وجانب الرجل في سلوك هؤلاء الصوفية، وقد استعدى هؤلاء الصوفية بعض الحاقدين على شيخ الإسلام فاتهموه بآراء في العقيدة تخالف منهج السلف، وحكموا فيه خصومه وساقوه إلى الحبس (1) ، ولكنه لم يكف عن بيان الحق لهم ولغيرهم، وما كان هذا ليمنعه عن أداء رسالته، فقد التقى بصوفي في القاهرة يدعى إبراهيم القطان، وكان مخالفا للسنة في مظهره، وكان يأكل الحشيشة التي تغيب العقل، فأرشده ابن تيمية إلى الحق، ونهاه عن كل المخالفات حتى يتعرض لفضل الله ورحمته، وغير هذا كثيرون ممن تظهر أقوالهم وأعمالهم فساد المعتقد، أو غش الأمة والتلبيس على أهلها، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
__________
(1) البداية والنهاية \ 14 \ 31 - 33.(15/201)
ثالثا: انتشار الفساد بين العلماء:
ذلك أن هذا العصر ضم اتجاهات مختلفة يغلب على معظمها التقليد للسابقين، وبخاصة في العقائد، الأمر الذي يظهر في بعض الشروح التي وصلت إلينا من هذا العصر (1) لكن هذا لم يمنع من وجود بعض الفلاسفة، وأصحاب النزعة الفلسفية، فما التصوف بما تحويه من اعتقادات مخالفة لعقيدة السلف الصالح، وهذا وذاك كان لهما الأثر في وجود بعض الانحرافات في سيرة العلماء وموقفهم من الإصلاح والدعوة إلى تنقية العقيدة مما شابها من بدع وأهواء، ولكن أقسى شيء في هذه الانحرافات هي أن يتدنى العلماء إلى مغبة المكائد لبعضهم طلبا للجاه والسلطان، وما ذلك إلا لأن بعض العلماء كان خادما لاتجاه سياسي علا أو هبط، وهذه بعض مظاهر الفساد في الموضع الذي يرجى منه الإصلاح.
1 - فقد امتحن ابن تيمية من جماعة من الفقهاء حين أشاعوا غير الحق عن كلامه لأهل حماة في العقائد المسمى بالعقيدة الحموية، ولما أراد ابن تيمية أن يناظرهم وأرسل لهم الأمير هربوا ولم يحضروا، وظل الأمر كذلك حتى عقد ابن تيمية مجلسه يوم الجمعة عند جماعة من الفضلاء وبحثوا في
__________
(1) أبو زهرة \ تاريخ المذاهب الإسلامية \ 2 \ 453.(15/201)
الحموية وناقشوه فيها، فأجاب عنها بما أسكتهم بعد كلام كثير (1) .
فانظر كيف يشيع العلماء وهم أهل الحق باطلا؛ لينالوا به من عالم ظنوه يزاحمهم على الدنيا، والرجل من هذا الأمر براء، كما تشهد سيرته ومحنته.
فإذا أضفنا إلى هذا ما سجله ابن كثير في حوادث عام (701 هـ) كانت النكبة أشد فيما وصل إليه العلماء، وفي هذا الشهر (شوال) ثار جماعة من الحسدة على الشيخ تقي الدين بن تيمية، وشكوا منه أنه يقيم الحدود، ويعزر ويحلق رؤوس الصبيان، وتكلم هو أيضا فيمن يشكو منه ذلك، وبين خطأهم، ثم سكنت الأمور (2) .
2 - ولو كان الأمر يقف عند حد الاتهام لهان الأمر إذ يمكن أن يقال: إنه داخل في باب الاجتهاد الذي يخطئ صاحبه، أما أن يصل الكيد إلى حد التزييف والكذب، فهذا هو الخطر الحقيقي، وقد حدث ذلك في سنة (726 هـ) عندما سئل ابن تيمية من عالمين عن مضمون قوله في مسألة زيارة القبور فكتب ذلك في درج، فكتب تحته قاضي الشافعية بدمشق: قابلت الجواب عن هذا السؤال المكتوب على خط ابن تيمية إلى أن قال: وإنما المحز جعله زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبور الأنبياء - صلوات الله عليهم - معصية بالإجماع مقطوعا بها.
ويقول ابن كثير معلقا: " فانظر الآن على هذا التحريف على شيخ الإسلام ويحكي حقيقة قوله، وأن كتبه تفيض بغير ما حرفوا، وفهمه لم يكن ليصل إلى ما اتهموه به من قوله: الإجماع على معصية هذا " (3) .
3 - الإفتاء بغير علم، وكان من آفة الفساد في العلماء أن يتكلم بعضهم فيما لا علم له به، فابن زهرة المغربي اقترف هذا الفساد سنة (712 هـ) ، فطيف به في دمشق وهو مكشوف الرأس، ووجهه مقلوب،
__________
(1) البداية والنهاية \ 14 \ 4.
(2) البداية والنهاية \ 14 \ 17.
(3) البداية والنهاية \ 14 \ 108.(15/202)
وظهره مضروب، ينادى عليه: هذا جزاء من يتكلم في العلم بغير معرفة (1) .
وقريب من هذا: ما كان يفعله بعض المنتسبين من التكفير للناس بأدنى ملابسة، ففي المحرم من سنة (714 هـ) استحضر السلطان بين يديه الفقيه نور الدين علي البكري وهم بقتله فشفع فيه الأمراء فنفاه ومنعه من الفتوى والكلام في العلم. . . وذلك لاجترائه وتسرعه على التكفير والقتل، والجهل الحامل له على هذا وغيره، فانظر إلى حال من قاده جهله إلى الحجر عليه في عمله الذي به قيمته لأنه لم يحسنه، فقيمة كل امرئ ما يحسنه.
__________
(1) البداية والنهاية \ 14 \ 57.(15/203)
تعقيب:
ولعل لنا في اعتبارهما مرحلتين فهما جعلنا نعتبر الحركة الإصلاحية للشيخ محمد بن عبد الوهاب امتدادا وتجديدا لمرحلة ابن تيمية، وذلك أننا نلحظ في الكتب التي صنفت في العقائد بعد الشيخ ابن عبد الوهاب، نلحظ فيها تشابها كبيرا مع ما حملته إلينا رسائل ابن تيمية وفتاواه، وهذا ليس بمستغرب، بل هو الطبيعي؛ لأن الهدف من هذه الحركة الإصلاحية إنما هو تجسيد عملي لما تغياه ابن تيمية في جهاده في عصره.
ولعل ما قدمناه من ظروف المرحلتين وتشابههما إلى حد كبير يصلح إجابة للسؤال الذي انطلق من ملاحظة المؤلفات ذات الاهتمام بالعقيدة السلفية، فتفرق الفرق واضطراب الأحوال ووجود أصحاب الأهواء، وانتشار البدع، وادعاء المهدية والنبوة، ثم فساد أحوال العلماء نتيجة المعصية المهدية وتسرب لعصم الأفكار من الترجمة إليهم في المرحلة الأولى، وطلبا للدنيا، وفقدانا لرسالة العلم، وأمانة العالم في المرحلة الثانية، وكذ الأولى.
كل هذا في جو مضطرب لا تقدم الدولة فيه عملها الأساس في الحفاظ على دينها، هذا وغيره من أسباب جعلت العلماء المخلصين لدينهم وأمتهم(15/203)
يقدمون ما يستطيعون في باب خدمة عقيدة السلف الصالح، إيمانا منهم بأن هذه الأمة لن يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها، وقد كان التزام الناس بالإسلام أول عهدهم به وزمن الرسول والراشدين من بعده، سببا أساسيا في حضارة الأمة وريادتها الأمم الأخرى، وبقدر ما انحلت رابطة الالتزام بين المسلمين والإسلام بقدر ما تقهقروا وصاروا فريسة لغيرهم، لا عن قلة يحدث لهم ذلك، ولكن مصداق قول الرسول الكريم: غثاء كغثاء السيل «يوشك أن تداعى عليكم الأمم، كما تداعى الأكلة على قصعتها. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل ولينزعن من صدور عدوكم المهابة وليقذفن في قلوبكم الوهن. قال قائل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال - عليه الصلاة والسلام -: حب الدنيا وكراهية الموت (1) » .
والله المستعان وإليه المرجع والمآب.
__________
(1) رواه أبو داود في سننه \ 4 \ 483، كتاب الملاحم. وأخرجه أبو نعيم في الحلية \ 1 \ 182. والحديث بمجموع طرقه صحيح.(15/204)
زيد بن حارثة الكلبي القائد الشهيد
اللواء الركن: محمود شيت خطاب (1) .
نسبه وأيامه الأولى:
هو زيد بن حارثة بن شراحيل بن عبد العزى بن امرئ القيس بن عامر بن النعمان بن عامر بن عبد ود بن عوف بن كنانة بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن الجاف بن قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرة بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وإلى قحطان جماع اليمن، وربما اختلف الذين نسبوه في الأسماء وتقديم بعضها على بعض وزيادة شيء فيها (2) ونقص شيء فيها (3) .
ومن المعلوم أن العرب كانوا ولا يزالون يهتمون بحفظ أنسابهم تسجيلا ورواية، ومصادر الأنساب في التراث العربي كثيرة جدا، وحتى اليوم إذا زرت حيا من أحياء العرب، وسألت طفلا من أطفاله عن نسبه، سرد عليك نسبه إلى بضعة أسماء أو أكثر، وحفظ الأنساب غير معروف عند غير العرب من الأمم
__________
(1) ورد لكاتب البحث ترجمة في العدد العاشر صفحة 233.
(2) الاستيعاب (2 \ 542) وأسد الغابة (2 \ 224) .
(3) أسد الغابة (2 \ 224) .(15/205)
الأخرى، فلا غرابة في تشكيكهم باستمرار في صحة الأنساب العربية ودقتها، والمرء عدو ما جهل.
ولا مجال للعربي الأصيل أن يتقبل تشكيك غير العربي بصحة أنساب العرب، ولكن الشك ينحصر في دقتها، وبخاصة إذا ارتفعت إلى عهود سحيقة في القدم.
وأم زيد: سعدى بنت ثعلبة بن عبد عامر بن أفلت من بني معن من طيء.
وزارت سعدى أم زيد قومها وزيد معها، فأغارت خيل لبني القين بن جسر في الجاهلية فمروا على أبيات بني معن رهط أم زيد، فاحتملوا زيدا إذ هو يومئذ غلام يفعة قد أوصف (1) ، فوافوا به سوق عكاظ، فعرضوه للبيع، فاشتراه منهم حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي لعمته خديجة بنت خويلد بأربعمائة درهم، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهبته له، فقبضه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) .
وفي رواية أخرى، أن زيدا كان قد أصابه سباء في الجاهلية، فاشتراه حكيم بن حزام في سوق حباشة، وهي سوق بناحية مكة كانت مجمعا للعرب يتسوقون بها في كل سنة، اشتراه حكيم لخديجة بنت خويلد، فوهبته خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم (3) .
وقيل: رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - ينادى عليه بالبطحاء (4) ، فذكره لخديجة،
__________
(1) غلام يفعة: شاب. وأوصف الغلام أو الفتاة: بلغ أوان الخدمة. فأوصف: تم قده.
(2) طبقات ابن سعد (3 \ 40 - 41) وأنساب الأشراف (1 \ 467) .
(3) الاستيعاب (2 \ 543) .
(4) البطحاء: المسيل الواسع فيه دقائق الحصى. والمقصود هنا: بطحاء مكة.(15/206)
فقالت له يشتريه، فاشتراه من مالها لها، ثم وهبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - (1) .
ويقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ابتاع زيدا بالشام لخديجة حين توجه مع ميسرة قيمها، فوهبته له (2) .
والمتفق عليه، أن زيدا أصابه سباء، وكان حرا فأصبح عبدا لخديجة، ثم أصبح للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أهمية للاختلاف في من اشتراه ولا في مكان بيعه. وقد كان أبوه حارثة حين فقده قال:
بكيت على زيد ولم أدر ما فعل ... أحي فيرجى أم أتى دونه الأجل
فوالله ما أدري وإن كنت سائلا ... أغالك سهل الأرض أم غالك الجبل
فيا ليت شعري هل لك الدهر رجعة ... فحسبي من الدنيا رجوعك لي بجل (3)
تذكرنيه الشمس عند طلوعها ... وتعرض ذكراه إذا قارب الطفل
وإن تعبت الأرواح هيجن ذكره ... فيا طول ما حزني عليه ويا وجل
سأعمل نص العيس في الأرض جاهدا ... ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل
حياتي أو تأتي على منيتي ... وكل امرئ فان وإن غره الأمل
وأوصى به قيسا وعمرا كليهما ... وأوصى يزيدا ثم من بعدهم جبل
يعني جبلة بن حارثة أخا زيد، وكان أكبر من زيد، ويعني يزيد أخا زيد لأمه، وهو يزيد بن كعب بن شراحيل (4) .
ثم إن ناسا من بني كلب حجوا، فرأوا زيدا فعرفهم وعرفوه، فقال: " بلغوا أهلي هذه الأبيات، فإني أعلم أنهم جزعوا علي " وقال:
أحن إلى قومي وإن كنت نائيا ... بأني قطين البيت عند المشاعر
__________
(1) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 202) .
(2) أنساب الأشراف (1 \ 467) .
(3) بجل: حسب.
(4) طبقات ابن سعد (3 \ 41) وأنساب الأشراف (1 \ 467 - 468) وتهذيب ابن عساكر (5 \ 456) .(15/207)
فكفوا من الوجد الذي قد شجاكم ... ولا تعملوا في الأرض نص الأباعر
فإني بحمد الله في خير أسرة ... كرام معد كابرا بعد كابر (1)
وانطلق الكلبيون إلى ديارهم، وأعلموا أباه بمكانه، ووصفوا له موضعه وعند من هو، فخرج حارثة وكعب ابنا شراحيل بفدائه، وقدما مكة، «فسألا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقيل: هو في المسجد. فدخلا عليه، فقال: " يا ابن عبد الله يا ابن عبد المطلب يا ابن هاشم يا ابن سيد قومه، أنتم أهل الحرم وجيرانه وعند بيته، تفكون العاني، وتطعمون الأسير، جئناك في ابننا عندك، فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه، فإنا سنرفع لك في الفداء". قال: " من هو؟ "، قالوا: " زيد بن حارثة "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فهل لغير ذلك؟ " قالوا: " ما هو؟ " فقال: " دعوه فخيروه، فإن اختاركم فهو لكما بغير فداء، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحدا ". قالا: "زدتنا في النصف وأحسنت". ودعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " هل تعرف هؤلاء؟ " قال: "نعم"، قال: " من هما؟ " قال: "هذا أبي - وهذا عمي". قال: " فأنا من قد علمت ورأيت صحبتي لك - فاخترني أو اخترهما "، فقال زيد: "ما أنا بالذي أختار عليك أحدا، أنت مني بمكان الأب والأم "، فقالا: "ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟ ! "، قال: "نعم! إني قد رأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذي أختار عليه أحدا أبدا". فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك أخرجه إلى (الحجر) (2) فقال: " يا من حضر! اشهدوا أن زيدا ابني، أرثه ويرثني» . فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت أنفسهما وانصرفا، فدعي: زيد بن محمد، حتى جاء الله بالإسلام.
ويبدو من سياق هذا الحديث، أنه جرى قبل مبعثه عليه الصلاة والسلام،
__________
(1) أسد الغابة (2 \ 225) والاستيعاب (2 \ 544) وطبقات ابن سعد (3 \ 41) .
(2) حجر الكعبة، انظر التفاصيل في معجم البلدان (3 \ 220 - 221) .(15/208)
وكان قدوم حارثة وأخيه مكة لفداء زيد قبل الإسلام أيضا.
ومما يلفت النظر، أن زيدا قال لأبيه وعمه: "إني قد رأيت من هذا الرجل شيئا، ما أنا بالذي أختار عليه أحدا أبدا"، فما الذي رآه زيد في النبي - صلى الله عليه وسلم - حسن الخلق، وحسن المعاملة، ذلك صحيح، ولكنه لا يكفي لاختياره؛ لأنه اختيار صعب جدا، لا يكون إلا من أجل العقيدة وحدها، فهي وحدها تدفع المرء المؤمن إلى التضحية بغير حدود.
وأرجح أن قدوم حارثة وأخيه لفداء زيد، كان بعد الإسلام، وأن زيدا كان قد أعلن إسلامه وارتبط ارتباطا مصيريا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الذي رآه زيد من هذا الرجل: النبوة ".
ولعل الدليل على ذلك، ما جاء في مصدر واحد: " أن حارثة والد زيد أسلم حين جاء في طلب زيد، ثم ذهب إلى قومه مسلما " (1) . فإسلام زيد هو الذي جعله يختار النبي - صلى الله عليه وسلم - على أبيه وأهله، وإسلام أبيه حارثة، هو الذي جعله تطيب نفسه فينصرف راضيا.
__________
(1) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 203) .(15/209)
إسلام زيد:
كان الزهري يقول: " أول من أسلم زيد بن حارثة " (1) ، وكان يقول: " أول من أسلم من النساء خديجة، ومن الرجال زيد بن حارثة " (2) وقال غير الزهري: إن أول من أسلم زيد بن حارثة (3) .
وكان زيد وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، يلزمان النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان - صلى الله عليه وسلم - يخرج إلى الكعبة أول النهار ويصلي صلاة الضحى، وكانت قريش لا تنكرها، وكان إذا صلى غيرها قعد علي وزيد بن حارثة يرصدانه (4) .
__________
(1) أنساب الأشراف (1 \ 470) .
(2) أنساب الأشراف (1 \ 471) .
(3) ابن الأثير (2 \ 59) .
(4) أنساب الأشراف (1 \ 113) وابن الأثير (2 \ 59) .(15/209)
وقيل: إنه أسلم بعد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فكان أول ذكر أسلم وصلى بعد علي بن أبي طالب (1) .
وقيل: أول من أسلم خديجة، وأسلم علي بن أبي طالب بعد خديجة، ثم أسلم بعده زيد، ثم أبو بكر (2) - رضي الله عنهم - جميعا.
وقيل: أول من أسلم خديجة، ثم آمن من الصبيان علي، ثم آمن من الرجال أبو بكر الصديق، ثم زيد بن حارثة (3) .
ولا أرى تناقضا في تلك الآراء، فأول من أسلم من النساء خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها، وأول من أسلم من الرجال أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وأول من أسلم من الصبيان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأول من أسلم من الموالي زيد بن حارثة رضي الله عنهم، فهؤلاء هم الأوائل في الإسلام. وكان هؤلاء النفر هم الذين سبقوا إلى الإسلام، ثم تتابع الناس في الإسلام حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به الناس (4) .
وفي مسألة إسلام أولئك النفر السابقين خلاف مشهور، ولكن تقديم زيد على الجميع ضعيف (5) . ولا مسوغ للخلاف، فكلهم أوائل في الإسلام، كل فرد منهم الأول على أمثاله من الناس، فإذا لم يكن زيد أول من أسلم، فقد كان بالإجماع من أوائل من أسلم.
__________
(1) سيرة ابن هشام (1 \ 265) وتهذيب ابن عساكر (5 \ 458) .
(2) أسد الغابة (2 \ 226) .
(3) جوامع السيرة (45) .
(4) ابن الأثير (2 \ 59) .
(5) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 202) .(15/210)
في الطائف:
توفي أبو طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وخديجة أم المؤمنين قبل الهجرة بثلاث سنين، وبعد خروجهم من الشعب (1) - شعب أبي طالب، فتوفي أبو طالب
__________
(1) الشعب: انفراج بين الجبلين. (ج) : شعاب.(15/210)
في شوال أو في ذي القعدة وعمره بضع وثمانون سنة، وكانت خديجة ماتت قبله بخمسة وثلاثين يوما، وقيل: كان بينهما خمسة وخمسون يوما، وقيل: ثلاثة أيام.
وعظمت المصيبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بهلاكهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب» ، وذلك أن قريشا وصلوا من أذاه بعد موت أبي طالب إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياته، حتى ينثر بعضهم التراب على رأسه، وحتى إن بعضهم يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج ذلك على العود ويقول: «أي جوار هذا يا بني عبد مناف» ! "، ثم يلقيه بالطريق.
فلما اشتد عليه الأمر بعد وفاة أبي طالب، «خرج ومعه زيد بن حارثة إلى ثقيف يلتمس منهم النصر. فلما انتهى في مدينة الطائف، عمد إلى ثلاثة نفر منهم، وهم يومئذ سادة ثقيف، وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل، ومسعود، وحبيب، بنو عمرو بن عمير، فدعاهم إلى الله، وكلمهم في نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه، ولكنهم ردوه ردا غير كريم.
وقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد يئس من خير ثقيف، وقال لهم: "إن أبيتم فاكتموا علي ذلك» ، وكره أن يبلغ قومه خبر إخفاقه، فلم يفعلوا. وأغروا به سفهاءهم، فاجتمعوا إليه وألجؤوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، وهو البستان، وهما فيه. ورجع السفهاء عنه، فجلس إلى ظل نخلة وقال: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس! اللهم يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلي بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع. إني أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك أو تحل بي سخطك (1) » .
وعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - أدراجه إلى مكة، وعاد معه زيد الذي كان يلازمه ملازمة
__________
(1) ابن الأثير (2 \ 91 - 92)(15/211)
الظل، ولا يفارقه طرفة عين، بعد أن شهد رحلة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف، ورأى بعينيه ما لاقاه من صدود وأذى من أجل الدعوة إلى الإسلام وفي - سبيل الله.(15/212)
الهجرة:
لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة إلى المدينة المنورة، هاجر زيد إليها، فنزل على سعد بن خيثمة (1) .
وقيل: نزل حمزة بن عبد المطلب، وحليفه أبو مرثد كناز بن حصين الغنوي، وزيد بن حارثة الكلبي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على كلثوم بن الهدم، أخي بني عمرو بن عوف بقباء، ويقال: على سعد بن خيثمة (2) .
ومهما يكن الاختلاف في اسم الأنصاري الذي نزل عليه في المدينة أو في ضواحيها، فقد وجد له مستقرا يأوي إليه؛ ليستأنف جهاده في خدمة الإسلام.
وفي المدينة، آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين أسيد بن حضير (3) ، وقيل: آخى بينه وبين جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنهما - (4) ، وقيل: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخى بين زيد وحمزة وآخى بين زيد وأسيد بن حضير (5) ، وقيل: آخى بين زيد وحمزة (6) .
ويبدو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - آخى بين زيد وحمزة قبل الهجرة (7) ، وإليه أوصى حمزة يوم أحد حين حضره القتال، إن حدث به حادث الموت (8) ، أما مؤاخاة المدينة التي كانت بعد الهجرة إليها فقد آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين زيد وأسيد بن حضير.
__________
(1) طبقات ابن سعد (3 \ 44) .
(2) جوامع السيرة (89) ، وانظر طبقات ابن سعد (3 \ 44) .
(3) المحبر (71) .
(4) تهذيب الأسماء واللغات. (202) .
(5) طبقات ابن سعد (3 \ 44) .
(6) الإصابة (3 \ 26) وتهذيب ابن عساكر (5 \ 457) وأسد الغابة (2 \ 226) .
(7) الدرر في اختصار المغازي والسير (100) .
(8) سيرة ابن هشام (2 \ 124) وتهذيب الأسماء واللغات (1 \ 168) والإصابة (1 \ 37) .(15/212)
أما المؤاخاة بين زيد وبين جعفر بن أبي طالب، فقد كان جعفر مهاجرا إلى الحبشة، وعاد منها هو وصحبه من المهاجرين ومن دخل في الإسلام هناك، وقدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خيبر (1) ، وكانت غزوة خيبر في شهر محرم من السنة السابعة الهجرية، فمن المشكوك فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - آخى بين زيد وبين جعفر في تلك السنة المتأخرة من الهجرة، بينما جرت المؤاخاة بعد الهجرة مبكرا.
وهكذا أصبح لزيد في موطنه الجديد، قاعدة المسلمين الأمينة: المدينة، مستقرا يأوي إليه، وأخ يشد عضده، ومجتمع يتعاون معه في السراء والضراء.
__________
(1) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 148) .(15/213)
في غزوة بدر الكبرى:
خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة باتجاه موقع (بدر) يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان على رأس تسعة عشر شهرا من مهاجره (1) ، أي في السنة الثانية الهجرية.
وكان مع المسلمين سبعون بعيرا، فكانوا يتعاقبون عليها: البعير بين الرجلين والثلاثة والأربعة، وكان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلي بن أبي طالب وزيد بن حارثة بعير (2) ، وفي رواية أخرى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلي بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد يعتقبون بعيرا، وكان حمزة وزيد وأبو كبشة وأنسة موالي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتقبون بعيرا (3) ، والرواية الثانية هي المعتمدة لإجماع أكثر المؤرخين عليها.
وكان من الرماة المذكورين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بدر
__________
(1) طبقات ابن سعد (2 \ 12) .
(2) أنساب الأشراف (1 \ 289) .
(3) جوامع السيرة (108) .(15/213)
الكبرى (1) ، وكان لهؤلاء الرماة الأثر العظيم في إحراز المسلمين النصر في هذه الغزوة الحاسمة على المشركين.
وقد قتل من المشركين يوم بدر حنظلة بن أبي سفيان بن صخر بن حرب بن أمية، وكان من مشاهير مشركي قريش (2) .
وكان زيد البشير الذي أوفده النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بفتح بدر (3) ، فقد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة إلى أهل (السافلة) من المدينة وبعث عبد الله بن رواحة إلى أهل (العالية) بشيرين بنصر المسلمين على المشركين في بدر، قال أسامة بن زيد: " فأتانا الخبر حين سوينا التراب (4) . على رقية ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي كانت عند عثمان بن عفان رضي الله عنه، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد خلفني عليها مع عثمان - أن زيد بن حارثة قدم، فجئته وهو واقف بالمصلى وقد غشيه الناس وهو يقول: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وزمعة بن الأسود، وأبو البختري العاص بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج! قلت: يا أبت! أحق هذا؟ ! قال نعم والله يا بني! " (5) .
وكان رجل من المنافقين قد قال لأسامة بن زيد: " قتل صاحبكم ومن معه". وقال آخر منهم لأبي لبابة: "قد تفرق أصحابكم تفرقا لا يجتمعون بعده، وقتل محمد وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ما يقول من الرعب"، قال أسامة بن زيد: "فأتيت أبي، فكذب قول المنافقين " (6) .
وهكذا استطاع زيد أن يبدد مخاوف أهل المدينة، ويكذب إشاعات المنافقين المغرضة، ويعيد الهدوء والاطمئنان إلى المدينة.
__________
(1) أنساب الأشراف (1 \ 323) وانظر تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 202) وطبقات ابن سعد (3 \ 45) .
(2) جوامع السيرة (147) .
(3) المحبر (287) وتهذيب الأسماء واللغات (1 \ 202) وأسد الغابة (ط \ 226) .
(4) يريد: دفنوها وسووا التراب على قبرها.
(5) سيرة ابن هشام (2 \ 284 - 285) .
(6) أنساب الأشراف (1 \ 294) انظر المغازي (1 \ 114) .(15/214)
لقد كان دور زيد في غزوة بدر الحاسمة دورا بارزا حقا.(15/215)
قائد سرية القردة:
هي أول سرية خرج فيها زيد أميرا، وخرج لهلال جمادى الآخرة على رأس سبعة وعشرين شهرا من مهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي في السنة الثالثة الهجرية (1) .
وكانت قريش قد حذرت طريق الشام أن يسلكوها، وخافوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وكانوا قوما تجارا، فقال صفوان بن أمية: "إن محمدا وأصحابه، قد عوروا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه، لا يبرحون الساحل، وأهل الساحل قد وادعهم ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسلك، وإن أقمنا نأكل رؤوس أموالنا ونحن في دارنا هذه، مالنا بها نفاق (2) ، إنما نزلناها على التجارة: إلى الشام في الصيف، وفي الشتاء إلى أرض الحبشة "، فقال له الأسود بن المطلب: "فنكب (3) عن الساحل، وخذ طريق العراق ".
ولم يكن صفوان عالما بطريق العراق، فاستأجر دليلا يدعى: فرات بن حيان العجلي الذي قال لصفوان: "أنا أسلك بك طريق العراق. ليس يطأها أحد من أصحاب محمد، إنما هي أرض نجد وفياف "، فقال صفوان: "فهذه حاجتي، أما الفيافي فنحن شاتون، وحاجتنا إلى الماء اليوم قليل".
وتجهز صفوان، وأرسل معه أبو زمعة بثلاثمائة مثقال ذهب ونقر (4) فضة، وبعث معه رجال من قريش ببضائع، وخرج معه عبد الله بن أبي ربيعة
__________
(1) مغازي الواقدي (1 \ 197) ، أما في طبقات ابن سعد (2 \ 36) ، فجاء: على رأس ثمانية وعشرين شهرا.
(2) مغازي الواقدي (1 \ 197) ، وفي بعض النسخ: ''ما لنا بها بقاء''. والنفاق: جمع النفقة.
(3) نكب عنه: عدل وتنحى.
(4) النقر: القطعة المذابة من الذهب والفضة.(15/215)
وحويطب بن عبد العزى في رجال من قريش، وخرج صفوان بمال كثير: نقر فضة، وآنية فضة وزن ثلاثين ألف درهم، وخرجوا على (ذات عرق) (1) .
وقدم المدينة نعيم بن مسعود الأشجعي، وهو على دين قومه، فنزل على كنانة بن أبي الحقيق في بني النضير من يهود، فشرب معه، وشرب معه سليط بن النعمان بن أسلم - ولم تحرم الخمر يومئذ - وهو يأتي بني النضير ويصيب من شرابهم، فذكر نعيم خروج صفوان في عيره وما معهم من الأموال، فخرج من ساعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في مائة راكب، فاعترضوا عير قريش وأصابوها، وأفلت أعيان قريش وأسروا رجلا أو رجلين.
وقدم زيد بالعير على النبي صلى الله عليه وسلم فخمسها، فكان الخمس يومئذ قيمة عشرين ألف درهم، وقسم ما بقي على أهل السرية.
وكان في الأسر، فرات بن حيان، فأتى به، فأسلم (2) .
وهكذا صعد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الغزوة الحصار الاقتصادي على قريش، فهدد طريق تجارتهم إلى العراق أيضا، بعد أن هدد طريق مكة - الشام، وطريق مكة - الطائف في غزواته وسراياه السابقة.
__________
(1) ذات عرق: مهل أهل العراق للحج، وهو الحد بين نجد وتهامة
(2) مغازي الواقدي (1 \ 197- 198) وطبقات ابن سعد (2 \ 36) وانظر سيرة ابن هشام (2 \ 429- 430)(15/216)
سرية زيد إلى سليم بالجموم (1) :
بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني سليم بالجموم في شهر ربيع الآخر من سنة ست الهجرية زيدا، فسار على رأس سريته التي لا نعرف تعداد رجالها حتى ورد الجموم ناحية (بطن نخل) (2) عن يسارها، وبطن نخل من المدينة على أربعة برد، فأصابوا عليه امرأة من مزينة يقال لها حليمة، فدلتهم على محلة من محال بني سليم، فأصابوا في تلك المحلة نعما وشاء وأسرى، فكان فيهم زوج حليمة
__________
(1) الجموم: أرض لبني سليم، انظر معجم البلدان (3 \ 140)
(2) بطن نخل: جمع نخلة، قرية قريبة من المدينة، على طريق البصرة، انظر معجم البلدان (2 \ 221)(15/216)
المزنية. فلما قفل زيد بما أصاب، وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمزنية نفسها وزوجها، فقال بلال بن الحارث في ذلك شعرا:
لعمرك! ما أخنى المسول ولا ونت ... حليمة حتى راح ركبهما معا (1)
وكان الهدف من هذه السرية تأمين المدينة القاعدة الأمينة للإسلام، وفرض سيطرة المسلمين على القبائل التي حولها، وتشديد وطأة الحصار الاقتصادي على قريش وحلفائها.
__________
(1) طبقات ابن سعد (2 \ 86) .(15/217)
قائد سرية العيص:
بعث النبي صلى الله عليه وسلم زيدا إلى العيص، وبينها وبين المدينة أربع ليال، وبينها وبين ذي المروة ليلة، في جمادى الأولى سنة ست الهجرية. فقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عيرا لقريش قد أقبلت من الشام، فبعث زيد بن حارثة في سبعين ومائة راكب يتعرض لها، فأخذوها وما فيها، وأخذوا يومئذ فضة كثيرة لصفوان بن أمية، وأسروا ناسا ممن كان في العير، منهم أبو العاص بن الربيع.
وقدم زيد بهم المدينة «فاستجار أبو العاص بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجارته، ونادت زينب في الناس حين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر: إني قد أجرت أبا العاص! ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وما علمت بشيء من هذا، وقد أجرنا من أجرت» ، ورد عليه ما أخذ منه (1) .
وهكذا شدد النبي صلى الله عليه وسلم الخناق في حصاره الاقتصادي على قريش التي تعيش على التجارة، وتموت بدونها.
__________
(1) طبقات ابن سعد (2 \ 87) وانظر مغازي الواقدي (3 \ 553- 555)(15/217)
قائد سرية الطرف:
بعث النبي صلى الله عليه وسلم زيدا على سرية إلى الطرف في جمادى الآخرة من سنة(15/217)
ست الهجرية، والطرف ماء قريب من المراض دون النخيل على ستة وثلاثين ميلا من المدينة طريق البقرة على المحجة.
وخرج زيد إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلا، فأصاب نعما وشاء، وهربت الأعراب، وصبح زيد بالنعم المدينة، وهي عشرون بعيرا، ولم يلق كيدا، وغاب أربع ليال، وكان شعارهم: أمت. . . أمت. . . (1)
وكان هدف هذه السرية، تأمين المدينة القاعدة الأمينة للإسلام، وفرض سيطرة المسلمين على القبائل بالهجوم عليها، لأن الهجوم أنجع وسائل الدفاع، إذ إن الأعراب إذا لم يهاجموا من المسلمين، هاجموا المسلمين، كما هو دأبهم.
__________
(1) طبقات ابن سعد (2 \ 87) ومغازي الواقدي (2 \ 555)(15/218)
قائد سرية حسمى:
بعث النبي صلى الله عليه وسلم زيدا على سرية إلى حسمى، وهي وراء وادي القرى، في جمادى الآخرة من السنة السادسة الهجرية.
وسبب بعث هذه السرية، أن دحية برت خليفة الكلبي - وكان مسلما- أقبل من عند قيصر الروم، وقد أجاره وكساه، فلقيه الهنيد بن عارض وابنه عارض بن الهنيد في ناس من بني حذام بحسمى، فقطعوا عليه الطريق، ولما يتركوا حلله عليه إلا سمل ثوب، فسمع بذلك نفر من بني الضبيب، فنفروا إليهم، واستنقذوا لدحية متاعه.
وقدم دحية على النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بذلك، فبعث زيد بن حارثة في خمسمائة رجل، ورد معه دحية.
وكان زيد يسير الليل ويكمن النهار، ومعه دليل من بني عذرة، فأقبل بهم حتى هجم بهم مع الصبح على القوم. فأغاروا عليهم وقتلوا فيهم فأوجعوا، وقتلوا الهنيد وابنه، وأغاروا على ماشيتهم ونعمهم ونسائهم، فأخذوا من النعم ألف بعير،(15/218)
ومن الشاء خمسة آلاف شاة، ومن السبي مائة من النساء والصبيان.
«ورحل زيد بن رفاعة الجذامي في نفر من قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه الذي كتب له ولقومه ليالي قدم عليه فأسلم، وقال: "يا رسول الله! لا تحرم علينا حلالا ولا تحل لنا حراما"، فقال: " كيف أصنع بالقتلى؟ "، قال أبو يزيد بن عمرو: " أطلق لنا يا رسول الله من كان حيا، ومن قتل فهو تحت قدمي هاتين"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صدق أبو يزيد» . وبعث النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى زيد بن حارثة، يأمره أن يخلي بينهم وبين حرمهم وأموالهم، فتوجه علي، فلقي رافع بن مكيث الجهني بشير زيد بن حارثة على ناقة من إبل القوم، فردها علي على القوم، ولقي زيدا بالفحلتين، وهي بين المدينة وذي المروة، فأبلغه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد إلى الناس كل ما كان أخذ لهم (1) .
وكان الهدف من هذه السرية، تأديب بني جذام الذين اعتدوا على دحية بن خليفة الكلبي، وهم يعلمون أنه أحد المسلمين، وليس النبي صلى الله عليه وسلم بالذي يرضى باعتداء أحد على مسلم من المسلمين؛ لأن الاعتداء عليه اعتداء على المسلمين كافة.
__________
(1) طبقات ابن سعد (2 \ 88) ومغازي الواقدي (2 \ 555- 560)(15/219)
قائد سرية وادي القرى:
بعث النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة على رأس سرية إلى وادي القرى في رجب من السنة السادسة الهجرية (1) ، لتأديب بني فزارة، فأصيبت هذه السرية وتسلل زيد من بين القتلى وعاد إلى المدينة، فآلى على نفسه ألا يمس رأسه غسل جنابة حتى يغزو بني فزارة (2) .
وفي رواية، أن زيدا خرج في تجارة إلى الشام، ومعه بضائع لأصحاب
__________
(1) طبقات ابن سعد (2 \ 89)
(2) عيون الأثر (2 \ 108)(15/219)
النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان دون وادي القرى ومعه ناس من أصحابه، لقيه ناس من بني فزارة من بني بدر، فضربوه وضربوا أصحابه، حتى ظنوا أنهم قد قتلوا، وأخذوا ما كان معه، ثم استبل (1) زيد، فعاد إلى المدينة (2) ، وهذه الرواية أقرب إلى المنطق والعقل وسير الحوادث.
ويبدو أن المسلمين لم يكتفوا بقطح الطريق التجارية: مكة - الشام على تجارة قريش، بل أرادوا استغلال هذه الطريق لتجارتهم بهدف تحسين أوضاعهم الاقتصادية، ولكنهم أخفقوا في ذلك، إذ تبين لهم أن الوقت لا يزال مبكرا لاستغلال هذه الطريق.
__________
(1) استبل: أي برأ
(2) مغازي الواقدي (4 \ 564) وطبقات ابن سعد (2 \ 90)(15/220)
قائد سرية أم قرفة بوادي القرى:
بعث النبي صلى الله عليه وسلم زيدا على رأس سرية إلى أم قرفة بوادي القرى على سبع ليال من المدينة، في شهر رمضان من السنة السادسة الهجرية، وهي من فزارة من بني بدر.
وخرج المسلمون من المدينة، يكمنون النهار ويسيرون الليل، وخرج بهم دليل لهم. ونذرت بهم بنو بدر من فزارة، فكانوا يجعلون ناطورا (1) لهم حين يصبحون، فينظر على جبل لهم مشرف وجه الطريق الذي يرون أنهم يأتون منه، فينظر قدر مسيرة يوم، فيقول: ارحلوا فلا بأس عليكم هذه ليلتكم! .
فلما كان زيد وأصحابه على مسيرة ليلة، أخطأ بهم دليلهم الطريق، فأخذ بهم طريقا أخرى حتى أمسوا وهم على خطأ. وعرفوا خطأهم، ثم صمدوا (2) لهم في الليل حتى صبحوهم، وكان زيد نهاهم عن المطاردة، ثم أمرهم ألا يتفرقوا، وقال: "إذا كبرت فكبروا"، ثم أحاط بفزارة في بيوتهم، كبر وكبروا، فخرج مسلمة بن الأكوع، فطلب رجلا منهم حتى قتله، وأخذ جارية بنت مالك بن حذيفة بن بدر، وجدها في بيت من بيوتهم، وهي ابنة أم قرفة، واسم أم
__________
(1) الناطور: حافظ الكرم، والمعنى هنا: الراصد
(2) صمدوا لهم: أي تثبتوا لهم وقصدوهم وانتظروا غفلتهم، انظر النهاية (2 \ 374)(15/220)
قرفة: فاطمة بنت ربيعة بن بدر، كما أخذوا أم قرفة فقتلها قيس بن المحسر، وقتل النعمان وعبيد الله ابني مسعدة بن حكمة بن مالك بن بدر.
وكانت العرب تقول: "لو كنت أعز من أم قرفة " (1) ، لأنها كانت يغلق في بيتها خمسون سيفا كلهم لها ذو محرم (2) .
وعاد زيد إلى المدينة، فقرع باب النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج إليه مسرعا واعتنقه وقبله، فأخبره زيد بانتصاره وغنائمه.
أما جارية ابنة أم قرفة، فقد وهبها مسلمة بن الأكوع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوهبها لحزن بن أبي وهب خال النبي صلى الله عليه وسلم، فولدت له امرأة ليس له منها ولد غيرها (3) .
وهكذا أخذ زيد بثأر المسلمين الذين قتلتهم فزارة، وأعاد هيبة المسلمين إلى تلك المنطقة، ولقن فزارة درسا لا ينسونه أبدا، كما لقن غيرها من القبائل مثل هذا الدرس.
__________
(1) عيون الأثر (2 \ 108)
(2) عيون الأثر (2 \ 110)
(3) طبقات ابن سعد (2 \ 90- 91) ومغازي الواقدي (2 \ 564- 565) وانظر عيون الأثر (2 \ 107- 108)(15/221)
قائد سرية مؤتة
بعث النبي صلى الله عليه وسلم زيدا على سرية إلى مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان الهجرية، وكان سبب بعث هذه السرية أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الحارث بن عمير الأزدي أحد بني لهب إلى ملك بصرى (1) بكتاب، فلما نزل مؤتة عرض له
__________
(1) بصرى: مدينة من أعمال دمشق وهي قصبة كورة حوران، انظر التفاصيل في معجم البلدان (2 \ 208)(15/221)
شرحبيل بن عمرو الغساني فقتله، ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، رسول غيره، فاشتد ذلك عليه، وندب الناس فأسرعوا وعسكروا بالجرف (1) ، وهم ثلاثة آلاف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمير الناس زيد بن حارثة، فإن قتل فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل فعبد الله بن رواحة، فإن قتل فليرتض المسلمون بينهم رجلا فيجعلوه عليهم (2) » .
وعقد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لواء أبيض دفعه إلى زيد، وأوصاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا عليهم بالله وقاتلوهم. وخرج مشيعا لهم حتى بلغ (ثنية الوداع) (3) ، فوقف وودعهم، فلما ساروا من معسكرهم نادى المسلمون: دفع الله عنكما وردكم صالحين غانمين! فقال عبد الله بن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرع تقذف الزبدا (4)
ولما فصلوا من المدينة، سمع العدو بمسيرتهم، فجمعوا لهم، وقام فيهم شرحبيل بن عمرو، فجمع أكثر من مائة ألف، وقدم الطلائع أمامه.
ونزل المسلمون (معان) (5) من أرض الشام، وبلغ الناس أن هرقل قد نزل (مآب) (6) من أرض البلقاء في مائة ألف من بهراء ووائل وبكر ولخم وجذام.
وأقام المسلمون ليلتين لينظروا في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنخبره الخبر. . . فشجعهم عبد الله بن رواحة على المضي، فمضوا إلى مؤتة.
ووافاهم المشركون، فجاء ما لا قبل لأحد به من العدد والسلاح والكراع
__________
(1) الجرف: موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام، انظر التفاصيل في معجم البلدان (3 \ 86)
(2) صحيح البخاري المغازي (4261) .
(3) ثنية الوداع: ثنية مشرفة على المدينة، سميت لتوديع المسافرين، انظر معجم البلدان (3 \ 25)
(4) ذات فرع: أي ذات سعة
(5) معان: مدينة بطرف بادية الشام تلقاء الحجار، انظر معجم البلدان (8 \ 93)
(6) مآب: مدينة في طرف الشام من نواحي البلقاء، انظر معجم البلدان (7 \ 249)(15/222)
والديباج والحرير والذهب، فالتقى المسلمون والمشركون، وقاتل الأمراء يومئذ على أرجلهم، فأخذ اللواء زيد بن حارثة فقاتل، وقاتل المسلمون معه على صفوفهم، حتى قتل طعنا بالرماح رحمه الله. ثم أخذ اللواء جعفر بن أبي طالب، فنزل عن فرس له شقراء، فعرقبها (1) ، فكانت أول فرس عرقبت في الإسلام، وقاتل حتى قتل رضي الله عنه، ضربه رجل من الروم فقطعه بنصفين، فوجد في أحد نصفيه بضعة وثلاثون جرحا، ووجد في بدن جعفر اثنتان وسبعون ضربة بسيف وطعنة برمح، ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة، فقاتل حتى قتل رضي الله عنه.
واصطلح الناس على خالد بن الوليد، فسحب قوات المسلمين من ساحة المعركة وحمى بالساقة انسحابهم، فكانت عملية الانسحاب التي طبقها خالد من العمليات الانسحابية الفذة في تاريخ الحروب.
«ولما سمع أهل المدينة بجيش مؤتة قادمين، تلقوهم بالجرف، فجعل الناس يحثون في وجوههم التراب ويقولون: يا فرار، أفررتم في سبيل الله؟ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليسوا بفرار، ولكنهم كرار إن شاء الله (2) » .
وهكذا ضحى زيد بروحه رخيصة في سبيل الله مقبلا غير مدبر، رافعا لواء الإسلام عاليا، لم يعفره بالتراب في حياته، فلما استشهد لم يعفر بالتراب المجبول بدم الشهيد، بل رفعه فورا القائد الجديد.
__________
(1) عرقبها: قطع عرقوبها، وعرقوب الدابة في رحلها
(2) طبقات ابن سعد (2 \ 128-130) انظر مغازي الواقدي (2 \ 755-769) .(15/223)
الإنسان:
استشهد زيد في مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان الهجرية (1) (629 م) ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أكبر من زيد بعشر سنين (2) ، أي أن زيدا ولد سنة (581 م) ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل وهو سنة (571 م) ، ومعنى ذلك أن زيدا عاش ثمانيا وأربعين سنة شمسية ونحو خمسين سنة قمرية (3) .
__________
(1) تهذيب ابن عساكر (5 \ 457) .
(2) الاستيعاب (2 \ 543) وتهذيب ابن عساكر (5 \ 457) وأنساب الأشراف (1 \ 470) .
(3) أنساب الأشراف (1 \ 473)(15/223)
ولكن هناك نصوص على أنه أستشهد وله من العمر خمس وخمسون سنة (1) ، والرواية الأولى أرجح، لأنها المعتمدة عند أكثر المؤرخين المعتمدين. وكان زيد رجلا قصيرا، آدم شديد الأدمة، في أنفه فطس (2) ، وفي رواية أنه كان أبيض أحمر (3) ، والتناقض بين الروايتين واضح، والرواية الأولى هي الصحيحة، لاعتمادها من أكثر المؤرخين الثقات.
«ولما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر قتل جعفر وزيد بكى وقال: " أخواي ومؤنساي ومحدثاي» ، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهادة.
«ولما أصيب زيد، أتى النبي صلى الله عليه وسلم أهله، فجهشت زينب بنت زيد في وجهه، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتحب، فقال له سعد بن عبادة: "يا رسول الله ما هذا؟ "، قال: " هذا شوق الحبيب إلى حبيبه (4) » ولا عجب في ذلك، فقد كان زيد حب رسول الله ومولاه (5) .
وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لزيد وجعفر وابن رواحة بعد استشهادهم، فقال: «اللهم اغفر لزيد، اللهم اغفر لزيد، اللهم اغفر لزيد، اللهم اغفر لجعفر وعبد الله بن رواحة (6) » .
وقال حسان بن ثابت يرثي زيدا:
عين جودى بدمعك المنزور ... واذكري في الرخاء أهل القبور (7)
واذكري مؤتة وما كان فيها ... يوم راحوا في وقعة التغوير (8)
حين راحوا وغادروا ثم زيدا ... نعم مأوى الضريك والمأسور (9)
__________
(1) الإصابة (3 \ 26) وتهذيب ابن عساكر (5 \ 461)
(2) أنساب الأشراف (1 \ 470) وتهذيب اين عساكر (5 \ 457) وطبقات ابن سعد (3 \ 44)
(3) أسد الغابة (2 \ 227)
(4) أنساب الأشراف (1 \ 453)
(5) تهذيب ابن عساكر (5 \ 454)
(6) طبقات ابن سعد (3 \ 46)
(7) المنزور: القليل، وذلك لأنه بكى حتى فرغ دمعه
(8) التغوير: الإسراع، يريد الانهزام
(9) الضريك: الفقير(15/224)
حب خير الأنام طرا جميعا ... سيد الناس حبه في الصدور
ذاكم أحمد الذي لا سواه ... ذاك حزني له معا وسروري
إن زيدا قد كان منا بأمر ... ليس أمر المكذب المغرور
ثم جودي للخزرجي بدمع سيدا ... كان ثم غير نزور (1)
قد أتانا من قتلهم ما كفانا ... فبحزن نبيت غير سرور (2)
وقد كان لزيد صلة مباشرة متينة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد آثره زيد على أهله، كما ذكرنا في قصة محاولة فدائه، فتبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في زيد: "ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزلت: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} (3) . فدعي زيد بن حارثة (4) ، ودعي الأدعياء إلى آبائهم، فدعي المقداد بن عمرو، وكان يقال له قبل ذلك: المقداد بن الأسود؛ لأن الأسود بن عبد يغوث كان قد تبناه (5) .
وكان زيد يسمى: زيد الحب، لأنه حب رسول الله صلى الله عليه وسلم (6) . وأبو حبه (7) أسامة بن زيد الذي فرض له عمر في العطاء أكثر مما فرض لابنه عبد الله بن عمر، وعلل ذلك عمر لابنه: "إنه كان أحب إلى رسول الله منك، وإن أباه كان أحب إلى رسول الله من أبيك " £ مجلة البحوث الإسلامية body {font-family: verdana, arial, helvetica, sans-serif; font-size: 14px;} h1 {font-size:18px} a:link {color:#33c} a:visited {color:#339} /* This is where you can customize the appearance of the tooltip */ div#tipDiv {position:absolute; visibility:hidden; left:0; top:0; z-index:10000; background-color:AntiqueWhite; border:1px solid #336; padding:4px; color:#000; font-size:11px; line-height:1.2;} /* These are optional. They demonstrate how you can individually format tooltip content */ div.tp1 {font-size:12px; color:#336; font-style:italic} div.tp2 {font-weight:bolder; color:#337; padding-top:4px}
مجلة البحوث الإسلامية
تصفح برقم المجلد > العدد الخامس عشر - الإصدار: من ربيع الأول إلى جمادى الثانية لسنة 1406هـ > بحوث تاريخية > زيد بن حارثة الكلبي القائد الشهيد > الإنسان
الإنسان:
استشهد زيد في مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان الهجرية (8) (629 م) ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أكبر من زيد بعشر سنين (9) ، أي أن زيدا ولد سنة (581 م) ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل وهو سنة (571 م) ، ومعنى ذلك أن زيدا عاش ثمانيا وأربعين سنة شمسية ونحو خمسين سنة قمرية (10) .
__________
(1) أراد بالخزرجي: عبد الله بن رواحة، والنزور: القليل العطاء.
(2) سيرة ابن هشام (3 \ 446) وتهذيب ابن عساكر (5 \ 462) .
(3) سورة الأحزاب الآية 5
(4) طبقات ابن سعد (3 \ 43) وأسد الغابة (2 \ 226) والإصابة (3 \ 25) .
(5) الاستيعاب (2 \ 545) .
(6) أنساب الأشراف (1 \ 469) .
(7) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 202) .
(8) تهذيب ابن عساكر (5 \ 457) .
(9) الاستيعاب (2 \ 543) وتهذيب ابن عساكر (5 \ 457) وأنساب الأشراف (1 \ 470) .
(10) أنساب الأشراف (1 \ 473)(15/225)
ولكن هناك نصوص على أنه أستشهد وله من العمر خمس وخمسون سنة (1) ، والرواية الأولى أرجح، لأنها المعتمدة عند أكثر المؤرخين المعتمدين. وكان زيد رجلا قصيرا، آدم شديد الأدمة، في أنفه فطس (2) ، وفي رواية أنه كان أبيض أحمر (3) ، والتناقض بين الروايتين واضح، والرواية الأولى هي الصحيحة، لاعتمادها من أكثر المؤرخين الثقات.
«ولما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر قتل جعفر وزيد بكى وقال: " أخواي ومؤنساي ومحدثاي» ، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهادة.
«ولما أصيب زيد، أتى النبي صلى الله عليه وسلم أهله، فجهشت زينب بنت زيد في وجهه، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتحب، فقال له سعد بن عبادة: "يا رسول الله ما هذا؟ "، قال: " هذا شوق الحبيب إلى حبيبه (4) » ولا عجب في ذلك، فقد كان زيد حب رسول الله ومولاه (5) .
وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لزيد وجعفر وابن رواحة بعد استشهادهم، فقال: «اللهم اغفر لزيد، اللهم اغفر لزيد، اللهم اغفر لزيد، اللهم اغفر لجعفر وعبد الله بن رواحة (6) » .
وقال حسان بن ثابت يرثي زيدا:
عين جودى بدمعك المنزور ... واذكري في الرخاء أهل القبور (7)
واذكري مؤتة وما كان فيها ... يوم راحوا في وقعة التغوير (8)
حين راحوا وغادروا ثم زيدا ... نعم مأوى الضريك والمأسور (9)
__________
(1) الإصابة (3 \ 26) وتهذيب ابن عساكر (5 \ 461)
(2) أنساب الأشراف (1 \ 470) وتهذيب اين عساكر (5 \ 457) وطبقات ابن سعد (3 \ 44)
(3) أسد الغابة (2 \ 227)
(4) أنساب الأشراف (1 \ 453)
(5) تهذيب ابن عساكر (5 \ 454)
(6) طبقات ابن سعد (3 \ 46)
(7) المنزور: القليل، وذلك لأنه بكى حتى فرغ دمعه
(8) التغوير: الإسراع، يريد الانهزام
(9) الضريك: الفقير(15/224)
حب خير الأنام طرا جميعا ... سيد الناس حبه في الصدور
ذاكم أحمد الذي لا سواه ... ذاك حزني له معا وسروري
إن زيدا قد كان منا بأمر ... ليس أمر المكذب المغرور
ثم جودي للخزرجي بدمع سيدا ... كان ثم غير نزور (1)
قد أتانا من قتلهم ما كفانا ... فبحزن نبيت غير سرور (2)
وقد كان لزيد صلة مباشرة متينة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد آثره زيد على أهله، كما ذكرنا في قصة محاولة فدائه، فتبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في زيد: "ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزلت: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} (3) . فدعي زيد بن حارثة (4) ، ودعي الأدعياء إلى آبائهم، فدعي المقداد بن عمرو، وكان يقال له قبل ذلك: المقداد بن الأسود؛ لأن الأسود بن عبد يغوث كان قد تبناه (5) .
وكان زيد يسمى: زيد الحب، لأنه حب رسول الله صلى الله عليه وسلم (6) . وأبو حبه (7) أسامة بن زيد الذي فرض له عمر في العطاء أكثر مما فرض لابنه عبد الله بن عمر، وعلل ذلك عمر لابنه: "إنه كان أحب إلى رسول الله منك، وإن أباه كان أحب إلى رسول الله من أبيك " (8) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا زيد! أنت مولاي ومني وإلي، وأحب القوم إلي (9) » ، وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا (10) » ، وقال: «أنت مولاي، ومني، وأحب القوم إلي (11) »
__________
(1) أراد بالخزرجي: عبد الله بن رواحة، والنزور: القليل العطاء.
(2) سيرة ابن هشام (3 \ 446) وتهذيب ابن عساكر (5 \ 462) .
(3) سورة الأحزاب الآية 5
(4) طبقات ابن سعد (3 \ 43) وأسد الغابة (2 \ 226) والإصابة (3 \ 25) .
(5) الاستيعاب (2 \ 545) .
(6) أنساب الأشراف (1 \ 469) .
(7) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 202) .
(8) تهذيب ابن عساكر (5 \ 461) .
(9) طبقات ابن سعد (3 \ 44) .
(10) صحيح البخاري الصلح (2700) .
(11) أنساب الأشراف (1 \ 470) .(15/225)
وكانت عائشة أم المؤمنين تقول: «ما بعث رسول صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في جيش قط إلا أمره عليهم، ولو بقي بعده استخلفه (1) » «وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يغز لم يعط سلاحه إلا لعلي أو لزيد (2) » .
ذلك مبلغ حب النبي صلى الله عليه وسلم لزيد وتقديره له، ولن يكون هذا الحب وهذا التقدير إلا لشخصية لها سجاياها المتميزة وإخلاصها النادر وإيمانها العميق.
وزوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنة عمته زينب بنت جحش زيدا، وهي التي تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد زيد (3) ، فتكلم المنافقون والمشركون وقالوا: " محمد يحرم نساء الولد، وقد تزوج امرأة ابنه "، فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (4) ، ونزلت: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (5) ، فدعي يومئذ زيد بن حارثة، ونسب كل من تبناه رجل من قريش إلى أبيه (6) .
وكانت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تقول: "لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} (7) ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها، يعني زينب بنت جحش - قالوا: "إنه تزوج خليلة ابنه" (8) ، فإن العرب إذا
__________
(1) طبقات ابن سعد (3 \ 46)
(2) تهذيب ابن عساكر (5 \ 459)
(3) أسد الغابة (2 \ 226) .
(4) سورة الأحزاب الآية 40
(5) سورة الأحزاب الآية 5
(6) أنساب الأشراف (1 \ 469) .
(7) سورة الأحزاب الآية 37
(8) أسد الغابة (2 \ 226)(15/226)
تبنت غلاما أنزلته منزلة الولد حتى في الإرث وتحريم نكاح زوجته، وكان من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وطريقته، إذا نسخ الله شيئا من أمر الجاهلية أن يسرع صلى الله عليه وسلم إلى الفعل، ليقتدى به، فلما زوج زينب بنت جحش من زيد وأذن الله بنسخ عادة الجاهلية، أمر الله أن يطلقها زيد ويتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبطل عادة الجاهلية بالفعل، للعلة التي ذكرها الله في كتابه العزيز: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} (1) (2) .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أحب الناس إلي من أنعم الله عليه وأنعمت عليه (3) » - يعني زيد بن حارثة - أنعم الله عليه بالإسلام، وأنعم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعتق (4) .
ومن الواضح، أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج زيدا زينب بنت جحش، وهي ابنة عمته، ليبطل عادة الجاهلية في الترفع على الموالي وعدم تزويجهم الحرائر وبنات الأشراف، وكان زواجها بزيد شديدا على نفسها، قالت زينب رضي الله عنها: «خطبني عدة من قريش، فأرسلت أختي حمنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستشيره، فقال: أين هي ممن يعلمها كتاب الله وسنة نبيها؟ قالت: ومن هو يا رسول الله؟ قال: زيد. فغضبت حمنة غضبا شديدا وقالت: يا رسول الله أتزوج ابنة عمك مولاك؟! فجاءت فأخبرت زينب، فغضبت أشد الغضب من غضب أختها وقالت أشد من قولها، فأنزل الله تعالى:، فأرسلت زينب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: زوجني من شئت، فزوجني من زيد (6) » .
لقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم تقاليد الترفع عن تزويج الموالي بالحرائر من بنات الأشراف، وتقاليد تحريم الزواج بامرأة الابن بالتبني، وأعتقد أنه لو لم يطبق إبطال
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 37
(2) تهذيب ابن عساكر (5 \ 458- 459) .
(3) سنن الترمذي المناقب (3819) .
(4) الاستيعاب (2 \ 546)
(5) تهذيب ابن عساكر (5 \ 458)
(6) سورة الأحزاب الآية 36 (5) {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(15/227)
تلك التقاليد عمليا بنفسه وعلى نفسه، لصعب تطبيقها على غيره، وهي تقاليد جاهلية بالية أبطلها الإسلام، فجعل التفاضل بالتقوى، لا بالأحساب وبالتمسك بالأنساب.
ولست أنسى حديثا سمعته في المدينة المنورة من شيخ معروف من الشيوخ المسلمين، يستنكر فيه إقدام شخصيات من عوائل عريقة في المدينة على تزويج قسم من بناتهم الشريفات برجال قدمهم علمهم ومناصبهم الحكومية وأخرهم نسبهم وحسبهم، وقد مضى على الإسلام خمسة عشر قرنا، وذهبت تقاليد الجاهلية إلى غير رجعة، وهذا يدل على مبلغ التضحية التي أقدم عليها النبي صلى الله عليه وسلم وعظم الشجاعة التي حققها بإقدامه على زواج زينب من مولاه، وزواجها بعد أن طلقها مولاه.
إن التضحية والشجاعة المعنويتين اللتين تحملهما الرسول الأعظم عليه أفضل الصلاة والسلام في قصة زينب بنت جحش رضي الله عنها لا تقلان عن أي تضحية وشجاعة ماديتين، إن لم تكن أعظم أثرا وأبلغ تأثيرا، فكان القدوة الحسنة والمثال الشخصي في تطبيق أصعب تشريعات الإسلام على نفسه قبل غيره، فاجتث بذلك تقاليد جاهلية بالية، ولكن لا تزال آثارها باقية بين العرب المسلمين حتى اليوم، وهناك من لا يتحمل تطبيق اجتثاثها على نفسه من العرب المسلمين غير المؤمنين حقا من الطيبين الأخيار.
ومادمنا قد تطرقنا إلى زواج زيد بالسيدة زينب، فلا بد من إكمال الحديث عن زواجه بنسائه الأخريات.
فقد زوجه النبي صلى الله عليه وسلم مولاته أم أيمن، فولدت له أسامة بن زيد (1) . حب رسول الله وابن حبه، وهي حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولاته، وكان اسم أم أيمن: بركة، كانت قد تزوجت بمكة في الجاهلية عبيد بن عمرو بن بلال بن أبي الحرباء بن قيس بن مالك بن ثعلبة بن جشم بن مالك بن سالم بن غنم بن عوف بن الخزرج، فولدت له أيمن بن عبيد، فكنيت به. واستشهد أيمن يوم
__________
(1) أسد الغابة (2 \ 226) والاستيعاب (2 \ 546) والإصابة 3 \ 25)(15/228)
حنين، ومات عبيد عن أم أيمن، فكانت فارغة لا زوج لها، فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا (1) .
وتزوج زيد أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط (2) . فقد أقبلت أم كلثوم بن عقبة بن أبي معيط، وأمها أروى بنت كريز بن ربيعة، وأم أروى هي أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب - مهاجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فخطبها الزبير بن العوام، وزيد بن حارثة، وعبد الرحمن بن عوف، وعمرو بن العاص، فاستشارت أخاها لأمها عثمان بن عفان، فأشار عليها أن تأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فأتته، فأشار عليها بزيد بن حارثة، فتزوجته، فولدت له زيدا ورقية، فهلك زيد وهو صغير، وماتت رقية في حجر عثمان. وطلق زيد أم كلثوم، فخلف عليها عبد الرحمن بن عوف، ثم الزبير، ثم عمرو بن العاص (3) . وتزوج هند بنت العوام أخت الزبير (4) ، وكان قد تزوج قبلها درة بنت أبي لهب ثم طلقها (5) .
وتسلسل زوجات زيد بحسب الأقدمية: أم أيمن مولاة النبي صلى الله عليه وسلم وحاضنته، ثم زينب بنت جحش، ولما طلق زينب زوجته أم كلثوم بنت عقبة، ثم طلق أم كلثوم وتزوج درة بنت أبي لهب بن عبد المطلب، ثم طلقها وتزوج هند بنت العوام أخت الزبير (6) ، وهكذا سعى النبي صلى الله عليه وسلم أن يزوج زيدا كرائم النساء وأقربهن نسبا به؛ لأنه حبه ومؤتمنه وموضع ثقته، ولكي يجتث تقاليد جاهلية عريقة بالية في الزواج، ولكن بعض المسلمين عادوا إلى تلك التقاليد الجاهلية البالية، فعادت إلى الحياة من جديد.
وقد استخلف النبي صلى الله عليه وسلم زيدا على المدينة المنورة مرتين: المرة الأولى في خروجه إلى غزوة (بواط) (7) . في شهر ربيع الأول سنة اثنتين
__________
(1) أنساب الأشراف (1 \ 471)
(2) المحبر (446) وجمهرة أنساب العرب (111)
(3) أنساب الأشراف (1 \ 471) وانظر المحبر (446)
(4) الإصابة 3 \ 25)
(5) أنساب الأشراف (1 \ 471)
(6) الإصابة (3 \ 26)
(7) بواط: جبل من جبال جهينة بناحية رضوى، انظر التفاصيل في معجم البلدان (2 \ 297)(15/229)
الهجرية (1) . والمرة الثانية في غزوة بني المصطلق من خزاعة في (المريسيع) (2) قرب مكة (3) التي كانت في شهر شعبان سنة خمس الهجرية (4) ، وهذا دليل على اعتماد النبي صلى الله عليه وسلم على كفاءة زيد الإدارية.
وأوفده النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة مع أبي رافع مولاه، فحملا سودة بنت زمعة، وفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وأم كلثوم ابنة النبي صلى الله عليه وسلم، «فقدم زيد وأبو رافع بزوج النبي صلى الله عليه وسلم وابنتيه المدينة والمسجد يبنى. وأوفده مع رجل من الأنصار إلى مكة لحمل زينب ابنة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقال لهما: " كونا ببطن (يأجج) حتى تمر بكما زينب، فتصحباها حتى تأتياني بها (7) » فخرجا إلى مكة بعد غزوة بدر الكبرى بشهر أو قريب منه، فاستلمها زيد وصاحبه، وقدما بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم (8) ، وهذا دليل على ثقته الغالية بأمانة زيد وحسن تصرفه ورجاحة عقله.
ولم يسم الله سبحانه وتعالى أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحاب غيره من الأنبياء إلا زيد بن حارثة، (9) ، قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} (10) .
روى أربعة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (11) ، وفي رواية أخرى أنه روى حديثين فقط (12) .
__________
(1) أنساب الأشراف (1 \ 287)
(2) المريسيع: اسم ماء من ناحية قديد، انظر التفاصيل في معجم البلدان (8 \ 41)
(3) أنساب الأشراف (1 \ 342) وتهذيب ابن عساكر (5 \ 459)
(4) أنساب الأشراف (1 \ 341)
(5) سنن أبو داود كتاب الجهاد (2692) .
(6) أنساب الأشراف (1 \ 414) (5)
(7) يأجج: اسم مكان على ثمانية أميال من مكة (6)
(8) انظر التفاصيل في سيرة ابن هشام، (2 \ 297-299) وأنساب الأشراف (1 \ 397- 398) وابن الأثير (2 \ 134)
(9) أسد الغابة (2 \ 227) وتهذيب الأسماء واللغات (1 \ 202)
(10) سورة الأحزاب الآية 37
(11) أسماء الصحابة الرواة (291)
(12) تهذيب الأسماء واللغات(15/230)
ومضى أبو أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو حبه إلى جوار ربه بعد أن عاش خمسين سنة قمرية، كان فيها منذ عقل إلى جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم المولى والأخ والحبيب، فأدى ما عليه من واجبات جسام كأحسن ما يكون الأداء، فاستحق تقدير النبي صلى الله عليه وسلم وحبه ورضاه، وتقدير المسلمين وحبهم ورضاهم في الماضي والحاضر والمستقبل، وكان لا يزال وسيبقى أسوة حسنة للمؤمنين المخلصين الصادقين.
وقد ترك زيد آثاره الباقية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، كما ترك آثاره الباقية في خدمة الدين الحنيف داعيا ومجاهدا، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم في السراء والضراء وفي الإسلام والحرب، رضي الله عنه وأرضاه.(15/231)
القائد:
بعد عودة النبي صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع، أقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم وصفر من السنة الحادية عشر الهجرية (632 م) ، فأمر بتجهيز جيش كبير فيه أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وسعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، وجعل هذا الجيش بإمرة أسامة بن زيد، فتجهز الناس، وأوعب (1) مع أسامة المهاجرون الأولون (2) ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين.
وتأخر تجهيز هذا الجيش لمرض النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر، ثم قال: «"أيها الناس! انفذوا بعث أسامة، فلعمري لئن قلتم في إمارته، لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله، وإنه لخليق للإمارة، وإن كان أبوه لخليقا لها (3) » ، وفي رواية الإمام البخاري، «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد، فطعن الناس في إمارته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن تطعنوا في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل. وايم الله، إن كان لخليقا
__________
(1) أوعبوا معه: أي خرجوا جميعهم للغزو
(2) سيرة ابن هشام (4 \ 319) وطبقات ابن سعد (2 \ 190)
(3) طبقات ابن سعد (4 \ 68)(15/231)
للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده (1) » وهذا تقويم لكفاية زيد القيادة وكفاية ابنه أسامة القيادية أيضا، يفوق كل تقويم؛ لأنه تقويم النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يعادله ولا يقاربه أي تقويم آخر.
وقد كانت عائشة أم المؤمنين أقرب المقربين للنبي صلى الله عليه وسلم وأعرفهم به تقول: «ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في جيش قط إلا أمره عليهم ولو بقي بعده لاستخلفه (3) » .
ذلك هو مبلغ تقدير النبي صلى الله عليه وسلم لكفاية زيد القيادية وثقته الكاملة به واعتماده المطلق عليه، وهو تقدير عظيم وثقة بالغة واعتماد هائل، استحقه زيد بمزاياه القيادية أولا وقبل كل شيء، فما كان النبي صلى الله عليه وسلم يولي ثقته الكاملة إلا لمن يستحقها بجدارة، وكان يبنى الإنسان المسلم بالعقيدة الراسخة، والأسوة الحسنة التي يضربها للمسلمين كافة بشخصه الكريم، وبتوليه الرجل المناسب للعمل المناسب ليقود الأمة أفضل رجالها عقيدة واقتدارا بالنسبة للواجبات والمسئوليات التي يتقلدونها.
فما الذي يستطيع القادة أن يتعلموه من سجايا زيد القيادية؟
كان من الرماة المعدودين المذكورين (4) من بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أي أنه كان السن، والاستمساك بعرى التفاضل بالأنساب والأحساب والعشائر والقبائل. . . إن التفاضل في الإسلام يخضع للتقوى وصالح الأعمال، بالإضافة إلى الكفايات المناسبة للعمل المناسب.
وقد رفعت مزايا زيد القيادية وإيمانه الراسخ العميق إلى الإمارة.
لقد كان لزيد قابلية فذة لإعطاء قرار سريع صحيح في الوقت والمكان المناسبين، وكانت كل سراياه بحاجة ماسة إلى إصدار قرارات سريعة
__________
(1) فتح الباري بشرح البخاري (7 \ 69) ، وانظر الإصابة (3 \ 26) ، وتهذيب ابن عساكر (5 \ 460) .
(2) طبقات ابن سعد (3 \ 46) ، وتهذيب ابن عساكر (5 \ 461) .
(3) رواه النسائي، انظر فتح الباري بشرح البخاري (7 \ 69) . (2)
(4) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 202) ، وتهذيب ابن عساكر (5 \ 459) ، وطبقات ابن سعد (3 \ 45) .(15/232)
وصحيحة، وحين وجد العدو في سرية مؤتة قد حشد له ما لا قبل للمسلمين به، عزم أن يتريث في قبول المعركة غير المتكافئة ويستشير النبي صلى الله عليه وسلم في الموقف الجديد، ولكن المتحمسين من المجاهدين الذين خرجوا للجهاد طلبا للشهادة وعلى رأسهم عبد الله بن رواحة، أرادوا لقاء العدو مهما تكن نتائج هذا اللقاء، فانصاع زيد لنداء العاطفة، ويبدو أن الأحداث تطورت بسرعة عظيمة فاضطرت المسلمين إلى قبول المعركة، فكان سرية مؤتة إخفاقا تعبويا ولكنها كانت نصرا سوقيا، جعلت الروم جيران المسلمين في الشمال، يلمسون عمليا بأن العرب بالإسلام أصبحوا خلقا جديدا، فأصبحت حربهم ليست حربا عابرة، بل هي حرب لها ما بعدها كأية حرب نظامية تتميز بإرادة القتال وبالنظام والتنظيم والاستمرارية.
وكان زيد ذا إرادة قوية ثابتة، استطاع أن يتغلب بسهولة ويسر على كثير من المصاعب والعقبات في سراياه، التي كان أكثرها يتسم بالمغامرة والمشاق، فنجح بفضل إرادة الله على ما صادفه من معضلات ومشاق.
وكان من أولئك القادة الذين يتحملون المسئولية ويتقبلونها قبولا حسنا، ولا يتملصون منها بإلقائها على عواتق الآخرين.
وكان ذا نفسية ثابتة لا تتبدل: لا يطربها النصر فيؤدي بها إلى مزالق الشطط، ولا يقلقها الانتصار فيحملها إلى مهاوي الانهيار، والشطط والانهيار تلحق الكوارث بالقائد ورجاله.
وما دام المرء لا يعمل لنفسه، بل يعمل للمصلحة العامة، وتكون نيته خالصة لوجه الله، فإن نفسيته تكون ثابتة لا تتغير.
وكان عارفا بنفسيات رجاله وقابلياتهم؛ لأنه نشأ بينهم وعمل معهم، وعايشهم طويلا في حالتي الحرب والسلام، إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المقربين وآل بيته الطاهرين، فكان يكلف كل فرد منهم بما يناسب نفسيته وقابليته.
وكان يثق برجاله ثقة مطلقة، ويثق به رجاله ثقة مطلقة، والثقة الأساس(15/233)
القوي للتعاون بين القائد وجنوده، ولا تعاون بدون ثقة متبادلة.
وكان يحب رجاله حب الأخ لأخيه، ويحبه رجاله حبا لا مزيد عليه، والحب المتبادل هو العامل الحيوي لإرساء أسس التعاون الوثيق الذي يقود إلى النصر.
وكان يتمتع بشخصية قوية نافذة، جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يوليه السرايا التي فيها أمثال أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، ويوليه إمرة المدينة المنورة في بعض غزواته، مما يدل على شخصيته القوية النافذة.
وكانت له قابلية بدنية فائقة، ساعدته على قطع المسافات الشاسعة بسرعة، وتحمل أعباء السفر والقتال، دون كلل ولا ملل ولا تعب ولا إنهاك.
وكان له ماض ناصع مجيد في خدمة الإسلام والمسلمين، وخدمة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان يساوي بينه وبين رجاله، لا يستأثر دونهم الخير، ويترك لهم المتاعب، بل يؤثرهم بالأمن والدعة والاطمئنان، ويستأثر دونهم بالأخطار والمصاعب والمشاق.
وكان يستشير أصحابه، وبخاصة ذوي الرأي منهم، ويأخذ بآرائهم ويضعها في حيز التطبيق العملي.
واستنادا إلى مبادئ الحرب، فقد كان زيد يختار مقصده ويديمه، ويفكر في أقوم وسيلة للوصول إليه، ثم يقرر الخطة المناسبة للحصول عليه.
وكانت سرايا زيد كلها تعرضية، تشيع فيها روح المباغتة، وكانت جميع سراياه عدا سرية مؤتة مباغتة كاملة لأعداء المسلمين، لذلك استطاع الانتصار عليهم بالرغم من قلة قواته بالنسبة إلى كثرة قواتهم، وبالرغم من وجودهم في بلادهم بينما كانت خطوط مواصلات زيد بعيدة عن المدينة قاعدة عمليات المسلمين الرئيسة.(15/234)
كما أن زيدا كان يحشد قواته قبل الإقدام على خوض المعركة، وكان يديم معنويات تلك القوات، ويمكن اعتبار سراياه في هدفها الرئيس سرايا معنويات بالدرجة الأولى كما ذكرنا من قبل.
وكان يطبق مبدأ الأمن، فلم يستطع العدو مباغتة سرايا زيد في أية معركة خاضها، وحتى سرية مؤتة لم يباغت بتفوق القوات المعادية على قوات المسلمين عددا وعددا. ولكنه اختار لنفسه الشهادة، فكان له ما أراد.
وكانت سرايا زيد تتحلى بالطاعة المطلقة، وهي مما نسميه اليوم: الضبط المتين، كما امتازت سراياه بالشجاعة والإقدام والجلد والصبر والمصابرة وتحمل المشاق، وهي الصفات المعنوية الباقية على الزمان لكل جيش متماسك في كل زمان ومكان.
وكان زيد يتحلى بنفس مزايا جيشه المعنوية، وكان مثالا شخصيا رائعا لسراياه في كل تلك المزايا والصفات.
لقد كان زيد قائدا متميزا حقا.(15/235)
زيد في التاريخ:
يذكر التاريخ لزيد، أنه أصاب سباء في الجاهلية، فطوحت به الأقدار بعيدا عن أهله ليصبح في كنف النبي صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه.
وأن أباه وعمه وإخوته أرادوا فداءه، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم على أبيه وعمه وإخوته، فارتبط مصيره بالإسلام والمسلمين.
وأنه كان أول من أسلم، أو من أول من أسلم، فكان أول من أسلم من الموالي بدون خلاف.
وأنه رافق النبي صلى الله عليه وسلم إلى مدينة الطائف لدعوة بني ثقيف إلى الإسلام، فشهد أقسى ما لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم من ثقيف في رحلته الصعبة الشاقة.
وأنه هاجر إلى المدينة المنورة، وحمل معه قسما من بنات النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته.(15/235)
وأنه شهد بدرا وأحدا والخندق وغيرها من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وأبلى فيها أعظم البلاء.
وأنه تولى قيادة تسع سرايا من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أكثر قادة النبي صلى الله عليه وسلم في قيادة سراياه.
وأنه الوحيد الذي ذكر بالاسم من بين صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحاب النبيين والمرسلين في القرآن الكريم.
وأنه كان حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا حبه أسامة بن زيد الكلبي.
وأنه توج حياته الحافلة بالجهاد المتواصل بالشهادة، فضحى بنفسه فداء لعقيدته، ولم يضح بعقيدته فداء لنفسه.
رضي الله عن الصحابي الجليل، القائد الشهيد، الإداري الحازم، حب رسول الله زيد بن حارثة الكلبي.(15/236)
ابن خلدون وريادته لعلم تفسير التأريخ
للدكتور \ عبد الحليم عويس
أستاذ مشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
من مواليد مصر 1943.
عمل بمركز بحوث المناهج بالكويت ومحاضرا بكلية الشريعة بالرياض.
له أكثر من عشرين مؤلفا وعدد من الكتب المحققة.
قام بالإشراف على تحرير بعض المجلات العلمية والصحافية وله مشاركات في كثير من المجلات العربية والإسلامية.
حضر أكثر من ثلاثين مؤتمرا إسلاميا في أنحاء العالم واختير أمينا عاما لبعضها، وشارك في الإعداد لبعضها.
زار معظم أنحاء العالم العربي والإسلامي.
من أهم كتبه: دولة بني حماد في الجزائر، وابن حزم الأندلسي مؤرخا، ودراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية. وسلسلة الملف الفقهي (في كتب) والإسلام كما ينبغي أن نؤمن به. وغيرها من البحوث والدراسات.(15/237)
حمدا لله وشكرا له. . .
وبعد،
فإن علامة المغرب الفيلسوف المؤرخ (عبد الرحمن بن خلدون) المولود بتونس سنة 732 هـ، والمتوفى بمصر سنة 808 هـ، جدير بأن يظل موضوعا متجددا في دراستنا لإسهامات حضارتنا الإسلامية في التأريخ الحضاري الإنساني.
وقد اشتهر هذا الفيلسوف المسلم (بابن خلدون) نسبة إلى جده خالد بن عثمان، وفقا للطريقة المتبعة في المغرب في إضافة واو ونون زيادة في التعظيم.
ولقد كانت نشأته مثل نشأة أترابه في عصره، ففي صباه حفظ القرآن على والده الذي كان معلمه الأول، كما درس إلى جانب والده على عدد من علماء العصر، وقد عني ابن خلدون بذكر أسماء هؤلاء العلماء، وذكر أهم الكتب التي درسها عليهم، غير أن ابن خلدون قد انقطع عن الدراسة في وقت مبكر بسبب هجرة العلماء والأدباء من تونس بعد وباء جارف سنة 750 هـ.
- وكان ابن خلدون حينئذ قد بلغ الثامنة عشرة من عمره، فبدأ يشتغل بالوظائف العامة والسياسة، مع متابعة مستمرة للقراءة والاطلاع والكتابة والتعليم.
وأما حياته العملية فقد بدأها ابن خلدون بوظيفة " كتابة العلامة " أي ديوان الرسائل بتونس، ثم تقلب بعد ذلك في البلاد متوليا المناصب المختلفة، وقاسى كثيرا، بل وعانى الأهوال الشديدة من المؤامرات السياسية، بل شارك فيها أحيانا.(15/238)
ويرى بعضهم أن ابن خلدون كان ابن عصره، وأننا لا يجوز أن نتصوره تصورا بطوليا منفصلا عن بيئته وظروفها والعصر وتراثه، بل هو - كما يرى هؤلاء- ابن عصره وبيئته، وأنه أفاد من جهود المؤرخين السابقين، وخصوصا بعد أن تحررت فكرة التأريخ من الاعتماد على المنقول، وتعلقت بآفاق من التعدد الثقافي في الحضارات الإنسانية، والتعليل العقلي للمادة التاريخية منذ عصر المسعودي (1) .
ونحن نخالف هذا القول بهذا الإطلاق العام، ونعتقد أن عبد الرحمن بن خلدون كان ظاهرة تمثل رد فعل لعصره، وومضة متألقة في بيئة عصره وظروفه، وكأنها ألق الشمس قبل غروب دورة من دورات الحضارة، ونحن مع العلامة (مالك بن نبي) في أن عصر ابن خلدون لم يكن في مستوى ابن خلدون، ولو أنه كان في مستواه لأمكن أن تكون مقدمة ابن خلدون منعطفا جديدا في مسيرة البناء الثقافي الإسلامي.
وقد شهد عصر ابن خلدون سقوط آخر دولة مغربية وأندلسية عظمى، وهي دولة الموحدين التي أسسها المهدي بن تومرت (فكريا) وعبد المؤمن بن علي (سياسيا) قبيل منتصف القرن السادس الهجري، وقد قسمت هذه الدولة إلى ثلاث هي:
الحفصيون في إفريقية (تونس) ، وبنو عبد الواد (بنو زيان) في الجزائر، وبنو مرين في المغرب الأقصى.
وقد كان عصره- كعصر ابن حزم الأندلسي في القرن الخامس الهجري - عصر فتن ودسائس وانقسامات، حتى إنه اضطر لأن يغمس يده في هذه الفتن.
على أن هذا لا يجعلنا ننكر تأثر ابن خلدون ببعض المؤرخين المسلمين السابقين الذين كانت تظهر على أيديهم أفكار متكاملة في تفسير التأريخ،
__________
(1) د. عفت الشرقاوي: أدب التاريخ عند العرب 328.(15/239)
وعلى رأس هؤلاء الذين تأثر بهم ابن خلدون، بل نقل عنهم واعتمد عليهم، وإن لم يذكر ذلك صراحة (ابن حزم الأندلسي) .
بل إن الأمثلة التاريخية التي قدمها ابن خلدون، ليبين بها: " ما يعرض للمؤرخين من المغالط والأوهام، وذكر شيء من أسباب ذلك " قد اقتبس بعضها من موسوعة "الفصل" لابن حزم. وليس هذا فحسب، بل إن ابن خلدون قد اقتبس نقد ابن حزم لهذه الأغلاط والأوهام.
وإن أوفى مقارنة لما كتبه ابن حزم، وهو ينقد التوراة، في كتابه العالمي "الفصل في الملل والأهواء والنحل" ومقدمة ابن خلدون ستوضح لنا مدى اقتباس ابن خلدون عن ابن حزم. حتى في الشواهد والأمثلة، وقد بسطنا ذلك بسطا كافيا في كتابنا عن ابن حزم الأندلسي وجهوده في البحث التاريخي والحضاري (1) .
ولعل ابن خلدون قد أفاد أيضا من الطرطوشي صاحب سراج الملوك، والحق أن ابن خلدون كان قفزة كبرى، ومنعطفا جديدا وخطيرا في مسيرة المنهج التاريخي.
__________
(1) نشر دار الاعتصام بالقاهرة ص169 وما بعدها(15/240)
ابن خلدون رائد عصر جديد في فقه التاريخ:
لقد كانت النظرة التقليدية إلى التأريخ تهتم غاية ما تهتم بجمع الوقائع العسكرية والتحولات السياسية التي تتخذ صور المعاهدات أو التنازلات أو ما إلى ذلك من أمور تتصل بطريق أو بآخر بالخط السياسي والعسكري.
وقلما كان قارئ التاريخ يجد في ثنايا الكتابات الموضوعية أو الحولية البالغة حد المجلدات سطورا أو صفحات تتناول ناحية فكرية أو اعتقادية، أو تحولا اجتماعيا أو اقتصاديا، أو رؤية نفسية، أو نظرة شبه شاملة - فضلا عن النظرة الشاملة- ترصد سائر العوامل المحركة والمهمة في صنع الحدث التاريخي، وهو أمر بسطنا القول فيه من قبل.(15/240)
وقد يكون بإمكاننا في هذا البحث أن نقول:
إن ذلك المنهج -بصفة عامة- قد سيطر على حركة التاريخ البشري في سائر كتابات المؤرخين- باستثناء النظرات العارضة التي تناولناها آنفا -حتى ظهر ذلك العملاق العبقري المغربي الأندلسي المسلم عبد الرحمن بن خلدون.
إلا أننا -خضوعا للموضوعية- نضطر إلى القول بأن مؤرخنا المسلم العظيم قد استطاع أن يضع فعلا رؤية تنظيرية لتفسير التأريخ بعوامل مختلفة، سماها طورا العصبية الدينية أو القبلية، وسماها طورا البيئة (أي الأثر الجغرافي) كما ألمع إلى العوامل البيولوجية والاقتصادية. . .
إلا أن المؤرخ الكبير لم يقدم لنا دراسة تاريخية تطبيقية نستطيع أن نتكئ عليها لكي نقول: إنه قد فتح عصرا جديدا في نهج التأليف التاريخي، كما أنه من سوء حظ مؤرخنا الكبير، أن إشعاعاته القوية واجهت أمة نائمة، كانت تعيش فترة اضطراب حضاري، فلم تستطع إيقاعاته بالتالي أن تقوم بدورها في تحريك المجتمع الإسلامي الفوار بالاضطرابات والشرور خلال القرون التي سبقت عصر اليقظة في أوربا. . أي الثامن والتاسع والعاشر للهجرة، (الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر للميلاد) .
ومع صخب الصراعات الصغيرة الطائفية في المجتمع الإسلامي العريض ضاعت إيقاعات ابن خلدون. . فلم تظهر إلا بعد أن اكتشف أصداءها أوربيون كانوا يصغون بانتباه حضاري كبير لكل الإيقاعات المنبعثة من أركان العالم الإسلامي المتحضر. وهذا حق لا يمكن إنكاره؛ فإن ابن خلدون كان خميرة قوية، وإن لم نستطع نحن المسلمين الإفادة منها، فإن الأوربيين قد أفادوا منها أي إفادة، ويعتبر ابن خلدون من القلائل الذين ترجمت أعمالهم في وقت مبكر إلى كل لغات العالم الحية تقريبا، وقد كتب الأوربيون حول مقدمته الشهيرة (وهي الجزء الأول من كتابه الكبير " العبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن جاورهم من ذوي السلطان الأكبر) مئات الدراسات، بحيث لا يجد المؤرخ المسلم أي حرج في أن يصرح بأن تأثير فكر ابن خلدون (بمقدمته في تفسير التأريخ وعلم العمران البشري) كان تأثيرا مباشرا وقويا وحاسما في(15/241)
يقظة الحضارة الأوروبية. وتعتبر القائمة التي أوردها الدكتور (عبد الرحمن بدوي) حول الدراسات الأوربية عن ابن خلدون (في كتابه عنه) من الأدلة الواضحة على عمق هذا التأثير ووضوحه.
وقد تيقظ الأوربيون منذ بداية عصر النهضة، وبرعوا في النظر إلى التاريخ نظرة أقرب إلى الشمول والتكاملية، فلم يعد التاريخ مجرد حروب ومعاهدات، بل أصبح في رأي أكثرهم:
"الأرض التي يجب أن تقف الفلسفة عليها وهي تنسج سائر ألوان المعرفة في نسيج واحد لينير طريق الحياة الإنسانية ".
ويروج الأوربيون أن " فولتير " هو الذي بدأ هذه النظرة الشاملة للتأريخ، إذ إنه صاحب أول كتاب ذائع الصيت في تطبيق النظرة الجديدة للتأريخ، وهو كتاب: (رسالة في أخلاق الشعوب وروحها ووقائع التاريخ الرئيسية منذ شركمان وحتى لويس الثالث عشر) .
لكن الحقيقة أن فولتير مسبوق بكثيرين، لعل من أهمهم " الراهب بوسيه " الذي كان يرى أن التاريخ " دراما إلهية مقدسة، وكل حادثة فيه هي درس من السماء تعلمه للإنسان"، كما سبقه أيضا المؤرخ المشهور " جيوفانو باتستافيكو " الذي كان يعترف بوجود العناية الإلهية، (مثل الراهب بوسيه) ولكنه في الوقت نفسه كان يفسر أحداث التاريخ تفسيرا أرضيا وبشريا خاضعا لقوانين شبه كلية، سواء كانت مسيرة التاريخ في اتجاه صحيح أو اتجاه فاسد.
وقد توصل فيكو إلى تقسيم ثلاثي للتاريخ على أساس أنه ثلاث مراحل (مرحلة الهمجية، ومرحلة البربرية، ومرحلة الحضارة) ، وهو تقسيم يذكرنا بتقسيم هيجل، وتقسيم أوجست كونت، وإن كانت ثمة فروق كثيرة بينهم.
وعلى أية حال فإن النظرة الأوربية تعتبر " فولتير " بداية عصر جديد في(15/242)
النظرة إلى التأريخ ووظيفته وتفسيره، لدرجة أن " أناتول فرانس " يبالغ فيسمي الفترة التي ظهر فيها " فولتير " "عصر فولتير "، ويبالغ أكثر فيقسم تاريخ الفلسفة إلى عصور أربعة هي: عصر سقراط، وعصر هوراس، وعصر رابلين، وعصر فولتير!!
والحق أن ابن خلدون هو المفتاح الكبير الواضح القسمات والمعالم، والمتكامل الرؤية والمنهج في قضية تفسير التأريخ.
بل إننا نستطيع أن نقول مطمئنين: إن الكتابة التاريخية ينتظمها عصران:
- عصر ما قبل ابن خلدون.
- عصر ما بعد ابن خلدون.
ومهما وجدت نظرات متناثرة في تفسير التأريخ قبل ابن خلدون، أو وجدت كتابات سردية تقليدية بعد ابن خلدون، فإنه من الناحية الرسمية - على الأقل- يعتبر ابن خلدون مفرق طريق بين مرحلتين، وليس ذلك في الفكر التأريخي الإسلامي فحسب، بل في الفكر التأريخي الإنساني كله.
وليست هذه المكانة التي نعطيها لابن خلدون رأيا عنصريا، أو عاطفيا، بل هي حقيقة اعترف بها كبار فلاسفة التاريخ الأوربيين وسجلوها في شهادات صريحة واضحة. فإن أكبر مفسر أوربي للتأريخ في العصر الحديث، وهو الأستاذ " أرنولد توينبي " يتحدث عن ابن خلدون في مواضع كثيرة من كتابه (دراسة للتأريخ) ، ويفرد له في المجلد الثالث سبع صفحات (321-327) ، وفي المجلد العاشر أربع صفحات (84-87) . وهو يقرر أن ابن خلدون " قد تصور في مقدمته، ووضع فلسفة للتاريخ هي بلا مراء أعظم عمل من نوعه ابتدعه عقل في أي مكان أو زمان " " المجلد الثالث ص 322 " (1) وهو يقول عن ابن خلدون في الفقرة نفسها: " إنه لم يستلهم أحداث السابقين، ولا يدانيه أحد من معاصريه، بل لم يثر قبس الإلهام لدى تابعيه، مع أنه في مقدمته للتأريخ العالمي قد تصور وصاغ فلسفة للتاريخ تعد بلا شك أعظم عمل من نوعه ".(15/243)
وأما المؤرخ العالمي (روبرت فلنت) فيقول عن ابن خلدون في كتابه الضخم (تأريخ فلسفة التأريخ) :
" إنه لا العالم الكلاسيكي ولا المسيحي الوسيط قد أنجب مثيلا له في فلسفة التاريخ، هناك من يتفوقون عليه كمؤرخ، حتى بين المؤلفين العرب، أما كباحث نظري في التأريخ فليس له مثيل في أي عصر أو قطر، حتى ظهر فيكو بعده بأكثر من ثلاثة قرون لم يكن " أفلاطون " أو " أرسطو " أو " سان " أو " غسطين " أندادا له، ولا يستحق غيرهم أن يذكر إلى جانبه. . إنه يثير الإعجاب بأصالته وفطنته، بعمقه وشموله، لقد كان فريدا ووحيدا بين معاصريه في فلسفة التأريخ، كما أن دانتي في الشعر، وروجو بيكون في العلم، لقد جمع مؤرخو العرب المادة التاريخية، ولكنه وحده الذي استخدمها " (1) .
" لم يكن فحسب أعظم مؤرخي العصور الوسطى شامخا كعملاق بين قبيلة من الأقزام، بل كان من أوائل فلاسفة التأريخ سابقا:
ميكيافيلي، وبودان، وفيكو، وكونت، وكورنو "!! (2) .
وبما أن ابن خلدون أسبقهم زمانا وأبعدهم مكانة، كلهم كانوا عالة عليه، فإنه في الحق الإمام لمدرسة فلسفة التأريخ، والفيصل بين مرحلتين حاسمتين في منهج البحث التأريخي، إنه بداية عصر جديد في الكتابة التاريخية نستطيع أن نسميه بلا تحفظ (عصر ابن خلدون) .
__________
(1) نقلا عن أرنولد توينبي: مقال بعالم الفكر المجلد الخامس العدد الأول - الكويت.
(2) نقلا عن د. أحمد محمد صبحي: في فلسفة التاريخ 134 \ 135(15/244)
ابن خلدون رائد فلسفة التأريخ
ونحن هنا لن نقف طويلا عند ابن خلدون (مؤرخا) . وإنما سيقتصر حديثنا على مقدمته، التي تمثل الجزء الأول من موسوعته التاريخية " كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن جاورهم من ذوي(15/244)
السلطان الأكبر ". . ففي هذا الجزء الذي كتبه ابن خلدون مقدمة لكتابه الكبير، استطاع أن يقدم إطارا متكاملا لفلسفة نقدية للتاريخ، ويضع في ثنايا ذلك قواعد لعلم الاجتماع البشري " العمران "، لدرجة أن أكثر علماء الاجتماع يعدونه مؤسس علم الاجتماع، أكثر منه مؤسسا لعلم فلسفة التأريخ. والحقيقة أن فلسفة التاريخ ذات وشيجة قوية بعلم الاجتماع، فلا مجال للوقوف عند هذه القضية.
وقبل أن نستخلص أهم المبادئ التي انتهى إليها ابن خلدون نقدم عرضا لهذه (المقدمة) أو هذا الجزء من كتاب " العبر" الذي كان له هذا الأثر في التأريخ.
لقد قسم (1) . ابن خلدون (مقدمته) إلى الأجزاء التالية:
(أ) الديباجة: وفيها يذكر ابن خلدون أنه طالع كتب المؤرخين فوجدهم " لم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها ولا رفضوا ترهات الأحاديث ولا دفعوها، فالتحقيق قليل، وطرف التنقيح في الغالب كليل "، فوضع هذا الكتاب الذي يصف منهجه فيه قائلا: وسلكت في ترتيبه وتبويبه، واخترعته من بين المناحي مذهبا عجيبا وطريقة مبتدعة وأسلوبا، وشرحت فيه من أحوال العمران والتمدن، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها، ويعرفك كيف دخل أهل هذه الدول من أبوابها، حتى تنزع من التقليد يدك، وتقف على أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال وما بعدك ".
وهذه الديباجة لا تعدو أن تكون (مقدمة) للمقدمة، بالمعنى المعروف للمقدمات، من شرح المنهج، ومن بيان الجديد الذي يعتقد الكاتب أن يضيفه وأسباب التأليف ومنهجه الجديد.
__________
(1) انظر ص 6-7 من مقدمة ابن خلدون طبع دار إحياء التراث.(15/245)
ومن ثم يدخل الكاتب- بعد (مقدمة المقدمة) التي سماها (ديباجة) إلى موضوعه، فيبدأ الحديث تحت عنوان أطلق عليه " المقدمة " مع أنها من صميم بحثه.
(ب) المقدمة: وفيها يتحدث ابن خلدون في فضل علم التأريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط، وذكر شيء من أسبابها، (1) ذلك أن الأخبار "إذ اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة، وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم، والحيد عن جادة الصدق، كثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثا أو سمينا، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأسبابها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط، ولا سيما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر (2) .
(ج) الكتاب الأول: وفيه يتناول ابن خلدون طبيعة العمران والاجتماع البشري، وقد قسمه إلى ستة أبواب:
الباب الأول: في العمران البشري جملة: فيه مقدمات تتصل بالجغرافية الطبيعية والبشرية، أي أثر البيئة في أبدان البشر وأخلاقهم وأحوالهم.
الباب الثاني: في العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال، وفيه موازنة بين أهل البدو وأهل الحضر وذكر خصائصهم، وكلام على العصبية والتغلب والملك.
الباب الثالث: وهو في الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية، وفيه كلام عن نشأة الدول وتطورها قوة ثم ضعفا بيان أنه " إذا تحكمت طبيعة
__________
(1) المقدمة ص9
(2) المقدمة ص9-10(15/246)
الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة أقبلت الدولة على الهرم، وذلك أن للدول أعمارا طبيعية كما للأشخاص، وعمر الدولة لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال؛ لأن الجيل الأول لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها وتوحشها من شظف العين والبسالة والافتراس والاشتراك في المجد، فلا تزال بذلك سورة العصبية محفوظة فيهم، فحدهم مرهف وجانبهم مرهوب، والناس لهم مغلوبون، والجيل الثاني تحول حالهم بالملك والترفه من البداوة إلى الحضارة، ومن الشظف إلى الترف والخصب، ومن الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به كل الباقين عن السعي فيه. . . وأما الجيل الثالث فينسون عهد البداوة والخشونة، كأن لم يكن، ويفقدون حلاوة العز والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر، ويبلغ منه الترف غايته. . . فيصيرون عيالا على الدولة. . وتسقط العصبية بالجملة وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة.
الباب الرابع: ويخصه ابن خلدون لظواهر العمران الحضري كنشأة المدن وبناء الهياكل وخرائب الأمصار.
الباب الخامس: وفيه يتناول ابن خلدون المعاش ووجوبه ووجوهه وأصنافه ومذاهبه.
الباب السادس: في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه، وفيه يصف العلم والتعليم بأنها شيء طبيعي في العمران البشري، وأن العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة، ويضرب لذلك مثلا حال بغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفة، لما كثر عمرانها في صدر الإسلام، واستوت فيها الحضارة، كيف زخرت فيها بحار العلم، وتفننوا في اصطلاحات التعليم وأصناف العلوم، واستنباط المسائل والفنون، حتى أربوا على المتقدمين، وفاتوا المتأخرين. ولما تناقص عمرانها واندحر سكانها انطوى ذلك البساط بما عليه جملة، وفقد العلم بها والتعليم، وانتقل إلى غيرها من أمصار الإسلام " (1) .
__________
(1) انظر المقدمة، وانظر د. عفت الشرقاوي: أدب التاريح 333 وما بعدها.(15/247)
وهذه المقدمة، وما تلاها من أجزاء كتابه العبر الذي مثل محاولة إعطاء تاريخ عالمي، هي النظرية المتكاملة الأولى في التأريخ الإنساني، لتفسير التأريخ. . وشأن ابن خلدون فيها هو شأن الذين لحقوه واعتمدوا عليه من الأوربيين وغيرهم، وتعمقت لدى بعضهم مشكلات تفسير التأريخ.(15/248)
فعمل ابن خلدون يتسم بالشروط الأساسية لتفسير التأريخ، وهي التي لا يقوم (علم تفسير التأريخ) بدونها.
وهذه الشروط هي:
1 - الشمولية العالمية في النظرة إلى التأريخ، أو حسب تعبير بعضهم: " النظرة الكلية "؛ فالتأريخ المحلي أو النظرة الجزئية المحدودة، لا يمكن أن تشكل أساسا لتفسير التأريخ.
ولا ينتظر أن يستقرئ كل مفسر للتأريخ سائر الأمثلة التي تقدمها الوقائع التاريخية في سائر الحضارات، فذلك عمل، وإن كان هدفا مثاليا، إلا أنه تطبيقه من الصعوبة بمكان كبير.
وحسب مفسر التأريخ أن يقدم شرائح من حضارات مختلفة بحيث تكون نتائجها المستخلصة منها صالحة للتكرار والتعميم.
2 - العلية، فلا تفسير بدون تعليل، ولن تتحقق العبر واستخلاص السنن والقوانين بدون هذه العلية. وأي فلسفة، في أي علم من العلوم، لا بد أن تعتمد التعليل، وهذا من الفروق الأساسية بين المنهج التأريخي التقليدي والمنهج الحضاري أو منهج تفسير التأريخ.
والتعليل -أيضا- لا بد أن يكون قابلا للتكرار، في أطر حضارية أخرى، ولا بد أن يكون (عاما) شأن سائر القوانين. وأما التعليل الجزئي، الذي يشبه " الحكمة " الخاطفة، فلا يرقى إلى التعليل المطلوب لمفسر التأريخ.
والتعليل التاريخي الذي يعتمده مفسر التأريخ، ليس تعليلا جزئيا - كما(15/248)
ذكرنا -وليس تعليلا خارجيا، بل هو تعليل باطني (1) ، مستقى من الرؤية الشاملة الفلسفية لما يقبع خلف الوقائع الظاهرة. إنه نظر إلى الواقعة من داخلها، ومن نقطة الإحاطة بكل جوانبها، ومن ربطها بإطارها العام، وهذا ما ألمع إليه ابن خلدون بقوله:
" أما بعد، فإن فن التأريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال، وتشد إليها الركائب والرحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال، ويتساوى في فهمه العلماء والجهال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والأول، والسوابق من القرون والدول، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال، وتؤدي إلينا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال. وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لهذا أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق " (2) .
3 - الفكر، فإذا كان المؤرخ مجرد مسجل للحدث، باحث عن الطرق الصحيحة لإثباته، فإن مفسر التأريخ يحتاج إلى عمليات فكرية معقدة، في محاولة لجمع جزئيات الماضي، ولاستحضاره في حاضره، عن طريق بنائه بناء تركيبيا، ولاستخلاص أسباب اتجاهه للإيجاب أو السلب. فالجانب المعرفي والفكري أساسي لمفسر التاريخ.
4 - الحركة أو " الديناميكية " فالمفسر للتاريخ يقدم لنا صورة تبدو وكأنها إعادة حية (متحركة) للوقائع، حتى نحس بطبيعة العوامل التي تقف خلف الأحداث. ولهذا يلجأ فيلسوف التاريخ لرصد كل العوامل النفسية " والبيولوجية " والفكرية والعقدية والاقتصادية، ويربط بينها ويعطي لكل عامل
__________
(1) انظر د. أحمد صبحي: في فلسفة التاريخ 139
(2) المقدمة 3- 4(15/249)
حجمه في مرحلته التاريخية. . . أما المؤرخ فهو يقدم لنا التأريخ أقرب إلى السكونية الجامدة التي تعطينا جانبا معرفيا منظورا، ولا تحرك فينا جوانب الاستحضار والتفاعل، والبصر بالعوامل الباطنية للحدث.
- وفي مقدمة ابن خلدون ومن خلال عرضه، نستطيع أن نتحقق من وجود هذه الشروط التي تجعله مفسرا رائدا للتاريخ، وهي الشروط التي انتهى إليه البحث الفلسفي في التاريخ، كما ذكرنا.(15/250)
قوانين ابن خلدون الحضارية وتقويمها
- يرى ابن خلدون في تفسيره للتاريخ أن التطور سنة من سنن الله في الحياة الاجتماعية، ويقول: " إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول " (1) .
وأهم ما يوجه التطور الاجتماعي والعمراني عند ابن خلدون هو نظريته في العصبية، فهي بمثابة المحور الذي تدور حوله معظم المباحث الاجتماعية والتاريخية عنده، وهو يتخذ من هذه الرابطة موضوعا لدراسة شاملة وعميقة فيتكلم عن مصدر العصبية، ويردها إلى الطبيعة البشرية " لأن صلة الرحم طبيعة في البشر إلا في الأقل، ومن صفتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام إن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة:
ويدخل في هذه العصبية عنده (عصبة الولاء) ، والعصبية عنده من خصائص البادية، وهي ما يفسد بحياة الحضر، ولها أثرها الهام في الحياة الاجتماعية؛ لأن بها يتم التغلب، وبالتغلب يحصل الملك، وهكذا تلعب العصبية دورا هاما في تأسيس الملك وتكوين الدولة، فاتساع الدولة يكون مناسبا مع قوة تلك العصبية، ويلاحظ ابن خلدون نوعا من العلاقة بين قوة العصبية
__________
(1) المقدمة: ص 38 طبع المكتبة التجارية، وأيضا: د. علي عبد الواحد وافي: عبد الرحمن بن خلدون 166.(15/250)
وبين أمور الديانة والدعوة الدينية أيضا، ففي رأيه أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم، كما يلاحظ نوعا من المشابهة بين تأثير الدين وبين تأثير العصبية في الحياة الاجتماعية، وهي نظرية موفقة إلى حد كبير في إظهار أوثق أنواع الروابط الاجتماعية، وتعيين أهم أشكال التكاتف الاجتماعي في مثل تلك البيئات الجغرافية وتلك العهود التاريخية، وهي تدل على تفكير فاحص ونافذ ومحيط ومتعمق في درس الحوادث الاجتماعية وتعليل الوقائع التاريخية، كذلك تكشف نظرية ابن خلدون في الدول وأعمارها عن نظرية في التطور الاجتماعي، ذات أبعاد بيولوجية، فالدولة عنده كائن حي يتطور على الدوام وفق نظام ثابت، كما تتطور جميع الكائنات الحية (1) .
فالحضارة عند ابن خلدون تتعاقب على الأمم في ثلاثة أطوار: هي طور البداوة، ثم طور التحضر، ثم طور التدهور الذي يؤدي إلى السقوط.
- فأما طور البداوة فيمثل له ابن خلدون بمعيشة البدو في الصحاري، والبربر في الجبال، والتتار في السهول، وهؤلاء عند ابن خلدون لا يخضعون لقوانين مدنية ولا تحكمهم سوى حاجاتهم وعاداتهم.
- وأما طور التحضر: فهو طور تأسيس الدولة عقب الغزو والفتح، ثم الاستقرار في المدن، والتمكن من العلوم والصناعات، وهذا الطور يقوم على الدين والعصبية - وقد عقد ابن خلدون لهذا الفصل فصلا آخر بعنوان " فصل في أن الدولة العامة الاستيلاء، العظيمة الملك، أصلها الدين إما من نبوة أو دعوة حق".
- وأما طور التدهور: فيأتي في نهاية التحضر، بعد مرحلة الازدهار، ووصول الناس إلى مرحلة الانغماس في الترف، والتحلل في الأخلاق، وتغير العادات إلى المناكر، والتواضع عليها. ويرى ابن خلدون أن مراحل تحضر الدولة هي ذاتها عوامل تدهورها، ذلك أن الحضارة، وإن كانت غاية العمران فهي في الوقت نفسه مؤذنة بنهاية عمره، وأول هذه العوامل هو العصبية التي
__________
(1) عن د. عفت الشرقاوي: أدب التاريخ 342-343(15/251)
تتسم بها الرياسة والملك، ولكن صاحب الرياسة يطلب بطبعه الانفراد بالملك والمجد، والطبيعة الحيوانية تدفعه إلى الكبر والأنفة، فيأنف من أن يشاركه أهل عصبيته فيدفعهم عن ملكه، ويأخذهم بالقتل والإهانة وسلب النعمة، حتى يصبحوا بعض أعدائه، وطبيعة التأله في الملوك تدفعه إلى الاستئثار، إذ لا تكون الرياسة إلا بالانفراد، فيجدع أنوف عشيرته وذوي قرباه لينفرد بالملك والمجد ما استطاع، ويعاني الملك في ذلك بأشد مما عانى في إقامة الملك، لأنه كان يدافع الأجانب وكان ظهراؤه على ذلك أهل العصبية أجمعهم، أما حين الانفراد بالملك فهو يدافع الأقارب مستعينا بالأباعد، فيركب صعبا من الأمر. إنه أمر في طبائع البشر لا بد منه في كل الملوك. على أن العامل الحاسم في ضعف الدولة هو الترف، إنه إذا كان قد زاد من قوة الدولة في أولها، فإنه أشد العوامل أثرا في ضعفها وانهيارها، ويفسر ابن خلدون ذلك بأسباب اقتصادية وأخلاقية ونفسية (1) .
أما العامل الاقتصادي فإن طبيعة الملك تقتضي الترف حيث النزوع إلى رقة الأحوال في المطعم والملبس والفرش والآنية، وحيث تشييد المباني الحافلة والمصانع العظيمة والأمصار المتسعة والهياكل المرتفعة، وحيث إجازة الوفود من أشراف الأمم ووجوه القبائل مع التوسعة في الأعطيات على الصنائع والموالي، وإدرار الأرزاق على الجند، ويزيد الانغماس في الترف والنعيم لا من جانب السلطان وبطانته فحسب، بل من جانب الرعية أيضا، إذ الناس على دين ملوكهم (2) .
أما العامل الأخلاقي النفسي، الذي يجعل الترف معول هدم يؤدي إلى انهيار الدولة، فمبعثه في رأي ابن خلدون ما يلزم عن الترف من فساد الخلق، فإن عوائد الترف تؤدي إلى العكوف على الشهوات وكثير من مذمومات الخلق، فتذهب عن أهل الحضر طباع الحشمة ويقذعون في أقوال الفحشاء، فضلا عن أن الترف يذهب ويضعف العصبية والبسالة، حتى إذا
__________
(1) د. أحمد محمد صبحي: في فلسفة التاريخ 147.
(2) المرجع السابق 147- 148.(15/252)
انغمسوا في النعيم أصبحوا عيالا على الدولة، كأنهم من جملة النسوان والولدان المحتاجين إلى المدافعة عنهم، فالترف مفسد لبأس الفرد وشكيمة الدولة، والترف مفسد للخلق بما يحصل في النفس من ألوان الفساد والسفه، والترف مظهر لحياة السكون والدعة ودليل ميل النفس إلى الدنيا والتكالب على تحصيل متعها، حتى يتفشى الخلاف والتحاسد، ويفت ذلك في التعاضد والتعاون، ويفضي إلى المنازعة ونهاية الدولة (1) .
وقد انتهى ابن خلدون من خلال نظريته في تفسير التاريخ - باستثناء عشرات النظرات والآراء الجزئية - إلى عدد من القوانين اعتبرت جوهر نظريته، وهي:
1 - أن تطور التاريخ يخضع للتدافع والصراع والتفاعل.
2 - أن العصبية الدينية والقبلية لها دور أساسي في بناء الدول.
3 - أن الحضارة كالكائن الحي في تطوره من البداوة إلى الحضارة ثم الاضمحلال.
4 - وأن الدول كالأفراد تخضع لدورة الحياة الفردية نفسها حتى تموت.
5 - أن العوامل الجغرافية والبيئية مؤثرة في التاريخ.
6 - أن للاقتصاد دورا مهما في العمران البشري.
7 - أن الدول تسقط بسقوط العصبية والولاء للدين.
8 - أن العرب (والإنسانية كلها) لا تصلح بغير الدين.
إنني هنا لا أحاول القيام بعملية استقصائية للنظرية الخلدونية في تفسير
__________
(1) المرجع السابق 149(15/253)
التأريخ، لكن الذي أردت الوقوف عنده هو المكانة التي تبوأتها الفكرة الخلدونية في تفسير التأريخ، سواء في الحضارة الإسلامية أو في الفكر التأريخي الإنساني.
لقد شكلت مقدمة ابن خلدون منعرجا حاسما في كيفية فهم الإنسان لتأريخه وتقويمه له. وما يرجو منه من كشف، لا عن ماضيه فحسب، بل خاصة عن تطور الجنس الذي ينتمي إليه ومصيره.
لقد كانت الكتابة التاريخية - قبل ابن خلدون - وعلى امتداد التاريخ كله، باستثناء الشذرات التي ألمعنا إليها. . .
- كانت هذه الكتابات تنظر إلى التأريخ على أنه مجرد رواية صادقة، ووثيقة مؤكدة في نسبتها إلى صاحبها وعصرها وسلامة مضمونها، ومعلومات جزئية غايتها الإلمام بحوادث الماضي والإحصاء العددي لها. . . أجل: حاول الإنسان أولا - أن يؤرخ للحوادث البارزة، أي أن يكون لنفسه، ولعشيرته، ولقومه ذاكرة تحفظ المفاخر خاصة، وتضبط أزمانها حسب السنوات، من دون أن يحاول أن يفهم فهما عقليا عميقا ضرورة بروزها في زمن وبيئة خاصة، وسر تداخلها، ومدى تأثيره على جنسه كإنسان يقطع النظر عن النظرة الجزئية المحدودة.
- وعلى الرغم من الومضات الصادرة من حين إلى حين في بعض أحقاب التأريخ، وعلى يد بعض الأفذاذ الذين ألمعنا إليهم، فإن التأريخ بقي محصورا في دائرة الحفظ التسجيلي للوقائع، مع توخي الصدق، والتحري في الرواية.
ولعل مرحلة الصدق والتحري ودراسة الوثائق، بل الاعتماد عليها، هي أفضل ما استطاع المنهج التأريخي أن يصل إليه قبل عصر ابن خلدون.
وما إن جاء مؤرخنا المسلم العظيم حتى بدأ التأريخ - كما يقول (إيف لاكوست) (Yves Lacaste) " يكتسي صبغته العلمية ".
- لقد فهم (ابن خلدون) علاقة التفاعل المتبادلة، التي تربط الإنسان بتأريخه. . . وقد أسماها ابن خلدون " التغلبات للبشر بعضهم على بعض "،(15/254)
وقامت بعد ابن خلدون نظريات عالية الصوت، تتحدث عن الصراع، وعن " الديالكتيك " وعن " الجدلية المادية " و" الجدلية الفكرية ". . . كلها قد اتكأت على هذا القائد العظيم، وانحرفت عنه يمينا أو يسارا.
إن ابن خلدون قدم المحاولة العلمية الأولى التي تخصصت في تفسير التأريخ، وهي محاولة اعتمدت على المنهج القرآني، ولم تنفصل عنه. . . لقد صور ابن خلدون حقيقة التأريخ بكل وضوح في عبارته المشهورة:
" حقيقة التأريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني، الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال (1) .
ويعلق أحد المؤرخين المعاصرين (2) على رؤية ابن خلدون للتأريخ- كما صورتها عبارته السابقة- فيقول:
إن هذا التعريف للتأريخ يدهشنا، إذ هو تعريف له كما نفهمه نحن اليوم، بل كما يفهمه أنصار الحركة التجريدية الذين حملوا حملة شعواء في مؤتمر سنة 1950 بباريس، على من بقي من المؤرخين متمسكا بالطريقة التقليدية في رواية الحوادث واعتبار التأريخ يكفي أن يكون سجلا لها. فابن خلدون يريد عكس ذلك، فهو يريد أن يجعل من التأريخ أداة كشف عن سر " الاجتماع الإنساني "، وعن خروج هذا الإنسان من " التوحش " إلى " التأنس " بفضل الله، ثم بفضل الصراع الجدلي الذي يعبد سبيله، عبر عقبات متجددة، نحو إنسية أكمل، عن طريق الرقي المستمر الناشئ حتما عما " ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع
__________
(1) ابن خلدون المقدمة ص57 طبعة بولاق.
(2) د. محمد الطالبي: مقال التاريخ ومشاكل اليوم والغد عالم الفكر عود 1 \ م5 \ الكويت (إبريل) 1974(15/255)
وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال"، وطبيعة الأحوال هذه التي يشير إليها ابن خلدون، ويعتبرها القانون الذي بمقتضاه يسير التطور الضروري الذي لا يعاند، إنما هي سنة الله التي توجه شراع الخليقة، لينة تارة، عنيفة أخرى، والتي أشار إليها القرآن في أكثر من آية، وهكذا يصبح التأريخ، استكشافا كليا لتطور الإنسان، ومحاولة حل للغز وضعه اليوم في هذا الكون، ولمصيره العاجل أو الآجل.
ولئن كان ابن خلدون لم يطبق كثيرا من آرائه هذه الطموحة الجريئة في كتاب العبر، فإن ذلك لا يسلب فضل التعبير عنها بغاية الدقة والوضوح. فإنه كان من المستحيل علميا- لا سيما في زمانه، تطبيقها من طرف باحث واحد، في موسوعة فتحت صفحاتها لتاريخ العالم الإسلامي بأكمله - ولعل استعصاء تطبيق هذه الآراء في كتاب (العبر) هو الذي جعل ابن خلدون يضمن خلاصة أفكاره وعبره واعتباراته خاصة في (المقدمة) .
وهكذا فتح أبوابها للاجتماع والاقتصاد والمؤسسات، وضروب الثقافات والعلوم. لأن كل ذلك إن لم يكن تاريخا صرفا بالمعنى الضيق، فلا غنى للمؤرخ عنه، ولا سبيل لفهم الإنسان بدونه.
وهكذا كان ابن خلدون عملاقا، يقف متفردا، كحد فاصل بين مرحلتين متميزتين في المنهج التأريخي، وقد أعطى بهذا المنهج المتفرد سبقا للحضارة الإسلامية، التي كان لها الفضل الكبير في الانتقال بالتأريخ من مرحلة الجمع إلى مرحلة التفسير، ومن منهجية التوثيق إلى منهجية التمحيص والتركيب الفلسفي الذي يمثل مرحلة جديدة في الرشد العقلي للإنسانية كلها.(15/256)
العقيدة الطحاوية
تعليق سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين، قال العلامة حجة الإسلام أبو جعفر الوراق الطحاوي - بمصر. رحمه الله: هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني رضوان الله عليهم أجمعين. وما يعتقدون من أصول الدين، ويدينون به رب العالمين. نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله. ولا شيء يعجزه. ولا إله غيره.
قوله: (نقول في توحيد الله. . إلخ)
اعلم (أن التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب ينقسم إلى أقسام ثلاثة حسب استقراء النصوص من الكتاب والسنة، وحسب واقع المكلفين.
القسم الأول: توحيد الربوبية، وهو توحيد الله بأفعاله سبحانه، وهو الإيمان بأنه الخالق الرازق المدبر لأمور خلقه المتصرف في شئونهم في الدنيا والآخرة لا شريك له في ذلك، كما قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (1) وقال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} (2) الآية، وهذا النوع قد أقر به المشركون عباد الأوثان، وإن جحد أكثرهم البعث والنشور، ولم يدخلهم في الإسلام لشركهم بالله في العبادة وعبادتهم الأصنام والأوثان معه سبحانه، وعدم إيمانهم بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
القسم الثاني: توحيد العبادة، ويسمى توحد الألوهية، وهي العبادة، وهذا القسم هو الذي أنكره المشركون فيما ذكر الله عنهم سبحانه بقوله: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} (3) {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (4) وأمثالها كثير، وهذا القسم يتضمن إخلاص العبادة لله وحده والإيمان بأنه المستحق لها، وأن عبادة ما سواه باطلة، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإن معناها لا معبود حق إلا الله، كما قال الله عز وجل {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (5) الآية من سورة الحج.
القسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات: وهو الإيمان بكل ما ورد في كتاب الله العزيز، وفي السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أسماء الله وصفاته، وإثباتها لله سبحانه على الوجه الذي يليق به، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، كما قال سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (6) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (7) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (8) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (9) ، وقال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (10) ، وقال عز وجل: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (11) ، وقال سبحانه في سورة النحل: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (12) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة، والمثل الأعلى هو الوصف الأعلى الذي لا نقص فيه، وهذا هو قول أهل السنة والجماعة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان، يمرون آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت، ويثبتون معانيها لله سبحانه إثباتا بريئا من التمثيل، وينزهون الله سبحانه عن مشابهة خلقه تنزيها بريئا من التعطيل، وبما قالوا تجتمع الأدلة من الكتاب والسنة وتقوم الحجة على من خالفهم، وهم المذكورون في قوله سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (13) جعلنا الله منهم بمنه وكرمه، والله المستعان.
__________
(1) سورة الزمر الآية 62
(2) سورة يونس الآية 3
(3) سورة ص الآية 4
(4) سورة ص الآية 5
(5) سورة الحج الآية 62
(6) سورة الإخلاص الآية 1
(7) سورة الإخلاص الآية 2
(8) سورة الإخلاص الآية 3
(9) سورة الإخلاص الآية 4
(10) سورة الشورى الآية 11
(11) سورة الأعراف الآية 180
(12) سورة النحل الآية 60
(13) سورة التوبة الآية 100(15/257)
قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء. لا يفنى ولا يبيد. ولا يكون إلا ما يريد. لا تبلغه الأوهام. ولا تدركه الأفهام. ولا يشبه الأنام. حي لا يموت، قيوم لا ينام. خالق بلا حاجة، رازق بلا مؤنة. مميت بلا مخافة. باعث بلا مشقة. مازال بصفاته قديما قبل خلقه. لم يزدد بكونهم شيئا لم يكن قبلهم من صفته. وكما كان بصفاته أزليا. كذلك لا يزال عليها أبديا. ليس بعد خلق الخلق(15/258)
استفاد اسم (الخالق) . ولا بإحداث البرية استفاد اسم (الباري) . له معنى الربوبية ولا مربوب. ومعنى الخالق ولا مخلوق. كما أنه محيي الموتى بعدما أحيا. استحق هذا الاسم قبل إحيائهم. كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم. ذلك بأنه على كل شيء قدير، كل شيء إليه فقير. كل أمر عليه يسير. لا يحتاج إلى شيء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) خلق الخلق بعلمه. وقدر لهم أقدارا. وضرب لهم آجالا. ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم. وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم. وأمرهم بطاعته. ونهاهم عن معصيته. كل شيء يجري بتقديره ومشيئته. ومشيئته تنفذ. لا مشيئة للعباد. إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان. وما لم يشأ لم يكن.
يهدي من يشاء. ويعصم ويعافي فضلا. ويضل من يشاء. ويخذل ويبتلي عدلا. كلهم يتقلبون في مشيئته، بين فضله وعدله. وهو متعال عن الأضداد والأنداد. لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ولا غالب لأمره. آمنا بذلك كله، وأيقنا أن كلا من عنده. وأن محمدا عبده المصطفى ونبيه المجتبى ورسوله المرتضى. وأنه خاتم الأنبياء. وإمام الأتقياء. وسيد المرسلين. وحبيب رب العالمين. كل دعوى النبوة بعده فغي وهوى. وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى. بالحق والهدى. وبالنور والضياء. وأن القرآن كلام الله. منه بدا بلا كيفية قولا. وأنزله على رسوله وحيا. وصدقه المؤمنون على ذلك حقا. وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة. ليس بمخلوق ككلام البرية. فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر. وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر. حيث قال تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} (2)
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة المدثر الآية 26(15/259)
فلما أوعد الله بسقر لمن قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} (1) علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر. ولا يشبه قول البشر.
قوله: (قديم بلا ابتداء)
هذا اللفظ لم يرد في أسماء الله الحسنى كما نبه عليه الشارح رحمه الله وغيره، وإنما ذكره كثير من علماء الكلام ليثبتوا به وجوده قبل كل شيء. وأسماء الله توقيفية، لا يجوز إثبات شيء منها إلا بالنص من الكتاب العزيز أو السنة الصحيحة، ولا يجوز إثبات شيء منها بالرأي كما نص على ذلك أئمة السلف الصالح، ولفظ القديم لا يدل على المعنى الذي أراده أصحاب الكلام؛ لأنه يقصد به في اللغة العربية المتقدم على غيره، وإن كان مسبوقا بالعدم، كما في قوله سبحانه: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} (2) وإنما يدل على المعنى الحق بالزيادة التي ذكرها المؤلف، وهو قوله: (قديم بلا ابتداء) ، ولكن لا ينبغي عده في أسماء الله الحسنى؛ لعدم ثبوته من جهة النقل، ويغني عنه اسمه سبحانه الأول كما قال عز وجل: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} (3) الآية، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة المدثر الآية 25
(2) سورة يس الآية 39
(3) سورة الحديد الآية 3(15/260)
ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر، فقد كفر. فمن أبصر هذا اعتبر. وعن مثل قول الكفار انزجر، وعلم أنه بصفاته ليس كالبشر.
والرؤية حق لأهل الجنة. بغير إحاطة ولا كيفية، كما نطق به كتاب ربنا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} (1) {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (2) . وتفسيره على ما أراده الله تعالى وعلمه، وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد. لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا. ولا متوهمين بأهوائنا. فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه. ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام. فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه. حجبه مرامه عن خالص التوحيد. وصافي المعرفة. وصحيح الإيمان، فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب. والإقرار والإنكار. موسوسا تائها شاكا، لا مؤمنا مصدقا، ولا جاحدا مكذبا.
ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأولها بفهم إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية- بترك التأويل ولزوم التسليم وعليه دين المسلمين ومن لم يتوق النفي والتشبيه. زل ولم يصب التنزيه، فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية. منعوت بنعوت الفردانية، ليس في معناه أحد من البرية. وتعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات.
__________
(1) سورة القيامة الآية 22
(2) سورة القيامة الآية 23(15/260)
والمعراج حق. وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم. وعرج بشخصه في اليقظة. إلى السماء. ثم إلى حيث شاء الله من العلا. وأكرمه الله بما شاء. وأوحى إليه ما أوحى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} (1) ، فصلى الله عليه وسلم في الآخرة والأولى.
والحوض الذي أكرمه الله تعالى به غياثا لأمته حق. والشفاعة التي ادخرها لهم حق. كما روي في الأخبار. والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق. وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة. وعدد من يدخل النار جملة واحدة. فلا يزاد في ذلك العدد، ولا ينقص منه. وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه. كل ميسر لما خلق له. والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله.
وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه. لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة للخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة. فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (2) .
__________
(1) سورة النجم الآية 11
(2) سورة الأنبياء الآية 23(15/261)
فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب. ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين.
قوله تعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات والجهات الست كسائر المبتدعات، هذا الكلام فيه إجمال قد يستغله أهل التأويل والإلحاد في أسماء الله وصفاته، وليس لهم بذلك حجة؛ لأن مراده رحمه الله تنزيه البارئ سبحانه عن مشابهة المخلوقات، لكنه أتى بعبارة مجملة تحتاج إلى تفصيل حتى يزول الاشتباه، فمراده بالحدود يعني التي يعلمها البشر، فهو سبحانه لا يعلم حدوده إلا هو سبحانه؛ لأن الخلق لا يحيطون به علما كما قال عز وجل في سورة طه: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (1) ومن قال من السلف بإثبات الحد في الاستواء أو غيره، فمراده حد يعلمه الله سبحانه ولا يعلمه العباد، وأما الغايات والأركان والأعضاء والأدوات فمراده رحمه الله تنزيهه عن مشابهة المخلوقات في حكمته وصفاته الذاتية من الوجه واليد والقدم ونحو ذلك، فهو سبحانه موصوف بذلك، لكن ليست صفاته مثل صفات الخلق، ولا يعلم كيفيتها إلا هو سبحانه، وأهل البدع يطلقون مثل هذه الألفاظ لينفوا بها الصفات بغير الألفاظ التي تكلم الله بها وأثبتها لنفسه، حتى لا يفتضحوا وحتى لا يشنع عليهم أهل الحق. والمؤلف الطحاوي رحمه الله لم يقصد هذا المقصد لكونه من أهل السنة المثبتين لصفات الله وكلامه في هذه العقيدة يفسر بعضه بعضا، ويصدق بعضه بعضا، ويفسر مشتبهه بمحكمه، وهكذا قوله لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات مراده الجهات الست المخلوقة، وليس مراد نفي علو الله واستوائه على عرشه؛ لأن ذلك ليس داخلا في الجهات الست، بل هو فوق العالم، ومحيط به، وقد فطر الله عباده على الإيمان بعلوه سبحانه، وأنه في جهة العلو، وأجمع أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان على ذلك، والأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة المتواترة كلها تدل على أنه في العلو سبحانه، فتنبه لهذا الأمر العظيم أيها القارئ الكريم، واعلم أنه الحق وما سواه باطل، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة طه الآية 110(15/262)
فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى. وهي درجة الراسخين في العلم؛ لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود فإنكار العلم الموجود كفر، وادعاء العلم المفقود كفر. ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وترك طلب العلم المفقود.
ونؤمن باللوح والقلم، وبجميع ما فيه قد رقم. فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن ليجعلوه غير كائن، لم يقدروا عليه. ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائنا، لم يقدروا عليه. جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة. وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه.
وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه. فقدر ذلك تقديرا محكما مبرما. ليس فيه ناقض، ولا معقب، ولا مزيل ولا مغير. ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه. وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة والاعتراف بتوحيد الله تعالى وبربوبيته. كما قال تعالى في كتابه: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (1)
__________
(1) سورة الفرقان الآية 2(15/262)
{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} (1) .
فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيما. وأحضر للنظر فيه قلبا سقيما. لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرا كتيما. وعاد بما قال فيه أفاكا أثيما.
والعرش والكرسي حق. وهو مستغن عن العرش وما دونه. محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه.
مراده رحمه الله بالعلم المفقود هو علم الغيب، وهو مختص بالله عز وجل، ومن ادعاه من الناس كفر لقول الله سبحانه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (2) الآية، وقوله عز وجل: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (3) الآية.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله. ثم تلا قوله سبحانه: (5) » الآية. ولأحاديث صحيحة كثيرة وردت في الباب تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، مع أنه أفضل الخلق وسيد الرسل، فغيره من باب أولى، وهو صلى الله عليه وسلم لا يعلم من ذلك إلا ما علمه إياه سبحانه، ولما تكلم أهل الإفك في عائشة رضي الله عنها لم يعلم براءتها إلا بنزول الوحي، ولما ضاع عقدها في بعض أسفاره صلى الله عليه وسلم بعث جماعة في طلبه، ولم يعلم مكانه، حتى أقاموا البعير فوجدوه تحته، والأدلة من الكتاب والسنة في هذا كثيرة والحمد لله.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 38
(2) سورة الأنعام الآية 59
(3) سورة النمل الآية 65
(4) صحيح البخاري تفسير القرآن (4777) ، صحيح مسلم الإيمان (10) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4991) ، سنن ابن ماجه المقدمة (64) ، مسند أحمد بن حنبل (2/426) .
(5) سورة لقمان الآية 34 (4) {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ}(15/363)
ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلا. وكلم الله موسى تكليما. إيمانا وتصديقا وتسليما. ونؤمن بالملائكة والنبيين والكتب المنزلة على المرسلين، ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين. ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين. ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين. ولا نخوض في الله. ولا نماري في دين الله. ولا نجادل في القرآن، ونشهد أنه كلام رب العالمين. نزل به الروح الأمين. فعلمه سيد المرسلين محمدا صلى الله عليه وسلم، وهو كلام الله تعالى. لا يساويه شيء من كلام المخلوقين. ولا نقول بخلقه ولا نخالف جماعة المسلمين. ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله
قوله: (ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله)
مراده رحمه الله أن أهل السنة والجماعة لا يكفرون المسلم الموحد المؤمن بالله واليوم الآخر بذنب يرتكبه كالزنا وشرب الخمر بالربا وعقوق الوالدين وأمثال ذلك، ما لم يستحل ذلك، فإن استحله كفر لكونه بذلك مكذبا لله ولرسوله، خارجا عن دينه، أما إذا لم يستحل ذلك فإنه لا يكفر عند أهل السنة والجماعة، بل يكون ضعيف الإيمان، وله حكم ما تعاطاه من المعاصي في التفسيق وإقامة الحدود وغير ذلك، حسبما جاء في الشرع المطهر، وهذا هو قول أهل السنة والجماعة، خلافا للخوارج والمعتزلة ومن سلك مسلكهم الباطل، فإن الخوارج يكفرون بالذنوب، والمعتزلة يجعلونه في منزلة بين المنزلتين، يعني بين الإسلام والكفر في الدنيا، وأما في الآخرة فيتفقون مع الخوارج بأنه مخلد في النار، وقول الطائفتين باطل بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وقد التبس أمرهما على بعض الناس لقلة علمه، ولكن أمرهما بحمد الله واضح عند أهل الحق كما بينا، وبالله التوفيق. .(15/363)
ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله.
نرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته ولا(15/363)
نأمن عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة ونستغفر لمسيئهم، ونخاف عليهم ولا نقنطهم. والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام، وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة.
مراده رحمه الله إلا من شهد له الرسول بالجنة كالعشرة ونحوهم، كما يأتي ذلك في آخر كلامه. مع العلم بأن من عقيدة أهل السنة والجماعة الشهادة للمؤمنين والمتقين على العموم بأنهم من أهل الجنة، وأن الكفار والمشركين والمنافقين من أهل النار، كما دلت على ذلك الآيات الكريمات والسنة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قوله سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} (1) ، وقوله عز وحل: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} (2) في آيات كثيرات تدل على هذا المعنى، وقوله سبحانه في الكفار: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} (3) ، وقوله سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (4) في آيات أخرى تدل على هذا المعنى، وبالله التوفيق
__________
(1) سورة الطور الآية 17
(2) سورة التوبة الآية 72
(3) سورة فاطر الآية 36
(4) سورة النساء الآية 145(15/264)
ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه.
هذا الحصر فيه نظر؛ فإن الكافر يدخل في الإسلام بالشهادتين إذا كان لا ينطق بهما، فإن كان ينطق بهما دخل في الإسلام بالتوبة مما أوجب كفره، وقد يخرج من الإسلام بغير الجحود لأسباب كثيرة بينها أهل العلم في باب حكم المرتد، من ذلك طعنه في الإسلام أو في النبي صلى الله عليه وسلم، أو استهزاؤه بالله ورسوله أو بكتابه أو بشيء من شرعه سبحانه؛ لقوله سبحانه: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (1) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (2) ومن ذلك عبادته للأصنام أو الأوثان أو دعوته الأموات والاستعانة بهم وطلبه منهم المدد والعون ونحو ذلك؛ لأن هذا يناقض قول: لا إله إلا الله؛ لأنها تدل على أن العبادة حق لله وحده. ومنها الدعاء والاستعانة والركوع والسجود والذبح والنذر ونحو ذلك، فمن صرف منها شيئا لغير الله من الأصنام والأوثان والملائكة والجن وأصحاب القبور وغيرهم من المخلوقين، فقد أشرك بالله ولم يحقق قول: لا إله إلا الله. وهذه المسائل كلها تخرجه من الإسلام بإجماع أهل العلم، وهي ليست من مسائل الجحود بأدلتها معلومة من الكتاب والسنة، وهناك مسائل أخرى كثيرة يكفر بها المسلم، وهي لا تسمى جحودا، وقد ذكرها العلماء في باب حكم المرتد، فراجعها إن شئت، وبالله التوفيق.
__________
(1) سورة التوبة الآية 65
(2) سورة التوبة الآية 66(15/264)
والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان.
هذا التعريف فيه نظر وقصور، والصواب الذي عليه أهل الملة والجماعة أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر، وقد ذكر الشارح ابن أبي العز جملة منها، فراجعها إن شئت، وإخراج العمل من الإيمان هو قول المرجئة، وليس الخلف بينهم وبين أهل السنة فيه لفظيا، بل هو لفظي ومعنوي، ويترتب عليه أحكام كثيرة يعلمها من تدبر كلام أهل السنة وكلام المرجئة، والله المستعان.(15/264)
وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق. والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى. ومخالفة الهوى وملازمة الأولى.
والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن، أكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن. والإيمان: هو الإيمان بالله. وملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وحلوه ومره من الله تعالى. ونحن مؤمنون بذلك كله. لا نفرق بين أحد من رسله. ونصدقهم كلهم على ما جاءوا به. وأهل الكبائر (من أمة محمد صلى الله عليه وسلم) في النار، لا يخلدون إذا ماتوا، وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين. بعد أن لقوا الله عارفين (مؤمنين) ، وهم في مشيئته وحكمه. إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله. كما ذكر عز وجل في كتابه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) . وإن شاء عذبهم في النار بعدله. ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته. وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته. ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته الذين خابوا من هدايته. ولم ينالوا من ولايته. اللهم يا ولي الإسلام وأهله ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به.
ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم. ولا ننزل أحدا منهم جنة ولا نارا، ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق، ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى.
ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من وجب عليه السيف. ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا. وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يدا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا
__________
(1) سورة النساء الآية 48(15/265)
بمعصية. وندعو لهم بالصلاح والمعافاة، ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة. ونحب أهل العدل والأمانة، ونبغض أهل الجور والخيانة. ونقول: الله أعلم فيما اشتبه علينا علمه.
ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر. كما جاء في الأثر. والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم إلى قيام الساعة، لا يبطلها شيء ولا ينقضه. ونؤمن بالكرام الكاتبين فإن الله قد جعلهم علينا حافظين. ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين. وبعذاب القبر لمن كان له أهلا، وسؤال منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيه على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة رضوان الله عليهم.
قوله: (والإيمان واحد وأهله في أصله سواء) هذا فيه نظر، بل هو باطل، فليس أهل الإيمان فيه سواء، بل هم متفاوتون تفاوتا عظيما، فليس إيمان الرسل كإيمان غيرهم، كما أنه ليس إيمان الخلفاء الراشدين وبقية الصحابة رضي الله عنهم مثل إيمان غيرهم، كما أنه ليس إيمان المؤمنين كإيمان الفاسقين، وهذا التفاوت بحسب ما في القلب من العلم بالله وأسمائه وصفاته، وما شرعه لعباده، وهو قول أهل السنة والجماعة، خلافا للمرجئة ومن قال بقولهم، والله المستعان.(15/266)
والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران. ونؤمن بالبعث جزاء الأعمال يوم القيامة، والعرض والحساب، وقراءة الكتاب، والثواب والعقاب، والصراط والميزان، والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا ولا تبيدان. وأن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق، وخلق لهما أهلا، فمن شاء منهم إلى الجنة فضلا منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلا منه، كل يعمل لما قد فرغ له وصائر إلى ما خلق له.
والخير والشر مقدران على العباد. والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به، فهي مع الفعل. وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع. والتمكن وسلامة الآلات فهي قبل الفعل. وبها يتعلق الخطاب، وهو كما قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 286(15/266)
وأفعال العباد خلق لله. كسب من العباد. ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون ولا يطيقون إلا ما كلفهم، وهو تفسير (لا حول ولا قوة إلا بالله)(15/266)
نقول: لا حيلة لأحد ولا حركة لأحد ولا تحول لأحد عن معصية الله، إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله.
هذا غير صحيح، بل المكلفون يطيقون أكثر مما كلفهم به سبحانه، ولكنه عز وجل لطف لعباده ويسر عليهم ولم يجعل عليهم في دينهم حرجا؛ فضلا منه وإحسانا. والله ولي التوفيق(15/267)
وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره. غلبت مشيئته المشيئات كلها. وغلب قضاؤه الجهل كلها. يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبدا، تقدس عن كل سوء وحين وتنزه عن كل عيب وشين {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (1) .
وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات. والله تعالى يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات ويملك كل شيء. ولا يملكه شيء. ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين، ومن استغنى عن الله طرفة عين فقد كفر وصار من أهل الحين. والله يغضب ويرضى. لا كأحد من الورى.
ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا نفرط في حب أحد منهم. ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير. وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان.
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 23(15/267)
ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا لأبي بكر الصديق رضي الله عنه تفضيلا له، وتقديما على جميع الأمة. ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم لعثمان رضي الله عنه. ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهتدون.
وأن العشرة الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشرهم بالجنة نشهد لهم بالجنة على ما شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله الحق. وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وهو أمين هذه الأمة. رضي الله عنهم أجمعين.
ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأزواجه الطاهرات من كل دنس وذرياته المقدسين من كل رجس. فقد برئ من النفاق.
وعلماء السلف من السابقين. ومن بعدهم من التابعين. أهل الخير والأثر،(15/267)
وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل.
ولا نفضل أحدا من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام، ونقول: نبي واحد أفضل من جميع الأولياء.
ونؤمن بما جاء من كراماتهم، وصح عن الثقات من رواياتهم. ونؤمن بأشراط الساعة: من خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام من السماء. ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها. وخروج دابة الأرض من موضعها. ولا نصدق كاهنا ولا عرافا. ولا من يدعي شيئا يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة. ونرى الجماعة حقا وصوابا. والفرقة زيغا وعذابا. ودين الله في الأرض والسماء واحدا. وهو دين الإسلام. قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (1) . وقال: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2) ، وهو بين الغلو والتقصير. وبين التشبيه والتعطيل. وبين الجبر والقدر. وبين الأمن والإياس. فهذا ديننا واعتقادنا ظاهرا وباطنا. ونحن براء إلى الله من كل من خالف الذي ذكرناه وبيناه.
ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان. ويختم لنا به. ويعصمنا من الأهواء المختلفة والآراء المتفرقة والمذاهب الردية. مثل المشبهة. والمعتزلة. والجهمية. والجبرية والقدرية وغيرهم من الذين خالفوا السنة والجماعة. وحالفوا الضلالة، ونحن منهم براء وهم عندنا ضلال وأردياء. وبالله العصمة والتوفيق.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 19
(2) سورة المائدة الآية 3(15/268)
الشريعة الإسلامية منهاج رباني
مصون عن التزوير، غني عن التطوير
للشيخ سعد بن إبراهيم الخرعان
[كلمة تعقيب للباحث العلمي بالأمانة العامة لهيئة كبار العلماء سعد بن إبراهيم الخرعان ردا على ما ادعاه المدعو: عبد الله أحمد النعيم من احتياج التشريع الإسلامي للتطوير.]
الحمد لله القائل لنبيه في محكم التنزيل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (1) {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} (2) ، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه نبينا محمد القائل: «إنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا: فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (3) » . وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد كتب المدعو عبد الله أحمد النعيم مقالا في مجلة يصدرها المعهد البابوي، ونشر مضمونه في مجلة المنهل للسنة 49- المجلد 45- جمادى الأولى والآخرة سنة 1403 هـ، وقد احتوى المقال على عبارات ملتوية، وتساؤلات مشبوهة وراءها ما ظاهره يستوجب الرد نصيحة لله ولكتابه ولرسوله
__________
(1) سورة الجاثية الآية 18
(2) سورة الجاثية الآية 19
(3) رواه الترمذي وأبو داود والإمام أحمد وابن ماجه.(15/269)
وللأئمة المسلمين وعامتهم؛ إذ هو مقتضى المصلحة الشرعية، وواجب الأمانة العلمية.
فإلى القراء الكرام نسوق نص بعض عبارات المقال للوقوف عليه مع التعقيب، إذ قال: (حقوق الإنسان في الإسلام) ضرورة تطوير التشريع الإسلامي.
هذه أول عبارة عنون بها المقال، فالمتوقع أن يتحدث بكل أمانة عن حقوق مسمى الإنسان جملة وتفصيلا، ليضيف شيئا جديدا مما كرم الله به الإنسان في شرعته الحقة الخالدة، أو يذكر القراء بما علم إشادة بعدالة الإسلام، ولا سيما الأنظمة الوضعية التي ما ثمرتها إلا مثل ما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (1) لكن الكاتب نكص على عقبيه، فإذا به يحصر مسمى الإنسان تحت عنوانه في المرأة وغير المسلمين فحسب (وإن حقوقهما في الإسلام التميز ضدهما) . والرد على هذا الزعم نقول: لا شك أن التشريع الإسلامي متميز، لكن ليس متحيزا ضد أحد، وإنما إنزال لكل منزلته، وإيتاء كل ذي حق حقه؛ لأنه تشريع من رب العباد للعباد منهج رشد وحكم وعدل.
ولست أدري مكمن الضدية في جانب المرأة في نظر الكاتب، أهو جعلها على النصف من الرجل في بعض المسائل كبعض مسائل الميراث كميراث الأخت مع أخيها عند اتحاد ملتهما وكمال حريتهما، وجعل دينها وشهادتها فيما يشتركان فيه على النصف، أو لكونها لا تملك حق الطلاق وعقد النكاح، أو أنها كلفت بالاحتشام وتجنب التبرج والاختلاط مع من ليس بمحرم، أو الخلوة به في الأعمال الوظيفية أو غيرها مما به صيانة دينها وحفظ كرامتها وعرضها لتكون المرأة الصالحة لوظيفتها الشرعية بالمعنى الأوسع. إن هذه المسائل وأمثالها مما استقر حكمها بنصوص القرآن والسنة هي عين
__________
(1) سورة النور الآية 39(15/270)
الحكمة ومقتضى الفطرة، فلا تميز وتحيز، إذ هي في الإسلام أم أو أخت ذات قربى لها حق البر والصلة، أو زوجة لها فيه حق الرعاية وواجب القوامة بالمعروف، وهو في التشريع واضح جلي لا ينكره إلا متفلسف ذو هوى يريد إيهام المرأة لإقحامها في بؤرة الغواية ومنعطفات الانحراف باسم الحرية والمساواة الإنسانية دونما قيد شرعي أو وازع عقلي.
وما واقع المرأة في غير الإسلام إلا ما هو مشاهد مما يحزن القلوب ويندى الجبين.
أما ما تطرق إليه الكاتب بعبارة مجملة في جانب حقوق غير المسلمين في الإسلام بالضدية، فهو كزعمه الإجحاف نحو النساء دعوى مجردة من الصحة وتجاهل سافر لواقع التشريع الإسلامي تجاههما، بل تحامل لا مبرر له؛ إذ ذكر ما اعتبره مساوئ مجحفة وتعامى عن محاسن التشريع، وكله محاسن، ولا يقدح في الشريعة سوء الفقه فيها أو التطبيق لها من جاهل أو ذي هوى يهدف إلى إثارة ضغائن غير المسلمين على الإسلام وأهله، فماذا يريد منه تجاه غير المسلمين، وهم ما بين مشرك وثني، أو ملحد دهري، أو كتابي يهودي متعصب، أو نصراني ضال، حين قال الكاتب: ولكن إنسانية اليوم تطالب بأن يستلهم التشريع أكبر قدر ممكن من التوازن، فتصبح المساواة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية حقا قانونا تفرضه وتنفذه الشريعة الإسلامية.
أرأيت أيها القارئ الكريم رأي الكاتب ومطلبه من أن تكون الشريعة الإسلامية شرطي حراسة وأداة تنفيذ لرغبة علمانية في هذه القضايا الحيوية الثلاث، ومن ثم فالكل سواء في تركة مالية، ميراث الأخت كأخيها سواء بسواء، اتحدت الملة أو اختلفت، وكذا غيرها، ومثل هذه التسوية في مقادير الديات وغيرها، وإلغاء حكم الجزية لمساواة غير المسلم بالمسلم، وكذلك الشأن في الأمور السياسية إسقاط التميز في استحقاق منصب الزعامة وزمام القيادة وولاية القضاء وغير هذا بين المرأة والرجل، وبين المسلم وغير المسلم، أيا كانت ملته ونحلته؛ لجامع مسمى الإنسانية في هاتين القضيتين، وثالثتهما الناحية الاجتماعية، فمن لازم ذلك المطلب عدم اعتبار قوامة الرجل وما ميزته به الشريعة الإسلامية من كونه المستحق لعقد النكاح أو حل عقدته بالطلاق دون المرأة، ومن كون(15/271)
غير المسلم لا يحل له أن ينكح مسلمة أو تبقى في عصمته إن كان مؤمنا فارتد بعد الإيمان، ونحو هذه الميزات الشرعية؛ لعلو وشرف مرتبة الإيمان على مرتبة مسمى الإنسانية شرعا وعقلا ومنطقا وواقعا، قال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (1) ، وقال: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (2) {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} (3) {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (4) . وقال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} (5) هذا نص بأن لا تسوية في الثواب والمنزلة في الآخرة، فكذلك في الدنيا. وهذا التميز الحق هو من آثار حكمة الله وعدله بين عباده، كما أنه من آثار رحمته بهم؛ إذ هو في حقيقته حافز المزيد من الهدى والترفع عن أسباب الردى والوصول بالإنسانية إلى شاطئ النجاة وأسباب السعادة في الدارين تحت مظلة الأخوة الإيمانية وترابطها كالجسد الواحد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف المؤمنين: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر (6) » .
فأين واقع العلمانية المتناحرة من واقع الأخوة الإيمانية والإنسانية الإسلامية المتراحمة؟ وليس معنى ما تقدم من فوارق شرعية بين الرجل والمرأة، وبين المسلم وغير المسلم أنه فارق مطرد في أحكام الدنيا وجوانب شئون الحياة تجاه هذين الصنفين من البشر: المرأة وغير المسلمين. كلا، بل هناك مساواة في أمور جوهرية لا يتسع المقام لتفصيلها في عجالة مقال مثل هذا، لكن على سبيل المثال: المساواة في نظرة الإحسان ومقام العدل في الأحكام وعدم التعدي في النفس والعرض والمال والمعارف ما استقام غير المسلم على عهده ووفى بعقده ذكرا كان أو أنثى، سلما وحربا ثابتة معلومة، كما أن باب الاجتهاد
__________
(1) سورة ص الآية 28
(2) سورة القلم الآية 34
(3) سورة القلم الآية 35
(4) سورة القلم الآية 36
(5) سورة السجدة الآية 18
(6) رواه البخاري في كتاب الأدب باب رحمة الناس والبهائم، ومسلم في كتاب البر والصلة، واللفظ له ج 16 ص 140 بشرح النووي.(15/272)
مفتوح فيما لا نص فيه، أما ما استقر حكمه بنص قطعي فلا.
فإلى معشر القراء سيق بيان ما سلف من واقع النصيحة، للوقوف على مثل هذا التنقص للتشريع الإسلامي من الكاتب، إما جهلا بحقائق التشريع ومقاصده وإما غير ذلك، مما أمر باطنه فيه إلى الله تعالى، هداه الله ليعرف حقائق التشريع بعين البصيرة كما رآها علماء الإسلام والفقه فيه، وتلقتها الأمة المسلمة الواعية بالقبول جيلا بعد جيل، دونما طعن ولا اتهام، ودونما تزوير أو تغيير، وما ذاك إلا أنها إطار لشريعة متكاملة خالدة إلى أن يرث الله- مشرعها- الأرض ومن عليها، لا كما زعمه الكاتب حيث قال: (وإذا كان التشريع لا يفي بحاجات اليوم فهو على أي حال مرحلي، ولم يكن مقصودا ليبقى في جميع صوره وأحكامه العامة إلى الأبد) .
وإذ حررنا هذا لنضرع إلى الله أن يمنح الجميع الفقه في الدين، وأن لا يجعلنا وإخواننا المسلمين فتنة للقوم الظالمين، كما نسأله تعالى أن يحقق لنا ما وعد به حيث قال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (1) .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة الصف الآية 9(15/273)
توضيح حول
عمل المرأة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم واقتفى آثارهم إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد اطلعت على ما نشر في جريدة عكاظ يوم الثلاثاء 17 \ 8 \ 1405 هـ الذي يرد فيه الكاتب الأستاذ صالح محمد جمال على الأستاذ عزيز ضياء حول عمل المرأة.
كما اطلعت على فكرة مصطفى أمين في جريدة الشرق الأوسط عدد الجمعة 20 \ 8 \ 1405 هـ. وقد كان الأستاذ صالح موفقا في رده وفيما تعرض له من وجهة نظر بعيدة المدى حول عمل المرأة أثابه الله.
ومن المؤلم أن يتعرض عزيز ضياء ومثله مصطفى أمين لأمور في عمل المرأة تتنافى مع المقاصد الإسلامية، وحث الإسلام على حماية المرأة والمحافظة عليها. وفي حمايتها حماية للمجتمع عن الانزلاق والتردي فيما وقع فيه غيرنا من أعمال أصبحوا لا يجدون منها فكاكا.
ذلك أن من المعلوم بأن نزول المرأة للعمل في ميدان الرجال يؤدي إلى الاختلاط المذموم والخلوة بهن، وذلك أمر خطير جدا له تبعاته الخطيرة، وثمراته المرة، وعواقبه الوخيمة، وهو مصادم للنصوص الشرعية التي تأمر المرأة بالقرار في بيتها والقيام بالأعمال التي تخصها وفطرها الله عليها، مما تكون فيه بعيدة عن مخالطة الرجال.
والأدلة الصريحة الدالة على تحريم الخلوة بالأجنبية، وتحريم النظر إليها، وتحريم الوسائل الموصلة إلى الوقوع فيما حرم الله أدلة كثيرة محكمة قاضية بتحريم الاختلاط المؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، منها قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (1) {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} (2) .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 33
(2) سورة الأحزاب الآية 34(15/274)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (1) ، وقال الله جل وعلا: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (2) {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} (3) الآية.
وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (4) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «إياكم والدخول على النساء (يعني الأجنبيات) فقال: رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت (5) » . ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخلوة بالمرأة الأجنبية على الإطلاق. وقال: إن ثالثهما الشيطان. وعن السفر إلا مع ذي محرم سدا لذريعة الفساد. وإغلاقا لباب الإثم، وحسما لأسباب الشر، وحماية للنوعين من مكائد الشيطان.
ولهذا صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء (6) » . وقال صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي في أمتي فتنة أضر على الرجال من النساء (7) » .
وهذه الآيات والأحاديث صريحة الدلالة في وجوب الابتعاد عن الاختلاط المؤدي إلى الفساد وتقويض الأسر وخراب المجتمعات التي سبقت إلى هذا
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 59
(2) سورة النور الآية 30
(3) سورة النور الآية 31
(4) سورة الأحزاب الآية 53
(5) رواه البخاري ''فتح الباري'' كتاب النكاح لا يخلون رجل بامرأة ج9 ص330
(6) رواه مسلم في كتاب الرقاق، باب الفتنة بالنساء ج17 ص55.
(7) رواه البخاري ''فتح الباري'' كتاب النكاح باب ما يتقى من شوم ج9 ص137، ومسلم في كتاب الرقاق باب الفتنة بالنساء ج17 ص54(15/275)
الأمر الخطير، وصارت تتحسر على ما فعلت، وتتمنى أن تعود إلى حالنا التي نحن عليه الآن، وخصنا بها الإسلام.
لماذا لا ننظر إلى وضع المرأة في بعض البلدان الإسلامية المجاورة كيف أصبحت مهانة مبتذلة بسبب إخراجها من بيتها وجعلها تقوم في غير وظيفتها، لقد نادى العقلاء هناك وفي البلدان الغربية بوجوب إعادة المرأة إلى وضعها الطبيعي الذي هيأها الله له وركبها عليه جسميا وعقليا، ولكن بعدما فات الأوان.
ألا فليتق الله المسئولون عن المرأة والتخطيط لعملها، وليراقبوه سبحانه فلا يفتحوا على الأمة بابا خطيرا من أبواب الشر إذا فتح كان من الصعب إغلاقه. وليعلموا أن النصح لهذا البلد حكومة وشعبا هو العمل على ما يبقيه مجتمعا متماسكا قويا سائرا على نهج الكتاب والسنة وعمل سلف الأمة، وسد أبواب الفساد والخطر، وإغلاق منافذ الشرور والفتن، ولا سيما ونحن في عصر تكالب الأعداء فيه على المسلمين، وأصبحنا أشد ما نكون حاجة إلى عون الله ودفعه عنا شرور أعدائنا ومكائدهم، فلا يجوز لنا أن نفتح أبوابا من الشر مغلقة.
ولقد أحسن جلالة الملك فهد بن عبد العزيز أدام الله توفيقه فيما أصدر من التعميم المبارك برقم 2966 \ م وتاريخ 19 \ 9 \ 1404 هـ في الموضوع وهذا نصه: " نشير إلى الأمر التعميمي رقم 11651 في 16 \ 5 \ 1404 هـ المتضمن أن السماح للمرأة بالعمل الذي يؤدي إلى اختلاطها بالرجال سواء في الإدارات الحكومية أو غيرها من المؤسسات العامة أو الخاصة أو الشركات أو المهن ونحوها أمر غير ممكن، سواء كانت سعودية أو غير سعودية؛ لأن ذلك محرم شرعا، ويتنافى مع عادات وتقاليد هذه البلاد. وإذا كان يوجد دائرة تقوم بتشغيل المرأة في غير الأعمال التي تناسب طبيعتها أو في أعمال تؤدي إلى اختلاطها بالرجال، فهذا خطأ يجب تلافيه وعلى الجهات الرقابية ملاحظة ذلك والرفع عنه.
ولعل فيما ذكرنا ما يذكر المسئولين وسائر الكتاب بما يجب عليهم من مراعاة أمر الله ورسوله، والنظر فيما تمليه المصلحة العامة لهذه الأمة، والاستفادة مما يكتبه الناصحون في هذا المجال ممن لديهم خبرة بالواقع وغيره.(15/276)
لأن في ميدان عمل النساء في بيوتهن من التدريس والطب وغيرهما مما يتعلق بالنساء ما يغنيهن عن التوظيف في ميدان عمل الرجال، وأسأل الله أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين جميعا من مكايد الأعداء ومخططاتهم المدمرة، وأن يوفق المسئولين وسائر الكتاب إلى حمل الناس على ما يصلح شئونهم في الدنيا والآخرة؛ تنفيذا لأمر ربهم وخالقهم، والعالم بمصالحهم، وأن يوفق المسئولين في ديار الإسلام لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد، وفي أمر المعاش والمعاد، وأن يعيذنا وإياهم وسائر المسلمين من مضلات الفتن وأسباب النقم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعهم بإحسان.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(15/277)
لقاء مع سماحة الرئيس
أجرته صحيفة الجزيرة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. . . وبعد:
فقد توجهت صحيفة الجزيرة إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز بعدة أسئلة مهمة فتفضل سماحته بالإجابة عنها مشكورا.
سؤال: ما هو تعريف الغزو الفكري للإسلام وما أهدافه؟
جواب: الغزو الفكري هو مصطلح حديث يعني مجموعة الجهود التي تقوم بها أمة من الأمم للاستيلاء على أمة أخرى أو التأثير عليها حتى تتجه وجهة معينة. وهو أخطر من الغزو العسكري؛ لأن الغزو الفكري ينحو إلى السرية وسلوك المسارب الخفية في بادئ الأمر، فلا تحس به الأمة المغزوة ولا تستعد لصده والوقوف في وجهه حتى تقع فريسة له، وتكون نتيجته أن هذه الأمة تصبح مريضة الفكر والإحساس، تحب ما يريده لها عدوها أن تحبه وتكره ما يريد منها أن تكرهه.
وهو داء عضال يفتك بالأمم، ويذهب شخصيتها، ويزيل معاني الأصالة والقوة فيها، والأمة التي تبتلى به لا تحس بما أصابها ولا تدري عنه، ولذلك يصبح علاجها أمرا صعبا وإفهامها سبيل الرشد شيئا عسيرا.(15/278)
سؤال: هل يتعرض العرب عامة والمملكة خاصة لهذا النوع من الغزو؟
جواب: نعم، يتعرض المسلمون عامة ومنهم العرب لغزو فكري عظيم، تداعت به عليهم أمم الكفر من الشرق والغرب، ومن أشد ذلك وأخطره:
1 - الغزو النصراني الصليبي.
2 - الغزو اليهودي.
3 - الغزو الشيوعي الإلحادي.(15/278)
أما الغزو النصراني الصليبي فهو اليوم قائم على أشده، ومنذ أن انتصر صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين الغازين لبلاد المسلمين بالقوة والسلاح أدرك النصارى أن حربهم هذه وإن حققت انتصارات فهي وقتية لا تدوم، ولذا فكروا في البديل الأفضل وتوصلوا بعد دراسات واجتماعات إلى ما هو أخطر من الحروب العسكرية، وهو أن تقوم الأمم النصرانية فرادى وجماعات بالغزو الفكري لناشئة المسلمين؛ لأن الاستيلاء على الفكر والقلب أمكن من الاستيلاء على الأرض، فالمسلم الذي لم يلوث فكره لا يطيق أن يرى الكافر له الأمر والنهي في بلده، ولهذا يعمل بكل قوته على إخراجه وإبعاده، ولو دفع في سبيل ذلك حياته، وأغلى ثمن لديه، وهذا ما حصل بعد الانتصارات الكبيرة للجيوش الصليبية الغازية، أما المسلم الذي تعرض لذلك الغزو الخبيث فصار مريض الفكر عديم الإحساس، فإنه لا يرى خطرا في وجود النصارى أو غيرهم في أرضه، بل قد يرى أن ذلك من علامات الخير، ومما يعين على الرقي والحضارة، وقد استغنى النصارى بالغزو الفكري عن الغزو المادي؛ لأنه أقوى وأثبت، وأي حاجة لهم في بعث الجيوش وإنفاق الأموال مع وجود من يقوم بما يريدون من أبناء الإسلام عن قصد أو عن غير قصد وثمن، أو بلا ثمن، ولذلك لا يلجأون إلى محاربة المسلمين علانية بالسلاح والقوة إلا في الحالات النادرة الضرورية التي تستدعي العجل، كما حصل في غزو أوغندا، وكالأفغان حاليا، أو عندما تدعو الحاجة إليها لتثبيت المنطلقات وإقامة الركائز وإيجاد المؤسسات التي تقوم بالحرب الفكرية الضروس، كما حصل في مصر وسوريا والعراق وغيرها قبل الجلاء.
أما الغزو اليهودي فهو كذلك؛ لأن اليهود لا يألون جهدا في إفساد المسلمين في أخلاقهم وعقائدهم، ولليهود مطامع في بلاد المسلمين وغيرها، ولهم مخططات أدركوا بعضها ولازالوا يعملون جاهدين لتحقيق ما تبقى، وهم وإن حاربوا المسلمين بالقوة والسلاح واستولوا على بعض أرضهم، فإنهم كذلك يحاربونهم في أفكارهم ومعتقداتهم، ولذلك ينشرون فيهم مبادئ ومذاهب ونحلا باطلة، كالماسونية والقاديانية والبهائية والتجانية وغيرها، ويستعينون بالنصارى وغيرهم في تحقيق مآربهم وأغراضهم.
أما الغزو الشيوعي الإلحادي فهو اليوم(15/279)
يسري في بلاد الإسلام سريان النار في الهشيم؛ نتيجة للفراغ وضعف الإيمان في الأكثرية، وغلبة الجهل وقلة التربية الصحيحة والسليمة، فقد استطاعت الأحزاب الشيوعية في روسيا والصين وغيرهما أن تتلقف كل حاقد وموتور من ضعفاء الإيمان، وتجعلهما ركائز في بلادهم ينشرون الإلحاد والفكر الشيوعي الخبيث، وتعدهم وتمنيهم بأعلى المناصب والمراتب، فإذا ما وقعوا تحت سيطرتها أحكمت أمرها فيهما وأدبت بعضهم ببعض، وسفكت دماء من عارض أو توقف، حتى أوجدت قطعانا من بني الإنسان حربا على أممهم وأهليهم وعذابا على إخوانهم وبني قومهم، فمزقوا بهم أمة الإسلام، وجعلوهم جنودا للشيطان، يعاونهم في ذلك النصارى واليهود بالتهيئة والتوطئة أحيانا، وبالمدد والعون أحيانا أخرى؛ ذلك أنهم وإن اختلفوا فيما بينهم فإنهم جميعا يد واحدة على المسلمين، يرون أن الإسلام هو عدوهم اللدود، ولذا نراهم متعاونين متكاتفين بعضهم أولياء بعض ضد المسلمين، فالله سبحانه المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل.(15/280)
سؤال: غلاء المهور مشكلة اجتماعية لا بد من وضع حل لها. فما هو رأيكم في هذه المشكلة الخطيرة؟
جواب: لا شك أن غلاء المهور مشكلة اجتماعية يجب التعاون بين الدولة والعلماء وأعيان البلاد في حلها، وذلك بالتواصي بتخفيف المهور وبيان فوائد ذلك، وفعل ذلك عمليا حتى يقتدى بمن فعل ذلك من الأمراء والعلماء والأعيان.
وقد ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصدق أحدا من نسائه أكثر من خمسمائة درهم، وهو صلى الله عليه وسلم القدوة في أقواله وأعماله، وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «خير الصدق أيسره (1) » . وقال عليه السلام: «أبركهن أيسرهن مهورا» . وقد زوج صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه امرأة على أن يعلمها شيئا من القرآن الكريم لما لم يجد عنده مالا.
والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، والآثار من السلف الصالح كلها تدل على شرعية التسامح في المهور، وعدم التكلف في الولائم، ولا شك أن التسابق في هذه الأمور مما يسبب مبادرة الشباب للزواج وإعفاف الكثير منهم ومن الفتيات، وحماية المجتمع من مكائد الشيطان ونزغاته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا
__________
(1) سنن أبو داود النكاح (2117) .(15/280)
معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء (1) » . متفق على صحته.
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5065) ، صحيح مسلم النكاح (1400) ، سنن الترمذي النكاح (1081) ، سنن النسائي النكاح (3211) ، سنن أبو داود النكاح (2046) ، سنن ابن ماجه النكاح (1845) ، مسند أحمد بن حنبل (1/378) ، سنن الدارمي النكاح (2165) .(15/281)
سؤال: ما حكم استثمار الأموال في البنوك. علما بأن هذه البنوك تعطي فائدة لوضع المال فيها؟
جواب: من المعلوم عند أهل العلم بالشريعة الإسلامية أن استثمار الأموال في البنوك بفوائد ربوية محرم شرعا كبيرة من الكبائر ومحاربة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (2) . وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء (3) » أخرجه مسلم في صحيحه.
وخرج البخاري في الصحيح عن أبي جحيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «لعن آكل الربا وموكله (4) » ولعن المصور. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: اجتنبوا السبع الموبقات. قلنا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات.
والآيات والأحاديث في هذا المعنى، وهو تحريم الربا والتحذير منه كثيرة
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) صحيح مسلم المساقاة (1598) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) .
(4) صحيح مسلم المساقاة (1597، 1598) ، سنن الترمذي البيوع (1206) ، سنن أبو داود البيوع (3333) ، سنن ابن ماجه التجارات (2277) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي البيوع (2535) .(15/281)
جدا. فالواجب على المسلمين جميعا تركه والحذر منه، والتواصي بشركه، والواجب على ولاة الأمور من المسلمين منع القائمين على البنوك في بلادهم من ذلك، وإلزامهم بحكم الشرع المطهر تنفيذا لحكم الله، وحذرا من عقوبته، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (1) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (2) .
وقال عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (3) الآية.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه (4) » .
والآيات والأحاديث في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة ومعلومة، فنسأل الله للمسلمين جميعا حكاما ومحكومين وعلماء وعامة التوفيق للتمسك بشريعته والاستقامة عليها، والحذر من كل ما يخالفها إنه خير مسئول.
__________
(1) سورة المائدة الآية 78
(2) سورة المائدة الآية 79
(3) سورة التوبة الآية 71
(4) سنن الترمذي الفتن (2168) ، سنن ابن ماجه الفتن (4005) .(15/282)
سؤال: مسيحي دخل الإسلام، ولكن مع الأسف يلقى مضايقة كبيرة من أهله لصغر سنه. يتخفى عن أهله في صلاته وعبادته.
كيف يرى سماحتكم من الواجب عليه أن يعمل تجاه والديه؟
جواب: لا حرج عليه أن يخفي إسلامه عن والديه إذا كان يضايقانه حتى يجعل الله له فرجا ومخرجا. يجب عليه أن يهاجر من بلاده إلى بلاد يظهر فيها دينه ويتعلم فيها أحكامه إذا استطاع ذلك. ويجب على إخوانه المسلمين العارفين بحاله أن يساعدوه ويعاونوه بكل ما يخلصه من مضايقة والديه ويعينه على فهم دينه والتفقه فيه؛ لقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1) ، وقوله سبحانه وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (2)
__________
(1) سورة الحجرات الآية 10
(2) سورة التوبة الآية 71(15/282)
الآية. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مؤمن كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة (1) » . متفق على صحته من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) ، مسند أحمد بن حنبل (2/68) .(15/283)
سؤال: هناك من دعاة التمدن من يجوز النظر إلى وجه زوجة الأخ، ويستدلون ببعض الأدلة. ما مدى صحتها وكيف يرى سماحتكم الرد عليها والتصدي لها؟
جواب: زوجة الأخ كغيرها من النساء الأجنبيات، لا يحل لأخيه النظر إليها كزوجة العم والخال ونحوهما. ولا يجوز له الخلوة بواحدة منهن كسائر الأجنبيات، وليس لواحدة منهن أن تكشف لأخي زوجها أو عمه أو خاله أو يسافر أو يخلو بها؛ لعموم قوله سبحانه: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (1) الآية. وهي عامة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن في أصح قولي أهل العلم، ولقوله سبحانه: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (2) {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} (3) الآية.
وقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} (4) الآية.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 53
(2) سورة النور الآية 30
(3) سورة النور الآية 31
(4) سورة الأحزاب الآية 59(15/283)
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم (1) » متفق عليه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما (2) » ، ولما في كشفها لأخي زوجها ونحوه ونظره إلى وجهها من أسباب الفتنة والوقوع فيما حرم الله.
وهذه الأمور والله أعلم هي الحكمة في وجوب الحجاب، وتحريم النظر والخلوة؛ لأن الوجه هو مجمع المحاسن. والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1862) ، صحيح مسلم الحج (1341) ، سنن ابن ماجه المناسك (2900) ، مسند أحمد بن حنبل (1/222) .
(2) سنن الترمذي الفتن (2165) ، مسند أحمد بن حنبل (1/18) .(15/384)
سؤال: هل يجوز استعمال حبوب منع الحمل لتأخير الحيض عند المرأة في شهر رمضان؟
جواب: لا حرج في ذلك لما فيه من المصلحة للمرأة في صومها مع الناس وعدم القضاء مع مراعاة عدم الضرر منها؛ لأن بعض النساء تضرهن الحبوب.(15/384)
سؤال: المرأة الحائض هل يجوز لها قراءة القرآن أثناء الدورة الشهرية؟ ومتى أجبرت من قبل المدرسة فماذا تعمل؟
جواب: يجوز في أصح قولي العلماء، لكن من دون مس المصحف لأن مدة الحيض والنفاس تطول، وربما تنسى المرأة ما حفظت لأنها قد تحتاج إلى القراءة لكونها مدرسة أو طالبة، بخلاف الجنب فليس له أن يقرأ القرآن حتى يغتسل؛ لما ورد في شأنه من الحديث الصحيح عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان لا يحجزه شيء عن القرآن سوى الجنابة (1) » . رواه أحمد وأهل السنن بإسناد حسن.
ولأن مدة الجنابة لا تطول، فبإمكانه أن يغتسل فور قضائه من حاجته ثم يقرأ إذا شاء.
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (146) ، سنن النسائي الطهارة (265) ، سنن أبو داود الطهارة (229) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (594) ، مسند أحمد بن حنبل (1/84) .(15/384)
سؤال: يقول البعض: إن تغطية المرأة رأسها أثناء قراءة القرآن بدعة، فهل هذا صحيح؟
جواب: لا أعلم أصلا لما يقوله بعض العامة في شرعية تغطية المرأة رأسها عند قراءة القرآن، وبذلك يكون التعبد به بدعة. ومعلوم أن ذلك إنما يجوز إذا لم يكن لديها رجل من غير محارمها.(15/384)
سؤال: ما حكم إقامة أعياد الميلاد؟
جواب: الاحتفال بأعياد الميلاد لا أصل له في الشرع المطهر، بل هو بدعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » . متفق على صحته.
وفي لفظ لمسلم وعلقه البخاري رحمه الله في صحيحه جازما: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » . ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتفل بمولده مدة حياته ولا أمر بذلك. ولا علمه أصحابه، وهكذا خلفاؤه الراشدون. وجميع أصحابه لم يفعلوا ذلك، وهم أعلم الناس بسنته، وهم أحب الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأحرصهم على اتباع ما جاء به، فلو كان الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم مشروعا لبادروا إليه. وهكذا العلماء في القرون المفضلة لم يفعله أحد منهم ولم يأمر به. فعلم بذلك أنه ليس من الشرع الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم. ونحن نشهد الله سبحانه وجميع المسلمين أنه صلى الله عليه وسلم لو فعله أو أمر به أو فعله أصحابه رضي الله عنهم لبادرنا إليه ودعونا إليه لأننا، والحمد لله من أحرص الناس على اتباع سنته وتعظيم أمره ونهيه. ونسأل الله لنا ولجميع إخواننا المسلمين الثبات على الحق والعافية من كل ما يخالف شرع الله المطهر إنه جواد كريم.
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(15/285)
سماحة الشيخ يحذر من بعض الكتب
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإنه لا يخفى كثرة انتشار الكتب التي تحمل العناوين البراقة باسم الإسلام، وقد تبين لي في كثير منها الخطر على عقيدة المسلمين، فرأيت أن من الواجب علي التنبيه وتحذير القراء مما يحمله بعضها من الأفكار الهدامة والعقائد المضللة والدعوة إلى التحلل الخلقي، وسوف أوالي إن شاء الله تباعا نشر أسماء الكتب المذكورة التي يجب منع دخولها إلى المملكة أو طباعتها فيها أو بيعها في المكتبات التجارية داخل المملكة؛ نصحا لله ولعباده وحماية للمسلمين من شر ما فيها، وذلك بعد التثبت والتأكد مما فيه من الجهة المختصة لدينا، وإليكم القائمة الأولى منها، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
(
(القائمة الأولى
)
. ... الكتاب ... المؤلف
1 - ... المنهاج ... طاهر القاص
2 - ... تبسيط العقائد الإسلامية ... حسن أيوب
3 - ... تفسير معاني القرآن ... شبير أحمد عثماني \ ترجمة محمد إشفاف أحمد
4 - ... موسم الهجرة إلى الشمال ... الطيب صالح
5 - ... أبو العلاء المعري ... أحمد الطويلي
6 - ... ديوان الجوهر المكنون والسر المصون ... علي محمد شيخ الحبش
7 - ... خمسة من أبناء النبي ... صلاح عزام
8 - ... الصلاة (مسودة) ... يعقوب محمد إسحاق
9 - ... صلاة العيدين (مسودة) ... يعقوب محمد إسحاق
10 - ... رسالة إلى رجل خائف ... عبد الإله عبد الرزاق
. ... اللهيب والرماد (مسودة) ... عبد الحميد
11 - ... الشبح ... موفق حميد
12 - ... أستاذ القلوب ... موفق حميد
13 - ... الخيال والحقيقة ... موفق حميد
14 - ... رعب في الأدغال ... موفق حميد
15 - ... الحب ليس كل شيء ... موفق حميد
16 - ... غدا يبدأ الفرح ... موفق حميد
17 - ... صراع ... موفق حميد
18 - ... مقدمات وأبحاث ... محمود عبد المولى
19 - ... معاني القرآن الكريم ... م \ الليثورمي \ ترجمة محمد ضيف الله
20 - ... الإمام السرهندي حياته أعماله ... أبو الحسن الندوي
الرئيس العام
لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز.(15/286)
كشاف مجلة البحوث الإسلامية
من العدد الأول إلى الخامس عشر
إعداد \ أمين سليمان سيدو
أمين سليمان سيدو
من مواليد محافظة الحسكة \ سورية، 1956 م
ليسانس في علم المكتبات والمعلومات من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1403 هـ، وهو الآن بصدد مواصلة الدراسات العليا في الجامعة ذاتها.
التحق بدورتين أقامتهما جامعة الإمام، إحداهما عن " الخدمات المكتبية للمعاقين " والأخرى عن: " المكتبات العامة ".
يعمل مشرفا على مكتبات جمعية الثقافة والفنون منذ تخرجه ولا زال. .
له ديوان شعر " مخطوط "
أعد الببليوغرافيات التالية:
1 - فهرس إصدارات جمعية الثقافة والفنون
2 - الخط والكتابة العربية (بالاشتراك) مع خالد أحمد اليوسف
3 - القدس
4 - الفن التشكيلي السعودي
5 - الفن والفنانون
6 - الشعر السعودي المعاصر
7 - تاريخ الأكراد
8 - الأدب واللغة الكردية
9 - صلاح الدين الأيوبي والحروب الصليبية
10 - وله أيضا مشاركات كتابية في الدوريات المحلية، وبعض المجلات العربية.(15/288)
مقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وآله وصحبه، وبعد. . .
فإن هذا الكشاف يغطي المقالات والبحوث والدراسات التي وردت في مجلة البحوث الإسلامية من العدد الأول (1395هـ) إلى العدد الخامس عشر (1406 هـ) .
وقد نظم على النحو التالي:
1 - المدخل الرئيسي الذي جمعت تحته المقالات هو: رأس الموضوع. علما بأننا اعتمدنا في اختيار رءوس الموضوعات على (قائمة رءوس الموضوعات العربية) ، التي أعدها قسم الفهرسة والتصنيف بجامعة الملك سعود (الرياض سابقا) ، بإشراف الدكتور ناصر محمد السويدان، مع الاجتهاد الشخصي في بعض المواضع، وقد رتبت هجائيا.
2 - رتبت المواد هجائيا تحت رءوس الموضوعات، حسب الاسم الأخير للمؤلف، أو حسب العناوين إذا لم يذكر المؤلف.
3 - اعتمد في الترتيب الهجائي القواعد التالية:
(أ) الألف الممدودة تسبق الألف العادية.
(ب) حذف الألقاب العلمية والدينية والاجتماعية. . وكذلك كلمة (ابن) و (أبو) و (ال) التعريف من الترتيب.
4 - أعطيت المواضيع أرقاما متسلسلة، لكي يسهل الإحالة إليها من كشافي المؤلف والعنوان.
5 - روعي أن تكون البيانات المعطاة عن كل مادة، كاملة بقدر المستطاع.(15/289)
6 - استخدم في الكشاف إحالتان، وهما:
(أ) إحالة انظر: وقد استخدمت للإحالة من رءوس الموضوعات غير المستخدمة إلى رءوس الموضوعات المستخدمة في القائمة، مثال ذلك: الدعوة الوهابية انظر الحركة الوهابية.
(ب) إحالة انظر أيضا: وقد استخدمت للإحالة من رءوس الموضوعات المستخدمة إلى رءوس موضوعات أخرى مستخدمة، مثال ذلك:
الفقه الإسلامي انظر أيضا الشرع الإسلامي
7 - في نهاية المواد يوجد كشافان هجائيان: الأول بأسماء المؤلفين والمحققين، والآخر بعناوين المقالات.
8 - البيانات الببليوغرافية التي جاءت في كل مدخل هي:
اسم كاتب المقال- عنوان المقال- العدد- تاريخ الإصدار- أرقام الصفحات.
والآن هذه بطاقة مع الإيضاح لمحتوياتها:
الأحكام الشرعية (1)
1 - (2) بن باز، عبد العزيز بن عبد الله (3)
"حكم الاحتفال بالموالد" (4) ، ع 9 (5) ، (محرم- جمادى الثانية (6) ، 1400هـ (7) ، ص ص (8) 256-259.
(1) رأس الموضوع.
(2) الرقم المسلسل.
(3) المؤلف.
(4) عنوان المقال.
(5) رقم العدد.
(6) من شهر كذا إلى شهر كذا.
(7) تاريخ النشر.
(8) من صفحة كذا إلى صفحة كذا.(15/290)
ختاما أرجو أن أكون قد قدمت خدمة متواضعة للباحثين والدارسين، للوصول إلى موضوعات هذه المجلة بسهولة ويسر.
والله ولي التوفيق(15/291)
فهرس الموضوعات
- مقدمة
- الأحكام الشرعية 1-29
- الإسراء والمعراج 30
- الإسلام 31- 35
- الإسلام- تراجم 36- 49
- إسلام، يوسف (مقابلات) 50
- الإلحاد 51
- الأمومة 52
- الأناشيد الدينية 53
- الأنبياء والرسل 55-56
- الإيمان 57
- بن باز، عبد العزيز بن عبد الله (مقابلات) 58-62
- البلاغة النبوية 63
- التبشير 64
- التجانية 65
- تحقيق النصوص 66-67
- التصوف 68
- التضامن الإسلامي 69
- تقارير 70
- التوبة إلى الله 71
- التوحيد 72
- الجبر 73-74
- الجهاد في الإسلام 75
- الحديث 76-78(15/292)
- الحديث- أحكام 79
- الحديث- أسلوب 80
- الحدود الشرعية 81
- الحج والعمرة 82-83
- الحرب والصلح في الإسلام 84
- الحركة الوهابية 85-86
- الحسبة 87
- حوارات 88-89
- الخمور 90
- الدعوة الإسلامية 91- 95
- الربا 96-99
- رسالة المسجد 100-114
- الرسائل 114
- الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء 115
- الزكاة 116
- الزوائد والطلاق 117- 120
- السعودية - الجامعات والكليات (جامعة الرياض) 121
- السعودية - ملوك وحكام- الملك فيصل 122
- الشباب- الإسلام 123
- الشرع الإسلامي 124
- الشريعة الإسلامية 125-134
- الشعائر الدينية 135
- الشعر العربي- قصائد 136
- الشهادة 137
- الشهادة الشرعية 138
- الصلاة 139
- الطوائف الإسلامية 140(15/293)
- العبادات 141
- العسكرية الإسلامية 142
- العقود 143
- العقيدة الإسلامية 144-146
- الفتاوى الشرعية 147-204
- الفقه الإسلامي 205-210
- الفقه الشافعي 211
- الفلسفة 212-213
- القبلة (الصلاة) 214- 216
- القدس 217
- القرآن 218- 220
- القرآن- أحكام 221
- القرآن- الإعجاز 222
- القرآن- ألفاظ ومعان 223-224
- القرآن- ترجمة 225
- القرآن- تفسير 226-227
- القضاء- الإسلام 228
- الكتابة 229
- الكتب، مراجعات (العربية) 230- 235
- الكتب، مراجعات (لغات أخرى) 236
- الكيمياء عند العرب 237
- الله 238-243
- لعب الأطفال 244
- اللغة العربية 245-246
- اللغة العربية- قواميس 247
- مجلة البحوث الإسلامية 248- 251
- المساعدات الاقتصادية- أفريقيا 252(15/294)
- المسلمون في أمريكا 253 -254
- المسلمون في إنجلترا 255
- المسيح 256
- المصاحف 257-258
- بن معاذ، سعد 259
- المعارك الحربية الإسلامية 260
- المعاملات الشرعية 261
- مؤتمرات 262-269
- نواقض الإسلام 270
- وثائق تاريخية 271(15/295)
الأحكام الشرعية
انظر أيضا الشريعة الإسلامية.
القرآن- أحكام.
الحديث- أحكام.
1 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"الافتتاحية: حكم الاختلاط في التعليم "، ع 15، (ربيع الأول- جمادى الآخرة، 1406هـ) ، ص ص 6- 11.
2 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"الافتتاحية: نصح- وتذكير- وتنبيه على مسائل التعزية- والختان- والحلف بغير الله "، ع 14، (ذو القعدة- صفر، 1405-1406 هـ) ص ص 7-13.
3 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"حكم الاحتفال بالموالد"، ع 1، مج 2، (محرم- جمادى الثانية، 1400هـ) ، ص ص 256-259.
4 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"حكم الحيوان المذبوح بالصعق الكهربائي "، ع 13، (رجب- شوال، 1405هـ) ، ص ص 335-336.
5 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"حكم السفور والحجاب "، ع 14، (ذو القعدة- صفر 1405-1406هـ) ، ص ص 15-24.
6 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"حكم نكاح الشغار"، ع 14، (ذو القعدة- صفر 1405-1406هـ) ، ص ص 25-28.(15/296)
7 - البرقاوي، يوسف بن عبد الرحمن.
"تحريم الرشوة"، ع 14، (ذو القعدة- صفر، 1405-1406هـ ص ص 297-316.
8 - الزبن، عبد الله بن محمد.
"حكم الشهادة تحملا وأداء"، ع 7، (رجب- شوال 1403هـ) ص ص 249-258.
9 - الصالح، محمد بن أحمد.
"التسعير في نظر الشريعة الإسلامية"، ع 4، مج 1، (محرم- جمادى الثانية 1398هـ) ، ص ص 199-242.
10 - الطريقي، عبد الله بن محمد.
"حكم بيع العينة"، ع 14، (ذو القعدة- صفر، 1405-1406هـ) ، ص ص 261-294.
11 - العبد المنعم، عبد العزيز بن محمد.
"مشروعية استملاك العقار للمنفعة العامة"، ع 7، (رجب- شوال 1403هـ) ، ص ص 259-267.
12 - العلواني، طه جابر.
"تعليل الأحكام الشرعية واختلاف العلماء فيه، وحقيقة موقف الحنابلة منه، وأثر ذلك في حجية القياس "، ع10، (رجب- شوال 1404هـ) ، ص ص 167-208.
13 - الفوزان، صالح بن فوزان.
"حكم تناول الميتة"، ع 9، (ربيع الأول- جمادى الثانية، 1404 هـ) ، ص ص 253-219.
14 - الفوزان، صالح بن فوزان.
"الذكاة الشرعية وأحكامها"، ع 7، (رجب- شوال، 1403هـ) ص ص 238 صم 248.(15/297)
15 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"تحديد المهور"، ع1، مج 2، (محرم- جمادى الثانية، 1400هـ) ، ص ص 95- 110.
16 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"تحديد النسل "، ع 1، مج 2، (محرم- جمادى الثانية، 1400 هـ) ، ص ص 111-128.
17 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"حكم الأسورة المغناطيسية"، ع 15، (ربيع الأول- جمادى الآخرة، 1406هـ) ، ص ص 16- 61.
18 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"حكم الأوراق النقدية"، ع1، مج1 (رجب- رمضان 1395هـ) ، ص ص 185-210.
19 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"حكم تشريح جثة المسلم "، ع 4، مج1، (محرم- جمادى الثانية، 1398هـ) ، ص ص 35-47.
20 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"حكم تمثيل الصحابة في فيلم أو مسرحية"، ع1، مج1، (رجب- رمضان 1395هـ) ، ص ص 214-236.
22 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"حكم رمي الجمرات قبل طلوع الشمس"، ع1، مج 2، (محرم- جمادى الثانية، 1400هـ) ، ص ص 19- 50.
- اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"حكم السعي فوق سقف المسعى"، ع1، مج1، (رجب- رمضان 1395هـ) ، ص ص167-183.(15/298)
23 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"حكم الشفعة بالمرافق الخاصة"، ع 3، مج 1، (رجب- ذو الحجة 1397هـ) ، ص ص 227-237.
24 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"حكم الطلاق المعلق "، ع1، مج 2، (محرم - جمادى الثانية، 1400هـ) ، ص ص 51-94.
25 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"الحكم في السطو الاختطاف والمسكرات، ع11، (ذو القعدة- صفر، 1404-1405هـ) ، ص ص 13- 141. ع 12، (ربيع الأول - جمادى الثانية 1405هـ) ص ص 11-83.
26 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"حكم النشوز والخلع "، ع 3، مج 1، (رجب- ذو الحجة، 1397هـ) ، ص ص 175- 225.
27 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"نزع القرنية من عين إنسان وزرعها في عين آخر"، ع 14، (ذو القعدة- صفر، 1405-1406 هـ) ، ص ص 39-68.
28 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"هدي التمتع والقران "، ع 4، مج 1، (محرم- جمادى الثانية 1398هـ) ، ص ص 149-197.
29 - بن منيع، عبد الله بن سليمان.
"نظرية براءة المتهم حتى تثبت إدانته وحظها من الاعتبار في الشريعة الإسلامية"، ع 7، (رجب- شوال، 1403 هـ) ، ص ص 290-303.(15/299)
أحكام القرآن
انظر القرآن- أحكام
الإسراء والمعراج
30 - التميمي، أسعد بيوض.
"الإمراء وفلسطين، ودولة اليهود. . "، ع 4، مج ا، (محرم- جمادى الثانية، 1398 هـ) ، ص ص 243-254.
الإسلام
31 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"الافتتاحية: الإسلام هو الدين الحق وما سواه من الأديان باطل "، ع 13، (رجب- شوال، 1405 هـ) ، ص ص 7 - 11.
32 - العجلان، عبد الله بن محمد.
"من أهداف الإسلام "، ع 12، (ربيع الأول- جمادى الثانية، 1405 هـ) ، ص ص 293 - 304.
33 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"التمسك بالإسلام حقا هو سبب النصر والنجاة في الآخرة"، ع 2، مج ا، (شوال- ذو الحجة، 1395 هـ) ، ص ص 8-13.
34 - الذهبي، محمد حسين.
"الدين والتدين "، ع 1، مج 1، (رجب - رمضان 1395 هـ) ، ص ص 37 - 55.
35 - الناصري، سيد أحمد علي.
"الإسلام ومواجهته لحركات التبشير الأوربي في غرب أفريقيا إبان الاستعمار الأنجلو - فرنسي"، ع 12، (ربيع الأول- جمادى الثانية، 1405 هـ) ، ص ص 353 - 364.(15/300)
الإسلام- تراجم
36 - الحلو، عبد الفتاح محمد.
"تراجم الفقهاء"، ع 1، مج 1، (رجب - رمضان، 1395 هـ) ، ص ص 237 - 247.
37 - خطاب، محمود شيت.
" حمزة بن عبد المطلب، أسد الله، وأسد رسوله، وسيد الشهداء"، ع 11، (ذو القعدة - صفر، 1404 - 1405 هـ) ، ص ص 285 - 312.
38 - خطاب، محمود شيت.
" زيد بن حارثة "، ع 15، (ربيع الأول - جمادى الآخرة، 1406 هـ) ص ص 205 - 236.
39 - خطاب، محمود شيت.
" عبد الرحمن بن عوف الزهري: حواري النبي صلى الله عليه وسلم، وقائد إحدى سراياه"، ع 10، (رجب - شوال، 1404 هـ) ، ص ص 235- 275.
40 - خطاب، محمود شيت.
" محمد بن مسلمة الأوسي الأنصاري: فارس نبي الله"، ع 13، (رجب - شوال، 1405 هـ) ، ص ص 269- 300.
41 - خليفة، محمد محمد.
"حسان بن ثابت"، ع 2، مج 1، (شوال - ذو الحجة، 1395 هـ) ، ص ص 213 - 239.
42 - خليفة، محمد محمد.
" كعب بن مالك: شاعر السيف والقلم "، ع 1، م1، (رجب - رمضان، 1395 هـ) ، ص ص 97-124.
43 - الشرباصي، أحمد.(15/301)
مسلمة بن عبد الملك مجاهد على الدوام"، ع 1، مج 1، (رجب - رمضان، 1395 هـ) ، ص ص 125 - 133.
44 - الصباغ، محمد.
" أبو داود. . حياته وسننه"، ع 1، مج 1، (رجب - رمضان، 1395 هـ) ، ص ص 249 - 327.
45 - عقيل، عبد الله بن عبد العزيز.
" أحمد بن حنبل "، ع 2، مج 1، (شوال- ذو الحجة، 395 أهـ) ، ص ص 199-209.
46 - عويس، عبد الحليم.
" ابن خلدون وريادته لعلم تفسير التأريخ"، ع 15، (ربيع الأول - جمادى الآخرة، 1406 هـ) ، ص ص 237 - 256.
47 - الفيرواني، عبد الرحمن.
"الإمام وكيع: حياته وآثاره"، ع 12، (ربيع الأول- جمادى الثانية، 1405 هـ) ، ص ص 315-352.
48 - قلعجى، محمد رواس.
"بين فقيهين"، ع 6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1453 هـ) ، ص ص 201 - 216.
49 - مطر، أحمد فهيم.
" الشيخ محمد بن عبد الوهاب عبقري العصر وأستاذ الجيل"، ع 13، (رجب- شوال، 1405 هـ) ، ص ص 233 - 247.(15/302)
إسلام يوسف (مقابلات)
50 - "لقاء مع الداعية البريطاني المسلم: يوسف إسلام "، ع 13، (رجب - شوال 1405 هـ) ، ص ص 301 - 319.(15/302)
الإلحاد
انظر أيضا التوحيد
الله
51 - الشويعر، محمد بن سعد.
"الإلحاد: وعلاقته باليهود والنصارى"، ع 14، (ذو القعدة - صفر، 1405 - 1406هـ) ، ص ص 209-223.
الأمومة
52 - العزب، محمد أحمد.
"الأمومة في حياة النبي وصباه، ونظرة على دورها في البناء والتوجيه "، ع 3، مج 1، (رجب - ذو الحجة، 1397 هـ) ، ص ص 241 - 262.
الأناشيد الدينية
53 - الأنصاري، إسماعيل.
"نشيد الفرح بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم، ع 3، مج 1، (رجب - ذو الحجة، 1397 هـ) ، ص ص 297 - 302.
الأنبياء والرسل
55 - محمود، منيع عبد الحليم.
"النبوة دراسة من القرآن الكريم "، ع 2، مج 1، (شوال - ذو الحجة، 1395 هـ) ، ص ص 157 - 168.
56 - القطان، مناع خليل.
"الحاجة إلى الرسل"، ع 7، (رجب - شوال، 1403 هـ) ، ص ص 172- 199.(15/303)
الإيمان
57 - عيد، الغزالي خليل.
"ثمرات الإيمان بالله واليوم الآخر"، ع 8، - (ذو القعدة- صفر، 1403 هـ) ، ص ص 243 - 286.
بن باز، عبد العزيز بن عبد الله (مقابلات)
58 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"أسئلة موجهة من جريدة الجزيرة"، ع 15، (ربيع الأول - جمادى الثانية، 1406 هـ) ص ص 278- 285.
59 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله
"أسئلة الشباب القطري مع سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز "، ع 12، (ربيع الأول- جمادى الثانية، 1405 هـ) ، ص ص 119 -127.
60 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"أسئلة وأجوبة عن الغزو الفكري"، ع 8، (ذو القعدة- صفر، 1403 - 1404 هـ) ، ص ص 286 - 293.
61 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"أسئلة وأجوبة مع سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز "، ع 9، (ربيع الأول- جمادى الثانية، 1404 هـ) ، ص ص 323 - 328.
62 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"لقاء الجزيرة مع سماحة الشيخ في موسم حج عام 1405 هـ "، ع 14، (ذو القعدة - صفر، 1405 -1406 هـ) ، ص ص 131 - 144.(15/304)
البلاغة النبوية
63 - جاد، حسن.
"البلاغة النبوية وتأثيرها في النفوس "، ع 1، مج 2، (محرم- جمادى الثانية، 1400 هـ) ، ص ص 149 - 161.
التبشير
64 - الشويعر، محمد بن سعد.
"التبشير في منطقة الخليج والجزيرة العربية "، ع 9، (ربيع الأول- جمادى الثانية، 1404 هـ) ، ص ص 289- 301.
التجانية
65 - اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء.
"الطريقة التجانية"، ع 14، (ذو القعدة- صفر، 1406 هـ) ، ص ص 71 - 97.
تحقيق النصوص
66 - سلطاني، محمد علي (محقق) .
"رسالة لشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية. . "، ع 13، (رجب - شوال 1405 هـ) ، ص ص 179 - 209.
67 - الظاهري، أبو عبد الرحمن بن عقيل (محقق) .
"مسند بلال بن رباح رضي الله عنه لأبي علي الزعفراني "، ع 14، (ذو القعدة - صفر، 1405 - 1406 هـ) ، ص ص 227 - 243.
التشريع الإسلامي
انظر الشريعة الإسلامية.(15/305)
التصوف
68 - الجامي، محمد أمان بن علي.
"التصوف من صور الجاهلية"، ع12، (ربيع الأول- جمادى الثانية، 1405هـ) ، ص ص267- 291.
التضامن الإسلامي
69 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"التضامن الإسلامي"، ع3، مج 1، (رجب، ذو الحجة، 1397هـ) ، ص ص6- 15.
تقارير
70 - العناني، عبد العزيز صالح.
"البرازيل"، ع2، مج1، (شوال- ذو الحجة، 1395هـ) ، ص ص594- 601.
التوبة إلى الله
71 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"وجوب التوبة إلى الله والضراعة إليه عند نزول المصائب"، ع11، (ذو القعدة- صفر، 1404- 1405هـ) ، ص ص 7- 12.
التوحيد
انظر أيضا الإسلام
الإيمان
التصوف
الله(15/306)
72 - جبرين، عبد الله بن عبد الرحمن.
" تعقبات على كتابة بعض الناس في العقيدة والتوحيد"، ع 9، (ربيع الأول- جمادى الثانية، 1404 هـ) ص ص127- 185.
73 - الدفاع، علي عبد الله.
"إيجاد جذور المعادلة بطريقة التوسط لابن الهيثم "، ع4، مج 1، (محرم- جمادى الثانية، 1398هـ) ، ص ص272-279.
74 - الدفاع، علي عبد الله.
" أبو بكر الخوارزمي مؤسس علم الجبر"، ع1، مج 2، (محرم- جمادى الثانية، 1400هـ) ، ص ص171-187.
الجهاد في الإسلام
75 - الألمعي، زاهر عوض.
"الجهاد في سبيل الله أسبابه وأهدافه "، ع 9، (ربيع الأول- جمادى الثانية، 1404هـ) ، ص ص303-312.
الحديث
76 - ملاخاطر، خليل إبراهيم.
"المرسل عند الإمام الشافعي "، ع 4، مج 1، (محرم- جمادى الثانية، 1398هـ) ، ص ص255-268.
77 - السلفي، محمد لقمان.
"الإسناد وأهميته في نقد الحديث النبوي "، ع 13، (رجب- شوال، 1405هـ) ، ص ص221-232.
78 - العجلان، محمد بن عبد الله.(15/307)
" السنة "، ع9، (ربيع الأول - جمادى الثاني، 1404هـ) ، ص ص97 - 126.
الحديث- أحكام
انظر أيضا الأحكام الشرعية
القرآن- أحكام
79 - الأنصاري، إسماعيل.
"تتبع طرق حديث في ثواب من مات في أحد الحرمين أو مات في طريقه إلى مكة حاجا أو معتمرا"، ع 13، (رجب- شوال، 1405هـ) ، ص ص211-219.
الحديث- أسلوب
80 - الزرقا، مصطفى أحمد.
"مقارنة بين أسلوب الحديث النبوي وأسلوب القرآن الكريم "، ع 1، مج1، (رجب- رمضان، 1395هـ) ص ص91-96.(15/308)
الحدود الشرعية
81 - خياط، عبد الله عبد الغني.
"الحدود في الإسلام "، ع 9، (ربيع 1404هـ) ، ص ص187-202.
الحج والعمرة
انظر أيضا بن باز، عبد العزيز بن عبد الله (مقابلات)
82 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"أسئلة وأجوبة في أحكام الحج "، ع 13، (رجب 1405هـ) ، ص ص83-99.(15/308)
83 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"كلمة سماحة الشيخ إلى حجاج بيت الله الحرام "، ع 14، (ذو القعدة- صفر، 1406 هـ) ، ص ص 29-37.
الحرب والصلح في الإسلام
84 - المسند، عبد العزيز.
"الحرب والصلح في الإسلام "، ع 3، مج1 (رجب- ذو الحجة، 1397هـ) ، ص ص272-279.
الحركة الوهابية
85 - خياط، عبد الله.
"حركة الإصلاح الديني في القرن الثاني عشر"، ع1، مج1، (رجب - رمضان، 1395هـ) ، ص ص135-143.
86 - المعتصم، محمد.
"الدعوة الإصلاحية في الجزيرة العربية وحركة الجامعة الإسلامية"، ع 3، مج1، (رجب- ذو الحجة، 1397هـ) ، ص ص 265- 271.
الحسبة
87 - وصفي، مصطفى كمال.
"الحسبة والنظام الإداري"، ع 2، مج1، (شوال- ذو الحجة، 1395هـ) ، ص ص265- 275.
حوارات
88 - "حوار مع الأمين العام للأمانة العامة للدعوة الإسلامية"، ع 1، مج1، (رجب- رمضان، 1395هـ) ، ص ص399-404.(15/309)
89 - "حوار مع الأمين العام لهيئة كبار العلماء"، ع1، مج1، (رجب- رمضان، 1395هـ) ، ص ص394-398.
الخمور
90 - المعتق، مساعد.
"الخمر في الشريعة الإسلامية"، ع 9، (ربيع الأول- جمادى الثانية، 1404هـ) ، ص ص233- 261.
الدعوة الإسلامية
91 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة. . . "، ع 4، مج1، (محرم- جمادى الثانية، 1398 هـ) ، ص ص6- 25.
92 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"ما هكذا الدعوة إلى الله يا صالح "، ع 12، (ربيع الأول- جمادى الثانية، 1405 هـ) ، ص ص369-374.
93 - بن حميد، عبد الله بن محمد.
"الدعوة إلى الله "، ع1، مج1، (رجب- رمضان، 1405 هـ) ، ص ص405-413.
94 - الصالح، عثمان.
"دعاة أمناء لرسالة عظمى. . عقيدة يحميها سيف، وسيف تحميه عقيدة"، ع1، مج1، (رجب- رمضان، 1395هـ) ، ص ص9- 11.
95 - محمود، عبد الحليم.
"من زوايا الدعوة إلى الله "، ع 2، مج2، (شوال- ذو الحجة، 1395هـ) ص ص145- 155.(15/310)
الدعوة الوهابية
انظر الحركة الوهابية
الربا
96 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"وجوب إنكار المعاملات الربوبية"، ع1، مج 2، (محرم- جمادى الثانية، 1400هـ) ، ص ص260- 261.
97 - خياط، عبد الله عبد الغني.
"الربا في ضوء الكتاب والسنة"، ع11 (ذو القعدة- صفر، 1404-1405هـ) ، ص ص193-223.
98 - رضا، حسين توفيق.
"اختلاف ربا الدين في الإسلام عن ربا اليهود"، ع1، مج 2، (محرم - جمادى الثانية، 1400هـ) ، ص ص179- 225.
99 - الفوزان، صالح بن فوزان بن عبد الله.
"الفرق بين البيع والربا في الشريعة الإسلامية خلاف ما عليه أهل الجاهلية"، ع 10، (رجب- شوال، 1404هـ) ص ص86- 141.
رسالة المسجد
100 - الباني، محمد بشير.
"المسجد المعاصر"، ع 2، مج1، (شوال- ذو الحجة، 1395 هـ) ، ص ص550-554.
101 - التكينة، عبد الرؤوف حامد.
"رسالة المسجد"، ع 2، مج1، (شوال- ذو الحجة، 1395 هـ) ، ص ص543-549.
102 - المجذوب، محمد.(15/311)
"رسالة المسجد قديما وحديثا"، ع 2، مج1، (شوال- ذو الحجة، 1395هـ) ، ص ص493- 500.
103 - خانوف، ضياء الدين بابا.
"رسالة المسجد في الماضي والحاضر"، ع 2، مج1 (شوال- ذو الحجة، 1395 هـ) ، ص ص517-522.
104 - خطاب، محمود شيت.
"الرسالة العسكرية للمسجد: الثكنة الأولى"، ع 2، مج1، (شوال- ذو الحجة، 1395هـ) ، ص ص465-484.
105 - دنيا، سليمان.
"رسالة المسجد في الماضي والحاضر"، ع 2، مج1، (شوال- ذو الحجة، 1395هـ) ، ص ص523- 525.
106 - الذهبي، محمد حسين.
"رسالة المسجد في العالم عبر التاريخ "، ع 2، مج1، (شوال- ذو الحجة، 1395هـ) ، ص ص537-542
107 - الزافر، عبد الله بن عبد الله.
"رسالة المسجد "، ع 2، مج1، (شوال- ذو الحجة، 1395 هـ) ، ص ص461-464.
108 - شلبي، أحمد.
"رسالة المسجد في العالم عبر التاريخ "، ع 2، مج1، (شوال- ذو الحجة، 1395هـ) ، ص ص512-516
109 - أبو شهية، محمد محمد.
"رسالة المساجد في صدر الإسلام "، ع 2، مج1، (شوال- ذو الحجة، 1395هـ) ، ص ص485-492.
110 - القادري، أبو بكر.(15/312)
"رسالة المسجد عبر التاريخ "، ع 2، مج1، (شوال - ذو الحجة، 1395هـ) ، ص ص501- 511.
111 - محمد، طفيل.
"المسجد ومكانته في الإسلام "، ع 2، مج1، (شوال- ذو الحجة، 1395هـ) ، ص ص526-530.
112 - "مؤتمر رسالة المسجد"، ع 2، مج1، (شوال- ذو الحجة، 1395هـ) ، ص ص431-569.
113 - يوسف، محمد حسين.
"رسالة المساجد في عصور ازدهارها"، ع 2، مج1، (شوال- ذو الحجة، 1395هـ) ، ص ص531-536.(15/313)
الرسائل
114 - بن دريب، سعود بن سعد.
"رسالة الفاروق لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، والمبادئ العامة في أصول القضاء"، ع 7، (رجب- شوال، 1403هـ) ، ص ص 268-289.
الرئاسة العامة لإدارات البحوث
115 - بن منيع، عبد الله بن سليمان.
"دور عالمي لرسالة عالمية"، ع 3، مج1، (رجب- ذو الحجة، 1397هـ) ، ص ص16-22.
الرياضيات
انظر الجبر(15/313)
الزكاة
116 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"حكم إخراج زكاة الفطر نقودا"، ع10، (رجب - شوال، 1404هـ) ص ص83 - 84.
الزواج
انظر الزواج والطلاق
الزواج والطلاق
117 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"الافتتاحية. . عضل البنات "، ع 9، (ربيع الأول- جمادى الثانية، 1404هـ) ، ص ص7- 10.
118 - العثيمين، محمد صالح.
"في الطلاق "، ع 3، مج1، (رجب- ذو الحجة، 1397 هـ) ، ص ص389-394.
119 - الصالح، محمد أحمد.
"مساوئ الزواج من أجنبيات "، ع10، (رجب- شوال، 1404هـ) ، ص ص305-326.
120 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد"، ع 3، مج1، (رجب- ذو الحجة، 1397هـ) ، ص ص27-173.
السعودية- الجامعات والكليات (جامعة الرياض)
121 - صبحي، محمود إسماعيل.
"أهداف معهد اللغة العربية- جامعة الرياض- المملكة العربية(15/314)
السعودية"، ع1، مج 2، (محرم- جمادى الثانية، 1400 هـ) ، ص ص283-285.
السعودية- ملوك وحكام- الملك فيصل
122 - الهلالي، محمد تقي الدين بن عبد القادر.
"منقبة للملك فيصل قدس الله روحه "، ع11، (ذو القعدة- صفر، 1404-1405هـ) ، ص ص313-318.
السنة
انظر الحديث
الشباب- الإسلام
123 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"الافتتاحية: الحركات الإسلامية ودور الشباب فيها"، ع 7، (رجب- شوال، 1403هـ) ، ص ص7-14.
الشرع الإسلامي
انظر أيضا الفقه الإسلامي
124 - آل محمود، عبد الله بن زيد.
"بطلان نكاح المتعة بمقتضى الكتاب والسنة"، ع6، (ربيع الثاني، جمادى الثانية، 1403هـ) ، ص ص187- 201.
الشريعة الإسلامية
125 - آل الشيخ، إبراهيم بن محمد.
"رسالة إلى العلماء والمفكرين المسلمين في العالم "، ع1، مج1، (رجب- رمضان، 1395هـ) ، ص ص1-2.(15/315)
126 - جريشة، علي محمد.
"شبهات وشعارات حول تطبيق الشريعة"، ع 2، مج1، (شوال- ذو الحجة، 1395هـ) ، ص ص171-182.
127 - الخرعان، سعد.
"الشريعة الإسلامية منهاج رباني "، ع 15، (ربيع الأول- جمادى الآخرة، 1406) ، ص ص269-273.
128 - الربيعة، عبد العزيز بن عبد الرحمن.
"المفتي في الشريعة الإسلامية"، ع1، مج1، (رجب- رمضان، 1395هـ) ، ص ص145-166.
129 - الصالح، محمد أحمد.
"موقف الشريعة من نكاح التحليل "، ع 15، (ربيع الأول - جمادى الآخرة، 1406 هـ) ، ص ص139- 171.
130 - العجلان، عبد الله بن محمد.
"صلاحية التشريع الإسلامي للبشر كافة"، ع 9، (ربيع الأول - جمادى الثانية، 1404هـ) ، ص ص263- 279.
131 - آل علي، صالح بن سعود.
"البدع طعن في الشريعة وقدح في كمالها"، ع14، (ذو القعدة- صفر، 1405-1406هـ) ، ص ص145-207.
132 - العلي، صالح بن سعود.
"التمسك بالسنة وأثره في استقامة المسلم "، ع 8، (ذو القعدة- صفر، 1403-1404هـ) ، ص ص183- 205.
133 - الفوزان، صالح بن فوزان بن عبد الله.
"الاجتهاد ومدى إمكانه في هذا الزمان"، ع14، (ذو القعدة- صفر، 1405-1406) ، ص ص245-258.(15/316)
134 - القطان، مناع خليل.
"وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية في شئون الحياة كلها"، ع1، مج1، (رجب- رمضان، 1395هـ) ، ص ص 57-77.(15/317)
الشعائر الدينية
135 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"الافتتاحية. . مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بصفة كاملة، وكراهية الإشارة إليها عند الكتابة بحرف أو أكثر"، ع 12، (ربيع الأول - جمادى الآخرة، 1405هـ) ، ص ص7-9.
الشعر العربي- قصائد
136 - عقيلان، أحمد فرح.
"تراث ونور "، ع1، جع1، (رجب- رمضان، 1395هـ) ، ص ص423-424.
الشهادة
137 - الفوزان، صالح بن فوزان بن عبد الله.
"حقيقة لا إله إلا الله "، ع 13، (رجب- شوال، 1405هـ) ، ص ص115-128.
الشهادة الشرعية
انظر أيضا الشريعة الإسلامية الفقه الإسلامي.
138 - الزبن، عبد الله بن محمد.
"حكم الشهادة فيما كان من حقوق العباد"، ع9، (ربيع الأول - جمادى الآخرة، 1404 هـ) ، ص ص221-232.(15/317)
الصلاة
139 - كمال الدين، حسين.
"تعيين مواقيت الصلاة في أي زمان ومكان على سطح الأرض "، ع 3، مج1، (رجب- ذو الحجة، 1397هـ) ، ص ص301-358.
الطلاق
انظر الزواج والطلاق
الطوائف الإسلامية
140 - الصالح، عثمان.
"وعد بطائفة ناجية"، ع 4، مج1، (محرم- جمادى الثاني، 1398هـ) ، ص ص26-34.
العبادات
141 - البيانوني، محمد أبو الفتح.
"تحول العبادات إلى عادات "، ع 2، مج1، (شوال- ذو الحجة، 1395هـ) ، ص ص185-196.
العسكرية الإسلامية
142 - خطاب، محمود شيت.
" أقباس من العسكرية الإسلامية في القرآن الكريم "، ع1، مج 2، (محرم- جمادى الثانية، 1400 هـ) ، ص ص 165-170.
العقود
143 - آل محمود، عبد الله زيد.
"العقد شريعة المتعاقدين "، ع 10، (رجب- شوال، 1404 هـ) ، ص ص 145-153.(15/318)
العقيدة الإسلامية
144 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"التعليق على العقيدة الطحاوية"، ع15، (ربيع الأول، جمادى الآخرة، 1406 هـ) ، ص ص257-268.
145 - السحيمي، صالح بن سعد.
"منهج السلف في العقيدة وأثره في وحدة المسلمين "، ع11، (ذو القعدة- صفر، 1404-1405هـ) ، ص ص171- 190.
146 - العجمي، أبو اليزيد.
"اهتمام علماء المسلمين بعقيدة السلف "، ع15، (ربيع الأول - جمادى الآخرة، 1406هـ) ، ص ص172-204.(15/319)
الفتاوى الشرعية
147 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"إطلاق حرية العقار موافق للشرع والمصلحة العامة"، ع 6، (ربيع الثاني- جمادى الثانية، 1403هـ) ، ص ص 305-307.
148 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"توضيح عمل المرأة"، ع15، (ربيع الأول - جمادى الآخر، 1406هـ) ، ص ص274-277.
149 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"حادث المسجد الحرام وأمر المهدي المنتظر"، ع1، مج 2، (محرم - جمادى الثانية، 1400هـ) ، ص ص300- 311.
150 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"أحاديث موضوعة"، ع 6، (ربيع الثاني، جمادى الثانية، 1403 هـ) ص ص275-276.
151 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.(15/319)
"أسئلة وأجوبة في الصلاة"، ع1، مج 2، (محرم- جمادى الثانية، 1400هـ) ، ص ص 288-289.
152 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"إضافة اللقيط لمن تبناه إضافة نسب "، ع 4، مج1، (محرم- جمادى الثانية، 1398هـ) ، ص ص 292-293.
153 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"الأوراق النقدية"، ع 6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1403 هـ) ، ص 271.
154 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"ترجمة القرآن "، ع 6، (ربيع الثاني، جمادى الثانية، 1403 هـ) ، ص ص 274-275.
155 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"ترك الصلاة طيلة وجوده في الجامعة، "، ع1، مج 2، (محرم- جمادى الثانية، 1400هـ) ، ص ص 306-307.
156 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"التصوير الفوتغرافي "، ع 6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1403 هـ) ، ص 259.
157 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"حقوق الجوار للكفار"، ع 6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1403 هـ) ، ص ص 256-257.
158 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"حقيقة التوكل. . . "، ع 6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1403 هـ) ، ص ص 257-258.
159 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.(15/320)
"حكم الصلاة على السجاد المحلى بالصور"، ع1، - مج 2، (محرم - جمادى الثانية، 1400هـ) ، ص293.
160 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"حكم الإحداد على الملوك والزعماء في نظر الشريعة الإسلامية"، ع4، مج1، (محرم- جمادى الثانية، 1398هـ) ، ص ص310- 311.
161 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"طلاسم الاستعانة بغير الله "، ع 6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1403هـ) ، ص ص246-247.
162 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"حكم الحلف بغير الله- حكم لبس الباروكة للزوج - حكم حلق المرأة رأسها وحواجبها "، ع 3، مج1، (رجب- ذو الحجة، 1397هـ) ، ص ص372-374.
163 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" الذبائح" ع6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1403هـ) ، ص ص260-261.
164 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"الرضاعة"، ع 6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1403هـ) ، ص ص263-267.
165 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"الزكاة "، ع 6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1403هـ) ، ص 273.
166 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" الزنا والهجرة للبلاد الأجنبية "، ع6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1403هـ) ص ص276 - 277.(15/321)
167 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"السفر وإفطار رمضان- حكم التوسل إلى الله بالأنبياء والصالحين "، ع 3، مج1، (رجب- ذو الحجة، 1397هـ) ، ص ص375-377.
168 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"الشرط- قضاء الفريضة"، ع1، مج 2، (محرم- جمادى الثانية، 1400هـ) ، ص ص296-297.
169 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"الصلاة في الطائرة. . وإمامة الصلاة في الجمعة. . وزكاة الحلي "، ع1، مج 2، (محرم- جمادى الثانية، 1400هـ) ، ص ص290-292.
170 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"الفتاوى"، ع 7، (رجب- شوال، 1403 هـ) ، ص ص107-162.
ع 8، (ذو القعدة- صفر، 1403- 1404 هـ) ، ص ص149-168.
ع 9، (ربيع الأول - جمادى الثانية، 1404هـ) ، ص ص47-76.
ع10، (رجب- شوال، 1404هـ) ، ص ص61-82.
ع11، (ذو القعدة- صفر، 1404-1405هـ) ، ص ص145-169.
ع 12، (ربيع الأول - جمادى الثانية، 1405 هـ) ، ص ص85-103.
ع 13، (رجب- شوال، 1405هـ) ص ص65- 81.
ع 14، (ذو القعدة- صفر، 1405-1406هـ) ، ص ص101- 130.
171 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"فتاوى خاصة بالصلاة"، ع15، (ربيع الأول - جمادى الثانية، 1406هـ) ، ص ص63-87.(15/322)
172 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"فتوى عن المسيح عليه السلام "، ع 12، (ربيع الأول، جمادى الثانية، 1405هـ) ، ص ص105-117.
173 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"في الأضحية وصلاة العيد"، ع 3، مج 6، (رجب- ذو الحجة، 1397هـ) ، ص ص366 ص368.
174 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"في إفطار رمضان والقضاء والكفارة"، ع 4، مج1، (محرم- جمادى الثانية، 1398هـ) ، ص ص305-308.
175 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"في أوقاف المسجد"، ع 3، مج1، (رجب- ذو الحجة، 1397هـ، ص ص360- 361.
176 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"في بناء المساجد"، ع 6، (ربيع الثاني، جمادى الثانية، 1403هـ) ، ص ص259-260.
177 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"في التصوير"، ع 6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1403هـ) ، ص 258.
178 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"في الحج "، ع 6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1403هـ) ، ص ص252-253.
179 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"في الدعاء"، ع 6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1403هـ) ، ص ص255-256.(15/323)
180 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"في الدين "، ع 6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1403هـ) ، ص ص273-274.
181 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"في الربا"، ع 6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1403هـ) ، ص ص270.
182 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"في الرشوة"، ع 6، (ربيع الثاني- جمادى الثانية، 1403هـ) ، ص 277.
183 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"في الرضاعة"، ع 4، مج1، (محرم- جمادى الثانية، 1398 هـ) ، ص 304 وص 309.
184 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"في الزكاة"، ع 4، مج1، (محرم- جمادى الثانية، 1398هـ) ، ص ص301-303.
185 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"في زكاة أموال جمعت للتجارة "، ع 4، مج1، (محرم- جمادى الثانية، 1398 هـ) ، ص ص299- 300.
186 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"في الزواج "، ع 6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1403هـ) ، ص ص261-262.
187 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"في الصلاة "، ع 6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1403 هـ) ، ص ص 248-249.(15/324)
ع1، مج 2، (محرم- جمادى الثانية، 1400هـ) ، ص 94 وص 305.
188 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"في الصيام " ع 3، مج1، (رجب- ذو الحجة، 1397هـ) ، ص ص364-365.
ع 6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1403هـ) ، ص ص249 - 250.
189 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"في الطلاق "، ع 6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1403هـ) ، ص ص268-269.
190 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"في العبادات "، ع 6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1403 هـ) ، ص 248.
191 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"في القتل الخطأ"، ع 6، (ربيع الثاني- جمادى الثانية، 1403 هـ) ، ص278.
192 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"في قراءة القرآن من أجل التكسب "، ع 3، مج1، (رجب- ذو الحجة، 1397هـ) ، ص ص 378- 381
193 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"في اللحم المذبوح ببلاد الكفار وأهل الكتاب "، ع 3، ما، (رجب- ذو الحجة، 1397هـ) ، صح ص 369-371.
194 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"في المواريث "، ع 4، مج1، (محرم- جمادى الثانية، 1398هـ) ، ص 297.(15/325)
195 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"في النذر"، ع 3، مج1، (رجب- ذو الحجة، 1397هـ) ، ص ص262-363.
196 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"في الوضوء- الصلاة- الأمانة- الطواف "، ع1، مج 2، (محرم- جمادى الثانية، 1400هـ) ص ص 298- 301.
197 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"كيفية تحديد مواقيت الصلاة"، ع1، مج 2، (محرم- جمادى الثانية، 1400 هـ) ، ص ص302-304.
198 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"ما حكم تارك الصلاة"، ع1، مج 2، (محرم- جمادى الثانية، 1400هـ) ، ص95.
199 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"المذاهب. . المهدي المنتظر"، ع 6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1403هـ) ، ص ص251-252.
200 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"من آثار عملية نقل الدم "، ع 4، مج1، (محرم- جمادى الثانية، 1398 هـ) ، ص 298.
201 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"النذر"، ع 6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1403هـ) ، ص ص250- 251.
202 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"نكاح الشغار"، ع 4، مج1، (محرم- جمادى الثانية، 1398 هـ) ، ص ص294-296.(15/326)
203- اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"الهبة"، ع 6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1403 هـ) ، ص 272.
204- اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"منع الحيض وقت الحج "، ع 6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1403هـ) ، ص ص253- 255.(15/327)
الفقه الإسلامي
انظر أيضا الشرع الإسلامي
205 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"الافتتاحية"، ع 6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1403هـ) ، ص ص 7- 15
206 - الزايد، عبد الله.
"أطوار الاجتهاد الفقهي "، ع15، (ربيع الأول - جمادى الآخرة، 1406هـ) ، ص ص 88-138.
207 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"بحث في البيوع "، ع 7، (رجب- شوال، 1403هـ، ص ص19-106.
208 - ابن منيع، عبد الله بن سليمان [و] آخرون.
"حكم التسعير"، ع 6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1403 هـ) ، ص ص51 - 95.
209 - هيئة كبار العلماء.
"الشرط الجزائي "، ع 2، مج1، (شوال- ذو الحجة، 1395هـ) ، ص ص61-144.
210 - بن غنيم، غنيم بن مبارك.(15/327)
"القسامة"، ع 10، (رجب- شوال، 1404 هـ) ، صح ص157-163.
ع4، مج، (محرم، جمادى الثانية، 1398هـ) ، ص ص 49-147.
الفقه الشافعي
انظر أيضا الفقه الإسلامي
الشرع الإسلامي
211 - ملاخاطر، خليل إبراهيم.
"مسألة الاحتجاج بالشافعي "، ع 2، مج1، (شوال- ذو الحجة، 1395هـ) ، ص ص339-427.
الفلسفة
212 - العسال، أحمد محمد.
" التغيير في حياة الأمم وعوامل الثبات والاهتزاز"، ع 8، (ذو القعدة- صفر، 1403-1404هـ) ، ص ص223-242.
213 - محمود، عبد الحليم.
"الفلسفة"، ع1، مج 2، (محرم- جمادى الثانية، " 140 هـ) ، ص ص 129-148.
القبلة (الصلاة)
214 - أحمد، حسين كمال الدين.
"الإسقاط المكي للعالم "، ع 6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1403 هـ) ، ص ص225-244.
215 - كمال الدين، حسين.
"إسقاط الكرة الأرضية بالنسبة لمكة المكرمة وتعيين اتجاه القبلة "، ع 2، مج1، (شوال- ذو الحجة، 1395هـ) ، ص ص289-338.(15/328)
216 - كمال الدين، حسين.
"جهاز تعيين اتجاه القبلة من أي مكان على سطح الأرض "، ع1، مج 2، (محرم- جمادى الثانية، 1400هـ) ، ص ص227-240.
القدس
217 - " القدس. . والفيصل. . والإسلام "، ع1، مج1، (رجب- رمضان، 1395هـ) ، ص ص13- 20.
القرآن
انظر أيضا المصاحف
الكتب، مراجعات
218 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"حرمة القرآن الكريم "، ع 6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1403 هـ) ، ص ص289-290.
219 - الهلالي، محمد تقي الدين.
"مباحث في القرآن الكريم "، ع9، (ربيع الأول- جمادى الثانية، 1404هـ) ، ص ص77-96.
220 - الطويل، السيد رزق.
"النسيان والذكر في القرآن الكريم "، ع 13، (رجب- شوال، 1405 هـ) ص ص 129-178.
القرآن- أحكام
221 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"من أحكام القرآن الكريم "، ع 13، (رجب- شوال، 1405هـ) ص ص 13-64.(15/329)
القرآن- الإعجاز
222 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"بيان ما يسمى معجزة محمد الخالدة والمعجزة القرآنية"، ع 9، (ربيع الأول - جمادى الثانية، 1404هـ) ، ص ص12-42.
القرآن- ألفاظ ومعان
223 - الهلالي، محمد تقي الدين.
"هل توجد في القرآن كلمات معربة"، ع 8، (ذو القعدة- صفر، 1403-1404هـ) ، ص ص 206-222
224 - عوض الله، السيد أحمد أبو الفضل.
"ترجمة معاني القرآن الكريم بين التأييد والتحريم "، ع 12، (ربيع الأول - جمادى الثانية، 1405هـ) ، ص ص305-314.
القرآن- ترجمة
225 - النبهان، محمد فاروق.
"مدى إمكانية ترجمة القرآن "، ع 10، (رجب- شوال، 1404 هـ)
ص ص327-333.
القرآن- تفسير
226 - الوهيبي، عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله.
"التفسير بالأثر والرأي وأشهر كتب التفسير فيهما"، ع 7، (رجب- شوال، 1403هـ) ، ص ص200-237.
227 - هيئة كبار العلماء.
"وفي سبيل الله "، ع 2، مج1، (شوال- ذو الحجة، 1395هـ) ، ص ص25-57.(15/330)
القضاء (الإسلام)
228 - منيع، عبد الله بن سليمان.
"القضاء في الإسلام وأثر تطبيق السعودية له في حفظ الحقوق ومكافحة الجريمة"، ع 8، (ذو القعدة- صفر، 1403-1404 هـ) ، ص ص 173-182.(15/331)
الكتابة
229 - الصالح، عثمان.
"تجارة. . وتجارة أخرى لن تبور. .! "، ع1، مج 2، (محرم، جمادى الثانية، 1400هـ) ، ص ص11-17.
الكتب، مراجعات (العربية)
انظر أيضا تحقيق النصوص
230 - حمودة، معالي عبد الحميد.
"موارد تقي الدين الفاسي في كتابه العقد الثمين "، ع 9، (ربيع الأول - جمادى الثانية، 1404هـ) ، ص ص 313- 321.
231 - الربيعة، عبد العزيز بن عبد الرحمن.
"تبيين العجب. . بما ورد في فضل رجب "، ع 7، (رجب- شوال، 1403هـ) ، ص ص 63- 171.
232 - شلتوت، فهيم محمد.
"فترة مشرقة للجهاد الإسلامي في الحبشة من خلال كتاب "تحفة الزمان أو فتوح الحبشة، لعرب فقيه الجيزاني "، ع 13، (رجب- شوال، 1405هـ) ، ص ص 249-268.
233 - الصالح، محمد أحمد.
"نظام الأسرة عند ابن تيمية في الزواج وآثاره "، ع 2، مج1، (شوال-(15/331)
ذو الحجة، 1395 هـ) ، ص ص 577 - 584.
234 - القاسمي، محمد جمال الدين.
" إصلاح المساجد من البدع والعوائد. تقديم: ناجي الطنطاوي "، (شوال - ذو الحجة، 1395) ، ص ص 570 - 576.
235 - اللهيب، أحمد بن عبد العزيز.
" أساليب القسم والشرط في القرآن "، ع3، مج1، (رجب - ذو الحجة، 1397 هـ) ، ص ص 585 - 589.
الكتب، مراجعات (لغات أخرى)
236 - السراميجي، محمود لطفي.
" كيف صرت مسلما "، ع2، مج1، (شوال - ذو الحجة، 1395 هـ) ، ص ص 585 - 589.
الكيمياء عند العرب
237 - الدفاع، علي عبد الله.
" علامة الكيمياء الجلدكي " ع6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1403 هـ) ، ص ص 217 - 224.
الله
238 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" الافتتاحية. . الله خلق كل شيء وما سواه مخلوق "، ع8، (ذو القعدة - صفر، 1403 - 1404 هـ) ، ص ص 7 - 15.
239 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" تنبيهات هامة على ما كتبه الشيخ محمد علي الصابوني في صفات الله عز وجل. . . " ع10، (رجب - شوال، 1404 هـ) ، ص ص 279 - 301.(15/332)
240 - التويجري، حمود بن عبد الله.
"بيان في إثبات علو الله تعالى ومباينته لخلقه وأن معيته لعباده بعلمه واطلاعه وحفظه "، ع12، (ربيع الأول - جمادى الثانية، 1405 هـ) ، ص ص 129 - 208.
241 - العثيمين، محمد بن صالح.
" قواعد في أدلة الأسماء والصفات "، ع12، (ربيع الأول - جمادى الثانية، 1405 هـ) ، ص ص 247 - 565.
243 - الطير، مصطفى الحديدي.
" الواحد الصمد "، ع4، مج1، (محرم - جمادى الثانية، 1398 هـ) ، ص ص 283 - 290.
لعب الأطفال
244 - العبودي، عبد الله بن حمد بن عبد الله.
" حكم لعب الأطفال مجسمة وغير مجسمة "، ع11، (ذو القعدة - صفر، 1404 - 1405 هـ) ، ص ص 263 284.
اللغة العربية
245 - الطنطاوي، ناجي.
" الحديث عن لو "، ع2، مج1، (شوال - ذو الحجة، 1395) ، ص ص277 - 286.
246 - جمال، أحمد محمد.(15/333)
"اللغة العربية لسان وكيان "، ع1، مج1، (رجب - رمضان،، 1395هـ) ، ص ص 79-89.
اللغة العربية- قواميس
247 - العلواني، محمد جابر فياض.
"المعاجم العربية"، ع 11، (ذو القعدة- صفر، 1404- 1405هـ) ، ص ص 227-259.(15/334)
مجلة البحوث الإسلامية
248 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
"الافتتاحية"، ع1، مج 2، (محرم- جمادى الثانية، 1400 هـ) ، ص ص 7-9.
249 - الصالح، عثمان.
" تصدير"، ع 3، مج1، (رجب- ذو الحجة، 1397هـ) ، ص ص 23-26.
250 - بن عودة، محمد.
"سلاح العصر يحمل لواء الدعوة"، ع1، مج1، (رجب- رمضان، 1395هـ) ، ص ص 3-7.
251 - "مجلة البحوث الإسلامية- تقديم "، ع1، مج1، (رجب- رمضان، 1395هـ) ، ص ص 21- 35.
المخطوطات
انظر تحقيق النصوص
المساعدات الاقتصادية- أفريقيا
252 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.(15/334)
"الإهابة بالمسلمين لمساعدة إخوانهم في أفريقيا"، ع 12، (ربيع الأول - جمادى الثانية، 1405هـ) ، ص ص 365 ص368.
المسلمون في أمريكا
253 - الفاروقي، إسماعيل راجى.
"المسلمون في أمريكا "، ع 2، مج1، (شوال- ذو الحجة، 1395هـ) ، ص ص590-593.
254 - "المسلمون في العالم: الولايات المتحدة "، ع 3، مج1، (رجب- ذو الحجة، 1397هـ) ، ص ص 399-404.
المسلمون في إنجلترا
255 - "المسلمون في العالم: إنجلترا "، ع 3، مج1، (رجب- ذو الحجة، 1397هـ) ، ص ص 405-413.
المسيح
256 - التويجري، حمود بن عبد الله.
"إقامة البرهان في الرد على من أنكر خروج المهدي والدجال ونزول المسيح في آخر الزمان "، ع 13، (رجب- شوال، 1405هـ) ، ص ص101-113.
المصاحف
انظر أيضا القرآن
257 - ابن قعود، عبد الله [و] آخرون.
"كتابة المصحف "، ع 6، (ربيع الثاني - جمادى الثانية، 1403 هـ) ، ص ص11-49.(15/335)
258 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"كتابة المصحف باللاتينية"، ع10، (رجب، شوال 1404هـ)
ص ص 11-59.
المعاجم
انظر أيضا اللغة العربية- قواميس
بن معاذ، سعد
259 - البيومي، محمد رجب.
"افتراء مغرض حول سعد بن معاذ "، ع 3، مج1، (رجب- ذو الحجة، 1397هـ) ، ص ص 281-287.
المعارك الحربية الإسلامية
260 - الصباغ، محمد لطفي.
"معركة شقحب، أو معركة مرج الصفر "، ع10، (رجب- شوال، 1404هـ) ، ص ص213- 231.
المعاملات الشرعية
انظر أيضا الربا
العقود
261 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
"بحث في المعاملات المصرفية"، ع 8، (ذو القعدة- صفر، 1403-1404هـ) ، ص ص 171-147.
مؤتمرات
262 - الدرش، السيد متولي.(15/336)
"الحوار الإسلامي المسيحي ووجهة نظر إسلامية"، ع1، مج 2، (محرم- جمادى الثانية، 1405هـ) ، ص ص 245- 251.
263 - السلف، محمد لقمان (مترجم) .
"المؤتمر العالمي بلندن عن حياة المسيح عليه السلام "، ع1، مج 2، (محرم- جمادى الثانية، 1400هـ) ، ص ص241-243.
264 - الصالح، عثمان.
"على طريق الجسد الواحد إلى مركز اليابسة على الأرض مكة المكرمة "، ع 2، مج1، (شوال- ذو الحجة، 1395هـ) ، ص ص 15- 21.
265 - بن منيع، عبد الله بن سليمان.
"من المؤتمر السادس لجمعية التعليم لعموم الهند"، ع 3، مج1، (رجب- ذو الحجة، 1397هـ) ، ص ص 382 ص388.
266 - "مؤتمرات إسلامية"، ع 9، (ربيع الأول - جمادى الثانية، 1404 هـ) ، ص ص329-330.
ع 12، (ربيع الأول ط- جمادى الثانية، 1405هـ) ، ص ص 375-376.
267 - "مؤتمر رسالة الجامعة"، ع1، مج1، (رجب- رمضان، 1395هـ) ، ص ص363 ص388.
268 - "المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي"، ع1، مج1، (رجب- رمضان، 1395هـ) ، ص ص390-392.
269 - "المؤتمر العربي لشئون المخدرات، الدورة السادسة، الرياض "، ع1، مج1، (رجب- رمضان، 1395هـ) ، ص ص 332-362.
نواقض الإسلام
270 - بن باز، عبد العزيز بن عبد الله.(15/337)
"نواقض الإسلام "، ع 7، (رجب- شوال، 1403هـ) ، ص ص15-18.
وثائق تاريخية
271- "وثائق تاريخية"، ع1، مج1، (رجب - رمضان، 1395هـ) ص ص432-441.(15/338)
كشاف المؤلف
(أ)
آل الشيخ، إبراهيم بن محمد 125
آل محمود، عبد الله زيد 124، 143 أحمد، حسين كمال الدين 224
الألمعي، زاهر عوض 75
الأنصاري، إسماعيل 54، 79
(ب)
بن باز، عبد العزيز بن عبد الله 1، 2، 3، 4، 5، 6، 31، 33، 58، 59، 60، 59، 60، 61، 62، 69، 71، 82، 83، 91، 92، 96، 116، 117، 123، 135، 144، 147، 148، 149، 205، 218، 238، 239، 248، 252، 270.
الباني، محمد بشير 100
البرقاوي، يوسف عبد الرحمن 7
البيانوني، محمد أبو الفتح 141
البيومي، محمد رجب 259
(ت)
التكينة، عبد الرؤوف حامد 151
التميمي، أسعد بيوض 30
التويجري، حمود بن عبد الله 240، 256
(ج)
جاد، حسن 63
الجامي، محمد أمان بن علي 68(15/339)
جريشة، علي محمد 126
جمال، أحمد محمد 246
جبرين، عبد الله بن عبد الرحمن 72
(ح)
الحلو، عبد الفتاح محمد 36
بن حمدان، أحمد بن سعد 242
حمودة، معالي عبد الحميد 230
بن حميد، عبد الله بن محمد 93
(خ)
ملاخاطر، خليل إبراهيم 76، 211
خانوف، ضياء الدين بابا 103
الخرعان، سعد 127
خطاب، محمود شيت 37، 38، 39، 40، 104، 142
خليفة، محمد محمد 41، 42
خياط، عبد الله عبد الغني 81، 85، 97
(د)
الدرش، السيد متولي 262
بن دريب، سعود بن سعد 114
الدفاع، علي عبد الله 73، 74، 237
دنيا، سليمان 105
(ذ)
الذهبي، محمد حسين 34، 106(15/340)
الربيعة، عبد العزيز بن عبد الرحمن 128، 231
رضا، حسين توفيق 98
(ز)
الزافر، عبد الله بن عبد الله 107
الزايد، عبد الله 206
الزبن، عبد الله بن محمد 8، 138
الزرقا، مصطفى أحمد 80
(س)
السحيمي، صالح بن سعد 145
السراميجى، محمود لطفي 236
سلطاني، محمد علي 66
السلفي، محمد لقمان 77، 262
(ش)
الشرباصي، أحمد 43
شلبي، أحمد 108
شلتوت، فهيم محمد 232
أبو شهية، محمد محمد 109
الشويعر، محمد بن سعد، 64
(ص)
الصالح، عثمان 94، 229، 249، 264
الصالح، محمد أحمد 9، 119، 129، 233
الصباغ، محمد لطفي 44، 260
صبحي، محمود إسماعيل 121(15/341)
(ظ)
الظاهري، أبو عبد الرحمن بن عقيل 67
(ط)
الطريقى، عبد الله بن محمد 10
الطنطاوي، ناجي، 234، 245
الطويل، السيد رزق 220
الطير، مصطفى الحديدي 243
(ع)
العبد المنعم، عبد العزيز بن محمد 11
العبودي، عبد الله بن حمد بن عبد الله 244
العثيمين، محمد صالح 118، 241
العجلان، محمد بن عبد الله 32، 78، 130
العجمي، أبو اليزيد 146
عرب، فقيه الجيزاني 232
العزب، محمد أحمد 52، 53
العسال، محمد أحمد 212
عقيلان، أحمد فرح 136
عقيل، عبد الله بن عبد العزيز 45
العلوانى، محمد جابر 12، 247
العلي، صالح بن سعود 131، 132
العناني، عبد العزيز صالح 70
بن عودة، محمد 250
عوض الله، السيد أحمد أبو الفضل 224
عويس، عبد الحليم 46
عيد، الغزالي خليل 57(15/342)
(غ)
بن غنيم، غنيم بن مبارك 210
(ف)
الفاروقي، إسماعيل راجي 253
الفوزان، صالح بن فوزان بن عبد الله 13، 14، 99، 133، 137
الفيرواني، عبد الرحمن 47
(ق)
القادري، أبو بكر 110
القاسمي، محمد جمال الدين 234
القطان، مناع خليل 56، 134
ابن قعود، عبد الله 257
قلعجى، محمد رواس 48
(ك)
كمال الدين، حسين 139، 215، 216
(ل)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، 15، 16، 17، 18، 19، 20، 21، 22، 23، 24، 25، 26، 27، 28، 65، 120، 150، 151، 152، 153، 154، 155، 156، 157، 158، 159، 160، 161، 162، 163، 164، 165، 166، 167، 168، 169، 170، 171، 172، 173، 174، 175، 176، 177، 178، 179، 180، 181، 182، 183، 184، 185، 186، 187، 188، 189، 190، 191، 192، 193، 194، 195، 196، 197، 198، 199، 200، 201، 202، 203، 204، 207، 221، 222، 258، 261
اللهيب، أحمد بن عبد العزيز 235(15/343)
(م)
المجذوب، محمد 102
محمد، طفيل 111
محمود، عبد الحليم 55، 95، 213
المسند، عبد العزيز 84
مطر، أحمد فهيم 49
المعتصم، محمد 86
المعتق، مساعد 90
بن منيع، عبد الله بن سليمان 29، 115، 208، 228، 265
(ن)
الناصري، سيد أحمد علي 35
النبهان، محمد فاروق 225
الهلالي، محمد تقي الدين 122، 219، 223
هيئة كبار العلماء 209، 227
(و)
وصفي، مصطفى كمال 87
الوهيبي، عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله 226
(ي)
يوسف، محمد حسين 113(15/344)
كشاف العنوان
(أ)
آيات الصفات- عرض موجز للمنهج الصحيح الذي يجب أن تفهم صفات الله عز وجل على ضوئه 242
الإلحاد: وعلاقته باليهود والنصارى 51
الاجتهاد: ومدى إمكانه في هذا الزمان 133
أحاديث موضوعة 150
أحمد بن حنبل 45
اختلاف ربا الدين في الإسلام عن ربا اليهود 98
أساليب القسم والشرط في القرآن 235
الإسراء وفلسطين. . ودولة اليهود 30
الإسلام ومواجهته الحركات التبشير الأوربي في غرب أفريقيا إبان الاستعمار الإنجلو فرنسي 35
إسقاط الكرة الأرضية بالنسبة لمكة وتعيين اتجاه القبلة 215
الإسقاط المكي للعالم 214
الإسناد وأهميته في نقد الحديث النبوي 77
أسئلة الشباب القطري مع سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز 59
أسئلة وأجوبة في الصلاة 151
أسئلة وأجوبة في أحكام الحج 82
أسئلة وأجوبة عن الغزر الفكري 60
أسئلة وأجوبة مع سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز 61
أسئلة موجهة من جريدة الجزيرة 58
إصلاح المساجد من البدع والعوائد 234
إضافة اللقيط لمع تبناه إضافة نسب 152
إطلاق حرية العقار مواقف للشرع والمصلحة العامة 147(15/345)
أطوار الاجتهاد الفقهي 206
الافتتاحية: 205، 248
الافتتاحية: الإسلام هو الدين الحق وما سواه من الأديان باطل 31
الافتتاحية: الحركات الإسلامية ودور الشباب فيها 123
الافتتاحية: حكم الاختلاط في التعليم 1
الافتتاحية: عضل البنات 117
الافتتاحية: الله خلق كل شيء وما سواه مخلوق 238
الافتتاحية: مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بصفة كاملة، وكراهية الإشارة إليها عند الكتابة بحرف أو أكثر 135
الافتتاحية: نصح- وتذكير- وتنبيه على مسائل التعزية- والختان- والحلف بغير الله 2
افتراء مغرض حول سعد بن معاذ 259
إقامة البرهان في الرد على من أنكر خروج المهدي والدجال ونزول المسيح في آخر الزمان 256
أقباس من العسكرية الإسلامية في القرآن الكريم 142
الأمومة في حياة النبي وصباه ونظرة على دورها في البناء والتوجيه 52
الأمومة والطفولة في الإسلام 53
الإهابة بالمسلمين لمساعدة إخوانهم في أفريقيا 252
اهتمام علماء المسلمين بعقيدة السلف 146
أهداف معهد اللغة العربية- جامعة الرياض- المملكة العربية السعودية 121
الأوراق النقدية 153
إيجاد جذور المعادلة بطريقة التوسط لابن الهيثم 73(15/346)
(ب)
بحث في البيوع 207
بحث في المعاملات المصرفية 261(15/346)
البدع طعن في الشريعة وقدح في كمالها 131
البرازيل 70
بطلان نكاح المتعة بمقتضى الكتاب والسنة 124
أبو بكر الخوارزمي مؤسس علم الجبر 74
البلاغة النبوية وتأثيرها في النفوس 63
بيان في إثبات علو الله تعالى ومباينته لخلقه وأن معيته لعباده بعلمه واطلاعه وحفظه 240
بيان ما يسمى معجزة محمد الخالدة والمعجزة القرآنية 222
بين فقيهين 48
(ت)
التبشير في منطقة الخليج والجزيرة العربية 64
تبيين العجب- بما ورد في فضل رجب 231
تتبع طرق حديث في ثواب من مات في أحد الحرمين أو مات في طريقه إلى مكة حاجا أو معتمرا 79
تجارة. . وتجارة أخرى لن تبور 229
تحديد المهور 15
تحديد النسل 16.
تحريم الرشوة 7
تحول العبادات إلى عادات 141
تراجم الفقهاء 36
تراث ونور 136
ترجمة القرآن 154
ترجمة معاني القرآن الكريم بين التأييد والتحريم 224
ترك الصلاة طيلة وجوده في الجامعة 155
التسعير في نظر الشريعة الإسلامية 9(15/347)
تصدير 249-
التصوف من صور الجاهلية 69
التصوير الفوتغرافي 156
التضامن الإسلامي 69
تعقبات على كتابة بعض الناس في العقيدة والتوحيد 72
التعليق على العقيدة الطحاوية 144
تعليل الأحكام الشرعية واختلاف العلماء فيه، وحقيقة موقف الحنابلة منه، وأثر ذلك في حجية القياس 12
تعيين مواقيت الصلاة في أي زمان ومكان على سطح الأرض 139
التغيير في حياة الأمم وعوامل الثبات والاهتزاز 212
التفسير بالأثر والرأي وأسهم كتب التفسير فيهما 226
التمسك بالإسلام حقا هو سبب النصرة والنجاة في الآخرة 33
التمسك بالسنة وأثره في استقامة المسلم 132
تنبيهات هامة على ما كتبه الشيخ محمد علي الصابوني، في صفات الله عز وجل 239
توضيح عمل المرأة 148.(15/348)
(ث)
ثمرات الإيمان بالله واليوم الآخر 57
(ج)
الجهاد في سبيل الله: أسبابه وأهدافه 75
جهاز تعيين اتجاه القبلة من أي مكان على سطح الأرض 216
(ح)
الحاجة إلى الرسل 56(15/348)
حادث المسجد الحرام وأمر المهدي المنتظر 149
الحدود في الإسلام 81
الحديث عن لو 245
الحرب والصلح في الإسلام 84
حركة الإصلاح الديني في القرن الثاني عشر 85
حرمة القرآن الكريم 218
حسان بن ثابت 40
الحسبة والنظام الإداري 87
حقوق الجوار للكفار 157
حقيقة التوكل 158
حقيقة لا إله إلا الله 137
حكم الاحتفال بالموالد 3
حكم الإحداد على الملوك والزعماء في نظر الشريعة الإسلامية 160
حكم إخراج زكاة الفطر نقودا 116
حكم الاستعانة بغير الله 161
حكم الأسورة المغناطيسية 17
حكم الأوراق النقدية 18
حكم بيع العينة 10
حكما التسعير 208
حكم تشريح جثة المسلم 19
حكم تمثيل الصحابة في فيلم أو مسرحية 20
حكم تناول الميتة 13
حكم الحلف بغير الله- حكم لبس الباروكة للزوج- حكم حلق المرأة رأسها وحواجبها 162
حكم الحيوان المذبوح بالصعق الكهربائي 4
حكم رمي الجمرات قبل طلوع1لشصر 21
حكم السعي فوق سقف المسعى 22(15/349)
حكم السفور والحجاب 5
حكم الشفعة بالمرافق الخاصة 23
حكم الشهادة تحملا وأداء 8
حكم الشهادة فيما كان من حقوق العباد 138
حكم الصلاة على السجاد المحلى بالصور 159
حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد 120
حكم الطلاق المعلق 24
الحكم في السطو الاختطاف والمسكرات 25
حكم لعب الأطفال مجسمة وغير مجسمة 244
حكم النشوز والخلاع 26
حكم نكاح الشغار 6
حمزة بن عبد المطلب، أسد الله، وأسد رسوله، وسيد الشهداء 37
الحوار الإسلامي المسيحي ووجهة نظر إسلامية 262
حوار مع الأمين العام للأمانة العامة للدعوة الإسلامية 88
حوار مع الأمين العام لهيئة كبار العلماء 89
(خ)
ابن خلدون وريادته لعلم تفسير التأريخ 45
الخمر في الشريعة الإسلامية 90(15/350)
(د)
أبو داود. . حياته وسننه 44
دعاة أمناء لرسالة عظمى. . عقيدة يحميها سيف، وسيف تحميه عقيدة 94
الدعوة الإصلاحية في الجزيرة العربية وحركة الجامعة الإسلامية 86
الدعوة إلى الله 93
الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة 91
دور عالمي لرسالة عالمية 115
الدين والتدين 34(15/350)
(ذ)
الذبائح 163
(ر)
الربا في ضوء الكتاب والسنة 97
رسالة إلى العلماء والمفكرين المسلمين في العالم 125
الرسالة العسكرية للمسجد: الثكنة الأولى 104
رسالة الفاروق لأبي موسى الأشعري (رضي الله عنهما) ، المبادئ العامة في أصول القضاء 114
رسالة المساجد في صدر الإسلام 109
رسالة المساجد في عصور ازدهارها 113
رسالة المسجد 151، 107
رسالة المسجد عبر التاريخ 106، 108، 110
رسالة المسجد في الماضي والحاضر 103، 105
رسالة المسجد قديما وحديثا 102
الرضاعة 164
(ز)
الزكاة 165
الزكاة الشرعية وأحكامها 14
الزنا والهجرة للبلاد الأجنبية 166
زيد بن حارثة 38
(س)
السفر وإفطار رمضان- حكم التوسل إلى الله بالأنبياء والصالحين 167
سلاح العصر يحمل لواء الدعوة 250
السنة 78(15/351)
(ش)
شبهات وشعارات حول تطبيق الشريعة 126
الشرط الجزائي 209
الشريعة - قضاء الفريضة 168
الشريعة الإسلامية منهاج رباني 127
(ص)
الصلاة في الطائرة. . وإمامة الصلاة في الجمعة. . وزكاة الحلي 169
صلاحية التشريع الإسلامي للبشر كافة 130
(ط)
الطريقة التجانية 65
(ع)
عبد الرحمن بن عوف الزهري: حواري النبي صلى الله عليه وسلم، وقائد إحدى سراياه 39 على طريق الجسد الواحد إلى مركز اليابسة على الأرض مكة المكرمة 264
علامة الكيمياء الجلدكي 237
العقد شريعة المتعاقدين 143
(ف)
الفتاوى 170
فتاوى خاصة بالصلاة 171
فتوى عن المسيح عليه السلام 172
فترة مشرقة للجهاد الإسلامي في الحبشة من خلال كتاب- تحفة الزمان أو فتوح الحبشة لعرب فقيه الجيزاني 232
الفرق بين البيع والربا في الشريعة الإسلامية خلاف ما عليه أهل الجاهلية 99
الفلسفة 213(15/352)
في الأضحية وصلاة العيد 173
في إفطار رمضان والقضاء والكفارة 174
في أوقاف المسجد 175
في بناء المسجد 176
في التصوير 177
في الحج 178
في الدعاء179
في الدين 180
في الربا 181
في الرشوة 182
في الرضاعة 183
في الزكاة 184
في زكاة أموال جمعت للتجارة 185
في الزواج 186
في الصلاة 187
في الصيام 188
في الوضوء - الصلاة- الأمانة- الطواف 196
في الطلاق 118، 189
في العبادات 190
في القتل الخطأ 191
في قراءة القرآن من أجل التكسب 192
في اللحم المذبوح ببلاد الكفر وأهل الكتاب 193
في المواريث 194
في النذر 195(15/253)
(ق)
القدس. . والفيصل- والإسلام 217(15/253)
القسامة 210
القضاء في الإسلام وأثر تطبيق السعودية له في حفظ الحقوق ومكافحة الجريمة قواعد في أدلة الأسماء والصفات 241
(ك)
كتابة المصحف 257
كتابة المصحف باللاتينية 258
كعب بن مالك: شاعر السيف والقلم 42
كلمة سماحة الشيخ إلى حجاج بيت الله الحرام 83
كيف صرت مسلما 236
كيفية تحديد مواقيت الصلاة 197
(ل)
لقاء الجزيرة مع سماحة الشيخ في موسم حج عام 1405 هـ 62
لقاء مع الداعية البريطاني المسلم، يوسف إسلام 50
- اللغة العربية لسان وكيان 246
(م)
ما حكم تارك الصلاة 198
ما هكذا الدعوة إلى الله يا صالح 92
مباحث في القرآن الكريم 219
مجلة البحوث الإسلامية- تقديم 251
الشيخ محمد بن عبد الوهاب عبقري العصر وأستاذ الجيل 49
محمد بن مسلمة الأوسي الأنصاري: فارس نبي الله 40
المذاهب. . المهدي المنتظر 199
مدى إمكانية ترجمة القرآن 225(15/354)
المرسل عند الإمام الشافعي 76
مسألة الاحتجاج بالشافعي 211
مساوئ الزواج من أجنبيات 119
المسجد المعاصر 100
المسجد ومكانته في الإسلام 111
مسلمة بن عبد الملك مجاهد على الدوام 33
المسلمون في أمريكا 253
المسلمون في العالم: إنجلترا 255
المسلمون في العالم: الولايات المتحدة 254
مسند بلال بن رباح رضي الله عنه لأبي على الزعفراني 67
مشروعية استملاك العقار للمنفعة العامة 11
المعاجم العربية 247
معركة شقحب أو معركة مرج الصفر 260
المفتى في الشريعة الإسلامية 128
مقارنة بين أسلوب الحديث النبوي وأسلوب القرآن الكريم 80
من آثار عملية نقل الدم 201
من أحكام القرآن الكريم 221
من أهداف الإسلام 32
من زوايا الدعوة إلى الله 95
من المؤتمر السادس لجمعية التعليم لعموم الهند 265
منع الحيض وقت الحج 204
منقبة للملك فيصل قدس الله روحه 122
منهج السلف في العقيدة وأثره في وحدة المسلمين 145
موارد تقي الدين الفاسي في كتابه العقد الثمين 230
مؤتمرات إسلامية 266
مؤتمر رسالة المسجد 112، 267
المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي 268(15/355)
المؤتمر العالمي بلندن عن حياة المسيح عليه السلام 263
المؤتمر العربي لشئون المخدرات، الدورة السادسة، الرياض 269
موقف الشريعة من نكاح التحليل 129
(ن)
النبوة دراسة من القرآن الكريم 55
النذر 202
نزع القرنية من عين إنسان وزرعها في عين آخر 27
النسيان والذكر في القرآن الكريم 220
نشيد الفرح بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم 54
نظام الأسرة عند ابن تيمية في الزواج وآثاره 233
نظرية براءة المتهم حتى تثبت إدانته وحظها من الاعتبار في الشريعة الإسلامية 29
نكاح الشغار 202
نواقض الإسلام 270
(هـ)
الهبة 204
هدي التمتع والقران 28
هل توجد في القرآن كلمات معربة 223
(و)
الواحد الصمد 243
وثائق تاريخية 271
وجوب إنكار المعاملات الربوبية 96(15/356)
وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية في شئون الحياة كلها 134
وجوب التوبة إلى الله والضراعة إليه عند نزول المصائب 71
وعد بطائفة ناجية 140
الإمام وكيع: حياته وآثاره 47
وفي سبيل الله 227.(15/357)
صفحة فارغة(15/358)
حديث شريف
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: «حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس (1) »
متفق عليه
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1240) ، صحيح مسلم السلام (2162) ، سنن الترمذي الأدب (2737) ، سنن النسائي الجنائز (1938) ، سنن أبو داود الأدب (5030) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1435) ، مسند أحمد بن حنبل (2/540) .(15/359)
بسم الله الرحمن الرحيم
{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} (1) {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} (2) {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (3) {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (4) {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} (5) {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} (6) {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} (7) {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} (8)
(سورة التكاثر)
__________
(1) سورة التكاثر الآية 1
(2) سورة التكاثر الآية 2
(3) سورة التكاثر الآية 3
(4) سورة التكاثر الآية 4
(5) سورة التكاثر الآية 5
(6) سورة التكاثر الآية 6
(7) سورة التكاثر الآية 7
(8) سورة التكاثر الآية 8(16/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(16/2)
مجلة البحوث الإسلامية
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(16/3)
المحتويات
الافتتاحية
التحذير من السفر إلى بلاد الكفرة وخطره على العقيدة والأخلاق سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
موضوع العدد
الحكورات اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 11
الفتاوى:
الفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 103
البدع وأثرها في انحراف التصور الإسلامي للدكتور صالح بن سعد السحيمي 139
من أعلام المجددين الشيخ محمد بن عبد الوهاب للدكتور صالح الفوزان 171
نشأة نقد علم الحديث للدكتور محمد لقمان السلفي 193
حكم / في من تاب من الكسب الحرام للشيخ عبد الله العبودي 209(16/4)
مخطوطة / رسالة مختصرة فيما روي عن أهل المعرفة والحقائق
في معاملة الظالم.. السارق.. تصنيف العلامة ابن رجب تحقيق الوليد بن عبد الرحمن الفريان 261
قضية البعث في ضوء الوحي والعقل للشيخ محمد المجذوب 275
إن الدين عند الله الإسلام للشيخ عثمان أحمد الضميرية 298
الأقليات الإسلامية ظروفها وآمالها وآمالها لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز 338
أسئلة موجهة من جريدة البلاد إلى.. سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز 347
حكم إقامة الجمعة في القرى لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز 352(16/5)
صفحة فارغة(16/6)
الافتتاحية
التحذير من السفر إلى بلاد الكفرة وخطره على العقيدة والأخلاق
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد أنعم الله على هذه الأمة بنعم كثيرة وخصها بمزايا فريدة وجعلها خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله. وأعظم هذه النعم نعمة الإسلام الذي ارتضاه الله، لعباده شريعة ومنهج حياة وأتم به على عباده النعمة وأكمل لهم به الدين قال تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) ولكن أعداء الإسلام قد حسدوا المسلمين على هذه النعمة الكبرى
__________
(1) سورة المائدة الآية 3(16/7)
فامتلأت قلوبهم حقدا وغيظا وفاضت نفوسهم بالعداوة والبغضاء لهذا الدين وأهله وودوا لو يسلبون المسلمين هذه النعمة أو يخرجونهم منها كما قال تعالى في وصف ما تختلج به نفوسهم {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} (1) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (2) وقال عز وجل {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} (3) .
وقال جل وعلا {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (4) والآيات الدالة على عداوة الكفار للمسلمين كثيرة والمقصود أنهم لا يألون جهدا ولا يتركون سبيلا للوصول إلى أغراضهم وتحقيق أهدافهم في النيل من المسلمين إلا سلكوه ولهم في ذلك أساليب عديدة ووسائل خفية وظاهرة فمن ذلك ما تقوم به بين وقت وآخر بعض مؤسسات السفر والسياحة من توزيع نشرات دعائية تتضمن دعوة أبناء هذا البلد لقضاء العطلة الصيفية في ربوع أوروبا وأمريكا بحجة تعلم اللغة الإنجليزية ووضع برامج شاملة لجميع أوقات المسافر، وهذه البرامج تشتمل على فقرات عديدة منها ما يلي:
أ- اختيار عائلة كافرة لإقامة الطالب لديها مع ما في ذلك من المحاذير الكثيرة.
ب- حفلات موسيقية ومسارح وعروض مسرحية في المدينة التي يقيم فيها.
__________
(1) سورة النساء الآية 89
(2) سورة آل عمران الآية 118
(3) سورة الممتحنة الآية 2
(4) سورة البقرة الآية 217(16/8)
ج - زيارة أماكن الرقص والترفيه.
د- ممارسة رقصة الديسكو مع فتيات كافرات ومسابقات في الرقص.
هـ - جاء في ذكر الملاهي الموجودة في إحدى المدن الكافرة ما يأتي:
(أندية ليلية، مراقص ديسكو، حفلات موسيقى الجاز والروك والموسيقى الحديثة، مسارح ودور سينما وحانات كافرة تقليدية) .
وتهدف هذه النشرات إلى تحقيق عدد من الأغراض الخطيرة منها ما يلي:
1 - العمل على انحراف شباب المسلمين وإضلالهم.
2 - إفساد الأخلاق والوقوع في الرذيلة عن طريق تهيئة أسباب الفساد وجعلها في متناول اليد.
3 - تشكيك المسلم في عقيدته.
4 - تنمية روح الإعجاب والانبهار بحضارة الكفرة.
5 - دفع المسلم للتخلق بالكثير من تقاليد الكفار وعاداتهم السيئة.
6 - التعود على عدم الاكتراث بالدين وعدم الالتفات لآدابه وأوامره.
7 - تجنيد الشباب المسلم ليكونوا من دعاة السفر إلى بلد الكفر بعد عودتهم من هذه الرحلة وتشبعهم بأفكار الكفرة وعاداتهم وطرق معيشتهم.
إلى غير ذلك من الأغراض والمقاصد الخطيرة التي يعمل أعداء الإسلام لتحقيقها بكل ما أوتوا من قوة وبشتى الطرق والأساليب الظاهرة والخفية وقد يتسترون ويعملون بأسماء عربية ومؤسسات وطنية إمعانا في الكيد وإبعادا للشبهة وتضليلا للمسلمين عما يرومونه من أغراض في بلاد الإسلام. لذلك فإني أحذر إخواني المسلمين في هذا البلد خاصة وفي(16/9)
جميع بلاد المسلمين عامة من الانخداع بمثل هذه النشرات والتأثر بها وأدعوهم إلى أخذ الحيطة والحذر وعدم الاستجابة لشيء منها فإنها سم زعاف ومخططات من أعداء الإسلام تفضي إلى إخراج المسلمين من دينهم وتشكيكهم في عقيدتهم وبث الفتن بينهم كما ذكر الله عنهم في محكم التنزيل، قال تعالى {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (1) الآية كما أنصح أولياء أمور الطلبة خاصة بالمحافظة على أبنائهم وعدم الاستجابة لطلبهم السفر إلى الخارج لما في ذلك من الأضرار والمفاسد على دينهم وأخلاقهم وبلادهم كما أسلفنا، وإرشادهم إلى أماكن النزهة والاصطياف في بلادنا وهي كثيرة بحمد الله والاستغناء بها عن غيرها فيتحقق بذلك المطلوب وتحصل السلامة لشبابنا من الأخطار والمتاعب والعواقب الوخيمة والصعوبات التي يتعرضون لها في البلاد الأجنبية. هذا وأسأل الله جل وعلا أن يحمي بلادنا وسائر بلاد المسلمين وأبناءهم وبناتهم من كل سوء ومكروه وأن يجنبهم مكائد الأعداء ومكرهم وأن يرد كيدهم في نحورهم كما أسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمرنا وجميع ولاة أمور المسلمين لكل ما فيه القضاء على هذه الدعايات الضارة والنشرات الخطيرة وأن يوفقهم لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 120(16/10)
موضوع العدد
الحكورات
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
فبناء على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في دورته السابعة عشرة المنعقدة بمدينة الرياض في شهر رجب عام 1401هـ من إعداد بحث في الحكورات القديمة التي لم تعد أجورها تتناسب مع مستوى أجور العقارات في الوقت الحاضر وقد بنى المجلس قراره هذا على ما رفعه إليه معالي وزير الحج والأوقاف يطلب فيه النظر في ذلك، بناء على ذلك أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا مختصرا في ذلك شمل تمهيدا ونقولا عن بعض فقهاء الإسلام في الموضوع وعلى خلاصة موجزة لأهم ما جاء في النقول وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(16/11)
الأمر الأول
التمهيد: جاءت الشريعة الإسلامية بجلب المصالح ودرء المفاسد وأن المصالح إذا تعارضت جاز تفويت أدناها لحصول أعلاها وإذا تعارضت المصالح والمفاسد أخذ بالراجح منها فإن ترجحت المصالح أخذ بها وقيل بمشروعية متعلقها وإن ترجح جانب المفاسد اعتمد عليها في المنع وإذا تساوى جانب المصالح والمفاسد في نظر المجتهد فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح ومن فروع هذا التقعيد قاعدة تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص والنيات والعوائد وقاعدة سد الذرائع وأن المعروف عرفا كالمشروط لفظا، وللعلاقة الوثيقة بين هذا الفرع محل البحث ولين هذه القواعد استحسنت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء أن تذكر نقولا عن ابن القيم رحمه الله تعالى في هذه القواعد الثلاث، وقد رأت الاكتفاء بهذه النقول لوفائها بالمقصود فذكرت:
أولا: تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص والنيات والعوائد.
ثانيا: سد الذرائع.
ثالثا: المعروف عرفا كالمشروط لفظا.(16/12)
أولا: تغير الفتوى واختلافها
قال ابن القيم رحمه الله تعالى
فصل
في تغير الفتوى واختلافها
بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد
هذا فصل عظيم النفع جدا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها وهي نوره الذي به أبصر المبصرون وهداه الذي به اهتدى المهتدون وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل فهي قوة العيون وحياة القلوب ولذة الأرواح فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها(16/13)
وحاصل بها وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم وهي العصمة للناس وقوام العالم. وبها يمسك الله السماوات والأرض أن تزولا فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطي العالم رفع إليه ما بقي من رسومها فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.
ونحن نذكر تفصيل ما أجملناه في هذا الفصل بحول الله وتوفيقه ومعونته بأمثلة صحيحة.
المثال الأول:
أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره. وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها وقالوا أفلا نقاتلهم فقال لا ما أقاموا الصلاة وقال: «من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعن يدا من طاعته (1) » ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها. بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك- مع قدرته عليه- خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما
__________
(1) صحيح البخاري الفتن (7054) ، صحيح مسلم الإمارة (1849) ، مسند أحمد بن حنبل (1/297) ، سنن الدارمي السير (2519) .(16/14)
يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء.
فإنكار المنكر أربع درجات: الأولى: أن يزول ويخلفه ضده، الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته، الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله، الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه. فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد. والرابعة محرمة، فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله كرمي النشاب وسباق الخيل ونحو ذلك. وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء وتصدية فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك فكان ما هو فيه شاغلا لهم عن ذلك وكما إذا كان الرجل مشتغلا بكتب المجون ونحوها وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر فدعه وكتبه الأولى. وهذا باب واسع. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر فأنكر عليهم من كان معي فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم.
المثال الثاني:
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى «أن تقطع الأيدي في الغزو (1) » رواه أبو داود فهذا حد من حدود الله تعالى وقد نهى عن إقامته في الغزو خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره من لحوق صاحبه بالمشركين حمية وغضبا كما قاله عمر وأبو الدرداء وحذيفة وغيرهم، وقد
__________
(1) سنن الترمذي الحدود (1450) ، سنن النسائي قطع السارق (4979) ، سنن أبو داود الحدود (4408) ، مسند أحمد بن حنبل (4/181) ، سنن الدارمي السير (2492) .(16/15)
نص أحمد وإسحاق بن راهويه والأوزاعي وغيرهم من علماء الإسلام على أن الحدود لا تقام في أرض العدو ذكرها أبو القاسم الخرقي في مختصره فقال لا يقام الحد على مسلم في أرض العدو. وقد أتى بشر بن أرطاة برجل من الغزاة قد سرق مجنة فقال: لولا أني سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول «لا تقطع الأيدي في الغزو (1) » ، لقطعت يدك. رواه أبو داود وقال أبو محمد المقدسي: وهو إجماع الصحابة روى سعيد بن منصور في سننه بإسناده عن الأحوص بن حكيم عن أبيه أن عمر كتب إلى الناس أن لا يجلدن أمير جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين حدا وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلا لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار، وعن أبي الدرداء مثل ذلك.
وقال علقمة: (كنا في جيش في أرض الروم ومعنا حذيفة بن اليمان، وعلينا الوليد بن عقبة فشرب الخمر، فأردنا أن نحده، فقال حذيفة أتحدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعوا فيكم؟) .
وأتى سعد بن أبي وقاص بأبي محجن يوم القادسية وقد شرب الخمر فأمر به إلى القيد فلما التقى الناس قال أبو محجن:
كفى حزنا أن تطرد الخيل بالقنا ... وأترك مشدودا علي وثاقيا
فقال لابنة حفصة امرأة سعد: أطلقيني ولك والله علي إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد فإن قتلت استرحتم مني. . قال: فحلته حتى التقى الناس وكانت بسعد جراحة فلم يخرج يومئذ إلى الناس قال: وصعدوا به فوق العذيب ينظر إلى الناس واستعمل على الخيل خالد بن عرفطة. فوثب أبو محجن على فرس لسعد يقال لها البلقاء ثم أخذ رمحا ثم خرج فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم وجعل الناس يقولون: هذا ملك لما يرونه يصنع وجعل سعد يقول الصبر
__________
(1) سنن الترمذي الحدود (1450) ، سنن النسائي قطع السارق (4979) ، سنن أبو داود الحدود (4408) ، مسند أحمد بن حنبل (4/181) ، سنن الدارمي السير (2492) .(16/16)
صبر البلقاء والظفر ظفر أبي محجن وأبو محجن في القيد فلما هزم العدو ورجع أبو محجن حتى وضع رجليه في القيد فأخبرت ابنة حفصة سعدا بما كان من أمره فقال سعد لا والله لا أضرب اليوم رجلا أبلى للمسلمين ما أبلاهم فخلى سبيله فقال أبو محجن قد كنت أشربها إذ يقام علي الحد وأطهر منها، فأما إذ بهرجتني فوالله لا أشربها أبدا، وقوله إذ بهرجتني أي أهدرتني بإسقاط الحد عني ومنه (بهرج دم ابن الحارث) أي أبطله وليس في هذا ما يخالف نصا ولا قياسا ولا قاعدة من قواعد الشرع ولا إجماعا، بل لو ادعى أنه إجماع الصحابة كان أصوب.
قال الشيخ في المغني: وهذا اتفاق لم يظهر خلافه.
قلت: وأكثر ما فيه تأخير الحد لمصلحة راجحة إما من حاجة المسلمين إليه أو من خوف ارتداده ولحوقه بالكفار وتأخير الحد لعارض أمر وردت به الشريعة كما يؤخر عن الحامل والمرضع وعن وقت الحر والبرد والمرض فهذا تأخير لمصلحة المحدود فتأخيره لمصلحة الإسلام أولى. فإن قيل: فما تصنعون بقول سعد (والله لا أضرب اليوم رجلا أبلى للمسلمين ما أبلاهم) فأسقط عنه الحد؟ .
قيل: قد يتمسك بهذا من يقول (لا حد على مسلم في دار الحرب) كما يقوله أبو حنيفة ولا حجة فيه. والظاهر أن سعدا رضي الله عنه اتبع في ذلك سنة الله تعالى: فإنه لما رأى من تأثير أبي محجن في الدين وجهاده وبذله نفسه لله ما رأى درأ عنه الحد: لأن ما أتى به من الحسنات غمرت هذه السيئة الواحدة وجعلتها كقطرة نجاسة وقعت في بحر، ولا سيما وقد شام منه مخايل التوبة النصوح وقت القتال إذ لا يظن مسلم إصراره في ذلك الوقت الذي هو مظنة القدوم على الله وهو يرى الموت، وأيضا فإنه بتسليمه نفسه ووضع رجله في القيد اختيارا قد استحق(16/17)
أن يوهب له حده كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال له: «يا رسول الله أصبت حدا فأقمه علي. فقال: هل صليت معنا هذه الصلاة. قال: نعم. قال: اذهب فإن الله غفر لك حدك (1) » وظهرت بركة هذا العفو والإسقاط في صدق توبته. فقال: والله لا أشربها أبدا وفي رواية (أبد الأبد) وفي رواية (قد كنت آنف أن أتركها من أجل جلداتكم فأما إذ تركتموني فوالله لا أشربها أبدا) وقد برئ النبي صلى الله عليه وسلم مما صنع خالد ببني جذيمة، وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد (2) » ولم يؤاخذه به لحسن بلائه ونصره للإسلام.
ومن تأمل المطابقة بين الأمر والنهي والثواب والعقاب وارتباط أحدهما بالآخر علم فقه هذا الباب وإذا كان الله لا يعذب تائبا فهكذا الحدود لا تقام على تائب. وقد نص الله على سقوط الحد عن المحاربين بالتوبة التي وقعت قبل القدرة عليهم مع عظيم جرمهم وذلك تنبيه على سقوط ما دون الحراب بالتوبة الصحيحة بطريق الأولى وقد روينا في سنن النسائي من حديث سماك عن علقمة بن وائل عن أبيه «أن امرأة وقع عليها في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجد بمكروه على نفسها فاستغاثت برجل مر عليها وفر صاحبها ثم مر عليها ذوو عدد فاستغاثت بهم فأدركوا الرجل الذي كانت استغاثت به فأخذوه وسبقهم الآخر فجاءوا به يقودونه إليها فقال: أنا الذي أغثتك وقد ذهب الآخر قال: فأتوا به نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أنه الذي وقع عليها وأخبر القوم أنهم أدركوه يشتد فقال: إنما كنت أغثتها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني فقالت: كذب هو الذي وقع علي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انطلقوا به فارجموه فقام رجل من الناس فقال: لا ترجموه وارجموني فأنا الذي فعلت بها الفعل فاعترف فاجتمع ثلاثة عند رسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي وقع عليها والذي أغاثها والمرأة فقال
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6823) ، صحيح مسلم التوبة (2764) .
(2) صحيح البخاري المغازي (4339) ، سنن النسائي آداب القضاة (5405) ، مسند أحمد بن حنبل (2/151) .(16/18)
أما أنت فقد غفر لك وقال للذي أغاثها ولا حسنا فقال عمر: ارجم الذي اعترف بالزنى فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لأنه قد تاب إلى الله» رواه عن محمد بن يحيى بن كثير الحمراني ثنا عمرو بن حماد بن طلحة حدثنا أسباط بن نصر عن سماك وليس فيه بحمد الله إشكال.
فإن قيل: فكيف أمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم برجم المغيث من غير بينة ولا إقرار؟
قيل: هذا من أدل الدلائل على اعتبار القرائن والأخذ بشواهد الأحوال في التهم وهذا يشبه إقامة الحدود بالرائحة والقيء كما اتفق عليه الصحابة وإقامة حد الزنا بالحبل كما نص عليه عمر وذهب إليه فقهاء أهل المدينة وأحمد في ظاهر مذهبه وكذلك الصحيح أنه يقام الحد على المتهم بالسرقة إذا وجد المسروق عنده فهذا الرجل لما أدرك وهو يشتد هربا وقالت المرأة هذا هو الذي فعل بي وقد اعترف بأنه دنا منها وأتى إليها وادعى أنه كان مغيثا لا مريبا ولم ير أولئك الجماعة غيره كان في هذا أظهر الأدلة على أنه صاحبها وكان الظن المستفاد من ذلك لا يقصر عن الظن المستفاد من شهادة البينة واحتمال الغلط وعداوة الشهود كاحتمال الغلط أو عداوة المرأة هاهنا. بل ظن عداوة المرأة في هذا الموضع في غاية الاستبعاد، فنهاية الأمر أن هذا لوث ظاهر لا يستبعد ثبوت الحد بمثله شرعا، كما يقتل في القسامة باللوث الذي لعله دون هذا في كثير من المواضع، فهذا الحكم من أحسن الأحكام وأجراها على قواعد الشرع والأحكام الظاهرة تابعة للأدلة الظاهرة من البينات والأقارير وشواهد الأحوال وكونها في نفس الأمر قد تقع غير مطابقة ولا تنضبط أمر لا يقدح في كونها طرقا وأسبابا للأحكام والبينة لم تكن موجبة بذاتها للحد وإنما ارتباط الحد بها ارتباط المدلول بدليله فإن كان هناك دليل يقاومها أو أقوى(16/19)
منها لم يلغه الشارع وظهور الأمر بخلافه لا يقدح في كونه دليلا كالبينة والإقرار وأما سقوط الحد عن المعترف فإذا لم يتسع له نطاق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأحرى أن لا يتسع له نطاق كثير من الفقهاء ولكن اتسع له نطاق الرءوف الرحيم فقال إنه قد تاب إلى الله وأبى أن يحده ولا ريب أن الحسنة التي جاء بها من اعترافه طوعا واختيارا خشية من الله وحده وإنقاذا لرجل مسلم من الهلاك وتقديم حياة أخيه على حياته واستسلامه للقتل أكبر من السيئة التي فعلها فقاوم هذا الدواء لذلك الداء، وكانت القوة صالحة فزال المرض وعاد القلب إلى حال الصحة فقيل لا حاجة لنا بجدل وإنما جعلناه طهرة ودواء، فإذا تطهرت بغيره فعفونا يسعك فأي حكم أحسن من هذا الحكم وأشد مطابقة للرحمة والحكمة والمصلحة وبالله التوفيق.
وقد روينا في سنن النسائي من حديث الأوزاعي ثنا أبو عمار شداد قال حدثني أبو أمامة «أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أصبت حدا فأقمه علي فأعرض عنه ثم قال: إني أصبت حدا فأقمه علي فأعرض عنه ثم قال: يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي فأعرض عنه فأقيمت الصلاة فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي قال: هل توضأت حين أقبلت؟ قال: نعم قال: هل صليت معنا حين صلينا؟ قال: نعم قال: اذهب فإن الله قد عفا عنك (1) » وفي لفظ: «إن الله قد غفر لك ذنبك أو حدك (2) » ومن تراجم النسائي على هذا الحديث من اعترف بحد ولم يسمه وللناس فيه ثلاث مسالك هذا أحدها والثاني: أنه خاص بذلك الرجل. والثالث: سقوط الحد بالتوبة قبل القدرة عليه. وهذا أصح المسالك.
__________
(1) صحيح مسلم التوبة (2765) ، سنن أبو داود الحدود (4381) ، مسند أحمد بن حنبل (5/265) .
(2) صحيح البخاري الحدود (6823) ، صحيح مسلم التوبة (2764) .(16/20)
فصل
المثال الثالث:
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسقط القطع عن السارق في عام المجاعة قال السعدي: حدثنا هارون بن إسماعيل الخراز، ثنا علي بن المبارك، ثنا يحيى بن أبي كثير، حدثني حسان بن زاهر أن ابن حدير حدثه عن عمر قال: لا تقطع اليد في عذق ولا عام سنة قال السعدي: سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال العذق النخلة وعام سنة: المجاعة فقلت لأحمد: تقول به؟ فقال: إي لعمري قلت: إن سرق في مجاعة لا تقطعه؟ فقال: لا إذا حملته الحاجة على ذلك والناس في مجاعة وشدة.
قال السعدي: وهذا على نحو قضية عمر في غلمان حاطب، ثنا أبو النعمان عارم، ثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن ابن حاطب أن غلمة لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة فأتى بهم عمر فأقروا فأرسل إلى عبد الرحمن بن حاطب فجاء فقال له إن غلمان حاطب سرقوا ناقة رجل من مزينة وأقروا على أنفسهم. فقال عمر: يا كثير بن الصلت اذهب فاقطع أيديهم فلما ولى بهم ردهم عمر ثم قال: أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له لقطعت أيديهم وايم الله إذا لم أفعل لأغرمنك غرامة توجعك ثم قال: يا مزني بكم أريدت منك ناقتك؟ قال: بأربع مائة قال عمر: اذهب فأعطه ثماني مائة.
وذهب أحمد إلى موافقة عمر في الفصلين جميعا ففي مسائل إسماعيل بن سعيد الشالنجي التي شرحها السعدي بكتاب سماه المترجم قال: سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يحمل الثمر من أكمامه فقال فيه الثمن مرتين وضرب نكال وقال وكل من درأنا عنه الحد والقود أضعفنا(16/21)
عليه الغرم وقد وافق أحمد على سقوط القطع في المجاعة الأوزاعي وهذا محض القياس ومقتضى قواعد الشرع فإن السنة إذا كانت سنة مجاعة وشدة غلب على الناس الحاجة والضرورة فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد به رمقه ويجب على صاحب المال بذل ذلك له إما بالثمن أو مجانا على الخلاف في ذلك، والصحيح وجوب بذله مجانا لوجوب المواساة وإحياء النفوس مع القدرة على ذلك والإيثار بالفضل مع ضرورة المحتاج، وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج وهي أقوى من كثير من الشبه التي يذكرها كثير من الفقهاء، بل إذا وازنت بين هذه الشبهة، وبين ما يذكرونه ظهر لك التفاوت فأين شبهة كون المسروق مما يشرع إليه الفساد وكون أصله على الإباحة كالماء وشبهة القطع به مرة وشبهة دعوى ملكه بلا بينة وشبهة إتلافه في الحرز بأكل أو احتلاب من الضرع وشبهة نقصان ماليته في الحرز بذبح أو تحريق ثم إخراجه، وغير ذلك من الشبه الضعيفة جدا إلى هذه الشبهة القوية لا سيما وهو مأذون له في مغالبة صاحب المال على أخذ ما يسد رمقه، وعام المجاعة يكثر فيه المحاويج والمضطرون ولا يتميز المستغني منهم والسارق لغير حاجة من غيره فاشتبه من يجب عليه الحد بمن لا يجب عليه، فدرئ، نعم إذا بان أن السارق لا حاجة به وهو مستغن عن السرقة قطع. انتهى المقصود (1)
__________
(1) إعلام الموقعين 1 \ 14 وما بعدها.(16/22)
ثانيا: سد الذرائع
قال ابن القيم رحمه الله
فصل
في سد الذرائع
لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها، ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل، فإذا حرم الرب تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقا لتحريمه وتثبيتا له ومنعا أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضا للتحريم وإغراء للنفوس به، وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك، فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه لعد متناقضا ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده، وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه، وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه. فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟ ومن تأمل مصادرها(16/23)
ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها، والذريعة: ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء.
ولا بد من تحرير هذا الموضع قبل تقريره ليزول الالتباس فيه، فنقول:
الفعل أو القول المفضي إلى المفسدة قسمان: أحدهما: أن يكون وضعه للإفضاء إليها كشرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر، وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفرية، والزنا المفضي إلى اختلاط المياه وفساد الفراش، ونحو ذلك، فهذه أفعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد وليس لها ظاهر غيرها. والثاني: أن تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب، فيتخذ وسيلة إلى المحرم إما بقصده أو بغير قصد منه، فالأول كمن يعقد النكاح قاصدا به التحليل أو يعقد البيع قاصدا به الربا، أو يخالع قاصدا به الحنث ونحو ذلك. والثاني كمن يصلي تطوعا بغير سبب في أوقات النهي. أو يسب أرباب المشركين بين أظهرهم أو يصلي بين يدي القبر لله ونحو ذلك. ثم هذا القسم من الذرائع نوعان أحدهما: أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته. والثاني: أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته: فهاهنا أربعة أقسام: الأول وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة. الثاني: وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة. الثالث: وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالبا ومفسدتها أرجح من مصلحته الرابع: وسيلة موضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحته أرجح من مفسدتها. فمثال القسم الأول والثاني قد تقدم ومثال الثالث الصلاة في أوقات النهي ومسبة آلهة المشركين بين ظهرانيهم وتزين المتوفى زوجها عنها في زمن عدتها وأمثال ذلك. ومثال الرابع:(16/24)
النظر إلى المخطوبة والمستامة والمشهود عليها ومن يطؤها ويعاملها، وفعل ذوات الأسباب في أوقات النهي، وكلمة الحق عند ذي سلطان جائر، ونحو ذلك. فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة، وجاءت بالمنع من القسم الأول كراهة أو تحريما بحسب درجاته في المفسدة، بقي النظر في القسمين الوسط: هل هما مما جاءت الشريعة بإباحتهما أو المنع منهما؟ فنقول:
الدلالة على المنع من وجوه:
الوجه الأول: قوله تعالى
{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (1) فحرم الله تعالى سب آلهة المشركين- مع كون السب غيظا وحمية لله وإهانة لآلهتهم- لكونه ذريعة إلى سبهم الله تعالى وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم وهذا كالتنبيه بل كالتصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سببا في فعل ما لا يجوز.
الوجه الثاني: قوله تعالى
{وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} (2) فمنعهن من الضرب بالأرجل وإن كان جائزا في نفسه لئلا يكون سببا إلى سمع الرجال صوت الخلخال فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن.
الوجه الثالث: قوله تعالى
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} (3) .
أمر الله تعالى مماليك المؤمنين ومن لم يبلغ منهم الحلم أن يستأذنوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة لئلا يكون دخولهم هجما بغير استئذان فيها ذريعة
__________
(1) سورة الأنعام الآية 108
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة النور الآية 58(16/25)
إلى اطلاعهم على عوراتهم وقت إلقاء ثيابهم عند القائلة والنوم واليقظة، ولم يأمرهم بالاستئذان في غيرها وإن أمكن في تركه هذه المفسدة لندورها وقلة الإفضاء إليها فجعلت كالمقدمة.
الوجه الرابع: قوله تعالى
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} (1) .
نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة - مع قصدهم الخير- لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم فإنهم كانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم ويقصدون بها السب. يقصدون فاعلا من الرعونة. فنهي المسلمون عن قولها سدا لذريعة المشابهة، ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم تشبها بالمسلمين يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون. انتهى المقصود (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 104
(2) إعلام الموقعين 3 \ 147.(16/26)
ثالثا: الشرط العرفي كاللفظي
قال ابن القيم رحمه الله تعالى
فصل
ومن هذا الشرط العرفي كاللفظي وذلك كوجوب نقد البلد عند الإطلاق ووجوب الحلول حتى كأنه مشترط لفظا فانصرف العقد بإطلاقه إليه وإن لم يقتضه لفظه ومنها السلامة من العيوب حتى يسوغ له الرد بوجود العيب تنزيلا لاشتراط سلامة المبيع عرفا منزلة اشتراطها لفظا، ومنها وجوب وفاء المسلم فيه في مكان العقد وإن لم يشترطه لفظا بناء على الشرط العرفي ومنها لو دفع ثوبه إلى من يعرف أنه يغسل أو يخيط بالأجرة أو عجينه لمن يخبزه أو لحما لمن يطبخه أو حبا لمن يطحنه أو متاعا لمن يحمله ونحو ذلك ممن نصب نفسه للأجرة على ذلك وجب له أجرة مثله. وإن لم يشترط معه ذلك لفظا. عند جمهور أهل العلم. حتى عند المنكرين لذلك فإنهم ينكرونه بألسنتهم ولا يمكنهم العمل إلا به. بل ليس يقف الإذن فيما يفعله الواحد من هؤلاء وغيرهم على صاحب المال خاصة لأن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض في الشفقة والنصيحة والحفظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولهذا جاز لأحدهم ضم اللقطة ورد الآبق وحفظ الضالة حتى إنه يحسب ما ينفقه على الضالة والآبق واللقطة وينزل إنفاقه عليها منزلة إنفاقه لحاجة نفسه لما كان حفظا لمال أخيه وإحسانا إليه فلو علم المتصرف لحفظ مال أخيه أن نفقته تضيع وأن(16/27)
إحسانه يذهب باطلا في حكم الشرع لما أقدم على ذلك ولضاعت مصالح الناس ورغبوا عن حفظ أموال بعضهم بعضا، وتعطلت حقوق كثيرة وفسدت أموال عظيمة، ومعلوم أن شريعة من بهرت شريعته العقول وفاقت كل شريعة، واشتملت على كل مصلحة وعطلت كل مفسدة، تأبى ذلك كل الإباء وأين هذا من إجازة أبي حنيفة تصرف الفضولي ووقف العقود تحصيلا لمصلحة المالك ومنع المرتهن من الركوب والحلب بنفقته؟ فيا لله العجب يكون هذا الإحسان للراهن وللحيوان ولنفسه بحفظ الرهن حراما لا اعتبار به شرعا مع إذن الشارع فيه لفظا وإذن المالك عرفا وتصرف الفضولي معتبرا مرتبا عليه حكمه؟ . هذا ومن المعلوم أنا في إبراء الذمم أحوج منا إلى العقود على أولاد الناس وبناتهم وإمائهم وعبيدهم ودورهم وأموالهم، فالمرتهن محسن بإبراء ذمة المالك من الإنفاق على الحيوان مؤد لحق الله فيه ولحق مالكه ولحق الحيوان ولحق نفسه متناول ما أذن له فيه الشارع من العوض بالدر والظهر، وقد أوجب الله سبحانه وتعالى على الآباء إيتاء المراضع أجرهن بمجرد الإرضاع وإن لم يعقدوا معهن عقد إجارة فقال تعالى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (1) .
فإن قيل: فهذا ينتقض عليكم بما لو كان الرهن دارا فخرب بعضها فعمرها ليحفظ الرهن فإنه لا يستحق السكنى عندكم بهذه العمارة ولا يرجع بها.
قيل: ليس كذلك بل يحتسب له بما أنفقه لأن فيه إصلاح الرهن ذكره القاضي وابنه وغيرهما وقد نص الإمام أحمد في رواية أبي حرب الجرجاني في رجل عمل في قناة رجل بغير إذنه فاستخرج الماء لهذا الذي عمل أجر في نفقته إذا عمل ما يكون منفعة لصاحب القناة هذا مع أن
__________
(1) سورة الطلاق الآية 6(16/28)
الفرق بين الحيوان والدار ظاهر لحاجة الحيوان إلى الإنفاق ووجوبه على مالكه بخلاف عمارة الدار فإن صح الفرق بطل السؤال وإن بطل الفرق ثبت الاستواء في الحكم.
فإن قيل: في هذا مخالفة للأصول من وجهين أحدهما: أنه إذا أدى عن غيره واجبا بغير إذنه كان متبرعا. ولم يلزمه القيام له بما أداه عنه. الثاني: أنه لو لزمه عوضه فإنما يلزمه نظير ما أداه فأما أن يعاوض عليه بغير جنس ما أداه بغير اختياره فأصول الشرع تأبى ذلك.
قيل: هذا هو الذي ردت به هذه السنة ولأجله تأولها من تأولها على أن المراد بها أن النفقة على المالك فإنه الذي يركب ويشرب وجعل الحديث دليلا على جواز تصرف الراهن في الرهن بالركوب والحلب وغيره. ونحن نبين ما في هذين الأصلين من حق وباطل.
فأما الأصل الأول فقد دل على فساده القران والسنة وآثار الصحابة والقياس الصحيح ومصالح العباد أما القرآن فقوله تعالى
{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (1) .
وقد تقدم تقرير الدلالة منه وقد اعترض بعضهم على هذا الاستدلال بأن المراد به أجورهن المسماة فإنه أمر لهم بوفائها. لا أمر لهم بإيتاء ما لم يسموه من الأجرة ويدل عليه قوله تعالى {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} (2) وهذا التعاسر إنما يكون حال العقد بسبب طلبها الشطط من الأجر أو حطها عن أجرة المثل وهذا اعتراض فاسد فإنه ليس في الآية ذكر التسمية ولا يدل عليها بدلالة من الدلالات الثلاث أما اللفظيتان فظاهر وأما اللزومية فلانفكاك التلازم بين الأمر بإيتاء الأجر وبين تقدم تسميته وقد
__________
(1) سورة الطلاق الآية 6
(2) سورة الطلاق الآية 6(16/29)
سمى الله سبحانه وتعالى ما يؤتيه العامل على عمله أجرا وإن لم يتقدم له تسمية كما قال تعالى عن خليله عليه السلام {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (1) وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (2) .
ومعلوم أن الأجر ما يعود إلى العامل عوضا عن عمله فهو كالثواب الذي يثوب إليه أي يرجع من عمله، وهذا ثابت سواء سمي أو لم يسم وقد نص الإمام أحمد رضي الله عنه على أنه إذا افتدى الأسير رجع عليه بما غرمه عليه ولم يختلف قوله فيه. واختلف قوله فيمن أدى دين غيره عنه بغير إذنه فنص في موضع على أنه يرجع عليه. فقيل له هو متبرع بالضمان. فقال: وإن كان متبرعا بالضمان ونص في موضع آخر على أنه لا يرجع فإنه قال: إذا لم يقل اقض عني ديني كان متبرعا ونص على أنه يرجع على السيد بنفقة عبده الآبق إذا رده وقد كتب عمر بن الخطاب إلى عامله في سبي العرب ورقيقهم وقد كان التجار اشتروه فكتب إليه أيما حر اشتراه التجار فاردد عليهم رؤوس أموالهم وقد قيل: إن جميع الفرق تقول بهذه المسألة إن تناقضوا ولم يطردوها فأبو حنيفة يقول: إذا قضى بعض الورثة دين الميت ليتوصل بذلك إلى أخذ حقه من التركة بالقسمة فإنه يرجع على التركة بما قضاه وهذا واجب قد أداه عن غيره بغير إذنه وقد رجع به ويقول إذا بنى صاحب العلو السفل بغير إذن المالك لزم الآخر غرامة ما يخصه إذا أنفق المرتهن على الرهن في غيبة الراهن رجع بما أنفق وإذا اشترى اثنان من واحد عبدا بألف فغاب أحدهما فأدى الحاضر الثمن ليستلم العبد كان له الرجوع.
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 27
(2) سورة الأحزاب الآية 31(16/30)
والشافعي يقول: إذا أعار عبد الرجل ليرهنه فرهنه ثم إن صاحب الرهن قضى الدين بغير إذن المستعير وافتك الرهن رجع بالحق. وإذا استأجر جمالا ليركبها فهرب الجمال فأنفق المستأجر على الجمال رجع بما أنفق، وإذا ساقى رجلا على نخله فهرب العامل فاستأجر صاحب النخل من يقوم مقامه رجع عليه به واللقيط إذا أنفق عليه أهل المحلة ثم استفاد مالا رجعوا عليه. وإن أذن له في الضمان فضمن ثم أدى الحق بغير إذنه رجع عليه.
وأما المالكية والحنابلة فهم أعظم الناس قولا بهذا الأصل والمالكية أشد قولا به. ومما يوضح ذلك أن الحنفية قالوا في هذه المسائل: إن هذه الصور كلها أحوجته إلى استيفاء حقه أو حفظ ماله فلولا عمارة السفل لم يثبت العلو ولو لم يقض الوارث الغرماء لم يتمكن من أخذ حقه من التركة بالقسمة ولو لم يحفظ الرهن بالعلف لتلف محل الوثيقة ولو لم يستأجر على الشجر من يقوم مقام العامل لتعطلت الثمرة وحقه متعلق بذلك كله فإذا أنفق كانت نفقته ليتوصل إلى حقه بخلاف من أدى دين غيره فإنه لا حق له هناك يتوصل إلى استيفائه بالأداء فافترقا وتبين أن هذه القاعدة لا تلزمنا وأن من أدى عن غيره واجبا من دين أو نفقة على قريب أو زوجة فهو إما فضولي وهو جدير بأن يفوت عليه ما فوته على نفسه أو متفضل فحوالته على الله دون من تفضل عليه، فلا يستحق مطالبته. وزادت الشافعية وقالت: لما ضمن له المؤجر تحصيل منافع الجمال ومعلوم أنه لا يمكنه استيفاء تلك المنافع إلا بالعلف، دخل في ضمانه لتلك المنافع إذنه له في تحصيلها بالإنفاق عليها ضمنا وتبعا فصار ذلك مستحقا عليه بحكم ضمانه عن نفسه لا بحكم ضمان الغير عنه. يوضحه أن المؤجر والمساقي قد علما أنه لا بد للحي من قوام ولا بد للنخيل من سقي(16/31)
وعمل عليها فكأنه قد حصل الإذن فيها في الإنفاق عرفا. والإذن العرفي يجري مجرى الإذن اللفظي وشاهده ما ذكرتم من المسائل فيقال هذا من أقوى الحجج عليكم في مسألة علف المرتهن للرهن واستحقاقه للرجوع بما غرمه وهذا نصف المسافة وبقي نصفها الثاني وهو المعاوضة عليها بركوبه وشربه وهي أسهل المسافتين وأقربهما، إذ غايتها تسليط الشارع له على هذه المعاوضة التي هي من مصلحة الراهن والمرتهن والحيوان وهي أولى من تسليط الشفيع على المعاوضة عن الشقص المشفوع لتكميل ملكه وانفراده به وهي أولى من المعاوضة في مسألة الظفر بغير اختيار من عليه الحق فإن سبب الحق فيها ليس ثابتا والآخذ ظالم في الظاهر ولهذا منعه النبي صلى الله عليه وسلم من الآخذ وسماه خائنا بقوله: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك (1) » وأما هاهنا فسبب الحق ظاهر وقد أذن في المعاوضة للمصلحة التي فيها فكيف تمنع هذه المعاوضة التي سبب الحق فيها ظاهر وقد أذن فيها الشارع وتجوز تلك المعاوضة التي سبب الحق فيها غير ظاهر وقد منع منها الشارع؟ فلا نص ولا قياس.
ومما يدل على أن من أدى عن غيره واجبا أنه يرجع عليه به قوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (2) .
وليس من جزاء هذا المحسن بتخليص من أحسن إليه بأداء دينه وفك أسره منه وحل وثاقه أن يضيع عليه معروفه وإحسانه وأن يكون جزاؤه منه بإضاعة ماله ومكافأته عليه بالإساءة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أسدى إليكم معروفا فكافئوه (3) » وأي معروف فوق معروف هذا الذي افتك أخاه من أسر الدين؟ وأي مكافأة أقبح من إضاعة ماله عليه وذهابه وإذا كانت الهدية التي هي تبرع محض قد شرعت المكافأة عليها وهي من أخلاق
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1264) ، سنن أبو داود البيوع (3535) ، سنن الدارمي البيوع (2597) .
(2) سورة الرحمن الآية 60
(3) سنن النسائي الزكاة (2567) ، سنن أبو داود الأدب (5109) ، مسند أحمد بن حنبل (2/68) .(16/32)
المؤمنين فكيف يشرع جواز ترك المكافأة على ما هو من أعظم المعروف؟ وقد عقد الله سبحانه وتعالى الموالاة بين المؤمنين وجعل بعضهم أولياء بعض فمن أدى عن وليه واجبا كان نائبه فيه بمنزلة وكيله وولي من أقامه الشرع للنظر في مصالحه لضعفه أو عجزه.
ومما يوضح ذلك أن الأجنبي لو أقرض رب الدين قدر دينه وأحاله به على المدين ملك ذلك وأي فرق شرعي أو معنوي بين أن يوفيه ويرجع به على المدين أو يقرضه ويحتال به على المدين وهل تفرق الشريعة المشتملة على مصالح العباد بين الأمرين؟ ولو تعين عليه ذبح هدي أو أضحية فذبحها عنه أجنبي بغير إذنه أجزأت وتأدى الواجب بذلك ولم تكن ذبيحة غاصب وما ذاك إلا لكون الذبح قد وجب عليه فأدى هذا الواجب غيره وقام مقام تأديته هو بحكم النيابة عنه شرعا وليس الشأن في هذه المسألة لوضوحها واقتضاء أصول الشرع وفروعه لها وإنما الشأن فيمن عمل في مال غيره عملا بغير إذنه ليتوصل بذلك العمل إلى حقه أو فعله حفظا لمال المالك واحترازا له من الضياع فالصواب أنه يرجع عليه بأجرة عمله. وقد نص عليه الإمام أحمد رضي الله عنه في عدة مواضع: منها أنه إذا حصد زرعه في غيبته فإنه نص على أنه يرجع عليه بالأجرة وهذا من أحسن الفقه فإنه إذا مرض أو حبس أو غاب فلو ترك زرعه بلا حصاد لهلك وضاع فإذا علم من يحصده له أنه يذهب عليه عمله ونفقته ضياعا لم يقدم على ذلك وفي ذلك من إضاعة المال وإلحاق الضرر بالمالك ما تأباه الشريعة الكاملة فكان من أعظم محاسنها أن أذنت للأجنبي في حصاده والرجوع على مالكه بما أنفق عليه حفظا لماله ومال المحسن إليه وفي خلاف ذلك إضاعة لماليهما أو مال أحدهما ومنها ما نص عليه فيمن عمل في قناة رجل بغير إذنه فاستخرج الماء قال لهذا الذي عمل نفقته ومنهما لو انكسرت(16/33)
سفينته فوقع متاعه في البحر فخلصه رجل فإنه لصاحبه وله عليه أجرة مثله وهذا أحسن من أن يقال: لا أجرة له فلا تطيب نفسه بالتعرض للتلف والمشقة الشديدة ويذهب عمله باطلا أو يذهب مال الآخر ضائعا وكل منهما فساد محض والمصلحة في خلافه ظاهرة والمؤمنون يرون قبيحا أن يذهب عمل مثل هذا ضائعا ومال هذا ضائعا ويرون من أحسن الحسن أن يسلم مال هذا وينجح سعي هذا والله الموفق (1)
__________
(1) إعلام الموقعين \ 2 \ 414.(16/34)
الأمر الثاني
النقول عن بعض فقهاء الإسلام في الموضوع وتشتمل على أقوالهم ومآخذهم في مسألتين الأولى في وجدة الإجارة والثانية في زيادة الأجر أثناء المدة بسبب تغير الأحوال وفي كل واحدة من المسألتين رتبت فيها النقول عن فقهاء المذاهب الأربعة حسب الترتيب الزمني بين المذاهب؛ الحنفية ثم المالكية ثم الشافعية ثم الحنابلة وفيما يلي بيان ذلك.(16/35)
المسألة الأولى في مدة الإجارة: والكلام عليها يشتمل
على نقول عن بعض فقهاء المذاهب الأربعة
1 - من أقوال بعض فقهاء الحنفية:
في تنوير الأبصار وشرحه " الدر المختار " ما نصه (1) (فلو أهمل الواقف مدتها أي إجارة الوقف - قيل تطلق الزيادة للقيم وقيل تقيد بسنة مطلقا وبها أي بالسنة يفتى في الدار وبثلاث سنين في الأرض إلا إذا كانت لمصلحة بخلاف ذلك وهذا مما يختلف زمانا وموضعا وفي البزازية لو احتيح لذلك يعقد عقودا فيكون العقد الأول: لازما: لأنه ناجز. والثاني: لا لأنه مضاف قلت. . القائل صاحب الدر المختار- لكن قال أبو جعفر: الفتوى على إبطال الإجارة الطويلة ولو بعقود، ذكره الكرماني في الباب التاسع عشر وأقره قدري أفندي وسيجيء في الإجارة وعلق صاحب الدر المختار على عبارة إلا إذا كانت المصلحة بخلاف ذلك بقوله هذا أحد الأقوال الثمانية وهو ما ذكره الصدر الشهيد من أن المختار أنه لا يجوز في الدور أكثر من سنة إلا إذا كانت المصلحة في الجواز وفي الضياع يجوز إلى ثلاث سنين إلا إذا كانت المصلحة في عدم الجواز وهذا أمر يختلف باختلاف المواضع واختلاف الزمان وعزاه المصنف إلى أنفع الوسائل وأشار الشارح إلى أنه لا يخالف ما في المتن لأن أصل عدول المتأخرين عن قول المتقدمين بعدم التوقيت إلى التوقيت إنما هو يسبب الخوف على الوقف فإذا كانت المصلحة الزيادة أو النقص اتبعت وهو توفيق حسن، ومن فروع
__________
(1) تنوير الأبصار وشرحه (الدر المختار) ج3، ص 549 وما بعدها(16/36)
ذلك ما في الإسعاف دار لرجل فيها موضع وقف بمقدار بيت واحد وليس في يد المتولي شيء من غلة الوقف وأراد صاحب الدار استيجارها مدة طويلة قالوا إن كان لذلك الموضع مسلك إلى الطريق الأعظم لا يجوز له أن يؤجره مدة طويلة ولأن فيه إبطال الوقف وإن لم يكن له مسلك جاز. ا. هـ وفي فتاوى قارئ الهداية إذا لم تحصل عمارة للوقف إلا بذلك يرفع الأمر إلى الحاكم ليؤجره أكثر. ا. هـ. أي إذا احتيج إلى عمارته من أجرته يؤجره الحاكم مدة طويلة بقدر ما يعمر به) . ا. هـ.
وفي الفتاوى الخانية ما نصه (قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله إذا لم يذكر الواقف في صك الوقف إجارة الوقف فرأى القيم أن يؤجرها ويدفعها مزارعه في ما كان أدر على الوقف وأنفع للفقراء فعل ألا أن في الدور لا يؤجر أكثر من سنة لأن المدة إذا طالت تؤدي إلى أبطال الوقف فإن من رآه يتصرف فيه تصرف الملاك على طول الزمان يزعمه مالكا فلا يؤجر الدور أكثر من سنة. أما في الأرض فإن كانت الأرض تزرع في كل سنة لا يؤجرها أكثر من سنة، وإن كانت تزرع في كل سنتين مرة أو في كل ثلاث سنين مرة كان له أن يؤجرها مدة يتمكن المستأجر من الزراعة. هذا إذا لم يكن الواقف شرط أن لا يؤجر أكثر من سنة فإن كان شرط ذلك والناس لا يرغبون في استئجارها سنة وكانت إجارتها أكثر من سنة أدر للوقف وأنفع للفقراء فليس للقيم أن يخالف شرطه ويؤجرها أكثر من سنة إلا أنه يرفع الأمر إلى القاضي حتى يؤجرها القاضي أكثر من سنة لأن هذا أنفع للوقف وللقاضي ولاية النظر للفقراء والغائب والميت فإن كان الواقف ذكر في صك الوقف أن لا يؤجر أكثر من سنة إلا إذا كان ذلك أنفع(16/37)
للفقراء وكان للقيم أن يؤجرها بنفسه أكثر من سنة إذا رأى ذلك خيرا ولا يحتاج إلى المرافعة إلى القاضي لأن الواقف أذن له بذلك ولو أن القيم أجر دار الوقف خمس سنين قال الشيخ الإمام أبو القاسم البلخي رحمه الله تعالى لا تجوز إجارة الوقف أكثر من سنة إلا لأمر عارض يحتاج إلى تعجيل الأجرة بحال من الأحوال وقال الفقيه أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله تعالى: إنا لا نقول بفساد هذه الإجارة إذا أجر مدة طويلة لكن الحاكم ينظر فيه فإن كان ضررا بالوقف أبطلها. وهكذا قال الإمام أبو الحسن علي السعدي رحمه الله تعالى، وعن الفقيه أبي الليث رحمه الله تعالى أنه كان يجيز إجارة الوقف ثلاث سنين من غير فصل بين الدار والأرض إذا لم يكن الواقف شرط أن لا يؤجر أكثر من سنة.
وعن الإمام أبي حفص البخاري رحمه الله تعالى أنه كان يجيز إجارة الضياع ثلاث سنين فإن آجر أكثر من ثلاث سنين، اختلفوا فيه قال أكثر مشايخ بلخ رحمهم الله تعالى: لا يجوز وقال غيرهم: يرفع الأمر إلى القاضي حتى يبطله وله أخذ الفقيه أبو الليث رحمه الله تعالى ا. هـ وقال في ص 267 من الفتاوى البزازية. لا تجوز الإجارة الطويلة في الوقف وإن احتيج إليها يعقد عقودا فيكتب استأجر فلان بن فلان كذا ثلاثين عقدة كل عقدة على سنة فيكون العقد الأول: لازما: لأنه ناجز، والباقي: لا: لأنه مضاف ولو آجر الوقف أكثر من عام كان الوقف دارا أو أرضا إن خالف شرط الواقف لا يصح وإن كانت إجارته أكثر من عام أدر وأنفع للوقف للزوم رعاية شرط الواقف وإن استثنى الواقف إلا إذا كانت الإجارة أكثر من عام أنفع للوقف جاز إذا كان أنفع للفقراء وإن لم(16/38)
يشترط ذلك قال الصدر الفتوى في الضياع بالجواز إلى ثلاث إلا إذا كانت المصلحة عدم الجواز وفي الدور بعام إلا إذا كانت المصلحة في عدم الجواز في أكثر من عام وهذا يختلف باختلاف الأزمنة والمكان وقال القاضي أبو علي لا ينبغي أن يؤجر بأكثر من ثلاث فإن فعل جازت وصحت وعلى هذا فلا يحتاج إلى الحيلة التي ذكرناها في الإجارة الطويلة آنفا والفقيه أبو جعفر اختار أن لا يؤجر الدور أكثر من عام والأرض التي تزرع في كل عام كذلك وإن كانت تزرع في كل عامين أو ثلاث أو أربع أو يزرع كل قطعة منها في كل عام حتى يستوعب الزراعة كلها مثلا في كل أربع أو خمس يشترط في العقد ذلك المقدار من المدة المستغرقة للكل في العادة لأنه لو آجرها عاما أو عامين يزرع المستأجر كلها في تلك المدة وتصير الأرض خرابا لا يستأجر بعدها إلى مدة فيتضرر الوقف وكان الإمام أبو جعفر الكبير رحمه الله يجيز إجارة ضياعه ثلاثة أعوام لأن الزارع في العادة لا يرغب في أقل منه وفي الدور سنة لأن من رآه يتصرف في متواليا ولا مالك يعارض ويزاحم ومال الواقف مال ضائع لعدم الطالب المهتم يظنه الرائي بتصرفه الدائم مالكا ويشهد له بالملك إذا ادعاه ولا مصلحة للوقف في أمر يدعو ويؤدي إلى هذا الضرر والفقيه أجاز ثلاث سنين في الضياع والدور وغيرهما) ا. هـ.
في الفتاوى الخانية في ص 333 بهامش الفتاوى الهندية ما نصه (فإن احتاج القيم أن يؤجر الوقف إجارة طويلة قالوا الوجه فيه أن يعقد عقودا مترادفة كل عقد على سنة ويكتب في الصك استأجر فلان ابن فلان أرض كذا أو دار كذا ثلاثين سنة بثلاثين عقدا كل عقد سنة وكذا من غير أن يكون بعضها شرطا في بعض فيكون العقد الأول لازما: لأنه ناجز، والثاني غير لازم: لأنه مضاف قال رضي الله عنه: وكان فيما قالوا: نظر(16/39)
فإنهم قالوا الأول لازم، والثاني غير لازم، لأنه مضاف وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله تعالى أن الإجارة المضافة تكون لازمة في إحدى الروايتين وهو الصحيح، وذكروا أيضا القيم إذا احتاج إلى تعجيل الأجرة يعقد عقودا مترادفة على نحو ما قالوا وأجمعوا على أن الأجرة لا تملك في الإجارة المضافة باشتراط التعجيل فكان فيما قالوا نظر من هذا الوجه ا. هـ.
قال صاحب رد المحتار، تعليقا على قول للفقيه أبي جعفر: الفتوى على إبطال الإجارة الطويلة ولو بعقود قال في ص 550 أي لتحقق المحذور المار فيها وهو أن طول المدة يؤدي إلى إبطال الوقف كما في الذخيرة) ا. هـ.
ونقل الأستاذ محمود الأوزجندي قاضيخان في فتاواه، ج3، ص 333، عن أبي جعفر الفقيه أن إطالة مدة إيجار الوقف يؤدي إلى إبطال الوقف فإن من رآه يتصرف فيه تصرف الملاك على طول الزمان يزعمه مالكا.(16/40)
1- من أقوال بعض فقهاء المالكيين:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم وعليهم وعلى آل كل وصحبهم والتابعين (وبعد) فالغرض ذكر ما لأهل المذهب في هذه الأوراق من الخلاف في العقار إذا خرب وانقطعت منفعته ولم يرج عودها هل يجوز بيعه ويستبدل بثمنه غيره من نوعه أو المناقلة به أو كراؤه المدة الطويلة أو لا، قال ابن رشد في البيان في شرح رابع مسألة من رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم. كتاب الحبس: الأحباس في جواز بيعها والاستبدال بها إذا انقطعت لمنفعة تنقسم على ثلاثة أقسام: قسم يجوز بيعه باتفاق، وهو ما انقطعت(16/40)
منفعته ولم يرج أن يعود، وفي إبقائه ضرر مثل الحيوان الذي يحتاج إلى الإنفاق عليه ولا يمكن أن يستعمل في نفقته فيضر الإنفاق عليه بالمحبس عليه أو بيت المال إن كان حبسا في السبيل أو على المساكين وقسم لا يجوز بيعه باتفاق وهو ما يرجى أن تعود منفعته ولا ضرر في إبقائه، وقسم يختلف في جواز بيعه والاستبدال به وهو ما انقطعت منفعته ولم يرج أن يعود ولا ضرر في إبقائه وخراب الربع المحبس الذي اختلف في جواز بيعه من هذا القسم انتهى. فجعل الربع المحبس إذا خرب وانقطعت منفعته ولم يرج عودها من المختلف فيه. وظاهر كلامه سواء كان الربع الخراب في العمران أو بعيدا عنه وهو ظاهر كلام غيره من أهل المذهب كما سنقف عليه في كلامهم وجعل اللخمي الخلاف إنما هو إذا كان بعيدا عن العمران، وأما إذا كان في العمران فظاهر كلامه أنه من القسم المتفق على عدم جواز بيعه، ونصه في ترجمة بيع الحبس وإذا انقطعت منفعة الحبس وعاد بقاؤه ضررا جاز بيعه وإن لم يكن ضررا ورجي أن تعود منفعته لم يجز بيعه، واختلف إذا لم يكن ضررا ولا ترجى منفعته فأجاز ابن القاسم وربيعة البيع ومنعه غيرهما، ولا يباع ما خرب من الرباع إذا كان في المدينة لأنه لا ييأس من إصلاحه وقد يقوم محتسب لله فيصلحه وإن كان على عقب فقد يستغني بعض فيصلحه وما بعد من العمران ولم يرج إصلاحه جرى على القولين والذي آخذ به في الرباع المنع لئلا يتذرع الناس إلى بيع الأحباس ا. هـ. قال ابن ناجي في شرح قول الرسالة ولا يباع الحبس وإن خرب. ما ذكره الشيخ هو المعروف وروى أبو الفرج جوازه حكاه ابن رشد وكذا ذكر اللخمي الخلاف وعزا الجواز لابن القاسم جريا على قوله في الثياب إذا بليت إلا أنه قصر الخلاف على ما بعد من العمران ولم يرج إصلاحه وأما ما كان بمدينة فلا يباع وظاهر كلامه باتفاق فجعله(16/41)
بعض شيوخنا قولا ثالثا ا. هـ. وبعض شيوخه هو ابن عرفة ويشير بذلك لقول ابن عرفة في كتاب الحبس وفيها مع العتبية والموازية، وغيرهما منع ما خرب من ربع حبس مطلقا وسمع ابن القاسم لا تباع دار حبس خربت ليبتاع دونها. ابن رشد فيها لربيعة أن الإمام يبيع الربع إذا ولي ذلك لخرابه وهي إحدى روايتي أبي الفرج اللخمي لا يباع إن كان بمدينة إذ لا ييأس من صلاحه من محتسب وبعض عقب وما بعد عن العمران ولم يرج صلاحه جرى على القولين والذي آخذ به المنع خوف كونه ذريعة لبيع الحبس. قلت ففي منعه ثالثها إن كان بمدينة للمعروف وإحدى روايتي أبي الفرج ونقل اللخمي ا. هـ كلام ابن عرفة بلفظه وقال في العتبية في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس قال ابن القاسم وسمعت مالكا قال في قوم حبست عليهم دار فخربت فأرادوا بيعها ابتياع دونها إن ذلك لا يجوز لهم وأما الفرس يكلب أو يجن فإنه يباع ويشترى بثمنه فرس يحبس مكانه قال ابن رشد هذا هو ما في المدونة أن الربع الحبس لا يباع وإن خشي عليه الخراب ومثله في رسم الأقضية. الثاني من سماع أشهب من كتاب جامع البيوع بخلاف ما بلي من الثياب وضعف من الدواب والفرق بين ذلك أن الربع وإن خرب فلا تذهب المنفعة ويمكن أن يعاد إلى حاله وابن الماجشون يرى أن لا يباع شيء من ذلك كله وهو قول غير ابن القاسم في المدونة، وروي عن ربيعة أن الإمام يبيع الربع إذا أدى ذلك إلى خرابه كالدواب والثياب وهو قول مالك في إحدى روايتي أبي الفرج عنه قال لا يباع الربع الحبس وقال في موضع آخر إلا أن يخرب ا. هـ. فحاصل ذلك أن القول بالمنع مطلقا والقول لجواز إذا انقطعت منفعته ولم يرج عودها سواء كان في العمران أو بعيدا. . المنع لمالك في المدونة وغيرها والجواز لإحدى روايتي أبي الفرج(16/42)
عنه، إلا أن المنع صرح بمشهوريته غير واحد من أهل المذهب، قال في معين الحكام اختلف قول مالك في بيع العقار المحبس إذا خرب فالمشهور عنه المنع وروى عنه أبو الفرج في حاويه الجواز. وقال ابن راشد محلب القباب وأما الرباع فالمشهور فيها المنع وروى أبو الفرج الجواز وقال ابن هارون في مختصر المتيطية وإذا انقطعت منفعة الحبس فأما الرباع فاختلف في بيعها إذا خربت فالمشهور عن مالك (1) . وروى عنه أبو الفرج في كتابه الجواز وهو قول ربيعة ا. هـ، فهؤلاءكلهم صرحوا بمشهورية المنع وتقدم في كلام ابن عرفة وابن رشد أنه المعروف لمالك واختيار اللخمي له أيضا وعليه اقتصر الشيخ خليل في مختصره لا عقار وإن خرب والقول بالجواز اختاره جماعة من المتأخرين وبه وقعت الفتوى والحكم وجرى به العمل قال ولد ابن عاصم في شرح رجز والده عند قوله:
وغير أصل عادم النفح صرف ... ثمنه في مثله ثم وقف
استثنى الأصول بقوله. وغير أصل وذلك على المشهور من المذهب وقد قيل بيع ما عدمت منفعته منها وإن كان غير المشهور وقد أفتى بذلك من شيوخ شيوخنا الأستاذ أبو عبد الله الحفار رحمه الله تعالى فسئل في فدان محبس على مصرف من مصارف البر لا منفعة فيه هل يباع ويشترى بثمنه ما يكون فيه منفعة فأجاب إن كان الفدان الذي حبس لا منفعة فيه فإنه يجوز أن يباع ويشترى بثمنه فدان آخر يحبس وتصرف غلته في المصرف الذي حبس عليه الفدان الأول على ما أفتى به كثير من العلماء في هذا النحو، فقد أفتى ابن رشد رحمه الله تعالى في أرض محبسة عدمت منفعتها بسبب ضرر جيران أن تباع ويعاض بثمنها ما فيه منفعة على ما قاله جماعة من العلماء في الربع المحبس إذا خرب ويكون ذلك بحكم القاضي بعد أن
__________
(1) كذا في الأصل والظاهر أنه سقط منه المنع الذي هو خبر المشهور كما يدل عليه السياق.(16/43)
يثبت عنده أنه لا منفعة فيه قاله محمد الحفار وبمثل ذلك أفتى الأستاذ أبو سعيد بن لب رحمه الله تعالى وقد سئل في طراز محبسة على الرابطة ثبت أنه قد تداعى للسقوط وأنه يضر بحيطان الجيران المشتركة معه من جيران الرباط إضرارا بينا وأنه لا بد من حله وأنه لا يصلح للرباطة ما يسدد به بناءه فأجاب يسوغ بيع الطراز على الصحيح من القولين وبعوض بثمنه للحبس ما يكون له أنفع وإن وجد من يناقل به بربع آخر للحبس فهو حسن إن أمكن قاله: فرج. انتهى.
وقال البرزلي ابن عات عن الفضل بن سلمة. وبحبس المساكين يكون في البلد فتيبس أشجاره ويقحط بحبس الماء عنه يرى القاضي فيه رأيه بيع أو شركة أو عمل أو كراء ما رآه فيها. وعن ابن اللباد أرى أن يباع إذا كان بهذه الحال. يحيى بن خلف وكذلك الموضع الصغير الذي لا يحرث عليه وحده ولا ينتفع به فإنهم يرون بيعه ويدخل في غيره وهو الصواب إن شاء الله تعالى. والله الموفق وجرى العمل عندنا ببيع ما لا نفع منها. ووقعت مسائل عندنا بتونس منها فندق ابن يعطاس تهدم فأفتى شيخنا الإمام يعني ابن عرفة أنه تباع أنقاضه ويغير عن حاله دارا ورجح هذا القول وحكم بهذه الفتوى قاضي الجماعة وحق له ذلك. ومنها دار خربت من دور مدرسة القنطرة فأفتى فيها شيخنا الإمام المذكور ببيعها - واشتري بثمنها رسم في الغابة بتونس وظاهر فتاوى الأندلسيين إباحة البيع ويستبدل بها ما هو أعود بالمنفعة انتهى كلام البرزلي بلفظه ونقله ابن سلمون في وثائقه أيضا ونصه وفي كتاب الاستفتاء قال الفضل بن سلمة في حبس المساكين يكون في البلد فتيبس أشجاره ويقحط بحبس الماء عنه فقال يرى القاضي فيه رأيه في بيع أو شركة أو غير ذلك.
وقال ابن اللباد أرى أن يباع إذا كان بهذه الحالة قال يحيى بن خلف(16/44)
وكذلك الموضع الصغير الذي لا يحرث وحده ولا ينتفع به فإنهم يرون بيعه وإدخال ثمنه في غيره وقال ابن عرفة في مسألة ما إذا كانت غلة الحبس لا تفي بنفقته والأظهر عندي أن ينظر فإن كان مع ذلك لا ثمن له رد لمحبسه وإن كان له ثمن يبلغ ما يشترى به ما فيه نفع ولو قل بيع واشترى بثمنه ذلك. ثم قال والحاصل أن نفقته من فائدته فإن عجزت بيع وعوض بثمنه ما هو من نوعه فإن عجز صرف في مصرفه انتهى فتحصل من هذه النصوص أن في العقار الموقوف إذا انقطعت منفعته ولم يرج عودها سواء كان في مدينة أو بعيدا من العمران لمالك قولين: الأول: المنع وهو المشهور عنه في المدونة والعتبية والموازية وغيرها وعليه اقتصر الشيخ خليل في مختصره، والثاني: الجواز وهو ما رواه عنه أبو الفرج في حاويه وقال به جماعة من العلماء ورجحه ابن عرفة كما تقدم في نقل البرزلي وبه وقعت الفتوى والحكم وقال أبو سعيد بن لب إنه الصحيح من القولين وقال يحيى بن خلف إنه الصواب إن شاء الله تعالى ووجه القاضي عبد الوهاب في شرح الرسالة القول بالمنع بما نصه والدليل على ذلك أي المنع أن الوقف إزالة ملك لا إلى ملك فإذا كان فيما لا ضرر في تبقيته فلم يجز البيع اعتبارا به إذا لم يخرب وبذلك فارق الحيوان على أحد الوجهين لأن في تبقيته ضررا إذا لم ينتفع به وإن أجبنا بالتسوية قلنا لأنه إزالة ملك بسبب يمنع البيع من السلامة فوجب أن يمنع فيه مع التغير كالعتق وتزيد بالإزالة في الفرع المنافع ولأن القصد انتفاع الموقوف عليه بمنفعته فلو أجزنا بيعه لخالفنا شرط الواقف وجعلنا المنفعة له بالأصل ولأن العمارة قد تعود وتنتقل ففي إجازة بيعه إبطال حق من جعل له حق بعد هذا البطن وذلك مما لا سبيل إليه انتهى، ووجه الجواز بما نصه، [ووجه الجواز اعتباره بالحيوان ولأن الواقف إنما أراد وصول الانتفاع إلى(16/45)
الموقوف عليهم من جهة هذا الوقف فإذا لم يكن من جهته منفعة وجب أن تنتقل إلى منفعة ما يقوم مقامه وإلا كان في ذلك إبطال شرطه والأول أصح وأوضح انتهى. فهذا ملخص ما يتعلق بالكلام على البيع إذا انقطعت منفعته ولم يرج عودها والاستبدال بثمنه من نوعه. وأما حكم المعاوضة بالعقار الخرب بعقار آخر غير خرب فقال الشيخ ابن أبي زيد في رسالته، واختلف في المعاوضة بالربع الخرب ربعا غير خرب، واختلف شراحه في حمل كلامه هذا مع قوله أولا ولا يباع الحبس وإن خرب فمنهم من حمل ذلك على أن ذلك مسألة واحدة ومعنى الكلامين أنه لا يجوز أن يباع الحبس الخرب ويشترى بثمنه غيره من جنسه يكون وقفا عوضه فجزم أولا بما اختاره من أنه لا يباع وإن خرب ثم حكى وجود الخلاف فيه ومنهم من حمل الأول على الصورة المتقدمة والثاني على المعاوضة به بربع غيره من غير بيع قال الجزولي إثر قوله ولا يباع الحبس وإن خرب ظاهر هذا معارض لما يأتي من قوله واختلف في المعاوضة فقال في تلك اختلف في بيعه وقال هنا لا يجوز وإن خرب. والانفصال عن هذا أن يقال مذهبه أنه لا يجوز بيع الحبس وإن خرب وهو الذي قال أولا وقوله في المعاوضة إلخ، إنما حكى الخلاف ويكون مذهبه القول بالمنع ثم قال في شرح قوله واختلف في المعاوضة بالربع الخرب ربعا غير خرب صورة هذا أن تكون دار محبسة ثم خربت فإنها تباع ممن يملكها ويشترى بثمنها أخرى فيصير الحبس ملكا والملك حبسا فاختلف فيه على قولين: مالك يمنعه، وربيعة وابن القاسم يجيزان بيعه، ووجه قول مالك سدا للذريعة وحسما للباب ومنهم من قال إنما صورته أن يباع الحبس الخرب بدار أخرى غير خربة وفي بعض النسخ ومنهم من قال صورة المناقلة أن يدفع ربعا خربا في ربع صحيح الشيخ بغير تعقب ولا فرق بين المسألتين(16/46)
أعني من أن يأخذ فيه دراهم ويشتري بها دارا أخرى أو يأخذ دارا فيها كلاهما يقال فيه عاوض بدار غير خرب انتهى. (فرع) قال الجزولي وأما مناقلة الأحباس فقال ابن أبي زيد لا تجوز من غير خلاف وصورته أن يكون رجلان لكل واحد منهما حبس وحبس كل واحد منهما بإزاء الآخر فأراد أن يتناقلاهما وأراد كل واحد منهما الحبس الذي بإزائه فهذا لا يجوز. ا. هـ] ونقله عن الشيخ ابن أبي زيد غير واحد وهو في النوادر في كتاب الحبس في ترجمة بيع الحبس إذا خرب.
" مسألة: وأما بيع بعض العقار الوقف لإصلاح بعضه فمقتضى كلام ابن الماجشون في النوادر في ترجمة بيع الحبس إذا خرب أنه لا يجوز بيعه من غير خلاف ونصه قال ابن الماجشون ولو حبس إبلا أو غنما فانفصلت الذكور من التيوس أكثر نسلها قال لا تباع ولو صارت ضرورة بكثرة ما ينفق في رعايتها ومؤنتها فلا تباع عندي إذا كانت لا تضر بغيرها من الصدقة وهو كالربع الخرب الذي إذا بيع بعضه أصلح به باقيه ا. هـ ونقله الشيخ بهرام في شرحه الكبير بلفظ - وفي النوادر عن ابن الماجشون في الإبل والغنم المحبسة تلد الذكور وتكثر بذلك فإنها لا يباع شيء منها قال ولو صارت ضرورة لكثرة ما ينفق في رعايتها ومؤنتها فلا تباع عندي إذا كانت لا تضر بغيرها من الصدقة وهو كالربع الخرب إذا بيع بعضه أصلح به باقيه ا. هـ فقول ابن الماجشون إذا كانت لا تضر بغيرها من الصدقة مفهومه أنها إذا أضرت بغيرها من الصدقة أنها تباع فأجاز بيعها لإصلاح باقيها بإزالة الضرر عنه واستدلاله على ذلك بمسألة الربع الخرب الذي إذا بيع بعضه أصلح باقيه يقتضي عدم الخلاف في مسألة الربع الخرب لأن الاستدلال على الحكم مسألة أخرى يقتضي عدم الخلاف في المسألة المستدل بها فتأمل والله أعلم. وفي أحكام ابن سهل الكبرى عن ابن زرب(16/47)
أنه سئل عن دار محبسة هدم من تحت يده قطعة منها وباع نقضها فأمر بإخراجه منها وتسعيرها عليه فقال له السائل إنه لا يبنى منها شيء على يد من هي تحت يده لأنه شديد السعة فقال أرى أن يباع من النقض بعضه وينفق من ثمنه في بنيان الحبس ويدخل باقي النقض في البنيان ثم يباع للموقوف عليه فقال له جماعة من أهل المجلس أو ليس هذا من بيع الحبس؟ فقال ليس هذا من بيع الحبس هذا إصلاح له " انتهى. والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
قال العلامة أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المغربي المعروف بالحطاب المتوفي سنة 954 في شرح قول خليل في مختصره (وإكراء ناظره إن كان على معين كالسنتين) قال يعني أن الحبس إذا كان على معينين كبني فلان فللناظر أن يكريه سنتين أو ثلاث سنين ولا يكريه أكثر من ذلك ولكن لا يكون كراؤه بالنقد، انظر النوادر في ترجمة الحبس، يزاد فيه أو يعمر من غلته وكراء الحبس السنين الكثيرة. (فرع) قال في البيان في رسم الأقظية هذا من سماع أشهب من كتاب الصدقات فإن وقع الكراء في السنين الكثيرة على القول بأنه لا يجوز فعثر على ذلك وقد مضى بعضها فإن كان الذي بقي يسيرا لم يفسخ وإن كان كثيرا فسخ على ما قاله في كتاب محمد. ا. هـ قلت- القائل الحطاب - ولم يبين حد اليسير والظاهر أنه كالشهر والشهرين كما في مسألة كراء الوصي ربع الصغير ثم يتبين رشده وذكر البرزلي في مسائل الحبس عن نوازل ابن(16/48)
رشد فيمن حبس على بني فلان أكرى أحدهم نصيبه خمسين عاما فأجاب إن وقع الكراء لهذه المدة على النقد فسخ وفي جوازه على غير النقد قولان الصحيح منهما عندي المنع وهذا فيما ينفسخ فيه الكراء بموت المكري وهذا كمسألتك. أما الحبس على المساجد والمساكين وشبههما فلا يكريها الناظر إلى أكثر من أريعة أعوام إن كانت أرضا أو أكثر من عام إن كانت دارا وهو عمل الناس ومضى عليه عمل القضاة فإن أكرى أكثر من ذلك مضى إن كان نظرا على مذهب ابن القاسم وروايته ولا يفسخ انتهى. وقال في الشامل وجاز كراء بقعة من أرض محبسة على غير معينين لتبنى دارا أو عمل به انتهى. وانظر أحكام ابن سهل في أول كتاب الأقضية من مسائل الحبس في ترجمة قطع محبس باعته المحبسة وانظر الأحكام الصغرى من مسائل الأقضية) ا. هـ كلام الحطاب. ج 6 ص 47.
وقد زاد الأستاذ أبو عبد الله الشيخ محمد عليش في فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك على ما نقله الحطاب عن نوازل البرزلي ج 2 ص 199- 200، قول البرزلي قلت وقعت هذه المسألة في كتاب الأقضية من كتاب ابن سهل وذكر أنها نزلت ببطليوس اكترى أرضا محبسة خمسين عاما ثم قام النسوة المكريات المحبس عليهن على الغارس يطلبن فسخ الكراء بعد سبعة أعوام وامتنع المكتري من ذلك وهو أبو شاكر(16/49)
أحد فقهاء تلك البلد فكتب إلي بها أبو شاكر وقاضيها ابن خالص وكتبت جوابها لأبي شاكر وكان أنكر علي فسخ الكراء فأجبته: من المعول عليه في الفتوى في الأحكام قول ابن القاسم (لا سيما إذا كان في المدونة ثم على ما وقع فيها لغيره) . هذا الذي سمعناه قديما في مجالس شيوخنا الذين تفقهنا عندهم وعلة ذلك اعتماد الناس في المغرب عليها حتى أنست نفوسهم وألفت معانيها وتقررت عندهم صحة أصولها وفروعها وما سبق للنفس ألفته ثم ذكر مسائل من المدونة والعتبية والواضحة والوقار منها أنه لا يجوز كراء الحبس إلا إلى سنة. ونحوها ولا بأس بكراء الدور السنة وفوق ذلك إلى عشرين سنة من غيره ثم قال وما أجاب به ابن رزق من جواز عقد الكراء سبعين عاما فيبطله ما تقدم ولا سمعته ولا رأيته إنما حكي لي عن المنصور بن أبي عامر أنه اكترى موضعا حبسا إلى سبعين عاما. وهذا لو صح نقله فلا يصح أصله ولا يجوز العمل به لما ذكرناه عن مالك وأصحابه. وفي وثائق أبي العطار: الذي جرى به العمل قبالات أرض الأحباس لأربعة أعوام وهذا الذي شاهدناه بقرطبة ودور الأحباس والحوانيت إنما تكرى عاما فعاما، وشاهدنا ذلك من قضاتها بمحضر فقهائها مرارا وقد رأيت مسألة نزلت بقاضي الجماعة حفيد ابن زرب أقبل بياضا وفيها سواد اثنتي عشرة سنة وذكر أنه شاور الفقهاء فاختلفوا في نقضها لطول مدة الكراء فقال بعضهم يفسخ وقال بعضهم يمضي وأبين هذا مما نحن فيه ثم قال البرزلي والواقع عندنا اليوم بتونس مما جرت به العادة في أحباس قرطاجنه بقاء المدة أربعين سنة ورأيت كذا في قاعة دار خمسين سنة من الحبس وهذا نحو ما تقدم لأبي شاكر(16/50)
ومنصور بن أبي عامر ولعلهم لم يجدوا من يتقبلها إلا على هذه الهيئة فافتقروا ذلك للضرورة كالتزام الجزاء على أرض الجزاء أبدا لضرورة حاجة بيت المسلمين وإن كان عن ثمن الأرض لكونه تابعا لأصل جائز للضرورة والله أعلم ا. هـ كلام البرزلي.
قال الأستاذ أبو عبد الله الشيخ محمد عليش المالكي في فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك، - ج 2، ص 199، ما نصه قال العلامة العدوي في حاشية الخرشي اعلم أن للخلو صورا منها أن يكون الوقف آيلا للخراب فيكريه ناظره لمن يعمره بحيث يصبر الحانوت مثلا يكرى بثلاثين نصف فضه ويحمل عليه لجهة الوقف خمسة عشر فصارت المنفعة مشتركة بينهما فما قابل الدراهم المصروفة من المنفعة هو الخلو فيتحقق به البيع والوقف والإرث والهبة ويقضى منه الدين وغير ذلك ولا يسوغ للناظر إخراجه من الحانوت ولو وقع عقد الإيجار على سنين معينة كتسعين سنة ولكن شرط ذلك أن لا يكون ريع يعمر به. ا. هـ.
وقال أبو عبد الله محمد عليش في ص 207، ج2، قال الأجهوري رحمه الله الخلو اسم لما يملكه دافع الدارهم من المنفعة التي دفع الدراهم في مقابلتها ا. هـ، قال الغرقاوي وظاهره سواء كانت المنفعة عمارة كأن يكون في الوقف أماكن آيلة للخراب فيكريها ناظره لمن يعمرها ويكون ما صرفه خلوا له ويكون شريكا للواقف بما زادته عمارته مثلا كانت الأماكن التي عمرت تكرى، قبل العمارة كل يوم بعشرة أنصاف وبعد العمارة تكرى كل يوم بعشرين نصفا فيكون الذي عمر شريكا بالنصف أو الثلث أو الثلثين بحسب ما وقع من الشرط فإن احتاجت تلك المحلات إلى العمارة ثانيا كان الوقف ما يخصه من نصف أو ثلث أو ثلثين وعلى صاحب(16/51)
الخلو ما يخصه وقد تكون المنفعة غير عمارة لكن لا بد أن تكون تلك المنفعة أو تلك الدراهم عائدة على جهة الوقف كوقيد مصباح وسواء كان الإذن في ذلك من الواقف أو ناظره. وأما ما يقع عندنا بمصر من خلو الحوانيت لمن هو مستأجر كل شهر بكذا فقال بعض الشيوخ إنه من ملك المنفعة وتورث عنه شرعا إذا كان العقد صحيحا والإجارة لازمة بشروطها وذلك أن الواقف حين يريد بناء محلات للوقف يأتي له أشخاص يدفعون له دراهم على أن يكون لكل شخص محل من تلك المحلات يسكنه بأجرة معلومة يدفعها في كل شهر فكأن الواقف باعهم حصة من المحلات قبل التحبيس وحبس الباقي فليس للواقف تصرف في المحلات إلا بقيض الأجرة المعلومة كل شهر وكان دافع الدراهم شريكا للواقف بتلك الحصة ثم قال الغرقاوي وفتاوى الناصر مخرجة على النصوص وقد أجمع على العمل بها واشتهرت في المشارق والمغارب وانحط الأمر عليها وهو إن لم يستند فيها إلى نص صريح فقد وافقه عليها من هو مقدم عليه ولا يضر عدم استناد المفتي إلى نص فيما أفتى به عندنا لأنه يجوز له إذا لم يجد نصا في الحادثة تخريجها على النصوص بالشروط الآتية كما صرح به الشهاب القرافي وقد سئل نور الدين الشيخ علي الأجهوري رحمه الله عن جواب المفتي إذا لم يجد نصا في المسألة ولم يكن له مستند ولا مرجع فيما أفتى به كفتوى الناصر اللقاني في مسألة الخلوات وجوازها هل يكون من أحد الأدلة الشرعية حتى إنه للمفتي المالكي أن يفتي بقوله ويتخذه حجة ومستندا ودليلا على صحة جواز الخلوات مع عدم نص في ذلك من الأئمة المتقدمين في المذهب أو لا فأجاب رحمه الله تعالى يجوز للمفتي إذا لم يجد نصا في المحادثة أن يخرجها على النصوص إذا كان شديد الاستحضار لقواعد مذهبه وقواعد الإجماع ونص أيضا على أنه يجوز لمن(16/52)
حفظ روايات المذهب وعلم مطلقها ومقيدها وعامها وخاصها وعلم أصول الفقه وكتاب القياس وأحكامه وترجيحاته وموانعه وشرائطه أن يفتي بما يخرجه على ما هو محفوظ له وشيخ عصره الشيخ ناصر الدين اللقاني ممن اتصف بهذه الصفات التي يسوغ لمن اتصف بها جواز الإفتاء فيما لم يكن فيه نص وقد أطبق من بعده من العلماء على متابعته فيما يفتى به مما لم يوجد فيه نص في المذهب ثقة به واعتقادا لاطلاعه على ما لم يطلعوا عليه وأنه لا يقدم على ذلك من غير شيء يعتمد عليه وقد وافقه على ذلك من هو مقدم عليه في الفقه وهو أخوه الشيخ محمد اللقاني وقد وقع لعلماء مذهبهم المعتمد عليهم كابن عرفة والبرزلي وابن ناجي العمل بما جرى عليه عمل شيوخهم مما ليس بمنصوص عليه. فهذا أو نحوه يفيد أنه يجوز للمفتي أن يفتي بما خرجه غيره على النصوص ممن فيه أهلية للتخريج. ومما يستأنس به في هذا المقام قوله عليه الصلاة والسلام: «ما رآه المؤمنون حسنا فهو حسن (1) » يعني أنه عند الله حسن ومقتضى الحال في المسألة الواقعة هي أن حوانيت الأوقاف بمصر جرت عادة سكانها أنه إذا أراد أحدهم الخروج من الدكان أخذ من الآخر مالا على أن ينتفع بالسكنى فيه ويسمونه خلوا وجدكا ويتداولون ذلك بينهم واحدا بعد واحد وليس يعود على تلك الأوقاف نفع أصلا غير أجرة الحانوت بل الغالب أن أجرة الحانوت أقل من أجرة المثل بسبب ما يدفعه الآخذ من المال والذي يدور عليه الجواب في ذلك إن كان الساكن الذي أخذ الخلو يملك منفعة الحانوت مدة فأسكنها غيره وأخذ على ذلك مالا فإن الآخذ بيده إجارة صحيحة من الناظر أو الوكيل بشروطها بأجرة المثل فهو سائغ له الأخذ على تلك المنفعة التي يملكها ولا ضرر على الوقف لصدور الأجرة موافقة لأجرة المثل وأما إن لم يكن مالكا للمنفعة بإجارة صحيحة فلا عبرة بخلوه
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/379) .(16/53)
ويؤجره الناظر لمن شاء بأجرة المثل ويرجع دافع الدراهم بها على من دفعها له. وبعد أن ذكر الشيخ محمد عليش جميع ما ذكرناه في الخلو عقد فصلا لشروط الخلو قال فيه ما نصه (فصل في شروط صحة الخلو) . منها: أن تكون الدراهم المدفوعة عائدة على جهة الوقف يصرفها في مصالحه فما يفعل الآن من صرف الناظر الدراهم في مصالح نفسه بحيث لا يعود على الوقف منها لشيء فهو غير صحيح ويرجع دافع الدراهم بها على الناظر ومنها أن لا يكون للوقف ريع يعمر به فإن كان له ريع يفي بعمارته مثل أوقاف الملوك فلا يصح فيه خلو ويرجع دافع الدراهم بها على الناظر. ومنها ثبوت الصرف في منافع الوقف بالوجه الشرعي فلو صدقه الناظر من غير ثبوت لم يعتبر لأن الناظر لا يقبل قوله في مصرف الوقف حيث كان له شاهد. وفائدة الخلو أنه يصير كالملك ويجري عليه البيع والإجارة والهبة والرهن ووفاء العين والإرث كما يؤخذ من فتوى الناصر اللقاني وسئل عن هذا كله شهاب الدين أحمد السنهوري رضي الله عنه فأجاب بما نصه الخلوات الشرعية يصح وقفها ويكون لازما منبرما مع شرط اللزوم كالحوز وانتفاء المانع كالدين كوقف صحيح الأملاك ويجب العمل بذلك ورهنه وإجارته وهبته وعاريته كل ذلك صحيح ولواقفه أن يجعله مؤبدا أو مؤقتا على غيره فقط أو عليه وعلى ذريته أو على جهة من جهات الخير كوقود مصباح وتفرقة خبز وتسبيل ماء ونحو ذلك مما ينص عليه الواقف ويراه ويشترط فيه ما يجوز له اشتراطه من الأمور الجائزة عملا بما أفتى به شيخنا الشيخ ناصر الدين اللقاني في فتواه انتهى، وقد بحث في ذلك شيخنا العلامة الأجهوري في شرحه على المختصر بكلام طويل حاصله أن الخلو هو ملك المنفعة كما تقدم ومحل صحة وقف المنفعة إذا لم تكن منفعة حبس لتعلق الحبس بها وما تعلق الحبس به لا يحبس ولو صح(16/54)
وقف منفعة الوقف لصح وقف الوقف واللازم باطل شرعا ألا ترى أنه لا يوقف ما فتح من الأرض عنوة ولو إن أقطعه له الإمام لأنها بمجرد الفتح صارت وقفا فلا يصح وقفها شرعا ولا عقلا ومن المعلوم أن كل ذات وقفت إنما يتعلق الوقف بمنفعتها وأن ذاتها مملوكة للواقف ولهذا تعلم بطلان تحبيس الخلو. وأما أجرته فيصح تحبيسها لكنه يبطل تحبيسها بموت المحبس لأن المنفعة تنتقل للوارث فتكون أجرتها له إلا أن يجيز فعل مورثه انتهى. وقد بالغ في عدم صحة وقف الخلو ولكن الذي عليه العمل ما أفتى به العلامة الشيخ أحمد السنهوري من صحة وقف الخلو وجرى به العمل كثيرا في الديار المصرية ويلزم على بطلانه ضياع أموال الناس وكثرة الخصام المؤدي للتفاقم انتهى كلام الغرقاوي ملخصا. قال في المجموع: صح وقف مملوك وإن منفعة ولو خلو وقف آخر كما في الحاشية قال في ضوء الشموع قال في الحاشية المذكورة اعلم أن الخلو يصور بصور منها: أن يكون الوقف آيلا للخراب فيكريه ناظر الوقف لمن يعمره بحيث يصير الحانوت مثلا يكرى بثلاثين نصف فضة ويجعل عليه لجهة الوقف خمسة عشر فصارت المنفعة مشتركة بينهما فما قابل الدراهم المصروفة من المنفعة هو الخلو فيتعلق به البيع والوقف والإرث، والهبة ويقضي عنه الدين وغير ذلك ولا يسوغ للناظر إخراجه من الحانوت ولو وقع عقد الإيجار على سنين معينة كتسعين سنة ولكن شرط ذلك أن لا يكون ريع يعمر به. الثانية: أن يكون للمسجد حوانيت موقوفة عليه واحتاج المسجد لتكميل أو عمارة ويكون الدكان يكرى الشهر بثلاثين نصفا مثلا ولا يكون هناك ريع يكمل به المسجد أو يعمر به فيعمد الناظر إلى الساكن في الحوانيت فيأخذ منه قدرا من المال يعمر به المسجد، ويجعل عليه خمسة عشر مثلا في كل شهر. والحاصل أن منفعة الحانوت المذكورة(16/55)
شركة بين صاحب الخلو والناظر على وجه المصلحة كما يؤخذ مما أفتى به الناصر كما أفاده الأجهوري. الثالثة: أن تكون أرض محبسة فيستأجرها من الناظر ويبني فيها دارا مثلا على أن عليه كل شهر لجهة الوقف ثلاثين نصف فضة ولكن الدار تكرى بستين نصف فضة مثلا فالمنفعة التي تقابل الثلاثين الأخرى يقال لها خلو. وإذا اشترك في البناء المذكور جماعة وأورد بعضهم بيع حصته في البناء فلشركائه الأخذ بالشفعة. وإذا حصل خلل في البناء ففي الصورتين الأوليين الإصلاح على الناظر وصاحب الخلو على قدر ما لكل وفي الأخيرة على صاحب الخلو وحده. واعلم أن الخلو من ملك المنفعة لا من ملك الانتفاع ينتفع بنفسه فقط ولا يؤجر ولا يهب ولا يعير. ولمالك المنفعة تلك الثلاثة مع انتفاعه بنفسه فقط ولا يؤجر ولا يهب ولا يعير. ولمالك المنفعة تلك الثلاثة مع انتفاعه بنفسه والفرق بينهما أن مالك الانتفاع يقصد ذاته مع وصفه كإمام وخطيب ومدرس وقف عليه بالوصف المذكور بخلاف مالك المنفعة فإنما يقصد به الانتفاع بالذات بأي منتفع كمستعير لم يمنع عن إعارته ثم إن من ملك الانتفاع وأراد أن ينفع به غيره فإنه يسقط حقه منه ويأخذه الغير على أنه من أهله حيث كان من أهله. والخلو من ملك المنفعة فلذلك يورث وليس للناظر أن يخرجها عنه وإن كانت الإجارة لغيره ولذلك قال الأجهوري: واعلم أن العرف عندنا بمصر أن الأحكام مستمرة للأبد وإن عين فيها وقت الإجارة مدة فهم لا يقصدون خصوص تلك المدة والعرف عندنا كالشرط فمن احتكر أرضا مدة ومضت فله أن يبقى وليس للمتولي أمر الأرض إخراجه نعم إن حصل ما يدل على القصر على زمن الإجارة لا على الأبد فإنه يعمل بذلك نحو أن مدة الاحتكار كذا وكذا. تنبيه قد تقدم أن الخلو اسم للمنفعة التي حصل في مقابلتها الدراهم. والحاصل أن وقف الأجرة متفق عليه بين الأجهوري وغيره كما أفاده بعض شيوخنا(16/56)
ومخالفة الأجهوري لغيره إنما هي في وقف المنفعة والحق مع غيره والحاصل أن تلك المنفعة بعضها موقوف ولعضها غير موقوف وهو المسمى بالخلو فيتعلق به. أما إن كان لذمي خلو في وقف المسجد فإنه يمنع من وقفه على كنيسة مثلا قطعا بالعقل والنقل هذه عبارة الحاشية وقوله بالعقل أي لأن الوقف الأصلي حاصل لمنفعة الخلو ولا يصح أن يحمل المسجد للكنيسة والنقل النصوص الدالة على أن المطلوب إذلال الكفر وهذا ينافيه وما نقله عن بعض الشيوخ من أن وقف الأجرة متفق عليه والخلاف إنما هو في وقف المنفعة يرد عليه أن الأجرة ناشئة عن المنفعة وما ذكره عن الأجهوري من تأييد الحكر ولو ذكر أجل كستين سنة، يرد عليه أن ضرب الأجل على هذا يصير لا فائدة فيه، إلا أن يقال ضربه في مقابلة المقبوض ومعه تأييد الحكر فتكون الدراهم عجلت في نظير شيئين الأجل المضروب والتأييد بالحكر ينظر في ذلك. ثم أن الخلو ربما يقاس عليه الجدك المتعارف في حوانيت مصر. فإن قال قائل الخلو إنما هو في الوقف لمصلحة وهذا يكون في الملك قيل له إذا صح في وقف فالمالك أولى لأن المالك يفعل في ملكه ما يشاء نعم بعض الجدكات بناء أو إصلاح أخشاب في الحانوت مثلا بإذن وهذا قياسه على الخلو ظاهر خصوصا وقد استندوا في تأييد الحكر للعرف والعرف حاصل في الجدك وبعض الجدكات وضع أمور مستقلة في المكان غير مستمرة فيه كما يقع في الحمامات وحوانيت القهوة بمصر فهذه بعيدة الخلوات فالظاهر أن للمالك إخراجها وكتب عبد الله ما نصه قد أفتى شيخنا عبد الباقي بإبطال وقف الخلو فراجعه ولده سيدي محمد بفتوى الشيخ أحمد السنهوري وبفتوى الناصر اللقاني بجواز بيعه وإرثه فرجع عن فتواه المذكورة انتهى. وفتواه التي رجع عنها تبع فيها شيخه الأجهوري وحاصل كلامه أن منفعة الوقف وقف فلو صح وقف(16/57)
الخلو لزم وقف الوقف أيضا فشرط الشيء المحبس أن لا يتعلق به حق للغير. وجوابه أن الوقف والحق في المنفعة الأصلية والوقف الثاني للخلو الذي حصل بالتعمير مثلا فقد اختلف المحل قاله الأجهوري ولا يلزم من ملك منفعة الخلو وقفها فإن المالك قد يمنع من فعل بعض التصرفات لمانع كمنع وقف من ملك عبدا على مرسى بقصد الضرر ومنع مالك آلة الحرب من بيعها لحربي وقاطع طريق ومنع مالك عهد مسلم من بيعه لكافر ولا شك أن تعلق الوقف بمنفعته يمنع وقفها لما بينا من تعلق الحق وقد علمت جوابه من اختلاف محل الوقفين والحقين نعم يظهر كلام جهوري في الصورة الثانية من صور الخلو السابقة في كلام الحاشية فإنه لم يحدث عمارة وإنما أخذ دراهم عمر بها المسجد وجعل الحانوت بخمسة عشر بعد أن كان بثلاثين فصارت منفعة الحانوت الوقف بعينها مشتركة بين صاحب الخلو والناظر فكيف بوقفها ثانيا فتدبر انتهى كلام ضوء الشموع والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم ا. هـ.(16/58)
3- من أقوال بعض فقهاء الشافعية:
قال الشيرازي واختلف قوله في أكثر مدة الإجارة والمساقاة فقال في موضع، سنة، وقال في موضع يجوز ما شاء وقال في موضع يجوز ثلاثين سنة فمن أصحابنا من قال: فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: لا تجوز بأكثر من سنة لأنه عقد على غرر أجيز للحاجة ولا تدعو الحاجة إلى أكثر من سنة لأن منافع الأعيان تتكامل في سنة.
والثاني: تجوز ما بقيت العين لأن كل عقد جاز إلى سنة جاز إلى منها كالكتابة والبيع إلى أجل.(16/58)
والثالث: أنه لا تجوز أكثر من ثلاثين سنة لأن الثلاثين شطر العمر ولا تبقى الأعيان على صفة أكثر من ذلك ومنهم من قال هي على القولين الأولين وأما الثلاثون فإنما ذكره على سبيل التكثير لا على سبيل التحديد وهو الصحيح (1) .
قال الفقيه ابن حجر المكي الهيتمي في الفتاوى الكبرى الفقهية، -3، ص 338، طبعة عبد الحميد أحمد حنفي قال في بيان المصلحة المجوزة لإجارة المدة الطويلة: هي المصلحة التي ترجع إلى بقاء عين الوقف وقد انحصرت في إيجاره تلك المدة لا إلى مجرد مصلحة المستحق أما الأول فلما يأتي عن أبي زرعة وغيره. وأما الثاني فالدليل عليه ما قررته من كلام صاحب الإرشاد وغيره من أن مجرد زيادة أجرة المثل لا تجوز إجارة المدة الطويلة وقد صرح به السبكي حيث قال لعمارة ونحوها كما يأتي عنه تخص الجواز بالعمارة ونحوها وعلى ما ذكرته من أن الإجارة لمجرد زيادة الأجرة لا تجوز ينبغي أن يحمل إطلاق الأذرعي امتناع الإجارة الطويلة لأنها تؤدي إلى تملك الوقف ومفاسد أخرى تعلم مما سأذكره فمحل امتناعها إذا كانت المصلحة عائدة للمستحقين فقط وأما إطلاقه امتناعها وإن عادت إلى عين الوقف فلا يتجه كما بينه أبو زرعة في فتاويه وسيأتي فتعين حمل كلامه على ما ذكر وكذلك يحمل على ذلك قول تلميذه الزركشي جواز إجارة الوقف مائة سنة ونحوها، بعيد، فإنه يؤدي إلى استهلاكه ويدل على حمل كلامه أعني الزركشي على ما ذكرته قوله أيضا ويخرج من كلام ابن سراقه وأبي الفرج الجزم بالجواز مطلقا في الخراب وهو ظاهر إذا اقتضته المصلحة ليحتكر. ا. هـ. فافهم أن استبعاده الأول إنما هو في غير الخراب ويوجه بأن المصلحة في غير
__________
(1) المهذب ومعه المجموع، ج 14، ص 227.(16/59)
الخراب إنما تعود على المستحق فلم تكن مسوغة للإجارة الطويلة لاشتماله على مفاسد فلا تفعل إلا لمصلحة ترجع إلى عين الوقف لأن رعاية حفظه بالعمارة أولى من رعاية توهم تملكه. ومما يؤيد اشتمالها على مفاسد قول الزركشي أن الحكام من أئمتنا القائلين بأن الموقوف لا يؤجر أكثر من ثلاث سنين لئلا يندرس مالوا إلى مذهب أبي حنيفه رضي الله عنه لأنه أحوط. وقول أبي زرعة وصاحب الأنوار ما فعلوه من ذلك الاصطلاح هو الاحتياط وقول السبكي منتصرا لهذا الاصطلاح لعل سببه أن إجارة الوقف تحتاج إلى أن تكون بالقيمة وتقويم المدة المستقبلة البعيدة صعب قال وفيه أيضا توقع الانتقال إلى البطن الثاني وقد تتلف الأجرة فتضيع عليهم ومع ذلك قد تدعو الحاجة إلى المدة الطويلة لعمارة ونحوها فالحاكم يجتهد في ذلك ويقصد وجه الله تعالى. ا. هـ. قال الكمال الرداد شارح الإرشاد وما قاله ظاهر لا سيما في هذا الوقف شاهدنا كثيرا إجارة بعض الحكام الوقف مدة طويلة أدت إلى تملكه وإبطال وقفيته واندراسه والاحتياط متعين في هذا الزمان بلا شك. ا. هـ. وقال أيضا في امرأة أرادت أن تؤجر وقفا خمسين سنة بإذن الحاكم فرارا من البطن الذي بعدها لا يجوز لها ذلك ولا يجوز للحاكم الإذن لها في تلك المدة المذكورة لأن التقويم لأجرة المثل المدة البعيدة صعب ولأنه يخشى على الوقف إذا أجر المدة المذكورة اندراسه رأينا ذلك وشاهدناه على أن القاضي وتلميذه البغوي والمتولي ذكروا أن الحكام اصطلحوا على منع إجارة الوقف أكثر من ثلاث سنين هذا في زمانهم فكيف في زماننا الذي لا يوجد فيه قاض أمين أهل للولاية بل قال الأذرعي قضاة العصر كقريبي العهد بالإسلام وهذا في زمانه فكيف في زماننا. ا. هـ. وقال أيضا وقد كثرت المفاسد في نظار الوقف في تأجير المدة الطويلة حتى صار كثير من أماكن الأرض الموقوفة مندرس الوقف(16/60)
ويتصرف فيه تصرف الملك ولا شك أن ذلك قادح في نظرهم فعلى الإمام ونوابه أصلحهم الله سبحانه وتعالى إزالة هذه المفاسد. ا. هـ. فظهر من كلام هؤلاء الأئمة أن في الإجارة الطويلة مفاسد فلذا وجب الاحتياط فيها أكثر ولا يتم ذلك الاحتياط إلا إن انحصرت المصلحة في العمارة ونحوها مما يتعلق بعين الوقف وبقائه كما صرح به الإمام أبو زرعة محقق عصره باتفاق من بعده ومن ثم ترجموه بأنه ما رأى مثل نفسه لأنه جمع فقه شيخيه الأسنوي والبلقيني وحديث والده حافظ المتأخرين وحاصل عبارته في فتاويه أنه سئل عما يفعله حكام مكة من إجارة دور مكة الخربة الساقطة مائة سنة أو نحوها مما يقوم بعمارتها ويقدرون ذلك أجرتها في مدة الإجارة ويأذنون للمستأجر في صرفه في العمارة ويقرون الدار معه بعد عمارتها على حكم الإجارة السابقة من غير زيادة في الأجرة هل هذا التصرف حسن يسوغ اعتماده وتكراره أم لا لأن هذه المدة تؤدي إلى تملك الوقف غالبا وذلك أعظم ضررا من الخراب وأطالوا في السؤال فأجاب وأطال وملخصه أن منافع الوقف كمنافع الطلق يتصرف الناظر فيها بالمصلحة وقد تقتضي المصلحة تكثير مدة الإجارة وتقليلها وحينئذ فيجوز إجارة الدار الموقوفة مدة تبقى إليها غالبا ويختلف ذلك باختلاف الدور ولاختلاف البلاد في إحكام ما يبنون به وإتقانه ومدة بقائه غالبا فيما يفعله حكام مكة من إجارة دور الوقف الخربة الساقطة مائه سنة أو نحوها عند الاحتياج لأجرة المدة المذكورة لأجل العمارة حسن يسوغ اعتماده إذا لم يكن للوقف حاصل يعمر به ولا وجد من يقرض القدر المحتاج إليه للعمارة بأقل من أجرة تلك المدة فإنه لا معنى لإجارة مدة مستقبلة بأجرة حالة من غير احتياج لذلك وإنما استحسناه وسوغناه لأن فيه بقاء عين الوقف وهو مقدم على سائر المقاصد وقد تعينت الإجارة المذكورة طريقا لذلك ثم قال ولا نظر(16/62)
لخشية تملك الوقف حينئذ لأن الأمور إذا ظنت مصلحتها في الحال لا نظر في إبطالها إلى احتمال مفسدة مستقبلة ولا نظر إلى أن العمارة إنما يحصل النفع بها للمستأجر فقط لأن مدته لا تفرغ إلا وقد عادت الدار خربة كما كانت لحصول غرض الواقف مع ذلك بعمارته لها وذلك الغرض هو بقاء العين الموقوفة منقلة عن ملك الآدميين لرقبتها مملوكة لله سبحانه وتعالى فيبقى ثوابه مستمرا حتى يجري عليه ولو لم ينتفع الموقوف عليه بريعها والصورة التي تكلمنا عليها أن الإجارة المذكورة تعينت طريقا لبقاء عين الوقف فإنه تداعى للسقوط ولم يوجد ما يعمر به من ريع حاصل والقرض. والأولى إذا خرب الوقف ولم ينهض بعمارته إلا أجرة مائة سنة أن يؤجر المدة المذكورة ليعمر جميعه بالأجرة لأن بقاء عين الوقف مقصود شرعا في غرض الواقف ولا نظر إلى خشية الإفضاء إلى تملكه لأن ذلك غير محقق وبالجملة فمتى أمكنت المبادرة إلى عمارة الوقف وبقاء عينه كما كانت فهو حسن فليفعل ذلك بكل طريق ممكن شرعي ويحترز عما يتوقع من المفسدات بما أمكن الاحتراز به ولا تترك المصالح المظنونة للمفاسد الموهومة. ا. هـ. حاصل كلام الولي رحمه الله تعالى وهو صريح لمن عنده أدنى تأمل لما ذكرته أنه لا بد في الحاجة المسوغة للإجارة الطويلة من عودها إلى عين الوقف لتوقع بقائها على ذلك ألا ترى إلى قوله عند الاحتياج لأجرة المدة المذكورة لأجل العمارة حسن يسوغ اعتماده إذا لم يكن للوقف حاصل يعمر به ولا وجد من يقرض القرض المحتاج إليه للعمارة بأقل من أجرة تلك المدة فإنه لا معنى لإجارة مدة مستقبلة بأجرة حالة من غير احتياج لذلك وإنما استحسناه، إلخ. فتأمل قوله (لأجل العمارة) وقوله (إذا لم يكن الوقف) إلخ وقوله (من غير احتياج لذلك) تجد ذلك كله كبقية كلامه صريحا فيما ذكرته من أنه لا يجوز إجارة المدة(16/62)
الطويلة إلا عند تحقق الحاجة الراجحة إلى العمارة ونحوها. وهذا أمر ظاهر من كلامه لا ينكره إلا معاند مكابر لا يلتفت إليه، ويوافقه قول السبكي السابق ومع ذلك فقد تدعو الحاجة إلى المدة الطويلة لعمارة ونحوها. فإن قلت الحاجة أخص من المصلحة وهم لم يشترطوا في إجارة الناظر إلا المصلحة ولا يلزم من اشتراط الأعم اشتراط الأخص وإذا أجره بزيادة على أجرة المثل كان ذلك مصلحة فلم لا يسوغ أن زيادة أجرة المثل هنا بمجردها تكون مصلحة مسوغة للإجارة وإن طالت مدتها، وكلام السبكي إنما هو في الحاجة وهي منحصرة في نحو العمارة فلا ينافي ما ذكرناه من جواز الإجارة للمصلحة التي ذكرت قلت أما كون الحاجة أخص من المصلحة فواضح وأما اشتراطهم في الناظر ما ذكر فإنما هو لكونه شرطا في كل إجارة ثم بعض الإجارات كالذي نحن فيه يشترط فيه زيادة على ذلك وهو الحاجة وبعضها كإجارة المدة القليلة يكفي فيه مطلق المصلحة وفي هذه الحالة لا يحتاج إلى الزيادة على أجرة المثل بل حيث كان في الإجارة مصلحة اكتفى فيها بأجرة المثل وحيث لم يكن لم يكتف فيها إلا بالزيادة كما مر عن الكمال شارح الإرشاد فعلمنا أن الزيادة بمجردها ليست مصلحة كافية عن غيرها لا في الإجارة القصيرة ولا الطويلة فبطل اعتبار تلك الزيادة ولم يجز النظر إليها وبهذا علم الجواب عنه. فإن قلت فلم اشترطتم في الإجارة الطويلة الحاجة واكتفيتم في القصيرة بمجرد المصلحة قلت لأن الطويلة فيها مفاسد شتى كما مر وهذا متفق عليه بين المطلقين المنع والمجوزين لها بالشروط السابقة وإذا اشتملت على مفاسد منافية لغرض الواقف والشارع من بقاء عين الوقف فكان الأصل امتناعها وما كان الأصل امتناعه لا يجوز إلا لضرورة أو حاجة حاقة ولا شك أن العمارة إذا توقفت على الإجارة الطويلة كان ذلك إما ضرورة أو حاجة(16/63)
فمن ثم جوزوها حينئذ. وأما إذا لم يكن ضرورة ولا حاجة بأن كان المكان عامر لا يخشى عليه انهدام ولا يحتاج لترميم ونحوه من العمارات فالمنع باق بحاله خشية من تلك المفاسد ويؤيد ذلك أن الولي قال في رده منع الأذرعي الطويلة مطلقا لأنه يؤدي إلى استهلاكه لم أر من قاله هكذا في كل شيء على الإطلاق ولا نظير يشهد له ومنع الإجارة بأمر متوهم وهو إفضاء الأمر إلى استهلاكه لا دليل عليه ولا تقتضيه قواعدنا وكيف نثبت أمرا بالشك وليس من مذهبنا سد الذرائع ا. هـ فرده لهذا مع تقييده الجواز بما مر عنه صريح في أنه إنما قصد بذلك رد المنع إطلاق لا أصل المنع وإلا لم يشترط في الجواز ما قدمته عنه ونتج من كلامه أن الطويلة لا تجوز إلا لحاجة وليس علته إلا ما قررته فافهمه. فإن قلت ينافي ما ذكرته كلام الكمال شارح الإرشاد في فتاويه فإنه سئل عن رجل وقف بيتا يملكه على ولدي ابن له ليسكناه ويؤجراه وينتفعا به وجعل النظر في ذلك إليه مدة حياته ثم بعده إلى الموقوف عليهما ثم مات الواقف وأحد الولدين صغير لم يبلغ فاحتاج إلى الكسوة والنفقة فنصب الحاكم الابن البالغ على أخيه اليتيم فأجر المنصوب حصة أخيه اليتيم بالمصلحة لحاجته وضرورته إلى النفقة والكسوة على أخيه بأجرة زائدة على أجرة المثل في الوقف مدة مائة سنة وقبض له الأجرة فهل تصح هذه الإجارة أم لا؟ فأجاب نعم تصح الإجارة المذكورة انتهى. قلت لا ينافي ما ذكرته. أما أولا فلأنه أطلق هنا الصحة وقد قدمت عنه عدة أماكن من فتاويه مصرحة بأنه لا بد في الإجارة الطويلة من مصلحة غير زيادة الأجرة. وأما ثانيا فلأن جوابه منزل على ما قاله السائل وهو أنه أجر الحصة بالمصلحة ولحاجة اليتيم بأجرة المثل فأكثر فذكر هنا ثلاثة أسباب المصلحة وحاجة اليتيم وزيادة أجرة المثل فتعين أن المصلحة راجعة لعين الوقف وليس مستند الإجارة في(16/64)
السؤال ذكر فيه مثل هذه الثلاثة إذ لو ذكر فيه ذلك المذكور لكان أمره واضحا جليا وقد علمت أنه لم يذكر فيه إلا أن المصلحة التي للوقف والموقوف عليه مقيدة بزيادة الأجرة على أجرة المثل. وقد علمت بما قررته ووضحته أن مجرد هذه غير كاف في الإجارة الطويلة فاعلم ذلك وتنبه له فإن بعض المعاندين ربما اطلع على كلام الكمال هذا فجعله مستندا له على صحة مكتوب الإجارة الذي في السؤال وليس فيه مستند لذلك يوجه لما علمت من إيضاح الفرق بينهما ثم رأيت بعد فراغي من جواب المسائل السابقة والآتية الرافعي صرح في الكلام على ألفاظ الوجيز بما هو صريح فيما قدمته عن أبي زرعة وغيره من أنه لا بد من مصلحة تعود للوقف دون الموقوف عليه فإنه قال في قول الوجيز وتأثيره أي لزوم الوقف إزالة الملك وحبس التصرف على الموقوف ويجوز أن يغير قوله. وحبس التصرف على الموقوف بقصر التصرف على ما يلائم غرض الواقف ويمنع الموقوف عليه ا. هـ كلام الرافعي فتأمل تفسيره كلام الغزالي بقصر التصرف الذي لا يكون إلا من الناظر على ما يلائم غرض الواقف ويمنع الموقوف عليه تجده قاضيا بما قلناه من أن مصلحة التصرف لا بد وأن ترجع إلى غرض بقاء الوقف وأنه إذا تعارض هذا مع غرض المستحق قدم الأول ومنع المستحق من غرضه المنافي له. فإن قلت لا شاهد في هذه العبارة لأن من غرض الواقف نفع الموقوف عليه قلت نعم هو منه لكن إنما يراعى حيث لم يعارض غرض الوقف أما عند المعارضة فيقدم غرض الوقف وفي مسألتنا لو جعلنا مجرد زيادة الأجرة مسوغا للإجارة الطويلة المؤدية إلى استهلاك الوقف من غير حاجة الوقف إلى ذلك لكنا قدمنا غرض المستحق على غرض الواقف وهو ممتنع كما علمت من كلام الرافعي هذا ومما يؤيد ذلك أيضا قولهم لو قال الموقوف عليه أسكن الدار وقال الناظر أؤجرها(16/65)
لأرممها بأجرتها أجيب الناظر فهذا فيه التصريح منهم بتقديم مصلحة الوقف على مصلحة المستحق وقولهم في موقوف له منافع يجتهد الحاكم ويستعمله فيما هو أقرب إلى مقصود الواقف وأجرى الرافعي ذلك في الدار المشرفة على انهدام ففيه تصريح منه بأنه إذا تقابل غرض الواقف وغرض المستحق قدم غرض الواقف وما نحن فيه تقابل غرضاهما فيقدم غرض الواقف من عدم الإجارة الطويلة على غرض المستحق.
وقولهم يراعى غرض الواقف ما أمكن فانظر قولهم ما أمكن تجده هو صريحا فيما قلناه. ومما يصرح بذلك أيضا قولهم في باب التفليس (والعبارة للشيخين) يؤجر الموقوف على المفلس المرة بعد المرة إلى أن يفي الدين وتبعهما المتأخرون على ذلك فتأمل قولهم المرة بعد الأخرى ولم يقولوا يؤجر مدة طويلة تراه شاهدا لما قررته من رعاية غرض الواقف دون المستحق وإلا لم يحتج إلى تكرار الإجارة وأوجر مدة طويلة رعاية لغرضه مع قوله بأن الحجر يدوم عليه حتى يفي الدين على ما فيه ومع ذلك لم تلفت الأئمة إلى هذا الغرض ويجوزون الإجارة لأجل ارتفاع الحجر مدة طويلة تفي بالدين. بل أوجبوا أن يؤجر المرة بعد المرة وإن أدى إلى دوام الحجر. فإن قلت قد خالف السبكي كلام الشيخين وغيرهما فقال في شرح المهذب الوجه أن يقال إذا كانت أي العين الموقوفة مما تؤجر غالبا لمدة قريبة يغلب البقاء فيها ألزم بذلك لأن جملة تلك المدة كالمال الحاضر عرفا وتضاف تلك الأجرة إلى بقية أمواله ويقسم بين الغرماء ويفك الحجر عنه وقال غيره الأقرب أنه يؤجر دفعة واحدة بأجرة معجلة لا مرة بعدة مرة خلافا للشيخين قلت لا نظر لمخالفته هذه فإنه نفسه صرح بأن هذا رأي له ولم يره منقولا وإذا تعارض رأيه ومنقول الشيخين وغيرهما قدم المنقول ولم يجز العمل بذلك الرأي كما هو بديهي لمن عنده(16/66)
أدنى إلمام بأصول المذهب ومأخذه فتأمل جميع ذلك فإنه مهم وفيه دلالات ظاهرة أو صريحة لما قررته. فإن قلت ما وجه دلالة عبارتهم على امتناع إيجار المدة الطويلة هنا قلت صراحة عبارتهم على ذلك لا تحتاج إلى برهان وكفاك شاهدا على ذلك مخالفة السبكي المذكورة إذ لولا أن تلك العب للاشتراط لما قال خلافا للشيخين ولما قال عما قاله هذا ما رأيته ولم منقولا ا. هـ.
قال الفقيه ابن حجر الهيتمي في ج3، من (الفتاوى الكبرى الفقهية) ص 348، طبعة عبد الحميد أحمد حنفي قال قد تباينت آراء الأئمة في الإجارة الطويلة - أي الوقف- فمنعها، جماعة منهم الأذرعي وتبعه تلميذه الزركشي فاستبعد جوازها وجوزها آخرون بشروط منهم السبكي وأبو زرعة وغيرهما وجرى عليه الكمال الرداد شارح الإرشاد وهو الحق واتفق الكل على أن فيها مفاسد فالمانعون نظروا إليها فأطلقوا منعها نظرا للعادة المحققة لها غالبا والمجوزون لها نظروا إلى أنها موهومة مع الحاجة إذا حقت منعت النظر إليها وقد صرح الأئمة بأنه يجب على الناظر الاحتياط في الإجارة وفي حفظ الأصول ولا يتم الاحتياط في هذين في الإجارة الطويلة إلا إن احتيج إليهما كما ذكر. وصرحوا أيضا في عدة مواضع بأنه يجب على المتصرف على الغير أن يراعي في تصرفه الأغبط والأصلح ففي مدد الإجارات يلزمه رعاية الأصلح منها ولا يجوز له فعل المصالح مع وجود الأصلح فلا يفعل الإجارة الطويلة إلا إذا تحقق كونها أصلح. وذكروا أيضا أن لا يسجل نحو إجارته إلا إن ثبت مسوغها وهذا كله مؤيد للمجوزين للإجارة الطويلة بشرط الحاجة لتوقف بقاء عين الوقف بعمارته أو نحوها عليها ا. هـ.
ونقل الفقيه ابن حجر الهيتمي الشافعي في (الفتاوى الكبرى الفقهية)(16/67)
ج 3، ص 338، عن السبكي أنه قال في إجارة الوقوف المدة الطويلة (تحتاج إلى أن تكون بالقيمة وتقويم المدة المستقبلة البعيدة صعب. قال وفيه أيضا توقع الانتقال إلى البطن الثاني وقد تتلف الأجرة فتضيع عليهم ومع ذلك قد تدعو الحاجة إلى المدة الطويلة لعمارة ونحوها فالحاكم يجتهد في ذلك ويقصد وجه الله تعالى) ثم نقل ابن حجر عن الكمال الرداد شارح الإرشاد، أنه قال: قد شاهدنا كثيرا إجارة بعض الحكام الوقف مدة طويلة أدت إلى تملكه وإبطال وقفيته واندراسه، والاحتياط متعين في هذا الزمان بلا شك. ا. هـ. قال (وقال أيضا في امرأة أرادت أن تؤجر وقفا خمسين سنة بإذن الحاكم فرارا من البطن الذي بعدها لا يجوز لها ذلك ولا يجوز للحاكم الإذن لها في تلك المدة المذكورة، لأن التقويم لأجرة المثل المدة البعيدة صعب ولأنه يخشى على الوقف إذا أجر المدة المذكورة اندراسه كما رأينا ذلك وشاهدناه على أن القاضي وتلميذه البغوي والمتولي ذكروا أن الحكام اصطلحوا على منع إجارة الوقف أكثر من ثلاث سنين هذا في زمانهم فكيف في زماننا الذي لا يوجد فيه قاض أمين أهل للولاية بل قال الأذرعي قضاة العصر كقريبي العهد بالإسلام وهذا في زمانه فكيف في زماننا. ا. هـ. وقال أيضا وقد كثرت المفاسد من نظار الوقف في تأجير المدة الطويلة حتى صار كثير من أماكن الأرض الموقوفة مندرس الوقف ويتصرف فيه تصرف الملك ولا شك أن ذلك فاح في نظرهم فعلى الإمام ونوابه أصلحهم الله سبحانه وتعالى إزالة هذه المفاسد. ا. هـ.
وجاء في فتاوى ابن الحسن تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي ج1، ص 441، نشر مكتبة القدسي ما نصه (مسألة: ما يقول السادة العلماء أئمة الدين في شخص وقف وقفا على أولاده وشرط أنه لا يؤجر(16/68)
أكثر من سنه ولا يعقد على ذلك ولا على بعضه عقد إجارة ثانية حتى تنقضي مدة العقد الأول ويعود إلى يد الناظر ولا يتحيل على ذلك فقيه بحيلة شرعية، وحكم بصحة ذلك حاكم من حكام المسلمين فآجره الناظر المستحق له يومئذ عشرين سنة هلاليات متواليات في عشرين عقدا كل عقد منها سنة واحدة يتلو بعضها بعضا ثم أقر الناظر المؤجر المستحق للوقف إقرارا صحيحا شرعيا أنه لا يستحق في منافع المأجور المعين فيه المدة المعينة فيه منع المستأجر المسمى فيه حقا قليلا ولا كثيرا ولا أجرة ولا إجارة ولا استحقاق منفعة ولا دعوى ولا طلب بوجه ولا سبب ولأن منافع المأجور فيه يستحقها المستأجر استحقاقا صحيحا شرعيا بطريقة صحيحة شرعية فهل تصح الإجارة فيه في المدة المعينة أم لا بحكم أنها مخالفة لما شرط الواقف ولم يدثر الوقف ولم ينهدم إذا بطلت الإجارة فهل يؤاخذ بإقراره المعين أم لا. وإذا كان إقراره باطلا فهل يرجع المقر المؤجر على المستأجر بأجرة المثل فيما زاد عن المسألة الأولى في الإجارة المذكورة أم لا. أفتونا مأجورين؟ . وأجاب رضي الله عنه هذه أمور ملتبسة والظاهر أنها صادرة عن أمور باطلة وإن احتملت وجها من الصحة. والذي أراه بطلان الإجارة وأن المقر مؤاخذ بإقراره ولا يعطى أي شيء وإن كان الوقف يستحق غيره معه يصرف إليه وإلا فيكون منقطع الوسط يصرف مصارف المنقطع الوسط والله أعلم. ا. هـ.
وفي الفتاوى الكبرى الفقهية لابن حجر الهيتمي، ج 3، ص 248، ما نصه (سئل عن واقف شرط في وقفه أن لا يؤجر أكثر من سنة بأجرة مثل فإذا آجره الناظر عشر سنين في عشرة عقود كل سنة بأجرة مثله تلك السنة من شخص واحد فهل يجوز ذلك كما صرح به شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمه الله في كتابه عماد الرضا في بيان أدب القضا أم لا يجوز(16/69)
فيما زاد على العقد الأول نظرا للمعنى كما أفتى به ابن الصلاح وأفتى غيره بالصحة نظرا للفظ تبعا لشيخ الإسلام زكريا وقال وهو أفقه لكن المعتمد الأول الذي أفتى به ابن الصلاح. وإذا قلتم بالجواز تبعا لشيخ الإسلام زكريا سواء كان الوقف عامرا أم خرابا أوضحوا لنا ذلك فأجاب بقوله الذي أفتى به ابن الصلاح من الامتناع نظر فيه إلى المعنى فإنه علله بأن المدتين المتصلتين في العقد في معنى العقد الواحد فيخالف شرط الواقف قال صاحب الإسعاد في بعض نسخه وما أفتى به متجه جدا. ا. هـ. وإنما يتم اتجاهه عند النظر للمعنى كما قررته لكن من تأمل كلامهم وتفاريعهم على أنهم في الغالب يرجحون ما كان أقرب إلى لفظ الواقف مما هو أقرب إلى غرضه دون لفظه ولهذا يظهر ترجيح الجراز ومن ثم جرى عليه ابن الأستاذ وجزم به صاحب الأنوار وتبعهما شيخنا شيخ الإسلام زكريا سقى الله عهده وغيره فاندفع قول من قال المعتمد ما أفتى به ابن الصلاح ووجه اندفاعه ما قررته من أن الجواز أقرب إلى كلام الأئمة ولذلك اعتمده المحققون وخالفوا ابن الصلاح ولم يبالوا بذلك ولا يجوز للحاكم نقض حكم غيره بالجواز لأنه المعتمد كما علمت. ومحل الخلاف حيث لم يشترط الواقف أن لا يدخل عقد على عقد وإلا بطل العقد الثاني وما بعده اتفاقا لاستلزام القول بصحته مخالفة تصريح الواقف بامتناعه من غير ضرورة داعية لذلك إذ الغرض أن الوقف محاصر والله أعلم ا. هـ.
وفي فتاوى العلامة شمس الدين محمد بن شهاب الدين أحمد بن أحمد بن حمزة الرملي، ج 3، بهامش فتاوى ابن حجر الهيتمي، ج 3، ص 87-88 ما نصه (سئل أي الرملي - عما لو شرط الواقف أن لا يؤجر أكثر من سنة فأجره عشر سنين في عشرة عقود كل عقد بسنة(16/70)
بأجرة مثل تلك السنة فهل يصح كما تقتضيه عبارة الأنوار ووفاقا لابن الأستاذ أم لا يصح إلا العقد الأول كما نقله الكمال بن أبي شريف بأن قال لو شرط أن لا يؤجر أكثر من ثلاث سنين مثلا فآجره الناظر ست سنين في عقدين الثاني قبل انقضاء الأول والمدة متصلة أفتى ابن الصلاح بأنه لا يصح العقد الثاني وإن قلنا بالأصح أنه تصح إجارة المدة المستقبلة للمستأجر اتباعا لشرط الواقف وخالفه ابن الأستاذ وقال ينبغي الصحة وظاهر إطلاق عبارة الأنوار الجزم بذلك ثم ساق عبارته ثم قال وما أفتى به ابن الصلاح متجه جدا ثم قال: لأنا إنما صححنا العقد المستأنف مع أن المذهب أنه لا يجوز إجارة مدة مستقبلة لأن المدتين المتصلتين في العقدين في معنى المدة الواحدة في العقد الواحد. وهذا بعينه يقتضي في هذه الصورة البطلان فإنه يجعل ذلك بمثابة ما إذا عقد على المدتين في عقد واحد. ا. هـ. كلامه فأجاب بأن ما أفتى به ابن الصلاح وافقه عليه جماعة من المتأخرين) ا. هـ.
وفي باب الإجارة من فتاوى ابن حجر الهيتمي الفقهية الكبرى، ج 3، ص 144، ما نصه (وسئل في مسألة الإجارة المدرجة التي صورتها آجرتك هذه الأرض مائة سنة بمائة محلق كل سنة بمحلق عقودا مختلفة يتلو بعضها بعضا هل تصح هذه الإجارة أم لا؟ فإذا قلتم بصحتها فهل يجري ذلك في المملوك والموقوف أم في المملوك فقط أم لا يصح في كل منهما وما يكون إذا حكم حاكم بصحة ذلك؟ فإذا قلتم بصحتها في المملوك والموقوف وكان من شرط الواقف أن لا يؤجر أكثر من سنتين فهل تصح الإجارة بهذا العقد هذه المدة أم على شرط الواقف ولا يصح التدريج؟ وإذا قلتم بصحتها في العقود المختلفة وإن زادت على شرط الواقف فهل تنفسخ الإجارة بموت البطن الأول كان الوقف وقف ترتيب أم(16/71)
تشريك أم لا؟ وإذا قلتم بصحتها في الموقوف فهل تكون كالصحيحة تسقط أجرة المثل فيما مضى أم تكون كالمقبوض بعقد فاسد وبطلت أجرة المثل فيما مضى بينوا لنا جواب ذلك ما الصحيح من مذهب الشافعي ومذهب الغير أثابكم الله؟ فأجاب: إجارة الأرض المملوكة مائة سنة صحيحة وكذا الموقوفة لكن بشرط أن تخرب تلك الأرض فتحتاج لأجرة المدة المذكورة لأجل العمارة وأن لا يكون للوقف حاصل يعمر به وأن لا يوجد من يقرض القدر المذكور المحتاج إليه للعمارة بأقل من أجرة تلك المدة فإن انتفي شرط من ذلك لم تجز إجارتها تلك المدة الطويلة. هذا حاصل ما ذكره الولي أبو زرعة في فتاويه وأطال في بيانه وتحقيقه. وحيث شرط الواقف أن لا تؤجر أكثر من سنتين لم تجز إجارتها أكثر منهما في عقد واحد ولا تنفسخ الإجارة بموت البطن الأول ولا من بعده سواء كان الوقف وقف ترتيب أم وقف تشريك إلا في مسألة واحدة هي ما لو شرط الواقف النظر لكل مستحق على حصته ما دام مستحقا فحينئذ تبطل الإجارة بموت المؤجر المستحق وحيث انفسخت بالموت وجب حصة ما مضى من المسمى ورجع المستأجر بما بقي من المسمى والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب) ا. هـ.
قال ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الفقهية الكبرى، ج 3، ص 331، سئلت عن مسألة مهمة فأجبت إثباتها هنا وهي مسألة أرض موقوفة هي ومياهها شرط واقفهما شروطا منها أن لا تؤجر أكثر من سنة ولا تؤجر السنة الثانية حتى تنقضي السنة الأولى وحكم بموجب الوقف حنفي ونفذه شافعي وغيره فآجر ناظره منه أراضي ومياهها مائة سنة مثلا في مائة عقد من نفسه لنفسه لمحجوريه ابني ابنه وحكم بهذه الإجارة شافعي وذكر مورقه ما يعتاده المورقون في كل مستند وحكم وهو حكما صحيحا شرعيا(16/72)
مستوفيا شرائطه الشرعية فهل يعمل بهذه الإجارة المخالفة لشرط الواقف لقول المورق المذكور أو لا يعمل بها لأنه لم يثبت لها مسوغ لمخالفته شرط الواقف والمورقون يقولون ذلك ولا يفهمون معناه ولا يكون مطابقا للواقع في كثيرين والمسؤول من تفضلات السادة العلماء الذين هم نجوم الهدى ومصابيح الاقتداء وعليهم المعول في النوائب وإليهم الملجأ في المصائب. بيان حكم الله سبحانه وتعالى في هذه الإجارة التي أكل بها مال الوقف بالباطل لأنه لم يثبت لها مسوغ في مستند الإجارة ولا في الخارج مع مخالفتها لشرط الواقف نصا وإيضاح حكم ذلك وبسطه كما هو الواجب عليهم ليصل كل ذي حق إلى حقه ويرجع المتعدي عن تعديه وعناده وفرقه. فأجبت هذه الإجارة باطلة من وجهين أحدهما كون الناظر آجر ابني ابنه المحجورين واستأجر لهما وهذا باطل ولو بأجرة المثل فأكثر كما صرحوا بنظيره في الوصي والقيم وقالوا كما في الروضة وغيرها إن ناظر الوقف كالوصي والقيم في مال اليتيم فيمتنع عليه ما يمتنع عليهما ويجوز له ما يجوز لهما. وفي أدب القضاء للاصطخري حكاية الإجماع على ما يصرح بأن ناظر الوقف كالوصي وهذا الوجه أظهر من الثاني وهو مخالفة تلك الإجارة لشرط الواقف وذلك مقتض لبطلانها وإن قال المورق ما ذكر لأن كلامه في مثل ذلك لا يعول عليه ووجه كون الأول أظهر أن إبطاله للإجارة لا يمكن تداركه وإن حكم به الشافعي وقال: إنه استوفى المسوغات الشرعية لأن هذا لا مسوغ له فأبطل الإجارة مطلقا بخلاف الثاني فإنه يمكن وجود مسوغ له بأن تشهد الآن بينة عادلة بأن الوقف كان خرب ولم يبق من غلته ما يعمر خرابه ولا يمكن اقتراض ما يعمره ولم تمكن عمارته إلا بأجر تلك المائة سنة إذ هذا مجوز لمخالفة شرط الواقف ومع وجود هذا المسوغ وإقامة هذه البينة الشاهدة به لا تمكن صحة هذه(16/73)
الإجارة لما تقرر في المبطل الأول المشتملة عليه ا. هـ.
قال محقق عصره الإمام أبو زرعة في فتوى له في الإجارة الطويلة قد تقتضي المصلحة أي مصلحة الوقف تكثير مدة الإجارة وتقليلها وحينئذ فيجوز إجارة الدار الموقوفة مدة تبقى إليها غالبا اختلف ذلك باختلاف الدور وباختلاف البلاد في أحكام ما يبنون به وإتقانه ومدة بقائه غالبا فما يفعله حكام مكة من إجارة دور الوقف الخربة الساقطة مائة سنة أو نحوها عند الاحتياج لأجرة المدة المذكورة لأجل العمارة حسن يسوغ اعتماده إذا لم يكن للوقف حاصل يعمر به ولا وجد من يقرض المقدر المحتاج إليه للعمارة بأقل من أجرة تلك المدة فإنه لا معنى لإجارة مدة مستقبلة بأجرة حالة من غير احتياج لذلك وإنما استحسناه وسوغناه لأن فيه بقاء عين الوقف وهو مقدم على سائر المقاصد وقد تعينت الإجارة المذكورة طريقا لذلك ثم قال ولا نظر لخشية تملك الوقف حينئذ لأن الأمور إذا ظنت مصلحتها في الحال لا نظر في إبطالها إلى احتمال مفسدة ولا نظر إلى أن العمارة إنما يحصل النفع بها للمستأجر فقط لأن مدته لا تفرغ إلا وقد عادت الدار خربة كما كانت لحصول غرض الواقف مع ذلك بعمارته لها وذلك الغرض هو بقاء العين الموقوفة منفكة عن ملك الآدميين لرقبتها مملوكة لله سبحانه وتعالى فبقي ثوابه مستمرا حتى يجرى عليه ولو لم ينتفع الموقوف عليه بريعها والصورة التي تكلمنا عليها أن الإجارة المذكورة تعينت طريقا لبقاء عين الوقف فإن تداعى للسقوط ولم يوجد ما يعمر به من ربع حاصل والقرض والأولى إذا خرب الوقف ولم ينهض بعمارته إلا أجرة مائة سنة أن يؤجر المدة المذكورة لأن بقاء عين الوقف مقصود شرعا في غرض الواقف ا. هـ، المراد من كلامه الذي نقله عنه ابن حجر الهيتمي في الجزء الثالث من الفتاوى الكبرى الفقهية. ص 339.(16/74)
قال ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الفقهية الكبرى، ج3، ص 329، (ذكر أبو سعيد) الإصطخري في أدب القضاء له الذي نختاره أن لا يؤجر الوقف أكثر من سنة أو ثلاث سنين ولا يزيد على الثلاثة إلا أن يقع في ضرر فيزيد ويعمل بما فيه الصلاح في الاستغلال فأما ما يدخل على المستحقين به ضرر بين فلا يجوز فإن آجره وفيه ضرر وجب فسخه ثم قال وكذلك في أموال اليتامى والمولي عليهم قال في التوسط وظاهر كلامه التسوية فيما ذكره بين أموال اليتامى والمحجوزين والأوقاف وهو غير بعيد) ا. هـ.(16/75)
4 - من أقوال بعض فقهاء الحنابلة:
قال ابن قدامة:
ولا تتقدر أكثر مدة الإجارة بل تجوز إجارة العين المدة التي تبقى فيها وإن كثرت وهذا قول كافة أهل العلم إلا أن أصحاب الشافعي اختلفوا في مذهبه فمنهم من قال له قولان (أحدهما) كقول سائر أهل العلم وهو الصحيح (الثاني) لا يجوز أكثر من سنة لأن الحاجة لا تدعو إلى أكثر منها ومنهم من قال له قول ثالث أنها لا تجوز أكثر من ثلاثين سنة لأن الغالب أن الأعيان لا تبقى أكثر منها وتتغير الأسعار والأجر.
ولنا قول الله تعالى إخبارا عن شعيب عليه السلام أنه قال {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} (1) وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يقم على نسخه دليل، ولأن ما جاز العقد عليه سنة جاز أكثر منها كالبيع والنكاح والمساقاة والتقدير بسنة وثلاثين تحكم لا دليل عليه وليس ذلك أولى من التقدير بزيادة عليه أو نقصان منه، وإذا استأجره سنين لم يحتج إلى تقسيط الأجر على كد سنة في ظاهر
__________
(1) سورة القصص الآية 27(16/75)
كلام أحمد كما لو استأجر سنة لم يفتقر إلى تقسيط أجر كل شهر بالإتفاق ولو استأجر شهرا لم يفتقر إلى تقسيط أجر كل يوم، ولأن المنفعة كالأعيان في البيع ولو اشتملت الصفقة على أعيان لم يلزمه تقدير ثمن كل عين كذلك هنا. وقال الشافعي في أحد قوليه كقولنا وفي الآخر يفتقر إلى تقسيط أجر كل سنة لأن المنافع تختلف باختلاف السنين فلا يأمن أن ينفسخ العقد فلا يعلم بم يرجع وهذا يبطل بالشهور فإنه لا يفتقر إلى تقسيط الأجر عليها مع الاحتمال الذي ذكروه (1) .
قال الخرقي: إذا وقعت الإجارة على كل شهر بشيء معلوم لم يكن لواحد منهما الفسخ إلا عند تقضي كل شهر.
وقال ابن قدامة: وجملة ذلك أنه إذا قال أجرتك هذا كل شهر بدرهم فاختلف أصحابنا فذهب القاضي إلى أن الإجارة صحيحة وهو المنصوص عن أحمد قي رواية ابن منصور واختيار الخرقي إلا أن الشهر الأول تلزم الإجارة فيه بإطلاق العقد لأنه معلوم يلي العقد وله أجر معلوم وما بعده من الشهور يلزم العقد فيه بالتلبس به وهو السكنى في الدار إن كانت الإجارة على دار لأنه مجهول حال العقد فإذا تلبس به تعين بالدخول فيه فصح بالعقد الأول وإن لم يتلبس له أو فسخ العقد عند انقضاء الأول انفسخ، وكذلك حكم كل شهر يأتي وهذا مذهب أبي ثور وأصحاب الرأي وحكي عن مالك نحو هذا إلا أن الإجارة لا تكون لازمة عنده لأن المنافع متقدرة بتقدير الأجر فلا يحتاج إلى ذكر المدة إلا في اللزوم، واختار أبو بكر عبد العزيز بن جعفر وأبو عبد الله بن حامد أن العقد باطل وهو قول الثوري والصحيح من قولي الشافعي لأن كل اسم للعدد فإذا لم يقدره كان مبهما مجهولا فيكون فاسدا كما لو قال أجرتك
__________
(1) المغني ومعه الشرح الكبير ج \ 6 \ 8.(16/76)
مدة أو شهرا، وحمل أبو بكر وابن حامد كلام أحمد في هذا على أن الإجارة وقعت على أشهر معينة. ووجه الأول «أن عليا رضي الله عنه استقى لرجل من اليهود كل دلو بتمرة وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم يأكل منه، قال علي كنت أدلو الدلو بتمرة وأشترطها جلدة،» «وعن رجل من الأنصار أنه قال ليهودي أسقي نخلك؟ قال نعم كل دلو بتمرة واشترط الأنصاري أن لا يأخذها خدرة ولا تارزة ولا حشفة ولا يأخذ إلا جلدة فاستقى بنحو صاعين فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم (1) » رواهما ابن ماجه في سننه وهو نظير مسئلتنا ولأن شروعه في كل شهر مع ما تقدم في العقد من الإنفاق على تقدير أجرة والراضي ببذله به جرى مجرى ابتداء العقد عليه وصار كالبيع بالمعاطاة إذا جرى من المساومة ما دل على التراضي بها. فعلى هذا: متى ترك التلبس به في شهر لم تثبت الإجارة فيه لعدم العقد، وإن فسخ فكذلك وليس بفسخ في الحقيقة لأن العقد في الشهر الثاني ما ثبت، فأما أبو حنيفة فذهب إلى أنهما إذ تلبسا بالشهر الثاني فقد اتصل القبض بالعقد الفاسد وهو عذر غير صحيح لأن العقد الفاسد في الأعيان لا يلزم بالقبض ولا يضمن بالمسمى ثم لم يحصل القبض هاهنا إلا فيما استوفاه، وقول مالك لا يصح لأن الإجاره من العقود اللازمة فلا يجوز أن تكون جائزة (2) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (3) .
وإذا آجر الأرض أو الرباع، كالدور، والحوانيت، والفنادق، وغيرها. إجارة كان لازمة من الطرفين، لا تكون لازمة من أحد
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2448) .
(2) المغني \ 6 \ 18 - 19.
(3) الجزء الثلاثون صفحة 217.(16/77)
الطرفين، جائزة من الطرف الآخر، بل إما أن تكون لازمة منهما، أو تكون جائزة غير لازمة منهما، عند كثير من العلماء.
كما لو استكراه كل يوم بدرهم، ولم يوقت أجلا، فهذه الإجارة جائزة غير لازمة، في أحد قولي العلماء. فكلما سكن يوما لزمته أجرته، وله أن يسكن اليوم الثاني، وللمؤجر أن يمنعه سكنى اليوم الثاني. وكذلك إذا كان أجر الشهر بكذا، أو كل سنة بكذا، ولم يؤجلا أجلا.
وأما إذا كانت لازمة من الطرفين، فإذا كان المستأجر لا يمكنه الخروج قبل انقضاء المدة، لم يكن للمؤجر أن يخرجه قبل انقضاء المدة لا لأجل زيادة حصلت عليه في أثناء المدة، ولا لغير زيادة، سواء كانت العين وقفا، أو طلقا. وسواء كانت ليتيم أو لغير يتيم. وهذا مذهب الأئمة الأربعة. وغيرهم من أئمة المسلمين. لم يقل أحد من الأئمة أن الإجارة المطلقة تكون لازمة من جانب المستأجر، غير لازمة من جانب المؤجر؛ في وقف، أو مال يتيم، ولا غيرهما. وإن شذ بعض المتأخرين فحكى نزاعا في بعض ذلك، فذلك مسبوق باتفاق الأئمة قبله. والله تعالى قد أمر بالوفاء بالعقود، وأمر بالوفاء بالعهد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته (1) » وقال: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة كانت فيه خصلة من النفاق، حتى يدعها: إذا حدث كذب، واذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر (2) » .
وإذا قال الناظر للطالب: اكتب عليك إجارة، واسكن، فقد أجره، فإن لم يكن أجره لم يحل له أن يسلم إليه العين، فإنه يكون قد سلم الوقف ومال اليتيم إلى ما لا يجوز تسليمه، فيكون ظالما ضامنا، ولو لم
__________
(1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1738) ، سنن الترمذي الفتن (2191) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2873) ، مسند أحمد بن حنبل (3/61) .
(2) صحيح البخاري الإيمان (34) ، صحيح مسلم الإيمان (58) ، سنن الترمذي الإيمان (2632) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5020) ، سنن أبو داود السنة (4688) ، مسند أحمد بن حنبل (2/189) .(16/78)
يستأجر لكان له أن يخرج إذا شاء، ولكان غاصبا لا تجب عليه الأجرة المسماة؛ بل أجرة المثل لما انتفع به في أحد قولي العلماء. وعلى قول من يضمن منافع الغصب لا يجب عليه شيء.
وغاية ما يقال: أنه قبضها بإجارة فاسدة، ولو كان كذلك لكان له أن يخرج إذا شاء؛ بل كان يجب عليه أن يرد العين على المؤجر، كالمقبوض بالعقد الفاسد؛ بل يجب عليه المسمى، أو أجرة المثل، في أحد قولي العلماء. وفي الآخر يجب أقل الأمرين من المسمى أو أجرة المثل. فلا يجوز قبول الزيادة، لا في وقف، أو مال يتيم، وغيرهما. إلا حيث لا تكون الإجارة لازمة، وذلك حيث يكون المستأجر متمكنا من الخروج، ورد العقار إليهم إذا شاء، وهو الذي يسميه العامة الإخلاء، والإغلاق.
فإذا كان متمكنا من الإخلاء والإغلاق، كان المؤجر أيضا متمكنا من أن يخرجه، ويؤجره لغيره، وإن لم يقع عليه زيادة، ويجب أن يعمل ما يراه من المصلحة.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
عن إجارة الوقف. . هل تجوز سنين؟ وكل سنة بذاتها؟ وإذا قطع المستأجر من الوقف أشجارا هل تلزمه القيمة؟ أم لا؟ وإذا شرى الوقف بدون القيمة ما يجب عليه؟
فأجاب: إن كان الوقف على جهة عامة جازت إجارته بحسب المصلحة ولا يتوقف ذلك بعدد عند أكثر العلماء.
وما قطعه المستأجر فعليه ضمانه ولا يجوز للموقوف عليه بيع الوقف بل عليه رد الثمن على المشتري والوقف على حاله (1) .
__________
(1) ج 30، ص 246.(16/79)
قال الإمام ابن القيم في الجزء الثالث من إعلام الموقعين عن رب العالمين ص 291- 293 طبعة مكتبة الكليات الأزهرية قال في بيان مفاسد الإجارة الطويلة للوقف كم ملك من الوقوف بهذه الطرق وخرج عن الوقفية بطول المدة واستيلاء المستأجر فيها على الوقف هو وذريته وورثته سنينا بعد سنين.
وكم فات البطون اللواحق من منفعة الوقف بالإيجار الطويل. وكم أوجر الوقف بدون إجارة مثله لطول المدة وقبض الأجرة. وكم زادت أجرة الأرض والعقار أضعاف أضعاف ما كانت ولم يتمكن الموقوف عليه من استيفائها ثم قال الإمام ابن القيم وبالجملة فمفاسد هذه الإجارة تفوت العد. ا. هـ.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في ج3 من كتابه (إعلام الموقعين عن رب العالمين) ص 291- 293 طبعة مكتبة الكليات الأزهرية: من الحيل الباطلة تحيلهم على إيجار الوقف مائة سنة مثلا وقد شرط الواقف أن لا يؤجر أكثر من سنتين أو ثلاثا فيؤجر المدة الطويلة في عقود متفرقة في مجلس واحد، وهذه الحيلة باطلة قطعا فإنه إنما قصد بذلك دفع المفاسد المترتبة على طول مدة الإجارة فإنها مفاسد كثيرة جدا. وكم قد ملك من الوقوف بهذه الطرق وخرج عن الوقفية بطول المدة واستيلاء المستأجر فيها على الوقف هو وذريته وورثته سنينا بعد سنين وكم فات البطون اللواحق من منفعة الوقف بالإيجار الطويل وكم أوجر الوقف بدون إجارة مثله لطول المدة وقبض الأجرة. وكم زادت أجرة الأرض أو العقار أضعاف ما كانت ولم يتمكن الموقوف عليه من استيفائها. وبالجملة فمفاسد هذه الإجارة تفوت العد، والواقف إنما قصد دفعها وخشي منها بالإجارة الطويلة، فصرح بأنه لا يؤجر أكثر من تلك المدة التي شرطها،(16/80)
فإيجاره أكثر منها سواء كان في عقد أو عقود مخالفة صريحة لشرطه مع ما فيها من المفسدة بل المفاسد العظيمة. وبالله العجب هل تزول هذه المفاسد بتعدد العقود في مجلس واحد وأي غرض للعاقل أن يمنع الإجارة لأكثر من تلك المدة ثم يجوزها في ساعة واحدة في عقود متفرقة وإذا أجره في عقود متفرقة أكثر من ثلاث سنين أيصح أن يقال وفي بشرط الواقف ولم يخالفه هذا من أبطل الباطل وأقبح الحيل وهو مخالف لشرط الواقف ومصلحة الموقوف عليه وتعرض لإبطال هذه الصدقة وأن لا يستمر نفعها وأن لا يصل إلى من بعد الطبقة الأولى وما قاربها فلا يحل لمفت أن يفتي بذلك، ولا لحاكم أن يحكم به، ومتى حكم به نقض حكمه، اللهم إلا أن يكون فيه مصلحة الوقف بأن يخرب ويتعطل نفعه فتدعو الحاجة إلى إيجاره مدة طويلة يعمر فيها بتلك الأجرة، فهنا يتعين مخالفة شرط الواقف تصحيحا لوقفه واستمرار الصدقة وقد يكون هذا خيرا من بيعه والاستبدال به وقد يكون البيع أو الاستبدال خيرا من الإجارة والله يعلم المفسد من المصلح والذي يقضي منه العجب التحيل على مخالفة شرط الواقف وقصده الذي يقطع بأنه قصده مع ظهور المفسدة. والوقوف مع ظاهر شرطه ولفظه المخالف لقصده والكتاب والسنة ومصلحة الموقوف عليه بحيث يكون مرضاة الله ورسوله ومصلحة الواقف وزيادة أجرة ومصلحة الموقوف عليه وحصول الرفق به مع كون العمل أحب إلى الله ورسوله لا يغير شرط الواقف ويجري مع ظاهر لفظه وإن ظهر قصده، بخلافه. وهل هذا إلا من قلة الفقه؟ بل من عدمه فإذا تحيلتم على إبطال مقصود الواقف حيث يتضمن المفاسد العظيمة فهلا تحيلتم على مقصوده ومقصود الشارع حيث يتضمن المصالح الراجحة بتخصيص لفظة أو تقييده أو تقديم شرط الله عليه فإن شرط الله أحق وأوثق بل يقولون(16/81)
هاهنا نصوص الواقف كنصوص الشارع وهذه جملة من أبطل الكلام وليس لنصوص الشارع نظير من كلام غيره أبدا بل نصوص الواقف يتطرق إليها التناقض والاختلاف ويجب إبطالها إذا خالفت نصوص الشارع وإلغاؤها ولا حرمة لها حينئذ البتة ويجوز بل يترجح مخالفتها إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله منها وأنفع للواقف والموقوف عليه ويجوز اعتبارها والعدول عنها مع تساوي الأمرين ولا يتعين الموقوف معها.
ونقل الشيخ أحمد بن محمد المنقور التميمي النجدي في كتابه الفواكه العديدة في المسائل المفيدة ج 1ص 461 عن بعض أهل العلم أنه قال: أتتني عدة مرار صورة مسألة من حلب في وقف شرط واقفه أن لا يؤجر أكثر من سنتين فأجره الناظر عشرين سنة وحكم حاكم حنبلي بصحة الإجارة وقال مذهب أحمد يجوز مخالفة شرط الواقف في ذلك فأجبت عليها بأن هذا القول من هذا الحاكم على الإطلاق خطأ وافتراء على مذهب أحمد بغير علم، والصواب في ذلك متى كان في الإجارة مصلحة أكبر من مراعاة شرط الواقف فهنا قال بعض الأشياخ حفظ عين الوقف أولى وتجوز مخالفة شرط الواقف واعتمدت في ذلك على ما سمعته من شيخنا ومن القاضي برهان الدين بن مفلح ولم يحضرني فيها نقل ثم رأيت كلام الفروع وقد صرح بها غيره أيضا وقد قال العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين بعد كلام له سبق هذا من أبطل الباطل وأقبح الحيل وهو(16/82)
مخالفة شرط الواقف ومصلحة الموقوف عليه وتعرض لإبطال هذه الصفقة ثم قال فلا يحل للمفتي أن يفتي بذلك ولا لحاكم أن يحكم به ومتى حكم به نقص حكمه اللهم إلا أن يكون فيه مصلحة للوقف بأن يخرب ويبطل نفعه فتدعو الحاجة إلى إيجاره مدة طويلة يعمر فيها بتلك الأجرة فهنا يتعين مخالفة شرط الواقف تصحيحا لوقفه واستمرارا لصدقته ثم قال رأيت المسألة بعينها في الفتاوى المصرية وصورتها في وقف شرط واقفه أن لا يؤجر أكثر من سنتين فهل للناظر أن يؤجره أريع سنين أم لا فأجاب إذا لم يمكن الانتفاع به إلا على الوجه جاز ذلك وإن كان فيه مخالفة للشرط المطلق.(16/83)
الرقم 726 وتاريخ 10 \ 11 \ 1375 هـ
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم الشيخ عبد العزيز بن صالح رئيس المحكمة الشرعية بالمدينة الموقر السلام عليكم ورحمه الله وبركاته وبعد:
فبالإشارة إلى خطابكم رقم 811 وتاريخ 20 \ 8 \ 75 هـ وملحقه رقم 2365 في 26 \ 10 \ 75 هـ بشأن الاستفتاء الموجه منكم عن بيع العقار الذي فيه حكر. وقد اطلعنا على صورة الصك المرسل منكم بهذا الخصوص والذي يظهر جواز بيع العقار الذي فيه حكر وهو بمعنى الصبرة عند أهل نجد. وقد أجاز العلماء بيع مثل هذه العقارات قال الشيخ تقي الدين بن تيمية في الاختيارات كلاما ما معناه إذا بيعت الأرض المحكرة أو ورثت فإن الحكر يكون على المشتري والوارث وليس لأصحاب الحكر أخذ الحكر من البائع وتركة الميت في أظهر قولي العلماء ا. هـ.
وقال ابن القيم في الهدى أثناء الكلام عن الأرض المغنومة فعلم أن(16/83)
الأرض لا تدخل في الغنائم والإمام مخير فيها بحسب المصلحة وقد قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك عمر لم يقسم بل أقرها على حالها وضرب عليها خراجا مستمرا في رقبتها يكون للمقاتلة فهذا معنى وتفهما وليس معناه الوقف الذي يمنع من نقل الملك في الرقبة بل يجوز بيع هذه الأرض كما هو عمل الأئمة وقد أجمعوا على أنها تورث والوقف لا يورث ولا يجوز مهرا في النكاح ولأن الوقف إنما امتنع بيعه ونقل الملك في رقبته لما في ذلك من إبطال حق البطون الموقوف عليهم من منفعته. والمقاتلة معهم وخراج الأرض فمن اشتراها صارت عنده خراجية كما كانت عند البائع سواء فلا يبطل حق أحد من المسلمين بهذا البيع كما لم يبطل بالميراث والهبة والصداق ا. هـ.
وقال في مختصر مجموع المنقور قال ابن ذهلان بيع الأرض التي فيها صبرة معلومة صحيح لا بطلان فيه ولا فرق في ذلك عن الخراج على القول بصحة بيع الخراجية فبيع النخل إذا كان فيه صبرة صحيح على ما اعتاده كثير من أهل الوشم وغيرهم. يوصي أحدهم في عقاره بمثل هذه ويصبر الموصي به في العقد مقدم في الغلة على المشتري ولذلك يقول فقهاؤهم منهم الشيخ محمد. ا. هـ.
ومما ذكرناه من كلام الشيخ تقي الدين بن تيمية وتلميذه ابن القيم وابن ذهلان يتضح جواز بيع الدور التي فيها الحكور وأنها أملاك لمن اشتروها أرضها وأنقاضها ولهم التصرف فيها بالبيع والهبة والوقف والسكن والإسكان والتحكير وغير ذلك. إلا أن الحكر السابق المشروط مقدم فيها حسب شرط البائع الأول كما يظهر أنه يجوز أن يشتري بقيمة الوقف الذي بيع للمسوغ الشرعي سواء أكان ذلك الوقف المذكور فيه حكر سابق على الوقفية أم لا دارا من تلك الدور التي فيها تلك الحكور تكون وقفا بدلا عن(16/84)
الوقف المبيع الأول لما تقدم من كون أرض الدار المحكرة ملكا لا وقفا حيث تكون تلك الدار المشتراة وقفا ويتصور فيها وجود حكر بين اثنين أحدهما الحكر السابق يتضمن تقديمه على غيره الثاني الحكر الذي هو الوقف المنقول يكون مؤخرا عن هذا الحكر وما فصل عن الحكرين غلة الوقف المنقول وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته حرر 11 \ 11 \ 1375هـ.
نقلتها من صورة طبق أصلها المسجل في سجل الإفتاء وقد أجرى مطابقتها على أصلها المسجل عضو الهيئة القضائية العليا بوزارة العدل عبد الله بن سليمان بن منيع وتوقيعه وختمه.
حرر في 16 \ 1 \ 1376(16/85)
من محمد بن إبراهيم إلى فضيلة الشيخ محمد بن عوده عضو الرئاسة المنتدب لعنيزة المحترم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فقد اطلعنا على كتابكم المؤرخ في 13 \ 2 \ 1384هـ، المرفق به استرشاد كاتب العدل ببريدة المنتدب لعنيزة رقم 52 وتاريخ 23 \ 2 \ 1384هـ، حول صفة كتابة صكوك البيوت التي هدمت لتوسعة الشارع نظرا إلى أن معظم البيوت فيها صبرة ويسأل عن من يتولى إفراغ البيع هل هو مالك الأنقاض أو صاحب الصبرة ومن يتولى قبض التعويض. . إلخ.
والجواب: الحمد لله وحده لا يخفي أن هذا ليس من باب البيع الحقيقي المتوفرة فيه شروط البيع وإنما هو اقتضاء إلزامي اقتضته المصلحة العامة لتوسعة الشارع وتعويض المالك بهذا العوض ومع هذا فإذا أمكن أخذ إقرارهما جميعا فهو أكمل وإلا فالمتصرف في البيت بيعا وتعميرا وسكنا وتأجيرا هو الذي يتولى عقد البيع وقبض الثمن ولا بد من التصريح في صك المبايعة بأن في هذا البيت صبرة لفلان قدرهما كذا وكذا قادمة فيه(16/85)
وفي عوضه جعل (1) لهما حل يصطلحان عليه كأن يشتري بالثمن بيت عوض عن البيت المهدوم وتكون الصبرة قادمة فيه أو يعوض صاحب الصبرة بمقدار صبرته بتقدير أهل الخبرة أو غير ذلك عن الحلول الصريحة التي لا تحل حراما ولا تحرم حلالا لحديث الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحلى حراما أو حرم حلالا فإن تشاجروا وآلت المسألة إلى الخصومة فأمامهما المحكمة. والسلام عليكم.
__________
(1) لعله (يجعل) .(16/86)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد، فقد اطلع مجلس القضاء الأعلى المنعقد بهيئته الدائمة على المعاملة الواردة بخطاب فضيلة وكيل الوزارة للشؤون القضائية رقم 606 \ 1 \ ل وتاريخ 10 \ 6 \ 95، المتضمنة بما رفعه أحد المواطنين للمقام السامي من امتناع كاتب عدل عنيزة من افراغ الأراضي المباعة من الملك المسمى هلالة في عنيزة وفيها صبرة ما لم يكن هناك موافقة من أهل الصبرة. وكذا ملحقها الوارد بخطاب معالي وزير العدل رقم 1391 وتاريخ 9 \ 9 \ 95هـ، كما جرى الاطلاع على المعاملة الواردة بخطاب معاليه رقم 1427 وتاريخ 12 \ 9 \ 95هـ، المتعلقة بتشكي بعض أهالي عنيزة من توقف كاتب عدل عنيزة عن توثيق بيع الأراضي المصبرة إلا بعد موافقة أهل الصبرة. وبدراسة جميع الأوراق المرفقة وجدت تتضمن الإشارة إلى بعض منها كل الأراضي المصبرة في عنيزة وأنه عندما يتقدم بعض المواطنين لدى كاتب العدل للإفراغ من أرض قد خططت وجزئت وبيعت قطعا سكنية يتوقف كاتب عدل عنيزة عن الإفراغ منها إلا بعد موافقة المصبرين فنتج عن ذلك تعقيد كبير وحصلت عدة مشاكل ويطلبون حلا لهذه المشاكل.
وبتأمل الهيئة الداثمة بمجلس القضاء الأعلى لما ذكر ظهر أن الحل(16/86)
لهذا هو أن تقوم الصبرة الثابتة في الملك ويعوض أصحابها بقيمتها ليبقى باقي الملك طليقا خاليا من الصبرة. وذلك بأن يقوم كامل الملك بجميع حقوقه وحدوده وما رافقه خاليا من الصبرة ثم يقوم والصبرة مثبتة فيه والفرق بين التقييمين هو نص الصبرة فإن شاء أصحاب الصبرة أخذوها نقدا وإن شاءوا أخذوها أرضا بنسبة التقويم كما لو ثمن العقار بمائة ألف خاليا من الصبرة وبثمانين ألف والصبرة فيه فنسبة الصبرة من القيمة الخمس فيعطى صاحب الصبرة خمس كامل الأرض بمرافقها وجميع حقوقها من متوسط الأرض رغبة وهدمها بعد معرفة مساحتها بالمتر وتقويمها بثمن المثل. فإن كانت الصبرة في بيت أو بيوت منزوعة للتوسعة فنظرا لأن إزالة تلك المصبرة كان بطريقة إلزامية لمشروع التوسعة فإن الهيئة ترى لحل مشكلات هذه العقارات المصبرة التي هدمت للتوسعة أحد الأمور التالية:
أولا: أن يشترى بقيمة البيت المهدوم بيتا بدله تؤمن فيه الصبرة ويكون للبدل حكم المبدل بالشروط والمدة ومقدار الصبرة وغير ذلك وهذا هو المتعين عند النزاع.
ثانيا: أن يقوم البيت المهدوم بقيمة مثله وفيه الصبرة ثم يقوم بقيمة مثله خاليا من الصبرة والفرق بين التقويمين هو قيمة الصبرة تدفع لصاحب الصبرة من مجموع ما قوم من البيت والباقي يكون لصاحب البيت.
ثالثا: أن يصطلح المالك مع صاحب الصبرة على تعويضه عن صبرته بدراهم يدفعها له ليشتري له بها عقارا خاصا وليبقى الباقي طليقا لا صبرة فيه. فإن كان شيء مما ذكر وقفا فلا بد من إشراف المحكمة محافظة على حقوق الوقف والتحقق من شراء البدل بقيمة المثل وإجرائه على مصارفه الشرعية.(16/87)
والله الموفق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الهيئة الدائمة بمجلس القضاء الأعلى
عضو ... عضو ... عضو ... عضو ... رئيس مجلس القضاء
صالح اللحيدان ... غنيم المبارك ... عبد الحميد حسن ... عبد الله بن عقيل ... عبد الله بن حميد(16/88)
المسألة الثانية: الزيادة في الأجرة أثناء المدة:
وفيما يلي نقول عن بعض الفقهاء في ذلك:
قال الشيخ الإمام محمد بن محمد بن شهاب المعروف بابن البزاز الكردي الحنفي في الفتاوى البزازية، ج3 (1) .، ص 268، أجر أرض الوقف ثلاثة أعوام بأجر المثل ثم زاد الأجر في أثناء المدة. إن زاد عند كل الناس في رواية فتاوى سمرقند لا يفسخ وفي رواية شرح الطحاوي يفسخ ولكن يجب لما مضى إلى وقت الفسخ المسمى بقسطه وإن كانت الأرض بحال لا يمكن فسخها بأن كان فيها زرع ولم يحصد يجب المسمى إلى وقت الزيادة وبعدها يجب أجر المثل وإن زاد من ينازع مع المستأجر في الأجرة تعنتا لا يعتبر الزيادة ولذلك قيدنا بالزيادة عند الكل وذكر في المحيط ما يؤيد هذا القيد. ا. هـ.
وقال الأستاذ محمود الأوزجندي قاضيخان في فتاواه، ج3 (2) .
__________
(1) وهو بهامش الجزء السادس من المسائل العالكبرية المعروفة بالهندية.
(2) وهو بهامش الجزء الثالث من الفتاوى العالكبرية المعروفة بالهندية.(16/88)
ص 334، رجل استأجر أرض وقف ثلاث سنين بأجرة معلومة هي أجر مثلها، فلما دخلت السنة الثالثة كثرت رغائب الناس فزاد أجر الأرض قالوا ليس للمتولي أن ينقض الإجارة لنقصان أجر المثل لأن أجر المثل إنما يعتبر وقت العقد ووقت العقد كان المسمى أجر المثل فلا يعتبر التغيير بعد ذلك ا. هـ.
وفي فتح العلي المالك من الفتوى على مذهب الإمام مالك، ج2، ص 199، أن الأستاذ أبا عبد الله الشيخ محمد عليش سئل ما قولكم في أرض نحو ألف ذراع محبسة على الجامع الكبير بمدينة إسنا بأقصى صعيد مصر طرح الناس تربة وأقذارا فيها حتى صارت تلالا ينتفع به في الحال فآجرها نائب القاضي تسعة وتسعين سنة لمن ينقل ما فيها من الأتربة والأقذار ويبنيها خانا كل سنة بأربعة أرطال زيت لا غير وأزال المكتري ما فيها وأصلحها فحصلت الرغبة فيها بزائد عن تلك الأجرة فهل تنفسخ تلك الإجارة ويصير الأنفع للوقف أفيدوا؟ والجواب. قال فأجبت بما نصه: الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله نعم تفسخ إن وجد حين عقد الإجارة من يستأجرها بأجرة زائدة عما استؤجرت به الحادثة بعد عقد الإجارة ونقل ما فيها وقد أفتى جماعة من محققي المتأخرين بجواز إجارة الوقف المدة الطويلة لمن يعمره ويختص بزائد غلته إذا لم يكن للوقف ريع يعمر به ووقعت الإجارة بأجرة المثل في وقتها وجرى العمل بفتواهم إلى الآن في مصر. ا. هـ.
قال الإمام النووي في فتاويه المسماة بالمسائل المنثورة ترتيب تلميذه علاء الدين بن العطار، ص 70، ط مطبعة الاستقامة مسألة إذا أوجر المكان الموقوف على جهة عامة بأجرة مثله حال الإيجاب ثم زاد إنسان في الأجرة بعد التفرق من مجلس الإجارة واستقر العقد هل ينفسخ العقد أم(16/89)
يجوز للناظر أو لغيره فسخه وفي الحالة هذه الجواب لا ينفسخ ولا يجوز للناظر ولا لغيره فسخه وسواء زيد فيه الثلث أو أكثر لا يجوز فسخه فهذا هو الصواب. وأما ما يفعله بعض الجهلاء أو الجهلة من متولي الأوقاف ونحوها ونحوهم من قبول الزيادة إذا بلغت الثلث وفسخهم بذلك فباطل لا أصل له ولا يغتر بارتفاع مرتبة من يتعاطاه فإنه خطأ من جاهل أو متجاهل وإنما ذكر بعض أصحاب الشافعي وجها أنه يجوز الفسخ مطلقا وهذا الوجه ضعيف باتفاق الأصحاب لا يحكيه جمهورهم ومن حكا منهم متفقون على ضعفه وبطلانه وأنه لا يفتى به ولا يعول عليه والله أعلم. ا. هـ.
قال ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الفقهية الكبرى، ج3، ص 247، ليس المراد بأجرة المثل إلا القدر الذي يرغب به في تلك العين حال الإجارة فلا ينظر فيها للمستقبلات وحينئذ فشهادة الشهود بأن أجرة مثل هذه العين إذا أوجرت خمسين سنة بكذا شهادة صحيحة لأنهم لم يشهدوا بأمر مستقبل يختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة وإنما شهدوا بأمر منضبط لا يختلف بذلك وهو ما يرغب به فيها حال الإجارة ومن ثم لو أجر الناظر الوقف سنين متعددة بأجرة متعينة وشهدت بينة أنها أجرة المثل حال الإجارة ثم زادت الأجرة زيادة كثيرة لم يلتفت لتلك الزيادة ولم يؤثر في صحة الإجارة بذلك القدر إلا ما نقص لما تقرر أن العبرة بأجرة المثل عند الاستيجار لا بما بعد ذلك والله أعلم. ا. هـ.
وقال السيوطي في كتابه الأشباه والنظائر، ص 364- 365، طبعة مطبعة البابي الحلبي وأولاده بمصر عام 1378هـ، فرع مهم: أفتى ابن الصلاح فيمن أجر وقفا بأجرة شهدت البينة بأنها أجرة مثله ثم تغيرت الأحوال وطرأت أسباب توجب زيادة أجرة المثل بأنه يتبين بطلان العقد وإن الشاهد لم يصب في شهادته واحتج بأن تقويم المنافع في مدة ممتدة(16/90)
إنما يصح إذا استمرت الحالة الموجودة حالة التقويم أما إذا لم تستمر وطرأ في أثناء المدة أحوال تختلف بها قيمة المنفعة فيتبين أن المقوم لها لم يطابق تقويمه المقوم قال وليس هذا كتقويم السلع الحاضرة قال وإذا ضم ذلك إلى قول من قال من الأصحاب أن الزيادة في الأجرة تفسخ العقد كان قاطعا لاستبعاد من لم ينشرح صدره لما ذكرنا قال فليعلم ذلك فإنه من نفائس النكت وقال الشيخ تاج الدين السبكي ما أفتى به ابن الصلاح ضعيف فإن الشاهد إنما يقوم بالنسبة إلى الحالة الراهنة ثم ما بعدها تبع لها مسبوق عليه حكم الأصل. قال فالتحقيق أن يقال إن لم تتغير القيمة ولكن ظهر طالب بالزيادة لم ينفسخ العقد والقول بانفساخه ضعيف وإن تغيرت فالإجارة صحيحة إلى وقت التغيير وكذا بعده فيما يظهر ولا يظهر خلافه. ا. هـ.
وقال الحافظ السيوطي في رسالته " قطع المجادلة عند تغيير المعاملة " وهي من محتويات الجزء الأول من الحاوي للسيوطي، ص 99، قال فصل في حكم ذلك في الأوقاف. إذا شرط الواقف لأرباب الوظائف معلوما من أحد الأصناف الثلاثة ثم تغير سعرها عما كان حالة الوقف فله حالان: الأول أن يعلق ذلك بالوزن بأن يشرط مثقالا من الذهب أو عشرة دراهم من الفضة أو رطلا من الفلوس فالمستحق الوزن الذي شرطه زاد سعره أم نقص. الثاني أن يعلقه بغيره كثلاثمائة مثلا ويكون هذا القدر قيمة الدينار يومئذ أو قيمة اثني عشر درهما ونصفا أو قيمة عشرة أرطال من الفلوس فالعبرة بما قيمته ذلك فلو زاد سعر الدينار فصار بأربعمائة فله في الحال الأول دينار وفي الثاني ثلاثة أرباع دينار ولو نقص فصار باثنين فله في الحال الأول دينار وفي الثاني دينار ونصف وكذا لو زادت قيمة دراهم الفضة أو نقصت أو قيمة أرطال الفلوس فالمستحق ما يساوي ثلاثمائة في الحال الثاني وما هو الوزن المقرر في الحال الأول ا. هـ.(16/91)
جاء في قانون العدل والإنصاف
للقضاء على مشكلات الأوقاف
مادة 281
إذا زاد أجر المثل في نفسه لكثرة الرغبات العمومية فيه لا لتعنت في أثناء مدة الإجارة زيادة فاحشة يعرض على المستأجر فإن رضيها فهو أولى من غيره ويعقد معه عقد ثان بالأجرة الثانية وتلزمه من حين إلى تمام مدة الإجارة ولا يلزمه إلا المسمى عن المدة الماضية.
مادة 282
إذا لم يقبل المستأجر الزيادة المعتبرة العارضة في أثناء مدة الإجارة يفسخ العقد ويؤجر لغيره ما لم تكن العين المستأجرة مشغولة بزراعته فإن كانت كذلك يتربص إلى أن يستحصد الزرع وتضاف عليه الزيادة من وقتها إلى حصاد الزرع وفسخ العقد.
مادة 336
لا يصح الاحتكار إلا إذا كان الحكر بأجرة المثل لا أقل منها ولا تبقى على حال واحد بل تزيد وتنقص في الأجرة والحكر على حسب الزمان والمكان.
مادة 337
إذا زادت أجرة المثل زيادة فاحشة فإن كانت الزيادة بسبب العمارة والبناء الذي أقامه المحتكر فيها فلا تلزمه الزيادة وإن كانت زيادة أجرة الأرض من نفسها لكثرة رغبات الناس في الصقع تلزمه الزيادة إتماما لأجر المثل الكائن به فإن أبى استئجارها بأجر المثل ينظر فإن كانت الأرض(16/92)
لو رفعت منها العمارة لا تستأجر بأكثر من الأجرة المقررة تترك في يد صاحب العمارة بذلك الأجر لعدم الغدر على الجانبين وإن كانت في يد صاحب العمارة بذلك الأجر لعدم الغدر على الجانبين، وإن كانت تستأجر بأكثر منها ورضي بالزيادة فهو أولى دفعا للضرر عنه، وإن لم يرض بالزيادة يجبر دفعا للضرر عن الوقف على رفع بنائه إن لم يضر رفعه بالأرض فإن أضر رفعه بالأرض فليس له رفعه.
وإن كانت العمارة نافعة للوقف فللناظر إن كان للوقف ريع أن يدفع ثمنه ويتملكه للوقف بأقل القيمتين منزوعا أو غير منزوع إن رضي المستأجر بذلك. فإن أبى المتولي أن يتملك البناء بأقل القيمتين فلا أجر عليه ويتربص صاحب البناء إلى أن ينهدم بناؤه ويستخلص أنقاضه. وللمتولي أن يؤجر الأرض والبناء بإذن صاحبه ويقسم الأجرة على البناء والعرصة فما أصاب البناء يعطي لمالكه وما أصاب العرصة فللوقف.
مادة 339
إذا زادت أجرة مثل الأرض بسبب بناء المحتكر أو غرسه فلا تلزمه الزيادة.
فإن زادت أجرة مثلها زيادة فاحشة في نفسها لزمته وإن كانت الزيادة صادرة من متعنت فلا تقبل ويمنع المتعنت من الزيادة التي يترتب عليها الضرر عملا بالأمر السلطاني المطاع.
مادة 340
القول للمحتكر أن ما يدفعه أجرة المثل وعلى الناظر إثبات الزيادة بالبرهان.(16/93)
من مرشد الحيران
مادة 703
إذا زاد أجر مثل الأرض المحتكرة بسبب بناء المستحكر أو غراسه فلا تلزمه الزيادة فإن زاد أجر المثل في نفسه زيادة فاحشة لزمته الزيادة فإن امتنع من قبولها أمر برفع البناء والغراس وتؤجر لغيره بالأجرة الزائدة.
من إتحاف الأخلاف في أحكام الأوقاف
مادة 286
عقار أرضه حكر من وقف وبناؤه وغراسه ملك يزاد حكر أرضه حتى يعادل أجر المثل إذا كان دون أجر المثل بحسب الوقت والحال.
وأما خلاصة الموضوع فهي ما يلي
المسألة الأولى: مدة الإجارة في المذاهب الأربعة
1 - المدة عند الحنفية
الواقف إما أن لا يشترط مدة يؤجر الوقف فيها أو يشترط فإذا لم يشترط مدة فقيل تطلق الزيادة للقيم. وقيل تقيد بسنة مطلقا وقيل يفتى بسنة في الدور وبثلاث سنين في الأرض إلا إذا كانت المصلحة بخلاف ذلك وهذا مما يختلف زمنا وموضعا وإذا احتيج إلى تأجيرها مدة طويلة عقد عقودا مترادفة فيكون الأول لازما لأنه ناجز، والثاني غير لازم لأنه مضاف وقال أبو جعفر الفتوى بإبطال الإجارة الطويلة ولو بعقود انتهى. لأن المدة إذا طالت تؤدي إلى إبطال الوقف فإن من رآه يتصرف فيه تصرف(16/94)
الملاك على طول الزمان يزعمه مالكا فإذا ادعاه شهد له بالملك. وجمع بين القول بالتوقيت وعدم التوقيت بأنه إذا كانت المصلحة الزيادة أو النقص اتبعت وهو توفيق حسن وقيل إذا لم يمكن عمارة الوقف إلا بإجارته مدة طويلة رفع الأمر إلى الحاكم ليؤجره بقدر عمارته وقال محمد بن الفضل لا نقول بفساد هذه الإجارة إذا أجر مدة طويلة ولكن الحاكم بتصرفه فإن كان يضر بالوقف أبطلها وهكذا قال علي السندي.
وأذا اشترط الواقف مدة فليس للناظر مخالفتها من جهة نقصها أو الزيادة عنها بل يرفع الأمر إلى الحاكم لينظر فيما هو أصلح للوقف وأنفع للموقوف عليه لأن القاضي له ولاية النظر للفقراء والغائب والميت.
فإن كان الواقف ذكر في صك الوقف أن لا يؤجر أكثر من سنة إلا إذا كان ذلك أنفع للفقراء كان للقيم أن يؤجرها بنفسه أكثر من سنة إذا رأى ذلك خيرا ولا يحتاج إلى مرافعة إلى القاضي لأن الواقف أذن له بذلك (1) .
2 - المدة عند المالكية
ينقسم العقار الموقوف إذا خرب وانقطعت منفعته ولم يرج عودها بالنسبة لبيعه والاستبدال بثمنه غيره من نوعه أو المناقلة به أو إكرائه المدة الطويلة ثلاثة أقسام:
القسم الأول: يجوز بيعه اتفاقا وهو ما انقطعت منفعته ولم يرج أن يعود وفي إبقائه ضرر مثل الحيوان الذي يحتاج إلى الإنفاق عليه ولا يمكن أن يستعمل في نفقته فيضر الإنفاق عليه في المحبس عليه أو بيت المال إن كان حبسا في السبيل أو على المساكين.
__________
(1) ص، 36- 40 من البحث.(16/95)
القسم الثاني: لا يجوز بيعه اتفاقا وهو ما يرجى أن تعود منفعته ولا ضرر في إبقائه.
القسم الثالث: اختلف في جواز بيعه والاستبدال به وهو ما انقطعت منفعته ولم يرج أن تعود ففيه قولان: الأول بالمنع مطلقا. والقول بالجواز إذا انقطعت منفعته ولم يرج عودها سواء كان في العمران أو بعيدا عنها والقول بالمنع لمالك في المدونة وغيرها والجواز بإحدى روايتى أبي الفرج عنه إلا أن المنع صرح بمشهوريته غير واحد من أهل المذهب (1) .
فتحصل من هذه النصوص أن في العقار الموقوف إذا انقطعت منفعته ولم يرج عودها سواء كان في مدينة أو بعيدا عن العمران لمالك قولان: الأول: المنع وهو المشهور عنه في المدونة والعتبية والموازية وغيرها وعليه اقتصر الشيخ خليل في مختصره.
والثاني الجواز وهو ما رواه عنه أبو الفرج في حاويه وقال به جماعة من العلماء ورجحه ابن عرفة كما تقدم في نقل البرزلي وبه وقعت الفتوى والحكم وقال أبو سعيد بن لب إنه الصحيح من القولين وقال يحيى بن خلف إنه الصواب.
ووجه القاضي عبد الوهاب قي شرح الرسالة القول بالمنع ما نصه والدليل على ذلك أي المنع أن الوقف إزالة ملك لا إلى ملك فإذا كان فيما لا ضرر في تبقيته فلم يجز البيع اعتبارا به إذا لم يخرب وبذلك فارق الحيوان على أحد الوجهين لأن قي تبقيته ضررا إذا لم ينتفع به وإن أجبنا بالتسوية قلنا لأنه إزالة ملك بسبب يمنع البيع مع السلامة فوجب أن يمنع فيه مع التنير كالعتق وتزيد الإزالة في النوع النافع ولأن القصد انتفاع الموقوف عليه بمنفعته فلو أجزنا بيعه لخالفنا شرط الواقف وجعلنا المنفعة له
__________
(1) ص، 40 من البحث.(16/96)
بالأصل ولأن العمارة قد تعود وتنتقل ففي إجازة بيعه إبطال حق من جعل له حق بعد هذا البطن وذلك مما لا سبيل إليه انتهى.
ووجه الجواز بما نصه ووجه الجواز اعتباره للحيوان ولأن الواقف إنما أراد وصول الانتفاع إلى الموقوف عليهم في جهة هذا الوقف فإذا لم يكن من جهته منفعة وجب أن تنتقل إلى منفعة ما يقوم مقامه وإلا كان في ذلك إبطال شرطه والأول أصح وأوضح ا. هـ.
فهذا ملخص ما يتعلق بالكلام على البيع إذا انقطعت منفعته ولم يرج عودها والاستبدال بثمنه من نوعه (1) .
وأما حكم المعاوضة: بالعقار الخرب بعقار آخر غير خرب ففيه خلاف فمالك يمنعه وربيعة وابن القاسم يجيزان بيعه ووجه قول مالك سدا للذريعة وحسما للباب (2) . وأما بيع بعض العقار الوقف لإصلاح بعضه فابن الماجشون يقول إنه لا يجوز بيعه من غير خلاف (3) .
وقيده ابن الماجشون إذا كانت لا تضر بغيرها من الصدقة فمفهومه أنها إذا أخذت بغيرها من الصدقة أنها تباع فأجاز بيعها لإصلاح باقيها بإزالة الضرر عنه.
وفي أحكام ابن سهل الكبري عن ابن زرب أنه يجوز بيع بعض الأنقاض وإصلاح باقي الوقف بها (4) .
وأما كراء الوقف فقال الحطاب الحبس إذا كان على معينين كبني فلان فللناظر أن يكريه سنتين أو ثلاث سنين ولا يكريه أكثر من ذلك. . فإن وقع الكراء في السنين الكثيرة على القول بأنه لا يجوز فعثر على ذلك
__________
(1) ص، 45 من البحث.
(2) ص، 46-47 من البحث.
(3) ص، 47 من البحث.
(4) ص، 47 من البحث.(16/97)
وقد مضى بعضها فإن كان الذي بقي يسيرا لم يفسخ وإن كان كثيرا فسخ على ما قاله في كتاب محمد قال الحطاب: واليسير في الشهر والشهرين (1) .
وفي نوازل ابن رشد فيمن حبس على بني فلان أكرى أحدهم نصيبه خمسين عاما فأجاب إن وقع الكراء لهذه المدة على النقد فسخ وفي جوازه على غير النقد قولان الصحيح منهما عندي المنع وهذا فيما ينفسخ فيه الكراء بموت المكرى (2) .
أما الحبس على المساجد والمساكين وشبههما فلا يكريها الناظر إلى أكثر من أربعة أعوام إن كانت أرضا أو أكثر من عام إن كانت دارا وهو عمل الناس ومضى عليه عمل القضاة فإن أكرى أكثر من ذلك مضى إن كان ناظرا على مذهب ابن القاسم وروايته ولا يفسخ (3) . ا. هـ.
وفي المدونة والعتيبية والواضحة والوقار مسائل منها لا يجوز كراء الحبس إلا إلى سنة ونحوها ولا بأس بكراء الدور سنة وفوق ذلك إلى عشرين سنة. وما أجاب به ابن رزق من جواز عقد الكراء سبعين عاما يبطله ما تقدم ولا سمعته ولا رأيته إنما حكي لي عن المنصور ابن أبي عامر أنه اكترى موضعا حبسا إلى سبعين عاما وهذا لو صح نقله فلا يصح أصله ولا يجوز العمل لما ذكرناه عن مالك وأصحابه وفي وثائق ابن العطار الذي جرى به العمل قبالات أرض الأحباس لأربعة أعوام وهذا الذي شاهدناه بقرطبة ودور الأحباس والحوانيت إنما تكرى عاما فعاما وشاهدنا ذلك من قضاتها بمحضر قضائها إلخ (4) .
__________
(1) ص، 48 من البحث.
(2) ص، 49 من البحث.
(3) ص، 49 من البحث.
(4) ص، 50 من البحث.(16/98)
3 - المدة عند الشافعية:
اختلف قول الشافعي في أكثر مدة الإجارة والمساقاة فقال في موضع سنة ووجهه الشيرازي بأنه عقد على غرر أجيز للحاجة ولا تدعو الحاجة: أكثر من سنة لأن منافع الأعيان تتكامل في سنة وناقشه ابن قدامة بأنه تحديد لا أصل له وقال في موضع ثلاثين سنة: ووجه الشيرازي بأنه شطر لعمر ولا تبقى الأعيان على صفة: أكثر من ذلك وناقشه ابن قدامة بأنه تحديد لا أصل له. وقال في موضع آخر يجوز ما شاء وفي أصحابه من قال هي على القولين وأما الثلاثون فإنما ذكرها على سبيل التكثير لا على سبيل التحديد وهو الصحيح. ووجه الشيرازي القول بالجواز ما شاء بأن كل عقد جاز إلى سنة جاز إلى أكثر منها كالكتابة والبيع إلى أجل ووجه بعض الشافعية بأن المصلحة المجوزة لإجارة المدة الطويلة هي المصلحة: ترجع إلى بقاء عين الوقف وأما مجرد زيادة أجرة المثل فلا تجوز إجارة المدة الطويلة لأنها تؤدي إلى تملك الوقف ومفاسد أخرى ومحل امتناعها إذا كانت المصلحة عائدة للمستحقين فقط وأما إطلاق الأذرعي امتناعها وإن عادت إلى عين الوقف فلا يتجه كما بينه أبو زرعة وذلك لأن رعاية حفظ المصلحة بالعمارة أولى من مملكه. وقد تباينت آراء الأئمة الشافعية في إجارة الوقف المدة الطويلة فمنعها الأذرعي والزركشي ومن وافقهما وبنوا المنع على أن المفاسد محققة وجوزها آخرون بشروط منهم السبكي وأبو زرعة وغيرهما. وقد شرط أبو زرعة لإجارة الدار مدة تبقى غالبا إذا لم يكن للوقف حاصل يعمر به ولا وجد من يقرض القدر المحتاج إليه للعمارة بأقل من أجرة تلك المدة (1) . وإذا خالف الناظر شرط الواقف فشرط الواقف ألا يؤجر إلا على سنة فأجره عشرين عاما لا لمصلحة
__________
(1) ص، 58 من البحث.(16/99)
الوقف أن العقد باطل ولهذا قال علي بن عبد الكافي السبكي (1) . وإذا شرط الواقف في وقفه ألا يؤجر أكثر من سنة بأجرة مثله فإذا أجره الناظر عشر سنين في عشرة عقود كل سنة بأجرة مثله في شخص واحد فقد جوزه زكريا الأنصاري ومن وافقه وهذا نظر فيه إلى اللفظ ومنعه ابن الصلاح ومن وافقه وهذا نظر فيه إلى المعنى ومحل الخلاف حيث لم يشترط الواقف ألا يدخل عقد على عقد وإلا بطل العقد الثاني وما بعده اتفاقا لاستلزام القول بصحته مخالفة تصريح الواقف بامتناعه من غير ضرورة داعية لذلك إذ الغرض أن الوقف محاصر (2) .
وصحة تصحيح العقد المستأنف مع أن المذهب أنه لا يجوز إجارة مدة مستقبلة، أن المدتين المتصلتين في العقدين في معنى المدة الواحدة في العقد الواحد.
ونوقش بأن هذا بعينه يقتضي في هذه الصورة البطلان فإنه يجعل ذلك بمثابة ما إذا عقد على المدتين في عقد واحد (3) .
4 - المدة عند الحنابلة:
لا تتقدر أكثر مدة الإجارة بل تجوز إجارة العين المدة التي تبقى فيها وإن كثرت قال ابن قدامة رحمه الله وهذا قول كافة أهل العلم وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى إن كان الوقف على جهة عامة جازت إجارته حسب المصلحة ولا يتوقف ذلك بعدد عند أكثر العلماء.
واستدل له بقوله تعالى في قصة شعيب عليه السلام
{عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} (4) .
__________
(1) ص، 59 من البحث.
(2) ص، 69- 70 من البحث.
(3) ص، 70 من البحث.
(4) سورة القصص الآية 27(16/100)
وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يقم على نسخه دليل.
ولأن ما جاز العقد عليه سنة جاز أكثر منها كالبيع والنكاح والمساقاة وقد أشار ابن القيم إلى المفاسد المترتبة على الإجارة مدة طويلة (1) .
وهل تقسط الأجرة على السنين فيه خلاف (2) .
وإذا وقعت الإجارة على كل شهر بشيء معلوم لم يكن لواحد منها الفسخ إلا عند تقضي كل شهر وهو لازم في الشهر الأول وما بعده فيه خلاف (3) . وفي الجملة فاشتراط مدة الإجارة متفق عليه من حيث الأصل وأما مقدار المدة فإن وجد فيه من الواقف تحديد فليس للناظر مخالفته بزيادة أو نقص إلا من طريق الحاكم الشرعي.
وإن فوض الواقف إلى الناظر تأجيره مدة حسبما تقتضيه المصلحة الراجعة إلى عين الوقف فإنه لا يحتاج إلى الرجوع إلى الحاكم.
وإذا لم يوجد تحديد من الواقف ولا تفويض منه إلى الناظر حسبما تقضي به المصلحة فليس للناظر أن يؤجره أكثر من المعتاد فإن أجره أكثر من المعتاد رجع في ذلك إلى الحاكم الشرعي إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
ومن هذا يتبين أن لكل قضية من قضايا الحكورات ظروفها وملابساتها وأنها تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص والنيات والعوائد فيعود النظر فيها إلى الحاكم الشرعي ليحقق ما تقتض المصلحة التي قصدها الواقف وينسد باب التلاعب في ذلك.
المسألة الثانية: الزيادة في الأجرة أثناء المدة:
يرى الحنفية أن الأجرة إذا زيدت تعنتا فليست بمعتبرة وإن حصلت الزيادة بسبب تغير الأحوال فإنها معتبرة.
__________
(1) انظر ص، 80- 81 من البحث.
(2) ص، 75 من البحث.
(3) ص، 76-77 من البحث.(16/101)
ويقول محمد عليش من المالكية إن وجد من يستأجرها بأجرة زائدة عما استؤجرت به فسخ العقد الأول وأجرت وهذا رأي ابن الصلاح من الشافعية.
والمنقول عن أكثر الشافعية لا تعتبر الزيادة اعتبارا بحال العقد وهذا كله عند الجميع إذا أجر العقار بأجر المثل بموجب بينة عادلة.
وفي الجملة إذا طبق هذا الفرع على القواعد السابقة فقد يقال بعدم لزوم استمرار الزيادة لما يترتب على لزومه من المفاسد التي تتنافى مع قصد الواقف وما يفوته من المصالح وما يترتب على عدم لزومه من جلب المصالح ودرء المفاسد وسدا لباب الفساد وأما تعارف الناس على استمرار هذه العقود وأن المعروف عرفا كالمشروط لفظا فهذا صحيح إذا لم يخالف نصا ولا قاعدة من قواعد التشريع، وفي هذه الحال خالف لأن المفاسد في لزوم الاستمرار أكثر من المصالح وقد يقال بلزوم العقد بدون زيادة نظرا إلى اللفظ وفي هذه الحال ينظر إلى المخرج من ذلك بما جاء في فتوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله وكذلك قرار الهيئة القضائية (1) . وقد يناقش بأن العبرة بالمقاصد لا بمجرد الألفاظ وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنه الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) ص، 83- 84-85-86 من البحث.(16/102)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزواية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءاتهم المسلمين في شؤونهم الدينية والاجتماعية.(16/103)
صفحة فارغة(16/104)
فتوى برقم 2773 وتاريخ 23 \ 10 \ 1406 هـ
السؤال:
ما حكم قضاء الصلاة وما هو الرأي الراجح في ذلك؟
الجواب:
الأصح أن من تركها لا قضاء عليه بعد التوبة كالكافر الأصلي إذا أسلم فلا يستحب له قضاؤها لأنها قد حبطت بكفره فلا يؤمر بقضائها، وهذا كله إذا قلنا أن ترك الصلاة كفر أكبر ولو كان تهاونا، وهو الصواب، لحديثي بريدة وجابر وغيرهما، وأسأل الله أن يثبت الجميع على الحق وأن يمن علينا بتوفيقه ومرضاته إنه خير مسؤول.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(16/105)
فتوى برقم 124 في 8 \ 5 \ 1392 هـ
السؤال:
إذا كان هناك مراعي تكثر فيها الحشائش حول بلد ما ولكن أهل البلد تضرروا من احتشاش الناس للمرعى الذي بديارهم وبيعه مما يؤدي إلى ضرر على المواشي السائمة، وقد ثبت عند القاضي أن جميع هذه الضواحي مجدبة جدا وأن السوائم هلكت من الجوع مما جعل أهلها يفدون إلى الأرض التي يكثر فيها الربيع ولا شك أن احتشاش المرعى وبيعه واختصاص من يحش ويبيع فيه ضرر وتضييق على أرباب السوائم، فما الحكم؟
الجواب:
إذا ثبت لدى الجهة المسؤولة أن احتشاش المرعى وبيعه واختصاص من يحش ويبيع فيه ضرر وتضييق على أرباب السوائم فإنه والأمر كذلك يمنع من يحش ويبيع ويترك الحشيش للسوائم ترعاه، وهذا من باب تقديم المصالح العامة على المصالح الخاصة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ضرر ولا ضرار (1) » .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .(16/106)
فتوى برقم 888 وتاريخ 16 \ 11 \ 1394 هـ
السؤال الأول:
رجل يسأل، يقول: لي عمات شقيقات والدي وعددهن ثلاث، الكبيرة منهن في البيت التابع لنا والثانية مع زوج ابنتها والثالثة مع زوجها، وقد أجمعن كلهن على مقاطعتي بسبب إرث مشترك بيننا أردن بيعه بدون إذن مني لكوني شريكا لهن في ذلك الإرث ودون أن يعرف أحد منا حقه، وفعلا منعت المشتري وأرجعت له ماله الذي دفعه لهن وأنا لا أستفيد من ثمن هذه الأملاك ولا أنتفع بأي شيء منها، وقد تركتها لهن وسافرت وأريد أن يعشن فيما تنتجه المزارع ويسكن البيت على شرط أن لا يتصرفن في شيء، وأنا بعد أن قاطعنني عزلت نفسي عنهن وبقيت لوحدي وأنا أخاف من قطع الرحم حيث أكون معرضا لعقوبة قاطع الرحم، فما الحكم؟
الجواب:
منعك لعماتك أن يبعن حقهن من ميراثهن من أبيهن ظلم وعدوان منك فإن لكل واحدة منهن حق التصرف شرعا فيما تملكه وليس لأحد أن يمنعها من ذلك ما دامت أهلا للتصرف شرعا، وأما المقاطعة التي حصلت بينك وبينهن فأنت السبب فيها، فعليك أن تستغفر الله وتتوب إليه من هذا الذنب العظيم وأن تستسمحهن وتزورهن فإن الله جل وعلا أمر بصلة الرحم، فقال تعالى {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} (1) وقوله تعالى {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} (2)
وأجمع العلماء على أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرمة،
__________
(1) سورة النساء الآية 1
(2) سورة الإسراء الآية 26(16/107)
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه (1) » الحديث.
السؤال الثاني:
ما الحكم في نوع من الألعاب يطلق عليه " البلوت " إذا جلس أهلها يلعبونها وارتفع صوت الأذان لا يتابعونه ولا يذكرون الله عند الانتهاء ولا يدعون بالدعاء الوارد عند سماعه ويذهب الناس إلى المسجد للصلاة ولا يحضرها هؤلاء الناس، وبعد العودة من المسجد يدخل عليهم الناس ويسلمون عليهم ولا يردون عليهم السلام لكون أفكارهم وقلوبهم مشغولة ولا يستطيع الإنسان الجلوس في البيت من ريح الدخان وضجيج الأصوات المزعجة والضحك واللعن والأيمان (الحلف) بعضها بالله وبعضها بغيره. فما حكم هذه اللعبة وما يلحق لاعبها منها وما أثرها على المجتمع؟
الجواب:
اللعب بالأوراق على ما وصفه السائل يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويحدث العداوة والبغضاء بين المتلاعبين وقد يكون على مال يدفعه المغلوب للغالب وهو مصحوب بتبادل اللعن وإيقاع الأيمان الفاجرة، فإذا ترتب عليه هذه الأمور وما في معناها أو بعضها فإنه حرام لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (3)
وأما ما يلحق لاعبيها فإنهم قد ارتكبوا أمرا محرما وهم آثمون في
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6138) ، صحيح مسلم الإيمان (47) ، مسند أحمد بن حنبل (2/433) ، سنن الدارمي النكاح (2222) .
(2) سورة المائدة الآية 90
(3) سورة المائدة الآية 91(16/108)
ارتكاب ذلك وما يقترن به من ترك واجب كترك الصلاة جماعة، أو فعل محرم كاللعن والأيمان الكاذبة والحلف بغير الله وشرب الدخان.
وأما أثر هذه اللعبة على المجتمع فإن روابط المجتمع السليم تتحقق بأمرين: اتباع أوامر الله واجتناب نواهيه، ويتفكك المجتمع بترك شيء من الواجبات أو فعل شيء من المحرمات، وهذه اللعبة من العوامل التي تؤثر على المجتمع، فهي سبب ترك الصلاة جماعة، وينشأ عنها التباعد والتقاطع والشحناء والتساهل في ارتكاب المحرمات، كما أنها مورثة للكسل عن طلب الرزق، هذا إذا لم تكن على عوض فإن كانت على عوض فالمال الذي يحصل بسبب هذا اللعب هو مال حرام وقد سبق دليل ذلك في أول الجواب. هذا وبالله التوفيق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(16/109)
فتوى برقم 1108 وتاريخ 12 \ 11 \ 1395 هـ
السؤال:
إذا كان النهار في شمال أوربا أكثر من عشرين ساعة في اليوم في بعض أيام الصيف فكيف العمل بالنسبة للصيام في المكان والزمان المذكورين؟(16/109)
الجواب:
إذا تميز النهار من الليل في مكان ما وجب على المكلفين من سكانه في رمضان أن يصوموا ويمسكوا عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ذلك اليوم طال النهار أم قصر، لعموم قوله تعالى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (1)
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 187(16/110)
فتوى رقم 986 وتاريخ 24 \ 3 \ 1395 هـ
السؤال الأول:
رجل يذكر أنه باع بقرة على رجل لا يعرفه ثم إن البقرة شردت من بيت مشتريها إلى بيته، وحيث إنه لا يعرف مشتريها فقد باعها وأكل ثمنها، ويسأل ماذا يترتب عليه.
الجواب:
هذه البقرة بعد أن تصرف فيها السائل الذي ذكره في السؤال لها حكم اللقطة، وحيت ذكر أنه باعها وأكل ثمنها فيلزمه أن ينادي عليها في(16/110)
الأسواق والمجامع مدة سنة فإن حضر صاحبها أخبره بالواقع وسلم له قيمة البقرة التي باعها بها وإن لم يحضر تصدق بثمنها على نية ضمانها لصاحبها في حالة معرفته ومطالبته بها وعدم إجازته التصدق بها.
السؤال الثاني:
رجل اشترى له سلعة بمائتي ريال ثم احتاج نقدا فعرضها للبيع على رجل فسامها منه بمائة ريال (100) ، مع العلم أنه يعلم أن قيمتها أكثر من ذلك، فهل يجوز لهذا الرجل أن يشتريها بمائة ريال، مع أن قيمتها على صاحبها مائتا ريال؟
الجواب:
لا يخلو الأمر من حالين، إما أن تكون السلعة المشتراة بمائتي ريال (200) ، ثمنها مؤجل أو حال وقد نقده المشتري وإن كان مؤجلا فإما أن تكون السلعة من نفس الرجل الذي عرضت عليه فسامها بمائة ريال (100) أو من غيره، فإن كانت مشتراة بثمن مؤجل من الرجل الذي سامها بمائة ريال (100) فلا يجوز له أن يشتريها وهي مسألة العينة التي قال جمهور أهل العلم بتحريمها لكون التبايع بها وسيلة الربا، فهي داخلة في عموم أدلة الربا، أما إن كانت مشتراة بثمن حال نقده المشتري أو أنها بثمن مؤجل إلا أنها من شخص آخر، فإذا كان صاحبها أهلا للتصرفات الشرعية فإذا باعها بأقل من ثمنها الذي اشتراها له فلا بأس بذلك، إلا أنه ينبغي للمسلم أن يكون ذا شفقة وعطف على أخيه المسلم فلا يستغل فرصة حاجته ليرهقه بما يشق عليه ليكسب من تلك الحاجة، فقد قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1) وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه
__________
(1) سورة الحجرات الآية 10(16/111)
عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر (1) » . وقال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا (2) » . وهذا الوصف لحال المسلمين يتنافى مع مشقة بعضهم على بعض واغتنام حاجة بعضهم لتكون سببا في المبالغة في التكسب.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .
(2) صحيح البخاري الصلاة (481) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) .(16/112)
فتوى رقم 1016 وتاريخ 6 \ 5 \ 1395هـ
السؤال الأول:
هل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم بين أصحاب الإبل والمزارع يشمل جميع المواشي مثل الأغنام والأبقار التي يجب أن تحفظ براع يرعاها ويحفظها عن المزارع والسباع أو أنه يختص بالإبل التي قل ما ترعى بالنهار وتحفظ بالليل.
الجواب:
أولا: الحديث الذي ورد في هذا الموضوع رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود والنسائي وابن ماجه في سننهم، وغيرهم بألفاظ متقاربة، ولفظه عند أبي داود، عن حرام بن محيصة عن البراء بن عازب قال: «كانت له ناقة ضارية، فدخلت حائطا فأفسدت فيه فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها وأن حفظ الماشية بالليل على(16/112)
أهلها وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل، (1) » وروى أبو داود أيضا من طريق آخر، عن حرام بن محيصة عن أبيه «أن ناقة البراء دخلت حائط رجل فأفسدته عليهم، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل (2) » .
ثانيا: هذا الحديث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم على سبب خاص وهو إفساد ناقة البراء مزرعة لغيره ولكن لفظه عام، لأنه عبر بلفظ الماشية، حيث قال إن حفظ الماشية بالليل على أهلها وإن على أهل الماشية ما أصابت، والعبرة بعموم لفظ الحديث لا بخصوص سببه، فيشمل لفظ الماشية فيه الأغنام والأبقار.
ثالثا: كثير من العلماء صحح هذا الحديث وعمل به كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، فقالوا: يضمن مالك البهيمة ما أصابته ليلا، ولا يضمن ما أصابته نهارا، قال الشافعي: أخذنا بهذا الحديث لثبوته واتصاله ومعرفة رجاله، وجعله هؤلاء مخصصا لعموم حديث العجماء جبار، ومن العلماء من قال بالضمان مطلقا، ومنهم من قال بعدم الضمان مطلقا، والمختار الأول لما فيه من الجمع بين الحديثين العام والخاص، وعلى من يريد أن يتزود من العلم أن يرجع إلى قول العلماء في ذلك وإلى أدلتهم في مظانها، وعلى من كانت له قضية أن يرفعها للقاضي فما حكم به من أقوال العلماء المعتبرين نفذ حكمه ورفع الخلاف فيه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3570) ، مسند أحمد بن حنبل (5/436) ، موطأ مالك الأقضية (1467) .
(2) سنن أبو داود البيوع (3569) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2332) .(16/113)
فتوى برقم 1128 في 2 \ 1 \ 1396هـ
السؤال:
توفي رجل عن امرأة كبيرة السن يزيد عمرها عن سبعين سنة وقليلة الرأي والفكر وليست بخدمته، وتوفي وهي بذمته، فهل يلزمها الحداد كغيرها، وما هي الحكمة من مشروعيته إذا كانت كبيرة السن مثل غيرها، ولماذا كان حكم الحامل وضع الجنين فقط إذا كان مشروعية الحدود هو التأكد من خلو المرأة من الحمل أو وجوده، وكبيرة السن قد توقفت عن ذلك؟
الجواب:
المرأة المذكورة في السؤال تعتد وتحد أربعة أشهر وعشرا لدخولها في عموم قوله تعالى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (1)
ومن الحكم لمشروعية العدة والإحداد إذا كانت المرأة كبيرة السن ومتوقفة عن الحمل: تعظيم خطر هذا العقد ورفع قدره وإظهار شرطه وقضاء حق الزوج وإظهار تأثير فقده في المنع من التزين والتجميل، ولذلك شرع الحداد عليه أكثر من الإحداد على الوالد والولد. وكان حكم الحامل وضع الجنين فقط لعموم قوله تعالى {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (2) وهذه الآية مخصصة لعموم قوله تعالى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (3)
ومن الحكم تعلق انتهاء العدة بوضع الحمل لأن الحمل حق للزوج الأول فإذا تزوجت بعد الفراق بوفاة أو غيرها وهي حامل يكون الزوج
__________
(1) سورة البقرة الآية 234
(2) سورة الطلاق الآية 4
(3) سورة البقرة الآية 234(16/114)
الثاني قد سقى ماءه زرع غيره، وهذا لا يجوز لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرئ مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره (1) » ، رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان عن رويفع بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه.
والواجب على المسلم أن يعمل بالأحكام الشرعية علم الحكمة أو لم يعلمها مع الإيمان بأن الله سبحانه حكيم في كل ما شرعه وقدره لكن من يسر الله له معرفة الحكمة فذلك نور على نور وخير إلى خير، وبالله التوفيق.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن أبو داود النكاح (2158) ، مسند أحمد بن حنبل (4/108) ، سنن الدارمي السير (2477) .(16/115)
فتوى برقم 1407 في 9 \ 11 \ 1396هـ
السؤال الأول:
ما حكم الرجل الذي لا يصلي وهو متزوج امرأة مسلمة أو العكس؟
الجواب:
الصلاة ركن من أركان الإسلام ومن تركها من المكلفين عالما بوجوبها فقد كفر فيستتاب ثلاثا فإن تاب وإلا قتل.(16/115)
السؤال الثاني:
ما حكم التجارة في الدخان والجراك وأمثالهما، وهل يجوز الصدقة، والحج، وأعمال البر من أثمانها، وأرباحها؟
الجواب:
لا تحل التجارة في الدخان والجراك وسائر المحرمات لأنه من الخبائث ولما فيه من الضرر البدني والروحي والمالي، وإذا أراد الشخص أن يتصدق أو يحج أو ينفق في وجوه البر فينبغي له أن يتحرى الطيب من ماله ليتصدق به أو يحج به أو ينفقه في وجوه البر لعموم قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} (1)
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا (2) » . . .) الحديث.
السؤال الثالث:
من أراد أن يضحي أو يضحى عنه فماذا ينهى عنه بعد دخول شهر ذي الحجة وهل النهي يعم أهل البيت كلهم كبيرهم وصغيرهم أو الكبير دون الصغير؟
الجواب:
روى الجماعة إلا البخاري عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره (3) » ، ولفظ أبي داود وهو لمسلم والنسائي أيضا «من كان له ذبح يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذ من شعره وأظفاره حتى يضحي (4) » ، فالرواية الأولى فيها الأمر والترك،
__________
(1) سورة البقرة الآية 267
(2) صحيح مسلم الزكاة (1015) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2989) ، مسند أحمد بن حنبل (2/328) ، سنن الدارمي الرقاق (2717) .
(3) صحيح مسلم الأضاحي (1977) ، سنن الترمذي الأضاحي (1523) ، سنن النسائي الضحايا (4362) ، سنن أبو داود الضحايا (2791) ، سنن ابن ماجه الأضاحي (3150) ، مسند أحمد بن حنبل (6/289) ، سنن الدارمي الأضاحي (1947) .
(4) صحيح مسلم الأضاحي (1977) ، سنن الترمذي الأضاحي (1523) ، سنن النسائي الضحايا (4362) ، سنن أبو داود الضحايا (2791) ، سنن ابن ماجه الأضاحي (3150) ، مسند أحمد بن حنبل (6/311) ، سنن الدارمي الأضاحي (1947) .(16/116)
وأصله أنه يقتضي الوجوب ولا نعلم له صارفا عن هذا الأصل، والرواية الثانية فيها النهي عن الأخذ، وأصله أنه يقتضي التحريم أي تحريم الأخذ ولا نعلم صارفا يصرفه عن ذلك فتبين بهذا أن هذا الحديث خاص بمن أراد أن يضحي فقط. أما المضحى عنه فسواء كان كبيرا أو صغيرا فلا مانع من أن يأخذ من شعره أو بشرته وأظفاره بناء على الأصل، وهو الجواز، ولا نعلم دليلا يدل على خلاف الأصل.
السؤال الرابع:
ما حكم المرأة التي تستعمل الحجاب وتخرج أمام الرجال الأجانب كاشفة وبعض الأحيان تجلس معهم تناولهم القهوة وتتحدث معهم وتخرج معهم ووليها راض بذلك؟
الجواب:
لا يجوز للمرأة أن تكشف وجهها لغير محارمها ولا تجلس معهم ولا تخرج معهم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(16/117)
فتوى برقم 1496 في 3 \ 3 \ 1397 هـ
السؤال الأول:
هل يجوز القيام عند القبر للاستغفار أو الدعاء للميت بعد دفنه وإهالة التراب عليه؟
الجواب:
نعم يجوز الوقوف عند قبر الميت بعد دفنه وإهالة التراب عليه للاستغفار والدعاء له بل ذلك مستحب لما رواه أبو داود والحاكم وصححه عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل (1) » .
السؤال الثاني:
بأي صفة يكون الاستغفار والدعاء للميت بعد دفنه؟
الجواب:
لم يرد في بيان صفة الاستغفار والدعاء للميت بعد الدفن حديث يعتد عليه فيما نعلم وإنما ورد الأمر بمطلق الاستغفار والدعاء له بالتثبيت فيكفي في امتثال هذا الأمر أي صفة استغفار ودعاء له كأن يقول (اللهم اغفر له وثبته على الحق) ونحو ذلك.
السؤال الثالث:
هل يجوز صنع المعروف والإحسان إلى أهل الميت بالملبس والمال
__________
(1) سنن أبو داود الجنائز (3221) .(16/118)
وغيره ليقوم ذلك المال والإحسان مقام الطعام عملا بقوله صلى الله عليه وسلم «اصنعوا لآل جعفر طعاما (1) » ، أم لا؟
الجواب:
دفع الملبس أو المال لأهل الميت يقوم مقام صنع الطعام لهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث «فقد أتاهم ما يشغلهم (2) » ، فإن ذلك صريح في أنه إنما آمر بصنع الطعام لأهل الميت من أجل أنهم قد شغلوا بمصيبتهم عن صنع الطعام لأنفسهم. لكن الإحسان بالملبس أو المال إلى من يحتاج لذلك من أهل الميت خير في نفسه حث عليه الشرع عموما عند وجود مقتضيه لأهل الميت وغيرهم، فمن فعل ذلك لكشف غمة أو تفريج كربة فقد فعل خيرا.
السؤال الرابع:
هل يجوز لبس الأحذية في المقابر إذا كان الحذاء ليس له صوت أم لا يجوز مطلقا بأي نوع كان؟
الجواب:
يجوز للإنسان أن يمشي بين القبور وهو لابس نعليه سواء كان لهما صوت أم لا، لما روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل، لمحمد صلى الله عليه وسلم (3) » . . .) ، فإن قوله: «وإنه ليسمع قرع نعالهم (4) » ظاهر في أنهم كانوا لابسين نعالهم حين توليهم عن الميت بعد دفنه وإنه يسمع قرع نعالهم حين الانصراف من عند قبره لكن لا يجوز لهم المشي على القبور مطلقا لثبوت نهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
__________
(1) سنن الترمذي الجنائز (998) ، سنن أبو داود الجنائز (3132) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1610) .
(2) سنن الترمذي الجنائز (998) ، سنن أبو داود الجنائز (3132) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1610) .
(3) صحيح البخاري الجنائز (1374) ، صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2870) ، سنن النسائي الجنائز (2051) ، سنن أبو داود الجنائز (3231) ، مسند أحمد بن حنبل (3/126) .
(4) صحيح البخاري الجنائز (1374) ، صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2870) ، سنن النسائي الجنائز (2051) ، سنن أبو داود الجنائز (3231) ، مسند أحمد بن حنبل (3/126) .(16/119)
وكره بعض العلماء المشي بين القبور بالنعال لما رواه أبو داود والنسائي عن بشير مولى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينما أنا أماشي النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبور المشركين فقال: لقد سبق هؤلاء خيرا كثيرا، ثلاثا، ثم مر بقبور المسلمين فقال: لقد أدرك هؤلاء خيرا كثيرا، وحانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرة فإذا رجل يمشي في القبور عليه نعلان، فقال: يا صاحب السبتين ويحك ألق سبتتك. فنظر الرجل فلما عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم خلعهما فرمى بهما (1) » . والأولى ترك المشي بين القبور بالنعال خروجا من خلاف العلماء في ذلك.
السؤال الخامس:
هل على العجوز التي لا حاجة لها إلى الرجال أو الصبية التي لم تبلغ سن الحلم عدة الوفاة من وفاة زوجها؟
الجواب:
نعم على العجوز التي لا حاجة لها إلى الرجال عدة الوفاة وكذلك الصغيرة في السن التي لم تبلغ الحلم ولم تقارب ذلك عليها عدة الوفاة إذا مات زوجها حتى تضع حملها إن كانت حاملا أو تمكث أربعة أشهر وعشرا إن لم تكن حاملا لعموم قوله تعالى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (2) الآية.
وعموم قوله تعالى {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (3)
السؤال السادس:
هل يجوز اجتماع الأحباب والجيران والأصدقاء في تسمية المولود أم أن ذلك الاحتفال بدعة وكفر؟
__________
(1) سنن النسائي الجنائز (2048) ، سنن أبو داود الجنائز (3230) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1568) ، مسند أحمد بن حنبل (5/83) .
(2) سورة البقرة الآية 234
(3) سورة الطلاق الآية 4(16/120)
الجواب:
لم يكن الاحتفال لتسمية المولود من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحصل من أصحابه في عهده، فمن فعل على أنه سنة إسلامية فقد أحدث في الدين ما ليس منه، وكان ذلك منه بدعة مردودة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » ولكنه ليس كفرا. أما من فعله على سبيل الفرح والسرور أو من أجل تناول طعام العقيقة لا على أنه سنة فلا بأس، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على مشروعية ذبح العقيقة في اليوم السابع وتسمية المولود.
السؤال السابع:
هل صلاة الجنازة خاصة بالرجال أو عامة للرجال والنساء؟
الجواب:
صلاة الجنازة فرض كفاية إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين وإذا تركها الجميع وهم يعلمون أثموا، ولا خصوصية للرجال بذلك بل الرجال والنساء في مشروعية الصلاة على الجنازة سواء، وإن كان الأصل في مباشرة ذلك للرجال، لكن ليس للمرأة أن تتبع الجنازة لما ثبت من قول أم عطية رضي الله عنها: «نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا (2) » ، رواه البخاري ومسلم، وفي رواية: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . الحديث.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح البخاري الجنائز (1278) ، صحيح مسلم الجنائز (938) .(16/121)
فتوى برقم 1521 وتاريخ 19 \ 3 \ 1397 هـ
السؤال الأول:
هل تجب الزكاة في الذهب الذي تستعمله المرأة أو تعيره؟ وإذا وجبت فكيف يزكى؟
الجواب:
تجب الزكاة في حلي المرأة الذي تتزين به أو تعيره ذهبا كان أم فضة لدخول ذلك في عموم أدلة الكتاب والسنة التي دلت على وجوب الزكاة في الذهب والفضة مثل قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (2) وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره كلما بردت أعيدت عليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار (3) » ، رواه مسلم.
ولما ثبت من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما «أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها سكتان غليظتان من ذهب، فقال لها: (أتعطين زكاة هذا؟) ، قالت: لا. قال: (أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟)
__________
(1) سورة التوبة الآية 34
(2) سورة التوبة الآية 35
(3) صحيح مسلم الزكاة (987) ، سنن أبو داود الزكاة (1658) ، مسند أحمد بن حنبل (2/276) .(16/122)
قال: فخلعتهما فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: هما لله عز وجل ولرسوله (1) » .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن النسائي الزكاة (2479) ، سنن أبو داود الزكاة (1563) ، مسند أحمد بن حنبل (2/204) .(16/123)
فتوى برقم 1601 وتاريخ 4 \ 7 \ 1397 هـ
السؤال:
هل يمكن أن يترجم القرآن إلى اللغة الفرنسية مثلا ويقرؤه الكفار، والله تعالى يقول {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (1) {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} (2) {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (3) ومكتوب على عنوان هذا الكتاب {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} (4) {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} (5)
الجواب:
لا يمكن ترجمة القرآن ترجمة تماثله في دقة تعبيره وعلو أسلوبه وجمال سبكه وإحكام نظمه وتقوم مقامه في إعجازه وتحقيق جميع مقاصده من إفادة الأحكام والآداب والإبانة عن العبر والمعاني الأصلية والثانوية ونحو ذلك مما هو من خواص مزاياه المستمدة من كمال بلاغته وفصاحته ومن حاول ذلك فمثله كمثل من يحاول أن يصعد إلى السماء بلا أجهزة ولا سلم أو يحاول أن يطير في الجو بلا أجنحة ولا آلات.
ويمكن أن يعبر العالم عما فهمه من معاني القرآن حسب وسعه
__________
(1) سورة الواقعة الآية 77
(2) سورة الواقعة الآية 78
(3) سورة الواقعة الآية 79
(4) سورة النساء الآية 126
(5) سورة النساء الآية 127(16/123)
وطاقته بلغة أخرى ليبين لأهلها ما أدركه فكره من هداية القرآن وما استنبطه من أحكامه أو وقف عليه من عبره ومواعظه لكن لا يعتبر شرحه لتلك غير اللغة العربية قرآنا ولا ينزل منزلته من جميع النواحي بل هو نظير تفسير القرآن باللغة العربية في تقريب المعاني والمساعدة على الاعتبار واستنباط الأحكام، ولا يسمى ذلك التفسير قرآنا، وعلى هذا يجوز للجنب والكفار مس ترجمة معاني القرآن بغير اللغة العربية، كما يجوز مسهم تفسيره باللغة العربية.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(16/124)
فتوى برقم 1620 وتاريخ 11 \ 7 \ 1397 هـ
السؤال الأول:
شاع في كثير من بلاد المسلمين لبس البدلة ذلك اللباس المكون من جاكيت وبنطلون وقد تقتصر الملابس على بنطلون وقميص أو فانيلا بكم أو بنصف كم في الصيف لشدة الحر، فهل لبس هذا اللباس يدخل تحت باب التشبه بغير المسلمين أم لا؟
الجواب:
الأصل في أنواع اللباس الإباحة لأنه من أمور العادات، قال تعالى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (1)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 32(16/124)
الآية. ويستثنى من ذلك ما دل الدليل الشرعي على تحريمه أو كراهته كالحرير للرجال والذي يصف العورة لكونه شفافا يرى من ورائه لون الجلد أو لكونه ضيقا يحدد العورة، لأنه حينئذ في حكم كشفها وكشفها لا يجوز وكالملابس التي هي من سيما الكفار فلا يجوز لبسها للرجال ولا للنساء لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بهم، وكلبس الرجال ملابس النساء ولبس النساء ملابس الرجال لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، ولبس اللباس المسمى بالبنطلون والقميص لا يختص لبسه بالكفار بل هو لباس عام في المسلمين والكافرين في كثير من البلاد والدول وإنما تنفر النفوس من لبس ذلك في بعض البلاد لعدم الألفة ومخالفة عادة سكانها في اللباس وإن كان ذلك موافقا لعادة غيرهم من المسلمين لكن الأولى بالمسلم إذا كان في بلد لم يعتد أهله ذلك اللباس ألا يلبسه في الصلاة ولا في المجامع العامة ولا في الطرقات. السؤال الثاني:
ما حكم الصلاة في هذه البدلة السابقة الذكر المكونة من جاكيت وبنطلون. . . إلخ؟
الجواب:
إن كان ذلك اللباس لا يحدد العورة لسعته ولا يكشف عما وراءه لكونه صفيقا جازت الصلاة فيه، وإن كان يكشف عما وراءه بأن ترى العورة من ورائه بطلت الصلاة فيه، وإن كان يحدد العورة فقط كرهت الصلاة فيه إلا أن لا يجد غيره. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(16/125)
فتوى برقم 1637 وتاريخ 7 \ 8 \ 1397 هـ
السؤال الأول:
هل يصح أن نضحي عن الميت أو لا؟ أو الأضحية عن الأحياء فقط؟
السؤال الثاني:
هل الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسبح الله عز وجل بيده اليمنى فقط أو باليد اليسرى. في حديث كان النبي صلى الله عليه وسلم يسبح بيده، وفي حديث آخر كان صلى الله عليه وسلم يسبح بيمينه، هل هذان الحديثان صحيحان أو لا؟
الجواب:
الأضحية سنة مؤكدة في قول أكثر العلماء لأنه صلى الله عليه وسلم ضحى وحث أمته على الأضحية، والأصل أنها مطلوبة في وقتها من الحي عن نفسه وأهل بيته وله أن يشرك في ثوابها من شاء من الأحياء والأموات.
أما الأضحية عن الميت فإن كان أوصى بها في ثلث ماله مثلا أو جعلها في وقف له وجب على القائم على الوقف أو الوصية تنفيذها، وإن لم يكن أوصى بها ولا جعلها في وقف له أو أجنبي تطوعا منه فهو حسن ويعتبر هذا من أنواع الصدقة عن الميت. والصدقة عنه مشروعة في قول أهل السنة والجماعة.
الجواب الثاني:
أمر الله تعالى في كتابه بالتسبيح وحثت السنة الثابتة عليه ولينت فضله مطلقا ومقيدا بزمن أو حال أما كونه باليد أو بأناملها فقد روى في ذلك الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه عن يسيرة بنت ياسر رضي الله(16/126)
عنهما- وكانت من المهاجرات- قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا نساء المؤمنات عليكن بالتهليل والتسبيح والتقديس ولا تغفلن فتنسين الرحمة واعقدن بالأنامل فإنهن مسؤولات مستنطقات (1) » ، وروى الترمذي من طريق الأعمش عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح، (2) » وقال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث الأعمش عن عطاء بن السائب، ثم قال وروى شعبة والثوري هذا الحديث عن عطاء بن السائب بطوله.
ورواه أبو داود عن عبيد الله بن عمر بن بسرة ومحمد بن قدامة في آخرين قالوا: حدثنا عثام عن الأعمش عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح، (3) » قال ابن قدامة بيمينه.
من هذا يتبين للسائل ألفاظ الروايات التي روي بها هذا الحديث وليس بينها تناف بل بعضها مجماع وبعضها متبين مفسر ويشهد لاختيار التسبيح باليمين عموم حديث عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيامن ما استطاع في طهوره وتنقله وترحله وفي شأنه كله، (4) » رواه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة والأمر في ذلك واسع ولا حرج في استعمال أنامل اليدين جميعا كما هو ظاهر من حديث يسيرة المقدم ولكن استعمال أنامل اليمنى في ذلك أفضل لما تقدم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3583) ، سنن أبو داود الصلاة (1501) ، مسند أحمد بن حنبل (6/371) .
(2) سنن الترمذي الدعوات (3486) ، سنن النسائي السهو (1355) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (926) .
(3) سنن الترمذي الدعوات (3411) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (926) .
(4) صحيح البخاري الأطعمة (5380) ، صحيح مسلم الطهارة (268) ، سنن الترمذي الجمعة (608) ، سنن النسائي الطهارة (112) ، سنن أبو داود اللباس (4140) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (401) ، مسند أحمد بن حنبل (6/202) .(16/127)
فتوى برقم 1687 وتاريخ 11 \ 11 \ 1397 هـ
السؤال الأول:
شخص ترتيبه الثالث في إخوته ورضع مع بنت من أسرة أخرى، فهل هذه البنت تعتبر أختا لجميع إخوته سواء الصغار منهم والكبار أم لا وكذلك إخوتها من أم أخرى؟
الجواب:
الرضاع الذي يحصل به التحريم هو ما بلغ خمس رضعات فأكثر وكان في الحولين لقوله تعالى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (1) ولما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك (2) » . والرضعة هي أن يمتص الطفل اللبن من الثدي ثم يتركه لتنفس أو انتقال ونحو ذلك فإذا عاد فرضعة أخرى وهكذا إذا ثبت أن الشخص رضع من أم البنت أو من لبن زوجة لأبيها ما سبق ذكره من الرضاع فإنه يكون أخا لهذه البنت ولجميع إخوانها وأخواتها من أب وأم أو من أب أو من أم، أما إخوته فيجوز لأي واحد منهم أن يتزوج هذه البنت أو أي واحدة من أخواتها ولا أثر لهذا الرضاع على الزواج المذكور.
السؤال الثاني:
شخص لحق الجماعة في بعض الصلاة ثم أتى شخص آخر ليصلي
__________
(1) سورة البقرة الآية 233
(2) صحيح مسلم الرضاع (1452) ، سنن النسائي النكاح (3307) ، سنن أبو داود النكاح (2062) ، موطأ مالك الرضاع (1293) ، سنن الدارمي النكاح (2253) .(16/128)
ووجد الشخص قد قام لإتمام الصلاة فهل يجوز للشخص الأخير الإتمام والاقتداء بالشخص الأول؟
الجواب:
نعم يجوز للشخص الذي جاء متأخرا أن يقتدي بالشخص الذي لحق الجماعة في بعض الصلاة ثم قام ليتم ما بقي من صلاته بعد سلام الإمام، والأصل في ذلك ما أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وابن خزيمة وصححه وابن حبان والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي وحده فقال: «ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه (1) » ، وما رواه الجماعة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «بت عند خالتي ميمونة فقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل، فقمنا نصلي معه وقمت عن يساره فأخذ برأسي وأقامني عن يمينه (2) » . وما رواه أحمد ومسلم عن أنس -رضي الله عنه- قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان فجئت فقمت خلفه وقام رجل فقام إلى جنبي ثم جاء آخر حتى كنا رهطا، فلما أحس رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا خلفه تجوز في صلاته ثم قام فدخل منزله فصلى صلاة لم يصلها عندنا، فلما أصبحنا قلنا: يا رسول الله أفطنت بنا الليلة؟ قال: (نعم فذلك الذي حملني على ما صنعت (3) » .
وعن عائشة -رضي الله عنها- «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في حجرته وجدار الحجرة قصير فرأى الناس شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقام ناس يصلون بصلاته فأصبحوا فتحدثوا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الليلة الثانية فقام ناس يصلون بصلاته (4) » . رواه البخاري. هذه الأدلة وردت في جواز انتقال المنفرد إلى الإمامة في أثناء الصلاة والأصل عدم الفرق بين الفرض والنفل إلا بدليل يقتضي التخصيص وكونه مسبوقا لا يمنع
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (574) ، مسند أحمد بن حنبل (3/85) ، سنن الدارمي الصلاة (1368) .
(2) صحيح البخاري الوضوء (138) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (763) ، سنن الترمذي الصلاة (232) ، سنن النسائي التطبيق (1121) ، سنن أبو داود الصلاة (1357) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (973) ، مسند أحمد بن حنبل (1/369) ، موطأ مالك النداء للصلاة (267) ، سنن الدارمي الصلاة (1255) .
(3) صحيح مسلم الصيام (1104) ، مسند أحمد بن حنبل (3/193) .
(4) صحيح البخاري الأذان (729) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (761) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1604) ، سنن أبو داود الصلاة (1373) ، مسند أحمد بن حنبل (6/268) ، موطأ مالك النداء للصلاة (250) .(16/129)
اقتداء غيره به فيما بقي عليه ليحصل على فضل الجماعة في أصح قول العلماء. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(16/130)
فتوى برقم 1693 وتاريخ 11 \ 11 \ 1397 هـ
السؤال:
الصائم إذا كان في الطائرة هل يفطر بواسطة الساعة أو التلفزيون أم لا؟ وما الحكم إذا أفطر بالبلد ثم أقلعت به الطائرة فرأى الشمس؟
الجواب:
إذا كان الصائم في الطائرة واطلع بواسطة الساعة والتلفزيون عن إفطار البلد القريبة منه وهو يرى الشمس بسبب ارتفاع الطائرة فليس له أن يفطر لأن الله تعالى قال {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (1) وهذه الغاية لم تتحقق في حق من يرى الشمس.
وأما إذا أفطر بالبلد بعد انتهاء النهار في حقه فأقلعت الطائرة ثم رأى الشمس فإنه يستمر مفطرا لأن حكمه حكم البلد التي أقلع منها وقد انتهى النهار وهو فيها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 187(16/130)
فتوى برقم 1927 في 18 \ 5 \ 1398 هـ
السؤال:
شخص يسأل قائلا بأن ابنته توفي زوجها وتلزمها العدة وهي طالبة في المدرسة، فهل يجوز لها مواصلة الدراسة أم لا، - وقال لعلها تلبس بعض ثيابها الخالية من الطيب والزينة.
الجواب:
يجب على الزوجة المتوفى عنها زوجها أن تعتد وتحد في بيتها الذي مات زوجها وهي فيه أربعة أشهر وعشرا وألا تبيت إلا فيه وعليها أن تجتنب ما يحسنها ويدعو إلى النظر إليها من الطيب والاكتحال بالأثمد وملابس الزينة وتزيين بدنها ونحو ذلك مما يجملها، ويجوز لها أن تخرج نهارا لحاجة تدعو إلى ذلك، وعلى هذا للطالبة المسؤول عنها أن تذهب إلى المدرسة لحاجتها إلى تلقي الدروس وفهم المسائل وتحصيلها مع التزامها اجتناب ما يجب على المعتدة عدة الوفاة اجتنابه مما يغوي بها الرجال ويدعو إلى خطبتها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(16/131)
فتوى برقم 1934 في 24 \ 5 \ 1398 هـ
السؤال الأول:
شخص عقد على امرأة وتوفي قبل الدخول بها فهل عليها حداد؟
الجواب:
المرأة التي توفي عنها زوجها بعد العقد وقبل الدخول تلزمها العدة والإحداد لأنها بمجرد العقد تكون زوجة مشمولة بقول الله تعالى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (1) ولما روى البخاري ومسلم -رحمهما الله تعالى- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا (2) » ، ولما روى أحمد وأهل السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق امرأة عقد عليها زوجها ومات قبل الدخول بها بأن عليها العدة ولها الميراث.
السؤال الثاني:
هل يجوز أن ترث البنت من أبي المتوفى حيث إنه لم يقسم من أبيه وأبوه على قيد الحياة؟
الجواب:
إن كان المقصود بالبنت في السؤال هي التي توفي عنها المذكور في السؤال الأول فإنها ترث فيما يخص زوجها المتوفى فقط، للحديث المذكور ولقول الله سبحانه وتعالى في الزوجات {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (3)
__________
(1) سورة البقرة الآية 234
(2) صحيح البخاري الحيض (313) ، صحيح مسلم الطلاق (938) ، سنن النسائي الطلاق (3534) ، سنن أبو داود الطلاق (2302) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2087) ، مسند أحمد بن حنبل (5/85) ، سنن الدارمي الطلاق (2286) .
(3) سورة النساء الآية 12(16/132)
أما أبو المتوفى الحي وقت وفاة ابنه فليس لها في ماله شيء.
السؤال الثالث:
هل يرث أولاد الابن من جدهم مع أولاده؟
الجواب:
لا يرث أولاد الابن من جدهم مع أعمامهم لأنهم محجوبون بإجماع أهل العلم.
السؤال الرابع:
هل يجوز لزوجة الميت أن ترث في مال أبي المتوفى؟
الجواب:
زوجة المتوفى لا ترث في مال أبيه إذا توفي وأبوه حي، أما إن كان أبوه توفي قبله فإنها ترث من زوجها مما ورثه هو من أبيه في حياته. وبالله التوفيق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(16/133)
فتوى برقم 1996 في 2 \ 7 \ 1398 هـ
السؤال:
رجل يقول: نحن ثلاثة إخوة أشقاء ومشتركون في جميع ممتلكاتنا، وقد توفي واحد منا وله ثلاثة أولاد ولا نزال مشتركين في معيشتنا كما كنا من قبل حتى تاريخ هذه الفتوى، وللمتوفى راتب تقاعدي باسم أولاده من الدولة، فهل تدخل هذه الرواتب في شركتنا وأولاده على ما كان عليه والدهم من جميع الأملاك السابقة واللاحقة بعد وفاته أو يبقى هذا الراتب باسمهم فقط أم لا؟
الجواب:
المرتب التقاعدي الذي لأولاد أخيكم من الدولة ملك لهم خاصة، ومن كان منهم بالغا رشيدا ورضي أن يدخل في الشركة نصيبه ويشترك معكما في المعيشة جاز له ذلك، ومن كان منهم قاصرا اعتبر رضا ولي أمره بالخلط والشركة في المعيشة مراعيا في ذلك مصلحة القاصر، وكذا الحال في سائر أملاك هؤلاء الأولاد التي كسبوها بأيديهم أو ورثوها مثلا فكل على ملكه والشركة في المعيشة خلطة واستثمارا وتصرفا وانتفاعا بالتراضي والاختيار.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(16/134)
فتوى برقم 3380 في 11 \ 1 \ 1401 هـ
السؤال:
اعتاد المسلمون في بعض البلاد أن يذبحوا مناسبة يوم السابع ويوم الأربعين بعد الوفاة إما لقصد إطعام الضيوف الوافدين من مكان بعيد إلى أهل الميت للتعزية والدعاء للميت وإما لأجل نفس الميت ولو ما فيه غرباء لإطعام نفس أهل البلد الذين جاءوا إلى بيت المتوفى للأكل طبعا لا للتعزية. فما حكم مثل هذه الذبيحة؟ وهل تدخل في الشرك أو لا؟
الجواب:
تخصيص يوم السابع ويوم الأربعين أو يوم آخر سواهما بذبيحة تذبح عن الميت وتطعم للضيوف أو لأهل البلد لا نعلم له أصلا في الشرع، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » ، وثبت عن جرير بن عبد الله البجلي أنه قال: كنا نعد الاجتماع عند أهل الميت وصنع الطعام من النياحة والخير كله في اتباع السلف الصالح من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم وأتباعهم بإحسان، ولقوله تعالى {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (2) الآية. والشر كله بمخالفتهم والسير على غير طريقهم، وبالله التوفيق.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) سورة التوبة الآية 100(16/135)
فتوى برقم 3668 وتاريخ 7 \ 6 \ 1401 هـ
السؤال الأول:
هل يجوز أن يعمل للميت صدقة بعد أربعين يوما من وفاته؟
الجواب:
الصدقة عن الميت مشروعة وليس لها يوم معين تكون فيه، ومن حدد يوما معينا فهذا التحديد بدعة، وقد ورد إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء سؤال عن إقامة حفل للميت بعد أربعين يوما من وفاته، وهذا نص الجواب عنه: "لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم ولا عن السلف الصالح إقامة حفل للميت مطلقا ولا عند وفاته ولا بعد أسبوع أو أربعين يوما أو سنة من وفاته بل ذلك بدعة وعادة قبيحة وكانت عند قدماء المصريين وغيرهم من الكافرين. فيجب النصح للمسلمين الذين يقيمون هذه الحفلات وإنكارها عليهم عسى أن يتوبوا إلى الله ويتجنبوها لما فيها من الابتداع في الدين ومشابهة الكافرين، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم (1) » ، رواه أحمد في مسنده عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. وروى الحاكم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتموه وحتى لو أن أحدهم جامع امرأته
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/92) .(16/136)
بالطريق لفعلتموه (1) » وأصله في الصحيحين من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه-.
السؤال الثاني:
عندما يتوفى شخص في بعض البلدان يجلس أهل الميت لتقبل العزاء بعد صلاة المغرب لمدة ثلاثة أيام، هل يجوز ذلك أم أنه بدعة؟
الجواب:
تعزية المصاب بالميت مشروعة، وهذا لا إشكال فيه، وأما تخصيص وقت معين لقبول العزاء وجعله ثلاثة أيام فهذا من البدع، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » ، وبالله التوفيق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3456) ، صحيح مسلم العلم (2669) ، مسند أحمد بن حنبل (3/84) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(16/137)
صفحة فارغة(16/138)
البدع وأثرها في انحراف التصور الإسلامي
الدكتور صالح بن سعد السحيمي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} (3) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (4)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 102
(2) سورة النساء الآية 1
(3) سورة الأحزاب الآية 70
(4) سورة الأحزاب الآية 71(16/139)
أما بعد. . . فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وبعد هذه الافتتاحية المشتملة على كثير من الفوائد والتي يسميها السلف خطبة الحاجة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح بها كلامه في أغلب أحيانه ويعلمها أصحابه كما يعلمهم القرآن، لذا فإنه من الخطأ الشائع توهم كثير من الناس أن هذه الخطبة خاصة بعقد النكاح، بل الصحيح أن هذه المقدمة مشروعة في أي موضوع خيري يريد أن يتكلم به متكلم. وبها نفتتح موضوعنا هذا والذي هو: " البدع وأثرها في انحراف التصور الإسلامي " فأقول: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (1) {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) ذلكم هو الدين القيم الخالد الصالح لكل زمان ومكان، والمشتمل على كل ما من شأنه إسعاد البشرية في دنياها وأخراها، وهو الدين الخالص الذي جمعنا الله به بعد الفرقة، وأعزنا به بعد الذلة، وألف بين قلوبنا بعد التمزق. فمن تمسك به وحافظ عليه وقام به خير قيام بفعل المأمور وترك المحظور دون زيادة أو نقصان، فقد سعد وفاز برضا الله -تبارك وتعالى- وعونه وتوفيقه. . وأما من طلب الهدى من غيره واتخذ سبيلا غير سبيل المؤمنين من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، فذلك هو الخسران المبين الذي لا يعدله خسران، وأصبح من حزب الشيطان.
{أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (3)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 19
(2) سورة آل عمران الآية 85
(3) سورة المجادلة الآية 19(16/140)
طريق الخلاص:
وإن طريق الخلاص وعنوان السعادة وسبب النجاة من عذاب الله هو التمسك بكتاب الله تعالى ذلك الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وكذلك التمسك بالسنة المطهرة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (1) فإنهما، أعني الكتاب والسنة المصدران الأساسيان للتشريع الإسلامي.
__________
(1) سورة النجم الآية 4(16/141)
كمال هذا الدين:
فإن من أمعن النظر فيما شرعه الله لنا مما تضمنه الكتاب العزيز ودلت عليه السنة، علم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة على أكمل وجه وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها. لا يحيد عنها إلا هالك قد مرض قلبه. . وخاسر قد طاش في مهاوي الضلال لبه. فإن الله تعالى قد بين للناس قواعد الدين وأكملها، قال تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أكمل لنا هذا الدين بما أنزله في كتابه العربي المبين وعلى لسان نبيه الصادق الأمين. مما بلغ من الأحكام وبين لنا من حلال وحرام، فلم يكن هناك من خير إلا دلنا عليه وسهل لنا الطرق الموصلة إليه ولم يكن هناك من شر إلا حذرنا منه، كما قال صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمرو «ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم ويحذرهم من شر ما يعلمه لهم (2) » ) (3)
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) صحيح مسلم الإمارة (1844) ، سنن النسائي البيعة (4191) ، سنن ابن ماجه الفتن (3956) ، مسند أحمد بن حنبل (2/191) .
(3) رواه مسلم بهذا المعنى في الإمارة.(16/141)
سبيل المؤمنين:
إذا كان الأمر بهذه المثابة فإن من طلب الهدى من غير الكتاب والسنة أو أتى بأمر زائد على ما شرعه الله فهذا بلا شك ضلال مبين وميل عن الصراط المستقيم واتباع لغير سبيل المؤمنين وإن من كان هذا شأنه لحقيق بأن يكون واقعا تحت هذا الوعيد الشديد الذي تضمنته هذه الآية الكريمة، قال تعالى {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (1) فقد أمر الله تعالى باتباع سبيله وما شرع من الدين القويم، ونهى عن اتباع غير سبيل المؤمنين.
وقال تعالى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) فقد حث سبحانه على اتباع سبيله الذي هو الكتاب والسنة حثا مقرونا بالنهي عن اتباع السبل، مبينا أن ذلك سبب للتفرق، ولذا ترى المسلمين العاملين قد لزموا سبيلا واحدا وهو سبيل الله الذي أمرهم بسلوكه، وأما أهل البدع والأهواء فقد افترقوا في سبلهم على حسب معتقداتهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (3) وقد روى النسائي وأحمد عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: «خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال: هذا سبيل الله. ثم خط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن شماله، وقال: هذه السبل المتفرقة وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه "، ثم قرأ هذه الآية حتى بلغ تتقون (4) »
__________
(1) سورة النساء الآية 115
(2) سورة الأنعام الآية 153
(3) سورة المؤمنون الآية 53
(4) مسند أحمد بن حنبل (1/435) ، سنن الدارمي المقدمة (202) .(16/142)
الكتاب والسنة مصدر كل سعادة:
وقال تعالى في معرض بيانه لشمول هذا الدين {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (1) فقوله {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (2) أفاد شمول هذا القرآن لكافة أحكام الدين بما أودع الله فيه من تعاليم عامة صالحة للتطبيق على مر العصور والأزمان وفيها السعادة للبشرية جمعاء متى تمسكت بها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وكذلك سنة نبيه صلى الله عليه وسلم القويمة التي تبين القرآن وتوضحه وتفصل مجمله وتقيد مطلقه وتخصص عمومه إلى غير ذلك من أنواع البيان. قال تعالى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (3) وقال تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (4) .
وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني أوتيت الكتاب ومثله معه (5) » . والآيات والأحاديث الدالة على شمول هذا الدين وكماله وعدم حاجته إلى زيادة أو نقصان أجل من أن تحصر أو تعد في مثل هذا المقام. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى حتى كمل الدين وتم بما أودع الله فيه من تشريع شمل كافة نواحي الحياة من عبادات ومعاملات وآداب وأخلاقيات وحدود وغير ذلك مما يكفل للبشرية كل أمن ورخاء وطمأنينة متى تمسكت بها وسارت على نهجها القويم.
__________
(1) سورة النحل الآية 89
(2) سورة النحل الآية 89
(3) سورة النحل الآية 44
(4) سورة الحشر الآية 7
(5) رواه أبو داود في كتاب السنة (باب لزوم السنة) .(16/143)
ذم التفرق وبيان أسبابه:
إذا علم ذلك فإن الطريق الصحيح إلى النجاة هو التمسك بكتاب الله(16/143)
تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنهما حصن حصين وحرز متين لمن وفقه الله تعالى ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بالبعد عن البدع والخرافات التي ابتدعها المبتدعون وأحدثها المحدثون وروجها المبطلون وأكلة أموال الناس بالباطل من دعاة النحل المختلفة والطرق المتشعبة التي ليست من الإسلام في شيء وقد ذم الله تلك الطرق المنحرفة الكثيرة التي جعلت المسلمين شيعا وأحزابا وشتتت شملهم وجعلتهم لقمة سائغة لأعدائهم لا لقلة عددهم وعدتهم وإنما نتيجة لتمزق شملهم وتفرق كلمتهم كما قال صلى الله عليه وسلم: «توشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها) قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: (بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل (1) » . ومما لا شك فيه أنه لا شيء أعظم فسادا للدين وأشد تقويضا لبنيانه وأكثر تفريقا لشمل الأمة من البدع فهي تفتك به فتك الذئب بالغنم وتنخر فيه نخر السوس في الحب وتسري في كيانه سريان السرطان في الدم أو النار في الهشيم.
ولهذا جاءت النصوص الكثيرة تبالغ في التحذير منها وتكشف عن سوء عواقبها من التفرق والاختلاف في الدنيا والعذاب والخزي وسواد الوجوه في الآخرة، قال تعالى {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (2) {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} (3) {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (4) قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة.
وقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (5)
__________
(1) رواه أبو داود في '' الملاحم '' بهذا المعنى.
(2) سورة آل عمران الآية 105
(3) سورة آل عمران الآية 106
(4) سورة آل عمران الآية 107
(5) سورة الأنعام الآية 159(16/144)
وقد نص المفسرون -رحمهم الله- على أن الآية تعني أهل البدع والأهواء نقلا عن كثير من السلف، ولا ريب أن من أعظم أسباب التفرق تلك البدع والمحدثات التي هي شرع لم يأذن به الله، وقد أخبر رسول الهدى صلى الله عليه وسلم عن افتراق هذه الأمة بسبب انحرافها عن سنته القويمة وما عليه صحبه الكرام من بعده كما روى أبو داود وابن ماجه والترمذي وغيرهم بأسانيد صحيحة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة. وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة (1) » ، وفي رواية «أن أمته تفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة (2) » والجماعة هي من كانت على الحق الذي كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه -رضوان الله عليهم-. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء) فقيل: ومن هم الغرباء؟ فقال: (الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي (3) » .
ولقد أحدث المسلمون في دينهم من البدع والدخيل ما انحرف بكثير منهم عن سواء السبيل، وشوه عليهم حقيقة الدين، ولبس عليهم حتى أصبح الكثير منهم لا يفرق بين الحق والباطل، ولا يعرف البدعة من السنة، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون وأغرقوا في ذلك حتى رأوا الحسن قبيحا والقبيح حسنا على حد قول القائل:
يقضى على المرء في أيام محنته. . حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن وهذا ما نصت عليه الآية الكريمة وهي قوله تعالى {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} (4) {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (5) فما يفتح لهم الشيطان بابا من الضلال إلا ولجوه، ولا يزين لهم
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2640) ، سنن أبو داود السنة (4596) ، سنن ابن ماجه الفتن (3991) ، مسند أحمد بن حنبل (2/332) .
(2) سنن الترمذي الإيمان (2641) .
(3) رواه مسلم في '' الإيمان '' بهذا المعنى.
(4) سورة الكهف الآية 103
(5) سورة الكهف الآية 104(16/145)
طريقا من طرق البدع إلا سلكوه، وما زال الخطر يستفحل والشر يتفاقم حتى بلغ شأوا بعيدا في تفريق الأمة وتمزيق شملها، وقد ساعد على ذلك سكوت كثير من العلماء وتهاونهم وجبنهم عن مواجهة العامة خوفا من غضبهم ومجاراة لهم، وحرصا على اجتلاب رضاهم ولو بسخط الله.(16/146)
حفظ هذا الدين وبقاؤه:
ولكن الله عز وجل لم يكن ليترك دينه لعبث هؤلاء المحدثين المبتدعين بل قيض له من أرباب الألسنة والأقلام قديما وحديثا من يهب للدفاع عنه ومحاربة كل دخيل عليه حيث تكفل سبحانه بحفظ هذا الدين وصيانته وإن تكالب عليه أهل الأرض جميعا، وقد حصل -ولله الحمد والمنة-، قال تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) وقال تعالى {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (2)
__________
(1) سورة الحجر الآية 9
(2) سورة الصف الآية 8(16/146)
وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة:
وقد تضافرت النصوص الكثيرة على الأمر بالاعتصام بالكتاب والسنة واتباع السلف الصالح الذين قام بهم الكتاب وله قاموا ونطق بهم وبه نطقوا وطبقوه بكل صدق وإخلاص وأمانة، ووقفوا عند حدوده وحكموه في كل شئون حياتهم، ولم يدخروا وسعا في معانيه ومعرفة أسراره، وقد نوه الكتاب العزيز بفضلهم ونص على أن لهم اليد الطولى في الفضل والعلم والعمل الجاد الخالص، قال تعالى مشيدا بفضلهم وآمرا باتباعهم {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 100(16/146)
فهم خير من يقتدى به من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وهم الذين نقلوا لنا هذا الدين. أولئك الأفذاذ الذين هم أعلام الهدى ومصابيح الدجى. . وإن القدوة أولا وأخيرا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (1) .
فقد أمر الله بالتأسي به والاهتداء بهداه والاستنان بسنته. . وحذرنا من مخالفة أمره ورتب على ذلك ألوانا من الوعيد الشديد، قال تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) بل قد نبه الله تعالى بأنه ليس للمؤمن خيار إذا أمر الله أو أمر رسوله بأي أمر. قال تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (3) بل أخبر سبحانه أن طاعته صلى الله عليه وسلم من طاعة الله تعالى {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (4) وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (5) أي بمخالفتكم لسنته التي سنها لكم وبارتكابكم المنكرات والبدع والمخالفات.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 21
(2) سورة النور الآية 63
(3) سورة الأحزاب الآية 36
(4) سورة النساء الآية 80
(5) سورة محمد الآية 33(16/147)
المرجع عند التنازع:
وأمرنا تبارك وتعالى بأن نرجع في كل أمر نختلف فيه إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال تعالى {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (1)
__________
(1) سورة الشورى الآية 10(16/147)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} (1) فقد أمرنا بطاعة الله ورسوله وطاعة ولاة الأمور في حدود طاعة الله تعالى ثم أرشدنا إلى رد ما تنازعنا فيه إلى الله ورسوله أي إلى كتاب الله وسنة رسوله بل علق صحة الإيمان بذلك بقوله {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (2) وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم المتمسكين بسنته من أمته بأعظم بشارة وأشرف مقصد يطلبه كل مؤمن ويسعى إلى تحقيقه، من كان في قلبه أدنى مسكة من إيمان ألا وهو الفوز بدخول الجنة، جاءت هذه البشرى في حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى) ، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: (من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى (3) » ورفض للسنة أعظم من مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم وذلك بالإحداث والابتداع في الدين.
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة النساء الآية 59
(3) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) .(16/148)
حكم الإحداث في الدين:
وبذا نعلم أن هذه النصوص دليل على أن كل من يقول باستحسان بدعة في الدين يكون له نصيب وافر، وجزاء كبير من الوعيد المذكور فيها، فإن من استحسن بدعة بعقله القاصر المحدود وحث الناس على التعبد بها ما هو إلا مشاقة ومصادمة لهذه النصوص وعليه تبعة ذلك إلى يوم القيامة، إذ أن من عمل خيرا وتبعه الناس عليه ضوعف له الأجر بقدر أجر من يتبعه في هذا الخير، وعلى النقيض من ذلك فإن من عمل سوءا كالابتداع مثلا والإحداث في الدين فإنه لا يعاقب بوزر ارتكابه تلك البدعة فحسب بل يضاعف له العقاب حيث يتحمل وزر من تبعه في هذا(16/148)
الأمر، يدل لذلك ما رواه مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (1) » . وعلى هذا فإن أي إحداث في الدين مردود على من أحدثه وغير مقبول لما روى الشيخان وغيرهما من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » . وفي رواية «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3) » .
وإنما كانت البدع مردودة على من عملها لأن إحداث مثل هذه البدع يفهم منه أن الله سبحانه، لم يكمل الدين لهذه الأمة، وأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- لم يبلغ ما ينبغي للأمة أن تعمل به حتى جاء هؤلاء المتأخرون المبتدعون فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به زاعمين أن ذلك مما يقربهم إلى الله، وهذا ولا شك فيه خطر عظيم واعتراض على رب العالمين واستدراك على رسوله صلى الله عليه وسلم واتهام له بالخيانة والكتمان وحاشاه صلى الله عليه وسلم ذلك. كيف يكون هذا وهو القائل: «من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة (4) » . فهذا محال بالنسبة لسائر المؤمنين فكيف بقدوتهم وأسوتهم صلوات الله عليه وسلامه.
ومعلوم أن الله سبحانه قد أكمل لعباده الدين وأتم عليهم النعمة، والرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين ولم يترك طريقا يوصل إلى الجنة ويباعد من النار إلا بينه للأمة. . كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله من نبي
__________
(1) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(3) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(4) رواه الترمذي في '' العلم '' وابن ماجه في المقدمة بهذا المعنى.(16/149)
إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم (1) » .
ومعلوم أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء وخاتمهم، وأكملهم بلاغا ونصحا، فلو كانت هذه البدع التي أحدثها الخالفون من الدين الذي يرضاه الله سبحانه لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة أو فعله في حياته أو فعله أصحابه -رضي الله عنهم-، فلما لم يقع شيء من ذلك علم أنه ليس من الإسلام في شيء، بل هي من المحدثات التي حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منها أمته كما جاء ذلك في أحاديث كثيرة منها ما رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وابن ماجه، بسند صحيح عن أبي نجيح العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا بوجهه فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. فقال رجل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع فأوصنا، فقال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، " وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (2) » .
وروى مسلم في صحيحه، «كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس على المنبر ويقول: (أما بعد- فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) . زاد النسائي (وكل ضلالة في النار (3) » .
وروى البخاري ومسلم عن أنس -رضي الله عنه- قال: «جاء ثلاثة رهط إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا بها كأنهم
__________
(1) رواه مسلم بهذا المعنى في '' الإمارة''.
(2) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (42) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(3) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7277) ، سنن الدارمي المقدمة (207) .(16/150)
تقالوها. فقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا. وقال الآخر: أنا أصوم النهار أبدا ولا أفطر. وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني أخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني (1) » . ولا ريب أن من أحدث عبادة من عند نفسه لم يشرعها الله قد رغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أعظم ما جاء من الوعيد في ذلك أن صاحب البدعة يحال بينه وبين التوبة لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الله احتجز التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته (2) » .
ويخشى أن يكون أهل البدع والأهواء ممن يحال بينهم وبين الشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.
فقد جاء في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا فرطكم على الحوض وليختلجن رجال دوني فأقول يا رب أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم غيروا وبدلوا فيقول النبي صلى الله عليه وسلم سحقا سحقا لمن غير وبدل (3) » . أي بعدا له فهذه براءة من النبي صلى الله عليه وسلم ممن أحدث في الدين وغير وبدل. ومما لا شك فيه أن هؤلاء الذين يذادون عن الحوض من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أي من أمة الإجابة يدل لذلك أنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث بأن عليهم آثار الوضوء وإنما حيل بينهم وبين الحوض لما أحدثوه في الدين من عند أنفسهم ولم ينزل الله به من سلطان، من تلك البدع والمنكرات والخرافات التي لا تعدو أن تكون من نسج خيالهم وبنات أفكارهم الضالة
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5063) ، صحيح مسلم النكاح (1401) ، سنن النسائي النكاح (3217) ، مسند أحمد بن حنبل (3/285) .
(2) رواه ابن ماجه في المقدمة بهذا المعنى في باب اجتناب البدع والجدل.
(3) صحيح البخاري الرقاق (6576) ، صحيح مسلم الفضائل (2297) ، سنن ابن ماجه المناسك (3057) ، مسند أحمد بن حنبل (5/393) .(16/151)
التي ظنوها حسنة وهي في الواقع من أقبح القبيح وأي قبيح أعظم من أن ينصب المرء نفسه مستدركا على الله ورسوله ومشرعا في دين الله بعد القرون المفضلة الأولى الذين هم خير الناس بعد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كما قال صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (1) » . وقد مضت تلك القرون المفضلة وليس لهذه البدع وجود أو رواج وإن وجد شيء منها فهو محدود وعلى نطاق ضيق يختفي أصحابها ولا يستطيعون الظهور لأنهم يشكلون أقلية بخلاف ما وصل إليه حال المسلمين اليوم فقد طغت البدعة ودرست السنة وتغيرت مفاهيم المسلمين وأصبح تصورهم للإسلام تصورا خاطئا وجعلوه في إطار ضيق، فقد وصل مثلا في بعض البلاد إلى حد كونه لا يعدو أن يكون مجموعة من الطقوس والاحتفالات التي قلدوا فيها أعداء المسلمين والإسلام مما جعلهم يوجهون سهامهم المسمومة إلى الإسلام بسبب ضلال من ضل من المسلمين عن الطريق السوي وانحرف كثير منهم عن الجادة الصحيحة التي رسمها لهم الإسلام وأمرهم أن يسيروا عليها ولا يحيدوا عنها يمينا أو شمالا كما قال تعالى {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) . إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة التي توضح هذا المنهج القويم.
__________
(1) صحيح البخاري الشهادات (2652) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2533) ، سنن الترمذي المناقب (3859) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2362) ، مسند أحمد بن حنبل (1/434) .
(2) سورة يوسف الآية 108(16/152)
حرص الصحابة على لزوم الكتاب والسنة والبعد عن البدع: ولقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- أشد الناس حرصا على العمل بالكتاب والسنة وأشدهم عداوة وبغضا للبدع وأهلها، كذلك التابعون ومن جاء بعدهم ممن تبعهم بإحسان، وسأورد نماذج من أقوال الصحابة(16/152)
والسلف الصالح في ذم البدعة والمبتدعين والحث على لزوم السنة.(16/153)
من أقوال الصحابة في ذلك:
فهذا أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يقول: (إنما أنا مثلكم، وإني لا أدري لعلكم ستكلفوني ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيقه، إن الله اصطفى محمدا على العالمين وعصمه من الآفات، وإنما أنا متبع ولست بمبتدع فإن استقمت فتابعوني، وان زغت فقوموني) . وهذا ابن مسعود -رضي الله عنه- ينكر على جماعة من المسلمين كانوا قد جلسوا يذكرون الله بذكر على غير الهيئة التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى الدارمي في سننه أن رجلا أخبر عبد الله بن مسعود أن قوما يجلسون في المسجد بعد المغرب فيهم رجل يقول كبروا الله كذا وكذا. وسبحوا الله كذا وكذا. واحمدوا الله كذا وكذا. قال عبد الله: فإذا رأيتهم فعلوا ذلك فأتني فأخبرني بمجلسهم، فأتاهم فجلس فلما سمع ما يقولون قام فأتى ابن مسعود فجاء وكان رجلا حديدا، فقال: أنا عبد الله بن مسعود، والله الذي لا إله غيره لقد جئتم ببدعة ظلما ولقد فضلتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علما. فقال عمرو بن عتبة: أستغفر الله. فقال: عليكم بالطريق فالزموه ولئن أخذتم يمينا وشمالا لتضلن ضلالا بعيدا. فإذا كان ابن مسعود -رضي الله عنه- قد أنكر هذه الهيئة التي يذكرون الله بها رغم أن الذكر الوارد فيها مشروع بيد أنه أنكر عليهم الشكل والصفة وتخصيص هذا الوقت بالذات للذكر فكيف لو اطلع ابن مسعود على هذه الأذكار التي يذكر بها المسلمون اليوم وهي لا تمت إلى ذكر الله بصلة مما ابتدعه أصحاب الطرق الصوفية وغيرهم من الأذكار الإبليسية التي زينها لهم الشيطان منها ما يرددونه بصوت واحد من قولهم(16/153)
(هو هو) أو (حي حي) وغير ذلك من ألوان الهذيان الذي يرددونه ويزعمون أنه ذكر لله في الوقت الذي لو سمعتهم وهم يترنمون بهذه الأذكار التي لا يفهم منها شيء في كثير من الأحيان لخيل إليك أن أمامك سباعا تتعاوى وتتهارش على فريسة بل تحولت أذكار كثير ممن ينتسب إلى الإسلام اليوم إلى أنواع من الرقصات المختلفة فضلا عما يصحب ذلك من آلات الطرب والمعازف واختلاط الرجال بالنساء وشرب المسكرات وغير ذلك من أنواع الفساد التي يمليها عليهم الشيطان، فيا ليت شعري، ماذا سيقول هذا الصحابي الجليل لو اطلع على هذه المناظر أو سمع تلك الأصوات المنكرة {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (1) .
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينكر على الصحابة لما رفعوا أصواتهم بالتكبير ويقول: «يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تنادون أصم ولا غائبا (2) » . ولا شك أن ذكر الله واجب من أعظم الواجبات التي حث عليها الإسلام كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} (3) {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (4) ومن أعظم وصايا النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله (5) » لكن لا بد أن يكون الذكر وفقا للمعايير التي جاء بها الكتاب والسنة، دون إفراط أو تفريط. وجاء عن ابن مسعود أيضا في ذم البدعة: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم) ، وقال ابن عباس لمن سأله الوصية: (عليك بتقوى الله والاستقامة اتبع ولا تبتدع) ، وقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: (كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة) . وقد روى هذه الآثار الكثيرة
__________
(1) سورة لقمان الآية 19
(2) رواه البخاري في ''الجهاد '' باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير.
(3) سورة الأحزاب الآية 41
(4) سورة الأحزاب الآية 42
(5) رواه الترمذي في الدعوات(16/154)
الإمام الدارمي في سننه وآثارا أخرى عن الصحابة والتابعين. وجاء في سنن أبي داود عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: (كل عبادة لا يتعبدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تعبدوها فإن الأول لم يدع للآخر مقالا) .
هذه نماذج من أقوال الصحابة.(16/155)
من أقوال السلف بعد الصحابة:
وسنشرع الآن في ذكر نماذج من أقوال التابعين وغيرهم من السلف في الحث على اتباع السنة والتحذير من البدع، فقد روى الدارمي في سننه عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قال: (أوصيكم بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وترك ما أحدث المحدثون بعد) . ونقل الأوزاعي عن حسان بن عطية أحد التابعين الفضلاء قوله: (ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة) .
وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: (عليك بالأثر وطريق السلف، وإياك وكل محدثة فإنها بدعة) ، وقال الإمام مالك -رحمه الله تعالى-: (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا خان الرسالة لأن الله يقول {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (1) فما لم يكن يومئذ دينا لا يكون اليوم دينا) . . وقال الليث بن سعد: (لو رأيت صاحب بدعة يمشي على الماء ما قبلته) . فلما بلغ ذلك الشافعي -رحمه الله- قال: (إنه ما قصر لو رأيته يمشي على الهواء ما قبلته) . وقال الإمام أحمد -رحمه الله-: (أصول السنة عندنا
__________
(1) سورة المائدة الآية 3(16/155)
التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء وترك البدع وكل بدعة فهي ضلال) .
وهكذا نجد مما تقدم من النصوص أن الكتاب والسنة والآثار والأخبار التي نقلت عن السلف الصالح تفيد من نظر فيها بتبصر وتدبر أن كل بدعة في الدين صغيرة أو كبيرة في الأصول أو الفروع، في العقائد أو العبادات أو المعاملات فعلية أو قولية أو تركية، هي ضلالة صاحبها مؤاخذ معاقب عليها في النار، وبدعته مردودة عليه غير مقبولة منه، كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إني تارك فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي (1) » . وقال أيضا: «قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك (2) » (3) .
__________
(1) رواه مالك في (الموطأ) بهذا المعنى.
(2) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(3) رواه ابن ماجه في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين.(16/156)
السنة والبدعة:
إذا تبين ذلك فإنه قد يرد سؤال مفاده: ما هو الفارق والميزان الذي نميز به بين البدعة والسنة؟ لأن كل مبتدع يزعم أنه على السنة، بل يرى أن بدعته بعينها هي السنة؟ فالجواب أن نقول: السنة في اللغة هي الطريق. . ولا ريب في أن أهل النقل والأثر والمتبعين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار أصحابه هم أهل السنة لأنهم على تلك الطريق التي لم يحدث فيها حادث، وإنما وقعت الحوادث والبدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. هذا هو مفهوم السنة عند السلف بعبارة مختصرة هي: الطريقة التي كان عليها رسول الله-صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
هذا هو المعنى الذي يعنينا في هذا المقام، وهناك تعريفات أخرى(16/156)
للسنة عند المحدثين والأصوليين والفقهاء ليس من غرضنا التعرض لها وأما تعريف البدعة فإني أنقل باختصار التعريف الذي أورده الإمام العلامة الشاطبي -رحمه الله تعالى- في كتابه " الاعتصام ".
(وأصل مادة " بدع ") للاختراع على غير مثال سابق، ومنه قول الله تعالى {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (1) أي مخترعهما من غير سابق متقدم، ويقال ابتدع فلان بدعة يعني ابتدأ طريقة لم يسبقه إليها سابق، ويربط الإمام الشاطبي بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي فيقول: ومن هذا المعنى سميت البدعة بدعة، فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع وهيئتها هي البدعة، وقد يسمى العمل المعمول على ذلك الوجه بدعة، فمن هذا المعنى سمي العمل الذي لا دليل عليه في الشرع بدعة ثم يستمر بالتمهيد للتعريف، ويذكر أقسام الحكم التكليفي الخمسة حتى يتوصل إلى أن من المنهيات ما يطلب تركه وينهى عنه لكونه مخالفا لظاهر التشريع من جهة ضرب الحدود، وتعيين الكيفيات، والتزام الهيئات المعينة أو الأزمنة المعينة مع الدوام ونحو ذلك. وهذا هو الابتداع والبدعة ويسمى فاعله مبتدعا، ومما تقدم يستنتج الشاطبي تعريف البدع في الدين فيقول: (فالبدعة إذا عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعب لله سبحانه) . ومعنى هذا التعريف وهو جامع مانع كما ترى فالطريقة والسبيل والسنن ألفاظ مترادفة وهو ما رسم للسلوك عليه وإنما قيدت بالدين لأن صاحبها يضيفها إليه، خرج بذلك الطريق المخترعة في الدنيا كالصناعات مثلا فإنها لا تسمى بدعة في الدين بهذا القيد وإن كانت مخترعة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 117(16/157)
ولما كانت الطرائق في الدين تنقسم إلى قسمين. . فمنها ما له أصل في الشريعة ومنها ما ليس له أصل فيها. خص منها ما هو المقصود بالحد وهو القسم المخترع في الدين، أي طريقة ابتدعت على غير مثال تقدمها من الشارع. وقوله في التعريف: تضاهي الشرعية، يعني أنها تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة على رأس تلك الأوجه اتهام الشريعة بالنقص وعدم الكمال وهذا معلوم البطلان من الدين بالضرورة كما تقدم. وقوله: " يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى " هو تمام معنى البدعة إذ هو المقصود بتشريعها. وذلك أن أصل الدخول فيها يحث على الانقطاع إلى العبادة والترغيب في ذلك، لأن الله تعالى يقول. {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) فكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى.
فأراد أن يسلكه بأي وجه ولم يتبين له أن الشارع قد وضع لذلك حدودا وضوابط وقوانين لا يجوز أن يزاد فيها أو ينقص.
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56(16/158)
أمثلة من البدع الشائعة بين المسلمين:
إذا تبين الفرق بين السنة والبدعة من خلال التعريف، فإني أورد أمثلة للبدع التي عمت وطمت في أرجاء العالم الإسلامي حتى أصبحت عند الكثير من الناس سنة متبعة في الوقت الذي تركت السنن وهجرت تعاليم الإسلام وسأذكرها على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر، منها: نذر الصيام قائما لا يقعد أو ضاحيا لا يستظل. والانقطاع للعبادة وترك الكسب الحلال وإقامة المآتم وقراءة القرآن فيها والاقتصار من المأكل والملبس على صنف دون صنف من غير علة.(16/158)
ومنها التزام الكيفيات والهيئات المعينة كالذكر على هيئة الاجتماع على صوت واحد. . ومنها التزام عبادات معينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة: كالتزام صيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته والاحتفال بيوم الإسراء والمعراج وتخصيصه بعبادة معينة علما بأن تأريخه قد اختلف في تحديده وحتى لو عرف فإن الله لم يميزه بعبادة مخصوصة، وغير ذلك من البدع التي أحدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الغر الميامين الذين كان لهم قصب السبق في الذب عن حياض الإسلام والدفاع عن السنة المطهرة.(16/159)
أصل بدعة المولد:
ولما كانت البدع كثيرة يجل عنها الحصر فإني سوف أقصر الكلام بإيجاز على بدعة خطيرة ومحدثة عظيمة تمس شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعة الاحتفال بعيد مولده صلى الله عليه وسلم.
وإن المتتبع للتاريخ الإسلامي يجد أن مثل هذه الاحتفالات لم تكن موجودة عند المسلمين الأوائل بل ولا في القرون المفضلة حتى جاءت الدولة الفاطمية والتي انتسبت إلى فاطمة ظلما وعدوانا بل إن المحققين من المؤرخين يرون أنهم ينحدرون من أصل يهودي يقال لهم العبيديون وهم أبناء ميمون بن ديصان المشهور بالقداح قيل إنه يهودي وقيل مجوسي وقد استمرت دولتهم في مصر من (357- 467هـ) وقد احتفل الفاطميون بأربعة موالد: مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب وولديه الحسن والحسين -رضي الله عنهم- جميعا. فهم أول من أحدث ذلك كما ذكر المقريزي وغيره. وظلت هذه البدعة يعمل بها حتى جاء (بدر الجمالي) الوزير الأول للخليفة الفاطمي (المستعلي بالله) وكان هذا الوزير شديد التمسك بالسنة، فأصدر أمرا(16/159)
بإلغاء هذه الموالد، وما أن مات (بدر الجمالي) حتى عادت البدعة من جديد.
واستمر الأمر على هذا الحال حتى جاء عهد صلاح الدين الأيوبي، وكان أيضا من المتمسكين بالسنة، فألغى هذه الاحتفالات، وتم تنفيذ هذا الإلغاء في كل أنحاء الدولة الأيوبية، ولم يخالف في ذلك إلا الملك المظفر الذي كان متزوجا من أخت صلاح الدين.
وقد ذكر المؤرخون أن احتفالات الملك المظفر بالمولد كان يحضرها المتصوفة حيث يكون الاحتفال من الظهر إلى الفجر، وكان ما ينفق في هذا الاحتفال يزيد عن ثلاثمائة ألف دينار.
واستمرت بعد ذلك هذه الاحتفالات إلى يومنا هذا، بل توسعوا فيها حتى امتدت إلى الاحتفال بمولد كل عظيم في نظر العامة وإن كان من الملحدين بحجة أنه من الأولياء، ولا يخفى على الجميع مدى المنكرات والموبقات التي ترتكب في أسواق الموالد من شرب للخمور، ولعب للميسر، ورقص وغناء، تؤديه النسوة في مجامع الرجال وغير ذلك من الكبائر، حتى أصبحت كلمة المولد يضرب بها المثل في كل المجالات للفوضى والاستهتار، وأعظم من هذا كله اعتقاد هؤلاء الجهال أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحضر المولد، ولهذا يقومون له محيين ومرحبين، بل يزعم بعضهم أنه يصافحه، وهذا من أعظم الباطل بل هو غاية الجهالة والضلالة. فإن الرسول- صلى الله عليه وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة ولا يتصل بأحد من الناس، بل هو منعم في قبره وروحه في أعلى عليين عند ربه في دار الكرامة كما قال الله تعالى {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} (1) {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (2)
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 15
(2) سورة المؤمنون الآية 16(16/160)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة وأنا أول شافع وأول مشفع (1) » . ونحن لا نلوم العامة الذين يفعلون مثل هذه الأمور وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ولكن اللوم يوجه إلى العلماء المنتسبين إلى العلم، أولئك الذين يعرفون طريق الحق ولكنهم يحيدون عنها، ولا ينكرون أن الاتباع أولى من الابتداع، ولكنهم يتجاهلون هذا الحق الذي لا يجادل فيه، فكيف يجهل هؤلاء أن حقيقة الحفاوة بذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، تتركز في اتباع ما جاء به، وإحياء سنته، وأن هذه الذكرى الطيبة ليست مؤقتة بزمن وليست محددة بشهر ربيع الأول، بل ينبغي أن نحييها ونحتفي بها في كل لحظة من لحظات حياتنا وفي كل بقعة حللنا بها وذلك باتباع سنته والسير على نهجها، وما أظن أن مسلما يجهل أن الاحتفال بفكرة " المولد النبوي " أو غير ذلك من الموالد فكرة مبتدعة جاءتنا- متأخرة، وفيها تشبه باليهود والنصارى الذين لا يعرفون من الدين إلا الاحتفالات على رأس السنة بعيد ميلاد المسيح -عليه السلام- أو غيره من الذي دس عليهم وليس من دينهم. ونحن قد قلدناهم في هذا العمل كما قلدناهم في أمور كثيرة وهذا بلا شك مصداق لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) . قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: (فمن (2) » ، متفق عليه.
وقد خشي النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على أمته فقال: «لا تجعلوا قبري عيدا (3) » ، والعيد اسم لكل ما يعود ويتكرر أي لا تخصصوا لقبري يوما بعينه تعودونه فيه، فمن خصص يوما من السنة كالثاني عشر من ربيع
__________
(1) رواه مسلم في (الفضائل) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3456) ، صحيح مسلم العلم (2669) ، مسند أحمد بن حنبل (3/84) .
(3) رواه أبو داود في ''المناسك''، باب زيارة القبور.(16/161)
الأول وقع تحت هذا التحذير، ونحن بهذا لا ننكر زيارة قبره صلى الله عليه وسلم إذا فعلت بالطريقة المشروعة وبدون شد رحال أو تخصيص يوم أو شهر معين لأن شد الرحال من أجل العبادة خاص بالمساجد الثلاثة التي جاءت في الحديث «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى (1) » ، والأعياد المعروفة في الإسلام ثلاثة أعياد فقط، عيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد الأسبوع الذي هو يوم الجمعة، وما عدا ذلك من الأعياد المحدثة ما هو إلا ضرب من البدع الضالة التي قلدنا فيها أعداءنا. ولا شك أن العواطف الكاذبة ودعوى حب الرسول صلى الله عليه وسلم هي التي حدت بنا إلى أن نبتدع ولا نتبع، وكيف تجتمع دعوى محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مخالفة أمره في النهي عن الإحداث في الدين (الضدان لا يجتمعان) على حد قول القائل:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه ... هذا لعمرك في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع
وقد جعل الله تعالى ميزان محبته ودليلها هو اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم: قال تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) وبمنطوق الآية لا يعتبر محبا لله من خرج على الاتباع ولجأ إلى الابتداع، ما من شك في أنه يجب على كل مسلم أن يقدم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى على نفسه فقد روى الشيخان عن أنس -رضي الله عنه- قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين (3) » .
__________
(1) رواه مسلم في ''الحج'' وأبو داود في المناسك''، باب إتيان المدينة
(2) سورة آل عمران الآية 31
(3) صحيح البخاري الإيمان (15) ، صحيح مسلم الإيمان (44) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5013) ، سنن ابن ماجه المقدمة (67) ، مسند أحمد بن حنبل (3/207) ، سنن الدارمي الرقاق (2741) .(16/162)
لكن هذه المحبة يجب أن تكون في الإطار الصحيح الذي جعله الله فيه بعيدا عن الغلو والتفريط فكأن أولئك الغلاة والمفرطين لم يسمعوا حديث عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله (1) » . وأي غلو أعظم من قول القائل:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند نزول الحادث العمم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
ترى ماذا ترك لله بعد أن جعل جميع الكون بما فيه علم اللوح والقلم من إيجاد البشر. إن شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم غنية عن هذا الإطراء وحسبه فخرا أن الله اختاره ليكون رحمة للعالمين وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وهذه المنزلة وإن كانت أشرف منزلة ينالها مخلوق إلا أن ذلك لا يخرجه عن كونه بشرا تجري عليه السنن الكونية التي تجري على البشر من الولادة والحياة والموت وغير ذلك من سنن الله في البشر، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (2) .
إن هؤلاء الغلاة قد أساءوا كل الإساءة إلى شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يلفقونه من الأحاديث الكاذبة والأخبار الزائفة التي تجعله في مصاف الإله، مما فتح ثغرة ينفذ منها أعداء الإسلام والمسلمين إلى السخرية من الإسلام والطعن في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إننا نعتز كل الاعتزاز بشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه سيد ولد آدم ونعتز بتلك المعاني الحية والمبادئ القيمة التي جاء بها من عند الله، لكن يجب
__________
(1) رواه البخاري في باب (واذكر في الكتاب مريم) .
(2) سورة الكهف الآية 110(16/163)
أن لا يحملنا هذا الاعتزاز على الخروج عن حدود المنزلة الصحيحة التي شرفه الله بها. وإننا نتساءل ماذا سنقول بعد الثناء العطر الذي أثنى الله به عليه من نحو قوله تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (1) وقوله تعالى {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (2) وماذا سنقول بعد أن نوه الله باسمه ورسالته خمس مرات كل يوم كلما رفع الأذان، وماذا سنقول بعد قول الله تعالى {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (3) وآيات وأحاديث كثيرة تتحدث عن سمو منزلته، لا يمكن حصرها في مثل هذه العجالة، وفيما أوردناه غنية لمن تدبر وتأمل {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (4) .
ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام، تلك الشبهة التي يتعلق بها أرباب الموالد ولا سيما مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك فهمهم الخاطئ الذي ينطبق عليه قول الشاعر: وآفته من الفهم السقيم. . . وهو ما توهموه من الحديث الذي رواه مسلم عن أبي قتادة -رضي الله عنه- «أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم الإثنين، فقال صلى الله عليه وسلم: هو يوم ولدت فيه، وفيه أنزل علي (5) » فقد تمسك هؤلاء بلفظة «يوم ولدت فيه (6) » ثم عينوا هذا اليوم بالثاني عشر من ربيع الأول، وذلك تخصيص من عند أنفسهم وهذا الاستدلال ظاهر البطلان لوجوه كثيرة، منها:
1 - أن المطلوب في هذا اليوم أعني يوم الإثنين هو الصوم اقتداء
__________
(1) سورة القلم الآية 4
(2) سورة التوبة الآية 128
(3) سورة الشرح الآية 4
(4) سورة ق الآية 37
(5) مسند أحمد بن حنبل (5/297) .
(6) صحيح مسلم الصيام (1162) .(16/164)
بالرسول صلى الله عليه وسلم، بينما نرى أصحاب تلك الموالد يخصصون ذلك اليوم الذي عينوه للأكل والشرب والطرب فضلا عن ما أحدثوه من أذكار، وهتافات لا نجد لها برهانا ولا هدى ولا حجة صحيحة.
2 - أن الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم هو صوم يوم الإثنين من كل أسبوع دائما، ولم يقيد ذلك بسنة أو شهر أو أسبوع بعينه، بينما هؤلاء يخصصون يوما واحدا في السنة هو التاسع أو الثاني عشر من ربيع الأول على اختلاف بينهم حتى وإن لم يوافق هذا اليوم يوم الإثنين وبذلك يتضح وجه مخالفتهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
3 - أن صيام يوم الإثنين له خصوصية أخرى، إضافة إلى ما ذكر في هذا الحديث، وذلك أنه يوم تعرض فيه الأعمال على الله تعالى فندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى صومه كي تعرض أعمال العبد على ربه، وهو صائم، وذلك أحرى لقبولها، كما جاء ذلك في أكثر من حديث عنه صلى الله عليه وسلم.
فأي الفريقين أولى بالاتباع، وأقرب إلى الصواب؟ أهم أولئك الذين يصومون الإثنين من كل أسبوع ويعيشون ذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل لحظة من لحظات حياتهم بمتابعته والصلاة والسلام عليه كلما ذكر. أم أولئك الذين لا يعرفون ذكراه إلا يوما واحدا في السنة بلا هدى، ولا كتاب مبين. {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) .
دفع توهم:
وإذا كان القرآن والسنة النبوية وما جاء عن سلف الأمة وعلى رأسهم الصحابة قد دل على التحذير من البدع وأن هذه الأمور التي ذكرناها آنفا بما فيها الاحتفال بالموالد دخيلة على الدين فإن ثمة سؤالا مفاده: ما هي
__________
(1) سورة الأنعام الآية 81(16/165)
الشبه والأدلة التي تشبث بها المبتلون بحب هذه البدع؟ والجواب على ذلك أن نقول: إن هذه الشبه لا تخرج عن أمرين، إما نصوص صحيحة يحرفون فيها الكلم عن مواضعه ويصرفونها عن معانيها الحقيقية وإما أحاديث واهية أو موضوعة شحنوا بها كتبهم ونسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبا وزورا.
مثال ذلك حديث «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، (1) » وحديث «اختلاف أمتي رحمة» وحديث «توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم» وغير ذلك من الأحاديث الملفقة والتي تصدى لها علماء السنة بالبحث والتنقيب وبينوا عللها وخطورتها وما تنطوي عليه تلك الأحاديث المنكرة من المعاني الخطيرة والدس الرخيص على الإسلام، وإتاحة الفرص لنيل الأعداء من الإسلام، ولكن الله قيض لهذه الأمة من طهر أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم من الدخيل وذلك بعلم الإسناد الذي لا شك أنه من أعظم ما ميز الله به هذه الأمة. قال عبد الله بن المبارك -رحمه الله-: (لولا الإسناد لقال في السنة من شاء ما شاء) .
ولما كانت هذه الأحاديث التي تعلقوا بها كثيرة فإني لن أتوسع في سردها وإنما أحيل إلى كتب السنة وما ألف في خدمتها ففيها غنية لمن رزقه الله العقل وحسن البصيرة ولكن الذي سنلقي عليه الضوء بشيء من الكشف والبيان هي تلك النصوص التي صرفوها عن ظاهرها زاعمين أنها تؤيد ما أحدثوه من البدع، منها:
أولا: حديث جرير بن عبد الله البجلي -رضي الله عنه- الذي رواه مسلم في صحيحه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/379) .(16/166)
ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء (1) » .
فقد تمسكوا بلفظة «من سن في الإسلام سنة حسنة (2) » وفرعوا على ذلك الفهم أن البدع قسمان، بدعة حسنة وبدعة قبيحة ففسروا السنة هنا بالبدعة وكأن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: من سن أي من أحدث وابتدع، وهذا مردود من أربعة وجوه.
الوجه الأول: سبب ورود الحديث، فقد قال جرير -رضي الله عنه-: «كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه قوم عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى فيهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالا فأذن، وأقام فصلى ثم خطب فقال: إلى آخر الآية والآية التي في الحشر.
تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة) . قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سن. . وذكر الحديث (6) » . فقد ظهر أن سبب ورود الحديث هو حاجة هؤلاء القوم، لذا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة فبادر هذا الصحابي بصدقته وتبعه الناس في ذلك على أمر أمره به النبي صلى الله عليه وسلم فضلا عما ورد في القرآن من الحث على الصدقة، فهذه القصة نفسها تنقض مفهومهم الخاطئ.
__________
(1) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، سنن ابن ماجه المقدمة (203) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (514) .
(2) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، سنن ابن ماجه المقدمة (203) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (514) .
(3) رواه مسلم في ''الزكاة''، باب الحث على الصدقة وأنواعها وأنها حجاب من النار.
(4) سورة النساء الآية 1 (3) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}
(5) سورة النساء الآية 1 (4) {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}
(6) سورة الحشر الآية 18 (5) {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}(16/167)
الوجه الثاني: ما تقدم من الفرق بين السنة والبدعة من أن السنة هي الطريق المتبع والبدعة هي الإحداث في الدين، هذا المفهوم هو الذي عليه علماء الأمة خلفا عن سلف ولم ينقل عن أحد منهم أنه فسر السنة الحسنة بالبدعة التي يحدثها الناس من عند أنفسهم ولم ينزل الله بها من سلطان.
الوجه الثالث: فهم السلف قاطبة من قوله صلى الله عليه وسلم: «من سن سنة (1) » أي أحيا سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم حين يميتها الناس ويتبعه الناس في هذا الإحياء الذي دعاهم إليه يوضح ذلك حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- الذي رواه مسلم فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيء (2) » فإن قوله: من دعا إلى هدى تفسير لما أجمل في قوله من سن سنة حسنة، وبالمقابل «من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيء (3) » . وقد دلت الأحاديث على أن كل بدعة ضلالة بدون استثناء لأي نوع من البدع فمن دعا إلى بدعة محدثة في الدين فقد دعا إلى ضلالة سواء سماها بدعة حسنة أو لم يسمها كذلك.
الوجه الرابع: قالوا: بأن البدعة قسمان - حسنة وقبيحة - وهو تقسيم من عند أنفسهم ولمحض عقولهم الفاسدة، ونحن نوجه إليهم هذا السؤال: كيف نعرف أن هذا العمل حسن أو قبيح؟ وبالطبع سيجيب كل عاقل بأن الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع ولا يعرف هذا إلا بالرجوع إلى الكتاب والسنة، فيقال لهم حينئذ: إن الكتاب والسنة قد دلا على ذم البدع كما تقدم في الأدلة، فما وجه تقسيمكم هذا؟
__________
(1) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن الترمذي العلم (2675) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، سنن ابن ماجه المقدمة (203) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (512) .
(2) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .
(3) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .(16/168)
ثانيا: يستدل كثير من أهل البدع بما يروى عن عمر -رضي الله عنه- من قوله: نعمت البدعة هذه ردا على من أنكر عليه أمره الناس بصلاة التراويح جماعة في المسجد خلف أبي بن كعب يستدلون بهذه القصة توهما منهم أن ما فعله عمر بدعة، وهذا باطل من وجوه. .
الوجه الأول: أن عمر -رضي الله عنه- لم يفعل بدعة وإنما فعل سنة كان النبي صلى الله عليه وسلم قد فعلها ثم تركها خشية أن تفرض على الأمة كما بين صلى الله عليه وسلم ذلك ولم ينه الناس عن فعلها مما يؤكد بقاء سنيتها.
الوجه الثاني: أنه قال هذه الجملة على سبيل المجاز فتسميتها بدعة باعتبار أنها لم تفعل في عهد أبي بكر -رضي الله عنه- تجوزا لأن عمر هو الذي بدأ إحياء هذه السنة خصوصا وقد زالت علة خشية الفرضية بانتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى.
الوجه الثالث: ربما قال عمر ذلك تهكما بمن قال له إنك فعلت بدعة فلعلم عمر أنها ليست بدعة رد عليه بهذه الجملة على سبيل الإنكار.
هذا وهناك شبه أخرى قد يتعلقون بها ولو تأملناها لوجدناها لا تخرج عن هذا الإطار الذي هو تحميل النصوص ما لا تحتمل من المعاني الفاسدة الباطلة.
وهناك تقسيمات للبدع ذكرها القرافي وغيره لا نجد لها مستندا أو معيارا صحيحا يمكن أن يؤخذ به كتقسيمهم البدع إلى حقيقية وإضافية، أو حسنة وسيئة، أو كلية وجزئية، أو بسيطة ومركبة، أو فعلية وتركية، أو غير ذلك من التقسيمات المصطنعة المتكلفة التي لا تستند إلى دليل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(16/169)
صفحة فارغة(16/170)
من أعلام المجددين
الشيخ الإمام
محمد بن عبد الوهاب
حياته دعوته ثمرات دعوته
بقلم: د. صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
التعريف بشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-:
هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن مشرف النجدي التميمي، ولد سنة 1115 هـ، ونشأ في بيت علم. فوالده من علماء البلاد وتولى القضاء في عدة جهات، وجده الشيخ سليمان كان عالما جليلا وإماما في الفقه وهو المفتي في البلاد في وقته، وقد تخرج على يديه عدد كثير من العلماء وطلبة العلم. وعمه الشيخ إبراهيم بن سليمان كان من أجلة العلماء فنشأ الشيخ محمد في هذا الجو العلمي وكان حاد الذهن متوقد الذكاء سريع الحفظ، حفظ القرآن الكريم قبل سن العاشرة، ودرس على والده كتب الفقه الحنبلي. وكان كثير المطالعة والقراءة للكتب إلى جانب قراءته على والده، فقرأ في كتب التفسير والحديث والأصول، وعني عناية خاصة بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وكتب العلامة ابن القيم، وكان لكتب هذين الإمامين أكبر الأثر في تكوين شخصيته العلمية المتميزة والأخذ بيده إلى مصادر العلم الصحيحة، فتكون لديه الاتجاه السليم منذ صغره وتركزت في قلبه العقيدة الصحيحة وتخرج على كتب هذين الإمامين المحققين.(16/171)
رحلاته: ولما استوعب ما يدرس في بلدته من علوم الفقه والعربية والحديث والتفسير تطلع إلى الزيادة وعزم على الرحلة إلى علماء البلاد المجاورة للاستفادة من علومهم فرحل إلى البصرة وإلى الأحساء وإلى مكة والمدينة والتقى بعلماء تلك البلدان وأخذ عنهم واستحصل على الكتب والمراجع، ولنترك المجال لحفيده الشيخ عبد الرحمن بن حسن ليحدثنا عن تلك الرحلات المباركة.
قال: إنه نشأ في طلب العلم وتخرج على أهله في سن الصبا. ثم رحل لطلب العلم إلى البصرة مرارا وللأحساء ثم إلى المدينة ثم قال في تفصيل ذلك:
فظهر شيخنا بين أبيه وعمه. فحفظ القرآن وهو صغير وقرأ في فنون العلم وصار له فهم قوي وهمة عالية في طلب العلم. فصار يناظر أباه وعمه في بعض المسائل بالدليل على بعض الروايات عن الإمام أحمد والوجوه عن الأصحاب. فتخرج عليهما في الفقه وناظرهما في مسائل قرأها في الشرح الكبير والمغني والإنصاف لما فيها من مخالفة ما في متن المنتهى، والإقناع - وعلت همته إلى طلب التفسير والحديث. فسافر إلى البصرة غير مرة كل مرة يقيم بين من كان بها من العلماء فأظهر الله له من أصول الدين ما خفي على غيره. وكذلك ما كان عليه أهل السنة في توحيد الأسماء والصفات والإيمان - إلى أن قال: فصنف في البصرة كتاب التوحيد الذي شهد له بفضله بتصنيفه القريب والبعيد، أخذه من الكتب التي في مدارس البصرة من كتب الحديث - إلى أن قال: ثم إن شيخنا -رحمه الله تعالى- بعد رحلته إلى البصرة وتحصيل ما حصل بنجد رحل إلى الأحساء وفيها فحول العلماء منهم عبد الله بن فيروز أبو محمد الكفيف، ووجد عنده من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم(16/172)
ما سر به، وأثنى على عبد الله هذا بمعرفته بعقيدة الإمام أحمد، وحضر مشائخ الأحساء ومن أعظمهم عبد الله بن عبد اللطيف القاضي فطلب منه أن يحضر الأول من فتح الباري على البخاري ويبين له ما غلط فيه الحافظ في مسألة الإيمان وبين أن الأشاعرة خالفوا ما صدر به البخاري كتابه من الأحاديث والآثار، وبحث معهم في مسائل وناظر، وهذا أمر مشهور يعرفه أهل الأحساء وغيرهم من أهل نجد - إلى أن قال: ثم إن شيخنا -رحمه الله تعالى-، وقد تبين له بما فتح الله تعالى عليه ضلال من ضل باتخاذ الأنداد وعبادتها من دون الله في كل قطر وقرية إلا من شاء الله، فلما قضى الحج وقف في الملتزم وسأل الله تعالى أن يظهر هذا الدين بدعوته وأن يرزقه القبول من الناس، فخرج قاصدا المدينة مع الحاج يريد الشام فعرض له بعض سراق الحجيج فضربوه وسلبوه وأخذوا ما معه وشجوا رأسه وعاقه ذلك عن سيره مع الحجاج فقدم المدينة بعد أن خرج الحاج منها فأقام بها وحضر عند العلماء إذ ذاك منهم / الشيخ محمد حياة السندي وأخذ عنه كتب الحديث إجازة في جميعها وقراءة لبعضها ووجد فيها بعض الحنابلة (1) فكتب كتاب الهدي لابن القيم بيده وكتب متن البخاري وحضر في النحو وحفظ ألفية ابن مالك.
حدثني بذلك حماد بن حمد عنه -رحمهما الله-، ثم رجع إلى نجد وهم على الحالة التي لا يحبها الله - انتهى المقصود (2) .
فأنت ترى أيها القارئ من هذا السياق قوة الأسباب التي بذلها الشيخ لتحصيل العلم:، كثرة الحفظ وكثرة القراءة والاطلاع وكثرة الرحلات في طلب العلم للتلقي عن العلماء مع شدة الذكاء والنية الصالحة - إن هذه الأسباب مع توفيق الله تعالى كفيلة بتوفر التحصيل وهذا ما حصل.
__________
(1) منهم الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف وابنه.
(2) الدرر السنية 9 \ 215 - 216.(16/173)
حالة المسلمين عند ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب: لقد ذكر المؤرخون كابن غنام وابن بشر، وغيرهما عن حالة أهل نجد خصوصا - والعالم الإسلامي عموما - الشيء الكثير من ظهور البدع والخرافات والشركيات والجهل بحقيقة الدين الصحيح. ففي نجد كانت القبور والأشجار والأحجار والمغارات تعبد من دون الله بأنواع من القربات، وفي الحجاز واليمن وغيرها من البلاد من ذلك الشيء الكثير، يقول العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني في قصيدة له يصف المظاهر الشركية في البلاد الإسلامية وهو معاصر للشيخ محمد وقد وصف ما يفعل ويمارس حول القبور من الشرك الأكبر ويثني على دعوة الشيخ:
وقد جاءت الأخبار عنه بأنه ... يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي
وينشر جهرا ما طوى كل جاهل ... ومبتدع منه فوافق ما عندي
ويعمر أركان الشريعة هادما ... مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد
أعادوا بها معنى سواع ومثله ... يغوث وود بئس ذلك من ود
وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالصمد الفرد
وكم عقروا في سوحها من عقيرة ... أهلت لغير الله جهرا على عمد
وكم طائف حول القبور مقبل ... ومستلم الأركان منهن باليد
ويقول الإمام الشوكاني وهو من المعاصرين لدعوة الشيخ أيضا- يقول في وصف ما يفعل عند القبور من الشرك: وكم قد سرى عند تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام. منها اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام، وعظم ذلك فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر فجعلوها مقصدا لطلب قضاء الحوائج وملجأ لنجاح(16/174)
المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم وشدوا إليها الرحال وتمسحوا بها واستغاثوا، وبالجملة إنهم لم يدعوا شيئا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ومع المنكر الشنيع والكفر الفظيع لا نجد من يغضب لله ويغار حمية للدين الحنيف لا عالما ولا متعلما ولا أميرا ولا وزيرا ولا ملكا، وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيرا من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه حلف بالله فاجرا - فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني تلعثم وتلكأ وأبى واعترف بالحق، وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال إنه تعالى ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة، فيا علماء الدين ويا ملوك المسلمين أي رزء للإسلام أشد من الكفر، وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله، وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة، وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجبا:
لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نارا نفخت بها أضاءت ... ولكن أنت تنفخ في رماد
انتهى (1) .
وقد ألف كل من هذين الإمامين رسالة في التحذير من هذا الشرك الذي فشا في البلدان في عصرهما فألف الصنعاني رسالة اسمها تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد، وألف الشوكاني رسالة اسمها شفاء الصدور بتحريم البناء على القبور. وكلتا الرسالتين مطبوع ومتداول. وفي هذا الجو المظلم ظهر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بالعقيدة السليمة والدعوة المستقيمة- ونسوق الآن عقيدته التي كتبها لمن سأله عنها:
__________
(1) نيل الأوطار (4 \ 90) .(16/175)
عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: قال -رحمه الله- جوابا لمن سأله عن عقيدته (1) :
بسم الله الرحمن الرحيم
أشهد الله ومن حضرني من الملائكة وأشهدكم أني أعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره، ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، بل أعتقد أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه، ولا أحرف الكلم عن مواضعه ولا ألحد في أسمائه وآياته، ولا أكيف ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه لأنه تعالى لا سمي له ولا كفو له ولا ند له ولا يقاس بخلقه فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلا وأحسن حديثا. فنزه نفسه عما وصفه به المخالفون من أهل التكييف والتمثيل وعما نفاه عنه النافون من أهل التحريف والتعطيل فقال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (2) {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} (3) {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (4) والفرقة الناجية وسط في باب أفعاله تعالى بين القدرية والجبرية.
وهم وسط في باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية، وهم وسط في باب الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، وهم وسط في باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج، وأعتقد أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، وأنه تكلم به حقيقة وأنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين
__________
(1) انظر الدر السنية (1 \ 28 -30) .
(2) سورة الصافات الآية 180
(3) سورة الصافات الآية 181
(4) سورة الصافات الآية 182(16/176)
عباده نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأؤمن بأن الله فعال لما يريد. ولا يكون في ملكه شيء إلا بإرادته ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المحدود، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور، وأعتقد الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت. فأؤمن بفتنة القبر ونعيمه وبإعادة الأرواح إلى الأجساد، فيقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلا. تدنو منهم الشمس وتنصب الموازين وتوزن بها أعمال العباد {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (2) .
وتنشر الدواوين. فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله، فأؤمن بحوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعرصة القيامة ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا. وأؤمن بأن الصراط منصوب على شفير جهنم يمر به الناس على قدر أعمالهم. وأؤمن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أول شافع وأول مشفع ولا ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل البدع والضلال، ولكنها لا تكون إلا بعد الإذن والرضى، كما قال تعالى {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} (3) وقال تعالى {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (4) وقال تعالى {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (5) وهو لا يرضى إلا التوحيد، ولا يأذن إلا لأهله، وأما المشركون فليس لهم من الشفاعة نصيب كما قال تعالى {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (6) .
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 102
(2) سورة المؤمنون الآية 103
(3) سورة الأنبياء الآية 28
(4) سورة البقرة الآية 255
(5) سورة النجم الآية 26
(6) سورة المدثر الآية 48(16/177)
وأؤمن بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما اليوم موجودتان، وأنهما لا يفنيان، وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته، وأؤمن بأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته، وأن أفضل أمته أبو بكر الصديق ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى، ثم بقية العشرة ثم أهل بدر، ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة -رضي الله عنهم-، وأتولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذكر محاسنهم وأترضى عنهم وأستغفر لهم وأكف عن مساويهم، وأسكت عما شجر بينهم وأعتقد فضلهم عملا بقوله تعالى {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1) .
وأترضى عن أمهات المؤمنين المطهرات من كل سوء، وأقر بكرامات الأولياء وما لهم من المكاشفات. إلا أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئا، ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله. ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكني أرجو للمحسن وأخاف على المسيء، ولا أكفر أحدا من المسلمين بذنب ولا أخرجه من دائرة الإسلام، وأرى الجهاد ماضيا مع كل إمام برا كان أو فاجرا، وصلاة الجماعة خلفهم جائزة. والجهاد ماض منذ بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته وحرم الخروج
__________
(1) سورة الحشر الآية 10(16/178)
عليه، وأرى هجر أهل البدع ومباينتهم حتى يتوبوا، وأحكم عليهم بالظاهر وأكل سرائرهم إلى الله، وأعتقد أن كل محدثة في الدين بدعة. وأعتقد أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وهو بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق،.
وأرى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه الشريعة المحمدية الطاهرة فهذه عقيدة وجيزة حررتها وأنا مشتغل البال لتطلعوا على ما عندي- والله على ما نقول وكيل. . . . انتهى. وبهذا يعلم أن عقيدته -رحمه الله- هي عقيدة السلف الصالح، وأنه بريء مما نسبه إليه أعداء الدين في أنه على مذهب الخوارج.(16/179)
بدء دعوة الشيخ محمد -رحمه الله -:
في وسط هذا الجو المظلم الذي سبق وصفه سطعت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ورفع صوته منكرا هذا الشرك داعيا الناس إلى التوحيد الذي بعث الله به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم فلقي من الناس ما يلقاه أمثاله من الدعاة إلى الله من الأذى، وأطاعه من وفقه الله لقبول الحق. يقول حفيده الشيخ عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله-: ثم رجع إلى نجد وهم على الحالة التي لا يحبها الله ولا يرضاها من الشرك بعبادة الأموات والأشجار والأحجار والجن. فقام فيهم يدعوهم إلى التوحيد وأن يخلصوا العبادة بجميع أنواعها لله، وأن يتركوا ما كانوا يعبدونه من قبر أو طاغوت أو شجر أو حجر والناس يتبعه الواحد منهم والاثنان فصاح به الأكثرون وحذروا منه الملوك وأغروهم بعداوته. انتهى (1) .
__________
(1) الدرر السنية (9 \ 216) .(16/179)
وهذا لا يعني أنه لا يوجد في هذا العصر علماء بل يوجد منهم الكثير ولكن هم ما بين مستحسن لهذا الوضع السيئ أو غير مستحسن له، لكنه لا يملك الشجاعة لمقاومته.(16/180)
أصول دعوة الشيخ -رحمه الله-:
لقد أوضح أصول دعوته في رسائله حيث قال (1) :
1 - أما ما نحن عليه من الدين فعلى دين الإسلام الذي قال الله فيه {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) .
2 - وأما ما دعونا الناس إليه فندعوهم إلى التوحيد الذي قال الله فيه خطابا لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (3) وقوله تعالى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (4) .
3 - وأما ما نهينا الناس عنه فنهيناهم عن الشرك الذي قال الله فيه {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (5) وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على سبيل التغليط وإلا فهو منزه هو وإخوانه عن الشرك. {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (6) {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (7) وغير ذلك من الآيات.
4 - ونقاتلهم عليه كما قال الله تعالى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (8)
__________
(1) الدرر السنية (1 \ 62 - 64) .
(2) سورة آل عمران الآية 85
(3) سورة يوسف الآية 108
(4) سورة الجن الآية 18
(5) سورة المائدة الآية 72
(6) سورة الزمر الآية 65
(7) سورة الزمر الآية 66
(8) سورة البقرة الآية 193(16/180)
أي شرك، ثم ساق الأدلة على ذلك إلى أن قال:
5 - وأما ما ذكرتم من حقيقة الاجتهاد فنحن مقلدون للكتاب والسنة وصالح سلف الأمة وما عليه الاعتماد من أقوال الأئمة الأربعة أبي حنيفة النعمان بن ثابت ومالك بن أنس ومحمد بن إدريس الشافعي وأحمد بن حنبل -رحمهم الله-.
6 - وما جئنا بشيء يخالف النقل ولا ينكره العقل. . . نقاتل عباد الأوثان كما قاتلهم صلى الله عليه وسلم ونقاتلهم على ترك الصلاة وعلى منع الزكاة كما قاتل مانعها صديق هذه الأمة أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-. انتهى.
وقال في رسالة أخرى من رسائله (1) :
7 - وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول ثم بعدما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله فهذا الذي أكفره، وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك.
8 - وأما القتال فلم نقاتل أحدا إلا دون النفس والحرمة، فإنا نقاتل على سبيل المقابلة {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (2) .
وكذلك من جاهر بسب دين الرسول بعدما عرفه. وقال أيضا (3) .
9 - وأيضا ألزمت من تحت يدي بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وغير
__________
(1) الدرر السنية (1 \ 56) .
(2) سورة الشورى الآية 40
(3) الدرر السنية (1 \ 54) .(16/181)
ذلك من فرائض الله ونهيتهم عن الربا وشرب المسكر وأنواع المنكرات.(16/182)
المراحل التي مرت بها دعوة الشيخ محمد رحمه الله:
بدأ الشيخ دعوته في بلدة حريملاء لوجود والده فيها، ولكن لما كانت الظروف غير مواتية ترك هذه البلدة بحثا عن غيرها فاتجه إلى العيينة واتصل بأميرها عثمان بن معمر فساعده في أول الأمر واجتمع حوله طلبة وبدأ بتنفيذ الأحكام الشرعية فهدم بعض القباب الشركية ورجم في الزنا.
ثم إن ابن المعمر تخلى عنه خوفا من تهديد بعض الرؤساء، فترك الشيخ العيينة وبحث عن غيرها فاتجه إلى الدرعية واتصل بأميرها محمد بن سعود وعرض عليه دعوته فقبلها وبايعه على مناصرته وصدق في ذلك.
وهناك استقر الشيخ -رحمه الله- وانعقدت حوله حلق الدروس ووفد إليه الطلاب من مختلف الجهات. وتكونت في هذه البلدة ولاية إسلامية أميرها الإمام محمد بن سعود وموجهها / الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وامتدت الدعوة إلى البلاد المجاورة ونشأ الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة التوحيد وقمع الشرك. وما هي إلا فترة وجيزة حتى انتشرت الدعوة وتوحدت جميع البلدان النجدية تحت رايتها. وامتدت فيما بعد ذلك إلى الحجاز وعسير وشمال الجزيرة، وكان ذلك بفضل الله وحده ثم مؤازرة آل سعود لهذه الدعوة المباركة، وصدق الله وعده {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (2) {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} (3)
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة الصافات الآية 173
(3) سورة الحج الآية 40(16/182)
المراجع التي يعتمد عليها الشيخ -رحمه الله- وعلماء الدعوة من بعده والمنهج الذي يسيرون عليه في الفتوى وأخذ المسائل:(16/182)
المراجع التي يعتمد عليها علماء الدعوة هي:
1 - القرآن الكريم وتفاسيره المعتمدة.
2 - السنة النبوية وشروحها.
3 - كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه وابن القيم وغيرها من كتب السلف في سائر الفنون.
4 - كتب المذاهب الأربعة وبالأخص كتب المذهب الحنبلي وما ترجح بالدليل من غيره.
يقول الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1) :
مذهبنا في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة وطريقتنا طريقة السلف وهي أنا نقر آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها.
ونحن أيضا في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ولا ننكر على من قلد أحد الأئمة الأربعة.
ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق ولا أحد لدينا يدعيها. إلا أننا في بعض المسائل إذا صح لنا نص جلي من كتاب أو سنة غير منسوخ ولا مخصص ولا معارض بأقوى منه وقال به أحد الأئمة الأربعة أخذنا به وتركنا المذهب كإرث الجد والإخوة، فإنا نقدم الجد بالإرث وإن خالف مذهب الحنابلة.
ولا مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض فلا مناقضة لعدم دعوى الاجتهاد وقد سبق جمع من أئمة المذاهب الأربعة إلى اختيارات لهم في بعض المسائل مخالفين للمذهب الملتزمين تقليد صاحبه.
ثم إنا نستعين على فهم كتاب الله بالتفاسير المتداولة المعتبرة ومن
__________
(1) الدرر السنية (1 \ 126) .(16/183)
أجلها لدينا تفسير ابن جرير ومختصره لابن كثير الشافعي وكذا البغوي والبيضاوي والخازن والحداد والجلالين وغيرهم.
وعلى فهم الحديث بشروح الأئمة المبرزين كالعسقلاني والقسطلاني على البخاري والنووي على مسلم والمناوي على الجامع الصغير، ونحرص على كتب الحديث. خصوصا الأمهات الست وشروحها ونعتني بسائر الكتب في سائر الفنون أصولا وفروعا وقواعد وسيرا ونحوا وصرفا وجميع علوم الأمة.
هذا وعندنا أن الإمام ابن القيم وشيخه إماما حق من أهل السنة وكتبهم عندنا من أعز الكتب إلا أنا غير مقلدين لهما في كل مسألة فإن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم ومعلوم مخالفتنا لهما في عدة مسائل منها طلاق الثلاث بلفظ واحد في مجلس فإنا نقول به تبعا للأئمة الأربعة.(16/184)
ثمرات دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- وآثارها:
إن كل دعوة من الدعوات وكل عمل من الأعمال إنما تعرف قيمته من ثمراته المترتبة عليه ومن أثره الذي يتركه. وإن دعوة الشيخ -ولله الحمد- لما كانت دعوة خالصة لله مترسمة منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمدة عليه ومستمدة من الكتاب والسنة صار لها أطيب الأثر واستمر نفعها وبقي أثرها وأنتجت للأمة خيرات كثيرة منها:
1 - قيام دولة إسلامية هي دولة آل سعود الذين آزروا هذه الدعوة وجاهدوا في سبيلها، ولا تزال هذه الدولة -ولله الحمد- تحكم بشريعة الله وتخدم الحرمين الشريفين وتشد أزر المسلمين في كل مكان من بقاع العالم(16/184)
بعمارة المساجد والمراكز الإسلامية والتعليمية وتنشر دعوة الإسلام.
2 - تصحيح العقيدة الإسلامية مما علق بها من الشركيات والبدع والخرافات وإرجاعها إلى منبعها الصافي من كتاب الله وسنة رسوله، وقد طهر الله كل البلاد التي صار لهذه الدعوة المباركة فيها نفوذ وسلطة من جميع مظاهر الشرك والبدع والخرافات.
3 - امتداد أثر هذه الدعوة المباركة خارج بلادها حتى انتفع بها من هدفه الحق في مختلف بلدان العالم الإسلامي في الشام ومصر والمغرب العربي، وإفريقيا والسودان واليمن والعراق والهند والباكستان وإندونيسيا وغيرها.
4 - وجود حركة علمية واعية متحررة من التقليد الأعمى، فانتشر التعليم في المساجد في مختلف مناطق البلاد حتى تخرج منها علماء أفذاذ في حياة الشيخ وبعدها.
قاموا بنشر هذه الدعوة ورعايتها إلى يومنا هذا، ثم أسست لهذا التعليم جامعات إسلامية تخرج الأفواج تلو الأفواج من مختلف العالم الإسلامي مسلحين بالعقيدة الصحيحة والفكر السليم ينتشرون في العالم الإسلامي وغيره للدعوة إلى الله.
5 - نشاط حركة التأليف والنشر، فقد قدم علماء هذه الدعوة للأمة الإسلامية رصيدا من الكتب النافعة في الأصول والفروع ومن ذلك:
1) مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب إمام الدعوة ويتكون مجموعها من اثني عشر مجلدا في الفقه والعقائد والتفسير والحديث والسيرة.
2) مجموع الفتاوى والرسائل لعلماء الدعوة ويتكون من أحد عشر مجلدا.(16/185)
3) كتب ألفها أئمة الدعوة في مختلف العصور للرد على خصوم الدعوة وتبلغ العديد من المجلدات وهي مطبوعة ومتداولة.
4) نشر كتب السلف وتوزيعها على المسلمين في موسم الحج وغيره.
5) نشر كل مفيد من المؤلفات العصرية وتوزيعها مجانا.(16/186)
الشبه التي أثيرت حول دعوة الشيخ والرد عليها:
تعرضت دعوة الشيخ كغيرها من دعوات المصلحين للنقد من قبل خصومها وأثيرت حولها شبهات ربما تروج على من لم يعرف حقيقتها، وقد أثير كثير من هذه الشبهات في حياة الشيخ ورد عليها بنفسه، وأثير البعض الآخر - أو بالأصح- أعيدت إثارة تلك الشبه بعد وفاته، فرد عليها تلامذته وغيرهم من محققي علماء المسلمين الذين لا يروج عليهم البهرج والكذب ولا تأخذهم في الله لومة لائم. ومن هذه الشبه:
1 - قالوا: إنه يبطل كتب المذاهب الأربعة ويقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء.
2 - وأنه يدعي الاجتهاد وأنه خارج عن التقليد وأنه يقول اختلاف العلماء نقمة.
3 - قالوا: إنه يحرم زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وزيارة قبر الوالدين وغيرهما.
4 - وأنه يكفر من حلف بغير الله.
وقد أجاب الشيخ عن هذه بقوله:
جوابي عن هذه المسائل أني أقول: سبحانك هذا بهتان عظيم وقبله من بهت النبي صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى ابن مريم ويسب الصالحين فتشابهت قلوبهم بافتراء الكذب وقول الزور قال تعالى(16/186)
{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} (1) بهتوه صلى الله عليه وسلم بأنه يقول إن الملائكة وعيسى وعزيرا في النار فأنزل الله في ذلك {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (2) انتهى (3) انتهى.
5 - قالوا: إنه ينهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يقول لو أن لي أمرا هدمت قبة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يتكلم في الصالحين وينهى عن محبتهم.
وقد أجاب الشيخ عن ذلك بقوله: هذا كذب وبهتان افتراه علي الشياطين الذين يريدون أن يأكلوا أموال الناس بالباطل (4) .
6 - قالوا: إنه يكفر جميع الناس إلا من اتبعه وأن أنكحتهم غير صحيحة.
وقد أجاب الشيخ عن ذلك بقوله: يا عجبا كيف يدخل هذا في عقل عاقل وهل يقول هذا مسلم، إني أبرأ إلى الله من هذا القول الذي ما يصدر إلا من مختل العقل فاقد الإدراك، فقاتل الله أهل الأغراض الباطلة (5) .
7 - قالوا: إنه يكفر بالعموم ويوجب الهجرة إليه على من قدر إظهار دينه.
وقد أجاب الشيخ عن ذلك بقوله: كل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله، وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالها
__________
(1) سورة النحل الآية 105
(2) سورة الأنبياء الآية 101
(3) الدرر السنية (1 \ 30- 31) .
(4) الدرر السنية (1 \ 52) .
(5) الدرر السنية (1 \ 55) .(16/187)
لأجل جهلهم وعدم من ينبههم فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا أو لم يكفر ويقاتل يعني لم يكفر المسلمين ويقاتلهم {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (1) انظر الدرر (1 \ 66) .
8 - قالوا: إنه ينكر الشفاعة، فرد الشيخ على ذلك بقوله: ثم بعد هذا يذكر لنا أن عدوان الإسلام الذين ينفرون الناس عنه يزعمون أننا ننكر شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فنقول سبحانك هذا بهتان عظيم.
بل نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع صاحب المقام المحمود نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يشفعه فينا وأن يحشرنا تحت لوائه، هذا اعتقادنا وهذا الذي مشى عليه السلف الصالح من المهاجرين والأنصار والتابعين وتابع التابعين والأئمة الأربعة -رضي الله عنهم أجمعين- وهم أحب الناس لنبيهم وأعظمهم في اتباعه وشرعه، فإن كانوا يأتون عند قبره يطلبونه الشفاعة فإن اجتماعهم حجة، والقائل: إنه يطلب منه الشفاعة بعد موته يورد علينا الدليل من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إجماع الأمة والحق أحق أن يتبع. . . . انتهى (2) .
9 - وأما اتهام الشيخ أنه يكفر بالعموم ويقاتل المسلمين، فقد أجاب الشيخ عنه بقوله: وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول ثم بعد ما عرفه سبه ونهى عنه وعادى من فعله فهذا هو الذي أكفر، وأكثر الأمة -ولله الحمد- ليسوا كذلك، وأما القتال فلم نقاتل أحدا إلى اليوم إلا دون النفس والحرمة وهم الذين أتونا في ديارنا ولا أبقوا ممكنا، ولكن قد نقاتل بعضهم على سبيل المقابلة وجزاء سيئة سيئة مثلها، وكذلك من جاهر بسب دين الرسول بعدما عرف فإنا نبين لكم أن هذا هو الحق
__________
(1) سورة النور الآية 16
(2) الدرر السنية (1 \ 46) .(16/188)
الذي لا ريب فيه وأن الواجب إشاعته في الناس وتعليمه الرجال والنساء (1) انتهى.
وقال أيضا لما بين بطلان الذي يفعله القبوريون، فهذا الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس حتى آل بهم الأمر إلى أن كفرونا وقاتلونا واستحلوا دماءنا وأموالنا حتى نصرنا الله عليهم وظفرنا بهم، وهو الذي ندعو الناس إليه ونقاتلهم عليه بعدما نقيم عليهم الحجة من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع السلف الصالح من الأئمة ممتثلين لقوله سبحانه وتعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (2) فمن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان قاتلناه بالسيف والسنان، كما قال تعالى {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (3) انتهى (4) .
وقال ابنه الشيخ عبد الله بن محمد، مجملا هذه الشبه مع الرد عليها:
وأما ما يكذب علينا سترا للحق وتلبيسا على الخلق بأنا نفسر القرآن برأينا ونأخذ من الحديث ما وافق فهمنا من دون مراجعة شرح ولا معول على شيخ، وأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا: النبي رمة في قبره وعصا أحدنا أنفع منه، وليس له شفاعة، وأن زيارته غير مندوبة، وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله حتى أنزل الله عليه {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (5) .
مع كون الآية مدنية، وأنا لا نعتمد على أقوال العلماء ونتلف مؤلفات أهل
__________
(1) الدرر السنية (1 \ 51) .
(2) سورة البقرة الآية 193
(3) سورة الحديد الآية 25
(4) الدرر السنية (1 \ 58) .
(5) سورة محمد الآية 19(16/189)
المذاهب لكون فيها الحق والباطل، وأنا مجسمة، وأنا نكفر الناس على الإطلاق أهل زماننا ومن بعد الستمائة إلا من هو على ما نحن عليه، ومن فروع ذلك أنا لا نقبل بيعة أحد إلا بعد التقرير عليه بأنه كان مشركا وأن أبويه ماتا على الإشراك بالله وأنا ننهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ونحرم زيارة القبور المشروعة مطلقا.
وأن من دان بما نحن عليه سقطت عنه جميع التبعات حتى الديون، وأنا لا نرى حقا لأهل البيت -رضوان الله عليهم- وأنا نجبرهم على تزويج غير الكفء لهم، وأنا نجبر بعض الشيوخ على فراق زوجته الشابة لتنكح شابا إذا ترافعوا إلينا. . . . .
فلا وجه لذلك فجميع هذه الخرافات وأشباهها لما استفهمنا عنها من ذكر أولا (يعني علماء مكة) كان جوابنا في كل مسألة من ذلك سبحانك هذا بهتان عظيم.
فمن روى عنا شيئا من ذلك أو نسبه إلينا فقد كذب علينا وافترى، ومن شاهد حالنا وحضر مجالسنا وتحقق ما عندنا علم قطعا أن جميع ذلك افتراه علينا أعداء الدين وإخوان الشياطين تنفيرا للناس عن الإذعان بإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة وترك أنواع الشرك الذي نص الله عليه بأن الله لا يغفره {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) .
فإنا نعتقد أن من فعل أنواعا من الكبائر كقتل المسلم بغير حق والزنا وشرب الخمر وتكرر منه ذلك أنه لا يخرج بفعله ذلك عن دائرة الإسلام ولا يخلد به في دار الانتقام إذا مات موحدا بجميع أنواع العبادة، والذي نعتقده أن رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المخلوقين على الإطلاق وأنه حي في قبره حياة برزخية أبلغ من حياة الشهداء المنصوص عليها في
__________
(1) سورة النساء الآية 116(16/190)
التنزيل، إذ هو أفضل منهم بلا ريب، وأنه يسمع سلام المسلم عليه وتسن زيارته إلا أنه لا يشد الرحل إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه وإذا قصد مع ذلك الزيارة فلا بأس، ومن أنفق نفيس أوقاته بالاشتغال بالصلاة عليه، -عليه الصلاة والسلام- الواردة عنه فقد فاز بسعادة الدارين وكفي همه وغمه كما جاء في الحديث عنه، ولا ننكر كرامات الأولياء ونعترف لهم بالحق وأنهم على هدى من ربهم مهما ساروا على الطريقة الشرعية والقوانين المرعية، إلا أنهم لا يستحقون شيئا من أنواع العبادات لا حال الحياة ولا بعد الممات، بل يطلب من أحدهم الدعاء في حال حياته بل ومن كل مسلم فقد جاء في الحديث: «دعاء المرء المسلم مستجاب لأخيه (1) » الحديث. وأمر صلى الله عليه وسلم عمر وعليا بسؤال الاستغفار من أويس ففعلا.
ونثبت الشفاعة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة حسب ما ورد، وكذلك نثبتها لسائر الأنبياء، والملائكة، والأولياء والأطفال حسب ما ورد أيضا.
ونسألها من المالك لها والآذن فيها لمن يشاء من الموحدين الذين هم أسعد الناس بها كما ورد بأن يقول أحدنا متضرعا: اللهم شفع نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم فينا يوم القيامة، اللهم شفع فينا عبادك الصالحين أو ملائكتك، أو نحو ذلك مما يطلب من الله لا منهم، فلا يقال يا رسول الله أو يا ولي الله أسألك الشفاعة أو غيرها كأدركني أو أغثني أو اشفني أو انصرني على عدوي ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى فإذا طلب ذلك مما ذكر في أيام البرزخ كان من أقسام الشرك، إذ لم يرد بذلك نص من كتاب أو سنة ولا أثر من السلف الصالح في ذلك، بل ورد الكتاب
__________
(1) رواه مسلم، ولفظه ''دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة'' في الذكر باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب مسلم بشرح النووي، ص 50، المجلد التاسع. ورواه ابن ماجه في المناسك باب فضل دعاء الحاج، تحقيق عبد الباقي، ص 967، ج م.(16/191)
والسنة وإجماع السلف أن ذلك شرك أكبر قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) انتهى.
هذا وقد انبرى كثير من العلماء بعد وفاة الشيخ -رحمه الله- للإجابة عن هذه الشبهات وألفوا في ذلك مؤلفات ضخمة من أشهرها: (1) مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام ونسب إليه تكفير أهل الإسلام في مجلد. وهو للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن من آل الشيخ -رحمهم الله-.
(2) معارج القبول، للشيخ الحسيني بن مهدي النعمي من علماء اليمن في مجلد.
(3) غاية الأماني في الرد على النبهاني للشيخ محمود شكري الآلوسي من علماء العراق وهو في مجلدين.
(4) صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان للشيخ محمد بشير السهواني الهندي في مجلد.
وهكذا يقيض الله سبحانه للحق أنصارا في كل زمان تقوم بهم حجة الله على خلقه، فلله الحمد والمنة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________
(1) الدرر السنية (1 \ 127- 129) .(16/192)
نشأة علم نقد الحديث
للدكتور محمد لقمان السلفي.
1 - الأسباب التي دعت إلى الاهتمام بنقد الحديث:
إن ظهور الإسناد في علم الحديث النبوي كان سببه الأساسي المشكلات التي أثيرت في المجتمعات الإسلامية من قبل بعض الذين دخلوا في الإسلام غير مخلصين، دخلوا فيه لأهداف ولكن بشاشته لم تخالط قلوبهم، بل كانوا يتحينون الفرص للانقضاض على هذا الدين.
وقد اختاروا لأهدافهم المشبوهة طريقة التظاهر بمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم وآل بيته الطاهرين، والكذب عليه -صلوات الله وسلامه عليه-. وقد وجدوا في شمال الجزيرة العربية أرضا خصبة لزرع الفتن وبث السموم وانتحال الكذب فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «الفتنة من هاهنا: الفتنة من هاهنا، الفتنة من هاهنا، من حيث يطلع قرن الشيطان (1) » .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ذكر أهل المدينة وأهل البصرة وأهل الشام وأحاديثهم: وأما أهل الكوفة فلم يكن الكذب في أهل بلد
__________
(1) راجع البخاري 6 \ كتاب الطلاق، 8 \ 95 كتاب الفتن 4 \ 153، 156 كتاب المناقب. وصحيح مسلم 4 \ 2228، 2229، كتاب الفتن، باب الفتنة من الشرق، حديث 45 \ 46 \ 47 \ 48 \ 49 / 50، وترتيب المسند 24 \ 18 باب ذكر الجهة التي تجيء منها الفتن. وقد رواه الترمذي من طريق الزهري عن سالم عن أبيه وقال حسن صحيح.(16/193)
أكثر منه فيهم. ففي زمن التابعين كان بها خلق كثيرون منهم، معروفون بالكذب، لا سيما الشيعة فإنهم أكثر الطوائف كذبا باتفاق أهل العلم.
ولأجل هذا يذكر عن مالك وغيره من أهل المدينة أنهم لم يكونوا يحتجون بعامة أحاديث أهل العراق، لأنهم قد علموا أن فيهم كذابين ولم يكونوا يميزون بين الصادق والكاذب (1) .
وكان الرافضة ينتحلون الكذب على أهل البيت. وبالأخص عبد الله بن سبأ الذي وضع لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي بالخلافة، وأنه ظلم ومنع حقه. وقال: إنه كان معصوما. وغرض الزنادقة بذلك هدم الإسلام (2) .
وحدثت بدعة الخوارج المتعلقة بالإمامة والخلافة وتوابع ذلك من الأعمال والأحكام الشرعية. ثم كانت خلافة معاوية -رضي الله عنه- ووجد في عصره -رضي الله عنه- ما وجد من المشكلات والخلافات، فلما توفي معاوية -رضي الله عنه- جاءت إمارة يزيد، وجرت فيها فتنة قتل الحسين بالعراق وفتنة أهل الحرة بالمدينة وحصر مكة عند قيام عبد الله بن الزبير. ثم مات يزيد وتفرقت الأمة: ابن الزبير بالحجاز، وبنو الحكم بالشام ووثب مختار بن أبي عبيد وغيره بالعراق وذلك في أواخر عصر الصحابة. وحدثت بدعة القدرية والمرجئة فردها بقايا الصحابة مع ما كانوا يردونه من بدعة الخوارج والروافض. وظهر ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: «ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل ولا يستشهد ويحلف ولا يستحلف (3) »
__________
(1) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 20 \ 216.
(2) الفتاوى 22 \ 367.
(3) الترمذي كتاب الشهادات 6 \ 588 وكتاب الفتن 6 \ 289 باب في لزوم الجماعة عن عمر بن الخطاب موقوفا. وقد رواه ابن ماجه مرفوعا في كتاب الأحكام 2 \ 791.(16/194)
وحدثت ثلاثة أشياء: الميل إلى الرأي، والكلام، والتصوف. وحدث التجهم وهو نفي الصفات، وحدث بإزائه التمثيل.
وكذلك المبتدعة والمنحرفون كانوا يبحثون عن مستندات عن النصوص يعتمدون عليها في كسب أعوان لهم.
وكان جمهور أهل الرأي من الكوفة، إذ هو غالب على أهلها مع ما كان فيهم من التشيع الفاحش وكثرة الكذب في الرواية مع أن في خيار أهلها من العلم والصدق والسنة والفقه والعبادة أمرا عظيما. لكن الغرض أن فيها نشأ كثرة الكذب في الرواية (1) فقد روي عن عبيد الله بن عياض بن عمرو القاري أنه قال: جاء عبد الله بن شداد فدخل على عائشة رضي الله عنها ونحن عندها جلوس، مرجعه من العراق ليالي قتل علي، فقالت له يا عبد الله بن شداد: هل أنت صادق عما أسألك عنه، تحدثني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي؟ قال: وما لي لا أصدقك؟ قالت فحدثني عن قصتهم إلى أن قالت: فما قول علي حين قام عليه، كما يزعم أهل العراق؟ قال سمعته يقول: صدق الله ورسوله. قالت: هل سمعت منه أنه قال غير ذلك؟ قال اللهم لا، قالت: أجل، صدق الله ورسوله، يرحم الله عليا إنه كان من كلامه لا يرى شيئا يعجبه إلا قال: صدق الله ورسوله فيذهب أهل العراق يكذبون عليه ويزيدون في الحديث (2) .
وقد روى ابن سعد عن سليمان بن الربيع أنه دخل هو ونفر من أصحابه من أهل البصرة على عبد الله بن عمرو بن العاص، فطلبوا منه أن يحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: ممن أنتم؟ قالوا: من أهل
__________
(1) راجع الفتاوى 1 \ 356، 57، 58
(2) ترتيب المسند 23 \ 159 - 160 أبواب ما جاء في خلافة علي بن أبي طالب.(16/195)
العراق. قال: إن من أهل العراق قوما يكذبون ويكذبون ويسخرون (1) وقد قال عبد الرحمن بن مهدي لمالك: يا أبا عبد الله، سمعنا في بلدكم المدينة أربع مائة حديث في أربعين يوما ونحن في العراق في يوم واحد نسمع هذا كله. فقال له: يا عبد الرحمن ومن أين لنا دار الضرب التي عندكم (2) .
وعن النعمان بن راشد قال: سمعت الزهري يحدث بحديث زيد بن أنيسة فقلت: يا أبا بكر، من حدثك بهذا؟ قال: أنت حدثتنيه، ممن سمعته؟ فقلت رجل من أهل الكوفة قال: أفسدته، إن في حديث أهل الكوفة دغلا كثيرا (3) .
وقال الحسن بن الربيع: سمعت ابن المبارك يقول: ما دخلت الشام إلا لأستغني عن حديث أهل الكوفة (4) .
وقال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: سمعت عبد الله بن إدريس الكوفي (5) يقول: قلت لأهل الكوفة: يا أهل الكوفة، إنما حديثكم الذي تحدثونه في الرخصة في النبيذ، عن العميان والعوران والعمشان، أين أنتم عن أبناء المهاجرين والأنصار (6) .
ولم يكن الزنادقة أقل نصيبا في الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم فعبد الكريم ابن أبي العوجاء (7) وضع أحاديث كثيرة بأسانيد يغتر بها من لا معرفة له
__________
(1) طبقات ابن سعد 4 \ 267.
(2) منهاج السنة \ 88.
(3) الجامع للخطيب جـ 2 ص344.
(4) الجامع للخطيب البغدادي ج 2 ص 344.
(5) من الثامنة ثقة فقيه عابد، راجع التقريب
(6) السنن الكبرى 8 \ 306.
(7) زنديق مغتر قتله محمد بن سليمان العباسي الأمير بالبصرة (راجع ميزان الاعتدال رقم 1567 في 2 \ 104) .(16/196)
بالجرح والتعديل، وفي بعضها تغيير أحكام الشريعة وهو الذي أفسد على الرافضة صوم رمضان بالهلال. وردهم عن اعتبار الأهلة بحساب وضعه لهم ونسب ذلك الحساب إلى جعفر الصادق. ورفع خبر هذا الضال إلى جعفر محمد بن سليمان عامل المنصور على الكوفة فأمر بقتله فقال: لن يقتلوني، لقد وضعت أربعة آلاف حديث أحللت بها الحرام وحرمت بها الحلال وفطرت الرافضة في يوم من أيام صيامهم وصومتهم في يوم من أيام فطرهم (1) .
واشتهرت كذلك المشبهة الحشوية في وضع الحديث (2) وكذلك النظام المعتزلي طعن في أخبار الصحابة والتابعين من أجل فتاويهم بالاجتهاد وعاب أصحاب الحديث وروايتهم أحاديث أبي هريرة. وزعم أن أبا هريرة كان أكذب الناس. وطعن في الفاروق عمر رضي الله عنه، وزعم أنه شك يوم الحديبية في دينه، وما إلى ذلك من المخالفات التي حكاها عنه المؤرخون في أخبار الصحابة وفي أهل بيعة الرضوان (3)
__________
(1) الفرق بين الفرق \ 274.
(2) الملل والنحل 1 \ 96.
(3) راجع الفرق بين الفرق 147 \ 148.(16/197)
2 - صغار الصحابة يحتاطون في قبول الحديث:
ولذلك نجد أن صغار الصحابة الذين رأوا شيوع الكذب في الحديث النبوي أخذوا يحتاطون ويشددون في قبوله. فقد روى لنا مسلم في مقدمة صحيحه عن قيس بن سعد عن مجاهد قال: جاء بشير العدوي (1) إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) مخضرم ثقة من الثانية \ التقريب(16/197)
فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه فقال: يا ابن عباس: ما لي لا أراك تسمع لحديثي، أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع؟ فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابتدرت أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف (1) .
وقال ابن أبي حاتم حدثنا شعبة عن سمان عن عكرمة سمع ابن عباس يقول إذا حدثنا ثقة عن علي فتيا لم نعده (2) .
وقد أخرج مسلم في مقدمة صحيحه أيضا عن محمد بن سيرين أنه قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم (3) . وابن سيرين من كبار التابعين، وقد استعمل صيغة الجمع للماضي البعيد فلا يكون قصده إلا الصحابة الذين شاهدوا الفتن ورأوا شيوع الكذب.
ولذلك شاعت في زمنهم هذه القاعدة: إن هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذونها.
ومن الدليل على استفحال الأمر وشيوع الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم والدعوة العامة إلى الاحتياط في قبول الحديث ما رواه لنا مسلم في مقدمة صحيحه أيضا عن ربعي بن حراش أنه سمع عليا رضي الله عنه يخطب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكذبوا علي فإنه من يكذب علي يلج النار (4) » .
__________
(1) مقدمة مسلم \ 13
(2) الجرح والتعديل جـ 1 ق1 ص27
(3) مقدمة مسلم \ 15
(4) مقدمة مسلم \ 9(16/198)
فإن ربعي هذا تابعي كبير من الكوفة والغالب على الظن أنه سمع عليا يخطب في الكوفة.
وقال مسلم: حدثنا علي بن ربيعة قال أتيت المسجد والمغيرة أمير الكوفة على المنبر، قال فقال المغيرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن كذبا علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (1) » .
وقد ذكرنا في بحث (البوادر الأولى لنقد الحديث) أن عددا من الصحابة تكلموا في الجرح والتعديل منهم: عبد الله بن عباس (68 هـ) وأنس بن مالك (92 هـ) وعائشة (52 هـ) وعمران بن حصين (52 هـ) وأبو هريرة (59 هـ) وعبد الله بن عمرو بن العاص (65 هـ) وعبد الله بن عمر (73 هـ) وأبو سعيد الخدري (74 هـ) .
__________
(1) مقدمة مسلم \ 10(16/199)
3 - نقد الحديث في دور التابعين:
ثم جاء دور كبار التابعين، وخلفوا هذا العلم من الصحابة، وسلكوا مسلكهم واختاروا سنة نبيهم وسنة أصحابه ورفعوا هذا الصرح بوضع لبنات أخرى؛ لئلا يجترئ كذاب أو منافق أو ملحد من إدخال المكذوبات في السنن النبوية الطاهرة الزكية، وخصوصا بعد أن وجدت فرق ضالة مضلة وآراء ملحدة في دين الله، ومنافقون ظاهرو النفاق يريدون أن يبثوا سمومهم ويجعلوا من هذا الأصل الإسلامي الثاني ظلاما حالكا لا يرى فيه الحق من الباطل.
قال السخاوي: (1) وتكلم في الرجال، كما قاله الذهبي، جماعة من
__________
(1) فتح المغيث 2 \ 318(16/199)
الصحابة ثم من التابعين كالشعبي وابن سرين ولكنه في التابعين بقلة؛ لقلة الضعف في متبوعيهم؛ إذ أكثرهم صحابه عدول وغير الصحابة من المتبوعين أكثرهم ثقات. ولا يكاد يوجد في القرن الأول الذي انقرض في الصحابة وكبار التابعين ضعيف إلا الواحد بعد الواحد كالحارث الأعور (65 هـ) والمختار الكذاب (67 هـ) - وقال أبو حاتم ابن حبان: ثم أخذ مسلكهم (مسلك الصحابة) واستن بسنتهم واهتدى بهديهم فيما استنوا من التيقظ في الروايات جماعة من أهل المدينة من سادات التابعين منهم: سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد بن أبي بكر وسالم بن عبد الله بن عمر وعلي بن الحسين بن علي وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وعبيد الله بن عتبة وخارجة بن زيد بن ثابت وعروة بن الزبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وسليمان بن اليسار. فجدوا في حفظ السنن والرحلة فيها والتفتيش عنها والتفقه فيها (1) .
وقال: ثم أخذ عنه العلم وتتبع الطرق وانتقاء الرجال، ورحل في جمع السنن جماعة بعدهم، منهم: الزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة وسعد بن إبراهيم في جماعة معهم من أهل المدينة إلا أن أكثرهم تيقظا وأوسعهم حفظا وأدومهم رحلة وأعلاهم همة الزهري - رحمة الله عليه (2) .
ومن المعلوم بالضرورة لكل مطلع على حركة سير الحديث النبوي نحو
__________
(1) كتاب المجروحين 1 \ 38
(2) كتاب المجروحين 1 \ 39(16/200)
الجمع والتدوين والتمييز والتنقيح، أنه لم يكن في ذلك العصر خط فاصل بين الجمع والتدوين والنقد والتمييز، فكل من كان إماما في الحديث كان مهتما بالنقد وأصوله ومعرفة أحوال الرواة والانتباه للأسباب والعلل التي كانت تتسبب للوهن في الحديث أو الضعف في الراوي ومروياته.(16/201)
4 - النقد في عصر أتباع التابعين:
ومن هذه الطبقة أخذ كبار التابعين وصغارهم، فمن الكبار بالمدينة مالك بن أنس (93-179 هـ) وبمكة: سفيان بن عيينة (107 \ 198 هـ) وبالكوفة: الثوري (97-161 هـ) وبالبصرة: شعبة (82- 160 هـ) وحماد بن زيد (98- 179 هـ) وبالشام: الأوزاعي (88-158 هـ) ومن الصغار بالكوفة: وكيع بن الجراح (127-197 هـ) وابن نمير (115- 199هـ) وبالبصرة: يحيى بن سعيد القطان (125-198هـ) وعبد الرحمن بن مهدي (125- 198 هـ) وبالشام: أبو إسحاق الفزاري (- 185هـ) وأبو مسمهر (140-218 هـ) وبخراسان: عبد الله بن المبارك (118-181 هـ) .
ذكر ابن حبان البستي جهود التابعين في حفظ الحديث وتنقيته ثم قال: ثم أخذ هؤلاء مسلك الحديث وانتقاء الرجال وحفظ السنن والقدح في الضعفاء جماعة من أئمة المسلمين والفقهاء في الدين.
ثم ذكر الثوري ومالك بن أنس وشعبة والأوزاعي وحماد بن سلمة والليث وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة وقال: إلا أن من أشدهم انتقاء للسنن وأكثرهم مواظبة عليها حتى جعلوا ذلك صناعة لهم لا يولونها بشيء آخر ثلاثة أنفس: مالك والثوري وشعبة (1) .
__________
(1) كتاب المجروحين 1 \ 40.(16/201)
وقال: ثم أخذ عن هؤلاء بعدهم الرسم في الحديث والتنقير عن الرجال والتفتيش عن الضعفاء والبحث عن أسباب النقل جماعة. ثم ذكر ابن المبارك ووكيع بن الجراح وعبد الرحمن بن مهدي ومحمد بن إدريس الشافعي وقال: إلا أن من أكثرهم تنقيرا عن شأن المحدثين وأتركهم للضعفاء والمتروكين- حتى جعلوا هذا الشأن صناعة لهم لم يتعدوها إلى غيرها مع لزوم الدين والورع الشديد والتفقه في السنن - رجلان يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي (1) .
فمن جرحاه لا يكاد يندمل جرحه، ومن وثقاه فهو المقبول ومن اختلفا فيه، وذلك قليل، اجتهد في أمره (2) .
__________
(1) كتاب المجروحين 1 \ 52
(2) فتح المغيث 2 \ 319(16/202)
5 - نبذ عن الأئمة النقاد في عصر التابعين:
ومن المناسب ذكر نبذة عن كل من الذين مرت أسماؤهم حتى يتبين مدى دورهم ومكانتهم في نقد الحديث.
أ- أما مالك: فقد كان إماما في الحديث وقد جرح وعدل.
وقال أحمد بن حنبل: مالك أثبت في كل شيء. وقال يحيى بن سعيد القطان: سألت مالك بن أنس عن إبراهيم بن أبي يحيى كان ثقة؟ قال: لا، ولا ثقة في دينه (1) - وقال عبد الرحمن بن قاسم: سألت مالكا عن ابن سمعان فقال كذاب (2) - وقال ابن وهب: وذكر اختلاف الأحاديث والروايات فقال: لولا أني لقيت مالكا والليث لضللت (3) .
وقد وضع رحمه الله منهاجا دقيقا لتعديل الرواة وجرحهم. فقد ذكر
__________
(1) مقدمة الجرح 19
(2) مقدمة الجرح \ 21
(3) مقدمة الجرح \ 23(16/202)
الرامهرمزي بسنده إليه يقول: لا يؤخذ العلم عن أربعة ويؤخذ ممن سوى ذلك
1 - لا يؤخذ من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه.
2 - ولا من سفيه معلن بالسفه يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3 - ولا من رجل يكذب في أحاديث الناس وإن كنت لا تتهمه أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4 - ولا من رجل له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث (1) .
وقد روى الخطيب بسنده قال: كان مالك بن أنس يقول: لا تأخذ العلم عن أربعة، وخذ ممن سوى ذلك:
1 - لا تأخذ العلم من سفيه معلن بالسفه وإن كان أروى الناس.
2 - ولا تأخذ من كذاب يكذب في أحاديث الناس إذا جرب ذلك عليه وإن كان لا يتهم أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3 - ولا من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه.
4 - ولا من شيخ له فضل وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث.
ب- أما سفيان بن عيينة: فقد قال عبد الرحمن بن مهدي: كان سفيان بن عيينة من أعلم الناس بحديث الحجاز. وقال الشافعي: مالك وسفيان قرينان، وقال ابن حنبل: ما رأيت أحدا كان أعلم بالسنن من سفيان بن عيينة (2) .
ج- وأما سفيان الثوري: فقد قال المبارك: لا أعلم على وجه الأرض أعلم من سفيان الثوري (3) .
__________
(1) المحدث الفاصل \ 403
(2) مقدمة الجرح \ 32- 33
(3) مقدمة الجرح \ 56(16/203)
وقال شعبة: إذا خالفني سفيان في حديث فالحديث حديثه. وقال ابن عيينة: الرجال ثلاثة: ابن عباس في زمانه والشعبي في زمانه والثوري في زمانه (1) . وقال محمد بن يحيى عن محمد بن يوسف قال: كان سفيان الثوري يقول: فلان ضعيف وفلان قوي وفلان لا تأخذوا عنه (2) .
د- وأما شعبة: فقد أجمعوا على إمامته في الحديث وجلالته وتحريه وإتقانه واحتياطه. قال أحمد بن حنبل: كان شعبة أمة وحده في هذا الشأن يعني علم الحديث وأحوال الرواة (3) .
وقال ابن مهدي: شعبة إمام في الحديث (4) وكان سفيان يقول: شعبة أمير المؤمنين في الحديث (5) وقال يحيى بن سعيد: كان شعبة أعلم الناس بالرجال. وقال عبد الرحمن: سمعت أبي يقول: إذا رأيت شعبة يحدث عن رجل فاعلم أنه ثقة إلا نفرا بأعيانهم. قيل لأبي: ألم يكن للثوري بصر بالحديث كبصر شعبة؟ قال: كان الثوري قد غلب عليه شهوة الحديث وحفظه، وكان شعبة أبصر بالحديث وبالرجال. وكان الثوري أحفظ وكان شعبة بصيرا بالحديث جدا فهما كأنه خلق لهذا الشأن (6) . وقال المنهال بن بحر: سمعت شعبة يقول: انظروا عمن تكتبون، اكتبوا عن قرة بن خالد وسليمان بن المغيرة (7) .
وقال عبد الرحمن بن مهدي: قيل لشعبة: متى يترك حديث الرجال؟ قال:
__________
(1) تحذير الخواص \ 115، 116.
(2) تهذيب الأسماء جـ 1 \ ق1 ص 333.
(3) تحذير الخواص \ 115، 116.
(4) تهذيب الأسماء جـ1 \ ق1 \ ص245.
(5) مقدمة الجرح \ 126.
(6) مقدمة الجرح \ 129.
(7) المحدث الفاصل \ 407.(16/204)
1 - إذا روى عن المعروفين ما لا يعرفه المعروفون فأكثر.
2 - وإذا أكثر الغلط.
3 - وإذا اتهم بالكذب.
4 - وإذا روى حديث غلط مجتمع عليه، فلم يتهم نفسه، طرح حديثه وما كان غيره ذلك فارو عنه (1) .
هـ- وأما يحيى بن سعيد القطان: فقد اتفقوا على إمامته وجلالته ووفور حفظه وعلمه وصلاحه. قال أحمد بن حنبل: ما رأيت مثل يحيى بن القطان في كل أحواله.
وقال أيضا: يحيى القطان إليه المنتهى في التثبت بالبصرة وهو أثبت من وكيع وابن مهدي وأبي نعيم ويزيد بن هارون (2) .
وقال عبد الرحمن بن مهدي: هو الذي مهد لأهل العراق رسم الحديث وأمعن في البحث عن الثقات وترك الضعفاء.
وقال أبو الوليد: ما رأيت أحدا كان أعلم بالحديث ولا بالرجال من يحيى بن سعيد (3) .
وقال أبو بكر بن خلاد: قلت ليحيى بن سعيد القطان: أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله عز وجل؟ قال لأن يكون هؤلاء خصمائي أحب إلي من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خصمي، يقول لي: لم لم تذب الكذب عن حديثي (4) .
__________
(1) المحدث الفاصل \ 410
(2) تهذيب الأسماء جـ 1 \ ق1 \ ص 154.
(3) كتاب المجروحين 1 \ 52
(4) تحذير الخواص \ 115- 116.(16/205)
ووأما عبد الرحمن بن مهدي: فهو إمام أهل الحديث في عصره والمعول عليه في علوم الحديث ومعارفه. قال ابن المديني غير مرة: والله لو أخذت وحلفت بين الركن والمقام لحلفت بالله أني لم أر قط أعلم بالحديث من عبد الرحمن بن مهدى.
وقال ابن معين: ما رأيت رجلا أثبت في الحديث من ابن مهدي.
وقال ابن حنبل: كأن ابن مهدي خلق للحديث، وقال ابن المديني: جاء رجل إلى ابن مهدي فقال: يا أبا سعيد إنك تقول: هذا ضعيف، وهذا قوي، وهذا لا يصح فعم تقول ذلك؟ فقال ابن مهدي: لو أتيت الناقد فأريته دراهم ففال هذا جيد، وهذا جيد، وهذا ستوق، وهذا بهرج، أكنت تسأله عم ذلك. أم تسلم الأمر إليه فقال: بل كنت أسلم الأمر إليه فقال ابن مهدي: هذا كذاك، هذا بطول المجالسة والمناظرة والمذاكرة والعلم به (1) .
وقال ابن مهدي: المحدثون ثلاثة: رجل حافظ متقن. وهذا لا يختلف فيه، وآخر يوهم والغالب على حديثه الصحة وهذا لا يترك حديثه والآخر يوهم والغالب على حديثه الوهم فهذا متروك الحديث (2)
__________
(1) راجع تهذيب الأسماء جـ1 \ ق1 ص 305.
(2) المحدث الفاصل \ 406.(16/206)
6 - ظهور التقعيدات العامة للنقد:
وقد أصبحت هذه الأقوال وأخرى أمثالها للأئمة الآخرين من هذه الطبقة بمثابة الشروط والتقعيدات العامة للجرح والتعديل. ومن هذه الأقوال قول سفيان الثوري: لا تأخذوا هذا العلم في الحلال والحرام إلا من الرؤساء المشهورين بالعلم الذين يعرفون الزيادة والنقصان ولا بأس ما سوى ذلك من المشايخ (1) .
__________
(1) الكامل لابن عدي 63- 68.(16/206)
وقال عبد الله بن عون: لا نكتب الحديث إلا ممن كان عندنا معروفا بالطلب (1) .
وقال الشافعي: ويكون المحدث عالما بالسنة، ثقة في دينه، معروفا بالصدق في حديثه، عدلا في ما يحدث، عالما بما يحمل من معاني الحديث بعيدا عن الغلط، أو يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمعه لا يحدث على المعنى.
ويكون حافظا إن حدث من حفظه حافظا لكتابه إن حدث من كتابه: يؤمن أن يكون مدلسا، يحدث عمن لقي بما لم يسمع أو يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بما يحدث الثقات بخلافه عنه صلى الله عليه وسلم ويكون هكذا في حديثه حتى ينتهي بالحديث موصولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أيضا: لا تقبل من مدلس حديثا حتى يقول: سمعت أو حدثني ومن كثر تخليطه من المحدثين (2) .
وقال عبد الله بن المبارك: بيننا وبين القوم القوائم يعني الإسناد (3) .
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن عيسى الطالقاني: قلت لعبد الله بن المبارك يا أبا عبد الرحمن الحديث الذي جاء: إن من البر بعد البر أن تصلي لأبويك مع صلاتك وتصوم لهما مع صومك قال: فقال عبد الله: يا أبا إسحاق عمن هذا؟ قال: قلت هذا في حديث شهاب بن خراش. فقال ثقة، عمن قال: قلت عن الحجاج بن دينار قال ثقة. عمن قال: قلت قال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا إسحاق إن بين الحجاج بن دينار وبين النبي صلى الله عليه وسلم مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي (4) .
__________
(1) المحدث الفاصل \ 405.
(2) المحدث الفاصل \ 404- 405 والرسالة مع اختلاف يسير في اللفظ ص 37.
(3) مقدمة مسلم \ 88.
(4) مقدمة مسلم \ 89(16/207)
وقال علي بن إبراهيم المروزي: سئل ابن المبارك عن العدل فقال:
من كان فيه خمس خصال: يشهد الجماعة ولا يشرب هذا الشراب (النبيذ) ولا تكون في دينه خربة (وفي نسخة خزية) ولا يكذب ولا يكون في عقله شيء (1) .
فأنت ترى هذه الأقوال تشمل جل القواعد الأساسية لجرح الرجال أو تعديلهم.
وهناك أقوال أخرى للأئمة الآخرين الذين يعدون من الطبقة التي بعدها ولذلك لم نذكرها التزاما بذكر رجال الطبقة التي تلت بعد التابعين، وإلا فالحقيقة أنه لا يمكن وضع حد فاصل زمني بين صدور هذه الأقوال وظهور هذه الأسس من رجال هذه الطبقة والتي تليها.
وفي الجملة: هذه الشروط وأمثالها الأخرى هي التي أصبحت نبراسا لمن جاءوا بعدهم من المحدثين وأصبحت بمثابة الأصول والقواعد لهم. ثم ظهرت فروع وتفاصيل.
ولهذا تبين لنا الأسباب التاريخية لنشأة علم نقد الحديث والدواعي الدينية لتصدي الأئمة للكلام على الرجال بالجرح أو التعديل والبحث في إسناد الحديث والقيام بالرحلات المضنية في طلب الحديث وسماعه من الراوي الأصل والتثبت منه ثم عرضه على رواية غيره من أهل الحفظ والإتقان لقبوله إذا كان موافقا، أو رفضه إذا كان الأغلب على حديثه المخالفة.
والله ولي التوفيق
__________
(1) الكفاية \ باب الكلام في العدالة وأحكامها.(16/208)
أقوال العلماء
في حكم من تاب من الكسب الحرام
كالربا وأنواع المكاسب
المحرمة الأخرى
أعده الباحث بالأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
عبد الله بن حمد بن عبد الله بن العبودي
ماذا يفعل من تاب من الكسب الحرام كالربا
وأنوع المكاسب المحرمة الأخرى
المقدمة
الحمد لله الذي أحل لعباده ما يتبادلون به المنافع بينهم، وحرم عليهم ما يضر بهم من مكاسب شفقة بهم وحرصا على مصلحتهم، وفتح لهم أبواب التوبة وغفر لتائبهم، وجعل للكسب الحلال طرقا كثيرة عن الحرام تغنيهم والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد الذي حث أمته على الكسب الحلال وحذرهم من الكسب الحرام صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(16/209)
أما بعد فقد قال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: «إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه (1) » .
وإن من أعظم ما يضر بالفرد والجماعات ويفسد أخلاقهم المكاسب المحرمة كالربا ونحوه، فخطورتها عظيمة، وضررها جسيم. ولذا حرم سبحانه وتعالى الربا أشد تحريم وجعله من الكبائر ومن السبع الموبقات. وجعل آكله والمعين عليه أخذا وإعطاءا في الإثم والعقوبة سواء، وكذا حرم سبحانه وتعالى ما هو شبيه به من المكاسب كحلوان الكاهن وأجرة الزانية والمغني والنائحة ونحو ذلك، ومن المعلوم أن استباحة الأموال بمثل هذه المكاسب المحرمة من أعظم الذنوب والخطايا. وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بالتوبة من الذنوب والمعاصي والإقلاع عنها والرجوع إليه سبحانه في أسرع وقت ممكن قبل فوات الأوان فقال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (2) {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (3) .
وبما أن الربا من أعظم الذنوب وأكبرها بعد الشرك بالله ومن السبع الموبقات فتجب المبادرة بالتوبة إلى الله منه على من كان يتعاطاه ويتعامل به، كما تجب المبادرة بالتوبة إلى الله على كل من كان يتعاطى أمثاله من
__________
(1) من حديث رواه البخاري ومسلم.
(2) سورة النساء الآية 17
(3) سورة النساء الآية 18(16/210)
المكاسب التي حرمها الله ورسوله كأجرة الغناء والموسيقى وبيع المحرمات. فإذا من الله سبحانه وتعالى على من كان يتعاطى أمثال ما ذكر من هذه المكاسب المحرمة ووفقه للتوبة وأراد أن يتخلص مما في يده من الأموال المحرمة التي تحصل عليها فماذا يفعل؟ هذا ما أريد الكتابة عنه بعون الله تعالى وتوفيقه.
وستكون الكتابة على النحو التالي:
أ- فيما يتعلق بالربا.
ب- أنواع المكاسب المحرمة الأخرى ويدخل فيها الربا.
جـ- حكم المال المغلول.
د- مقتطفات من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في كيفية التخلص من الأموال المحرمة.
أرجو من الله العلي القدير أن يوفقنا إلى ما فيه الخير والصلاح، وأن يكفينا بحلاله عن حرامه ويرزقنا التوبة النصوح إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(16/211)
أ- الربا
أما بالنسبة للربا فقد تكلم المفسرون رحمهم الله تعالى على ذلك عند قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (2) .
وسأختار ما تيسر من أقوالهم؛ قال ابن جرير رحمه الله تعالى في تفسيره
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279(16/211)
لقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (1)
يعني جل ثناؤه بذلك إن تبتم فتركتم أكل الربا وأنبتم إلى الله عز وجل فلكم رؤوس أموالكم من الديون التي لكم على الناس دون الزيادة التي أحدثتموها على ذلك ربا منكم كما حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد عن قتادة {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (2) المال الذي لهم على ظهور الرجال جعل لهم رؤوس أموالهم حين نزلت هذه الآية، فأما الربح والفضل فليس لهم ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئا، حدثني المثنى قال حدثنا عمرو بن عون قال حدثنا هشيم عن جويبر عن الضحاك قال وضع الله الربا وجعل لهم رؤوس أموالهم. حدثني يعقوب قال حدثنا ابن علية عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (3) قال ما كان لهم من دين فجعل لهم أن يأخذوا رؤوس أموالهم ولا يزاد عليه شيئا، حدثني موسى بن هرون قال حدثنا عمرو قال حدثنا أسباط عن السدي {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (4) الذي أسلفتم وسقط الربا، حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد عن قتادة ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم الفتح: «ألا إن ربا الجاهلية موضوع كله وأول ربا أبتدئ به ربا العباس بن عبد المطلب (5) » حدثنا المثنى قال حدثنا إسحاق قال حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: «إن كل ربا موضوع، وأول ربا يوضع ربا العباس (6) » .
القول في تأول قوله تعالى {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (7) .
يعني بقوله لا تظلمون بأخذكم رؤوس أموالكم التي كانت لكم قبل الإرباء على غرمائكم منهم دون أرباحهم التي زدتموها ربا على من أخذتم ذلك منه من غرمائكم فتأخذوا منهم ما ليس لكم أخذه أو لم يكن لكم
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) سورة البقرة الآية 279
(4) سورة البقرة الآية 279
(5) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .
(6) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .
(7) سورة البقرة الآية 279(16/212)
قبل (ولا تظلمون) يقول ولا الغريم الذي يعطيكم ذلك دون الربا الذي كنتم ألزمتموه من أجل الزيادة في الأجل يبخسكم حقا لكم عليه فيمنعكموه؛ لأن ما زاد على رؤوس أموالكم لم يكن حقا لكم عليه فيكون بمنعه إياكم ذلك ظالما لكم. وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن عباس يقول وغيره من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثني قال حدثنا أبو صالح قال حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ} (1) فتربون ولا تظلمون فتنقصون، وحدثني يوسف قال أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (2) قال لا تنقصون من أموالكم ولا تأخذون باطلا لا يحل لكم (3) .
وقال القرطبي: رحمه الله تعالى (الرابعة والثلاثون) قوله تعالى {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (4) روى أبو داود عن سليمان بن عمرو عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع: «ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون (5) » .
وذكر الحديث فردهم تعالى مع التوبة إلى رؤوس أموالهم وقال لهم لا تظلمون في أخذ الربا ولا تظلمون في أن يتمسك بشيء من رؤوس أموالكم فتذهب أموالكم ويحتمل أن يكون لا تظلمون في مطل؛ لأن مطل الغني ظلم. فالمعنى أن يكون القضاء مع وضع الربا، وهكذا سنة الصلح، وهذا أشبه شيء بالصلح. ألا ترى «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أشار إلى كعب بن مالك في دين أبي حدرد بوضع الشطر فقال: كعب
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) تفسير الطبري المسمى (جامع البيان في تفسير القرآن) ، - المجلد الثالث، ص 72.
(4) سورة البقرة الآية 279
(5) سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3087) ، سنن ابن ماجه المناسك (3055) .(16/213)
نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للآخر قم فاقضه (1) » ، فتلقى العلماء أمره بالقضاء سنة في المصالحات. إلى أن قال رحمه الله تعالى:
(الخامسة والثلاثون) قوله تعالى {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (2) تأكيد لإبطال ما لم يقبض منه وأخذ رأس المال الذي لا ربا فيه، فاستدل بعض العلماء بذلك على أن كل ما طرأ على البيع قبل القبض مما يوجب تحريم العقد أبطل العقد، كما إذا اشترى مسلم صيدا ثم أحرم المشتري أو البائع قبل القبض بطل البيع؛ لأنه طرأ عليه قبل القبض ما أوجب تحريم العقد، كما أبطل الله تعالى من الربا ما لم يقبض؛ لأنه طرأ عليه ما أوجب تحريمه قبل القبض، ولو كان مقبوضا لم يؤثر، هذا مذهب أبي حنيفة وهو قول لأصحاب الشافعي. ويستدل به على أن هلاك المبيع قبل القبض في يد البائع وسقوط القبض فيه يوجب بطلان العقد خلافا لبعض السلف، ويروى هذا الخلاف عن أحمد. وهذا إنما يتمشى على قول من يقول: إن العقد في الربا كان في الأصل منعقدا وإنما بطل بالإسلام الطارئ قبل القبض. وأما من يمنع انعقاد الربا في الأصل لم يكن هذا الكلام صحيحا، وذلك أن الربا كان محرما في الأديان والذي فعلوه في الجاهلية كان عادة المشركين، وأن ما قبضوه منه كان بمثابة أهوال وصلت إليهم بالهبة فلا يتعرض له، فعلى هذا لا يصح الاستشهاد على ما ذكروه من المسائل، واشتمال شرائع الأنبياء قبلنا على تحريم الربا مشهور مذكور في كتاب الله تعالى كما حكى عن اليهود في قوله تعالى {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} (3) وذكر في قصة شعيب أن قومه أنكروا عليه وقالوا {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} (4)
فعلى هذا لا يستقيم الاستدلال به، نعم يفهم من هذا العقود الواقعة في دار الحرب إذا ظهر عليها الإمام لا يعترض عليها بالفسخ إذا كانت معقودة على فساد.
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (457) ، صحيح مسلم المساقاة (1558) ، سنن النسائي آداب القضاة (5408) ، سنن أبو داود الأقضية (3595) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2429) ، مسند أحمد بن حنبل (3/454) ، سنن الدارمي البيوع (2587) .
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) سورة النساء الآية 161
(4) سورة هود الآية 62(16/213)
ثم بين رحمه الله تعالى حكم المال الحلال إذا خالطه حرام فقال:
السادسة والثلاثون: ذهب بعض الغلاة من أرباب الورع إلى أن المال الحلال إذا خالطه حرام حتى لم يتميز ثم أخرج منه مقدار الحرام المختلط به لم يحل ولم يطب؛ لأنه يمكن أن يكون الذي أخرج هو الحلال والذي بقي هو الحرام. قال ابن العربي: وهذا غلو في الدين فإن كل ما لم يتميز فالمقصود منه ماليته لا عينه، ولو تلف لقام المثل مقامه والاختلاط إتلاف لتمييزه، كما أن الإهلاك إتلاف لعينه، والمثل قائم مقام الذاهب، وهذا بين حسا بين معنى والله أعلم.
ثم بين رحمه الله تعالى رأيه فيمن يريد التخلص مما بيده من الأموال الربوية فقال:
قلت: قال علماؤنا إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام إن كانت من ربا فليردها على من أربى عليه، ويطلبه إن لم يكن حاضرا، فإن التبس من وجوده فليتصدق بذلك عنه، وإن أخذه بظلم فليفعل كذلك في أمر من ظلمه، فإن التبس عليه الأمر ولم يدركم الحرام من الحلال مما بيده فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب عليه رده. حتى لا يشك أن ما يبقى قد خلص له فيرده من ذلك الذي أزال عن يده إلى من عرف ممن ظلمه أو أربى عليه، فإن أيس من وجوده تصدق به عنه. فإن أحاطت المظالم بذمته وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءه أبدا لكثرته فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع إما إلى المساكين أو إلى ما فيه صلاح المسلمين حتى لا يبقى في يده إلا أقل ما يجزئه في الصلاة من اللباس وهو ما يستر العورة وهو من سرته إلى ركبته وقوت يوم؛ لأنه الذي يجب له أن يأخذه من مال غيره إذا اضطر إليه وإن كره ذلك من يأخذه منه، وفارق هاهنا المفلس في قول أكثر العلماء؛ لأن المفلس لم يصر إليه أموال الناس باعتداء بل هم الذين صيروها إليه، فيترك له ما يواريه وما هو هيئة(16/215)
لباسه، وأبو عبيد وغيره يرى ألا يترك للمفلس من اللباس إلا أقل ما يجزئه في الصلاة وهو ما يواريه من سرته إلى ركبته، ثم كل ما وقع بيد هذا شيء أخرجه عن يده، ولم يمسك منه إلا ما ذكرنا حتى يعلم هو ومن يعلم حاله أنه أدى ما عليه (1) .
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره لقوله تعالى {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ} (2) أي بأخذ الزيادة ولا تظلمون الأموال أيضا بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه. وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن الحسن بن أشكاب حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان عن شبيب عن غرقدة المبارقي عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه قال: «خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: (ألا إن كل ربا كان في الجاهلية موضوع عنكم كله لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، وأول ربا موضوع ربا العباس بن عبد المطلب كله (3) » كذا وجده سليمان بن الأحوص، وقد قال ابن مردويه حدثنا الشافعي حدثنا معاذ بن المثنى، أخبرنا مسدد، أخبرنا أبو الأحوص حدثنا شبيب بن غرقدة عن سليمان بن عمرو عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون (4) » . وكذا رواه من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي حمزة المرقاشي عن عمرو هو ابن خارجة فذكره (5) .
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في كلامه على آيات الربا:
ثم قال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (6) يعني إن تركتم الربا وتبتم إلى الله منه، وقد عاقدتم عليه، فإنما لكم رؤوس أموالكم
__________
(1) تفسير القرطبي المسمى (الجامع لأحكام القرآن) ، جزء (3) ، من ص 365 إلى صفحة 376.
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3087) ، سنن ابن ماجه المناسك (3055) .
(4) سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3087) ، سنن ابن ماجه المناسك (3055) .
(5) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، جزء (1) ، صفحة 331.
(6) سورة البقرة الآية 279(16/216)
لا تزيدون عليها فتظلمون الآخذ، ولا تنقصون منها فيظلمكم من أخذها، فإن كان هذا القابض معسرا فالواجب إنظاره إلى ميسرة، وإن تصدقتم عليه وأبرأتموه فهو أفضل لكم وخير لكم، فإن أبت نفوسكم وشحت بالعدل الواجب أو الفضل المندوب فذكروها يوما ترجعون فيه إلى الله وتلقون ربكم فيوفيكم جزاء أعمالكم أحوج ما أنتم إليه (1) .
وقال الشيخ محمد رشيد رضا من تفسير المنار على قوله تعالى
{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (2)
أي فمن بلغه تحريم الله تعالى للربا ونهيه عنه فترك الربا فورا بلا تراخ ولا تردد انتهاءا عما نهى الله عنه فله ما كان أخذه فيما سلف من الربا لا يكلف رده إلى من أخذه منهم بل يكتفى منه بأن لا يضاعف عليهم بعد البلاغ شيئا {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} (3) يحكم فيه بعدله، ومن العدل ألا يؤاخذ بما أكل من الربا قبل التحريم وبلوغه الموعظة من ربه. ولكن العبارة تشعر بأن إباحة أكل ما سلف رخصته للضرورة وتومئ إلى أن رد ما أخذ من قبل النهي إلى أربابه الذين أخذ منهم من أفضل العزائم؛ ألم تر أنه عبر عن إباحة ما سلف باللام ولم يقل كما قال بعد ذكر كفارة صيد المحرم 5: 95- {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} (4) وأنه عقب هذه الإباحة بإبهام الجزاء وجعله إلى الله والمعهود في أسلوبه أن يصل مثل ذلك بذكر المغفرة والرحمة، كما قال في آخر آية محرمات النساء 4: 23-
{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (5) أباح أكل ما سلف قبل التحريم وأبهم جزاء آكله. لعله يغص بأكل ما في يده منه فيرده إلى صاحبه، ولكنه صرح بأشد الوعيد على من أكل شيئا بعد النهي فقال تعالى {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (6) أي ومن عاد إلى من كان يأكل من الربا المحرم بعد تحريمه فأولئك
__________
(1) التفسير القيم لابن القيم، ص 172 و 173.
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 275
(4) سورة المائدة الآية 95
(5) سورة النساء الآية 23
(6) سورة البقرة الآية 275(16/217)
البعداء عن الاتعاظ بموعظة ربهم الذي لا ينهاهم إلا عما يضر بهم في أفرادهم أو جميعهم (1) .
وحول تفسير ما سبق من الآيات في الربا قال محمد بن أحمد بن رشد (فصل) فإن فات البيع فليس له إلا رأس ماله قبض الربا أو لم يقبضه. فإن كان قبضه رده إلى صاحبه، وكذلك من أربى ثم تاب فليس له إلا رأس ماله، وما قبض من الربا وجب عليه أن يرده إلى من قبضه منه، فإن لم يعلمه تصدق به عنه لقول الله عز وجل {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (2) الآية. وأما من أسلم وله ربا فإن كان قبضه فهو له، لقول الله عز وجل: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (3) ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أسلم على شيء فهو له» .
وأما إن كان الربا لم يقبضه فلا يحل له أن يأخذه وهو موضوع عن الذي هو عليه ولا خلاف في هذا أعلمه؛ لقول الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (4)
نزلت هذه الآية في قوم أسلموا ولهم على قوم أموال من ربا كانوا أربوه عليهم، وكانوا قد اقتضوا بعضه منهم وبقي بعضه فعفا الله لهم عما كانوا اقتضوه وحرم عليهم اقتضاء ما بقي منه. وقيل نزلت في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة كانا يسلفان في الربا فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا فأنزل الله الآية بتحريم اقتضاء ما كان بقي لهما، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم عرفة في حجة الوداع: «ألا إن كل ربا كان في الجاهلية فهو موضوع، وأول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب (5) » .
خلاصة ما سبق من كلام المفسرين ما يلي: أن المرابي لا يخلو من إحدى حالتين:
__________
(1) تفسير المنار، جزء (3) ، ص 97- 98.
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) سورة البقرة الآية 275
(4) سورة البقرة الآية 278
(5) مقدمات ابن رشد، الجزء (الثاني) ، صفحة 504.(16/218)
الحالة الأولى:
أن يكون الربا له في ذمم الناس لم يقبضه بعد، ففي هذه الحالة قد أرشده الله تعالى إلى أن يسترجع رأس ماله ويترك ما زاد عليه من الربا فلا يستوفيه ممن هو في ذمته قال الله تعالى {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (1)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في معرض كلامه على أن التراضي بين الطرفين على فعل محرم لا يبيحه: قال: وهذا مثل الربا فإنه وإن رضي به المرابي وهو بالغ رشيد لم يبح ذلك لما فيه من ظلمه. ولهذا له أن يطالبه بما قبض منه من الزيادة ولا يعطيه إلا رأس ماله وإن كان قد بذله باختياره (2) وقال أيضا: وهذا المرابي لا يستحق في ذمم الناس إلا ما أعطاهم أو نظيره، فأما الزيادات فلا يستحق شيئا منها، لكن ما قبضه قبل ذلك بتأويل يعفى عنه، وأما ما بقي له في الذمم فهو ساقط؛ لقوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (3) والله أعلم (4) .
الحالة الثانية:
أن يكون التائب من الربا قد قبضه وتجمعت عنده أموال منه، وفي هذا قاعدة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حيث قال: قاعدة في المقبوض بعقد فاسد؛ وذلك أنه لا يخلو إما أن يكون العاقد يعتقد الفساد ويعلمه أو لا يعتقد الفساد. فالأول: يكون بمنزلة الغاصب حيث قبض ما يعلم أنه لا يملكه لكنه لشبهة العقد وكون القبض عن التراضي هل يملكه بالقبض أو لا يملكه، أو يفرق بين أن يتصرف فيه أو لا يتصرف؟ هذا فيه خلاف مشهور في الملك هل يحصل بالقبض في العقد الفاسد؟
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، الجزء (الخامس عشر) ، ص 126.
(3) سورة البقرة الآية 278
(4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جزء (29) ، صفحة 437.(16/219)
وأما إن كان العاقد يعتقد صحة العقد: مثل أهل الذمة فيما يتعاملون به بينهم من العقود المحرمة في دين الإسلام مثل بيع الخمر، والربا، والخنزير، فإن هذه العقود إذا اتصل بها القبض قبل الإسلام والتحاكم إلينا أمضيت لهم، ويملكون ما قبضوه بلا نزاع؛ لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1)
فأمر بترك ما بقي وإن أسلموا أو تحاكموا قبل القبض فسد العقد ووجب رد المال إن كان باقيا أو بدله إن كان فائتا، والأصل فيه قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2) إلى قوله {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (3) .
وحاصل هذه القاعدة أن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يفرق بين من قبض مالا بعقد فاسد يعتقد صحته كالكافر الذي كان يتعامل بالربا قبل إسلامه أو تحاكمه إلينا، وكالمسلم إذا عقد عقدا مختلفا فيه بين العلماء وهو يرى صحته فهذا النوع من المتعاقدين يملك ما قبضه، أما من تعامل بعقد مختلف في تحريمه وهو لا يرى صحته أو بعقد مجمع على تحريمه مما قبضه بموجب ذلك العقد فهو فيه كالغاصب حيث قبض ما يعلم أنه لا يملكه.
ومما أجاب به شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: قول القائل لغيره أدينك كل مائة بكسب كذا وكذا حرام، وكذا إذا حل الدين عليه وكان معسرا فإنه يجب إنظاره، ولا يجوز إلزامه بالقلب عليه باتفاق المسلمين، وبكل حال فهذه المعاملة وأمثالها من المعاملات التي يقصد بها بيع الدراهم بأكثر منها إلى أجل هي معاملة فاسدة ربوية، والواجب رد المال المقبوض فيها إن كان باقيا، وإن كان فانيا رد مثله ولا يستحق الدافع أكثر
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 278
(3) سورة البقرة الآية 279(16/220)
من ذلك، وعلى ولي الأمر المنع من هذه المعاملات الربوية وعقوبة من يفعلها ورد الناس فيها إلى رؤوس أموالهم دون الزيادات، فإن هذا من الربا الذي حرمه الله ورسوله وقد قال تعالى {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (2) {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) .
أقول
ومن كلامه رحمه الله تعالى يتضح لنا حرمة المداينة المعمول بها حاليا على نحو ما ذكره وأعظم منها حرمة قلب الدين على المدين؛ لأنه بيع دراهم بأكثر منها نسأل الله العافية.
وحينما سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن رجل مراب خلف مالا وولدا وهو يعلم بحاله فهل يكون المال حلالا للولد بالميراث أم لا؟ قال:
أما القدر الذي يعلم الولد أنه ربا فيخرجه. إما أن يرده إلى أصحابه إن أمكن، وإلا تصدق به والباقي لا يحرم عليه، لكن القدر المشتبه يستحب له تركه إذا لم يجب صرفه في قضاء دين أو نفقة عيال، وإن كان الأب قبضه بالمعاملات الربوية التي يرخص فيها بعض الفقهاء جاز للوارث الانتفاع به، وإن اختلط الحلال بالحرام وجهل قدر كل منهما جعل ذلك نصفين. وحينما سئل أيضا عن الرجل يختلط ماله الحلال بالحرام أجاب بقوله:
يخرج قدر الحرام بالميزان فيدفعه إلى صاحبه وقدر الحلال له. وإن لم يعرفه وتعذرت معرفته تصدق به عنه (4) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) سورة البقرة الآية 280
(4) مجموع الفتاوى، جزء (29) ، ص 307.(16/221)
وحول التصدق بالأرباح المكتسبة عن طريق البنوك التي تتعامل بالربا، ورد هذا السؤال لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ مفتي المملكة ورئيس القضاة في وقته رحمه الله تعالى:
إذا سلمت بضاعة تبع شركة الأسمنت واشتغلت الشركة في أموالها فوردت مكائن وأخذت مقاولات عمارات وكسبت أرباحا من البنك، وقدموا لك بيان حسابك، ووجدت فيه قسما يختص بأرباح البنك وهي أرباح ربوية فهل تقبضها وتجعلها مع مالك أو تردها على البنك أو تتصدق بها؟
فأجاب رحمه الله تعالى بقوله:
هذه الزيادة التي أخذت مقابل أرباح البنك تتصدق بها والله أعلم والسلام عليكم (1) .
وفيما يلي سأذكر بمشيئة الله وعونه وتوفيقه بعض ما تيسر من كلام العلماء رحمهم الله تعالى في كيفية التخلص من أنواع المكاسب المحرمة الأخرى، ويدخل فيه أيضا الربا، وإنما أفردت الكلام عنه فيما سبق؛ لأنه من أعظم المكاسب المحرمة إثما وأنكاها عقوبة. نسأل الله العافية.
__________
(1) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، جـ 7، صفحة 178.(16/222)
ب- أنواع المكاسب المحرمة
من ربا وغيره
عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى(16/222)
الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب (1) » . رواه البخاري ومسلم.
يقول ابن رجب في شرح هذا الحديث:
ويتفرع على هذا معاملة من في ماله حلال وحرام مختلط، فإن كان أكثر ماله الحرام فقال أحمد: ينبغي أن يتجنبه إلا أن يكون شيئا يسيرا شيئا لا يعرف. واختلف أصحابنا هل هو مكروه أو محرم على وجهين، وإن كان أكثر ماله الحلال جازت معاملته والأكل من ماله، وقد روى الحارث عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال في جوائز السلطان: لا بأس بها ما يعطيكم من الحلال أكثر مما يعطيكم من الحرام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعاملون المشركين وأهل الكتاب مع علمهم أنهم لا يجتنبون الحرام كله، وإن اشتبه الأمر فهو شبهة والورع تركه، قال سفيان يعجبني ذلك وتركه أعجب إلي، وقال الزهري ومكحول: لا بأس أن يؤكل منه ما لم يعرف أنه حرام بعينه فإن لم يعرف في ماله حرام بعينه ولكن علم أن فيه شبهة فلا بأس بالأكل منه نص عليه أحمد في رواية حنبل. وذهب إسحاق بن راهويه إلى ما روي عن ابن مسعود وسليمان وغيرهما من الرخصة وإلى ما روي عن الحسن وابن سيرين في إباحة الأخذ بما يقضى من الربا والقمار. ونقله عنه ابن منصور وقال الإمام أحمد في المال المشتبه حلاله بحرامه: إن كان المال كثيرا أخرج منه قدر الحرام وتصرف في الباقي، وإن كان المال قليلا اجتنبه كله؛ وهذا لأن القليل إذا تناول منه شيئا فإنه يتعذر معه السلامة من الحرام بخلاف الكثير.
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .(16/232)
ومن أصحابنا من حمل ذلك على الورع دون التحريم وأباح التصرف في القليل والكثير بعد إخراج قدر الحرام منه، وهو قول الحنفية وغيرهم، وأخذ به قوم من أهل الورع منهم بشر الحافي. ورخص قوم من السلف في الأكل ممن يعلم في ماله حرام ما لم يعلم أنه من الحرام بعينه فصح كما تقدم عن مكحول والزهري، وروي مثله عن الفضل بن عياض وروي في ذلك آثار عن السلف (1) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى وقال تعالى تم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك (4) » رواه مسلم. - مما جاء في شرح هذا الحديث يقول ابن رجب: وأما الصدقة بالمال الحرام فغير مقبولة كما في صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول (5) » وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما تصدق عبد بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه (6) » وذكر الحديث، وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يكتسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك فيه ولا يتصدق به فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ
__________
(1) جامع العلوم والحكم، من ص 58 إلى ص 62، وله زيادة تفصيل في الموضوع فارجع إليه.
(2) صحيح مسلم الزكاة (1015) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2989) ، مسند أحمد بن حنبل (2/328) ، سنن الدارمي الرقاق (2717) .
(3) سورة المؤمنون الآية 51 (2) {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}
(4) سورة البقرة الآية 172 (3) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}
(5) صحيح مسلم الطهارة (224) ، سنن الترمذي الطهارة (1) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (272) ، مسند أحمد بن حنبل (2/73) .
(6) صحيح البخاري الزكاة (1410) ، صحيح مسلم الزكاة (1014) ، سنن الترمذي الزكاة (661) ، سنن النسائي الزكاة (2525) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1842) ، مسند أحمد بن حنبل (2/431) ، موطأ مالك الجامع (1874) ، سنن الدارمي الزكاة (1675) .(16/224)
بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث (1) » ويروى من حديث دراج عن ابن حجيرة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كسب مالا حراما فتصدق به لم يكن له فيه أجر وكان إصره عليه» أخرجه ابن حبان في صحيحه ورواه بعضهم موقوفا على أبي هريرة، وفي مراسيل القاسم بن مخيمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أصاب مالا من مأثم فوصل به رحمه وتصدق به أو أنفقه في سبيل الله جمع ذلك جميعا ثم قذف به في نار جهنم» . وروي عن أبي الدرداء ويزيد بن ميسرة أنهما جعلا مثل من أصاب مالا من غير حلة فتصدق به مثل من أخذ مال يتيم وكسا به أرملة، وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عمن كان على عمل فكان يظلم ويأخذ الحرام ثم تاب فهو يحج ويعتق ويتصدق منه فقال: إن الخبيث لا يكفر الخبيث، وكذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الخبيث لا يكفر الخبيث، ولكن الطيب يكفر الخبيث، وقال الحسن: أيها المتصدق على المسكين ترحمه ارحم من قد ظلمت (2) .
واعلم أن الصدقة بالمال الحرام تقع على وجهين: أحدهما: أن يتصدق به الخائن أو الغاصب ونحوهما على نفسه، فهذا هو المراد من هذه الأحاديث أنه لا يتقبل منه يعني أنه لا يؤجر عليه بل يأثم بتصرفه في مال غيره بغير إذنه. ولا يحصل للمالك بذلك أجر لعدم قصده ونيته. كذا قاله جماعة من العلماء منهم ابن عقيل من أصحابنا، وفي كتاب عبد الرزاق من رواية زيد بن الأخنس الخزاعي أنه سأل سعيد بن المسيب قال: وجدت لقطة أفأتصدق بها؟ قال لا يؤجر أنت ولا صاحبها. ولعل مراده إذا تصدق بها قبل تعريفها الواجب. إلى أن قال:
واعلم أن من العلماء من جعل تصرف الغاصب ونحوه في مال غيره
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/387) .
(2) جامع العلوم والحكم، ص 87 ـ 88.(16/225)
موقوفا على إجازة مالكه، فإن أجاز تصرفه فيه جاز. وقد حكى بعض أصحابنا رواية عن أحمد أنه من أخرج زكاته من مال مغصوب ثم أجازه المالك جاز وسقطت عنه الزكاة. وكذلك خرج ابن أبي الدنيا رواية عن أحمد أنه إذا أعتق عبد غيره عن نفسه ملتزما ضمانه في ماله ثم أجازه المالك جاز ونفذ عتقه. وهو خلاف نص أحمد. وحكي عن الحنفية أنه لو غصب شاة فذبحها لمتعته وقرانه ثم أجازه المالك أجزأت عنه (1) .
الوجه الثاني من تصرفات الغاصب في المال المغصوب: أن يتصدق عن صاحبه إذا عجز عن رده إليه وإلى ورثته فهذا جائز عند أكثر العلماء: منهم مالك وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم. قال ابن عبد البر: ذهب الزهري ومالك والثوري والأوزاعي والليث إلى أن الغال إذا تفرق أهل العسكر ولم يصل إليهم أنه يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي، روي ذلك عن عبادة بن الصامت ومعاوية والحسن البصري، وهو يشبه مذهب ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أنهما كانا يريان أن يتصدق بالمال الذي لا يعرف صاحبه، وقال قد أجمعوا في اللقطة على جواز الصدقة بها بعد التعريف وانقطاع صاحبها، وجعلوه إذا جاء مخيرا بين الأجر والضمان، وكذلك المغصوب. انتهى.
وروي عن مالك بن دينار قال سألت عطاء بن أبي رباح عمن عنده مال حرام ولا يعرف أربابه ويريد الخروج منه؟ قال: يتصدق به ولا أقول: إن ذلك يجزئ عنه. قال مالك كان هذا القول من عطاء أحب إلي من زنة ذهب. وقال سفيان فيمن اشترى من قوم شيئا مغصوبا: يرده إليهم، فإن لم يقدر عليهم يتصدق به كله ولا يأخذ رأس ماله، وكذا قال فيمن باع شيئا ممن تكره معاملته لشبهة ماله قال: يتصدق بالثمن وخالفه ابن
__________
(1) لمزيد من التفاصيل والإيضاح في هذا الموضوع جامع العلوم والحكم لابن رجب، من ص 88 حتى صفحة 90(16/226)
المبارك وقال: يتصدق بالربح خاصة. وقال أحمد يتصدق بالربح، وكذا قال فيمن ورث مالا من أبيه وكان أبوه يبيع ممن يكره معاملته: إنه يتصدق منه بمقدار الربح ويأخذ الباقي وقد روي عن طائفة من الصحابة نحو ذلك: منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه، والمشهور عن الشافعي رحمه الله في الأموال الحرام أنها تحفظ ولا يتصدق بها حتى يظهر مستحقها، وكان الفضيل بن عياض يرى أن من عنده مال حرام لا يعرف أربابه أنه يتلفه ويلقيه في البحر ولا يتصدق به. وقال لا يتقرب إلى الله إلا بالطيب. والصحيح الصدقة به؛ لأن إتلاف المال وإضاعته منهي عنه، وإرصاده أبدا تعريض له للإتلاف واستيلاء الظلمة عليه، والصدقة به ليست عن مكتسبه حتى يكون تقربا منه بالخبيث وإنما هي صدقة عن مالكه ليكون نفعه له في الآخرة حيث يتعذر عليه الانتفاع به في الدنيا (1) .
ونستخلص مما سبق في شرح الحديثين ما يلي:
أ- معاملة من في ماله حلال وحرام مختلط: إن كان أكثره الحرام فينبغي تجنبه وهو الأولى؛ لأن الإمام أحمد رحمه الله تعالى قال: (ينبغي أن يتجنبه إلا أن يكون شيئا يسيرا لا يعرف) .
وإن كان المال شبهة فالورع في تركه بل هو ما ينبغي عملا بقوله عليه الصلاة والسلام: «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول العمى يوشك أن يرتع فيه (2) » ، والمال المشتبه حلاله بحرامه إن كان المال كثيرا أخرج منه قدر الحرام وتصرف في الباقي، وإن كان المال قليلا اجتنبه كله.
ب- أن الصدقة بالمال الحرام غير مقبولة لما تقدم من قوله عليه أفضل الصلاة والسلام: «إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا (3) » ، ولقوله
__________
(1) جامع العلوم والحكم، ص 88، 89، 90.
(2) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .
(3) صحيح مسلم الزكاة (1015) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2989) ، مسند أحمد بن حنبل (2/328) ، سنن الدارمي الرقاق (2717) .(16/227)
أيضا: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول (1) » . وغير ذلك من الأحاديث التي مرت. والمقصود بذلك أن السارق أو الغاصب أو الخائن مثلا، لا يجوز له أن يتصدق بما سرقه أو بما اغتصبه أو بما خانه أو جحده عن نفسه فإنه لا يقبل منه ولا يؤجر عليه بل يأثم بتصدقه بمال غيره بغير إذنه ولا يحصل للمالك أيضا بذلك أجر لعدم قصده ونيته
جـ - أن السارق للمال أو الغاصب أو الخائن له إذا أراد أن يتصرف في هذا المال بعد توبته يجوز له أن يتصدق به عن صاحبه إذا عجز عن رده إليه أو إلى ورثته. وهذا هو الأولى وذلك لاختيار الإمام أحمد رحمه الله تعالى وغيره من الأئمة، ومنهم الإمام مالك وأبو حنيفة كما قالوا في الغال إذا تفرق العسكر أنه يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي، وكما قالوا في جواز التصدق باللقطة بعد تعريفها وانقطاع صاحبها وجعلوه إذا جاء مخيرا بين أن يكون أجر التصدق بها له أو الضمان.
وهذا ما أراه نظرا؛ لتظافر الأدلة السابقة عليه؛ ولأن القائل به كثير من أهل العلم رحمهم الله تعالى.
ولأن إتلاف المال وإضاعته منهي عنه، وإرصاده أبدا تعريض له للإتلاف واستيلاء الظلمة عليه، والصدقة به ليست عن مكتسبه حتى يكون تقربا بالخبيث، وإنما هي صدقة به عن مالكه. والله أعلم
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن الأموال التي يجهل مستحقها مطلقا أو مبهما فإن هذه عامة النفع لأن الناس قد يحصل في أيديهم أموال يعلمون أنها محرمة لحق الغير إما لكونها قبضت ظلما كالغصب وأنواعه من الجنايات والسرقة والغلول. وإما لكونها قبضت بعقد فاسد من ربا أو ميسر، ولا يعلم عين المستحق لها. وقد يعلم أن المستحق أحد رجلين ولا يعلم عينه، كالميراث الذي يعلم أنه لإحدى الزوجين الباقية دون المطلقة. والعين التي يتداعاها اثنان فيقر بها ذو اليد لأحدهما
__________
(1) صحيح مسلم الطهارة (224) ، سنن الترمذي الطهارة (1) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (272) ، مسند أحمد بن حنبل (2/73) .(16/228)
فمذهب الإمام أحمد وأبي حنيفة ومالك وعامة السلف إعطاء هذه الأموال لأولى الناس بها. ومذهب الشافعي أنها تحفظ مطلقا ولا تنفق بحال. فيقول فيما جهل مالكه من الغصوب والعواري والودائع إنها تحفظ حتى يظهر أصحابها كسائر الأموال الضائعة. ويقول في العين التي عرفت لأحد رجلين: يوقف الأمر حتى يصطلحا ومذهب أحمد وأبي حنيفة فيما جهل مالكه أنه يصرف عن أصحابه في المصالح كالصدقة على الفقراء، وفيما استبهم مالكه القرعة عند أحمد والقسمة عند أبي حنيفة. إلى أن قال: وتحريم هذه جميعا يعود إلى الظلم فإنها تحرم لسببين:
أحدهما: قبضها بغير طيب نفس صاحبها ولا إذن الشارع، وهذا هو الظلم المحض كالسرقة، والخيانة، والغصب الظاهر، وهذا أشهر الأنواع بالتحريم.
والثاني: قبضها بغير إذن الشارع. وإن أذن صاحبها وهي العقود والقبوض المحرمة كالربا ونحو ذلك والواجب على من حصلت بيده ردها إلى مستحقها. فإذا تعذر ذلك فالمجهول كالمعدوم وقد دل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في اللقطة: «فإن وجدت صاحبها فارددها إليه وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء (1) » وكذلك اتفق المسلمون على أن من مات ولا وارث له معلوم فماله يصرف في مصالح المسلمين.
إلى أن قال: وله دليلان قياسيان قطعيان كما ذكرنا من السنة والإجماع فإن ما لا يعلم بحال أو لا يقدر عليه بحال، هو في حقنا بمنزلة المعدوم، فلا نكلف إلا بما نعلمه ونقدر عليه. والدليل الثاني: القياس مع ما ذكرنا من السنة والإجماع أن هذه الأموال لا تخلو إما أن تحبس، وإما أن تتلف، وإما أن تنفق.
فأما إتلافها فإفساد لها {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (2) وهو إضاعة لها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن إضاعة المال، وإن كان في مذهب أحمد ومالك
__________
(1) سنن أبو داود اللقطة (1709) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2505) ، مسند أحمد بن حنبل (4/162) .
(2) سورة البقرة الآية 205(16/229)
تجويز العقوبات المالية تارة بالأخذ وتارة بالإتلاف كما يقوله أحمد في متاع الغال، وكما يقوله أحمد ومن يقوله من المالكية في أوعية الخمر ومحل الخمار. وغير ذلك. فإن العقوبة بإتلاف بعض الأموال أحيانا كالعقوبة بإتلاف بعض النفوس أحيانا. وهذا يجوز إذا كان فيه من التنكيل على الجريمة من المصلحة ما شرع له ذلك.
وأما حبسها دائما أبدا إلى غير غاية منتظرة بل مع العلم أنه لا يرجى معرفة صاحبها ولا القدرة على إيصالها إليه فهذا مثل إتلافها. فإن الإتلاف إنما حرم لتعطيلها من انتفاع الآدميين بها، وهذا تعطيل أيضا. بل أهو أشد منه من وجهين.
(أحدهما) : أنه تعذيب للنفوس بإبقاء ما يحتاجون إليه من غير انتفاع به.
(الثاني) : أن العادة جارية بأن مثل هذه الأمور لا بد أن يستولي عليها أحد من الظلمة بعد هذا إذا لم ينفقها أهل العدل والحق فيكون حبسها إعانة للظلمة، وتسليما في الحقيقة إلى الظلمة فيكون قد منعها أهل الحق، وأعطاها أهل الباطل، ولا فرق بين القصد وعدمه في هذا فإن من وضع إنسانا بمسبعة فقد قتله، ومن ألقى اللحم بين السباع فقد أكله، ومن حبس الأموال العظيمة لمن يستولي عليها من الظلمة فقد أعطاهموها، فإذا كان إتلافها حراما وحبسها أشد من إتلافها تعين إنفاقها، وليس لها مصرف معين فتصرف في جميع جهات البر والقرب التي يتقرب بها إلى الله؛ لأن الله خلق الخلق لعبادته وخلق لهم الأموال ليستعينوا بها على عبادته. فتصرف في سبيل الله والله أعلم.(16/230)
وخلاصة ما سبق من كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:
أن الأموال التي يجهل أصحابها ومستحقوها إما لكونها قبضت ظلما إما بغصب ونحوه من أنواع الجنايات كالسرقة والنهب والغلول، وإما لكونها قبضت بعقد فاسد من ربا أو ميسر ونحوهما. فمذهب الإمام أحمد وأبي حنيفة ومالك وعامة السلف إعطاء هذه الأموال لأولى الناس بها. والشافعي يرى أنها تحفظ مطلقا ولا تنفق بحال حتى يظهر أصحابها كسائر الأموال الضائعة، ويقول في العين التي عرفت لأحد رجلين يوقف الأمر حتى يصطلحا. ومذهب أحمد وأبي حنيفة فيما جهل مالكه أنه يصرف عن أصحابه في المصالح كالصدقة على الفقراء ونحو ذلك. وفي مال الميت الذي لا وارث له معلوم فماله يصرف في مصالح المسلمين. أقول: وما قيل عن الصدقة بهذه الأموال التي جهل أصحابها أو صرفها في مصالح المسلمين هو الأولى في نظري والله أعلم؛ لأنها إما أن تحبس، وإما أن تتلف وإما أن تنفق.
فأما إتلافها فإفساد لها {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (1) وهو أيضا إضاعة لها وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن إضاعة المال- اللهم إلا ما كان من العقوبة بإتلاف المال أحيانا لما فيه من التنكيل على الجريمة من المصلحة ما فرع له ذلك كما يفعل بأوعية الخمر ومحل الخمار ونحو ذلك. وكما يقوله الإمام أحمد رحمه الله تعالى في متاع الغال والله أعلم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه- اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم - تحت عنوان (ما تصنع البغي إذا تابت بما عندها من أجر البغاء) ما نصه:
نعم البغي والمغني والنائحة ونحوهم إذا أعطوا أجورهم ثم تابوا هل يتصدقون بها. أو يجب أن يردوها إلى من أعطاهموها فيها قولان
__________
(1) سورة البقرة الآية 205(16/231)
أصحهما أنا لا نردها على الفساق الذين بذلوها في المنفعة المحرمة، ولا يباح الأخذ بل يتصدق بها. وتصرف في مصالح المسلمين، كما نص عليه أحمد في أجرة حمل الخمر.
ومن ظن أنها ترد على الباذل المستأجر: لأنها مقبوضة بعقد فاسد فيجب ردها عليه كالمقبوض بالربا أو نحوه من العقود الفاسدة، فيقال له: المقبوض بالعقد الفاسد يجب فيه التراد من الجانبين فيرد كل منهما على الآخر ما قبضه منه. كما في تقابض الربا عند من يقول: المقبوض بالعقد الفاسد لا يملك كما هو المعروف من مذهب الشافعي وأحمد. فأما إذا تلف المقبوض عند القابض فإنه لا يستحق استرجاع عوضه مطلقا. وحينئذ فيقال: إن كان ظاهر القياس يوجب ردها، بناءا على أنها مقبوضة بعقد فاسد، فالزاني ومستمع الغناء والنوح قد بذلوا هذا المال عن طيب نفوسهم، واستوفوا العوض المحرم: والتحريم الذي فيه ليس لحقهم، وإنما هو لحق لله تعالى، وقد فاتت هذه المنفعة بالقبض، والأصول تقتضي: أنه إذا رد أحد العوضين يرد الآخر، فإذا تعذر على المستأجر رد المنفعة لم يرد عليه المال.
وأيضا فإن هذا الذي استوفيت منفعته عليه ضرر في أحد منفعتيه وعوضهما جميعا منه، بخلاف ما لو كان العوض خمرا أو ميتة فإن ذلك لا ضرر عليه في فواتها. فإنها لو كانت باقية أتلفناها عليه.
ومنفعة الغناء والنوح لو لم تفت لتوفرت عليه، بحيث كان يتمكن من صرف تلك المنفعة في أمر آخر أعني من صرف القوة التي عمل بها. فيقال على هذا: فينبغي أن يقضوا بها إذا طالب بقبضها.
قيل: نحن لا نأمر بدفعها ولا بردها، كعقود الكفار المحرمة، فإنهم إذا أسلموا على القبض لم نحكم بالقبض. ولو أسلموا بعد القبض لم نحكم بالرد، ولكن في حق المسلم تحرم هذه الأجرة عليه، لأنه كان(16/232)
معتقدا لتحريمها بخلاف الكافر. وذلك لأنه إذا طلب الأجرة قلنا له: أنت فرطت، حيث صرفت قوتك في عمل محرم، فلا يقضى لك بأجرة. فإذا قبضها ثم قال الدافع: هذا المال اقضوا لي برده فإنما أقبضته إياه عوضا عن منفعة محرمة قلنا له: دفعته بمعاوضة رضيت بها فإذا طلبت استرجاع ما أخذه فرد إليه ما أخذته. إذا كان له في بقائه معه منفعة فهذا ومثله يتوجه فيما يقبض من ثمن الميتة والخمر.
وأيضا فمشتري الخمر إذا أقبض ثمنها وقبضها وشراها ثم طلب أن يعاد إليه الثمن كان الأوجه أن يرد إليه الثمن ولا يباح للبائع ولا سيما ونحن نعاقب الخمار بياع الخمر بأن نحرق الحانوت التي تباع فيها. نص على ذلك أحمد وغيره من العلماء فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حرق حانوتا يباع فيها الخمر، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حرق قرية يباع فيها الخمر، وهي آثار معروفة، وهذه المسألة مبسوطة في غير هذا الموضع؛ وذلك لأن العقوبات المالية عندنا باقية غير منسوخة (1) .
وسئل أيضا رحمه الله تعالى عن امرأة كانت مغنية واكتسبت في جهلها مالا كثيرا وقد تابت وحجت إلى بيت الله تعالى وهي محافظة على طاعة الله تعالى فهل المال الذي اكتسبته من حلي وغيره إذا أكلت وتصدقت منه تؤجر عليه؟
فأجاب: المال المكسوب إن كانت عين أو منفعة مباحة في نفسها، وإنما حرمت بالقصد مثل من يبيع عنبا لمن يتخذه خمرا أو من يستأجر لعصر الخمر أو حملها فهذا يفعله بالعوض لكن لا يطيب له أكله، وأما إن كانت العين أو المنفعة محرمة كمهر البغي وثمن الخمر. فهنا لا يقضى له به قبل القبض. ولو أعطاه إياه لم يحكم برده. فإن هذا معونة لهم على المعاصي: إذا جمع لهم بين العوض والمعوض ولا يحل هذا المال للبغي
__________
(1) انظر اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، صفحة 247، 248.(16/233)
والخمار ونحوهما لكن يصرف في مصالح المسلمين. فإن تابت هذه البغي وهذا الخمار وكانوا فقراء جاز أن يصرف إليهم من هذا المال مقدار حاجتهم، فإن كان يقدر يتجر أو يعمل صنعة كالنسيج والغزل أعطي ما يكون له رأس مال، وإن اقترضوا منه شيئا ليكتسبوا به، ولم يردوا عوض القرض كان أحسن.
وأما إذا تصدق به لاعتقاده أنه يحل عليه أن يتصدق به فهذا يثاب على ذلك، وأما إذا تصدق به كما يتصدق المالك بملكه فهذا لا يقبله الله- إن الله لا يقبل إلا الطيب فهذا خبيث كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مهر البغي خبيث (1) » (2) .
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في كلامه عن حقوق العباد وصورها في مسائل إلي أن قال:
فصل: المسألة الثانية إذا عاوض غيره معاوضة محرمة، وقبض العوض كالزاني والمغني وبائع الخمر، وشاهد الزور ونحوهم، ثم تاب والعوض بيده، فقالت طائفة: يرده إلى مالكه. إذا هو عين ماله ولم يقبضه بإذن الشارع ولا حصل لربه في مقابلته نفع مباح.
وقالت: طائفة بل توبته بالتصدق به، ولا يدفعه إلى من أخذه منه.
وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو أصوب القولين، فإن قابضه إنما قبضه ببذل مالكه له، ورضاه ببذله، وقد استوفى عوضه المحرم فكيف يجمع له بين العوض والمعوض، وكيف يرد عليه مالا قد استعان به على معاصي الله، ورضي بإخراجه فيما يستعين به عليها ثانيا وثالثا؟ وهل هذا إلا محض إعانته على الإثم والعدوان؟ وهل يناسب هذا محاسن الشرع أن يقضى للزاني بكل ما دفعه إلى من زنى بها طوعا أو كرها. فيعطاه وقد نال عوضه، وهب أن هذا المال لم يملكه الآخذ، فملك صاحبه قد زال
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1568) ، سنن الترمذي البيوع (1275) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4294) ، سنن أبو داود البيوع (3421) ، مسند أحمد بن حنبل (3/464) ، سنن الدارمي البيوع (2621) .
(2) الفتاوى الجزء (29) ، صفحة 308- 309.(16/234)
عنه بإعطائه لمن أخذه، وقد سلم له ما في قبالته من النفع، فكيف يقال ملكه باق عليه ويجب رده إليه؟ وهذا بخلاف أمره بالصدقة به، فإنه قد أخذه من وجه خبيث برضى صاحبه وبذله له بذلك، وصاحبه قد رضي بإخراجه عن ملكه بذلك، وألا يعود إليه فكان أحق الوجوه به: صرفه في المصلحة التي ينتفع بها من قبضه ويخفف عنه الإثم ولا يقوى الفاجر به ويعان، ويجمع له بين الأمرين.
وهكذا توبة من اختلط ماله الحلال بالحرام، وتعذر عليه تمييزه أن يتصدق بقدر الحرام، ويطيب باقي ماله. والله أعلم (1) .
وقال أيضا: في كسب الزانية فإن قيل فما تقولون في كسب الزانية إذا قبضته ثم تابت هل يجب عليها رد ما قبضته إلى أربابه أم يطيب لها، أم تتصدق به؟
قيل: هذا ينبني على قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وهي أن من قبض ما ليس له قبضه شرعا ثم أراد التخلص منه، فإن كان المقبوض قد أخذ بغير رضى صاحبه ولا استوفي عوضه رده عليه. فإن تعذر رده عليه قضى به دينا يعلمه عليه، فإن تعذر ذلك رده إلى ورثته، فإن تعذر ذلك تصدق به عنه، فإن اختار صاحب الحق ثوابه يوم القيامة كان له وإن أبى إلا أن يأخذ من حسنات القابض استوفى منه نظير ماله، وكان ثواب الصدقة للمتصدق بها كما ثبت عن الصحابة، وإن كان المقبوض برضى الدافع، وقد استوفى عوضه المحرم كمن عاوض على خمر أو خنزير أو على زنا أو فاحشة فهذا لا يجب رد العوض على الدافع؛ لأنه أخرجه باختياره واستوفى عوضه المحرم فلا يجوز أن يجمع له بين العوض والمعوض فإن في ذلك إعانة له على الإثم والعدوان وتيسير أصحاب المعاصي عليه، وماذا يريد الزاني وصاحب الفاحشة إذا علم أنه ينال غرضه ويسترد ماله؟ فهذا
__________
(1) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، جزء (1) ، صفحة 391 وص 392.(16/235)
مما تصان الشريعة عن الإتيان به، ولا يسوغ القول به، وهو يتضمن الجمع بين الظلم والفاحشة والغدر، ومن أقبح القبيح أن يستوفي عوضه من المزني بها ثم يرجع فيما أعطاها قهرا، وقبح هذا مستقر في فطر جميع العقلاء فلا تأتي به شريعة. ولكن لا يطيب للقابض أكله. بل هو خبيث كما حكم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن لخبث مكسبه لا نظلم من أخذ منه، فطريقة التخلص منه وتمام التوبة بالصدقة، فإن كان محتاجا إليه فله أن يأخذ قدر حاجته ويتصدق بالباقي فهذا حكم كل كسب خبيث؛ لخبث عوضه عينا كان أو منفعة، ولا يلزم من الحكم بخبثه وجوب رده على الدافع فإن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بخبث كسب الحجام ولا يجب رده على دافعه (1) . أقول: وخلاصة ما سبق فيما يتعلق بما تصنعه البغي إذا تابت، وماذا يفعل من اختلط ماله الحلال بالحرام؟
أ- أن الأموال التي بذلت في المنفعة المحرمة كأجرة الزانية أو المغنية لا ترد إلى الفساق الذين بذلوها ولا يباح لهم أخذها كما لا يحل هذا المال للباغية أو المغنية ونحوهما بل يتصدق بها وتصرف في مصالح المسلمين؛ لأن في ردها إلى الفساق الذين بذلوها معونة لهم على المعاصي إذا جمع لهم بين العوض والمعوض.
ب- ومن اختلط ماله الحلال بالحرام وتاب من الكسب الحرام وتعذر عليه تمييز الحلال فإن عليه أن يتصدق بقدر الحرام ويطيب باقي ماله إذا تاب مما عمل وندم على ما فات وعزم على ألا يعود والله أعلم.
جـ- النقولات الآتية الواردة في هذا البحث مثل ما ذكره النووي عن
__________
(1) زاد المعاد في هدي خير العباد، جزء (4) ، صفحة 251 وما بعدها والكلام مستوفى هناك.(16/236)
الغزالي وكذا ما أضفته أيضا في هذا البحث من كلام الغزالي وما ذكره أبو يعلى في كتابه طبقات الحنابلة وما قاله ابن رجب في الذيل على طبقات الحنابلة وما قاله الشيخ ملا علي القارئ في كلامه عن التوبة وأركانها ونحو ذلك مما ورد في آخر البحث لا تحتاج إلى خلاصة؛ لأنها في الغالب إما فروع أو مسائل مختصرة أو مترابطة يفهمها ويدركها كل من قرأها والله أعلم.
وقال النووي رحمه الله تعالى (فرع)
قال الغزالي: لو كان في يده مغصوب من الناس معين فاختلط بماله ولم يتميز وأراد التوبة فطريقه أن يترضى هو وصاحب المغصوب بالقسمة، فإن امتنع المغصوب منه من ذلك رفع التائب الأمر إلى القاضي ليقبض منه، فإن لم يجد قاضيا حكم رجلا متدينا. لقبض ذلك، فإن عجز تولى هو ذلك بنفسه، ويعزل قدر ذلك فيه الصرف إلى المغصوب منه سواء أكان دراهم أو حبا أو دهنا أو غيره من نحو ذلك، فإذا فعل ذلك حل له الباقي، فلو أراد أن يأكل من ذلك المختلط وينفق من قبل تمييز قدر المغصوب فقد قال قائلون يجوز ذلك ما دام قدر المغصوب باقيا، ولا يجوز أخذ الجميع، وقال آخرون: لا يجوز له أخذ شيء حتى يميز قدر المغصوب بنية الإبذال والتوبة.
(فرع) من ورث مالا ولم يعلم من أين كسبه مورثه؟ أمن حلال أم حرام؟ ولم تكن علامة فهو حلال بإجماع العلماء، فإن علم أن فيه حراما وشك في قدره أخرج قدر الحرام بالاجتهاد.
(فرع) قال الغزالي: إذا كان معه مال حرام وأراد التوبة والبراءة منه فإن كان له مالك معين وجب صرفه إليه أو إلى وكيله، فإن كان ميتا وجب دفعه إلى وارثه، وإن كان لمالك لا يعرفه ويئس من معرفته فينبغي(16/237)
أن يصرفه في مصالح المسلمين العامة، كالقناطر والربط والمساجد ومصالح طريق مكة، ونحو ذلك مما يشترك المسلمون فيه، وإلا فيتصدق به على فقير أو فقراء وينبغي أن يتولى ذلك القاضي إن كان عفيفا فإن لم يكن عفيفا لم يجز التسليم إليه؛ فإن سلم إليه صار المسلم ضامنا بل ينبغي أن يحكم رجلا من أهل البلد متدينا عالما، فإن التحكيم أولى من الانفراد فإن عجز عن ذلك تولاه بنفسه، فإن المقصود هو الصرف إلى هذه الجهة.
وإذا دفعه إلى الفقير لا يكون حراما على الفقير بل يكون حلالا طيبا، وله أن يتصدق به على نفسه وعياله إذا كان فقيرا؛ لأن عياله إذا كانوا فقراء فالوصف موجود فيهم، بل هم أولى من يتصدق عليه. وله هو أن يأخذ منه قدر حاجته؛ لأنه أيضا فقير. وهذا الذي قاله الغزالي في هذا الفرع ذكره آخرون من الأصحاب وهو كما قالوه، ونقله الغزالي أيضا عن معاوية بن أبي سفيان وغيره من السلف عن أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي وغيرهما من أهل الورع؛ لأنه لا يجوز إتلاف هذا المال ورميه في البحر، فلم يبق إلا صرفه في مصالح المسلمين، والله سبحانه وتعالى أعلم (1) .
أقول: وقد فصل الغزالي الكلام على هذا الموضوع في كتابه (الإحياء) في الجزء الثاني منه تحت عنوان- باب كيفية خروج التائب عن المظالم المالية- فذكر كيفية التمييز والإخراج والمصرف فارجع إليه لمزيد. ومن مسائله التي ذكرها ما يلي:
__________
(1) المجموع شرح المهذب، جزء (9) ، صفحة 342 و 343.(16/238)
مسألة:
إذا كان الحرام أو الشبهة في يد أبويه فليمتنع عن مؤاكلتهما، فإن كانا يسخطان فلا يوافقهما على الحرام المحض بل ينهاهما فلا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى، فإن كان شبهة وكان امتناعه للورع فهذا قد عارضه أن الورع طلب رضاهما، بل هو واجب فليتلطف في الامتناع فإن لم يقدر فليوافق؛ وليقلل الأكل بأن يصغر اللقمة ويطيل المضغ ولا يتوسع فإن ذلك عدوان. إلى أن قال:
مسألة:
سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى فقال له قائل: مات أبي وترك مالا وكان يعامل من تكره معاملته فقال تدع من ماله بقدر ما ربح فقال: له دين وعليه دين فقال: تقضي وتقتضي، فقال: أفترى ذلك؟ فقال: أفتدعه محتبسا بدينه؟ وما ذكره صحيح وهو يدل على أنه رأى التحري بإخراج مقدار الحرام؛ إذ قال: يخرج قدر الربح، وأنه رأى أن أعيان أمواله ملك له بدلا عما بذله في المعاوضات الفاسدة بطريق التقابض والتقابل مهما كثر التصرف وعسر الرد وعول في قضاء دينه على أنه يقين فلا يترك بسبب الشبهة.(16/239)
ويقول شمس الدين محمد بن مفلح في كتابه (الآداب الشرعية) ما نصه:
(فصل في الحلال والحرام والمشتبه فيه وحكم الكثير والقليل من الحرام)
هل تجب طاعة الوالدين في تناول المشتبه وهو ما بعضه حلال وبعضه(16/239)
حرام؟ ينبني على مسألة تحريم تناوله وفيها أقوال في المذهب.
أحدها: التحريم مطلقا قطع به شرف الإسلام عبد الوهاب في كتابه المنتخب ذكره قبيل باب الصيد. وعلل القاضي وجوب الهجرة من دار الحرب بتحريم الكسب عليه هناك لاختلاط الأموال لأخذه من غير جهته ووضعه في غير حقه. قال الأزجي في نهايته: هو قياس المذهب كما قلنا في اشتباه الأواني الطاهرة بالنجسة، وقدمه أبو الخطاب في الانتصار في مسألة اشتباه الأواني. وقد قال أحمد: لا يعجبني أن يأكل منه. وقال المروذي: سألت أبا عبد الله عن الذي يتعامل بالربا يؤكل عنده قال لا؟ قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوقوف عند الشبهة، وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام (1) » . وفي البخاري عن أنس بن مالك قال: (إذا دخلت على مسلم لا يتهم فكل من طعامه واشرب من شرابه) وعن الحسن بن علي مرفوعا: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (2) » رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه.
والثاني: إن زاد الحرام على الثلث حرم الأكل وإلا فلا. قدمه في الرعاية لأن الثلث ضابط في مواضع.
والثالث: إن كان الأكثر الحرام حرم؛ وإلا فلا إقامة للأكثر مقام الكل لأن القليل تابع قطع به ابن الجوزي في المنهاج. وذكر الشيخ تقي الدين أنه أحد الوجهين، وقد نقل الأثرم وغير واحد عن الإمام أحمد فيمن ورث مالا ينبغي إن عرف شيئا بعينه أن يرده، وإلا كان الغالب في ماله الفساد تنزه عنه أو نحو هذا، ونقل عنه حرب في الرجل يخلف مالا إن
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .
(2) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) .(16/240)
كان غالبه نهبا أو ربا ينبغي لوارثه أن يتنزه عنه إلا أن يكون يسيرا لا يعرف، ونقل عنه أيضا هل للرجل أن يطلب من ورثة إنسان مالا مضاربة ينفعهم وينتفع؟ قال إن كان غالبه الحرام فلا.
والرابع: عدم التحريم مطلقا قل الحرام أو كثر وهو ظاهر ما قطع به وقدمه غير واحد لكن يكره، وتقوى الكراهة وتضعف بحسب كثرة الحرام وقلته. قدمه الأزجي وغيره وجزم به في المغني، وعن أبي هريرة مرفوعا: «إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمه طعاما فليأكل من طعامه ولا يسأله عنه. وإن سقاه شرابا من شرابه فليشرب من شرابه ولا يسأله عنه (1) » رواه أحمد، وروى جماعة من حديث سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن ذر بن عبد الله عن ابن مسعود أن رجلا سأله فقال: لي جار يأكل الربا ولا يزال يدعوني؟ فقال مهنأة لك وإثمه عليه، قال الثوري إن عرفته بعينه فلا تأكله، ومراد ابن مسعود وكلامه لا يخالف هذا. وروى جماعة من حديث معمر أيضا عن أبي إسحاق عن الزبير بن الحارث عن سلمان قال إذا كان لك صديق عامل فدعاك إلى طعام فاقبله، فإنه مهنأة لك وإثمه عليه. قال معمر وكان عدي بن أرطاة عامل البصرة يبعث إلى الحسن كل يوم بجفان ثريد فيأكل منها ويعلم أصحابه. وبعث عدي إلى الشعبي وابن سرين والحسن فقبل الحسن والشعبي ورد ابن سيرين. قال: وسئل الحسن عن طعام الصيارفة فقال قد أخبركم الله عن اليهود والنصارى أنهم كانوا يأكلون الربا وأحل لكم طعامهم (2) وحول ما يتلف من المنكر ومذاهب العلماء فيه. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه (الحسبة في
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/399) .
(2) انظر كتاب الآداب الشرعية والمنح المرعية جزء (1) ، من صفحة 496 إلى ص 502 فالكلام مستوفى هناك.(16/241)
الإسلام) ما نصه:
مقدار ما يتلف من المنكر ومذاهب العلماء.
وكذلك الذي قام به المنكر في إتلافه. نهي عن العود إلى ذلك المنكر وليس إتلاف ذلك واجبا على الإطلاق، بل إذا لم يكن في المحل مفسد جاز إبقاؤه إما لله وإما أن يتصدق به، كما أفتى طائفة من العلماء على هذا الأصل أن الطعام المغشوش من الخبز والطبيخ والشواء كالخبز والطعام الذي لم ينضج، وكالطعام المغشوش وهو الذي خلط بالردئ وأظهر المشتري أنه جيد أو نحو ذلك يتصدق به على الفقراء فإن ذلك أولى من إتلافه.
وإذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أتلف اللبن الذي شيب للبيع فلأن يجوز التصدق بذلك بطريق الأولى فإنه يحصل به عقوبة الغاش وزجره عن العود ويكون انتفاع الفقراء بذلك أنفع من إتلافه.
وعمر أتلفه؛ لأنه يغني الناس بالعطاء فكان الفقراء عنده في المدينة إما قليلا وأما معدومين، ولهذا جوز طائفة التصدق به وكرهوا إتلافه. ففي المدونة عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب كان يطرح اللبن المغشوش في الأرض أو بالصاحبة، وكره ذلك مالك في رواية ابن القاسم ورأى أن يتصدق به وهل يتصدق باليسير؟ فيه قولان للعلماء وقد روى أشهب عن مالك منع العقوبات المالية وقال: (لا يحل ذنب من الذنوب مال إنسان وإن قتل نفسا) لكن الأول أشهر عنه. وقد استحسن أن يتصدق باللبن المغشوش، وفي ذلك عقوبة الغاش بإتلافه عليه ونفع المساكين بإعطائهم إياه ولا يهراق. قيل لمالك فالزعفران والمسك أتراه مثله؟ قال ما أشبهه بذلك إذا كان هو غشه فهو كاللبن، قال ابن القاسم: هذا في الشيء الخفيف منه، فأما إذا كثر منه فلا أرى ذلك وعلى صاحبه العقوبة لأنه يذهب في ذلك أموال عظام يريد في الصدقة بكثيره. قال(16/242)
بعض الشيوخ وسواء على مذهب مالك كان ذلك يسيرا أو كثيرا؛ لأنه ساوى في ذلك بين الزعفران واللبن والمسك قليله وكثيره. وخالفه ابن القاسم فلم ير أن يتصدق من ذلك إلا بما كان يسيرا. وذلك إذا كان هو الذي غشه، وأما من وجد عنده شيء من ذلك مغشوش لم يغشه هو إنما اشتراه أو وهب له، أو ورثه فلا خلاف في أنه لا يتصدق بشيء من ذلك. وممن أفتى بجواز إتلاف المغشوش من الثياب ابن القطان قال في الملاحف الرديئة النسج تحرق بالنار، وأفتى ابن عتاب فيها بالتصدق، وقال تقطع خرقا وتعطى للمساكين إذا تقدم إلى مستعمليها فلم ينتهوا، وكذلك أفتى بإعطاء الخبز المغشوش للمساكين فأنكر عليه ابن القطان وقال لا يحل هذا في مال امرئ مسلم إلا بإذنه.
قال القاضي أبو الأصبغ: وهذا اضطراب في جوابه وتناقض في قوله لأن جوابه في الملاحف بإحراقها بالنار أشد من إعطاء هذا الخبز للمساكين، وابن عتاب أضبط في أصله ذلك، وأتبع لقوله.
وإذا لم ير ولي الأمر عقوبة الغاش بالصدقة أو الإتلاف فلا بد أن يمنع وصول الضرر إلى الناس بذلك الغش. إما بإزالة الغش، وإما ببيع المغشوش ممن يعلم أنه مغشوش ولا يغشه على غيره.
قال عبد الملك بن حبيب، قلت لمطرف وابن الماجشون لما نهينا عن التصدق بالمغشوش لرواية أشهب فما وجه الصواب عندكما فيمن غش أو نقص من الوزن؟
قالا: يعاقب بالضرب والحبس والإخراج من السوق، وما كثر من الخبز واللبن، أو غش من المسك والزعفران فلا يفرق ولا ينهب. قال عبد الملك بن حبيب: ولا يرده الإمام إليه وليؤمن ببيعه عليه من يأمن أن يغش به، ويكسر الخبز إذا كثر، ويسلمه لصاحبه، ويباع عليه(16/243)
العسل، والسمن واللبن الذي يغشه ممن يأكله ويبين له غشه. هكذا العمل فيما غش من التجارات.
قال: وهو إيضاح من استوضحته ذلك من أصحاب مالك وغيرهم.
وقال القاضي أبو الحسين محمد بن أبي يعلى رحمه الله تعالى في كتابه طبقات الحنابلة في ترجمة عبد الله بن محمد بن المهاجر المعروف بفوزان قال عنه:
ومن جملة مسائله قال: سمعت أحمد يقول: إذا اختلط المال وكان فيه حلال وحرام. فالزهري ومكحول قالا إذا اختلط الحلال والحرام فكل هذا عندي من مال السلطان كما قال عليه رحمه الله تعالى (بيت المال يدخله الخبيث والطيب) فمال السلطان يدخله الحلال والحرام، فيوصل إلى الرجل فيأكل منه فأما إذا كان حلالا وحراما من ميراث، أو أفاد رجل مالا حراما وحلالا: فإنه يرد على أصحابه فإن لم يعرفهم ولم يقدر عليهم: تصدق به، فإن لم يعلم كم الحلال والحرام يتصدق بقدر ما يرى أن فيه من الحرام. وأكل الباقي (1) .
ومما قاله ابن رجب رحمه الله تعالى في الذيل على الطبقات المذكورة ما نصه:
ومما نقلته من خط السيف بن المجد من فتاوى جده الشيخ موفق الدين وقد سئل عن معاملة من في ماله حرام فأجاب الورع: اجتناب معاملة من في ماله حرام فإن من اختلط الحرام في ماله: صار في ماله
__________
(1) انظر كتاب طبقات الحنابلة للقاضي أبي الحسين محمد بن أبي يعلى، الجزء (الأول) ، صفحة 196.(16/244)
شبهة بقدر ما فيه من الحرام إن كثر الحرام كثرت الشبهة، وإن قل قلت، وذكر حديث «الحلال بين والحرام بين (1) » وأما في ظاهر الحكم: فإنه يباح معاملة من لم يتعين التحريم في الثمن الذي يؤخذ منه؛ لأن الأصل: أن ما في يد الإنسان ملكه. وقد قال بعض السلف بع الحلال ممن شئت يعني إذا كانت بضاعتك حلالا فلا حرج عليك في بيعها ممن شئت، ولكن الورع ترك معاملة من في ماله الشبهات، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (2) »
وقال ابن نجيم - القاعدة الرابعة عشرة- ما حرم أخذه حرم إعطاؤه كالربا ومهر البغي وحلوان الكاهن والرشوة وأجرة النائحة والزامر إلا في مسائل الرشوة؛ لخوف على نفسه أو ماله أو ليسوي أمره عند سلطان أو أمير إلا للقاضي فإنه يحرم الأخذ والإعطاء كما بيناه في شرح الكنز من القضاء وفك الأسير، وإعطاء شيء لمن يخاف هجوه. ولو خاف الوصي أن يستولي غاصب على المال فله أداء شيء ليخلصه كما في الخلاصة. انتهى (3) .
وقال الشيخ ملا علي القارئ في كلامه عن التوبة وأركانها: فإن كانت من مظالم الأموال فتتوقف صحة التوبة منها مع ما قدمناه في حقوق الله تعالى على الخروج عن عهدة الأموال وإرضاء الخصم في الحال والاستقبال بأن يتحلل منهم أو يردها إليهم أو إلى من يقوم مقامهم من وكيل أو وارث هذا، وفي القنية رجل عليه ديون لأناس لا يعرفهم من غصوب أو مظالم أو جنايات يتصدق بقدرها على الفقراء على عزيمة القضاء إن وجدهم مع التوبة إلى الله.
ولو صرف ذلك المال إلى الوالدين والمولودين أي الفقراء يصير معذورا
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .
(2) انظر الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب، الجزء (الثاني) ، صفحة 145.
(3) انظر كتاب الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة، صفحة 158.(16/245)
فيها أيضا عليه ديون لأناس شتى كزيادة في الأخذ ونقص في الدفع فلو تحرى في ذلك وتصدق بثوب قوم بذلك يخرج عن العهدة، قال: فعرف بهذا أن في هذا لا يشترط التصدق بجنس ما عليه. وفي فتاوى قاضيخان: رجل له حق على خصم فمات ولا وارث له تصدق عن صاحب الحق بقدر ما له عليه ليكون وديعة عند الله يوصلها إلى خصمائه يوم القيامة.
وإذا غصب مسلم من ذمي مالا أو سرق منه فإنه يعاقب به يوم القيامة؛ لأن الذمي لا يرجى منه العفو فكانت خصومة الذمي أشد، ثم هل يكفيه أن يقول: لك علي دين فاجعلني في حل أم لا بد أن يعين مقداره، ففي النوازل رجل له على آخر دين وهو لا يعلم بجميع ذلك، فقال له المديون: أبرئني مما لك علي. فقال الدائن: أبرأتك فقال نصير رحمه الله لا يبرأ إلا عن مقدار ما يتوهم أي يظن أنه عليه، وقال محمد بن سلمة رحمه الله عن الكل قال الفقيه أبو الليث حكم القضاء ما قاله محمد بن سلمة وحكم الآخرة ما قاله نصير، وفي القنية من عليه حقوق فاستحل صاحبها ولم يفصلها فجعله في حل يعذر إن علم أنه لو فصله يجعله في حل وإلا فلا قال بعضهم: إنه حسن وإن روى أنه يصير في حل مطلقا. وفي الخلاصة رجل قال لآخر حللني من كل حق هو لك ففعل فأبرأه إن كان صاحب الحق عالما به برئ حكما بالإجماع، وأما ديانة فعند محمد رحمه الله لا يبرأ، وعند أبي يوسف يبرأ وعليه الفتوى- انتهى، وفيه أنه خلاف ما اختاره أبو الليث، ولعل قوله مبني على التقوى (1) .
وقد سئل الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى هذا السؤال: إذا دخل عليه محرم لكسبه فما الحكم؟ فأجاب بما نصه:
ج: من دخل عليه محرم لكسبه، فلا يخلو من ثلاث حالات: إحداها: أن يكون عن منفعة محرمة استوفاها من انتقل منه المال
__________
(1) كتاب الفقه الأكبر لأبي حنيفة وشرحه للشيخ ملا علي القارئ الحنفي، ص 44ا- 145.(16/246)
فهنا لا يرد المال لصاحبه، لكن على من كان بيده التصدق به.
الثانية: أن يصل إليه لا عن وجه المعاوضة كالمغصوب فيلزم رده إلى مالكه أو ورثته.
الثالثة: أن يكون بيده مال لغير من يعلمه كالمغصوب والودائع التي جهل أربابها فله دفعها إلى الإمام أو نائبه وله التصدق بها عنهم؛ لعدم إيصال نفع مالهم إليهم إلا في هذه الصورة. فإذا وجد صاحبه أو ورثته بعد ما تصدق بها خيره بين إمضاء ذلك التصرف، أو يكون الأجر لصاحبها الأصيل، وبين أن يرد هذا التصدق، ويكون الأجر للذي تصدق به، ويضمن المال لصاحبه. أما المحرم لذاته كالميتة، فلا يجوز مطلقا (1) كما سئل رحمه الله تعالى هذا السؤال: إذا كان عندك مال مغصوب وتعذر معرفة صاحبه فما الحكم؟ وعلى أي قاعدة ينبني؟ فأجاب بما نصه:
ج: من تعذر عليه معرفة صاحب الشيء يتصدق به عن صاحبه بشرط الضمان، أو يسلمه إلى الحاكم ويبرأ من تبعته، وذلك مثل إذا كان عندك وديعة لإنسان أو مال مغصوب، وتعذر عليك معرفة صاحبه وأيست من ذلك فأنت بالخيار؛ إما أن تعطيها الحاكم؛ لأن الحاكم ينوب مناب الشخص المجهول ويجعلها في المصالح العامة، وإما أن تتصدق بها عن صاحبها وتنوي إذا وجدته خيرته بين أن تقدمها له ويكون لك أجر الصدقة بها أو يمضي ما تصدقت به. ويكون الأجر له (2)
__________
(1) الفتاوى السعدية، الجزء (الأول) ، صفحة 434.
(2) الفتاوى السعدية، الجزء (الأول) ، صفحة 430.(16/247)
جـ- حكم المال المغلول
لما كان المال المغلول من المكاسب التي حرمها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم رأيت أن أكتب بعض ما قاله العلماء فيه.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى (حديث آخر) قال أحمد حدثنا أبو سعيد حدثنا عبد العزيز بن محمد حدثنا صالح بن محمد بن زائدة عن سالم بن عبد الله أنه كان مع مسلمة بن عبد الملك في أرض الروم فوجد في متاع رجل غلولا قال: فسأل سالم بن عبد الله فقال حدثني أبي عبد الله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من وجدتم في متاعه غلولا فأحرقوه (1) »
قال: وأحسبه قال (واضربوه) قال: فأخرج متاعه في السوق فوجد فيه مصحفا فسأل سالما؟ فقال بعه وتصدق بثمنه. وكذا رواه علي بن المديني وأبو داود والترمذي من حديث عبد العزيز بن محمد الدراوردي. زاد أبو داود وأبو إسحاق الفزاري كلاهما عن أبي واقد الليثي الصغير صالح بن محمد بن زائدة به، وقال علي بن المديني والبخاري وغيرهما: هذا حديث منكر من رواية أبي واقد هذا، وقال الدارقطني: الصحيح أنه من فتوى سالم فقط، وقد ذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث الإمام أحمد بن حنبل ومن تابعه من أصحابه. وقد رواه الأموي عن معاوية عن أبي إسحاق عن يونس بن عبيد عن الحسن قال: عقوبة الغال أن يخرج رحله فيحرق على ما فيه. ثم روى عن معاوية عن أبي إسحاق عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن علي قال: (الغال يجمع رحله فيحرق ويجلد دون حد المملوك ويحرم نصيبه) . وخالفه أبو حنيفة ومالك والشافعي والجمهور فقالوا: لا يحرق متاع الغال، بل يعزر تعزير مثله: وقد قال البخاري وقد
__________
(1) سنن أبو داود الجهاد (2713) ، مسند أحمد بن حنبل (1/22) ، سنن الدارمي السير (2490) .(16/248)