المثال السابع والثامن: قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (1) ، وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} (2) . حيث فسر القرب فيهما بقرب الملائكة.
والجواب: أن تفسير القرب فيهما بقرب الملائكة ليس صرفا للكلام عن ظاهره لمن تدبره.
أما الآية الأولى فإن القرب مقيد فيها بما يدل على ذلك حيث قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (3) {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} (4) {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (5) ، ففي قوله: إذ يتلقى دليل على أن المراد به قرب الملكين المتلقيين.
وأما الآية الثانية فإن القرب فيها مقيد بحال الاحتضار، والذي يحضر الميت عند موته هم الملائكة وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} (6) . ثم إن في قوله: {أَمْ أَنْتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ} (7) . دليلا بينا على أنهم الملائكة إذ يدل على أن هذا القريب في نفس المكان ولكن لا نبصره، وهذا يعين أن يكون المراد قرب الملائكة لاستحالة ذلك في حق الله تعالى.
بقي أن يقال: فلماذا أضاف الله القرب إليه، وهل جاء نحو هذا التعبير مرادا به الملائكة؟ فالجواب: أضاف الله تعالى قرب ملائكته إليه لأن قربهم بأمره وهم جنوده.
__________
(1) سورة ق الآية 16
(2) سورة الواقعة الآية 85
(3) سورة ق الآية 16
(4) سورة ق الآية 17
(5) سورة ق الآية 18
(6) سورة الأنعام الآية 61
(7) سورة الطور الآية 15(12/235)
وقد جاء نحو هذا التعبير مرادا به الملائكة كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (1) . . فإن المراد به قراءة جبريل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن الله تعالى أضاف القراءة إليه لكن لما كان جبريل يقرؤه على النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى صحت إضافة القراءة إليه تعالى. وكذلك جاء في قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} (2) ، وإبراهيم إنما كان يجادل الملائكة الذين هم رسل الله تعالى.
__________
(1) سورة القيامة الآية 18
(2) سورة هود الآية 74(12/236)
المثال التاسع والعاشر: قوله تعالى عن سفينة نوح: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (1) .، وقوله لموسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (2) . .
والجواب: أن المعنى في هاتين الآيتين على ظاهر الكلام وحقيقته لكن ما ظاهر الكلام وحقيقته هنا؟
هل يقال: إن ظاهره وحقيقته أن السفينة تجري في عين الله أو أن موسى عليه الصلاة والسلام يربى فوق عين الله تعالى؟
أو يقال: إن ظاهره أن السفينة تجري وعين الله تعالى ترعاها وتكلؤها، وكذلك تربية موسى تكون على عين الله تعالى يرعاه ويكلؤه بها.
ولا ريب أن القول الأول باطل من وجهين:
الأول: أنه لا يقتضيه الكلام بمقتضى الخطاب العربي والقرآن إنما نزل بلغة العرب قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (3) ، وقال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} (4) {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (5) {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (6) ، ولا أحد يفهم من قول القائل: فلان يسير بعيني أن المعنى أنه يسير داخل عينه، ولا من قول القائل: فلان تخرج على عيني أن تخرجه كان وهو راكب على عينه، ولو ادعى مدع أن هذا ظاهر اللفظ في
__________
(1) سورة القمر الآية 14
(2) سورة طه الآية 39
(3) سورة يوسف الآية 2
(4) سورة الشعراء الآية 193
(5) سورة الشعراء الآية 194
(6) سورة الشعراء الآية 195(12/236)
هذا الخطاب لضحك منه السفهاء فضلا عن العقلاء.
الثاني: أن هذا ممتنع غاية الامتناع، ولا يمكن لمن عرف الله وقدره حق قدره أن يفهمه في حق الله تعالى لأن الله تعالى مستو على عرشه بائن من خلقه لا يحل فيه شيء من مخلوقاته ولا يحل فيه شيء من مخلوقاته، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
فإذا تبين بطلان هذا من الناحية اللفظية والمعنوية تعين أن يكون ظاهر الكلام هو القول الثاني أن السفينة تجري وعين الله ترعاها وتكلؤها، وكذلك تربية موسى تكون على عين الله يرعاه ويكلؤه بها. وهذا معنى قول بعض السلف: بمرأى منى، فإن الله تعالى إذا كان يكلؤه بعينه لزم من ذلك أن يراه ولازم المعنى الصحيح جزء منه كما هو معلوم من دلالة اللفظ حيث تكون بالمطابقة والتضمن والالتزام.(12/237)
المثال الحادي عشر: قوله تعالى في الحديث القدسي: «وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه (1) » .
والجواب أن هذا الحديث صحيح رواه البخاري في باب التواضع الثامن والثلاثين من كتاب الرقاق.
وقد أخذ السلف أهل السنة والجماعة بظاهر الحديث وأجروه على حقيقته. ولكن ما ظاهر هذا الحديث؟
هل يقال: إن ظاهره أن الله تعالى يكون سمع الولي وبصره ويده ورجله؟
أو يقال: إن ظاهره أن الله تعالى يسدد الولي في سمعه وبصره ويده ورجله بحيث يكون إدراكه وعمله لله وبالله وفي الله؟
ولا ريب أن القول الأول ليس ظاهر الكلام بل ولا يقتضيه الكلام لمن تدبر الحديث فإن في الحديث ما يمنعه من وجهين:
الأول: أن الله تعالى قال: «وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه (2) » وقال: «ولئن
__________
(1) حديث صحيح رواه البخاري في باب التواضع جـ 38 من كتاب الرقاق
(2) صحيح البخاري الرقاق (6502) .(12/237)
سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه (1) » . فأثبت عبدا معبودا، ومتقربا ومتقربا إليه، ومحبا ومحبوبا، وسائلا ومسئولا، ومطعيا ومعطى، ومستعيذا ومستعاذا به، ومعيذا ومعاذا. فسياق الحديث يدل على اثنين متباينين كل واحد منهما غير الآخر، وهذا يمنع أن يكون أحدهما وصفا في الآخر أو جزءا من أجزائه.
الوجه الثاني: أن سمع الولي وبصره ويده ورجله كلها أوصاف أو أجزاء في مخلوق حادث بعد أن لم يكن، ولا يمكن لأي عاقل أن يفهم أن الخالق الأول الذي ليس قبله شيء يكون سمعا وبصرا ويدا ورجلا لمخلوق بل إن هذا المعنى تشمئز منه النفس أن تتصوره ويحسر اللسان أن ينطق به ولو على سبيل الفرض والتقدير - فكيف يسوغ أن يقال: إنه ظاهر الحديث القدسي وإنه قد صرف عن هذا الظاهر - سبحانك اللهم وبحمدك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
وإذا تبين بطلان القول الأول وامتناعه تعين القول الثاني وهو أن الله تعالى يسدد هذا الولي بسمعه وبصره وعمله بحيث يكون إدراكه بسمعه وبصره وعمله بيده ورجله كله لله تعالى إخلاصا، وبالله تعالى استعانة، وفي الله تعالى شرعا واتباعا، فيتم له بذلك كمال الإخلاص والاستعانة والمتابعة، وهذا غاية التوفيق. وهذا ما فسره به السلف وهو تفسير مطابق لظاهر اللفظ موافق لحقيقته متعين بسياقه وليس فيه تأويل ولا صرف للكلام عن ظاهره ولله الحمد والمنة.
__________
(1) صحيح البخاري الرقاق (6502) .(12/238)
المثال الثاني عشر: قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله تعالى أنه قال: «من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة (1) » .
وهذا الحديث صحيح رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء من حديث أبي ذر رضي الله عنه وروى نحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب التوحيد الباب الخامس عشر.
وهذا الحديث كغيره من النصوص الدالة على قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى وأنه سبحانه فعال لما يريد كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة مثل قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (2) ،
__________
(1) صحيح البخاري التوحيد (7405) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2675) ، سنن الترمذي الدعوات (3603) ، سنن ابن ماجه الأدب (3822) ، مسند أحمد بن حنبل (2/480) .
(2) سورة البقرة الآية 186(12/238)
وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (1) ، وقوله: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} (2) . وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر (4) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما تصدق أحد بصدقة من طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - إلا أخذها الرحمن بيمينه (5) » إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على قيام الأفعال الاختيارية به تعالى.
فقوله في هذا الحديث: تقربت منه وأتيته هرولة من هذا الباب.
والسلف أهل السنة والجماعة يجرون هذه النصوص على ظاهرها وحقيقة معناها اللائق بالله عز وجل من غير تكييف ولا تمثيل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح حديث النزول: (6) وأما دنوه نفسه وتقربه من بعض عباده، فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه ومجيئه يوم القيامة، ونزوله، واستواءه على العرش. وهذا مذهب أئمة السلف وأئمة الإسلام المشهورين وأهل الحديث، والنقل عنهم بذلك متواتر أهـ.
فأي مانع يمنع من القول بأنه يقرب من عبده كيف يشاء مع علوه؟
وأي مانع يمنع من إتيانه كيف يشاء بدون تكييف ولا تمثيل؟
وهل هذا إلا من كماله أن يكون فعالا لما يريد على الوجه الذي به يليق؟
وذهب بعض الناس إلى أن قوله تعالى في هذا الحديث القدسي: «أتيته هرولة (7) » . يراد به سرعة قبول الله تعالى وإقباله على عبده المتقرب إليه المتوجه بقلبه وجوارحه وأن مجازاة الله للعامل له أكمل من عمل العامل. وعلل ما ذهب إليه بأن الله تعالى قال: «ومن أتاني يمشي (8) » ومن المعلوم أن المتقرب إلى الله عز وجل الطالب للوصول إليه لا يتقرب ويطلب الوصول إلى الله تعالى بالمشي فقط بل تارة يكون بالمشي كالسير إلى المساجد ومشاعر الحج والجهاد في سبيل الله ونحوها أو تارة بالركوع والسجود ونحوهما، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد (9) » ، بل قد يكون التقرب إلى الله تعالى وطلب
__________
(1) سورة الفجر الآية 22
(2) سورة الأنعام الآية 158
(3) سورة طه الآية 5
(4) صحيح البخاري الجمعة (1145) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (758) ، سنن الترمذي الصلاة (446) ، سنن أبو داود الصلاة (1315) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) ، مسند أحمد بن حنبل (2/504) ، موطأ مالك النداء للصلاة (496) ، سنن الدارمي الصلاة (1478) .
(5) صحيح البخاري الزكاة (1410) ، صحيح مسلم الزكاة (1014) ، سنن الترمذي الزكاة (661) ، سنن النسائي الزكاة (2525) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1842) ، مسند أحمد بن حنبل (2/538) ، موطأ مالك الجامع (1874) ، سنن الدارمي الزكاة (1675) .
(6) ص 446 ج 5 من مجموع الفتاوى
(7) صحيح البخاري التوحيد (7405) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2675) ، سنن الترمذي الدعوات (3603) ، سنن ابن ماجه الأدب (3822) ، مسند أحمد بن حنبل (2/251) .
(8) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2687) ، سنن ابن ماجه الأدب (3821) ، مسند أحمد بن حنبل (5/153) ، سنن الدارمي الرقاق (2788) .
(9) صحيح مسلم الصلاة (482) ، سنن النسائي التطبيق (1137) ، سنن أبو داود الصلاة (875) ، مسند أحمد بن حنبل (2/421) .(12/239)
الوصول إليه والعبد مضطجع على جنبه كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (1) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب (2) » .
قال: فإذا كان كذلك صار المراد بالحديث بيان مجازاة الله تعالى العبد على عمله، وأن من صدق في الإقبال على ربه، وإن كان بطيئا جازاه الله تعالى بأكمل من عمله وأفضل. وصار هذا هو ظاهر اللفظ بالقرينة الشرعية المفهومة من سياقه.
وإذا كان هذا ظاهر اللفظ بالقرينة الشرعية لم يكن تفسيره به خروجا به عن ظاهره ولا تأويلا كتأويل أهل التعطيل فلا يكون حجة لهم على أهل السنة ولله الحمد.
وما ذهب إليه هذا القائل له حظ من النظر، لكن القول الأول أظهر وأسلم وأليق بمذهب السلف.
ويجاب عما جعله قرينة من كون التقرب إلى الله تعالى وطلب الوصول إليه لا يختص بالمشي بأن الحديث خرج مخرج المثال لا الحصر فيكون المعنى من أتاني يمشي في عبادة تفتقر إلى المشي لتوقفها عليه بكونه وسيلة لها كالمشي إلى المساجد للصلاة أو من ماهيتها كالطواف والسعي. والله تعالى أعلم.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 191
(2) رواه البخاري وغيره(12/240)
المثال الثالث عشر: قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} (1) ، والجواب: أن يقال ما هو ظاهر هذه الآية وحقيقتها حتى يقال إنها صرفت عنه؟
هل يقال: إن ظاهرها أن الله تعالى خلق الأنعام بيده كما خلق آدم بيده؟
أو يقال إن ظاهرها أن الله تعالى خلق الأنعام كما خلق غيرها لم يخلقها بيده لكن إضافة العمل إلى اليد والمراد صاحبها معروف في اللغة العربية التي نزل بها القرآن.
أما القول الأول فليس هو ظاهر اللفظ لوجهين:
__________
(1) سورة يس الآية 71(12/240)
أحدهما: أن اللفظ لا يقتضيه بمقتضى اللسان العربي الذي نزل القرآن به ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (1) ، وقوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (2) ، وقوله: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} (3) . فإن المراد ما كسبه الإنسان نفسه وما قدمه وإن عمله بغير يده بخلاف ما إذا قال: عملته بيدي كما في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (4) . فإنه يدل على مباشرة الشيء باليد.
الثاني: أنه لو كان المراد أن الله تعالى خلق هذه الأنعام بيده لكان لفظ الآية: خلقنا لهم بأيدينا أنعاما، كما قال الله تعالى في آدم: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (5) . لأن القرآن نزل بالبيان لا بالتعمية لقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (6) . .
وإذا ظهر بطلان القول الأول تعين أن يكون الصواب هو القول الثاني، وهو أن ظاهر اللفظ أن الله تعالى خلق الأنعام كما خلق غيرها ولم يخلقها بيده لكن إضافة العمل إلى اليد كإضافته إلى النفس بمقتضى اللغة العربية بخلاف ما إذا أضيف إلى النفس وعدي بالباء إلى اليد فتنبه للفرق، فإن التنبه للفروق بين المتشابهات من أجود أنواع العلم، وبه يزول كثير من الإشكالات.
__________
(1) سورة الشورى الآية 30
(2) سورة الروم الآية 41
(3) سورة آل عمران الآية 182
(4) سورة البقرة الآية 79
(5) سورة ص الآية 75
(6) سورة النحل الآية 89(12/241)
المثال الرابع عشر: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (1) .
والجواب. أن يقال: هذه الآية تضمنت جملتين.
الجملة الأولى: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} (2) وقد أخذ
__________
(1) سورة الفتح الآية 10
(2) سورة الفتح الآية 10(12/241)
السلف أهل السنة بظاهرها وحقيقتها وهي صريحة في أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يبايعون النبي صلى الله عليه وسلم نفسه كما في قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (1) . .
ولا يمكن لأحد أن يفهم من قوله: {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} (2) . أنهم يبايعون الله نفسه ولا أن يدعي أن ذلك ظاهر اللفظ لمنافاته لأول الآية والواقع، واستحالته في حق الله تعالى.
وإنما جعل الله تعالى مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم مبايعة له لأنه رسوله، وقد بايع الصحابة على الجهاد في سبيل الله تعالى ومبايعة الرسول على الجهاد في سبيل من أرسله مبايعة لمن أرسله لأنه رسوله المبلغ عنه، كما أن طاعة الرسول طاعة لمن أرسله لقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (3)
وفي إضافة مبايعتهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى من تشريف النبي صلى الله عليه وسلم وتأييده وتوكيد هذه المبايعة وعظمها ورفع شأن المبايعين ما هو ظاهر لا يخفى على أحد.
الجملة الثانية: قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (4) . . وهذه أيضا على ظاهرها وحقيقتها فإن يد الله تعالى فوق أيدي المبايعين لأن يده من صفاته وهو سبحانه فوقهم على عرشه فكانت يده فوق أيديهم. وهذا ظاهر اللفظ وحقيقته وهو لتوكيد كون مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم مبايعة لله عز وجل، ولا يلزم منها أن تكون يد الله جل وعلا مباشرة لأيديهم، ألا ترى أنه يقال: السماء فوقنا أنها مباينة لنا بعيدة عنا. فيد الله عز وجل فوق أيدي المبايعين لرسوله صلى الله عليه وسلم مباينته تعالى لخلقه وعلوه عليهم.
ولا يمكن لأحد أن يفهم أن المراد بقوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (5) . يد النبي صلى الله عليه وسلم ولا أن يدعي أن ذلك ظاهر اللفظ؛ لأن الله تعالى أضاف اليد إلى نفسه ووصفها بأنها فوق أيديهم. ويد النبي صلى الله عليه وسلم عند مبايعة الصحابة لم تكن فوق أيديهم بل كان يبسطها إليهم
__________
(1) سورة الفتح الآية 18
(2) سورة الفتح الآية 10
(3) سورة النساء الآية 80
(4) سورة الفتح الآية 10
(5) سورة الفتح الآية 10(12/242)
فيمسك بأيديهم كالمصافح لهم فيده مع أيديهم لا فوق أيديهم.(12/243)
المثال الخامس عشر: قوله تعالى في الحديث القدسي: «يا ابن آدم مرضت فلم تعدني (1) » . الحديث رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما على أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي؟ (2) » .
والجواب أن السلف أخذوا بهذا الحديث ولم يصرفوه عن ظاهره بتحريف يتخبطون فيه بأهوائهم وإنما فسروه بما فسره به المتكلم به، فقوله تعالى: مرضت واستطعمتك واستسقيتك بينه الله تعالى بنفسه حيث قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض وأنه استطعمك عبدي فلان. واستسقاك عبدي فلان وهو صريح في أن المراد به مرض عبد من عباد الله واستطعام عبد من عباد الله واستسقاء عبد من عباد الله والذي فسره بذلك هو الله المتكلم به وهو أعم بمراده، فإذا فسرنا المرض المضاف إلى الله والاستسقاء المضاف إليه بمرض العبد واستطعامه واستسقائه لم يكن في ذلك صرف للكلام عن ظاهره؛ لأن ذلك تفسير المتكلم به فهو كما لو تكلم بهذا المعنى ابتداء. وإنما أضاف الله ذلك إلى نفسه أولا للترغيب والحث كقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} (3) .
وهذا الحديث من أكبر الحجج الدامغة لأهل التأويل الذين يحرفون نصوص الصفات عن ظاهرها بلا دليل من كتاب الله تعالى ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما يحرفونها بشبه باطلة هم فيها متناقضون مضطربون. إذ لو كان المراد خلاف ظاهرها كما
__________
(1) رواه مسلم في باب فضل عيادة المريض من كتاب البر والصلة والآداب ـ رقم 43، ص 1990 ترتيب محمد فؤاد عبد الباقي
(2) رواه مسلم في باب فضل عيادة المريض من كتاب البر والصلة والآداب ـ رقم 43، ص 1990 ترتيب محمد فؤاد عبد الباقي
(3) سورة البقرة الآية 245(12/243)
يقولون لبينه الله تعالى ورسوله، ولو كان ظاهرها ممتنعا على الله - كما زعموا - لبينه الله ورسوله كما في هذا الحديث. ولو كان ظاهرها اللائق بالله ممتنعا على الله لكان في الكتاب والسنة من وصف الله تعالى بما يمتنع عليه ما لا يحصى إلا بكلفة، وهذا من أكبر المحال.
ولنكتف بهذا القدر من الأمثلة لتكون نبراسا لغيرها، وإلا فالقاعدة عند أهل السنة والجماعة معروفة وحتى إجراء آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل.(12/244)
الدكتور أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي.
تاريخ الميلاد: 1367 هـ بمدينة الظفير - غامد.
حصل على شهادة الليسانس من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 1395 - 1396 هـ وأكمل دراسته العليا الماجستير والدكتوراه - بجامعة أم القرى - البحث المقدم لنيل الماجستير - عقيدة ختم النبوة المحمدية - ورسالة الدكتوراة تحقيق كتاب شرح أصول اعتقاد أصل السنة والجماعة للإمام أبي القاسم هبة الله بن الحسن اللالكائي.
عمل أستاذ بالجامعة الإسلامية والآن يعمل عميدا لشئون الطلاب بنفس الجامعة.(12/245)
آيات الصفات
عرض موجز للمنهج الصحيح الذي يجب
أن تفهم صفات الله عز وجل على ضوئه.
كتبه الدكتور أحمد بن سعد بن حمدان
حاجة الإنسان إلى معرفة الله عز وجل
لما كان الإنسان وجد لحكمة وغاية بما يشرف وجوده ويرتقي نوعه على بقية المخلوقات وبها يحصل على سعادة الدنيا والآخرة - فإنه يشعر في أعماق نفسه برغبة شديدة وحرص أكيد لمعرفة تلك الغاية.
فأي إنسان لم تنكشف له تلك الحقيقة فإنه يتعرض لنكد القلب وقلق النفس وحيرة الضمير حتى ليكاد يتمزق من داخله. . .
هذا واقع التائهين الذين لم يعرفوا غاية وجودهم، وحكمة خلقهم، وما نسمعه عن حياة هؤلاء التائهين أو نقرؤه في صحفهم وتقاريرهم يبين تلك الحقيقة ويؤكدها.
واستمع إلى بعض التقارير عن ذلك الواقع:
يقول مؤلف " الإنسان ذلك المجهول " الكسيس كاريل الفرنسي - وهو يتحدث عن الأمراض العقلية التي أصيب بها المجتمع الأمريكي: (في عام 1932 كان عدد المجانين الموجودين بالمستشفيات الحكومية = 400000 (أربعمائة ألف) مجنون كما كان عدد(12/247)
ضعاف العقول والمصروعين المحجوزين في المصحات الخاصة = 81580 (واحدا وثمانين ألفا وخمسمائة وثمانين) شخصا، وكان عدد مطلقي السراح بشرط كلمة الشرف من ضعاف العقول = 10930 (عشرة آلاف وتسعمائة وثلاثين شخصا) . . .
ولا تشمل هذه الإحصاءات الحالات العقلية التي تعالج في المستشفيات الخاصة. . . وحقيقة الأمر أن عدد الأفراد الذين انحطوا عقليا أكثر من ذلك بكثير، ويقدر أن عدة مئات من الآلاف لم تشملهم الإحصائيات الرسمية مصابون باضطرابات نفسية، وتدل هذه الأرقام على مدى استعداد شعور الرجل المتحضر للعطب، وكيف أن مشكلة الصحة العقلية تعتبر من أهم المشكلات التي يواجهها المجتمع العصري (178 - 179) .
أرأيت يا أخي القارئ كيف أن الإنسان الذي لم يعرف غاية وجوده، أنه مصاب في أعز ما يملك ألا وهو " عقله " الذي يميزه عن بقية المخلوقات غير العاقلة، لأنه لم يستطع الوصول إلى " حكمة خلقه " رغم الحضارة المادية والكشوف العلمية التي وصل إليها. . .
وهذه الإحصاءات كما ترى كانت قبل خمسين عاما، فما بالك بها الآن. . . هذا إلى جانب الأعداد الكبيرة الأخرى التي تنهي حياتها بالانتحار لعدم وصولها إلى معرفة الغاية من الوجود والحكمة من الخلق.
فلا بد إذن للإنسان - لكي يسعد في الدنيا والآخرة - من معرفة غاية وجوده في هذه الحياة الدنيا وذلك لا يعرف إلا بمعرفة الخالق الموجد سبحانه وتعالى.(12/248)
وسائل المعرفة
للمعرفة وسائل متعددة ولكنها تنقسم إلى قسمين:
قسم ذاتي - أي يملكه الإنسان وهو الحواس والعقل.
وقسم خارجي منه - وهو الوحي: الكتاب والسنة.
وسندرس كلا القسمين بإيجاز:(12/248)
أولا: القسم الذاتي
(أ) الحواس - كل إنسان مزود بمجموعة من الحواس يستطيع أن يدرك بها جانبا واحدا من الحياة وهو: المحسوسات فقط، فالعين تبصر الأشياء المحسوسة، والأذن تسمع الأصوات، والفم يتذوق المطعومات والمشروبات، والأنف يشم الروائح، واليد تلمس الأشياء فتعرف بعض مظاهرها كالحرارة والبرودة وما شابه ذلك.
هذه هي الأشياء التي يمكن أن تعرف بالحس فقط، علما بأنها كذلك غير موثوقة فقد تتعرض أحيانا للخداع فتعطي معلومات خاطئة.
فالبصر أحيانا يرى السراب في شدة الظهيرة، ويعطي للعقل معلومات بأن هناك ماء، وهو في هذه الحالة مخدوع بهذه الرؤية.
وقد يرى الجسم المستقيم الذي يكون في الإناء الذي به ماء منكسرا وهو في الحقيقة ليس كذلك.
والحواس الأخرى قد تتعرض لشيء من ذلك الخداع فهي رغم أنها وسيلة صادقة إلا أنها قد تخدع في بعض معلوماتها.
(ب) العقل - إن من أعظم النعم على هذا الإنسان ما زوده الله عز وجل به من تلك القوة العجيبة، التي لا يستحق الإنسان وصف الإنسانية إلا بها ألا وهي " قوة التعقل "، إذ لولاها لكان الإنسان في عداد الحيوانات.
ولما كان العقل شيئا لا يحس، وإنما يدرك بأثره لأنه ليس شيئا محسوسا، فإن وظيفته تتناسب مع حقيقته، فهو يدرك الجانب الثاني من الحياة وهو ما كان خارجا عن دائرة الحس،. . وإن كان هناك تلازم بين عمل الحس والعقل، إذ لولا العقل لما كان للحواس فائدة في المعرفة.
ونستطيع أن نقول: إن العقل يدرك بواسطة الحس كما أن الحس يدرك بواسطة العقل، وإن كان في هذا القول تجوز في التعريف، ولكنه أقرب إلى الحقيقة مع اتساع الدائرة التي يعمل فيها العقل. . . إذ إن هناك قوى يعمل من خلالها العقل كقوة التخيل(12/249)
والتصور ولكنه رغم ذلك يبقى مرتبطا بالحس.
فالمنافذ التي توصل المعلومات إلى العقل هي الحواس الخمس. فإذا رأى - مثلا - في بلده جبلا كبيرا ثم قيل له: إن في البلد الفلاني جبلا كبيرا جدا فإنه يستعيد صورة الجبل التي رآها ثم يضخمها حتى تتناسب مع وصف الجبل الثاني.
ولو قيل لإنسان لا يعرف الفيل: إن الفيل حيوان كبير لتصور أكبر حيوانات بلده ثم قارنه به.
ولوكان للذرة الصغيرة عقل وهي لا تعرف الفيل، ثم قيل لها: إن الفيل حيوان ضخم جدا، لتصورته مثل أكبر ذرة من الذر أو أكبر نملة من النمل الذي تقرب صورته من الذر.
ومهما حاول صاحب العقل أن ينفك من آثار المعلومات الحسية فإنه لا يستطيع، فلو حدث بأشياء ليس لها مثال ولا شبيه محسوس لصعب عليه تصديق ذلك.
فلو قيل له قبل ألف سنة: إن الإنسان سيطير في الهواء ويغوص في الماء، ويرى إنسان الصين إنسان الأندلس، ويسمع صوته لاتهم المتكلم بالسفه والجنون؛ لأن ذلك لم يره ولم يسمع عنه من قبل.
ولو أن أحد الأعراب في البادية، دخل بعض المدن إبان ظهور الأجهزة الإذاعية ثم رجع إلى قومه وأخبرهم بأنه رأى حديدا يتكلم، بدون أسنان ولا لسان ولا شفتين ولا رئة لما صدقوه ولاتهموه بالسفه والجنون.
وما ذلك إلا لأنهم لم يألفوا ذلك المنظر ولم يشاهدوه أو يشاهدوا مثله من قبل. وكذلك فإنهم لا يستطيعون أن يدركوا شيئا على خلاف ذلك.
فهم مأسورون لحواسهم، لا يستطيعون أن يحكوا بخلاف ما عرفوه وشاهدوه. ولكن العقل رغم ذلك قادر على معرفة بعض الأمور التي لا تخضع للحس بواسطة الاستنتاج والملاحظة.
فإذا رأى - مثلا - قطعة حديد تجذب حولها قطعا أخرى من الحديد حكم بأن بها قوة مغناطيسية.(12/250)
وإذا رأى شمعة مضاءة، حكم بأن التيار الكهربائي متصل بها - وإذا رأى ماء يغلي عرف أن بجانبه طاقة حرارية. . . وهكذا وهكذا يصدر حكمه بوجود شيء بناء على وجود شيء آخر، هو أثر له أو سببه الملازم له. ولكنه لا يستطيع وصف ذلك المحكوم بوجوده: وهو المغناطيس والكهرباء والحرارة - لأنه لم يرها ولم ير شبيها بها فحكمه لا يستطيع مجاوزة الإثبات. هذا تعريف موجز للحواس البشرية ومدى ما يمكنها معرفته.
فالعقل إذن صالح لمعرفة خالقه عز وجل وأنه هو الخالق الموجد، ولكنه لا يستطيع معرفة صفاته وأسمائه، ولا معرفة ما يحبه وما يكرهه، وهذه أمور ليس في مقدور العقل إدراكها أو معرفتها بنفسه استقلالا. وإذا ما حاول ذلك بنفسه فإنه يضل السبيل ويتعثر في المسير. . ثم حتى معرفته لها إنما هي معرفة وجود لا كيفية كما قال مالك رحمه الله: (الاستواء معلوم والكيف مجهول) (1) .
وقد حاول جماعة من علماء الكلام أن يصلوا إلى معرفة أسماء الله وصفاته بعقولهم، فكانت نتيجتهم الحيرة والضلال، ثم ندموا واعترفوا بقصور العقل من ذلك، وفيما يلي نماذج من كلامهم.
يقول الرازي:
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن. اقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (3) .
__________
(1) راجع كتاب '' شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة '' للالكائي (رقم: 664) .
(2) سورة طه الآية 5
(3) سورة فاطر الآية 10(12/251)
واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (1) ، {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (2) .
ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي ".
ويقول الجويني:
(لقد خضت البحر الخضم وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته، فالويل لفلان وها أنا أموت على عقيدة أمي) (3) .
فهذه النماذج تؤكد عن تجربة، أن العقل لا يستطيع معرفة هذه الحقيقة بنفسه مستقلا، فلا بد إذن من وسيلة أخرى تكون مأمونة من الخطأ، معصومة من الزلل. . وليس هناك إلا وسيلة واحدة أنعم الله بها على هذا الإنسان ألا وهي وسيلة " الوحي " التي عرف بها الأنبياء ربهم وعرفوا الناس به سبحانه وتعالى. وهذا هو القسم الثاني من وسائل المعرفة.
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة طه الآية 110
(3) راجع الفتوى الحموية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 10 - 11 من مجموع الفتاوى ج5 ترتيب القاسمي.(12/252)
ثانيا: القسم الخارجي (الوحي)
رأينا من قبل كيف أن الوسائل البشرية عاجزة، عن معرفة أسماء الله وصفاته عز وجل، فكانت وسيلة الوحي ضرورة لبلوغ تلك المعرفة، وهذا ما أنعم الله به على البشرية، حيث تعهدها بالأنبياء والرسل لتعريفها بخالقها والحكمة من إيجادها، ثم ختمهم بسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، فأنزل عليه كتابه المبين يبين للناس تلك الأمور التي لا يستطيعون معرفتها بأنفسهم استقلالا، فمن اتبعه هدي في الدنيا والآخرة، ومن أعرض عنه ضل في الدنيا والآخرة.
منهج القرآن الكريم في عرض الصفات
أسلوب القرآن الكريم في بيان صفات الله عز وجل، دائر بين النفي والإثبات فينفي(12/252)
عنه ما لا يليق به، ويثبت ما يليق به من كمال الصفات. ولكن الصفات الثبوتية في القرآن الكريم أكثر من الصفات السلبية، إذ إن الوصف بالصفات الثبوتية أكثر إيضاحا من الوصف بالصفات السلبية. فلو وصفنا إنسانا بأنه: ليس حمارا ولا قطا ولا أسدا ولا ذئبا ولا جبلا ولا حجرا. . ولا. . . ولا. . وهكذا فإننا لن نستطيع إفهام السامع بما نريد.
ولكننا لو قلنا: إنه جسم مخلوق متحرك ناطق حساس مفكر له يدان ورجلان وعينان. . . إلى آخر تلك الأوصاف، لكان هذا أقرب إلى البيان. - ولله المثل الأعلى.
ولهذا فإن المطلع على القرآن الكريم يرى ذلك المنهج واضحا جليا.
ففي الإثبات:
يقول عز وجل: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (1) ، ويقول {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (3) ، ويقول {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (4) ، {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} (5) ، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (6) ، {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (7) . . . إلى آخر ما هنالك من الآيات التي تبين ما لربنا سبحانه وتعالى من كمال الصفات.
وفي النفي:
يقول تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (8) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (9) .
ويقول {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (10) ، وقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (11) ، ويقول {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} (12) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) سورة الإخلاص الآية 1
(3) سورة الإخلاص الآية 2
(4) سورة التحريم الآية 2
(5) سورة الروم الآية 54
(6) سورة الشورى الآية 11
(7) سورة إبراهيم الآية 4
(8) سورة الإخلاص الآية 3
(9) سورة الإخلاص الآية 4
(10) سورة مريم الآية 65
(11) سورة الشورى الآية 11
(12) سورة البقرة الآية 255(12/253)
هذا هو المنهج القرآني في بيان الصفات (1) .
وهو عز وجل يريد أن يعرف عباده به بنفسه إذ لا سبيل إلى معرفة ذلك إلا عن طريقه عز وجل وحده.
وفي هذا التعريف بيان لعظمته وقدرته وغناه وكماله ورحمته ومغفرته رحمته وعزته وعلمه وحكمته.
كما فيه بيان لمحبته وبغضه ورضاه وغضبه وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه وأنه يفعل ما يريد ويخلق ما يشاء ويختار وأنه إذا أراد شيئا إنما يقول له كن فيكون. . إلى غير ذلك من صفاته سبحانه وتعالى.
وقد توهم بعض المنتسبين إلى الإسلام أن إثبات هذه الصفات لله عز وجل يوهم التشبيه من حيث إنها أوصاف مشتركة بين الخالق والمخلوق.
وهذا من ضلال فهمهم وسقم تفكيرهم، إذ لا يلزم من الاشتراك في الاسم الاشتراك في المسمى، ولا من الاشتراك في الصفة التماثل في الموصوف، وإذا كان من المعلوم بالضرورة، أن في الوجود ما هو قديم واجب بنفسه وما هو محدث ممكن يقبل الوجود والعدم، فمعلوم أن هذا موجود وهذا موجود، ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا بل وجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه واتفاقهما في اسم عام لا يقتضي تماثلهما في مسمى ذلك الاسم عند الإضافة والتخصيص والتقييد ولا في غيره، فلا يقول عاقل: إذا قيل: إن العرش شيء موجود وإن البعوض شيء موجود - إن هذا مثل هذا لاتفاقهما في مسمى الشيء والوجود لأنه ليس في الخارج شيء موجود غيرهما يشتركان فيه بل الذي يأخذ معنى مشتركا كليا هو مسمى الاسم المطلق. وإذا قيل: هذا موجود وهذا موجود فوجود كل منهما يخصه لا يشركه فيه غيره مع أن الاسم حقيقة في كل منهما وليس مجازا.
ولهذا سمى الله نفسه بأسماء، وسمى صفاته بأسماء، وكانت تلك الأسماء مختصة به إذا أضيفت إليه لا يشركه فيها غيره.
وسمى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مضافة إليهم توافق تلك الأسماء إذا قطعت
__________
(1) ولو حسبت آيات الإثبات لزادت على ألف آية مع أن آيات النفي لا تبلغ خمسين آية.(12/254)
عن الإضافة والتخصيص.
ولم يلزم من اتفاق الاسمين وتماثل مسماها واتحاده - عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص - اتفاقهما ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص فضلا عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص.
فقد سمى الله نفسه حيا فقال: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (1) ، وسمى بعض عباده حيا فقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} (2) . . . وكذلك سمى نفسه {عَلِيمًا حَكِيمًا} (3) ، وسمى بعض عباده عليما فقال: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} (4) .
وسمى نفسه سميعا بصيرا فقال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (5) ، وسمى بعض عباده سمعيا بصيرا فقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (6) ، وليس الحي كالحي ولا العليم كالعليم ولا السميع البصير كالسميع البصير.
وأما أسماء صفاته فنحو قوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} (7) ، وقال عن عباده: {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} (8) ، ووصف نفسه بالمحبة ووصف عبده بالمحبة فقال: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (9) ، ووصف نفسه بالرضا - ووصف عبده بالرضا فقال: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (10) ، وليس العلم كالعلم ولا المحبة كالمحبة ولا الرضا كالرضا (11) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) سورة الروم الآية 19
(3) سورة النساء الآية 11
(4) سورة الذاريات الآية 28
(5) سورة النساء الآية 58
(6) سورة الإنسان الآية 2
(7) سورة البقرة الآية 255
(8) سورة غافر الآية 83
(9) سورة المائدة الآية 54
(10) سورة المائدة الآية 119
(11) راجع التدمرية (10) .(12/255)
وبهذا الإيجاز يتبين الفرق بين أسماء الله وصفاته وبين أسماء خلقه وصفاتهم فكما أن ذاته عز وجل لا تشبه الذوات فكذلك أسماؤه وصفاته لا تشبه أسماء خلقه وصفاتهم.(12/256)
ثمرة معرفة أسماء الله وصفاته
إن الله عز وجل عندما عرفنا بنفسه الكريمة عن طريق وحيه إلى أنبيائه ورسله، أراد منا أن نعبده حق عبادته فتؤدي تلك الأسماء والصفات في حياة الإنسان ثمار العبودية الحقة، التي يسعد بها في الدنيا والآخرة.
فإن العلم علمان:
- علم بالله.
- وعلم بشرعه.
والعلم به عز وجل هو رأس الأمر، لأنه يكسب القلب تعظيما وتقديرا لخالقه ومحبة وإنابة إليه وخوفا ورجاء إلى آخر تلك العبودية التي تجعله يعبد الله كأنه يراه، وهذا أعلى درجات اليقين.
والعلم بشرعه الذي أنزله على رسوله يوجه تلك العبودية السابقة، ويبين لها الطريق إلى الله سبحانه وتعالى.
فإذا انفردت إحداهما عن الأخرى، ضل الإنسان وأعرض كما هو حال اليهود والنصارى. ومعرفة الإنسان بأسماء خالقه وصفاته توجه حياته وجهة صحيحة مستقيمة.
فإذا عرف أن الله عز وجل هو " الملك " الذي بيده الأمر كله والناس خاضعون لسلطانه وقهره فإنه يذل له وحده ولا يخشى أحدا سواه.
وإذا عرف أن الله عز وجل هو " الرزاق " فإنه يتجه إليه وحده في طلب رزقه، فلا يذل لأحد من خلقه ابتغاء رزقه.
وإذا عرف أن الله " سميع بصير " فإنه يجتنب معاصيه خوفا منه لأنه يراه ويطلع على حاله ولا يخفى عليه شأن من شئونه.(12/256)
وإذا عرف {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (1) فإنه يتقرب إليه بذلك العمل حتى ينال محبته ورضوانه.
وهكذا. . وهكذا لكل اسم من أسمائه تعالى عبودية خاصة تقود صاحبها إلى خالقه وبارئه قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (2) ، والدعاء بها يتناول دعاء المسألة ودعاء الثناء ودعاء التعبد، وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته ويثنوا عليه بها ويأخذوا بحظهم من عبوديتها) .
وقال عليه الصلاة والسلام: «إن لله تسعة وتسعين اسما - مائة إلا واحدا - من أحصاها دخل الجنة (3) » رواه البخاري.
والله سبحانه وتعالى لم يعرفنا بأسمائه وصفاته لنجعل منها ميدانا للجدل والخلاف وإنما لتوجيه حياتنا بها والعمل بمقتضاها.
__________
(1) سورة البقرة الآية 222
(2) سورة الأعراف الآية 180
(3) رواه البخاري (كتاب التوحيد - 6410) .(12/257)
الصحابة وآيات الصفات
لقد مكث القرآن الكريم يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة يسمعونه منه وهو مملوء بآيات الصفات فلم يشكل عليهم معناها، أو المراد منها، ولم ينقل عن أحد منهم أنه خاض في شيء منها طوال هذه الفترة.
قال ابن القيم: (وقد تنازع الصحابة رضي الله عنهم في كثير من مسائل الأحكام وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيمانا - ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال) (1) .
وقال المقريزي: (ومن أمعن النظر في دواوين الحديث النبوي ووقف على الآثار السلفية علم أنه لم يرو قط من طريق صحيح ولا سقيم عن أحد من الصحابة رضي الله
__________
(1) راجع أعلام الموقعين (1: 49) .(12/257)
عنهم على اختلاف طبقاتهم، وكثرة عددهم أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى شيء مما وصف به الرب سبحانه نفسه الكريمة في القرآن الكريم، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بل كلهم فهموا معنى ذلك وسكتوا عن الكلام في الصفات.
نعم، ولا فرق أحد منهم بين كونها صفة ذات أو صفة فعل، وإنما أثبتوا له تعالى صفات أزلية من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام والجلال والإكرام والجود والإنعام والعز والعظمة، وساقوا الكلام سوقا واحدا من غير تعطيل ولم يتعرض - مع ذلك - أحد منهم إلى تأويل شيء من هذا ورأوا بأجمعهم إجراء الصفات كما وردت.
ولم يكن عند أحد منهم ما يستدل به على وحدانية الله تعالى وعلى إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم سوى كتاب الله، ولا عرف أحد منهم شيئا من الطرق الكلامية ولا مسائل الفلسفة) (1) .
هذا ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، وذلك لأنهم فهموا المراد من كلام الله عز وجل على ما يليق بجلاله وعظمته، ثم تابعهم على ذلك أعلام الأمة وأئمتها فلم يردوا شيئا من الصفات أو يؤولوها على غير معناها، لأنها لم توافق العقل لعلمهم بأن العقل ليس مؤهلا لمحاكمة الوحي الذي جاء من عند الله عز وجل.
ولم يحدث نزاع في آيات الصفات طوال القرن الأول، حتى بداية القرن الثاني حيث ظهر فيه رواد الضلال والفتنة فخرجوا على منهج الأمة وابتدعوا في دين الله بدعا كان لها أثرها فيما بعد.
__________
(1) الخطط (4: 180) .(12/258)
رواد المناهج المنحرفة
في أوائل القرن الثاني ظهر أربعة أشخاص من رواد المذاهب المنحرفة في فهم العقائد الإسلامية وهم:(12/258)
(1) واصل بن عطاء (ت: 131 هـ) مؤسس مذهب الاعتزال.
(2) الجعد بن درهم (ت: 124 هـ) وهو أول من أنكر كلام الله عز وجل وصفاته. قال السيوطي: إن الجعد هو: (أول من تفوه بكلمة خبيثة في الاعتقاد - يعني في الإسلام -. . فقال: بأن الله لا يتكلم) . وقد قتله أمير الكوفة خالد بن عبد الله القسري - يوم عيد الأضحى (1) .
(3) الجهم بن صفوان (128 هـ) وقد خلف الجعد في دعوته فقتله سلم بن أحوز في أصبهان (2) .
(4) مقاتل بن سليمان (150 هـ) ، وقد كان مؤسس مذهب المشبهة، كما قال أبو حنيفة رحمه الله: (أتانا من المشرق رأيان خبيثان: جهم معطل، ومقاتل مشبه) (3) .
فهؤلاء أربعة كانوا زعماء التأويل والتشبيه فتكون بعد ذلك منهجان منحرفان على أقوالهم.
الأول: مذهب الاعتزال الذي يقوم على التأويل ورد كل نص لا يوافق عقولهم، أو تأويله على خلاف ظاهره، كما قال زعيم الاعتزال في القرن الخامس القاضي عبد الجبار - قال: (وأما ما لا يعلم كونه صدقا ولا كذبا فهو كأخبار الآحاد، وما هذا سبيله يجوز العمل به إذا ورد بشرائطه) .
فأما قبوله فيما طريقه الاعتقادات فلا، إلا إذا كان موافقا لحجج العقول واعتقد موجبه لا لمكانه بل للحجة العقلية، فإن لم يكن موافقا لها فإن الواجب أن يرد وأن يحكم أن النبي لم يقله، وإن قاله فإنما قال على طريق الحكاية عن غيره، هذا إذا لم يحتمل التأويل، إلا بتعسف فأما إذا احتمله فالواجب أن يتأول. . . . . . . . . . .) (4) .
ونحن لا ندري أي عقل هو الذي يحاكم إليه النص الشرعي، لأن العقول تتفاوت،
__________
(1) كتب الفرق والملل.
(2) كتب الفرق والملل.
(3) كتب الفرق والملل.
(4) شرح الأصول الخمسة (786 - 769) .(12/259)
ثم أي فائدة للوحي مادام أن العقل هو الحاكم عليه.
الثاني: مذهب المشبهة وهم الذين بالغوا في إثبات الصفات حتى شبهوا صفات الله عز وجل بصفات خلقه.
ثم ظهر هناك مذهب ثالث أراد أن يوفق بين مذهب المعتزلة ومذهب أهل السنة والجماعة كان زعيمه (عبد الله بن كلاب) (1) الذي أثبت بعض الصفات ونفى البعض الآخر، وتابعه في ذلك أبو الحسن الأشعري، ثم رجع الأشعري في آخر حياته إلى مذهب السلف كما هو مبين في كتبه كالمقالات والإبانة وغيرهما.
والأشعرية اليوم، ليسوا على مذهب الأشعري، بل على مذهب ابن كلاب حيث يثبتون بعض الصفات وهي (العلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام والحياة) سبع صفات فقط، مع العلم بأنهم يوافقون المعتزلة قي أن القرآن لم يتكلم به الله عز وجل، وإن زعموا أنهم يثبتونه ولهم في معنى الكلام المثبت تصور منحرف.
ثم يؤلفون بقية الصفات الأخرى كالاستواء والمحبة والبغض والرضا والغضب وما إلى ذلك (2) .
هذه هي المذاهب التي تكونت مخالفة لمذهب السلف، والأخير منها أقرب إلى أهل السنة والجماعة، ولكنهم مخالفون في أمور كثيرة كما يتبين ذلك من مؤلفاتهم.
وبعد هذا العرض الموجز نبين مذهب أهل السنة والجماعة وموقفهم من هذه المذاهب باختصار.
__________
(1) راجع الفتاوى لابن تيمية 6: 367، 368، 521، 522) . ومقالات الإسلاميين (1: 249 - 250) .
(2) راجع مقالات الإسلاميين (1: 345 - 350) .(12/260)
منهج السلف في الأسماء والصفات
(أ) تعريف السلف:
إذا أطلق السلف فالمراد بهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سار على طريقهم - وهم أعلام الأمة المشهورون، وفيما يلي نورد بعضا من علماء القرون الثلاثة المفضلة:(12/260)
من التابعين من أهل المدينة:
سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وسالم بن عبد الله بن عمر، ومحمد بن الحنفية، وعلي بن الحسين بن علي، وابنه محمد، وعمر بن عبد العزيز، وزيد بن أسلم. ومحمد بن مسلم الزهري، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وجعفر الصادق، ومالك بن أنس، وابن الماجشون.
ومن أهل مكة:
عطاء وطاوس ومجاهد، وابن أبي مليكة، وعمرو بن دينار، وابن جريج، وابن عيينة، والفضيل بن عياض، والشافعي، والحميدي.
ومن أهل الشام:
رجاء بن حيوة، وعبد الله بن محيريز، وميمون بن مهران، والأوزاعي وابن شوذب.
ومن أهل مصر:
حيوة بن شريح، والليث بن سعد، وعبد الله بن وهب، والمزني، والبويطي.
ومن أهل الكوفة:
علقمة، والشعبي، وإبراهيم النخعي، ومالك بن مغول، والثوري، وأبو نعيم، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأخوه عثمان.
ومن أهل البصرة:
أبو العالية، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وابن المديني، والتستري.
ومن أهل بغداد:
أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبو ثور، والطبري.
ومن أهل خراسان:
عبد الله بن المبارك، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن نصر المروزي، والسرخسي، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن خزيمة(12/261)
هذه بعض أسماء أئمة السلف وقد ذكر، اللالكائي رحمه الله في أول كتابه (1) مائة وخمسين عالما، ثم في موضع آخر خمسمائة وخمسين شخصا من علماء الأمة ممن عاشوا في القرون الثلاثة المفضلة كلهم على مذهب أهل السنة والجماعة. هذا ليعلم أن المذاهب المنحرفة كانت شاذة في المجتمع الإسلامي ومخالفة لمنهج المسلمين.
(ب) منهج السلف في إثبات الصفات:
مذهب السلف هو ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم فيثبتون كل الصفات التي وردت في كتاب الله عز وجل، أو في السنة الصحيحة، ولا يردون شيئا منها أو يؤولونه لأنهم يعتقدون أن صفات الله عز وجل لا تشابه صفات خلقه، كما أن ذاته المقدسة لا تشابه ذوات خلقه فصفاته تليق به عز وجل.
والمنهج الذي سار عليه السلف في فهم العقيدة هو ما يلي:
إثبات كل الصفات الواردة في الكتاب والسنة الصحيحة.
(2) عدم رد شيء منها أو تأويله.
(3) عدم تحكيم العقل في أمور العقيدة.
(4) اعتقاد مخالفة صفات الله لصفات خلقه.
جـ) منهج السلف في الرد على المذاهب المنحرفة:
أولا - الرد على المعتزلة الذين يؤولون آيات الصفات على غير معناها، ويثبتون أسماء الله عز وجل بزعم أن في إثبات الصفات مشابهة للمخلوقات فقال علماء السلف:
(1) إن المعتزلة - وكذلك بقية الطوائف المنتسبة للإسلام يقولون: إن لله ذاتا وأسماء لا تشبه ذوات خلقه ولا أسماءهم: فيقال لهم: وكذلك له صفات لا تشبه صفات خلقه إذ إن التفريق بين الأمرين لا دليل عليه.
إن كلام الله سبحانه وتعالى هو أفصح الكلام وأبلغه كما قال تعالى:
__________
(1) كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1: 29 - 49) وراجع (1: 234 - 312) .(12/262)
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (1) ، وصرف ألفاظه عن ظاهرها إلى معان أخرى يقتضي خلاف ذلك، واتهام الله عز وجل بالعجز عن البيان - سبحانه عما يقول الظالمون؛ ثم يزعمون أن البشر من الفلاسفة والمتكلمين أقدر منه عز وجل على البيان فيحمل كلامه سبحانه وتعالى على غير ظاهره، وهذا فوق أنه كفر صريح سوء أدب مع الله سبحانه وتعالى.
(3) إن المبلغ عن الله عز وجل وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، أفصح البشر وأحرصهم على ما ينفعهم فيستحيل مع هذا أن يبلغهم كلام ربهم ثلاثة وعشرين عاما وهو يريد معاني أخر من كلامه، ثم لا يبين لهم، والله عز وجل يقول: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (2) .
(4) إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا أفصح الأمة، وأحرصهم على معرفة دينهم، وقد كانوا يسمعون كلام الله عز وجل ثلاثة وعشرين عاما وهو مملوء بذكر صفات الله سبحانه وتعالى ولم يستشكلوا شيئا منها لعلمهم بأن معناها على ظاهرها، بما يليق في حق ربهم سبحانه وتعالى، ولو كان خلاف ذلك لنقل عنهم (3) .
ثانيا - الرد على المشبهة الذين أساءوا فهم آيات الصفات فلم يفرقوا بين صفات الخالق والمخلوق لاشتراك الصفتين في الاسم.
قال علماء السلف:
إن الله سبحانه وتعالى خالق الخلق، وموجد الكون وهو الكامل في ذاته وصفاته وأفعاله، والخلق موجود من العدم ويلحقه النقص في ذاته وصفاته وأفعاله فكيف يسوى بين خالق كامل سبحانه ومخلوق ناقص. تعالى الله عن جهل الجاهلين وفهم المنحرفين.
يقول سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (4) وهم يقولون بل هو مثل خلقه ويقول سبحانه وتعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (5) وهم
__________
(1) سورة النحل الآية 89
(2) سورة النحل الآية 44
(3) راجع مختصر الصواعق المرسلة (أوائل الجزء الأول) .
(4) سورة الشورى الآية 11
(5) سورة الإخلاص الآية 4(12/263)
يقولون بمشابهة صفاته لصفات خلقه، وهذا يقتضي وجود كفو وشبيه به سبحانه عز وجل وتعالى عما يقولون ".
وهذا القول قد اندثر القائلون به، إذ قليل العقل يكفي لمعرفة بطلانه.
ثالثا - الرد على الأشاعرة الذين يثبتون بعض الصفات ويؤولون البعض الآخر بزعم أن المؤول فيه مشابهة.
قال علماء السلف:
(1) كما أنكم تقولون: إن له ذاتا وأسماء وصفات معدودة لا تشبه ذوات الخلق ولا أسماءهم ولا صفاتهم، فقولوا في المؤول مثل ما قلتموه في المثبت إذ هذا تفريق بمجرد الظن، والظن لا يغني من الحق شيئا.
(2) ويرد عليهم كذلك بما تقدم في الرد على المعتزلة لمشابهتهم لهم في هذا الأمر.
(3) ويرد على الجميع بما تقدم في أول المبحث من أن العقل عاجز عن إدراك الأمور الغيبية بنفسه استقلالا لخضوعه للمعلومات الحسية.(12/264)
نماذج من أقوال أهل السنة والجماعة في تفسير آيات الصفات
ولكي يتضح منهج أهل السنة في تفسير النصوص الواردة في صفات الله عز وجل نورد هنا مجموعة من كلامهم في إحدى صفات الله عز وجل التي نطق بها الكتاب والسنة ألا وهي:
" الاستواء "
ورد إثبات الاستواء في سبع آيات من كتاب الله كقوله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) ، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (2) . . . . . . . . . ونحو ذلك.
قال مالك بن أنس: (الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال
__________
(1) سورة طه الآية 5
(2) سورة يونس الآية 3(12/264)
عنه بدعة) .
وقال أبو حنيفة - جوابا لمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ فقال: (فقد كفر: لأن الله يقول {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) وعرشه فوق سبع سماوات) وقال: (إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر) .
وقال علي بن المديني - عن مذهب الجماعة - (يؤمنون بالرؤية والكلام وأن الله فوق السماوات على العرش استوى) .
وقال الترمذي: (هو على العرش كما وصف نفسه في كتابه وعلمه وقدرته وسلطانه في كل مكان) .
وقيل لابن المبارك: بماذا نعرف ربنا؟ قال: (إنه فوق السماوات على عرشه بائن من خلقه) .
وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي زمنين في كتابه - أصول السنة: (ومن قول أهل السنة أن الله عز وجل خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق، ثم استوى عليه كيف شاء كما أخبر عن نفسه) .
وأخيرا: نسأل الله عز وجل أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة طه الآية 5(12/265)
صفحة فارغة(12/266)
التصوف من صور الجاهلية
للشيخ / محمد أمان بن علي الجامي.
رئيس شعبة العقيدة بقسم الدراسات العليا
بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة (سابقا)
الحمد لله رب العالمين، وصلاة الله وسلامه ورحمته وبركاته على رسوله الأمين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد: فإن الجاهلية التي نريد أن نتحدث عن بعض صورها غير الجاهلية التي تتبادر إلى الأذهان إذا أطلقت.
لأن الجاهلية في الأصل اسم لفترة زمنية قبل الإسلام بما فيها من أعمال وثنية وتصرفات جاهلية من شرك وظلم، وفساد أخلاق، وغير ذلك.
وقد انتهت تلك الفترة ببزوغ فجر الإسلام وطلوع شمسه وانتشار نوره في العالم حتى أنار الطريق لكل سالك، فدخل الناس في دين الله أفواجا، فقامت للإسلام دولة قوية ذات منعة، وعاش المسلمون في عصر النبوة حياة لم يسبق لها مثيل - ولن يوجد لها مثيل قطعا - توحيد خالص لله وحده، وعدل، وإنصاف، وطاعة لله ولرسوله، وتحابب في الله وتآخ، واعتزاز بالإسلام، وعزة، وكرامة، وهيبة في قلوب الأعداء.
وقد سجل لهم القرآن هذا المعنى في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (1) .
هكذا عاش المسلمون في ذلك العهد الفريد إلى أن انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى، إلا أنه لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن نزل إعلان من السماء بأن الدين قد كمل - فالكامل لا يقبل الزيادة عادة - وأن نعمة الله على أتباع محمد بالإسلام قد تمت، وذلك
__________
(1) سورة المنافقون الآية 8(12/267)
قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) .
نزلت الآية الكريمة في حجة الوداع في يوم الجمعة، وفي اليوم نفسه خطب النبي الكريم خطبة يوم عرفة المشهورة، جاء في آخرها قوله عليه الصلاة والسلام وهو يخاطب أصحابه: «أنتم مسئولون عني فماذا أنتم قائلون؟ . قالوا: نشهد أنك بلغت ونصحت. فجعل يقول عليه الصلاة والسلام: اللهم اشهد. اللهم اشهد. يرفع أصبعه (3) إلى الصحابة قائلا: اللهم اشهد. اللهم اشهد. اللهم اشهد» . .
ولم يعش النبي صلى الله عليه وسلم بعد حجة الوداع طويلا، بل أخذ يحدث أصحابه وأتباعه أنه إن تركهم سوف لا يسلمهم للفوضى، بل يتركهم على منهج واضح ليس فيه أدنى غموض، إذ قال لهم: «تركتكم على بيضاء نقية لا يزيغ عنها إلا هالك (4) » ، وفي لفظ: «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، كتاب الله (5) » .، «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي (6) » . نعم، تركهم على هذا المنهج الموصوف، ونصحهم ليتمسكوا به ولا يحيدوا عنه، ولا يزيدوا فيه، وحذرهم عن الزيادة والخالفات، بل يلتزمون المنهج حرفيا.
فقال عليه الصلاة والسلام محذرا لهم عن الابتداع: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (7) » ، «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد (8) » ، «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (9) » . .
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) صحيح البخاري الحج (1785) ، صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن الترمذي الحج (856) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .
(3) (2) إلى الله الذي فوقه وفوق كل شيء، ثم ينكبها نكب الإناء ينكبه أماله وكبه.
(4) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(5) سنن ابن ماجه المقدمة (44) .
(6) موطأ مالك الجامع (1661) .
(7) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(8) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(9) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(12/268)
ثم إنه عليه الصلاة والسلام ترك هذا المنهج في أيد أمينة وقوية، في أيدي جماعة كانت حريصة على الأمة حرصا يشبه حرصه عليه الصلاة والسلام عليهم، وهم رجال رباهم على المنهج، واطمأن إلى فهمهم للمنهج، وهم أصحابه الذين اختارهم الله لصحبته، وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وإخوانهم، فحافظوا على المنهج وأحسنوا التصرف فيه بحزم دونه كل حزم ودعوا إليه بصدق وإخلاص وضحوا في سبيل ذلك بكل ممكن.
وفور وفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام ارتدت بعض قبائل العرب، وبعضها منعت الزكاة، فنهض أبو بكر لقتالهم، فتوقف باقي الصحابة وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب في قتال مانعي الزكاة مجتهدين، قالوا: كيف نقاتل قوما يشهدون ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؟ فأقسم بالله أبو بكر الصديق لو أنهم منعوه عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام لقاتلهم، لأنهم فرقوا بين الصلاة والزكاة، ولأن الزكاة من حقوق الإسلام وواجباته المالية، ولأن الإسلام بجميع حقوقه وواجباته إنما هو لله الحي الذي لا يموت، فلا يموت الإسلام ولا شيء من واجباته بموت النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا هو أول إعلان أعلنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما علم ما حصل لعمر بن الخطاب عندما قبض النبي عليه الصلاة والسلام، إذ ظن عمر أن النبي لم يقبض بعد، بل إنه سوف يعود، فهدأه أبو بكر فقال فيما قال: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا قوله تعالى من سورة آل عمران: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (1) .
واندهش عمر عند سماعه هذه الآية دهشة قريبة من دهشته من وفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى يقول: كأنه لم يسمع هذه الآية قبل هذه المرة، وهو يحفظها ويقرؤها وكأنها نزلت من توها وهي تخاطبه.
وبعد ذلك البيان من الخليفة الأول أبي بكر الصديق، رجع عمر ومن معه إلى رأي أبي بكر فاقتنعوا بوجوب قتال مانعي الزكاة، إذ لو لم يفعلوا لكانت فتنة في صفوف الأمة
__________
(1) سورة آل عمران الآية 144(12/269)
وفساد كبير.
هكذا حافظوا رضي الله عنهم على وحدة الأمة ووقفوا أمام أسباب الانقسام والتفرق بذلك الحزم لئلا تعود الأمة إلى الجاهلية الأولى من جديد، أو إلى ما يشبه ذلك. وفي أواخر عهد الخلفاء الراشدين، وفي خلافة علي بالتحديد، خرجت الخوارج، وتشيعت الشيعة، ثم ظهرت الفرق متتابعة من جبرية ومرجئة وجهمية ومعتزلة وأشعرية وماتريدية.
فسمعت دنيا المسلمين ما تتوقعه من الانقسام والتفرق تصديقا لقوله عليه الصلاة والسلام: «وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة (1) » . هكذا بدأت الجاهلية التي نريد أن نستعرض بعض صورها في حديثنا هذا، لأن الجاهلية هنا لا تعني - كما تقدم - فترة زمنية، ولكنها أعمال وتصرفات وأوضاع معينة ومفاهيم خاطئة، ويمكن أن نوجز أمهاتها في العناوين التالية:
أ - جاهلية التصوف.
2 - جاهلية علم الكلام.
3 - جاهلية التعصب المذهبي.
4 - جاهلية في الحاكمية: أي الحكم بغير ما أنزل الله.
__________
(1) ابن ماجه.(12/270)
أما جاهلية التصوف: فقد ظهرت واشتهرت بعد انقراض القرون الثلاثة المفضلة، فيحدثنا عن نشأتها شيخ الإسلام ابن تيمية، كما يعين لنا مكان نشأتها، وملخص حديثه: إن الصوفية ظهرت أول ما ظهرت في البصرة بالعراق على أيدي بعض العباد الذين عرفوا بالغلو في العبادة والزهد والتقشف المبالغ فيه، بل لقد زين لهم الشيطان أن يتخذوا لباس الشهرة فلبسوا الصوف وقاطعوا القطن بدعوى أنهم يريدون التشبه بالمسيح عليه السلام. هكذا تقول الرواية، فنسبوا إلى الصوف (1) ، فقيل لهم: الصوفية فدعوى أنهم منسوبون إلى أهل الصفة أو إلى الصف المتقدم دعوى باطلة. يكذبها الواقع واللغة. ولما
__________
(1) النسبة إلى الصفة (صفي) والنسبة إلى الصف (صفي) .(12/270)
سمع بعض السلف أن قوما لازموا لباس الصوف زاعمين التشبه بالمسيح قالوا: هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلينا. وهو يلبس القطن وغيره. ينسب هذا الكلام إلى ابن سيرين رحمه الله، ويروي لنا شيخ الإسلام: أن مدينة البصرة قد عرفت من تلك الفترة بهؤلاء المتصوفة وتصوفهم، كما عرفت الكوفة بالفقه والآراء والقضاء حتى قيل: عبادة البصرة وفقه الكوفة.
هكذا ظهرت جاهلية التصوف، ومن هذه المدينة انتشرت.
ولو رجعنا إلى الوراء في تاريخنا الطويل، لوجدنا أن هذه البدعة التي تسمى بالتصوف اليوم قد أطلت برأسها في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام إلا أنها قمعت عند أول ظهورها أو التفكير فيها، وذلك عندما جنح بعض الناس إلى نوع من الرهبانية، «فذهب ثلاثة أشخاص من الصحابة إلى بيت من بيوت الرسول عليه الصلاة والسلام، فسألوا عن عبادته عليه الصلاة والسلام، فلما أخبروا كأنهم تقالوها - أي رأوا أن ما يفعله الرسول من العبادة قليل، فهم يريدون أكثر من ذلك. فقال أحدهم: أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر. وقال الثاني: وأما أنا فأقوم الليل ولا أنام. وقال الثالث: وأما أنا فلا أتزوج النساء. فلما بلغ ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام طلبهم فأتي بهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ فلم يسعهم إلا أن يقولوا: نعم. فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: أما والله إني لأعبدكم وأخشاكم لله، ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني (1) » . .
هذه الواقعة رويناها بالمعنى تقريبا، وهي عند الشيخين وبعض أهل السنن (2) .
ومما يلاحظ أن الرسول عليه الصلاة والسلام استخدم في إنكار هذه البدعة أسلوبا لا نعلم أنه كان يستخدمه عندما يبلغه أن إنسانا ما ارتكب مخالفة أو أتى معصية، بل كانت عادته الكريمة المعروفة أنه في مثل هذه الحالة يجمع الناس فيوجه إليهم كلمة عامة واستنكارا وتوبيخا لا مجابهة فيه، كأن يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا؟ وقد كان هذا الأسلوب كافيا للردع والإنكار مع ما يتضمنه من الستر على مقترف تلك المعصية. ولكننا رأينا الرسول عليه الصلاة والسلام هذه المرة يطلب حضور الثلاثة الذين
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5063) ، صحيح مسلم النكاح (1401) ، سنن النسائي النكاح (3217) ، مسند أحمد بن حنبل (3/285) .
(2) البخاري ومسلم والنسائي.(12/271)
جنحوا إلى ما يسمى (التصوف) اليوم، ثم يسألهم أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ ، ثم يعلن لهم أنه أعبدهم وأخشاهم لله مؤكدا ذلك بالقسم، كأنهم لا يعلمون ذلك. تقريعا لهم وتوبيخا، فأشعرهم أن الأساس في العبادة الاتباع دون الابتداع، وأن الكيفية مقدمة على الكم المخالف للسنة، ثم يختم التوبيخ بالبراءة أي بالإخبار أن من يرغب عن سنته وهديه ليس منه ولا هو على دينه الذي جاء به من عند الله.
ومما ينبغي التنويه به هنا أن حسن النية وسلامة القصد والرغبة في الإكثار من التعبد، كل هذه المعاني لا تشفع لصاحب البدعة لتقبل بدعته أو لتصبح حسنة وعملا صالحا. لأن هؤلاء الثلاثة لم يحملهم على ما عزموا عليه إلا الرغبة في الخير بالإكثار من عبادة الله رغبة فيما عند الله، فنيتهم صالحة، وقصدهم حسن، إلا أن الذي فاتهم هو التقيد بالسنة التي موافقتها هو الأساس في قبول الأعمال مع الإخلاص لله تعالى وحده.
وبعد:
لعل القارئ يلاحظ أن بدعة التصوف ظهرت أول ما ظهرت مغلفة بغلاف العبادة والزهد، وهما أمران مقبولان في الإسلام، بل مرغوب فيهما، ثم ظهرت على حقيقتها التي هي عليها الآن، وهذا شأن كل بدعة، إذ لا تكاد تظهر وتقبل إلا مغلفة بغلاف يحمل على الواجهة التي تقابل الناس معنى إسلاميا مقبولا، بل محبوبا.
ومن أمثلة ذلك: بدعة الاحتفال بالمولد التي ابتدعها الفاطميون بالقاهرة بدعوى محبة الرسول وآل البيت، حيث كانوا يحتفلون بمولد النبي عليه الصلاة والسلام في كل عام، ثم بمولد علي رضي الله عنه، ثم بمولد فاطمة رضي الله عنها، ثم بمولد الحسن والحسين، وأخيرا يحتفل بمولد الخليفة الحاضر، وهكذا لو تتبعت نشأة كل بدعة لوجدتها لا تظهر أول ما تظهر إلا في مثل هذا الغلاف المقبول. ومما يلاحظ في الآونة الأخيرة ظهور احتفالات باسم أسبوع فلان أو شهر فلان أو مرور كذا سنة على الحركة الفلانية أو بعبارة بهذا المعنى، ومثل هذه الاحتفالات التي تعد - فيما يبدو للناس - إنما هي مجرد ذكرى لأولئك المجددين والمصلحين وإحياء لدعوتهم وحركتهم الإصلاحية، ولكنها سوف تتحول على المدى البعيد - والله أعلم - إلى جنس الاحتفالات التي تسمى اليوم عند العوام وأشباههم الاحتفالات الدينية، هكذا أتصور - والله أعلم.(12/272)
فلنعد إلى البصرة حيث نشأت الصوفية، ثم انتقلت منها إلى المدن الأخرى بالعراق، ثم إلى الأقطار المجاورة للعراق، وهكذا حتى انتشرت الصوفية في دنيا المسلمين وهي تتظاهر بالعبادة والزهد.
ولم يطل الزمن - كما يحدثنا شيخ الإسلام - حتى انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة والمرتزقة. وهذه المتصوفة المنتشرة في العالم الإسلامي من أولئك المبتدعة والزنادقة كالحلاج الذي قتل أخيرا لزندقته وابن عربي، وابن الفارض، وابن سبعين، وابن عجيبة، وغيرهم من كبار مشايخ الصوفية، وسيأتي نقل بعض نصوصهم الكفرية إن شاء الله.
وقد شوهت هذه الطائفة (الصوفية) جمال الدين، وغيرت مفاهيم كثيرة من تعاليم الإسلام لدى كثير من المخدوعين الذي يحسنون الظن بكل ذي عمامة مكورة وسجادة مزخرفة وسبحة طويلة، ويستسمنون كل ذي ورم، فأخذوا يحاولون أن يفهموا الإسلام بمفهوم صوفي بعيد عن الإسلام الحق الذي كان عليه المسلمون الأولون قبل بدعة التصوف وبدعة علم الكلام وغيرهما من البدع التي شوشت على السذج وحالت بينهم وبين المفهوم الصحيح للإسلام.
وإليكم بعض تلك المفاهيم التي غيرتها الصوفية.(12/273)
مفهوم الدين الإسلامي عند الصوفية:
ينقسم الدين الإسلامي عند الصوفية إلى قسمين:
أولا - الشريعة التي تضمنها الكتاب والسنة: وهي في زعمهم للعوام أو لغير الواصلين، ويسمون علماء الشريعة علماء الرسوم استخفافا بهم، بل يسمون الشريعة القشر الظاهري، وهو قليل الجدوى، وأما اللب الداخلي المقصود بالذات فهي تلك الحقيقة التي اختص بها كبار مشايخ الصوفية. وهي التي سوف نتحدث عنها في الفقرة التالية.
ثانيا - الحقيقة: وهي خاصة بطبقة الواصلين كما تقدم، وهي شيء آخر غير الشريعة. وأعلى من الشريعة وأخص، لأن الشريعة إنما يلتزمها العوام وأشباه العوام من(12/273)
علماء الرسوم - كما زعموا وبئس ما زعموا -.
وهذه الحقيقة المزعومة يرى بعضهم أنها علم التصوف - ويسمون تلك البدعة علما، وهي ليست من العلم في شيء! ! بل التصوف في حقيقته عبارة عن طقوس مجمعة من البوذية والهندوكية واليهودية، وهي بعيدة عن الإسلام كل البعد ولا يتردد في ذلك إلا مريض القلب بمرض الوثنية أو إنسان ضعيف المعرفة بالدين. فالمتصوفة طائفة مادية تريد أن تعيش تحت ستار العبادة، وعبادتهم في الواقع عبارة عن عبث وأنواع من الرقصات فهم من الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا، وقد سموا تلك الرقصات ذكرا لتقبل وتروج ولكن على السذج. وأما طلاب العلم أصحاب البصيرة فلا تنطلي عليهم مثل هذه التسمية.(12/274)
من واضع علم التصوف؟
يزعم ابن عجيبة الصوفي الفاطمي بأن واضع علم التصوف هو رسول الله عليه الصلاة والسلام، علمه الله بالوحي والإلهام، ثم يقول ابن عجيبة في تفصيل ذلك في عجائبه وأكاذيبه الكثيرة: نزل جبريل أولا بالشريعة، فلما تقررت نزل ثانية بالحقيقة، فخص بها رسول الله بعضا دون بعض، وأول من تكلم بالتصوف هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأخذ عنه الحسن البصري (1) .
والقارئ البصير يدرك من كلام هذا الزنديق الصلة الوثيقة بين بدعة الصوفية وبدعة الشيعة التي تعبد أئمتها وتؤلههم، وما الصوفية إلا خطا ممدودا متفرعا من دين الروافض الخبيث.
وكلام ابن عجيبة هذا فرية جائرة وجريئة على رسول الله - كما لا يخفى على طالب علم - وبهت له عليه الصلاة والسلام بجريمة الكتمان، وهل يتهم النبي الأمين محمدا عليه الصلاة بكتمان الحق الذي أرسل به ليبلغه للناس وقد أمره ربه بذلك بقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (2) - إلا الزنديق المارق الذي يريد أن يصرف الناس عن الإسلام لو استطاع.
__________
(1) هذه هي الصوفية ص 2 نقلا عن إيقاظ الهمم في شرح الحكم ص 5 لابن عجيبة.
(2) سورة المائدة الآية 67(12/274)
ويتضمن زعم ابن عجيبة بهتا آخر على الرسول عليه الصلاة والسلام وهو تخصيص آل البيت بشيء من العلم والدين لا يعلمه سائر الصحابة حتى أبو بكر وعمر وعثمان.
ومن جهة أخرى أن المعروف من معاني الإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام الإيمان بأنه عليه الصلاة والسلام بين ما أنزل عليه وما أوحي إليه، بلاغا عاما شاملا، وأنه أمين الله على وحيه، وكلام ابن عجيبة الذي يتحدث عن واضع علم التصوف - على حد تعبيره - يتنافى وهذا الإيمان كما ترى.
وأما تخصيص آل البيت بشيء من العلم والدين دون غيرهم، فهذه فكرة موروثة ورثتها الصوفية من أسيادهم (الشيعة) ، وقد نفى هذا الزعم علي بن أبي طالب نفسه، حيث روى مسلم حديث أبي الطفيل عامر بن واثلة قال: «كنت عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأتاه رجل فقال: ما كان النبي يسر إليك؟ فغضب وقال: ما كان النبي عليه الصلاة والسلام يسر إلي شيئا يكتمه الناس غير أنه قد حدثني بكلمات أربع. قال: فقال: ما هن يا أمير المؤمنين؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعن الله من لعن والديه. لعن الله من ذبح لغير الله. لعن الله من آوى محدثا. لعن الله من غير منار الأرض (1) » .
ثم إن كلام ابن عجيبة ووراءه ابن عربي وابن الفارض وغيرهما من كبار مشايخ الصوفية يتضمن أن أبا بكر وعمر وعثمان لا يعلمون بعض الأمور - وهي من الدين - قد يعلمها مشايخ الصوفية وهو ما سموه حقيقة أو تصوفا، وهل يعتبر دينا ما لم يعلمه أبو بكر وعمر وعثمان، وقد أمرت الأمة بالأخذ بسنتهم والاقتداء بهم «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي (2) » الحديث «اقتدوا بالذين من بعدي - وأشار إلى أبي بكر وعمر (3) » .
وأما ابن الفارض فقد تحدث عن دين الصوفية بإسهاب في تائيته الكبرى، ودين الصوفية الذي انتهى إليه كبار الصوفية ويشمر عن ساعد الجد صغار الصوفية للوصول إليه هو (وحدة الوجود) واعتقاد أن الله سبحانه وتعالى عين هذا الوجود، وهي زندقة تحملها أبيات تائية لابن الفارض، فلنسمع بعضها إذ يقول ما هو كفر بواح لدى كل فقيه:
__________
(1) صحيح مسلم - كتاب الأضاحي - حديث 43 - 45 جـ 4 عبد الباقي ص1567.
(2) أبو داود - كتاب السنة من حديث طويل - 4607، والترمذي في العلم حديث 2678.
(3) ابن ماجه.(12/275)
فقد رفعت تاء المخاطب بيننا ... وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي
لا فلك إلا ومن نور باطني ... به ملك يهدي الهدى بمشيئتي
ولا قطر إلا حل من فيض ظاهري ... به قطرة عنها السحائب سحت
ولولاي لم يوجد وجود ولم يكن ... شهود ولم تعهد عهود بذمة
ولا حي إلا من حياتي حياته ... وطوع مرادي كل نفس مريدة
فماذا يحكم القارئ على من هذا كلامه وهو يفتري أن ملكوت كل شيء بيده، وأن الوجود كله قطرة من فيض جوده ومن وجوده وأن كل شيء طوع هواه.
فلنسمع مرة أخرى أيها القارئ إلى فرية لابن الفارض إذ يزعم أن جميع الصلوات التي يؤديها العباد والنساك في جميع الجهات الست، وتلك المناسك التي ينسكها الحجاج والمعتمرون إنما ترفع الحقيقة إلى ابن الفارض من حيث لا يشعر أولئك العباد والحجاج والعمار والطائفون بالبيت العتيق، بل إنه نفسه إنما يصلي - لو كانت له صلاة - لنفسه وذلك إذ يقول:
وكل الجهات الست نحوي توجهت ... بما تم من نسك وحج وعمرة
لها صلواتي بالمقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلت
ولا يزال يكرر مزاعمه التي ضلل بها كثيرا من السذج، فيزعم أنه ليس في هذا الوجود متناقضات ولا أضداد أو أغيار أو أمثال، بل الوجود كله حقيقة واحدة. ولا يقال (خالق ومخلوق) أو (رب ومربوب) أو (عابد ومعبود) وذلك حيث يقول:
تعانقت الأطراف عندي وانطوى ... بساط السوي عدلا بحكم السوية
ثم صرح بأنه هو المعبود الذي يصلي له كل مصل ويسجد له كل ساجد، فيقول:
كلانا مصل واحد ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سواي ولم تكن ... صلاتي لغيري في أداء كل سجدة
وهذا الهذيان المارق قد صرح به شيخهم الأكبر والزنديق الأكفر ابن عربي الطائي، إذ يقول - مستخدما أسلوب التقديس تلبيسا على الأغمار:(12/276)
سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها، تعالى الله عما زعم علوا كبيرا، إذ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) .
وقال أيضا في موضع آخر من فتوحاته: (إن العارف من يرى الحق (الله) في كل شيء بل يراه عين كل شيء) (2) .
وترى الصوفية قاطبة أن هذا أدق تعريف للعارف بالله، يا سبحان الله إذا سمي الكفر إيمانا، والجهل معرفة، والمروق وصولا ما الذي بقي من الحقائق على ظواهرها؟ ! وإنما تكد الصوفية ليل نهار وتقدم جميع الوسائل البدعية للوصول إلى هذه الدرجة من الكفر الذي ليس بعده كفر، وليس باسم الوصول.
وما ذكرنا من كلام ابن عجيبة وشرحناه وما أضفنا إليه من كلام ابن الفارض وابن عربي، إنما هو قطرة من بحار كفرهم، ويعرف ذلك بالاطلاع على " فصوص الحكم "، " والفتوحات المكية " وهما لابن عربي، وما جاء في " التائية الكبرى " لابن الفارض، وما ورد في " إيقاظ الهمم في شرح الحكم " لابن عجيبة، وغيرها من الكتب التي كتبها المؤمنون بهم والمدافعون عن معتقداتهم وهي كثيرة.
هذا، وبرهان الدين البقاعي الذي كان يعيش في القرن التاسع الهجري قد ألف كتابا سماه (تنبيه الغبي بتفكير عمر بن الفارض وابن عربي) وكتابا آخر (تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد) . وقد دمجهما في كتاب واحد الشيخ السني الداعية عبد الرحمن الوكيل.
والكتاب ينقد التصوف نقدا قاتلا - كما يقول الشيخ الوكيل -: فجزى الله البقاعي والوكيل خير الجزاء على ما قدما من بيان الحق ودحض الباطل ونصح القارئ والمطلع.
وللشيخ عبد الرحمن الوكيل كتاب آخر سماه (هذه هي الصوفية) والكتاب فريد في بابه، وهو مع كثرة النقول المعزوة يمتاز بمعلومات أضافها الشيخ رحمه الله، تلك المعلومات التي اكتسبها إبان أن كان أسيرا عند الصوفية في صباه كما يحكي الشيخ في هذا الكتاب كيف حاولت الصوفية أن تفسد فطرة الصبي وتزين له دين الصوفية وإبعاده عن
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) '' هذه هي الصوفية '' نقلا عن الفتوحات المكية لابن عربي.(12/277)
الخط الموصل إلى الحق وهو الاعتصام بالكتاب والسنة، ولكن الله سلم، فهرب الصبي من الأسر واتصل بجماعة أنصار السنة المحمدية بالقاهرة، فأنقذه الله على يد الجماعة زادها الله من التوفيق.
ولله الحمد والمنة، فالكتاب يحمل في صفحاته معلومات خطيرة عن الصوفية.
وأنا أدعو شبابنا إلى قراءة هذين الكتابين ليدركوا بأنفسهم حقيقة دين الصوفية، وأنه غير الدين الإسلامي في حقيقته. والله المستعان.
وإن كان القارئ يلاحظ أن في هذا الحكم نوعا من القسوة أو المبالغة، وإنما يرجع ذلك لأنه حكم جاء مخالفا للمألوف الموروث، وأما القارئ المتجرد من مألوفات قومه بعقله الحر، وله اطلاع على نصوص الشريعة في باب الردة خاصة، فلا يشك أن ما تدعو إليه الصوفية من وحدة الوجود ومن دعوى حلول الرب تعالى في فرد من مخلوقاته، أو من دعوى الاستغناء عن الشريعة المحمدية بدعوى الأخذ من الله مباشرة، أو نقل الأحكام من اللوح المحفوظ بالنسبة لخواصهم، فلا يتردد في تكفيرهم، وبالتالي لا يتهمنا بالمبالغة أبدا.
هذا، وقد يدعون التأثير في الآجال والأرزاق والشقاوة والسعادة والموت على حسن الخاتمة أو سوء الخاتمة، بل التصرف المطلق في هذا الكون علويه وسفليه، ومن لم يكفر هؤلاء فهو كافر مثلهم أو من أجهل عباد الله. فنسأل الله له العافية.
أما البقاعي فقد نقل في كتابه المذكور: أقوال عدد كبير من أعلام القرن السابع والثامن والتاسع تكفير ابن الفارض وابن عربي شرعا، وهي فتاوى خطيرة لها اعتبارها ووزنها عند أهل العلم.
وقد صنف البقاعي أولئك الشيوخ الذين أفتوا بكفر الزنديقين إلى طبقات مختلفة في الزمن بعد أن بين مكانة كل واحد منهم في علمه وفضله والمذهب الذي ينتسب إليه من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وذكر منهم 40 عالما وإماما بأسمائهم فليراجع كتابه لأهميته.
وخلاصة ما اعتمدوا عليه في تكفيرهم هو: أن كلام الرجلين ابن الفارض وابن(12/278)
عربي ومن ذهب مذهبهما مثل ابن عجيبة، إنما يدور حول القول بأنهم مستغنون عن الشريعة التي جاءت في الكتاب والسنة ووصلوا بغير طريق محمد رسول الله إلى الله - في زعمهم.
ثانيا: أنهم صرحوا بالاتحاد والحلول، وأنهم إنما يعبدون أنفسهم كما يعبدهم غيرهم، إذ ليس هناك (خالق ومخلوق) و (عابد ومعبود) لأن الكون عين واحد، وحقيقة واحدة! هذه بعض أسباب تكفير وهي واضحة لدى طالب العلم.
وأما الذين لم يصلوا إلى هذه الدرجة من التصريح بوحدة الوجود فلا يسلمون أيضا من الكفر، بل ينالهم نصيبهم مما أصاب كبارهم من الكفر، لإيمانهم بذلك الكفر الذي تقدم شرحه وتوضيحه، لأن الرضاء بالكفر كفر، وهو أمر لا يختلف فيه فقيهان، اللهم إلا إذا كان له عذر كأن حالت بينه وبين فهم الحقيقة شبهات وجهل فقبل عذره. والله أعلم.(12/279)
مفهوم الذكر عند الصوفية:
ومن أعظم ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى ذكر الله بقلبه ولسانه والمواظبة عليه مطلقا كان أو مقيدا، حسب ما نظمته السنة المطهرة من تهليل وتسبيح واستغفار ودعاء ولقد تمكنت بدعة الصوفية من هذه العبادة العظيمة فعبثت فيها عبثا وأحدثت باسم الذكر ألفاظا ما أنزل الله بها من سلطان، كما عبثت بالأذكار المأثورة فزعمت أنها تنقسم - بزعمهم - إلى ثلاثة أنواع: نوع للعوام ونوع آخر للخواص، ونوع ثالث لخاصة الخاصة.
وتقسيم الذاكرين إلى هذه الأقسام يعد من مبتكرات مشايخ الصوفية ومبتدعاتهم، بل قد ألحدت الصوفية في أسماء الله تعالى حيث تكلمت فيها بغير علم فزعمت أن من الأسماء ما لا يصلح إلا للعوام وأما الواصلون إلى الله فلهم أسماء خاصة لا يذكر الله بها العوام، وإليكم تفصيل ما أجملت:
أما العوام في زعم الصوفية هم من عدا الواصلين في اصطلاحهم من طبقات المسلمين من العلماء وطلاب العلم وغيرهم، والواصلون هم أولئك الذين تمردوا على(12/279)
الشريعة واستخفوا بها ومرقوا عن حقيقة الإسلام والتقيد به، فسموا الأذكار التي جاءت بها نصوص الشريعة أذكار العوام مثل: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له) إلخ. الذي قال فيه رسول الله عليه الصلاة والسلام: «أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير (1) » .
هذا الذكر العظيم والتوحيد الخالص يعد عند المتصوفة من أذكار العوام.
أما الخاصة، وخاصة الخاصة من كبار الزنادقة الذين سبق أن تحدثنا عنهم مثل ابن عربي وابن سبعين فلا يتنازلون لمثل هذا الذكر وهذه الصيغة، أما ذكر الخاصة - في زعمهم - فهو تكرار لفظ الجلالة مفردا (الله) ، (الله) ، وأما ذكر خاصة الخاصة فهو ضمير الغيبة هو، هو وربما اقتصر بعضهم على الآهات (آه، آه) بكيفية خاصة بأن يتمايل الذاكر - العابث - يمنة ويسرة، وأما العامي منهم عندما يذكر الله بالتهليل مثلا يكون على هيئة معينة كأن يتمايل يمينا ويسارا يبدأ بـ (لا) يمينا، ويرجع بـ (إله) ، فيتوسط، ثم يختم بـ (إلا الله) على اليسار، يبدأ التمايل في هدوء بعد الاستئذان من الشيخ أولا ويستمد منه المدد قائلا (دستور) يا أستاذ، مددك يا سيدي، ثم يستأذن سلسلة الطريقة التي ينتسب إليها من قادرية أو تيجانية أو رفاعية أو مرغنية فيقول: دستور يا أصحاب الطريق والقدم.
وبعد أن يجأر بأسمائهم هكذا معتقدا أنهم يسمعونه ويأذنون له بقلوبهم، وبعد أن يتلطخ هكذا بهذه الوثنية ليتقبل ذكره يبدأ في الذكر.
ومما ينبغي أن يعلمه طالب العلم من هذه الجاهلية الصوفية أن ذكر الله لا ينفع به الذاكر ولا يقبل منه ولا يقرب إلى الله في دين الصوفية إلا بإذن من شيخ الطريقة، وللشيخ أن يحرم على دراويش طريقته أن يذكروا بالذكر الذي تذكر به الطريقة الأخرى وترقص به، وعلى الدرويش أو المريد الصغير أن يلتزم ذلك التحريم ولا يعصي الشيخ أدنى عصيان وإلا فهو مهدد بسوء الخاتمة، بل عليه أن يعتقد أن الشيخ جاسوس قلبه، فعليه أن يراقب خطرات قلبه بدقة، ومن الأمثال السائرة عند الصوفية (إن حضرت عند نحوي احفظ لسانك، وإن حضرت عند العارفين احفظ قلبك) .
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3585) .(12/280)
وأما أسماء الله الحسنى فمنها ما هو صالح للعوام فقط ولا يناسب الواصلين كالعفو والغفار ولهم كلام طويل هنا يعرف بالرجوع إلى كتبهم.
ولا أحسب الدرويش أنه يؤمن بالله تعالى ويخشاه ويراقبه إيمانه بالشيخ وخشيته له ومراقبته إياه، لأنه يرى حياته الاجتماعية والمادية والدينية - إن كان له دين - يرى أن ذلك كله مرتبط بالشيخ، وإذا لم يظهر للشيخ - ولو تصنعا - أنه من المخلصين له ولطريقته فسوف يبقى دائما في ذل الدروشة ولا تحصل له الترقية إلى درجة (مريد) حيث يصبح إنسانا له نوع من الاعتبار، ثم لا يتخرج خليفة له شأنه ليعين في مكان معروف بكثرة الزراعة أو بالثروة الحيوانية أو في مدينة معروفة بالتجارة والصناعة ليصبح بعد فترة قصيرة من أثرياء تلك البلدة، وتزداد بذلك ثروة الشيخ الكبير وتتضخم، وبالتالي تستفيد الطريقة من وراء ذلك مادة وصيتا طويلا، وتقدم الطريقة بسخاء الهدايا الثمينة والذبائح السمينة لمشيخة الصوفية، إذ يتقدم الشيخ أمام تلك الهدايا في تيه وكبرياء، ليعلن أنها هدايا من الطريقة التيجانية مثلا، فيرمي الشيخ من وراء ذلك أن يرشح لرياسة مشيخة الصوفية. وهذا بيت القصيد من جميع تلك الحركات.(12/281)
(مشايخ الصوفية يفترون الكذب في سبيل الدعوة إلى طرقهم) .
تحل الصوفية في اقتراف جريمة الكذب على الله عز وجل وعلى رسوله عليه الصلاة والسلام في المرتبة الثانية تقريبا بعد أن تشغل الشيعة المرتبة الأولى.
ومن أكثر مشايخ الصوفية كذبا وافتراء على الله ذلك التيجاني الجاني، فاسمعوا وهو يفتري على الله: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} (1) - يقول التيجاني الجاني: " وما أكرم الله به قطب الأقطاب أن يعلمه علم ما قبل وجود الكون وما وراءه وما لا نهاية له، وأن يعلمه جميع الأسماء القائم بها نظام كل ذرة من جميع الموجودات، وأن يخصصه بأسرار دائرة الإحاطة. . ". إلى آخر الفرية الطويلة. ولعل
__________
(1) سورة النحل الآية 105(12/281)
القارئ لا يغفل أنه يريد أن يدعي هذا المقام لنفسه لا لغيره بأسلوب صوفي معروف لدى كل العارفين بأسلوب القوم إذا هي فرية ودعاية في آن واحد، وهذا ديدنهم - وهناك فرية أخرى يطلقها التيجاني أيضا إذ يقول: (إن حقيقة القطبانية هي الخلافة العظمى عن الحق (الله) مطلقا في جميع الوجود جملة وتفصيلا، حيثما كان الرب إلها كان هو خليفة في تصريف الحكم وتنفيذه في كل من له عليه ألوهية لله تعالى، فلا يصل إلى الخلق شيء كائنا ما كان من (الحق) إلا بحكم القطب، ثم قيامه في الوجود بروحانيته في كل ذرة من ذرات الوجود) . . . إلى آخر تلك الفرية الطويلة التي تنبئ عن خلو قلب هذا الفاجر من الإيمان بالله سبحانه وتقديره حق قدره.
وهذه الفرية كالتي قبلها، دعوة صريحة للربوبية، لأن له التصرف المطلق في الكون جملة وتفصيلا، وهو كفر لم يتورط فيه أبو جهل وأمثاله من كبار صناديد قريش الذين قاتلهم رسول الإسلام واستباح دماءهم وأموالهم وسبى ذراريهم.
ولكنه كفر يتورط فيه أكثر كبار مشايخ الصوفية كما سيأتي تفصيل ذلك عند الحديث عن ديوانهم الباطني.
وللشيخ التيجاني فرية أخرى في نفس المعنى ولكنها تمتاز بما تتضمنه من دعاية صريحة لطريقته (التيجانية) ، وفيها من أساليب تضليل الناس ما ليس في غيرها من أكاذيبه المتنوعة، إذ يعد أتباعه بالجنة التي لا يملكها، بل هي حرام عليه إن مات على ما كان عليه من كفره وزندقته، ومع ذلك يقدم لأتباعه ضمانات كاذبة بدخول الجنة طالما تفانوا في طاعته وخدمته وقدموا له طعاما شهيا في حياته فإنهم يدخلون الجنة بلا حساب ولا عقاب. وذلك حيث يقول: (أخبرني سيد الوجود (يقظة) لا مناما كل من أحسن إليك بخدمة أو غيرها، وكل من أطعمك يدخلون الجنة بلا حساب ولا عقاب، فسألته لكل من أحبني ولكل من أحسن إلي بشيء من مثقال ذرة ومن أطعمني طعامه كلهم يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب، وسألته لكل من أخذ مني ذكرا أن تغفر لهم جميع ذنوبهم ما تقدم منها وما تأخر، وأن يرفع الله عنهم محاسبته، وأن يكونوا آمنين من عذاب الله من(12/282)
الموت إلى دخول الجنة، وأن يكونوا كلهم معي في عليين في جوار النبي عليه الصلاة والسلام. فقال لي عليه الصلاة والسلام: ضمنت لهم ضمانة لا تنقطع حتى يجاورني أنت وهم في عليين) (1) .
وكتابه المعروف بـ (جواهر المعاني) كله أو جله مؤلف من مثل هذا الكلام العاري عن أي حقيقة، ولكن عامة الناس تصدق وتؤمن بهذا الكتاب أكثر من إيمانهم بالأحاديث الصحاح في الصحيحين وغيرهما.
وبهذه الدعاية انتشرت الطريقة التيجانية في القارة الأفريقية وما جاورها أكثر من غيرها، لأن من علم مثل هذه الوعود والضمانات المروية عن رسول الله وهو لا يفرق بين الأحاديث الموضوعة المكذوبة على رسول الله وبين الأحاديث الصحيحة، بل يصدق كل ما قيل فيه (قال رسول الله) من علم مثل هذه الضمانات، وهو بهذه المثابة لا يتردد في الانخراط في الطريقة التيجانية ويتلوث بوثنيتها ويتلطخ بدم شركها وتشبيهها حيث يشبه الله بملك له أعوان يدبرون أمر مملكته، وليس عليه إلا الموافقة والتصديق على تدبيرهم لأنه لا يعلم من أمر الرعية الشيء الكثير إلا بواسطة هؤلاء الأعوان.
هكذا تشبه الصوفية رب العالمين - الذي لا تخفى عليه خافية - بمخلوق ضعيف لا يعلم الكثير والكثير من أمور رعيته إلا بواسطة غيره.
وبهذا التشبيه والتضليل يوهمون العوام بأن الجنة بأيديهم وأنهم يستطيعون إعطاء الوعد لأتباعهم بالجنة والرسول يضمن لهم أن يكون مشايخ الصوفية في جواره مع أتباعهم.
وأتباع التيجاني في الغالب جهال كسائر الدراوشة، ولو كانوا يعلمون ما جاء في السنة من موقف رسول الله من أقاربه وما قال لهم عندما أنزل عليه قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (2) حيث جمع صلى الله عليه وسلم عشيرته فخص وعم وقال فيما قال: «يا فاطمة بنت محمد اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئا (3) » . وما جاء في هذا المعنى من نصوص الكتاب والسنة التي تقضي بأن الأمر كله لله وحده، وأما الأنبياء والصالحون فليس لهم من الأمر من شيء، فإنهم لا يملكون أن يعدوا أحدا بدخول الجنة. وقد سأل صحابي كان
__________
(1) جواهر المعاني في فيض التيجاني ص 97.
(2) سورة الشعراء الآية 214
(3) صحيح مسلم الإيمان (205) ، سنن الترمذي الزهد (2310) ، سنن النسائي الوصايا (3648) ، مسند أحمد بن حنبل (6/136) .(12/283)
يخدم النبي عليه الصلاة والسلام مرافقته في الجنة فقال له: «أعني على نفسك بكثرة السجود (1) » ، أي أكثر من الصلاة حتى يكون ذلك سببا لدخولك الجنة ومرافقتي، ولم يقل له: أبشر أنت معي في الجنة، وإنما وجهه وأرشده إلى الأسباب علما بأنه قد بشر بعض الصحابة بالجنة بوحي من الله مثل العشرة المبشرين بالجنة وغيرهم من بعض الصحابة، ودعا لبعضهم أن يجعله الله من الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب، ثم أخبره بأنه منهم كما في قصة (عكاشة) ، لأنه عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى. لو علم أتباع التيجاني الجاني مثل هذا الموقف وهذه النصوص ما مكثوا على مواعيد التيجاني الكاذبة ساعة، بل لكفروا به ولعنوه لعنا كبيرا، ولكن الجهل والببغائية وحسن الظن المبالغ فيه، والطيبة الزائدة، ضيعت جماهير المسلمين وجعلتهم يقادون فينقادون دون أدنى تردد في كل ما يصدر من هؤلاء الأفاكين.
وقد يستغرب بعض الناس مثل هذا الإيمان من أتباع التيجاني وأمثاله من مشايخ الصوفية المضلين. كيف يصدق ويؤمن الإنسان بوعدهم بالجنة وهم لا يملكون الجنة؟
حقا إن القصة أو الحكاية لغريبة، فتعال لأحدثك عن بعض الثقات وهم شهود عيان ما هو أغرب من هذا وذلك حين يعبث بعض مشايخ الصوفية بالأعراض والدراوشة المستضعفون يطيعون المشايخ حتى في هتك الأعراض، حدثني ثقة أن من خصوصية بعض مشائخ الطرق في بعض الجهات أن أي درويش إذا تزوج وتم الزفاف يترك (غرفة النوم) في الليلة الأولى ليزور الشيخ (الغرفة) فيباركها له، ثم يأمره في الليلة الثانية ليذهب إلى بيته وقد حلت البركة، وربما تتطلب الحال أن يكرر الشيخ الزيارة في الليلة الثانية، فإذا (قضى منها وطرا) أمر الدرويش الغبي أن يذهب إلى البيت المبارك (الملوث) ، هكذا يعبث مشايخ الصوفية بجميع القيم فيفسدون العقيدة ويفسدون الأخلاق ويعبثون في الأعراض ويسلبون الأموال ويأكلونها بالباطل، ويستعبدون الجهال من الناس، ويصدون عن سبيل الله، ويعادون الدعاة إلى الله تعالى لأنهم يبصرون الناس حتى يدركوا أن مشايخ الصوفية ضللوهم وأبعدوهم عن الدين الحق الذي جاء به رسول الهدى محمد عليه الصلاة والسلام.
مكر وعربدة ومجون. . وهذه الصفات في لغتهم كرامات وبركات وزهد وعبادة
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (489) ، سنن الترمذي الدعوات (3416) ، سنن النسائي التطبيق (1138) ، سنن أبو داود الصلاة (1320) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3879) ، مسند أحمد بن حنبل (4/57) .(12/284)
ودعوة للناس إلى الإسلام.
إنه التناقض. . إنها المغالطة. . فمن لها؟ ! ! . . إنها فتنة. . بل ردة، ولا أبا بكر لها! والله المستعان.(12/285)
ألقاب وهمية يستغلها مشايخ الصوفية لاستجلاب الأرزاق وإفساد العقيدة:
والخرافات التي يوهم بها مشايخ الصوفية عوام الناس أن لهم تصرفات في هذا الكون وصلاحيات للمشاركة في أقدار الله، تلك الألقاب التي اصطنعوها لأشخاص مجهولين، بل لا وجود لهم في الدنيا، منها:
1 - الغوث أو الغوث الأعظم: -
وهو واحد دائما لا يتعدد، وهذا المنصب منصب متنازع فيه دائما، فابن عربي يدعيه بوصفه خاتم الأولياء - كما زعم - والتيجاني يدعيه ويصدقه أتباعه المؤمنون به ويرون أنه الغوث الأعظم، والقادرية تدعيه للشيخ عبد القادر الجيلاني، وهو بريء منهم ومن دعواهم، لأن الشيخ عبد القادر الجيلاني - وهو خلاف (الجيلي) - عالم حنبلي بغدادي نشأ ببغداد وتوفي ببغداد.
وذكره الذهبي في " العلو " واستشهد بكلامه في الصفات وذكر أنه معروف بالكرامة. وإجابة الدعاء أو كلاما قريبا من هذا فليراجع.
ولعل هذا المعنى هو الذي جعل عوام الناس تبالغ في تعظيمه إلى حد العبادة، ثم زعم بعض الماكرين من المتصوفة أنه صاحب طريقة ونسبوا له الطريقة القادرية، ثم زعموا أنه غوث الزمان، والغريب في الأمر تلك القباب المنتشرة في أكثر الجهات في المدن والقرى ويطلقون عليها قبة الشيخ عبد القادر، وأنا أجزم أن من سموه الشيخ عبد القادر الجيلاني وعبدوه من دون الله وبنوا عليه تلك القباب إنما هو كائن مجهول اخترعه شياطين الإنس مستعينة بشياطين الجن، وليس هو الشيخ عبد القادر الجيلاني البغدادي - هذه هي النتيجة التي وصلت إليها بعد تفكير طويل في أمر الجيلاني. والله أعلم.
ومما لا يخفى على صغار طلاب العلم قبل الكبار أن إطلاق الغوث على مخلوق ما والاعتقاد بأنه هو الذي يغيث العباد، أو أن الله لا يغيث العباد إلا بواسطته اعتقاد وثني كانت تعتقده الجاهلية الأولى، بالنسبة للواسطة لا الاستقلال، وأما اعتقاد أن مخلوقا ما(12/285)
يغيث العباد مستقلا لنفسه ويعطى ويمنع وينفع ويضر فهو اعتقاد لا يوجد حتى عند الجاهلية الأولى، وإنما يدين بهذا الاعتقاد أتباع الصوفية فقط، وهم يشركون بالله في عبادته وربوبيته كما علمت مما تقدم.
2 - اللقب الثاني لقب القطب أو الأقطاب:
ومن أساطير الصوفية الطريفة أن الأقطاب لا يزيد عددها على سبعة أشخاص. وأما من حيث الصلاحيات فإن الغوث مهمته الإشراف العام على التصرفات والصلاحيات التي يقوم بها الأقطاب من إغاثة الملهوف والتصرفات الأخرى.
3 - واللقب الثالث الأوتاد:
وعددهم أربعة أو ثلاثة، ولو مات هؤلاء الأوتاد جميعا لفسدت الأرض واختل نظام الحياة فيها - في زعم المتصوفة -.
4 - اللقب الرابع: الأبدال:
وعددهم أربعون موزعون على النحو التالي:
اثنان وعشرون منهم يسكنون الشام، وثمانية عشر منهم يسكنون العراق. ولست أدري من تولى هذا التوزيع.
5 - اللقب الخامس: النجباء:
وهم دون الأبدال في الدرجة طبعا وعددهم سبعون ومقرهم بمصر، ووظيفتهم أنهم يحملون عن الخلق أثقالهم.
6 - اللقب السادس: النقباء:
وهم ثلاثمائة، وقيل خمسمائة، وهم الذين يستخرجون خبايا الأرض.
هذه مملكة الصوفية المسئولة عن الدنيا كلها من: غوث يخطط للأقطاب ويشرف، وأقطاب يغيثون ويدبرون الأمور تحت إشراف الغوث ويقبضون على من تحتهم من(12/286)
الأوتاد بالعلم الخاص، وهؤلاء مجموعة احتياطية لمنصب القطبانية، بحيث لو مات أحد الأقطاب السبعة يرقى أحد الأوتاد الأربعة إلى منصب القطب الميت فيصير عددهم ثلاثة. . . إلى آخر ذلك العبث الصوفي.
ففي هذه المملكة الوهمية يستعبد مشايخ الصوفية أتباعهم، ولم يكن الله - في دين الصوفية - هو الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ولم يكن له ملكوت كل شيء (1) . ولكنه خلق الخلق، ثم أمر التصرف والتدبير لبعض خلقه وهم مشايخ الصوفية هذا ما تدين به المتصوفية - تعالى الله عما تزعمه الصوفية.
__________
(1) '' هذه الصوفية '' للشيخ عبد الرحمن الوكيل - بتصرف - الطبعة الثالثة.(12/287)
للصوفية ديوان باطني:
ومن مزاعم الصوفية الغريبة التي لا تنطلي إلا على من باع عقله في سوق التصوف أن لهم ديوانا باطنيا، ومقرا بغار حراء، ورئيس الديوان هو الغوث الذي تقدم ذكره. وهو هنا بمثابة رئيس القضاة، لأن هذا الديوان مركز للقضاء الكوفي يحضره الأحياء والأموات من الأولياء. وقد تحضره الملائكة والأنبياء، ويذكر بعضهم أن النبي الكريم يحضر هذا الديوان أحيانا ومعه عدد من آل البيت.
وأما كيف يتم هذا الحضور للأحياء والأموات من الملائكة والأنبياء والأولياء كيف يسعهم الغار؟ أو المكان الذي أمام الغار، وهو الجبل الذي فيه الغار نفسه يسعهم؟ ! ! هذه الأسئلة غير واردة لأن مثل هذا الهذيان من الكلام غير الواقعي إنما يحكى ولا يتحقق، وهذا ديدن القوم، لأنهم يغربون دائما، وهذا الإغراب مقصود عندهم وهو مقبول عند الغوغائيين، وهو ميدان عملهم، وأما غيرهم فيخفون عنهم هذه الأسرار إن استطاعوا أو يبتعدون عنهم، بل يعادونهم كما تقدم.
وهناك رواية أخرى تقول: إن المجلس الذي يسمى ديوانا في لغتهم إنما ينعقد في القاهرة في فضاء صغير خلف (زويلة المتولي) وهو المكان الذي يستطب فيه كثير من المصابين بأمراض مختلفة، إذ تنهطل البركات والرحمات مجلوبة بسر ذلك الكائن المجهول الذي يقيم هناك مختفيا عن الأنظار، وهو الغوث ليرأس المجلس، وهو لا يسأل عنه ولا(12/287)
يبحث عن وجوده الفعلي، وإنما الواجب الإيمان بوجوده السري. هكذا يزين الشيطان لمشايخ الصوفية وأتباعهم مثل هذه الأسطورة، وأما ماذا يفعل المؤتمرون في هذا الديوان؟ !
يجيب على هذا السؤال مشايخ الصوفية قائلين: إنهم ينظرون في أقدار الله ثم يحكم فيها الأقطاب تحت إشراف الغوث دون أن يرد لهم أي حكم أصدروه من ذلك الديوان في الأرزاق والآجال، بل حتى في خواطر الناس بحيث لا يهجس في خاطر أحد شيء إلا بإذن الأقطاب.
وبعد: إذا كان هذا الديوان الذي يرأسه الغوث هو الذي ينظر في شئون الخلق ويصدر أحكاما لا ترد، فما الذي بقي لله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير، وهو الفعال لما يريد، وهو الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، وهو الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو الذي إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون، أما هذه فعقيدة المسلمين الذين سلموا من وثنية التصوف، ولذا فأقول مكررا ما قلته سابقا: إن وثنية التصوف وجاهليتهم أقبح بكثير من وثنية أبي جهل وزملائه وجاهليتهم علما بأن ما ذكرته من تصرفات الصوفية وأعمالهم قطرة صغيرة من بحار كفرهم وجاهليتهم وظلمهم {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} (1) ، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} (2) .
فهل يجوز بعد هذا كله أن يقال: إن التصوف من الإسلام، أو أن يزعم زاعم أن مشايخ الصوفية دخل على أيديهم في الإسلام خلق كثير من الأفارقة والآسيويين؟ وهذه أسطورة. كالأساطير التي تقدم الحديث عنها مثل أسطورة الديوان وأسطورة الأقطاب والأوتاد مثلا.
فعلى الذين يزعمون هذه المزاعم أن يراجعوا معلوماتهم في الصوفية، وفي دخول الإسلام في القارتين، وفي الواقع أن كل ما فعل مشايخ الصوفية في القارتين وغيرهما أنهم
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 68
(2) سورة الأنعام الآية 93(12/288)
نقلوا بعض الوثنيين الذين كانوا يعبدون الأوثان من الأشجار والأحجار ويتبركون بها، نقلوهم من عبادة تلك الأوثان إلى عبادة مشايخهم الأحياء منهم والأموات، ومعنى ذلك أنهم نافسوا الأوثان وهي من الجمادات وغلبوها وحولوا العبادة لمشايخهم فصار الوثنيون - فهم لا يزالون وثنيين قطعا - يعبدونهم ويقدسونهم ويقدمون لهم النذور ويذبحون لهم الذبائح، فهل يقال لأمثال هؤلاء: إنهم دخلوا في الإسلام؟ ! الجواب: (لا) قطعا وإنما الصواب أن يقال: إنهم تطوروا في وثنيتهم حيث أصبحوا يمرون على تلك الأشجار التي كانوا يعبدونها فلا يلتفتون إليها، بل إنهم استطاعوا أن يقطعوا لهم منها الحطب وأخشابا لتسقيف بيوتهم مثلا، وقد كان يعد من ضرب المستحيلات سابقا، وبسبب تطوير مشايخ الصوفية وثنيتهم استطاعوا أن يدركوا أن تلك الأشجار وهي من الجمادات لا تنفع ولا تضر فلا تستحق العبادة لأنها عاجزة لا تخلق ولا ترزق ولا تملك موتا ولا حياة ولا نشورا. ولكن الذي لم يفطنوا له بعد أن الأوثان الناطقة من مشايخ الصوفية وسماسرتهم هي الضر. ولو فطن عباد مشايخ الصوفية لهذه النقطة لما مكثوا عندهم في ذلك العذاب الشديد عذاب الذل والهوان والانقطاع عن الله رب العالمين، وقد حالت بينهم وبين عبادة الله التي خلقوا من أجلها وهم قطاع الطريق استولوا على عقول الناس واستعبدوهم ظلما وعدوانا.
هذا، وإذا كنا قد حكمنا على وثنية مشايخ الصوفية وجاهليتهم أنها أقبح من وثنية وجاهلية أبي جهل وقومه.
فمن الإنصاف أن نورد ما يدل على صحة ما قلنا من آيات الكتاب المبين حتى نتصور نوع شركهم، ليكون حكمنا صادقا وعادلا، والحكم الذي تدعمه أدلة الكتاب والسنة هو الحكم العادل الذي يجب الأخذ به، ولكي يدرك القارئ بالمقارنة المحق والمبطل، يقول الله تعالى لنبيه - وقد عانده قومه فأبوا إلا الإشراك بالله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} (2) {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (3) {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} (4) {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (5) {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (6) .
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 84
(2) سورة المؤمنون الآية 85
(3) سورة المؤمنون الآية 86
(4) سورة المؤمنون الآية 87
(5) سورة المؤمنون الآية 88
(6) سورة المؤمنون الآية 89(12/289)
هكذا نجد الجاهلية الأولى توحد الله رب العالمين في ربوبيته، ولكن القوم كانوا يتناقضون فيشركون في عبادته غير ملتزمين بما يلزمهم توحيدهم في ربوبيته وكيفية الالتزام، إذا كان الله قد تفرد بخلق السماوات والأرض وما فيهما وتفرد بتدبير خلقه وأرزاقهم وآجالهم، فيجب أن يفرد بالعبادة، هذا ما يقتضيه المنطق السليم ويدعو إليه العقل الصريح، ويوجب الشرع الحكيم {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} (1) .
هكذا يتناقض الجاهليون الأولون يؤمنون ويشركون، وصدق الله العظيم حين يقول: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (2) .
وأما مشايخ الصوفية وأتباعهم فإنهم يشركون بالله في ربوبيته وعبوديته بل ويصرفون الناس عن عبادته تعالى، بل إنهم يصرفون الناس عن كل ما جاء به رسول الله عليه الصلاة والسلام من شريعة وعقيدة، ويزهدون فيه من أطاعهم حتى يخلصوا لهم في طاعتهم وخدمتهم دون مزاحم.
وكل من يدين بدين الصوفية فهو يشرك بالله في الربوبية والعبادة، عرف بذلك من عرف وجهل من جهل، ولا تقبل دعواهم بأنه يشهد ألا إله إلا الله، حيث إنهم يأتون بما يناقضه في كل وقت، بل كل لحظة، ولأن الإيمان بالله لا يقبل إلا الكفر بالطاغوت كما نص على ذلك القرآن الكريم: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (3) .
فليفطن القارئ أن الآية قدمت الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله تعالى على ضوء كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) لأن التخلية قبل التحلية كما يقولون.
إذا كان هذا شرك المشركين الأولين، شرك في العبادة، وتوحيد في الربوبية، وشرك مشايخ الصوفية شرك في العبادة والربوبية ويدل على ذلك ما سمعناه من أقوال مشايخهم ودعايتهم وتصريحاتهم، يتبين من هذه المقارنة أن مشايخ الصوفية أشد كفرا وزندقة، وأبعد عن الطريق الموصل إلى الله، ألا وهو التمسك بدين الله الذي جاء به رسول الله عليه الصلاة والسلام شريعة
__________
(1) سورة النحل الآية 17
(2) سورة يوسف الآية 106
(3) سورة البقرة الآية 256(12/290)
وعقيدة، مع الكفر بما عداه مما يخالفه ويعارضه من الطرق المنتشرة في الأقطار الإسلامية التي تسمى طرق الصوفية وغيرها من صور الجاهليات الأخرى التي سوف نتناولها بالبحث إن شاء الله.
والله الموفق. . .
هذا، وإن الكلام حول هذه الجاهلية طويل الذيل ومتشعب، لأن الطرق الصوفية المنتشرة اليوم في العالم الإسلامي قد اتخذت كل طريقة أسلوبا خاصا لإفساد عقيدة المسلمين السذج وسلب أموالهم وتغيير مفاهيم كثيرة من الدين لديهم، وهم فيما بينهم مختلفون ومتناحرون، ولكنهم متفقون على محاربة الشريعة التي ترفعوا عنها وزهدوا فيها، لأنهم أصبحوا أصحاب الحقيقة التي لا يعلمها - في زعمهم - إلا مشايخ الصوفية.(12/291)
صفحة فارغة(12/292)
من أهداف الإسلام
بقلم الدكتور \ عبد الله بن محمد العجلان (1) .
الإسلام هو دين الله الخالص وشريعته الباقية الذي ارتضاه الله لخلقه وهو يعني فيما يعنيه إسلام النفس لخالقها واستعمالها في طاعته في كل شأن من شئون حياتها وفق ما أراد الله منها لا تشذ في ذلك ولا تحيد ولا تند عن ذلك يمنة أو يسرة، تسلم نفسها وعقلها وجوارحها وهواها لله رب العالمين الذي خلق كل شيء وبدأ خلق الإنسان من طين. فتقدم مراد الله على مرادها وشرعه على هواها وتستعلي بالإيمان على شهوات النفس ونزعاتها وغرائزها، وتستعمل طاقاتها الكامنة في طاعة الله وإعزاز دينه وحماية شرعه والجهاد في سبيله وتحقيق رضاه، وتتبرأ من كل ما يناقض التوحيد أو يخل به من قول أو عمل أو اعتقاد فتكون في كل حركاتها وسكناتها محققة للطاعة منقادة إلي الخير ملتزمة لشرع الله ناصرة لدينه محققة لمراده: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) {لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (3) . {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (4) {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} (5) .
فالإسلام يهدف فيما يهدف إليه إلى تحقيق العبودية الخالصة لله في نفوس البشر وردهم إليه في كل شأن من شئون حياتهم في الدين والدنيا الحياة والآخرة، وأن يكون الدين كله لله في أمره ونهيه وخيره ووعده ووعيده، في أعماق الضمير ومظاهر السلوك ومسارب النفس، في العقيدة والشريعة والعبادة والآداب وغيرها والتزام ذلك ظاهرا وباطنا سرا وعلنا. وأن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى فيظهر على
__________
(1) ورد لكاتب البحث ترجمة في العدد التاسع ص (97) .
(2) سورة الأنعام الآية 162
(3) سورة الأنعام الآية 163
(4) سورة الأنعام الآية 125
(5) سورة الأنعام الآية 126(12/293)
الدين كله ولوكره المشركون. ولما كان الصراع بين الحق والباطل قديما قدم الإنسان جاء وفق حكمة الله في الخلق والمثال: كان من نعم الله على الإنسان أن تكون هذه الحياة ميدانا فسيحا لهذا الصراع المرير والجولات المتتابعة بين حزب الله وحزب الشيطان، وأن تكون هذه الدار دار اختبار وابتلاء وامتحان يبتلي الله الناس بعضهم ببعض ليعلم الله علم ظهور من يعمل بطاعته أو يختار معصيته كما قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (2) ، {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (3) ، والآيات في هذا كثيرة.
وهذه المعركة القائمة بين الحق والباطل بين حزب الله وحزب الشيطان تتطلب إعدادا متكاملا لحراس دين الله وحماة شرعه لضمان كسب الجولات بكل المواقف والأحوال والأزمان طلبا لمرضاة الله، والله غني عن العالمين {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} (4) . ولكنها حكمة الله بالابتلاء والامتحان، وإذا كان الإعداد سنة ماضية فإن المسلم إنما يصنع على عين الله ليحقق الله به مراده في الحياة ويعلي به كلمته سبحانه في الأرض، وإن كان إعداده على منهج الله كانت الغلبة له على أعدائه والنصر له على خصومه إذا صدق الله وأخذ بأسباب القوة.
__________
(1) سورة الملك الآية 1
(2) سورة الملك الآية 2
(3) سورة آل عمران الآية 186
(4) سورة يونس الآية 99(12/294)
من وسائل الإعداد لتحقيق هذا الهدف:
بناء الفرد المسلم في كل جانب من جوانب حياته.
فإن الفرد المسلم هو الأساس في عملية بناء المجتمع المسلم الفاضل إذ إن المجتمع في مجموعته إنما يتكون من أفراد، فإذا صلح الفرد صلحت الجماعة. وما ضعفت أمتنا في العصور المتأخرة من حياة المسلمين إلا بالتفريط في عملية إعداد هذا الفرد والخلل الذي تطرق إلى بنائه حتى صار خاويا بلا روح ومهملا بلا ضوابط وإنسانا بلا غاية يسعى لها، ولا أهداف سامية يعمل على بلوغها ولا رسالة يواصل المسيرة لتحقيقها، بل خلف من(12/294)
بعد المسلمين الصادقين خلوف ضائعة مستعبدة لأهوائها ممزقة من أعدائها تلهث وراء إشباع غرائزها فعاقبها الله بأن فتح عليها أبواب شهوات البطون والفروج حتى صار كل ما يحصل عليه لا يزيدها إلا شرها ونهما وتكالبا؟ فباعت بذلك كل رصيدها من عزة المؤمنين وكرامة المخلوقين ورسالة المصلحين ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فإذا أردنا عودة صادقة إلى الله وتطلعنا إلى مقعد القيادة في الحياة لقيادة الناس بالهدى فلا بد من الرجوع إلى منهج الله في بناء الفرد المسلم السوي، المؤمن في ضميره الكامل بإعداده الإنساني في تعامله، المميز في خصائصه، المؤثر في مجتمعه، القادر على القيام بمسئولياته في المجتمع، ومهامه في الحياة، الواعي لأهداف أمته، العامل على تحقيقها في واقع الممارسات اليومية، القادر على التفكير السليم، المستقل في شخصيته، المعتز بذاتيته، الملتزم في انتمائه، المتوازن في شخصيته وتصرفاته، وتفكيره وهذا لا يتم إلا إذا غذي بلبان هذا الدين في مدارج نموه، ومعارج ارتقائه، ومراحل عمره، فإذا علمنا بأن أي مولود إنما يولد على الفطرة السليمة. مهيئا للإيمان متجها إلى الخير، مزودا بالاستعدادات المتيقظة لقبوله، عرفنا أهمية ما يتلقاه الطفل منذ الولادة، وأثره البالي في الدفع به في الاتجاه الصحيح، المتفق مع الفطرة السليمة، وهو الإسلام وأهمية تعاهده في مختلف مراحل حياته، بتنمية هذا الاتجاه في نفسه، وتقويته وبناء شخصيته، وخطورة إهمال الطفل أو توجيهه في غير الاتجاه الصحيح، والانحراف به عن جادة الحق، فإنه كسر لا يجبر، وخسارة لا تعوض، وجريمة لا تغتفر، فالتوجيه الذي يتلقاه الفرد منذ نعومة أظفاره حتى يعود إلى ربه بعد موته، هو ما يعرف عن علماء التربية تنمية قدراته وإكسابه القدرات المتجددة وهي التي قال عليها الرسول صلى الله عليه وسلم: «فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه (1) » . في نهاية الحديث الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة (2) » .
وإذا كان تعاهد الفرد من أول فجر حياته أمر له أهميته لأنه يحدد اتجاهه منذ الطفولة، وبقية مراحل عمره، فإن هذا الطفل مخلوق عجيب، لنفسيته جوانب مختلفة ومناح متعددة، وطول فترة طفولته تعطيه قدرة على الاستيعاب لما يتلقاه، طوال هذه الفترة وما يليها من مراحل نموه المختلفة، ومرونة فذة على التكيف، وفق متطلبات النشأة
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1358) ، صحيح مسلم القدر (2658) ، سنن الترمذي القدر (2138) ، سنن النسائي الجنائز (1950) ، سنن أبو داود السنة (4714) ، مسند أحمد بن حنبل (2/315) ، موطأ مالك الجنائز (569) .
(2) صحيح البخاري الجنائز (1385) ، صحيح مسلم القدر (2658) ، سنن الترمذي القدر (2138) ، سنن أبو داود السنة (4714) ، مسند أحمد بن حنبل (2/275) ، موطأ مالك الجنائز (569) .(12/295)
فمن أي جوانب تقدر النفس يا ترى ببدء العمل، وهل يمكن الاكتفاء بتوجيه وتنمية جانب من جوانبها دون الآخر.
الواقع أن إعداد الشخصية المسلمة ينبغي أن يشمل جوانب النفس البشرية كلها، حتى ينمو نموا فعالا، ذا قيمة في حياته وحياة مجتمعه، وحتى يكون مؤهلا ومعدا لتحمل تبعات ما سيلقى إليه من مهام جسيمة، في مستقبل حياته فيما يتعلق بمسئوليته، عن دينه وأمته. وما يتعلق بدنياه وطرائق عيشه عيشا كريما، ومن أمثلة هذه الجوانب التي ينبغي أن يركز عليها في الإعداد:(12/296)
أ - الإعداد الروحي:
يتطلب إعداد الشخصية المسلمة الواعية لمهمتها في الحياة، المدركة لمركزها في الوجود، العالمة بالدور الذي ينتظرها في المستقبل، الحافظة لرسالة هذه الأمة في الأرض، العاملة على تحقيق أهدافها العليا، وغايتها السامية، أن تنال قسطا كبيرا من العناية بها، وإعدادها من الناحية الروحية الداخلية، إعدادا يتناسب مع ما ينتظر منها من انطلاقة في الحياة، وتأثير في الأحياء واندفاع بروية وحكمة في عملية البناء والتعمير، بناء النفوس المسلمة وتعمير الأرض، واستثمار خيراتها.
وإن بناء توضع قواعده وأسسه داخل النفس البشرية، لا سبيل إليه إلا بواسطة شرع الله، وسنة ومنهاج رسوله إذ إنه سبحانه وحده الذي يملك ذلك. ولذا فإن من أهم متطلبات إعداد الشخصية المسلمة، إرضاعها مع لبانها، وتعاهدها في مختلف مراحل نموها، بالقرآن العزيز وآياته الكريمة والسنة النبوية المطهرة، والسيرة العطرة. وحياة السلف الصالح، والقادة العظام الذين رعوا هذا الدين، واستجابوا لدعوته، ووضعوا نصوصه وأهدافه موضع التنفيذ في أصول العقيدة، وقواعد الشريعة، في الطاعة والعبادة، والعادات والآداب والسلوك. ونمو شجرة الإيمان المعطية في النفوس بتكرار هذه الآيات والمعجزات، حتى عمرت بها النفوس واكتمل بها بناء الجانب الروحي، الذي يعد من أهم جوانب النفس، الباعث إلى العمل وفق ما شرعه الله لعباده. {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} (1) {قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلًا} (2) {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} (3) {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (4) {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} (5) .
__________
(1) سورة المزمل الآية 1
(2) سورة المزمل الآية 2
(3) سورة المزمل الآية 3
(4) سورة المزمل الآية 4
(5) سورة المزمل الآية 5(12/296)
ب - الإعداد العقلي:
والآيات القرآنية الكريمة مليئة بالعلوم والمعارف النافعة، والضرورية لبناء العقل الإنساني الحر، وهي تحث على طلب العلم النافع، المصحوب بالعمل الصالح، والنفع العام والخاص، التي من شأنها زيادة الحصيلة العلمية، ومعرفة الحقائق في مختلف فروع المعرفة، والحقائق التي يبرهن عليها العلم والمعرفة في مختلف مجالات الحياة في أمور الدنيا ومسائل الدين.
ثم إن هذا الدين في كثير من آيات القرآن الكريم يدعو إلى التأمل في آيات الله وخلقه، ويلفت النظر إلى تدبر عجائب قدرته، في آفاق الكون وسفينة الحياة، وأغوار النفس {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (1) وكثيرا ما تأتي اللفتات الكريمة في القرآن إلى آيات الله، وعظيم صنعه، وكريم لطفه وإحسانه، ثم تذيل الآيات بقوله تعالى: أفلا تعقلون، أفلا تتذكرون، أفلا تتفكرون، أفلا تعقلون وإن في ذلك لآيات لأولي الألباب.
ثم إن القرآن والسنة في كثير من آيات القرآن والأحاديث النبوية، تحتاج إلى إعمال الرأي في فهمها، وكيفية تحقيق مراد الله في نصوص شرعه، في واقع الحياة وتنزيلها على الحوادث، وهذا كله من شأنه تنمية العقل بزيادة العلوم والمعارف، والكشف عن الحقائق العلمية. والتربية على طرائق التفكير المنظم، الذي يلاحظ الظاهرة فيدرسها بالطريقة العلمية السليمة، ويصل إلى النتائج، ويطبقها على المواقيت المتشابهة، وهو إلى جانب هذا يزوده بالآيات المعينة على نضوج العقل ووصوله إلى النتائج المحددة. وهو بهذا إنما يعد الشخصية المسلمة إعدادا عقليا، يتلاءم مع المهام الجسيمة التي تنتظره في الحياة، وحمل الرسالة التي اختار الله هذه الأمة لها، فكانت بها خير أمة أخرجت للناس.
__________
(1) سورة فصلت الآية 53(12/297)
ب - الإعداد الوجداني:
والإسلام في إعداده الفرد من الناحية الوجدانية، لا يدانيه أي نظام تربوي سواه، فإن شريعة الله الخالدة، وهي صادرة من العليم الخبير، تمنح الفرد قوة إيمانية دافعة، وطمأنينة مطلقة في نفسه، وسحرا وجدانيا فذا. إيمانا يجعله على يقين بأن ما هو عليه حق لا يتطرق إليه الشك، ويورثه الثقة في نفسه، ومنهج حياته وطمأنينته لا يتطرق إليها القلق، أو ينفذ إليها الخوف فيمارس الصراحة في القول والقوة في النفس، والثقة بأنه يسير في طريق سلام العالم، وسلام النفس، ويتحرر من العبوديات والتبعيات لغير الحق، وتتكون عنده رباطة الجأش وقوة الشكيمة.
وهذه التربية الوجدانية تجعل للمسلم معايير بانية، وصادقة في عمليات الحب والكره، ومعرفة النافع من الضار، وانشراح الصدر وسلامة السيرة والسريرة، وهذا اللون من التربية مهم جدا في بناء الشخصية المسلمة المتكاملة القادرة على المضي في طريق الخير المؤثرة في الحياة.(12/298)
جـ - الإعداد الجسمي:
والجسم يعد وعاء الروح والعمل، وهو الوسيلة لتحقيق تطلعاتهما في الواقع، له أهميته البالغة في نظر الإسلام؛ ولذا فإنه يأخذ بكل وسيلة أو خبرة تزيد في نمو الجسم وسلامته وقوته، من الممارسات البدنية والمزاولات اليدوية، التي تزيد الجسم قوة وصلابة، وتباعد بينه وبين الترهل والخمول والدعة والهبوط، ثم إنه من ناحية أخرى يزوده بالحقائق العلمية، والمعارف التي من شأنها الأخذ بأسباب الصحة العامة، وقواعد التغذية السليمة والعادات الكريمة، في الأكل والشرب والحركة والراحة والنوم وغيرها.
ومعرفة طرق الوقاية من الأمراض على اختلاف أنواعها، وتعدد أسبابها. وآداب الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك معروفة، وكلها تهدف إلى بناء الشخصية المسلمة، إعدادا جسميا، يتلاءم مع رسالته في الناس والمستقبل الذي ينتظره، فإن العقل السليم في الجسم السليم «والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير (1) » . والقوة
__________
(1) حديث رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه.(12/298)
كما ينبغي أن تكون في النفس والعقل والوجدان، ينبغي أن تكون كذلك وبطريق الأولى في بناء الجسم وإعداد التراث.(12/299)
د - الإعداد الاجتماعي:
الإسلام وهو يعد الفرد إنما يعده على أساس أنه فرد في جماعة، ولبنة قوية في صرح شامخ البناء، لا ينفك عنه ولا يحيا بدونه، ولذا فإنه يعده فردا مسلما يتحلى بالأخلاق الإسلامية الاجتماعية الفاضلة، التي تتسم بالاستقامة وحياة الضمير، وينقي الوجدان ويربيه على الأمانة والصدق، وعفة اللسان وطهارة الجيب، والبعد عن كل رذيلة اجتماعية أو نقيصة خلقية. والقرآن الكريم مملوء بالآيات الحاثة على ذلك، والأخبار الدالة عليه. مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} (1) ، وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (3) ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (4) ، وغير ذلك من الآيات الكفيلة بإعداد الشخصية المسلمة الاجتماعية، التي تتعامل مع المجتمعات، وتأخذ بمجامع قلوب أصحابها بما يتحلى به المرء من فضائل الأعمال ومحاسن الآداب، وطهارة النفس، وسمو الأخلاق. فيكون بسيرته داعية إلى منهج الله وشرعه، أكثر من الدعوة بقوله ولسانه. ومثلما جاء في القرآن الكريم فإن السنة النبوية المطهرة قدوة في القول والفعل، بالحث والعمل، فالرسول صلى الله عليه وسلم نموذج فريد في السلوك الاجتماعي وما يجب على المسلمين الاحتذاء به في جميع أعماله.
__________
(1) سورة الحج الآية 77
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) سورة الحجرات الآية 11
(4) سورة التوبة الآية 119(12/299)
هـ - الإعداد المهني:
ومن متطلبات إعداد الشخصية المسلمة أن يزود ببعض الخبرات العلمية، والمهارات(12/299)
اليدوية، التي تكون ضمانا لكسب عيشه، من عمل شريف، وإعفاف نفسه وولده عن المسألة وإبعاد غائلة الحاجة وسطوة الجوع عنهم، وضمان عيش كريم لهم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المسلم بمزاولته لأي مهنة شريفة، يكسب بها عيشه، إنما يقدم لها خدمة جليلة لأمته، فإذا أتقنها وصدق في تعامله فيها مع الناس، وبعد عن الجشع والطمع والاستغلال، كان بذلك داعيا لدين الله بعمله، مستغنيا به عن أعدائه، وكان نبي الله داود عليه السلام يأكل من عمل يده وعرق جبينه، قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} (1) ، ويقول تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (2) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ للِصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4) .
هذا ومع تعدد جوانب الإعداد في النفس البشرية، فإن الغاية بعد ذلك كله هو إعداد شخصية واحدة، متكاملة الإعداد والبناء، سوية التكوين متوازية الإعداد، تؤدي إلى شخصية إنسانية ذات خصائص مميزة، شخصية فاعله مؤثرة، تعي أهداف أمتها وتسعى لتحقيقها في واقع الحياة، قادرة على مزاولة مسئولياتها والقيام بوظائفها، بفعالية وتأثير يؤهلها لدورها القيادي المنتظر.
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 80
(2) سورة الملك الآية 15
(3) سورة الجمعة الآية 9
(4) سورة الجمعة الآية 10(12/300)
عوامل بناء الشخصية المسلمة:
أولا: البيئة الاجتماعية - وإذا كان هذا الإعداد لجوانب الشخصية المسلمة لازما، فأين يا ترى يمكن أن يكون إعداده في كل هذه الجوانب وغيرها؟ ومن أين يأتي هذا الإعداد؟
إن مادة الإعداد سبقت الإشارة إليها، وهي أنها موجودة في الكتاب والسنة، وسيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وحياة السلف الصالح، من هذه الأمة المسلمة عبر التاريخ،(12/300)
وحياة المصلحين والقادة العظام، الذين نشروا هذا الدين بما تضمنه من عقيدة ومبادئ وقيم وأخلاق وآداب وعادات، وفي التجربة العملية الفريدة التي تمت في حياة المسلمين في الصدر الأول، وهي غنية تمام الغنى بمادة الإعداد، وروافد التكوين، ولكنها كنوز مهملة وثروة معطلة.
أما عن مكان الإعداد فإنه يتم في التفاعل مع البيئة الاجتماعية، التي ينشأ فيها الطفل ثم ينتقل فيها إلى المدرسة، والمعهد والجامعة، ثم يخرج بها إلى المجتمع بكل تشكيلاته ومؤسساته، والحياة المحيطة به.
وقد سبق أن قلنا في صدر هذا البحث: إن الطفل يولد على الفطرة السليمة، أو بتعبير التربويين الذين قرروا بالاستعدادات والعوامل الوراثية. ذلك يعني أنه يولد خيرا متفتحا للإيمان وكامل الاستعدادات، ولكنه مع ذلك على درجة كبيرة من المرونة والقابلية للتشكيل وفق ما يتلقى في البيئة الاجتماعية التي يولد فيها من توجيه؛ ولهذا فإن للبيئة التي يولد فيها الطفل ويتفاعل معها في مراحل نموه الأولى أثرا بالغا في تشكيل سلوكه، وتحديد اتجاهه والأخذ بيده.
فإذا كانت البيئة الاجتماعية بيئة إسلامية بعقيدتها وآدابها وسلوكها وعاداتها وتعاملها، وتفاعل معها الطفل في كل المواقف، تشرب في هذه البيئة العقيدة والسلوك والآداب والعادات والتعامل، حتى تتطبع نفسه بهذه البيئة، وما يحمله من مقومات الشخصية المسلمة، وتتشكل بذلك سلوك الأفراد، وتصنع القواعد الأساسية لهذا البناء، وتستمر في تغذية هذا الاتجاه في الفرد تلقائيا بواسطة التفاعل، حتى يتكون لدى الطفل الاستعداد الذي يمكنه من تلقي المعلومات والمعارف التي تفسر له حقائق التفاعل والمواقف. وهنا يأتي دور المدرسة كحلقة ثانية في تكوين الشخصية المسلمة القادرة على الاستجابة لدواعي الخير والمؤثرة في حياة الآخرين.
ثانيا: المدرسة - المدرسة وسيلة من وسائل الإعداد التربوي للفرد المسلم، في مرحلة من مراحل نموه، تتلو مرحلة الطفولة والنمو، في محيط البيئة الاجتماعية، وكل الأسرة وهي ليست إلا مقر تجمع للطلاب وموضع تلقي المعلومات المعرفية، والحقائق العلمية والخبرات المتعددة في حدود قدرات الطلاب ونموهم العقلي والجسمي، واستجابتهم في(12/301)
التلقي، أما وسائل الإعداد ذاتها، فإنما تستمد كما أسلفنا من عقيدة المجتمع وتضامنه وأهدافه، وعاداته وتقاليده وقيمه وآدابه، ومعارفه وتأريخه، ومصادر ثروته، المهارات اللازمة للمعيشة فيه، ومن هذه العقيدة والثقافة الواسعة، تختار المدرسة ما تعلمه لتلاميذها، في كل مرحلة من مراحل نموهم، وما يناسبها من المعرفة والمهارات والآداب، ومنها تكون مناهج الدراسة.
ومن هنا تأتي أهمية المدرسة وضرورة تعاهدها بالمنهج القويم، والمدرس المسلم الأمين والكتاب الجيد، وتعاهد بيئتها الاجتماعية بأن تكون إحدى وسائل الإعداد لتكوين الشخصية المسلمة، وأن أي تهاون في ذلك أو تقصير إنما يتجرع مرارة كأسه الفرد والجماعة معا.(12/302)
البيت المسلم حلقة من حلقات الإعداد:
يمثل البيت المسلم إحدى الدعائم الأساسية في بناء الشخصية الإسلامية إذ هو المحضن الأول للطفل والمقر الدائم لحياة الفرد، وما دامت المدرسة في تعليمها إنما تنطلق من عقيدة الأمة وأهدافها وثقافتها وتاريخها وكل جوانب المعرفة وروافد العلم التي تتضافر على تكوين الشخصية المسلمة، فإن دور البيت ينبغي أن يكون دورا أساسيا لمساعدة وتدعيم كل المعارف والحقائق التي يتلقاها الفرد في المدرسة فتسير معها في اتجاه واحد يحقق التعاون والانسجام، وإذا كانت المدرسة تمثل الجانب النظري في الإعداد، فإن البيت ينبغي أن يكون محلا للتطبيق العملي لما يتلقاه الفرد في المدرسة، ويزيد في تبصيره بكثير مما تعجز المدرسة عن تغطيته، فإذا تحقق هذا التلاحم بين البيت والمدرسة كان لذلك أثره البعيد في تكوين الفرد وصلاحه واستقامة سلوكه، أما إذا حصل أي تناقض أو اختلاف بين ما يأخذه الطالب في المدرسة، وما يمارسه في البيت أو يشاهده في المنزل، فإن ذلك يورث اهتزازا في القيم، وتذبذبا في النفس، وازدواجية في التفكير، وبالتالي يحدث خللا في بناء الشخصية وتكوينها وتقل تطلعاتها(12/302)
وسائل الإعلام:
وتأتي وسائل الإعلام اليوم في مقدمة وسائل الإعداد للشخصية المسلمة، فهي ذات(12/302)
أثر بالغ الأهمية والخطورة، سلبا وإيجابا في تنشئة الأفراد وتوجيه الأجيال وتكوين الرأي العام.
ولهذا فإن وسائل الإعلام ينبغي أن يكون هدفها الأساسي هو الإعداد السليم، ومساندة البيئة والأسرة والمدرسة والمجتمع، في تكوين شخصيات الأفراد وإعدادهم، وعدم خروجها على وسائل التربية المقصودة والمبرمجة؛ لأن ذلك يحقق الانسجام والتعاون بين وسائل الإعداد، أما إذا كانت وسائل الإعلام تنطلق من منطلقات الترفيه، والتسلية، وقتل الوقت وغير ذلك، من الأغراض الهابطة، فإن كثيرا مما تتقبله النفوس المريضة في مجال الترفيه والتسلية، يتناقض مع ما تقرره العقيدة السليمة، وثقافة الأمة التي عادة ما تعد المناهج في المدارس والجامعات والمعاهد لخدمتها، وتعريف الناشئة بها وطبع نفوسهم عليها.
وهذا التناقض بين وسائل إعداد الناشئة في الأمة الواحدة، ينجم عنه اهتزاز في القيم وازدواجية في التفكير، وإذا كانت الصحافة تطالع الجيل في كل يوم بجديد في المقالات والتحاليل السياسية، والخبر والصورة وغيرها في صورة جذابة وإخراج متقن يشد القارئ، فإنه بقدر ما تكون هذه الأخبار صادقة، والمقالات هادفة، والتحاليل الإخبارية تطرق من وجهة نظر صادقة وسليمة، يكون رافد المعرفة وثمر الخبرة في اتجاه سليم أو طريق خاطئ، فإما أن يساند الإعداد الجيد أو يناقضه. الأمة الواعية هي التي تساند وسائل الإعداد فيها، على إعداد أفرادها إعدادا يتلاءم مع متطلعاتها، ويدفع إلى السعي لبلوغ غاياتها.
(والتلفزيون) يأتي في مقدمة وسائل الإعلام وأشدها خطرا وأبعدها أثرا في حياة الناشئة؛ إذ إنه يجمع بين جمال الصورة وحسن الصوت وإتقان الإخراج، في صور متغيرة وجذابة، ويتم إعداد برامجه وفق دراسة واعية للأوقات والمناسبات، وما يناسب كل فئة من فئات المجتمع من الوقت والمادة وطريقة العرض.
لهذا فإن الأمة الواعية في إعداد ناشئتها هي التي تستعمل هذه الوسيلة أداة للتربية السليمة، والتوجيه السديد.
فإذا انحرفت هذه الوسيلة في أية أمة كان ذلك مؤشرا على سوء الإعداد ونذير خطر(12/303)
على الناشئة، وبالتالي ذهاب الريح والاندثار.
ولهذا يجب على الأمة أن تكون حارسة لعقيدة أبنائها، عاملة على تكتيل كل الجهود والوسائل، لإعداد أفرادها وعدم السماح لأي وسيلة بأن تنحرف عن المسار الصحيح، والمنهج القويم، في أي صورة من الصور سواء كان ذلك في جريدة أو إذاعة أو تليفزيون أو غيرها.
وهذا الإعداد والتكوين الذي أشرنا إلى حلقاته ومراحله، له خصائص ومقومات ينفرد بها عن مناهج التربية المعهودة على وجه الأرض المستمدة من غير شرع الله، وله وسائل متعددة منها النظري وفيها العملي، في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وحياة الأنبياء والرسل، من قبله وفي حياة الرعيل الأول من هذه الأمة المجاهدة. آثرت أن أتركها في هذا المقام لفرصة أخرى، وأرجو أن تتاح لي فرصة أخرى لاستعراض هذه المقومات والخصائص وتفصيل هذه الوسائل واستخلاص العبرة من التطبيقات العملية عبر التاريخ. ولكي يعطي هذا الإعداد ثماره اليانعة وعطاءه المثمر فإنه يتطلب أن يتم في مناخ ملائم وتربة خصبة قابلة للإنبات، أو مجتمع يشم فيه الفرد عبير الحرية ويعطيه بعدا كافيا في نفسه وفي شخصيته في مجتمعه.
هذا وإن أمتنا المسلمة اليوم وقد جربت مناهج الأرض كلها وطبقت كل التجارب الأرضية والأفكار والنظم العلمانية. فنزلت بها إلى الدرك الأسفل، وبقيت مثخنة بجراحها، تئن من سوء واقعها حتى فقدت الأمل في كل ما كانت ترجو النجاة عن طريقه، وأصابها شعور مزيج من اليأس والأمل واليأس من أنهم ممن لا يستحقون نصر الله، والأمل في النصر من عند الله، إذ إنه سبحانه وحده هو المأمول لكشف البلاء، وإبدال الذل عزة والهزيمة نصرا. مصداقا لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} (1) .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة يوسف الآية 110(12/304)
ترجمة معاني القرآن الكريم
بين التأييد والتحريم
بقلم: السيد أحمد أبو الفضل عوض الله
كثر الجدل قديما وحديثا حول ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية. فذهب فريق إلى القول بتحريم ذلك، وقال آخرون بجوازه، ولكل من الفريقين أسانيد يعتمد عليها، وبراهين يدلي بها.
رأي القائلين بالتحريم:
أصحاب الرأي بعدم جواز الترجمة يقولون - في مساق حججهم وتأييدا لرأيهم -: إن إباحة الترجمة تعتبر بدعة - وكل بدعة ضلالة - يترتب عليها ضرر ومفسدة؛ إذ يترك المسلمون من غير العرب تعلم اللغة العربية، ويقتصرون في تعلم القرآن ودراسته وتلاوته على الترجمة، وسيؤدي ذلك حتما إلى الاختلاف فيه؛ لأن الترجمات قد لا تتفق، فيقع بذلك للمسلمين ما وقع لبني إسرائيل من اختلاف نسخ التوراة السامرية، والعبرانية، والسريانية واليونانية.
ويقولون أيضا: إن معاني القرآن كثيرة، فلا يمكن لأي مترجم أن يحيط بها، حتى يترجمها ترجمة دقيقة، تحمل طابع القرآن في إعجازه اللفظي والمعنوي.
ويرون في الإقدام على الترجمة جرأة على القرآن بممارسة شيء لم يفعله الصحابة ولا أهل الصدر الأول.(12/305)
ويقولون: إن إحجام السابقين الأولين عن ترجمة معاني القرآن أدى إلى انتشار اللغة العربية حتى عمت جميع الأقطار الإسلامية، فتحقق للمسلمين من وراء انتشارها مزايا كثيرة: اجتماعية، وعمرانية، وسياسية، فاتحدت ممالك الإسلام لغة كما اتحدت دينا، ونشأ عن ذلك اتحادها في المجتمع، وزوال تنافرها.
ومن رأيهم أن الممالك الداخلة في الإسلام، لو أنها اشتغلت بترجمة معاني القرآن إلى لغاتها، ورأت أن ذلك جائز أو واجب، ما كانت مصر والعراق والشام وتونس والجزائر والمغرب الأقصى مجالا للعروبة في تاريخنا، ولبقيت على عجمتها متفرقة اللسان والتفكير والثقافة والأدب، ولآل ذلك في نهاية الأمر إلى الافتراق في الدين أيضا.
فعدول السابقين عن الترجمة - برغم يسرها عليهم - وتحمل هؤلاء الأعاجم عبء تعلم اللغة العربية، وإحلالها محل لغاتهم الأصيلة دليل قائم على عدم جواز ترجمة معاني القرآن.
وأما عن تبليغ رسالة القرآن إلى الناس كافة وفيهم غير العرب فهم يرون في ذلك الاكتفاء بتبليغ مجمل ما جاء من أصول الدين والعقائد والعبادات والمعاملات كالإيمان، والإقرار بالشهادتين، وأحكام الصلاة والصوم والزكاة والحج والأحوال الشخصية. . . إلخ. ويرون أنه لا يتعين إبلاغ القرآن كله لكل الأمم، بل يقولون: إن من واجب تلك الأمم أن تتعلم اللسان العربي؛ حتى يمكن تبليغ رسالة القرآن إليها بنصها العربي.
ومنهم من يقول: إن بعض علماء الكلام ينصون على أن معرفة الله بالبرهان واجبة، ولا يمكن التوصل إلى ذلك إلا بتعلم اللغة العربية؛ إذ القرآن واللسان عربيان، وبهما تعرف الأدلة، وما لا يتوصل للواجب إلا به فهو واجب.
ومن أنصار هذا الرأي - أي القول بعدم جواز ترجمة معاني القرآن - ابن جزي في " القوانين الفقهية "، فقد ذكر أن من لم يحسن تلاوة القرآن وقراءته - إن كان لم يتعلمها - وجب عليه تعلمها، أو الصلاة وراء من يحسنها، فإن لم يجد فقيل يذكر الله، وقيل يسكت، ولا يجوز ترجمتها.
ويرى الأستاذ مصطفى صادق الرافعي أن من أسباب تحريم ترجمة معاني القرآن ونقله إلى لغات العالم قصور الترجمة، فهي لا يمكن أن تؤديه البتة، ولا تستطيع مطلقا(12/306)
أن تحمل حقيقة ما تعنيه ألفاظه على تركيبها المعجز، ولو هي أدت معانيه كما يفهم أهل العصر، بقي منها ما ستفهمه العصور الأخرى. . ويقول: إن أشهر وأدق ترجمة لمعاني القرآن في اللغة الفرنسية ترجمت فيها هذه الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} (1) ، فكانت الترجمة هكذا: هن بنطلونات لكم وأنتم بنطلونات لهن. . . وكيف يمكن أن تترجم هذه الكنايات الدقيقة بشرح وبسط تؤدى فيه الكلمة الواحدة بجمل طويلة. .! ؟
تم يقول: إن أمثال هذه الكنايات هي وجه من وجوه إعجاز القرآن للغات العالم كله.
__________
(1) سورة البقرة الآية 187(12/307)
رأي القائلين بجواز الترجمة:
أما الفريق الآخر الذي يجيز ترجمة معاني القرآن، ويدعو إليها، ويحض عليها، فمنهم الإمام أبو حنيفة، والإمام الشاطبي والإمام البخاري. . ومن المحدثين الإمام المراغي وأضرابه.
إن أبا حنيفة يجيز ترجمة معاني القرآن، بل يقول بصحة الصلاة بتلك الترجمة، والحنفية قاطبة متفقون على جواز ترجمة معاني القرآن للعارف، ويقولون: إذا ترجم القرآن فمن كان عاجزا عن القراءة باللفظ العربي وجب عليه وصحت له القراءة بالألفاظ الأجنبية المترجم إليها، وذلك هو أقوى الآراء عندهم.
أما إذا كان القارئ الأعجمي قادرا على تحريك لسانه باللفظ العربي فقد اختلفوا في أمره، فمنهم من يرى إلزامه بالقراءة في الصلاة وغيرها بالألفاظ العربية ما دام ذلك قد صار في مقدوره، ومنهم من يجيز له أن يقرأ بالترجمة الأجنبية التي يعي معانيها، ويدرك مقاصدها.
وللحنفية في هذه المسألة تفاصيل وفروع، ولكنها جميعها تتفق على جواز ترجمة معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية.(12/307)
أما الشاطبي: فقد استدل في: الموافقات، على جواز ترجمة معاني القرآن بالقياس على ما هو حاصل من إجماع الأمة على تفسيره للعامة ومن ليس له من الفهم ما يقوى به على إدراك كل معانيه الدقيقة، وما الترجمة إلا تفسير وإيضاح لغير العربي؛ حتى يفقه القرآن وأحكامه، ويتدبر معانيه ومقاصده.
وأما البخاري: فإنه يستدل في " صحيحه " إلى جواز ترجمة معاني القرآن إلى لغات الأعاجم بالقياس على ما كان من ترجمة التوراة إلى العربية بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم. فقد روى في باب ما يجوز من تفسير التوراة وكتب الله بالعربية وغيرها هذا الرأي استنادا لقوله تعالى: {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (1) ، وذكر ما أخبر به ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب من أن هرقل دعا ترجمانه ليقرأ كتاب النبي ويترجمه إليه، ونص الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (2) فقرأ الترجمان الرسالة وترجمها إلى هرقل ليعيها ويفهم ما جاء بها.
وأورد البخاري أيضا ما رواه محمد بن بشار مرفوعا إلى أبي هريرة، قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، (4) » .
وأورد بسنده أيضا حديث ابن عمر قال: «أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة من اليهود قد زنيا، فقال لليهود: ما تصنعون بهما؟ قالوا: نسخم وجهيهما ونخزيهما، قال: فجاءوا بها، فقالوا لرجل ممن يرضون: يا أعور، اقرأ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه، قال - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - ارفع يدك، فرفع يده، فإذا فيه آية الرجم تلوح، فقال (أي اليهودي القارئ) : إن عليهما الرجم،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 93
(2) سورة آل عمران الآية 64
(3) صحيح البخاري تفسير القرآن (4485) .
(4) سورة البقرة الآية 136 (3) {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}
(5) صحيح البخاري التوحيد (7543) ، صحيح مسلم الحدود (1699) ، سنن أبو داود الحدود (4446) ، سنن ابن ماجه الحدود (2556) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الحدود (1551) ، سنن الدارمي الحدود (2321) .(12/308)
ولكنا نكاتمه بيننا، فأمر بهما فرجما، فرأيته يجنأ. عليها الحجارة (2) » .
والبخاري يستنبط من ذلك كله جواز ترجمة معاني القرآن إلى لغات الأعاجم أخذا بالقياس على ترجمة التوراة.
وقد علق صاحب فتح الباري على ما ورد في الحديث الشريف من قوله تعالى: {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} (3) الآية. فقال: وجه الدلالة عند الإمام البخاري، أن التوراة بالعبرانية، فقضية ذلك الإذن في التعبير عنها بالعربية، وعكس ذلك يجوز أيضا بحكم قياس المساوي، فيجوز التعبير عن القرآن العربي بالعبرانية وغيرها، إذ لا فرق. . بل قد يقال: إن القرآن أولى لأن رسالته عامة، فالضرورة قاضية بترجمة معانيه، بخلاف التوراة فترجمتها للحاجة أو للكمال لا للضرورة لعدم عموم رسالة موسى عليه السلام.
وعلق أيضا صاحب فتح الباري على الحديث الذي ذكره البخاري عن ابن عباس عن أبي سفيان السابق ذكره، فقال: ووجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل باللسان العربي، وهرقل لسانه رومي، ففيه إشعار بأنه اعتمد في إبلاغه ما في الكتاب على من يترجم عنه بلسان المبعوث إليه ليفهمه، والمترجم المذكور هو الترجمان، وكذا وقع، بل الحديث واضح الدلالة في جواز ترجمة معاني القرآن لغير العربية؛ لأن كتاب النبي صلى الله عليه وسلم مشتمل على آية قرآنية وهي: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (4) الآية. وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم بها للنجاشي ملك الحبشة أيضا، ولملك الفرس كذلك، والثلاثة أعاجم لا يعرفون العربية، ولا يخفى أن في ذلك إذنا ضمنيا منه - عليه الصلاة والسلام - في ترجمة معنى هذه الآية للغات المذكورة كلها، وقد جاء في الصحيح عن أبي سفيان بن حرب، أن هرقل لما جاءه الكتاب أمر ترجمانه فترجمها له، وما جاز في آية واحدة يجوز مثله في سائر القرآن على الإطلاق.
وعلق أيضا على حديث أبي هريرة بأن بعضهم استدل على جواز قراءة القرآن بالفارسية، وأيد ذلك بدليل آخر هو أن الله حكى في القرآن الكريم قول الأنبياء كقول
__________
(1) سورة آل عمران الآية 93 (5) {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
(2) جنأ: أكب وحدب، أي أشرف كاهله على صدره، واجتنأ عليه: أكب عليه يقيه. (1)
(3) سورة آل عمران الآية 93
(4) سورة آل عمران الآية 64(12/309)
نوح وموسى وعيسى ويوسف وسائر الأنبياء بلسان القرآن وهو لسان عربي مبين، مع أن ألسنتهم ليست بعربية، واستدل على ما ذهب إليه من جواز ترجمة معاني القرآن بل ضرورتها بقوله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (1) . فذكر أن الإنذار إنما يكون بما يفهمون من لسانهم، فقراءة كل أمة من الناس تكون بلسانها حتى يقع لهم الإنذار به.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 19(12/310)
الحكم في قضية ترجمة معاني القرآن
والحكم عندنا في هذه القضية أن ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية أمر جائز بالأدلة الشرعية. . بل إن الدعوة الإسلامية تقتضيه وتوجبه، فهو رأي ليس فيه ابتداع، بل إنه واجب الاتباع. ويشترط في المترجم أن يكون على دراية تامة ومعرفة يقينية باللسان العربي واللسان المترجم إليه، مع معرفة تامة بأسباب نزول الآيات، متمكن من كل أداة توصله إلى الإدراك والفهم الدقيق لما تضمنته الآيات عند ترجمة معناها من العربية إلى اللغة الأجنبية المترجم إليها.
بل لقد أفتى بعض الحريصين على نشر الدعوة - ومنهم السيد محمد بن الحسن الحجوي المغربي - بجواز ترجمة معاني القرآن مطلقا، فقال: إن ترجمتها من الأمور المرغوب فيها، وإنها من فروض الكفاية التي يجب على الأمة القيام بها، فإذا قام بها البعض سقط عن الباقين القيام بها ولم يكن عليهم حرج، وإن لم يقم بها أحد أثم الكل. ودليل ذلك عنده، أن القرآن تبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه هو القائل في خطبته المشهورة غداة فتح مكة، وفي خطبته في حجة الوداع: «فليبلغ الشاهد منكم الغائب (1) » ، وهو القائل أيضا: «بلغوا عني ولو آية (2) » ، ولقد أوجب الله سبحانه وتعالى على رسوله الأمين أن يقوم بتبليغ الرسالة إلى الناس فقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (3) ، فالنبي صلى الله عليه وسلم بلغ العرب بلسانهم، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (4) ، بل إنه قد بلغ غير العرب أيضا، فبلغ
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1741) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، سنن ابن ماجه المقدمة (233) ، مسند أحمد بن حنبل (5/49) ، سنن الدارمي المناسك (1916) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3461) ، سنن الترمذي العلم (2669) ، مسند أحمد بن حنبل (2/159) ، سنن الدارمي المقدمة (542) .
(3) سورة المائدة الآية 67
(4) سورة إبراهيم الآية 4(12/310)
هرقل قيصر الروم، وكسرى فارس، والنجاشي ملك الحبشة، والمقوقس عظيم القبط، فيجب على العرب أن يبلغوا رسالة الإسلام لغيرهم من الأمة نيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا قال لهم: «بلغوا عني ولو آية (1) » . والتبليغ لجميع الأمم لا يمكن أن يكون في العادة شاملا لجميع أفراد الشعب إلا إذا كان بالترجمة إلى لغاتهم. وما دامت أمة من الأمم لم يترجم معنى القرآن إلى لغتها ففرض الكفاية بالتبليغ لم يؤد، ولم يحصل القيام به من الأمة كما يجب.
أما عن القائلين بعدم جواز الترجمة والاكتفاء في التبليغ بمجمل ما جاء به الدين، فحجتهم داحضة لا يقوم عليها دليل؛ إذ الظاهر من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (2) أن المراد بما أنزل هو عموم القرآن لا جزء خاص منه، بل إنه يشمل السنة أيضا.
وإنه لمن الدلالات القاطعة بفساد ما دعا إليه القائلون بعدم جواز الترجمة وإلزام الأمم بتعلم اللغة العربية، أنهم لن يستطيعوا أن يقيموا على ما ذهبوا إليه أي دليل نقلي أو عقلي. . فالدلالات النقلية تعوزهم، والدلالات العقلية المنطقية تسفه رأيهم، وليس أدل على ما نقول من قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} (3) ، ولقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كلم أهل اليمن بلغتهم، كما جاء في كتاب (الشفاء) وغيره. ثم إنه لاختلاف ألسن العرب ولهجاتهم اقتضت حكمة الله أن يكون نزول القرآن على سبعة أحرف ليقرأ العرب ما تيسر لهم منه، وما كان ذلك إلا تسهيلا عليهم كي لا يلزموا بلغة خاصة.
فإذا كان بنو تميم وهوازن وعرب اليمن لم يلزموا بتعلم لغة قريش لغة القرآن، بل أبيح لهم أن يقرءوه بحروفهم ولحونهم مع أنه من السهل عليهم أن يروضوا ألسنتهم على لسان قريش. فغير العرب أولى وأحرى بأن لا يلزموا بتعلم العربية؛ حتى يتسنى لنا تعليمهم الدين والقرآن - طبقا لما يقول به مخالفونا في الرأي - بل يجب أن نيسر لهم تفهم القرآن بلغاتهم وألسنتهم، وبذلك نكون قد بلغناهم الرسالة وألزمناهم الحجة.
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3461) ، سنن الترمذي العلم (2669) ، مسند أحمد بن حنبل (2/159) ، سنن الدارمي المقدمة (542) .
(2) سورة المائدة الآية 67
(3) سورة الروم الآية 22(12/311)
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الصحابة بتعلم اللغات الأعجمية ليبلغوا عنه، فقد أمر زيد بن ثابت بتعلم لغة اليهود ولغة السريان، فكان يبلغ عنه إليهم، ويبلغ عنهم إليه صلى الله عليه وسلم.
وكذلك أمر عمر بن الخطاب قواد جيوشه باتخاذ التراجمة مع من لم يعرف العربية من شعوب الأقطار التي فتحها المسلمون كفارس، والروم، ومصر، والسودان، وبرقة، وطرابلس. وكان أبو جمرة ترجمانا لعبد الله بن عباس حين كان واليا على البصرة. وكانت دفاتر الخراج ودواوين الأموال تكتب في كل قطر بلغة أهله، ويتولاها كتاب من الفرس أو الروم أو القبط أو غيرهم على حسب ما يقتضيه لسان كل إقليم، واستمر الحال كذلك إلى زمن عبد الملك بن مروان حين كثر من أبناء الموالي من أتقنوا اللغة العربية، ووجد من أبناء العرب من عرفوا ألسنة الأعاجم، فأمر بنقل دواوين الخراج والمحاسبة جميعها في سائر الأقطار إلى اللغة العربية.
إن ترجمة معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية ما هي في الواقع إلا ترجمة لمعاني الكلمات، وتفسير وتوضيح لمقاصد آيات الكتاب بتلك اللغات على نحو ما يفعل المفسرون باللسان العربي. . فما أقوال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقاتل وابن جبير وغيرهم من المفسرين القدامى والمحدثين إلا ترجمة لمعاني القرآن وإيضاح لها، ولذلك سمي ابن عباس ترجمان القرآن. . ومن البدهي الذي لا خلاف فيه أن القرآن لا يمكن أن يسمى قرآنا إلا إذا كان عربيا كما أنزل بنصه ولفظه ولغته.
وإذا كان القرآن قد فسر باللغة العربية، فلقد فسر أيضا بغير اللسان العربي كتفسير العالم المحقق إسماعيل حقي الذي فسره باللغة الفارسية، وكذلك فعل غيره من المفسرين الذين فسروه بلغات مختلفة، وقد أقرهم على هذا العمل علماء الإسلام.
إن ترجمة معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية أمر لا معدى عنه، لأنه - كما صرح في غير موضع من آياته: ذكر للعالمين فرسالته عامة لجميع الأمم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل {لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (1) ، قال صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي (2) » . . إلى أن قال:
__________
(1) سورة الفرقان الآية 1
(2) صحيح البخاري التيمم (335) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521) ، سنن النسائي الغسل والتيمم (432) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي الصلاة (1389) .(12/312)
«وكان النبي يبعث في قومه خاصة، وبعثت للناس عامة (1) » . وقال تعالى: {قُمْ فَأَنْذِرْ} (2) ، وقال: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (3) ، ويلزم من عموم الرسالة المحمدية جواز ترجمة معاني القرآن؛ لأنه دستور الإسلام لسائر الأمم.
إن القرآن قد ترجم معناه إلى كثير من لغات العالم، ترجمه الشيخ سعدي إلى اللغة الفارسية، وترجمه كذلك العالم الهندي شاه ولي الله إلى الفارسية، وترجمه إلى اللغة الأردية أفراد من بني شاه ولي الله، وشاه رفيع الدين، وشاه عبد القادر، وهناك تراجم أخرى إلى هذه اللغة وضعت حديثا. وقد ترجم معاني القرآن أيضا إلى لغات البوشتو والترك والجاوة والملايو والجوجراتي والبنجالي والهندي والجرموقي. . . إلخ.
وكان أول من حاول ترجمة معاني القرآن إلى اللاتينية من الأوربيين الإنجليزي روبرت من رتينا، وألماني اسمه هيرمان من دلماسيا، وكان ذلك في عام 1143 م بأمر من بطرس راعي دير كلاجني، ولكن الترجمة لم تنشر إلا بعد أربعة قرون أي في سنة 1543 م على يد تيودور بيبلباندر، ثم ترجم إلى الإيطالية والألمانية والهولندية بعد ذلك.
وأقدم ترجمة إلى الفرنسية قام بها دي رييه في باريس عام 1647 م، ثم نشرت لمعاني القرآن ترجمة باللغة الروسية في سان بطرس برج (لينينجراد) عام 1776 م.
وأول ترجمة إنجليزية لمعاني القرآن قام بها إسكندر روس وقد نقلها عن الترجمة الفرنسية (1649 - 1688) م، وكذلك نشرت ترجمة سيل الشهيرة عام 1737 م. وطبعت ترجمة رودويل عام 1861 م، ونشرت ترجمة بالمر من كلية كمبريدج عام 1880 م.
وفي القرن العشرين قامت الجمعية الأحمدية بلاهور في الهند بترجمة معاني القرآن إلى اللغات الأوربية، فترجمته إلى الإنجليزية والهولندية والألمانية عام 1951 م.
وقد يقول قائل: إن معاني القرآن كثيرة، فليس في مقدور مخلوق أن يحيط بها فيترجمها، وللرد على ذلك نقول: إن الله نزل القرآن وهو حافظ له، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (4) ،
__________
(1) صحيح البخاري التيمم (335) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521) ، سنن النسائي الغسل والتيمم (432) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي الصلاة (1389) .
(2) سورة المدثر الآية 2
(3) سورة الأنعام الآية 19
(4) سورة الحجر الآية 9(12/313)
فلا يمكن أن تنشأ من تعدد الترجمات اختلاف في القرآن كما وقع في التوراة والإنجيل، لأن القرآن نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وقد أوحي إليه بلفظه ونصه وأسلوبه. وأما غير القرآن من كتب الشرائع السماوية فقد أوحى بها إلى أصحابها بمعانيها دون ألفاظها وأساليبها. ولذلك فإن القرآن لا يمكن أن يتطرق إليه تغيير أو اختلاف أو تبديل، أما الترجمات المختلفة لمعاني القرآن فهي تفسير لمعانيه، ومن اليسير على أئمة المسلمين وعلمائهم أن يقابلوا الترجمة على الأصل العربي المنزل، فيقبل الموافق للنص، وينبذ المخالف.
وكل تفسير للقرآن - سواء أكان بلسان عربي أم غير عربي - ليس هو القرآن، وإنما القرآن هو المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بنصه ولفظه ولغته. وللقرآن الكريم سمات وصفات لا يمكن أن تنطبق على غيره من التفاسير والشروح والترجمات. قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1) {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (2) ، وقال: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (3) ، وقال: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} (4) ، ولسان النبي صلى الله عليه وسلم لسان عربي مبين، قال تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (5) ، وقال: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} (6) {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (7) ، وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} (8) {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (9) .
وبعد: فالذي نستخلصه من كل ما سبق، هو ضرورة ترجمة معاني القرآن ضرورة ملزمة، وهي فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وأنه من الخير أن يقوم بالترجمة جماعة على مستوى عال من الثقافات الشرعية واللسانية والعلوم الاجتماعية مع سلامة العقيدة، والحذق التام والمهارة البارعة في اللغتين العربية والأجنبية المترجم إليها. وحسبنا من القائمين بترجمة معاني القرآن أن يبذلوا أقصى الجهد في نقله إلى اللغات الأجنبية بما يوضح معانيه ولا يخرج عن مقاصده، في أسلوب واضح وبيان مقنع راجح. . . وبالله التوفيق.
__________
(1) سورة الزخرف الآية 3
(2) سورة الزخرف الآية 4
(3) سورة الزمر الآية 28
(4) سورة مريم الآية 97
(5) سورة النحل الآية 103
(6) سورة البروج الآية 21
(7) سورة البروج الآية 22
(8) سورة الدخان الآية 3
(9) سورة الدخان الآية 4(12/314)
الإمام وكيع: حياته وآثاره
للشيخ عبد الرحمن الفيرواني
اسمه ونسبه: هو وكيع بن الجراح بن مليح بن عدي بن فرس بن جمجة بن سفيان بن عمرو بن الحارث بن عمرو بن عبيد بن رؤاس الرؤاسي.
كنيته: أبو سفيان نسبة إلى ولده سفيان الذي كان من رواة الحديث.
ولادته: ولد سنة تسع وعشرين ومائة على الراجح.
نشأته: ونشأ وتربى في أسرة عريقة في العلم والدين حيث كان والده من المحدثين، وصاحب منصب حكومي في الدولة العباسية، في مدينة الكوفة. التي كانت من أهم المدن التي كانت تزخر بالعلماء والمحدثين والفقهاء، فتوجه وكيع إلى تحصيل العلم مبكرا، وكان شديد الحرص على تحصيل العلم من المحدثين والفقهاء من أهل بلده والواردين عليه، ثم رحل إلى المراكز العلمية في العالم الإسلامي لتنمية ثقافته، وتكوين شخصيته، وللاستفادة من خبرات علماء الزمن، فقدم بغداد مرات، كما رحل إلى الأنبار، وعبادان، وواسط، والموصل، ودمشق، والمصيصة، وطرطوس، ومكة، والمدينة مرات، وبيت المقدس، ومصر.
شيوخه: وكان لتبكيره في تحصيل العلم، ورحلاته المتكررة إلى مراكز العلم والثقافة أثر كبير في كثره مشايخه، وقد أكثر عن علماء الكوفة حتى اشتهر بروايته عن الكوفيين، وقد لازم بعض هؤلاء ملازمة شديدة واعتنى بمروياتهم وبأقوالهم في معرفة الرجال وعلل الحديث، وفي الفقة، والسنة، ومنهم الأعمش سليمان بن مهران، وسفيان الثوري، وإسماعيل بن أبي خالد، وهشام بن عروة، وجرير بن حازم، ومسعر، والأوزاعي، وابن جريج، ومالك، والحسن وعلي ابنا صالح، وهشام الدستوائي، وعبيد الله العمري. وقد ذكر المزي في تهذيب الكمال (191) من مشايخه في الكتب الستة (1) ، اكتفى الحافظ
__________
(1) تهذيب الكمال.(12/315)
ابن حجر بذكر واحد وثمانين منهم (1) .
تلاميذه: بدأ الإمام وكيع بتدريس علوم الحديث وهو ابن ثلاثين سنة واشتهر أمره حتى قال ابن معين: إنما كانت الرحلة إلى وكيع في زمانه، فأخذ عنه عدد كبير من أهل العلم ذكر المزي منهم (112) راويا، واكتفى الحافظ ابن حجر بذكر (26) راويا منهم، وهؤلاء: شيخه الثوري، وابن المبارك، وابن معين، والحميدي، وابن أبي شيبة، وأحمد، وهناد بن السري، وابن المديني، وأبو خيثمة، وابن سعد، وأبناؤه: سفيان، ومليح، وعبيد، وابن مهدي، وعلي بن خشرم، ومسدد، وقتيبة بن سعيد، ويحيى بن آدم، ومحمد بن أبان بن وزير البلخي المعروف بحمدويه مستملي وكيع، وعباس بن غالب الوراق صاحب وكيع، وإبراهيم بن عبد الله العبسي وهو آخرهم.
مذاكرة الحديث: وكان الإمام يذاكر مع أهل عصره ويسهر الليالي في تلك المذاكرة والبحث.
مكانته العلمية وثناء الناس عليه: ثبتت للإمام وكيع إمامة في كثير من الجوانب العلمية، فهو إمام في العقيدة، وإمام في علوم الحديث رواية ودراية، وإمام في السنة والرد على أهل البدع حتى وصفه الإمام أحمد بأنه كان إمام المسلمين في وقته (2) . وحتى قال ابن معين: وكيع في زمانه كالأوزاعي في زمانه (3) . وقد قال الإمام أحمد: ما رأيت رجلا قط مثل وكيع في العلم والحفظ والإسناد والأبواب مع خشوع وورع (4) .
توثيقه: وأجمع نقاد الحديث على توثيقه وأشاد بذكره كل من ترجم له من أصحاب المؤلفات، بل هو كان ناقدا كبيرا من النقاد الذين يرجع إلى أقوالهم في الجرح والتعديل، وقد لخص أقوالهم فيه الإمام الذهبي فقال: الإمام الحافظ، الثبت، محدث العراق، أحد الأئمة الأعلام (5) .
حفظه: إن نعمة الحفظ وقوة الذاكرة لهما أهمية كبيرة في باب رواية الأحاديث
__________
(1) تهذيب التهذيب.
(2) تاريخ بغداد (13 \ 474) .
(3) تاريخ بغداد (13 \ 474) .
(4) تاريخ بغداد (13 \ 474) .
(5) تذكرة الحفاظ (1 \ 306) .(12/316)
النبوية، وقد رزق الله الإمام وكيع ذهنا وقادا وذاكرة قوية حتى وصف بأحفظ أهل عصره لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الإمام أحمد: كان وكيع مطبوع الحفظ كان حافظا حافظا، وكان أحفظ من عبد الرحمن بن مهدي كثيرا وكثيرا (1) . وقال: ما رأيت أحفظ من وكيع (2) .
زهده وورعه: تمتاز القرون الأولى الموصوفة بالخيرية والتي تليها باتصاف أهل العلم بالعمل الطيب والسلوك القويم وكان الإمام من أزهد الناس وأورعهم حتى قال الإمام أحمد: ما رأيت أحدا أوعى للعلم من وكيع، ولا أشبه بأهل النسك (3) .
وكان كثير البكاء خشية من الموت، قال ابن معين سمعت وكيعا يقول كثيرا: وأي يوم لنا من الموت، وحدث أنه من شدة بكائه ورقته توقف على حديث ابن عمر: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل (4) » ثلاثة أيام (5) .
خلقه: وكان قواما صواما معتكفا، كثير الصلاة والحج والعمرة، وكان يتعفف عن المسألة ويدعو كثيرا أن يصونه الله عن المسألة، وكان يجتنب الشهرة، وما كان يحب أن يطلع الناس على عبادته، وكان مديم الاشتغال بالعلم والزهد والعبادة.
عقيدته وكفاحه من أجل العقيدة: عاش الإمام وكيع في زمن كثر فيه الكلام حول العقيدة لحدوث فرق مبتدعة في الإسلام، بعد أن كان أصول الأئمة في أصول الدين متفقة، وكان موقف أهل الحديث من هؤلاء المبتدعة وكلامهم موقفا شديدا، لا يخفى على من درس تراجم أهل الحديث والسنة والأثر، فكم من أهل العلم قد ترك كتبا مستقلة أو كلاما في ثنايا مؤلفاته في أمور الدين والعقيدة.
ومن هؤلاء الأئمة الأعلام من حماة العقيدة النافين عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين الإمام وكيع الذي اتخذ موقفا شديدا إزاء الفرق الضالة، فندد بهم وزيف آرائهم، وقد كثرت عنه النقول في مسائل العقيدة مثل خلق القرآن والجهمية وتكفير رئيسهم بشر (6) .
__________
(1) تقدمة الجرح والتعديل (221) .
(2) سير أعلام النبلاء (7 \ 41 \ أ) .
(3) تقدمة الجرح والتعديل (220) .
(4) صحيح البخاري الرقاق (6416) ، سنن الترمذي الزهد (2333) ، سنن ابن ماجه الزهد (4114) ، مسند أحمد بن حنبل (2/24) .
(5) تاريخ ابن معين برواية الدوري (2 \ 362) وزهد وكيع حديث رقم (11) .
(6) الفتوى الحموية الكبرى، والفتاوى الكبرى (5 \ 180) .(12/317)
المريسي، وإثبات الآيات والأحاديث الواردة في أسماء الله وصفاته، وفي مسائل زيادة الإيمان ونقصانه والاستثناء فيه، وفيما يلي نسرد آراءه وأقواله من غير تعليق لأنها في غاية من الوضوح.(12/318)
1 - الفرق بين منهج أهل السنة وبين أهل البدع:
قال أبو هشام الرفاعي: سمعت وكيعا يقول: أهل السنة يروون ما لهم وما عليهم، وأهل البدعة لا يروون إلا ما لهم (1) .
__________
(1) ذكر أخبار أصبهان (2 \ 19) .(12/318)
2 - ما ورد عنه في معنى قول السلف: " أمروها كما جاءت " وإن الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب: 1 - قال ابن معين: شهدت زكريا بن علي سأل وكيعا، فقال: يا أبا سفيان هذه الأحاديث يعني مثل حديث الكرسي موضع القدمين، ونحو هذا؟ ! فقال وكيع: أدركنا إسماعيل بن أبي خالد وسفيان ومسعرا يحدثون بهذه الأحاديث ولا يفسرون بشيء (1) .
2 - قال الترمذي في سننه: في كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في خلود أهل الجنة وأهل النار بعد أن أخرج حديث رؤية الباري عن أبي هريرة قال: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم روايات كثيرة مثل هذا ما يذكر فيه أمر الرؤية، أن الناس يرون ربهم وذكر القدم وما أشبه هذه الأشياء.
والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري ومالك بن أنس وابن المبارك وابن عيينة ووكيع وغيرهم أنهم رووا هذه الأشياء ثم قالوا: تروى هذه الأحاديث ونؤمن بها، ولا يقال: كيف؟ وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن تروى هذه الأشياء كما جاءت ويؤمن بها ولا تفسر ولا تتوهم ولا يقال: كيف؟ وهذا أمر أهل العلم الذي اختاروه، وذهبوا إليه (2) .
3 - قال أبو حاتم الرازي: ثنا أحمد بن حنبل ثنا وكيع يحدث في الكرسي قال: فاقشعر رجل عند وكيع فغضب، وقال: أدركنا الأعمش والثوري يحدثون بهذه
__________
(1) ترتيب تاريخ ابن معين (2 \ 631) والكنى للدولابي (1 \ 192) .
(2) سنن الترمذي (4 \ 691) .(12/318)
الأحاديث ولا ينكرونها (1) .
فلو اقتديت أيها المعارض في مثل هذه الأحاديث الضعيفة المشكلة المعاني بوكيع، كان أسلم لك من أن تنكره مرة ثم تثبته مرة أخرى، ثم تفسره تفسيرا لا ينقاس في أثر، ولا قياس عن ضرب المريسي وابن الثلجي، ونظرائهم (2) .
4 - قال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي زمنين الإمام المشهور من أئمة المالكية في كتابه الذي صنفه في أصول السنة في باب الإيمان بالنزول: ومن أقوال أهل السنة أن الله ينزل إلى سماء الدنيا، ويؤمنون بذلك من غير أن يحدوا فيه حدا، وذكر الحديث من طريق مالك وغيره إلى أن قال: وأخبرني وهب عن ابن وضاح عن الزهري عن ابن عباد قال: ومن أدركت من المشايخ مالك، وسفيان، وفضيل بن عياض، وعبد الله بن المبارك، ووكيع كانوا يقولون: إن النزول حق (3) .
قلت: وما جاء عن بعض السلف أنهم يمرون أحاديث الصفات، ولا يفسرونها فالمقصود به أنهم لا يفسرونها تفسير الجهمية والمعطلة في تأويلها بآراء، وهو ما أشار إليه الدارمي في كلام متقدم حيث قال: من فسر برأيه فاتهموه.
وأما تفسيرها وفقا بما تدل عليه اللغة فلم يمنعوه بل قالوا به كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم والكيف مجهول.
__________
(1) سير أعلام النبلاء (9 \ 165) ومختصر العلوم (1868 - 169) .
(2) الرد على بشر المريسي.
(3) نقلا عن الفتوى الحموية الكبرى والفتاوى الكبرى (5 \ 65) .(12/319)
2 - كلامه في الفرق المبتدعة:
1 - قال وكيع: الرافضة شر من القدرية، والحرورية شر منهما، والجهمية شر هذه الأصناف، قال الله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (1) ، ويقولون: لم يكلم، ويقولون: الإيمان بالقلب (2) .
__________
(1) سورة النساء الآية 164
(2) خلق أفعال العباد (130) .(12/319)
2 - وقال: احذروا هؤلاء المرجئة، وهؤلاء الجهمية، والجهمية كفار، والمريسي جهمي، وعلمتم كيف كفروا، قالوا: يكفيك المعرفة وهذا كفر.
والمرجئة يقولون: قول بلا فعل، وهذا بدعة، فمن قال: القرآن مخلوق فهو كافر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، يستتاب وإلا ضربت عنقه (1) .
__________
(1) خلق أفعال العباد (123) والفتاوى الكبرى (5 \ 80) .(12/320)
3 - تكفيره لبشر المريسي وأتباعه من الجهيمة:
1 - قال محبوب بن موسى الأنطاكي: إنه سمع وكيعا يكفر الجهمية (1) .
2 - وقال محمد بن عمرو الكلابي: سمعت وكيعا كفر المريسي.
3 - وقال: الجهمية كفار، والمريسي جهمي، وعلمتم كيف كفروا؟ قالوا: يكفيك المعرفة وهذا كفر (2) .
4 - قال وكيع: على المريسي لعنة الله، يهودي هو أو نصراني، فقال له رجل: كان أبوه أو جده يهوديا أو نصرانيا، قال وكيع: عليه وعلى أصحابه لعنة الله، القرآن كلام الله، وضرب وكيع إحدى يديه على الأخرى، وقال: سيئ ببغداد، يقال له المريسي، يستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه (3) .
5 - وقال الدارمي في آخر كتاب الرد على الجهمية: ولو لم يكن عندنا حجة في قتلهم وتكفيرهم إلا قول حماد بن زيد وسلام بن أبي مطيع، وابن المبارك، ووكيع، ويزيد بن هارون، وأبي توبة، ويحيى بن يحيى، وأحمد بن حنبل، ونظرائهم رحمة الله عليهم أجمعين، لأجبنا عن كفرهم بقول هؤلاء حتى نستبرئ ذلك ممن هو أعلم منهم وأقدم، ولكنا نكفرهم بما تأولنا فيهم من كتاب الله عز وجل وروينا فيهم من السنة وبما حكينا
__________
(1) الرد على الجهمية (350) والرد على بشر المريسي (361، 477، 482) كلاهما للدارمي.
(2) خلق أفعال العباد (123) والفتاوى الكبرى (5 \ 80) .
(3) الفتاوى الكبرى (5 \ 80) .(12/320)
عنهم من الكفر الواضح المشهور الذي يعقله أكثر العوام وبما ضاهوا مشركي الأمم قبلهم (1) إلخ.
__________
(1) الرد على الجهمية للدارمي (356) .(12/321)
4 - تكفيره لمن قال بخلق القرآن:
روى عنه غير واحد من أصحابه ومن وجوه متعددة تكفيره القائلين بخلق القرآن، وهو في هذا على مذهب أهل السنة المحققين الذين أجمعوا على تكفير هؤلاء المبتدعة.
1 - قال أبو هشام الرفاعي الصابوني: سمعت وكيعا يقول: من زعم أن القرآن مخلوق، فقد زعم أن القرآن محدث، ومن زعم أن القرآن محدث فقد كفر (1) .
2 - عن أبي محمد وهب بن بقية الواسطي:
سمعت وكيعا يقول: القرآن كلام الله وليس بمخلوق وقال: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر.
3 - وقال الحسين بن علي بن الأسود: سمعت وكيع بن الجراح يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق (2) .
وأيضا: ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر بالله العظيم، وقال: القرآن كلام الله ليس بمخلوق (3) .
4 - وقال محمد بن قدامة الدلال الأنصاري: سمعت وكيعا يقول: لا تستخفوا بقولهم: القرآن مخلوق، فإنه من شر قولهم، إنما يذهبون إلى التعطيل (4) .
__________
(1) الأسماء والصفات للبيهقي (249) وتاريخ دمشق (17 \ 403 \ ب) وسير أعلام النبلاء (7 \ 46 \ أ) .
(2) تاريخ دمشق (17 \ 403 \ ب) .
(3) الأسماء والصفات للبيهقي (249) وتاريخ دمشق. (17 \ 404) .
(4) الأسماء والصفات (254) والفتاوى الكبرى (5 \ 42) .(12/321)
5 - وقال أبو حاتم الطويل: قال وكيع: من قال: إن كلام الله ليس منه فقد كفر، ومن قال: إن شيئا منه مخلوق فقد كفر (1) .
6 - وقال علي بن الحسين الهاشمي: حدثنا علي بن الحسين قال: عن وكيع بن الجراح يقول: من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن شيئا من الله مخلوق. فقلت: يا أبا سفيان من أين قلت هذا؟ قال: لأن الله يقول: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} (2) ولا يكون شيء من الله مخلوقا (3) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا القول قاله غير واحد من السلف.
7 - وقال يزيد بن الهيثم: سمعت أبا خيثمة قال: وقلت ليحيى الأنماطي بالخريبة: ترضى بوكيع؟ قال: نعم، فأتيت وكيعا فقلت له: إن هذا يزعم أن القرآن مخلوق مجعول؟ فقال: هذا كافر، هذا كافر (4) .
8 - وأخرج البيهقي عن إسحاق بن حكيم قال: قلت لعبد الله بن إدريس الأودي: قوم عندنا يقولون: القرآن مخلوق، ما تقول في قبول شهادتهم؟ فقال: لا، هذه من المقاتل، لا يقال لهذه المقالة بدعة، هذه من المقاتل.
ثم سأل إسحاق أبا بكر بن عباس وحفص بن غياث عن هؤلاء، ثم سأل وكيعا عنهم فقال وكيع: يا أبا يعقوب من قال: القرآن مخلوق فهو كافر (5) .
9 - وهكذا ذكر يحيى بن خلف المقرئ عن مالك وغيره من الأئمة، ومنهم وكيع أن من قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر عندهم، وقالوا: اقتلوه (6) .
10 - وهكذا أخرج البيهقي عن سويد بن سعيد أنه سمع جميع من حمل عنهم العلم، ومنهم وكيع أنهم يقولون:
__________
(1) الفتاوى الكبرى (5 \ 77) .
(2) سورة السجدة الآية 13
(3) الفتاوى الكبرى (1 \ 298) ومجموع الرسائل والمسائل (3 \ 142) .
(4) من كلام أبي زكريا يحيى بن معين في الرجال من رواية يزيد بن الهيثم (124) .
(5) الأسماء والصفات (250) وعنه الجوزقاني في الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير (2 \ 290 بتحقيقي) .
(6) الأسماء والصفات (247) .(12/322)
1 - الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص.
2 - والقرآن كلام الله تعالى وصفة ذاته غير مخلوق، ومن قال: إنه مخلوق فهو كافر بالله العظيم.
3 - وأفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. وقال عمران بن موسى الجرجاني بنيسابور (الرواي عن سويد) : وبه أدين الله عز وجل، وما رأيت محمديا قط إلا وهو يقوله (1) .
11 - وقال محمد بن يزيد قلت لوكيع: يا أبا سفيان! إن هذا الرجل رأيته عندك، يزعم أن القرآن محدث، فقال وكيع: من قال: إن القرآن مخلوق، فقد زعم أن القرآن محدث، ومن زعم أن القرآن محدث فقد كفر (2) .
هذا ما ورد عنه في القائلين بخلق القرآن وفي كفرهم وضلالهم، وقد فصل القول شيخ الإسلام في موضوع خلق القرآن وركز على نقل أقوال وكيع والدفاع عنه عما رماه به المعتزلة أنه كان يقول: " إن القرآن بعض الخالق "، هكذا حكاه عنه زرقان المعتزلي، قال شيخ الإسلام: إن ما ذكره محمد بن شجاع عن فرقة أنها قالت: إن القرآن هو الخالق، وفرقة قالت: هو بعضه، وحكاية زرقان أن القائل بهذا هو وكيع بن الجراح " (3) هو من باب النقل بتأويل الفاسد، وكذلك قوله: إن فرقة قالت: إن الله بعض القرآن وذهب إلى أنه سمي فيه، فلما كان اسم الله في القرآن والاسم هو المسمى كان الله في القرآن وذلك أن الذي قاله وكيع قاله سائر الأئمة إن القرآن من الله، يعنون أن القرآن صفة الله وأن الله تعالى هو المتكلم به، وأن الصفة هي تدخل في مسمى الموصوف كما قال مالك بن أنس: القرآن كلام الله من الله، ليس شيء من الله مخلوقا.
وقال أبو نعيم الفضل بن دكين: أدركت الناس ما يتكلمون في هذا ولا عرفنا هذا إلا بعد، فمنذ سنين القرآن كلام الله منزل من عند الله لا يؤول إلى خالق ولا مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود، هذا الذي لم نزل عليه، ولا نعرف غيره.
__________
(1) الأسماء والصفات (248) .
(2) السنة لعبد الله بن أحمد (8) وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (1 \ 249) .
(3) وانظر أيضا مقالات الإسلاميين للأشعري (586) .(12/323)
ثم ساق كلام أهل العلم كأحمد وعمرو بن دينار، ووكيع، وقال: وكذلك فسره أحمد، ونعيم بن حماد، والحسن بن الصباح البزار، وعبد العزيز بن يحيى الكناني، فهذا لفظ وكيع الذي سماه زرقان، وهو لفظ سائر الأئمة الذين حرف محمد بن شجاع قولهم، فإن قولهم: كلام الله من الله يريدون به شيئين:
أحدهما: أنه صفة من صفاته والصفة مما تدخل في مسمى اسمه، وهذا كما قال الإمام أحمد فالعلم من الله، وله، وعلم الله منه، وكقوله وقول غيره من الأئمة ما وصف الله من نفسه، وسمى من نفسه، ولا ريب أن هذا يقال في سائر الصفات كالقدرة، والحياة، والسمع، والبصر، وغير ذلك فإن هذه الصفات كلها من الله أي مما يدخل في مسمى اسمه.
والثاني: يريدون بقولهم: " كلام الله منه " أي خرج منه، وتكلم به كقوله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} (1) ، وذلك كقوله: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} (2) ، وقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (3) ، وهذا اللفظ والمعنى مما استفاضت به الآثار، ثم ذكر أقوال أهل العلم في المسألة وقال: وإنما سمى - والله أعلم - زرقان وكيعا لأنه كان من أعلم الأئمة بكفر الجهمية، وباطن قولهم، وكان من أعظمهم ذما لهم، وتنفيرا عنهم فيعم الجهمية من ذمه لهم ما لم يبلغهم من ذم غيره، إذ هم من أجهل الناس بالآثار النبوية وكلام السلف والأئمة كما يشهد بذلك كتبهم، ومحمد ابن شجاع هذا منهم في روايته. . . ثم نقل أقوال وكيع من كتاب أفعال العباد، مستدلا بما قال، ثم ذكر عن البخاري نصا عن عبد الله بن إدريس عن الصلاة خلف أهل البدع، وجاء فيه أنه قال عبد الله بن إدريس فأتيت وكيعا فوجدته من أعلمهم بهم، فقال: يكفرون من وجه كذا، ويكفرون من وجه كذا، ويكفرون من وجه كذا، حتى أكفرهم من كذا وكذا وجها.
ثم قال شيخ الإسلام: وهكذا رأيت الجاحظ قد شنع على حماد بن سلمة، ومعاذ ابن معاذ قاضي البصرة بما لم يشنع على غيرهما، لأن حمادا كان معتنيا بجمع أحاديث
__________
(1) سورة الكهف الآية 5
(2) سورة السجدة الآية 13
(3) سورة الزمر الآية 1(12/324)
الصفات وإظهارها، ومعاذ لما تولى القضاء رد شهادة الجهمية والقدرية فلم يقبل شهادة المعتزلة، ورفعوا عليه إلى الرشيد فلما اجتمع به حمده على ذلك، وعظمه، فلأجل معاداتهم لمثل هؤلاء الذين هم أئمة في السنة يشنعون عليهم بما إذا حقق لم يوجد مقتضيا لذم (1) ! ! !
__________
(1) الفتاوى الكبرى (5 \ 74 - 81) باختصار منه.(12/325)
قوله في مسألة الإيمان وزيادته ونقصانه:
1 - قال الحميدي: سمعت وكيعا يقول: وأهل السنة يقولون: الإيمان قول وعمل، والمرجئة يقولون: الإيمان قول، والجهمية يقولون: الإيمان المعرفة (1) .
2 - وقال وكيع: حذروا هؤلاء المرجئة والجهمية، والجهمية كفار، والمريسي جهمي، وعلمتم كيف كفروا، قالوا. يكفيك المعرفة، وهذا كفر، والمرجئة يقولون: الإيمان قول بلا عمل وهذا بدعة (2) .
3 - وقال: الرافضة شر من القدرية، والحرورية شر هذه الأصناف، قال الله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (3) ويقولون: لم يكلم، ويقولون: الإيمان بالقلب (4) .
4 - وذكر سويد بن سعيد عن غير واحد من أهل العلم منهم وكيع: إن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص (5) .
5 - وذكر ابن عبد البر عن العلاء بن عصيم قال: قلت لوكيع بن الجراح: لقد اجترأت حين قلت: الإيمان يزيد وينقص؟ قال: ولقد اجترأ أبو حنيفة حين قال: الإيمان قول بلا عمل (6) .
وقال الحافظ ابن حجر - في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه - بعد نقل كلام السلف
__________
(1) تهذيب سنن أبي داود لابن القيم (7 \ 59) .
(2) تقدم قبله، فانظر النص بكامله هناك.
(3) سورة النساء الآية 164
(4) تقدم.
(5) تقدم.
(6) الانتقاء (138) .(12/325)
في المسألة: وحكاه فضيل بن عياض ووكيع عن أهل السنة والجماعة (1) .
__________
(1) فتح الباري (1 \ 47) .(12/326)
6 - قوله في مسألة الاستثناء في الإيمان:
1 - روى الخطيب بسنده عن محمود بن غيلان حدثنا وكيع قال: سمعت الثوري يقول: نحن المؤمنون، وأهل القبلة عندنا مؤمنون في المناكحة والمواريث والصلاة والإقرار، ولنا ذنوب ولا ندري ما حالنا عند الله، قال وكيع: وقال أبو حنيفة: من قال بقول سفيان هذا فهو عندنا شاك، نحن المؤمنون هنا، وعند الله حقا.
قال وكيع: ونحن نقول بقول سفيان، وقول أبي حنيفة جرأة (1) .
وقال عبيد بن يعيش حدثنا وكيع قال: كان سفيان إذا قيل له: أمؤمن أنت؟ قال: نعم! وإذا قيل له: عند الله؟ قال: أرجو، وكان أبو حنيفة يقول: أنا مؤمن ههنا، وعند الله، قال وكيع: قول سفيان أحب إلينا (2) .
__________
(1) تاريخ بغداد (13 \ 370) والتنكيل (2 \ 375) .
(2) مناقب أبي حنيفة للذهبي (24) والتنكيل (2 \ 375) .(12/326)
7 - حمايته للسنة وحثه على التمسك بها:
كان الإمام وكيع صاحب سنة ورجل عقيدة، وكان يهتم بحماية السنة والقضاء على أهل البدع والإنكار على أهلها، وكانت تأخذه الغيرة في ذلك فكان يغضب غضبا شديدا. وقد روى عنه محمد بن سلام البيكندي أنه سمعه كان يقول: من طلب الحديث كما جاء فهو صاحب سنة، ومن طلبه ليقوى به رأيه فهو صاحب بدعة (1) .
وقال أبو هشام الرفاعي: سمعت وكيعا يقول: أهل السنة يروون ما لهم وما عليهم، وأهل البدعة لا يروون إلا ما لهم (2) .
وقال ابن معين: كان وكيع بن الجراح يحدث بكتبه، فيطلب هذا كتابا، وهذا كتابا، فقال رجل: دعوا كتاب الأشربة إلى آخر الكتاب، فقال وكيع، ما هذا الرجل؟
__________
(1) سير أعلام النبلاء (9 \ 144) .
(2) أخبار أصبهان (2 \ 19) ورد فيه في الموضعين '' يرون ''، '' ولا يرون '' ولعل الصواب ما أثبتاه.(12/326)
لا يريد كتاب الأشربة؟ هو صاحب بدعة حين لا يريد " كتاب الأشربة " أو نحو هذا من الكلام (1) .
وقال الترمذي: سمعت يونس بن عيسى يقول سمعت وكيعا يقول: حين روى هذا الحديث (أي حديث «إشعار النبي صلى الله عليه وسلم الهدي (2) » قال: لا تنظروا إلى قول أهل الرأي في هذا فإن الإشعار سنة وقولهم بدعة.
وقال الترمذي: وسمعت أبا السائب يقول: كنا عند وكيع، فقال لرجل عنده ممن ينظر في الرأي: أشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول أبو حنيفة: هو مثلة.
قال الرجل: فإنه قد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: الإشعار مثلة، قال: فرأيت وكيعا غضب غضبا شديدا، وقال: أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: قال إبراهيم، ما أحقك بأن تحبس، ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا (3) .
وفي هذه النصوص كفاية لكل عاقل للاعتبار بها والاقتداء بسيرة السلف في التمسك بالسنة والعمل بها بدون تعصب أو تحيز لمذهب.
__________
(1) ترتيب تاريخ ابن معين (2 \ 630) .
(2) صحيح البخاري الحج (1643) ، صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (934) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود المناسك (1778) ، سنن ابن ماجه المناسك (3000) ، مسند أحمد بن حنبل (6/273) ، موطأ مالك الحج (940) ، سنن الدارمي المناسك (1904) .
(3) سنن الترمذي (3 \ 241) والفقيه والمتفقه (1 \ 149) .(12/327)
8 - عنايته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
كان السلف يمتازون بصراحتهم في النصيحة حرصا على المجتمع وشفقة على أهله لما كانوا يشعرون به من المسئولية تجاه المجتمع، وحياتهم كلها كانت عبارة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث بابه واسع جدا، وكان وكيع رجلا صريحا في كثير من المواقف لإبلاغ الحق وإرشاد الناس إليه ومن أمثلته ما تقدم، ومنها ما قال ابن معين: ورأيت وكيعا ورأى امرأة عند عطار، والعطار يكلمها، فقال لإنسان: اذهب إلى ذاك العطار، ففرق بينهما (1) .
__________
(1) ترتيب تاريخ ابن معين (2 \ 630) .(12/327)
" ما ورد عنه في آداب السامع والمحدث"
ومصطلح الحديث
إن علم المصطلح ينبني على دراسة أقوال أئمة الحديث النقاد القدامى الذين قضوا حياتهم في خدمة الحديث الشريف، واكتسبوا فيه تجارب علمية أودعوها في مؤلفاتهم، أو روى عنهم أصحابهم فوصلت إلينا في مؤلفات المتأخرين، وكان للإمام وكيع في هذا الصنف من العلم حظ كبير لممارسته الطويلة في التأليف والرواية والتحديث، والاحتكاك بالرجال ومعرفة أحوالهم، وهذا ليس يخفى على من درس مؤلفات أهل العلم في المصطلح.
وفيما يلي نسرد آراءه وأقواله وأفعاله في هذا الباب لنعرف مدى أصالة علم مصطلح الحديث، وإسهام السلف في جمع مادتها حيث تبلور هذا العلم بعد غربلة أفكارهم وتحريرها في صورة قواعد هذا الفن، حيث صارت هذه القواعد أصح القواعد للإثبات التاريخي وأعلاها وأدقها، وقلدهم فيها العلماء في أكثر الفنون النقلية، وفي الحقيقة أن هذا العلم أساس لكل العلوم النقلية وهو جدير بأن يوصف بأنه: منطق المنقول وميزان تصحيح الأخبار (1) .
__________
(1) الباعث الحثيث (8 - 9) .(12/328)
نصائح وتوجيهات لطلبة العلم:
1 - فضيلة الرحالين في طلب الحديث: قال أبو هشام الرفاعي: سمعت وكيعا يقول: لو أن الرجل لم يصب في الحديث شيئا إلا أنه يمنعه من الهوى كان قد أصاب فيه (1) .
2 - استدل أصحاب المصطلح بصنيع وكيع أنه كان يقول: حدثني سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث " وبغيره أنه من آداب المحدث أنه يحسن أن يثني على شيخه (2) .
__________
(1) شرف أصحاب الحديث (60) .
(2) الباعث الحثيث (153) وتدريب الراوي (2 \ 136) .(12/328)
3 - قال وكيع: إذا أردت حفظ الحديث فاعمل به (1) .
4 - قال علي بن خشرم: شكوت إلى وكيع قلة الحفظ، فقال: استعن على الحفظ بقلة الذنوب (2) .
واشتهر عن الشافعي شعره:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ... ونور الله لا يهدى لعاصي
كذا في الديوان المنسوب إليه (3) .
وفي الفوائد البهية في تراجم الحنفية:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وعلله بأن العلم فضل ... وفضل الله لا يحويه عاصي
5 - وأخرج الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع في مبحث: عود الطالب إلى وطنه، واختيار إقامته على ظعنه بسنده عن رزق الله بن موسى قال: مشيت خلف وكيع بن الجراح، وهو يريد مسجد الجامع، فسألته عن أحاديث؟ فقال لي: هون عليك، فإن كلام الناس من مائتي سنة، لا يلحق كلمة (4) .
6 - وأخرج الخطيب في الجامع في باب أدب السماع بسنده عن شجاع بن مخلد قال: قال وكيع: من فهم، ثم استفهم، فإنما يقول: اعرفوني أني أجيد أخذ الحديث.
7 - وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن محمد بن أبان الكوفي: سمعت وكيعا يقول: من استفهم وهو يفهم، فهو طرف من الرياء (5) .
__________
(1) الباعث الحثيث (153) وتدريب الراوي (2 \ 144) .
(2) شعب الإيمان للبيهقي (1 \ 2 \ 288) وتهذيب الكمال (8 \ 733) .
(3) (54) .
(4) الجامع (2 \ 303) .
(5) الجامع (1 \ 131) .(12/329)
8 - وقال يحيى بن أيوب العابد: سمعت وكيعا يقول: من خرج من بيته إلى مجلس محدث بلا محبرة، فقد نوى المسألة (1) .
9 - وأخرج وكيع في زهده (رقم 539 بتحقيقي) عن بعض مشايخه: كنا نستعين في طلب الحديث بالصوم.
10 - وقال وكيع: لا ينبل الرجل حتى يكتب عمن هو فوقه ومن هو مثله ومن هو دونه.
وقال: لا يكون الرجل عالما حتى يسمع ممن هو أسن منه، وممن هو مثله، وممن هو دونه (2) .
11 - وكان لا يجلس ولا يحدث إلا وجهه إلى القبلة (3) .
12 - قال أبو السائب سالم بن جنادة: جالست وكيع بن الجراح سبع سنين فما رأيته بزق ولا رأيته مس - والله - حصاة بيده، ولا رأيته إلا يستقبل القبلة وما رأيته يحلف بالله.
13 - اجتمع أصحاب الحديث عند وكيع قال: وعليه ثوب أبيض فانقلبت المحبرة على ثوبه - فسكت مليا، ثم قال: ما أحسن السواد في البياض (4) .
14 - قال أحمد بن سنان: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يتحدث في مجلسه ولا يقوم أحد من مجلسه، ولا يبرى فيه قلم ولا يبتسم أحد، فإن تحدث أو برى صاح ونهى عنه.
وكذا كان يكون ابن نمير، وكان أشد الناس في هذا، وكان وكيع أيضا يكونون في
__________
(1) الجامع (1 \ 131) .
(2) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2 \ 274) .
(3) ترتيب تاريخ ابن معين (2 \ 630) .
(4) الجامع لأخلاق الراوي (1 \ 280) وتاريخ دمشق (17 \ 399 \ أ) .(12/330)
مجلسه كأنهم في صلاة، فإن أنكر من أمرهم شيئا انتعل ودخل، وكان ابن نمير يغضب ويصيح، وكان إذا رأى من يبري قلما تغير وجهه غضبا.
15 - قال محمد بن أبي الصباح: كان وكيع بن الجراح إذا أراد أن يحدث احتبى، فإذا احتبى سأله أصحاب الحديث، فإذا نزع الحبوة لم يسألوه، وكان إذا حدث استقبل القبلة (1) .
16 - والإمام وكيع بن الجراح من المحدثين الذين كانوا يعقدون المجالس للإملاء.
ففي تدريب الراوي: من آداب المحدث: اتخاذه المستملي للتبليغ عنه إذا كثر الجمع عادة الحفاظ في ذلك كما روي عن مالك وشعبة ووكيع وخلائق (2) .
وهكذا ذكره السمعاني في أدب الإملاء والاستملاء (3) ، وقال أحمد: كان محمد بن أبان يستملي لنا عند وكيع (4) .
17 - إعارة الكتب في نظر وكيع: قال حسين بن السري: سمعت وكيعا يقول: أول بركة الحديث إعارة الكتب (5) .
وجاء أنه قال: - نهيت أبا أسامة أن يستعير الكتب.
__________
(1) الحلية (8 \ 369) .
(2) تدريب الراوي (2 \ 133) .
(3) أدب الإملاء (15) .
(4) أدب الإملاء والاستملاء.
(5) أدب الإملاء والاستملاء (175) والآداب الشرعية (2 \ 178) .(12/331)
مذهبه في الرواية بالمعنى
"
قال وكيع: إن لم يكن المعنى واسعا، فقد هلك الناس (1) .
__________
(1) العلل للترمذي (5 \ 747) وشرحه لابن رجب (1 \ 146) .(12/331)
وقال ابن رجب: حكى الإمام أحمد عن وكيع أنه كان يحدث على المعنى وابن مهدي كان يتبع الألفاظ ويتعاهدها (1) .
وأخرج الخطيب في الجامع في مبحث جواز رواية المحدث من حفظه، والقول في تأدية معنى الحديث دون لفظه: عن أحمد قال: كان خالد بن الحارث يجيء بالحديث كما سمع ويقول نحو هذا أو شبه ذلك، وكان ابن مهدي يجيء بالحديث كما سمع وكان وكيع يجهد أن يجيء بالحديث كما سمع، فكان ربما قال في الحرف أو الشيء يعني كذا (2 \ 74 - 75) .
وأخرج في مبحث ذكر من كان يذهب إلى جواز رواية الحديث على المعنى، وبعض المحفوظ عنه في ذلك: عن أبي حفص أحمد بن حفص قال: كنا عند وكيع بن الجراح، وكان يقرأ علينا فكأن الألفاظ تختلف، فقال لنا وكيع: كيف في كتابكم حتى أقرأ كما في كتابكم، وقال: قال وكيع: لا تغيروا الألفاظ إذا كان المعنى واحدا (2 \ 89) .
__________
(1) شرح العلل (1 \ 150) .(12/332)
مذهبه في العرض على المحدث: قال أحمد بن أبي الحواري: سمعت وكيعا يقول: ما أخذت حديثا قط عرضا، قلت: عندنا من أخذ عرضا قال: من عرف ما عرض مما سمع فخذ منه يعني السماع.
وفي سير أعلام النبلاء أنه ذكر قول وكيع: ما أخذت حديثا قط عرضا لابن معين، فقال: وكيع عندنا ثبت (1) .
__________
(1) (السير 7 \ 44 \ أ) .(12/332)
مذهبه فيما سمع قراءة أن لا يقال فيه حدثنا: أخرج الخطيب بسنده عن جعفر بن محمد الفريابي سألت محمد بن عبد الله بن نمير، فقلت: جامع سفيان له أصل؟ قال: نعم! ولكنه قراءة على سفيان، قال: وكان عبيد الله يقول: حدثنا سفيان، قال: وكان يتعجب منه حتى كان بأخرة.(12/332)
قال عبد الله: لم أسمع من سفيان، ولكن قرأنا عليه.
قال الخطيب: قلت: هذا يدل على أن مذهب وكيع فيما سمع قراءة أنه لا يقال فيه: " حدثنا "، ومذهب عبيد الله إجازة ذلك (1) .
__________
(1) الكفاية باب ذكر الرواية عمن قال: يجب البيان عن السماع كيف كان (300 - 301) .(12/333)
مذهبه في الإعلام من أنواع الإجازة: قال باسم بن يزيد المقرئ الوراق: سمعت وكيعا يقول: لو أن رجلا دفع إلى رجل كتابا فقال له: حدثتك بما فيه كان قد حدثه (1) .
مذهبه في الوجادة: ذكر الخطيب في باب القول في الرواية عن الوصية بالكتب عن الحسين بن حريث قال: سمعت وكيعا يقول: لا ينظر رجل في كتاب لم يسمعه، لا يأمن أن يعلق قلبه منه، ثم قال الخطيب: وأجاز جماعة الرواية عن الوجادة في الكتب (2) .
__________
(1) الكفاية (347) .
(2) الكفاية (353) وراجع أيضا: شرح العلل لابن رجب (1 \ 283) .(12/333)
مذهبه في التدليس والمدلسين: قال هاشم بن زحير أخو الفياض: كان وكيع ربما قال في الحديث: " حدثنا " وربما لم يقل، قال: فقلنا لجار لنا يقال له أبو الوفاء كان لا يحسن شيئا - سله، لم يقول في بعضه: " حدثنا " ولا يقول في بعضه؟ قال: فتقدم إليه، فسأله، قال: فقال له وكيع: أما وجد القوم خطيبا غيرك؟ ! نحن لا نستحل التدليس في الثياب، فكيف في الحديث (1) .
وروى رزق الله بن موسى عن وكيع قال: لا يحل تدليس الثوب فكيف يحل تدليس الحديث (2) .
وقال القواريري: كتب وكيع إلى هشام: بلغني أنك تفسد أحاديثك بهذا الذي تدلسها.
فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، كان أستاذاك يفعلانه الأعمش وسفيان (3) .
__________
(1) الكفاية (356 - 357) تاريخ دمشق (17 \ 401 \ أ) .
(2) شرح العلل لابن رجب (1 \ 357) .
(3) العلل لأحمد (1 \ 322) .(12/333)
وقال أحمد: كان وكيع إذا أتى على حديث الأعمش يبين، يقول: حدثنا الأعمش، حدثنا الأعمش (1) .
وقال أحمد: خرجنا مع وكيع إلى الأنبار فقال له رجل: يا أبا سفيان! إنهم يكتبون: " حدثنا سفيان " " حدثنا سفيان "!
فقال: أليس أقول لهم: حدثنا سفيان (2) .
قال محمد بن عبد الله بن عمار: وكان وكيع سريع اللسان فكان يقول في كل حديث: " حدثنا " لا يبين الحاء إلا " دثنا ".
قال أبو بكر الأثرم: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يسأل كان وكيع إذا أدغم يخاف عليه التدليس؟ فقال: لا، وكان ربما يدغم كان يستعجل، وكان يقول " ثنا " سفيان في الحديث أسمعه يقول فبينه بعد " حدثنا " قال أبو عبد الله: وكان إذا التقى العينان أو الحاءان أدغم أحدهما، ووصف أبو عبد الله من ذلك غير شيء.
قال أبو عبد الله: قالوا له ههنا بالأنبار يعني لوكيع: إن الناس يكتبون " حدثنا سفيان " فقال كلا ما أظنه دفع التدليس.
__________
(1) العلل لأحمد (1 \ 127) .
(2) الكفاية (69) .(12/334)
مذهبه في السماع عن الضعفاء:
قال الخطيب: إذا كان الراوي صحيح السماع، غير أنه متساهل في الرواية ومعروف بالغفلة، فالسماع منه جائز، غير أنه مكروه، ويضعف حاله بما ذكرنا، ثم أخرج عدة نصوص منها:
عن نوح بن حبيب القرسي قال: سمعت وكيعا يقول: ويل للمحدث إذا استضعفه صاحب حديث.(12/334)
وعن أحمد بن أبي الحواري قال: قال وكيع: ويل للمحدث إذا استضعفه أصحاب الحديث (1) .
__________
(1) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1 \ 75) .(12/335)
مذهبه في إجازة الرواية من الكتاب الصحيح وإن لم يحفظ الراوي ما فيه:
قال محمود بن غيلان عن عبد الرزاق قال: قال لي وكيع: أنت رجل عندك حديث، وحفظك ليس بذاك، فإذا سئلت عن حديث فلا تقل: ليس هو عندي، ولكن قل: لا أحفظه.
أخرجه الخطيب في الكفاية في باب ذكر من روي عنه من السلف إجازة الرواية من الكتاب الصحيح، وإن لم يحفظ الراوي ما فيه (1) .
__________
(1) الكفاية (232) .(12/335)
مذهبه في إلحاق الاسم المتيقن سقوطه في الإسناد:
ذكر الخطيب في الكفاية في باب إلحاق الاسم المتيقن سقوطه في الإسناد قال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: سمعت وكيعا يقول: أنا أستعين على الحديث بيعني (1) .
ما روى منه من إدغامه بعض الحرف:
قال محمد بن عبد الله بن عمار: كان وكيع سريع اللسان، وكان يقول في كل حديث: حدثنا لا يبين الحاء إلا " دثنا " (2) .
وقال أبو بكر الأثرم: سمعت أحمد يسأل كان وكيع إذا أدغم يخاف عليه التدليس؟ فقال: لا وكان ربما يدغم؟ كان يستعجل، وكان يقول: " ثنا سفيان، في الحديث ثم أسمعه يقول فيه بعد " حدثنا " (3) .
__________
(1) الكفاية (235) .
(2) الكفاية (69) .
(3) الكفاية (69) .(12/335)
ما هو أصح الإسناد عنده:
قال ابن عمار: قال وكيع: لا أعلم في الحديث شيئا أحسن إسنادا من هذا: شعبة عن عمرو بن مرة عن مرة عن أبي موسى.
فقلنا: منصور عن إبراهيم؟
وأيوب عن ابن سيرين؟
ومالك عن نافع عن ابن عمر؟
فقال: لم تصنعوا شيئا.
فقال يعني وكيع: منصور كان يأخذ العطاء.
قال: وشعبة لم يكن يرى السيف وعمرو بن مرة كذلك ومرة كذلك.
قال: وعلقمة خرج مع علي، والإسناد هو شعبة عن عمرو بن مرة عن مرة عن أبي موسى الأشعري (1) .
2 - وذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في نكته على ابن الصلاح: أن سبب اختلاف أهل العلم في مسألة أصح الإسناد إنما هو من جهة أن كل من رجح إسنادا كانت أوصاف رجال ذلك الإسناد عنده أقوى من غيره بحسب اطلاعه فاختلفت أقوالهم لاختلاف اجتهادهم، وتوضيح هذا أن كثيرا من نقل عنه الكلام في ذلك إنما يرجح إسناده أهل بلده؛ وذلك لشدة اعتنائه فروينا في الجامع للخطيب (10 \ 194 \ أوالمطبوع 2 \ 358) من طريق أحمد بن سعيد الدارمي قال: سمعت محمود بن غيلان يقول: قيل لوكيع بن الجراح: هشام بن عروة يحدث عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها. وأفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة رضي الله عنه.
وسفيان (الثوري) عن منصور عن إبراهيم (النخعي) عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها أيهم أحب إليك؟
__________
(1) الكفاية (399) .(12/336)
قال: لا نعدل بأهل بلدنا أحدا.
ثم ذكر عن الدارمي: وأما أنا فأقول: هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أحب إلي، وقال: هكذا رأيت أصحابنا يقدمون.
ثم قال الحافظ: ولكن يفيد مجموع ما نقل عنهم في ذلك ترجيح التراجم التي حكموا لها بالأصحية على ما لم يقع له حكم من أحد منهم (1) .
3 - قال وكيع لأصحابه: أيما أحب إليكم الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود؟ أو سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود؟ فقالوا: الأول. فقال: الأعمش عن أبي وائل شيخ عن شيخ.
وسفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود فقيه عن فقيه. وحديث يتداوله الفقهاء أحب إلينا مما يتداوله الشيوخ.
__________
(1) النكت على ابن الصلاح (1 \ 33 - 34) .(12/337)
مذهبه في الجمع بين الرواية والدراية: قال: حديث يتداوله الفقهاء أحب إلينا مما يتداوله الشيوخ، ورجح الإسناد النازل على الإسناد العالي كما تقدم قبله أنه قال: سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود فقيه عن فقيه.
وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري: سمعت وكيعا يقول: أيما أحب إليكم؟
ا- سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم عن ضمرة عن علي.
2 - أو سفيان عن منصور عن إبراهيم؟
قال: قيل له: أبو إسحاق عن عاصم عن علي. قال: كان حديث الفقهاء أحب إليهم من حديث المشيخة (1) .
__________
(1) الجرح والتعديل (1 \ 1 \ 25) .(12/337)
" ومراد وكيع في هذا الباب أن المحدث الذي يجمع إلى الحفظ والضبط والبصر بما في الحديث والتفقه به، والاستنباط منه، يكون حديثه أضبط وأصح من المحدث الذي يقتصر على الحفظ وسرد المرويات، وهذا بين لا خفاء فيه " (1) .
ويضاف هنا أن العمدة في باب التحديث هو الحفظ والضبط، فإذا فاق الراوي في حفظه وضبطه على راو آخر، جمع بين الحفظ والضبط وبين الفقه، وحفظه دون حفظ الأول يقدم أحفظهما وأضبطهما لأنه أن يروى ما معه الآخر.
__________
(1) سير أعلام النبلاء من الحاشية (9 \ 158) .(12/338)
معرفته بعلل الحديث ونقد الرجال
"
يعد الإمام وكيع من كبار النقاد الجهابذة من علماء الجرح والتعديل بل من مؤسسي هذا العلم؛ حيث اعتمد على آرائه وملاحظاته كل من ألف في المصطلح وأسماء الرجال، وبنوا على مآثره وعلى مآثر العلماء الآخرين قواعد أو دعموا قواعد الجرح والتعديل بسلوكهم وأفعالهم التدريب والتأليف والنقد.
فهذا أمير المؤمنين في الحديث الإمام البخاري، وابن أبي حاتم الرازي الناقد المشهور ينقلان عنه كثيرا من آرائه حول الرواة، والإمام أحمد راوية وكيع قد حفظ لنا كثير من إفادات وكيع في مؤلفاته، ويعتمد عليه اعتمادا كبيرا، وهكذا كل من ألف في المصطلح أو في علم الرجال أي اهتم بنقل آرائه.
وقد ذكره كل من الرازي في التقدمة (1) والترمذي في العلل وابن عدي في مقدمة الكامل (2) والذهبي في تذكرة الحفاظ (3) " وذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل " (4) أنه من أئمة النقد المعروفين.
والإمام الترمذي يبرر أعماله النقدية في علوم الحديث باقتدائه بالأئمة السابقين منهم
__________
(1) التقدمة (219) .
(2) مقدمة الكامل (171) .
(3) تذكرة الحفاظ (1 \ 306) .
(4) (164) .(12/338)
وكيع فيقول: وإنما حملنا على ما بينا في هذا الكتاب من قول الفقهاء وعلى الحديث؛ لأنا سئلنا من هذا فلم نفعله زمانا، ثم فعلنا لما رجونا فيه من منفعة الناس، لأنا قد وجدنا غير واحد من الأئمة تكلفوا من التصنيف ما لم يسبقوا إليه، منهم. . . . وكيع بن الجراح. . . . وغيرهم من أهل العلم والفضل صنفوا، فجعل الله في ذلك منفعة كثيرة. . . وقد عاب بعض من لا يفهم على أهل الحديث الكلام في الرجال. . . . وهكذا روي عن. . . ووكيع بن الجراح. . . . وغيرهم من أهل العلم أنهم تكلموا في الرجال وضعفوا، وإنما حملهم على ذلك عندنا - والله أعلم - النصيحة للمسلمين (1) .
وإن النقد أو الحكم على الراوي تعديلا وتجريحا أو على الحديث تصحيحا وتضعيفا ينبني على دراسة أحوال الراوي ودراسة المروي، وهو ما يسمى بالدراية عند المحدثين الذين كانوا يستخدمونها في الحكم على الراوي والمروى، ولم يكن هذا شيئا غريبا عندهم لأنه لا يمكن الحكم على الراوي إلا بعد دراسة مروياته، ومن هنا كثرت كلماتهم: " فلان عنده منكر " أو " عنده مناكير " أو " فلان إذا روى عن أهل بلده فحديثه صحيح، وإذا روى عن غير بلده ففيه ضعف أو " فلان أثبت الناس في فلان " أو " فلان سماعه قديم أو قبل الاختلاط " وهكذا دواليك، وهذه الدراية يسمونها اليوم بالنقد الداخلي، ويطول بنا الكلام إذا ضربنا لها أمثلة من صنيع المحدثين وأكتفي بذكر بعض النماذج من عمل الإمام وكيع ليتضح الأمر، ويراجع للتفصيل كلام ابن عدي والذهبي وابن حجر في مؤلفاتهم.
1 - قال وكيع: يزيد بن أبي صالح أبي حبيب: كان حسن الهيئة عنده أربعة أحاديث (2) .
2 - قال وكيع: لقيت يونس بن يزيد الأيلي، فذاكرته بأحاديث الزهري المعروفة، فجهدت أن يقيم لي حديثا فما أقامه، وكان يونس سيئ الحفظ.
__________
(1) العلل (738 - 739) .
(2) العلل لأحمد (1 \ 206) والجرح (4 \ 2 \ 248) .(12/339)
3 - وقال في يحيى بن الضريس: من حفاظ الناس، لولا أنه خلط في حديثين، فذكر حديثا لمنصور (1) .
4 - قال الفلاس: وسئل وكيع من أحاديث إلى بكر فجعل لا يصحح منها شيئا، فذكر له حديث يزيد ابن خمير، فقال: ذاك شامي (2) .
5 - وقال: يزيد بن أبي زياد عن إبراهيم بن علقمة عن عبد الله: حديث الرايات ليس بشيء (3) .
6 - (أ) وقال: هذه الأحاديث التي تحدث بها يحيى بن يمان ليست من أحاديث الثوري (4) .
(ب) وقال في أحاديثه عن سفيان: كأن هذا سفيان الذي سمعنا نحن منه (5) .
7 - وقال في علي بن عاصم بن صهيب: مازلنا نعرفه بالخير، فخذوا الصحاح من حديثه ودعوا الغلط (6) .
8 - وقال: ما كتبت عن شريك بعدما ولي القضاء، فهو عندي على حدة (7) .
__________
(1) تقدمة الجرح والتعديل (224) وتهذيب التهذيب (11 \ 233) .
(2) تهذيب التهذيب (11 \ 324) .
(3) تهذيب التهذيب (11 \ 230) .
(4) التهذيب (11 \ 306) .
(5) الجرح (4 \ 2 \ 180) .
(6) تذكرة الحفاظ (1 \ 317) .
(7) سير أعلام النبلاء (8 \ 182) .(12/340)
مذهبه فيمن يقع الوهم في حديثه كثيرا:
وكان مذهبه أنه لم يترك أحاديث أهل الصدق الذي يقع الوهم في حديثهم كثيرا، وهذا مذهب ابن مهدي، وابن المبارك، وسفيان، وأكثر أهل الحديث المصنفين في السنن والصحاح كمسلم، وعلى هدا المنوال نهج أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وآخرون (1) .
__________
(1) راجع العلل للترمذي (5 \ 738 - 739) وشرح العلل لابن رجب (1 \ 104 و 108 - 109) .(12/340)
مذهبه الرجوع إلى قول من خالفه آخر أحفظ منه:
أخرج الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع في مبحث من خالفه آخر أحفظ منه فرجع إلى قوله:
قال أخبرني الحسن بن أبي بكر قال: أخبرني أبي نا: محمد بن الحسين بن حميد بن الربيع قال: سمعت أبا أسامة - وهو عبد الله بن أسامة الكلبي - قال: وقال لي ابن نمير: كان وكيع إذا كان في كتابه حديث ينكره، أمسك عنه، لم يحدث به، فإذا جاء إليه بنو أبي شيبة والحفاظ، ذاكرهم بشيء منه، فإن ذكروه وقالوا: حدثنا فيه عن فلان ذكره، وإن شكوا فيه أمسك عنه (1) .
__________
(1) الجامع (2 \ 102) .(12/341)
مذهبه في رواية قبول المبتدعة:
كان في الحسن بن صالح - بن حي أحد الأعلام بدعة تشيع قليل، فكان يرى السيف على الأئمة أي الخروج على الولاة الظلمة، مع جلالة علمه وورعه وفضله، ولأجل هذا كان أهل العلم لا يكتبون رواية وكيع عن الحسن بن صالح، فقال وكيع مرة: ما لكم لا تكتبون حديث حسن؟ فقيل له: إنه كان يرى السيف، فسكت وكيع، ومع هذا، فقد ورد عنه أنه قال: هو عندي إمام، فقيل له: إنه لا يترحم على عثمان، فقال: أفتترحم أنت على الحجاج؟
قال الذهبي معلقا على كلامه: قلت: هذا التمثيل مردود غير مطابق (1) قلت: ويفهم من هذا النص أنه كان يقبل رواية من كان فيه بدعة، وأنه لا تأتي للبدعة في كون أهلها مجروحا.
وقال الحافظ ابن حجر في ترجمة الحسن بن صالح معلقا على قولهم: أنه كان يرى السيف: وقوله كان يرى السيف يعني كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور، وهذا مذهب للسلف قديم، لكن استقر الأمر على ترك ذلك لما رأوه قد أفضى إلى أشد منه، ففي وقعة الحرة ووقعة ابن الأشعث وغيرهما عظة لمن تدبر، وبمثل هذا الرأي لا يقدح في
__________
(1) ميزان الاعتدال (1 \ 499) .(12/341)
رجل قد ثبتت عدالته، واشتهر بالحفظ والإتقان والورع التام، والحسن مع ذلك لم يخرج على أحد، وأما ترك الجمعة، ففي جملة رأيه ذلك أن لا يصلي خلف فاسق، ولا يصح ولاية الإمام الفاسق، فهذا ما يعتذر به عن الحسن، وإن كان الصواب خلافه، فهو إمام مجتهد (1) .
هذا، وفيما يلي نسرد ما عثرت عليه من ألفاظه في الجرح والتعديل خلال مراجعتي العلل ومعرفة الرجال لأحمد، والجرح والتعديل للرازي، وتهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر العسقلاني، وغيرها من كتب الرجال، وقد قال الذهبي: مع إمامته كلامه نزر جدا في الرجال (2) .
__________
(1) تهذيب التهذيب (1 \ 289) .
(2) سير أعلام النبلاء (9 \ 158) .(12/342)
ألفاظ الجرح والتعديل عند وكيع بن الجراح
"
ألفاظ التعديل: -
1 - (أ) أثبت الناس.
(ب) ثقة ثقة
2 - (أ) ثقة.
(ب) ثقة صاحب سنة.
(ج) ثبت
(د) وكان يثبت.
(هـ) يوثق.(12/342)
3 - صحيح الحديث (1) .
4 - فلان أشرف من أن يكذب (2) .
5 - فلان لم يكذب في الإسلام كذبة.
6 - ليس عندكم أحد يشبهه (3) .
7 - فلان أصح حديثا من فلان وأوثق.
8 - ما زلنا نعرفه بالخير (4) .
9 - وكان مرضيا (5) .
10 - فلان يروي بالحفظ (6) .
11 - خذوا من صحاح حديثه ودعوا الغلط (7) .
__________
(1) ثور بن يزيد (التهذيب 3 \ 34) .
(2) زياد بن عبد الله بن الطفيل البكائي (سنن الترمذي 3 \ 395، التهذيب 3 \ 375، 377) .
(3) عباد بن العوام (الجرح 3 \ 1 \ 83، والتهذيب (5 \ 99) .
(4) عاصم بن عاصم بن صهيب (تذكرة الحفاظ 1 \ 317) ، التهذيب (7 \ 245) .
(5) داود بن عوف أبو الجحاف (تحفة الأشراف 10 \ 80) وابن ماجه: المقدمة باب فضل الحسن والحسين.
(6) عمر بن هارون بن يزيد (التهذيب 7 \ 503) .
(7) علي بن عاصم بن صهيب (العلل 1 \ 61، وتذكرة الحفاظ 1 \ 317) .(12/343)
12 - فلان من حفاظ الناس (1) .
13 - فلان قهر العلم (2) .
14 - فلان ذهبت كتبه، فحدث من حفظه فأتى بالمناكير (3) .
"
ألفاظ الجرح
"
1 - كذاب.
2 - فلان يضع الحديث.
3 - مطروح (أو طرحه وكيع) .
4 - متروك (أو تركه وكيع) (4) .
5 - الكذب مجانب للإيمان.
6 - فالله المستعان (5) .
7 - ما يصنع به (6) .
8 - منكر الحديث (7) .
__________
(1) يحيى بن الضريس (الجرح 4 \ 2 / 159، والتهذيب 11 \ 233) .
(2) عيسى بن يونس السبيعي (الجرح 3 \ 1 \ 292، التهذيب 8 \ 339) .
(3) محمد بن عبيد الله الغرزمي (شرح العلل لابن رجب 1 \ 336، التهذيب 9 \ 323) .
(4) قال في أحاديث سعيد بن أبي عروبة (التهذيب 4 \ 64) .
(5) قاله في أحاديث مقاتل بن سليمان (التهذيب 10 \ 283) .
(6) نوح بن أبي مريم (نوح الجامع) (التهذيب 10 \ 487) .
(7) أبان بن عياش (التهذيب 1 \ 98) .(12/344)
9 - على حديث فلان (1) .
10 - وكان يقول عن بعض الرواة " رجل " ولا يسميه استضعافا.
11 - ليس هو ذاك (2) .
12 - ليس حفظه بذاك (3) .
13 - سيئ الحفظ (4) .
14 - بعض من رماه بالبدع (5) .
15 - كان يخلط ويخطئ وكان فيه لجاج، ولم يكن متهما بالكذب (6) .
__________
(1) قال في حديث عبد الله بن جعفر والد ابن المديني (الجرح 2 \ 2 \ 23، والتهذيب 5 \ 174) .
(2) يحيى بن يمان (المعرفة والتاريخ 1 \ 722، وتاريخ بغداد 14 \ 122 - 123) .
(3) عبد الرزاق بن همام الصنعاني (الكفاية 232) .
(4) يونس بن يزيد الأيلي (التقدمة 244، الجرح 4 \ 2 \ 248، وشرح العلل 2 \ 598) .
(5) إبراهيم بن نافع المخزومي أبو إسحاق المكي، رماه بالقدر (التهذيب 1 \ 174) .
(6) علي بن عاصم بن صهيب (العلل 1 \ 16، وتذكرة الحفاظ 1 \ 317) .(12/345)
مؤلفاته
يعتبر الإمام وكيع من المصنفين الأوائل الذين لهم فضل الأولية وشرف الأسبقية في تدوين علوم الكتاب والسنة وتأليف الكتب المتنوعة فيها، قال الرامهرمزي في المحدث الفاصل في باب: المصنفون من رواة الفقه في الأمصار: أول من صنف وبوب فيما أعلم الزبير بن صبيح بالبصرة، ثم سعيد بن أبي عروبة بها، وخالد بن جميل الذي يقال له العبد، ومعمر بن راشد باليمن، وابن جريج بمكة، ثم سفيان الثوري بالكوفة، وحماد بن سلمة بالبصرة وصنف سفيان بن عيينة بمكة، والوليد بن مسلم بالشام وجرير بن عبد الحميد بالري، وعبد الله بن المبارك بمرو وخراسان وهشيم بن بشير بواسط، وصنف في هذا العصر بالكوفة ابن أبي زائدة وابن فنيل ووكيع، تم صنف عبد الرزاق باليمن وأبو قرة موسى بن طارق، وتفرد بالكوفة أبو بكر بن أبي شيبة بتكثير الأبواب وجودة الترتيب وحسن التأليف (1) .
__________
(1) المحدث الفاصل (614 - 615) .(12/345)
وقال ابن المديني: نظرت فإذا الإسناد يدور على ستة فذكر لأهل المدينة: الزهري ولأهل الكوفة: أبا إسحاق السبيعي والأعمش، ثم قال: ثم صار علم هؤلاء الستة إلى أصحاب الأصناف ممن صنف، فذكر لأهل المدينة مالكا، ومن أهل مكة ابن جريج وابن عيينة، ومن أهل البصرة سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة وأبو عوانة الوضاح وشعبة، ومن اليمن معمر بن راشد، والثوري من أهل الكوفة، والأوزاعي أهل الشام، وهشيم بن بشير من أهل واسط، ثم قال: وانتهى علم هؤلاء الثلاثة من أهل البصرة وعلم الاثني عشر إلى ستة: إلى يحيى بن سعيد القطان، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، ووكيع بن الجراح، وابن المبارك، وابن مهدي ويحيى بن آدم (1) .
__________
(1) ملخصا من العلل (36 - 47) .(12/346)
تأثره بمنهج ابن جريج ويحيى بن أبي زائدة في التأليف:
كان غير واحد من أهل العلم سلكوا طريق ابن جريج في التصنيف واقتفوا أثرهم في التأليف من أهل عصره والمدركين لوقته، ومنهم: وكيع ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، كما تأثر الإمام وكيع بمنهج يحيى، فصنف كتبه على كتبه (1) .
__________
(1) الجامع لأخلاق الراوي للخطيب (2 \ 328 - 339) . وتهذيب التهذيب (11 \ 209) .(12/346)
منهجه في التصنيف:
وهو من المؤلفين الذين اعتنوا بجمع الأحاديث في أبواب خاصة كما هو ظاهر من تسمية كتابه " المصنف "، وكان قد جمع حديثا على طريقة مؤلفي المسانيد، كما صنف أجزاء في الحديث كالزهد، والأشربة والهبة.
وقال ابن رجب: ومنهم من صنف كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو كلامه وكلام أصحابه على الأبواب كما فعل مالك، وابن المبارك، وحماد بن سلمة، وابن أبي ليلى، ووكيع، وعبد الرازق، ومن سلك سبيلهم في ذلك (1) .
وكان يستحسن التبويب ويستدل عليه بقول سلفه، قال الحسين بن حميد بن الربيع: قيل لوكيع: أنت تطلب الآخرة تصنف الأبواب تقول: باب كذا وكذا، فقال: حدثني إسماعيل ابن أبي خالد عن الشعبي قال: باب من الطلاق جسيم إذا اعتدت المرأة ورثت (2) .
__________
(1) شرح العلل لابن رجب (1 \ 37) .
(2) المحدث الفاصل (609) والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (ق 189 \ أ) و (2 \ 322 \ مطبوع) .(12/346)
وكان يستخدم كتب الأطراف للاطلاع على أحاديث شخص خاص أو كتاب خاص، وهذا ليس بغريب لدى أوائل مصنفي أوائل الإسلام وخاصة المحدثين منهم، وقد ذكر الدكتور \ محمد مصطفى الأعظمي نماذج من السلف الذين كانوا يستخدمون الأطراف في دراسة الأحاديث وكتابتها، ومن هؤلاء العلماء الإمام وكيع الذي حكى عن إسماعيل بن عياش: أخذ مني أطرافا لإسماعيل بن أبي خالد، فرأيته يخلط في أخذه (1) .
وهكذا كثرت مؤلفاته وتنوعت، وكانت موضع اهتمام لدى أهل العلم حيث كانوا ينقلون منها ويروونها كما يظهر من النصوص المقتبسة من تلك الكتب، وكان الإمام أحمد يعتني بمؤلفاته ويوصي أصحابه بمؤلفات وكيع، فقال: عليكم بمصنفات وكيع (2) ، وقال عبد الله بن أحمد: قال لي أبي: خذ أي كتاب شئت من كتب وكيع من المصنف إن شئت أن تسألني عن الكلام حتى أخبرك بالإسناد، وإن شئت بالإسناد حتى أخبرك بالكلام (3) .
ومؤلفات الإمام أحمد وابن أبي شيبة مليئة بمرويات وكيع الكثيرة، ولعل معظم مادة مؤلفاته المفقودة محفوظة في مؤلفات أحمد وابن أبي شيبة خاصة ومؤلفات تلاميذه الآخرين ومن جاءوا بعدهم.
__________
(1) تهذيب التهذيب (1 \ 324) ودراسات في الحديث النبوي (334 - 355) .
(2) تهذيب الكمال (8 \ 732 \ أ) وسير أعلام النبلاء (7 \ 43 \ أ) والمنهج لأحمد (60) .
(3) شرح العلل لابن رجب (1 \ 210) .(12/347)
وفيما يلي نسرد أسماء مؤلفاته:
1 - المصنف: اقتبس منه الإمام أحمد في مسنده، كما استفاد منه ابن عبد البر في التمهيد (1) وقد ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني في المعجم المفهرس (2) وابن خير
__________
(1) راجع مثلا (1 \ 175، 191، 247، 279، 292) .
(2) المعجم المفهرس (1 \ 99) .(12/347)
في فهرسته وابن عطية في فهرسته (1) رووه جميعا عن محمد بن وضاح عن موسى بن معاوية عن وكيع، وفي فهرسة ابن خير: يروي بعضه ابن وضاح عن محمد بن سليمان الأنباري عن وكيع وعن أبي موسى هارون بن عباد عن وكيع، وهكذا في فهرسة ابن عطية أن ابن وضاح يروي بعضه أيضا عن محمد بن سليمان الأنباري.
وذكره الكتاني في الرسالة المستطرفة.
2 - السنن: ذكره ابن نديم في فهرسته (2) ، وإسماعيل باشا في هدية العارفين (3) .
3 - المسند: جاء في التحبير في المعجم الكبير للسمعاني في ترجمة أبي الفضل محمد بن علي المطهري البخاري (455 - 538 هـ) : من سماعاته: قال: " كتاب المسند لوكيع بن الجراح " قال: أنبأنا أبو حفص بن خنب، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن عبد الله الرازي، أنبأنا عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، أنبأنا أبو سعيد عبد الله بن سعيد الأشج، أنبأنا وكيع بن الجراح (4) .
4 - التفسير: يعد الإمام وكيع من كبار المفسرين ممن له تفسير جليل، قال إبراهيم الحربي لما قرأ وكيع التفسير، قال للناس خذوه، فليس فيه عن الكلبي ولا ورقاء شيء (5) .
ومنه نقول في تفسير ابن كثير، وذكره الحافظ ابن حجر في المعجم المفهرس (6) .
__________
(1) فهرسة ابن عطية (64) .
(2) الفهرست لابن نديم (317) .
(3) هدية العارفين (2 \ 500) وراجع أيضا الأعلام للزركلي (8 \ 117) .
(4) التحبير في المعجم الكبير (1 \ 181، 177، 178) .
(5) تهذيب التهذيب (11 \ 124) .
(6) المعجم المفهرس (1 \ 223) .(12/348)
والداودي في طبقات المفسرين (1) ، كما ذكره إسماعيل باشا في هدية العارفين، وطاش كبرى زاده في مفتاح السعادة (2) .
وقد وصل الكتاب إلى الحافظ ابن حجر برواية محمد بن إسماعيل النسائي عن وكيع، وهكذا ذكره الداودي.
وجاء في ترجمة أبي عبد الله القصري في التحبير في المعجم الكبير للسمعاني سمعت منه قدر ورقتين من تفسير وكيع (3) .
ثم قال في ترجمة أبي بكر الجوزداني: سمعت منه قدر ورقة من تفسير وكيع بن الجراح بروايته عن الطيان عن ابن خورشيد قوله (4) ، وقال أبو نعيم: عبد الله بن عمران بن أبي علي الأسدي أبو محمد مولى سراقة بن وهب الأسدي روى عن وكيع بالتفسير (5) .
5 - المعرفة والتاريخ: ذكره إسماعيل باشا في هدية العارفين (6) .
6 - كتاب فضائل الصحابة: قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: قد صنف كتاب فضائل الصحابة، سمعناه، قدم فيه باب مناقب علي على مناقب عثمان رضي الله عنهما (7) .
7 - كتاب الهبة: قال محمد بن أبي حاتم وراق البخاري: عمل (أي البخاري) كتابا في الهبة فيه نحو خمسمائة حديث، وقال: وليس في كتاب وكيع في الهبة إلا حديثان مسندان أو ثلاثة، وفي كتاب ابن المبارك خمسة أو نحوها (8) .
8 - كتاب الأشربة: ذكره ابن معين في تاريخه (9) .
__________
(1) طبقات المفسرين (2 \ 360) .
(2) مفتاح السعادة (2 \ 592) .
(3) التحبير في المعجم الكبير (2 \ 124) .
(4) التحبير في المعجم الكبير (2 \ 350) .
(5) أخبار أصبهان (2 \ 46) .
(6) هدية العارفين (2 \ 500) وانظر أيضا الأعلام 8 \ 117) .
(7) سير أعلام النبلاء (7 \ 43 \ أ)
(8) هدي الساري (488) .
(9) ترتيب تاريخ ابن معين (2 \ 631) .(12/349)
9 - نسخة وكيع عن الأعمش: ذكره ابن عبد الهادي في فهرسته (1) والحافظ بن حجر في المعجم المفهرس (2) .
10 - كتاب الزهد: توجد منه نسخة فريدة خطية بمكتبة الظاهرية بدمشق، تحت رقم عام (033 1) حديث 242 من ق (41 - 85) ، وعنه نسخة مصورة في مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تحت رقم مجموع (40 عام 548) ، وقد حققته لنيل شهادة الماجستير من شعبة السنة بالدراسات العليا بالجامعة الإسلامية، ونوقشت الرسالة في شهر شعبان سنة 1402 هـ، والكتاب يشمل على (539) نصا من إسرائيليات ومرفوعات وموقوفات ومقاطيع.
والكتاب سيصدر قريبا من مكتبة الدار بالمدينة المنورة إن شاء الله.
__________
(1) فهرسة ابن عبد الهادي (ق \ 46 \ ب) في الظاهرية برقم (1562) .
(2) المعجم المفهرس (1 \ 598) .(12/350)
"فقهه وإفتاؤه "
امتاز الإمام وكيع من بين أقرانه - وهو في الكوفة مركز أهل الرأي - بكثرة الرواية وإعمال الفكر والدراية، وكان في تفقهه مثالا رائعا للمحدث الفقيه الذي يحرص شديد الحرص على اتباع السنة وفهمها والالتزام بها على منهج الصحابة والتابعين، وكان عداده من كبار المحدثين الفقهاء ممن يعتد قوله في الإجماع في عصر أتباع التابعين (1) ، وقد وصف بأفقه أهل عصره وكان من أصحاب الفتيا المشهورين (2) ، فقد ذكره النسائي في تسمية فقهاء الأمصار، كما أورده ابن حزم في أصحاب الفتيا من الصحابة ومن بعدهم على مراتبهم في كثرة الفتيا، فذكر الثوري والأعمش وابن أبي ليلى وأبا حنيفة ثم قال: وبعدهم حفص بن غياث النخعي ووكيع بن الجراح (3) ثم وصفه في جمهرة أنساب
__________
(1) الفقيه والمتفقه، باب القول فيما يعرف به الإجماع ومن يعتبر قوله ومن لا يعتبر (1 \ 172) .
(2) نقل الخطيب عن العجلي: أنه كان يفتي (13 \ 480) ولم أجده في ترتيب ثقاته للهيثمي، والله أعلم.
(3) جوامع السيرة: ذكر أصحاب الفتيا من الصحابة ومن بعدهم (331) .(12/350)
العرب بالفقيه (1) .
وقال ابن عمار: ما كان بالكوفة في زمان وكيع الجراح أفقه ولا أعلم بالحديث من وكيع كان وكيع جهبذا (2) .
وقال حنبل بن إسحاق: قال أبو عبد الله (أحمد) : ما رأيت بالبصرة مثل يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الرحمن أفقه الرجلين، قيل له: فوكيع وأبو نعيم قال: أبو نعيم أعلم بالشيوخ وأساميهم وبالرجال، ووكيع أفقه (3) .
وقال آدم بن سعيد المديني: دخلت على وكيع بن الجراح في الطواف، فسألته عن أربعمائة مسألة، وحفظت عنه أجوبتها (4) .
وكان لا يفتي في موسم الحج في أيام منى حتى يرجع إلى مكة (5) ، ومع كونه موصوفا بأفقه أهل عصره، وأنه كان يفتي لم نجد من أقواله وآرائه إلا قليلا في بطون الكتب.
ونظرة عابرة على ما وصل إلينا من آرائه في الفقه، تعطينا فكرة عن منهجه في الإفتاء والفقه وهو في الكوفة، وكان يمشي مع ظاهر أدلة الكتاب والسنة، وكان شديد الرد على أهل الرأي الذين اتخذوا منهجا مستقلا في باب الفقه والإفتاء من اعتماد على قواعد وضوابط مستنبطة تبلورت من خلال ممارسة الاستنباط والاستدلال عند علماء الكوفة والبصرة.
وفاته: اختلف في تاريخ وفاته على أقوال، فقيل: إنه توفي سنة 196 هـ، وقيل: سنة 197 هـ وقيل: سنة 198 هـ وقيل سنة 199 هـ، والقولان الأخيران شاذان، والقول بأنه توفي في سنة 197 هـ هو أقرب إلى الصواب على أنه ليس هناك فرق بين القولين كبير لأن
__________
(1) جمهرة أنساب العرب (287) .
(2) تاريخ بغداد (13 \ 475) وتاريخ دمشق (17 \ 395 \ ب) .
(3) تهذيب الكمال (8 \ 732 \ ب) .
(4) أخبار أصفهان (1 \ 169) .
(5) تاريخ بغداد (13 \ 480) .(12/351)
الذين قالوا: إنه توفي في سنة 196 هـ قالوا في آخر ذي القعدة، وأما الذين قالوا: إنه توفي في سنة 197 هـ قالوا: إنه توفي في أول المحرم كما جاء عن الإمام أحمد، ولأجل هذا قال الحافظ ابن حجر: مات في آخر سنة ست أو أول سنة سبع وتسعين أي بعد المائة، علما بأنه توفي في منصرفه من الحج بفيد، بلدة في نصف طريق مكة من الكوفة في زمن محمد بن هارون، وكان عمره حينئذ ثمان وستين سنة.
رحمة الله عليه رحمة واسعة. والصلاة والسلام على نبينا ورسولنا محمد وعلى آل وصحبه أجمعين.(12/352)
الإسلام ومواجهته لحركات التبشير الأوروبي
في غرب أفريقيا إبان الاستعمار الإنجلو - فرنسي
بقلم: أ. د. سيد أحمد علي الناصري
من الأقوال المأثورة من الزعيم الأمريكي الأسود " مالكوم إكس " أنه خاطب مجموعة من مستمعيه البيض قائلا: (عندما جاء أجدادكم إلى أفريقيا كنا نملك الأرض، وكانوا يحملون الصلبان، أما الآن فنحن نحمل الصلبان، وهم يملكون الأرض) ، والعبارة رغم ما فيها من سخرية تهكمية، إلا أنها تحمل في طياتها بعض الجوانب الصحيحة، لكنها غير واضحة وسوف نحاول في هذا البحث الموجز، أن نبين إلى أي حد حاولت المسيحية الوافدة مع المستوطنين الأوربيين البيض، مهاجمة الإسلام في غرب أفريقيا، والذي كان قد استقر على الأرض الأفريقية منذ أكثر من سبعة قرون من الزمان قبل وصول المستعمرين الأوروبيين إلى أفريقيا، وأصبحت طريقة الحياة الإسلامية تراثا أفريقيا قوميا ضارب القدم، وجدير بالدفاع عنه ضد دين وفد مع غرباء، بيض اللون، يحملون البنادق، ويجرون المدافع، وهم يلبسون " الكاكي "، وفي عيونهم جشع لخيرات أفريقيا، مدعين أنهم جاءوا باسم حضارة العالم المسكون.
يقول المؤرخ فريلش، froelich (1) . إن المستوطنين الأوربيين دهشوا، عندما وجدوا أن الإسلام قد سبقهم في تهذيب القبائل الوثنية الأفريقية، كما راعهم درجة التعليم والمهارة، التي كان يتمتع بها المسلمون الأفريقيون، سواء في نيجيريا، أو تشاد، أو السنغال، أو النيجر، حتى اضطر المستعمرون الأوروبيون إلى مهادنة الإسلام، والتوقف عن محاربته وعن مناصرة المسيحية عليه، ومن ثم أحرز الإسلام تقدما عميقا خلال الخمسين سنة التي تلت بداية الاستيطان الأوروبي لأفريقيا، يكاد يفوق تقدم القرون التي
__________
(1) 1 - Froelich، 1oc. cit.، p. 170؛ Crowder op. cit.، p. 357(12/353)
سبقت ففي خلال الخمسين عاما الأولى للاستيطان الأوروبي لأفريقيا تضاعف عدد المسلمين في غرب أفريقيا.
فبعد هزيمة المقاومة الإسلامية الأفريقية المسلحة على يد الاستعمار الإنجلو - فرنسي، ومقتل آخر المجاهدين الأفارقة، وهو الحاج عمر بن سعيد طال لم يجد الأفارقة غير الإسلام حصنا، يقاومون به حضارة الغزاة ودياناتهم القادمة معهما، إذا ارتبطت الكنيسة بالاستعمار الجشع، وبتجارة العبيد وذلك بالرغم من أن سلطات الاحتلال الأوروبي احتكرت التعليم والمدارس وربطتها بالكنيسة، وجعلت اعتناق المسيحية شرطا أساسيا لمن يريد الحصول على قدر معين من التعليم، كما استخدمت الطب، فجعلت المستشفى كنيسة ومدرسة، أو جعلت الكنيسة مستشفى ومدرسة، ومن سخرية التاريخ أن نظام جعل دور العبادة دارا للتعليم، ومورستانا للعلاج، نظام أخذه الأوربيون من الشرق الإسلامي، إبان الحروب الصليبية، وطبقوه في حركة التبشير المسيحي. وبالرغم من كل هذه المغريات، لم يتزحزح سكان غرب أفريقيا قيد أنملة من إسلامهم، بل على العكس ازدادوا إيمانا على إيمانهم وتمسكوا به دفاعا عن وجودهم وهويتهم الحضارية في مواجهة غاز مستعمر يريد أن يصبغهم بلون فكره وحضارته.
ويقول المؤرخ كرودر crowder، إنه في خلال الخمسين سنة الأولى لبداية الاستعمار كان حوالي 34% من سكان غرب أفريقيا مسلمين، وهو مما يقرب من 20067000 نسمة، بينما لم يزد عدد من اعتنقوا المسيحية على 4. 5% رغم كل الدعم والتأييد للمسيحية (1) .
ولقد حار المؤرخون الأوروبيون في أسباب هذه الظاهرة، التي خيبت آمالهم، فتساءل كرودر عن أسباب الانتشار التلقائي السريع للإسلام في أفريقيا، بينما يتعثر انتشار المسيحية؟ فيقول: " لقد كان للإسلام ميزة كبرى، وهي أنه كان قد استوطن أفريقيا منذ وقت أسبق بكثير من وصول المسيحية إلى غرب أفريقيا، كما أن نشاط التبشير المسيحي (كما يدعي) لم يصبح ملحوظا بالمقارنة، إلا منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ويدعي كرودر أيضا أن الاحتلال الأوروبي لغرب أفريقيا فتح أمام المسلمين الحواجز، التي كان الوثنيون الأفريقيون قد وضعوها في وجه الزحف الإسلامي (2) . ففي أرجونجو - وهي إحدى المقاطعات التي تسكنها قبائل الهوسا النيجيرية - دخل السكان بالكامل في
__________
(1) 2 - M. Crowder، West Africa Under Colonial Rule، Hutchinson of ondon، 1968، p. 356
(2) 3 - Trimingham، Islam in West Africa: The Report، p. 19.(12/354)
الدين الإسلامي عام 1922، وكانوا قد ظلوا لمائة عام يرفضون اعتناقه على يد أشقائهم من قبائل الفولاني المسلمة. ويستطرد كرودر فيقول: " كذلك فإن المقاومة المسلحة لانتشار الإسلام من جانب الوثنيين قد وضع لها نهاية (يقصد على أيدي الاستعمار الأوروبي) ، وفضلا عن ذلك فإن الزحف الإسلامي بين القبائل الأفريقية لم يلتزم بحدود سياسية معينة كما هو الحال بالنسبة للمسيحية في مناطق النفوذ الأوروبي المختلفة. إلى جانب أن الإسلام لم يرتبط بالاستعمار أو الاستغلال كما هو الحال بالنسبة للمسيحية، التي اتخذت ستارا لسلب الشعوب حريتها وخيراتها (1) ، بل على العكس كان الإسلام دين المظلومين المقهورين، الباحثين عن العدل والحرية، وهناك لشيء آخر ذكره المؤرخون الأوروبيون في دراستهم لظاهرة الانتشار التلقائي للإسلام في أفريقية، وهو أنه دين تعمقت جذوره في الأرض الأفريقية من مئات السنين قبل مجيء الأوروبيين، بينما بقيت المسيحية هي دين الرجل الأوروبي المستوطن (2) .
ويعترف كرودر في مرارة، أن الإسلام يناسب المجتمع الأفريقي أكثر من المسيحية (3) ، فأركان الإسلام واضحة سهلة، وهو دين يسر لا عسر، فهو لا يطلب من الوثني سوى أن ينطق بالشهادتين: " أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله "، بعدها يصبح عضوا له كامل الحقوق والواجبات في المجتمع الإسلامي. بينما نجد المسيحية تشترط عملية طويلة تبدأ بالتعميد، والتكفير المطلق لسابق حياته ومعتقداته، ثم تبدأ في تشكيله من جديد، وتفرض عليه قراءة التوراة والأناجيل، وفهم الفلسفات الكنسية المعقدة للمذاهب والمجامع الكهنوتية المتصارعة، وهو أمر مرهق للعقلية الأفريقية التي لا تعرف التعقيد. وقد تساءل أحد القساوسة الأفريقيين محتجا: " لماذا تحمل الكنيسة المتحولين إلى المسيحية ما هو فوق طاقتهم؟ " (4) ، ويضيف كرودر سببا آخر وهو أن الأفريقي لم يقتنع أبدا بفكرة الزواج المفرد، أي تحريم الجمع بين أكثر من زوجة، وتحريم الطلاق، وتحريم الزواج من المطلقات، فطبقا للشريعة المسيحية " من تزوج بمطلقة فإنما يزني بها "، بينما تسمح الشريعة الإسلامية بالزواج حتى أربع، بشرط أن يعدل الزوج بينهن، ويبيح الطلاق، فنجد البعثات التبشيرية المسيحية ترغم الأفريقيين على تسريح باقي الزوجات، فيما عدا أقدمهن عمرا، وهي الزوجة الأولى، وهو أمر صعب بالنسبة للرجل الأفريقي. كما يحلل المؤرخون الأوربيون تغلب انتشار الإسلام على المسيحية في أفريقيا بأن
__________
(1) 4 - M. Crowder، op.، p. 357.
(2) 5 - Thomas Hodgkin، Nationalism in Colonial Africa، ondon، 1926، p. 94.
(3) 6 - Crowder، ibidem.
(4) 7 - Crowder، ibidem.(12/355)
التبشير الإسلامي يسعى لإقناع جماعات وقبائل بأكملها للدخول فيه، وذلك عن طريق إقناع شيخ القبيلة أو زعيم القوم، وبالتالي يعتنق الإسلام أتباع هذا الزعيم، فيكون انتشاره انتشارا جماعيا، بينما تركز المسيحية على التنصر الفردي، مما يجعل انتشارها بطيئا للغاية بالنسبة للإسلام. ولقد لاحظ أحد القساوسة الأفريقيين هذه الظاهرة الإسلامية في التبشير، وكان اسمه الأب كروذر (crowth0er) ، فحاول تقليدها في طريقة التبشير بالمسيحية فكان محل نقد شديد من جانب القساوسة الأوربيين، فاتهموه بالتساهل في تطبيق شروط المسيحية، وتعاليم الكنيسة كما وضعتها المجمعات الكهنوتية والكنسية، كما اتهموه بالتقاعس في محو الأفكار الدينية الأفريقية قبل تطبيق الفكر الكنسي "، فبينما نجد المبشرين المسيحيين صارمين في " غسل دماغ " الأفريقي، من كل تراثه القومي، نجد الإسلام يتعايش مع هذا التراث، ولا يرجو من المسلم أن يكون قديسا في يوم وليلة إنما يحاول أن يكون مسلما كلما استطاع، فالناس سواسية كأسنان المشط لا فرق بين أبيض وأسود، ولا أصفر ولا أحمر إلا بالتقوى، إذ يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (1) بينما نجد المسيحية الأوربية تمارس التفرقة العنصرية، وتعتبر الرجل الأسود - حتى وإن كان مسيحيا - أدنى مرتبة من الرجل الأبيض. بل مورست التفرقة العنصرية داخل الكنائس فنجد في جنوب أفريقيا كنائس للبيض، وأخرى للسود. بينما نجد المسجد الإسلامي جامعا لكافة المصلين " فإذا ما مست الأرض الجباه فالرعية والولاة متساوون في خشوعهم أمام الله ".
لقد واجه الإسلام المسيحية على الأرض الأفريقية متحدا، لأن الاختلاف بين المذاهب الإسلامية ليس في جوهر الإسلام، إنما خلاف بسيط في أراء الأئمة، والمسلمون مهما اختلفت مذاهبهم ملتزمون بالقرآن الكريم والسنة النبوية. بعكس الحال في المسيحية التي انقسمت إلى ملل وكنائس، بعد اختلافها في جوهر العقيدة ذاتها، بل إن درجة العداء بين الكنيسة الكاثولوكية والبروستانتية وصل إلى حد تكفير كل فريق للآخر، ولعلنا نجد مثالا على ذلك في أيامنا هذه من درجة الصراع الدموي بين سكان البلد الواحد، مثلما هو الحال في إيرلندا التي يتقاتل شعبها المنقسم إلى طائفة كاثوليكية،
__________
(1) سورة الحجرات الآية 13(12/356)
وطائفة بروستانتية. بل وصل العداء إلى حد التفرقة بين الطائفتين في المدارس والجامعات والوظائف. ومن ثم فقد انتقل الصراع الديني بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة البروستانتية من أوروبا إلى بعثات التبشير في أفريقيا، كما دخل التنافس السياسي بين فرنسا وبلجيكا وأسبانيا والبرتغال وإيطاليا من ناحية (وهي الدول التي تدين بالكاثوليكية) ، وبين إنجلترا وألمانيا وهولندا من ناحية أخرى (وهي الدول التي يدين أغلب سكانها بالبروستانتية) ، حتى البروستانتية ذاتها انقسمت فيما بينها إلى عدة طوائف وشيع، لكل ممها كنيسة مستقلة وأتباع. وحتى عام 1951 كان يوجد في عبدان ثماني كنائس مختلفة المذاهب ممثلين لاثنتي عشرة طائفة منفصلة عنها (1) . ولعل هذا الانقسام في الكنائس والطوائف المسيحية - كما يقول باريندر barridner قد يبدو أمرا عاديا وطبيعيا للأوروبي، لكن بالنسبة للرجل الأفريقي قد يبدو غريبا وشاذا. وكثير من المسيحيين الأفريقيين لم يفهموا الفرق بين هذه المذاهب، وتنقل بعضهم من مذهب إلى مذهب، بل في جنوب السودان حتى أيامنا هذه نجد المسيحيين يذهبون إلى الكنيسة يوم الأحد، وفي يوم الجمعة يتوجهون تلقائيا إلى المسجد، رغم التعليمات الصارمة التي توجهها لهم البعثات التبشيرية. وكثير من أبناء جنوب السودان ممن التقيت بهم خلال رحلاتي لبلادهم أقرب إلى الإسلام منه للمسيحية، لكن لأسباب خاصة خارجة عن الإيمان يعلنون أنهم مسيحيون.
__________
(1) 10 - Geoffrey Parrinder، Religion in an African City، ondon، 1953.(12/357)
وضع المسلمين تحت الإدارة الأوربية للمستعمرات في غرب أفريقيا:
وبالرغم من الانتصار العسكري للاستعمار الأوروبي في غرب أفريقيا، إلا أن الإسلام حقق انتصارا شعبيا، دفع سلطات الاستعمار إلى الإذعان، وفرض عليهم احترامه كدين يعتنقه غالبية سكان مستعمراتهم في غرب أفريقيا، بل وجدت السلطات المستعمرة نفسها مرغمة على الانصياع لرغبات المسلمين في عدم تشجيع بعثات التبشير المسيحي، وتحريم دخولها المناطق الإسلامية، إلا إذا وافق أمراء هذه المناطق (1) . فمثلا عندما حاول " لوجارد " lugard إرسال بعثات تبشيرية إلى ولايات شمال نيجيريا، عاد وسحب هذه البعثات، عندما وجد أن مقاومة المسلمين لها شديدة، ومن هنا خشيت السلطات الاستعمارية من غضب جماهير الأفريقيين في شمال نيجيريا (2) . أما بالنسبة لعملية انتشار الإسلام بين القبائل الأفريقية الوثنية، فلم تر سلطات
__________
(1) 11 - Crowder، op. cit.، p. 358.
(2) 12 - Ayandele، The Missionary Impact on Modern Nigeria، pp. 128-150.(12/357)
الاستعمار مانعا من ذلك، لأنها أدركت أن الإسلام يسهل لها عملية نشر الحضارة الحديثة بين السكان، فلقد كتب السير هاري جونستون في مجلة " الانتداب الثنائي " dual mandatr (1) والتي كان يصدرها المبشر البريطاني لوجارد يقول: " وبالنسبة للمسئول الحكومي، أو للتاجر البريطاني في غرب أفريقيا، فإنه ما من شك في أن الزي المعتنق للإسلام، سواء أكان من عنصر زنجي، أو من قبائل الفولاني، أو الهوسا، أو العرب، أو البربر، أكثر جاذبية في شخصيته من الزنجي المسيحي من أهل سيراليون، أو ليبيريا أو ساحل الذهب أو جنوب نيجيريا (2) . ولنبدأ بالزي الذي يرتديه المسلمون إنه زي وطني ومناسب لظروف المناخ، أكثر مما يناسب الرداء الأوروبي لا بسيه من الزنوج المسيحيين، والذي يظهرون فيه بطريقة مضحكة. وإني لأتذكر كيف كنت أشعر خلال رحلاتي المبكرة في غرب أفريقيا بالاحترام لقبائل اليوريا (المسلمة) وهم في زيهم الوطني، وهو إحساس يفوق احترامي للزنوج المسيحيين أو الوثنيين في لاجوس وفي أجبالاند (3) . وفي المناطق الشمالية لساحل الذهب كتب المندوب السامي البريطاني السير واترستون watherston (1905- 1909) معترفا بأن الإسلام دين أكثر تقبلا عند السكان الوطنيين لأنه يناسبهم، وهو يساعد بريطانيا في نشر الرقي والتمدن، ويشجع السكان على ممارسة حياة أكثر تحضرا، كما أنه يشجع على السلام وتنشيط حركة التجارة. ولقد عرف عن السير وزرستون أنه كان متعاطفا مع المسلمين إذ اتهمته البعثات التبشيرية المسيحية بأنه يضيق عليها الخناق في بعض المناطق، بالرغم من أن أعداد الوثنيين تفوق أعداد المسلمين في هذه المناطق.
أما بالنسبة لسلطات الاستعمار الفرنسي في أفريقيا الوسطى، فقد نظرت في أول الأمر إلى الإسلام كعقبة كئود في طريق استقرارها، والتبشير بمذهبها الكاثوليكي، كما أنها كانت تخشى من تأثير مد الثورة المهدية من السودان إلى السنغال. وكانت فرنسا تحكم أمبراطورية واسعة في أفريقيا تمتد من جيبوتي إلى السنغال، مارة بأفريقيا الوسطى. ولقد نجحت سلطات الاستعمار الفرنسي المعادية للإسلام في منع انتشاره في ساحل الذهب، وفي سيراليون حتى عام 1900 وبالرغم من توسع الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية، إلا أن المجاهدين المسلمين في أفريقيا قد حدوا من توسعها، كما أن مواجهة فرنسا للمجاهدين المسلمين لم تخل من روح الصليبية والكراهية، فعمدوا على سحق أي ثورة
__________
(1) 13 - ugard، Dual Mandate، p. 593.
(2) 14 - the Times، 6th March، 1922.
(3) 15 - D. Kimble، A Political History of Ghana، 1850-1928، ondon، 1963، p. 79.(12/358)
أو حركة إسلامية، قام بها المجاهدون. كما دار في ساحة الفكر الفرنسي في مطلع الاحتلال الفرنسي لأفريقيا، جدل فكري حول " الخطر الإسلامي " كما عبر زعماء السلطات الاستعمارية من أمثال مانجان mangin وأرشينارد، ARCHINARD وماج MAGE عن وجوب وقف الزحف الإسلامي التلقائي في أفريقيا، بينما جادل مفكرون آخرون بأن الإسلام ليس خطرا، بل هو أهم الظواهر الفكرية والحضارية القائمة في غرب أفريقيا، وأن على فرنسا أن تتعامل معه على هذا الأساس، وتظهر هذه الآراء المعتدلة من خلال تنظيم إدارة الشئون الإسلامية والصحراوية MUSULMANES ET SAHARIENNE SERVICE DES ASFFAIRES التي أسست في باريس عام 1900، والمتمثل في إدارة الشئون الإسلامية التي أسست في داكار عام 1956. ولقد كانت فرنسا أسرع من بريطانيا في إنشاء هذه الإدارات كسبا لود المسلمين في المستوطنات، فلم تعرف بريطانيا تأسيس مثل هذه الإدارات، ولا خبرت ساحة الفكر البريطانية مناقشات عن الإسلام من أمثال مناقشات روبيرت أرنود ROBERT ARNOUDE "، ولوشاتيلييه E CHATELIER، وبول مارتي BAUl MARTY وغيرهم. وقد اقترح بونتي BONTY الذي كان حاكما عاما للممتلكات الفرنسية عام 1908 تطبيق سياسة الفصل بين الطوائف بحيث لا يجوز لحاكم أفريقي مسلم حتى ولو كان معينا من قبل السلطات الفرنسية أن يتحكم في أفريقي غير مسلم (1) ، كما طالب بعدم تشجيع استخدام اللغة العربية في المراسلات الرسمية، لأن استخدام اللغة العربية يعطي الفرصة للمسلمين وحدهم لتولي الوظائف. أما كلوزال CLOZEL حاكم السودان الغربي، وفيما بعد الحاكم العام لغرب أفريقيا الفرنسية، فقد طالب بتدعيم المذهب الفيتشي Fetichicme الوثني فكريا وسياسيا ليقف في وجه الإسلام الزاحف، وإلى تقنين الشعائر الوثنية الأفريقية التي تمارسها القبائل الوثنية، مثل قبائل بامبارا، ومالتكي، وبوبو، ورفعها إلى درجة الديانات القومية الأفريقية (2) . غير أن كل هذه المحاولات المعادية للإسلام على حد رأي جويللي Gouilly انتهت بتدعيم جبهة الإسلام فقد تبين للفرنسيين أن تصوير الإسلام على أنه خطر يهدد المصالح الفرنسية كان وهما مبالغا فيه من جانب المتطرفين، وبدأت الاتصالات مع المسلمين من أجل إقامة جسور الصداقة. فقد اكتشف الفرنسيون أن الزنوج المسلمين أكثر تهذيبا ورقة من الزنوج المسيحيين أو الوثنيين، ولا يعادون المسيحية. وكل ما يرجونه هو العيش في
__________
(1) 18 - J. Brevie، Islamisme Contre Naturalisme au Soudan Francaise، Paris، 1923، p. 257.
(2) 19 - Gouilly، 1'Islam، p. 254.(12/359)
سلام على قدر متساو مع الطوائف الأخرى (1) . وبقدر ما تعاملت فرنسا مع المسلمين، بقدر ما كانت توجس خيفة من أي حركة دينية إصلاحية يقوم بها المسلمون، قد تؤدي إلى إشعال الثورة الوطنية ضد الفرنسيين. ولقد كانت هناك عدة أسباب للكف عن محاربة الإسلام في المستوطنات الفرنسية، منها أن المذهب الفيتشي الوثني ليس ديانة سماوية واضحة المعالم مثل الإسلام، كما أن الإسلام بمبادئه السامية وشريعته العادلة، يدعو للاحترام والتبجيل كما ساد النفور بين السلطات السياسية، والجهاز الكنسي المسيحي، الذي راح يدس أنفه في كل صغيرة وكبيرة، بينما أعلنت السلطة السياسية تفضيلها لبقاء الإسلام من أجل التخلص من تدخل القسس في الحكم (2) Bour embeter les cures أو بمفهوم أوضح، رأى البعض أن الإسلام هو الجسر الذي يربط بين المجتمعات الأفريقية المنطوية على نفسها، وبين العالم الأكبر، ويساعد الأفريقيين على الخروج من القوقعة الضيقة، للمساهمة في الساحة العالمية، مما يساعد على إدخال الأفكار الحضارية الحديثة، ويوسع مفهوم تبادل المصالح الاقتصادية (3) .
وأوضح مثل على ذلك نجده في علاقة فرنسا بأبناء الطائفة المريدية، إحدى الطوائف المنبثقة من الطريقة القادرية في السنغال، وقد أسس هذه الطائفة أحمدو بامبا، على أساس فكري هو " بقدر ما يفعل الإنسان من خير على الأرض، بقدر ما ينال الجزاء في السماء " كما تقوم المريدية على أساس الولاء المطلق بين المريد وشيخ الطائفة. لقد كانت هذه الطائفة الإسلامية شديدة العداء للفرنسيين، وبادلتها فرنسا نفس الكراهية، فقامت بنفي أحمدو بامبا مرتين خارج البلاد، لكن أتباعه ازدادوا تمسكا بتعاليم شيخهم، ثم اكتشف الفرنسيون أن أبناء هذه الطائفة يملكون خبرات نادرة في زراعة الفول السوداني، وأنهم أحسن منتجيه في السنغال كله. فبدأ أصحاب المزارع الفرنسية يشجعونهم على هجر قراهم القديمة، وبناء قرى زراعية على طراز حديث في الأراضي حديثة الاستصلاح " وسرعان ما أصبح أبناء هذه الطائفة من أهم المظاهر الاقتصادية في اقتصاد السنغال الفرنسي. وتوطدت العلاقة بينهم وبين الفرنسيين، الذين كانوا لا يخفون انحيازهم لهم (4) ، حتى عندما توسع أبناء هذه الطائفة واستولوا على أراضي قبائل أخرى، كانت السلطات الفرنسية تغمض عيونها وكأن شيئا لم يكن (5) .
لقد تبين للدول الأروبية أن ميراث الحقد على الإسلام، والذي ورثته عن الحروب
__________
(1) 21 - Gouilly، op. cit.، p. 118-124.
(2) 22 - Suret - Canal، Afrique Noire، 11، p. 541.
(3) 23 - Gouilly، op. cit.، p. 257.
(4) 24 - Crowder، op. cit.، p. 361، Gouilly، pp. 134 ft.
(5) 25 - Michael Banton، West African City، ondon، 1957، p. 135.(12/360)
الصليبية التي قادتها الكنيسة، ميراث زائف، وأن الإسلام ليس كما صورته كتب تراثهم، بل إنه دين واضح المعالم، وله مزايا حضارية لا حصر لها. إذ وجدوا أن الطبقة المتعلمة الوحيدة في غرب أفريقيا هي المسلمة، لأن الإسلام حضها على قراءة القرآن الكريم، فتعلمت اللغة العربية، ومبادئ الفقه. وكان هناك فقهاء أفريقيون، تعلموا في الأزهر الشريف في مصر أو جامعة الزيتونة في تونس، يقومون بدورهم بتعليم أبناء المسلمين على نفس المنهج الذي كان يدرس في الجامعات الإسلامية. ولهذا فقد كان المسلمون في غرب أفريقيا هم المصدر الأول للسلطات الأوروبية، للحصول على موظفين يساعدونهم في إدارة المستوطنات، ويكونون حلقة اتصال بين السلطة الأوربية والشعب الأفريقي.
كذلك انبهر المستعمرون الأوروبيون بدقة الشريعة الإسلامية، وعدالتها وسهولة تطبيقها، ففضلوها على العرف القضائي الأفريقي المعقد، لتنوع أشكاله، وغموض تفسيراته. ووجدت السلطات أنه من الأيسر الأخذ بالنظام الإسلامي، وتعيين أعداد من القضاة في القرى والمدن، والأقاليم (1) .
وأخيرا وليس آخر رأى المستعمرون الفرنسيون أن غالبية سكان غرب أفريقيا مسلمون، وأن بقاءهم فيها يرتبط برضاء المسلمين عنهم، فحرصوا على احترام الإسلام والمسلمين، كسبا لرضاء الجماهير الأفريقية، فضربت السلطات السياسية الحاكمة بآراء الكنيسة والمبشرين عرض الحائط، وأدارت ظهرها لحقد العصور الوسطى، ومدت يديها لتستعين بالمسلمين. فتعاونت مع زعماء القادرية، والتيجانية، وعملت على كسب رضاهم، بل وساعدتهم إداريا وعسكريا ضد خصومهم حتى وإن كانوا من بين المنشقين عليهم، مثل الطريقة " الحمالية "، التي أسسها الشيخ " حما الله " بهدف العودة بالطريقة التيجانية إلى أصولها الأولى. وبالرغم من أن الشيخ حما الله لم يكن معاديا للفرنسيين، بقدر ما كان معاديا لزعماء الطائفة التيجانية المنشق عليها، إلا أن زعماء التيجانية أرغموا المسلطات الفرنسية على نفي الشيخ حما الله مرتين خارج البلاد، مرة في عام 1925، ومرة أخرى في عام 1942 إلى أن مات في سجنه بفرنسا.
ولقد حاول الفرنسيون كسب رضاء المسلمين في غرب أفريقيا، ببناء عدد من المساجد الجميلة، وبإرسال بعثات رسمية للحج، وافتتحوا المدارس الفرنسية لتعليم أبناء
__________
(1) 26 - Elliott P. Skinner، Islam in Mossi Society، in Islam in Tropical Africa، pp. 361-362.(12/361)
المسلمين، وزخرفوا الزوايا الدينية. كل هذا من أجل إرضاء المسلمين، وخوفا من ثوراتهم، التي قد تؤدي إلى إعلان الجهاد ضدها. وبذلك انتصر الإسلام على المنتصرين بالسلاح. ففي ظل الحكم الفرنسي لأفريقيا الغربية اعتنق شعب البامبارا الدين الإسلامي بعد مقاومته له لقرون عديدة قبل مجيء الفرنسيين.
كما ساعدت عملية هجرة الوثنيين إلى القرى الإسلامية النشطة على تقبلهم الإسلام في مجتمع المدينة الجديد، الذي يحتاج المرء فيه إلى ديانة قوية وعملية مثل الإسلام؛ لأن عقيدة الأفريقي الوثنية كانت ترتبط بموطنه وبالساحر الكاهن الذي يتحكم في قبيلته، أما في المدن الجديدة فقد أصبح الوثني متحررا من سلطة وهيمنة ساحر القبيلة. كما أن دخوله في المسيحية كان يتطلب طقوسا دينية، لم يستسغها، في حين أن الإسلام كان يفتح ذراعيه لكل من يريد الدخول فيه، وأيضا كان للتنقل الترحالي الموسمي بحثا عن العمل، أثر كبير في انتشار الإسلام في غرب أفريقيا، والمثل على ذلك نجده في قبائل الموسى Mussi، التي دخلت الإسلام من خلال هجرة أبنائها الموسمية للعمل، يسافرون وثنيين ويعودون مسلمين ليدعوا من يعولونهم إلى الدخول في الإسلام. فعندما يسافر الوثني مجموعة من العمال الموسميين، بهم مجموعة كبيرة من المسلمين، أو يقودهم رئيس مسلم، يبدأ في معرفة بعض مظاهر العقيدة، التي كانت تعطي لصاحبها قوة معنوية كبيرة، تساعده في الدفاع عن نفسه ورفع رأسه. كما أن التجمع الإسلامي والتعاون والتراحم بين المسلمين، وعدم اختلاطهم بالوثنيين في الطعام أو السكنى " حث المهاجر الوثني الغريب في المجموعة، أن يكسر عزلته الاجتماعية والنفسية، فيشهر في الطريق إسلامه، لينضم إلى الجماعة الإسلامية المتعاونة، وعندما يعود لقريته يشرع في دعوة الذين يعرفهم للدخول في دين الله.
ولما بدأت فرنسا في تجنيد أبناء غرب أفريقيا منذ الحرب العالمية الأولى، عينت أئمة لهم في الجيش يعظونهم ويؤمون بهم الصلوات الخمس كل يوم، مما ساعد الوثني المجند في الجيش على معرفة قدر عن الإسلام كاف للدخول فيه. كما أن أئمة الجيش كانوا نشطين في التبشير أين ما ذهبوا فني عام 1928 عندما عسكرت فرقة " الاستطلاع السنغالية "Senegalais Tirailleurs في فريجيس FreJus في فرنسا. قام الجنود السنغال بناء على أوامر قائدهم، ببناء مسجد لهم، صمم على نسق المسجد الكبير في(12/362)
جني DJenne في السنغال - والذي صممه المهندسون المسلمون، بل إن الزي العسكري الذي اختاره مصممو الأزياء الفرنسيون للقوات السنغالية كان مستوحى إلى حد كبير من الزي الإسلامي السنغالي.
وكما سبق أن ذكرنا؟ كان الإسلام يحقق لمعتنقيه الكبرياء والكرامة، كما شعر الوثني بالدفء الإنساني، بعد اعتناقه الإسلام، ولهذا أصبح مسلما مخلصا لا يزعزعه شيء عن إسلامه، فقد كان ضالا حتى وجد الهدى، وكان ضعيفا منكسرا، فوجد في الإسلام القوة، وكان هائما على وجهه في الغابات فأصبح عضوا عاملا في مجتمع إسلامي مسئول عنه، وكان عائلا فأغناه دين الله، وبخاصة بعد أن رأى فرنسا المتصلبة تحني رأسها للإسلام، وتتملق المسلمين. وكما يحدث في الهند اليوم حيث يتدفق أبناء طبقة المنبوذين للدخول في الإسلام، تحررا من الوضع المهين الذي صنفتهم فيه الديانة الهندوكية. تدفقت الطبقات الدنيا من الزنوج الأفارقة، والعبيد على الإسلام، طلبا للحرية وللعتق وللتحرر، ولاستعادة الكرامة المفقودة والدخول في دين يعامل الناس سواسية، كأسنان المشط. فيذكر لنا سكنر Skinner أن جميع العبيد والمستعبدين من أبناء قبيلة النوبير (أو الموسى) دخلوا الإسلام. وكان يكفي للمنبوذ أن يعتنق الإسلام، ويذهب إلى مكة لأداء فريضة الحج، ليعود وقد حمل لقب " حاج " وهذا كاف لأن يجعله ذا صوت قوي، يخيف السلطات الفرنسية ذاتها.
وإزاء ذلك خفت درجة الغليان الإسلامي في غرب أفريقيا، وهدأت الحركات الإسلامية الداعية إلى الجهاد ضد الإنجليز والفرنسيين. وبالرغم من ذلك فإننا نجد بعض حركات الإصلاح الديني الإسلامي تظهر مثل " الهمالية " Haimallism والسنوسية، وتثير قلق وخوف السلطات الأوروبية الحاكمة، وفيما عدا ذلك أصبحت القوات الإسلامية هي التي تحمل تيارات الحضارة الغربية الحديثة. أما بالنسبة للبعثات التبشيرية المسيحية، فقد ظلت قابضة على المدارس التي تخرج طبقة من الأفارقة " المتفرنجين " سلوكا، ولسانا ورداء، وبالرغم من ذلك فإن عدد الوثنيين الذين تحولوا إلى المسيحية لم يزد عن عشر عدد الذين تحولوا إلى الإسلام.
هذه نظرة سريعة عن سياسة السلطات الاستعمارية في غرب أفريقيا، إزاء الإسلام والمسلمين والله أعلم.(12/363)
مصادر البحث
1- Froelich، loc. cit.، p. 170 ; Crowder op. cit.، p. 357.
2- M. Crowder، West Africa Under Colonial Rule، Hutchinson of London، 1968، p. 356
3- Trimingham، Islam in West Africa: The Report، p. 19.
4- M. Crowder، op.، p. 357.
5- Thomas Hodgkin، Nationalism in Colonial Africa، London، 1926، p. 94.
6- Crowder، ibidem.
7- Crowder، ibidem.
8- J. erlin Webster، The African Churches among the Yoruba 1888 -1922، Oxford 1964k. Chapter 11، The Causes of the African Church Movement، pp. 42-91.
9- J. F. Ade Atayi، Christian Missions in Nigeria 1841 - 1891: The Making of an Educated Elite، London 1965، pp. 253-453.
10- Geoffrey Parrinder، Religion in an African City، London، 1953.
11- Crowder، op. cit.، p. 358.
12- Ayandele، The Missionary Impact on Modern Nigeria، pp. 128-150.
13- Lugard، Dual Mandate، p. 593.
14- the Times، 6th March، 1922.
15- D. Kimble، A Political History of Ghana، 1850-1928، London، 1963، p. 79.
16- Alphonse Gouillly، L'lslam dans 1'Afrique Occidentale Francaise، Paris، 1952، pp. 249 - 250.
17- Donald Cruise O'Brien ; Towards an Islamic Policy in French West Africa، 1854 - 1914، Journal of Arfican History، Viii، 2، (1967) ، p. 314.
كل الأوامر الصادرة إلى المسئولين في المستوطنات الفرنسية في غرب أفريقيا. أنظر:
18- J. Brevie، Islamisme Contre Naturalisme au Soudan Francaise، Paris، 1923، p. 257.
19- Gouilly، 1'Islam، p. 254.
20- L'lslam Est-il un Danger Pour Notre Colonisation en Afrique Occidentale Francaise. - A Travers Ie Monde، 1912، p. 221.
21- Gouilly، op. cit.، p. 118-124.
22- Suret - Canal، Afrique Noire، 11، p. 541.
23- Gouilly، op. cit.، p. 257.
24- Crowder، op. cit.، p. 361، Gouilly، pp. 134 ft.
25- Michael Banton، West African City، London، 1957، p. 135.
26- Elliott P. Skinner، Islam in Mossi Society، in Islam in Tropical Africa، pp. 361-362.
27- Paul Catrice، L'emploi des Troupes Indigenes et leur Sejour en France، Etudes. Revue Catholique d'lnteret General، No. November، 1931، p. 406.
28- Skinner، L'lslam in Mossi، p. 135.
قسمت العقيدة الهندوكية الشعب الهندي إلى أربع طبقات:
1- طبقة البراهمة أو الكهنة وهم السادة. 3- طبقة الويشية أو طبقة المزارعين والتجار.
2- طبقة الأكشترية أو طبقة المقاتلين. 4- طبقة الشودرا أو طبقة المنبوذين.
ويعتقد الهندوس أن ربهم براهما خلق الطبقة الأولى من فمه، والثانية من ذراعيه والثالثة من فخديه؛ أما الرابعة فمن أسفل قدميه، ومن ثم فهي منبوذة.
أما عن خبر انتشار الإسلام بن طبقة المنبوذين ي الهند وتخوف الحكومة الهندية من ذلك، فقد وردي مقال بجريدة الأهرام القاهرية العدد 34595 الصادر في أول سبتمبر 1981 بقلم محمد صالح.(12/364)
الإهابة بالمسلمين لمساعدة
إخوانهم في أفريقيا
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. . . وبعد:
ما أن علمت حكومة المملكة العربية السعودية بالمجاعة التي يتعرض لها إخواننا المسلمون وغيرهم في أفريقيا، حتى هبت لنجدتهم، وأمر خادم الحرمين الشريفين بتشكيل لجان في سائر البلاد لإغاثتم وبذل المساعدات لهم لاجتياز محنتهم، وقد وجه سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى إخوانه المسلمين كلمة بهذه المناسبة في نصها:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فيا معشر إخواني المسلمين هذه كلمة أوجهها إليكم للحث والترغيب في مساعدة إخوانكم المسلمين في أفريقيا المنكوبين بالجفاف والجدب والجوع. طاعة لله سبحانه وتعالى، وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم وتعاونا معكم على البر والتقوى عملا بقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) ، وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (2) {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (3) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة البقرة الآية 267
(3) سورة البقرة الآية 268(12/365)
وقوله جل وعلا: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} (1) .
وتعلمون بارك الله فيكم ما حل بالكثير من إخوانكم المسلمين في أفريقيا، وفي السودان بوجه خاص منذ سنوات من جفاف وقحط لاحتباس الأمطار عنهم.
وأنتم أيها المسلمون أولى الناس بمد العون إليهم لأنكم تسمعون وتقرءون كما أسمع وأقرأ عن أخبار جفاف المزارع وهلاك المحاصيل والحيوانات، ومن عدد الذين يموتون جوعا كل يوم من الرجال والأطفال والنساء وأغلبهم من المسلمين، وهؤلاء أخوة لنا في الدين وجيران لنا في الأوطان، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة (2) » متفق على صحته، ثم اعلموا - بارك الله فيكم - أن المال الذي في أيديكم إنما هو مال الله عز وجل وأنتم مستخلفون فيه، وقد أمركم الله بالإنفاق منه ووعدكم بالخلف فقال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (3) .
وقال سبحانه: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (4) ، وقال سبحانه: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (5) .
ومن بخل أيها الأخوة بماله، أو استغنى عن الأجر من ربه، فليس بمأمن من عقاب الله، وقد يحل به ما حل بإخوانه في أفريقيا والعياذ بالله من فجاءة نقمته، وما ذلك على الله بعزيز فهو القائل وقوله الحق: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (6) .
__________
(1) سورة المنافقون الآية 10
(2) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) ، مسند أحمد بن حنبل (2/68) .
(3) سورة الحديد الآية 7
(4) سورة النور الآية 33
(5) سورة سبأ الآية 39
(6) سورة محمد الآية 38(12/366)
فيا أيها المسلمون استجيبوا لنداء ربكم، وابذلوا من أموالكم في سبيله، واشكروا نعم الله عليكم بأداء حقها، ومن حقها إنقاذ الأنفس المؤمنة وهو حق لو تعلمون عظيم؛ فقد روى جرير بن عبد الله رضي الله عنه واقعة حدثت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تهيب بالمسلم إلى المبادرة لمواساة إخوانه الفقراء ورحمتهم حيث قال رضي الله عنه: «كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء قوم حفاة عراة مجتابي النهار أو العباء متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالا فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال: إلى آخر الآية، والآية التي في آخر الحشر: تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمرة، حتى قالت: ولو بشق تمرة، فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت تم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجرمن عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء (3) » رواه مسلم.
وأنتم أيها المسلمون قد رأيتم بأعينكم، وقرأتم بأنفسكم ما يقال عن هذه المحنة القاسية والمجاعة الأليمة التي تتعرض لها أنفس من إخوانكم المسلمين في أفريقيا، فتصدقوا عليهما مما أفاء الله عليكم أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم في حبه للخير، ودعوته للصدقة، وإنفاقه في سبيل الله، وأسوة بأصحابه رضي الله عنهما في مسارعتهم للإنفاق في وجوه الخير، ففي كل نفس رطبة صدقة ولا يحقرن أحدكم ما يبذل في نفع إخوانه من نقد أو متاع أو طعام، وذلك بما تبذلونه وتنفقونه في سبيل الله لمواساة إخوانكم والإحسان إليهم وإغنائهم عن عدوهم المتربص بهما الدوائر.
واعلموا أن الصدقة تدفع ميتة السوء وتذهب البلاء، وتطفئ الخطيئة، كما روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} (4) ،
__________
(1) رواه مسلم في باب الحث على الصدقة ج7 ص102.
(2) سورة النساء الآية 1 (1) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}
(3) سورة الحشر الآية 18 (2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}
(4) سورة النحل الآية 96(12/367)
{وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} (1) .
وإنها لمبادرة كريمة ومباركة إن شاء الله، تلك التي قام بها خادم الحرمين الشريفين جلالة الملك فهد بن عبد العزيز حفظه الله، إذ أهمه ما يلقاه أخوانه المسلمون وغيرهم في أفريقيا من جوع وعري وعطش وموت، فأمر جلالته حفظه الله بتشكيل لجان في سائر أنحاء المملكة لإغاثة الجياع، ومساعدة المحتاجين هناك فجزاه الله خيرا وضاعف مثوبته ونصر به الحق.
ولقد نشرت الصحف ووسائل الإعلام أخبار هذه اللجان التي نرجو لها التوفيق بإذن الله، وهي أهداف جليلة حيث تعمل على إنقاذ الأنفس من الهلاك، والمساعدة باجتياز المحنة، بما تجود به نفوس طالبي الأجر والمثوبة من الله.
فأهيب بكم أيها الأخوة في الله للمساعدة والتعاون مع هذه اللجان في جميع المساعدات والتشجيع عليها، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه (2) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (3) » . وقال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا النار ولو بشق تمرة (4) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار (5) » ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون أعظم من الجبل (6) » .
والآيات والأحاديث في فضل الصدقة ومساعدة فقراء المسلمين ومواساتهم كثيرة معلومة، وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم للمسابقة لما يرضيه وأن يتقبل منا ومنكم وأن يجزل مثوبتكم ويخلف عليكم ما تنفقون في سبيل الخير بأحسن الخلف، وأن يرحم إخواننا المسلمين في أفريقيا وغيرها، وأن يغيثهم من فضله ويرفع عنهم ما نزل بهم من بلاء ومصيبة إنه جواد كريم، وبالإجابة جدير، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة المزمل الآية 20
(2) صحيح البخاري الصلاة (481) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) .
(3) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .
(4) صحيح البخاري الزكاة (1417) ، صحيح مسلم الزكاة (1016) ، سنن النسائي الزكاة (2553) ، مسند أحمد بن حنبل (4/256) .
(5) سنن الترمذي الجمعة (614) .
(6) صحيح البخاري الزكاة (1410) ، صحيح مسلم الزكاة (1014) ، سنن الترمذي الزكاة (661) ، سنن النسائي الزكاة (2525) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1842) ، مسند أحمد بن حنبل (2/331) ، موطأ مالك الجامع (1874) ، سنن الدارمي الزكاة (1675) .(12/368)
ما هكذا الدعوة
إلى الله يا صالح
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد سمعت ما كتبه الشيخ صالح محمد جمال بجريدة الندوة في عدد الاثنين 2 \ 4 \ 1405هـ تحت عنوان خطب الجمعة وحوادث الساعة، وقد ساءني ما تضمنه من اعتراض الكاتب على خطيب المسجد الحرام.
وما قاله الكاتب عن المولد النبوي.
وما قال في المآدب التي يقيمها أهل الميت في اليوم الثالث من الوفاة.
فالكاتب هداه الله إلى الصواب خاض في هذه الأمور بغير علم واعترض على الخطيب واعتبر حديثه كلاما مملا، وهذا اعتراض بالباطل؛ لأن ما قاله الخطيب حق وفي محله، وليس كلاما مملا، بل هو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم وقد لعن بني إسرائيل لتخاذلهم في الأمر بالمعروف وتركهم المنكر يظهر بين قومهم فلا يغيرونه، فقال عز وجل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (1) {كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (2) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 78
(2) سورة المائدة الآية 79(12/369)
ولا يرضى مسلم صحيح العقيدة سليم الإيمان بربه أن يتصف بكفار بني إسرائيل في عدم إنكار المنكر والتساهل به وعدم التحذير منه، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه (1) » .
أما ما يتعلق بالاحتفال بالمولد النبوي فقد قامت الأدلة الشرعية على أنه لا يجوز الاحتفال بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا غيره؛ لأن ذاك من البدع المحدثة، لكون رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولا أحد من خلفائه الراشدين أو أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين. ولم يفعله أيضا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة، وهم أعلم الناس بالسنة وأكمل حبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأحرص على متابعة شرعه ممن بعدهم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » . أي مردود عليه. وقال في حديث آخر: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (3) » .
ففي هذين الحديثين تحذير شديد من إحداث البدع والعمل بها، وقد قال سبحانه في كتابه المبين: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (4) وقال عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (5) ، وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (6) . وذم سبحانه من شرع في دين الله ما لم يأذن به فقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (7) .
__________
(1) رواه ابن ماجه في الفتن بهذا المعنى.
(2) رواه البخاري في كتاب الصلح (5) ومسلم في كتاب الأقضية (17) .
(3) رواه الترمذي في العلم وابن ماجه في المقدمة وأبو داود في السنة.
(4) سورة الحشر الآية 7
(5) سورة النور الآية 63
(6) سورة التوبة الآية 100
(7) سورة الشورى الآية 21(12/370)
والآيات في هذا المعنى كثيرة. وإحداث مثل هذه الموالد يفهما منه أن الله سبحانه لم يكمل الدين لهذه الأمة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ الأمة ما ينبغي أن تعمل به، حتى جاء هؤلاء المتأخرون فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به زاعمين أن ذلك ما يقربهم إلى الله، وهذا بلا شك في خطر عظيم واعتراض على الله سبحانه، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله سبحانه قد أكمل لعباده الدين وأتم عليهم النعمة، ورسوله صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين.
فلو كان الاحتفال بالموالد من الدين الذي يرضاه الله سبحانه لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة أو فعله في حياته، أو فعله أصحابه رضي الله عنهم، فلما لم يقع شيء من ذلك علم أنه ليس من الإسلام في شيء. بل هو من المحدثات التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته كما تقدم ذلك في الحديثين السابقين، وقد جاء في معناهما أحاديث أخرى، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة: «أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (1) » رواه الإمام مسلم في صحيحه.
وقد صرح جماعة من العلماء بإنكار الموالد والتحذير منها، كشيخ الإسلام ابن تيمية والشاطبي وآخرين عملا بالأدلة المذكورة وغيرها، وخالف بعض المتأخرين فأجازها إذا لم تشتمل على شيء من المنكرات كالغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكاختلاط النساء بالرجال واستعمال آلات الملاهي وغير ذلك مما ينكره الشرع المطهر وظنوا أنها من البدع الحسنة، والقاعدة الشرعية رد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وقد رددنا هذه المسألة - وهي الاحتفال بالمولد - إلى كتاب الله سبحانه فوجدناه يأمرنا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به ويحذرنا أن نشرع في دينه ما لم يأذن به، ويخبرنا بأن الله سبحانه قد أكمل لهذه الأمة دينها وليس هذا الاحتفال مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون ليس من الدين الذي أكمله الله لنا وأمرنا باتباع الرسول فيه.
وقد رددنا ذلك أيضا إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم نجد فيها أنه فعله ولا أمر به، ولا فعله أصحابه رضي الله عنه، فعلمنا بذلك أنه ليس من الدين بل هو من البدع المحدثة، ومن التشبه باليهود والنصارى في أعيادهم، وبذلك يتضح لكل من له أدنى بصيرة ورغبة في الحق وإنصاف في طلبه أن الاحتفال بالموالد ليس من دين الإسلام بل هو من البدع المحدثات التي أمرنا الله ورسوله بتركها والحذر منها. ولا ينبغي لعاقل أن يغتر بكثرة من يفعله من الناس في سائر الأقطار؛ فإن الحق لا يعرف بكثرة الفاعلين، وإنما يعرف
__________
(1) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2954) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .(12/371)
بالأدلة الشرعية. قال الله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (1) ، والخطيب وفقه الله قد أحسن في إنكاره بدعة المولد، ونصح لله ولعباده بأسلوب حسن وأدلة واضحة على أعظم منبر إسلامي حتى تعم الفائدة وتقوم الحجة على من لم تبلغه، فالاعتراض عليه غلط محض واعتراض في غير محله وجرأة على الله وعلى دينه بغير علم ولا هدى، ومخالفة لما تقدم من الأدلة الشرعية، وليس في البدع شيء حسن بل كلها ضلالة كما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الولائم التي تقام للعزاء بعد الموت فلا شك أنها من الجاهلية، ومن الناحية التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن جهل الكاتب هداه الله ذلك، وإنما السنة عند الموت أن يصنع طعام لأهل الميت يبعث به إليهم إعانة لهم وجبرا لقلوبهم، فإنهم ربما اشتغلوا بمصيبتهم وبمن يأتي إليهم من إصلاح طعام لأنفسهم لما روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه بسند صحيح عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما قال: «لما جاء نعي جعفر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهله: اصنعوا لآل جعفر طعاما فإنه قد أتاهم ما يشغلهم (2) » فهذا هو السنة.
وأما صنع الطعام من أهل الميت للناس سواء كان ذلك من مال الورثة أو من ثلث الميت أو من شخص آخر فهذا لا يجوز؛ لأنه خلاف السنة ومن عمل الجاهلية كما تقدم؛ ولأن في ذلك زيادة تعب لهم على مصيبتهم وشغلا إلى شغلهم: وقد روى أحمد وابن ماجه بإسناد جيد من جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد الدفن من النياحة. ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه رضي الله عنهما ولا عن السلف الصالح إقامة حفل للميت مطلقا لا عند وفاته ولا بعد أسبوع ولا بعد أربعين يوما ولا بعد سنة من وفاته، بل ذلك بدعة يجب تركها وإنكارها والتوبة إلى الله منها لما فيها من الابتداع في الدين ومشابهة أهل الجاهلية.
وقد قال الإمام العلامة أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي رحمه الله في كتابه المغني ما نصه، مسألة: قال: ولا بأس أن يصلح لأهل الميت طعاما يبعث به إليهم
__________
(1) سورة الأنعام الآية 116
(2) سنن الترمذي الجنائز (998) ، سنن أبي داود الجنائز (3132) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1610) ، مسند أحمد (1/205) .(12/372)
ولا يصلحون هم طعاما يطعمون الناس، وجملة أنه يستحب إصلاح طعام لأنفسهم، وقد روى أبو داود في سننه بإسناده عن عبد الله بن جعفر قال: «لما جاء نعي جعفر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصنعوا لآل جعفر طعاما فإنه قد أتاهم أمر شغلهم (1) » .
وروي عن عبد الله بن أبي بكر أنه قال: فما زالت السنة فينا حتى تركها من تركها، فأما صنع أهل الميت طعاما للناس فمكروه؛ لأن فيه زيادة على مصيبتهم وشغلا لهم إلى شغلهم وتشبها بصنع أهل الجاهلية، ويروى أن جريرا أوفد على عمر فقال: هل يناح على ميتكم؟ قال: لا. قال: وهل يجتمعون عند أهل الميت ويجعلون الطعام؟ قال: نعم. قال: ذاك النوح " انتهى المقصود.
وأما قول الكاتب هداه الله وهل كل ما لم يفعله الرسول وأصحابه حرام أم العكس هو الصحيح أي أن الأصل في كل الأعمال هو الحل إلا ما ورد نص بالتحريم فهذا الكلام فيه إجمال وإفراط وليس على إطلاقه، والصواب أن يقال: إن ما تركه الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالعبادات لا يجوز لأحد إحداثه ولا تشريعه للناس. لأن العبادات توقيفية لا يشرع منها إلا ما شرعه الله ورسوله، فمن أحدث شيئا من العبادات فقد شرع في الدين ما لم يأذن به الله، ويعتبر بذلك مبتدعا مخالفا للشرع المطهر يجب رد بدعته عليه للأدلة السابقة، ومن ذلك الاحتفال بالموالد كما تقدم، وهكذا ما كان من أمر الجاهلية لا يجوز لأحد إحداثه ولا إقراره كإقامة المآتم بعد الموت؛ لأن أمر الجاهلية كله مرفوض ومنهي عنه إلا ما أقره الشرع المطهر لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «إن أمر الجاهلية كله موضوع (2) » . وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر لما عير رجلا بأمه: «إنك امرؤ فيك جاهلية (3) » والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وقد قال الله سبحانه في كتابه المبين لنساء النبي صلى الله عليه وسلم: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (4) الآية.
أما الأمور الأخرى التي لا تعلق لها بالعبادات ولا بأمر الجاهلية فالأصل فيها الحل إلا ما حرمه الشرع، كأنواع المآكل والمشارب والصناعات ونحو ذلك؛ لأن الناس أعلم بأمور دنياهم، ويستثنى من ذلك ما حرمه الله ورسوله، كلبس الذهب والحرير للذكور وكتشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال ونحو ذلك مما نص الشرع على النهي عنه فهو
__________
(1) سنن الترمذي الجنائز (998) ، سنن أبي داود الجنائز (3132) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1610) ، مسند أحمد (1/205) .
(2) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .
(3) صحيح البخاري الأشربة (5580) ، مسند أحمد بن حنبل (3/217) .
(4) سورة الأحزاب الآية 33(12/373)
مستثنى من هذه القاعدة، ولما أوجب الله من النصح له سبحانه ولعباده، ولما يجب من التنبيه على الأخطاء التي وقع فيها الكاتب وأعلنها، رأيت التنبيه على ذلك، وأسأل الله أن يوفقنا والكاتب وسائر المسلمين لما يرضيه من القول والعمل، وأن يمن على الجميع بالتوبة النصوح، وأن يرزقنا جميعا التمسك بكتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والحذر مما يخافهما إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا وإمامنا محمد وآله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.(12/374)
مؤتمرات إسلامية
1 - (الدورة العاشرة للمجلس الأعلى للمساجد)
عقد المجلس الأعلى العالمي للمساجد دورته العاشرة في مكة المكرمة في الفترة من غزة ربيع الثاني لعام 1405 هـ حتى الخامس منه في جو من الشعور بالمسئولية والحرص على مصالح المسلمين، وفي ختام جلساته ناشد المجلس الدول الإسلامية تحكيم شرع الله، والمسارعة في إنشاء البنوك الإسلامية بعد أن ثبت نجاحها وتحويل البنوك الربوية إلى بنوك إسلامية. كما ناشد المجلس جميع ملوك ورؤساء العالم، وخاصة الدول العربية والإسلامية بالمبادرة إلى عمل كل ما من شأنه وقف الخطر اليهودي على المسجد الأقصى. وناشد المجلس أيضا الدول الإسلامية حكومات وشعوبا بالمسارعة إلى تقديم العون للمتضررين من الجفاف في أفريقيا.
2 - (المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي)
اختتم المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي دورته السادسة والعشرين في مكة(12/375)
المكرمة والتي عقدت في الفترة من 7- 12 \ 4 \ 1405 هـ وفي بداية الجلسة الختامية ألقى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس المجلس كلمة عبر فيها عن شكره للأعضاء المشاركين، وأوصى الجميع بتقوى الله والتمسك بالعقيدة الإسلامية وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأكد المجلس خطورة استمرار الحرب بين العراق وإيران ودعا الجارتين المتحاربتين إلى الاستجابة للمساعي الحميدة، كما ناشد المجلس فصائل المقاومة الفلسطينية توحيد صفوفها ضد اليهود. وأعرب عن تقديره للمجاهدين الأفغان ولرجال المقاومة في جنوب لبنان على صمودهم وتضحياتهم، وناشد العالم الإسلامي الوقوف إلى جانبهم، وحذر المجلس من خطر تسلسل التيارات الهدامة والمذاهب الإلحادية إلى بعض المجتمعات الإسلامية، وأوصى بأن أهم ما يجب على المسلمين للوقوف ضد هذه التيارات التمسك بكتاب الله وسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم.
3 - (الدورة الثامنة لمجلس المجمع الفقهي الإسلامي)
عقد مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي دورته الثامنة بمقر الرابطة بمنى بمكة المكرمة في الفترة من 28 ربيع الثاني وحتى السابع من جمادى الأولى، من عام 1405 هـ وقد ترأس سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس المجلس أعمال الدورة، وناقش الأعضاء عددا من الموضوعات المؤجلة من الدورة السابعة، كما ناقش عددا من الموضوعات الجديدة وهي: - حكم الإسلام في القات - حكم زراعة الأعضاء وإسقاط الجنين وإبقاء آلة الطبيب في جسم الإنسان - فتح باب الاجتهاد - الفوائد الربوية - حقوق التأليف - برمجة القرآن الكريم بالكمبيوتر - حكم زكاة العقار - الأطعمة في فرنسا - حكم أفلام الرسوم المتحركة - حكم استخدام الصور المرسومة والملونة في قصص الأطفال - التلقيح الاصطناعي - ظاهرة اللصوص الوافدين باسم الحج - سبب جواز استخدام الحساب لتحديد أوقات الصلوات وعدم جوازه لتحديد الصوم والعيدين - تحديد أوقات الصلاة والصيام في البلدان النائية - مشروع التقويم الإسلامي - تبني أطفال المسلمين الطب الإسلامي - تشريح جثث النساء - حكم طريقة الذبح بواسطة الصعق الكهربائي - حكم دفن المسلمين في صندوق خشبي.(12/376)
حديث شريف
عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى، ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه (1) »
متفق عليه
__________
(1) صحيح البخاري المرضى (5642) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2573) ، سنن الترمذي الجنائز (966) ، مسند أحمد بن حنبل (3/19) .(12/377)
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (1)
سورة ق، الآية 16
__________
(1) سورة ق الآية 16(13/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(13/2)
مجلة البحوث الإسلامية
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا
العدد الثالث عشر: رجب ~ شعبان ~ رمضان ~ شوال عام 1405 هـ(13/3)
المحتويات
الافتتاحية
الإسلام هو الدين الحق وما سواه من الأديان باطل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
موضوع العدد
من أحكام القرآن الكريم اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 13
الفتاوى
فتاوى خاصة بالحج اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 65
أسئلة وأجوبة في الحج سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز 83
اللجنة الدائمة تجيب على أسئلة موجهة إلى سماحة الرئيس العام اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 91
فتوى حول من فاته الركوع الثاني من صلاة الكسوف اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 99
بحوث في العقيدة
إقامة البرهان على من أنكر خروج المهدي والدجال للشيخ حمود بن عبد الله التويجري 101
حقيقة لا إله إلا الله للشيخ صالح بن فوزان الفوزان 115
بحوث في علوم القرآن
الذكر والنسيان في القرآن الكريم للدكتور سيد رزق الطويل 129(13/4)
تحقيق مخطوطة لشيخ الإسلام ابن تيمية- فتوى في علم القراءات للدكتور محمد علي سلطاني 179
بحوث في السنة
بيان كلام أهل العلم في الأحاديث الواردة في فضل من مات بالحرمين للشيخ إسماعيل الأنصاري 211
الإسناد وأهميته في نقد الحديث للدكتور محمد لقمان السلفي 221
بحوث تاريخية
محمد بن عبد الوهاب عبقري العصر وأستاذ الجيل للأستاذ أحمد فهيم مطر 233
فترة مشرقة للجهاد الإسلامي في الحبشة للأستاذ فهيم شلتوت 249
محمد بن مسلمة الأنصاري اللواء محمد شيت خطاب 269
لقاء
لقاء مع الداعية المسلم البريطاني - يوسف إسلام لقاء أجرته المجلة 301
ردود وإيضاحات
عدالة السلف برهان يقظتهم للشيخ سعد الخرعان 321
رد سماحة الشيخ على ما نشر في مجلة المنار سماحة الرئيس العام 325
تنبيه لسماحة الشيخ على ما نشر في جريدة عرب نيوز سماحة الرئيس العام 329
متى تثبت رؤية الهلال ثبوتا شرعيا وجب العمل بها سماحة الرئيس العام 331
حكم الحيوان المذبوح بالصعق الكهربائي سماحة الرئيس العام 335(13/5)
صفحة فارغة(13/6)
الافتتاحية
الإسلام هو الدين الحق وما سواه من الأديان باطل
الحمد لله الذي ارتضى لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- دين الإسلام، وجعل شريعة محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة الشرائع وأكملها، وأرسل بها أفضل خلقه محمدا صلى الله عليه وسلم وبعد:
فقد اطلعت على ما نشر في جريدة اليوم العدد 4080 وتاريخ 12 \ 8 \ 1404 هـ الصفحة الأخيرة تحت عنوان معبد غريب للسيخ في الإمارات، نقلا عن وكالة أنباء الخليج. وقد جاء في ذلك الخبر ما يلي: " ووصف أحد علماء المسلمين في دبي هو الدكتور محمود إبراهيم الديك هذا المعبد بأنه يشكل خطرا كبيرا على المسلمين وينبغي إزالته. وقال: إن الديانات المسموح بها في الإمارات هي التي لها كتاب سماوي فقط أما ما عدا ذلك فهي معتقدات كافرة ينبغي إزالة معابدها ومنعها من ممارسة طقوسها؛ حتى لا تؤثر على المسلمين في هذه الأرض " انتهى كلامه.
ومن يقرأ كلام الدكتور محمود الديك هذا يدرك منه أمرين:(13/7)
أحدهما: أن اليهودية والنصرانية مسموح بهما في الإمارات سواء الانتماء إليهما أو إقامة معابد لهما أو مزاولة كافة طقوسهما. ومعنى ذلك أن التبشير النصراني علني ومسموح له رسميا هناك وهذا أمر خطير.
والأمر الثاني: وهو أخطر من الأول: الحكم ضمنا من واقع كلام هذا المتحدث بأن الديانات السماوية كاليهودية والنصرانية ليست كافرة وبالتالي فإنه إذا كان الأمر كذلك يجوز الدخول فيهما والانتماء إليهما والدعوة إليهما والتبشير بهما. ولن أتعرض لمعبد السيخ هذا؛ لأن الخبر جاء فيه بأن الشيخ عبد الجبار الماجد مدير أوقاف دبي قال بأن البلدية سوف تزيل هذا المعبد جزاه الله خيرا؛ لأن وجود هذا المعبد يتضمن الدعوة إلى عبادة الأوثان التي يجب إنكارها.
أما كلام الدكتور محمود الديك فمعلوم ما فيه من بطلان وغلط، فإن الدين الإسلامي هو الدين الصحيح المطلوب من أهل الأرض، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) ، وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (2) {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (3) ، هذا وقد وصف الله سبحانه وتعالى اليهود والنصارى بالكفر لما قالوه على الله، وبما حرفوه وغيروه في كتبهم، وتجاوزهم الحد في القول والعمل تبعا لما تصف ألسنتهم، وتستهوي نفوسهم قاتلهم الله أنى يؤفكون، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (4) .
وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (5) {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (6) {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (7) ،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 85
(2) سورة آل عمران الآية 19
(3) سورة آل عمران الآية 20
(4) سورة المائدة الآية 17
(5) سورة المائدة الآية 72
(6) سورة المائدة الآية 73
(7) سورة المائدة الآية 74(13/8)
وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (1) {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) .
والآيات الكريمات في هذا المعنى كثيرة، مما يعلم معه بأن الديانة اليهودية والديانة النصرانية قد نسختا بديانة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأن ما فيهما من حق أثبته الإسلام، وما فيهما من باطل هو مما حرفه القوم، وبدلوه حسب أهوائهم، ليشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون، فدين الإسلام هو الدين الصحيح المطلوب من أهل الأرض، وهو الدين الذي بشر به جميع الأنبياء.
روى النسائي وغيره عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه «رأى في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورقة من التوراة فقال: أمتهوكون يا ابن الخطاب؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لو كان موسى حيا واتبعتموه وتركتموني ضللتم (3) » . وفي رواية: «لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي. فقال عمر: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا (4) » .
وكما أن عيسى - عليه السلام -جاء مجددا لديانة موسى وليحل لهم بعض ما حرم عليهم كما في قوله تعالى: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} (5) {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (6) فإنه كذلك سينزل في آخر الزمان ليجدد رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ويقاتل اليهود والنصارى، قال -صلى الله عليه وسلم-: «يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية (7) » ، رواه مسلم، قال النووي في شرحه قوله: " يضع الجزية": أي لا يقبل إلا الإسلام أو السيف. اهـ.
__________
(1) سورة التوبة الآية 30
(2) سورة التوبة الآية 31
(3) مسند أحمد بن حنبل (3/387) ، سنن الدارمي المقدمة (435) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (3/387) ، سنن الدارمي المقدمة (435) .
(5) سورة آل عمران الآية 50
(6) سورة آل عمران الآية 51
(7) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3448) ، صحيح مسلم الإيمان (155) ، سنن الترمذي الفتن (2233) ، سنن أبو داود الملاحم (4324) ، سنن ابن ماجه الفتن (4078) ، مسند أحمد بن حنبل (2/240) .(13/9)
وعندما يرى هذه الآية أهل الأرض فعند ذلك يرجع لدين الإسلام من هدى الله قلبه، ويدخل فيه من أنار الله بصيرته من اليهود والنصارى، فيؤمن بعيسى بعدما ظهرت أمامه الآيات الساطعات التي تتجلى فيها أنوار الحق الواضحة، والإيمان بعيسى - عليه السلام -في ذلك الوقت تصديق برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- وبالدين الذي جاء به من عند ربه وهو الإسلام؛ حيث ينكشف الكذب، ويظهر الزيف الذي أدخله الأحبار والرهبان على الديانة النصرانية واليهودية ليضلوا الناس، ويلبسوا عليهم دينهم، قال الله تعالى في قصة عيسى - عليه السلام -مع أهل الكتاب الذين قالوا بأنهم قتلوه موضحا كذبهم، وأن منهم من سوف يؤمن بعيسى - عليه السلام -قبل موته؛ لأن الموت حق على جميع البشر في هذه الحياة الدنيا: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (1) {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} (2) .
وهذا الموقف الذي أبانه القرآن الكريم جاء بعد أن وصفهم بالكفر في آية قبلها، وهو قوله تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} (3) {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} (4) .
وفي عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعد أن وضحت شريعة الإسلام لأهل الأرض دخل من أنار الله بصيرته من اليهود والنصارى في الإسلام بعدما عرف الحق، وتبرأ من الاعتقادات التي تناقض شرع الله الذي شرع لعباده، وهي الوحدانية لله جل وعلا، وعدم الإشراك معه في العبادة والاعتقاد، ودين الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله لأنبيائه منذ الأزل، قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (5) ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (6) {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (7) {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (8) .
__________
(1) سورة النساء الآية 158
(2) سورة النساء الآية 159
(3) سورة النساء الآية 156
(4) سورة النساء الآية 157
(5) سورة آل عمران الآية 19
(6) سورة البقرة الآية 130
(7) سورة البقرة الآية 131
(8) سورة البقرة الآية 132(13/10)
ودين الإسلام هو الطريق المستقيم الموصل إلى الله، كما ورد في تفسير سورة الفاتحة، فإن العبد يدعو ربه بأن يهديه إلى الصراط المستقيم، وأن يبعده عن طريق المغضوب عليهم وهم اليهود الذين عصوا الله عن علم ومعرفة، وطريق الضالين وهم النصارى الذين يعبدون الله على جهل وضلال.
ومما ذكرناه يتضح أن الطريق إلى الله واحد وهو دين الإسلام، وهو الذي بعث الله به نبيه محمدا -صلى الله عليه وسلم- كما بعث به جميع الرسل، وأن جميع ما خالفه من يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو وثنية أو غير ذلك من نحل الكفر كله باطل وليس طريقا إلى الله، ولا يوصل إلى جنته، وإنما يوصل إلى غضبه وعذابه كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) .
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار (2) » ، رواه الإمام مسلم في صحيحه، والله المسئول أن يمنحنا وجميع المسلمين التفقه في الدين، والثبات عليه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يهدينا جميعا الصراط المستقيم، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم والضالين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة آل عمران الآية 85
(2) صحيح مسلم الإيمان (153) ، مسند أحمد بن حنبل (2/350) .(13/11)
صفحة فارغة(13/12)
من أحكام القرآن الكريم
1 - حكم السفر بالمصحف إلى أرض العدو.
2 - حكم مس المصحف لغير من كان طاهرا " الطهارة من الحدث ومن الكفر ".
3 - ما جاء في النهي عن قراءة الجنب والحائض القرآن.
4 - حكم تعليم الكافر القرآن.
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(13/13)
صفحة فارغة(13/14)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد: -
فبناء على ما ورد إلى سماحة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من مدير عام التعليم بمنطقة الرياض برقم 35 \ 3 \ 2 \ 6231 \ 4 وتاريخ 1 \ 7 \ 1398 هـ، من السؤال عما يجب أن يعامل به الطالب المسيحي الملتحق بالمدرسة بالنسبة لمادة القرآن الكريم ومواد التربية الإسلامية، باعتبار أنه لا يجوز مس المصحف لغير المسلمين. . انتهى.
وبناء على ما اقترحه سماحة الرئيس العام من إدراج هذا الموضوع ضمن جدول أعمال الدورة الثالثة عشرة، وجمع ما تيسر من النقول عن أهل العلم في الأمور الآتية:
1 - ما جاء من النهي عن السفر بالمصحف إلى أرض العدو.
2 - ما جاء في النهي عن مس المصحف لغير من كان طاهرا "الطهارة من الحدث ومن الكفر".
3 - ما جاء في النهي عن قراءة الجنب والحائض القرآن.
4 - حكم تعليم الكافر القرآن.
- بناء على ذلك جمعت اللجنة ما تيسر من النقول عن أهل العلم فيما ذكر. . وبالله التوفيق. .(13/15)
أولا: اختلف أهل العلم في حكم السفر بالقرآن إلى أرض العدو، وفيما يلي ذكر أقوالهم وأدلتهم والمناقشة.
قال البخاري:
باب كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو، وكذلك يروى عن محمد بن بشر، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وتابعه ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، «عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد سافر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في أرض العدو وهم يعلمون القرآن» ، حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (1) » .
وقال ابن حجر:
قوله: (باب كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو) سقط لفظ كراهية إلا للمستملي فأثبتها، وبثبوتها يندفع الإشكال الآتي. قوله: (وكذلك يروى عن محمد بن بشر عن عبيد الله) هو ابن عمر (عن نافع عن ابن عمر) ، وتابعه ابن إسحاق عن نافع، أما رواية محمد بن بشر فوصلها إسحاق بن راهويه في مسنده عنه، ولفظه: «كره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو؛ مخافة أن يناله العدو (2) » ، قال الدارقطني والبرقاني لم يروه بلفظ الكراهة إلا محمد بن بشر، وأما متابعة ابن إسحاق فهي بالمعنى؛ لأن أحمد أخرجه من طريقه بلفظ: «نهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض العدو (3) » ، والنهي يقتضي الكراهة؛ لأنه لا ينفك عن كراهة التنزيه أو التحريم، قوله: (وقد سافر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في أرض العدو وهم يعلمون القرآن) أشار البخاري بذلك إلى أن المراد بالنهي عن السفر بالقرآن السفر بالمصحف خشية أن يناله العدو، لا السفر بالقرآن نفسه، وقد تعقبه الإسماعيلي بأنه لم يقل أحد: إن من يحسن القرآن لا يغزو العدو في دارهم، وهو اعتراض من لم يفهم مراد البخاري، وادعى المهلب أن مراد البخاري بذلك تقوية القول بالتفرقة بين العسكر الكثير والطائفة القليلة، فيجوز في تلك دون هذه، والله أعلم.
ثم ذكر المصنف حديث مالك في ذلك وهو بلفظ: «نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (4) » ، وأورده ابن ماجه من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن مالك وزاد: «مخافة أن يناله العدو (5) » ، ورواه ابن وهب عن مالك فقال: «خشية أن يناله العدو (6) » ، وأخرجه أبو داود عن القعنبي عن مالك فقال: قال مالك: أراه مخافة. فذكره قال
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2879) ، مسند أحمد بن حنبل (2/63) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2879) ، مسند أحمد بن حنبل (2/63) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(5) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(6) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .(13/16)
أبو عمر: كذا قال يحيى الأندلسي، ويحيى بن بكير، وأكثر الرواة عن مالك جعلوا التعليل من كلامه ولم يرفعوه، وأشار إلى أن ابن وهب تفرد برفعها وليس كذلك لما قدمته من رواية ابن ماجه، وهذه الزيادة رفعها ابن إسحاق أيضا كما تقدم، وكذلك أخرجها مسلم والنسائي وابن ماجه من طريق أيوب عن نافع ومسلم من طريق أيوب بلفظ: «فإني لا آمن أن يناله العدو (1) » ، فصح أنه مرفوع وليس بمدرج، ولعل مالكا كان يجزم به، ثم صار يشك في رفعه، فجعله من تفسير نفسه، قال ابن عبد البر: أجمع الفقهاء أن لا يسافر بالمصحف في السرايا والعسكر الصغير المخوف عليه، واختلفوا في الكبير المأمون عليه، فمنع مالك أيضا مطلقا، وفصل أبو حنيفة، وأدار الشافعية الكراهة مع الخوف وجودا وعدما، وقال بعضهم كالمالكية واستدل به على منع بيع المصحف من الكافر؛ لوجود المعنى المذكور فيه وهو التمكن من الاستهانة به، ولا خلاف في تحريم ذلك، وإنما وقع الاختلاف هل يصح لو وقع الاختلاف (2) . ويؤمر بإزالة ملكه عنه أم لا " (3) .
وقال مسلم:
حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك: عن نافع، عن عبد الله بن عمر قال: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (4) » . وحدثنا قتيبة، حدثنا ليث ح وحدثنا ابن رمح، أخبرنا الليث، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «أنه كان ينهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو (5) » ، وحدثنا أبو الربيع العتكي وأبو كامل قالا: حدثنا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تسافروا بالقرآن فإني لا آمن أن يناله العدو (6) » قال أيوب: فقد ناله العدو وخاصموكم به. حدثني زهير بن حرب حدثنا إسماعيل -يعني ابن علية -ح وحدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان والثقفي كلهم، عن أيوب ح وحدثنا ابن رافع، حدثنا ابن أبي فديك، أخبرنا الضحاك -يعني ابن عثمان - جميعا، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن علية والثقفي: "فإني أخاف" وفي حديث سفيان وحديث الضحاك بن عثمان: «مخافة أن يناله العدو (7) » .
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(2) هكذا في الأصل والصواب: لو وقع العقد.
(3) فتح الباري (6) .
(4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2879) ، مسند أحمد بن حنبل (2/63) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(5) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(6) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/10) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(7) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .(13/17)
وقال النووي:
" قوله: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (1) » ، وفي الرواية الأخرى: «مخافة أن يناله العدو (2) » ، وفي الرواية الأخرى: «فإني لا آمن أن يناله العدو (3) » ؛ فيه النهي عن المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار للعلة المذكورة في الحديث، وهي خوف أن ينالوه فينتهكوا حرمته، فإن أمنت هذه العلة بأن يدخل في جيش المسلمين الظاهرين عليهم فلا كراهة ولا مانع منه حينئذ لعدم العلة، هذا هو الصحيح، وبه قال أبو حنيفة والبخاري وآخرون، وقال مالك وجماعة من أصحابنا بالنهي مطلقا، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة الجواز مطلقا، والصحيح عنه ما سبق، وهذه العلة المذكورة في الحديث هي من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- وغلط بعض المالكية فزعم أنها من كلام مالك، واتفق العلماء على أنه يجوز أن يكتب إليهم كتاب فيه آية أو آيات، والحجة فيه كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل، قال القاضي: وكره مالك وغيره معاملة الكفار بالدراهم والدنانير التي فيها اسم الله تعالى وذكره سبحانه وتعالى " (4) .
وقال الأبي:
" قوله: "نهى"، قلت: لا يدخل الخلاف المذكور في قول الراوي: نهى لتصريحه بالنهي في الطريق الثاني.
قوله: «أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (5) » (ع) المراد بالقرآن هنا المصحف، وكذا جاء مفسرا في بعض الأحاديث، قلت: لم يكن المصحف مكتوبا حينئذ فلعله من الإخبار عن مغيب، أو لعله كان مكتوبا في رقاع فيصح ويتقرر النهي عن السفر بالقليل والكثير منه، لا سيما على القول أن القرآن اسم جنس يصدق على القليل والكثير، وأما على القول بأنه اسم للجمع فيتعلق النهي بالقليل لمشاركته الكل في القلة، فإن حرمة القليل منه كالكثير.
(ع) واختلف في السفر به، فمنعه مالك وقدماء أصحابه وإن كان الجيش كبيرا؛ لأنه قد ينسى أو يسقط، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة جوازه مطلقا، والصحيح عنه جوازه في الجيش الكبير دون السرايا؛ لأن نيل العدو إياه مع الجيش الكبير نادر لا
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2879) ، مسند أحمد بن حنبل (2/63) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(4) النووي على مسلم 13 \ 12- 14.
(5) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .(13/18)
يلتفت إليه. وأجاز الفقهاء الكتب إليهم بالآية ونحوها للدعاء إلى الإسلام والوعظ " انتهى (1) .
قال الأبي: "قوله: «مخافة أن يناله العدو (2) » (ع) ظن بعض الناس وصحح أن هذا التعليل من قول مالك أو ما بعده من قوله: «فإني لا آمن أن يناله العدو (3) » ، وفي الآخر: «إني أخاف أن يناله العدو (4) » فلن يرده، فإنه ظاهر أنه من كلامه -صلى الله عليه وسلم- ومتصل به، واختلف في ذلك رواة الموطأ، فرواه ابن مهدي وابن وهب والأكثر متصلا بكلامه -صلى الله عليه وسلم- ورواه يحيى بن يحيى الأندلسي ويحيى بن بكير أنه من كلام مالك، وهذه الرواية تحمل على أن مالكا شك في رفع هذه الزيادة فجعلها -لتحريه- من كلامه وإلا فهي رواية الثقات " انتهى (5) .
وجاء في موطأ مالك:
" حدثني يحيى، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (6) » ، فقال مالك: وإنما ذلك مخافة أن يناله العدو ". انتهى.
وقال الباجي:
" قوله: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (7) » يريد والله أعلم الصحف لما كان القرآن مكتوبا فيها سماها قرآنا، ولم يرد ما كان منه محفوظا في الصدر؛ لأنه لا خلاف أنه يجوز لحافظ القرآن الغزو، وإنما ذلك لأنه لا إهانة للقرآن في قتل الغازي، وإنما الإهانة للقرآن بالعبث بالمصحف والاستخفاف به، وقد روي مفسرا: «نهى أن يسافر بالمصحف (8) » رواه عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمرو «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو (9) » .
فصل: والسفر اسم واقع على الغزو وغيره، قال ابن سحنون: قلت لسحنون: أجاز بعض العراقيين الغزو بالمصحف إلى أرض العدو في الجيش الكبير كالطائفة ونحوها، وأما السرية ونحوها فلا. قال سحنون: لا يجوز ذلك لنهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك عاما ولم يفصل، وقد يناله العدو من ناحية الغفلة. والدليل على صحة ما ذهب إليه
__________
(1) الأبي على مسلم ج 5 ص 216.
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(5) الأبي على مسلم ج 5 صفحة 217.
(6) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2879) ، مسند أحمد بن حنبل (2/63) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(7) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2879) ، مسند أحمد بن حنبل (2/63) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(8) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(9) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .(13/19)
سحنون أنه لا قوة فيه على العدو، وليس مما يستعان به على حربه، وقد يناله لشغل عنه كما قال سحنون، وقد يناله بالغلبة أيضا.(13/20)
مسألة: ولو أن أحدا من الكفار رغب أن يرسل إليه بمصحف ليتدبره لم يرسل إليه به؛ لأنه نجس جنب، ولا يجوز له مس المصحف، ولا يجوز لأحد أن يسلمه إليه ذكره ابن الماجشون.
فصل: وقوله: «مخافة أن يناله العدو (1) » يريد أهل الشرك؛ لأنهم ربما تمكنوا من نيله والاستخفاف به فلأجل ذلك منع السفر به إلى بلادهم" انتهى (2) .
وقال الإمام أحمد:
حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تسافر بالقرآن فإني أخاف أن يناله العدو (3) » .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن -يعني ابن مهدي - حدثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمشتري، ونهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو (4) » .
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تسافروا بالقرآن فإني أخاف أن يناله العدو (5) » .
وجاء في مختصر المنذر لسنن أبي داود:
" عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (6) » .
قال مالك: أراد مخافة أن يناله العدو. وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه، هكذا ذكره هاهنا أن قوله: «مخافة أن يناله العدو (7) » ، من قول مالك.
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(2) الموطأ على المنتقى ج 3 ص 165-166.
(3) المسند رقم الحديث 4507.
(4) المسند رقم الحديث 4525.
(5) المسند رقم الحديث 4576.
(6) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2879) ، مسند أحمد بن حنبل (2/63) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(7) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .(13/20)
وأخرجه من رواية القعنبي عنه، ووافق القعنبي على ذلك كأبي مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري ويحيى بن يحيى الأندلسي ويحيى بن بكير، ورواه بعضهم من حديث عبد الرحمن بن مهدي والقعنبي عن مالك، فأدرج هذه الزيادة في الحديث.
فقد اختلف على القعنبي في هذه الزيادة، فمرة يبين أنها قول مالك، ومرة يدرجها في الحديث. ورواه يحيى بن يحيى النيسابوري عن مالك، فلم يذكر الزيادة البتة، وقد رفع هذه الكلمات أيوب السختياني والليث بن سعد بزيادة (مخافة أن يناله العدو) وأخرجه مسلم من طريق أيوب السختياني بلفظ «لا تسافروا بالقرآن فإني لا آمن أن يناله العدو (1) » ومن طريق الضحاك بن عثمان الحزامي عن نافع عن ابن عمر.
وقال بعضهم: يحتمل أن مالكا شك هل هي من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فجعل (التحرية) هذه الزيادة من كلامه على التفسير، وإلا في صحيحه من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- من رواية الثقات.
والمراد بالقرآن هاهنا المصحف، وكذا جاء مفسرا في بعض الحديث، ونيل العدو له استخفافه به وامتهانه إياه، فإذا أمنت العلة في الجيوش الكثيرة.
وقد قيل: ارتفع النهي، وهو مذهب أبي حنيفة وغيره من العلماء، وأشار إليه البخاري، وحملوا النهي على الخصوص، ولم يفرق مالك بين العسكر الكبير والصغير في النهي عن ذلك، وحكي عن بعضهم جواز السفر به مطلقا.
وقيل: إن نهيه -صلى الله عليه وسلم- فيه ليس على وجه التحريم والفرض وإنما هو على معنى الندب والإكرام للقرآن. انتهى (2) .
وجاء في طرح التثريب:
وعن نافع، عن ابن عمر قال: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (3) » فيه فوائد.
1 - أخرجه الشيخان وأبو داود وابن ماجه من طريق مالك، وزاد في رواية ابن ماجه: «مخافة أن يناله العدو (4) » ، وفي رواية أبي داود: قال مالك: أراه مخافة أن يناله العدو،
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/10) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(2) ج3 ص 414-415.
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2879) ، مسند أحمد بن حنبل (2/63) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .(13/21)
وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه من طريق الليث بن سعد بزيادة: «مخافة أن يناله العدو (1) » ، وأخرجه مسلم من طريق أيوب السختياني بلفظ: «لا تسافروا بالقرآن فإني لا آمن أن يناله العدو (2) » ، ومن طريق الضحاك بن عثمان بلفظ: «مخافة أن يناله العدو (3) » ، وعلقه البخاري من طريق محمد بن بشر عن عبيد الله بن عمر، ومن طريق ابن إسحاق ستتهم عن نافع عن ابن عمر، وقال أبو بكر البرقاني: لم يقل: "كره" إلا محمد بن بشر، ورواه أبو همام عن محمد بن بشر كذلك، ورواه عن عبيد الله بن عمر جماعة، فاتفقوا على لفظة النهي، وقال ابن عبد البر: هكذا قال يحيى بن يحيى والقعنبي وابن بكير، وأكثر الرواة يعني بلفظ: (قال مالك: أراه مخافة أن يناله العدو) ، ورواه ابن وهب عن مالك فقال في آخره: «خشية أن يناله العدو (4) » وفي سياقه الحديث لم يجعله من قول مالك. قلت: وتقدم أنه في سنن ابن ماجه من رواية مالك في نفس الحديث وهو عنده من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن مالك قال. وكذلك قال عبيد الله بن عمر وأيوب والليث وإسماعيل بن أمية وليث بن أبي سليم وإن اختلفت ألفاظهم، قال: وهو صحيح مرفوع. وقال القاضي عياض: في الرواية المشهورة عن مالك يحتمل أنه شك هل هي من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- أم لا، وقد روي عن مالك متصلا من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- كرواية غيره من رواية عبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن وهب، وقال النووي: هذه العلة المذكورة في الحديث هي من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- وغلط بعض المالكية فزعم أنها من كلام مالك.
2 - فيه النهي عن السفر بالقرآن، والمراد به المصحف إلى أرض العدو، وهذا محتمل للتحريم والكراهة، وفي لفظ مسلم: «لا تسافروا بالقرآن (5) » ، وظاهر هذا اللفظ التحريم، ولفظ رواية محمد بن بشر عن عبيد الله: «كره أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (6) » ، وظاهره التنزيه فقط.
وقد بوب عليه البخاري (باب كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو، وكذلك يروى عن محمد بن بشر عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وتابعه ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- «وقد سافر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في أرض العدو وهم يعلمون القرآن» . انتهى وفي بعض نسخه: (باب السفر) بدون ذكر الكراهة، وقد اعتمد في الكراهة على لفظ رواية محمد بن بشر عن عبيد الله بن عمر، وقد عرفت من كلام البرقاني أن المشهور لفظ النهي، على أن لفظ الكراهة يحتمل التحريم أيضا، وقال ابن عبد البر: أجمع الفقهاء أن لا يسافر بالقرآن
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/10) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(5) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/10) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(6) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .(13/22)
إلى أرض العدو في السرايا والعسكر الصغير المخوف عليه، واختلفوا في جواز ذلك في العسكر الكبير المأمون عليه، فلم يفرق مالك بين الصغير والكبير، وقال أبو حنيفة: لا بأس في السفر بالعسكر العظيم. وقال النووي في شرح مسلم: إن أمنت العلة بأن يدخل في جيش المسلمين الظاهر عليهم فلا كراهة ولا منع حينئذ لعدم العلة، هذا هو الصحيح، وبه قال أبو حنيفة والبخاري وآخرون، وقال مالك وجماعة من أصحابنا بالنهي مطلقا، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة الجواز مطلقا، والصحيح عنه ما سبق. انتهى.
وقول البخاري رحمه الله: (قد سافر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى أرض العدو وهم يعلمون القرآن) إن قصد به معارضة النهي عن ذلك فلا تعارض بينهما؛ لأن النهي عن ذلك في المصحف لئلا يتمكنوا منه فينتهكوا حرمته، وليس آدميا يمكنه الدفع عن نفسه بخلاف ما في صدور المؤمنين من القرآن، فإنهم عند العجز عن المدافعة عن أنفسهم لا يعد المهين لهم مهينا للمصحف؛ لأن الذي في صدورهم أمر معنوي، والذي في المصحف مشاهد محسوس- والله أعلم.
3 - يستنبط منه منع بيع المصحف إلى الكافر لوجود المعنى فيه، وهو تمكنه من الاستهانة به، ولا خلاف في تحريم ذلك، ولكن هل يصح لو وقع؟ اختلف أصحابنا فيه على طريقين (أصحهما) : القطع ببطلانه، (والثاني) : إجراء الخلاف الذي في بيع العبد المسلم للكافر فيه، والفرق بينهما على عظم حرمة المصحف، وأنه لا يمكنه دفع الذل عن نفسه بالاستعانة بخلاف العبد (1) .
وقال النووي:
" اتفقوا على أنه لا يجوز المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف وقوعه في أيديهم لحديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين، أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (2) » . واتفقوا أنه يجوز أن يكتب إليهم الآية والآيتان وشبههما في أثناء كتاب؛ لحديث أبي سفيان رضي الله عنه «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى هرقل عظيم الروم كتابا فيه: (4) » الآية (5) .
__________
(1) طرح التثريب 7 \ 216، 217
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2879) ، مسند أحمد بن حنبل (2/63) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(3) صحيح البخاري بدء الوحي (7) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1773) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2717) ، سنن أبو داود الأدب (5136) ، مسند أحمد بن حنبل (1/263) .
(4) سورة آل عمران الآية 64 (3) {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}
(5) المجموع شرح المهذب 2 \ 78(13/23)
ثانيا: ما جاء في النهي عن مس المصحف لغير من كان طاهرا "الطهارة من الحدث ومن الكفر"
اختلف أهل العلم في ذلك وفيما يلي نقول عن أهل العلم من المفسرين والمحدثين والفقهاء وتشمل على أقوالهم وأدلتهم ومناقشتها:
1 - النقول عن المفسرين:
قال الجصاص:
" قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (1) {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} (2) {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (3) روي عن سلمان أنه قال: لا يمس القرآن إلا المطهرون، فقرأ القرآن ولم يمس المصحف حين لم يكن على وضوء. وعن أنس بن مالك في حديث إسلام عمر قال: فقال لأخته: أعطوني الكتاب الذي كنتم تقرءون، فقالت: إنك رجس وأنه لا يمسه إلا المطهرون فقم فاغتسل أو توضأ، فتوضأ، ثم أخذ الكتاب فقرأه. وذكر الحديث، وعن سعد أنه أمر ابنه بالوضوء لمس المصحف. وعن ابن عمر مثله، وكره الحسن والنخعي مس المصحف على غير وضوء، وروي عن حماد أن المراد الذي في اللوح المحفوظ لا يمسه إلا المطهرون يعني الملائكة. وقال أبو العالية في قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (4) قال: هو في كتاب مكنون ليس أنتم (5) من أصحاب الذنوب. وقال سعيد بن جبير وابن عباس: المطهرون الملائكة. وقال قتادة: لا يمسه عند الله إلا المطهرون، فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي والنجس والمنافق. قال أبو بكر: إن حمل اللفظ على حقيقة الخبر، فالأولى أن يكون المراد القرآن الذي عند الله، والمطهرون الملائكة، وإن حمل على النهي، وإن كان في صورة الخبر، كان عموما فينا، وهذا أولى؛ لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في أخبار متظاهرة أنه كتب في كتابه لعمرو بن حزم: «ولا يمس القرآن إلا طاهر (6) » فوجب أن يكون نهيه ذلك بالآية؛ إذ فيها احتمال له" (7) .
__________
(1) سورة الواقعة الآية 77
(2) سورة الواقعة الآية 78
(3) سورة الواقعة الآية 79
(4) سورة الواقعة الآية 79
(5) كذا في الأصل والعلة ''أنتم أنتم''.
(6) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .
(7) أحكام القرآن للجصاص 3 \ 511.(13/24)
وقال القرطبي:
" الخامسة- قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (1) اختلف في معنى لا يمسه هل هو حقيقة في المس بالجارحة أو معنى؟ وكذلك اختلف في المطهرون من هم؟ فقال أنس وسعيد بن جبير: لا يمس ذلك الكتاب إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة. وكذا قال أبو العالية وابن زيد: إنهم الذين طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة، والرسل من بني آدم: فجبريل النازل به مطهر، والرسل الذين يجيئهم بذلك مطهرون. الكلبي: هم السفرة الكرام البررة. وهذا كله قول واحد، وهو نحو ما اختاره مالك حيث قال: أحسن ما سمعت في قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (2) أنها بمنزلة الآية التي في عبس وتولى {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} (3) {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} (4) {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} (5) {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} (6) {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} (7) ، يريد أن المطهرين هم الملائكة الذين وصفوا بالطهارة في سورة (عبس) ، وقال: معنى لا يمسه لا ينزل به، إلا المطهرون أي الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء. وقيل: لا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلا الملائكة المطهرون. وقيل: إن إسرافيل هو الموكل بذلك، حكاه القشيري. ابن العربي: وهذا باطل؛ لأن الملائكة لا تناله في وقت، ولا تصل إليه بحال، ولو كان المراد به ذلك لما كان للاستثناء فيه مجال، وأما من قال: إنه الذي بأيدي الملائكة في الصحف فهو قول محتمل، وهو اختيار مالك.
وقيل: المراد بالكتاب المصحف الذي بأيدينا، وهو الأظهر. وقد روى مالك وغيره أن في كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونسخته: «من محمد النبي إلى شرحبيل بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال قيل ذي رعين ومعافر وهمدان أما بعد (8) » وكان في كتابه: «ألا يمس القرآن إلا طاهر (9) » . وقال ابن عمر: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» . وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه وقد دخل عليها ودعا بالصحيفة: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (10) فقام واغتسل وأسلم. وقد مضى في أول سورة (طه) ، وعلى هذا المعنى قال قتادة وغيره: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (11) من
__________
(1) سورة الواقعة الآية 79
(2) سورة الواقعة الآية 79
(3) سورة عبس الآية 12
(4) سورة عبس الآية 13
(5) سورة عبس الآية 14
(6) سورة عبس الآية 15
(7) سورة عبس الآية 16
(8) سنن النسائي القسامة (4853) .
(9) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .
(10) سورة الواقعة الآية 79
(11) سورة الواقعة الآية 79(13/25)
الأحداث والأنجاس. الكلبي: من الشرك. الربيع بن أنس: من الذنوب والخطايا.
وقيل: معنى لا يمسه لا يقرؤه إلا المطهرون إلا الموحدون. قال محمد بن فضيل وعبدة: قال عكرمة: كان ابن عباس ينهى أن يمكن أحد من اليهود والنصارى من قراءة القرآن. وقال الفراء: لا يجد طعمه ونفعه وبركته إلا المطهرون، أي المؤمنون بالقرآن. ابن العربي: وهو اختيار البخاري، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم - نبيا (1) » . وقال الحسين بن الفضل: لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق. وقال أبو بكر الوراق: لا يوفق للعمل به إلا السعداء. وقيل: المعنى لا يمس ثوابه إلا المؤمنون. ورواه معاذ عن النبي -صلى الله عليه وسلم.
ثم قيل: ظاهر الآية خبر عن الشرع أي: لا يمسه إلا المطهرون شرعا، فإن وجد خلاف ذلك فهو غير الشرع، وهذا اختيار القاضي أبي بكر بن العربي، وأبطل أن يكون لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر، وقد مضى هذا المعنى في سورة (البقرة) . المهدوي: يجوز أن يكون أمرا وتكون ضمة السين ضمة إعراب، ويجوز أن يكون نهيا وتكون ضمة السين ضمة بناء، والفعل مجزوم.
السادسة- واختلف العلماء في مس المصحف على غير وضوء؛ فالجمهور على المنع من مسه لحديث عمرو بن حزم، وهو مذهب علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد، وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي، واختلفت الرواية عن أبي حنيفة، فروي عنه أنه يمسه المحدث، وقد روي هذا عن جماعة من السلف منهم ابن عباس والشعبي وغيرهما، وروي عنه أنه يمس ظاهره وحواشيه وما لا مكتوب فيه، وأما الكتاب فلا يمسه إلا طاهر. ابن العربي: وهذا إن سلمه مما يقوى الحجة عليه؛ لأن تحريم الممنوع ممنوع. وفيما كتبه النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن حزم أقوى دليل عليه. وقال مالك: لا يحمله غير طاهر بعلاقة ولا على وسادة. وقال أبو حنيفة: لا بأس بذلك. ولم يمنع من حمله بعلاقة أو مسه بحائل. وقد روي عن الحكم وحماد وداود بن علي أنه لا بأس بحمله ومسه للمسلم والكافر طاهرا أو محدثا، إلا أن داود قال: لا يجوز للمشرك حمله، واحتجوا في إباحة ذلك بكتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى قيصر، وهو موضع ضرورة فلا حجة فيه.
وفي مس الصبيان إياه على وجهين: أحدهما: المنع اعتبارا
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (34) ، سنن الترمذي الإيمان (2623) ، مسند أحمد بن حنبل (1/208) .(13/26)
بالبالغ، والثاني: الجواز؛ لأنه لو منع لم يحفظ القرآن، لأن تعلمه حال الصغر، ولأن الصبي وإن كانت له طهارة إلا أنها ليست بكاملة، لأن النية لا تصح منه، فإذا جاز أن يحمله على غير طهارة كاملة جاز أن يحمله محدثا " (1) .
وقال ابن كثير:
" وقال ابن جرير: حدثني موسى بن إسماعيل، أخبرنا شريك، عن حكيم -هو ابن جبير - عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (2) قال: الكتاب الذي في السماء. وقال العوفي عن ابن عباس: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (3) يعني الملائكة. وكذا قال أنس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وأبو الشعثاء جابر بن زيد وأبو نهيك والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، حدثنا معمر، عن قتادة {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (4) قال: لا يمسه عند الله إلا المطهرون، فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس، والمنافق الرجس، قال: وهي في قراءة ابن مسعود: (ما يمسه إلا المطهرون) . وقال أبو العالية: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (5) ليس أنتم، أنتم أصحاب الذنوب. وقال ابن زيد: زعمت كفار قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين، فأخبر الله تعالى أنه لا يمسه إلا المطهرون كما قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} (6) {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} (7) {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} (8) وهذا القول قول جيد وهو لا يخرج عن الأقوال التي قبله، وقال الفراء: لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به. وقال آخرون: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (9) أي من الجنابة والحدث، قالوا: ولفظ الآية خبر، ومعناها الطلب، قالوا: والمراد بالقرآن هاهنا المصحف، كما روى مسلم عن ابن عمر «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو (10) » ، واحتجوا في ذلك بما رواه الإمام مالك في موطئه عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد عن عمرو بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن حزم: «أن لا يمس القرآن إلا طاهر (11) » .
وروى أبو داود في المراسيل من حديث الزهري قال: قرأت في صحيفة عند أبي بكر بن محمد بن حزم، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ولا
__________
(1) تفسير القرطبي 17 \ 225 - 227.
(2) سورة الواقعة الآية 79
(3) سورة الواقعة الآية 79
(4) سورة الواقعة الآية 79
(5) سورة الواقعة الآية 79
(6) سورة الشعراء الآية 210
(7) سورة الشعراء الآية 211
(8) سورة الشعراء الآية 212
(9) سورة الواقعة الآية 79
(10) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2879) ، مسند أحمد بن حنبل (2/63) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(11) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .(13/27)
يمس القرآن إلا طاهر (1) » ، وهذه وجادة جيدة قد قرأها الزهري وغيره، ومثل هذا لا ينبغي الأخذ به، وقد أسنده الدارقطني عن عمرو بن حزم وعبد الله بن عمر وعثمان بن أبي العاص، وفي إسناد كل منهما (2) نظر" (3) .
وقال القرطبي:
" قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (4) ابتداء وخبر، واختلف العلماء في معنى وصف المشرك بالنجس، فقال قتادة ومعمر بن راشد وغيرهما: لأنه جنب؛ إذ غسله من الجنابة ليس بغسل. وقال ابن عباس وغيره: بل معنى الشرك هو الذي نجسه. قال الحسن البصري: من صافح مشركا فليتوضأ. والمذهب كله على إيجاب الغسل على الكافر إذا أسلم إلا ابن عبد الحكم فإنه قال: ليس بواجب؛ لأن الإسلام يهدم ما كان قبله، وبوجوب الغسل عليه قال أبو ثور وأحمد، وأسقطه الشافعي. وقال: أحب إلي أن يغتسل، ونحوه لابن القاسم، ولمالك قول: إنه لا يعرف الغسل، رواه عنه ابن وهب وابن أبي أويس.
وحديث ثمامة وقيس بن عاصم يرد هذه الأقوال، رواهما أبو حاتم البستي في صحيح مسنده «وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر بثمامة يوما فأسلم، فبعث به إلى حائط أبي طلحة، فأمره أن يغتسل، فاغتسل وصلى ركعتين. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لقد حسن إسلام صاحبكم (5) » ، وأخرجه مسلم بمعناه. وفيه: «أن ثمامة لما من عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- انطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل (6) » ، وأمر قيس بن عاصم أن يغتسل بماء وسدر. فإن كان إسلامه قبل احتلامه فغسله مستحب، ومتى أسلم بعد بلوغه لزمه أن ينوي بغسله الجنابة، هذا قول علمائنا، وهو تحصيل المذهب" (7) .
وقال ابن كثير على قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (8) : " أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينا وذاتا بنفي المشركين الذين
__________
(1) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .
(2) كذا ولعله: منهم.
(3) تفسير ابن كثير 4 \ 298.
(4) سورة التوبة الآية 28
(5) مسند أحمد بن حنبل (2/483) .
(6) صحيح البخاري الصلاة (462) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1764) ، سنن النسائي الطهارة (189) ، سنن أبو داود الجهاد (2679) ، مسند أحمد بن حنبل (2/452) .
(7) تفسير القرطبي 8 \ 103 - 104.
(8) سورة التوبة الآية 28(13/28)
هم نجس دينا عن المسجد الحرام، وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الآية، وكان نزولها في سنة تسع، ولهذا بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليا صحبة أبي بكر - رضي الله عنهما - عامئذ، وأمره أن ينادي في المشركين: «أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان (1) » ، فأتم الله ذلك وحكم به شرعا وقدرا.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (2) إلا أن يكون عبدا أو أحدا من أهل الذمة. وقد روي مرفوعا من وجه آخر، فقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا شريك، عن الأشعث - يعني ابن سوار - عن الحسن، عن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد وخدمهم (3) » ، تفرد به الإمام أحمد مرفوعا، والموقوف أصح إسنادا.
وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي: كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين، وأتبع نهيه قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (4) وقال عطاء: الحرم كله مسجد؛ لقوله تعالى {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (5) ودلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك كما ورد في الصحيح: «المؤمن لا ينجس (6) » .
وأما نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات؛ لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب، وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم، وقال أشعث عن الحسن: من صافحهم فليتوضأ، رواه ابن جرير " (7) .
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (369) ، صحيح مسلم الحج (1347) ، سنن النسائي مناسك الحج (2958) ، سنن أبو داود المناسك (1946) ، مسند أحمد بن حنبل (2/299) ، سنن الدارمي الصلاة (1430) .
(2) سورة التوبة الآية 28
(3) مسند أحمد بن حنبل (3/392) .
(4) سورة التوبة الآية 28
(5) سورة التوبة الآية 28
(6) رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي.
(7) تفسير ابن كثير 2 \ 346.(13/29)
2- النقول عن المحدثين:
أ- قال الزيلعي:
" الحديث الخامس:
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا يمس القرآن إلا طاهر (1) » ، قلت: روي من حديث عمرو بن حزم، ومن حديث ابن عمر، ومن حديث حكيم بن حزام، ومن حديث عثمان بن أبي العاص، ومن حديث ثوبان.
__________
(1) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .(13/29)
أما حديث عمرو بن حزم فرواه النسائي في "سننه" في "كتاب الديات"، وأبو داود في "المراسيل" من حديث محمد بن بكار بن بلال، عن يحيى بن حمزة، عن سليمان بن أرقم، عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده، أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أهل اليمن في السنن والفرائض والديات: «أن لا يمس القرآن إلا طاهر (1) » انتهى.
وروياه أيضا من حديث الحكم بن موسى، عن يحيى بن حمزة، ثنا سليمان بن داود الخولاني، حدثني الزهري، عن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده بنحوه، قال أبو داود: وهم فيه الحكم بن موسى "يعني قوله: سليمان بن داود " وإنما هو سليمان بن أرقم، قال النسائي: الأول أشبه بالصواب، وسليمان بن أرقم متروك. انتهى.
وبالسند الثاني رواه ابن حبان في "صحيحه" في النوع السابع والثلاثين، من القسم الخامس، قال: سليمان بن داود الخولاني من أهل دمشق ثقة مأمون، انتهى. وكذلك الحاكم في المستدرك (2) وقال: هو من قواعد الإسلام، وإسناده من شرط هذا الكتاب. انتهى. أخرجه بطوله، ورواه الطبراني في "معجمه" والدارقطني (3) ثم البيهقي في سننهما، وأحمد في مسنده، وابن راهويه.
طريق آخر: رواه الدارقطني في "غرائب مالك " من حديث أبي ثور هاشم بن ناجية، عن مبشر بن إسماعيل، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن جده قال: «كان فيما أخذ عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن لا يمس القرآن إلا طاهر (4) » ، قال الدارقطني: تفرد به أبو ثور عن مبشر عن مالك، فأسنده عن جده، ثم رواه من حديث إسحاق الطباع: أخبرني مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، قال: «كان في الكتاب الذي كتبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن لا يمس القرآن إلا طاهر (5) » قال: وهذا الصواب عن مالك، ليس فيه عن جده. انتهى.
__________
(1) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .
(2) في باب زكاة الذهب ص 397- ج 1 في حديث طويل.
(3) ص 45 وص 283، والبيهقي في سننه ص 88، والدارمي في باب لا طلاق قبل النكاح ص 293.
(4) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .
(5) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .(13/30)
قال الشيخ تقي الدين في "الإمام" وقوله فيه: (عن جده) أن يراد به جده الأدنى وهو محمد بن عمرو بن حزم، ويحتمل أن يراد به جده الأعلى، وهو عمرو بن حزم، وإنما يكون متصلا إذا أريد الأعلى، لكن قوله: كان فيما أخذ عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقتضي أنه عمرو بن حزم؛ لأنه الذي كتب له الكتاب.
طريق آخر أخرجه البيهقي في "الخلافيات" من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده، «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب في عهده: ولا يمس القرآن إلا طاهر (1) » انتهى.
قلت: لم أجده عند عبد الرزاق في "مصنفه" وفي "تفسيره" إلا مرسلا، فرواه في "مصنفه" في "باب الحيض": أخبرنا معمر، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه قال: كان في كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحديث ورواه في "تفسيره" في سورة الواقعة أخبرنا معمر، عن عبد الله ومحمد ابني أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن أبيهما، «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب لهم كتابا فيه: ولا يمس القرآن إلا طاهر (2) » انتهى. ومن طريق عبد الرزاق رواه الدارقطني ثم البيهقي في "سننهما" هكذا مرسلا. قال الدارقطني: هذا مرسل ورواته ثقات. انتهى.
طريق آخر، رواه البيهقي في "الخلافيات" أيضا من حديث إسماعيل بن أبي أويس، حدثني أبي، عن عبد الله ومحمد ابني أبي بكر يخبرانه، عن أبيهما، عن جدهما، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه كتب هذا الكتاب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، وأبو أويس صدوق، أخرج له مسلم في "المتابعات"، وقد روى هذا الحديث من طرق أخرى مرسلة، وسيأتي في "الزكاة" وفي "الديات" بعض ذلك إن شاء الله تعالى، قال السهيلي في "الروض الأنف" (3) : حديث: «لا يمس القرآن إلا طاهر (4) » مرسل لا يقوم به الحجة، وقد أسنده الدارقطني من طرق أقواها رواية أبي داود الطيالسي، عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده. انتهى.
__________
(1) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .
(2) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .
(3) في ''فصل تطهير عمر ليمس القرآن ''.
(4) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .(13/31)
وأما حديث ابن عمر، فرواه الطبراني في "معجمه" والدارقطني (1) ثم البيهقي من جهته في "سننهما"، من حديث ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن الزهري، قال: سمعت سالما يحدث عن أبيه قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا يمس القرآن إلا طاهر (2) » ، انتهى.
وسليمان بن موسى الأشدق مختلف فيه، فوثقه بعضهم، وقال البخاري: عنده مناكير، وقال النسائي: ليس بالقوي، وأما حديث حكيم بن حزام، فرواه الحاكم في "المستدرك" في "كتاب الفضائل" من حديث سويد بن أبي حاتم ثنا: مطر الوراق، عن حسان بن بلال، عن حكيم بن حزام قال: لما بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن، قال: «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» ، انتهى. قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، رواه الطبراني، والدارقطني ثم البيهقي في "سننهما".
وأما حديث عثمان بن أبي العاص، فرواه الطبراني في "معجمه ": حدثنا أحمد بن عمرو الخلال المكي، ثنا: يعقوب بن حميد، ثنا: هشام بن سليمان، عن إسماعيل بن رافع، عن محمد بن سعيد، عن عبد الملك، عن المغيرة بن شعبة، عن عثمان بن أبي العاص، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يمس القرآن إلا طاهر (3) » . انتهى.
وأما حديث ثوبان فلم أجده موصولا، ولكن قال ابن القطان في كتابه "الوهم والإيهام": وروى علي بن عبد العزيز في "منتخبه" حدثنا: إسحاق بن إسماعيل ثنا: مسعدة البصري، عن خصيب بن جحدر، عن النضر بن شفي، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان قال: قال رسول -صلى الله عليه وسلم-: «لا يمس القرآن إلا طاهر، والعمرة هي الحج الأصغر (4) » انتهى. قال ابن القطان: وإسناده في غاية الضعف، أما النضر بن شفي فلم أجد له ذكرا في شيء من مظانه، فهو مجهول جدا، وأما الخصيب بن جحدر فقد رماه ابن معين بالكذب، وأما مسعدة البصري فهو" ابن اليسع " تركه أحمد بن حنبل، وخرق حديثه، ووصفه أبو حاتم بالكذب، وأما إسحاق بن إسماعيل فهو " ابن عبد الأعلى " يروي عن ابن عيينة وجرير وغيرهما، وهو شيخ
__________
(1) ص 45، والبيهقي: ص 88.
(2) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .
(3) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .
(4) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .(13/32)
لأبي داود، وأبو داود إنما يروي عن ثقة عنده، انتهى كلامه.
وفي الباب أثران جيدان: أحدهما: أخرجه الدارقطني (1) عن إسحاق الأزرق، ثنا القاسم بن عثمان البصري، عن أنس بن مالك، قال: خرج عمر متقلدا بالسيف، فقيل له: إن ختنك وأختك قد صبوا، فأتاهما عمر، وعندهما رجل من المهاجرين، يقال له: خباب، وكانوا يقرءون (طه) فقال: أعطوني الذي عندكم، فأقرأه -وكان عمر يقرأ الكتب- فقالت له أخته: إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون فقم فاغتسل أو توضأ، فقام عمر فتوضأ، ثم أخذ الكتاب فقرأ (طه) انتهى. ورواه أبو يعلى الموصلي في "مسنده" مطولا، قال الدارقطني: تفرد به القاسم بن عثمان، وليس بالقوي، وقال البخاري: له أحاديث لا يتابع عليها. الثاني: أخرجه الدارقطني أيضا عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: كنا مع سلمان، فخرج فقضى حاجته، ثم جاء فقلت: يا أبا عبد الله لو توضأت لعلنا نسألك عن آيات، قال: إني لست أمسه، إنه لا يمسه إلا المطهرون، فقرأ علينا ما شئنا، انتهى. وصححه الدارقطني " (2) .
__________
(1) في سننه ص 45 وص 46، والبيهقي كلاهما في ص 88، والثاني من طريق الدارقطني أيضا.
(2) نصب الراية 1 \ 196- 199.(13/33)
ب- وقال ابن حجر:
" حديث: «لا يمس القرآن إلا طاهر (1) » أبو داود في المراسيل والنسائي من حديث عمرو ابن حزم، في أثناء حديثه الطويل.
__________
(1) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .(13/33)
وأخرجه الدارقطني (1) من طريق أبي ثور عن مبشر بن إسماعيل، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن جده، قال: «كان فيما أخذ عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن لا يمس القرآن إلا طاهر (2) » تفرد به أبو ثور، وقال: الصواب ليس فيه: عن جده. ثم أخرجه من طريق إسحاق بن الصباغ عن مالك كذلك. وأخرجه عبد الرزاق والدارقطني والبيهقي من طريقه، عن معمر، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، ليس فيه: عن جده. وقد أخرجه الطيالسي من طريق أبي بكر بن محمد، عن أبيه، عن جده نحوه.
وفي الباب: عن ابن عمر أخرجه الطبراني والبيهقي. وعن حكيم بن حزام أخرجه الحاكم والطبراني والدارقطني. وعن عثمان (3) بن أبي العاص، أخرجه الطبراني. وعن ثوبان رفعه: «لا يمس القرآن إلا طاهر، والعمرة هي الحج الأصغر (4) » أخرجه علي بن عبد العزيز في منتخب المسند، وإسناده ضعيف. وعن أخت عمر أنها قالت له عند إسلامه: إنك رجس ولا يمسه إلا المطهرون. أخرجه أبو يعلى والطبراني.
وعن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان، أنه قضى حاجته فخرج ثم جاء، فقلت: لو توضأت لعلنا نسألك عن آيات؟ قال: إني لست أمسه، لا يمسه إلا المطهرون، فقرأ علينا ما شئنا، أخرجه الدارقطني وصححه (5) .
__________
(1) رواه الدارقطني في ''غرائب مالك''.
(2) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .
(3) وفيه إسماعيل بن رافع، ضعفه النسائي وابن معين، وقال البخاري: ثقة مقارب الحديث.
(4) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .
(5) الدراية 1 \ 86.(13/34)
ج- وقال ابن حجر أيضا: " حديث: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لحكيم بن حزام: لا يمس المصحف إلا طاهر، الدارقطني والحاكم في المعرفة من مستدركه، والبيهقي في الخلافيات، والطبراني من حديث حكيم قال: لما بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن: قال: «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» ، وفي إسناده سويد أبو حاتم، وهو ضعيف، وذكر الطبراني في الأوسط: أنه تفرد به، وحسن الحازمي إسناده، واعترض النووي على صاحب المهذب في إيراده له عن حكيم بن حزام بما حاصله أنه تبع في ذلك الشيخ أبا حامد، يعني في قوله: عن حكيم بن حزام، قال: والمعروف في كتب الحديث أنه عن عمرو بن حزم، قلت: حديث عمرو بن حزم أشهر، وهو في الكتاب الطويل، كما سيأتي الكلام عليه في الديات إن شاء الله تعالى.
ثم إن الشيخ محي الدين في الخلاصة ضعف حديث حكيم بن حزام وحديث عمرو بن حزم جميعا، فهذا يدل على أنه وقف على حديث حكيم بعد ذلك، والله أعلم.
وفي الباب عن ابن عمر رواه الدارقطني وإسناده لا بأس به، ذكر الأثرم أن أحمد احتج به، وعن عثمان بن أبي العاص، رواه الطبراني وابن أبي داود في المصاحف، وفي إسناده انقطاع، وفي رواية الطبراني من لا يعرف. وعن ثوبان، أورده علي بن عبد العزيز في منتخب مسنده، وفي إسناده خصيب بن جحدر، وهو متروك، وروى الدارقطني في قصة إسلام عمر أن أخته قالت له قبل أن يسلم: إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون. وفي إسناده مقال. وفيه عن سلمان موقوفا، أخرجه الدارقطني والحاكم.
قوله: ويروى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يحمل المصحف ولا يمسه إلا طاهر (1) » هذا اللفظ لا يعرف في شيء من كتب الحديث، ولا يوجد ذكر حمل المصحف في شيء من الروايات، وأما المس ففيه الأحاديث الماضية.
__________
(1) سنن الدارمي الطلاق (2266) .(13/35)
حديث: أنه -صلى الله عليه وسلم- كتب كتابا إلى هرقل، وكان فيه: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (1) الآية، متفق عليه من حديث ابن عباس عن أبي سفيان صخر بن حرب في حديث طويل (2) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 64
(2) التلخيص الحبير 1 \ 131- 132.(13/36)
د- وجاء في بلوغ المرام:
وعن عبد الله بن أبي بكر، أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن حزم: «أن لا يمس القرآن إلا طاهر (1) » رواه مالك مرسلا، ووصله النسائي وابن حبان وهو معلول.
هـ- وقال الصفافي:
" وإنما قال في المصنف: إن هذا الحديث معلول؛ لأنه من رواية سليمان بن داود وهو متفق على تركه، كما قال ابن حزم ووهم في ذلك، فإنه ظن أنه سليمان بن داود اليماني، وليس كذلك بل هو سليمان بن داود الخولاني، وهو ثقة، أثنى عليه أبو زرعة وأبو حاتم وعثمان بن سعيد وجماعة من الحفاظ، واليماني هو المتفق على ضعفه، وكتاب عمرو بن حزم تلقاه الناس بالقبول. قال ابن عبد البر: إنه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول. وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم كتابا أصح من هذا الكتاب، فإن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم. وقال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز وإمام عصره الزهري بالصحة لهذا الكتاب. وفي الباب من حديث حكيم بن حزام: «لا يمس القرآن إلا طاهر (2) » ، وإن كان في إسناده مقال إلا أنه ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد من حديث عبد الله بن عمر أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يمس القرآن إلا طاهر (3) » قال الهيثمي: رجاله موثقون. وذكر له شاهدين، ولكنه يبقى النظر في المراد من الطاهر فإنه لفظ مشترك يطلق على الطاهر من الحدث الأكبر والطاهر من الحدث الأصغر، ويطلق على المؤمن وعلى من ليس على بدنه
__________
(1) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .
(2) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .
(3) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .(13/36)
نجاسة، ولا بد لحمله على معين من قرينة، وأما قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (1) فالأوضح أن الضمير للكتاب المكنون الذي سبق ذكره في صدر الآية، وأن المطهرون هم الملائكة " (2) .
ووجاء في المنتقى للمجد:
" وعن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى أهل اليمن كتابا وكان فيه: «لا يمس القرآن إلا طاهر (3) » ، رواه الأثرم والدارقطني، وهو لمالك في الموطأ مرسلا عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: «إن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعمرو بن حزم أن لا يمس القرآن إلا طاهر (4) » ، وقال الأثرم: واحتج أبو عبد الله -يعني أحمد - بحديث ابن عمر: «ولا يمس المصحف إلا على طهارة» .
ز- وقال الشوكاني:
"والحديث أخرجه الحاكم في المستدرك، والبيهقي في الخلافيات، والطبراني، وفي إسناده سويد بن أبي حاتم وهو ضعيف. وذكر الطبراني في الأوسط أنه تفرد به وحسن الحازمي إسناده، وقد ضعف النووي وابن كثير في إرشاده وابن حزم حديث حكيم بن حزام وحديث عمرو بن حزم جميعا. وفي الباب عن ابن عمر عند الدارقطني والطبراني، قال الحافظ: وإسناده لا بأس به، لكن فيه سليمان الأشدق وهو مختلف فيه، رواه عن سالم، عن أبيه ابن عمر قال الحافظ: ذكر الأثرم أن أحمد احتج به. وفي الباب أيضا عن عثمان بن أبي العاص عند الطبراني وابن أبي داود في المصاحف وفي إسناده انقطاع، وفي رواية الطبراني من لا يعرف. وعن ثوبان أورده علي بن عبد العزيز في منتخب مسنده، وفي إسناده حصيب بن جحدر وهو متروك. وروى الدارقطني في قصة إسلام عمر أن أخته قالت له قبل أن يسلم: إنه رجس ولا يمسه إلا المطهرون. قال الحافظ: وفي إسناده مقال. وفيه عن سلمان موقوفا أخرجه
__________
(1) سورة الواقعة الآية 79
(2) سبل السلام (1 \ 70) .
(3) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .
(4) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .(13/37)
الدارقطني والحاكم، وكتاب عمرو بن حزم تلقاه الناس بالقبول. قال ابن عبد البر إنه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول.
وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم كتابا أصح من هذا الكتاب فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم. وقال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز والزهري لهذا الكتاب بالصحة. . والحديث يدل على أنه لا يجوز مس المصحف إلا لمن كان طاهرا، ولكن الطاهر يطلق بالاشتراك على المؤمن والطاهر من الحدث الأكبر والأصغر ومن ليس على بدنه نجاسة، ويدل لإطلاقه على الأول قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (1) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم- لأبي هريرة: «المؤمن لا ينجس (2) » ، وعلى الثاني {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (3) ، وعلى الثالث قوله صلى الله عليه وآله وسلم في المسح على الخفين: «دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين (4) » وعلى الرابع الإجماع على أن الشيء الذي ليس عليه نجاسة حسية ولا حكمية يسمى طاهرا، وقد ورد إطلاق ذلك في كثير، فمن أجاز حمل المشترك على جميع معانيه حمله عليها هنا.
والمسألة مدونة في الأصول، وفيها مذاهب، والذي يترجح أن المشترك مجمل فيها فلا يعمل به حتى يبين، وقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز للمحدث حدثا أكبر أن يمس المصحف وخالف في ذلك داود.
استدل المانعون للجنب بقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (5) وهو لا يتم إلا بعد جعل الضمير راجعا إلى القرآن، والظاهر رجوعه إلى الكتاب وهو اللوح المحفوظ؛ لأنه الأقرب، والمطهرون الملائكة، ولو سلم عدم الظهور فلا أقل من الاحتمال، فيمتنع العمل بأحد الأمرين، ويتوجه الرجوع إلى البراءة الأصلية، ولو سلم رجوعه إلى القرآن على التعيين لكانت دلالته على المطلوب وهو منع الجنب من مسه غير مسلمة؛ لأن المطهر من ليس بنجس، والمؤمن ليس بنجس دائما لحديث: «المؤمن لا ينجس (6) » ، وهو متفق عليه، فلا يصح حمل المطهر على من ليس بجنب أو
__________
(1) سورة التوبة الآية 28
(2) رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي.
(3) سورة المائدة الآية 6
(4) رواه البخاري في باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان في المسح على الخفين، ورواه مسلم في المسح على الرأس والخفين، ورواه غيرهما.
(5) سورة الواقعة الآية 79
(6) صحيح البخاري الغسل (285) ، صحيح مسلم الحيض (371) ، سنن الترمذي الطهارة (121) ، سنن النسائي الطهارة (269) ، سنن أبو داود الطهارة (231) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (534) ، مسند أحمد بن حنبل (2/235) .(13/38)
حائض أو محدث أو متنجس بنجاسة عينية، بل يتعين حمله على من ليس بمشرك كما هو في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (1) لهذا الحديث ولحديث النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو، ولو سلم صدق اسم الطاهر على من ليس بمحدث حدثا أكبر أو أصغر فقد عرفت أن الراجح كون المشترك مجملا في معانيه، فلا يعين حتى يبين.
وقد دل الدليل هاهنا أن المراد به غيره لحديث: «المؤمن لا ينجس (2) » ، ولو سلم عدم وجود دليل يمنع مكان إرادته لكان تعيينه لمحل النزاع ترجيحا بلا مرجح، وتعيينه لجميعها استعمالا للمشترك في جميع معانيه، وفيه الخلاف، ولو سلم رجحان القول بجواز الاستعمال للمشترك في جميع معانيه لما صح لوجود المانع وهو حديث: «المؤمن لا ينجس (3) » ، واستدلوا أيضا بحديث الباب، وأجيب بأنه غير صالح للاحتجاج؛ لأنه من صحيفة غير مسموعة، وفي رجال إسناده خلاف شديد، ولو سلم صلاحيته للاحتجاج لعاد البحث السابق في لفظ طاهر، وقد عرفته.
قال السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير: إن إطلاق اسم النجس على المؤمن الذي ليس بطاهر من الجنابة أو الحيض أو الحدث الأصغر لا يصح لا حقيقة ولا مجازا ولا لغة. صرح بذلك في جواب سؤال ورد عليه فإن ثبت هذا فالمؤمن طاهر دائما، فلا يتناوله الحديث سواء كان جنبا أو حائضا أو محدثا أو على بدنه نجاسة، فإن قلت: إذا تم ما تريد من حمل الطاهر على من ليس بمشرك، فما جوابك فيما ثبت في المتفق عليه من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلى هرقل عظيم الروم: أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ} (4) إلى قوله: {مُسْلِمُونَ} (5) مع كونهم جامعين بين نجاستي الشرك والاجتناب ووقوع اللمس منهم له معلوم؟ قلت: أجعله خاصا بمثل الآية والآيتين فإنه يجوز تمكين المشرك من مس ذلك المقدار، كدعائه إلى الإسلام، ويمكن أن يجاب عن ذلك بأنه قد صار باختلاطه بغيره لا يحرم لمسه ككتب التفسير، فلا تخصص به الآية والحديث.
إذا تقرر لك هذا عرفت عدم انتهاض الدليل على منع من عدا المشرك، وقد عرفت الخلاف في الجنب: وأما المحدث حدثا أصغر فذهب ابن عباس والشعبي والضحاك وزيد بن علي والمؤيد بالله
__________
(1) سورة التوبة الآية 28
(2) صحيح البخاري الغسل (285) ، صحيح مسلم الحيض (371) ، سنن الترمذي الطهارة (121) ، سنن النسائي الطهارة (269) ، سنن أبو داود الطهارة (231) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (534) ، مسند أحمد بن حنبل (2/235) .
(3) صحيح البخاري الغسل (285) ، صحيح مسلم الحيض (371) ، سنن الترمذي الطهارة (121) ، سنن النسائي الطهارة (269) ، سنن أبو داود الطهارة (231) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (534) ، مسند أحمد بن حنبل (2/235) .
(4) سورة آل عمران الآية 64
(5) سورة آل عمران الآية 64(13/39)
والهادوية وقاضي القضاة وداود إلى أنه يجوز له مس المصحف، وقال القاسم وأكثر الفقهاء والإمام يحيى: لا يجوز، واستدلوا بما سلف، وقد سلف ما فيه " (1) .
__________
(1) نيل الأوطار 1 \ 259- 261.(13/40)
3 - النقول عن الفقهاء
1 - قال النووي:
" يحرم على المحدث مس المصحف وحمله سواء إن حمله بعلاقته أو في كمه أو على رأسه، وحكى القاضي حسين والمتولي وجها أنه يجوز حمله بعلاقته، وهو شاذ في المذهب وضعيف.
قال أصحابنا: وسواء مس نفس الأسطر أو ما بينهما أو الحواشي أو الجلد فكل ذلك حرام، وفي مس الجلد وجه ضعيف أنه يجوز، وحكى الدارمي وجها شاذا بعيدا أنه لا يحرم مس الجلد ولا الحواشي، ولا ما بين الأسطر ولا يحرم إلا نفس المكتوب، والصحيح الذي قطع به الجمهور تحريم الجميع.
وفي مس العلاقة والخريطة والصندوق إذا كان المصحف فيها وجهان مشهوران أصحهما: يحرم، وبه قطع المتولي والبغوي؛ لأنه متخذ للمصحف منسوب إليه كالجلد، والثاني: يجوز، واختاره الروياني في مس الصندوق. وأما حمل الصندوق وفيه المصحف فاتفقوا على تحريمه.
قال أبو محمد الجويني في الفروق: وكذا يحرم تحريكه من مكان إلى مكان، وأما إذا تصفح أوراقه بعود ففيه وجهان مشهوران في كتب الخراسانيين أصحهما وبه قطع المصنف وسائر العراقيين: يجوز، لأنه غير مباشر له ولا حامل. والثاني: لا يجوز ورجحه الخراسانيون؛ لأنه حمل الورقة وهي بعض المصحف.
ولو لف كمه على يده وقلب الأوراق بها فهو حرام، هكذا صرح به الجمهور منهم الماوردي المحاملي في المجموع، وإمام الحرمين والغزالي والروياني وغيرهم،(13/40)
وفرقوا بينه وبين العود بأن الكم متصل به وله حكم أجزائه في منع السجود عليه وغيره بخلاف العود، قال إمام الحرمين: ولأن التقليب يقع باليد لا بالكم، قال ومن ذكر فيه خلافا فهو غالط، وشذ الدارمي عن الأصحاب فقال: إن مسه بخرقة أو بكمه فوجهان، وإن مسه بعود جاز.
وأما إذا حمل المصحف في متاع فوجهان حكاهما الماوردي والخراسانيون أصحهما وبه قطع المصنف والجمهور، ونقله الماوردي والبغوي عن نص الشافعي: يجوز لأنه غير مقصود.
والثاني: يحرم؛ لأنه حامله حقيقة ولا أثر لكون غيره معه، كما لو حمل المصلي متاعا فيه نجاسة فإن صلاته تبطل.
قال الماوردي: وصورة المسألة أن يكون المتاع مقصودا بالحمل، فإن كان بخلافه لم يجز، وإنما قاس المصنف على ما إذا كتب كتابا إلى دار الشرك فيه آيات؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى دار الشرك كتابا فيه شيء من القرآن مع نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن المسافرة بالقرآن إلى دار الكفر، فدل على أن الآيات في ضمن كتاب لا يكون لها حكم المصحف، والله سبحانه أعلم " (1) .
ب- وقال النووي أيضا:
"الثانية: كتاب تفسير القرآن: إن كان القرآن فيه أكثر، كبعض كتب غريب القرآن حرم مسه وحمله وجها واحدا، كذا ذكره الماوردي وغيره، ونقله الروياني عن الأصحاب، وإن كان التفسير أكثر كما هو الغالب ففيه أوجه أصحها: لا يحرم؛ لأنه ليس بمصحف، وبهذا قطع الدارمي وغيره.
والثاني: يحرم لتضمينه قرآنا كثيرا.
والثالث: إن كان القرآن متميزا عن التفسير بخط غليظ حمرة أو صفرة ونحو ذلك حرم وإلا فلا، وبه قطع القاضي حسين وصاحباه المتولي والبغوي، وضعفه غيرهم، قال المتولي: وإذا لم يحرم كره.
وأما كتب القراءات فجعلها الشيخ نصر المقدسي ككتب الفقه وقطع هو بجوازها.
__________
(1) المجموع شرح المهذب 2 \ 73.(13/41)
وأما كتب حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأطلق الماوردي والقاضي حسين والبغوي وغيرهم جواز مسها وحملها مع الحديث، وقال المتولي والروياني يكره، والمختار ما قاله آخرون: إنه إن لم يكن فيها شيء من القرآن جاز، والأولى أن لا يفعل إلا بطهارة، وإن كان فيها قرآن فعلى وجهين في كتب الفقه" (1) .
وقال أيضا: " الخامسة:
إذا كتب القرآن في لوح فله حكم المصحف فيحرم مسه وحمله على البالغ المحدث، هذا هو المذهب الصحيح، وبه قطع الأكثرون، وفيه وجه مشهور أنه لا يحرم؛ لأنه لا يراد الدوام بخلاف المصحف فعلى هذا يكره، قاله في التتمة، ولا فرق بين أن يكون المكتوب قليلا أو كثيرا فيحرم على الصحيح، قال إمام الحرمين: لو كان على اللوح آية أو بعض آية كتب للدراسة حرم مسه وحمله" (2) .
وقال أيضا: " الثامنة: لو خاف المحدث على المصحف من حرق أو غرق أو وقوع نجاسة عليه أو وقوعه بيد كافر جاز أخذه مع الحدث، صرح به الدارمي وغيره، بل يجب ذلك صيانة للمصحف، ولو لم يجد من يودعه المصحف وعجز عن الوضوء فله حمله مع الحدث.
قال القاضي أبو الطيب: ولا يلزمه التيمم له؛ لأنه لا يرفع الحدث، وفيما قاله نظر. وينبغي أن يجب التيمم؛ لأنه وإن لم يرفع الحدث فيبيح الصلاة ومس المصحف وحمله" (3) .
جـ - وقال أيضا:
" (فرع) في مذاهب العلماء في مس المصحف وحمله، ومذهبنا تحريمهما، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد وجمهور العلماء، وعن الحكم وحماد وداود: يجوز مسه
__________
(1) المجموع شرح المهذب 2 \ 76.
(2) المجموع شرح المهذب 2 \ 77.
(3) المجموع شرح المهذب 2 \ 77.(13/42)
وحمله، وروي عن الحكم وحماد جواز مسه بظهر الكف دون بطنه، واحتجوا بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى هرقل كتابا فيه قرآن، وهرقل محدث يمسه وأصحابه؛ ولأن الصبيان يحملون الألواح محدثين بلا إنكار، ولأنه إذا لم تحرم القراءة فالمس أولى، وقاسوا حمله على حمله في متاع، واحتج أصحابنا بقول الله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (1) {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} (2) {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (3) {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (4) ، فوصفه بالتنزيل وهذا ظاهر في المصحف الذي عندنا، فإن قالوا: المراد اللوح المحفوظ لا يمسه إلا الملائكة المطهرون؛ ولهذا قال: "يمسه" بضم السين على الخبر، ولو كان المصحف لقال: يمسه بفتح السين على النهي، - فالجواب أن قوله تعالى ما له تنزيل ظاهر في إرادة المصحف فلا يحمل على غيره إلا بدليل صحيح صريح، وأما رفع السين فهو نهي بلفظ الخبر، كقوله: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} (5) على قراءة من رفع، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يبيع بعضكم على بيع أخيه (6) » بإثبات الياء، ونظائره كثيرة مشهورة، وهو معروف في العربية، فإن قالوا: لو أريد ما قلتم لقال: لا يمسه إلا المتطهرون، فالجواب أنه يقال في المتوضئ مطهر ومتطهر، واستدل أصحابنا بالحديث المذكور، وبأنه قول علي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر رضي الله عنهم، ولم يعرف لهم مخالف في الصحابة.
والجواب عن قصة هرقل أن ذلك الكتاب فيه آية ولا يسمى مصحفا، وأبيح حمل الصبيان الألواح للضرورة، وأبيحت القراءة للحاجة وعسر الوضوء لها كل وقت، وحمله في المتاع؛ لأنه غير مقصود، وبالله التوفيق" (7) .
د- وجاء في مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية:
" وسئل. . عن رجل يقرأ القرآن وليس له على الوضوء قدرة في كل وقت، فهل له أن يكتب في اللوح ويقرؤه إن كان على وضوء وغير وضوء أم لا؟ وقد ذكر بعض المالكية أن
__________
(1) سورة الواقعة الآية 77
(2) سورة الواقعة الآية 78
(3) سورة الواقعة الآية 79
(4) سورة الواقعة الآية 80
(5) سورة البقرة الآية 233
(6) رواه البخاري في كتاب البيوع، باب لا يبيع على بيع أخيه.
(7) المجموع شرح المهذب 2 \ 79.(13/43)
معنى قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (1) تطهير القلب، وأن المسلم لا ينجس، وقال بعض الشافعية: لا يجوز له أن يمس اللوح، أو المصحف على غير وضوء أبدا، فهل بين الأئمة خلاف في هذا أم لا؟
فأجاب: الحمد لله، إذا قرأ في المصحف أو اللوح، ولم يمسه جاز ذلك، وإن كان على غير طهور، ويجوز له أن يكتب في اللوح وهو على غير وضوء والله أعلم.
وسئل. . هل يجوز مس المصحف بغير وضوء أم لا؟
فأجاب: مذهب الأئمة الأربعة أنه لا يمس المصحف إلا طاهر، كما قال في الكتاب الذي كتبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن حزم: «أن لا يمس القرآن إلا طاهر (2) » ، قال الإمام أحمد: لا شك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتبه له، وهو أيضا قول سلمان الفارسي وعبد الله بن عمر، وغيرهما، ولا يعلم لهما من الصحابة مخالف.
وسئل. . عن الإنسان إذا كان على غير طهر، وحمل المصحف بأكمامه ليقرأ به، ويرفعه من مكان إلى مكان، هل يكره ذلك؟
فأجاب: وأما إذا حمل الإنسان المصحف بكمه فلا بأس، ولكن لا يمسه بيديه.
وسئل. . عمن معه مصحف، وهو على غير طهارة، كيف يحمله؟
فأجاب: ومن كان معه مصحف فله أن يحمله بين قماشه، وفي خرجه وحمله، سواء كان ذلك القماش لرجل أو امرأة أو صبي، وإن كان القماش فوقه أو تحته" (3) .
__________
(1) سورة الواقعة الآية 79
(2) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 21 \ 265- 267.(13/44)
هـ- وقال أيضا:
" وأما مس المصحف: فالصحيح أنه يجب له الوضوء، كقول الجمهور، وهذا هو المعروف عن الصحابة: سعد، وسلمان، وابن عمر. وفي كتاب عمرو بن حزم عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا يمس القرآن إلا طاهر (1) » . وذلك «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يسافر القرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم (2) » ، وقد أقر المشركين على السجود لله، ولم ينكره عليهم، فإن السجود لله خضوع: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} (3) .
وأما كلامه فله حرمة عظيمة، ولهذا ينهى أن يقرأ القرآن في حالة الركوع والسجود، فإذا نهى أن يقرأ في السجود لم يجز أن يجعل المصحف مثل السجود، وحرمة المصحف أعظم من حرمة المسجد، والمسجد يجوز أن يدخله المحدث، ويدخله الكافر للحاجة، وقد كان الكفار يدخلونه، واختلف في نسخ ذلك، بخلاف المصحف فلا يلزم إذا جاز الطواف مع الحدث أن يجوز للمحدث مس المصحف؛ لأن حرمة المصحف أعظم، وعلى هذا فما روي عن عثمان وسعيد من أن الحائض تومئ بالسجود هو لأن حدث الحائض أغلظ، والركوع هو سجود خفيف. كما قال تعالى: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} (4) قالوا: ركعا: فرخص لها في دون كمال السجود " (5) .
__________
(1) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(3) سورة الرعد الآية 15
(4) سورة النساء الآية 154
(5) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 21 \ 288.(13/45)
ثالثا: ما جاء في النهي عن قراءة الجنب والحائض القرآن
اختلف أهل العلم في ذلك، وفيما يلي نقول توضح أقوالهم وأدلتهم ومناقشتها.
1 - النقول عن المحدثين:
أ- قال البخاري:
"باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت. وقال إبراهيم: لا بأس أن تقرأ الآية، ولم ير ابن عباس بالقراءة للجنب بأسا، «وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يذكر الله على كل(13/45)
أحيانه (1) » . وقالت أم عطية: «كنا نؤمر أن يخرج الحيض فيكبرن وبتكبيرهم ويدعون (2) » . . وقال ابن عباس: أخبرني أبو سفيان أن هرقل دعا بكتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقرأ فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ} (3) الآية. وقال عطاء عن جابر: حاضت عائشة فنسكت المناسك غير الطواف بالبيت ولا تصلي. وقال الحكم: إني لأذبح وأنا جنب، وقال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (4) .
حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: «خرجنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- لا نذكر إلا الحج، فلما جئنا سرف طمثت فدخل علي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك؟ قلت: لوددت والله أني لم أحج العام. قال: لعلك نفست؟ قلت: نعم. قال: فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري (5) » .
ب- وقال ابن حجر:
"قوله: (باب تقضي الحائض) أي تؤدي (المناسك كلها إلا الطواف بالبيت) ، قيل: مقصود البخاري بما ذكر في هذا الباب من الأحاديث والآثار أن الحيض وما في معناه من الجنابة لا ينافي جميع العبادات، بل صحت معه عبادات بدنية من أذكار وغيرها، فمناسك الحج من جملة ما لا ينافيها، إلا الطواف فقط. وفي كون هذا مراده نظر؛ لأن كون مناسك الحج كذلك حاصل بالنص فلا يحتاج إلى الاستدلال عليه، والأحسن ما قاله ابن رشيد تبعا لابن بطال وغيره أن مراده الاستدلال على جواز قراءة الحائض والجنب بحديث عائشة رضي الله عنها؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يستثن من جميع مناسك الحج إلا الطواف، وإنما استثناه لكونه صلاة مخصوصة، وأعمال الحج مشتملة على ذكر وتلبية ودعاء، ولم تمنع الحائض من شيء من ذلك، فكذلك الجنب؛ لأن حدثها أغلظ من حدثه، ومنع القراءة إن كان لكونه ذكر الله فلا فرق بينه وبين ما ذكر، وإن كان تعبدا فيحتاج إلى دليل خاص، ولم يصح عند المصنف شيء من الأحاديث الواردة في ذلك، وإن كان مجموع ما ورد في ذلك تقوم به الحجة عند غيره، لكن أكثرها قابل للتأويل كما سنشير إليه، ولهذا تمسك البخاري ومن قال بالجواز
__________
(1) صحيح مسلم الحيض (373) ، سنن الترمذي الدعوات (3384) ، سنن أبو داود الطهارة (18) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (302) ، مسند أحمد بن حنبل (6/278) .
(2) صحيح البخاري الحج (1652) ، صحيح مسلم صلاة العيدين (890) ، سنن الترمذي الجمعة (539) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1558) ، سنن أبو داود الصلاة (1139) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1308) ، مسند أحمد بن حنبل (5/84) ، سنن الدارمي الصلاة (1609) .
(3) سورة آل عمران الآية 64
(4) سورة الأنعام الآية 121
(5) صحيح البخاري الحيض (305) ، صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود المناسك (1782) ، سنن ابن ماجه المناسك (2963) ، مسند أحمد بن حنبل (6/273) .(13/46)
غيره كالطبري وابن المنذر وداود بعموم حديث: «كان يذكر الله على كل أحيانه (1) » ؛ لأن الذكر أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره، وإنما فرق بين الذكر والتلاوة بالعرف.
والحديث المذكور وصله مسلم من حديث عائشة، وأورد المصنف أثر إبراهيم وهو النخعي إشعارا بأن منع الحائض من القراءة ليس مجمعا عليه، وقد وصله الدارمي وغيره بلفظ: «أربعة لا يقرءون القرآن: الجنب والحائض وعند الخلاء وفي الحمام إلا الآية ونحوها للجنب والحائض (2) » ، وروي عن مالك نحو قول إبراهيم، وروي عنه الجواز مطلقا، وروي عنه الجواز للحائض دون الجنب، وقد قيل: إنه قول الشافعي في القديم، ثم أورد أثر ابن عباس وقد وصله ابن المنذر بلفظ: أن ابن عباس كان يقرأ ورده وهو جنب.
وأما حديث أم عطية فوصله المؤلف في العيدين، وقوله فيه: (ويدعون) كذا لأكثر الرواة، وللكشميهني: يدعين، بياء تحتانية بدل الواو، ووجه الدلالة منه ما تقدم من أنه لا فرق بين التلاوة وغيرها، ثم أورد المصنف طرفا من حديث أبي سفيان في قصة هرقل، وهو موصول عنده في بدء الوحي وغيره، ووجه الدلالة منه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى الروم وهم كفار، والكافر جنب، كأنه يقول: إذا جاز مس الكتاب للجنب مع كونه مشتملا على آيتين، فكذلك يجوز له قراءته، كذا قاله ابن رشيد، وتوجيه الدلالة منه إنما هي من حيث إنه إنما كتب إليهم ليقرءوه، فاستلزم جواز القراءة بالنص لا بالاستنباط.
وقد أجيب عمن منع ذلك وهم الجمهور بأن الكتاب اشتمل على أشياء غير الآيتين، فأشبه ما لو ذكر بعض القرآن في كتاب في الفقه أو في التفسير فإنه لا يمنع قراءته ولا مسه عند الجمهور؛ لأنه لا يقصد منه التلاوة، ونص أحمد أنه يجوز مثل ذلك في المكاتبة لمصلحة التبليغ، وقال به كثير من الشافعية، ومنهم من خص الجواز بالقليل كالآية والآيتين.
قال الثوري: لا بأس أن يعلم الرجل النصراني الحرف من القرآن عسى الله أن يهديه، وأكره أن يعلمه الآية هو كالجنب، وعن أحمد أكره أن يضع القرآن في غير موضعه، وعنه إن رجا منه الهداية جاز وإلا فلا، وقال بعض من منع: لا دلالة في القصة على جواز تلاوة الجنب القرآن؛ لأن الجنب إنما منع التلاوة إذا قصدها وعرف أن الذي يقرأه قرآن، أما لو قرأ في ورقة ما لا يعلم أنه من القرآن فإنه لا يمنع، وكذلك الكافر، وسيأتي مزيد لهذا في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى.
تنبيه: ذكر صاحب المشارق أنه وقع في رواية القابسي والنسفي وعبدوس هنا: ويا أهل الكتاب بزيادة واو، قال: وسقطت لأبي ذر والأصيلي وهو الصواب. (قلت) : فأفهم
__________
(1) صحيح مسلم الحيض (373) ، سنن الترمذي الدعوات (3384) ، سنن أبو داود الطهارة (18) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (302) ، مسند أحمد بن حنبل (6/278) .
(2) سنن الدارمي الطهارة (993) .(13/47)
أن الأولى خطأ؛ لكونها مخالفة للتلاوة وليست خطأ، وقد تقدم توجيه إثبات الواو في بدء الوحي.
قوله: (وقال عطاء عن جابر) هو طرف من حديث موصول عند المصنف في كتاب الأحكام، وفي آخره: «غير أنها لا تطوف بالبيت ولا تصلي (1) » ، وأما أثر الحكم وهو الفقيه الكوفي فوصله البغوي في الجعديات من روايته عن علي بن الجعد عن شعبة عنه، ووجه الدلالة منه أن الذبح مستلزم لذكر الله بحكم الآية التي ساقها، وفي جميع ما استدل به نزاع يطول ذكره ولكن الظاهر من تصرفه ما ذكرناه، واستدل الجمهور على المنع بحديث علي «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يحجبه عن القرآن شيء ليس الجنابة (2) » ، رواه أصحاب السنن، وصححه الترمذي وابن حبان، وضعف بعضهم بعض رواته، والحق أنه من قبيل الحسن يصلح للحجة، لكن قيل: في الاستدلال به نظر؛ لأنه فعل مجرد، فلا يدل على تحريم ما عداه، وأجاب الطبري عنه بأنه محمول على الأكمل جمعا بين الأدلة، وأما حديث ابن عمر مرفوعا: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن (3) » فضعيف من جميع طرقه " (4) .
__________
(1) صحيح البخاري التمني (7230) .
(2) سنن الترمذي الطهارة (146) ، سنن النسائي الطهارة (265) ، سنن أبو داود الطهارة (229) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (594) ، مسند أحمد بن حنبل (1/107) .
(3) سنن الترمذي الطهارة (131) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (596) .
(4) فتح الباري 1 \ 323- 324.(13/48)
ج- قال الزيلعي:
"الحديث الرابع: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تقرأ الحائض والجنب شيئا من القرآن (1) » ، قلت: روي من حديث ابن عمر ومن حديث جابر، أما حديث ابن عمر فأخرجه الترمذي وابن ماجه عن إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن (2) » انتهى. قال الترمذي: لا نعلمه يروى عن ابن عمر إلا من هذا الوجه. انتهى، ورواه البيهقي في سننه (3) وقال: قال البخاري فيما بلغني عنه: إنما روى هذا إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة، ولا أعرفه من حديث غيره، وإسماعيل منكر الحديث عن أهل الحجاز وأهل العراق، ثم قال: وقد روى عن غيره: عن موسى بن عقبة، وليس بصحيح، انتهى. وقال في المعرفة: هذا
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (131) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (596) .
(2) سنن الترمذي الطهارة (131) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (596) .
(3) ص 89.(13/48)
حديث ينفرد به إسماعيل بن عياش، وروايته عن أهل الحجاز ضعيفة لا يحتج بها، قاله أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهما من الحفاظ. وقد روى هذا من غيره، وهو ضعيف، انتهى.
وقال ابن أبي حاتم في علله (1) : سمعت أبي وذكر حديث إسماعيل بن عياش هذا فقال: خطأ، إنما هو قول ابن عمر، انتهى. وقال ابن عدي في الكامل: هذا الحديث بهذا السند لا يرويه غير إسماعيل بن عياش، وضعفه أحمد والبخاري وغيرهما، وصوب أبو حاتم وقفه على ابن عمر. انتهى. وله طريقان آخران عند الدارقطني (2) ، أحدهما: عن المغيرة بن عبد الرحمن عن موسى بن عقبة به. والثاني: عن محمد بن إسماعيل الحساني عن رجل عن أبي معشر عن موسى بن عقبة به. وهذا مع أن فيه رجلا مجهولا، وأبو معشر رجل مستضعف إلا أنه يتابع عليه.
وأما حديث جابر فرواه الدارقطني في سننه في آخر الصلاة، من حديث محمد بن الفضل، عن أبيه، عن طاوس، عن جابر مرفوعا نحوه. ورواه ابن عدي في الكامل وأعله بمحمد بن الفضل، وأغلظ في تضعيفه عن البخاري والنسائي وأحمد وابن معين، ووافقهم حديث يمكن أن يستدل به الطحاوي في إباحة ما دون الآية للجنب، ورواه أحمد في مسنده (3) : حدثنا عائذ بن حبيب، حدثني عامر بن السبط، عن أبي العزيف الهمداني قال: «أتي علي بوضوء فمضمض واستنشق ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا، وغسل يديه. ثلاثا، وذارعيه ثلاثا، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه، ثم قال: "هكذا رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توضأ، ثم قرأ شيئا من القرآن، ثم قال: هذا لمن ليس بجنب، فأما الجنب فلا، ولا آية (5) » . انتهى.
ولكن الدارقطني رواه في سننه (6) موقوفا بغير هذا اللفظ، فأخرجه عن عامر بن السبط ثنا: أبو العريف الهمداني، قال: كنا مع علي رضي الله عنه في الرحبة، فخرج إلى أقصى الرحبة، فوالله ما أدري أبولا أحدث أم غائطا؟ ثم جاء فدعا بكوز من ماء
__________
(1) ص 49.
(2) ص 43.
(3) ص 110
(4) مسند أحمد بن حنبل (1/110) ، سنن الدارمي الطهارة (701) .
(5) في المسند، غسل يديه وذراعيه ثلاثا ثلاثا. (4)
(6) ص 44 والبيهقي ص 89، 90.(13/49)
فغسل كفيه، ثم قبضهما إليه، ثم قرأ صدرا من القرآن، ثم قال: اقرءوا القرآن ما لم يصب أحدكم جنابة، فإن أصابه فلا، ولا حرفا واحدا. انتهى.
قال الدارقطني: هو صحيح عن علي انتهى.
حديث آخر في منع القراءة للجنب، رواه أصحاب السنن الأربعة. من حديث عمر بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يحجبه -أو لا يحجزه- عن القرآن شيء ليس الجنابة (1) » ، انتهى. قال الترمذي: حديث حسن صحيح، ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك وصححه، قال: ولم يحتجا بعبد الله بن سلمة ومدار الحديث عليه، انتهى.
قال النووي في الخلاصة: قال الشافعي: أهل الحديث لا يثبتونه، قال البيهقي: لأن مداره على عبد الله بن سلمة -بكسر اللام- وكان قد كبر، وأنكر حديثه وعقله، وإنما روى- هذا بعد كبره قاله شعبة. انتهى كلامه " (2) .
د- وقال ابن حجر:
"حديث روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئا من القرآن (3) » الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر، وفي إسناده إسماعيل بن عياش، وروايته عن الحجازيين ضعيفة، وهذا منها، وذكر البزار أنه تفرد به عن موسى بن عقبة، وسبقه إلى نحو ذلك البخاري، وتبعهما البيهقي، لكن رواه الدارقطني من حديث المغيرة بن عبد الرحمن عن موسى، ومن وجه آخر فيه مبهم عن أبي معشر، وهو ضعيف عن موسى، وصحح ابن سيد الناس طريق المغيرة وأخطأ في ذلك، فإن فيها عبد الملك بن مسلمة وهو ضعيف، فلو سلم منه لصح إسناده، وإن كان ابن الجوزي ضعفه بمغيرة بن عبد الرحمن فلم يصب في ذلك،
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (146) ، سنن النسائي الطهارة (265) ، سنن أبو داود الطهارة (229) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (594) ، مسند أحمد بن حنبل (1/107) .
(2) نصب الراية.
(3) سنن الدارمي الطهارة (998) .(13/50)
فإن مغيرة ثقة، وأن سيد الناس تبع ابن عساكر في قوله في الأطراف: أن عبد الملك بن مسلمة هذا هو القعنبي، وليس كذلك، بل هو آخر. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: حديث إسماعيل بن عياش هذا خطأ، وإنما هو ابن عمر. قوله: عبد الله بن أحمد عن أبيه: هذا باطل، أنكر على إسماعيل، وله شاهد من جابر رواه الدارقطني مرفوعا، وفيه محمد بن الفضل وهو متروك وموقوفا، وفيه يحيى بن أبي أنيسة، وهو كذاب، وقال البيهقي: هذا الأثر ليس بالقوي، وصح عن عمر أنه كان يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب، وساقه عنه في الخلافيات: بإسناد صحيح" (1) .
هـ -وقال أيضا:
"حديث علي بن أبي طالب: «لم يكن يحجب النبي -صلى الله عليه وسلم- عن القرآن شيء سوى الجنابة (2) » وفي رواية: "يحجزه" أحمد وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبزار والدارقطني والبيهقي، من طريق شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي، وفي رواية للنسائي: عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، وألفاظهم مختلفة، وصححه الترمذي وابن السكن وعبد الحق والبغوي في السنة، وروى ابن خزيمة بإسناده عن شعبة قال: هذا الحديث ثلث رأس مالي. وقال الدارقطني: قال شعبة: ما أحدث بحديث أحسن منه. وقال البزار: لا يروي من حديث علي إلا عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عنه. وحكى الدارقطني في العلل أن بعضهم رواه عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن علي، وخطأ هذه الرواية، وقال الشافعي في سنن حرملة: إن كان هذا الحديث ففيه دلالة على تحريم القرآن على الجنب، وقال في جماع كتاب الطهور: أهل الحديث لا يثبتونه. قال البيهقي: إنما قال ذلك لأن عبد الله بن سلمة راويه كان قد تغير، وإنما روى هذا الحديث بعدما كبر، قاله شعبة، وقال الخطابي: كان أحمد يوهن هذا الحديث، وقال النووي في الخلاصة: خالف الترمذي الأكثرون، فضعفوا هذا الحديث. وتخصيصه الترمذي بذلك دليل على أنه لم ير تصحيحه
__________
(1) التلخيص الحبير 1 \ 138.
(2) سنن الترمذي الطهارة (146) ، سنن النسائي الطهارة (265) ، سنن أبو داود الطهارة (229) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (594) ، مسند أحمد بن حنبل (1/107) .(13/51)
لغيره، وقد قدمنا ذكر من صححه غير الترمذي، وروى الدارقطني عن علي موقوفا «اقرءوا القرآن ما لم تصب أحدكم جنابة، فإن أصابته فلا ولا حرفا (1) » ، وهذا يعضد حديث عبد الله بن سلمة، لكن قال ابن خزيمة: لا حجة في هذا الحديث لمن منع الجنب من القراءة؛ لأنه ليس فيه نهي، وإنما هي حكاية فعل، ولا يبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه إنما امتنع من ذلك لأجل الجنابة، وذكر البخاري عن ابن عباس، أنه لم ير بالقرآن للجنب بأسا، وذكر في الترجمة قالت عائشة: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يذكر الله على كل أحيانه (2) » .
__________
(1) لقد ورد النهي عن قراءة الجنب للقرآن في حديث مرفوع أخرجه أبو يعلى من حديث علي قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توضأ ثم قرأ شيئا من القرآن، ثم قال: هكذا لمن ليس بجنب، فأما الجنب فلا ولا آية. قال الهيثمي: رجاله موثوقون.
(2) التلخيص الحبير 1 \ 139.(13/52)
2 - النقول عن الفقهاء:
1 - قال النووي:
"فرع في مذاهب العلماء في قراءة الجنب والحائض، مذهبنا أنه يحرم على الجنب والحائض قراءة القرآن قليلها وكثيرها حتى بعض آية، وبهذا قال أكثر العلماء، هكذا حكاه الخطابي وغيره عن الأكثرين، وحكاه عن عمر بن الخطاب وعلي وجابر رضي الله عنهم والحسن والزهري والنخعي وقتادة وأحمد وإسحاق.
وقال داود: يجوز للجنب والحائض قراءة كل القرآن، وروى هذا عن ابن عباس وابن المسيب، قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما واختاره ابن المنذر، وقال مالك: يقرأ الجنب الآيات اليسيرة للتعوذ، وفي الحائض روايتان عنه أحدهما: تقرأه، والثاني: لا تقرأ، وقال أبو حنيفة: يقرأ الجنب بعض آية ولا يقرأ آية، وله رواية كمذهبنا.
واحتج من جوزه مطلقا بحديث عائشة رضي الله عنها «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يذكر الله تعالى على كل أحيانه (1) » ، رواه مسلم، قالوا: والقرآن ذكر، ولأن الأصل عدم التحريم.
__________
(1) صحيح مسلم الحيض (373) ، سنن الترمذي الدعوات (3384) ، سنن أبو داود الطهارة (18) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (302) ، مسند أحمد بن حنبل (6/70) .(13/52)
واحتج أصحابنا بحديث ابن عمر المذكور في الكتاب لكنه ضعيف كما سبق، وعن عبد الله بن سلمة - بكسر اللام - عن علي رضي الله عنه قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقضي حاجته فيقرأ القرآن ولم يكن يحجبه - وربما قال: يحجزه - عن القرآن شيء ليس الجنابة (1) » رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم.
قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال غيره من الحفاظ المحققين: هو حديث ضعيف. ورواه الشافعي في سنن حرملة ثم قال: إن كان ثابتا ففيه دلالة على تحريم القراءة على الجنب.
قال البيهقي: ورواه الشافعي في كتاب جماع الطهور وقال: وإن لم يكن أهل الحديث يثبتونه. قال البيهقي: وإنما توقف الشافعي في ثبوته؛ لأن مداره على عبد الله بن سلمة وكان قد كبر وأنكر من حديثه وعقله بعض النكرة، وإنما روى هذا الحديث بعدما كبر قاله شعبة. ثم روى البيهقي عن الأئمة تحقيق ما قال، ثم قال البيهقي: وصح عن عمر رضي الله عنه أنه كره القراءة للجنب. ثم رواه بإسناده عنه.
وروي عن علي: لا يقرأ الجنب القرآن ولا حرفا واحدا. وروى البيهقي عن عبد الله بن مالك الغافقي أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إذا توضأت وأنا جنب أكلت وشربت ولا أصلي ولا أقرأ حتى أغتسل» ، وإسناده أيضا ضعيف.
واحتج أصحابنا أيضا بقصة عبد الله بن رواحة رضي الله عنه المشهورة أن امرأته رأته يواقع جارية له، فذهبت فأخذت سكينا وجاءت تريد قتله، فأنكر أنه واقع الجارية وقال: أليس قد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجنب أن يقرأ القرآن؟ قالت: بلى. فأنشدها الأبيات المشهورة فتوهمتها قرآنا فكفت عنه، فأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك فضحك ولم ينكر عليه، والدلالة فيه من وجهين:
أحدهما: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينكر عليه قوله: حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القرآن.
والثاني: أن هذا كان مشهورا عندهم يعرفه رجالهم ونساؤهم، ولكن إسناد هذه القصة ضعيف ومنقطع. وأجاب أصحابنا عن احتجاج داود بحديث عائشة بأن المراد بالذكر غير القرآن؛ فإنه المفهوم عند الإطلاق، وأما المذاهب الباقية فقد سلموا تحريم القراءة في الجملة، ثم ادعوا تخصيصا لا مستند له.
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (146) ، سنن النسائي الطهارة (265) ، سنن أبو داود الطهارة (229) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (594) ، مسند أحمد بن حنبل (1/107) .(13/53)
فإن قالوا: جوزنا للحائض خوف النسيان، قلنا يحصل المقصود بتفكرها بقلبها" (1) .
ب- وقال الشيرازي:
"ويحرم قراءة القرآن لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئا من القرآن (2) » .
جـ- وقال النووي:
"فرع: هذا الحديث رواه الترمذي والبيهقي من رواية ابن عمر رضي الله عنهما، وضعفه الترمذي والبيهقي، وروى: "لا يقرأ" بكسر الهمزة على النهي وبضمها على الخبر الذي يراد به النهي، وقد سبق بيانه في آخر باب ما يوجب الغسل، وهذا الذي ذكره من تحريم قراءة القرآن على الحائض هو الصحيح المشهور، وبه قطع العراقيون وجماعة من الخراسانيين، وحكى الخراسانيون قولا قديما للشافعي: أنه يجوز لها قراءة القرآن، وأصل هذا القول أن أبا ثور رحمه الله قال: قال أبو عبد الله: يجوز للحائض قراءة القرآن. فاختلفوا في أبي عبد الله، فقال بعض الأصحاب: أراد به مالكا وليس للشافعي قول بالجواز، واختاره إمام الحرمين والغزالي في البسط، وقال جمهور الخراسانيين: أراد به الشافعي وجعلوه قولا قديما.
قال الشيخ أبو محمد: وجدت أبا ثور جمعهما في موضع فقال: قال أبو عبد الله ومالك، واحتج من أثبت قولا بالجواز اختلفوا في علته على وجهين، أحدهما: أنها تخاف النسيان لطول الزمان بخلاف الجنب. والثاني: أنها قد تكون معلمة فيؤدي إلى انقطاع حرفتها، فإن قلنا بالأول جاز لها قراءة ما شاءت؛ إذ ليس لما يخاف نسيانه ضابط، فعلى هذا هي كالطاهر في القراءة، وإن قلنا بالثاني لم يحل إلا ما يتعلق بحاجة التعليم في زمان الحيض، هكذا ذكر الوجهين وتفريعهما إمام الحرمين وآخرون.
هذا حكم قراءتها باللسان، فأما إجراء القراءة على القلب من غير تحريك اللسان والنظر في المصحف وإمرار ما فيه في القلب فجائز بلا خلاف، وأجمع العلماء على جواز التسبيح والتهليل وسائر الأذكار غير القرآن للحائض والنفساء، وقد
__________
(1) المجموع 2 \ 171- 173.
(2) سنن الدارمي الطهارة (998) .(13/54)
تقدم إيضاح هذا مع جمل من الفروع المتعلقة به في باب ما يوجب الغسل والله أعلم.
فرع: في مذهب العلماء في قراءة الحائض القرآن. قد ذكرنا أن مذهبنا المشهور تحريمها، وهو مروي عن عمرو وعلي وجابر رضي الله عنهم، وبه قال الحسن البصري وقتادة وعطاء وأبو العالية والنخعي وسعيد بن جبير والزهري وإسحاق وأبو ثور، وعن مالك وأبي حنيفة وأحمد روايتان إحداهما التحريم، والثانية: الجواز، وبه قال داود.
واحتج لمن جوز بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقرأ القرآن وهي حائض؛ ولأن زمنه يطول فيخاف نسيانها، واحتج أصحابنا والجمهور بحديث ابن عمر المذكور لكنه ضعيف، وبالقياس على الجنب، فإن من خالف فيها وافق على الجنب إلا داود، والمختار عند الأصوليين أن داود لا يعتد به في الإجماع والخلاف. وفعل عائشة رضي الله عنها لا حجة فيه على تقدير صحته؛ لأن غيرها من الصحابة خالفها، وإذا اختلفت الصحابة رضي الله عنهم رجعنا إلى القياس، وأما خوف النسيان فنادر، فإن مدة الحيض غالبا ستة أيام أو سبعة، ولا ينسى غالبا في هذا القدر، ولأن خوف النسيان ينتفي بإمرار القرآن على القلب والله أعلم" (1) .
د- وقال الخرقي: "ولا يقرأ القرآن جنب ولا حائض ولا نفساء".
هـ- وقال ابن قدامة:
رويت الكراهة لذلك عن عمر وعلي والحسن والنخعي والزهري وقتادة والشافعي وأصحاب الرأي، وقال الأوزاعي: لا يقرأ إلا آية الركوب والنزول {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} (2) . {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا} (3) وقال ابن عباس: يقرأ ورده، وقال سعيد بن المسيب: يقرأ القرآن، أليس هو في جوفه؟ وحكى عن مالك للحائض القراءة دون الجنب؛ لأن أيامها تطول، فإن منعناها من القراءة نسيت.
__________
(1) المجموع شرح المهذب 2 \ 371.
(2) سورة الزخرف الآية 13
(3) سورة المؤمنون الآية 29(13/55)
ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يحجبه - أو قال: يحجزه - عن قراءة القرآن شيء ليس الجنابة (1) » رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وعن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن (2) » رواه أبو داود والترمذي وقال: يرويه إسماعيل بن عياش عن نافع، وقد ضعف البخاري روايته عن أهل الحجاز وقال: إنما روايته عن أهل الشام، وإذا ثبت هذا في الجنب ففي الحائض أولى؛ لأن حدثها آكد؛ ولذلك حرم الوطء ومنع الصيام وأسقط الصلاة وساواها في سائر أحكامها.
(فصل) ويحرم عليهم قراءة آية، فأما إن كان بعض آية فإن كان مما لا يتميز به القرآن عن غيره كالتسمية والحمد لله وسائر الذكر فإن لم يقصد به القرآن فلا بأس به، فإنه لا خلاف في أن لهم ذكر الله تعالى، ويحتاجون إلى التسمية عند اغتسالهم، ولا يمكنهم التحرز من هذا. وإن قصدوا به القراءة أو كان ما قرءوه شيئا يتميز به القرآن عن غيره من الكلام ففيه روايتان، إحداهما: لا يجوز، وروي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن الجنب يقرأ القرآن، فقال: لا، ولا حرفا، وهذا مذهب الشافعي؛ لعموم الخبر في النهي ولأنه قرآن، فمنع من قراءته كالآية. والثانية: لا يمنع منه، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه لا يحصل به الإعجاز ولا يجزئ في الخطبة، ويجوز إذا لم يقصد به القرآن وكذلك إذا قصد (3) .
و"وأما قراءة الجنب والحائض للقرآن فللعلماء فيه ثلاثة أقوال:
قيل: يجوز لهذا ولهذا، وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من مذهب الشافعي وأحمد.
وقيل: لا يجوز للجنب، ويجوز للحائض. إما مطلقا، أو إذا خافت النسيان. وهو مذهب مالك وقول في مذهب أحمد وغيره؛ فإن قراءة الحائض القرآن لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه شيء غير الحديث المروي عن إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر «لا تقرأ الحائض ولا الجنب من القرآن شيئا (4) » رواه أبو داود وغيره، وهو حديث ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث.
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (146) ، سنن النسائي الطهارة (265) ، سنن أبو داود الطهارة (229) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (594) ، مسند أحمد بن حنبل (1/84) .
(2) سنن الترمذي الطهارة (131) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (596) .
(3) مختصر الخرقي ومعه المغني 1 \ 135 -136.
(4) سنن الترمذي الطهارة (131) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (596) .(13/56)
وإسماعيل بن عياش ما يرويه عن الحجازيين أحاديث ضعيفة، بخلاف روايته عن الشاميين، ولم يرو هذا عن نافع أحد من الثقات، ومعلوم أن النساء كن يحضن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يكن ينههن عن قراءة القرآن. كما لم يكن ينههن عن الذكر والدعاء، بل أمر الحيض أن يخرجن يوم العيد، فيكبرن بتكبير المسلمين، وأمر الحائض أن تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت: تلبي وهي حائض، وكذلك بمزدلفة ومنى، وغير ذلك من المشاعر.
وأما الجنب فلم يأمره أن يشهد العيد، ولا يصلي، ولا أن يقضي شيئا من المناسك؛ لأن الجنب يمكنه أن يتطهر فلا عذر له في ترك الطهارة، بخلاف الحائض فإن حدثها قائم لا يمكنها مع ذلك التطهر. ولهذا ذكر العلماء: ليس للجنب أن يقف بعرفة ومزدلفة ومنى حتى يطهر، وإن كانت الطهارة ليست شرطا في ذلك. ولكن المقصود أن الشارع أمر الحائض أمر إيجاب أو استحباب بذكر الله ودعائه مع كراهة ذلك للجنب.
فعلم أن الحائض يرخص لها فيما لا يرخص للجنب فيه، لأجل العذر وإن كانت عدتها أغلظ، فكذلك قراءة القرآن ولم ينهها الشارع عن ذلك.
وإن قيل: إنه نهى الجنب؛ لأن الجنب يمكنه أن يتطهر ويقرأ بخلاف الحائض تبقى حائضا أياما فيفوتها قراءة القرآن، تفويت عبادة تحتاج إليها مع عجزها عن الطهارة، وليست القراءة كالصلاة، فإن الصلاة يشترط لها الطهارة مع الحدث الأكبر والأصغر، والقراءة تجوز مع الحدث الأصغر بالنص واتفاق الأئمة.
والصلاة يجب فيها استقبال القبلة واللباس واجتناب النجاسة، والقراءة لا يجب فيها شيء من ذلك، بل «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يضع رأسه في حجر عائشة رضي الله عنها وهي حائض (1) » ، وهو حديث صحيح، وفي صحيح مسلم أيضا: «يقول الله عز وجل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إني منزل عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرأه نائما ويقظانا (2) » فتجوز القراءة قائما وقاعدا وماشيا ومضطجعا وراكبا " (3) .
__________
(1) صحيح البخاري الاعتكاف (2046) ، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (386) .
(2) صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2865) ، مسند أحمد بن حنبل (4/162) .
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 21 \ 459- 462.(13/57)
رابعا: حكم تعليم الكافر القرآن:
اختلف أهل العلم في ذلك، وفيما يلي نقول عنهم يتبين منها أقوالهم وأدلتهم ومناقشتها.
1 - النقول عن المفسرين:
أ- قال الجصاص:
"قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ} (1) وقد اقتضت هذه الآية جواز أمان الحربي إذا طلب ذلك منا ليسمع دلالة صحة الإسلام؛ لأن قوله تعالى: استجارك - معناه استأمنك، وقوله تعالى: فأجره معناه فأمنه حتى يسمع كلام الله الذي فيه الدلالة على صحة التوحيد وعلى صحة نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا يدل على أن الكافر إذا طلب منا إقامة الحجة عليه وبيان دلائل التوحيد والرسالة حتى يعتقدهما لحجة ودلالة كان علينا إقامة الحجة وبيان توحيد الله وصحة نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه غير جائز لنا قتله إذا طلب ذلك منا إلا بعد بيان الدلالة وإقامة الحجة؛ لأن الله قد أمرنا بإعطائه الأمان حتى يسمع كلام الله، وفيه الدلالة أيضا على أن علينا تعليم كل من التمس منا تعريفه شيئا من أمور الدين؛ لأن الكافر الذي استجارنا ليسمع كلام الله إنما قصد التماس معرفة صحة الدين" (2) .
ب- قال القرطبي:
"قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (3) أي من الذين أمرتك بقتالهم، استجارك أي سأل جوارك، أي: أمانك وذمامك، فأعطه إياه ليسمع القرآن، أي: يفهم أحكامه وأوامره ونواهيه، فإن قبل أمرا فحسن، وإن أبى فرده إلى مأمنه، وهذا ما لا خلاف فيه، والله أعلم.
قال مالك: إذا وجد الحربي في طريق بلاد المسلمين فقال: جئت أطلب الأمان. قال مالك: هذه أمور مشتبهة، وأرى أن يرد إلى مأمنه. وقال ابن القاسم: وكذلك الذي يوجد وقد نزل تاجرا بساحلنا فيقول: ظننت ألا
__________
(1) سورة التوبة الآية 6
(2) أحكام القرآن ج 3 ص 103.
(3) سورة التوبة الآية 6(13/58)
تعرضوا لمن جاء تاجرا حتى يبيع. وظاهر الآية إنما هي فيمن يريد سماع القرآن والنظر في الإسلام، فأما الإجارة لغير ذلك فإنما هي لمصلحة المسلمين والنظر فيما تعود عليهم به منفعته" (1) .
جـ- قال ابن كثير:
{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} (2) يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (3) الذين أمرتك بقتالهم وأحللت لك استباحة نفوسهم وأموالهم، استجارك أي استأمنك فأجبه إلى طلبته {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (4) أي: القرآن تقرأه عليه وتذكر له شيئا من أمر الدين تقيم به عليه حجة الله، {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (5) أي: هو آمن مستمر الأمان حتى يرجع إلى بلاده وداره ومأمنه، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} (6) أي إنما شرعنا أمان مثل هؤلاء ليعلموا دين الله وتنتشر دعوة الله في عباده، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في تفسير هذه الآية: قال: إنسان يأتيك ليسمع ما تقول وما أنزل عليك فهو آمن حتى يأتيك فتسمعه كلام الله، وحتى يبلغ مأمنه حيث جاء.
ومن هذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطي الأمان لمن جاءه مسترشدا أو في رسالة، كما جاء يوم الحديبية جماعة من الرسل من قريش منهم عروة بن مسعود ومكرز بن حفص وسهيل بن عمرو وغيرهم واحدا بعد واحد يترددون في القضية بينه وبين المشركين، فرأوا من إعظام المسلمين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما بهرهم وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر، فرجعوا إلى قومهم وأخبروهم بذلك، وكان ذلك وأمثاله من أكبر أسباب هداية أكثرهم، ولهذا أيضا «لما قدم رسول مسيلمة الكذاب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: أتشهد أن مسيلمة رسول الله؟ قال: نعم. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لولا أن الرسل لا تقتل لضربت عنقك (7) » وقد قيض الله له ضرب العنق في إمارة ابن مسعود على الكوفة، وكان يقال له ابن النواحة ظهر عنه في زمان ابن مسعود أنه يشهد لمسيلمة بالرسالة، فأرسل إليه ابن مسعود فقال له: إنك الآن لست في رسالة، وأمر به فضربت عنقه -لا
__________
(1) تفسير القرطبي ج 8 ص 75 \ 76.
(2) سورة التوبة الآية 6
(3) سورة التوبة الآية 6
(4) سورة التوبة الآية 6
(5) سورة التوبة الآية 6
(6) سورة التوبة الآية 6
(7) سنن أبو داود الجهاد (2761) ، مسند أحمد بن حنبل (3/488) .(13/59)
رحمه الله ولعنه-. والغرض أن من أقدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب، وطلب من الإمام أو نائبه أمانا أعطي أمانا مادام مترددا في دار الإسلام، وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه، ولكن قال العلماء: لا يجوز أن يمكن من الإقامة في دار الإسلام سنة، ويجوز أن يمكن من إقامة أربعة أشهر، وفيما بين ذلك فيما زاد على أربعة أشهر، ونقص عن سنة قولان عن الإمام الشافعي وغيره من العلماء رحمه الله" (1) .
2 - النقل عن البخاري وابن حجر:
أ- قال البخاري:
"باب: هل يرشد المسلم أهل الكتاب أو يعلمهم الكتاب.
حدثنا إسحاق، أخبرنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن أخي ابن شهاب، عن عمه قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخبره «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى قيصر وقال: فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين (2) » .
ب- قال ابن حجر:
"قوله: (باب: هل يرشد المسلم أهل الكتاب أو يعلمهم الكتاب) المراد بالكتاب الأول التوراة والإنجيل، وبالكتاب الثاني ما هو أعم منهما ومن القرآن وغير ذلك. وأورد فيه طرفا من حديث ابن عباس في شأن هرقل، وقد ذكره بعد بابين من وجه آخر عن ابن شهاب بطوله، وإسحاق شيخه فيه -هو ابن منصور - وهذه الطريق أهملها المزي في الأطراف، وإرشادهم منه ظاهر، وأما تعليمهم الكتاب فكأنه استنبطه من كونه كتب إليهم بعض القرآن بالعربية، وكأنه سلطهم على تعليمه؛ إذ لا يقرءونه حتى يترجم لهم، ولا يترجم لهم حتى يعرف المترجم كيفية استخراجه، وهذه المسألة مما اختلف فيه السلف، فمنع مالك من تعليم الكافر القرآن، ورخص أبو حنيفة، واختلف قول الشافعي، والذي يظهر أن الراجح التفصيل بين من يرجى منه الرغبة في الدين والدخول فيه مع الأمن منه أن يتسلط بذلك إلى الطعن فيه، وبين من يتحقق أن
__________
(1) ابن كثير ج \ 2 ص \ 337.
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2936) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1773) ، مسند أحمد بن حنبل (1/263) .(13/60)
ذلك لا ينجع فيه أو يظن أنه يتوصل بذلك إلى الطعن في الدين والله أعلم. ويفرق أيضا بين القليل منه والكثير كما تقدم في أوائل كتاب الحيض" (1) .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) فتح الباري ومعه الصحيح ج6 ص81.(13/61)
3 - النقول عن الفقهاء:
1 - قال العيني:
قال أبو حنيفة: لا بأس بتعليم الحربي والذمي القرآن والعلم والفقه رجاء أن يرغبوا في الإسلام، واحتج الطحاوي لأبي حنيفة بكتاب هرقل، وبقوله عز وجل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (1) وروى أسامة بن زيد: «مر النبي -صلى الله عليه وسلم- على ابن أبي قبل أن يسلم وفي المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين واليهود، فقرأ عليهم القرآن (2) » .
2 - وقال الأبي نقلا عن القاضي عياض: ومنع مالك تعليمهم شيئا من القرآن (3) .
3 - وقال الباجي: " ولا يجوز أن يعلم أحد من ذراريهم القرآن؛ لأن ذلك سبب لتمكنهم منه، ولا بأس أن يقرأ عليهم احتجاجا عليهم، ولا بأس أن يكتب لهم بالآية ونحوها على سبيل الوعظ، كما كتب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ملك الروم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (4) انتهى " (5) .
4 - واستدل به -أي بحديث النهي عن السفر بالقرآن- على منع تعليم الكافر القرآن، وبه قال مالك مطلقا (6) .
5 - وفصل بعض المالكية بين القليل لأجل مصلحة قيام الحجة فأجازه، وبين الكثير فمنعه، ويؤيده كتب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل بعض آيات (7) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 6
(2) العيني على البخاري 4 \ 207، والأبي على مسلم 5 \ 216.
(3) الأبي على مسلم 5 \ 216.
(4) سورة آل عمران الآية 64
(5) المنتقى للباجي على الموطأ 3 \ 165.
(6) الزرقاني على الموطأ 1 \ 10.
(7) الفتح 6 \ 134، العيني 14 \ 207 والزرقاني 10 \ 10.(13/61)
6 - وقال الأبي: وحجة المانع أنه نجس في الحال وعدو لله، وكتابه فقد يعرضه للمهانة. انتهى (1) .
7 - قال النووي: الثانية عشرة:
قال أصحابنا: لا يمنع الكافر سماع القرآن، ويمنع مس المصحف، وهل يجوز تعليمه القرآن؟ ينظر إن لم يرج إسلامه لم يجز، وإن رجي جاز في أصح الوجهين، وبه قطع القاضي حسين، ورجحه البغوي وغيره، والثاني: لا يجوز، كما لا يجوز بيعه المصحف وإن رجي إسلامه. قال البغوي: وحيث رآه معاندا لا يجوز تعليمه بحال، وهل يمنع التعليم؟ فيه وجهان حكاهما المتولي والروياني. هما أصحهما يمنع (2) .
8 - ومحل منع قراءة الجنب إذا كان مسلما، أما الكافر فلا يمنع منها لعدم اعتقاده حرمتها، ولا يجوز تعليمه للكافر المعاند، ويمنع تعلمه في الأصح، وغير المعاند إن لم يرج إسلامه لم يجز تعليمه وإلا جاز، وإنما منع من مس المصحف؛ لأن حرمته أكمل، بدليل حرمة حمله مع الحدث، وحرمة مسه بنجس، بخلافها إذ تجوز مع الحدث وبضم نجس وبذلك علم اندفاع ما في الإسعاد هنا أخذا من كلام المهمات من قياسها عليها كما رد ذلك العلامة الجوجري انتهى (3) .
9 - قوله: (أما الكافر فلا يمنع منها) أي القراءة، بل يمكن منها، أما قراءته مع الجنابة فتحرم عليه؛ لأنه مخاطب بفروع الشريعة خطاب عقاب. انتهى زيادي. وظاهر كلام الشارح أنه لا يمنع ولو كان معاندا، وعبارته على البهجة نعم شرط تمكين الكافر من القراءة أن لا يكون معاندا أو رجي إسلامه، كما في المجموع والقياس أيضا منعه من كتابة القرآن حيث منع من قراءته. قوله: (يمنع تعلمه) والقياس منعه من التلاوة حيث كان معاندا ولم يرج إسلامه. ولا يشترط في المنع كونه من الإمام بل يجوز من الآحاد؛ لأنه نهي عن منكر وهو لا يختص بالإمام. . قوله (بخلافها) أي القراءة.
__________
(1) الأبي على مسلم 5 \ 216.
(2) المجموع ج2 \ 78.
(3) نهاية المحتاج 1 \ 221.(13/62)
قوله: (من قياسها) انظر مرجع الضمير فيه وفيما بعده، ولعله تثنية الضمير في عليهما، وعليه فضمير قياسها للقراءة وضمير عليهما لمس المصحف وحمله انتهى (1) .
10 - وقال القليوبي: ويجوز تعليمه لكافر غير معاند ورجي إسلامه سواء الذكر أو الأنثى، وهذا مراد من عبر بقراءته؛ لأنها بمعنى إقرائه؛ إذ قراءته لا يمنع منها مطلقا، وعبروا في الكافر بعدم المنع من المكث والقراءة، ولم يعبروا بالجواز لبقاء الحرمة عليه؛ لأنه مكلف بفروع الشريعة، ويمنع من مس المصحف وحمله لأن حرمته أبلغ بدليل جواز قراءة المحدث دون نحو مسه" (2) .
11 - وقال ابن قدامة: ولا يجوز تمكينه من شراء مصحف ولا حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا فقه، فإن فعل فالشراء باطل؛ لأن ذلك يتضمن ابتذاله، وكره أحمد بيعهم الثياب المكتوب عليها ذكر الله تعالى، قال مهنا: سألت أحمد أبا عبد الله: هل تكره للرجل المسلم أن يعلم غلاما مجوسيا شيئا من القرآن؟ قال: إن أسلم فنعم، وإلا فأكره أن يضع القرآن في غير موضعه. قلت: فيعلمه أن يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: نعم. وقال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله عن الرجل يرهن المصحف عند أهل الذمة، قال: لا، «نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو (3) » اهـ (4) .
12 - ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وكذلك تلميذه ابن القيم رحمه الله تعالى أن من الشروط العمرية: "ولا نعلم أولادنا القرآن".
13 - وقال ابن القيم: صيانة للقرآن أن يحفظه من ليس من أهله ولا يؤمن به، بل هو كافر به، فهذا ليس أهلا أن يحفظه، ولا يمكن منه وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم؛ فلهذا ينبغي أن يصان عن تلقينهم إياه، فإن طلب أحد منهم أن يسمعه منهم فإن له أن يسمعه إياه إقامة للحجة عليهم، ولعله أن يسلم. انتهى (5) .
__________
(1) حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 1 \ 221.
(2) حاشيتا قليوبي وعميرة على منهاج الطالبين 1 \ 95.
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .
(4) المغني، ومعه الشرح الكبير 10 \ 624-625.
(5) أحكام أهل الذمة 2 \ 775.(13/63)
14 - ويمنع كافر من قراءته ولو رجي إسلامه قياسا على الجنب وأولى. انتهى (1) .
15 - ويمنع في المنصوص كافر القراءة (هـ) ولو رجي إسلامه (ش) ونقل مهنا: أكره أن يضعه في غير موضعه، قال القاضي: جعله في حكم الجنب. انتهى (2) 16 - الكافر كالجنب يمنع من قراءته ولو رجي إسلامه، نقل مهنا: أكره أن يضعه في غير موضعه انتهى (3) .
هذا ما تيسر ذكره من النقول. . وبالله التوفيق. . وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) مطالب أولي النهى ومعه الغاية 1 \ 172.
(2) الفروع 1 \ 203.
(3) المبدع على المقنع 1 \ 188.(13/64)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية
والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين
في شؤونهم الدينية والاجتماعية.(13/65)
صفحة فارغة(13/66)
فتوى برقم 1124 وتاريخ 19 \ 11 \ 1395 هـ
السؤال: جندي بالشرطة ويريد الحج بوالدته، ولم يرخص له مرجعه فهل عليه إثم إذا حج بوالدته بدون إذن من مرجعه أم لا؟
الجواب: أنت أجير في عملك تستلم مرتبا مقابل ما تؤديه من عمل، وتركك العمل بدون إذن من مرجعك لتحج بوالدتك تصرف في غير محله؛ لأن ذمتك مشغولة بالعمل الوظيفي، فلا تشغل هذه الذمة بما يتعارض مع ما هي مشغولة به، فلا بقاء إلا بحالة حق السبق على ذلك، كما لو كنت أنت ما حججت فرضك فلا مانع أن تحج بدون إذن؛ لأن تعلق الحج في ذمتك سابق لشغل ذمتك بالعمل الحكومي، وبهذا يعلم أنه لا يجوز لك أن تحج بأمك إلا بإذن، وأن الأحوط هو الاستئذان إذا كنت لم تحج فرضك.
أما من جهة أمك فمن الممكن أن يحج بها أحد من محارمها غيرك، وتقوم أنت بدفع النفقة إذا أردت ذلك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان المنيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(13/67)
فتوى برقم 1127 وتاريخ 2 \ 1 \ 1396هـ
السؤال: أنا رجل مغترب منذ سنة وستة أشهر، وأريد الحج، ولكن ليس معي رضا من أهلي، ولا أعلم هل يأذنوا لي بالحج أم لا؟
الجواب: إن كنت لم تحج الفريضة فابدأ بالحج قبل السفر لتؤدي ما فرض الله عليك من حج بيته الحرام وتبرأ ذمتك ولوكره أهلك، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية(13/67)
الخالق، وإن كنت حججت الفريضة من قبل وما تريده من الحج تطوعا فابدأ بالسفر إلى أهلك، وطيب خاطرهم واقض لازمهم تحقيقا لصلة الرحم وأداء لحقها، ثم إذا تمكنت من الحج تطوعا بعد ذلك فافعل. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان المنيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(13/68)
فتوى برقم 1129 وتاريخ 2 \ 1 \ 1396 هـ
السؤال: لما بلغت الخامسة عشرة من عمري طلبت من والدي أن أحج معه مظهرا له أن قصدي أداء فريضة الحج، ولكن لم يكن قصدي ونيتي أداء الفريضة، بل كان قصدي حب الاستطلاع ورؤية مكة المكرمة والمدينة المنورة ومشاهدة المشاعر المقدسة وغير ذلك، أما الفريضة فسأقضيها فيما بعد إن شاء الله، علما أني قضيت ذلك الحج على ما يرام رغم شكوكي من نقص في رمي إحدى الجمرات، فهل أعيد الفريضة علما بأني حريص على إعادتها احتياطا؟
الجواب: إن كان الأمر كما ذكرت من أنك أديت الحج على ما يرام فقصدت الحج عند الإحرام، وأديت جميع فرائضه فحجك صحيح إن شاء الله، يسقط به عنك الفريضة، ولا تأثير لقصدك ابتداء مشاهدة مكة والمدينة وغيرها من الأماكن على صحة حجك، وهو قريب في الحكم من قصد التجارة مع الحج، غير أن له تأثيرا على مقدار ثوابك عن الحج، حيث نويت ابتداء نية أخرى وصاحب قصدك الحج عند الإحرام، وعليك دم عما شككت فيه من نقص الرمي إن كان الشك في ترك ثلاث حصيات فأكثر؛ لأن الأصل وجوبه، ولا يسقط عنك إلا إذا أديته بيقين أو غلبة ظن، وإن أعدت الحج احتياطا رغبة في عظم الثواب فذلك أعظم لأجرك وأتم لنسكك، أما إذا كنت لم(13/68)
تقصد الحج عند الإحرام، وإنما أديت أعماله ظاهرا حتى لا ينكشف أمرك لأبيك فحجك غير صحيح؛ لأن النية ركن من أركان الحج لا يصح بدونها ويجب عليك أن تعيده عند الاستطاعة.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان المنيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(13/69)
فتوى برقم 1202 وتاريخ 12 \ 3 \ 1396 هـ السؤال: امرأة حجت وفعلت جميع أعمال الحج إلا أنها لم تقصر شعرها جهلا أو نسيانا، وقد وصلت إلى بلدها وفعلت كل الأمور المحظورة على المحرم، فماذا يجب عليها؟
الجواب: إذا كان الأمر كما ذكر من أنها فعلت كل شيء إلا التقصير نسيانا منها أو جهلا فيلزمها أن تقصر رأسها في بلدها متى ذكرت - ولا شيء عليها لقاء تأخيره لجهلها أو نسيانها - بنية إتمام الحج، ونسأل الله للجميع التوفيق والقبول. وإذا كان زوجها قد جامعها قبل التقصير فعليها دم؛ وهو شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة تجزئ أضحية تذبح في مكة لمساكين الحرم، إلا أن يكون الجماع بعد خروجها من الحرم في بلدها أو غيره فإنها تذبح حيث شاءت وتفرق على المساكين. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان المنيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(13/69)
فتوى برقم 1241 وتاريخ 26 \ 4 \ 1396 هـ
السؤال: رجل مات ولم يقض فريضة الحج، وأوصى أن يحج عنه من ماله، ويسأل عن صحة الحجة، وهل حج الغير عنه مثل حجه لنفسه أم لا؟
الجواب: إذا مات المسلم ولم يقض فريضة الحج وهو مستكمل لشروط وجوبها وجب أن يحج عنه من ماله الذي خلفه سواء أوصى بذلك أم لم يوص. وإذا حج عنه غيره ممن يصح منه الحج وكان قد أدى فريضة الحج عن نفسه صح حجه عنه وأجزأ في سقوط الفرض عنه.
وأما تقويم حج المرء عن غيره هل هو كحجه عن نفسه أو أقل فضلا أو أكثر فذلك راجع إلى الله سبحانه وتعالى، ولا شك أن الواجب عليه المبادرة بالحج إذا استطاع قبل أن يموت للأدلة الشرعية الدالة على ذلك ويخشى عليه من إثم التأخير، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان المنيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(13/70)
فتوى برقم 1265 وتاريخ 9 \ 5 \ 1396 هـ
السؤال: تصدق رجل على كل من والده ووالدته بحجة، فأعطى حجة أبيه لامرأة على أساس أنها تدفعها لزوجها ليحج بها، أو أعطى حجة أمه لهذه المرأة ويسأل عن حكم ذلك؟
الجواب: أما صدقته على كل من والده ووالدته بحجة فهذا من باب البر والإحسان والله يجزل لك الأجر على هذا البر.
وأما تسليم النقود التي يريد أن يحج بها عن والدته لامرأة تدفعها لزوجها ليحج بها(13/70)
فهذا توكيل منه لهذه المرأة وهذا توكيل جائز.
والنيابة في الحج جائزة إذا كان النائب قد حج عن نفسه، وكذلك الحال فيما يدفعه المرأة لتحج به عن أمه، فإن نيابة المرأة في الحج عن المرأة وعن الرجل جائزة؛ لورود الدليل الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، لكن ينبغي لمن يريد أن يفوض في الحج أن يتحرى فيمن يستنيبه أن يكون من أهل الدين والأمانة حتى يطمئن إلى قيامه بالواجب، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان المنيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(13/71)
فتوى برقم 1354 وتاريخ 11 \ 8 \ 1396هـ
السؤال: مسلم موظف اضطره عمله أن يغادر منى بعد الوقوف بعرفة ورمي الجمرة بعد فجر يوم النحر موكلا آخر في رمي بقية الجمرات وفي الذبح، ثم غادر منى إلى مكة وطاف بالكعبة، وسعى بعد صلاة الجمعة، وقام لمقر وظيفته الذي يبعد عن مكة 1270 كم حتى يكون بعد الظهر يوم السبت ثاني أيام العيد في مقر عمله حيث شرط عليه رئيسه ذلك، وحذره من عواقب التأخير، وقد وصل إلى مقر عمله في الوقت الذي حدده له رئيسه مما اضطره إلى السفر إلى عمله تاركا بعض واجبات الحج، فماذا يجب عليه؟
الجواب: إذا كان الأمر كما ذكر فالتوكيل الذي صدر منك للرجل على الرمي غير صحيح؛ لأن ما ذكرته من أن رئيسك شرط عليك أن تحضر يوم السبت ثاني أيام العيد بعد الظهر وأنه حذر من عواقب التأخير ليس بعذر يسوغ لك السفر والتوكيل، وبناء على ذلك فقد تركت رمي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والمبيت بمنى ليلتي أحد عشر واثني عشر وطواف الوداع، ويجب عليك عن كل واحدة من هذه الواجبات(13/71)
الثلاث فدية تجزئ أضحية وتذبح في مكة وتوزع على الفقراء، فإن لم تستطع وجب عليك أن تصوم عن كل فدية عشرة أيام، ولا تعد لمثل هذا العمل. وبالله التوفيق.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان المنيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(13/72)
فتوى رقم 1375 وتاريخ 14 \ 9 \ 1396 هـ
السؤال: هل أحج عن والدي اللذين ماتا ولم يؤديا فريضة الحج لفقرهما وأريد الحج عنهما فما الحكم في ذلك؟
الجواب: يجوز لك أن تحج عن والديك بنفسك أو تنيب من يحج عنهما إذا كنت حججت عن نفسك أو كان الشخص الذي يحج عنهما قد حج عن نفسه؛ لما روى أبو داود في سننه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: لبيك عن شبرمة. قال: من شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي. قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة (1) » وأخرجه ابن ماجه، قال البيهقي: هذا إسناد صحيح ليس في الباب أصح منه.
السؤال الثاني: هل يجوز حج زوجتي الفقيرة بمالي الخاص وتكون قد أدت فرضها أم لا يجوز؟
الجواب: نعم يجوز ذلك وتكون قد أدت فرضها، وجزاك الله خيرا على إحسانك إليها، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان المنيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (1811) ، سنن ابن ماجه المناسك (2903) .(13/72)
فتوى برقم 1416 وتاريخ 28 \ 12 \ 1396 هـ
السؤال: رجل له والدة طاعنة في السن تبلغ من العمر حوالي سبعين سنة تقريبا، ومن طبيعتها لا تستطيع السفر على السيارات ولو كانت المسافة قريبة، حيث تتأثر بمرض يفقدها وعيها إذا ركبت السيارة، ولم تؤد فريضة الحج، فهل يجوز لي أن أحج عنها بشيء من مالي علما بأني ابنها الوحيد.
الجواب: إذا كان الأمر كما ذكر جاز لك أن تحج عن أمك أو تحج عنها بشيء من مالك، بل يتأكد عليك ذلك برا بها وإحسانا إليها؛ لأنها لا تستطيع الحج والنيابة في الحج في هذه الحال جائزة، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(13/73)
فتوى برقم 1468 وتاريخ 25 \ 1 \ 1397 هـ
السؤال: رجل أتى بأمه لتقبل الحجر الأسود وهما حاجان وتعذر ذلك لكثرة الناس، فأعطى الجندي الذي عند الحجر الأسود عشرة ريالات فأبعد الجندي الناس وخلا الحجر لهذا الرجل وأمه فقبلاه، فهل هذا جائز أم لا؟ وهل له حج أم لا؟
الجواب إذا كان الأمر كما ذكر فهذا المبلغ الذي دفعه الرجل للجندي رشوة لا يجوز له أن يدفعه، وتقبيل الحجر الأسود سنة، وليس من أركان الحج ولا من واجباته، فمن استطاع أن يستلمه ويقبله بدون أن يؤذي أحدا استحب له ذلك، فإن لم يتمكن من استلامه وتقبيله أستلمه بعصا وقبلها، وإن لم يتمكن من استلامه بيده أو بعصا أشار إليه عند محاذاته وكبر، وهذه هي السنة.(13/73)
وأما بذل الرشوة في ذلك فلا يجوز لا للطائف ولا للجندي، وعليهما جميعا التوبة إلى الله من ذلك، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(13/74)
فتوى برقم 1610 وتاريخ 10 \ 7 \ 1397 هـ السؤال: شخص حاج وقع في محذور وهو تقبيل زوجته وإنزاله خارج القبل بشهوة بعد رمي جمرة العقبة والحلق وقبل طواف الإفاضة، وهي غير حاجة، فماذا يجب عليه؟
الجواب: لا يجوز لمسلم أحرم لحج أو عمرة أو بهما أن يتعرض لما يفسد إحرامه أو ينتقص عمله، والقبلة حرام على من أحرم بالحج حتى يتحلل التحلل الكامل، وذلك برمي جمرة العقبة والحلق أو التقصير والسعي إن كان عليه سعي؛ لأنه لا يزال في حكم الإحرام الذي يحرم عليه النساء، ولا يفسد حج من قبل وأنزل بعد التحلل الأول، وعليه أن يستغفر الله ولا يعود لمثل هذا العمل، ويجبر ذلك بذبح رأس من الغنم يجزئ في الأضحية، يوزعه على فقراء الحرم المكي، والواجب المبادرة إلى ذلك حسب الإمكان، والله ولي التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(13/74)
فتوى برقم 1611 وتاريخ 11 \ 7 \ 1397 هـ
السؤال: رجل يقول بأني رميت الجمار الليلة الثانية من ليالي التشريق في الساعة العاشرة مساء، مع العلم أني مضطر إلى ذلك، فهل علي إثم في ذلك أم لا؟ مع العلم بأن معي امرأتين ورجلا وكلهم مرضى؟
الجواب: من أخر رمي الجمار في اليوم الحادي عشر حتى أدركه الليل وتأخيره لعذر شرعي ورمى الجمار ليلا فليس عليه في ذلك شيء، وهكذا من أخر الرمي في الثاني عشر فرماه ليلا أجزأه ذلك ولا شيء عليه، ولكن الأحوط أن يجتهد في الرمي نهارا في المستقبل، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(13/75)
فتوى برقم 1615 وتاريخ 11 \ 7 \ 1397 هـ
السؤال: ما حكم المسلمة التي حاضت في أيام حجها، أيجزئها ذلك الحج؟
الجواب: إذا حاضت المرأة في أيام حجها فإنها تفعل ما يفعله الحاج غير أنها لا تطوف بالبيت ولا تسعى بين الصفا والمروة حتى تطهر، فإذا طهرت اغتسلت وطافت وسعت، وإذا كان الحيض حصل لها ولم يبق عليها من أعمال الحج إلا طواف الوداع فإنها تسافر وليس عليها شيء لسقوطه عنها وحجها صحيح، والأصل في ذلك ما رواه الترمذي وأبو داود عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «النفساء والحائض إذا أتتا على الميقات تغتسلان وتحرمان وتقضيان المناسك كلها غير الطواف بالبيت (1) » .
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (1744) .(13/75)
وفي الصحيح «عن عائشة رضي الله عنها أنها حاضت قبل أداء مناسك العمرة، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تحرم بالحج غير أن لا تطوف بالبيت حتى تطهر وأن تفعل ما يفعله الحاج وتدخله على العمرة (1) » .
وما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها «أن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم حاضت، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: أحابستنا هي؟ قالوا: إنها قد أفاضت. قال: فلا إذا (2) » ، وفي رواية قالت: «حاضت صفية بعدما أفاضت، قالت عائشة: فذكرت حيضتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحابستنا هي؟ قلت: يا رسول الله إنها كانت أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلتنفر (3) » . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (2664) ، سنن ابن ماجه المناسك (2912) .
(2) صحيح البخاري الحج (1757) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، مسند أحمد بن حنبل (6/82) ، سنن الدارمي المناسك (1917) .
(3) صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (943) ، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، موطأ مالك الحج (945) ، سنن الدارمي المناسك (1917) .(13/76)
فتوى برقم 1692 وتاريخ 11 \ 11 \ 1397هـ
السؤال: لقد سبق لي أن اشتريت من منطقة جيزان ظبيا رضيعا وأحضرته إلى مكة في مقر سكني، والآن كبر وتأذينا منه، فهل يجوز لي أن أنقله من مكة إلى الطائف أو جدة وأبيعه، أو أخرج به إلى الحل وأذبحه وأستفيد من لحمه؟
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكرت فلك أن تذبح الظبي بمكة أو تبيعه فيها، وإنما تخرج به إلى الطائف أو جدة أو غيرهما من الحل لتذبحه أو تبيعه بالحل على الصحيح من أقوال العلماء في ذلك؛ لأن النص إنما ورد في تحريم الصيد على المحرم ولو كان في غير الحرم، وتحريم الصيد على من في الحرم ولو كان غير محرم، وما سألت عنه ليس من هذين الأمرين ولا في معناهما، فيبقى ما ذكرت على الأصل من الإباحة اقتناء وذبحا؛ لأنك ملكته خارج الحرم وأنت حلال، قال الله تعالى:(13/76)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (2) إلى أن قال: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (3) .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله حرم مكة فلم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها (4) » الحديث رواه البخاري ومسلم، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها، لا يقطع عضاها ولا يصاد صيدها (5) » رواه البخاري ومسلم، وعلى هذا فكل ما صاده غير المحرم في الحل ودخل به الحرم أو أخذه منه محرم بشراء أو هبة أو إرث فحلال للمحرم ولمن في الحرم تملكه وذبحه وأكله في الحل والحرم، ومن أحرم وبيده صيد أو في منزله أو في قفص عنده وقد ملكه قبل ذلك فحلال له كما كان من قبل فله ذبحه وأكله وبيعه، وإنما يحرم على المحرم ومن في الحرم ابتداء تصيده للصيد وأخذه ما صيد من أجله فقط، فإن فعل فلا يملكه، وإن ذبحه فهو ميتة؛ لما ثبت في الحديث الصحيح «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في يد أبي عمير الأنصاري طائرا يقال له: النغير، فقال له: يا أبا عمير، ما فعل النغير (6) » ولم يأمر بإطلاقه، وكان ذلك وقد حرم المدينة، وقال هشام بن عروة: وكان أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير بمكة تسع سنين يراها في الأقفاص وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدمون بها القمارى واليعاقيب لا ينهون عن ذلك. وروى ابن حزم عن مجاهد: لا بأس أن يدخل الصيد في الحرم حيا ثم يذبحه، وروى أيضا أن صالح بن كيسان قال رأيت: الصيد يباع بمكة حيا في إمارة ابن الزبير. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 94
(2) سورة المائدة الآية 95
(3) سورة المائدة الآية 96
(4) صحيح البخاري الحج (1833) ، صحيح مسلم الحج (1353) ، سنن النسائي مناسك الحج (2892) ، سنن أبو داود المناسك (2017) ، مسند أحمد بن حنبل (1/259) .
(5) صحيح مسلم الحج (1362) ، مسند أحمد بن حنبل (3/393) .
(6) صحيح البخاري الأدب (6203) ، صحيح مسلم الآداب (2150) ، سنن الترمذي الصلاة (333) ، سنن أبو داود الأدب (4969) ، سنن ابن ماجه الأدب (3720) ، مسند أحمد بن حنبل (3/212) .(13/77)
فتوى برقم 14693 وتاريخ 11 \ 11 \ 1397 هـ السؤال: رجل أراد الحج أو العمرة ولبس ثياب الإحرام بالطائرة ثم هو مع ذلك لا يعرف مكان الميقات، فهل له تأخير الإحرام إلى جدة أم لا؟
الجواب: إذا أراد الحج أو العمرة جوا فله أن يغتسل في بيته ويلبس الإزار والرداء إن شاء، فإذا بقي على الميقات شيء قليل أحرم بما يريد من حج أو عمرة وليس في ذلك مشقة، وإذا كان لا يعرف الميقات فإنه يسأل قائد الطائرة أو أحد ملاحي الطائرة أو أحد الركاب ممن يثق به من أهل الخبرة بذلك، وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا، محمد وعلى آله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(13/78)
فتوى برقم 1696 وتاريخ 11 \ 11 \ 1397 هـ
السؤال: رجل رمى الجمار في الليلة الثانية من ليالي التشريق في تمام الساعة العاشرة من تلك الليلة بالتوقيت الغروبي وهو يعلم، وتأخيره الرمي كان بسبب مشكلة وهي أن أخويه مرضى ولا يقوم على خدمتهم غيره، ولا حصلت له الفرصة إلا في هذه الليلة؟
الجواب: إذا كان الأمر كما ذكر فما وقع منه من الرمي صحيح ولا شيء عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان المنيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(13/78)
فتوى برقم 1941 وتاريخ 24 \ 5 \ 1398 هـ
السؤال: ما حكم الاقتراض من البنك العقاري، هل يجوز أن يحج وهو مقترض منه، وهل يجب عليه زكاة فيما لو بقي شيء زائد على القرض عنده؟
الجواب: من توفرت فيه الشروط التي وضعتها الدولة للاقتراض من البنك فإنه يجوز له أن يقترض، والاقتراض من البنك لا يمنع الحج، وما زاد من القرض فإن الزكاة واجبة فيه إذا بلغ نصابا وحال عليه الحول، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(13/79)
فتوى برقم 2014 وتاريخ 8 \ 7 \ 1398 هـ
السؤال الأول: رجل حج وأدى طواف الوداع بالليل، ولم يتمكن من الخروج من مكة يعد الطواف وبات في مكة حتى الصباح ثم سافر فما الحكم؟
الجواب: المشروع أن يكون طواف الحاج للوداع عند مغادرته لمكة لحديث ابن عباس المتفق عليه: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض (1) » . ومادام طاف بنية الخروج بالليل، ولم يتمكن من الخروج إلا في الصباح فلاشيء عليه في ذلك إن شاء الله، ولو كان أعاد الطواف عند الخروج لكان أحوط.
السؤال الثاني: هل كانت المساجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تقفل في الليل ويخرج منها المسلمون الذين جاءوا لزيارة الأماكن المقدسة وينامون حول سور المسجد من الخارج؟
الجواب: لم تكن المساجد تقفل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما علمنا، وكانت غير مفروشة، وكان الناس أتقى لله من أن يفسدوا فيها أو يقذروها، فلما فرشت المساجد ووجد فيها
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1755) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) .(13/79)
ما يخاف عليه من السراق، وكثر جهل الناس، وحصل من بعضهم الفساد في المساجد جاز لولي الأمر قفل ما يرى منها إذا رأى المصلحة في ذلك صيانة لها وحفاظا على ما يوجد فيها، وحماية لها من إفساد السفهاء.
السؤال الثالث: رجل يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وفي أحد الأشهر أصابه مرض فلم يصمها، فهل عليه قضاء أو كفارة؟
الجواب: صوم النافلة لا يقضى ولوترك اختيارا، إلا أن الأولى بالمسلم المداومة على ما كان يعمله من عمل صالح لحديث «أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل (1) » فلا قضاء في ذلك ولا كفارة، علما أن ما تركه الإنسان من عمل صالح كان يعمله لمرض أو عجز أو سفر ونحو ذلك يكتب له أجره لحديث: «إذا مرض ابن آدم أو سافر كتب له ما كان يعمله صحيحا مقيما (2) » ، وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (782) ، سنن أبو داود الصلاة (1368) ، سنن ابن ماجه الزهد (4238) ، مسند أحمد بن حنبل (6/241) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2996) ، سنن أبو داود الجنائز (3091) ، مسند أحمد بن حنبل (4/418) .(13/80)
فتوى برقم 2024 وتاريخ 16 \ 7 \ 1398 هـ
السؤال: هل الرسول صلى الله عليه وسلم أحرم واغتسل من المدينة المنورة؟
الجواب: أحرم النبي صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة أي أهل بالنسك ولبى به منها لا من المدينة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت المواقيت المكانية لنسك الحج والعمرة، فجعل ذا الحليفة ميقاتا لأهل المدينة، وما كان صلى الله عليه وسلم ليشرع شيئا ويخالفه، وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «وقت رسول الله لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، وقال: هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة (1) » رواه البخاري ومسلم.
وثبت عن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أنه سمع أباه يقول: «ما أهل
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1524) ، صحيح مسلم الحج (1181) ، سنن النسائي مناسك الحج (2654) ، مسند أحمد بن حنبل (1/252) ، سنن الدارمي المناسك (1792) .(13/80)
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد يعني مسجد ذي الحليفة (1) » رواه البخاري ومسلم، واغتسل بذي الحليفة أيضا لما روي عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه «أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل (2) » رواه الترمذي، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1541) ، صحيح مسلم الحج (1186) ، سنن الترمذي الحج (818) ، سنن النسائي مناسك الحج (2757) ، سنن أبو داود المناسك (1771) ، سنن ابن ماجه المناسك (2916) ، مسند أحمد بن حنبل (2/66) ، موطأ مالك الحج (740) .
(2) سنن الترمذي الحج (830) ، سنن الدارمي المناسك (1794) .(13/81)
فتوى برقم 2030 وتاريخ 16 \ 7 \ 1398هـ
السؤال: رجل أحرم للحج من جدة، ولما وصل المدينة بعد الحج قيل له: عندك نقص ويسأل هل عليه دم أم لا؟
الجواب: على من أراد الحج أو العمرة أن يحرم من الميقات الذي يمر عليه أو يحاذيه، فإذا تجاوزه وأحرم من مكان أقرب منه إلى مكة فعليه دم عند أكثر أهل العلم، ولا شك أن جدة داخل المواقيت، فمن أخر إحرامه إليها فقد جاوز الميقات الشرعي، فيتعين عليه دم وهو جذع من الضأن أو أنثى من المعز أو سبع بدنة أو سبع بقرة يذبحه في الحرم ويوزعه على مساكينه؛ لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: من ترك منسكا أو نسيه فليهرق دما. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(13/81)
صفحة فارغة(13/82)
أسئلة وأجوبة في أحكام الحج
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
السؤال الأول: ما حكم الاجتماع في الدعاء في يوم عرفة سواء كان ذلك في عرفات أو غيرها، وذلك بأن يدعو إنسان من الحجاج الدعاء الوارد في بعض كتب الأدعية المسمى بدعاء يوم عرفة أو غيره، ثم يردد الحجاج ما يقول هذا الإنسان دون أن يقولوا آمين، فهل يعتبر هذا الدعاء بدعة أم لا؟ نرجو توضيح ذلك مع ذكر الدليل.
الجواب: الأفضل للحاج في هذا اليوم العظيم أن يجتهد في الدعاء والضراعة إلى الله سبحانه وتعالى، ويرفع يديه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم اجتهد في الدعاء والذكر في هذا اليوم حتى غربت الشمس، وذلك بعدما صلى الظهر والعصر جمعا وقصرا في وادي عرنة ثم توجه إلى الموقف فوقف هناك عند الصخرات وجبل الدعاء ويسمى جبل الال، واجتهد في الدعاء والذكر رافعا يديه مستقبلا القبلة وهو على ناقته، وقد شرع الله سبحانه لعباده الدعاء بتضرع وخفية وخشوع لله عز وجل ورغبة ورهبة، وهذا الموطن من أفضل مواطن الدعاء قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (1) وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} (2) الآية.
وفي الصحيحين: قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: «رفع الناس أصواتهم بالدعاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إن الذي تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته (3) » ، وقد أثنى الله جل وعلا على زكريا عليه السلام في ذلك، قال تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} (4) {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} (5) ، وقال عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (6) الآية، والآيات والأحاديث في الحث على الذكر والدعاء كثيرة، ويشرع في
__________
(1) سورة الأعراف الآية 55
(2) سورة الأعراف الآية 205
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) سورة مريم الآية 2
(5) سورة مريم الآية 3
(6) سورة غافر الآية 60(13/83)
هذا الموطن بوجه خاص الإكثار من الذكر والدعاء بإخلاص وحضور قلب ورغبة ورهبة، وشرع رفع الصوت به وبالتلبية كما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذا اليوم: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير (1) » .
أما الدعاء الجماعي فلا أعلم له أصلا، والأحوط تركه؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم فيما علمت، لكن لودعا إنسان في جماعة وأمنوا على دعائه فلا بأس في ذلك كما في دعاء القنوت ودعاء ختم القرآن الكريم ودعاء الاستسقاء ونحو ذلك.
أما التجمع في يوم عرفة في غير عرفة فلا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » أخرجه مسلم في صحيحه، والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه مالك في الموطأ كتاب القرآن 32 والحج 246، ومسلم في المناسك، وأبو داود في المناسك.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه.(13/84)
السؤال الثاني: نرى في هذه الأيام عند النفرة من عرفات إلى مزدلفة الزحام الشديد، بحيث إن الحاج إذا وصل إلى مزدلفة لا يستطيع المبيت فيها من شدة الزحام، ويجد مشقة في ذلك، فهل يجوز ترك المبيت بمزدلفة، وهل على الحاج شيء إذا ترك المبيت بها، وهل تجزئ صلاة المغرب والعشاء عن الوقوف والمبيت في مزدلفة وذلك بأن يصلي الحاج صلاتي المغرب والعشاء في مزدلفة، ثم يتجه فورا إلى منى، فهل يصح الوقوف على هذا النحو، نرجو توضيح ذلك مع ذكر الدليل.
الجواب: المبيت بمزدلفة من واجبات الحج، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد بات بها صلى الله عليه وسلم وصلى الفجر بها وأقام حتى أسفر جدا، وقال: «خذوا عني مناسككم (1) » ، ولا يعتبر الحاج قد أدى هذا الواجب إذا صلى المغرب والعء فيها جمعا ثم أنصرف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص إلا للضعفة آخر الليل.
وإذا لم يبت في مزدلفة فعليه دم جبران لتركه الواجب، والخلاف بين أهل العلم رحمهم الله في كون المبيت في مزدلفة ركنا أو واجبا أو سنة مشهور معلوم، وأرجح الأقوال الثلاثة أنه واجب على من تركه دم، وحجه صحيح، وهذا هو قول أكثر أهل العلم، ولا
__________
(1) رواه النسائي وأحمد بن حنبل.(13/84)
يرخص في ترك المبيت إلى النصف الثاني من الليل إلا للضعفة، أما الأقوياء الذين ليس معهم ضعفة فالسنة لهم أن يبقوا في مزدلفة حتى يصلوا الفجر بها ذاكرين الله داعينه سبحانه حتى يسفروا، ثم ينصرفوا قبل طلوع الشمس تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن لم يصلها إلا في النصف الأخير من الضعفة كفاه أن يقيم بها بعض الوقت ثم ينصرف أخذا بالرخصة، والله ولي التوفيق.(13/85)
السؤال الثالث: ما حكم من صلى صلاتي المغرب والعشاء قصرا وجمع تأخير قبل دخول مزدلفة وذلك لأسباب طارئة، منها تعطل سيارته في الطريق إلى مزدلفة وخشية فوات وقت المغرب والعشاء، حيث كان الوقت متأخرا جدا فصلى صلاتي المغرب والعشاء على حدود مزدلفة، أي قبل مزدلفة بمسافة بسيطة، ثم نام ريثما يتم إصلاح سيارته، ثم صلى أيضا صلاة الفجر وذلك بعد دخول وقت صلاة الفجر أيضا، صلاها على حدود مزدلفة حيث إنه لم يستطع دخول مزدلفة إلا في الصباح والشمس قد أشرقت، فهل تصح صلاته هذه لكل من المغرب والعشاء والفجر على حدود مزدلفة، فنرجو من سماحتكم توضيح ذلك مع ذكر الدليل؟
الجواب: الصلاة تصح في كل مكان إلا ما استثناه الشارع، كما قال صلى الله عليه وسلم: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا (1) » ولكن المشروع للحاج أن يصلي المغرب والعشاء جمعا في مزدلفة حيث أمكنه ذلك قبل نصف الليل، فإن لم يتيسر له ذلك لزحام أو غيره صلاها بأي مكان كان ولم يجز له تأخيرهما إلى ما بعد نصف الليل؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (2) أي مفروضا في الأوقات، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: وقت العشاء إلى نصف الليل (3) . رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، والله أعلم.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) سورة النساء الآية 103
(3) رواه مسلم(13/85)
السؤال الرابع: هل يجوز رمي جمرة العقبة ليلا أي ليلة عيد الأضحى بعد الانصراف من مزدلفة إلى منى في الليل، وما هو تعليق سماحتكم على الحديث الصحيح(13/85)
وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم لغلمان بني عبد المطلب: «لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس (1) » .
الجواب: الأفضل للأقوياء رمي جمرة العقبة يوم العيد بعد طلوع الشمس اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وعملا بالحديث المذكور، أما أهل الأعذار وهم الضعفة فإنه يجوز لهم في النصف الأخير من الليل لأحاديث وردت في ذلك، منها حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها رمت الجمرة قبل الفجر (2) ، رواه أبو داود بإسناد صحيح، ولما رواه البخاري رحمه الله «عن عبد الله مولى أسماء، أنها نزلت ليلة جمع في المزدلفة فقامت تصلي، فصلت ساعة ثم قالت: يا بني، هل غاب القمر؟ قلت: لا. فصلت ساعة ثم قالت: هل غاب القمر؟ قلت: نعم. قالت: فارتحلوا. فارتحلنا ومضينا حتى رمت جمرة العقبة، ثم رجعت وصلت الصبح في منزلها، فقلت لها يا هنتاه ما أرانا إلا قد غلسنا. قالت: يا بني، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن (3) » أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الرمي بعد طلوع الشمس فقد ضعفه بعض أهل العلم لما في إسناده من الانقطاع، وعلى فرض صحته فهو محمول على الندب والأفضلية جمعا بين الأحاديث الواردة في ذلك كما نبه على ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله، والله أعلم.
__________
(1) رواه الخمسة.
(2) رواه أبو داود.
(3) متفق عليه.(13/86)
السؤال الخامس: ما حكم من ترك المبيت في منى ثلاثة أيام أو اليومين المذكورين للمتعجل، فهل يلزمه دم عن كل يوم فاته المبيت فيه في منى، أم أنه عليه دم واحد فقط لكل الأيام الثلاثة التي لم يبت فيها بمنى، نرجو توضيح ذلك مع ذكر الدليل؟
الجواب: من ترك المبيت بمنى أيام التشريق بدون عذر فقد ترك نسكا شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله وبدلالة ترخيصه لبعض أهل الأعذار مثل الرعاة وأهل السقاية، والرخصة لا تكون إلا مقابل العزيمة، ولذلك اعتبر المبيت بمنى أيام التشريق من واجبات الحج في أصح قولي أهل العلم، ومن تركه بدون عذر شرعي فعليه دم؛ لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: من ترك نسكا أو نسيه فليرق دما (1) . ويكفيه دم واحد عن ترك المبيت أيام التشريق، والله أعلم.
__________
(1) رواه مالك في الموطأ باب الحج 188، 240.(13/86)
السؤال السادس: ما حكم من ترك المبيت في منى ليلة واحدة وهي ليلة الحادي عشر، وذلك بأن كان الحاج مريضا ولم يستطع المبيت في منى تلك الليلة، ولكنه رمى الجمار نهارا بعد الزوال، أي أنه رمى جمار يوم الحادي عشر من أيام التشريق مع جمار اليوم الثاني عشر في النهار بعد الزوال، فهل يلزمه دم في هذه الحالة حيث إنه ترك مبيت ليلة الحادي عشر بمنى مع العلم أنه بات ليلة الثاني عشر في منى ورمى الجمار بعد الزوال من ذلك اليوم ثم ارتحل عن منى إلى مكة، نرجو توضيح ذلك مع ذكر الدليل؟
الجواب: ما دام ترك المبيت بمنى ليلة واحدة لعذر المرض فلا شيء عليه لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للساقة والرعاة المبيت بمنى من أجل السقي والرعي والله أعلم.
__________
(1) سورة التغابن الآية 16(13/87)
السؤال السابع: هل يجوز للحاج رمي جمار أيام التشريق كلها في يوم واحد، سواء كان ذلك اليوم هو أول يوم من أيام التشريق أو كان النحر مثلا، أو كان آخر يوم من أيام التشريق، ثم يبيت في منى اليومين أو الأيام الثلاثة بدون رمي، حيث إنه قد رمى جميع الجمار في يوم واحد، فهل يصح رميه هذا أم أنه لا بد من ترتيب رمي الأيام كل يوم على حدة حتى ينتهي من رمي الأيام الثلاثة، نرجو توضيح ذلك مع ذكر الدليل؟
الجواب: رمي الجمار من واجبات الحج، ويجب في يوم العيد وأيام التشريق الثلاثة لغير المتعجل وفي اليومين الأولين من أيام التشريق للمتعجل، ويرمي عن كل يوم بعد الزوال؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: «خذوا عني مناسككم (1) » ولا يجوز تقديم رميها قبل وقته، أما التأخير فيجوز عند الحاجة الشديدة كالزحام عند جمع من أهل العلم قياسا على الرعاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهم بأن يجمعوا رمي يومين في اليوم الثاني منهما وهو الثاني عشر، ويرتب ذلك بالنية أولها يوم العيد ثم رمي اليوم الأول ثم الثاني ثم الثالث إن لم يتعجل، ويكون طواف الوداع بعد ذلك، والله أعلم.
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .(13/87)
السؤال الثامن: بعض الناس يمكثون بمنى ليلة واحدة وهي ليلة الحادي عشر، ويرمون الثاني عشر في يوم الحادي عشر، ويظنون أنهم قد مكثوا يومين وذلك لأنهم يحسبون يوم العيد يوما من أيام التشريق فيقولون: نحن قد رمينا يوم العيد (يوم النحر) واليوم الثاني الذي بعده وهو يوم الحادي عشر، ويقولون: إن هذه يومان استنادا إلى الآية الكريمة في قوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (1) الآية، وبذلك يغادرون منى يوم الحادي عشر بعد أن يكونوا قد رموا اليوم الثاني عشر في يوم الحادي عشر، ويتركون بيات يوم الثاني عشر في منى، فهل هذا يجوز شرعا، وهل يصح للإنسان أن يحسب يوم العيد من اليومين أم أنهم قد رموا يوم الثاني عشر في يوم الحادي عشر ثم انصرفوا من منى؟ نرجو توضيح ذلك مع ذكر الدليل.
الجواب: المراد باليومين اللذين أباح الله جل وعلا للمتعجل الانصراف من منى بعد انقضائهما هما ثاني وثالث العيد؛ لأن يوم العيد هو يوم الحج الأكبر وأيام التشريق هي ثلاثة أيام تلي يوم العيد، وهي محل رمي الجمرات وذكر الله جل وعلا، فمن تعجل انصرف قبل غروب الشمس يوم الثاني عشر، ومن غربت عليه الشمس في هذا اليوم وهو في منى لزمه المبيت والرمي في اليوم الثالث عشر، وهذا هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والمنصرف في اليوم الحادي عشر قد أخل بما يجب عليه من الرمي فعليه دم يذبح في مكة للفقراء، أما تركه المبيت في منى ليلة الثاني عشر فعليه عن ذلك صدقة بما يتيسر مع التوبة والاستغفار عما حصل منه من الخلل والتعجل قي غير وقته.
__________
(1) سورة البقرة الآية 203(13/88)
السؤال التاسع: متى يبدأ وقت رمي الجمار جمار أيام التشريق الثلاثة؟ وإلى متى ينتهي؟ وهل يصح أن يرمي الحاج ليلا هذه الجمار خاصة هذه الأيام ونحن نرى الزحام الشديد والمشقة الصعبة في الرمي نهارا؛ وذلك لأن بعض الناس يستدلون بالحديث الصحيح الذي رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر بمنى فيقول: لا حرج، فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح؟ قال: اذبح ولا حرج. فقال: رميت بعدما أمسيت، فقال: لا حرج (1) » فهم يقولون: إنه إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجاز للرجل الرمي ليلا حيث إن الرمي في يوم النحر
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1735) ، صحيح مسلم الحج (1307) ، سنن النسائي مناسك الحج (3067) ، سنن أبو داود المناسك (1983) ، سنن ابن ماجه المناسك (3050) ، مسند أحمد بن حنبل (1/291) .(13/88)
من أوجب الواجبات على كل حاج حتى يتحلل التحلل الأول فكيف ببقية أيام التشريق الثلاثة التي تقل وجوبا عن يوم النحر؟ فهذا دليل على أن الرمي أيام التشريق الثلاثة جائز ليلا، فما حكم من رمى الجمار ليلا هل عليه شيء أم لا؟ نرجو من سماحتكم توضيح هذه النقطة مع ذكر الدليل.
الجواب: وقت رمي الجمار أيام التشريق من زوال الشمس إلى غروبها؛ لما روى مسلم في صحيحه أن جابر رضي الله عنه قال: «رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر ضحى ورمى بعد ذلك بعد الزوال (1) » ، وما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن ذلك فقال: كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا. وعليه جمهور العلماء، لكن إذا اضطر إلى الرمي ليلا فلا بأس بذلك ولكن الأحوط الرمي قبل الغروب لمن قدر على ذلك أخذا بالسنة وخروجا من الخلاف.
وأما حديث ابن عباس المذكور فليس دليلا على الرمي بالليل؛ لأن السائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقوله: بعدما أمسيت أي بعد الزوال، ولكن يستدل على الرمي بالليل بأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم نص صريح يدل على عدم جواز الرمي بالليل، والأصل جوازه، لكنه في النهار أفضل وأحوط، ومتى دعت الحاجة إليه ليلا فلا بأس به في رمي اليوم الذي غابت شمسه إلى آخر الليل، أما اليوم المستقبل فلا يرمي عنه في الليلة السابقة له ما عدا ليلة النحر في حق الضعفة في النصف الأخير، أما الأقوياء فالسنة لهم أن يكون رميهم جمرة العقبة بعد طلوع الشمس كما تقدم جمعا بين الأحاديث الواردة في ذلك والله أعلم.
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1299) ، سنن الترمذي الحج (894) ، سنن النسائي مناسك الحج (3063) ، سنن أبو داود المناسك (1971) ، سنن ابن ماجه المناسك (3053) ، مسند أحمد بن حنبل (3/313) ، سنن الدارمي المناسك (1896) .(13/89)
السؤال العاشر: هل يجب الهدي على أهل مكة لمن أحرم منهم بالحج فقط؟ وهل يصح في حقهم التمتع أم القران في الحج نرجو توضيح ذلك مع ذكر الدليل؟
الجواب: يصح التمتع والقران من أهل مكة وغيرهم لكن ليس على أهل مكة هدي، وإنما الهدي على غيرهم من أهل الآفاق القادمين إلى مكة محرمين بالتمتع أو القران؛ لقول الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 196(13/89)
السؤال الحادي عشر: ما حكم الأضحية؟ وعلى من تجب الأضحية؟ وهل هناك فرق بين الأضحية والهدي؟ وهل الأضحية تجب على الحاج أم لا؟ وكيف ومتى وأين ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كما نرجو من سماحتكم التعليق على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان عنده سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا (1) » أو كما قال صلى الله عليه وسلم. فنرجو توضيح هذا الحديث، وتوضيح الأحكام الخاصة والمتعلقة بالأضحية ومشروعيتها مع ذكر الدليل.
الجواب: الأضحية سنة مؤكدة في أصح قولي أهل العلم، وتتأكد على من عنده سعة من المال؛ لأنها من آكد أنواع العبادات المشروعة يوم عيد الأضحى وأيام التشريق.
وقد داوم عليها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، فكان يضحي كل سنة بكبشين أملحين أقرنين كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه، والفرق بينها وبين الهدي أن هدي التمتع والقران واجب من واجبات الحج؛ لقول الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (2) ، أما الأضحية فلا تجب على الصحيح لعدم ورود نص صحيح صريح يفيد الوجوب كما تقدم، ومن الفرق أيضا أن الهدي مشروع ذبحه في منى وبقية الحرم أما الأضحية فتشرع في كل مكان.
وما عدا ذلك فأحكامهما واحدة من حيث وقت الذبح، والشروط المطلوبة للإجزاء، والأكل منها والتصدق، إلى غير ذلك.
أما حديث «من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا (3) » فقال عنه الحافظ في البلوغ: رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الحاكم، ورجح الأئمة غيره وقفه.
* * *
__________
(1) رواه أحمد وابن ماجه وغيرهما.
(2) سورة البقرة الآية 196
(3) رواه أحمد وغيره.(13/90)
ومع ذلك فليس صريحا في الإيجاب لو صح رفعه، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أكل ثوما أو بصلا فلا يقربن مصلانا (1) » ، ولم ير أهل العلم أن ذلك يوجب تحريم الثوم والبصل إنما احتجوا به على كراهة حضوره الصلاة مع المسلمين؛ لما في ذلك من الأذية لهم بسبب الرائحة الكريهة. . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
__________
(1) رواه البخاري 9 \ 498، ومسلم 546.(13/91)
اللجنة تجيب على أسئلة موجهة إلى سماحة الرئيس العام
فتوى برقم 6249 وتاريخ 27 \ 10 \ 1453 هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله واله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفتاء المقدم من ص. ش إلى سماحة الرئيس العام والمحال إليها برقم 993 في 8 \ 5 \ 1403هـ ونصه: (في الحقيقة عندي مسألة محيرة منذ زمن طويل وأود لو تأخذ بيدي لجادة الحق والصواب بها وهي مفصلة كالأتي:
يقول الرسول عليه الصلاة والسلام في أحاديثه الشريفة:
أ- «إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر (1) » . ب- «إن الله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير (2) » .
جـ- «إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (3) » .
د- «إن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى النملة في جحرها (4) » .
هـ- العالم والمتعلم شريكان في الخير، وسائر الناس لا خير فيه. رواه الطبراني عن أبي الدرداء موقوفا.
و «نضر الله أمرا سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها (5) » .
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2682) ، سنن أبو داود العلم (3641) ، سنن ابن ماجه المقدمة (223) ، مسند أحمد بن حنبل (5/196) .
(2) سنن الترمذي العلم (2685) ، سنن الدارمي المقدمة (289) .
(3) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .
(4) سنن الترمذي العلم (2685) ، سنن الدارمي المقدمة (289) .
(5) سنن الترمذي العلم (2658) ، سنن ابن ماجه المقدمة (232) .(13/91)
ويقول الله تعالى في محكم كتابه الكريم:
أ- {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} (1) .
ب- {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (2) .
فالسؤال هو:
يفهم من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ومن آيات الله المحكمات بأن العلم والعالم المقصود هو علم الدين الإسلامي وعالم الشريعة الإسلامية، فهم الربانيون وهم الصديقون وهم الراسخون في العلم وهم الشهداء على الناس، ولكن يقول الله تعالى في كتابه الكريم أيضا:
أ- {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (3) .
ب- {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} (4) .
جـ - {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} (5) .
د- {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} (6) .
هـ- {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} (7) {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} (8) {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (9) .
ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام:
أ- «يا عباد الله تداووا، فإن لكل داء دواء، إلا داء واحد وهو الهرم (10) » .
__________
(1) سورة الحديد الآية 19
(2) سورة النساء الآية 69
(3) سورة المجادلة الآية 11
(4) سورة العنكبوت الآية 20
(5) سورة فصلت الآية 53
(6) سورة الأعراف الآية 185
(7) سورة الطارق الآية 5
(8) سورة الطارق الآية 6
(9) سورة الطارق الآية 7
(10) سنن الترمذي الطب (2038) ، سنن أبو داود الطب (3855) ، سنن ابن ماجه الطب (3436) .(13/92)
وهنا من خلال القسم الثاني من الآيات والأحاديث نرى بأن الله يدعونا لعلوم أخرى غير علم الشريعة، فالله يدعونا في كثير من الآيات أن نسعى لدراسة جسم الإنسان (أي الطب البشري) حتى نتبين آيات الله وإعجازه في خلقه حتى نبين ذلك للناس، ونثبت لهم عظمة الله ووجوده وصحة الشرع الإسلامي لمن يبطل الحق، بل إن الرسول عليه الصلاة والسلام يأمرنا بذلك - أي بدراسة الطب وتطبيب الناس بها - وفي أحاديث كثيرة يقول الرسول العديد من الوسائل الطبية للعلاج من تلك التي لا يمكننا استخدامها الآن، إلا بوساطة طبيب متخصص عنده علم شرعي، فالسؤال (الجزء الأول) :
هل أن العلم الذي يثيب الله عليه الإنسان ويرفعه الدرجات العلا به، ويجعله في المرتبة الرابعة في الجنة بعد الأنبياء والرسل هو العلم الشرعي - أي الديني - فقط، وبالتالي دارس الطب الذي يعمل في سبيل الله، لا حظ له ولا نصيب، أم أن العلم المقصود في الآيات وفي الأحاديث هو كل علم درسه الإنسان وفقا للشروط الآتية: أ- فائدة الإسلام والمسلمين.
ب- نية الإثابة من الله عز وجل.
جـ - الوصول لحقائق إيمانية جديدة وبيانها للناس حتى تزيد قوة إيمانهم.
د- زيادة الإيمان من رؤية آيات إعجاز الله في خلقه وفي الكون.
مع الأخذ بعين الاعتبار بأن أي دارس لأي علم يكون عنده الحد الأدنى من العلم الشرعي المفروض عليه، وبالتالي الجزء الثاني من السؤال:
إذا كان الإنسان درس وما زال يدرس الحد الأدنى المفروض عليه من العلم الشرعي، وأراد بعدها أن يدرس الطب البشري في سبيل الله لعلاج المسلمين والوصول لحقائق إيمانية جديدة بربطه مع العلم الشرعي، فهل يدخله الله في الإثابة كطالب العلم الشرعي، أي هل يثيبه الله حسب جهده ومقدار علمه، مهما كان، طالما هو في سبيل الله، أم أن العلم الشرعي يحتل المكانة الأولى في الإثابة وتليه العلوم الأخرى كالطب وغيره.
الجزء الثالث:
إذا كان دارس الشريعة له الفضل الأكبر من دارس الطب، مع العلم بأن كلا منهما يريد وجه الله في علمه وعمله، فما ذنب دارس الطب أن يضيع عليه هذا(13/93)
الفضل وهو يدرس لعلاج الناس، وللبحث في إعجاز الله في خلقه تبعا لأوامر الله وتوجيهاته في كتابه؟ وهل معنى أن دارس الشريعة لأنه يفيد عددا أكبر من الناس عن الطبيب المتخصص الذي يفيد عددا أقل بحكم أن المرضى هم جزء من الناس، أنه أكثر إثابة من الطبيب أم أن الله سيحاسب الاثنين كلا على قدر جهده وعلمه وعمله المتعلق بظروفه الخاصة؟
وأجابت اللجنة الدائمة بما يلي:
أولا: أنزل الله تعالى كتابه وأرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ليهدي الناس إلى الصراط المستقيم في عقائدهم وعبادتهم ربهم سبحانه؛ وليبين لهم أحكام ما يدور بينهم من معاملات تنتظم بها أمور دينهم ودنياهم بيانا شافيا، وقد أتم الله نعمته بذلك على عباده وأكمل لهم دينهم الذي ارتضاه لهم، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) .
ثانيا: أمر الله تعالى عباده أن يتدبروا آياته الكونية، وأن يتبصروا في عجائب مخلوقاته ليقفوا على أسرارها، وليتعرفوا من خلال ذلك على بارئها، فيؤمنوا به، وتخبت له قلوبهم، ويقدروه حق قدره {وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (2) فيعبدوه وحده لا شريك له، مخلصين له الدين، رجاء ثوابه وخوف عقابه، وليستيقنوا أنه لم يخلقهم عبثا، ولن يتركهم سدى، فإن مقتضى حكمته أن يعيدهم ليوم الجزاء، ليوفي كل نفس ما كسبت {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} (3) {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (4) ، {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (5) {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (6) {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} (7) ، فهذه الآيات سيقت للاستدلال بما ذكر فيها من توحيد الربوبية على إثبات ما سبقها من الخبر عن توحيد الإلهية الذي دعا إليه كل من نوح وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام قومه، وللاستدلال بما ذكر فيها
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة إبراهيم الآية 52
(3) سورة الزلزلة الآية 7
(4) سورة الزلزلة الآية 8
(5) سورة العنكبوت الآية 19
(6) سورة العنكبوت الآية 20
(7) سورة العنكبوت الآية 21(13/94)
من كمال قدرة الله على بدء الخلق، على أن يعيدهم للحساب والجزاء، فأمرهم أن ينظروا في الخلق نظر تدبر واعتبار، وأن يسيروا في الأرض ليعرفوا الدلائل الكونية على توحيد الله في ألوهيته وكمال أسمائه وصفاته، وقدرته على البعث يوم القيامة، ولينظروا كيف كان عاقبة من آمن ومن كفر، من نصر ونجاة للمؤمنين، ودمار وهلاك للكافرين، فيسلكوا سبيل الحق الذي دعا إليه المرسلون، ويهتدوا بهداهم، ويجتنبوا طريق من كذب رسله، فأنزل بهم بأسه، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون، فبالتبصر في هذا الآيات والاعتبار بها والإيمان بما دلت عليه من عقائد وأحكام، وما يتبع ذلك من عواقب يرفع الله بها الذين آمنوا والذين أوتوا هذا العلم عنده درجات نصرا وعزة في الدنيا، وفوزا وسعادة يوم القيامة.
ومن هذا يتبين أن القصد من هذه الآيات إثبات أصول دينية، هي توحيد الإلهية، وبعث العباد يوم القيامة للجزاء، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعواه الرسالة، وفي دعوته الناس إلى التوحيد والبعث للجزاء، وقد دل على ذلك ما سبقها وما لحقها من الآيات، ولم يقصد بها وضع قواعد للصناعة والزراعة، يتعرف الناس منها شئون دنياهم، أو نظريات هندسية، أو شرح لسننه الكونية ليتعرف الناس منها علوم الهندسة والفيزياء وطبقات الأرض ويصلوا بذلك إلى ما ينهض بهم في دنياهم من مخترعات، إنما وصل إلى ذلك من وصل بتوفيق الله، ثم بما وهب الله له من فكر ثاقب ودراسة محكمة لما سخر الله لهم من ملكوت السماوات والأرض وما بينهما، وما أودع الله في ذلك من سنن كونية، فالأصل في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم التشريع الديني، تقعيدا وتفصيلا، لا التقعيد والتفصيل للعلوم الكونية، وما جاء فيهما من ذلك فهو قليل وغير مقصود بالمقصد الأول، بل بالتبع، كالأخبار التي وردت في مسائل من الطب ونحوه، وهي جزئيات محدودة لا قواعد كلية، يرجع إليها في تشخيص الأمراض، أو يعتمد عليها في جميع أنواع العلاج، أو يتعرف منها خواص جميع الخامات، وما يكون منها علاجا للأنواع المختلفة من الأمراض. كذا القول في آية: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} (1) فإنها حث
__________
(1) سورة الأعراف الآية 185(13/95)
للمكذبين على النظر في ملكوت السماوات والأرض وفي عجائب جميع ما خلق الله؛ ليستدلوا بذلك على ما سبق التصريح به من توحيد العبادة، وإفراده تعالى بالدعاء، وتسميته تعالى بما سمى ووصف به نفسه، من كمال الأسماء والصفات، ولا يلحدوا فيها كما ألحد غيرهم، بإنكارها وجحدها أو تحريفها عن مواضعها، أو بتسميته تعالى ووصفه بغير ما سمى ووصف به نفسه، أو تسمية غيره ووصفه بما سمى ووصف به سبحانه نفسه، خشية أن يصيبهم بأس الله وعقابه، بما كانوا يفترون من الإلحاد في أسمائه وصفاته، وأن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وليحذروا أن يغتروا بإملائه، فإنه سبحانه يملي إعذارا واستدراجا، ولكنه لا يهمل، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (2) {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} (3) {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (4) ثم نوه بشأن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ورجاحة عقله، وصدقه في رسالته ونذارته، فقال سبحانه: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} (5) ، ثم أمرهم بالنظر في ملكوت السماوات والأرض. . فالآية مع ما قبلها سيقت لإثبات التوحيد بأنواعه، وإثبات رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه فيما جاء به من الله، وإثبات الجزاء عاجلا أو آجلا يوم القيامة، كالآيات الأولى التي من سورة العنكبوت، ولم تنزل لوضع تقعيد أو نظريات للعلوم الكونية يرجع إليها من يريد أن يتعلم تفاصيل هذه العلوم إلى آخر ما تقدم إيضاحه في الآيات السابقة.
ولا يبعد مغزى آية: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (6) عن مغزى ما تقدم من آيات سورة الأعراف وسورة العنكبوت من إثبات التوحيد وصدق النبي صلى الله عليه وسلم في الرسالة، وإثبات البعث يوم القيامة، بل سورة فصلت نزلت كلها لإثبات ذلك وبيانه.
وأما قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} (7) {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} (8) {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (9) فإنه سيق للاستدلال ببدء خلق الإنسان على قدرة الله على
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180
(2) سورة الأعراف الآية 181
(3) سورة الأعراف الآية 182
(4) سورة الأعراف الآية 183
(5) سورة الأعراف الآية 184
(6) سورة فصلت الآية 53
(7) سورة الطارق الآية 5
(8) سورة الطارق الآية 6
(9) سورة الطارق الآية 7(13/96)
إعادته، فإن من قدر على البدء فهو على الإعادة أقدر على ما هو الحال في النظر، وإن كان الكل بالنسبة لقدرة الله سواء، قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) بل سورة الطارق كلها في إثبات البعث وتهديد المكذبين.
وأما حديث التداوي فالقصد منه الأمر بالتداوي، والتنبيه على الأخذ بالأسباب وعدم الإعراض عنها، وبيان أن ذلك لا ينافي التوحيد، إذا كان المتداوي لا يعتمد على الأسباب ويجعلها الأصل في الشفاء، بل يوقن بأن الشفاء من الله، وأنه هو الذي جعل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، كما ثبت ذلك في الحديث، ولم يفصل النبي صلى الله عليه وسلم أنواع الأدوية والأدواء، ولم يبين لكل داء ما يخصه من الأدوية إلا في جزئيات قليلة، ولم يضع للطب قاعدة يتعرف منها من يريد تعلم الطب وخواص الأدوية وأعراض الأمراض، ولكن حثهم على النظر وتعلم ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وسخر الله لهم الكون، وأعطاهم العقل ليتبصروا في ذلك، ووفق منهم من شاء لما شاء من إدراك أسرار الكون وعجائبه، وما فيه من الخواص والمنافع والمضار.
فعلى المسلمين أن يتبصروا في كتاب الله تعالى، وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ليعلموا كليات الشريعة ومقاصدها وتفاصيلها، كل بقدر ما آتاه الله من عقل واستعداد وما هيأ الله له من صحة وفراغ، كما أن عليهم أن يدرسوا أيضا سنن الله الكونية في السماوات والأرض ليعلموا ما أودع الله فيها من أسرار، وليستنبطوا منها ما شاء الله مما هم في حاجة إليه من علوم الطب والزراعة والصناعة والفيزياء وطبقات الأرض وغيرها من العلوم الكونية؛ ليستفيدوا منها في دنياهم، ويستعينوا بها في شئون دينهم، ويستغنوا بها عمن سواهم من الكافرين، وبذلك يجمعون بين القوة والعزة في الدنيا، والنجاة والسعادة في الآخرة، ويصلحون للخلافة في الأرض وعمارتها دينا ودنيا.
وعلى ولاة أمور المسلمين من علماء وحكام أن ينهضوا بالأمة الإسلامية، وأن يرعوها حق الرعاية، ويأخذوا بأيديها إلى ما فيه الخير والصلاح علما وعملا، ويوزعوا جهودها على جميع جوانب الحياة، دراسة وإنتاجا لشتى العلوم والأعمال، دينية ودنيوية، ليوجدوا الأكفاء الذين يقومون بمصالحها ويتضلعون بأعبائها، ويتحملون
__________
(1) سورة الروم الآية 27(13/97)
مسئولياتها، وتستغني بهم عمن سواها من الدول علما وعملا.
ومن هذا يتبين أن كل علم ديني مع وسائله التي تعين على إدراكه، داخل فيما يرفع الله من علمه وعمل به مخلصا له عنده درجات، وأنه مقصود بالقصد الأول. وكل علم دنيوي تحتاجه الأمة وتتوقف عليه حياتها كالطب والزراعة والصناعة ونحوها، داخل أيضا إذا حسنت النية، وأراد به متعلمه والعامل به نفع الأمة الإسلامية ودعمها، ورفع شأنها، وإغناءها عن دول الكفر والضلال، لكن بالقصد الثاني التابع، ودرجات كل متفاوتة تبعا لمنزلة ذلك من الدين وقوته في النفع، ودفع الحاجة، والله سبحانه هو الذي يقدر الأمور قدرها، وينزلها منازلها، وهو الذي يعلم السر وما هو أخفى، وإليه الجزاء ورفع الدرجات في الدنيا والآخرة وهو الحكيم العليم. وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(13/98)
فتوى برقم 8732 وتاريخ 7 \ 8 \ 1405 هـ
فتوى حول من فاته الركوع الثاني في صلاة الكسوف
السؤال: هل صحيح أن الركوع الثاني من صلاة الكسوف سنة ولا يعتد به المسبوق بحيث يأتي المسبوق بالركوع الأول بركعة كاملة بركعتين بعد تسليم الإمام أم أن الركوع الثاني يقوم مقام الأول؟(13/98)
الجواب: الصحيح أن من فاته الركوع الأول من صلاة الكسوف لا يعتد بهذه الركعة، وعليه أن يقضي مكانها ركعة أخرى بركوعين؛ لأن صلاة الكسوف عبادة والعبادات توقيفية، فيقتصر فيها على ما ثبت من كيفيتها في النصوص الصحيحة.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان المنيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(13/99)
صفحة فارغة(13/100)
إقامة البرهان
في الرد على من أنكر خروج المهدي والدجال ونزول المسيح في آخر الزمان
للشيخ: حمود بن عبد الله التويجري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد، فقد رأيت في المجلة المسماة "المسلمون" مقالا لعبد الكريم الخطيب أنكر فيه ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ظهور المهدي في آخر الزمان، وما أخبر به من خروج الدجال ونزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وهذه جراءة عظيمة وخطيرة جدا؛ لأن إنكار الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ومقابلتها بالرد والإطراح يدل على الاستخفاف بأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستلزم مشاقته واتباع غير سبيل المؤمنين وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (1) ، وقال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} (2) وليس إنكار الأحاديث الثابتة عن
__________
(1) سورة النساء الآية 115
(2) سورة يونس الآية 39(13/101)
النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر الهين؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا به وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله (2) » ، وهذا يدل على وجوب الإيمان بكل مما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان في الماضي وما يكون في المستقبل، ويدل أيضا على أن عصمة الدم والمال إنما تكون لمن آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم وبكل ما جاء به، ومن لم يؤمن به وبما جاء به فليس بمعصوم الدم والمال، وفي هذا أبلغ تشديد على من يرد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ويعارضها برأيه أو برأي غيره. وقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة. وقال إسحاق بن راهويه: من بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحته ثم رده بغير تقية فهو كافر. وقال أبو محمد البرهادي في شرح السنة: إذا سمعت الرجل يطعن على الآثار ولا يقبلها، أو ينكر شيئا من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتهمه على الإسلام، فإنه رجل رديء المذهب والقول، وإنما يطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه. وقال أيضا: ولا يخرج أحد من أهل القبلة من الإسلام حتى يرد آية من كتاب الله عز وجل، أو يرد شيئا من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يصلي لغير الله، أو يذبح لغير الله فقد وجب عليك أن تخرجه من الإسلام. وقال أيضا: من رد آية من كتاب الله فقد رد الكتاب كله، ومن رد حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد رد الأثر كله وهو كافر بالله العظيم.
وقال إبراهيم بن أحمد بن شاقلا: من خالف الأخبار التي نقلها العدل عن العدل موصولة بلا قطع في سندها، ولا جرح في ناقليها، وتجرأ على ردها فقد تهجم على رد الإسلام.
وقال ابن حزم في كتاب الإحكام: جاء النص ثم لم يختلف فيه مسلمان في أن ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قاله ففرض اتباعه، وأنه تفسير لمراد الله في القرآن وبيان لمجمله. انتهى.
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) صحيح البخاري الإيمان (25) ، صحيح مسلم الإيمان (22) .(13/102)
وإذا علم ما ذكرته من الآيات والحديث وأقوال أهل العلم في التشديد على الذين يردون الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فليعلم أيضا أنه قد ثبت في ظهور المهدي في آخر الزمان عشرة أحاديث. وقد ذكرتها وذكرت كلام العلماء في تصحيحها في أول كتاب (الاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر) فلتراجعه هناك.(13/103)
وأما خروج الدجال فقد جاء فيه أكثر من مائة وتسعين حديثا من الصحاح والحسان، وقد ذكرتها في الجزء الثاني من (إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة) فلتراجع هناك، وقد تواترت الأحاديث في خروج الدجال من وجوه متعددة ذكرتها في (إتحاف الجماعة) ولو لم يكن منها سوى الأمر بالاستعاذة من فتنة الدجال في كل صلاة كان ذلك كافيا في إثبات خروجه، والرد على من أنكر ذلك، وقد روى عبد الرزاق بإسناد حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: " إنه سيخرج بعدكم قوم يكذبون بالرجم ويكذبون بالدجال ويكذبون بالحوض ويكذبون بعذاب القبر ويكذبون بقوم يخرجون من النار ". وهذا الأثر له حكم المرفوع لأن فيه إخبارا عن أمر غيبي وذلك لا يقال من قبل الرأي إنما يقال عن توقيف، وقد ظهر مصداق ما جاء فيه من التكذيب بالدجال وغيره، فأنكرت طوائف كثيرة من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة خروج الدجال بالكلية، وردوا الأحاديث الواردة فيه.
ذكر ذلك ابن كثير في النهاية قال: وخرجوا بذلك عن حيز العلماء؛ لردهم ما تواترت به الأخبار الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر النووي في شرح مسلم أن مذهب أهل السنة وجميع المحدثين والفقهاء والنظار إثبات خروج الدجال خلافا لمن أنكره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة. انتهى.
وقد تبع الخوارج والجهمية والمعتزلة على إنكار خروج الدجال كثير من المنتسبين إلى العلم في زماننا وقبله بزمان، وأنكر بعضهم كثيرا من أشراط الساعة مما هو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يتأولها على ما يوافق عقليته الفاسدة، وقد ذكرت بعض أقوالهم في (إتحاف الجماعة) فلتراجع هناك، ولو كان الذين أشرنا إليهم أهل علم على الحقيقة لما ردوا شيئا من الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكانوا يقابلونها بالرضى والقبول والتسليم.(13/103)
وأما نزول عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام في آخر الزمان فقد جاء فيه آيات من القرآن وتواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالإخبار بنزوله، وأنه يقتل الدجال ويكون في هذه الأمة حكما عدلا وإماما مقسطا. وجاء في ذلك آثار كثيرة عن الصحابة والتابعين، وذكر بعضهم الإجماع على نزوله وأنه لم يخالف فيه أحد من أهل الشريعة، وإنما أنكره الفلاسفة والملاحدة ممن لا يعتد بخلافهم، وقد ذكرت ذلك مستوفى في (إتحاف الجماعة) فليراجع هناك.
وأما ما جاء في العنوان الأول عن نزول عيسى في أخر الزمان هو حقيقة يؤكدها القرآن أم مسألة تتنافى مع الإسلام؟
فجوابه أن يقال بل نزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان حقيقة يؤكدها القرآن، قال الله تعالى في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (1) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (2) .
وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان، فيجب الإيمان بذلك لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (3) وقد جاء في ذلك آيتان من القرآن، إحداهما قول الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} (4) ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قبل موت عيسى ابن مريم. رواه ابن جرير بإسناد صحيح. وروى الحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال: خروج عيسى ابن مريم. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال: يعني أنه سيدركه أناس من أهل الكتاب حين يبعث عيسى فيؤمنون به. وروى ابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية نحو قول ابن عباس رضي الله عنهما. وهذا القول هو الصحيح في تفسير الآية، وقد اختاره ابن جرير وابن كثير وبه يقول أبو مالك والحسن وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم، قال الحسن: والله إنه لحي الآن عند الله، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون
__________
(1) سورة النجم الآية 3
(2) سورة النجم الآية 4
(3) سورة الحشر الآية 7
(4) سورة النساء الآية 159(13/104)
رواه ابن جرير. وأما قول من قال من المفسرين إن الضمير في قوله: قبل موته يعود إلى الكتابي فليس فيه معارضة لما تقدم، فقد يؤمن كل كتابي عند احتضاره بأن عيسى عبد الله ورسوله، ولكن لا ينفعه إيمانه في هذه الحالة، وأما الذين يؤمنون به بعد نزوله في آخر الزمان فإن إيمانهم به ينفعهم، والله أعلم.
الآية الثانية قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} (1) ، وقرأ ابن عباس وأبو هريرة وقتادة والأعمش: (وإنه لعلم للساعة) بفتح العين واللام، أي أمارة وعلامة على اقتراب الساعة. قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} (2) قال: "هو خروج عيسى ابن مريم قبل يوم القيامة ". رواه الإمام أحمد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم في مستدركه وصححه هو والذهبي. وقد رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم «قال: نزول عيسى ابن مريم قبل يوم القيامة (4) » صححه الحاكم والذهبي. وقد روي عن أبي هريرة ومجاهد والحسن وقتادة وأبي العالية وأبي مالك وعكرمة والضحاك نحو قول ابن عباس رضي الله عنهما.
ومما جاء في الآيتين والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان، وما قاله ابن عباس وأبو هريرة وغيرهما من السلف في تفسير الآيتين من سورة النساء وسورة الزخرف يعلم أن نزول عيسى عليه الصلاة والسلام حق، والحق لا يتنافى مع الإسلام، ومن زعم أن نزوله يتنافى مع الإسلام فهو ممن يشك في إسلامه؛ لأنه لم يحقق الشهادة بأن محمدا رسول الله، إذ لا بد في تحقيقها من التصديق بكل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور الغيب مما كان فيما مضى وما سيكون في المستقبل، وأما قول بعض المتخرصين: إن الأحاديث الواردة في نزول عيسى كلها مزيفة لا يقبلها العقل.
فجوابه: أن يقال: هذه مكابرة لا تصدر من رجل له أدنى مسكة من عقل ودين. وإذا كان عقل المرء فاسدا فلا شك أنه يتصور الحق في صورة الباطل، وقد جاء في نزول عيسى عليه الصلاة والسلام أكثر من خمسين حديثا مرفوعا، أكثرها من الصحاح
__________
(1) سورة الزخرف الآية 61
(2) سورة الزخرف الآية 61
(3) مسند أحمد بن حنبل (1/318) .
(4) سورة الزخرف الآية 61 (3) {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ}(13/105)
والباقي غالبه من الحسان، فمن زعم أنها كلها مزيفة فلا شك أنه فاسد العقل والدين، وأما قول المتخرص: إن نزول المسيح لا يقره المنطق.
فجوابه أن يقال: أما المنطق المستقيم والعقل السليم الذي يدور مع الحق حيثما دار فإنه لا يتوقف عن قبول ما جاء في كتاب الله تعالى، وما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نزول المسيح في آخر الزمان، وأما المنطق المنحرف والعقل الفاسد فإنه لا يتوقف عن رد الحق وعدم قبوله، ولا عبرة بالعقول الفاسدة ولا بأهلها، وأما قوله: وهو مستحيل لأن محمدا هو آخر الأنبياء بنص القرآن الكريم.
فجوابه أن يقال: إن عيسى عليه الصلاة والسلام إذا نزل في آخر الزمان لا يأتي بشرع جديد ولا يحكم بالإنجيل، إنما يحكم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ويكون واحدا من هذه الأمة، وقد روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف بكم إذا نزل عيسى ابن مريم فيكم وإمامكم منكم؟ (1) » وفي رواية لمسلم: «كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم فأمكم منكم؟ (2) » قال الوليد بن مسلم: فقلت لابن أبي ذئب: إن الأوزاعي حدثنا عن الزهري، عن نافع، عن أبي هريرة: «وإمامكم منكم (3) » قال ابن أبي ذئب: تدري ما أمكم منكم؟ قلت: تخبرني. قال: فأمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم وقال أبو ذر الهروي: حدثنا الجوزقي عن بعض المتقدمين قال: معنى وإمامكم منكم إنه يحكم بالقرآن لا بالإنجيل، وقال ابن التين: معنى قوله: وإمامكم منكم أن الشريعة المحمدية متصلة إلى يوم القيامة، وأن في كل قرن طائفة من أهل العلم. وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إن الدجال خارج (4) » فذكر الحديث وفيه: «ثم يجيء عيسى ابن مريم عليهما السلام مصدقا بمحمد صلى الله عليه وسلم وعلى ملته، فيقتل الدجال، ثم إنما هو قيام الساعة (5) » وقد رواه الطبراني، قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح. وروى الطبراني أيضا في الكبير والأوسط عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أهبط الله تعالى إلى الأرض منذ خلق آدم إلى أن تقوم الساعة فتنة أعظم من فتنة الدجال (6) » فذكر الحديث وفيه: «ثم ينزل عيسى ابن مريم مصدقا بمحمد صلى الله عليه وسلم على ملته إماما مهديا وحكما عدلا، فيقتل الدجال (7) » قال الهيثمي: رجاله ثقات، وفي بعضهم ضعف لا يضر. قلت: والحديث قبله يشهد له ويقويه.
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3449) ، صحيح مسلم الإيمان (155) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (155) .
(3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3449) ، صحيح مسلم الإيمان (155) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (5/13) .
(5) مسند أحمد بن حنبل (5/13) .
(6) سنن ابن ماجه الفتن (4077) .
(7) مسند أحمد بن حنبل (5/13) .(13/106)
وأما قوله في أحد العناوين: لو كان من أصول الإيمان الاعتقاد برجعة المسيح أو ظهور الدجال أو المهدي لجاء ذلك في القرآن صريحا محكما.
فجوابه أن يقال: كل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بوقوعه فالإيمان به واجب، وذلك من تحقيق الشهادة بأن محمدا رسول الله، وتحقيقها من أصول الإيمان، ولا يكون المرء مؤمنا معصوم الدم والمال حتى يحقق الشهادة بالرسالة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله (1) » . رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بظهور المهدي في آخر الزمان وبخروج الدجال ونزول عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام، فوجب الإيمان بذلك تصديقا لقول الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (2) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (3) ، وعملا بقوله تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (4) ، وبما جاء في آيات كثيرة عن الأمر بالإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، والإيمان به لا يتم إلا بامتثال أمره واجتناب نهيه وتصديق أخباره والتمسك بسنته، وعملا أيضا بما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي تقدم ذكره.
وأما قوله: ثم كيف يملأ المسيح الدنيا عدلا بعد أن ملئت جورا؟ وهل هذا من سنة الله تعالى في الحياة الإنسانية؟ وكيف يفيض المال عند رجعة المسيح فلا يقبله أحد؟
فجوابه أن يقال: من علم أن الله على كل شيء قدير وأنه ما شاء كان، وعلم أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق ولا يخبر إلا بالصدق لم يشك في شيء مما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيجب على المسلم أن يؤمن بكل ما جاء عن الله تعالى وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعترض على أخبار الصادق المصدوق بكيف ولم، وغير ذلك من أنواع الاستفهام الذي يدل على الشك فيما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم الإيمان به، وقد قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (5) .
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (25) ، صحيح مسلم الإيمان (22) .
(2) سورة النجم الآية 3
(3) سورة النجم الآية 4
(4) سورة الحشر الآية 7
(5) سورة النساء الآية 65(13/107)
وأما قوله: وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم فيكسر الصليب ويقتل الخنزير (1) » ويضع الحرب ". فجوابه أن يقال: إن الكاتب قد صحف في لفظ الحديث حيث قال فيه ويضع الحرب. والذي في الحديث: «ويضع الجزية (2) » ، ومن تعمد التصحيف في أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو داخل في عداد الكاذبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (3) » ، ولعل الكاتب لم يتعمد التصحيف وإنما وقع منه سهوا أو وجده في بعض الكتب التي لم تصحح من الأخطاء المطبعية.
وأما قوله: وبعد فإن هذه المرويات من الأحاديث والأخبار في شأن رجعة المسيح عليه السلام أو في شأن ظهور الدجال أو المهدي لا متعلق لها بالعقيدة سواء أصحت أم لم تصح، وأن العقيدة الإسلامية قائمة على الإيمان بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر والحساب والجزاء والجنة والنار.
فجوابه من وجهين: أحدهما أن يقال: كل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فالإيمان به متعلق بالعقيدة؛ لأنه لا يتم الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم إلا بالإيمان بأخباره، ومن لم يؤمن بأخباره فهو فاسد العقيدة، وقد تقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه أن عصمة الدم والمال إنما تكون لمن آمن بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثاني أن يقال: إن أهل السنة والجماعة قد تلقوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في ظهور المهدي وخروج الدجال ونزول عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام بالقبول، ودونوا ذلك في كتب الصحاح والسنن والمسانيد، وذكروا مضمونه في كتب العقائد، قال إمام أهل السنة أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله تعالى في عقيدة أهل السنة والجماعة التي رواها عنه عبدوس بن مالك العطار: والإيمان أن المسيح الدجال خارج مكتوب بين عينيه كافر، والأحاديث التي جاءت فيه، والإيمان بأن ذلك كله كائن، وأن عيسى ابن مريم ينزل فيقتله بباب لد. انتهى.
وقال أبو محمد البربهاري - رحمه الله تعالى - في شرح السنة: والإيمان بنزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، ينزل فيقتل الدجال، ويتزوج، ويصلي خلف القائم من آل محمد صلى الله عليه وسلم، ويموت
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2222) ، صحيح مسلم الإيمان (155) ، سنن الترمذي الفتن (2233) ، سنن أبو داود الملاحم (4324) ، سنن ابن ماجه الفتن (4078) ، مسند أحمد بن حنبل (2/272) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2222) ، صحيح مسلم الإيمان (155) ، سنن الترمذي الفتن (2233) ، سنن أبو داود الملاحم (4324) ، سنن ابن ماجه الفتن (4078) ، مسند أحمد بن حنبل (2/272) .
(3) صحيح البخاري الجنائز (1291) ، صحيح مسلم مقدمة (4) .(13/108)
ويدفنه المسلمون. انتهى. والقائم من آل محمد صلى الله عليه وسلم هو المهدي كما جاء في حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وينزل عيسى ابن مريم فيقول أميرهم المهدي: تعال صل بنا، فيقول: لا إن بعضهم أمير بعض تكرمة الله لهذه الأمة (1) » ، رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده بإسناد جيد، وقد ذكره ابن القيم في كتاب (المنار المنيف) ، وقال: إسناده جيد. وقال الطحاوي رحمه الله تعالى في العقيدة المشهورة: ونؤمن بأشراط الساعة من خروج الدجال ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام من السماء. انتهى.
وقال أبو الحسن الأشعري في كتابه (مقالات الإسلاميين) : جملة ما عليه الحديث والسنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسوله صلى الله عليه وسلم لا يريدون من ذلك شيئا. إلى أن قال: ويصدقون بخروج الدجال وأن عيسى ابن مريم يقتله. انتهى، وهذا حكاية إجماع عن أهل الحديث والسنة على التصديق بخروج الدجال ونزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وقتله الدجال، والعبرة بأهل الحديث والسنة ولا عبرة بمن خالفهم من أهل البدع والضلالة والجهالة، وقال أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني المالكي رحمه الله تعالى في رسالته المشهورة: والإيمان بما ثبت من خروج الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام حكما عدلا يقتل الدجال. انتهى.
وقال أبو محمد ابن الحسين الشافعي المعروف بابن الحداد في عقيدة له: وأن الآيات التي تظهر عند قرب الساعة من الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام والدخان والدابة وطلوع الشمس من مغربها وغيرها من الآيات التي وردت بها الأخبار الصحاح حق. انتهى.
وقال الموفق أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي في عقيدته المشهورة: ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا نعلم أنه صدق وحق. إلى أن قال: ومن ذلك أشراط الساعة مثل خروج الدجال ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام فيقتله وخروج يأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة وأشباه ذلك مما صح به النقل. انتهى.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/217) .(13/109)
وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى "مسألة" " عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم " حي، رفعه الله تعالى إليه بروحه وبدنه، وقوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} (1) أي قابضك، وكذلك ثبت أنه ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيقتل الدجال، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، حكما عدلا مقسطا، ويراد بالتوفي الاستيفاء، ويراد به الموت، ويراد به النوم، ويدل على كل واحد القرينة التي معه ". انتهى
وقال القاضي عياض في شرح مسلم: " نزول عيسى عليه السلام وقتله الدجال حق وصحيح عند أهل السنة للأحاديث الصحيحة في ذلك، وليس في العقل ولا في الشرع ما يبطله، فوجب إثباته، وأنكر ذلك بعض المعتزلة والجهمية ومن وافقهم، وزعموا أن هذه الأحاديث مردودة بقوله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (2) وبقوله صلى الله عليه وسلم: «لا نبي بعدي (3) » ، وبإجماع المسلمين أنه لا نبي بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، وأن شريعته مؤبدة إلى يوم القيامة لا تنسخ، وهذا استدلال فاسد؛ لأنه ليس المراد بنزول عيسى عليه السلام أنه ينزل نبيا بشرع ينسخ شرعنا، ولا في الأحاديث شيء من هذا، بل صحت الأحاديث أنه ينزل حكما مقسطا يحكم بشرعنا ويحيي من أمور شرعنا ما هجره الناس ". انتهى كلامه، وقد نقله النووي في شرح مسلم وأقره.
وقال المناوي في شرح الجامع الصغير: " أجمعوا على نزول عيسى عليه الصلاة والسلام نبيا لكنه بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم ".
وقال المناوي أيضا: " حكى المطامح إجماع الأمة على نزوله، ولم يخالف أحد من أهل الشريعة في ذلك وإنما أنكره الفلاسفة والملاحدة ". انتهى.
وقال السفاريني في شرح عقيدته: " نزول المسيح عيسى ابن مريم ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولم يخالف فيه أحد من أهل الشريعة، وإنما أنكر ذلك الفلاسفة والملاحدة ممن لا يعتد بخلافه، وقد انعقد الإجماع على أنه ينزل ويحكم بهذه الشريعة المحمدية ". انتهى.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 55
(2) سورة الأحزاب الآية 40
(3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3455) ، صحيح مسلم الإمارة (1842) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2871) ، مسند أحمد بن حنبل (2/297) .(13/110)
هذا ما ذكره علماء المسلمين في خروج الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان، وفيه أبلغ رد على قول الخطيب: إن المرويات من الأحاديث والأخبار في شأن رجعة المسيح أو في شأن ظهور الدجال لا متعلق لها بالعقيدة.
ومما ذكرته عن أهل العلم يتضح أن الخطيب قد خالف عقيدة أهل السنة والجماعة وإجماعهم على خروج الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام، ووافق أعداء الإسلام والمسلمين من الفلاسفة والملاحدة الذين أنكروا خروج الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام.
وأما قوله: ولو كان من أصول الإيمان الإيمان برجعة المسيح أو ظهور الدجال أو المهدي لجاء ذلك في القرآن الكريم صريحا محكما.
فجوابه أن يقال: كل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من المغيبات مما كان فيما مضى وما سيكون في المستقبل فالإيمان به داخل في ضمن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك من أعظم أصول الإيمان، وقد جاء الأمر بالإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم في آيات كثيرة من القرآن وكلها محكمات، والإيمان بأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم داخل أيضا في ضمن قول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (1) وداخل أيضا في ضمن قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) ، وداخل أيضا في ضمن قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) ، وهذه الآيات كلها محكمات وكلها تدل على أن تصديق أخبار النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم أصول الإيمان، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4) قال: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. ثم جعل يتلو هذه الآية: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (5)
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) سورة النساء الآية 65
(3) سورة النور الآية 63
(4) سورة النور الآية 63
(5) سورة النساء الآية 65(13/111)
وأما قوله: إن مثل هذه الأخبار تفتح على الناس أبوابا من الفتن حيث تتطلع نفوس كثيرة إلى ادعائها كما حدث عن ادعاء كثيرين لأنفسهم بأنهم المهدي المنتظر، فأوقعوا الفرقة والقتال بين المسلمين، وإنه ليس ببعيد أن يقوم في الناس يوما من يدعي أنه المسيح المنتظر، فكيف تكون الحال حينئذ؟!
فجوابه أن يقال: إن الأخبار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا ترد بمثل هذه الاحتمالات والتعليلات الخاطئة، بل تصدق وتقابل بالقبول والتسليم ولو افتتن بمضمونها من افتتن من الناس، وقد قال الله تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (1) وهكذا يقال في الأخبار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم إنها تقابل بالقبول والتصديق ولا يلتفت إلى ما يكون من أهل الفتن الذين يتأولون الأحاديث على غير تأويلها ويطبقونها على مالا تنطبق عليه.
ويقال أيضا: إن المهدي المنتظر إنما يخرج في آخر الزمان قرب خروج الدجال وعند انتشار الفوضى والفتن، ثم ينزل عيسى عليه الصلاة والسلام فيصلي خلف المهدي أول ما ينزل كما جاء ذلك في حديث جابر الذي تقدم ذكره، ثم يذهب إلى الدجال فيقتله، وحينئذ يكون قيام الساعة قريبا جدا. وعلى هذا فمن ادعى من المفتونين أنه المهدي المنتظر ولم يخرج الدجال في زمانه فإنه دجال كاذب، وللمسيح ابن مريم علامتان لا تكونان لغيره من الناس، إحداهما: أنه يقتل الدجال كما تواتر بذلك الأحاديث، والثانية: أنه لا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، كما جاء ذلك فما حديث النواس بن سمعان الذي رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: غريب حسن صحيح. وفي هاتين العلامتين قطع لأطماع كل دجال يدعي أنه المسيح ابن مريم.
وقبل الختام أحب أن أنبه عبد الكريم الخطيب على خطورة الأمر في رد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم سواء كانت من أحاديث أشراط الساعة مثل ظهور المهدي
__________
(1) سورة النمل الآية 92(13/112)
وخروج الدجال ونزول عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام وغير ذلك من أشراط الساعة، أو كانت من غيرها، فإن الذي يرد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو في الحقيقة يرد على النبي صلى الله عليه وسلم. ولا ينس الخطيب قول الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله (2) » ، ولعل الخطيب يراجع الحق، فإن الحق ضالة المؤمن، والرجوع إلى الحق نبل وفضيلة كما أن التمادي في الباطل نقص ورذيلة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تأليف الفقير إلى عفو ربه: حمود بن عبد الله التويجري غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين.
__________
(1) سورة النور الآية 63
(2) صحيح البخاري الإيمان (25) ، صحيح مسلم الإيمان (22) .(13/113)
صفحة فارغة(13/114)
حقيقة
لا إله إلا الله
للشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان (1)
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وكل من اتبعه وتمسك بسنته إلى يوم الدين. . أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى أمرنا بذكره وأثنى على الذاكرين، ووعدهم أجرا عظيما، فأمر بذكره مطلقا، وبعد الفراغ من العبادات. .
قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} (2) ، وقال: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} (3) ، وأمر بذكره أثناء أداء مناسك الحج خاصة فقال تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} (4) وقال تعالى:
__________
(1) ورد للكتاب ترجمة في العدد السابع من المجلة، صفحة 238.
(2) سورة النساء الآية 103
(3) سورة البقرة الآية 200
(4) سورة البقرة الآية 198(13/115)
{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (1) ، وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (2) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله (3) » .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} (4) {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (5) ، ولما كان أفضل الذكر: لا إله إلا الله وحده لا شريك له- كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير (6) » ، ولما كانت هذه الكلمة العظيمة لا إله إلا الله لها هذه المنزلة العالية من بين أنواع الذكر، ويتعلق بها أحكام، ولها شروط، ولها معنى ومقتضى، فليست كلمة تقال باللسان فقط، لما كان الأمر كذلك آثرت أن تكون موضوع حديثي في هذه الكلمة المختصرة، راجيا من الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من أهلها المستمسكين بها والعارفين لمعناها، العاملين بمقتضاها ظاهرا وباطنا.
وسيكون حديثي عن هذه الكلمة في حدود النقاط التالية:
مكانة لا إله إلا الله في الحياة، وفضلها، وإعرابها، وأركانها وشروطها ومعناها، ومقتضاها، ومتى ينفع الإنسان التلفظ بهذه الكلمة، ومتى لا ينفعه ذلك. . فأقول مستعينا بالله تعالى: -
1 - أما مكانة هذه الكلمة: فإنها كلمة يعلنها المسلمون في أذانهم وإقامتهم وفي خطبهم ومحادثاتهم، وهي كلمة قامت بها الأرض والسماوات، وخلقت لأجلها جميع المخلوقات، وبها أرسل الله رسله وأنزل كتبه وشرع شرائعه، ولأجلها نصبت الموازين ووضعت الدواوين وقام سوق الجنة والنار، وبها انقسمت
__________
(1) سورة الحج الآية 28
(2) سورة البقرة الآية 203
(3) رواه مسلم.
(4) سورة الأحزاب الآية 41
(5) سورة الأحزاب الآية 42
(6) رواه الترمذي.(13/116)
الخليقة إلى مؤمنين وكفار، فهي منشأ الخلق والأمر والثواب والعقاب، وهي الحق الذي خلقت له الخليقة، وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب، وعليها يقع الثواب والعقاب، وعليها نصبت القبلة، وعليها أسست الملة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، وهي حق الله على جميع العباد، فهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وعنها يسأل الأولون والآخرون. . فلا تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يسأل عن مسألتين: (ماذا كنتم تعبدون، وماذا أجبتم المرسلين) ، وجواب الأولى بتحقيق لا إله إلا الله معرفة وإقرارا وعملا، وجواب الثانية بتحقيق أن محمدا رسول الله معرفة وانقيادا وطاعة (1) .
هذه الكلمة هي الفارقة بين الكفر والإسلام، وهي كلمة التقوى والعروة الوثقى، وهي التي جعلها إبراهيم {كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (2) ، وهي التي شهد الله بها لنفسه وشهد بها ملائكته وأولو العلم من خلقه، قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (3) .
وهي كلمة الإخلاص وشهادة الحق، ودعوة الحق، وبراءة من الشرك، ولأجلها خلق الخلق كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (4) ، ولأجلها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب، كما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (5) ، وقال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} (6) .
__________
(1) زاد المعاد لابن القيم [1 \ 2] .
(2) سورة الزخرف الآية 28
(3) سورة آل عمران الآية 18
(4) سورة الذاريات الآية 56
(5) سورة الأنبياء الآية 25
(6) سورة النحل الآية 2(13/117)
قال ابن عينية: ما أنعم الله على عبد من العباد نعمة أعظم من أن عرفهم لا إله إلا الله.
وإن لا إله إلا الله لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدنيا (1) ، فمن قالها عصم ماله ودمه، ومن أباها فماله ودمه هدر، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله (2) » .
وهي أول ما يطلب من الكفار عندما يدعون إلى الإسلام؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم «لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله (3) » الحديث أخرجاه في الصحيحين (4) ، وبهذا تعلم مكانتها في الدين وأهميتها في الحياة، وأنها أول واجب على العباد لأنها الأساس الذي تبنى عليه جميع الأعمال.
__________
(1) كلمة الإخلاص لابن رجب ص 52-53
(2) رواه مسلم في الإيمان برقم (23) .
(3) صحيح البخاري المغازي (4347) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .
(4) رواه البخاري (3 \ 255) ومسلم في الإيمان برقم (19) .(13/118)
2 - وأما فضل هذه الكلمة: فلها فضائل عظيمة ولها من الله مكان، من قالها صادقا أدخله الله الجنة، ومن قالها كاذبا حقنت دمه وأحرزت ماله وحسابه على الله عز وجل، وهي كلمة وجيزة اللفظ قليلة الحروف خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان، فقد روى ابن حبان والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال موسى: يا رب، علمني شيئا أذكرك وأدعوك به. قال: يا موسى، قل: لا إله إلا الله. قال: كل عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله (1) » ، فالحديث يدل على أن لا إله إلا الله هي أفضل الذكر، وفى حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير (2) » ، رواه- أحمد
__________
(1) رواه الحاكم (1 \ 528) وابن حبان برقم (2324) ، مورد الظمآن.
(2) سنن الترمذي الدعوات (3585) .(13/118)
والترمذي، (1) .
ومما يدل على ثقلها في الميزان أيضا ما رواه الترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، عن عبد الله بن عمرو: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يصاح برجل من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر، ثم يقال: أتنكر من هذا شيئا؟ فيقول: لا يا رب، فيقال: ألك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا. فيقال: بلى إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك. فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم. فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة (2) » .
ولهذه الكلمة العظيمة فضائل كثيرة ذكر جملة منها الحافظ ابن رجب في رسالته المسماة (كلمة الإخلاص) واستدل لكل فضيلة، ومنها: أنها ثمن الجنة، ومن كانت آخر كلامه دخل الجنة، وهي نجاة من النار، وهي توجب المغفرة، وهي أحسن الحسنات، وهي تمحو الذنوب، وهي تخرق الحجب حتى تصل إلى الله عز وجل، وهي الكلمة التي يصدق الله قائلها، وهي أفضل ما قاله النبيون، وهي أفضل الذكر، وهي أفضل الأعمال وأكثرها تضعيفا، وتعدل عتق الرقاب، وتكون حرزا من الشيطان، وهي أمان من وحشة القبر وهول الحشر، وهي شعار المؤمنين إذا قاموا من قبورهم، ومن فضائلها أنها تفتح لقائلها أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء، ومن فضائلها أن أهلها وإن دخلوا النار بتقصيرهم في حقوقها فإنهم لا بد أن يخرجوا منها، هذه عناوين الفضائل التي ذكرها ابن رجب في رسالته واستدل لكل واحد منها (3) .
__________
(1) الترمذي في الدعوات رقم (3579)
(2) رواه الترمذي رقم (2641) في الإيمان، والحاكم (1 \ 5-6) ، وغيرهما.
(3) كلمة الإخلاص لابن رجب ص (54-66) .(13/119)
3 - إعرابها وأركانها وشروطها:
إذا كان فهم المعنى يتوقف على معرفة إعراب الجمل- فإن العلماء رحمهم الله قد اهتموا بإعراب لا إله إلا الله - فقالوا إن (لا) نافية للجنس و (إله) اسمها مبني معها على الفتح، وخبرها محذوف تقديره (حق) ، أي لا إله حق، وإلا الله استثناء من الخبر(13/119)
المرفوع، و (الإله) معناه: المألوه بالعبادة- وهو الذي تألهه القلوب وتقصده رغبة إليه في حصول نفع أو دفع ضرر.
وأما أركان لا إله إلا الله: -
فلها ركنان:
الركن الأول: النفي، والركن الثاني: الإثبات.
والمراد بالنفي نفي الإلهية عما سوى الله تعالى من سائر المخلوقات.
والمراد بالإثبات إثبات الإلهية لله سبحانه، فهو الإله الحق- وما سواه من الآلهة التي اتخذها المشركون فكلها باطلة، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (1) .
قال الإمام ابن القيم: فدلالة لا إله إلا الله على إثبات إلهيته أعظم من دلالة قوله:
الله إله- وهذا لأن قول: (الله إله) لا ينفي إلهية ما سواه، بخلاف قول لا إله إلا الله فإنه يقتضي حصر الألوهية ونفيها عما سواه، وقد غلط غلطا فاحشا من فسر الإله بأنه القادر على الاختراع.
قال الشيخ سليمان بن عبد الله في شرح كتاب التوحيد: فإن قيل قد تبين معنى الإله والإلهية فما الجواب عن قول من قال بأن معنى الإله القادر على الاختراع ونحو هذه العبارة؟ قيل: الجواب من وجهين، أحدهما: أن هذا قول مبتدع لا يعرف أحد قاله من العلماء ولا من أئمة اللغة وكلام العلماء وأئمة اللغة هو معنى ما ذكرنا كما تقدم فيكون هذا القول باطلا. الثاني: على تقدير تسليمه فهو تفسير باللازم للإله الحق، فإن اللازم أن يكون خالقا قادرا على الاختراع، ومتى لم يكن كذلك فليس بإله حق وإن سمي إلها، وليس مراده أن من عرف أن الإله هو القادر على الاختراع فقد دخل في الإسلام وأتى بتحقيق المرام من مفتاح دار السلام فإن هذا لا يقوله أحد، لأنه يستلزم أن يكون كفار العرب مسلمين ولو قدر أن بعض المتأخرين أراد ذلك فهو مخطئ يرد عليه بالدلائل السمعية والعقلية (2) .
__________
(1) سورة الحج الآية 62
(2) تيسير العزيز الحميد ص (80) .(13/120)
وأما شروط لا إله إلا الله: -
فإنها لا تنفع قائلها- إلا بسبعة شروط: -
الأول: العلم بمعناها نفيا وإثباتا.
الثاني: اليقين، وهو كمال العلم بها المنافي للشك والريب.
الثالث: الإخلاص المنافي للشرك.
الرابع: الصدق المانع من النفاق.
الخامس: المحبة لهذه الكلمة ولما دلت عليه والسرور بذلك.
السادس: الانقياد بأداء حقوقها وهي الأعمال الواجبة إخلاصا لله وطلبا لمرضاته. . السابع: القبول المنافي للرد (1) وهذه الشروط قد استنبطها العلماء من نصوص الكتاب والسنة التي جاءت بخصوص هذه الكلمة العظيمة وبيان حقوقها وقيودها.
__________
(1) فتح المجيد ص (91) .(13/121)
4 - معنى هذه الكلمة ومقتضاها:
معنى لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا إله واحد، وهو الله وحده لا شريك له، فتضمنت هذه الكلمة العظيمة أن ما سوى الله من سائر المعبودات ليس بإله حق وأنه باطل.
ولهذا كثيرا ما يرد الأمر بعبادة الله مقرونا بنفي عبادة ما سواه؛ لأن عبادة الله لا تصح مع إشراك غيره معه قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (1) وقال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (2) وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه (4) » الحديث.
__________
(1) سورة النساء الآية 36
(2) سورة البقرة الآية 256
(3) سورة النحل الآية 36
(4) رواه مسلم في الإيمان.(13/121)
وكان كل رسول يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (1) إلى غير ذلك من الأدلة، قال الإمام ابن رجب رحمه الله: وتحقيق هذا المعنى وإيضاحه أن قول العبد: لا إله إلا الله، يقتضي أن لا إله له غير الله، والإله هو الذي يطاع فلا يعصى هيبة له وإجلالا، ومحبة وخوفا ورجاء وتوكلا عليه وسؤالا منه ودعاء له، ولا يصلح ذلك كله إلا لله عز وجل.
ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لكفار قريش: قولوا: لا إله إلا الله قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (2) ففهموا من هذه الكلمة أنها تبطل عبادة الأصنام كلها وتحصر العبادة لله وحده، وهم لا يريدون ذلك، فتبين بهذا المعنى أن معنى لا إله إلا الله ومقتضاها إفراد الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه، فإذا قال العبد: لا إله إلا الله، فقد أعلن وجوب إفراد الله بالعبادة وبطلان عبادة ما سواه من الأصنام والقبور والأولياء والصالحين، وبهذا يبطل ما يعتقده عباد القبور اليوم وأشباههم من أن معنى لا إله إلا الله هو الإقرار بأن الله موجود، أو أنه هو الخالق القادر على الاختراع، وأشباه ذلك، أو أن معناها لا حاكمية إلا لله ويظنون أن من اعتقد ذلك وفسر به لا إله إلا الله فقد حقق التوحيد المطلق ولو فعل ما فعل من عبادة غير الله والاعتقاد بالأموات والتقرب إليهم بالذبائح والنذور والطواف بقبورهم والتبرك بتربتهم، وما شعر هؤلاء أن كفار العرب الأولين يشاركونهم في هذا الاعتقاد، ويعرفون أن الله هو الخالق القادر على الاختراع، ويقرون بذلك، وأنهم ما عبدوا غيره إلا لزعمهم أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، لا أنهم يخلقون ويرزقون.
ولو كان معنى لا إلى إلا الله ما زعمه هؤلاء لم يكن بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المشركين نزاع، بل كانوا يبادرون إلى إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم، إذا قال لهم بزعم: هؤلاء أقروا بأن الله هو القادر على الاختراع، لكن القوم وهم أهل اللسان العربي فهموا أنهم إذا
__________
(1) سورة الأعراف الآية 59
(2) سورة ص الآية 5(13/122)
قالوا: إلا إله إلا الله، فقد أقروا ببطلان عبادة الأصنام، وأن هذه الكلمة ليست مجرد لفظ لا معنى له، ولهذا نفروا منها وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (1) كما قال الله عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (2) {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (3) فعرفوا أن لا إله إلا الله تقتضي ترك عبادة ما سوى الله وإفراد الله بالعبادة، وأنهم لو قالوها واستمروا على عبادة الأصنام لتناقضوا مع أنفسهم، وعباد القبور اليوم لا يأنفون من هذا التناقض الشنيع، فهم يقولون: لا إله إلا الله، ثم ينقضونها بعبادة الأموات والتقرب إلى الأضرحة بأنواع من العبادات، فتبا لمن كان أبو جهل وأبو لهب أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله. والحاصل أن من قال هذه الكلمة عارفا لمعناها عاملا بمقتضاها ظاهرا وباطنا من نفي الشرك وإثبات العبادة لله مع الاعتقاد الجازم لما تضمنته والعمل به، فهو المسلم حقا، ومن قالها وعمل بها بمقتضاها ظاهرا من غير اعتقاد لما دلت عليه فهو المنافق، ومن قالها بلسانه وعمل بخلافها من الشرك المنافي لها فهو الكافر ولو قالها آلاف المرات؛ لأن عمله يبطل نطقه بها، فلا بد من النطق بهذه الكلمة من معرفة معناها؛ لأن ذلك وسيلة للعمل بمقتضاها، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (4) والعمل بمقتضاها وهو ترك عبادة ما سوى الله، وعبادة الله وحده هو الغاية من هذه الكلمة.
__________
(1) سورة ص الآية 5
(2) سورة الصافات الآية 35
(3) سورة الصافات الآية 36
(4) سورة الزخرف الآية 86(13/123)
5 - متى ينفع الإنسان قول لا إله إلا الله؟
سبق أن قلنا أن قول لا إله إلا الله لا بد أن يكون مصحوبا بمعرفة معناها والعمل بمقتضاها، ولكن لما كان هناك نصوص قد يتوهم منها أن مجرد التلفظ بها يكفي وقد تعلق بهذا الوهم بعض الناس، فاقتضى الأمر إيضاح ذلك لإزالة هذا الوهم عمن يريد الحق، قال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله على حديث عتبان. . الذي(13/123)
فيه: «فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله (1) » قال: اعلم أنه قد وردت أحاديث ظاهرها أنه من أتى بالشهادتين حرم على النار كهذا الحديث وحديث أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل، فقال: يا معاذ. قال: لبيك رسول الله وسعديك. قال: ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا حرمه الله على النار (2) » ، ولمسلم عن عبادة مرفوعا: «ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله حرمه الله على النار (3) » ، ووردت أحاديث فيها أن من أتى بالشهادتين دخل الجنة، وليس فيها أن يحرم على النار، منها حديث عبادة الذي تقدم قريبا وحديث أبي هريرة «أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك (4) » الحديث وفيه: «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة (5) » رواه مسلم (6) .
قال: وأحسن ما قيل في معناه ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره: إن هذه الأحاديث إنما هي فيمن قالها ومات عليها - كما جاءت مقيدة - وقالها خالصا من قلبه مستيقنا بها قلبه غير شاك فيها، بصدق ويقين، فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله جملة، فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصا من قلبه دخل الجنة؛ لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحا، فإذا مات على تلك الحال نال ذلك، فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة وما يزن خردلة وما يزن ذرة. وتواترت بأن كثيرا ممن يقول: لا إله إلا الله، يدخل النار ثم يخرج منها،، وتواترت بأن الله حرم النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم، فهؤلاء كانوا يصلون ويسجدون لله، وتواترت بأنه يحرم على النار من قال: لا إله إلا الله، ومن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال، وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص ولا اليقين، ومن لا يعرف ذلك يخشى عليه أن يفتن عنها عند الموت فيحال بينه وبينها، وأكثر من
__________
(1) رواه البخاري 11 \ 206 ومسلم رقم (33) .
(2) رواه البخاري 1 \ 199 ورواه مسلم في الإيمان.
(3) صحيح مسلم 1 \ 288- 229 بشرح النووي.
(4) سنن أبو داود البيوع (3357) ، مسند أحمد بن حنبل (2/171) .
(5) صحيح مسلم الإيمان (27) ، مسند أحمد بن حنبل (2/421) .
(6) صحيح مسلم مع شرح النووي 1 \ 224.(13/124)
يقولها يقولها تقليدا وعادة، لم يخالط الإيمان بشاشة قلبه، وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء كما في الحديث: «سمعت الناس يقولون شيئا فقلته (1) » ، وغالب أعمال هؤلاء إنما هو تقليد واقتداء بأمثالهم، وهم أقرب الناس من قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (2) ، وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث، فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام لم يكن في هذه الحال مصرا على ذنب أصلا، فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء، فإذا لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله ولا كراهية لما أمر الله، وهذا هو الذي يحرم على النار، وإن كانت له ذنوب قبل ذلك، فإن هذا الإيمان وهذه التوبة وهذا الإخلاص وهذه المحبة وهذا اليقين لا تترك له ذنبا إلا يمحى كما يمحى الليل بالنهار. انتهى كلامه رحمه الله (3) .
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كشف الشبهات: - (4) ولهم مشبهة أخرى، يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة قتل من قال: لا إله إلا الله. وقال: «أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله (5) » ، وأحاديث أخرى في الكف عمن قالها، ومراد هؤلاء الجهلة أن من قالها لا يكفر ولا يقتل ولو فعل ما فعل، فيقال لهؤلاء الجهال معلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل اليهود وسباهم وهم يقولون: لا إله إلا الله، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويصلون ويدعون الإسلام، وكذلك الذين حرقهم علي بن أبي طالب، وهؤلاء الجهلة مقرون أن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال: لا إله إلا الله، وأن من جحد شيئا من أركان الإسلام كفر وقتل ولو قالها، فكيف لا تنفعه إذا جحد شيئا من الفروع وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أصل دين الرسل ورأسه، ولكن أعداء الله ما فهموا معنى الأحاديث.
__________
(1) رواه الترمذي بهذا المعنى في كتاب الجنائز.
(2) سورة الزخرف الآية 22
(3) تيسير العزيز الحميد بشرح كتاب التوحيد ص 66-67.
(4) انظر مجموعة التوحيد ص 120-121.
(5) صحيح البخاري الديات (6872) ، سنن أبو داود الجهاد (2643) ، مسند أحمد بن حنبل (5/200) .(13/125)
وقال رحمه الله: فأما حديث أسامة فإنه قتل رجلا ادعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادعاه إلا خوفا على دمه وماله، والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك، وأنزل الله في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} (1) أي (فتثبتوا) فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت فإن تبين بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل؛ لقوله: فتبينوا ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبت معنى، وكذلك الحديث الآخر وأمثاله معناه ما ذكرناه من أن من أظهر الإسلام والتوحيد وجب الكف عنه إلا إن تبين منه ما يناقض ذلك.
والدليل على هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال: «أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله (2) » وقال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله (3) » هو الذي قال في الخوارج: «أينما لقيتموهم فاقتلوهم، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد (4) » مع كونهم من أكثر الناس تهليلا حتى إن الصحابة يحقرون أنفسهم عندهم، وهم تعلموا العلم من الصحابة، فلم تنفعهم لا إله إلا الله ولا كثرة العبادة ولا ادعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة، وكذلك ما ذكرناه من قتال اليهود وقتال الصحابة بني حنيفة.
وقال الحافظ ابن رجب في رسالته المسماة: (كلمة الإخلاص) (5) على قوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله (6) » قال: ففهم عمر وجماعة من الصحابة أن من أتى بالشهادتين امتنع من عقوبة الدنيا لمجرد ذلك، فتوقفوا في قتال مانعي الزكاة، وفهم الصديق أنه لا يمتنع قتاله إلا بأداء حقوقها لقوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا فعلوا ذلك منعوا مني دمائها إلا بحقها وحسابهم على الله (7) » ، وقال: «الزكاة حق المال (8) » ، وهذا الذي فهمه الصديق قد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم صريحا غير واحد من الصحابة منهم ابن عمر وأنس وغيرهما وأنه قال: «أمرت أن
__________
(1) سورة النساء الآية 94
(2) رواه البخاري في الديات.
(3) رواه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، ومسلم في الإيمان.
(4) رواه أبو داود بهذا المعنى في كتاب السنة باب قتال الخوارج.
(5) ص 13-14.
(6) رواه مسلم في الإيمان.
(7) رواه مسلم في الإيمان.
(8) صحيح البخاري الزكاة (1400) ، صحيح مسلم الإيمان (20) ، سنن الترمذي الإيمان (2607) ، سنن النسائي الجهاد (3092) ، سنن أبو داود الزكاة (1556) ، مسند أحمد بن حنبل (1/19) .(13/126)
أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة (1) » ، وقد دل على ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) كما دل قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (3) على أن الأخوة في الدين لا تثبت إلا بأداء الفرائض مع التوحيد، فإن التوبة من الشرك لا تحصل إلا بالتوحيد، فلما قرر أبو بكر هذا للصحابة رجعوا إلى قوله ورأوه صوابا، فإذا علم أن عقوبة الدنيا لا ترتفع عمن أدى الشهادتين مطلقا، بل يعاقب بإخلاله بحق من حقوق الإسلام، فكذلك عقوبة الآخرة.
وقال أيضا: (4) : وقالت طائفة من العلماء المراد من هذه الأحاديث أن التلفظ بلا إله إلا الله سبب لدخول الجنة والنجاة من النار ومقتضى لذلك، ولكن المقتضى لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه وانتفاء موانعه، فقد يتخلف عنه مقتضاه لفوات شرط من شروطه أو لوجود مانع، وهذا قول الحسن ووهب بن منبه وهو الأظهر. ثم ذكر عن الحسن البصري أنه قال للفرزدق وهو يدفن امراته: ما أعددت لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة. قال الحسن: نعم العدة، لكن للا إله إلا الله شروط، فإياك وقذف المحصنات. وقيل للحسن: إن أناسا يقولون: من قال: لا إله إلا الله، دخل الجنة. فقال: من قال: لا إله إلا الله، فأدى حقها وفرضها دخل الجنة. وقال وهب بن منبه لمن سأله: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: بلى ولكن ما من مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك. .
وأظن أن في هذا القدر الذي نقلته من كلام أهل العلم كفاية في رد هذه الشبهة التي تعلق بها من ظن أن من قال: لا إله إلا الله، لا يكفر ولو فعل ما فعل من أنواع الشرك الأكبر التي تمارس اليوم عند الأضرحة وقبور الصالحين مما يناقض كلمة لا إله إلا الله تمام المناقضة ويضادها تمام المضادة، وهذه طريقة أهل الزيغ الذين
__________
(1) رواه مسلم في الإيمان.
(2) سورة التوبة الآية 5
(3) سورة التوبة الآية 11
(4) في ص 9-11 في رسالة كلمة الإخلاص.(13/127)
يأخذون من النصوص ما يظنون أنه حجة لهم من النصوص المجملة، ويتركون ما تبينه وتوضحه النصوص المفصلة كحال الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض وقد قال الله في هذا النوع من الناس: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (2) {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (3) .
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه. .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. . والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 7
(2) سورة آل عمران الآية 8
(3) سورة آل عمران الآية 9(13/128)
النسيان والذكر في القرآن الكريم
دراسة لغوية ومنهج جديد
في تفسير الكتاب الحكيم(13/129)
صفحة فارغة(13/130)
الدكتور السيد رزق الطويل
ولد في قرية نكلا الجيزة مصر سنة 1932م، حفظ القرآن الكريم قبل البلوغ، ثم التحق بالأزهر وحصل على الشهادة العالية من كلية اللغة العربية بامتياز عام 1959 م، ثم حصل على الماجستير في الدراسات اللغوية سنة 1967، وعلى الدكتوراه سنة 1974م.
عمل بوزارة المعارف السعودية لمدة عامين، ثم بوزارة التربية والتعليم بمصر، ثم في جامعة الأزهر كلية الدراسات الإسلامية والعربية أستاذا مشاركا، وأخيرا أستاذا مشاركا في قسم الدراسات العليا العربية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة.
اشتغل بالدعوة الإسلامية منذ أن كان طالبا، أسس جماعة دعوة الحق الإسلامية بمصر عام 1395 هـ وهي جماعة مركزية تسهم في نشر الدعوة السلفية ويصدر عنها مجلة الهدي النبوي.
مؤلفاته الإسلامية: العقيدة في الإسلام -منهج حياة بنو إسرائيل في القرآن، دراسة وتحقيق- الدعوة في الإسلام عقيدة ومنهج - مجموعة أبحاث نشرت في دورية المقاولون العرب تحت عنوان مع القرآن وهي: القرآن والتفكر، القرآن وأهل البيت، والقرآن واللغة العربية.
ومن مؤلفاته اللغوية: اختلاف النحويين، دراسة وتحليل وتقويم- في علوم القراءات، مدخل ودراسة وتحقيق- أبنية الأفعال في اللسان العربي- النحو البسيط - بحوث لغوية نشرت في مجلات جامعية بعنوان: واو الثمانية- التوهم.
في الدراسة النحوية والصرفية: ظاهرة التغليب ومواقفها في القرآن.
وتحت الطبع الآن: الإسلام دعوة الحق- أساليب العموم والاستغراق في النحو العربي- اللسان العربي والإسلام معا في معركة المواجهة- إمام النحاة وقضية الاستشهاد بالحديث.(13/131)
صفحة فارغة(13/132)
(النسيان والذكر في القرآن الكريم)
مقدمة
باسم الله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
وبعد:
فهذا بحث ميدانه: كتاب رب العالمين.
وموضوعه: النسيان والذكر وتناول القرآن الكريم لهما.
ومنهجه: تتبع هذين اللفظين في الكتاب العزيز، في صورهما المتنوعة، واستخلاص النظرة الشاملة لهما بحيث يبدوان موضوعا واحدا متكاملا مدروسا على ضوء المنهج الإسلامي.
ومن هنا نرى هذا البحث يحمل طابع الدراسة اللغوية للقرآن الكريم، وفي الوقت نفسه أسلوب جديد في تفسير الكتاب العزيز.
والنسيان والذكر ظاهرتان بشريتان، ولهما أثرهما الكبير في مسيرة البشر من هذه الحياة، وهما أيضا من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الإنسان؛ ليستعين بها في أداء رسالته في الحياة، رسالة العبودية الخالصة لله تعالى وحده.
وقد يتصور الإنسان بادئ الرأي أن هذين من الأمور البشرية التي لا يتعرض لها المنهج الإلهي بالبيان، فماذا يهم الإسلام إن نسي الإنسان في دنياه أو تذكر؟!
لكن الحقيقة التي يؤكدها السلوك الإنساني أن ظاهرتي النسيان والذكر قد تصبحان موضوعا إسلاميا عندما يتحول النسيان إلى غفلة، وعندما يكون الذكر سياجا يحمي عقيدة الإيمان.
ولهذا تحدث القرآن الكريم- كما سنرى- عن هاتين الظاهرتين كثيرا، وبشمول واستيعاب لجميع أوضاعهما الإنسانية والدينية.
وسنبدأ بالحديث عن النسيان اتباعا لمنهج القرآن الذي يحارب الكفر كمقدمة للدعوة إلى الإيمان، وينهى عن الشرك قبل الدعوة إلى التوحيد، ويحارب الطاغوت قبل أن يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له.(13/133)
وكلمة التوحيد: أولها نفي، وآخرها إثبات.
قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (1) ، {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (2) .
أسأل الله الكريم أن يمنحنا التوفيق والسداد، وأن ييسر لنا أسباب القول؛ ليتحقق الخير الذي نرجوه لأمتنا المسلمة، والله يتولى الصالحين.
__________
(1) سورة النساء الآية 36
(2) سورة البقرة الآية 256(13/134)
النسيان في القرآن
النسيان ظاهرة بشرية:
النسيان ظاهرة بشرية، وسمة أصيلة من مسلك الإنسان، وقد اختلف اللغويون في اشتقاق الإنسان، فمنهم من رأى أن أصل الكلمة هو الأنس، وآخرون منهم رأوا أصلها النسيان، وقديما قال أحد الشعراء:
وما سمي الإنسان إلا لنسيه ... ولا القلب إلا أنه يتقلب
وهذا يؤكد أصالة هذه الصفة في سلوك البشر.
ويرى علماء النفس أن النسيان ضرورة بشرية؛ لأن الذاكرة لها درجة تشبع، ومن رحمة الله بالإنسان أن منحه النسيان ليهمل ما لا يهمه، ويختزنه في عقله الباطن، ويحتفظ في منطقة الشعور بكل ما يهمه من شئون حياته.
والنسيان بهذه الصفة يخرج عن دائرة التكليف، ويتجاوز حدود المسئولية، ويعفي الإنسان مما يحدث منه وهو واقع تحت سلطانه، خاضع بغير قصد لتأثيره.
أما النسيان المقصود، وهو تعبير قد نجد من ظاهره لونا من التناقض، لكنه في حقيقة الأمر لا تناقض فيه، إذ فيه نسيان وفيه قصد، ونعني به الغفلة عن الواجب، وإهمال ما لا ينبغي أن يهمل من حقوق ومسئوليات.(13/134)
تناول القرآن لهذه الظاهرة الإنسانية:
ولنتجه الآن إلى القرآن الكريم لنرى كيف تناول هذه الظاهرة؟! وبإحصاء دقيق للفظ النسيان في القرآن الكريم في صوره الاشتقاقية المختلفة نجد أنه ورد في خمسة وأربعين موضعا من الكتاب العزيز.
وبدراسة المواضع التي ورد فيها هذا اللفظ بمشتقاته، نرى أن القرآن الكريم قد استخدمه بمعنييه جميعا: النسيان الحقيقي الذي يلم بالإنسان في غير قصد أو إرادة، والنسيان المقصود الذي نعني به الغفلة عن الواجب وإهمال المسئوليات.
النوع الأول: النسيان الحقيقي، كيف تناوله القرآن؟
عندما يكون النسيان قسرا وجبرا، وعندما يلم بالإنسان بلا قصد منه أو إرادة يكون هو النسيان الحقيقي الذي أعطيناه صفة الظاهرة البشرية أو السمة الإنسانية، إذ أن أي إنسان مهما كان لا يستطيع أن يتجرد منه.
وحديث القرآن عن هذا النوع حديث إخباري بحت، يعرض فيه بعض صوره أو ينفيه في بعض المواضع التي ينبغي أن ينفى فيها؛ لأنه تجاوز إطار الظاهرة البشرية، أو يتناوله في أسلوب دعاء على لسان المؤمنين يضرعون فيه إلى ربهم ألا يؤاخذهم بما وقع منهم تحت سلطانه، وهذا أقصى ما ينبغي أن يتحدث به القرآن عن ظاهرة بشرية جبرية كهذه، فهو إذن لا يحتاج إلى تحليل أو تقويم، أو إصدار أحكام كما سنرى في النوع الثاني.
وتناول القرآن الكريم لهذا النوع من النسيان بصوره الثلاث: النفي والدعاء والإخبار جاء في أحد عشر موضعا.
(1) - في صورة النفي:
(أ) - نفاه القرآن نفيا قاطعا عن رب العالمين، الذي ربى الوجود كله بنعمه، ورعاه بحكمته وخبرته، وحفظه بقدرته؛ إذ يقول تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ} (1)
__________
(1) سورة مريم الآية 64(13/135)
{مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (1) ونفي النسيان عن طريق نفي كينونته أروع وأوضح، إذ هو بالنسبة لله لا وجود له، لا أنه موجود ثم نفي، وحاشا للحكم العدل اللطيف الخبير أن تلم به ظاهرة هو ركبها في الإنسان؛ لتنسجم له أسباب الحياة.
(ب) - وفي موضع آخر يطمئن رب العالمين نبيه بأنه سيكون بمنجاة من هذه الظاهرة البشرية في مجال الوحي وتبليغ الشريعة، فيقول له: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} (2) ففي هذه الآية ينفي القرآن النسيان عن النبي عليه الصلاة والسلام في كل ما يتصل بالوحي، وتبليغ الرسالة.
(ج) - وفي موضع ثالث ينفيه عن الكتاب أو اللوح المحفوظ الذي سجل فيه أقدار الخلق وأعمالهم ومصايرهم، ووحي الله وأمره إليهم، قال تعالى: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} (3) ، وإذا تصورنا نفي الضلال والنسيان منسوبا لله في هذه الآية، فإننا بهذا الاعتبار ندخلها في الموضع الأول.
__________
(1) سورة مريم الآية 64
(2) سورة الأعلى الآية 6
(3) سورة طه الآية 52(13/136)
(2) - في صورة الدعاء أو الالتماس:
في دعاء المؤمن لربه الذي علمه إياه نرى ضراعة خاشعة، عادلة قويمة، يرجو فيها ألا يؤاخذه بما سلف من تحت سلطان النسيان المبسوط على بني الإنسان، فيقول تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (1) ، وفي موضع آخر يلتمس موسى من العبد الصالح ألا يؤاخذه بنسيانه ما اشترط عليه من عدم الاعتراض
__________
(1) سورة البقرة الآية 286(13/136)
على تصرف يصدر منه، يقول تعالى على لسان موسى: {قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} (1) .
__________
(1) سورة الكهف الآية 73(13/137)
(3) - أخبار قرآنية تتصل بالنسيان:
(أ) - مريم عليها السلام، وقد اختارها ربها موضعا لآيته؛ ونفخ فيها من روحه، وأحست بحكم نوازعها البشرية بكثير من الأسى، ورأت في الأمر محنة لها، إذ كيف يعلم الناس بحقيقة موقفها وبراءة ساحتها!! لذا كانت أمنيتها على الله تعبيرا عن مدى الألم الذي أحاط بها، تمنت أن قد كانت في عالم الموتى، ومحيت من ذاكرة الناس قبل أن تعيش هذه المأساة (كما تراها) يقول تعالى: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} (1) .
(ب) - وفي حديث القرآن الكريم عن عجل السامري الذي فتن به بنو إسرائيل على أساس أنه رمز للإله ارتضاه لهم موسى، لكنه ذهب إلى الموعد، ونسيه مع السامري، هكذا فهموا أو هكذا خدعهم المحتال الأثيم: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} (2) (ج) - وفي موضع ثالث يحدثنا القرآن الكريم عن نسيان موسى عليه السلام وفتاه للحوت، وقد كان نسيانه أمارة، وميقاتا للالتقاء بالعبد الصالح، ولا يذكر أنه نسي إلا عندما يحل وقت الغداء، ويفتقد فتاه الحوت فلا يجده، ويتصور أن نسيانه من عمل الشيطان، ولكن موسى يكشف الحقيقة لفتاه، وأن ما حدث هو بغيتهما، وارتدا إلى مجمع البحرين، والتقيا بالعبد الصالح الذي وعد موسى بلقياه، يقول تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} (3) {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} (4) {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} (5) .
__________
(1) سورة مريم الآية 23
(2) سورة طه الآية 88
(3) سورة الكهف الآية 61
(4) سورة الكهف الآية 62
(5) سورة الكهف الآية 63(13/137)
بهذه الصور الثلاث المتقدمة كان تناول القرآن الكريم للنسيان الذي هو ظاهرة إنسانية لها صفة العموم والانتشار، ولها صفة القهر والإلزام، ومن هنا رفع الشارع الحكيم مسئولية البشر عما يحدث في ظلال هذا النوع من النسيان.(13/138)
والنوع الثاني: النسيان المقصود:
وهو نسيان الغفلة عن الواجب، وإهمال المسئوليات، وهو أكثر النوعين ورودا في القرآن الكريم، تناول أنواعه، وحلل أسبابه، وحذر من مغبته، وبين عقوبته.
وتناول القرآن الكريم له بهذه الكثرة؛ لأنه ظاهرة بشرية منحرفة تحتاج إلى تحليل وعلاج، وللشارع الحكيم منها موقف يحتاج إلى بيان وتفصيل. ولهذا أولاها الكتاب العزيز اهتماما بالغا، لما لها من خطورة بالغة تهدد الدين السماوي، وتنحرف بالبشرية عن هديه وهداه.
ومن هنا ورد الحديث عن هذا النوع في أربعة وثلاثين موضعا من كتاب الله، وكل ما ورد في هذه المواضع من نسيان يحمل طابع الغفلة عن واجب أو التنصل من تبعة أو الإهمال لمسئولية لا ينبغي أن تهمل بحكم ما تلزم به عقيدة الإيمان.
ويمكن أن يصنف هذا النوع تصنيفا يجعل من الآيات التي وردت فيه موضوعا كاملا.
(1) - مظاهر النسيان المنحرف واتجاهاته
(2) - تحليل أسبابه
(3) - عقوبته
(4) - العلاج الذي وضعه القرآن له
(1) - مظاهر النسيان المنحرف واتجاهاته:
يتخذ هذا اللون من النسيان عدة مظاهر تؤكد انحرافه عن سنن النسيان البشري الذي رفعت المسئولية عن صاحبه، وذلك لأن هذه الظواهر تؤكد أن للإنسان قصدا وإرادة على نحو من الأنحاء وأن ما يتورط فيه الإنسان من أعمال نتيجة له إنما هو شيء مراد.(13/138)
وهذه هي مظاهره:
(أ) - نسيان الذنوب والخطايا:
إذا وقع الإنسان في الذنب أو هوى إلى الخطيئة لأول مرة فله عذره، والخطأ من حقه؛ لأن وراءه نوازع بشرية عميقة التأثير في توجيه السلوك، ولذا شأنه إذا تاب قبل الله توبته، وفرح بأوبته على أن يظل هذا الذنب الذي اقترفه درسا يضيفه إلى تجاربه التي تحدد في الحياة فاعليته ومسلكه.
أما إذا نسي تجربة الذنب فستنتكس حياته، ويتعثر سلوكه، ويظل يهوي مع هواه حتى يكون من الغاوين، وهذه هي صفته كما عرضها القرآن الكريم.
يقول الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} (1) ، فأسلوب الآية يشير إلى أن أشد الناس ظلما ذاك الباغية المنحرف، الذي يذكر بآيات الله في كتابه وفي الحياة فيعرض عن الذكرى، وينسى ما تورط فيه من ذنوب وآثام، ومن هنا استحق ما وصف به في آخر الآية {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} (2) ، وإذا كان في طبع الآثم نسيان ذنبه، فهذا النسيان دعامة انحرافه، ومن هنا يكشف القرآن الكريم هذه الظاهرة في سلوك طائفة أخرى من الآثمين الذين هووا في وادي الشرك السحيق، إذ ذكروا ربهم في الضراء، ونسوا أنهم أشركوا به في السراء، فيقول تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (3) {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} (4) فالفطرة السليمة التي شوهها الإنسان بانحرافه في السراء تعود نقية صافية، تشد الإنسان المنحرف إلى ربه في الضراء؛ ولهذا ترشد الآية إليها؛ لتؤكد للإنسان أن نداء الفطرة السليمة أهدى وأقوم.
__________
(1) سورة الكهف الآية 57
(2) سورة الكهف الآية 57
(3) سورة الأنعام الآية 40
(4) سورة الأنعام الآية 41(13/139)
على أن الحقيقة التي ينبغي أن يذكرها الآثم أنه إن نسي فاستمرأ بالنسيان إثمه، فإن وراءه الرقيب الذي يحصي عليه ما قد نسيه، يقول تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (1) .
(ب) - نسيان يوم القيامة:
يوم القيامة الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين، حيث يجد كل إنسان طائره في عنقه، ويقرأ بنفسه صحائف أعماله، ويرى بعينه مصيره، وهو اليوم الحق، حيت يفصل فيه بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون، وينتهي أمر الباطل إلى جحيم، وينعم المتقون في دار النعيم.
وقد عني القرآن الكريم بعرض مشاهد شتى من ذلك اليوم، وطالما كان المؤمن على ذكر لذلك اليوم سيتخذ منه حافزا يدفعه إلى الخير، وينأى به عن الضلال، ويثبته على طريق الهداية.
ولذا نجد في أكثر من آية في كتاب الله دعوة إلى اتقاء ذلك اليوم، وما فيه من أهوال وبلاء، وإذا نسي الإنسان ذلك اليوم فلم يعمل له حسابه فنسيانه بادرة إلى الانحراف الذي ينتهي بالإنسان إلى ضلال.
وها هو موقف الناس ليوم القيامة يعرضه القرآن الكريم في عدة صور.
يقول تعالى عن الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا، وغرهم ما في دنياهم من زخرف ومتاع: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} (2) فجزاؤهم عند الله إذن إهمال ووبال؛ لأنهم نسوا يوم القيامة فلم يقدموا في دنياهم عملا ينفعهم، والهوى يهوي بصاحبه ويضله فينسيه يوم الجزاء بما يقدم له من شواغل صارفة، يقول تعالى في نصح نبيه داود عليه
__________
(1) سورة المجادلة الآية 6
(2) سورة الأعراف الآية 51(13/140)
السلام: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (1) .
فالضالون عن سبيل الله سر ضلالهم نسيانهم يوم الجزاء، وهذا النسيان سر آفة الإنسان وضلاله، ولذا عندما يقف المجرمون ناكسي رءوسهم عند ربهم، وقد رأوا بأعينهم وسمعوا بآذانهم ما نسوه من حقائق ذكروا بها دنياهم فلم يتذكروا، عند ذاك يدعون إلى العذاب الذي عرفوا يومئذ سبب وقوعهم فيه، {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (2) .
وفي الآية الأخرى يقال لهؤلاء الذين نسوا ما لا ينبغي أن ينسى: لقد نسيتم يوم الجزاء فكان أعدل جزاء لكم تلقونه في هذا اليوم من إهمال وازدراء {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} (3) .
(جـ) - نسيانهم لله
هذان النوعان السابقان من النسيان: نسيان الذنوب، أو نسيان يوم المصير، آفتهما أن أولهما يحمل معنى عدم الاستفادة من التجربة، وثانيهما يحمل معنى عدم الاعتداد بالدافع، أما هذا النوع الثالث وهو الذي يتعلق بالله فهو شر بذاته؛ لأنه يعني تقلص ظل الإيمان من نفوس البشر، إذ لا يمكن أبدا أن يصح إيمان أو يستقيم على أساسه سلوك ما لم يكن القلب مشغولا بذكر الله منصرفا إلى ما يهيئه له الذكر من مراقبة دقيقة لخالقه ومولاه.
وهذا النسيان قد يتعلق بأمر الله، وقد يكون تعلقه بذات الله، وهذا النسيان لذكر الله الذي يجب أن يكون سلاحا للمؤمن يشهره في وجه الشيطان إذا أراد أن يهوي مزالق الخسران.
__________
(1) سورة ص الآية 26
(2) سورة السجدة الآية 14
(3) سورة الجاثية الآية 34(13/141)
أما الأول منها: فقد عهد الله لآدم ألا يأكل من شجرة بعينها، وحذره من وسوسة الشيطان وإغراءاته، ونسي آدم عهده مع ربه، وذهب عنه العزم الذي يثبت اليقين في أحلك الظروف، يقول الله تعالى، يعرض لنا هذا الموقف: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} (1) .
ثم نجد الآيات التالية تسجل أن هذا النسيان كان لونا من الانحراف {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} (2) وأن الله تاب على آدم وغفر له {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} (3)
وأما الثاني: فقد أشار إليه القرآن الكريم، وهو بصدد الحديث عن المنافقين إذ وصفهم بأنهم نسوا الله فيقول: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4) .
ووقوع ظاهرة النسيان منهم على الله دلالة بليغة على خفوت حرارة العقيدة، وتبلد عاطفة الإيمان وصيرورتها مجرد دعوى بلا واقع؛ إذ أن كل ما في الإنسان من جوارحه، وما حوله من آيات في السماوات والأرض تذكره بالله، فكيف ينساه؟ إنه شأن المنافقين، ظاهرهم الذكر، وباطنهم الغفلة، ومن طبعهم الكذب، كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك اللون من النسيان في موضع آخر يحذر فيه المسلمين من سلوك المنافقين؛ إذ يقول الله تعالى لهم: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (5) .
وكأن هذا النسيان من شأن المنافقين وحدهم، إذ أن سلوكهم يقوم على نسيان بارئهم والحرص على شهواتهم، وتضليل الناس من حولهم.
وثالث الأنواع من هذا النسيان الذي يتصل بالله: نسيان ذكر الله.
ومعنى هذا النسيان افتقاد سلاح لا يستقيم أمر المؤمن في الحياة بدونه؛ إذ يقيه من الإغواء، ويثبته في مواقف الإغراء، ويحفظه من همزات الشياطين ولذا جعل
__________
(1) سورة طه الآية 115
(2) سورة طه الآية 121
(3) سورة طه الآية 122
(4) سورة التوبة الآية 67
(5) سورة الحشر الآية 19(13/142)
القرآن الكريم ذكر الله صفة للمتقين الذين تتجه هممهم إلى خشية الله ومراقبته يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (1) ، كما يقول تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} (2) ، ومن هنا كان نسيان الذكر مباءة للفساد، ويزيد من فرص الانحراف في أمور الدنيا، وعن أوامر الدين.
وهذا هو شأن من نسوا ذكر الله، توضحه عدة آيات، وفي كل آية منها إشارة إلى باعث لهذا النسيان، وهو إما استهواء الشيطان أو استعلاء الإنسان أو غرور لا يسمح بفهم واقعه البشري، فيذكر ماديته وينسى ذكر ربه.
ولكون الآيات التي تتناول نسيان الذكر تعنى بتحليل أسباب هذه الظاهرة سأتناول هذه الآيات عند تناولي لأسباب هذه الظاهرة بعد قليل.
واقتران نسيان الذكر بتحليل بواعثه وبيان أسبابه دلالة على خطورة هذا النوع الذي يصرف الفكر عن ربه ويدفع الإنسان إلى مهاوي الضلال.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 201
(2) سورة آل عمران الآية 135(13/143)
بواعث النسيان:
عندما يكون النسيان مجرد ظاهرة بشرية فبواعثه حينذاك نفسية بحتة، تنبع من داخل الإنسان، وتتمشى مع فطرته الإنسانية في استواء، ليس فيه شذوذ أو نشاز أو التواء، وهذه البواعث خارجة عن دائرة هذا البحث، ومجال دراستها بحوث علماء النفس، ولا يعنى القرآن الكريم في هذه الناحية الإنسانية إلا بتسجيل ظواهرها، أما تحليل الأسباب فرب العالمين خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه، ويفرض عليه من السلوك ما ينسجم مع بشريته، وتعليل الظواهر البشرية الثابتة لا يفيد الإنسان في تدينه، أي في علاقته بخالقه ومولاه.(13/143)
أما النسيان المنحرف فهو الذي تعرضت له الآيات لما وراءه من بواعث؛ لأنها تنبع من خارج الإنسان، أو من داخله الذي خالف عن نداء الفطرة القويم، وذكر البواعث حينذاك علامات هادية للإنسان على الطريق.
وهذه هي الأسباب:
في مقدمتها الشيطان، وقد نسب إليه القرآن الكريم شغل الإنسان عن ربه، وصرفه عن ذكره، وذلك في عدة مواطن:
فيوسف في سجنه وقد طال به الأمد، وفي نفسه شعور صارخ بالظلم، وسجنه هو البديل الوحيد للرذيلة التي تطارده، طلب إلى أحد رفيقيه- وقد يسرت له النجاة- أن يذكره عند الملك، ونسي يوسف رب الملك، إذا لا نجاة له إلا بتقديره، ولكن الشيطان قد ينال من الإنسان وهو يعانى من ضراوة الامتحان، قال تعالى: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} (1) .
وكان مكثه في السجن لمسة عقاب على غفوة يسيرة تولى أمرها الشيطان.
وفي حديث القرآن الكريم عن المنحرفين عن سمت الإسلام إما بفساد في العقيدة، أو انحراف في السلوك نجد تعليلا لذلك يتمثل في تسلط الشيطان عليهم، وسيطرته على نفوسهم، فأنساهم خالقهم، وبذلك تم لهم الانغماس في ضلالهم، يقول تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (2) .
والشيطان وهو يؤدي رسالة الشر في البشرية لا يقصر جهده على الأشرار فهم جنوده وقد فرغ منهم، ولكنه يبحث عن ضالته في السائرين على طريق الرشاد يحاول جذبهم إليه، وقد تبلغ به الوقاحة مبلغا كبيرا، فيطمع في أن ينال فرصة من رواد البشرية، وأنى له ذلك؟ ولذا يقول الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام
__________
(1) سورة يوسف الآية 42
(2) سورة المجادلة الآية 19(13/144)
مذكرا ومحذرا، يذكره بمحاولات الشيطان جذبه إليه في مجالس هؤلاء الضالين، ويحذره من الجلوس معهم أكثر من فترة التذكير والتوجيه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (1) .
والغرور هو ثاني الأسباب:
وهو أن يسيء الإنسان فهم نفسه، بأن ينسى الأصل الذي منه نشأ، أو ينسى أن الأيام تدول، وأن النعم تزول، وأن النعمة قد تصير شقاء، والجاه قد يتحول إلى بلاء.
وسوء الفهم الذي يوجد الغرور هو الذي ينسي الإنسان هذه الحقائق الثابتة من سنن الله في الحياة.
فأبي بن خلف عندما وقف موقف التحدي من النبي صلى الله عليه وسلم منكرا في تهكم عقيدة البعث ويأتي بعظام بالية ويفتنها بيده ويقول: أترى يا محمد أن الله يحيي العظام بعدما رمت؟!! من غير شك أن أبيا في موقفه الذي تبدو منه حماقة البغي وشراسة الجحود لم يدر بخلده الماء المهين الذي خلق منه!! ولو تذكره لراجع نفسه مرات قبل أن يقول ما قال، وهذه هي الحقيقة التي يسجلها القرآن الكريم: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} (2) {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (3) .
فالغرور أنسى أمية إحدى بديهيات الوجود حتى تورط فيما تورط فيه من كفران وجحود، والنعمة تأتي للإنسان بما وراءها من بهجة ومتاع، فيعيش عيشة الرغد، ويرفل في أفخر الثياب، وينعم في سلطان المال والجاه، وينسى أسس شقائه وبلائه، وفقره وبأسائه.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 68
(2) سورة يس الآية 78
(3) سورة يس الآية 79(13/145)
إن الإنسان المغرور، يفزع إلى ربه في الضراء، وينسى ضراعته في السراء: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} (1) .
فغرور الإنسان أنساه صاحب الحق، فضل السبيل إليه وأشرك.
وكم يؤدي غرور الإنعام بالإنسان إلى مهاوي الكفران عندما ينسى ما كان فيه من عسر وما صار إليه من يسر.
ويوم القيامة سيبرأ المعبودون من العبيد أمام رب الأرض والسماء معللين انحراف من عبدوهم بأن متاع النعمة أنساهم فضل المعبود الواحد، يقول تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} (2) {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} (3) .
ومن عجب أن تكون نعمته سببا لجحود فضله، والغفلة عن ذكره، ثم ضلالهم طريق الوصول إليه.
وثالث الأسباب: شهوة التسلط عندما يشعلها إمعان الأتباع في الخضوع.
قد يجد المغرور من يستخزي لكبريائه، وينصاع لغلوائه، ويستذل لبغيه، فيغريه ذلك بمزيد من الطغيان، ويسمع كلمات الثناء وعبارات التمجيد من أفواه العبيد، فيتصور أنه كبير، وينسى أن فوقه الكبير المتعال.
وعندما وجد فرعون من يستذلهم أنساه ذل العبيد أنه عبد مثلهم، وصدق رب العالمين إذ يقول: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} (4) .
__________
(1) سورة الزمر الآية 8
(2) سورة الفرقان الآية 17
(3) سورة الفرقان الآية 18
(4) سورة الفرقان الآية 20(13/146)
تتجلى حقيقة هذا السبب في قوله: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} (1) {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} (2) فكما يحاول الفاتن أن يصرف مفتونه عن دينه، ويبعده عن ربه نرى المفتون من ناحية أخرى ينسى فاتنه ذكر ربه عندما يظن سكوته عنه انصياعا له وذلا له، فيغريه ذلك بمزيد من التجاوز والشطط.
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 109
(2) سورة المؤمنون الآية 110(13/147)
عقوبة النسيان نسيان:
هؤلاء الذين وقعوا مطية للنسيان المنحرف الذي حللنا أسبابه، كيف قوم القرآن موقفهم؟ وماذا قال في عقوبتهم؟
إن سنة الله في عباده وقانونه في خلقه: الجزاء من جنس العمل، فمن نسي ينسى، ونسيان الله لعبده يعني أنه في موقف الطرد من رحمته، والبعد عن مغفرته، وأنه موكول إلى نفسه، ولذا فشقاء الحياة ينتظره، وبؤسها سيلاقيه.
وهذه هي الآيات التي تشير إلى عاقبة النسيان الخاطئ، يقول تعالى: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} (1) ، {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2) ، {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} (3) ، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} (4) ، وفي هذه الآية الأخيرة لون آخر من العقوبة، وهو أن من نسي ربه يوكل الله به ظاهرة النسيان البشري بصورة غير طبيعية تجعل حياته لا تحتمل، ويقضي أيامه في الحياة بدون ذاكرة، {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} (5)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 51
(2) سورة التوبة الآية 67
(3) سورة طه الآية 126
(4) سورة الحشر الآية 19
(5) سورة الجاثية الآية 34(13/147)
وفي مثل هذه الآية كانت عقوبة النسيان من أجل نسيانهم يوم اللقاء، ونسيان يوم اللقاء يعني نسيانهم الملك الحق الذي جعل هذا اليوم فيصلا بين العباد.
هكذا تؤكد الآيات السابقة كلها بأوضح عبارة وأجلى بيان أن عقوبة النسيان نسيان.
والنسيان الذي هو عقوبة ليس كالنسيان الذي هو خطيئة لكنها المشاكلة في التعبير، وهي من خصائص بلاغة القرآن، جاءت لتؤكد حتمية القانون الإلهي واستمراريته، وهو أن جزاء العامل من جنس عمله.(13/148)
الذكر في القرآن
ما صلة حديث الذكر بحديث النسيان؟
إذا ذكرت ربك بصدق طهرت القلب من شواغله، وأخلصته لبارئه، وأنقذته من أدوائه، وحرسته من بواعث النسيان الضال التي أسلفناها، وكنت على ذكر لربك تنقشع أمامه بواعث الغفلة مهما كثرت.
وقد قدم لك القرآن العلاج من هذه الآفة القاتلة المدمرة للعقيدة والسلوك في آية واحدة هي قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} (1) الذكر علاج للنسيان والغفلة، هذه واحدة.
وهناك أمر آخر يدعونا إلى الحديث عن الذكر بعد النسيان، وهو أن الحديث عن أي من المعاني يسوق إلى الحديث عن مقابله، وتناول المعاني المتقابلة يزيدها وضوحا، ويكسبها في النفس بلاغا، وبضدها تتميز الأشياء.
__________
(1) سورة الكهف الآية 24(13/148)
ألفاظ الذكر في القرآن وأوضاعها اللغوية والنحوية:
وردت ألفاظ الذكر في القرآن في نحو مائتي موضع مختلفة الاشتقاق والموضع الإعرابي ونوع الضمائر الملحقة بها وفي التجرد والزيادة.(13/148)
وقد رأيت أن الصيغة الثلاثية للذكر (ذكر) ومشتقاتها المختلفة تستعمل في معان معينة، بينما الصيغ المزيدة تستخدم استخداما آخر.
فالذكر صورة حاضرة ماثلة في الذهن.
والتذكرة استحضارها بعد النسيان.
والتذكير حفز الغير على ذلك الاستحضار.
ولنبدأ بالحديث عن الذكر، وما يشتق من مادته من صيغ ثلاثية.
وردت الصيغة الثلاثية للذكر من عدة صور متباينة، وفي معان متنوعة:
*جاءت بالصيغة الفعلية (ذكر- يذكر- اذكر) مرادا بها الحديث.
*وجاءت بالصيغة الاسمية مرادا بها الشرف أو الشأن، ومرادا بها العلم، ومرادا بها الكتاب المنزل أو النبي المرسل.
*وتناوله القرآن بالصيغة الفعلية واقعا على لفظ الجلالة، وبالصيغة الاسمية مضافا إليه مثل: ذكروا الله- يذكرون الله- اذكروا الله- ذكر الله.
*وبنفس الصيغتين واقعا على لفظ الرب أو مضافا إليه. .
*وبالصيغة الفعلية واقعا على اسم الله تعالى مثل: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (1) .
والذكر في الحالات الثلاث الأولى يدخل في دائرة الاستعمال اللغوي فحسب، وفي الحالات الأربع الأخيرة مقصور على العبودية الخالصة، والارتباط الوثيق بالله.
__________
(1) سورة الأعلى الآية 15(13/149)
الذكر بمعنى الحديث:
تناول الإنسان لأمر من الأمور بلسانه يعني إخراجه من دائرة النسيان إلى عالم الشهود، وقد ورد الذكر بهذا المعنى في ستة مواضع، منها ما فيه تكريم، ومنها ما فيه تحذير.
فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأصنام التي ضل بها قومه، وقالوا عنه كما حكى القرآن الكريم: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} (1) .
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 36(13/149)
وذكر إبراهيم الأصنام التي ضلت بها شيعته، وقالوا عنه كما حكى القرآن: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} (1) .
وطلب يوسف من رفيقه في السجن أن يذكره عند الملك {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} (2) .
وظل يعقوب يذكر يوسف كثيرا حتى لامه في إشفاق، أو أشفق عليه في لوم بنوه الآخرون {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} (3) .
وإذا تحدث القرآن عن الجهاد وذكر في آياته اسم القتال فزعت قلوب المنافقين وزاغت أبصارهم {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} (4) .
والإنسان قبل أن يوجد أو يولد لم يكن شيئا ذا بال يستحق أن يتحدث عنه، فهو كما قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} (5) .
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 60
(2) سورة يوسف الآية 42
(3) سورة يوسف الآية 85
(4) سورة محمد الآية 20
(5) سورة الإنسان الآية 1(13/150)
الذكر بمعنى الشأن والشرف:
وقد امتن على نبيه برفعة الشأن وعلو المظهر ونباهة الذكر، فقال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (1) ، كما شرف العرب برسالة الإسلام فيهم، ونزول القرآن بلغتهم {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (2) .
__________
(1) سورة الشرح الآية 4
(2) سورة الأنبياء الآية 10(13/150)
الذكر بمعنى العلم:
والعلم أصول وقواعد مستحضرة في أذهان البشر يواجهون بها مشكلات الحياة والوجود، والعالمون بها هم أقدر الناس على بذل العون لغيرهم ممن لا يعلمون، ولذا كان توجيه القرآن الكريم لغير العالمين أن يسألوا العالمين الذاكرين لهذه الأصول، يقول تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) .
ووعد النبي صلى الله عليه وسلم قومه بشيء من العلم عن ذي القرنين عندما سألوه عنه، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} (2) .
وطلب الرجل الصالح من موسى عليه السلام أن يلوذ بالصمت حتى يذكر له فيما بعد شيئا من علم ذلك {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} (3) .
ومن أهداف عروبة اللسان القرآني أن يقود قلوب العرب في رفق إلى الخوف من بارئها العظيم، ويمنحها العلم به {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} (4) ، ويعلل الضالون لانحرافهم عن منهج الإخلاص بافتقادهم شيئا من العلم الذي هدى به السابقون، أو من التجارب التي مروا بها، وهو استنتاج دقيق منهم، لكن بعد فوات الأوان {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ} (5) {لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} (6) .
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 7
(2) سورة الكهف الآية 83
(3) سورة الكهف الآية 70
(4) سورة طه الآية 113
(5) سورة الصافات الآية 168
(6) سورة الصافات الآية 169(13/151)
الذكر بمعنى الكتاب المنزل أو النبي المرسل:
الكتاب المنزل مبادئ قويمة، وشرائع مستقيمة، ونصح رشيد، وتوجيه سديد، ولا عجب فهو كتاب رب العالمين، الذي خلقهم ويعلم ما يصلحهم ويسددهم،(13/151)
وعلى قدر بشريتهم شرع لهم من الدين ما وصى به رسله جميعا {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (1) .
والكتاب المنزل ذكر؛ لأنه يضع أمام ذاكرة البشر هذه المبادئ التي تحكم الحياة، وتقود السلوك، إنه ذكر حكيم، وذكرى للمؤمنين.
وقد جاء الذكر بهذا المعنى في واحد وثلاثين موضعا من القرآن الكريم، من هذه المواضع ما كان الذكر فيه بمثابة العلم على القرآن {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} (2) ، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (3) ، {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (4) ، {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (5) ، {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} (6) ، ومعنى هذه الآية أنهملكم فنحرمكم من هدي الكتاب لتجاوزكم حد الاعتدال. . وتتساءل قريش في استنكار: كيف ينزل هذا الذكر على محمد من بينهم؟ {أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} (7) ، {أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} (8) .
وقد يترك القرآن ببيانه المعجز آثارا في القوم، يندر في قلوبهم حقدا، وفي أعينهم زيغا وغيظا {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} (9)
__________
(1) سورة الملك الآية 14
(2) سورة الحجر الآية 6
(3) سورة الحجر الآية 9
(4) سورة النحل الآية 44
(5) سورة الأنبياء الآية 105
(6) سورة الزخرف الآية 5
(7) سورة ص الآية 8
(8) سورة القمر الآية 25
(9) سورة القلم الآية 51(13/152)
وتسمية القرآن ذكرا فيه معنى الاسمية والوصفية، على السواء، غير أنه في بعض المواضع تغلب الاسمية، وفي بعضها تغلب الوصفية.
فالقرآن من أبرز صفاته أنه ذكر، وأن رسالته هي الذكر {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} (1) ويقول تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} (2) ، {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} (3) فهو ليس ذكرا فحسب وإنما هو ذكر محكم يصيب كبد الحقيقة، فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ويقتحم القلب فيصيب الشغاف، قال تعالى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (4) وهو ذكر مبارك تسمو به حياة الناس، وينمو في طريق الخير مجتمعهم {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} (5) .
ورسالة الذكر في القرآن تعم الوجود كله، ففي أكثر من آية يقول رب العالمين عن كتابه: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (6) يوسف، ص، التكوير، الأنعام {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (7) ، ومع عمومها تخص العرب بذواتهم، يقول تعالى ممتنا على النبي وقومه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (8) ، كما يقول: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} (9) ولفظ لدنا: فيه إكبار لهذا الذكر أي إكبار، ولذا ينتقد القرآن انصرافهم عنه، وإعراضهم عن هديه {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} (10)
__________
(1) سورة يس الآية 69
(2) سورة ص الآية 1
(3) سورة آل عمران الآية 58
(4) سورة الزمر الآية 23
(5) سورة الأنبياء الآية 50
(6) سورة يوسف الآية 104
(7) سورة القلم الآية 52
(8) سورة الزخرف الآية 44
(9) سورة طه الآية 99
(10) سورة الأعراف الآية 63(13/153)
{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} (1) ، {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} (2) ، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} (3) .
وأكبر خطأ يتورط فيه البشر أن يستبد بهم الغي، فلا ينتفعون بحكمة هذا الذكر.
وهذا هو الكافر يلوم قرين السوء الذي أغواه {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} (4) ، كما يقول المعبودون من دون الله يتبرءون أمام ربهم من ضلال عابديهم: {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} (5) .
والذي يتبع الذكر ويهتدي بآثاره هو الذي يستجيب للنذير، ويؤثر فيه التبشير: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} (6) .
وأروع ما في الذكر القرآني - وكله رائع - أنه يحوي خلاصة التجربة البشرية، يقول رب العالمين: {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (7) .
وقد سمى القرآن الرسول "ذكرا" لأنه يحمل الذكر للبشرية، ويثير ذاكرتها نحو الاتجاه إلى المبادئ السماوية {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا} (8) {رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ} (9) .
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 2
(2) سورة الأنبياء الآية 36
(3) سورة فصلت الآية 41
(4) سورة الفرقان الآية 29
(5) سورة الفرقان الآية 18
(6) سورة يس الآية 11
(7) سورة الأنبياء الآية 24
(8) سورة الطلاق الآية 10
(9) سورة الطلاق الآية 11(13/154)
وفي قسم رب العالمين بملائكته وهم العباد المكرمون، يشير إلى جانب من فضلهم، وأنهم يتلون الذكر، ويلقونه على رسل الله وأنبيائه يقول تعالى: {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} (1) ، {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} (2) .
__________
(1) سورة الصافات الآية 3
(2) سورة المرسلات الآية 5(13/155)
ذكر الله
وهو أرفع مستوى تسمو إليه عقيدة الإنسان؛ لأنه يعني استحضار عظمة الذات الإلهية والإحساس بها في كل موطن، وفي كل موقف، ومن هنا يكون الذكر جنة للمؤمنين، وملاذا لقلوبهم فلا تعصف بها الأهواء، وحصنا حصينا لإيمانهم فلا يزيغ به شرك أو رياء.
وهذه هي ثمرته: طمأنينة في القلب {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (1) .
والأسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم منهج كريم، لكن الذي يعرف قيمة القدوة، ويحرص عليها من كان رجاؤه في الله وثوابه، وكان ذكر الله يملأ جوانب نفسه، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (2) .
والذكر صفة للمتقين لأنه باعث التقوى ووسيلتها {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} (3) ، {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (4) .
__________
(1) سورة الرعد الآية 28
(2) سورة الأحزاب الآية 21
(3) سورة آل عمران الآية 135
(4) سورة الأعراف الآية 201(13/155)
وذكر الله سمة تحكم مسلك العقلاء، يقول تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (1) {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (2) .
وذكر العقلاء لله- كما تشير الآية- تأمل وتدبر، واستحضار لعظمة الذات، وليس مجرد ترديد عبارات باللسان والقلب عنها في شغل كبير.
والذكر صفة للمؤمنين. . فإذا تحدث القرآن عن الشعراء بأنهم يهيمون في أودية الغي، فمنهم من نأى عن ذلك فنبذ تقاليد الجاهلية ومقاييسها الفاسدة، واتجه إلى قيم أمثل تصلح الحياة والنفوس، وهؤلاء هم شعراء المؤمنين أو مؤمنو الشعراء، وأبرز صفاتهم الذكر الكثير لله، والانتصار لدينه، يقول تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} (3) {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} (4) {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} (5) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا} (6) .
ولكون الذكر صفة للمؤمن وسمة للإيمان، وجدنا هذه النداءات في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} (7) ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ} (8) ذلك لأن الذكر أعظم سلاح يرفع من معنوية المجاهد عندما يشتد البأس، وتحمر الحدق.
ويقول تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (9) ، {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} (10) {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (11) {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} (12) ، واستجابة القلب للذكر وتأثره به دليل على صدق الإيمان، وقوة سلطانه على نفس الإنسان.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 190
(2) سورة آل عمران الآية 191
(3) سورة الشعراء الآية 224
(4) سورة الشعراء الآية 225
(5) سورة الشعراء الآية 226
(6) سورة الشعراء الآية 227
(7) سورة الأحزاب الآية 41
(8) سورة الأنفال الآية 45
(9) سورة الأنفال الآية 2
(10) سورة الحج الآية 34
(11) سورة الحج الآية 35
(12) سورة الحديد الآية 16(13/156)
وكما أن الذكر سلاح فعال في ميادين القتال هو أيضا سلاح مؤثر في معترك الحياة، يقول تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) .
وفي المواقف الصعبة ترى في الذكر تثبيتا للذاكرين، وبه وصى الله موسى وهارون وهما ذاهبان لمواجهة فرعون {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} (2) .
__________
(1) سورة الجمعة الآية 10
(2) سورة طه الآية 42(13/157)
الذكر عبادة والعبادة ذكر:
ومعنى العبادة لا يتحقق إلا به، وهي في الوقت نفسه وسيلة إليه وأسلوب له، والصلاة ذكر، والذكر من أعظم ثمراتها {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (1) ، {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (2) ، {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (3) .
وفي تناول الصلاة ذكرى وفي أعقابها ذكر {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} (4) ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (5) .
والذكر ألزم سلوك لعبادة الحج، ولذا تراه مطلوبا من الحجيج في كل منسك {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} (6) ، {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} (7) ، {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (8) .
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 45
(2) سورة طه الآية 14
(3) سورة هود الآية 114
(4) سورة النساء الآية 103
(5) سورة الجمعة الآية 9
(6) سورة البقرة الآية 198
(7) سورة البقرة الآية 200
(8) سورة البقرة الآية 203(13/157)
ذكر اسم الله:
وفي نحو أربعة وعشرين موضعا من الكتاب العزيز ورد الذكر أو مشتقاته واقعا على اسم الله، وتتميز هذه المواضع بأنها عبادات ذات رسوم وحدود، وأن المعنى فيها الإهلال باسم الله، لأنه في هذه المواطن دليل الانصياع، وبرهان الإذعان للخالق العظيم.
فالإهلال بذكر الله في الصلاة {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (1) ، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (2) ، {وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} (3) ، وفي الحج كذلك ترديد لاسم الله تعالى، يقول جل شأنه: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (4) ، {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} (5) .
وعند الذكاة (الذبح) يتحتم الذكر {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (6) ، {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} (7) ، {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (8) ، ويحرم ما ذبح من غير ذكر، أو ذكر عليه غير اسم الله تعالى، {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (9) ، {وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ} (10) .
__________
(1) سورة الأعلى الآية 15
(2) سورة البقرة الآية 114
(3) سورة الحج الآية 40
(4) سورة الحج الآية 28
(5) سورة الحج الآية 34
(6) سورة الأنعام الآية 118
(7) سورة الحج الآية 36
(8) سورة الأنعام الآية 119
(9) سورة الأنعام الآية 121
(10) سورة الأنعام الآية 138(13/158)
ويجب الذكر عند وقوع الصيد في قبضة الحيوان المعلم {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} (1) .
وذكر اسم الله شعار ينبغي للمؤمن أن يرفعه في كل حين، {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} (2) ، {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (3) .
هذه هي المواطن التي يحددها القرآن الكريم للذكر القولي: مواطن العبادات، وأوقات الضراعة التي يهتف فيها العبد الخاشع الضارع لائذا مستجيرا بمن خلقه وسواه، مرددا اسمه وحده في أدب واتزان دون تحريف وإلحاد، يقول تعالى: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (4) ، وفي آية أخرى يقول: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} (5) ومن هنا ندرك مدى العبث الذي يتورط فيه بعض هؤلاء الذين يقفون صفوفا يترنحون ذات اليمين وذات اليسار، يرددون اسم الله بألفاظ غير مفهومة زايلها الوقار والاتزان، زاعمين بهذا أنهم يذكرون الله. . ألا ساء ما يصنعون!! وما عدا مواطن العبادات والضراعة، فالذكر استحضار لعظمة الله، وتأمل وتفكير في أثار قدرته.
__________
(1) سورة المائدة الآية 4
(2) سورة المزمل الآية 8
(3) سورة الإنسان الآية 25
(4) سورة الإسراء الآية 110
(5) سورة الأعراف الآية 180(13/159)
واذكر ربك:
وورد الذكر بمشتقاته واقعا على لفظ الرب في ثمانية مواضع، وهذه المواضع فيها معنى التربية والامتنان والفضل والإنعام، وهذه ظاهرة تعبيرية واضحة في كل مقام يذكر فيه القرآن لفظ الرب حيث يكون الإشعار بالتربية ألزم وأنسب من الإشعار بالعبودية، ولأن إدراك معنى التربية- إذا صدق- يوصل إلى العبودية الخالصة.(13/159)
وهذه الآيات تؤكد صحة هذا الاستنتاج يقول تعالى: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} (1) ، {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} (2) ، ويقول تعالى لعبده زكريا: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} (3) .
ويقول تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} (4) ، {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (5) ، وعن يوسف يقول تعالى: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} (6) ، وعن سليمان يقول تعالى: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} (7) ، وفي تأنيب الكافرين الجاحدين يقول تعالى: {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} (8) .
__________
(1) سورة الإسراء الآية 46
(2) سورة الزخرف الآية 13
(3) سورة آل عمران الآية 41
(4) سورة الأعراف الآية 205
(5) سورة الكهف الآية 24
(6) سورة يوسف الآية 42
(7) سورة ص الآية 32
(8) سورة الأنبياء الآية 42(13/160)
الإعراض عن الذكر. . وآثاره وبواعثه
الإعراض عن الذكر بادرة خطيرة تزعزع بنيان العقيدة، ولذا نرى في القرآن الكريم تحذيرا من اللهو الشاغل عنه، ومن كل داعية إلى الانصراف عن هديه، فالذين لا يذكرون هم المنافقون أو الكافرون وكفى!! {يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (1) ، {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} (2) {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} (3) .
__________
(1) سورة النساء الآية 142
(2) سورة الكهف الآية 100
(3) سورة الكهف الآية 101(13/160)
والذين لا يؤمنون بالآخرة لا يرتاحون إلى الذكر الخالص لله {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} (1) ، ولقسوة قلوبهم وعدم تأثرها بالذكر استحقوا الويل {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} (2) .
وفي هذه الآيات تحذير من الصوارف عن الذكر واتباع الضالين المنحرفين، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} (3) {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (4) {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (5) والشيطان أكبر صارف عن الذكر، بل هو الذي ينمي كل الصوارف {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} (6) {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} (7) .
والمؤمنون الصادقون لا تؤثر فيهم هذه الصوارف كما وصفهم ربهم فقال: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ} (8) .
__________
(1) سورة الزمر الآية 45
(2) سورة الزمر الآية 22
(3) سورة المنافقون الآية 9
(4) سورة الكهف الآية 28
(5) سورة النجم الآية 29
(6) سورة المائدة الآية 91
(7) سورة المجادلة الآية 19
(8) سورة النور الآية 37(13/161)
مصير الغافلين:
والغافلون عن ذكر الله ينتظرهم شقاء الدنيا وبلاؤها، وعذاب الآخرة ونكالها، فمن يعم عن ذكر ربه ييسر له شيطانا في الدنيا يوغل به في متاهات الإغواء {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (1) ، وفي الآخرة يصف القرآن لنا
__________
(1) سورة الزخرف الآية 36(13/161)
عذابه فيقول: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} (1) ، وحسب الغافل تعاسة الدارين التي تصفها هذه الآية: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (2) .
__________
(1) سورة الجن الآية 17
(2) سورة طه الآية 124(13/162)
وهذه منزلة الذاكرين:
يعدهم الله من بين حملة القيم، وأصحاب المثل السامية كالمسلمين والمؤمنين والصابرين والصادقين فيقول تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} (1) . . كما يعدهم الله تعالى بأن يذكرهم كما ذكروه {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (2) وذكر الله لعبده تكريم ما بعده تكريم.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 35
(2) سورة البقرة الآية 152(13/162)
التذكر والتذكير في القرآن
إذا كان الذكر أمام مرآة الإسلام مقصدا كريما، وبالنسبة لعقيدة الإيمان سياجا متينا يحفظ لها وجودها، ويبقي لها قوتها، وعميق تأثيرها، حتى إن القرآن الكريم، كما أوضحنا، حرص على أن يبقي هذا المعنى العظيم في سلوك المسلمين. . فهناك بجانب هذا حقيقة يجب ألا نغفلها هي أن الذكر لا يبقى ولا يكون له سلطانه إلا بالتذكر والتذكير، واستمرار الذكرى، ومن هنا كان لها من عناية القرآن الكريم أوفى قسط، ومن بيانه أوفر نصيب.
وقد عرفنا أن التذكير ينتهي بنا إلى التذكر، والتذكر ثمرته الذكر.
والذكرى موطن العبرة نفسه الباعث على التذكر.
وكأن التذكير والتذكر- إذن به بهذه الصورة- مرحلتان في طريق الذكر.(13/162)
فما مبلغ عناية القرآن الكريم بهما؟ وكيف تناولهما؟ وكيف كشف عن أهميتهما؟ وما البواعث التي استخدمها في التذكير لتحمل النفوس على التذكر؟
هذه الأمور سنوضحها في هذه المرحلة من البحث.(13/163)
التذكير منهج لرسالات السماء:
والتذكير هو المنهج الذي يقوم عليه دين الله، ومن أجله كانت وتعددت رسالات السماء في شتى مراحل التاريخ، وتحمل الرسل عبء هذا المنهج، ليذكروا البشر بأبعاد الهداية، ويدلوهم على مواطن الخير في وحي الله ودين السماء؛ ليستطيع الإنسان تحقيق الرسالة التي أرادها الله له في هذا الوجود.
وتدرك هذه الأهمية البالغة للتذكير عندما تقلب صفحات الكتاب العزيز، إذ تستوقفك في مجال الدعوة إلى التذكير أمور ذات بال.
(1) يدعو رب العالمين نبيه ومصطفاه محمدا عليه الصلاة والسلام إلى أن يذكر ويتذكر، أما التذكير فهو جوهر مهمته ومناط رسالته، ولذا وجهه الله تعالى إليه في مواطن كثيرة، وأرشده إلى وسائل شتى يستعين بها في تذكيره سنتناولها فيما بعد.
يقول الله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} (1) ، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) ، {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} (3) {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} (4) ، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} (5) {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} (6) ، وفي الآية الأخيرة دعوة إلى التذكير بالقرآن مخافة أن ينتهي أمر القوم إلى الهلاك، بما أسلفوه من بغي وانحراف.
__________
(1) سورة ق الآية 45
(2) سورة الذاريات الآية 55
(3) سورة الطور الآية 29
(4) سورة الأعلى الآية 9
(5) سورة الغاشية الآية 21
(6) سورة الأنعام الآية 70(13/163)
وأما التذكر فقد دعا الله نبيه إليه لأنه سيكون جنة له تحميه من نوازع البشرية، وتضع نصب عينيه مثلا أعلى من حياة من سبقوه في طريق الدعوة، فيهون أمامه البلاء، ويخف عليه وقع المحن، ويتحمل مئونة الصبر، ومن هنا كان الأمر بالتذكر يدور كله في مجال القصص القرآني.
وقد جاء الأمر في سورة مريم وحدها خمس مرات، يقول تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} (1) {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ} (2) {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى} (3) {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ} (4) {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ} (5) الآيات.
كما جاء هذا الأمر في أربعة مواضع من سورة ص، تحث النبي عليه الصلاة والسلام على تذكر أنبياء آخرين سبقوا في الدعوة إلى الله، فيقول: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ} (6) {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} (7) {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} (8) {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ} (9) ، وفي الأمر بالصبر قبل الذكر في الموضع الأول إشارة إلى أن مغزى التذكر أن يصل به النهي إلى قضية الصبر التي بها تنجح الدعوات.
وفي سورة الأحقاف يقول تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} (10) ، وأخو عاد كناية عن نبي الله هود عليه السلام، والأحقاف موضع معروف، في الجهة الجنوبية الشرقية من شبه الجزيرة العربية، كما يقول تعالى في صدر الحديث عن موسى عليه السلام: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (11) .
__________
(1) سورة مريم الآية 16
(2) سورة مريم الآية 41
(3) سورة مريم الآية 51
(4) سورة مريم الآية 54
(5) سورة مريم الآية 56
(6) سورة ص الآية 17
(7) سورة ص الآية 41
(8) سورة ص الآية 45
(9) سورة ص الآية 48
(10) سورة الأحقاف الآية 21
(11) سورة القصص الآية 46(13/164)
وفي غير مجال القصص القرآني نجد توجيها للنبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى استلهام الذكرى من حادث عبد الله بن أم مكتوم الذي عبس في وجهه، فقال الله لرسوله بعد عتاب غير يسير: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} (1) {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} (2) .
فالتذكر الذي يحمي البشرية من الهوى وينأى بها عن الزلل، والتذكير الذي هو مهمة ورسالة لم يكونا مقصورين على خاتم الأنبياء وحده، فهذا أمر الله لنبيه عيسى عليه السلام بالتذكر، إذ يقول له: {اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} (3) ، وهذا أمر آخر لنبيه موسى بالتذكير: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} (4) ، ويحدثنا القرآن عن عتاب نوح عليه السلام لقومه الذين ساءتهم الدعوة إلى الله والتذكير بآياته: {يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} (5) .
ويصف الله تعالى أنبياءه إبراهيم وإسحاق ويعقوب بصفة اختصهم بها، وهي تذكرهم لدار الجزاء {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} (6) .
فرسل الله جميعا ذكروا فتذكروا، وقاموا بواجب التذكير كما أمرهم الله، وإن لم تنسب إليهم الألفاظ صراحة بهذه الكثرة كخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم.
(2) الدعوة إلى التذكر في القرآن ملحة تهز عقول البشر هزا عنيفا، وتزيح أستار الغفلة التي تلقيها عليها بين الحين والحين نوازع النفوس ومغريات الحياة، وذلك ليعود للعقل البشري صفاؤه، فيستجيب لدعوة الله، ويذعن لرسالة الحق، تبدو قوة هذه الدعوة إلى التذكر في الأسلوب التي عرضت به الآيات الداعية إليه، إذ في ستة مواطن من القرآن الكريم وردت الدعوة بهذه الصورة: أفلا تذكرون؟ التي تتضمن
__________
(1) سورة عبس الآية 11
(2) سورة عبس الآية 12
(3) سورة المائدة الآية 110
(4) سورة إبراهيم الآية 5
(5) سورة يونس الآية 71
(6) سورة ص الآية 46(13/165)
استنكار الغفلة الصارفة عن استحضار العبرة عندما تمر آية، أو يلم حدث، أو يطوف بالحياة أمر ذو شأن، والذي يلفت النظر، ويشد الانتباه أن هذه المواطن الستة تدور كلها حول التوحيد وتوطيد العقيدة الصحيحة للإسلام في نفوس البشر، ففي محاجة إبراهيم لقومه يؤكد لهم أنه لا يخشى إلا الله، ثم يقول: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} (1) {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ} (2) .
ويضرب القرآن الكريم مثل الفريقين: الفريق الذي عقل الحق وعرف العقيدة الصحيحة، والفريق الذي غفل فضل، واتبع هواه، فالأول مثله مثل البصير والسميع، والثاني مثله: مثل الأعمى والأصم، وتنتهي الآية بهذا التساؤل {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (3) .
ويرد هود عليه السلام شهوة جامحة لقومه طلبوها في غفلة من العقل والبصيرة، إذ رغبوا إليه أن يطرد المستضعفين من مجلسه، ليخلو لهم وحدهم ما يريدون من شهوة الانفرادية: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} (4) {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (5) .
وفي موازنة رائعة مقنعة تأخذ بتلابيب النفوس الضالة التي غشيتها سحابة الشرك يقول رب العالمين: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (6) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 80
(2) سورة الأنعام الآية 81
(3) سورة هود الآية 24
(4) سورة هود الآية 29
(5) سورة هود الآية 30
(6) سورة النحل الآية 17(13/166)
وفي مساءلة هادية راشدة بين الداعي وقومه، جاءت الدعوة السادسة إلى التذكر، يقول تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (2) .
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 84
(2) سورة المؤمنون الآية 85(13/166)
وفي غير هذه المواطن دعوات كثيرة للتذكر، مقرونة بوسيلة أو الباعث عليها، وقد قدمت للبشرية في ظروف مختلفة حتى تستمر على طريق الحق مسيرتها، يقول تعالى في تأنيب الغافلين الضالين غداة الحسرة عندما تتبين الحقائق وينكشف عن العين الغطاء: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} (1) .
وهذه دعوة للمسلمين بعد النصر العظيم في بدر لأن يتذكروا ماضيهم الذي عاشوه مستضعفين، مبغيا عليهم، إذ أن هذه الذكرى تحفزهم على الشكر الذي يزيد النعم ويوثق العلاقة بخالقهم العظيم: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (2) .
وعلى لسان شعيب عليه السلام جاء النصح لقومه بأن يتذكروا: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (3) .
وعلى لسان هود وصالح عليهما السلام جاء نفس النصح لقوميهما عاد وثمود، يقول تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} (4) ، {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} (5) .
وفي شأن بني إسرائيل يقول تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (6) .
(3) وبقدر ما كانت الدعوة إلى التذكر تحمل هذا القدر الكبير من التقدير والاهتمام؛ لما في التذكر من صحوة العقيدة، ويقظة الضمير، بقدر هذا كان التنديد عنيفا
__________
(1) سورة فاطر الآية 37
(2) سورة الأنفال الآية 26
(3) سورة الأعراف الآية 86
(4) سورة الأعراف الآية 69
(5) سورة الأعراف الآية 74
(6) سورة الأعراف الآية 171(13/167)
وقاسيا بمن غفلوا ولم يعقلوا، وسمحوا لغشاوة النسيان أن تحجب البصيرة، وتتركهم في متاهات الضلال، يتجلى عنف هذا التهديد من حديث القرآن عن المعرضين عن الذكر، ووصفه لهم، وتقويمه لعقيدتهم، وكشفه عن مصائرهم {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} (1) وفي آية أخرى: {ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} (2) .
وفي وصف المنافقين يقول تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (3) .
وأهل الكتاب خانتهم ذاكرة المؤمن، فنسي اليهود حظا مما ذكروا به، فحرفوا الكلم عن مواضعه، ولا تزال خياناتهم مستمرة، وأما النصارى {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (4) .
ونسي كثير من بني إسرائيل واجب النصيحة، فحلت بهم العقوبة، ولم يفلت منها إلا من نهوا عن السوء {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (5) .
ويصور القرآن الكريم حقيقة هؤلاء المعرضين عن الذكر أسلوبا ونتيجة، فيقول تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (6) {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} (7) {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} (8) فرسم القرآن الكريم صورة منفرة لإعراضهم، كما أشار إلى موقفهم يوم القيامة عندما يواجهون العذاب بلا شفيع ولا نصير.
__________
(1) سورة الكهف الآية 57
(2) سورة السجدة الآية 22
(3) سورة التوبة الآية 126
(4) سورة المائدة الآية 14
(5) سورة الأعراف الآية 165
(6) سورة المدثر الآية 48
(7) سورة المدثر الآية 49
(8) سورة المدثر الآية 50(13/168)
والوصف بعدم التذكر نراه سجية لكل منحرف عن دين الله، يقول تعالى: {وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ} (1) ، ولا عجب فهو أساس الداء والباعث الأقوى على الانحراف، فالذي لا يتذكر تختلط أمام بصيرته القيم، يقول تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} (2) .
والذي لا يتذكر يتورط في أرجاس الشرك: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (3) .
ووصف الكفار بقلة التذكر المعني به العدم ورد أيضا في مواضع أخرى.
والذي لا يتذكر تختفي أمام عينيه الحقائق الساطعة {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} (4) {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} (5) {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} (6) .
(4) يؤكد القرآن الكريم أن التذكر أو الانتفاع بالذكرى والاستفادة من التذكير لون من السلوك الأقوم لا يتيسر إلا لأنماط معينة من البشر:
(أ) من هم على درجة من العقل الراشد واللب النابه والبصيرة النافذة، وقد ورد في السور والآيات الآتية ما يفيد أن التذكر مقصور على أولي الألباب وذوي البصيرة والعقول مثل: وما يذكر إلا أولوا الألباب ومثل لقوم يعقلون ومثل {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (7)
__________
(1) سورة الصافات الآية 13
(2) سورة غافر الآية 58
(3) سورة الأعراف الآية 3
(4) سورة الفرقان الآية 50
(5) سورة الدخان الآية 13
(6) سورة الدخان الآية 14
(7) سورة ق الآية 37(13/169)
(ب) من هم على صفة الإيمان أو التقوى أو العبادة أو الإنابة، وهذه الصفات هي من أرفع المستويات التي يصل إليها المسلمون بإسلامهم، وهذه الصفات ليست متباينة، وإنما هي مترابطة متآخية، ولا تتحقق- بصدق- إحداها إلا إذا تحققت أخواتها، فلا إيمان بدون تقوى، والعبادة جوهرهما، والإنابة تضفي عليهما حيوية العقيدة، وعمق تأثيرها.
وأكثر هذه الصفات ارتباطا بالذكر والتذكر صفة التقوى؛ لأنها تقوم على مراقبة الله وخشيته، ومن هنا كان المتقون أكثر الناس ذكرا لله وتذكرا لآياته.
ففي ارتباط الذكر بالتقوى وردت ثماني آيات تؤكد أن التذكر صفة لازمة للتقوى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا} (1) ، {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} (2)
وجاءت ثلاث آيات تؤكد ارتباط التذكر بعقيدة الإيمان وهي [12 \ هود، 51 \ العنكبوت، 15 \ السجدة] .
وفي علاقة الإنابة بالذكر، يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} (3) ، {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} (4) .
وفي ارتباط العبادة بالذكر يقول تعالى: {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (5) .
والذاكر هو الذي يتذكر، وهذا الارتباط لغوي وقرآني أيضا، إذ يقول تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (6) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 201
(2) سورة طه الآية 3
(3) سورة غافر الآية 13
(4) سورة ق الآية 8
(5) سورة الأنبياء الآية 84
(6) سورة هود الآية 114(13/170)
(5) التذكر منطلق المسئولية:
فعند الذكرى أو التذكر تتحدد المسئولية وتتأكد، وتنتفي الأعذار والتعللات، يبدو ذلك من خطاب الله لرسوله في هاتين الآيتين: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (1) {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (2) ، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} (3) ، {فَأَعْرَضَ عَنْهَا} (4) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 68
(2) سورة الأنعام الآية 69
(3) سورة السجدة الآية 22
(4) سورة الكهف الآية 57(13/171)
بواعث التذكر
من هذه الموضوعات التي أثرتها والنتائج التي استخلصتها نستطيع أن نقف على مدى أهمية التذكر في سلوك كل ذي دين، وبخاصة دين الإسلام الذي اصطفاه الله وارتضاه.
وبالدراسة الواعية القائمة على استقراء دقيق لاستعمالات هذه الألفاظ في القرآن الكريم (التذكر والتذكير والذكرى) نرى أن الكتاب العزيز وضع تحت أيدينا وسائل التذكر وبواعثه، وهي متعددة ومتنوعة حتى تغطي ميول البشر، وتصيب نوازعهم وهي مختلفة ومتنوعة.
وهذه هي البواعث التي تدفع إلى التذكر، معززة بآيات القرآن الكريم التي تناولتها.
(1) الكتاب السماوي بعامة باعث على التذكر، والقرآن بخاصة يعد من أول الوسائل وأقوى البواعث والحوافز، فهو من حيث الإطار يثير التذكر بلسانه العربي، ومن حيث المضمون هو مليء بالمواعظ والعبر، حافل بالدروس والقصص، وهو - كما قلنا أول البحث - والذكر صنوان، فالقرآن ذو الذكر، وسماه الله ذكرا في أكثر من موضع، وفي خمس عشرة آية منه يبين الله لنا أن كتاب السماء(13/171)
يحرك النفوس إلى التذكر، فلا يضيع إيمانها في سحب الغفلة وركامها، في ثلاثة مواضع منها حديث عن كتاب موسى، وفي باقيها حديث من القرآن.
وهذه هي السور والآيات التي وصفت كتاب الله بأنه دافع إلى التذكر ووسيلة إلى التذكير: [41 \ الإسراء، 48 \ الأنبياء، 43 \ القصص، 51 \ العنكبوت، 29 \ ص، 53، 54 \ غافر، 58 \ الدخان] ، وفي سورة ق {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} (1) ، وفي سورة القمر جاءت هذه الآية: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (2) أربع مرات، وفي الحاقة: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} (3) .
__________
(1) سورة ق الآية 45
(2) سورة القمر الآية 17
(3) سورة الحاقة الآية 48(13/171)
(2) وجاء لفظ الآيات باعثا على التذكر في نحو سبع آيات، والآيات إما كونية وإما قرآنية، والتذكير بالقرآن تحدثنا عنه، والتذكير بآيات الكون سنتحدث عنه، أما في هذه المواطن فقد جاءت الآيات عامة بدون تحديد، لكن في بعض المواطن يغلب على الظن أنها القرآنية، وفي بعضها الآخر يترجح أنها الكونية.
فمن الأولى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ} (1) الكهف والسجدة، {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} (2) وراجع 15 \ السجدة و 221 البقرة.
ومن الثانية قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (3) ، والمشار إليه نعم الله على بني آدم باللباس والرياش، ثم إرشادهم إلى أن لباس التقوى أجمل وأكمل.
__________
(1) سورة الكهف الآية 57
(2) سورة الفرقان الآية 73
(3) سورة الأعراف الآية 26(13/171)
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} (1) : أي أن الحديث في إنشاء السحاب وإنزال المطر تنوع القول فيه بين الناس في القرآن وفي الكتب السماوية الأخرى ليتذكروا ويعتبروا.
__________
(1) سورة الفرقان الآية 50(13/173)
(3) التأمل في مخلوقات الله وفي سننه الكونية، وهذا من أقوى البواعث على التذكر، ومن أنجح وسائل التذكير، ولا عجب فهو المنهج الذي ارتضاه القرآن لهداية النفوس الضالة إلى الله، وفي غرس جذور العقيدة ودعم سلطانها على قلوب البشر.
وقد أشرت في الفقرة السابقة إلى آيتين فيهما حديث عن آيات الله حافز على التذكير.
وتأمل معي هذه الآيات التي تعرض جوانب من الكون العظيم، لتنتهي بالناس إلى ضرورة الإيمان والتوحيد: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (1) {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (2) ، {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (3) ، وراجع [57 \ الأعراف- 17 \ النحل- 62 \ الواقعة- 8 \ ق- 31 \ المدثر- 62 \ النمل] .
__________
(1) سورة يونس الآية 3
(2) سورة الزمر الآية 21
(3) سورة الذاريات الآية 49(13/173)
(4) التذكير بعبر التاريخ وأحداثه:
والتاريخ ذاكرة البشر وملهم المواعظ، وكلما عرفت الأمم ماضيها أقامت على أصح التجارب مستقبلها، ولذلك عني القرآن الكريم بدعوة الأمم إلى السير في(13/173)
الأرض والنظر في أخبار السابقين، وكان القصص القرآني على كثرته وتنوعه بمثابة جذب لذاكرة النبي صلى الله عليه وسلم نحو عبر الماضي؛ لينتفع بها في الحاضر، فالتجربة البشرية واحدة، والتاريخ يعيد نفسه، يقول تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} (1) {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} (2) قد مرت آيات فيها دعوة للرسل إلى تذكر التاريخ، وتذكير أممهم به، مثل قوله تعالى لنبيه موسى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} (3) ، كما يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (4) ، وفي تذكير البشر بالقرون السابقة يقول تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (5) بعد قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} (6) .
وللقصص القرآني هدف آخر، وهو تذكير المعاندين والضالين {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (7) .
__________
(1) سورة الذاريات الآية 52
(2) سورة الذاريات الآية 53
(3) سورة إبراهيم الآية 5
(4) سورة هود الآية 120
(5) سورة ق الآية 37
(6) سورة ق الآية 36
(7) سورة القصص الآية 51(13/174)
(5) يوم القيامة:
اليوم الحق، ويوم الهول ويوم الزلزلة، ويوم القارعة، سيعيد للغافلين ذاكرتهم، ويطلبون دنيا أخرى يستدركون فيها ما فات، ويكون الجواب: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} (1) ، ووصف القرآن الكريم يوم القيامة بأنه يوم التذكر {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} (2) {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى} (3) ، واقرأ الآيات [18 \ محمد، 54، 55 \ المدثر، 19 \ المزمل] .
__________
(1) سورة فاطر الآية 37
(2) سورة الفجر الآية 23
(3) سورة النازعات الآية 35(13/174)
(6) التذكير بالمحن والنعم:
قد يسلط الله على البغاة المحن- رحمة منه- رجاء أن يتذكروا، يقول تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (1) ، ومنهم الغارقون في الغفلة، فلا تؤثر فيهم ضراوة المحنة، وهم المنافقون {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (2) .
والنعم باعث آخر على التذكر، وتبلغ من بعض النفوس أكثر مما تبلغ منها المحنة، يقول تعالى: {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) ، {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (4) .
وفي نعم الله على الصالحين موعظة وتذكرة، يقول عن نبيه أيوب: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (5) .
وفي سور ص، يقول الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (6) .
وفي إنقاذ المؤمنين بنوح من الطوفان تذكرة بالغة، إذ يقول تعالى مشيرا إلى السفينة: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} (7) .
وفي معرفة الإنسان للنار تذكرة ومتعة، وتذكرة بنار الآخرة وبلائها وأهوالها، ومتعة في الدار العاجلة؛ إذ يستخدمها الإنسان في تحصيل الكثير من منافعه، يقول تعالى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} (8) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 130
(2) سورة التوبة الآية 126
(3) سورة الأعراف الآية 69
(4) سورة الأعراف الآية 74
(5) سورة الأنبياء الآية 84
(6) سورة ص الآية 43
(7) سورة الحاقة الآية 12
(8) سورة الواقعة الآية 73(13/175)
والمقوون: المسافرون.(13/176)
(7) القول اللين، والموعظة الحسنة، وضرب الأمثال:
لين القول وحسن الموعظة، والاستعانة على هذا وذاك بضرب المثل من أبلغ وسائل التذكير التي اعتمد عليها القرآن في نصح البشر.
فبالقول اللين وصى الله نبيه موسى وأخاه هارون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (1) .
وهذان نموذجان للقول اللين الذي يحفز إلى التذكر، من واقع أسلوب القرآن:
الأول: في مجادلة من زعموا الملائكة بنات الله مع بغضهم للبنات: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} (2) {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (3) {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (4) والثاني: في محاورة من اتبعوا هواهم فضلوا السبيل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (5) وقد استعان القرآن الكريم على ذلك بضرب الأمثال، وقد عرفنا مثل الفريقين: المؤمنين والكافرين، وتشبيه الأولين بالبصير والسميع، والآخرين بالأعمى والأصم، وتعقيب الآية على ذلك بهذا التساؤل: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (6) .
وفي القيمة التوجيهية والتأثيرية لضرب الأمثال، وفي دفعها القوي إلى التذكر يقول تعالى: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (7) ، كما يقول تعالى:
__________
(1) سورة طه الآية 44
(2) سورة الصافات الآية 153
(3) سورة الصافات الآية 154
(4) سورة الصافات الآية 155
(5) سورة الجاثية الآية 23
(6) سورة هود الآية 24
(7) سورة إبراهيم الآية 25(13/176)
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (1) ، ويقول تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (2) {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (3) .
والآية الأخيرة تكشف عن المقدرة الفكرية والعلمية الواسعة التي يتصف بها كل إنسان يستفيد من أمثال القرآن الكريم.
رب أعني على ذكرك، وذكرني بآياتك حتى تذكرني يوم العرض عليك، واجعل لكل مسلم يقرأ بوعي كفلا مما دعوت، إنك سميع الدعاء.
__________
(1) سورة الزمر الآية 27
(2) سورة الحشر الآية 21
(3) سورة العنكبوت الآية 43(13/177)
مصادر البحث:
(1) القرآن الكريم.
(2) المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.
(3) معجم ألفاظ القرآن الكريم. مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
(4) تفسير المنار. محمد رشيد رضا.(13/178)
رسالة لشيخ الإسلام
تقي الدين ابن تيمية
أجاب فيها عن أسئلة في علم القراءات
حققها وقدم لها:
الدكتور محمد علي سلطاني(13/179)
صفحة فارغة(13/180)
* الدكتور محمد علي سلطاني.
* المولود عام 1343هـ- 1933م- في مدينة دمشق.
* تلقى تعليمه الأولي في دمشق.
* حصل على الشهادة الجامعين من جامعة دمشق في كليتي الآداب والتربية.
* عمل بعد حصوله على الدكتوراه مدرسا في جامعتي دمشق واللاذقية وغيرهما، وعمل بعد وقبل حصوله على الماجستير مدرسا في المعهد العلمي ببريدة وحفر الباطن، وهو الآن يدرس النحو في كليات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
* إنتاجه العلمي يدور في ميدان اللغة العربية وما يتصل بها، صدر له حتى الآن ما يزيد على عشرة كتب، اثنان في النقد القديم أحدهما تحقيق، واثنان في البلاغة، وواحد في العروض، واثنان في النحو أحدهما تحقيق، وثلاثة في اللغة تحقيق، وأسهم في أعمال علمية منها إصدار سلسلة لغوية بعنوان دليل الباحث اللغوي، إضافة إلى بعض البحوث في القراءات القرآنية من جانب النحو.(13/181)
صفحة فارغة(13/182)
(رسالة لشيخ الإسلام: تقي الدين ابن تيمية)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد:
فإن القراءات القرآنية من أكثر علوم القرآن والعربية أهمية وأجلها شأنا. . أما أهميتها من حيث اللغة فتعود إلى جانبين كبيرين:
- أولهما ما تقدمه للباحثين في نشأة اللغات وتطورها وتاريخها من الظواهر اللغوية الحية على اختلاف صنوفها: في الحرف والصوت والكلمة والتركيب. .
- وثانيهما ما تقدمه للنحو وفقه اللغة من الشواهد والنماذج مما لا يبلغ بعض شأوه شواهد العربية الأخرى في الشعر والخطب والأمثال والأقوال. . وذلك بسبب مما حظيت به القراءات منذ نشأتها من عناية وضبط وتوثيق. . بالتلقي المتثبت، والمشافهة الواعية، والرواية المتواترة أو النقل المستفيض، والتدوين المقرون بالوصف الدقيق والأسانيد المدروسة الموثوقة. .
وأما رفعة شأنها فلارتباطها بالقرآن العظيم منهاج المتقين ومعراج المرتقين، مصداقا لقوله عليه الصلاة والسلام: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (1) » .
غير أن هذا الميدان الجليل بما اتسم به من الغنى اللغوي الفريد، نتيجة التيسير الذي عبر عنه الحديث النبوي: «أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه (2) » ؛ أثار قدرا غير قليل من القضايا التي ارتبطت بعلم القراءات، وغدت مع الزمن أقرب إلى المشكلات، فشغلت العلماء والباحثين عبر القرون - وما يزال بعضها يشغلهم- للوصول إلى المعرفة اليقينية بشأنها. . من ذلك قولهم: ما تفسير الأحرف السبعة؟ أهي للتكثير أم لتحديد؟ وإن كانت الأخيرة فما المقصود بها على الدقة أهي القبائل أم الطرائق أم الظواهر؟
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه (6 \ 108) .
(2) رواه البخاري في صحيحه 6 \ 111.(13/183)
ما مدى شيوع التواتر بين القراءات، أهو مقصور على السبع أم العشر أم ما فوق ذلك؟
أهي سواء في الفصاحة أم أن بينها فصيحا وأفصح؟ ما موقف النحو والقياس من هذا التفاوت في الفصاحة؟ . .
هذه وغيرها أسئلة كثيرة تتردد بينهم لا تفتر، تبحث لها عن الجواب الأخير.
وقد أحدث اختلاف القراءات وتعددها حركة علمية مباركة، أسفرت عن أعداد من مجموعات الكتب القيمة. . بدأت بكتب جمعت القراءات، فأخرى نهضت بالاحتجاج لها بلغة العرب، وثالثة وصفت مرسوم مصاحف الأمصار، ورابعة اهتمت بالنقط والشكل. . وبقي في الميدان زوايا يلفها بعض الغموض والاختلاف وتباين الآراء، مما تعد رسالة شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية الآتي نصها حلقة في سلسلة الردود على تساؤلات الباحثين عن الحقيقة، حيث أجاب فيها عن عدد من هذه التساؤلات.
أما الرسالة فهي واحدة مما تضمه مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض من نفائس المخطوطات، وتقع في سبع صفحات تضمها أربع ورقات ضمن مجموع يحمل رقم 3653 \ ف مصور عن الأصل في مكتبة تشستربتي، كتبه بخط نسخي دقيق علي عبد الله الغزي سنة 859 هـ.
ومما يعد نسخة قيمة أخرى لهذا النص، ما تم نشره بعنوان (فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية) جـ13 \ 389- 404 فقد ضم الفاضل الشيخ عبد الرحمن العاصمي هذا النص إلى الكتاب بوصفه إحدى الفتاوى التي صدرت عن شيخ الإسلام آنذاك. . وقد أفدت منه في تصويب المواضع التي تأثرت بالرطوبة في الأصل لدي.(13/184)
ولم يذكر الشيخ العاصمي مصادره، غير أن الاختلاف الطفيف في بعض ألفاظ النصين يثبت أنه نسخة أخرى لهذه الرسالة، مما تجد ثماره وأثره في المتن وبعض حواشي التحقيق.
ومما يعد طرفا في هذا التوثيق نقول مطولة لمقاطع تامة من هذا النص، احتج بها ابن الجزري مقرونة بنسبتها إلى ابن تيمية في كتابه (النشر في القراءات العشر 1 \ 39 وما بعدها) مما تجد الإشارة إليه في مواضعه بعد.
وتبدأ الرسالة بالبسملة والدعاء فالنص على الأثر بلا عنوان يتقدمه، ولا ضير في هذا، لأن النص نفسه وما ورد فيه من عبارات صريحة أدلة ناصعة على صحة نسبته إلى الشيخ الإمام ابن تيمية، مما يطالع القارئ منذ السطور الأولى.
وقد لقيت هذه الرسالة من عناية العلماء عبر القرون ما يبدو أثره في الخاتم الرابض في نهايتها، وجاء في نقشه للواقف ما نصه:
"وقف سيد يوسف فضل الله، إمام جامع سلطان محمد خان، للولاة وللمدرسين المتأهلين، في جامع المزبور 1145 ".
أما مؤلف الرسالة فغني عن التعريف، فهو أبرز قوة فاعلة في صياغة الحياة في دولة المماليك في القرن الثامن الهجري بميادينها: العلمية والفكرية والعامة. . مما تجده مبسوطا في مظانه، وتؤكده مئات الكتب والرسائل التي كتبها بخطه في معالجة قضايا عصره، رافعا بقوة صوت الدين وموقفه منها، مما يتأبى على الحصر " فكان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحدا لا يعرف مثله " (1) .
ومات رحمه الله معتقلا بقلعة دمشق سنة 728 هـ، فخرجت دمشق كلها في جنازته (2) رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
__________
(1) (العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية) ص 7.
(2) الأعلام 1 \ 140 ومصادره.(13/185)
النص المحقق
(1 \ أ) بسم الله الرحمن الرحيم، رب يسر
ما يقول سيدي الشيخ- جمع الله له خير الدنيا والآخرة- في (1) قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف (2) » .
- ما المراد بهذه السبعة؟
- وهل هذه القراءات المنسوبة إلى نافع وعاصم وغيرهما هي الأحرف السبعة أو واحد منها؟
- وما السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف؟
- وهل تجوز القراءة برواية الأعمش وابن محيصن وغيرهما من القراءات الشاذة أو لا.
- وإذا جازت القراءة بها، فهل تجوز الصلاة بها أو لا؟
أفتونا مأجورين.
__________
(1) من هنا يبدأ النص في (الفتاوى 13 \ 389) (بقوله. ''وسئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم.. ''
(2) رواه البخاري في صحيحه 6 \ 100 في باب خاص به، وكذا في 6 \ 111 مقرونا بخبره.(13/186)
أجاب (الشيخ تقي الدين بن تيمية) : (1) .
الحمد لله رب العالمين. هذه مسألة كبيرة، فقد تكلم فيها أصناف العلماء من الفقهاء والقراء وأهل الحديث والتفسير والكلام وشرح الغريب وغيرهم حتى صنف فيها التصنيف المفرد، ومن آخر ما أفرد في ذلك ما صنفه الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم الشافعي المعروف بأبي شامة صاحب شرح الشاطبية.
فأما ذكر أقاويل الناس وأدلتهم وتقرير الحق فيها مبسوطا؛ فيحتاج من ذكر الأحاديث الواردة في ذلك وذكر ألفاظها وسائر الأدلة، إلى ما لا يتسع له هذا المكان. . ولا يليق بمثل هذا الجواب، ولكن نذكر النكت الجامعة التي تنبه على المقصود بالجواب، فنقول: لا نزاع بين العلماء المعتبرين بأن الأحرف السبعة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن أنزل عليها ليست هي قراءات القراء السبعة المشهورة، بل أول من جمع قراءات
__________
(1) ما بين القوسين ليس في الفتاوى.(13/187)
هؤلاء هو الإمام أبو بكر بن مجاهد، وكان على رأس المائة الثالثة ببغداد، فإنه أحب أن يجمع المشهور من قراءات: الحرمين والعراقين والشام، إذ هذه الأمصار الخمسة [هي] (1) التي خرج منها علم النبوة: من القرآن وتفسيره، والحديث، (2) والفقه في (3) الأعمال الباطنة والظاهرة، وسائر العلوم الدينية.
فلما أراد ذلك، جمع قراءات سبعة مشاهير من أئمة قراء هذه الأمصار، ليكون ذلك موافقا لعدد الحروف التي أنزل عليها القرآن، لا لاعتقاده أو اعتماد غيره من العلماء أن القراءات السبع (4) هي الحروف السبعة، أو أن هؤلاء السبعة المعينين هم الذين لا يجوز أن يقرأ بغير قراءتهم.
ولهذا قال من قال من أئمة القراء: لولا أن ابن مجاهد سبقني إلى حمزة لجعلت مكانه يعقوب الحضرمي إمام جامع البصرة، وإمام قراء البصرة في زمانه في رأس المئتين (5) .
__________
(1) إضافة من (ف) ليست في الأصل.
(2) في الأصل (من الحديث) ، وبالواو عبارة (ف) .
(3) في (ف) ''من الأعمال '' ورجحت عبارة الأصل.
(4) في الأصل و (ف) ''السبعة'' سهو من الناسخ.
(5) احتج ابن الجزري بهذا النص لابن تيمية في النشر 1 \ 39.(13/188)
[و] لا نزاع بين المسلمين أن الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها لا تتضمن تناقض المعنى وتضاده، بل قد يكون معناهما متفقا أو متقاربا. كما قال عبد الله بن مسعود: "إنما هو كقول أحدكم: أقبل وهلم وتعال " (1) .
وقد يكون معنى أحدهما ليس هو معنى الآخر، لكن كلا المعنيين حق، وهذا اختلاف تنوع وتغاير لا اختلاف تضاد وتناقض. وهذا كما جاء في الحديث المرفوع عن النبي صلى (1 \ ب) الله عليه وسلم في هذا، حديث: «أنزل القرآن على سبعة أحرف (2) » : إن قلت: غفورا رحيما، أو قلت: عزيزا حكيما؛ فالله كذلك، ما لم تختم آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة"، وهذا كما في القراءات المشهورة:.
__________
(1) أورده أبو شامة في المرشد الوجيز ص 89
(2) صحيح البخاري فضائل القرآن (4992) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (818) ، سنن الترمذي القراءات (2943) ، سنن النسائي الافتتاح (938) ، سنن أبو داود الصلاة (1475) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) ، موطأ مالك النداء للصلاة (472) .(13/189)
{إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا} (1) و {إلا أن يخافا ألا يقيما} .
و {وإن كان مكرهم لتزول - ولتزول - من الجبال} .
و {بل عجبت} و {بَلْ عَجِبْتَ} (2) . ونحو ذلك.
ومن القراءات ما يكون المعنى فيها: متفقا من وجه، متباينا من وجه، كقوله:
{يخدعون} و {يخادعون} .
و {يكذبون} و {يكذبون} .
و {لمستم} و {لامستم} .
{حَتَّى يَطْهُرْنَ} (3) و {يطهرن} .
ونحو ذلك.
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) سورة الصافات الآية 12
(3) سورة البقرة الآية 222(13/190)
فهذه (1) القراءات التي يتغاير فيها المعنى كلها حق، وكل قراءة منها مع القراءة الأخرى بمنزلة الآية مع الآية، يجب الإيمان بها كلها، واتباع ما تضمنه من المعنى علما وعملا، لا يجوز ترك موجب إحداهما لأجل الأخرى ظنا أن ذلك تعارض، بل كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " من كفر بحرف منه فقد كفر به كله " (2) .
وأما ما اتحد لفظه ومعناه، وإنما يتنوع صفة النطق به، كالهمزات والمدات والإمالات ونقل الحركات والإظهار والإدغام والاختلاس وترقيق اللامات والراءات أو تغليظها، ونحو ذلك مما تسمى القرأة عامته الأصول، فهذا أظهر وأبين في أنه ليس فيه تناقض ولا تضاد مما تنوع فيه اللفظ أو المعنى.
إذ هذه الصفات المتنوعة في أداء اللفظ لا تخرجه عن أن يكون لفظا واحدا ولا يعد ذلك فيما اختلف لفظه واتحد معناه، أو اختلف معناه من المترادف ونحوه، ولهذا كان دخول هذا في حرف واحد من الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها؛ مما يتنوع فيه (3) اللفظ أو المعنى وإن وافق رسم المصحف وهو ما يختلف فيه النقط (4) أو الشكل.
ولذلك لم يتنازع علماء الإسلام المتبوعون من السلف والأئمة في أنه لا يتعين أن يقرأ بهذه القراءات المعينة في جميع أمصار المسلمين، بل من ثبت عنده قراءة الأعمش شيخ حمزة، أو قراءة يعقوب بن إسحاق الحضرمي ونحوهما، كما ثبت عنده قراءة حمزة والكسائي - فله أن يقرأ بها بلا نزاع بين العلماء المعتبرين المعدودين من أهل الإجماع والخلاف.
__________
(1) في الأصل (وهذه) والتعديل من (ف) .
(2) ورد النص في المرشد الوجيز ص86 وفيه (جحد) بدل (كفر) .
(3) العبارة في (ف) 13 \ 392 '' من أولى ما يتنوع فيه ''.
(4) في الأصل (اللفظ) والتصويب من (ف) .(13/191)
بل أكثر العلماء الأئمة - الذين أدركوا قراءة [حمزة] (1) كسفيان بن عيينة وأحمد بن حنبل وبشر بن الحارث وغيرهم- يختارون قراءة أبي جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح المدنيين، وقراءة البصريين كشيوخ يعقوب بن إسحاق وغيرهم - على قراءة حمزة والكسائي. وللعلماء [الأئمة] (2) في ذلك من الكلام ما هو معروف عند العلماء.
ولهذا كان أئمة أهل العراق الذين ثبتت عندهم قراءات العشرة أو الأحد عشر كثبوت هذه السبعة- يجمعون ذلك في الكتب، ويقرأونه في الصلاة وخارج الصلاة، وذلك متفق عليه بين العلماء لم ينكره أحد منهم.
__________
(1) إضافة من (ف) سقطت في الأصل ووردت كذلك فيما نقله ابن الجزري من هذا النص في النشر 1 \ 39.
(2) إضافة من (ف) سقطت في الأصل.(13/192)
وأما الذي ذكره القاضي عياض ومن نقل (2 \ أ) من كلامه من الإنكار على ابن شنبوذ الذي كان يقرأ بالشواذ في الصلاة في أثناء المائة الرابعة، وجرت له قضية (1) مشهورة، فإنما كان ذلك في القراءات الشاذة الخارجة عن المصحف كما سنبينه.
ولم ينكر أحد من العلماء قراءة العشرة، ولكن من لم يكن (2) عالما بها، أو لم تثبت عنده - كمن يكون في بلد من بلاد الإسلام بالمغرب أو غيره، ولم يتصل به بعض هذه القراءات- فليس له أن يقرأ بما لا يعلمه منها، [فإن] (3) القراءة - كما قال زيد بن ثابت: سنة يأخذها الآخر عن الأول.
كما أن ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنواع الاستفتاحات في الصلاة، ومن أنواع صفة الأذان والإقامة وصفة صلاة الخوف وغير ذلك، كله حسن، يشرع العمل به لمن علمه.
وأما من علم نوعا ولم يعلم غيره فليس له أن يعدل عما علمه إلى ما لم يعلم، وليس له أن ينكر على من علم ما لم يعلمه من ذلك، ولا أن يخالفه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا (4) » .
__________
(1) في (ف) '' قصة '' وهي مرجوحة لما في الأصل.
(2) العبارة في (ف) 13 \ 393 ''ولكن من يكن عالما بها'' وهو سهو بدليل إبقاء الفعل مجزوما.
(3) مطموس في الأصل أضيف من (ف) وهو كذلك في النشر 1 \ 40.
(4) رواه البخاري في صحيحه 6 \ 116 باختلاف لفظي طفيف. وورد كذلك في المرشد الوجيز ص 87 مقرونا بخبره.(13/193)
وأما القراءة الشاذة الخارجة عن رسم المصحف العثماني، مثل قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء رضي الله عنهما: (والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، والذكر والأنثى) كما قد ثبت ذلك في الصحيحين.
ومثل قراءة عبد الله: (1) (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) . وكقراءته: (إن كانت إلا زقية واحدة) (2) ونحو ذلك، فهذه إذا ثبتت عن بعض الصحابة فهل يجوز أن يقرأ بها في الصلاة؟ [ذلك] (3) على قولين للعلماء - هما روايتان مشهورتان عن الإمام أحمد - وروايتان عن مالك::
- إحداهما يجوز ذلك، لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرأون بهذه الحروف في الصلاة.
- والثانية: لا يجوز ذلك، وهو قول أكثر العلماء؛ لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن ثبتت فإنها منسوخة بالعرضة الآخرة، فإنه قد ثبت في الصحاح عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم، «أن جبريل عليه السلام كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في كل عام مرة، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين (4) » .
والعرضة الآخرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره، وهي التي أمر الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بكتابتها في المصاحف، وكتبها أبو بكر وعمر في خلافة أبي بكر في صحف أمر زيد بن ثابت بكتابتها.
__________
(1) هو ابن مسعود نفسه.
(2) بدل قوله تعالى: {صيحة واحدة} في سورة يس 36 \ 29 والزقية بمعنى الصيحة.
(3) زيادة لربط العبارة ليست في الأصول.
(4) انظر صحيح البخاري 6 \ 101(13/194)
ثم أمر عثمان في خلافته بكتابتها في المصاحف وإرسالها إلى الأمصار، وجمع الناس عليها باتفاق من الصحابة علي وغيره.(13/195)
وهذا النزاع لا بد أن يبنى على الأصل الذي سأل عنه السائل، وهو أن القراءات السبع: (1) هل هي حرف من الحروف السبعة أو، لا؟ . فالذي عليه جمهور العلماء من السلف والأئمة أنها حرف من الحروف السبعة، بل يقولون: إن مصحف عثمان هو أحد الحروف السبعة، وهو متضمن للعرضة الآخرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل، والأحاديث (2 \ ب) والآثار المشهورة المستفيضة تدل على هذا القول.
وذهب طوائف من الفقهاء والقراء وأهل الكلام إلى أن هذا المصحف مشتمل على الأحرف السبعة، وقرر ذلك طوائف من أهل الكلام كالقاضي أبي بكر بن الباقلاني وغيره، بناء على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الأحرف السبعة، وقد اتفقوا على نقل هذا المصحف الإمام العثماني وترك ما سواه، حيث أمر عثمان بنقل القرآن من الصحف التي كان أبو بكر وعمر كتبا القرآن فيها. ثم أرسل عثمان - بمشاورة الصحابة - إلى كل مصر من أمصار المسلمين بمصحف، وأمر بترك ما سوى ذلك. قال هؤلاء: ولا يجوز أن ينهى عن القراءة ببعض الأحرف السبعة.
ومن نصر قول الأولين يجيب تارة بما ذكره محمد بن جرير وغيره من أن القراءة على الأحرف السبعة لم تكن واجبا على الأمة، إنما كان جائزا لهم
__________
(1) في الأصول (السبعة) بفعل النساخ.(13/195)
مرخصا لهم فيه، وقد جعل إليهم الاختيار في أي حرف اختاروه، كما أن ترتيب السور لم يكن واجبا عليهم منصوصا، بل مفوضا إلى اجتهادهم، ولهذا كان ترتيب مصحف عبد الله على غير ترتيب مصحف زيد، وكذلك مصحف غيره، وأما ترتيب آي السور فهو منزل منصوص عليه، فلم يكن لهم أن يقدموا آية على آية في الرسم كما قدموا سورة على سورة، لأن ترتيب الآيات مأمور به نصا، وأما ترتيب السور فمفوض إلى اجتهادهم، قالوا: فكذلك الأحرف السبعة. فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إذا لم يجتمعوا على حرف واحد، اجتمعوا على ذلك اجتماعا سائغا- وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة- ولم يكن في ذلك ترك لواجب ولا فعل لمحظور.
ومن هؤلاء من يقول: إن الترخيص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام، لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولا، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة، وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيرا عليهم وهو أرفق بهم- أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الآخرة، ويقولون: إنه نسخ ما سوى ذلك، وهؤلاء يوافق قولهم قول من يقول: إن حروف أبي بن كعب وابن مسعود وغيرهما - مما يخالف رسم هذا المصحف- منسوخة.
وأما من قال عن ابن مسعود: إنه يجوز القراءة بالمعنى؛ فقد كذب عليه. وإنما قال: "قد نظرت إلى القرأة فرأيت قراءتهم متقاربة، وإنما هو كقول أحدكم: أقبل وهلم وتعال. فاقرءوا كما علمتم " أو كما قال.(13/196)
فمن (1) جوز القراءة بما يخرج عن المصحف مما ثبت عن الصحابة قال: يجوز ذلك لأنه من الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها.
ومن لم يجوزه فله أربعة (2) مآخذ:
- تارة يقول: ليس هو من الحروف السبعة.
- وتارة يقول: هو من الحروف المنسوخة.
- وتارة يقول: هو مما انعقد إجماع الصحابة على الإعراض عنه.
- وتارة يقول: لم ينقل إلينا نقلا يثبت بمثله القرآن.
وهذا هو الفرق بين المتقدمين والمتأخرين (3 \ أ) .
ولهذا كان في المسألة قول ثالث وهو اختيار جدي أبي البركات أنه: إن قرأ بهذه القراءات في القراءة الواجبة - وهي الفاتحة عند القدرة عليها - لم تصح صلاته، لأنه لم يتيقن أنه أدى الواجب من القراءة، لعدم ثبوت القرآن بذلك. وإن قرأ بها فيما لا يجب لم تبطل صلاته، لأنه لم يتيقن أنه أتى في الصلاة بمبطل، لجواز أن يكون ذلك من الحروف السبعة التي أنزل عليها.
وهذا القول ينبني على أصل، وهو أن ما لم يثبت كونه من الحروف السبعة فهل يجب القطع بكونه ليس منها؟
فالذي عليه جمهور العلماء أنه لا يجب القطع بذلك، إذ ليس ذلك مما أوجب علينا أن يكون العلم به في النفي والإثبات قطعيا.
__________
(1) في (ف) ثم من.
(2) في الأصول (الثلاثة) خلاف ما أورد.(13/197)
وذهب فريق من أهل الكلام إلى وجوب القطع بنفيه، حتى قطع بعض هؤلاء كالقاضي أبي بكر بخطأ الشافعي وغيره ممن أثبت البسملة [آية] ، (1) من القرآن في غير سورة النمل (2) لزعمهم أن ما كان من موارد الاجتهاد في القرآن فإنه يجب القطع بنفيه.
والصواب القطع بخطأ هؤلاء، وأن البسملة آية من كتاب الله حيث كتبها الصحابة في المصحف؛ إذا لم يكتبوا فيه إلا القرآن وجردوه مما ليس منه كالتخميس والتعشير وأسماء السور. ولكن مع ذلك لا يقال: هي من السورة التي بعدها، كما [أنها] (3) ليست من السورة التي قبلها، بل هي كما كتبت - آية أنزلها الله في أول كل سورة وإن لم تكن من السورة، وهذا أعدل الأقوال الثلاثة في هذه المسألة.
وسواء قيل بالقطع في النفي أو الإثبات؛ فذلك لا يمنع كونها من موارد الاجتهاد التي لا تكفير ولا تفسيق فيها للنافي ولا للمثبت. بل قد يقال ما قاله طائفة من العلماء: إن كل واحد من القولين حق، وإنها آية من القرآن في بعض القراءات- وهي قراءة الذين يفصلون بها بين السورتين - وليست آية في بعض القراءات، وهي قراءة الذين يصلون ولا يفصلون بها
__________
(1) إضافة من (ف) سقطت في الأصل.
(2) أراد بذلك قوله تعالى في سورة النمل 27 آية 30: {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم} .
(3) إضافة من (ف) سقطت في الأصل.(13/198)
وأما قول السائل: ما السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف؟(13/198)
فهذا مرجعه إلى النقل واللغة العربية لتسويغ الشارع لهم القراءة بذلك كله، إذ ليس لأحد أن يقرأ برأيه المجرد (1) ، بل القراءة سنة متبعة وهم إذا اتفقوا على اتباع القرآن المكتوب في المصحف الإمام وقد (2) أقرأ بعضهم بالياء وبعضهم بالتاء- لم يكن واحد منهما خارجا عن المصحف.
ومما يوضح ذلك أنهم يتفقون في بعض المواضع على ياء أو تاء، ويتنوعون في بعض، كما اتفقوا في قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (3) في موضع، وتنوعوا في موضعين (4) .
وقد بينا أن القراءتين كالآيتين، فزيادة القراءات كزيادة الآيات، لكن إذا كان الخط واحدا واللفظ محتملا كان ذاك أخصر في الرسم، والاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب لا على حفظ (5) المصاحف، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن ربي قال لي: قم في قريش فأنذرهم. فقلت: أي رب إذن يثلغوا رأسي، فقال: إني مبتليك ومبتل بك، ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرأه (3 \ ب) نائما ويقظان. فابعث جندا أبعث مثليهم، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، وأنفق أنفق عليك (7) » .
__________
(1) العبارة في (ف) ''أن يقرأ قراءة بمجرد رأيه''.
(2) الواو هنا للحال. أي اتفقوا متباينين.
(3) سورة البقرة الآية 74
(4) انظر تفصيل ذلك ومواضعه في (السبعة ص160) وما بعدها.
(5) (حفظ) هذه ليست في (ف) .
(6) رواه الإمام أحمد في مسنده 4 \ 162 باختلاف لفظي طفيف.
(7) ثلغ رأسه يثلغه شدخه. (6)(13/199)
فأخبر أن كتابه لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء، بل يقرأه في كل حال، كما جاء في نعت أمته: «أناجيلهم في صدورهم (1) » بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتب ولا يقرءونه كله إلا نظرا، لا عن ظهر قلب.
وقد ثبت في الصحيح أنه «جمع القرآن كله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم (2) » جماعة من الصحابة: كالأربعة الذين من الأنصار، (3) وكعبد الله بن عمرو، فتبين بما ذكرناه أن القراءات المنسوبة إلى نافع وعاصم. . ليست هي الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها، وذلك باتفاق علماء السلف والخلف، وكذلك ليست هذه القراءات السبع (4) هي مجموع حرف واحد من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها، باتفاق العلماء المعتبرين، بل القراءات الثابتة عن أئمة القراءة كالأعمش ويعقوب وخلف وأبي جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة بن نصاح ونحوهم (5) هي بمنزلة القراءات الثابتة عن هؤلاء السبعة، عند من ثبت ذلك عنده كما ثبت ذلك (6) .
وهذا أيضا مما لم يتنازع فيه الأئمة المتبوعون من أئمة الفقهاء والقراء وغيرهم، وإنما تنازع الناس من الخلف في المصحف العثماني الإمام، الذي
__________
(1) الإنجيل عبري أو سرياني، يؤنث ويذكر حسب مراد القائل من صحيفة أو كتاب. انظر اللسان (نجل) وفيه نص الحديث النبوي.
(2) صحيح البخاري المناقب (3810) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2465) ، سنن الترمذي المناقب (3794) ، مسند أحمد بن حنبل (3/277) .
(3) وهم: معاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد قيس بن السكن وأبي بن كعب. انظر غاية النهاية 2 \ 28.
(4) في الأصول (السبعة) بفعل النساخ.
(5) ممن هو من غير القراء السبعة.
(6) يريد (كما ثبتت هذه السبع) .(13/200)
أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان والأمة بعدهم- (هل هو بما فيه من قراءة السبعة وتمام العشرة وغير ذلك، حرف من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها) أو هو مجموع الأحرف السبعة؟ على قولين مشهورين:
- الأول: قول أئمة السلف والعلماء.
- الثاني: قول طوائف من أهل الكلام والقراء وغيرهم.
وهم متفقون على أن الأحرف السبعة لا يخالف بعضها بعضا خلافا يتضاد فيه المعنى ويتناقض، بل يصدق بعضها بعضا كما تصدق الآيات بعضها بعضا.
وسبب تنوع القراءات فيما احتمله خط المصحف هو تجويز الشارع وتسويغه ذلك لهم، إذ مرجع ذلك إلى السنة والاتباع لا إلى الرأي والابتداع.
أما إذا قيل: إن ذلك هي الأحرف السبعة فظاهر، وكذلك بطريق الأولى إذا قيل: إن ذلك حرف من الأحرف السبعة. فإنه إذا كان قد سوغ لهم أن يقرءوه على سبعة أحرف كلها شاف كاف مع تنوع الأحرف في الرسم - فلأن يسوغ ذلك مع اتفاق ذلك في الرسم وتنوعه في اللفظ أولى وأحرى.
وهذا من أسباب تركهم المصاحف - أول ما كتبت - غير مشكولة ولا منقوطة، لتكون صورة الرسم محتملة لأمرين: كالتاء والياء، والفتح والضم. وهم يضبطون باللفظ (1) كلا الأمرين، وتكون دلالة الخط الواحد على كلا اللفظين
__________
(1) أي بالنطق والأداء.(13/201)
المنقولين المسموعين المتلوين - شبيهة (1) بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المنقولين المعقولين المفهومين.
فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلقوا عنه ما أمره الله بتبليغه إليهم من القرآن لفظه ومعناه جميعا، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي.
- وهو الذي روى عن عثمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (2) » كما رواه البخاري في صحيحه، وكان يقرئ القرآن أربعين سنة، قال: -
"حدثنا الذين كانوا يقرئوننا: عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل. . قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا" (3) .
ولهذا دخل في معنى قوله: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (4) » تعليم حروفه ومعانيه جميعا، بل تعليم معانيه هو المقصود الأول بتعليم حروفه، وذلك هو الذي يزيد الإيمان. كما قال جندب بن عبد الله وعبد الله بن عمر (10) وغيرهما:
"تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا، وإنكم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون الإيمان ".
__________
(1) في الأصول (شبيها) ، والمراد الدلالة.
(2) صحيح البخاري فضائل القرآن (5027) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2907) ، سنن أبو داود الصلاة (1452) ، سنن ابن ماجه المقدمة (211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/69) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338) .
(3) كذا أورد له الجزري في الموضع السابق من غاية النهاية حيث ترجم له، وزاد عليه.
(4) صحيح البخاري فضائل القرآن (5027) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2907) ، سنن أبو داود الصلاة (1452) ، سنن ابن ماجه المقدمة (211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/69) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338) .(13/202)
وفي الصحيحين عن حذيفة قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، رأيت أحدهما (1) وأنا أنتظر الآخر؛ حدثنا «أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ونزل القرآن (2) » . . . وذكر الحديث بطوله، ولا تتسع هذه الورقة لذكر ذلك.
وإنما المقصود التنبيه على أن ذلك كله مما بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس، وبلغنا أصحابه عنه الإيمان والقرآن حروفه ومعانيه، وذلك مما أوحاه الله إليه. كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (3) .
وتجوز القراءة في الصلاة وخارجها بالقراءات الثابتة الموافقة لرسم المصحف كما ثبتت هذه القراءات وليست بشاذة حينئذ. والله أعلم بالصواب (4) .
تمت بحمد الله وعونه وحسن توفيقه في يوم الثلاثاء سادس عشرين جماد [ى] الأولى من شهور سنة تسع وخمسين وثمانمائة (5) .
__________
(1) أي رآه يتحقق.
(2) رواه البخاري في صحيحه (كتاب الرقاق - باب رفع الأمانة) 7 \ 188- 189.
(3) سورة الشورى الآية 52
(4) (بالصواب) ليست في (ف) .
(5) سطر الختام ليسا في (ف) .(13/203)
مصادر البحث والتحقيق
* الإبانة عن معاني القراءات. لمكي القيسي. تح د. محيي الدين رمضان. دار المأمون للتراث بدمشق 1399 هـ - 1979 م.
* إبراز المعاني من حرز الأماني لأبي شامة الدمشقي. البابي الحلبي بمصر 1349 هـ.
* الإصابة في تمييز الصحابة. لابن حجر العسقلاني.
الطبعة الأولى - مطبعة السعادة بمصر 1328 هـ.
* الأعلام. للزركلي. الطبعة الثالثة.
* تاريخ بغداد. للخطيب البغدادي. دار الكتاب العربي - بيروت.
* تفسير القرطبي - مصورة عن طبعة دار الكتب.
* التيسير في القراءات السبع لأبي عمرو الداني. تح أوتوبرتزل ط. استانبول 1930 م.
* السبعة لابن مجاهد. تح د. شوقي ضيف ط. الثانية - دار المعارف بالقاهرة 1400 هـ * الشاطبية. وشرحها للشيخ علي الضباع.
مكتبة صبيح بالقاهرة 1381 هـ - 1961م.
* صحيح البخاري. مصورة الطبعة الأولى 1315 هـ بمصر.
* صحيح مسلم بشرح النووي - المطبعة المصرية ومكتبتها.
* غاية النهاية في طبقات القراء. لابن الجزري. تح. برجستراسر. مصورة الطبعة الأولى 1351م هـ - 1932.
* كتاب سيبويه. مصورة طبعة بولاق.(13/204)
لطائف الإشارات لفنون القراءات للقسطلاني تح الشيخ عامر عثمان ود. عبد الصبور شاهين بالقاهرة 1392 هـ - 1972.
* لسان العرب لابن منظور. مصورة طبعة بولاق 1300 هـ.
* مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية. جمع وترتيب عبد الرحمن العاصمي وابنه محمد.
مصورة الطبعة الأولى 1398 هـ.
* المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز. لأبي شامة الدمشقي تح طيار آلتي قولاج ط. دار صادر - بيروت 1395 هـ - 1975م.
* مسند الإمام أحمد. مصورة الطبعة الأولى. الميمنية بمصر 1313 هـ.
* منجد المقرئين ومرشد الطالبين. لابن الجزري. مكتبة القدسي 1350 هـ.
* النشر في القراءات العشر. لابن الجزري. تح الشيخ علي الضباع.
* وفيات الأعيان لابن خلكان. تح د. إحسان عباس. دار الثقافة ببيروت.(13/205)
صفحة فارغة(13/206)
تتبع طرق حديث في ثواب من مات في أحد الحرمين
أو مات في طريقه إلى مكة حاجا أو معتمرا
الشيخ إسماعيل بن محمد بن ماحي الأنصاري. نسبة إلى أنصار النبي صلى الله عليه وسلم.
ولد في صحراء إفريقية 1340 هـ.
تلقى العلم عن مشايخ أجلاء في تلك الديار، فقد قرأ القرآن بقراءة نافع مع حفظه على الشيخ محمد بن عبد الرحمن الأنصاري، وقرأ على الشيخ محمد بن تاني الأنصاري نصف رسالة ابن أبي زيد القيرواني، وتلقى عن الشيخ حمد الأمين الأنصاري علم العقائد، وعلى الشيخ محمد الصالح الإدريسي قرأ في النحو الآجرومية وألفية ابن مالك، وعلى الشيخ محمد بن هارون الإدريسي - خاله - كمل قراءة ألفية ابن مالك - وقرأ على الشيخ أحمد بن محمد الصالح كتاب الأشموني منهج السالك إلى ألفية ابن مالك - وتلقى عنه التوحيد - والشافية - لابن الحاجب في الصرف - وقرأ عليه أصول الفقه وعلم المنطق، وأخذ عن خاله الموفق المعلقات وفن البلاغة، وعلى الشيخ عبد الله المحمود المدني قرأ مصطلح الحديث كما قرأ عليه في التوحيد والتفسير والحديث الشريف.
هاجر إلى الحرمين الشريفين ووصل إلى مكة عام 1369 هـ واستقر فيها وعين مدرسا في المدرسة الصولتيه عام 1370 هـ وفي سنة 1372 هـ أخذ إجازة التدريس بالمسجد الحرام، وفي سنة 1374 هـ انتدب للتدريس في المعهد العلمي بالرياض، ثم اختاره سماحة مفتي البلاد السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله ليقوم بالتدريس في مسجده، كما رغب أيضا أن يدرس في معهد إمام الدعوة، وفي عام 1382 هـ صدر أمر سماحته بنقله إلى دار الإفتاء ليكون عضوا من أعضائها الذين يعتمدهم سماحته في تهيئة الفتاوى والمراجعات والمسائل الدقيقة.
كتب كثيرا من المقالات العلمية في صحف البلاد السعودية ومجلاتها ومقالاته النافعة تبلغ مجلدين إذا جمعت، ومن أهمها رسالته في الرد على الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في بدء الصيام بالحساب الفلكي، ورسالته في الرد على الشيخ عبد الله بن محمود رئيس محاكم قطر في منع التضحية عن الأموات، فقد ساق فيها الأدلة الملزمة على جواز التضحية عنهم، ومن أهم رسائله رده على الألباني في دعواه تحريم الذهب المحلق على النساء.(13/207)
مؤلفاته:
1 - الإلمام بشرح عمدة الأحكام في مجلدين طبع منه الجزء الأول ولا يزال الثاني مخطوطا.
2 - التحفة الربانية بشرح الأربعين النووية وتكملتها للحافظ ابن رجب.
3 - تصحيح حديث صلاة التراويح عشرين ركعة والرد على الألباني في تضعيفه.
4 - الإرشاد في القطع بمقبول حديث الآحاد.
5 - سند قصيدة " بانت سعاد " والتحقيق العلمي في رجاله، مطبوع.
6 - تعقبات على "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة " للألباني، لم يطبع.
7 - رسالة في شأن الخضر عليه السلام لم تزل مخطوطة.
8 - النبذة النحوية في الأسئلة والأجوبة النحوية.
حقق طائفة من الكتب العلمية الهامة وعلق عليها تعليقا زادها فائدة وعلما منها:
1 - الفقيه والمتفقه للحافظ الخطيب البغدادي في جزءين.
2 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال.
3 - الأعلام العلية في مناقب الشيخ ابن تيمية لأبي حفص البزار.
4 - درجات الصاعدين إلى مقامات الموحدين.
5 - العجالة السنية في شرح الألفية في السيرة النبوية للعراقي بشرح المناوي. ما تقدم طبع في الرئاسة العامة للإفتاء.
6 - النهاية للحافظ ابن كثير وهي خاتمة كتابه البداية - في جزءين طبعته مؤسسة النور بالرياض.
7 - تطهير الاعتقاد للصنعاني - طبعته مؤسسة النور أيضا.
أشرف على طبع " فتح المجيد شرح كتاب التوحيد " لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وكتاب " الحيدة " لعبد العزيز الكناني، وكتاب " الهداية " في فقه السادة الحنابلة للإمام أبي الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني.(13/208)
هذا وما يزال فضيلته مرجعا للعلم وأهله في الرئاسة العامة للإفتاء بالمملكة؛ حيث يوكل إليه التحقيق والتعليق على بعض الأحاديث والآثار والمخطوطات والإشراف على بعض كتب التراث الهامة. وفضيلته أعطي شهادة علمية موقعة من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد وفضيلة نائبه الشيخ عبد الرزاق عفيفي، قرر فيها أنه من العلماء الأجلاء، وأن مستواه العلمي يفوق مستوى كثير من حملة الشهادات العليا في الوقت الحاضر. نفع الله به وحقق على يديه الخير للإسلام والمسلمين.(13/209)
صفحة فارغة(13/210)
تتبع طرق حديث في ثواب من مات في أحد الحرمين
أو مات في طريقه إلى مكة حاجا أو معتمرا
للشيخ إسماعيل الأنصاري
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فقد تلقينا من سماحة العلامة الجليل الأثري الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله آمين أمرا بتتبع طرق حديث «من مات في أحد الحرمين أو مات في طريقه إلى مكة حاجا أو معتمرا» الحديث، وبيان ما ذكره أهل العلم حول كل طريقة من تلك الطرق، وبالبحث عن أساس دعوى صاحب (كشف الخفا) للعجلوني أن عند أحمد في مسنده رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه في هذا الباب بلفظ: «من مات في أحد الحرمين بعث آمنا يوم القيامة» .
وبناء على ذلك الأمر الكريم تتبعت جميع ذلك؛ فتوصلت إلى ما يلي:
الحديث روي عن جابر بن عبد الله وأنس بن مالك، وابن عمر، وأم المؤمنين عائشة، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم، ثم بحثت عن علة كل طريقة من تلك الطرق كما بحثت عن أساس قول صاحب (كشف الخفا) إن لأبي هريرة عند أحمد في مسنده رواية من هذا الباب بلفظ: «من مات في أحد الحرمين بعث آمنا يوم القيامة» .
أما رواية جابر رضي الله عنه لحديث: «من مات في أحد الحرمين بعث آمنا يوم القيامة» التي بينتم أن الطبراني رواها في معجمه الصغير؛ حيث قال فيه: (حدثنا محمد بن علي بن مهدي الكوفي حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي حدثنا زيد ابن الحباب عن عبد الله بن المؤمل المكي، عن أبي الزبير عن جابر قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات في أحد الحرمين بعث آمنا يوم القيامة» فقد رواها أيضا ابن الجوزي في الجزء الثاني من الموضوعات ص 218 عن محمد بن عبد الملك عن(13/211)
ابن مسعدة عن حمزة بن يوسف عن ابن عدي، عن محمد بن علي بن مهدي بنفس ذلك السند الذي عند الطبراني، ولفظ ابن الجوزي أنبأنا محمد بن عبد الملك، أنبأنا ابن مسعدة، أنبأنا حمزة بن يوسف حدثنا ابن عدي، حدثنا محمد بن علي بن مهدي، حدثنا موسى بن عبد الرحمن، حدثنا زيد بن الحباب أخبرني عبد الله بن المؤمل حدثنا أبو الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مات في أحد الحرمين مكة أو المدينة بعث آمنا» هكذا روى ابن الجوزي هذا الحديث، وجزم بعدم صحته وبين ذلك بقوله: (فيه - أي في إسناده - عبد الله بن المؤمل قال أحمد: أحاديثه مناكير، وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد، وفيه موسى بن عبد الرحمن، قال ابن حبان دجال يضع الحديث) . انتهى كلام ابن الجوزي. ويرد على ما نقله عن ابن حبان في موسى بن عبد الرحمن المسروقي قول الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم في ترجمته من (كتاب الجرح والتعديل) جـ 4 قسم (1) [كتب عنه - أي عن موسى بن عبد الرحمن المسروقي أبي قديما وكتبت عنه أخيرا، وهو صدوق ثقة] ، انتهى الكلام.
ولحديث جابر هذا طريق آخر عند ابن الجوزي في باب ثواب من مات في طريق مكة " من الموضوعات " جـ 2 ص 217 - 218 قال: أنبأنا إسماعيل بن أحمد أنبأنا ابن مسعدة أنبأنا أحمد بن يوسف حدثنا ابن عدي، حدثنا محمد بن الحسن بن موسى الكوفي، حدثنا محمد بن عمرو بن يونس، حدثنا إسحاق بن بشر الكاهلي، حدثني أبو معشر المديني، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات في طريق مكة لم يعرضه الله عز وجل يوم القيامة ولم يحاسبه» . هكذا روى ابن الجوزي هذه الرواية ثم قال: هذا حديث لا يصح والمتهم به إسحاق بن بشر، (1) وقد كذبه ابن أبي شيبة وغيره. وقال الدارقطني: هو في عداد من يضع الحديث، انتهى.
__________
(1) لفظ '' بشر '' هو الصواب لا لفظ ظهير الذي ورد في '' الموضوعات ''.(13/212)
وأما رواية أنس رضي الله عنه لحديث: «من مات في أحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة» ، ومن زارني محتسبا إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة هذه(13/212)
الرواية التي ذكر العجلوني في (كشف الخفا) أن النجم - أي محمدا نجم الدين الغزي - ذكرها أي في كتابه (إتقان ما يحسن من الأخبار الدائرة على الألسن) وعزاها إلى البيهقي فهي عند البيهقي في شعب الإيمان، وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا علي بن عيسى، حدثنا أحمد بن عبدوس بن حمدويه الصفار النيسابوري، حدثنا أيوب بن الحسن، حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك بالمدينة، حدثنا سليمان بن يزيد الكعبي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات في أحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة، ومن زارني محتسبا إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة» وهذه الرواية مدارها على أبي المثنى سليمان بن يزيد الكعبي، وهو شيخ لا يحتج بحديثه. . وروايته عن أنس منقطعة. أوضح ذلك الحافظ ابن عبد الهادي في [الصارم المنكي] ص231 ونص كلامه على هذا الحديث مداره على أبي المثنى سليمان بن يزيد الكعبي الخزاعي المديني، وهو شيخ غير محتج بحديثه وهو بكنيته أشهر منه باسمه ولم يدرك أنس بن مالك. فروايته عنه منقطعة غير متصلة، وإنما يروي عن التابعين وأتباعهم، وقد ذكره ابن حبان في كتاب الثقات في أتباع التابعين وأتباعهم، وذكره أيضا في كتاب المجروحين، قال في كتاب الثقات سليمان بن يزيد أبو المثنى الكعبي من أهل المدينة، يروي عن عمر بن طلحة، روى عنه ابن أبي فديك، هكذا ذكره، وقال في كتاب المجروحين: أبو المثنى شيخ يروي عن هشام بن عروة، روى عنه عبد الله بن نافع الصائغ يخالف الثقات في الروايات لا يجوز الاحتجاج به ولا الرواية عنه إلا للاعتبار. روى عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما عمل ابن آدم من عمل يوم النحر أحب إلى الله عز وجل من هراقة دم (1) » وذكر الحديث، ثم قال: حدثنا ابن سالم ببيت المقدس، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن نافع، حدثنا أبو المثنى عن هشام بن عروة: هكذا ذكره في كتاب المجروحين ولم يذكر اسمه، قال الدارقطني في الحواشي على هذا الكتاب: اسم أبي المثنى هذا سليمان بن يزيد الكعبي مديني، وقال في كتاب العلل هو ضعيف.
__________
(1) سنن الترمذي الأضاحي (1493) ، سنن ابن ماجه الأضاحي (3126) .(13/213)
وقال ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل: سليمان بن يزيد أبو المثنى الكعبي الخزاعي المديني، ثم ذكر أنه يروي عن سعيد المقبري وربيعة بن أبي عبد الرحمن ويحيى بن سعيد الأنصاري وعباد بن إسحاق وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، وأنه يروي عنه عبد الله بن نافع الصائغ، وابن أبي فديك وابن وهب ثم قال: سمعت أبي يقول [أبو المثنى هذا منكر الحديث ليس بقوي] ، وبعد أن ذكر الحافظ ابن عبد الهادي ما في تاريخ البخاري والكنى للنسائي والكنى لأبي عمر بن عبد البر من تراجم لأبي المثنى، تدل على أنه لم يسمع من أنس بن مالك أوضح تناقض ابن حبان في ذكره إياه في الكتابين كتاب الثقات وكتاب المجروحين، وعلق على صنيع ابن حبان هذا بقوله: (توهم أنه رجلان وذلك خطأ بل هو رجل واحد منكر الحديث غير محتج به، لم يسمع من أنس بل روايته عنه منقطعة غير متصلة) انتهى.(13/214)
وأما رواية ابن عمر عند الديلمي لحديث: «من مات بين الحرمين حاجا أو معتمرا» الحديث، فقد أوردها صاحب كنز العمال جـ 2 ص 272 ضمن حديث طويل لفظه: «من مات بين الحرمين حاجا أو معتمرا بعثه الله عز وجل يوم القيامة لا حساب عليه ولا عذاب، ومن زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن جاورني بعد موتي فكأنما جاورني في حياتي، ومن مات بمكة فكأنما مات بالسماء الدنيا، ومن شرب ماء زمرم فماء زمزم لما شرب له، ومن قبل الحجر واستلمه شهد له يوم القيامة بالوفاء، ومن طاف حول بيت الله أسبوعا أعطاه الله بكل طواف عشر نسمات من ولد إسماعيل عتاقة، ومن سعى بين الصفا والمروة ثبت الله قدميه على الصراط في يوم تزل فيه الأقدام» بهذا اللفظ أوردها صاحب كنز العمال، ثم قال في سندها: أفيه أحمد بن صالح الشمومي، قال ابن حجر هذا من مناكيره. انتهى كلام صاحب كنز العمال. وقد قال: ابن حبان في ترجمة أحمد بن صالح هذا من كتاب المجروحين جـ1 ص 149 [أحمد بن صالح الشمومي أبو جعفر شيخ من أهل مكة يروي عن عبد الله بن صالح كاتب الليث والغرباء، حدثنا عنه شيوخنا كان ممن يأتي عن الإثبات بالمعضلات وعن المجروحين بالطامات تجب مجانبة ما روي من الأخبار، وترك ما حدث من الآثار لتنكبه الطريق المستقيم في الرواية وركوبه أضل السبيل في التحديث.(13/214)
وهذا شيخ لم يكن يكتب عنه أصحاب الحديث ولا يكاد يوجد حديثه إلا عند أهل خراسان الذين كانوا يكتبون عنه بمكة، لكني ذكرته ليعرف فتجتنب روايته] ، انتهى الكلام.
ولرواية ابن عمر لحديث: «من مات بين الحرمين حاجا أو معتمرا بعثه الله بلا حساب عليه ولا عذاب» طريق آخر عند ابن الجوزي في (باب ثواب من مات بين الحرمين) من الموضوعات جـ 2 ص 219.
قال: أنبأنا محمد بن ناصر، أنبأنا أحمد بن علي بن خلف، أنبأنا أبو عبد الله محمد ابن عبد الله الحاكم، حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن إسحاق الفاكهي، حدثني محمد بن إسماعيل بن سالم الصائغ، حدثنا عبد الله بن نافع، حدثنا مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات بين الحرمين حاجا أو معتمرا بعثه الله بلا حساب عليه ولا عذاب» ، هكذا رواه ابن الجوزي وقال: (هذا لا يصح، قال البخاري عبد الله بن نافع منكر الحديث، وقال يحيى: ليس بشيء، وقال النسائي: متروك الحديث) انتهى.
وتعقبه السيوطي في اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة جـ 2 ص 130. بقوله: [أقلت قال الرشيد العطار: عبد الله بن نافع الذي ضعفه المذكورون لا أعلم له رواية عن مالك وإنما يروي عن أبيه نافع، وإنما الذي روى عن مالك عبد الله بن نافع الصائغ أو عبد الله بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، ولا أعلم فيهما مطعنا، وقد قال ابن الجوزي في كتاب الضعفاء جملة من يجيء في الحديث عبد الله بن نافع سبعة لم نر طعنا سوى في عبد الله بن نافع مولى ابن عمر والله أعلم] انتهى.
وقال أبو الحسن علي بن محمد بن عراق الكناني في " تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة " جـ 2 ص 173 قلت أخرج الحديث أبو سعد أحمد ابن إبراهيم المقري في كتاب التبصرة والتذكرة، ومن طريقه الحافظ العراقي في تخريج الإحياء الكبير، وقال إسناده حسن، وقال الذهبي في الميزان: ساق ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات فلم ينصف والله أعلم " انتهى. كلام ابن عراق، ولفظ الذهبي في ترجمة عبد الله بن نافع الصائغ، صاحب مالك جـ 2 ص 514، بعد(13/215)
ذكر كلام الأئمة فيه [أنكر مالك ما رواه محمد بن إسماعيل الصائغ ثقة، حدثنا عبد الله بن نافع، حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعا «من مات بين الحرمين حاجا أو معتمرا لم يحاسب» هذا الخبر ساقه ابن الجوزي في الموضوعات فلم ينصف] . انتهى. وفي اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي جـ2 ص 128 - 129 أن ابن منده أخرج في أخبار أصبهان حديث ثواب من مات في طريق مكة عن ابن عمر قال: أخرج ابن عبد الله بن منده في أخبار أصبهان، أنبأنا عبد الله بن إبراهيم بن الصباح، حدثنا رجاء ابن صهيب، حدثنا علي بن قرين، حدثنا خالد بن عبد الله الواسطي عن محمد بن إسحاق عن نافع بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومن مات في طريق مكة في البدأة أو في الرجعة وهو يريد الحج أو العمرة لم يعرض ولم يحاسب ودخل الجنة» وفي سند هذه الرواية علي بن قرين وهو تالف قاله الحافظ الذهبي.(13/216)
وأما رواية حديث أن «من مات في طريق مكة لم يعرض ولم يحاسب» عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقد رواها أبو نعيم في ترجمة محمد بن صبيح بن السماك من (حلية الأولياء) جـ 8 ص 215 - 216.
قال: [حدثنا محمد بن حميد، ثنا أبو يعلى الموصلي، ثنا الحسن بن حماد، ثنا حسين الجعفي، ثنا ابن السماك، عن عائذ بن بشير عن عطاء، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم «من مات في طريق مكة لم يعرض ولم يحاسب» ] ورواها الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد جـ 2 ص 170 تحت عنوان [ذكر من اسمه محمد واسم أبيه الحسن] قال: " أخبرنا الحسن بن الحسين النعالي قال: نبأنا محمد بن الخضر بن زكريا الدقاق، قال: نبأنا أبو بكر أحمد بن محمد بن شبيب، قال نبأنا أبو عبد الله محمد بن هشام المروروذي قال نبأنا محمد بن الحسن الهمداني عن عائذ المكتب، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من مات في هذه الوجه من حاج أو معتمر لم يعرض ولم يحاسب وقيل له أن أدخل الجنة» وفي سند كل واحدة من الروايتين عائذ بن بشير وعائذ هذا قال فيه ابن الجوزي في الموضوعات جـ 2 ص 217 - 0218 [قال يحيى بن معين عائذ ضعيف روى أحاديث مناكير، وقال ابن عدي تفرد به عائذ عن عطاء، وقال ابن حبان: كان كثير الخطأ لا يحتج بما انفرد به، أي بحديثه عن عائشة في هذا الباب] . انتهى كلام ابن الجوزي.(13/216)
وقال الذهبي في ترجمة عائذ بن بشير من " ميزان الاعتدال " جـ 2 ص 363: ضعفه يحيى بن معين، وسرد له ابن عدي مناكير منها: يحيى بن يمان عنه عن عطاء عن عائشة مرفوعا «من مات في طريق مكة لم يعرضه الله يوم القيامة ولم يحاسبه» انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه [لسان الميزان] ، جـ 3 ص 226 قال العقيلي - أي في عائذ بن بشير -: منكر الحديث وأورد له الحديث الأول - من حديثين ذكرهما «من مات في طريق مكة لم يعرضه الله ولم يحاسبه» من طريق يحيى بن يمان أيضا، ومن طريق مندل عنه عن محمد البصري، عن عطاء مرسلا بمعناه، وقال الدوري عن ابن معين عائذ بن بشير ليس به بأس ولكنه روى أحاديث مناكير. انتهى الكلام.
وفي سند رواية الخطيب البغدادي إضافة إلى عائذ بن بشير شيخ عائذ محمد بن الحسن الهمداني، وهو تالف، قال فيه الإمام أحمد بن حنبل ما أراه يسوى شيئا كان ينزل عند مقابر الخيزران جعل يحدثنا بأحاديث يجيء بها كما يحدث بها ابن زائدة وأبو معاوية، وقال في رواية ابنه عبد الله عنه: محمد بن الحسن الهمداني ضعيف. وقاك يحيى بن معين في رواية ابن الغلابي عنه: محمد بن الحسن الكوفي ليس بثقة، وقال في رواية العباس بن محمد عنه: محمد بن الحسن بن أبي يزيد - أي الهمداني - كذاب.
وقال يعقوب بن سفيان: محمد بن الحسن الهمداني ومحمد بن الحسن الأسدي ضعيفان.
وقال أبو داود في محمد بن الحسن بن أبي يزيد: هذا كذاب وثب على كتب أبيه.
وقال عبد الله بن أحمد: محمد بن الحسن بن أبي يزيد ممن دخل بغداد من الكوفيين وحدث بها فلم يحمد أمره.
وقال النسائي: محمد بن الحسن بن أبي يزيد متروك الحديث.(13/217)
وقال الدارقطني في محمد بن الحسن الهمداني كوفي لا شيء] ، روى ذلك كله عن هؤلاء الأجلة الخطيب البغدادي بأسانيده إليهم وذلك في تاريخ بغداد جـ 2 ص 171 -172.(13/218)
وأما رواية حديث ثواب من مات في أحد الحرمين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فعند أبي داود الطيالسي في مسنده ص 12 - 13 قال: (حدثنا سوار بن ميمون أبو الجراح العبدي، قال حدثني رجل من آل عمر، عن عمر، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من زار قبري، أو قال: من زارني كنت له شفيعا أو شهيدا، ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله من الآمنين يوم القيامة» ومن طريق الطيالسي هذا أورد البيهقي هذا الحديث في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم من " السنن الكبرى " جـ 5 ص 245، قال أخبرنا أبو بكر بن فورك أنا عبد الله بن جعفر ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود، ثنا سوار بن ميمون أبو الجراح العبدي قال: حدثني رجل من آل عمر عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من زار قبري أو قال «من زارني كنت له شفيعا أو شهيدا، ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله في الآمنين يوم القيامة» ثم قال البيهقي (هذا إسناد مجهول) انتهى الكلام.
هذا ما وصل إليه بحثي عن طرق هذا الحديث، وقد قال الحسن بن محمد بن الحسن القرشي الصفاني في موضوعاته ص39 ما نصه [ومنها - أي من الأحاديث الموضوعة - قولهم: «من مات بين الحرمين بعث آمنا يوم القيامة، ومن مات في مكة حاجا لم يعرضه الله تعالى ولم يحاسبه» ] انتهى.
والخلاصة أن كل طريق من طرق هذا الحديث لا تخلو من علة قادحة وأن كلام العجلوني لم أجد له بعد التتبع أساسا. والله ولي التوفيق. وهو حسبي ونعم الوكيل.(13/218)
الإسناد وأهميته في نقد الحديث النبوي
الدكتور محمد لقمان السلفي.
ولد عام 1362 هـ.
حصل على شهادة " المولوي " في العلوم الإسلامية والعربية من الهند. . بالدرجة الأولى حيث كان الأول في ولاية بيهار كلها.
وشهادة (الفاضل) في الحديث النبوي والعلوم الإسلامية بالدرجة الأولى من دار العلوم الأحمدية السلفية في ولاية بيهار بالهند.
وشهادة الليسانس من كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
وعلى شهادة الماجستير من المعهد العالي للقضاء بالرياض - وكان موضوع الرسالة (حجية السنة والرد على شبه المنكرين) .
وعلى شهادة الدكتوراه في السنة النبوية وعلومها من كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وكان موضوع الرسالة (اهتمام المحدثين بنقد الحديث سندا ومتنا ودحض مزاعم المستشرقين وأتباعهم) .
عمل في الصحافة الإسلامية لمدة ست سنوات حيث أشرف على صفحة العالم الإسلامي في جريدة الدعوة الإسلامية في الرياض - مجلة الدعوة حاليا - وعضو التحرير لمجلة التوعية الإسلامية في الحج لعدة سنوات.
الترجمة بين اللغة العربية واللغات الإنجليزية والأردية والفارسية لمدة تزيد عن سبع عشرة سنة.
المشاركة في عدة مؤتمرات إسلامية وإعداد تقارير شاملة عن الدعوة الإسلامية والجمعيات الإسلامية والمذاهب الهدامة.
يعمل الآن في مكتب سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز في الترجمة، بين سماحته والوفود الإسلامية الزائرة للرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.(13/219)
صفحة فارغة(13/220)
الإسناد وأهميته في نقد الحديث النبوي
الدكتور / محمد لقمان السلفي
1 - أثر الحركات الهدامة في وضع الأحاديث:
إن دخول أخلاط من الناس في الإسلام أوجد بين المسلمين بعد العصر الأول جماعات غير متشبعة بالمعنى الصحيح للإسلام، وبالولاء الكامل المطلق لله ولرسوله، وبالشعور الرقيق لمكانة القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولم يلفت الأنظار في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلا واقعة أو واقعتان، فلما كان آخر عهد عثمان بن عفان وجدت حركة سرية، للنيل من مكانة الصحابة والسنة النبوية لعلمهم أن الصحابة هم القوة الجبارة وراء الفتوحات الإسلامية، وأن السنة هي المصدر الثاني بعد القرآن للإيمان والعقيدة والعمل الصالح.
وقد أصبحت قيادة الحركة في أيدي اليهود من جنوب اليمن وعلى رأسهم الخب اللعين عبد الله بن سبأ.
وقد بدأ عملهم السري في المستوطنات العسكرية - أجناد المسلمين - في البصرة والكوفة والشام ومصر. ولم يكن يوجد في تلك المستوطنات من الصحابة إلا قليلون، فكان الجو ملائما جدا لإيجاد الخلايا الفاسدة ضد الإسلام (1) .
كما أن قلة بضاعة النزل في تلك المستوطنات في العلم وبداوتهم وما يتبعها من الأمور الأخرى، كانت من أهم الأسباب لوقوعهم في فخ أولئك الماكرين الذين كانت إثارة الفتن هدفهم، وبيع الفساد دينهم وعقيدتهم (2) .
__________
(1) راجع ابن خلدون 2 \ 138.
(2) راجع ما ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة 1 \ 161، 174.(13/221)
وأولئك المتآمرون كانوا يعلمون جيدا أنه من الاستحالة في مكان التعرض للقرآن الكريم، كما كانوا يعرفون تماما أن الكذب لا يمكن أن يصدر من الصحابة أو أن يروج بينهم.
فالتجأ المتآمرون إلى أولئك الأخلاط من الناس، وأخذوا يضعون الأحاديث على أفواه بعض الصحابة الذين كانوا يذيعون عنهم بين أولئك الناس أن هؤلاء وحدهم كانوا على صلة مخلصة بالرسول صلى الله عليه وسلم دون غيرهم من الصحابة.
ولذلك نجد الحافظ ابن حجر العسقلاني، يشير إلى أن حركة ابن سبأ إنما استهدفت الإساءة إلى مكانة الصحابة وإلى الأحاديث النبوية في وقت واحد (1) . وقد نقل الحافظ على لسان الشعبي: أول من كذب، عبد الله بن سبأ (2) .
2 - الحركات تتقوى:
فلما توفي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وانتشرت الفوضى في صفوف المسلمين، جمع عثمان رضي الله عنه، ولاة المناطق واستشارهم في الأمر. فقال بعضهم: أرى لك يا أمير المؤمنين أن تشغلهم بالجهاد عنك (3) .
ولكن الوقت كان متأخرا. إذ الفتنة كانت قد أخذت مأخذها في رءوس كثير من الناس.
__________
(1) راجع لسان الميزان 3 \ 289.
(2) لسان الميزان 3 \ 289.
(3) تاريخ الكامل لابن الأثير الجذري 3 \ 57.(13/222)
3 - المحاولة للقضاء على الفتنة:
وأخذت في الشدة بمر الزمن، وابتلي المسلمون بالحروب الأهلية وكاد المؤرخون أن يجمعوا على أن السبئيين هم الذين حولوا الصلح إلى الحرب - في وقعة الجمل - ثم استمرت الفتن، ووقعت حرب الصفين، ثم حروب الخوارج، والسبئيون يعملون تحت الستار لنشر الأكاذيب.(13/222)
وقد حاول علي رضي الله عنه أن يقضي على الفتنة، ولكن الأمور كانت قد فسدت إلى أبعد الحدود، فإن السنوات الماضية كانت كافية لبث الموضوعات والأكاذيب على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم بين أجناد المسلمين، خطب عبد الملك بن مروان مرة في المدينة فقال: قد سالت علينا أحاديث من قبل هذا المشرق ولا نعرفها (1) .
روى مسلم عن مجاهد قال: جاء بشير العدوي إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه، ولا ينظر إليه، فقال: يا ابن عباس، مالي لا أراك تسمع لحديثي، أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع؟ فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بأذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف (2) .
والقرائن تشير إلى أن الحوار وقع في البصرة، عندما كان ابن عباس واليا عليها. ويبدو أن ابن عباس لم يكن وحده الذي حصل عنده رد الفعل، فإن استعمال كلمة الجمع (إنا كنا) دليل واضح على أنه وجدت في ذلك الوقت جماعة ترى هذا الرأي. وإلى هذا يشير ما رواه الحاكم عن الحسن عما جرى بين عمران بن حصين - رضي الله عنه - وبين رجل طلب منه أن يحدثه بالقرآن فقط، فقال له عمران: أنت وأصحابك تقرءون القرآن، أكنت محدثي عن الصلاة وما فيها وما حدودها؟ أكنت محدثي عن الزكاة في الذهب والإبل والبقر وأصناف المال، ولكن قد شهدت وغبت أنت. ثم قال فرض علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزكاة كذا وكذا فقال الرجل: أحييتني، أحياك الله (3) . وقد أورده الخطيب في باب تخصيص السنن لعموم محكم القرآن وذكر الحاجة في المجمل إلى التفسير والبيان (4) .
وإلى هذا يشير ما قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه (قاتلهم الله أي عصابة بيضاء سودوا، وأي حديث من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أفسدوا) (5) . وروى مسلم
__________
(1) ابن سعد 5 \ 173.
(2) مقدمة مسلم 81، 82.
(3) المستدرك للحاكم 1 \ 109، كتاب العلم وصححه الحاكم وأقره الذهبي.
(4) الكفاية \ 46.
(5) تذكرة الحفاظ 1 \ 12.(13/223)
عن أبي إسحاق قال: لما أحدثوا تلك الأشياء بعد علي، قال رجل من أصحاب علي: قاتلهم الله أي علم أفسدوا (1) .
ولكن من المعلوم بالضرورة أن الإحجام عن الرواية، لم يكن الحل الصحيح للمشكلة، فإن الأحاديث النبوية دين وشرح للقرآن الكريم. ولذا كان لا بد من الحلول الجذرية، ومن التقيد بأصول وقواعد تضع الحد من هذه الظاهرة الخطيرة وتنقح الصحيح من المكذوب. فظهر السؤال عن الإسناد.
__________
(1) مقدمة مسلم \ 129.(13/224)
4 - أهمية الإسناد:
روى مسلم بسنده عن ابن سيرين قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم. فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع، فلا يؤخذ حديثهم (1) .
وقد روى نحوه ابن أبي حاتم (2) .
وفي رواية أخرى لمسلم عن ابن سيرين قال: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم (3) . وقد روى نحوه الخطيب في الكفاية والرامهرمزي في " المحدث الفاصل " بطرق عديدة، وابن عبد البر في " التمهيد " (4) .
وقد تدرج الأمر إلى الأمام، وأخذ الأئمة المحدثون يشددون في طلب الإسناد، فهذا الشعبي (بعد المائة) يروي عن الربيع بن الخيثم قال: من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. فله كذا وكذا وسمى من الخير. قال الشعبي: فقلت: من حدثك؟ قال: عمرو بن ميمون قلت: من حدثه؟ قال: أبو أيوب، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) .
__________
(1) مقدمة مسلم \ 84.
(2) الجرح والتعديل جـ 1 \ ق1 \ ص28.
(3) مقدمة مسلم \ 84.
(4) الكفاية \ 121، 122. والمحدث الفاصل \ 208 ومن صفحة 414 إلى ص 416 والتمهيد جـ 1 ص46 طبعة المغرب.
(5) معرفة علوم الحديث \ 6.(13/224)
وما إن حل القرن الثاني، حتى صار السؤال عن السند ضرورة ملحة لا سبيل إلى إغفالها. حدث عتبة بن حكيم: أنه كان عند إسحاق بن أبي فروة وعنده الزهري (125 هـ) قال: فجعل ابن أبي فروة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الزهري: قاتلك الله، يا ابن أبي فروة، ما أجرأك على الله، ما تسند حديثك. تحدثنا بأحاديث، ليس لها خطم ولا أزمة (1) .
وقال ابن أبي الزناد: قال لي هشام بن عروة (146 هـ) : إذا حدثت بحديث، أنت منه في ثبت، فخالفك إنسان، فقل: من حدثك هذا؟
فإني حدثت بحديث، فخالفني فيه رجل، فقلت: هذا حدثني به أبي فأنت من حدثك؟ فجف (2) .
وعن الأعمش (147 هـ) قال: جالست إياس بن معاوية، فحدثني بحديث، قلت: من يذكر هذا، فضرب لي مثل رجل من الحرورية فقلت: إلي تضرب هذا المثل، تريد أن أكنس الطريق بثوبي، فلا أدع بعرة ولا خنفساءة إلا حملتها؟ (3) .
__________
(1) المحدث الفاصل \ 209.
(2) المحدث الفاصل \ 209، الكفاية \ 403.
(3) مقدمة مسلم \ 87.(13/225)
5 - الإسناد ركن من ركني الحديث:
نرى من خلال الأخبار المتعلقة بالإسناد أن الأمر لم يعد هينا، بل أصبح يعتبر ركنا من ركني الحديث النبوي، وأمرا من أمور الدين فقد روى مسلم بسنده إلى عبد الله بن المبارك يقول: الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء (1) .
وفي رواية أخرى يقول عبد الله: بيننا وبين القوم القوائم يعني الإسناد (2) .
وقال محمد: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن عيسى الطالقاني قال: قلت لعبد الله بن المبارك يا أبا عبد الرحمن. الحديث الذي جاء: أن من البر بعد البر أن تصلي لأبويك مع صلاتك، وتصوم لهما مع صومك، قال: فقال عبد الله: يا أبا إسحاق: عمن هذا؟ قال: قلت له هذا من حديث لشهاب بن خراش، فقال: ثقة، عمن قال؟ قلت: عن الحجاج بن دينار. قال: ثقة، عمن قال؟ قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
__________
(1) مقدمة مسلم \ 88.
(2) مقدمة مسلم \ 89.(13/225)
يا أبا إسحاق إن بين الحجاج بن دينار، وبين النبي صلى الله عليه وسلم مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي (1) . وعنه أيضا: مثل الذي يطلب أمر دينه بلا إسناد كمثل الذي يرتقي السطح بلا سلم (2) .
وقال سفيان الثوري: الإسناد سلاح المؤمن فإذا لم يكن معه سلاح، فبأي شيء يقاتل (3) . وقال الشافعي: مثل الذي يطلب الحديث بلا إسناد كمثل حاطب ليل يحمل حزمة الحطب، فيها أفعى تلدغه وهو لا يدري.
ويمر الزمن ويستقر في أذهان الأئمة النقاد أن الإسناد جزء لا يتجزأ من رواية الحديث، وانكبوا يفحصونه، وينظرون فيه بأسلوبهم المعين. قال الحاكم: لولا كثرة طائفة المحدثين على حفظ الأحاديث، لا ندرس منار الإسلام ولتمكن أهل الإلحاد والمبتدعة من وضع الأحاديث، وقلب الأسانيد (4) .
__________
(1) الكفاية \ 393.
(2) التدريب \ 359، فتح المغيث \ 335.
(3) الحطة \ 37.
(4) الرحلة في طلب الحديث \ 17.(13/226)
6 - دور الرحلة في خدمة الإسناد:
ومن أجل أهمية السند في تلقي السنة الصحيحة، رحل المحدثون المسافات البعيدة، على بعد الشقة، وعظم المشقة، طلبا للحديث وبحثا عن أسانيد الأحاديث بل عن إسناد الحديث الواحد.
ويبدو أثر الرحلة للناظر في أسانيد الأحاديث واضحا جليا. إذا ما تناولنا أي إسناد منها، ودرسنا تاريخ رواته، نجد في أغلب الأحيان أنهم ينتمون إلى أكثر من موطن. بل ربما وجدنا كل واحد منهم من بلدة، جمعت الرحلة في طلب الحديث شتاتهم، وقربت بعد ما بينهم، حتى تسلسلوا في قرن واحد في سند الحديث الواحد (1) . فهذا جابر بن عبد الله يشتري راحلة، ويسير من المدينة إلى مصر ليسأل عقبة بن عامر عن حديث في ستر المؤمن، لم يبق أحد سواهما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤكد له عقبة: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ستر مؤمنا في الدنيا على خربة ستره الله يوم القيامة (2) » ، فيعود أدراجه لا يلوي على شيء.
__________
(1) معرفة علوم الحديث \ 8.
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/159) .(13/226)
وهذا سعيد بن المسيب أحد كبار التابعين يقول: إني كنت لأسافر مسيرة الأيام والليالي في الحديث الواحد (1) .
ورحل شعبة بن الحجاج من أجل إسناد لحديث فضل الوضوء والذكر بعده. فإن أبا إسحاق السبيعي الذي سمع منه شعبة هذا الحديث مدلس. ولم يكشف لشعبة عن حقيقة أمر الإسناد. وكان شعبة كثير العناية بتتبع المدلسين. فرحل تلك الرحلة المضنية، حتى توصل إلى نتيجة مؤسفة هي سقوط رواة من السند، أحدهم مطعون فيه. فلم يملك نفسه أن قال: دمر علي هذا الحديث. لو صح لي هذا الحديث، كان أحب إلي من أهلي ومن مالي ومن الدنيا كلها.
__________
(1) الرحلة في طلب الحديث \ 149 \ 153.(13/227)
7 - أثر الإسناد في نقد الحديث:
وبهذا أصبح الإسناد للحديث مثل الأساس للبناء. واستقر في الأذهان أنه لا يمكن تصور الحديث بدون الإسناد، كما لا يمكن أن يتصور البنيان بدون الأساس، والجسم بدون الروح.
فأصبح الحديث عبارة عن جزئين: الإسناد، والمتن. فإذا كان المتن واحدا وله إسنادان، فهما حديثان في اصطلاح المحدثين، والحديث الذي ليس له سند ليس بشيء. ولذلك اشتهر بين المحدثين: أن السند للخبر كالنسب للمرء. وجعله عبد الله بن المبارك من الدين فقال: " الإسناد عندي من الدين، لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. فإذا قيل له: من حدثك؟ بقي (أي ساكتا) (1) . فكلما تقدم الزمن، وازداد الخلل، اشتد نظام المراقبة، واشتد نظام الإسناد.
وفي ضوء ما وصل إلينا من جهود المحدثين بصدد الإسناد وتهذيبه وتقييد قواعده، وتأصيل أصوله، يمكنني أن أذكر بعض آثار السند في نقد الحديث وتنقيحه، وتمييز الصحيح من المكذوب والموصول من المنقطع، والمرفوع من الموقوف والمرسل، فأقول:
__________
(1) الكفاية \ 56، 57.(13/227)
1 - رتبت أسماء الرواة بحسب القوة والضعف ترتيبا، يكون هو الحكم في قبول الحديث ورده، فلا يعد الحديث صحيحا، إلا إذا كانت تتألف سلسلة الإسناد من أفراد يوثق بروايتهم.
2 - ولم يروا الاحتجاج إلا بالحديث الموصول غير المنقطع الذي ليس فيه رجل مجهول ولا رجل مجروح (1) وقد سئل الشافعي عما تقوم به الحجة على أهل العلم، حتى يثبت عليهم خبر الخاصة، فقال خبر الواحد عن الواحد، حتى ينتهي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو من انتهى به إليه دونه (2) فبالإسناد تتبين صحة الحديث ويظهر اتصاله من انقطاعه. وإذا كان هناك من رفع للموقوف أو وصل للمرسل لم يخف على المحدثين بفضل تتبعهم الدقيق لرجال السند.
3 - ونظروا إلى أهل السنة، فأخذوا حديثهم، ونظروا إلى أهل البدع، فلم يأخذوا حديثهم (3) .
ومن هذا القبيل: الحديث الموضوع المروي عن أبي بن كعب مرفوعا في فضل القرآن، سورة سورة، من أوله إلى آخره، فقد روى السيوطي عن المؤمل بن إسماعيل قال: حدثني شيخ به، فقلت للشيخ: من حدثك به؟ فقال: حدثني رجل بالمدائن وهو حي، فصرت إليه فقلت من حدثك به؟ فقال: حدثني شيخ بواسط وهو حي، فصرت إليه فقال: حدثني شيخ بالبصرة، فصرت إليه، فقال: حدثني شيخ بعبادان فصرت إليه. فأخذ بيدي، فأدخلني بيتا، فإذا فيه قوم من المتصوفة، ومعهم شيخ، فقال: هذا الشيخ حدثني فقلت: يا شيخ من حدثك؟ فقال: له لم يحدثني أحد، ولكنا رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن فوضعنا لهم هذا الحديث.
__________
(1) الرسالة \ 369.
(2) مقدمة مسلم \ 84.
(3) تدريب الراوي \ 188، 189.(13/228)
4 - نصوا الحديث عن الثقة المعروف في زمانه، المشهور بالصدق والأمانة عن مثله، حتى تناهي أخبارهم. ثم بحثوا أشد البحث، حتى عرفوا الأحفظ فالأحفظ، والأضبط فالأضبط، والأطول مجالسة لمن فوقه ممن كان أقل مجالسة، ثم كتبوا الحديث من عشرين وجها أو أكثر وأجروا عملية المقارنة بين تلك الروايات، حتى وصلوا إلى نتيجة صحيحة دقيقة.
ومن الأمثلة على هذا، ما ذكره مسلم في كتاب التمييز قال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر قالا: حدثنا شعبة عن سلمة بن كهيل قال: سمعت حجرا أبا العنبس يقول: حدثني علقمة بن وائل عن وائل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وثنا إسحاق، أنا أبو عامر، ثنا شعبة عن سلمة، سمعت حجرا أبا العنبس يحدث عن وائل بن حجر عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث.
كلهم عن شعبة عن سلمة عن حجر عن علقمة عن وائل، إلا إسحاق عن أبي عامر، فإنه لم يذكر علقمة. وذكر الباقون كلهم علقمة.
قال مسلم: أخطأ شعبة في هذه الرواية حين قال: وأخفى صوته أي بآمين (1) .
5 - وضعوا أصولا وقواعد لاستعمال السند استعمالا علميا دقيقا، حتى أمكن الوصول إلى نتائج واضحة صريحة حول صحة الأحاديث أو ضعفها، وقد قسموا الإسناد إلى أقسام، وجعلوها على مراتب ودرجات من حيث القبول والرد.
قال شيخ الإسلام: يمكن للناظر المتقن ترجيح بعضها على بعض من حيث حفظ الإمام الذي رجح وإتقانه. وإن لم يتهيأ ذلك على الإطلاق فلا يخلو النظر فيه من فائدة، لأن مجموع ما نقل عن الأئمة من ذلك يفيد ترجيح التراجم التي حكموا لها بالأهمية على ما لم يقع له حكم من أحد منهم.
ولذلك نجد المحدثين جعلوا بعض الأسانيد سلسلة ذهبية واختلفت أقوالهم فيها. فمنهم من جعل أصح الأسانيد: أحمد عن الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر. وقيل أصحها مطلقا: الزهري عن سالم عن أبيه عبد الله بن عمرو قيل أصحها:
__________
(1) تدريب الراوي \ 31، 32.(13/229)
ابن سيرين عن عبيدة السلماني عن علي بن أبي طالب. وقيل أصحها: مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر (1) .
كما جعلوا بعض الأسانيد أضعفها، والبعض الآخر الإسناد الكاذب وقد نقل السيوطي عن الحاكم أمثلة عديدة لأوهى الأسانيد.
فمثلا أوهى ابن عباس مطلقا: السدي الصغير محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عنه. قال شيخ الإسلام: هذه سلسلة الكذب لا سلسلة الذهب (2) .
__________
(1) تدريب الراوي، راجع مبحث الحديث الضعيف \ 105، 106.
(2) المحدث الفاصل \ 404 ونحوه في الرسالة للشافعي \ 370.(13/230)
8 - استعمال الإسناد لرواية الكتب:
وكما استعمل المحدثون الإسناد محل فرد من الأحاديث، استعملوه أيضا لرواية الكتب. فالإسناد كان له التأثير البالغ على الكتب المروية من مؤلفيها. فإن كان الرجل عدلا، قبلت روايته للكتاب، وإلا فلا وهذا أمر معلوم بالضرورة، فإذا لم يكن مأمون الجانب، فقد يزيد وينقص ويغير ويحرف، قال الشافعي: وبكون المحدث عالما بالسنة ثقة في دينه، معروفا بالصدق في حديثه، عدلا فيما يحدث، حافظا لكتابه إن حدث من كتابه، يؤمن من أن يكون مدلسا يحدث عمن لقي بما لم يسمع أو يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بما يحدث الثقات بخلافه عنه عليه الصلاة والسلام (1) . وقال القاضي عياض: وأما متى كان ممسك الأصل على الشيخ أو على القارئ غير ثقة ولا مأمون على ذلك أو غير بصير بما اقرأه، فلا يحل السماع والرواية بهذه القراءة. وقال أيضا: وقد ضعف أئمة الصنعة رواية من سمع الموطأ على مالك بقراءة " حبيب " كاتبه لضعفه عندهم. وأنه كان يخطرف الأوراق حين القراءة ليتعجل. وكان يقرأ للغرباء.
__________
(1) الإلماع \ 76، 77.(13/230)
وقال: ولهذه العلة لم يخرج البخاري من حديث ابن بكير. عن مالك إلا القليل، وأكثر عنه عن الليث. قالوا: لأن سماعه كان بقراءة حبيب (1) وقد أنكر هو ذلك (2) وعند الحديث عن الأخذ بالإجازة قال: ولمالك شرط في الإجازة أن يكون الفرع معارضا بالأصل حتى كأنه هو، وأن يكون المجيز عالما لما يجيز، ثقة في دينه وروايته، معروفا بالعلم، وأن يكون المجاز من أهل العلم متسما به.
وقال أبو عمر الحافظ: الصحيح أنها لا تجوز إلا لماهر بالصناعة (3) .
ولذلك تجد الكتب العلمية القديمة حافلة بالسماعات التي كان المقصود منها التدليل على أن الكتاب صحيح، وليكن الاعتماد عليه، لكون الذين نقلوه إلينا بالسماع ثم الكتابة هم علماء عدول، حملوا الأمانة، ثم أدوها إلى من بعدهم كما هي.
__________
(1) الإلماع \ 78.
(2) الإلماع \ 95.
(3) شرح المواهب اللدنية 5 \ 454.(13/231)
9 - الإسناد من اختصاص المسلمين:
وبهذا تبين أن الإسناد نعمة من نعم الله خص بها هذه الأمة ولذا قال أبو حاتم الرازي: لم يكن في أمة من الأمم منذ خلق الله آدم، أمناء يحفظون آثار الرسل، إلا في هذه الأمة (1) وقال محمد بن حاتم بن المظفر: إن الله تعالى قد أكرم هذه الأمة وشرفها وفضلها بالإسناد. وليس لأحد من الأمم كلها قديمها وحديثها إسناد موصول، إنما هو صحف في أيديهم. وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم (2) وقال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله: وعلم الإسناد والرواية مما خص الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم وجعله سلما إلى الدراية. فأهل الكتاب لا إسناد لهم يأثرون
__________
(1) شرح المواهب اللدنية 5 \ 453.
(2) مجموع الفتاوى 1 \ 9.(13/231)
به المنقولات. وهكذا المبتدعون من هذه الأمة أهل الضلالات. وإنما الإسناد لمن أعظم الله عليه المنة أهل الإسلام والسنة يفرقون به بين الصحيح والسقيم والمعوج والقويم. وغيرهم من أهل البدع والكفار، إنما عندهم منقولات يأثرونها بغير إسناد وعليها من دينهم الاعتماد، وهم لا يعرفون فيها الحق من الباطل ولا الحالي من العاطل. وأما هذه الأمة المرحومة وأصحاب هذه الأمة المعصومة، فإن أهل العلم منهم والذين هم من أمرهم على يقين. فظهر لهم الصدق من المين كما يظهر الصبح لذي عينين (1) .
وهذا تحقيق عظيم لم يسبق إليه شيخ الإسلام - رحمه الله - إذ استنتج من كون الإسناد من خصائص المسلمين، أن ما ليس من الإسلام الصحيح من العقائد والآراء، فإنه لا سند له يعتمد عليه، وإنما هي أقوال بلا دليل ومنقولات بغير إسناد. وقد فصل " هذا الكلام الإمام الأندلسي أبو محمد علي بن حزم رحمه الله في كتابه (الفصل في الملل والنحل) أحسن تفصيل، حيث قسم نقل المسلمين إلى ستة أقسام، وأثبت أن نقل الثقة عن الثقة، حتى يصل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجد عند غير المسلمين، وأن المبادئ الأساسية للإسلام والشريعة المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم وما يتعلق به من الأحكام، كلها ثابت بهذا النوع من النقل.
__________
(1) راجع الفصل في الملل والنحل \ تاريخ تدوين حديث للدكتور محمد زبير الصديقي \ 125.(13/232)
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
عبقري العصر وأستاذ الجيل
للأستاذ أحمد فهيم مطر
تمهيد:
قبل أن نتكلم عن حياة الإمام الشيخ الجليل محمد بن عبد الوهاب عبقري العصر وأستاذ الجيل، والذي كان له الأثر الكبير في صفاء العقيدة ونقائها من الشرك بعد أن ضل الناس وزاغوا، وحادوا عن الطريق المستقيم، وخالفوا الكتاب والسنة، واتبعوا السبل المتفرقة التي نهى الله عنها، ولم يستجيبوا لأمر الله سبحانه وتعالى حين قال في كتابه الكريم: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) ولم ينتهوا عند تحذير الله لهم حين قال سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (2) وقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (3) وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من التفرق في الدين، والاختلاف فيه، والبعد عن غواية الشيطان الذي يجرهم إلى الضلالة بأساليبه الملتوية، ووسوسته الخبيثة، فقد
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153
(2) سورة آل عمران الآية 105
(3) سورة الأنعام الآية 159(13/233)
أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وقد سئل عنها الرسول الكريم فقال: «ما أنا عليه اليوم وأصحابي (1) » . وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة، فعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني أهل الأهواء - كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة (2) » .
فلا نجاة لأحد إلا باتباع القرآن الكريم وسنة الرسول الأمين وأصحابه البررة الطاهرين.
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب الفتن '' باب افتراق الأمم '' بهذا المعنى.
(2) رواه أبو داود في كتاب السنة '' باب شرح السنة '' بهذا المعنى.(13/234)
عودة الجاهلية الأولى:
في أوائل القرن الثاني عشر الهجري كانت الجزيرة العربية تغط في جهل عميق، وتسبح في بحر من الظلم والفسق والتغيير والتبديل، فلا ترى أثرا لدعوة ولا لإصلاح مما أفضى بها إلى الشرك كشرك الجاهلية الأولى، فقد كثر الاعتقاد في أشياء كثيرة كالأشجار والأحجار والقبور والأضرحة، والتبرك بها، والنذر لها، والذبح عندها، وطلب الحاجات منها، والتوسل إليها، وتمسح المصابين والمرضى وذوي العاهات بها، ابتغاء الشفاء، تاركين الله جانبا، ناسين كتابه الكريم وسنة رسوله الأمين، وإذا سألتهم عن ذلك أجابوا بالإجابة التي أجاب بها المشركون الأوائل {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (1) ذلك هو المدخل الذي يدخل منه الشيطان على ابن آدم ليضله عن سبيل الله، وقد صار ذلك بتعاقب الأيام ومر السنين والأسباب في ذلك كثيرة. فقد كانت الأعراب تنزل البلدان وقت الثمار وصار منهم رجال ونساء يطببون ويداوون، فإذا كان في أحد من أهل البلدة مرض أو في أحد أعضائه أتى إلى مطببه فوصف له الدواء بأن يقول له: اذبح في الموضع الفلاني كذا وكذا إما خروفا بهيما أسود وإما تيسا أصمع. ثم يقولون لهم لا تسموا على ذبحه وأعطوا المريض منه كذا وكذا وكلوا منه كذا وكذا واتركوا كذا وكذا. فربما يشفي الله مريضهم فتنة لهم واستدراجا فتكثر الأقاويل وتنتشر بين الناس فيقعون في حبائل الشيطان.
__________
(1) سورة الزمر الآية 3(13/234)
وعكفوا على ضلالاتهم وأوثانهم ونذورهم وذبائحهم واعتقدوا في هذه الأشياء التي لا تضر ولا تنفع وصدق الله العظيم {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) وجعلوا لله شركاء وأندادا يدعونهم من دون الله ونسوا أن الله واحد لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. قال الله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (2) وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (3) .
ونسوا أن الضار والنافع هو الله وأنه هو الملجأ عند الشدة والمعين عند الحاجة قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (4) وقال تعالى {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (5) ولقد كان ما يرتكبه الناس من أوضار وآثام يندى لها الجبين خزيا ويقشعر منها قلب كل مؤمن. ومن ذلك أنهم كانوا يقصدون قبر زيد بن الخطاب يدعونه لتفريج الكرب وكشف الضر، وكانوا يذهبون إلى الدرعية زاعمين أن بها قبور بعض الصحابة يعبدونهم ويدعونهم ويتوسلون إليهم ولقد انطبق عليهم قول الله تعالى {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} (6) وكأن الجواب كان حاضرا {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (7) وكانوا يتوجهون إلى ذلك الغار الموجود بالدرعية أيضا، ويزعمون أن الله خلقه في الجبل لامرأة تسمى بنت الأمير أراد بعض الفسقة أن يظلمها فصاحت ودعت الله فانفلق لها الغار بإذن الله، فأجارها من ذلك السوء، فكانوا يرسلون الطعام واللحم وأنواع الهدايا.
__________
(1) سورة الحشر الآية 19
(2) سورة النحل الآية 51
(3) سورة الأعراف الآية 33
(4) سورة البقرة الآية 186
(5) سورة غافر الآية 60
(6) سورة الصافات الآية 86
(7) سورة الزخرف الآية 22(13/235)
ولقد كانت هذه الضلالات وغيرها تعم الجزيرة العربية كلها. فالحرم المكي من أطهر البقاع على ظهر الأرض - زاده الله تشريفا وطهرا - كانوا يفعلون فيه الأفاعيل وكانت الأعراب تأتي فيه المنكر والفسوق والعصيان ما يبعث في النفس الأسى والكمد والحسرة والألم، ولقد توعد الله من يلحد فيه أو يظلم بالعذاب الأليم. قال الله تعالى {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) ولكن الله تعالى لا يعجل بالعقاب حتى تكون هناك فرصة للتوبة والندم والرجوع إليه سبحانه وتعالى.
ولقد بلغ من انتهاكهم حرمة الحرم أنه لو لجأ إليه سارق أو غاصب أخذوه، أما إذا لجأ إلى بعض قبورهم مما يعظمون مثل قبر المحجوب الذين كانوا يلتمسون عنده الشفاء والشفاعة تركوه وشأنه ولم يتعرضوا له بسوء أو عقاب.
وقد كانت هناك قبور كثيرة يعظمونها ويستغيثون بأصحابها ويقدمون لها القرابين ومن ذلك ما كان يفعل عند قبر ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين. وما كان يفعل عند قبر عبد الله بن عباس وناهيك بما كان يفعل عند قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم كالانحناء والسجود كذلك، وخضوعا وكتعفير الخدود وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولعن من يفعله.
ولقد كان الشيطان عونا ومساعدا لهم ومزينا هذه الأعمال في أعينهم، فوضع لهم قبرا في جدة طوله ستون ذراعا وأوحى لهم بأنه قبر أمهم حواء.
__________
(1) سورة الحج الآية 25(13/236)
الجاهلية تعم المسلمين:
ولقد عمت هذه الجاهلية التي ضربت أطنابها في الجزيرة العربية جميع بلاد المسلمين، ولا من داع أو أثر لداع أو منكر على الناس ما هم فيه من البدع والخرافات والضلالات والشرك الذي يرتكبونه جهارا تحت سمع العلماء وبصرهم، وللأسف الشديد كان هناك من العلماء من شجعهم على ذلك ممن لبسوا الصوفية وخزعبلاتها.
فنرى في مصر آثاما يندى لها الجبين وتخزى لها الإنسانية وذلك من الأمور التي تحصل عند قبور الأولياء من أمثال السيدة زينب والإمام الشافعي والحسين بن علي رضي الله عنه وإبراهيم الدسوقي وأبي الحسن الشاذلي والسيد أحمد البدوي. فنرى العامة من الناس يقصدون هذه الأماكن ويتمسحون بها ويتشفعون بأصحابها(13/236)
ويقدمون لها القرابين ويسمون السيدة زينب رئيس الديوان. ولقد صدق فيهم قول الشاعر الذي رأى وسمع:
ورأيت في روما كنيسة بطرس ... تبلي الشفاه بها حديد الباب
ورأيت في طنطا ضراعة قائل ... يا أيها البدوي فرج ما بي
أظن أنه لا يوجد شرك أكثر من هذا الشرك وضلال فوق هذا الضلال.
وفي بلاد اليمن يوجد مثل ذلك وأكثر منه. فعندهم قبر الهادي والبرعي وابن علوان وغيرهم من الأحياء والأموات الذين يعظمونهم ويقدمون لهم القرابين والذبائح ويطلبون منهم العون والمدد.
وفي بلاد الشام ما يفوق هذا كله، وما يتجاوز الحصر من عبادة القبور وأصحاب القبور وطلب الشفاعة والاستغاثة عندهم ومنهم.
وفي العراق كذلك ترى القبور الكثيرة التي يؤمها الناس لطلب الخير والمنفعة، كقبر الإمام أبي حنيفة ومعروف الكرخي ومشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد جعلت منه الرافضة وثنا يعبد من دون الله، يخشعون في حضرته أكثر مما يخشعون لله ويتوجهون له بالعبادة والدعاء من دون الله، ويحلفون بالله كذبا ولا يحلفون به كذبا أبدا؛ لأنهم يزعمون أن عنده مفاتح الغيب، ولهذا يقولون إن زيارته أفضل من سبعين حجة، وكذلك مشهد الحسين رضي الله عنه، فنرى عنده من يلطم الخدود ويشق الجيوب ويرفع صوته بالبكاء والعويل ولبس السواد وغير ذلك من هذه المنكرات التي تخرج بهم عن الإسلام.
هذا وفي جميع البلاد العربية والإسلامية نرى هذه الفتن وتلك الضلالات وهذه البدع والخرافات والشرك بالله سبحانه وتعالى.
ولهذا كان لا بد من ظهور رجل قوي وداعية شجاع ليأخذ بيد الناس إلى ما فيه الخير والفلاح، ولا يخشى في ذلك أميرا أو حاكما، ولا يخاف قتلا أو نفيا أو سجنا أو تشريدا.
فكان من فضل الله ورحمته بعباده أن ظهر الداعية الكبير، عبقري العصر وإمام الجيل وأستاذه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الذي عرفهم الطريق وأوضح لهم الحلال من الحرام، وصحح لهم العقيدة وطهرهم من الشرك والأوثان.(13/237)
حياة الشيخ:
نسبه: هو محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن مشرف بن عمرو بن معضاد بن ريس بن زاخر بن محمد بن علوي بن وهيب بن قاسم بن موسى بن مسعود بن عقبة بن سنيع بن نهشل بن شداد بن زهير بن شهاب بن ربيعة بن أبي سود بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناه بن تميم بن مر بن أد بن طانجة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. وهو نسب ثابت ومنقول بالتواتر.
مولده: ولد رحمه الله تعالى سنة ألف ومائة وخمس عشرة من الهجرة النبوية الشريفة في بلدة العيينة وهي من بلاد نجد.
أصله: يرجع أصل الشيخ إلى - الوهبة - وهي بطن من تميم مقرهم في بلدة - أشيقر - إحدى بلدان الوشم وكانت أسرته تقيم بها إلا أن جده سليمان انتقل إلى روضة سدير قاضيا لهم، فحصلت بينه وبين بعض أعيانها مغاضبة فانتقل إلى العيينة حيث ولد والد الشيخ، ثم ولد الشيخ بعد ذلك في العيينة.
نشأته: نشأ في بلدة العيينة وتلقى العلم فيها فحفظ القرآن الكريم قبل العاشرة من عمره، وكان حاد الفهم، وقاد الذهن، سريع الحفظ، ذكيا فطنا، وكان أبوه يتوسم فيه خيرا ويتعجب من فهمه وإدراكه مع صغر سنه، وزوجه أبوه وسنه اثنتا عشرة سنة وقدمه ليؤم الناس لتمكنه من معرفة الأحكام، ثم استأذن والده في الحج فأذن له ثم قام بزيارة المسجد النبوي الشريف ثم عاد إلى العيينة.
المدرسة الأولى: كانت مدرسته الأولى مدرسة والده الذي تلقى على يديه دراسة الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ثم دراسة بعض العلوم الشرعية واللغوية. وكان الشيخ شغوفا بالعلم يقرأ كل ما يقع تحت يده من كتب التفسير والحديث والعقائد وخاصة كتب الشيخ ابن تيمية وكتب ابن القيم فانشرح صدر الشيخ لهذه الكتب في معرفة التوحيد وتحقيقه ونواقضه التي تضل عن سبيله، وأنكر ما حوله من البدع والخرافات والضلالات والشرك الذي انحدر فيه المسلمون، وقد رأى من الناس لجاجة جعلته يفطن إلى أن يتسلح بالعلم ويستزيد منه، فهو خير معين له على دعوته وإلى(13/238)
ما يريد الجهر به فصمم على أن يرحل في طلب العلم ليكون سلاحه في معركته القادمة.
رحلاته: قام الشيخ بعدة رحلات ما بين مكة والمدينة والبصرة وغيرهن من البلدان؛ ليتزود من العلم ويتسلح بالمعرفة لإقناع المعاندين المكابرين بالحجة والبرهان.
رحلته إلى مكة والمدينة:
وصل الشيخ إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج والتزود من العلم، فأخذ يتردد على العلماء ويباحثهم ويأخذ عنهم حتى استفاد منهم، وقد وجد بالمدينة عالمين جليلين كان لهما أكبر الأثر في حياته وهما الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف النجدي، والعالم الكبير محمد بن حياة السندي، وقد كانوا يشاهدون ما يفعله الناس عند الحجرة النبوية الشريفة من الدعاء والاستغاثة فقال الشيخ السندي للشيخ ابن عبد الوهاب: ما تقول في هؤلاء؟ قال: {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) وأقام بالمدينة فترة ثم رجع إلى نجد.
رحلته إلى البصرة: رجع الشيخ إلى بلده وأقام بها ما يقرب من السنة، ثم عزم على الرحيل إلى البصرة، وفي البصرة سمع الحديث والفقه من جماعة من العلماء، وقرأ النحو وأتقنه وكتب كثيرا من اللغة والحديث، وكان يلازم هناك أحد علماء البصرة وهو الشيخ محمد المجموعي البصري وفي أثناء إقامته كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. كان يأمرهم تجنب البدع وترك الشرك ويحثهم على طريق الحق والاستقامة، ويعلن للناس أن الدعاء لله فمن صرف شيئا منه إلى سواه كفر، وكان يبين لهم أن محبة الأولياء والصالحين إنما هي باتباع طريقهم وليست باتخاذهم آلهة من دون الله.
وتكررت منه الدعوة فآذاه بعض أهل البصرة وأخرجوه منها وقت الهجيرة، فخرج منها ماشيا على قدميه فلما وصل منتصف الطريق بين البصرة والزبير اشتد العطش به حتى كاد يموت، فلحقه رجل مكاري يدعى " أبا حميدان " من أهل الزبير فرأى عليه الهيبة والوقار، فسقاه وحمله على حماره حتى وصل الزبير، فمكث بها أياما ثم أراد الذهاب إلى الشام ولكن نفقته قد ضاقت فعدل عن المسير إليها.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 139(13/239)
رحلته إلى الأحساء:
مكث الشيخ ببلدة الزبير أياما وأراد الرجوع إلى نجد بعد ضياع نفقته، وفي طريق عودته توجه إلى الأحساء ونزل بها ضيفا على الشيخ العالم عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الأحسائي. وقد كان الشيخ ينشر دعوته في كل مكان يحل به ولا يضيع فرصة تمر به إلا أبدى رأيه وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ثم توجه منها إلى " حريملاء " وكان أبوه عبد الوهاب قد انتقل إليها من العيينة، وأقام بها بعد أن حصل بينه وبين واليها منازعة، فعزله عن القضاء فترك له العيينة وأقام " بحريملاء " وفي حريملاء أقام الشيخ مع أبيه سنين يقرأ ويتعلم منه، ثم بدأ يعكف على دراسة القرآن الكريم وكتب السنة وتفاسير علماء السلف فاستفاد من ذلك فائدة كبيرة، وكان مما استفاد منه أكثر من غيره كتب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، وكتب تلميذه الشيخ محمد بن القيم فقد وجد في كتبهما العلوم الصحيحة والأقوال المبنية على الكتاب والسنة والتحقيق والأحكام المطابقة للعقل والنقل مما زاده فهما وإدراكا، وأهله لأن يكون من الدعاة المخلصين الذين صمدوا أمام الإيذاء ووقفوا في وجه الطغيان وحملوا راية الحق والجهاد والإصلاح، فنادى بدعوته في حريملاء جهرا، ولم يفعل ذلك إلا بعد موت والده الذي كان يشفق عليه من الناس ولا يريده أن يشتد عليهم، فلما مات والده وكان ذلك سنة ألف ومائة وثلاث وخمسين من الهجرة أعلن دعوته وجهر بها بين الناس، واشتد في إنكاره لمظاهر الشرك والبدع وجد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخذ يدعو إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة وجعل يلوم على العلماء تهاونهم وكتمهم الحق عن الناس وكان يخاطبهم بقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (1) .
أهل حريملاء يستجيبون للشيخ: استجاب للشيخ بعض أهل حريملاء واشتهر أمره وذاع صيته بين الناس، فوفد عليه أناس كثيرون من البلدان المجاورة وشرعوا في قراءة التفسير والحديث والتوحيد والسيرة عليه وكذلك الفقه، فكثر أتباعه وصار ينكر كل ما يراه مخالفا للشريعة، وأنكر على بعض الموالي لرؤساء وأعيان حريملاء فسقهم وفجورهم
__________
(1) سورة البقرة الآية 159(13/240)
وأراد منعهم فتسوروا عليه داره وأرادوا قتله، ولكن أتباع الشيخ علموا بذلك فظلوا في حراسته وأرهبوهم فرجعوا خائفين.
انتقال الشيخ إلى العيينة: بعد أن وقعت للشيخ هذه الحوادث في بلدة حريملاء انتقل منها إلى العيينة لأن حريملاء صغيرة لا تتسع للدعوة ونشرها، أما العيينة فهي من أكبر مدن نجد وأكثرها سكانا، وكان أميرها إذ ذاك عثمان بن حمد بن عبيد الله بن معمر، فقابله أميرها بالحفاوة والتكريم وتزوج فيها الجوهرة بنت عبد الله بن معمر.
وناصره الأمير وآزره وألزم العامة والخاصة بامتثال أمره وقبول قوله، فقويت شوكته واتسع نفوذه وذاع صيته واشتهر أمره فقام بقطع الأشجار المعظمة وكسر الأحجار وهدم القباب والمشاهد وتعديلها على السنة، وقد هدم بيده قبة زيد بن الخطاب لأن الناس كانت تتهيب هدمها وتخاف من صاحبها أن ينزل بهم العقاب، وقد انتظروا الليلة التي هدمها فيها الشيخ وهم يترقبون له حدثا ولكنه ظهر بأحسن حال، فعلم جهال القوم أن ما يفعله الشيخ صحيح، وأن ما كانوا عليه باطلا وشركا وضلالا قال الله تعالى: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (1) ولكن هل يقتنع أهل الضلالة ويقلعوا عن غيهم وضلالهم ويتبعوا الهدى والنور. لا، إنهم في غمرة وجهالة وعناد وخصام لكل ما هو خير للإنسانية فتجمعوا على المخاصمة والحرب. وتأليب الناس على الشيخ وإذاعة الأباطيل والأكاذيب ينشرونها بين الناس، ولجئوا في ذلك إلى ضعاف النفوس من علماء تلك البلاد الذين لا يبتغون من علمهم وجه الله وإنما يسيرون وراء منفعة مادية أو مصلحة دنيوية، فألف هؤلاء العلماء المصنفات في تضليل الشيخ وأنه قد غير في الشرع والسنة، وأغروا به الخاصة والعامة وخصوصا السلاطين والحكام، وخوفوهم منه على سلطانهم وحكم بلادهم وخروج الناس عليهم وإعلان عصيانهم.
الدعوة تنتشر رغم المعارضة: لقد اشتد أمر الشيخ وقوى عوده فقام بتنفيذ بعض الأحكام الشرعية فنفذ الحكم في امرأة زانية أقرت وهي محصنة. وفشا التوحيد وانتشر واطمأن الناس إلى حكم الله. ولكن أعداء الحق والعدالة لا ينامون يخافون على
__________
(1) سورة ص الآية 5(13/241)
ولاياتهم ومناصبهم، فهم دائما يقفون في وجه كل إصلاح بالدعاية تارة ونشر الإشاعات والسموم تارة أخرى. فذهب الخصوم إلى حاكم الأحساء والقطيف وما حولها - سليمان بن محمد الحميدي وخوفوه على ملكه، فأرسل إلى عثمان بن معمر كتابا يأمره فيه بقتل الشيخ أو إخراجه من العيينة وإن لم يفعل قطع عنه خراجه الذي عنده.
انتقال الشيخ إلى الدرعية: تلقى الأمير عثمان بن معمر كتاب أمير الأحساء والقطيف ووقع في حيرة من أمره فماذا يفعل؟ ؟ وهو لا يستطيع أن يستغني عن الخراج، فأطلع الشيخ على الأمر، وبعد محاورة بينه وبين الشيخ كان يبدو فيها ضعيفا مستخزيا مستهولا مخالفة أمير الأحساء لإيثاره الدنيا على الآخرة. فأمر الشيخ بالخروج من العينية. فخرج منها إلى الدرعية وكان ذلك سنة ألف ومائة وثمان وخمسين من الهجرة، وفي الدرعية نزل على عبد الله بن سويلم، وفي اليوم التالي نزل في دار تلميذه الشيخ أحمد بن سويلم؟
الأمير محمد بن سعود يبايعه: علم الأمير محمد بن سعود بالشيخ فركب إليه في تلك الدار التي ينزل فيها، وأظهر له من التعظيم والتكريم شيئا كثيرا، وقال له: أبشر ببلاد خير من بلادك وأبشر بالعز والمنعة، فقال الشيخ: وأنا أبشرك بالعز والتمكين وهذه كلمة " لا إله إلا الله " من تمسك بها وعمل بما فيها ونصرها ملك بها البلاد والعباد. وأخذ الشيخ يشرح للأمير حقيقة الإسلام، ويبين له أصول التوحيد وما عليه أهل نجد من الجهل والبدع والشرك، فلما قرر الشيخ للأمير هذه الأمور المهمة انشرح صدر الأمير لها وقال: لا شك أن ما دعوت إليه أيها الشيخ هو دين الله الصحيح والعقيدة الحقة، وأن ما عليه أهل نجد هو ضلال، ولكن أخشى إن نحن أيدناك ونصرناك أن تزكنا إلى غيرنا وترحل عنا، وإن لنا على الدرعية قانونا نأخذه منهم في وقت الثمار فأخاف أن تحرمه علينا، فقال الشيخ أما الأولى. فابسط يدك أبايعك. الدم بالدم والهدم بالهدم والبقاء معكم. وأما الثانية فلعل الله أن يفتح لك الفتوحات ويعوضك عما تأخذه منهم ومنذ ذلك اليوم وقد أصبح للدرعية شأن وأي شأن.
الدرعية مركز الدعوة:
لقد بايع الأمير محمد بن سعود على دين الله ورسوله والجهاد في سبيله وإقامة شرائع الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واستقر الشيخ في الدرعية فتسلل إليه(13/242)
أصحابه وأتباعه من أهل العينية، وصارت الكتب ترسل من الداعية الكبير إلى أمراء نجد وعلمائها بالدعوة إلى الله تعالى وإلى دينه الحق، والجيوش تبعث من الدرعية إلى القرى المجاورة والمدن والشيخ لا يفتر عن الجهاد بقلمه ولسانه، وينظم الجيوش ويبعث البعوث مع الإمام محمد بن سعود الذي حمل راية الجهاد والنضال فازدهرت الدعوة وانتشرت وقوي سلطانها.
الهجوم على الدرعية:
راع أنصار الشيطان وأعداء الحق أن يروا الدعوة تنتشر وتزدهر وتعلو وترتفع، فجمعوا جموعهم وألبوا الأمراء والبوادي في الصحراء وهجموا على الدرعية بقيادة دهام بن دواس، وقتل أولاد الأمير محمد بن سعود فيصلا وسعودا، ولكن ذلك لم يزد الأمير إلا قوة وصلابة ولم يضعف ولم يستكن ولم يتزحزح وصبر على هذا البلاء واحتسب أولاده شهداء في سبيل الله، فازداد الداعون والمحاربون قوة فوق قوتهم ومنعة فوق منعتهم وإيمانا بالحق وأبطل الله كيد أعدائهم ورد كيدهم إلى نحورهم {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (1) .
وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد كانت هذه الواقعة وهذا الهجوم أشبه بهجوم المشركين على المدينة في غزوة الأحزاب، فأبطل الله كيدهم وشتت جموعهم ونصر الله رسوله وجنده وصارت كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
آل سعود يواصلون تأييد الدعوة:
بعد كل هذه الأحداث الدامية والصدمات المتكررة والحرب الطاحنة الداهمة التي راح ضحيتها أبناء الأمير محمد بن سعود فقد ظن الجهلاء أن الأمير سيترك نصرة الشيخ ومؤازرة الدعوة، ولكن الله سبحانه وتعالى قد شرح صدره لها وقوى إيمانه بها، وكيف لا وهي دعوة خير الأنبياء والرسل. . دعوة الحق والهداية للبشرية قاطبة.
__________
(1) سورة التوبة الآية 32(13/243)
صهرت الأمير هذه الأحداث فزادته متانة وصلابة، وأعد الجيوش لمحاربة أعداء الله وناشري الكفر والشرك والضلال حتى نصر الله دعوته ودانت البلاد كلها وفتحت الرياض وما حولها من البلاد، وكان يشارك الأمير في الجهاد ابنه عبد العزيز، وكان الشيخ يشاركهما في تنظيم الجيوش وبعث السرايا كما كان يشاركهما في المشورة بشئون الحكم وأحوال الدولة، ولما اتسعت رقعة الدولة بعد وفاة الإمام محمد بن سعود وتولية ابنه عبد العزيز مكانه عقد الشيخ الولاية بالعهد لسعود بن عبد العزيز، وصار سعود هو قائد الجيوش واكتفى الشيخ بالأعمال الدينية والإشراف عليها في جميع أنحاء الدولة، وقد توزعت المهام بذلك نظرا لكثرتها، وقد أصبحت الدرعية عاصمة للجزيرة العربية ومثابة وإشعاعا لجميع البلدان المجاورة وتوفر المال بها وأنعم الله على أهلها، وأفاء عليهم مما كسبوه من أعدائهم وصارت بها نهضة دينية وعلمية وتوافد العلماء عليها من كل حدب وصوب، وراجت سوق العلم بها وكثرت الندوات الدينية وحلقات الدروس في المساجد وعلاوة على ذلك فقد صار بها جيش منظم قوي كامل العدة والسلاح لمحاربة المرتدين وأهل البدع والشرك، ولقد نجحت الدعوة نجاحا كبيرا، ورأى الشيخ ومؤازروه من آل سعود ثمرة نجاحهم بفضل الله ثم بفضل جهادهم ومثابرتهم وصبرهم وصدق الله العظيم حيث يقول: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (1) . وقوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (2) .
__________
(1) سورة الروم الآية 47
(2) سورة الحج الآية 40(13/244)
وفاة الشيخ:
بعد هذا الجهاد المرير في سبيل دعوة الخير والإصلاح حتى جمع الله عليها القلوب والأفئدة ولم شعث الجزيرة بعد الفرقة وتوحدت كلمتها وارتفعت رايتها وحكمت الناس بالعدل وحكمت فيهم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأصبح الناس في سعادة ونعمة وافرة من الله، وذلك بفضل الله ثم بفضل هذا الداعية الكبير والمجاهد العظيم، الذي استمر في دعوته رغم كثرة الخصوم والأعداء، وبعد أن رأى الشيخ ثمرة نجاحه واطمأنت نفسه واستراح ضميره، وتمت كلمة الله(13/244)
وامتزجت صدورهم وأرواحهم بها صعدت روحه إلى بارئها راضية مرضية وصدق الله العظيم حيث يقول: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} (1) {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} (2) {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} (3) {وَادْخُلِي جَنَّتِي} (4) وكان ذلك آخر ذي القعدة من سنة ألف ومائتين وست من الهجرة. رحمه الله رحمة واسعة وأفسح له في جناته.
وقد كانت فجيعة المسلمين به كبيرة ونكبتهم فيه عظيمة ومصابهم فادحا، ولقد شيعه الناس بقلوب منفطرة وألسنة ملجمة وأعين شاخصة وكواهل واهنة، وأخذوا يعزون بعضهم بعضا لأن كل واحد منهم يشعر في قرارة نفسه أن المصاب مصابه وأن الفجيعة فجيعته.
ولقد رثاه الشعراء وأثنى عليه العلماء ورثاه الشيخ حسين بن غنام من قصيدة طويلة أولها:
إلى الله في كشف الشدائد نفزع ... وليس إلى غير المهيمن مفزع
لقد كسفت شمس المعارف والهدى ... فمالت دماء في الخدود وأدمع
__________
(1) سورة الفجر الآية 27
(2) سورة الفجر الآية 28
(3) سورة الفجر الآية 29
(4) سورة الفجر الآية 30(13/245)
آثار الشيخ العلمية:
كان الشيخ رحمه الله تعالى يوزع وقته بين العبادة وبين حلقات الدروس التي كان يعقدها لوعظ الناس وإرشادهم وبين مهام الحكم وتصريف أمور الدولة التي اشترك فيها مع آل سعود، وبين التأليف. فنراه لم يغفل هذا الجانب بالرغم من مشاغله الكثيرة فألف مؤلفات عدة نافعة وكتبا مفيدة.
طريقته في التأليف:
وكانت له طريقة فريدة في التأليف الذي يدعم كلامه بالحجج والبراهين القوية المستمدة من كتاب الله وسنة رسول الله وبذلك لا يسع القارئ إلا أن يسلم بهذه(13/245)
الأدلة المقنعة المفحمة التي تطمئن إليها النفس ويرتاح لها الضمير ويجني الإنسان من ورائها ثمرة وفيرة.
وقد نهج الشيخ في ذلك منهج شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم. وكان للمكتبة الإسلامية نصيب وافر من تلك الكتب والرسائل التي ألفها الشيخ، وكانت تتميز بطابع خاص من فهم للإسلام وروحه وعقيدته وتعاليمه السامية دون تأول أو التواء أو تعقيد. وقد كان أسلوبها سهلا ميسرا لكل قارئ. وإن أفضل ما نطلقه على هذا الأسلوب الأسلوب " السهل الممتنع ".
بداية النهضة:
لقد اتفق المؤرخون على أن بداية النهضة العلمية والأدبية في العصر الحديث هو ظهور دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، لما كان لها من اليد الطولى في تحريك المشاعر وإلهاب العواطف والسمو بالروح وإعادة المجد والعزة للغة العربية، وإلباسها أبهى الحلل وأزهى الثياب.
مؤلفات الشيخ:
ألف الشيخ مؤلفات كثيرة منها:
1 - كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد.
2 - كتاب الكبائر والمسائل التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية.
3 - مختصر السيرة النبوية.
4 - مختصر زاد المعاد.
5 - مختصر الإنصاف والشرح الكبير.
6 - أصول الإيمان وفضائل الإسلام.
7 - أحاديث الفتن.
8 - أدب المشي إلى الصلاة.
9 - كشف الشبهات.
هذا وقد قام الشيخ - لغير هذه الكتب - بتصنيف عدة نسخ وأوراق وفتاوى ومراسلات فقهية أكثرها في تقرير التوحيد.(13/246)
وله أيضا في تفسير القرآن الكريم باع طويل فقد كان غاية في الدقة والإحكام.
يأتي على كل آية وقصة بعدة مسائل، حتى أتى في قصة موسى والخضر في سورة الكهف بقريب من مائة مسألة.(13/247)
الشيخ كان أسوة:
وقد نهل من منهل الشيخ وشرب من مشربه تلاميذه وأنصاره ومريدوه فحملوا عنه العقيدة الصحيحة والتضحية والجهاد في سبيل الدعوة، كما أخذوا عنه العزم وقوة الإرادة والمثابرة في سبيل نشر الدعوة الإسلامية بالتأليف والكتابة والخطابة ونشر الرسائل، حتى قامت دعائم التوحيد عالية خفاقة على ربوع الأرض، ونسأل الله أن يوفق المسلمين في كل مكان لفهم حقيقة التوحيد والسير في سبيل الله على هدى من الله وبصيرة من علم، حسب ما رسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين لأصحابه.(13/247)
صفحة فارغة(13/248)
فترة مشرقة للجهاد الإسلامي في الحبشة
من خلال كتاب " تحفة الزمان أو فتوح الحبشة "
لعرب فقيه الجيزاني
للأستاذ: فهيم محمد شلتوت
لقد عاشت أمتنا الإسلامية ردحا من الزمن يعلو صوتها على كل الأصوات، تأمر فتطاع، تسعى الأمم لنيل رضاها واجتلاب ودها، ترهب هيبتها كل أرض لا تدور في فلكها، وكل أمة لا تدين بالولاء لها. وانطلق دعاتها وأجنادها يفتحون الأقاليم ويخضعون أهل الأرضين، فلم يقف أمامهم عباب زاخر ولا صحراء شاسعة ولا جبال شاهقة، فحيثما مددت البصر ترى راية الإسلام خفاقة وحيثما أصغيت السمع سمعت تكبير المكبرين وتوحيد الموحدين، فسبحان الذي بيده ملكوت السماوات والأرض وهو على كل شيء قدير.
ولما انفتحت لنا الدنيا على أرجائها، ويسرت للمسلم ترفها ورخاءها، وزينت له لهوها وزيفها ضعف أمامها، وأقبل عليها، وفتن بها، ورقت علاقته بتعاليم دينه.
وفي فترات ضعف المسلم هذه هاجمته جحافل الصليبيين، واستغلت شقاق المسلم مع أخيه المسلم، فانفردت بطرف فمزقته، ثم انثنت على الطرف الآخر(13/249)
فبددته. وكانت القاضية على دولة إسلامية استقرت في أوروبا أكثر من خمسة قرون.
وامتدت جحافل الصليبيين في غارات محمومة إلى المشرق الإسلامي على صورة غزوات متتابعة تحاول القضاء على الدولة الإسلامية في الشام وفلسطين ومصر، ولولا أن قيض الله للدولة الإسلامية قادة لا يخشون في الله لومة لائم يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ويعملون على عزة الإسلام والمسلمين لأصيب المشرق العربي بما أصيبت به الأندلس الإسلامية.
وإذا كانت الحروب الصليبية قد شغلت المشرق العربي ومصر بعد كائنة الأندلس فإن المتتبع لموجات الغارات الصليبية يهوله ذلك التخطيط والتوافق الذي يسود تلك الموجات، ويذكر بالخير أن الدولة الأيوبية في الوطن العربي قد تحملت عبء رد الصليبيين عن سواحل الدولة الإسلامية وثغورها، وأن الدولة المملوكية أيضا كانت لها بطولات في محاربة الصليبيين، واستطاعت أن تجليهم عن مواطن احتفظوا بها إبان الدولة الأيوبية.
بل إن ملوكهم في أخريات دولتهم فرضوا سلطانهم على جزر البحر الأبيض التي كانت تمثل قواعد لانطلاق أساطيلهم الحربية إلى السواحل الإسلامية، ونعلم أن السلطان الأشرف برسباي قد استولى على جزيرة قبرص وأسر ملكها جنيوس، وفرض الجزية على ملك رودس، ولم يقبل شفاعة سلاطين تركيا فيه، وامتدت هيبته إلى السواحل الأوروبية.
لقد اتجه التخطيط الصليبي إلى مهاجمة الدولة الإسلامية من البحر المتوسط، ومن جنوب شرقي مصر برا من الحبشة، ومثلت الحبشة دورا متلاحقا في ذلك، وخاصة بعد أن تهاوت الغزوات الصليبية القوية في حوض البحر الأبيض المتوسط، فراحت الحبشة كلما استبدت بها النزعة الصليبية تعتدي على جيرانها المسلمين، تقتل الرجال وتسبي النساء والذراري، وتفعل من الفعائل ما لا يتصوره عقل.
ولولا أن من دونوا التاريخ الأفريقي أعمتهم العصبية فلم يعرضوا الحوادث عرضا محايدا؛ لأنهم لم يخرجوا عن كونهم دعاة مسيحية في أي صورة من صورها، هذا(13/250)
في الوقت الذي شغل فيه المؤرخ العربي بمشرقه ودولته، وقل أن يتابع الأحداث في أفريقيا لبعده عنها وقلة المصادر التي تمده بالمعلومات عنها، لولا هذا لسودت فظائع الحبشة ووقائعهم بالمسلمين آلاف الصفحات من التاريخ.
ويخيل لي أن الحملات الصليبية في حوض البحر المتوسط قد أرهقت المؤرخين متابعة وإثباتا، فلم تعد لديهم طاقة يصرفونها إلى متابعة صليبية الحبشة وإثباتها، ومن هنا فقد اعتبر الباحثون أن المصادر التي عنيت بالتاريخ لدول شرق أفريقيا الممتدة إلى حوض النيل حتى النوبة ودنقلة ووسط السودان تعد قليلة إذا استثنينا ما كتبه الرحالة والمستكشفون.
وفي تراثنا العربي نشعر بقلة المصادر إذا قارناها بمصادر التاريخ للمشرف العربي أو شمال أفريقية، فحوادث المشرق الأفريقي تأتي متفرقة على مسافات بعيدة من المراجع المطولة، وما أفرد عنها إنما هو كتيبات أو رسائل صغيرة، يعني معهد الدراسات الأفريقية بإحصائها والاستفادة منها بعد تحليلها في ضوء المقاييس العلمية السليمة، ولعلنا بعد وصول وسائلنا إلى إحصاء تراثنا المخطوط والتعرف عليه في مواطنه في شرق أفريقية أو ما يلي ساحل البحر الأحمر من بلاد اليمن نعثر على مخطوطات تثري معارفنا عن هذه المنطقة.
وفي حديثي هذا عن صليبية الحبشة لن أعود إلى الوراء كثيرا، وإلا لاحتجت إلى أحاديث وأحاديث، ولكني سأقدم صورة لبعض ما جرى في القرنين التاسع والعاشر من الهجرة.(13/251)
تحدث المقريزي المتوفى سنة 844 هـ في كتابه " الإلمام بمن في الحبشة من ملوك الإسلام " عن الدويلات الإسلامية التي كانت تجاور الحبشة والتي أطلق عليها في تلك الأزمان الدول أو السلطنات الحبشية المسلمة، فأرخ لقيام دولة سعد الدين في هرر وتحرشات الحبشة بها، والحروب التي وقعت بينهما، ولكن كما قلت والكتاب رغم أنه يكاد يكون المصدر المفرد الوحيد إلا أنه أيضا يعد صغيرا لا يروي ظمأ الباحث عن علاقة المسلمين بالصليبية المتتابعة في الحبشة.(13/251)
وفي التمهيد لموضوعنا أسوق بعض ما ذكره المقريزي وابن تغري بردي في السلوك وفي النجوم الزاهرة، يقول ابن تغري بردي: في سابع جمادى الأولى من سنة 822 هـ: استدعى السلطان بطرك النصارى. وقد اجتمع القضاة ومشايخ العلم عند السلطان، فأوقف البطرك على قدميه ووبخ وقرع، وأنكر عليه السلطان ما بالمسلمين من الذل في بلاد الحبشة تحت حكم الحطى متملكهم، وهدد بالقتل، فانتدب له الشيخ صدر الدين أحمد بن العجمي محتسب القاهرة، وأسمعه المكروه من أجل تهاون النصارى فيما أمروا به في ملبسهم وهيئاتهم، وطال كلام العلماء مع السلطان في ذلك إلى أن استقر الحال ألا يباشر أحد منهم في ديوان السلطان ولا عند أحد من الأمراء، ولا يخرج أحد منهم عما ألزموا به من الصغار (1) .
ويقول في أخبار سنة 827 هـ: ورد على السلطان أن متملك الحبشة وهو أبرم، ويقال إسحاق بن داود بن سيف أرعد - قد غضب بسبب غلق كنيسة القيامة بالقدس، وقتل عامة من كان في بلاده من رجال المسلمين واسترق نساءهم وأولادهم وعذبهم عذابا شديدا، وهدم ما في مملكته من المساجد، وركب إلى بلاد جبرت فقاتلهم حتى هزمهم، وقتل عامة من كان بها وسبى نساءهم، وهدم مساجدهم، فكانت في المسلمين ملحمة عظيمة في هذه السنة لا يحصى فيها من قتل من المسلمين، فاشتاط السلطان غضبا وأراد قتل بطرك النصارى وجميع من في مملكته من النصارى، ورجع عن ذلك (2) .
ويقول المقريزي في أخبار سنة 832 هـ: وفر الأمير بزلار مباشر ولاية قوص من بلاد الصعيد إلى بلاد الحبشة، واتصل بملكها أبرم - إسحاق بن داود بن سيف أرعد - وعلم أتباعه الفروسية، وأغرى بعض المماليك الجراكسة ففروا إليه ولحقوا به، وأعدوا له دار سلاح، كما لحق بهم رجل من كتاب مصر الأقباط يقال له فخر الدين، فرتب له مملكته ونظم له جباية الأموال ودواوين الجند ورواتبهم -
__________
(1) النجوم [14 \ 81] .
(2) النجوم [14 \ 260] .(13/252)
وبالجملة كان لهؤلاء فضل تنظيم الدولة ورفع شأن ملكها، مما جعله يتطلع إلى الاستيلاء على ممالك الإسلام، بسبب ما وصفه هؤلاء من محاسنها، فبدأ بقتل المسلمين في مملكته وسبى نساءهم وذراريهم، بما في ذلك أولاد بعض ملوك الحبشة المسلمين، ثم كاتب ملوك الفرنجة يستعديهم على المسلمين في مصر على أن يهاجمها برا من الجنوب ويهاجمونها بحرا (1) .
وبقية الحديث في هذا الموضوع يتابعه ابن تغري بردي بتفصيل، فيقول في قصة فتح قبرص وهزيمة الجيوش المسيحية وأسر الملك جنيوس ملك قبرص وتأديب القراصنة الفرنج، ثم ما أعقب ذلك من قيام الحطي ملك الحبشة بمكاتبة ملوك الفرنجة ليقوموا معه بمهاجمة مصر والاستيلاء عليها، ويروي قصة العميل الجاسوس الخواجة نور الدين التبريزي العجمي، يقول ابن تغري بردي: وكان خبره أنه كان أولا من جملة تجار الأعاجم بمصر وغيرها، وكان يجول في البلاد بسبب المتجر على عادة التجار، فاتفق أنه توجه إلى بلاد الحبشة فحصل له بها الربح الهائل المتضاعف، وكان - في نفسه - قليل الدين مع جهل وإسراف، فطلب الزيادة في المال فلم يرم بوصله مراده، إلا أن يتقرب إلى الحطي ملك الحبشة بالتحف، فصار يأتيه بأشياء نادرة لطيفة، من ذلك أنه صار يصنع له الصلبان من الذهب المرصع بالفصوص الثمينة ويحملها إليه في غاية الاحترام والتعظيم كما هي عادة النصارى في تعظيمهم للصليب، وأشياء من هذه المقولة، ثم ما كفاه ذلك حتى أنه صار يبتاع السلاح المثمن من الخوذ والسيوف الهائلة والزرديات والبكاتر بأغلى الأثمان، ويتوجه بها إلى بلاد الحبشة، وصار يهون عليهم أمر المسلمين، ويعرفهم ما المسلمون فيه بكل ما تصل القدرة إليه، فتقرب بذلك من الحطي حتى صار عنده بمنزلة عظيمة. فعند ذلك ندبه الحطي بكتابه إلى ملوك الفرنج عندما بلغه أخذ قبرص وأسر ملكها جنيوس - يحثهم فيه على القيام معه لإزالة دين الإسلام وغزو المسلمين وإقامة الملة العيسوية ونصرتها، وأنه يسير في بلاد الحبشة في البر بعساكره، وأن الفرنج تسير في البحر بعساكرها في وقت معين إلى سواحل
__________
(1) السلوك [4 \ 2: 838 هـ] .(13/253)
الشام. وحمله مع ذلك مشافهات، فخرج التبريزي هذا من بلاد الحطي بكتابه وبما حمله من المشافهات لملوك الفرنج بعزم واجتهاد، وسلك في مسيره من بلاد الحبشة البرية حتى صار من وراء الواحات إلى بلاد المغرب وركب منها البحر إلى بلاد الفرنج، وأوصل إليهم كتاب الحطي وما معه من المشافهات، ودعاهم للقيام مع الحطي في إزالة الإسلام وأهله واستحثهم في ذلك. فأجابه غالبهم وأنعموا عليه بأشياء كثيرة فاستعمل بتلك البلاد عدة ثياب مخملة مذهبة باسم الحطي، ورقمها بالصلبان - فإنه شعارهم.
ويعلق ابن تغري بردي على ذلك فيقول: لولا أنه داخلهم في كفرهم وشاركهم في مأكلهم ومشربهم ما طابت نفوسهم لإظهار أسرارهم عليه، وكانوا يقولون هذا رجل مسلم يمكن أن يتجسس أخبارنا وينقلها للمسلمين ليكونوا منا على حذر، وربما أمسكوه وقتلوه بالكلية.
ثم يعود إلى مواصلة الحديث فيقول: ثم خرج من بلاد الفرنج وسار في البحر حتى وصل إلى الإسكندرية ومعه الثياب المذكورة ورهبان من رهبان الحبشة، وكان له عدة عبيد وفيهم رجل دين، فنم عليه بما فعله ودلهم على ما معه من القماش وغيره، فأحيط بمركبه وبجميع ما فيها فوجدوا بها ما قاله العبد المذكور فحمل هو والرهبان وجميع ما معه إلى القاهرة، فسعى بمال كبير في إبقاء مهجته، وساعده في ذلك من يتهم في دينه، فلم يقبل السلطان ذلك وأمر به فحبس ثم قتل - عليه من الله ما يستحقه.
وبرغم ما كان لملوك الحبشة من قوة وسلطان يضمن لهم النصر دائما على جيرانهم المسلمين؛ إلا أن بعض سلاطين المسلمين المتاخمين للحبشة لم يقفوا سلبيين أمام غارات الأحباش، فتحرك بعضهم للثأر، ويقول المقريزي في أخبار سنة 838 هـ: فأرسل ملك المسلمين شهاب الدين أحمد بدلاي بن سعد الدين أخاه خير الدين لقتال أمحرة الكفرة، ففتح عدة بلاد من بلاد الحطي ملك الحبشة، وقتل أميرين من أمرائه وحرق البلاد، وغنم مالا عظيما وأكثر من القتل في أمحرة النصارى، وخرب لهم ست كنائس، ثم أنزل الله بالحبشة الوباء العظيم فمات فيه عدد لا(13/254)
يحصى من النصارى ومن المسلمين، بحيث قال المبالغ بأنه لم يبق ببلاد الحبشة أحد، وهلك في هذا الوباء ملك الحبشة نفسه (1) .
ويقف المقريزي عند هذه السنة. ويواصل ابن تغري بردي حتى سنة 872 هـ فيذكر بعض الأخبار على مسافات متباعدة، ثم يأتي بعده ابن إياس في " بدائع الزهور " فيورد بعض الأحداث أيضا وعلى مسافات متباعدة، حتى يصلنا بموضوعنا الذي هو مدار هذا الحديث.
__________
(1) السلوك [4 \ 2 \ 940] .(13/255)
أشرت إلى قلة المصادر التي تمدنا بالمعلومات عن صليبية الحبشة، وأضيف هنا سببا آخر لقلة هذه المصادر بل لندرتها، ذلك هو أن قبضة الصليبية كانت قوية، وسلطانها كان غالبا على من جاورها من المسلمين، ولذلك فلم يجرؤ مؤلف أن يكتب مؤرخا لأحداث الحبشة من وجهة نظر محايدة، وإذا كتب فإنه لا يجرؤ أن يظهر ما كتبه وإلا لأصبح مصيره القتل، لكن شاءت إرادة الله أن يبقى كتاب أرخ لفترة مشرقة في تاريخ الجهاد الإسلامي ضد صليبية الحبشة، ذلك الكتاب هو " تحفة الزمان " أو " فتوح الحبشة " تأليف: شهاب الدين أحمد بن عبد القادر بن سالم بن عثمان الجيزاني الشهير بعرب فقيه. والذي أرخ فيه لفتوحات الإمام أحمد بن إبراهيم الشهير بأحمد جران " أي الأعسر " أحد القادة الأبطال الذين انطلقوا من مدينة هرر في حملات متتالية غزوا فيها الحبشة، وكانت متوجة بالانتصارات الساحقة، وذلك في الفترة من سنة 934 هـ حتى سنة 948 هـ.
ومؤلف هذا الكتاب كان في صحبة هذا الإمام في بعض المعارك ووصفها عن مشاهدة، ولكننا إذا بحثنا عنه في المراجع التي عنيت بالترجمة لرجال القرن العاشر الهجري فإننا لا نجد له ذكرا على الإطلاق، بل إن شيوخه الذين ذكرهم لم نجد عنهم أيضا أية معلومات، اللهم إلا الشيخ شمس الدين علي بن عمر الشاذلي اليمني الذي رجح أنه كان حيا في أوائل القرن العاشر (قرابة سنة 1430م) .(13/255)
ويخيل إلي أن مؤلف الكتاب لم يشأ أن يعلن عن اسمه الحقيقي، واختار الاسم المذكور، ذلك لأنه كتبه بعد أن انتهت تلك الفترة المشرقة من التاريخ باغتيال الإمام أحمد جران على يد البرتغاليين الذين استقدمهم ملوك الحبشة للوقوف في وجه انتصارات ذلك الإمام، ثم ما أعقب ذلك من عود الأمور إلى ما كانت عليه وبسط سلطان الصليبية الحبشية على البلاد، وما صاحب ذلك من إعمال السيف في كل من يتحدث عن تلك الفترة.
يقول سعادة السفير الصومالي الأستاذ عبد الله آدم: لم يمنع اختفاء هذا الكتاب من التداول - وهو اختفاء مثير للتساؤل - أن تظل محتوياته مسطورة في وجدان الشعب الصومالي وشعوب المنطقة كلها، وعندما اطلعت عليه شعرت بالهوة الواسعة بين ما نقل إلينا رواية عن الآباء، وبينما هو مسجل على صفحاته، وأن واقع الأحداث في هذه المنطقة في ذلك الوقت يختلف تماما عما يصوره المؤرخون غير المحايدين وبخاصة ما كتبه المستشرقون. فالحقائق التاريخية أن موجات الجهاد المتصلة لسلاطين المسلمين في هذه المنطقة إنما كانت بقصد الدفاع عن أرضهم وقيمهم الإسلامية وعقيدتهم التي كان يغار عليها في الفينة بعد الفينة، ولم يكن هناك مفر من مواصلة الجهاد. . وما جاء في هذا الكتاب يدحض كل زيف حاول بعض المستشرقين أن يجعل منه حقيقة، ولم يكن مؤرخو العرب منتبهين لها حتى يهبوا لدحضها وبيان زيفها، ومن هنا كان هذا الكتاب بمثابة وثيقة نادرة تهم التاريخ كعلم والمؤرخين كعلماء والتراث العربي الإسلامي كذخيرة ينعطف إليها المسلم كلما أراد أن يتصل بأمجاده.
ويقول المستشرق رينيه باسيه: إن فتوحات أحمد جران تعتبر آخر الفتوحات الإسلامية لبلاد الحبشة، وهي من أشهر أحداث الحبشة التاريخية التي وعتها ذاكرة الغرب فقد كادت هذه الفتوحات أن تسحق المسيحية وتودي ببلاد الأحباش إلى مثل ما كانت عليه البلاد النوبية في ذلك الوقت، وكان لتدخل البرتغاليين الأثر البالغ في لفت الأنظار إلى هذه الفتوحات - وإذا كانت هناك مصادر غربية وشرقية تؤرخ لهذه الفترة فإن كتاب عرب فقيه الجيزاني يأتي في المقام الأول ليس لكون مؤلفه(13/256)
كان أكثر حيادا من سائر المؤلفين، وإنما لأنه صاحب قائد تلك المعارك وشاهد أكثرها، وبذلك جاء كتابه فريدا في بابه ودقيقا في سرد الحوادث.
والكتاب يعرفنا بالإمام أحمد وأنه كان أحد فرسان الجراد أبون بن آدش ملك البلاد، وأنه كان ذا عقل ورأي وشور، وكان الجراد أبون يحبه حبا شديدا، فلما قتل الجراد أبون وتولى البلاد السلطان أبو بكر بن محمد من بيت سعد الدين، واجتمع عليه المفسدون وقطاع الطريق وظهرت الخمور وانتشر المنكر، أنكر عليه الأشراف والعلماء ذلك، ونفر منه الصالحون من رجال الدولة، فخرج الفارس أحمد جران ومعه بعض الموالين له من أجناد الجراد أبون بن آدش وتجمعوا في هويت، وأمروا عليهم الجراد عمر دين - وبدأوا في مبادلة بطارقة الحبشة غارة بغارة، وانتصروا في مواقع كثيرة، ولكن ذلك لم يرق للسلطان أبي بكر سلطان هرر، لخوفه من استفحال أمر هذا الفارس وجماعته فيناصبه العداء، ويلتقي الفريقان وينتصر الفارس ثم يعقد الصلح بينهما، ولا يكون من السلطان وفاء بالعهد فيلتقيان مرة أخرى وينتصر الفارس ويعقد الصلح على أن تكون البلاد بينهم بالسوية السلطان لأبي بكر والإمارة للفارس أحمد على أن يتولى شئون الغزو والجهاد، ولكن السلطان يعود للغدر فيقتله الفارس ويولي أخاه الجراد عمر دين مكانه في السلطنة، ثم يقوم الفارس بتصفية الخلافات بين القبائل المسلمة وبخاصة الصومالية لكي يتفرغ لمهام الجهاد، ورد غارات الأحباش التي تكررت.
ولما بدا له أن الجنود الإسلامية قادرة على تأديب صليبية الحبشة أخذ يعد الخطط لغزو الأقاليم الحبشية، فراسل القبائل وجمع الجموع وبدأ بإرسال السرايا بقيادة أمرائه إلى الأقاليم الحبشية، فكانت تغير وتعود بالغنائم والأسلاب بعد أن تنتصر في لقاءاتها مع بطارقة الحبشة، ويتحدث الكتاب عن حملات خمس:(13/257)
أما الأولى: فكانت إلى بلاد أفات انتصر فيها الإمام أحمد - وذلك لقبه الذي اختاره أتباعه - في موقعة " كحل بري " من أرض دواروا وحرقوا كنيسة زهرق، وهي كنيسة أثرية كانت للملوك المتقدمين، ثم قسم جيشه إلى ثلاث فرق تسير كل فرقة في جانب من أفات، وانتصرت الجيوش الإسلامية وقتلت صاحب أفات البطريق(13/257)
وناج جان - ومعناه أسد الملك جان - وحرقوا أنطوكية، وعسكروا في المدينة وانتشرت جنود الإسلام تغير وتنتصر وتغنم، ثم عادوا إلى هور.(13/258)
والحملة الثانية: أعد لها الإمام إعدادا واسعا. فراسل القبائل ووزع عليها الغنائم مع أمرائه ورسله، وبدأت القبائل تفد عليه تباعا ما عدا قبيلة مريحان، فقد ترددت فسار إليها الإمام فانضمت إليه، وأنفق الإمام على الجيوش حتى باع حلي نسائه وأثاث بيته في شراء آلات الحرب، ثم سار إلى بلاد الحبشة قاصدا مقر الملك، ولما علم الملك بمقصد الإمام غادر " بادقي " إلى بيت أمحره - وهو أصل مملكته ومملكة آبائه وأجداده - وخلف في بادقي البطريق أورعى عثمان - وكان هذا البطريق مسلما من أسرة مسلمة أسره الملك ونصره وبطرقه، وبعد ذلك عاد إلى الإسلام وجاهد في صفوف المسلمين واستشهد فيما بعد.
أما الملك فقد جمع معظم أجناد الحبشة في بيت أمحره، وكذلك جمع البطريق أورعى عثمان جموعا غيره من الكفرة من أهل دواروا، وبالي، وجدب، وعنبا، والماية، وأرعن، والجنز، وقطجار، والداموت، وقدم سبعة من البطارقة كلهم يدعون إلى صد الإمام ومنعه من حرق كنيسة بادقي - وكان في نية الإمام حرقها، وأما الإمام فإنه نظم جيوشه وعقد لكل أمير راية، ورسم له خطه الذي يسير عليه على أن يجتمعوا في " أماجه " وحدث اختلاف بين أمراء وجنود الإمام، بعضهم يدعون إلى العودة إلى بلاد الإسلام وبعضهم يحبذ مواصلة الجهاد، وأخيرا تغلب الرأي الثاني وانطلقت الجيوش الإسلامية إلى بادقي - وفي الطريق هزموا مقدمة الأحباش عند جبل كسم من أرض جان زلق، وفي بادقي كانت الكرة على جيوش المسلمين فاضطروا إلى العودة نحو بلادهم واختلف بطارقة الحبشة هل يقتفون أثر جيش الإمام أم لا، وتخوفوا أن تكون الهزيمة خديعة فانثنوا عن متابعة المسلمين.
وفي عود جيش الإمام يلتقي مع كمائن للأحباش فيهزمها، كما يهزم جيشا كان في طريقه مددا لملك الحبشة - يقول المؤلف كان عدد رجاله ثلاثة آلاف من أهل الماية معهم القسي والنشاشيب المسممة إذا رموا بها أحدا تطاير شعر رأسه من حرارة السم، فلما التقوا بالمسلمين فروا إلى جهة ملكهم وتبعهم المسلمون يقتلون(13/258)
ويأسرون، وكان من خذلان الله لهم أن الواحد من المسلمين كان يأسر عشرين أو عشرة، ويوقفهم بين يدي الإمام فيأمر بقتلهم حتى امتلأت الأرض من القتلى، وسار الإمام بجيوشه إلى صمبر كوري، وباتوا بها ليلة الأربعاء مستهل رجب سنة 935 هـ، وأما ملك الحبشة فإنه قدم إلى بادقي وعلم بكسرة المسلمين فيها فانطلق بجيوشه وراءهم حتى التقى مع الإمام في موقعة صمبر كوري، وكانت أكبر موقعة بين طرفين غير متكافئين عدة وعددا، وقد ذكر البطريق أزماج حيبي - بعد إسلامه - أن عدد خيل ملك الحبشة الذين شهدوا الموقعة كان ستة عشر ألف فارس كلها ملبسة من خيول الريف العربية، وأما الخيول الحبشية فلا تعد ولا تحصى، وعدد الرجالة رماة القسي المسمومة وأصحاب الحراب فكان أكثر من مائتي ألف، وثبت المسلمون أمام جحافل الحبشة وصدقوا ما عاهدوا الله عليه فكان النصر إلى جانبهم، وقتل عدد كبير من الأحباش لا يعلم عدده إلا الله، كان فيهم كبار بطارقة الحبشة، كذلك قتل عدد كبير من المسلمين فيه بعض القادة، وقد وصف المؤلف هذه الوقعة وصفا تفصيليا لأنه حضرها، وقال: لما انهزمت الكفرة وأعطى الله النصر للمسلمين قال الإمام أحمد يومئذ لأصحابه: الآن قد نصرنا الله عليهم وأذلهم، والآن نسير إلى بادقي في موضع مساكن الملك وبيوته ونخربها، ونجلس في الحبشة ونفتح البلاد، فقالوا: يا إمام المسلمين قد ترى الآن ما نزل بنا، وقد قتل كثير من عسكرنا، والجروح فاشية فينا، وقل زادنا، والآن تنزل بنا إلى بلادنا تترتب ونرتب عسكرنا وتغزو مرة أخرى، فحينئذ نزل بهم إلى بلادهم وأقام شعبان ورمضان ونصف شوال.(13/259)
والحملة الثالثة: كانت إلى إقليم دواروا، سار إليها الإمام من طريق نهر الوبى المشهور بتماسيحه وحيواناته، والذي يفصل بين دواروا وبالي، ويصب في البحر المالح من ناحية مقديشو، وانتصر في موقعة " أدل مبرق " وسبى البطريق أبيل صاحبها، وصالحه كبير البطارقة رأس بنيات على أن تعفى أرضه وكنائسه من التخريب والحريق وأن يدفع الجزية، ثم انطلق الإمام بجيوشه إلى " مصحيب " من أرض ورقال، فنهبوها وسبوا أهلها وخربوها - وانتصر الإمام في طلائع فرسانه على جيوش الحبشة في موقعة " الرعين " كما انتصرت الجيوش الإسلامية في موقعة " بور "(13/259)
وهو نهر كبير جار، وأسر كثيرا من البطارقة، وانتصر الإمام في ثلاثين من فرسانه على جيش للحبشة مؤلف من ستمائة فارس بقيادة البطريق الأكبر رأس بنيات في موقعة "بوسي " وهو نهر من تحت " أواولده " يقول المؤلف: إن الأحباش حاصروا الإمام ولزموا عليه الجبل ورموا المسلمين بالحجارة وهم يستترون منها بالشجر، وأيقن الإمام أحمد وأصحابه أن قيامتهم ومحشرهم في ذلك المكان.
والكفرة يقولون للإمام: أما يكفيك ما أكلت وما فعلت؟ ! واليوم قد وقعت بيننا ولا يكون لك مخرج، والمسلمون قد سلموا أمرهم إلى الله، والإمام ساكت لا يرد عليهم جوابا، فاشتور المسلمون فيما بينهم وقالوا للإمام: كيف نفعل الآن؟ فقال لهم: تسلمون أمركم إلى الله، ونستعين بالله عليهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم قال لهم: أنا وأنتم في هذا الأمر سواء فاستعينوا بالله على أعداء الله وقاتلوا عن دينكم وشرعكم، فمن قتل منا صار إلى الجنة ومن عاش عاش سعيدا، وقال أحد جنود الإمام: هؤلاء الكفرة قربوا إلينا، ما تقول؟ نقاتلهم قبل أن يقتلونا؟ وكان مع المسلمين بندقية واحدة وضاربها رجل يسمى عثمان، قال: فحررها وضربها على مقدم الرجالة فقتله، وحينئذ كبر المسلمون تكبيرة واحدة، فأجابهم الشجر والحجر، والجبل والمدر وحملوا حملة رجل واحد واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم البطريق رأس بنيات، وانهزم أصحابه وصدقهم المسلمون بالضرب والطعن وقتل من الكفرة ناس كثير، ولم يقتل من المسلمين أحد، وقال رأس بنيات لأصحابه: إلى أين تفرون وماذا يكون عذرنا عند الملك إذا قال: عشرون فارسا من المسلمين يهزمونكم وأنتم ستمائة فارس ورجالتكم لا تحسب، وعاد إلى جيش الإمام ولكن ألقى الله الرعب في قلوب الكفرة فولوا الأدبار عند اللقاء، وقتل منهم ناس كثير أيضا، وفرح المسلمون بالنصر والظفر وغنموا غنائم كثيرة من الخيل والبغال والدروع والخيام وآلات الحرب، وحط الإمام في بلد يسمى " غفة أوا ولده " وهي قرية البطريق " بلوا " فدخل المسلمون بيته وأذنوا فيه وصلوا، وبقي الإمام في بيت بلوا ستة أيام وتفرقوا في البلاد المجاورة يغيرون فيقتلون ويأسرون ويغنمون.
وعزم الإمام على أن يقيم في أرض الحبشة ويواصل فتحها، ولكن العسكر وبعض القادة حسنوا للإمام العودة إلى بلاد المسلمين فوافقهم، فعادوا وقد غنموا(13/260)
غنائم كثيرة ما غنموها قبل ذلك، ودخل من الكفرة ناس كثيرون في دين الله، ونزلوا مع الإمام إلى بلاد المسلمين وسرح الجيوش بعد أن قسم الغنائم، وأمر الجنود أن يعدوا خيولهم وآلات الحرب حتى يدعوهم إلى الجهاد.(13/261)
والحملة الرابعة: فكانت إلى أرض بالي، وانتصرت فيها جيوش المسلمين في موقعة قاقمة، وأسروا البطريق تخلى أمنوت، وكان فارسا شجاعا، أسره الأمير أبو بكر قطين، كما انتصرت جيوش المسلمين في موضع يسمى " زله " في طريق " أدل جلات " وفي هذه الموقعة يروي المؤلف قصة طريفة عن البطريق " وناج جان " وكان مسلما أسره الملك ونصره كرها وبطرقه وولاه أرض بالي، فقوي شأنه وكثر خيله وأطاعه العسكر، وفي يوم من الأيام جمع البطارقة - وكانوا ستين بطريقا - كل بطريق له جيش من فرسان ورجاله، وأجلسهم في بيته وأتاهم بشراب عتيق من الخمور المسكرة فشربوا فلما سكروا استشار وناج جان هذا صاحبا له اسمه دل بيسوس، وكان نصرانيا لكنه أسلم بعد، قال له جان: الآن ماذا نفعل بهم، الحمد لله قد وقعوا في أيدينا، فقال دل بيسوس: نشدهم كتافا ونذبحهم جميعا ذبح الغنم، فأمر صبيانه فدخلوا عليهم وذبحوهم جميعا وأخذوا خيولهم، وأرسل يبشر السلطان محمد في بر سعد الدين ويقول له: أنا عبدك فعلت بالكفرة وغدرت بهم وأخذت الثأر منهم فأدركني، وقال وناج جان لأهل بالي: أسلموا وإلا فعلت بكم ما فعلت بمقادمتكم البطارقة، فأسلموا جميعا، ولكن بطانة السلطان هبطت عزمه على نجدة وناج جان فتراخى زمنا، فأرسل إليه ولده سيموا يستعجله فبكى السلطان وسار من يومه إلى بالي ولكن جيوش الحبشة كانت قد هاجمت وناج جان واضطرته إلى الفرار بحريمه نحو بلاد المسلمين، فلما وصل نهر ألوس أدركه الموت، وقبره معروف مشهور.
ووصل السلطان وعلم بموته فبكى ومهد البلاد ثم عاد إلى بلده ومعه سيمول وحريم وناج جان - وفي حرب تالية بين السلطان محمد والحبشة أسرت الحبشة سيموا بن وناج ونصروه وبطرقوه موضع أبيه وها هو يقود جيوش الحبشة في وجه الإمام أحمد وجيوشه في طريق " دل باد " وبكيدة، ولكن السلطان ينتصر أخيرا ويعود إلى هرر بغنائم كثيرة ففرقها على أصحابه ومصارف الفيء، وبقي في هرر نحو شهرين.(13/261)
أما الحملة الخامسة: فهي تلك التي خرج فيها الإمام أحمد بجيوشه إلى الحبشة عازما ألا يعود إلى إقليم هرر إلا بعد أن يتم فتح الحبشة كلها، ولذلك فإنه وضع خطته على أن يقصد الملك وناج سجد حيث كان وكتب إليه يقول: وأنت لا تحسبنا مثل الأول نغزو ونرجع وأما الآن فما نحن راجعون حتى يفتح الله لنا البلاد - إن شاء الله تعالى - أو نموت، وحتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
وقد لازمه التوفيق والنصر في الوقائع التي تقابل فيها جيش المسلمين مع جيش الأحباش، والمتتبع لهذه الوقائع يحصي قرابة المائة وقعة لم ينهزم فيها جيش المسلمين، وإن كانت بعض فرقه قد تقهقرت ثم عادت لتنتصر بعد سماعهم لتحريض الوعاظ بأنهم يقاتلون في سبيل الله، وأن من قتل مات شهيدا ودخل الجنة مع النبيين والصديقين.
ويقدم لنا الكتاب صورة رائعة لمطاردة الإمام وجيش المسلمين لملك الحبشة الذي لم يقر له قرار في أي من أقاليم الحبشة والذي لم يذق طعم الأمن لما يزيد عن خمس عشرة سنة.
ويذكر أن جيوش الإسلام لم تدخل إقليما إلا ودخل أهله في دين الله أفواجا، حتى البطارقة فقد عمهم الرعب منهم من أسلم ومنهم من صالح على الجزية، وبعد موقعة " زري " وانتصار جيش المسلمين انتصارا ساحقا وقتل كثير من البطارقة حاول أحدهم أن يعقد صلحا بين الإمام وبين البطارقة، فوافق الإمام من حيث المبدأ فذهب إلى البطارقة وهم مجتمعون في أرض " جان زجره " وقال لبطريقهم الأكبر جرجيس: أنا جئتك بالنصيحة من عند المسلمين لأنهم كانوا في الأول يغزون بلادنا ويرجعون إلى بلادهم، وهذا الإمام غزا إلى بلدنا وأخربها وقتل رجالها ولم يرجع ونوى الجلوس في بلادنا، وقد رأيتم الذي فعله بكم في الحرب، فقد هزم الملك في وقعة " صمبر كوري " وهزم جيوش " أنطوكية " وجيش الملك في " زري " وقتل بطارقتهم عامتهم، والآن نحن ما معنا قوة نقاتلهم بها، وإذا جلس في بلادنا أخربها وأضعفها، والقائد الأكبر وسن سجد في أرض الداموت بعيدا عنا، فقال له: فمن لنا بمن يصلح بيننا حتى يرتفع عنا؟ قال: أنا أكلم الإمام بالصلح بيننا وبينه ونعطي الجزية ووافق البطارقة وقالوا السمع والطاعة، وأرسلوا للإمام بأن يجتاز(13/262)
نهر عواش ويسير إلى الملك ويقاتله في جبرجي، فإذا ظفر به وفتح البلاد فنحن نسلم له جميع خيولنا وسلاحنا، ومن أراد منا الإسلام يسلم، ومن أراد أن يكون مع النصارى فيخلى على دينه ويدفع الجزية، ونشترط له إن أراد منا ملك الحبشة معونة على الإمام لا نعينه ولا نصل إليه، وإذا ارتفع الإمام من بلدنا لا نغزو إلى بلد المسلمين ولا نضر أحدا بل نجلس في بيوتنا، وتم الصلح على ذلك.
وانطلق المسلمون إلى جبرجي، ففزع الملك وترك جبرجي وذهب إلى " ورب " فأحرق المسلمون بيته، فقال له بطارقته: هؤلاء هم المسلمون قد تجاوزا نهر عواش وأحرقوا بيتك الذي في " جبرجي " فخاف وجزع وسار من أرض " ورب " إلى أرض " الداموت " وقال باكيا على " ورب " هذه بلدة مليحة إنها بلاد البر والشعير والعنب والفواكه - ولم يكن في الحبشة مثلها، ولا تحمل الملك وجيوشه إلا هي، وحزن بطريقه الأكبر وسن سجد على أرض ورب وكتب إلى الإمام يتوعده يقول: أما بعد أنتم المسلمون ونحن النصارى، وقد كنا نسير إلى بلادكم نخربها ونحرقها والآن فقد أدالكم الله علينا، والنصر لا يدوم كل يوم، والآن يكفيك ما فعلت وارجع إلى بلادك، وأنت تقول في نفسك وتحدثها أنك هزمت الملك في " صمبر كوري " وتقول فعلت في (أنطوكية) وفعلت في (زري) ، وقتلت جيوش الملك والآن لا تغتر بنفسك، وجيوش الملك عادها حالها، ومعه الآن جيوش كثيرة ما قد رأيتها من قبل وما سمعت بها، والآن ارجع إلى بلدك مع غنيمتك وذهبك، فإن أبيت ذلك فالميعاد بيننا وبينك يوم السبت، فأنا أول قتلت أخاك الجراد أيون بن الجراد إبراهيم، وهو أكبر منك سنا، وهزمت جيشه، وفعلت مرارا، ولا تظن أني مثل من لقيت قبل ذلك من البطارقة أنا وسن سجد.
فرد عليه الإمام قائلا: لا تخوفنا بعبيد الملك فنحن نعرفهم، فإن كنت أنت كما تزعم وترى أننا في بلادنا وفي أرضك فقاتل عن بلادك وأرضك، أما ما ذكرت أنك تقاتلنا يوم السبت فقد أعلمنا مشايخنا أن قتلك يوم السبت، ولا شك في ذلك إن شاء الله، ونحن تابعوك أينما كنت ونتبع سيدك الملك أينما كان، وأما ما ذكرت أنك تأمرنا بالرجوع فذلك شيء لا نراه، وأما القتال فهو بغيتنا ومرادنا ولا لقينا من يحاربنا،(13/263)
فإن كنت رجلا فقاتلنا عن نعمة الملك، وأما هذه البلاد التي ملكناها فلا نتركها بل نملك الحبشة بأسرها إن شاء الله تعالى.
فلما وصل الكتاب إلى وسن سجد جزع وداخله الخوف وأرسل كتابا آخر للإمام يقول فيه: ما تكلمت بكلامي أول إلا خيفة من الملك والبطارقة، والآن أنا ضعيف عن قتالك، ولكن الملك والبطارقة يقولون لي قاتل المسلمين، لأجل ذلك تكلمت، وقد أعلمني الرهبان أني داخل تحت يدك فإذا دخلت ارحمني.
ولا يطول الحال بوسن سجد حتى يقصده جيش الإمام، وفي موقعة شديدة المراس قرب جبل بوسات تنتصر جيوش الإسلام بعد أن ضويقت وتقهقرت مرات على يد وسن سجد وجيشه، ويحمل الجراد عابد بن راجح عليه، وكذلك يحمل وسن سجد على عابد، ويشتمه بالشتائم المقذعة ولكن الجراد عابد يعاجله بضربات من سيفه فيسقطه عن فرسه وهو يقول: لا تقتلني أنا وسن سجد، ونادى عابد بأعلى صوته لقد سقط وسن سجد رئيس الكفرة؛ فضج المسلمون بالصياح والتكبير فلما سمع المشركون أن رئيسهم قد قتل انهزموا شر هزيمة وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون.
وحينما سمع الملك بمقتل وسن سجد حزن حزنا شديدا وانهار تماما، وصار لا يدري أين يذهب أو يستقر فكل مكان ينزل به لا يفتأ حتى يعلم بقصد الإمام إليه فيغادره إلى مكان آخر، وأخيرا قرر أن يعود إلى بيت أمحره، يقول المؤلف: وأما ملك الحبشة فإنه كان في أرض وج، ونوى المقام بها حتى ينتهي زمن المطر، فلما وصله خبر قتل وسن سجد وهزيمة جيشه حزن حزنا شديدا، وجمع بطارقته وحجابه وخواصه وقال لهم: الآن ماذا نفعل؟ وما تشيرون به علي؟ وأي أرض تسعنا؟ ثم تشاوروا فقال لهم: إني أريد أن نسير إلى بيت آبائنا وأجدادنا وأصل مملكتنا ونجلس هناك، ونمسك الأبواب ونقاتل المسلمين، ونخلي لهم هذه البلاد التي فتحوها، ونموت في بيت أمحره، وسار من أرض وج تحت المطر الشديد مدة شهر حتى وصل إلى بيت أمحره.
ويصف المؤلف بيت أمحره فيقول: هي أرض واسعة كبيرة الأرزاق والجبال محيطة بها، وهي بين الجبال ولها طرق وأبواب في الجبال، وكل طريق عليه أبواب(13/264)
وحراس من أرض أباوين إلى أرض عنقوت وإلى بحر حيق والجبال تدور عليها مسيرة عشرين يوما، ولها خمسة أبواب، باب من طريق ولقى، وباب من طريق أخي فج، وباب من طريق منز، وباب من طريق ميات من أرض جدم، وباب من بلد واصل يحرسه بجيشه.
ويقصده الإمام أحمد بجيوشه بعد أن يمهد كثيرا من البلاد في طريقه ويستولي على المدد المرسل لجيوش الملك، ويقرر الإمام صعود جبل واصل من المنطقة التي يتولى حراستها الملك وجيشه، وينتصر الإمام في وقعة باب واصل، وكان ذلك في يوم الجمعة 16 من ربيع الأول سنة 938 هـ ويقول المؤلف: لما انهزم المشركون من باب واصل قصدوا إلى خيمة الملك والتجئوا عندها وبعضهم هربوا على وجوههم، وخرج الملك من خيمته وركب فرسه مع حجابه وكانوا نحو أربعمائة فارس يحفون به، وحمل عليهم المسلمون حملة رجل واحد وتقاتلوا حتى ألقى الله الرعب في قلب جيوش الكفرة فولوا الأدبار، وتبعهم المسلمون يقتلون وحمل الإمام والسيف في يده اليسرى فنظر إليه ملك الحبشة وعرفه بعلامة في فرسه وبسيفه في يده اليسرى وقال لأصحابه: جاءكم الشيطان بنفسه، فصاح عسكر الحبشة على الإمام يقولون: سحرتنا سحرتنا، ودخل الإمام وسطهم وفوق جمعهم وصدقهم بالضرب فانهزموا إلى الجبل فلم يجدوا طريقا، فصاح عليهم الإمام: اتركوا خيولكم وانجوا بأنفسكم فقد أدركناكم، ففزعوا وداخلهم الخوف وتركوا خيولهم وطلعوا الجبل، ومن رعبهم كانوا يسقطون من الجبل فيقتلهم المسلمون، وغنم أصحاب الإمام خيولهم بلباسها من الجوخ القرمزي.
وأما ملك الحبشة فإنه سار على وجهه ومعه خمس جنائب تقاد بين يديه وقصد إلى طريق العنبا، أما أصحاب الإمام فقد غنموا من الذهب والفضة والخيول والبغال والحرير، ومن ثياب الملك ومن فرش الديباج وأسروا الفائقات من النساء، من نساء البطارقة وأولادهم وغيرهم ما يعد بالألوف واستولوا على قبة الملك وفيها سرير الملك وسلاحه، وأمر الإمام أصحابه فمزقوا الخيمة إربا إربا.
وسار الإمام من باب واصل إلى بيت أمحره مسكن أهل الكتاب والقسس والرهبان، ودار الملك التي ينصب فيها الملوك وقصد إلى الكنائس وأسند خرابها إلى(13/265)
بعض قواده إلا كنيسة مكان الثلاثي أي الثلاث آلهة بلغتهم، فإنه قصدها بنفسه ودخلها ومعه خواصه، فلما رآها كادت تخطف الأبصار، فهي مزينة بصفائح الذهب والفضة وفيها فصوص من اللؤلؤ والمرجان وكان عرضها مائة ذراع، وطولها كذلك، وارتفاعها مائة وخمسين ذراعا، ولها مصراع من خشب، طوله عشرة أذرع وعرضه أربعة أذرع، وقد فرشوا فوقه صفائح الذهب والفضة، ومن فوق الذهب جعلوا فصوصا من كل لون وأسقفها وأصحانها ملبسة بصفائح الذهب وتصاوير من الذهب، فتعجبوا من شغلها، وصاح المسلمون الذين لم يدخلوا يقولون للإمام: افتح الباب حتى ندخلها ونتفرج عليها، ففتح لهم وأدخلهم وازدحم المسلمون، وقال لهم الإمام كل من أخذ شيئا فهو له إلا الصحاف، فاشتغلوا فيها بألف قدوم وهم يخلعون الذهب والفصوص التي في الكنيسة من العصر إلى وقت العشاء، وكل قد أخذ حاجته من الذهب واستغنوا غنى لا فقر معه، واحترق في الكنيسة أكثر من ثلثها من الذهب، وبات الإمام بجنب الكنيسة وطلب من كان معه من العرب فقال لهم: هل يكون في الروم أو في الهند أو في غيره مثل هذا البيت وتصاويره؟ ! .
وجلس الإمام وأصحابه في بيوت الملك ببيت أمحره، وانطلقت جيوش المسلمين تفتح وتغنم، ولم يصادفهم بأس إلا في موقعة العنبا التي يتربى فيها أولاد الملوك، فقد هزم جيش الجراد أحموشه وأسر وقتل أورعى عثمان وغيره من القادة، وكانت هذه الهزيمة يوم الأربعاء 14 من ربيع الآخر سنة 938 هـ ولم تفت في عضد المسلمين بل ظلوا ينتصرون بعدها في أرض العنقوت، وجزيرة بحر حيق، وجيته، وعندورة، وأرم، ودير برهان، وكساية، وأرض الماية، والجنز، والجافات، وزميت.
ويحدثنا المؤلف عن أرض هدية التي دخلها السلطان ويقول: صاحبها رجل مسلم وكان يعطي الجزية للملك، ويعطي له في كل سنة بنتا من بنات المسلمين ينصرها، ويحكم عليهم منذ آبائهم الأقدمين ألا يلبس أحدهم عدة الحرب ولا يمسك سيفا ولا يركب فرسا بسرج ولكن على متن ظهره، ويخرب مساجد المسلمين ويرسلون له الفتاة على سرير بعد أن يغسلوها ويكفنوها بثوب أبيض ويصلون عليها صلاة الجنازة ويعتبرونها في عداد الأموات، فلامهم السلطان وقال لهم: لا خوف عليهم بعد الآن وانضموا إلى صفوفه.(13/266)
ويقول المؤلف: إن جيوش المسلمين اجتمعت في دير برهان، وقال لهم الإمام: الحمد لله فقد فتح علينا الحبشة كلها ولم يبق إلا التجري، وبقي مدر، والقوجام، أي ما بقي إلا هذه البلاد، فإما أن نسير إليها أو نجلس هنا، ما تشيرون بارك الله فيكم؟ .
فاتفق الرأي على أن يطاردوا الملك حيثما كان، وفتح الإمام أرض التجري، ثم سار إلى بقي مدر في رمضان سنة 941 هـ وهزم في طريقه جيوش الحبشة وقتل البطارقة، ثم دخل بلاد سمنين وكانت للفلاشا يهود الحبشة، فخلصهم من ظلم البطارقة وفرض عليهم الجزية، وفتح بقي مدر، ونزل ببلاد الدنبية وسار إلى بلاد النوبة وأرض القجام.
وختم المؤلف هذا القدر من الكتاب بفتح الإمام لجزيرة قليلة المجاورة لأرض النوبة ومطاردة النصارى بها واستقباله لبعض الأشراف المسلمين من بلاد الدنبية وإصلاحه بينهم وإقطاعهم أرضا إلى أطراف النوبة، ويحمد الله على دين الإسلام الذي أظهره على الدين كله.
وبهذا يتم الجزء الأول من هذا الكتاب، أما الجزء الثاني فلا نعرف عنه شيئا ولكن يغلب على الظن أنه تناول فيه بقية أخبار الإمام أحمد بن إبراهيم إلى أن استعان الأحباش بالبرتغاليين للوقوف في وجه تلك الفتوح واغتيالهم للإمام أحمد، يقول صاحب الجواهر الحسان الشيخ أحمد الحنفي القنائي الأزهري: في سنة 948 من الهجرة تقريبا: دخل جيش برتغالي إلى هذه البلاد بدعوى المحافظة على موازنتها ومنع مسلمي قبائل الجالا من مضايقة ملكها (ص 17) ولكنه لم يحدثنا بمثل حديث عرب فقيه، بل ولا حدثنا، أي مؤلف بمثل حديثه.
إن كل مسلم عربي أو غير عربي يشعر بأن صليبية الحبشة عادت سيرتها الأولى، ومن المحزن أننا نسمع عن تلك الغارات التي تضن بالطائرات على إخواننا المسلمين، ونسمع عن معاونة الدول الشيوعية لسفاحي الحبشة بالسلاح والعتاد بل وبالرجال، وإذا صدق ما يقال من أن بعض الدول الإسلامية تعين السفاحين بصورة ما من المعونات فتلك لعمري مصيبة المصائب وعار الدهر وخزي الأبد.(13/267)
متى أن إخواننا المسلمين في إريتريا وأوجادين يلقون منا العون والمساعدة، ولنعلنها صريحة أننا إلى جانب إخواننا في الصومال وإرتيريا وأنه لن يثنينا عن معاونتهم أي حائل مهما عظم، حتى نعز الإسلام وأهله في تلك البلاد وحتى لا نقول كما قال رينيه باسيه: إن فتوحات أحمد جران كانت آخر الفتوحات الإسلامية لأقاليم الحبشة التي وعتها عقول الغرب والشرق.(13/268)
محمد بن مسلمة الأوسي الأنصاري.
فارس نبي الله (1)
اللواء الركن محمود شيت خطاب (2)
نسبه وأيامه الأولى:
هو محمد بن مسلمة بن سلمة بن خالد بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو، وهو النبيت بن مالك من الأوس (3) ، حليف بني عبد الأشهل (4) من الأوس (5) أيضا.
وأمه: أم سهم، واسمها خليدة بنت أبي عبيد بن وهب بن لوذان بن عبد ود بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة بن كعب، من الخزرج (6) .
يكنى: أبا عبد الرحمن، وقيل: بل يكنى: أبا عبد الله، (7) ويبدو أنه كان يكنى أبا عبد الرحمن وهو ولده الأكبر، فمات عبد الرحمن فأصبح يكنى أبا عبد الله، وهذه هي عادة العرب قديما وحديثا، يكنون باسم ولدهم الأكبر، فإذا مات يكنون باسم الذي يليه في الكبر.
__________
(1) طبقات ابن سعد (3 \ 445) .
(2) (*) ورد لكاتب البحث ترجمة في العدد العاشر صفحة 233.
(3) طبقات ابن سعد (3 \ 443) والاستيعاب (3 \ 1377) وأسد الغابة (4 \ 330) .
(4) الإصابة (6 \ 63) وأسد الغابة (4 \ 330) .
(5) الاستبصار (205) وجمهرة أنساب العرب (339) .
(6) طبقات ابن سعد (3 \ 443) .
(7) الاستيعاب (3 \ 1377) وأسد الغابة (4 \ 330) وتهذيب التهذيب [9 \ 454] .(13/269)
أسلم محمد بالمدينة على يد مصعب بن عمير قبل إسلام أسيد بن حضير وسعد بن معاذ، (1) وهو ممن سمي في الجاهلية محمدا، (2) لما كان يبلغهم أنه يبعث في العرب نبي يقال له: محمد، (3) وكان أهل الأديان السابقة ومنها من كان في المدينة يتحدثون بقرب ظهور نبي من العرب، مما يدل على استعداده واستعداد أهله لاعتناق الدين الجديد.
وقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة بين محمد بن مسلمة، وأبي عبيدة بن الجراح (4) .
ولما بدأ الجهاد العملي بين المسلمين من جهة والمشركين ويهود من جهة أخرى، شهد محمد بدرا والمشاهد كلها (5) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عدا غزوة تبوك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلفه على المدينة حين خرج إلى تبوك، (6) ولكنه شارك بماله في هذه الغزوة إذ حمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم مالا، (7) وهو ما تيسر لديه يومئذ مشاركا في جيش العسرة.
وسنلمس بوضوح مبلغ جهاده وجهوده في الغزوات والسرايا وشيكا.
__________
(1) طبقات ابن سعد (3 \ 443) والبداية والنهاية (8 \ 28) .
(2) الإصابة (6 \ 63) وأنساب الأشراف (1 \ 538) .
(3) المحبر (130) .
(4) المحبر (75) وطبقات ابن سعد (3 \ 443) وأنساب الأشراف (1 \ 224) و (1 \ 271) .
(5) الاستبصار (241) وأسد الغابة (4 \ 330) والاستيعاب (3 \ 1377) .
(6) طبقات ابن سعد (3 \ 443) وأنساب الأشراف (1 \ 368) . ومغازي الواقدي [3 \ 995] .
(7) مغازي الواقدي (3 \ 991) .(13/270)
في الغزوات
1 - وشهد محمد بن مسلمة غزوة بني قينقاع من يهود، ويبدو أنه أبلى فيها بلاء حسنا فكرمه النبي صلى الله عليه وسلم ووهب له درعا من دروعهم، (1) كما أنه تولى إجلاءهم وقبض أموالهم (2) .
2 - وكان له مواقف مشرفة في غزوة " أحد "، فقد ولاه النبي صلى الله عليه وسلم الحرس، فكان يطوف حول العسكر وفي العسكر، في خمسين رجلا، (3) وكان فيمن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ حين ولى الناس، (4) فقد ثبت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر صبروا معه، أربعة عشر رجلا، سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار، منهم محمد بن مسلمة (5) قال محمد بن مسلمة: " سمعت أذناي وأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومئذ: إلي يا فلان! إلي يا فلان! أنا رسول الله! فما عرج منهما واحد عليه ومضيا "، (6) فقد كان الموقف عصيبا إلى أبعد الحدود.
وبعد أن عاد المسلمون إلى المدينة ليلا بعد يوم أحد، خرج محمد بن مسلمة يطلب من النساء ماء، وكن قد جئن أربع عشرة امرأة، منهن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملن الطعام والشراب على ظهورهن ويستقين الجرحى ويداوينهم، (7) وهكذا لم يقتصر نشاط محمد بن مسلمة على القتال، بل امتد نشاطه إلى القضايا الإدارية أيضا، فقد أشرف على العملية الإدارية التي نهض بها نساء المسلمين، فلما لم يجد عندهم ماء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عطش يومئذ عطشا شديدا، ذهب ابن مسلمة
__________
(1) مغازي الواقدي (1 \ 179) وأنساب الأشراف (1 \ 309) .
(2) مغازي الواقدي (1 \ 178) .
(3) أنساب الأشراف (1 \ 315) .
(4) طبقات ابن سعد (3 \ 443) .
(5) مغازي الواقدي (1 \ 240) .
(6) مغازي الواقدي (1 \ 237) .
(7) مغازي الواقدي (1 \ 249) .(13/271)
إلى قناة وأخذ سقاءه حتى استقى من حسي، فأتى بماء عذب، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا لمحمد بن مسلمة بخير (1) .
3 - وفي غزوة بني النضير من يهود، التي كان سببها المباشر محاولة يهود الغدر بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكان يومئذ في زيارتهم لمعاونته في تحمل ديتين لرجلين قتلهما أحد المسلمين (2) ورجع النبي صلى الله عليه وسلم من بني النضير إلى المدينة، وتبعه أصحابه، فأرسل إلى محمد بن مسلمة يدعوه، فقال أبو بكر الصديق: " يا رسول الله! قمت ولم نشعر "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «همت يهود بالغدر بي» .
وجاء محمد بن مسلمة، فقال: «اذهب إلى يهود بني النضير، فقل لهم: إن رسول الله أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلده» .
ولما جاءهم ابن مسلمة قال لهم: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكم ليقول لكم:
قد نقضتم العهد الذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي. . ويقول: اخرجوا من بلدي، فقد أجلتكم عشرا، فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه "، قالوا: "يا محمد! ما كنا نرى أن يأتي بذلك رجل من الأوس! ! (3) » وكان الأوس حلفاء بني النضير.
وحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم خمسة عشر يوما، فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولي إخراجهم محمد بن مسلمة (4) كما ولي قبض أموالهم وسلاحهم (5) .
ولم يكن تكليف محمد بن مسلمة بتبليغ بني النضير بالجلاء، وتوليته إجلاءهم وإخراجهم من ديارهم وقبض أموالهم وسلاحهم، إلا لأنه من الأوس حلفاء بني
__________
(1) مغازي الواقدي (1 \ 250) .
(2) انظر مغازي الواقدي (1 \ 363 - 366) .
(3) مغازي الواقدي (1 \ 366 - 367) .
(4) مغازي الواقدي (1 \ 374) .
(5) مغازي الواقدي (1 \ 377) .(13/272)
النضير، فأثبت محمد بن مسلمة أن ولاءه للإسلام وحده لا لأعداء الإسلام حتى ولو كانوا من حلفائه المقربين إلى قومه، وبذلك حلت مثل الإسلام مكان تقاليد الجاهلية، وكان ما فعله محمد بن مسلمة اختبارا عمليا لإيمانه العميق بالمثل الإسلامية الجديدة وتخليه نهائيا عن تقاليد الجاهلية البالية.
4 - وفي غزوة " دومة الجندل "، تفرق المشركون، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحتهم، فلم يجد بها أحدا، فأقام بها أياما وبث السرايا وفرقها حتى غابوا عنه يوما ثم رجعوا إليه، ولم يصادفوا منهم أحدا، إلا أن محمد بن مسلمة أخذ رجلا منهم، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن أصحابه فقال: " هربوا أمس حيث سمعوا بأنك قد أخذت نعمهم " فعرض عليه رسول صلى الله عليه وسلم الإسلام أياما، فأسلم الرجل، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة (1) .
5 - وشهد محمد بن مسلمة الخندق، (2) فأقبل خالد بن الوليد في ليلة من ليالي تلك الغزوة في مائة فارس، أقبلوا حتى وقفوا وجاه قبة النبي صلى الله عليه وسلم، فأنذر محمد بن مسلمة قائد حرس النبي صلى الله عليه وسلم عباد بن بشر، وأقبل خالد في ثلاثة نفر هو رابعهم، فقال: " هذه قبة محمد! ارموا. . ارموا. " فقاومهم محمد بن مسلمة، حتى وقف ومن معه من المسلمين على شفير الخندق، وخالد ومن معه بشفير الخندق من الجانب الآخر، حتى ردهم المسلمون ولم ينالوا خيرا (3) وذكر محمد بن مسلمة أنه كان مع قسم من المسلمين حول قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرسونه، إذ وافت أفراس على (سلع) ، فبصر بهم عباد بن بشر، فأخبرهم بهم، فمضى إلى الخيل، وعباد قائم على باب قبة النبي صلى الله عليه وسلم، آخذا بقائم السيف ينتظر عودة محمد بن مسلمة إلى موضعه
__________
(1) مغازي الواقدي (1 \ 403 - 404)
(2) طبقات ابن سعد (3 \ 443) .
(3) مغازي الواقدي [2 \ 467 - 468] .(13/273)
في حراسة قبة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقول ابن مسلمة: " كان ليلنا بالخندق نهارا، حتى فرجه الله "، (1) يريد أنهم يسهرون الليل كله خوفا من مباغتة قريش لهم، وحرصا على سلامة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
__________
(1) مغازي الواقدي (2 \ 498) .(13/274)
6 - بني قريظة - وفي غزوة بني قريظة من يهود، كان محمد بن مسلمة أحد فرسان المسلمين، (1) وقد ذكر أن المسلمين حاصروهم قبل الفجر، وجعلوا يدنون من الحصن ويرمونهم عن كثب، ولزموا حصونهم لا يفارقونها حتى حل المساء، والنبي صلى الله عليه وسلم يحضهم على الجهاد والصبر. وبات المسلمون حول حصون يهود حتى تركوا قتال المسلمين وطلبوا أن يفاوضوا النبي صلى الله عليه وسلم، فوافق النبي صلى الله عليه وسلم على المفاوضة، فأنزلوا نباش بن قبس أحدهم، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة، وقال: " يا محمد انزل على ما نزلت عليه بنو النضير: لك الأموال والسلاح، وتحقق دماءنا ونخرج من بلادكم بالنساء والذراري، ولنا ما حملت الإبل إلا السلاح "، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: " ولا حاجة لنا فيما حملت الإبل " فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، إلا أن تنزلوا على حكمي (2) .
واشتد حصار المسلمين لبني قريظة، «وكان محمد بن مسلمة على حرس النبي صلى الله عليه وسلم، فمر بالحرس عمرو بن سعدى الذي لم يشايع بني قومه من يهود على نقضهم عهودهم، فقال ابن مسلمة: " من هذا؟ " فقال: " عمرو بن سعدى " فقال ابن مسلمة: " مر! اللهم لا تحرمني من إقالة عثرات الكرام "، فخلى سبيله، وخرج حتى أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبات به حتى أصبح، فلما أصبح غدا فلم يدر أين هو حتى الساعة، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال: " ذلك رجل نجاه الله بوفائه (3) » .
__________
(1) انظر أسماء الفرسان المسلمين في مغازي الواقدي (2 \ 498)
(2) انظر تفاصيل المفاوضات في مغازي الواقدي (2 \ 501 - 503) .
(3) مغازي الواقدي (2 \ 504) والدرر (191) .(13/274)
ولما جهدهم الحصار، نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسراهم، فكتفوا رباطا، وجعل على كتافهم محمد بن مسلمة (1) .
ووصف محمد بن مسلمة الموقف الراهن فقال: «وتنحى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودنت الأوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! حلفاؤنا دون الخزرج، وقد رأيت ما صنعت ببني قينقاع بالأمس، حلفاء ابن أبي: ونصبت له ثلاثمائة حاسر وأربعمائة ذراع، وقد ندم حلفاؤنا على ما كان من نقضهم العهد، فهبهم لنا! ورسول الله ساكت لا يتكلم، حتى أكثروا عليه وألحوا ونطقت الأوس كلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضون أن يكون الحكم فيهم إلى رجل منكم؟ قالوا: بلى! قال: فذلك إلى سعد بن معاذ، وسعد يومئذ في المسجد في خيمة يداوي جرحه.
وجاء سعد، فأكثر عليه الأوس. فقال: " قد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم "، وأقبل إلى رسول صلى الله عليه وسلم، فقال: " أحكم فيهم أن يقتل من جرت عليه الموسى، وتسبى النساء والذرية، وتقسم الأموال "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت بحكم الله عز وجل من فوق سبعة أرقعة» ، (2) . فنفذ فيهم الحكم العادل (3) .
وابتاع محمد بن مسلمة من السبي ثلاثة: امرأة معها أبناها، بخمسة وأربعين دينارا، وكان ذلك حقه وحق فرسه من السبي والأرض والرثة، (4) ، وكان أسهم النبي صلى الله عليه وسلم للفارس ثلاثة أسهم: له سهم ولفرسه سهمان (5) .
7 - وشهد محمد بن مسلمة غزوة " الحديبية "، (6) ، فكان أحد فرسان الطليعة التي قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بإمرة عباد بن بشر والمؤلفة من عشرين فارسا (7) .
__________
(1) مغازي الواقدي (2 \ 510) .
(2) الأرقعة: السموات. الواحدة رقيع، شرح أبي ذر [306] . .
(3) انظر التفاصيل في مغازي الواقدي (2 \ 510 - 525) .
(4) الرثة: رديء المتاع، وسقط المتاع (ج) : رثت ورثاث.
(5) مغازي الواقدي (2 \ 524) .
(6) قرية صغيرة على تسعة أميال من مكة، انظر شرح الزرقاني على المواهب اللدنية (2 \ 216) .
(7) مغازي الواقدي (2 \ 574) .(13/275)
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بالحديبية يتحارسون الليل، فكان ثلاثة من أصحابه يتناوبون الحراسة أحدهم محمد بن مسلمة، وكان ابن مسلمة على فرس النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من تلك الليالي، وعثمان بن عفان بمكة بعد، وقد كانت قريش بعثت ليلا خمسين رجلا، وأمروهم أن يطوفوا بالنبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يصيبوا منهم أحدا أو يصيبوا منهم غرة، فأخذهم محمد بن مسلمة وأصحابه فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عثمان بمكة قد أقام بها ثلاثا يدعو قريشا، وكأن رجال من المسلمين قد دخلوا مكة بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهليهم، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان وأصحابه قد قتلوا، فذلك حين دعا إلى البيعة تحت الشجرة على الموت، وبلغ قريش حبس أصحابهم، فجاء جمع منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى تراموا بالنبل والحجارة، وأسروا حينئذ من المشركين أسرى (1) .
وعندما عقد صلح الحديبية بين المسلمين وقريش، كان محمد بن مسلمة أحد الشهود المسلمين على عقد صلح مع جماعة من المسلمين منهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن عفان وأبو عبيدة بن الجراح وغيرهم رضي الله عنهم جميعا (2) .
8 - وشهد محمد بن مسلمة غزوة " خيبر "، (3) «فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: انظر لنا منزلا بعيدا من حصونهم بريئا من الوباء، نأمن فيه بياتهم، فطاف ابن مسلمة حتى انتهى إلى " الرجيع "،، " ثم عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلا فقال: " وجدت لك منزلا "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على بركة الله، فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم تحول وأمر الناس فتحولوا إلى الرجيع (5) » .
__________
(1) مغازي الواقدي (2 \ 602) .
(2) مغازي الواقدي (2 \ 612) وأنساب الأشراف (2 \ 350) .
(3) خيبر: على ثمانية برد من المدينة لمن يريد الشام، انظر معجم البلدان (3 \ 495) .
(4) مغازي الواقدي (2 \ 644) .
(5) الرجيع: واد قرب خيبر، انظر وفاء الوفاء (2 \ 315) . (4)(13/276)
وقد شارك محمد بن مسلمة في قطع النخل الذي يحيط بحصن " النطاة " أحد حصون خيبر، فكان ينظر إلى صور (1) من كبيس (2) ويقول: " أنا قطعت هذا الصور بيدي حتى سمعت بلالا ينادي عزمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقطع النخل! فأمسكنا " (3) .
وكان محمود بن مسلمة أخو محمد بن مسلمة يقاتل مع المسلمين يومئذ، وكان يوما صائفا شديد الحر، وهو أول يوم قاتل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل حصن النطاة وبها بدأ، فلما اشتد الحر على محمود وعليه أداته كاملة، جلس تحت حصن ناعم يبتغي فيئه، ولا يظن محمود أن فيه أحدا من المقاتلة، إنما ظن أن فيه أثاثا ومتاعا، وناعم يهودي وله حصون ذوات عدد، فكان هذا منها - فدلى عليه مرحب اليهودي رحى، فأصاب رأسه، فاستشهد في المعركة (4) .
وخرج مرحب اليهودي من حصنهم، قد جمع سلاه يرتجز وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
أطعن أحيانا وحينا أضرب ... يحجم عن صولتي المجرب
وهو يقول: من يبارز؟ «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لهذا؟ فقال محمد بن مسلمة: " أنا له يا رسول الله! أنا والله الموتور الثائر، قتل أخي بالأمس، فقال: فقم إليه! اللهم أعنه عليه (5) » . فلما دنا أحدهما من صاحبه، دخلت بينهما شجرة عمرية (6) من شجر العشر، (7) فجعل أحدهما يلوذ بها (8) من صاحبه، كلما لاذ بها منه أقتطع صاحبه بسيفه ما دونه منها، حتى برز كل واحد منهما لصاحبه، وصارت بينهما كالرجل القائم، ما فيها فنن (9) ثم حمل مرحب على محمد بن مسلمة فضربه
__________
(1) الصور: النخل الصغار أو المجتمع.
(2) الكبيس: ضرب من التمر.
(3) مغازي الواقدي [2 \ 645] .
(4) مغازي الواقدي (2 \ 645) .
(5) مسند أحمد بن حنبل (3/385) .
(6) عمرية: أي قديمة طويلة العمر.
(7) العشر: بضم العين وفتح الشين، شجر له صمغ.
(8) يلوذ بها: يلجأ إليها ويستتر بها من عدوه.
(9) فنن: بفتح الفاء والنون: غصن.(13/277)
فاتقاه بدرقة (1) فوقع سيفه فيها فعضت به فأمسكته، وضربه محمد بن مسلمة حتى قتله (2) .
والصحيح الذي عليه أكثر أهل السير وأهل الحديث أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه هو الذي قتل مرحبا اليهودي بخيبر (3) .
وبرز أسير اليهودي، وكان رجلا أيدا، وكان إلى القصر، فجعل يصيح: " من يبارز؟ "، فبرز له محمد بن مسلمة، فاختلفا ضربات، ثم قتله محمد بن مسلمة (4) .
وكان يهود خيبر في حصونهم يرمون المسلمين بالسهام، ويحاولون قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فكان محمد بن مسلمة، فيمن ترس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال محمد بن مسلمة: " كنت فيمن ترس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلت أصيح بأصحابه: تراموا بالحجف! (5) ، ففعلوا فرمونا حتى ظننت ألا يقلعوا، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بسهم، فما أخطأ رجلا منهم، وتبسم إلي رسول الله، صلى الله عليه وسلم وانفرجوا ودخلوا الحصن " (6) .
وحين استسلم أحد الحصون عنوة للمسلمين، دفع النبي صلى الله عليه وسلم كنانة بن أبي الحقيق، إلى محمد بن مسلمة، فقتله بأخيه الشهيد محمود بن مسلمة (7) الذي استشهد في تلك الغزوة، وأخذ سهمه من الأرض واشترى من غيره أيضا (8) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر سأله يهود فقالوا: "يا محمد! نحن أرباب النخل وأهل المعرفة بها "، فساقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر على شطر من التمر والزرع، وكان
__________
(1) الدرقة: الترس من جلد ليس فيه خشب ولا عقب.
(2) سيرة ابن هشام (3 \ 383 - 385) وانظر مغازي الواقدي (2 \ 654 - 657) والدرر (211 - 212) .
(3) الاستيعاب (3 \ 1377) وأسد الغابة (4 \ 533) .
(4) مغازي الواقدي (2 \ 567) .
(5) الحجف: جمع الحجفة، وهي الترس من جلود بلا خشب ولا رباط من عصب.
(6) مغازي الواقدي (2 \ 622) .
(7) مغازي الواقدي (3 \ 672 - 673) وابن الأثير (2 \ 221) .
(8) مغازي الواقدي (2 \ 960) .(13/278)
يزرع تحت النخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقركم على ما أقركم الله، فكانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي، وأبي بكر، وصدر من خلافة عمر بن الخطاب، (1) ثم أجلي عنها يهود، وبقي محمد محافظا على ما يملك من أرض خيبر (2) .
9 - ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمرة القضية " غزوة القضية " فانتهى إلى (ذي الحليفة) ،. قدم الخيل أمامه وهي مائة فرس، واستعمل عليها محمد بن مسلمة (3) ، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي والمسلمون يلبون، ومضى محمد بن مسلمة بالخيل إلى " مر الظهران "، فوجد بها نفرا من قريش، فسألوا محمد بن مسلمة فقال: " هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح هذا المنزل غدا إن شاء الله ". فرأوا سلاحا مع بشير بن سعد، فخرجوا سراعا حتى أتوا قريشا فقالوا: در والله ما أحدثنا حدثا، ونحن على كتابنا ومدننا، ففيم يغزونا محمد في أصحابه؟ ! " ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح إلى بطن " يأجج " (4) . حيث ينظر إلى أنصاب الحرم «وبعثت قريش مكرز بن حفص بن الأحنف في نفر من قريش، حتى لقوه ببطن يأجج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه والهدي والسلاح قد تلاحقوا، فقالوا: " يا محمد! والله ما عرفت صغيرا ولا كبيرا بالغدر! تدخل بالسلاح الحرم على قومك، وقد شرطت ألا تدخل إلا بسلاح المسافر. السيوف في القرب "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ندخلها إلا كذلك (5) » .
10 - وهكذا بذل محمد بن مسلمة قصارى جهوده وغاية جهاده في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم جنديا من جنود المسلمين، وقائدا مرءوسا من قادتهم الذين عملوا تحت راية الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام.
__________
(1) مغازي الواقدي (2 \ 690 \ 691) .
(2) مغازي الواقدي (721) .
(3) طبقات ابن سعد (3 \ 444) ومغازي الواقدي (2 \ 733) .
(4) يأجج: مكان من مكة على ثمانية أميال، انظر معجم البلدان (8 \ 490) .
(5) مغازي الواقدي (2 \ 734) .(13/279)
قائد السرايا:
ا - سريته إلى كعب بن الأشرف اليهودي:
وكان ذلك في شهر ربيع الأول من السنة الثالثة الهجرية (624 م) .
ولما اتصل بكعب بن الأشرف - وهو رجل يهودي من نبهان من طيئ وأمه من بني النضير - قتل صناديد قريش ببدر قال: " بطن الأرض خير من ظهرها ". ونهض ابن الأشرف إلى مكة، فجعل يرثي قتلى قريش، ويحرض على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، ويشبب بنساء المسلمين قصدا لإيذاء أزواجهن، وكان شاعرا، ثم عاد من مكة إلى المدينة، فلم يزل يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدعو إلى خلافه ويسب المسلمين حتى آذاهم أعظم الأذى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لي بابن الأشرف، فإنه يؤذي الله ورسوله والمؤمنين؟ ، فقال، محمد بن مسلمة: " أنا له يا رسول الله، أنا أقتله إن شاء الله " فقال: فافعل إن قدرت على ذلك (1) » .
ومكث محمد بن مسلمة أياما مشغول النفس بما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه في قتل ابن الأشرف، فانتدبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتدب معه سلكان بن سلامة بن وفش أبا نائلة أحد بني عبد الأشهل، وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة، وعباد بن بشر بن وفش والحارث بن أوس بن معاذ، وهما من بني عبد الأشهل، وأبا عبس بن جبر أخا بني حارثة، (2) ، وأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولوا غير ما يعتقدون،، على سبيل جواز ذلك في الحرب.
وقدموا إلى ابن الأشرف سلكان بن سلامة، فقصد له وأظهر له موافقته على
__________
(1) صحيح البخاري الرهن (2510) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1801) ، سنن أبو داود الجهاد (2768) .
(2) في عيون الأثر، أن اسمه عبد الرحمن.(13/280)
الانحراف من رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه ضيق حالهم، وكلمه في أن يبيعه وأصحابه طعاما، فيرهنوه سلاحهم، فأجابهم إلى ذلك.
ورجع سلكان إلى أصحابه، فخرجوا إلى ابن الأشرف اليهودي، وشيعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى " بقيع الغرقد " (1) . في ليلة مقمرة، فأتوا كعبا، فخرج إليهم من حصنه، فتماشوا، فوضعوا عليه سيوفهم، ووضع محمد بن مسلمة مغولا، كان معه في ثنته (2) ، فقتله.
وصاح ابن الأشرف صيحة شديدة انذعر بها أهل الحصون حواليه، فأوقدوا النيران دون جدوى.
وجرح الحارث بن أوس في رجله ببعض سيوف أصحابه أو في رأسه، فنزفه الدم، وتأخر قليلا عن أصحابه، الذين سلكوا على بني أمية بن زيد إلى بني قريظة، إلى " بعاث "، إلى " حرة العريض " (3) ، فانتظروا صاحبهم الحارث هناك حتى وافاهم، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الليل وهو يصلي، فأخبروه بقتل ابن الأشرف.
وهكذا انتهت حياة أحد أعداء المسلمين الذي آذاهم وحرض عليهم كثيرا.
__________
(1) بقيع الغرقد: مقبرة أهل المدينة المنورة.
(2) الثنه من الإنسان: ما دون السرة، فوق العانة، أسفل البطن.
(3) حرة العريض: حرة بالقرب من المدينة. لا ذكر لها في معجم البلدان.(13/281)
2 - سريته إلى القرطاء: خرج محمد بن مسلمة من المدينة المنورة لعشر ليال خلون من شهر المحرم على رأس تسعة وخمسين شهرا من مهاجر رسول صلى الله عليه وسلم في السنة السادسة الهجرية، بعثه في ثلاثين راكبا إلى القرطاء، والقرطاء بنو قرط وقريط بنو عبد الله بن أبي بكر بن(13/281)
كلاب، وهم بطن من بني بكر من كلاب، وكانوا ينزلون " البكرات " (1) ، بناحية " ضرية "، وبين ضرية والمدينة سبع ليال.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة أن يشن على القرطاء الغارة، فسار الليل، وكمن النهار، وأغار عليهم، فقتل نفرا منهم وهرب سائرهم واستاق نعما وشاء، ولم يطارد الذين هربوا من القرطاء.
وانحدر محمد بن مسلمة إلى المدينة، فخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به، وأخذ أصحاب ابن مسلمة ما بقي، فعدلوا الجزور بعشر من الغنم، وكانت النعم مائة وخمسين بعيرا، والغنم ثلاثة آلاف شاة، وغاب تسع عشرة ليلة، وقدم لليلة التي بقيت من المحرم (2) .
وقد استطاع محمد بن مسلمة بهذه العملية السريعة الخفيفة، أن يباغت العدو مباغتة كاملة بالزمان، فانتصر عليه بسهولة ويسر انتصارا ساحقا.
__________
(1) البكرات: جمال شمخ سود بناحية ضرية، انظر معجم البلدان - (2 \ 256) .
(2) طبقات ابن سعد (2 \ 78) وانظر مغازي الواقدي (2 \ 534 - 535) وأنساب الأشراف (1 \ 376) .(13/282)
3 - سريته إلى ذي القصة:
بعث النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة إلى " ذي القصة " (1) في شهر ربيع الآخر سنة ست من الهجرة، في عشرة نفر إلى بني ثعلبة وبني عوال من ثعلبة بن سعد، وهم بذي القصة، وبينها وبين المدينة أربعة وعشرون ميلا على طريق " الربذة "، فورد المسلمون عليهم ليلا، فأحدق بهم القوم وهم مائة رجل، فتراموا ساعة من الليل، ثم حملت الأعراب عليهم بالرماح فقتلوا المسلمين.
__________
(1) ذو القصة موضع بينه وبين المدينة أربعة وعشرون ميلا، وهو طريق الربذة انظر معجم البلدان (7 \ 114) .(13/282)
ووقع محمد بن مسلمة جريحا، فضرب كعبه فلا يتحرك، وجرد المشركون المسلمين من الثياب، فمر بمحمد بن مسلمة، رجل من المسلمين، فحمله على بعيره ورد به المدينة المنورة.
وبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في أربعين رجلا إلى مصارع القوم، فلم يجدوا أحدا، ووجدوا نعما وشاء فساقه ورجع إلى المدينة (1) .
وقد نجا محمد بن مسلمة من الموت، لأن المشركين بعد إصابته بجروح بليغة، ظنوا أنه قد قضى نحبه كسائر أفراد سريته، ولكنه لم يكن قد مات، فنجا من الموت ليواصل خدمة الإسلام والمسلمين، من جديد.
__________
(1) طبقات ابن سعد (2 \ 85) ومغازي الواقدي (2 \ 551 - 552) وأنساب الأشراف (1 \ 377) .(13/283)
مع الخلفاء الراشدين
ا - مع عمر:
أ - كان محمد بن مسلمة صاحب العمال أيام عمر بن الخطاب، فكان عمر إذا شكي إليه عامل أرسل محمدا يكشف الحال، (1) ، فكان يشغل منصب المفتش العام للولاة حسب المصطلحات الإدارية الحديثة.
وقد أنشأ سعد بن أبي وقاص لسكناه دارا في الكوفة من نقض (2) آجر قصر كان للأكاسرة في ضواحي مدينة " الحيرة ". وكانت الأسواق قريبة من داره، وكانت الأصوات المرتفعة تمنع سعدا الحديث، فلما أنجز بناء الدار، ادعى الناس عليه ما لم يقل، فقالوا: قال سعد: " سكن عنى الصويت " (3) .
__________
(1) أسد الغابة (4 \ 330) .
(2) نقض: اسم البناء المنقوض إذا هدم.
(3) الطبري (4 \ 46 - 47) .(13/283)
وبلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك عن سعد بن أبي وقاص، وأن الناس يسمون داره قصر سعد! فدعا محمد بن مسلمة وأرسله إلى الكوفة وقال له: اعمد إلى القصر حتى تحرق بابه، ثم ارجع عودك على بدئك " (1) .
وخرج محمد بن مسلمة من المدينة إلى الكوفة، فلما قدم الكوفة اشترى حطبا، ثم أتى دار سعد، فأحرق الباب (2) .
وأتي سعد، فأخبر الخبر، فقال: " هذا رسول أرسل لهذا الشأن "، وبعث لينظر من هو الذي حرق باب داره، فإذا هو محمد بن مسلمة، فأراده على النزول والدخول، فأبى فعرض عليه نفقة، فلم يأخذ شيئا.
وخرج سعد إلى محمد بن مسلمة، فدفع ابن مسلمة كتاب عمر إلى سعد: " بلغني أنك بنيت قصرا اتخذته حصنا، يسمى: قصر سعد، وجعلت بينك وبين الناس بابا، فليس بقصرك ولكنه قصر الخبال، انزل منه منزلا مما يلي بيوت الأموال وأغلقه، ولا تجعل على القصر بابا تمنع الناس من دخوله وتنفيهم به عن حقوقهم ليوافقوا مجلسك ومخرجك من دارك إذا خرجت "، فحلف سعد ما قال الذي قالوا! !
ورجع محمد بن مسلمة من الكوفة إلى المدينة، حتى إذا دنا من المدينة نفذ زاده، فجعل يأكل قشر الشجر، فأقبل على عمر وقد مرض لسبب ذلك، فأخبره خبره كله، فقال عمر: " هلا قبلت من سعد! ؟ " فقال محمد بن مسلمة: " لو أردت ذلك، كتبت لي به، أو أذنت لي فيه " فقال عمر: " إن أكمل الرجال رأيا من إذا لم يكن عنده عهد من صاحبه، عمل بالحزم أو قال به ".
وأخبر ابن مسلمة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بيمين سعد، وقوله، فقال عمر: " هو أصدق ممن روى عليه وممن أبلغني "، وقد حدث ذلك سنة سبع عشرة الهجرية (638) م.
__________
(1) الطبري (4 \ 47) .
(2) ابن الأثير (2 \ 529) .(13/284)
ب - اتهم نفر من بني " أسد " سعدا في دينه وصلاته وعدله! ! فشكوه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في أحرج أوقات الفتح الإسلامي، فقد اجتمعت قوى الفرس كلها في " نهاوند " وأخذ المسلمون والفرس يستعدون لخوض معركة حاسمة، خاصة وأن سعدا هو القائد العام، وهو المسئول الأول عن الفتح في الشرق.
وقال عمر لأولئك النفر: " إن الدليل على ما عندكم من الشر، نهوضكم في هذا الأمر وقد استعد لكم من استعد! وايم الله، لا يمنعني ذلك من النظر فيما لديكم، وإن نزلوا بكم " ثم بعث محمد بن مسلمة للتحقيق.
وقدم ابن مسلمة الكوفة، فأجرى التحقيق مع سعد بن أبي وقاص علنا، ذلك أنه كان يأخذ سعدا من مسجد إلى مسجد من مساجد الكوفة، ويسأل الناس عنه وعن سيرته فيهم علنا، فيقولون: لا نعلم إلا خيرا، ولا نشتهي به بديلا.
ووصل ابن مسلمة بسعد إلى الجماعة التي كانت تمالئ أصحاب الشكوى على سعد، فلم تجرؤ أن تطعن عليه أو تقول فيه سوءا.
وانتهى ابن مسلمة بسعد إلى مسجد بني عبس، فقال محمد بن مسلمة: " أنشد الله رجلا يعلم حقا إلا قال "، فقال أسامة بن قتادة: " اللهم إن نشدتنا، فإنه لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في الرعية، ولا يغزو في السرية "، فقال سعد: " اللهم إن كان قالها كاذبا ورئاء وسمعة، فأعم بصره، وأكثر عياله، وعرضه لمضلات الفتن " فعمي، واجتمع عنده عشرة بنات، وكان يسمع بخبر المرأة فيأتيها حتى يجسها، فإذا عثر عليه قال: " دعوة سعد الرجل المبارك " (1) .
__________
(1) الطبري (4 \ 121) .(13/285)
وقال سعد: " إني لأول رجل أهرق دما من المشركين. ولقد جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه، وما جمعهما لأحد قبلي، وقد رأيتني خمس الإسلام، وبنو أسد تزعم أني لا أحسن أصلي، وأن الصيد يلهيني " (1) .
وخرج محمد بن مسلمة بسعد وبخصومه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حتى قدموا عليه، فأخبره الخبر، فقال: " يا سعد! ويحك كيف تصلي؟ "، قال سعد: " أطيل الأوليين وأحذف الأخريين "، فقال عمر: " هكذا الظن بك "، ثم قال: " لولا الاحتياط لكان سبيلهم بينا " (2) .
وعزل عمر سعدا سنة إحدى وعشرين للهجرة (3) (641م) وولى عمار بن ياسر مكانه، ولم يعزل سعدا عن عجز أو خيانة، كما قال عمر، (4) فاتهم أهل الكوفة عمار بن ياسر بالضعف وأنه لا علم له بالسياسة، فعزله عمر وهو يقول: " من عذيري من أهل الكوفة! إن استعملت عليهم القوي فجروه، وإن دليت عليهم الضعيف حقروه! " (5) .
جـ - وكان عمر بن الخطاب يرسل محمد بن مسلمة إلى عماله ليأخذ شطر أموالهم لثقته به، (6) وقد بعثه عمر إلى عمرو بن العاص عامله على مصر، فقاسمه ماله (7) .
لقد كان عمر يكتب أموال عماله إذا ولاهم، ثم يقاسمهم ما زاد على ذلك، وربما أخذه منهم، فكتب إلى عمرو بن العاص: " أنه قد فشت لك فاشية من متاع ورقيق وآنية وحيوان لم يكن حين وليت مصر "، فكتب إليه عمرو: " إن أرضنا أرض
__________
(1) الطبري (4 \ 121 - 122) وانظر المعارف لابن قتيبة (242) .
(2) الطبري (4 \ 122) وابن الأثير (3 \ 6) .
(3) العبر (1 \ 25) .
(4) فتح الباري بشرح البخاري (7 \ 55) .
(5) البلاذري (393) وتاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي (88) .
(6) أسد الغابة (4 \ 330) .
(7) الإصابة (6 \ 64) .(13/286)
مزدرع ومتجر، فنحن نصيب فضلا عما نحتاج إليه لنفقتنا "، فكتب إليه: " إني قد خبرت من عمال السوء ما كفى، وكتابك إلي كتاب من أقلقه الأخذ بالحق، وقد سؤت بك ظنا، وقد وجهت إليك محمد بن مسلمة ليقاسمك مالك، فأطلعه طلعه وأخرج إليه ما يطالبك، وأعفه من الغلظة عليك، فإنه برح الخفاء "، فقاسمه ماله.
وقال عمرو: " إن زمانا عاملنا فيه ابن حنتمة (1) هذه المعاملة لزمان سوء. لقد كان العاص يلبس الخز بكفاف الديباج "، فقال محمد بن مسلمة: " مه! لولا زمان ابن حنتمة، هذا الذي تكرهه، ألفيت معتقلا عنزا بفناء بيتك، يسرك غزرها، ويسوءك بكووها "، قال: " أنشدك الله أن تخبر عمر بقولي، فإن المجالس بالأمانات "، فقال: " لا أذكر شيئا مما جرى بيننا، وعمر حي " (2) .
لقد كان عمر إذا أحب أن يؤتى بالأمر كما يريد، بعث محمد بن مسلمة، وكان معدا لكشف الأمور المعضلة في البلاد (3) .
ويمكن أن نتصور مبلغ عفة محمد بن مسلمة ونزاهته وذكائه وقوة شخصيته وثقته بنفسه والتزامه المطلق بقول الحق وإقراره، بحيث إن عمر بن الخطاب، وهو من هو أمانة وحرصا على مصلحة المسلمين يعتمد عليه اعتمادا بلا حدود في قضايا الولاة ومحاسبة المنحرفين منهم محاسبة لا هوادة فيها، كما استعمله على صدقات بني جهينة، (4) مما يدل على أنه كان مثاليا في عفته ونزاهته، متفوقا في ذكائه وقوة شخصيته، واثقا بنفسه أعظم الثقة، ملتزما بقول الحق أشد الالتزام، وتلك ثمرة من ثمرات إيمانه العميق بعقيدته وعمله بهذه العقيدة وإخلاصه في عمله.
__________
(1) حنتمة: هي أم عمر بن الخطاب وهي حنتمة بنت هاشم بن المغيرة المخزومي.
(2) البلاذري (307 - 308) .
(3) الإصابة (6 \ 64) .
(4) الإصابة (6 \ 63 - 64) وأسد الغابة (4 \ 330) والبداية والنهاية (8 \ 27) .(13/287)
2 - مع عثمان:
أ - تصاعد شغب قسم من الناس على ولاتهم سنة خمس وثلاثين للهجرة (655 م) بدس عبد الله بن سبأ الذي كان يهوديا وأسلم أيام عثمان، ثم تنقل بالحجاز ثم بالبصرة ثم بالكوفة ثم بالشام يريد إضلال الناس، فلم يقدر منهم على ذلك، فأخرجه أهل الشام، فأتى مصر وأقام فيهم وقال لهم: " العجب ممن يصدق أن عيسى يرجع، ويكذب أن محمدا يرجع "، فوضع لهم الرجعة، فقبلت منه، ثم قال هم بعد ذلك: " إنه كان لكل نبي وصي، وعلي وصي محمد، فمن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووثب على وصيه وإن عثمان أخذها بغير حق، فانهضوا في هذا الأمر وابدءوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا به الناس ".
وبث دعاته، وكاتب من استفسد في الأمصار وكاتبوه، ودعوا بالسر إلى ما هو عليه رأيهم، وصاروا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيب ولاتهم، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يضعون، حتى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا الأرض إذاعة، فيقول أهل كل مصر: إنا لفي عافية مما ابتلى به هؤلاء، إلا أهل المدينة فإنهم جاءهم ذلك عن جميع الأمصار، فقالوا: إنا لفي عافية مما فيه الناس! !
وأتى أهل المدينة عثمان فقالوا: " يا أمير المؤمنين! أيأتيك عن الناس الذي يأتينا؟ " فقال: " ما جاء إلا السلامة، وأنتم شركائي وشهود المؤمنين، فأشيروا علي "، قالوا: " نشير عليك أن تبعث رجالا ممن تثق بهم إلى الأمصار، حتى يرجعوا إليك بأخبارهم ".
ودعا عثمان محمد بن مسلمة فأرسله إلى الكوفة، وأرسل أسامة بن زيد إلى البصرة، وأرسل عمار بن ياسر إلى مصر، وأرسل عبد الله بن عمر إلى الشام، وفرق رجالا سواهم، فرجعوا جميعا فقالوا: " ما أنكرنا شيئا أيها الناس ولا أنكره أعلام المسلمين ولا عوامهم " (1) .
__________
(1) الطبري (4 \ 340 - 341) وابن الأثير (3 \ 154 - 155) .(13/288)
لقد كان محمد بن مسلمة موضع ثقة عثمان كما كان موضع ثقة أبي بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهم جميعا من قبله، كما كان موضع ثقة النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم الكاملة فانتدبه عثمان إلى أخطر الثغور الإسلامية: الكوفة، لينقل إليه آلام الناس وآمالهم، فما وجد ابن مسلمة ولا وجد غيره من الموفدين ما كان يذيعه المغرضون، بل وجدوا الأمور تدعو إلى الاطمئنان.
وخرج أهل مصر وأهل الكوفة وأهل البصرة وأظهروا أنهم يريدون الحج، فلما كانوا من المدينة على ثلاث تقدموا إلى معسكرات قريبة من المدينة، ثم اقتحموا المدينة، فلما جاءت الجمعة التي على أثر دخولهم المدينة، خرج عثمان فصلى بالناس، ثم قام على المنبر فقال: " يا هؤلاء! الله الله! فوالله إن أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فامحوا الخطأ بالصواب "، فقام محمد بن مسلمة فقال: " أنا أشهد بذلك ".
وثار القوم بأجمعهم، فحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد، وحصبوا عثمان حتى صرع على المنبر مغشيا عليه، فأدخل داره (1) .
واستنجد عثمان بعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فأمر الناس بالركوب إلى معسكر أهل الفتنة الذين يريدون قتل عثمان إن لم ينزع عما يكرهون، فركب معه من المهاجرين والأنصار ثلاثون رجلا، فأتوا المصريين وكلموهم، وكان الذي يكلمهم علي ومحمد بن مسلمة، فسمعوا مقالتهما ورجعوا إلى مصر، فقال قائد المصريين (2) لمحمد بن مسلمة: " أتوصينا بحاجة؟ "، قال: " نعم، تتقي الله، ترد من قبلك عن إمامهم، فإنه قد وعدنا أن يرجع وينزع ". فقال: " أفعل إن شاء الله " (3) .
__________
(1) الطبري (4 \ 352 - 353) وابن الأثير (3 \ 160 - 161) .
(2) هو عبد الرحمن بن عديس البكوي.
(3) الطبري (4 \ 359 - 360) وابن الأثير (3 \ 162 - 163) .(13/289)
وعاد المصريون إلى مصر ولكنهم رجعوا ثانية من الطريق إلى المدينة، كما عاد الكوفيون والبصريون، فخرج إليهم محمد بن مسلمة وسألهم عن سبب عودتهم، فأخرجوا له صحيفة في أنبوبة رصاص يأمر فيها عثمان عماله بجلد قادتهم وحلق رءوسهم ولحاهم وصلب بعضهم.
ولما عاد أهل مصر أخبروا بذلك محمد بن مسلمة وقالوا له: " قد كلمنا عليا ووعدنا أن يكلمه، وكلمنا سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد، فقالا: " لا ندخل في أمركم "، وقالوا لمحمد بن مسلمة: ليحضر مع علي عند عثمان بعد الظهر، فوعدهم بذلك.
ودخل علي ومحمد بن مسلمة على عثمان، فاستأذنا للمصريين عليه، وعنده مروان بن الحكم، فقال: " دعني أكلمهم ". فقال عثمان: " اسكت فض الله فاك! ما أنت وهذا الأمر؟ اخرج عني "، فخرج مروان.
وقال علي ومحمد بن مسلمة لعثمان ما قال المصريون، فأقسم بالله ما كتبته ولا علم لي به، فقال محمد بن مسلمة: " صدق، هذا من عمل مروان ".
ودخل عليه المصريون، فلم يسلموا عليه بالخلافة، وقالوا له من جملة ما قالوا: " وخرجنا من مصر ونحن نريد قتلك، فردنا علي ومحمد بن مسلمة، وضمنا لنا النزوع عن كل ما تكلمنا فيه، فرجعنا إلى بلادنا، فرأينا غلامك وكتابك وعليه خاتمك تأمر عبد الله (1) بجلدنا والمثلة بنا وطول الحبس".
وحلف عثمان أنه ما كتب ولا أمر ولا علم، فقال علي ومحمد بن مسلمة: " صدق عثمان " ولكن المصريين رفضوا التراجع عن موقفهم إلا إذا استقال عثمان عن الخلافة، فإذا أبى فإنهم يقتلونه (2) وحصر المصريون عثمان فما برحوا محاصريه حتى قتلوه (3) .
__________
(1) يريدون: عبد الله بن سعد بن أبي سرح أمير مصر.
(2) الطبري (4 \ 372 - 375) وابن الأثير (3 \ 168 - 169) .
(3) الطبري (6 \ 375) .(13/290)
لقد بذل محمد بن مسلمة قصارى جهده ليحول دون الفتنة، ووقف مواقف شجاعة مخلصة ليقول كلمة الحق أما الحشود الغاضبة، وبخاصة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، حين صدق عثمان في روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الحشود ملعونة، فاعتدت تلك الحشود على عثمان وهو على المنبر حتى فقد وعيه وحمل إلى داره، فما سكت ابن مسلمة عن الحق ولا خشي غضبة الحشود عليه، وما قصر في نصح عثمان ولا في نصح تلك الحشود، ولكن الفتنة كانت أقوى من محاولاته ومحاولة غيره من المؤمنين الصادقين، ويبدو أن الأيدي الخفية التي لا تريد خير المسلمين هي التي كانت تحرك بمهارة تلك الحشود، فانهارت محاولات ابن مسلمة المخلصة الداعية الدائبة، وحققت الأيدي الخفية من أعداء الإسلام أهدافها في تفرقة كلمة المسلمين وإشاعة الفتنة بينهم، وأنهت حياة عثمان رضي الله عنه فمضى مظلوما شهيدا، وتفرقت تلك الحشود إلى أمصارها لتزرع بذور الفتنة شرقا وغربا، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، وتوقف الفتح الإسلامي، وأصبحت سيوف المسلمين عليهم لا على أعدائهم.(13/291)
- 3- اعتزال الفتنة الكبرى:
هز مقتل عثمان بن عفان في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو خليفة المسلمين الشرعي، كثيرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - ومنهم محمد بن مسلمة - هزا عنيفا، واعتبروا ما حدث فتنة من الفتن لا تبقي ولا تذر، ومن واجبهم وواجب كل مسلم ألا يشارك فيها بسيفه ولا يده ولا لسانه، وألا يدخر وسعا في إخماد أوارها ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
ومن الخطأ أن نعتبر اعتزال محمد بن مسلمة الفتنة لأنه كان (عثمانيا) وأن نعتبر اعتزال أمثاله من كبار الصحابة، لأنهم كانوا عثمانيين، فما كان محمد بن مسلمة منتفعا من عثمان ولا من عهده ماديا ولا معنويا، ولا كان متهما بهذا الانتفاع من قريب أو بعيد، وما كان عثمان بالنسبة لمحمد بن مسلمة إلا رمزا للشرعية بالإضافة إلى مزاياه الأخرى التي لا يستطيع أن ينكرها عليه عدو ولا صديق، فإذا وقف محمد بن مسلمة إلى جانب عثمان سرا وعلنا، فقد وقف إلى جانب الشرعية دفاعا(13/291)
عن المثل الإسلامية وتعاليم الدين الحنيف، وخوفا من الفتنة التي تمزق صفوف المسلمين ومنعا لانتشارها المدمر، وقد حدث ما توقعه محمد بن مسلمة وتوقعه أمثاله من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتسمين ببعد النظر والإيمان العميق.
ومن المؤكد أن موقف محمد بن مسلمة المسئول تجاه عثمان موقف ثابت مسئول لو كان الخليفة المعتدى عليه غير عثمان، فهو موقف مبدئي لا شك فيه وليس موقفا مصلحيا يتبدل بتبدل الظروف والأحوال.
وأخذت الفتنة تستشري، فكانت وقعة " الجمل " بين الإمام علي بن أبي طالب وبين المعارضين لخلافته، فقتل يومئذ من المسلمين عشرة آلاف، وكان ذلك سنة ست وثلاثين للهجرة (1) (656) م.
ثم كانت معركة " صفين " بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، قتل فيها من الفريقين ستون ألفا من المسلمين (2) .
وهكذا تساقط المسلمون بسيوفهم، وتوقف الفتح الإسلامي نهائيا، وطمع الروم باستعادة ما فتحه المسلمون من بلادهم، فأصبح الطالب مطلوبا والمنتصر مهزوما.
وما كان أمام محمد بن مسلمة إلا اعتزال الفتنة، فلم يكن مع الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولكنه لم يكن عليه، واعتزل معه جماعة من كبار الصحابة منهم سعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد وعبد الله بن عمر بن الخطاب وغيرهم، (3) فكانوا ممن اعتزل الحروب بالجمل وصفين ونحو ذلك (4) .
واعتزل محمد بن مسلمة بالربذة (5) في البادية عن المدينة وأهلها الذين فرقتهم الفتنة أيضا قال ضبيعة بن حصين الثعلبي: " كنا جلوسا مع حذيفة بن اليمان فقال: " إني لأعلم رجلا لا تنقصه الفتنة شيئا، فقلنا: من هو؟ فقال: محمد بن مسلمة
__________
(1) العبر (1 \ 37) .
(2) العبر (1 \ 28) .
(3) أسد الغاية (4 \ 331) والاستيعاب (3 \ 1377) .
(4) البداية والنهاية (8 \ 27) .
(5) البداية والنهاية (8 \ 27) .(13/292)
الأنصاري. فلما مات حذيفة وكانت الفتنة، خرجت فيمن خرج من الناس، فأتيت أهل ماء، فإذا أنا بفسطاط مضروب متنحى تضربه الرياح، فقلت: لمن هذا الفسطاط؟ قالوا لمحمد بن مسلمة. فأتيته، فإذا هو شيخ. فقلت له: يرحمك الله! أراك رجلا من خيار المسلمين، تركت بلدك ودارك وأهلك وجيرتك، قال: " تركته كراهية الشر، ما في نفسي أن تشتمل على مصر من أمصارهم حتى تنجلي عما انجلت " (1) .
وقد روى محمد بن مسلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه سيفا وقال له: " قاتل به المشركين ما قوتلوا، فإذا رأيت أمتي يضرب بعضهم بعضا، فائت به " أحدا " فاضرب به حتى ينكسر، ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية قاضية " (2) .
وروى محمد بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه سيفا فقال: «يا محمد بن مسلمة! جاهد بهذا السيف في سبيل الله، حتى إذا رأيت من المسلمين فئتين تقتتلان، فاضرب به الحجر حتى تكسره، ثم كف لسانك ويدك، حتى تأتيك منية قاضية أو يد خاطئة (3) » ، فلما قتل عثمان، وكان من أمر الناس ما كان، خرج إلى صخرة في فنائه، فضرب الصخرة بسيفه حتى كسره (4) .
وذكر محمد بن مسلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره باعتزال الفتنة، (5) فاتخذ سيفا من خشب (6) قد نحته وصبره في الجفن معلقا بالبيت، وقال: " إنما علقته أهيب به ذاعرا " (7) .
وهكذا تقاعد محمد بن مسلمة، فكسر سيفه الذي يقاتل به. حين أصبحت سيوف أكثر المسلمين تقاتل المسلمين ولا تقاتل أعداءهم، وأصبح سيفه من
__________
(1) طبقات ابن سعد (3 \ 444 - 445) .
(2) طبقات ابن سعد (3 \ 444) والإصابة (6 \ 63) .
(3) سنن ابن ماجه الفتن (3962) ، مسند أحمد بن حنبل (4/225) .
(4) طبقات ابن سعد (3 \ 445) وانظر الإصابة (6 \ 63) .
(5) الاستيعاب (3 \ 1377) والبداية والنهاية (8 \ 27) .
(6) البداية والنهاية (8 \ 27) .
(7) طبقات ابن سعد (3 \ 445) ، غمد السيف.(13/293)
خشب لا يقتل مسلما، فتقاعد من كان يقال له. فارس نبي الله، (1) وما أتعبه الجهاد ولكن أتعبته الفتنة، فلم يلوث بها سيفه ولا يده ولا لسانه بدم مسلم أبدا.
__________
(1) طبقات ابن سعد (3 \ 445) .(13/294)
الإنسان:
كان لمحمد بن مسلمة عشرة أبناء من الذكور، وست بنات: (1) عبد الرحمن وبه كان يكنى، وأم عيسى، وأم الحارث، وأمهم أم عمرو بنت سلامة بن وقش بن زغبة بن زعوراء بن عبد الأشهل، وهي أخت سلمة بن سلامة. وعبد الله، وأم أحمد، وأمهما عمرة بنت مسعود بن أوس بن مالك بن سواد بن ظفر، وهو كعب بن الخزرج من الأوس. وسعد، وجعفر، وأم زيد، وأمهم قتيلة بنت الحصين بن ضمضم من بني مرة بن عوف بن قيس عيلان، وعمر، وأمه زهراء بنت عمار بن معمر من بني مرة ثم من بني مرة من بني خصيلة من قيس عيلان. وأنس وعمرة، وأمهما من الأطبا بطن من بطون كلب. وقيس، وزيد، ومحمد، وأمهم أم ولد. ومحمود لا عقب له، وحفصة، وأمهما أم ولد (2) .
وصحب النبي صلى الله عليه وسلم من أولاد محمد بن مسلمة: جعفر وعبد الله وسعد وعبد الرحمن وعمر (3) خمسة ذكور.
أخوه: محمود بن مسلمة، شهد أحدا والخندق وخيبر، ودلى عليه مرحب اليهودي يوم خيبر رحى فأصابه في رأسه، فهشمت البيضة رأسه، فمكث ثلاثة أيام ثم مات شهيدا (4) .
__________
(1) الاستبصار (422) ، وأسد الغابة (4 \ 330)
(2) طبقات ابن سعد (3 \ 443) .
(3) الإصابة (6 \ 63) .
(4) الاستبصار (243) .(13/294)
وأخته: أم عميس بنت مسلمة، وهي امرأة رافع بن خديج، وهي التي نزل فيها قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} (1) وهي من المبايعات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، (2) كما كانت زوج محمد بن مسلمة وهي عمرة من المبايعات (3) أيضا، وكانت زوجه أم عمرو بنت سلامة بن وقش من المبايعات (4) أيضا.
وهكذا كان محمد بن مسلمة في بيت كله إيمان وتقوى.
لقد كان من أكابر الصحابة (5) ومن فضلائهم (6) وسادتهم (7) وشجعانهم، (8) وكان موضع ثقة النبي صلى الله عليه وسلم وثقة الخلفاء الراشدين من بعده.
وصف شجاعته عباد بن بشر بن وقش الذي كان زميله في قتل اليهودي ابن الأشرف، فقال في قصيدته التي فيها:
صرخت به فلم يعرض لصوتي ... وأوفى طالعا من رأس جدر (9)
فعدت فقال من هذا المنادي ... فقلت: أخوك عباد بن بشر (10)
فعانقه ابن مسلمة المرادي (11) ... به الكفار كالليث الهزبر (12)
وشد بسيفه صلتا عليه ... فقطره أبو عبس بن جبر
وكان الله سادسنا فأبنا ... بأنعم نعمة وأعز نصر (13)
__________
(1) سورة النساء الآية 128
(2) المحبر (411) .
(3) المحبر (414 و 415) .
(4) المحبر (417) .
(5) خلاصة تهذيب الكمال (359) .
(6) الاستيعاب (3 \ 1377) .
(7) البداية والنهاية (8 \ 27) .
(8) الاستبصار (241) .
(9) البيت في مغازي الواقدي: صرخت به فلم يجفل لصوتي وأوفى طالعا من فوق قصر.
(10) الاستبصار (220) .
(11) رادى الرجل عن قومه: إذا ناضل عنهم.
(12) الهزبر في الأصل صفة للأسد ثم أطلقت علما عليه.
(13) الاستبصار (238) وانظر تمام القصيدة في: مغازي الواقدي (1 \ 190 - 191) .(13/295)
روى ستة عشر حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم (1) ، انفرد له البخاري بحديث، (2) وروى عنه جماعة من الصحابة والتابعين، وكان من أصحاب الفتيا من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، (3) فكان من المحدثين الفقهاء الصحابة رضي الله عنهم.
وكان رجلا أسود طويلا عظيما " ضخم البدن " أصلع (4) ، أسمر شديد السمرة، (5) وهذه هي صفة سواده، فلم يكن أسود فاحما، بل أسمر شديد السمرة، ذا جثة (6) .
ولو أردنا وصف صفاته إنسانا، لأجملنا القول، بأنه يمثل تعاليم الإسلام بكل مثلها العليا تمشي بشرا على الأرض، ولعل أبرز تلك السمات أمانته المطلقة وعفته النادرة وورعه العظيم.
فقد أبى أن يحل ضيفا على سعد بن أبي وقاص حين قدم الكوفة لإحراق باب قصر الإمارة، وأبى أن يقبل نفقة للطريق أو مئونة للسفر، فاضطر في سفره البعيد أن يأكل قشور الأشجار ونبات الأرض، فأصيب بالمرض والهزال.
ولما اشترى جرزة حطب من نبطي كوفي ليحرق بها باب قصر الإمارة شرط على بائعها حملها، ثم جاء بها وأحرق باب القصر ورجع، وكان عمر يستعمله على الصدقة (7) .
ولد قبل البعثة باثنتين وعشرين سنة (8) أي أنه ولد قبل خمس وثلاثين سنة قبل الهجرة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بقي بعد بعثته في مكة ثلاث عشرة سنة.
__________
(1) أسماء الصحابة الرواة - ملحق بجوامع السيرة (283) وخلاصة تهذيب تهذيب الكمال (359) .
(2) خلاصة تهذيب تهذيب الكمال (359) .
(3) أصحاب الفتيا من الصحابة - ملحق بجوامع السيرة (320) .
(4) طبقات ابن سعد (3 \ 444) .
(5) أسد الغابة (4 \ 331) والاستيعاب (3 \ 1377) .
(6) الاستيعاب (3 \ 1377) .
(7) الاستبصار (242) .
(8) الإصابة (6 \ 63) .(13/396)
ومات سنة ثلاث وأربعين الهجرية (663 م) وهو يومئذ ابن سبع وسبعين سنة.
وهذا التاريخ لوفاته ما نرجحه، لإجماع المؤرخين عليه، ولأنه يقارب ما بلغ عمره إليه من سنوات، وقيل توفي سنة ست وأربعين الهجرية بالمدينة (1) وصلى عليه مروان بن الحكم، (2) وقيل: توفي في سنة سبع وأربعين وهو ابن تسع وسبعين سنة (3) .
وهناك رواية أن أهل الشام قتلوه. فقد دخل عليه رجل من أهل الأردن وهو في داره فقتله، (4) لكونه اعتزل عن معاوية في حروبه، (5) والرواية ضعيفة لأن أكثر الذين أرخوا له لم يأخذوا بها ولم يتطرقوا إليها، ولإجماعهم على أنه مات بأجله المحتوم.
وقد استوطن المدينة ومات بها، ولم يستوطن غيرها، (6) إلا مدة الفتنة، فقد رحل إلى الربذة في الصحراء - واعتزل الفتنة هناك.
وهكذا انتهت حياة صحابي جليل، كان يملأ الأعين قدرا وجلالا، والنفوس تقديرا وإجلالا، والقلوب أسوة ومثالا، خدم عقيدته والمسلمين ولا يزال ذكره يعطر صفحات التاريخ.
__________
(1) طقبات ابن سعد (3 \ 445) .
(2) الاستبصار (422) .
(3) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 92) .
(4) الإصابة (8 \ 64) .
(5) تهذيب التهذيب (9 \ 455) .
(6) أسد الغابة (4 \ 33) بالاستيعاب (3 \ 1377) .(13/297)
القائد:
كان محمد بن مسلمة من شجعان الصحابة كما ذكرنا، حتى لقب بفارس نبي الله، فسخر كل شجاعته في إعلاء كلمة الله مجاهدا تحت لواء الرسول القائد عليه الصلاة والسلام جنديا وقائدا مرءوسا على الفرسان تارة وعلى حرس النبي صلى الله عليه وسلم ومعسكر المسلمين تارة أخرى، وقائدا لسرايا النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى على أعدى أعداء المسلمين أفرادا وجماعات، وأثر في أعداء الإسلام ماديا ومعنويا.
وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم على نحو من خمس عشرة سرية من سراياه كما نص على ذلك قسم من المؤرخين، ولكن السرايا التي فصلها المؤرخون ثلاث سرايا فقط، هي التي ورد ذكرها في هذا البحث، ومن دراسة نشاطه جنديا وقائدا مرءوسا تحت لواء النبي صلى الله عليه وسلم، يبدو أنه كان ذا أثر بارز في كل غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وفي كل سرية قادها، ولم يكن جنديا عاديا بل كان جنديا متميزا، ولا قائدا عاديا بل قائدا متحفزا فهو من جنود العقيدة الراسخة وقادة العقيدة الراسخة، يوظف كل طاقاته في طبعه الموهوب وعلمه المكتسب وتجربته العملية، لخدمة عقيدته والمؤمنين بها، ولا يدخر وسعا في خدمتهما.
وقد كان يتحلى بالطاعة المطلقة لقادته وأمرائه، والطاعة هي الضبط المتين الذي هو من أهم ما يميز الجندي الجيد على الجندي الرديء والعسكري بصوره عامة على المدني، فكان يحارب الفتنة ومثيريها وأسبابها ومسببيها بكل ما أتي من قوة وعزم.
وقد كان سريع القرار صائبة، وقراره مبني على المعلومات التي يحصلها عن العدو، وقد كان حرصه على جمع المعلومات عن العدو عظيما، وكان دائب النشاط لا يكاد يهدأ فلا ينام ولا ينيم في جمع المعلومات عن العدو التي تعينه على إصدار قرار سريع صائب، كما أن ذكاءه اللامع أعانه على إصدار مثل هذا القرار.
وكان يتحمل المسئولية ولا يتملص منها أو يلقيها على عواتق الآخرين، عارفا(13/298)
بنفسيات زملائه ورجاله وقابلياتهم، فيلقي على عاتق كل واحد منهم ما يتناسب مع نفسيته وقابليته وكفايته.
وكان يثق بزملائه ورجاله ورؤسائه ويحبهم، ويبادلونه ثقة بثقة، وحبا بحب، وكانت شخصيته قوية جدا، لا يبالي أن يحاسب الأمراء والولاة والقادة دون مجاملة أو التزام إلا بالحق وحده دون سواه.
وكان ذا ماض مشرف مجيد، فهو من قدامى الصحابة وأشرافهم وشجعانهم، وعلمائهم، وخدماته للإسلام والمسلمين واضحة للعيان، كما أنه كان من أشراف الأوس ومن بيوتاتهم الكريمة في الجاهلية وفي الإسلام.
وكان يعرف مبادئ الحرب بالفطرة السليمة التي تدل على استعداد فطري للجندية عامة والقيادة خاصة.
فهو يطبق مبدأ اختيار المقصد وإدامته، ويحرص غاية الحرص على تحقيق مقصده بدأب واستمرار، دون أن يشتت جهوده من أجل تحقيق أهداف ثانوية تصرفه عن تحقيق مقصده كاملا.
وهو يطبق مبدأ التعرض، فكل معاركه جنديا وقائدا معارك تعرضيه، ولم يخض معارك دفاعية في حياته القتالية.
وهو يطبق مبدأ المباغتة، أهم مبادئ الحرب على الإطلاق، وقد باغت في إحدى سراياه عدوه مباغتة كاملة بالزمان كما ذكرنا.
وهو يطبق مبدأ الأمن، وكان غالبا المسئول الأول عن قضايا الأمن في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم قائدا لحرسه وقائدا لحرس معسكره، فلم يستطع العدو أن يباغت قوات المسلمين أبدا، لأن ابن مسلمة كان حذرا كل الحذر، يقظا كل اليقظة.
تلك هي أبرز سمات محمد بن مسلمة جنديا وقائدا، فلا عجب أن يكون موضع ثقة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته المباركة وموضع ثقة خلفائه من بعده، وأن يستطيع أن يؤدي(13/299)
واجباته العسكرية بكفاية واقتدار، وأن يثبت وجوده الفاعل في كل غزوة أو سرية شهدها جنديا وقائدا.(13/300)
محمد بن مسلمة في التاريخ
يذكر التاريخ لمحمد بن مسلمة، أنه كان من قدامى الصحابة ومن أكابرهم ومن فضلائهم وسادتهم وشجعانهم.
ويذكر له، أنه كان مؤثرا في كل غزوة وسرية شهدها، دائب النشاط والعمل لخدمة الإسلام والمسلمين.
ويذكر له، أنه من القلائل الذين تولوا القيادة والإدارة في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وبأمره، ويذكر له، أنه أنقذ الإسلام والمسلمين من أعدى أعدائهم أفرادا وجماعات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبتوجيهه.
ويذكر له، أنه لا تأخذه في الحق لومة لائم، فكان محاسب القادة والأمراء والولاة بلا هوادة ولا مجاملة.
ويذكر له أنه اعتزل الفتنة في الصحراء بعيدا عن داره وأهله، هاربا بدينه منها، ولم تجرفه الفتنة كما جرفت غيره.
رضي الله عن الصحابي الجليل، الإداري الحازم، القائد المنتصر، المحدث الفقيه، محمد بن مسلمة الأوسي الأنصاري.(13/300)
لقاء مع الداعية البريطاني
المسلم
يوسف إسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. . أما بعد:
فقد قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (1) {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (2) .
قام الداعية البريطاني المسلم يوسف إسلام بزيارة إلى إدارة المجلة. . فكان معه هذا اللقاء:
س: تحياتنا للأخ يوسف ونرجو من البداية أن تعطينا فكرة عن مبدأ دخولك في الإسلام، وما هو المؤثر الذي جذبك للإسلام؟ وما هو شعورك عندما اعتنقت الإسلام وبدأت تشعر أن المجتمع الذي تعيش فيه قد يناوئك؟
__________
(1) سورة الصف الآية 8
(2) سورة الصف الآية 9(13/301)
كانت نقطة التحول الحاسمة في حياتي ودخولي الإسلام هي قراءتي نسخة من ترجمة معاني القرآن الكريم، أتت هذه القراءة بعد عملية تحضيرية وبحث استمر عدة سنوات كنت أنظر خلالها في الحياة، وأبحث ولا أجد جوابا شافيا لما يعتمل في نفسي ويدور بخلدي من تساؤلات، لم أتوصل إلى إجابة تروي غليلي وتريحني من إلحاح الأسئلة المتكاثرة التي كانت تعن لي دوما، ورحت أبحث في البوذية وغيرها من الأديان، وانتهيت إلى لا شيء، ولم يكن من علاج للضياع في كل ما اطلعت عليه في مختلف الأديان التي رحت أبحث عن العلاج والحصول على إجابة شافية من خلالها، وكنت قد نشأت في مجتمع نصراني، ولا أمارس أي اهتمام لا سيما بعد أن تركت الدراسة، كما أنني لم أمارس شيئا من طقوس البوذية كذلك، وأسفر كل ذلك البحث عن عدم القناعة وعدم الشعور بالارتياح، مع بقاء الأسئلة التي تلح علي دونما إجابة، كل ذلك في الوقت الذي أصبحت فيه في عالم الشهرة، وأصبحت يشار إلي بالبنان لبلوغي أوج شهرتي، وخبرت الناس وتمرست بالحياة، ونظرت إلى أهداف الناس في هذه الحياة، وكذلك هدفي أنا وطموحي فيها، ولكن لم يكن إلا مجرد الضياع والسراب والفراغ، وكنت أشعر أن الحياة قد أصبحت مجرد هيكل فارغ لا ينضوي تحته أي مضمون، وكانت النقطة الحاسمة ولحظة الإشراق والتنوير في نفسي عندما قرأت القرآن الكريم، ولأول مرة في حياتي بدأت أجد الإجابة على التساؤلات الملحة، بدأت أفهم من أنا وأعرف دوري في الحياة، وأعرف المطلوب مني وكيف أؤديه، وكيف ينبغي علي أن أسير في الحياة.
فكان الجواب الشافي الشامل لما يعتمل في النفس وما يتردد في الصدر من خلال قراءتي لكتاب الله العزيز ثم دخولي في الإسلام.
س: هل قرأت القرآن الكريم باللغة العربية؟ أو في الترجمة لمعانيه؟ قرأته مترجما، وكانت الترجمة ربما باسم " هاشم أمير علي " أو قريبا من هذا الاسم، وبعد ذلك قرأت ترجمة معانيه " لعبد الله يوسف علي " وعليها شروح وتعليقات، وكانت الأخيرة نقلة وخطوة مباركة إلى الأمام حيث كنت من خلالها أفهم ما أقرأ.(13/302)
س: هل اعتنقت البوذية؟
لم أعتنق البوذية، ولم أمارس شيئا من طقوسها، إنما درستها واطلعت عليها فقط إبان بحثي عن هدف لنفسي في هذه الحياة.
س: والنصرانية، هل نبذتها؟
لقد نبذت التعاليم النصرانية، ولكنني كنت أشعر دائما وأعتقد بوجود قوة خفية تقودني وتوجهني وتهديني.
س: ما هي الصعوبات التي واجهتك والعقبات التي اعترضت طريقك لدى دخولك في الإسلام، ولدى حدوث النقلة من الوسط الفني والغنائي إلى رحاب الإسلام؟
لم تكن الصعوبات خارجية، من خارج نطاق نفسي، حيث كنت في موقع كبير، أستطيع أن أفعل ما أشاء دونما اعتراض من أحد، ولم يكن هناك من يملي علي أي شيء أو من يفرض علي شيئا معينا، ولم يخبرني أحد ماذا علي أن أفعل بالضبط، ولا يقيدني أحد بشيء، حيث لا مدير ولا رئيس.
ولكن الشيء الصعب، كان أمرا داخليا مع نفسي، حيث كان علي أن أتخلص من آلية الحياة في عالم الموسيقى وروتينيتها وما تفرض من ثقل! وأعباء ينبغي على المرء التخلص منها لما تمثله من عب ثقيل وشاق على النفس، وبالطبع لم تكن هذه عملية سهلة ولا هينة، ولكن هذه النقلة تمت بحمد الله تعالى، وكان ذلك بالتدريج، حتى تلاشت بالالتزام بالصلاة وترك المحرمات شرعا بمجرد أن يعلم المرء أن هذا الأمر أو ذاك منهي عنه شرعا، وتركت مجالس اللهو والشراب، وتوقفت عن الذهاب إلى الأماكن التي كنت قد اعتدت غشيانها قبل دخولي في الإسلام، وبترك تلك الأماكن واعتزالها كان من اليسير حدوث التغيرات المطلوبة، وانتهى اتصالي بالناس الذين اعتدت عليهم سابقا، وكنت أنتقل تدريجيا بفضل الله تعالى إلى عالم الإسلام الرحيب عن طريق البدائل والواجبات الإسلامية التي يتوجب علي أداؤها مثل المحافظة على الصلوات الخمس والاستعداد للجمعة والذهاب إليها، حدث كل هذا بالتدرج في المعرفة بهذا الدين وتقدمي في فهمه وفهم(13/303)
متطلباته وتكاليفه التي أمرت بها كمسلم من جملة المكلفين، فكان في حياتي تناسق هادئ وترتيب محكم عرفت فيه من أنا وما هو دوري وعرفت الهدوء والسكينة والاطمئنان النفسي بحمد الله تعالى.
س: هل أنت مقيم في لندن نفسها أم خارجها؟
بالطبع أعيش في مدينة لندن، ولكنني أتنقل دائما، أما الإقامة ففي لندن.
س: وعن المراكز الإسلامية، هل كان لك اتصال بالمراكز الإسلامية في لندن أو خارجها؟
كنت على معرفة وحسن صلة بالمراكز الإسلامية سواء في ذلك لندن ومانشستر وبرمنجهام، ولنا حلقة أسبوعية نحضرها كل يوم سبت في المركز الإسلامي بلندن ونواظب عليها منذ خمس سنوات.(13/304)
س: هل كنت تفكر في الإسلام أو تعرف عنه شيئا قبل الدخول فيه؟
لم يكن عندي علم بهذا الدين، ولم أكن أعرف عن الإسلام شيئا مطلقا، ولم يخبرني أي إنسان شيئا عن الإسلام البتة، ولم أعرف من أحد بأن هذا دين يمثل عقيدة إيمانية بالله أو أنه منهج حياة ينظم حياة الإنسان لكسب الدنيا والآخرة معا، ولكن الحمد لله تعالى أن عرفت ذلك من خلال بحثي واطلاعي، لا سيما من النسخة التي أعطاني إياها أخي " ترجمة معاني القرآن الكريم " ولم يكن أخي قد أسلم بعد، ومن هنا نتبين تقصير الدعاة المسلمين في عرض هذا الدين، وقلة أو عدم اهتمامهم بنشره، فأنا عرفت الإسلام بجهدي الذاتي، والذي أعطاني ما أعرف الإسلام من خلاله وهو " ترجمة معاني القرآن الكريم " كان غير مسلم في ذلك الوقت، فأين جهود الدعاة؟ وأين الحرص على تبليغ الدعوة الإسلامية ونشر الإسلام بين المتعطشين له والباحثين عن الهداية الإلهية في هذا المنهج الرباني؟
إن كل ما كنت أعرفه عن الإسلام فكرة مجردة مؤداها أن الإسلام مجرد شيء يتعلق بأمة أو بمجموعة معينة من البشر، أو يتعلق بجنسية أو قومية معينة مثل العرب أو الباكستانيين، ولا علاقة له بحقيقة إيمانية أو عقيدة في الله، ولم تكن رسالة الإسلام(13/304)
معروفة لي، فلما عرفتها لم أتردد في قبول الحق الذي جاءت به، ولا أظن أن الحال سيختلف إذا ما عرض هذا الدين عرضا صافيا نقيا أمينا لأهل الأرض، لا شك أنهم سيدخلون في الإسلام قاطبة، إن الذي أقوله من معرفتي أو جهلي " على الصحيح " بالإسلام قبل الدخول فيه هو نفس ما يعرفه سائر الناس من غير المسلمين عن الإسلام، إذ أن ذلك هو ما تبثه أجهزة الإعلام وتعمل على ترسيخه في أذهان الناس فيما يتعلق بالإسلام، وهو نفس الشيء الذي ترسخه الكتب والمناهج التعليمية في عقول الناس حول الإسلام وخصوصيته لقوم معينين محدودين لا يجاوزهم إلى غيرهم، فأين دعاة الإسلام؟ ولم نر الميدان خاليا من المخلصين الذين يعرضون الصورة الرائقة الواضحة للإسلام الصحيح؟ لماذا تخلو الساحة من هؤلاء المخلصين؟
وإلى متى يبقى الإسلام كالكلأ المباح، يعدو عليه فقط من يسعون لصد الناس عن سبيل الله وتنفير الناس منه حتى لا يدخلوا فيه.
س: ما هو حظك من التعليم؟
التعليم العادي، تركت الدراسة في سن السادسة عشرة " المرحلة الثانوية " ولم أدخل الجامعة، وما جدوى دخول الجامعة مع ما كنت وصلت إليه من قمة الشهرة التي لا مزيد عليها ويتمناها أكثر الناس طموحا؟ لقد كنت في معترك الحياة، وكان لأبي " مطعم " فكنت أعمل معه في المطعم، وأمارس هواياتي الفنية حيث كان طموحي أن أصبح موسيقيا كبيرا في عالم الفن والشهرة، فكنت أعمل مع أبي في المطعم للحصول على المال اللازم لشراء الآلات الموسيقية التي تساعدني على تحقيق هدفي الذي كنت أسعى لتحقيقه.
س: متى دخلت في الإسلام؟
دخلت في الإسلام عام 1977 منذ نيف وسبع سنين، وبعدها دخل أخي في الإسلام، بعد أن كان هو السبب في دخولي الإسلام بعد أن أهداني نسخة من ترجمة معاني القرآن الكريم، دخل هو في الإسلام بعدي، ولكنني أراه غير ملتزم بالإسلام التزاما كاملا رغم ما ألمسه فيه من خير.
كذلك نطق والدي بالشهادتين قبل أن يموت بيوم واحد.(13/305)
وأما أمي فنحن نزورها وتزورنا باستمرار حيث تسكن إلى جوارنا ولا يفصل بينها وبيننا سوى أربعة بيوت، ونجتمع معها " الأسرة كلها زوجتي وبناتي " وهي تصلي معنا وتعتقد بوحدانية الله، وأنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإن لم تصرح باعتناقها الإسلام ودخولها فيه صراحة للآن.
س: متى تزوجت؟ وهل أنجبت؟
تزوجت بعد أن أسلمت، ورزقني الله ثلاث بنات هن حسنة وأسماء وميمنة وتبلغ كبراهن من العمر أربع سنوات ونصف.
س: دعوى الإعلام الغربي بأن الإسلام يتعلق بأمة معينة من الناس، ما منشؤها؟ وما هو مصدر هذا الزعم؟
يرجع هذا بالدرجة الأولى إلى قلة الدعاة، وعدم القيام بحق الدعوة. . ومن ثم فلا كابح لهؤلاء، وليس هناك من يردعهم ولا من يمنع مزاعمهم الباطلة ضد الإسلام، فهم في الميدان ولا دعاة، ولا معرفة بالدعوة ولا تعريف بها، ليس هناك من يجلي هذه الشبهات وقد خلا لهم الجو، فهؤلاء أشبه بحيوان جامح يصول ويجول حيث شاء وقد غاب من يقيد هذا الحيوان الهائج ويلزمه مكانا معينا، وماذا تظن والحال هذه ولا جهود للدعاة، بل وربما لا وجود لهم بالكلية، لا يوجد من يعلم الناس الدين الحق ولا من يعرفهم بالإسلام الصحيح وبطبقه بينهم ولا حتى في المراكز الإسلامية، وللصراحة، فإنه لا يزيد الأمر في المراكز الإسلامية على مجرد إعداد أماكن خاصة للصلاة وتجهيزها، وشتان بين هذا الوضع الذي نعيشه الآن، وما كانت عليه الأمور في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانت الدعوة إلى الله وتعريف الناس بالإسلام ومحاولة هداية الناس وكسب أنصار للإسلام، وإدخال جدد فيه هي دأب الدعاة ومجال اهتمامهم الأكبر، إن ما نراه الآن يرجع إلى تقصير المسلمين في عرض هذا الدين وعدم اهتمامهم بالتعريف به ولا يقوم في الأوساط الغربية من يجلي الشبهات والأراجيف التي يبثها أعداء الإسلام من وقت لآخر، لقد قصرنا كثيرا في واجبنا نحو دين الله وكأننا زهدنا فيما عند الله، كل ذلك أدى إلى ترسيخ هذه المزاعم لخلو الجو لمن يبثها.(13/306)
س: يقوم المسئولون عن الأمن ورجال الشرطة في أمريكا بدعوة المسلمين للقيام بالدعوة وتوجيه النصائح داخل السجون، هل تلمس ذلك في إنجلترا؟
قد تكون نفس الصورة موجودة في إنجلترا، ولكن مع الفارق حيث ترتفع معدلات الجريمة في أمريكا، بينما تقل معدلاتها في إنجلترا مما يجعل الصورة أقل وضوحا وإن وجدت على كل حال فهي ليست بنفس الدرجة.
ويذهب بعض الدعاة المسلمون إلى السجون للوعظ والإرشاد وتبشير الناس بالإسلام ويرحب بهم المسئولون ويسمحون لهم.
وأحد الذين يقومون بالدعوة إلى الله داخل السجون معروف لدينا ويحضر حلقتنا الأسبوعية في المركز الإسلامي ويأتينا دائما بزاد جديد للدعوة، وفي كل مرة، في كل أسبوع يأتي ببعض الذين أسلموا على يديه وببركة الله ثم ببركة دعوته.
وتوجد جهود للدعوة، ولكنها جهود مبعثرة لا ضابط بينها ولا تنسيق إنما هي جهود فردية، أو جهود جماعية لا تزال بحاجة إلى أن يتم التوحيد بينها ويوجد التعاون والتنسيق لتؤتي ثمارها، إذ لا توجد منظمة أو هيئة وحيدة تعمل على رفع شأن المسلمين في إنجلترا والارتقاء بهم.(13/307)
س: ما الذي يتخذ تجاه المسلمين الجدد؟ من يتولاهم ويقوم على رعايتهم؟ كيف يوجهون؟ وما الذي اتبع معك عندما دخلت في الإسلام؟
القليل، والقليل جدا، وربما لاشيء، ما لم يكن اعتناق الشخص للإسلام عن طريق بعض الأسر المسلمة، فإنه لا يتخذ معه إجراء إيجابي، وعندما يكون إسلام شخص ما عن طريق بعض الأسر المسلمة، فهي التي تتولاه وتقوم على رعايته إسلاميا، أما من يسلم عن طريق اطلاعه ومعرفته بالإسلام عن طريق الكتب والنشرات وما إلى ذلك، فهذا لا يشعر به أحد ولا يرعاه أحد ولا يقوم أحد بتقوية معرفته بالإسلام ومحاولة تثبيته على الإسلام ورفع معنوياته، ونحن نقوم بلقاءات مستمرة في المسجد للتعريف بالإسلام وتطبيقه، ولكنه عمل قليل جدا يمثل صرخة في واد سحيق، ولا يتناسب ما نقوم به في هذا السبيل مع عدد الداخلين في الإسلام وإقبالهم الطيب على معرفة دينهم ورغبتهم في تطبيق الإسلام والتدريب عليه حتى(13/307)
يتمرسوا به ويصير سهلا عليهم القيام بمتطلبات هذا الدين، فهم في حاجة إلى نموذج يحذون حذوه وينسجون على منواله، وقلما يجدونه، فالمسلمون الجدد يريدون أن يتعلموا مبادئ الإسلام حتى لا يبقى إسلامهم مجرد نطق لفظي بالشهادتين فقط، ومع ذلك فلا مكان لهم ولا يوجد من يعلمهم العربية ولا الإسلام ولذلك فنحن نحاول بالقدر المستطاع وعن طريق لقاءاتنا في المركز الإسلامي، نحاول الارتقاء بالدعوة ونبحث في سبل النهوض بالإسلام وتلافي أسباب العجز والقصور ونحاول تعريف المسلمين بدينهم وتثبيتهم عليه وتعليمهم ما ينبغي عليهم كمسلمين، ولكنها تبقى محاولات، ولمن نترك هذه المحاولات، فإنها أقصى ما نستطيعه، وهي تكليفنا، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها، أما الذي اتبع معي عندما دخلت في الإسلام فبكل صراحة، لم يفعل معي أي شيء إيجابي، بل أنا الذي كنت أسعى لمعرفة ما يتوجب علي، ولم يبادر أحد لإرشادي وتوجيهي في بداية خطوي في هذا الدين العظيم.
ونحن نحاول توسيع دائرة أنشطتنا للحفاظ على الداخلي في الإسلام وتثبيتهم والارتقاء بهم.
ولا أدري لم يتقاعس أهل الحق عن مساعدة من دخل الإسلام، دين الله الحق، وكأني بهم قد استغنوا عما عند الله وما أعده لهم، بينما يسارع أهل الباطل بكل ما وسعهم ويبادرون لنصرة من دخل في باطلهم لتثبيته على الباطل، وأساليبهم في ذلك واضحة لكل ذي عينين ومن كان له قلب، وانظر مثلا إلى جهود التبشير والمبشرين، حتى المستقلين عن الكنيسة وغير المرتبطين بها، ما هو موقفهم عندما يدخل إنسان في النصرانية، أو حتى قبل دخوله، وبمجرد أن يروا منه أنه يحبذ النصرانية أو يفكر في الاطلاع عليها أو التأثر بها، إنها لمسألة خطيرة إذا أنعمنا فيها النظر وأمعناه يصعق الإنسان من هول نتيجة المقارنة بين موقف أهل الباطل وموقف أهل الحق، كل في تأييد الداخلين في منهجهم.
حتى بالنسبة للزكاة، لا يحصل المسلمون الجدد على شيء منها، الكثير من المسلمين يؤدون زكاة أموالهم، ولكنهم يرسلونها خارج إنجلترا، في الوقت الذي يوجد فيه إخوانهم المسلمون في الداخل، من حولهم في حاجة شديدة إلى هذه الأموال،(13/308)
ولا سيما المسلمين حديثي العهد بالإسلام، فهم في أمس الحاجة إلى هذه الزكاة حيث يواجهون صعوبات مالية بعد دخولهم في الإسلام.
إن هؤلاء الداخلين في الإسلام قوم صدقوا الله، وعندما يطلب من أحدهم ترك مصادر كسبه التي كان يتكسب منها قبل اعتناق الإسلام، عندما يطلب منه ذلك لأنه حرام شرعا ولا يجوز له الاستمرار في هذا النوع من الكسب الخبيث والمحرم في الإسلام، يتركه لله عز وجل، فيكون قد ترك الحرام، وهو كل كسبه، ويصبح في حاجة إلى مساعدة المسلمين له، ولكن يقف المسلمين منه موقف المتفرج، وهو صاحب حق في أموالهم بما شرع الله وفرض عليهم من زكاة المال، ولكنهم يخرجونها كما قلت خارج إنجلترا.
أفلا يجدر بنا أن نؤدي زكاة أموالنا إليهم لنهيئ لهم بعض الاستقرار بعد الدخول في الإسلام، أفرأيت كيف أن الداخلين في الإسلام لا يفعل معهم شيء إيجابي، بل الواجب علينا لا نفعله تجاههم.
إن هؤلاء المسلمين عندما يدخلون في الإسلام يضحون، ويفقدون أشياء كثيرة ويتنازلون عن أنواع من الكسب والثروات، ويرونها لاشيء لأنهم ينتقلون من الكفر إلى الإسلام، ويخرجون من الظلمات إلى النور، فلا نريد أن يفقدوا الأمان مع ما يفقدون، وإن كان هذا المقياس مقياسنا نحن أمامهم، فلا يعدلون بنعمة الإسلام شيئا ألبتة، أقول هذا لأنني واحد من هؤلاء، وقد مررت بتلك التجربة، رغم أنني عندي الأموال الكثيرة والحمد لله.
س: كيف تصرفت في أموالك بعد اعتناق الإسلام؟
قمت بتحويل حساباتي في البنوك إلى الحلال بعد أن جردتها من الربا المحرم، ولازلت أعيش على الأموال والثروة الطائلة التي كونتها قبل دخولي في الإسلام، ولذلك فإنني ثري جدا والحمد لله تعالى، وعندي ما يكفيني وأسرتي لأكثر من عشرين سنة قادمة إن شاء الله تعالى، وأسأل الله من فضله، رغم هذه الحالة الطيبة جدا جدا وأستعمل هذه الأموال وأنفق منها في سبيل الله، في إنشاء المدارس وبرامج التدريب ومساعدة المسلمين بأساليب مختلفة متنوعة.(13/309)
أما عن أرباح حساباتي في البنوك، فإنها ربا لا آكله، كيف وهو حرام حرمه الله تعالى، وكذلك لا أترك هذه الأرباح للبنك، بل أوظفها لخدمة المسلمين ورعاية بعض المصالح الإسلامية بدلا من تركها للبنك يزداد به رباه وينتفع بها ضد المسلمين.
س: هل لك وظيفة معينة تقوم بها الآن؟
لا، ليست لدي وظيفة بمفهوم كلمة وظيفة، إنما أقوم بواجب الدعوة إلى الله وأقوم بالتربية والتعليم لوجه الله تعالى.
ولقد قمنا بتأسيس مدرسة بحمد الله تعالى " ابتدائية " ونسعى لتطويرها، وهذا هو سبب وجودي في " المملكة " الآن، للحصول على مساعدة لأنني بصدد إنشاء مدرسة ثانوية للبنات.
س: لماذا مدرسة ثانوية للبنات، وليست للبنين، في هذه الفترة؟
من الطبيعي أن الأمور تخضع للأولويات، فكانت الأولوية هنا للبنات لأنهن يتطلبن عناية خاصة، لأنهن في حاجة إلى نوع خاص من التربية، ونريد أن نحصنهن ضد شرور الاختلاط ومفاسده، إن البنات بحاجة إلى أن يكن معزولات عن التيارات المنحرفة والأخلاقيات المنحلة، ونريد لهن السلامة حيث إنهن أمهات المستقبل ومربيات الجيل القادم، فينبغي النظر إليهن من هذا المنظور، والعملية مهمة جدا لأنها تتعلق بأمهات المستقبل، أعني جيل المستقبل، الجيل المسلم الذي نريده متميزا محصنا أخلاقيا، ولن نحصل عليه إلا بأمهات تتم تنشئتهن تنشئة إسلامية، والإسلام يرفض الاختلاط، ولخطورة وضع البنت بدأنا بمدرسة للبنات، وعندما تكون لدينا الإمكانات فلن نترك الحبل على غاربه بالنسبة للبنين أيضا، ولكنها كما قلت مسألة أولويات فبدأنا بالأهم قبل المهم.(13/310)
س: ما هو شعورك النفسي بعد اعتناق الإسلام؟
كل شيء طيب والحمد لله وحده، لا أجد إلا كل الاطمئنان والهدوء النفسي والسكينة الروحية.(13/310)
الحياة في ظل الإسلام بشموله هادئة مستقرة راضية لا يعرف فيها ضيق ولا إزعاج إنني باستلهام القرآن والسنة والانطلاق بهما بقدر ما أستطيع لا أشعر إلا بكل الهدوء والسكينة والاطمئنان في كل أمور حياتي.
وما هو ظنك بإنسان يقرأ قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (1) ويحاول تطبيق ذلك في حياته ويعلم أنه على دين ومنهج شامل متكامل لا بد أن يرث الأرض كلها ولا يكون سواه، لا بد وأنه سيبادر إلى إعمال هذه الآية وإظهارها واقعا معاشا، فينبغي على من يقرأها أن يتعلم ما يوجبه الله عليه ويطبقه إعلاء لدينه الذي وعد الله بإظهاره وظهوره على الدين كله، ينبغي علينا أن نتمحص لهذا الدين لأنه هو الذي سيعم، وهو الحق فلم لا نسارع ونسابق في الاهتداء به في الصغيرة والكبيرة من أمرنا، وعندما يأخذ المرء نفسه بذلك، فهو على الحق دائما، مهتديا بالكتاب والسنة في كل أموره، هذا ما أفهمه أنا وأحاول تطبيقه انطلاقا من هذه الآية، ومادمت كذلك، فلا تناقض، ولاشيء من القلق أو الاضطراب، بل كل ما هنالك هدوء وسكينة واطمئنان وتناسق تام. هذا تجده عندما يهتدي الإنسان بهذا الدين في جملة أموره، صغيرها وكبيرها، دقها، وجلها، وفي مقابل ذلك، خذ حياة العلماء " علماء المادة والعلوم العصرية " ومعهم الفلاسفة، أولئك الذين لا ينطلقون من منطلق الإيمان بالله وبرسالة محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، تراهم في ضلال ودائما في تناقض وشك وحيرة، القلق دائما معهم، كل يوم يغيرون ما كانوا عليه في أمسهم الدابر، تراهم يسيرون بمبادئ " زعموا " يغيرونها كما يغير أحدهم ثيابه أو أسرع، يصرح اليوم بأشياء ينفيها غدا، وينفي اليوم أشياء أثبتها بالأمس، يعتقد اليوم شيئا وينقضه غدا، حياتهم حيرة، قلق، اضطراب، تردد وتخبط دائم، لا يعرفون الاستقرار ولا الهدوء ولا السكينة وهكذا تدور بهم الحياة وهم في خوض يلعبون دون أن يعرفوا للهدوء أو للسكينة معنى وهذا شيء مما عرض لي قبل الدخول في الإسلام، وما أعظم الفرق بينه وبين ما أنا عليه الآن من الهدوء والسكينة في ظل المنهج الرباني المتكامل، الذي لو كان من عند غير الله لوجدت فيه اختلافا كثيرا.
__________
(1) سورة التوبة الآية 33(13/311)
س: ما هو الفرق الجوهري الذي لمسته بين النصرانية والإسلام؟
في الإسلام تجد مشيئة الله وقدرته ظاهرة، فكل شيء يسير بأمر الله، والإسلام هو الذي يعطيك هذا التفسير، وترى في ظل الإسلام انتظام حركة الكون ومسيرة الكائنات والأفلاك والأجرام السماوية وكل ما على الأرض، تراه من صنع الله تعالى ووفق مشيئته، وليس لك أن تعرف ذلك، ولا سبيل إليه إلا عن طريق الإسلام، نعم هناك قوى إلهية ونظام محكم، ويسخر كل شيء وفقا لهذه القوى وذلك النظام، فلا تغير ولا تبديل، أعني أنك ترى عمل الله في الكون، وترى الكون كله منتظما بأمر الله، لا شذوذ ولا اختلاف ولا اضطراب، وإنما ذلك من آيات الله، ولا يعرف ذلك إلا المسلمون، فتجد في الإسلام تفسير ذلك وكل شيء يسير وفق تدبر علوي محكم يفسره لك الإسلام.
بينما في ظل النصرانية لا تجد شيئا من ذلك ألبتة، رغم أن الكون وما فيه، كل شيء في هذا الكون مشاهد بالنسبة للمسلمين والنصارى، ولكن الدين الإسلامي يعطيك الجواب عن كل شيء، بينما لا تجد شيئا من ذلك في النصرانية ألبتة، ليس في النصرانية ما يفسر لك لماذا يتم هذا الشيء بتلك الطريقة، لا تجد تفسيرا لشيء عندهم، كل يعطيك شيئا من عند نفسه يتعارض مع ما تسمعه من غيره، بل يعطيك اليوم شيئا لتفسير مسألة ما، ويعطيك، هو نفسه، غدا شيئا آخر لتفسير نفس المسألة، وكأن المسألة عندهم لا تعني إلا مجرد خبط عشوائي لا ضابط له ولا رابط. فالإسلام يعطيك جوابا شافيا عن كل سؤال يعن في نفسك أو يلوح لك في الأفق، بل الجواب موجود قبل أن تفكر أنت في السؤال أو قبل أن يدخل ذلك الشيء في دائرة حسك وإدراكك، الإسلام يدلك على كل شيء بينما النصرانية تضلك، ولا تعطيك تفسيرا صحيحا ولا تدلك على حكمة الله وعظيم صنعه في الكون والخلق والخليقة وحسبك بهذا من فرف جوهري يلمسه المرء بنفسه.
س: ما هو الفرق الذي تشعر به بين حياتك قبل اعتناق الإسلام وبعده؟
حياتي الآن واضحة هادئة مستقرة، أعلم كل شيء فيها، وأعرف كل أموري وكيف تسير حياتي وبعد دخولي في الإسلام، فإنني أشبه شيء بإنسان خرج من الظلام(13/312)
وأصبح في النور فأنا في النور أعرف نفسي ومن أنا وما هي غايتي وغير ذلك، أما قبل الإسلام فلقد قلت لك، كنت في الظلام ولا أعرف شيئا مما كان في ذلك الظلام، كمن طلب إليه أن يصف محتويات غرفة دخلها وهي حالكة الظلام ثم خرج منها، فهذا مثلي لا أعرف شيئا ولم أر شيئا لأصفه، بل لأكثر من ذلك، إنني فعلا ولدت من جديد بعد اعتناق الإسلام، ويوم دخولي في الإسلام هو يوم مولدي على الصحيح، فأنا لا أعرف كيف كنت قبل أن أولد، أما الآن فالحمد لله أعرف من أنا وماذا يجب علي وكيف تسير الأمور، بل كيف يجب أن تسير، وأفعل كل شيء لهدف ولأن هذا الشيء مطلوب مني لأنه مرضي عنه من الله عز وجل.
س: هل كان لك اتصال بالكنيسة أو ببعض القساوسة قبل اعتناق الإسلام؟
لم تكن لي أي علاقة بالكنيسة ولا بالقساوسة على الإطلاق، وفي بعض الأوقات كان يطرق بابي بعض النصارى " المبشرين " ويدعوني إلى النصرانية، ولم تكن دعوتهم تهمني في قليل أو كثير حيث لم أكن مهتما بالنصرانية، فكنت أصرفهم حيث لا حاجة لي بهم ولم يكن عندي ما أسألهم عنه، ولم يكن هناك ما ألتقي معهم عليه، فكانوا ينصرفون دون أن أسمع منهم شيئا وكانوا يحاولون المرة تلو المرة أن يدعوني، تماما كما يفعلون مع غيري إذ أنهم يتمتعون بنسبة كبيرة من النشاط والمثابرة في الدعوة إلى النصرانية، ويحرصون على مواصلة جهودهم التبشيرية بشغف.(13/313)
س: هل كان هؤلاء الشباب النصارى ينطلقون للدعوة إلى النصرانية مدفوعين من الكنيسة أو من تلقاء أنفسهم؟
أظنه كان عملا فرديا خاصا بشباب أو مجموعات شبابية تدعو للنصرانية دون أن يكون لها علاقة بالكنيسة، إنما هم شباب آمنوا بفكرة ثم قاموا يدعون إليها بجد.
س: هل انتفع المسلمون من أموالك التي توفرت لديك قبل اعتناق الإسلام؟
كان لي مساهمات كثيرة وسخية بحمد الله تعالى في بناء المساجد ومعظمها في مدن بريطانية مثل لندن وجلوستر وجلاسجو وويلز ومانشستر، وقد كانت مساهمتي في مسجد جلوستر بحوالي أربعين ألف جنيه على ما أذكر، ولكنني بدأت أفكر في أمر أهم(13/313)
وجدير بأن تنفق الأموال فيه، ألا وهو مجال التعليم، حاولت رصد أكبر قدر من المال لأغراض التعليم وتأسيس المدارس، حيث كنا ندفع الأموال والمردود قليل من الناحية الإسلامية، لا يعدو الأمر أكثر من مجرد تهيئة مكان ملائم للصلاة، ففكرت في ذلك المجال الأهم في واقع الناس واعتراني القلق للنتائج التي توصلنا إليها بعد إنفاق تلك الأموال الطائلة، إذ لم يكن هناك شيء ملموس، فكان مجال التعليم أجدر وأحرى فاشتريت لذلك الشيء الأهم مبنى لنقيم عليه المدرسة.
وإنني مستمر في المساعدة في بناء المساجد ولكن المساعدة في مجال التعليم أكثر منها في مجال بناء المساجد، وأصبحت الآن بحاجة إلى من يساعدني في مشروعنا الذي نقبل عليه لنتمكن من إنجازه، حيث إننا في حاجة إلى مزيد من النمو والتوسع.
هذه هي قصة أموالي التي كسبتها، وينبغي أن أذكر لك أنه يجب علي أن أدفع نسبة كبيرة للضرائب، تصل إلى 60 % كما هو الحال في إنجلترا.
وهكذا ترى أن معظم أموالي أنفقها في سبيل الله وابتغاء مرضاته في مجال التعليم الإسلامي، وبناء المساجد، وكذلك الصدقات ونصيب المحتاجين عسى الله أن يتقبلها.
س: ما هو العمل الذي تقوم به حفاظا على دخلك وأموالك؟
إن دخلي ثابت ومضمون إن شاء الله تعالى لمدة تزيد على عشرين عاما، ولا أشعر بالحاجة للعمل للحصول على المال، حيث عندي الكفاية والحمد لله تعالى، بل وعندي الكفاية من دخلي الآن للقيام ببعض المشاريع الصغيرة والمحدودة والاستمرار في إنشاء المدارس بالدرجة التي هي عليها الآن، وعندما دخلت في الإسلام فكرت في القيام بعمل ما، ولكنني وجدت أن ذلك يستنزف الكثير من وقتي، بل وقتي كله. وفكرت في أنني إذا ما استمررت في العمل للحصول على مزيد من المال، أو الاستمرار في إنفاق الأموال وإنفاق الوقت مستعملا أموالي بتوظيفها في سبيل الله حيث ينبغي أن تكون، ويكون الإنسان مسئولا عن أعماله ومباشرا لها وكذلك أمواله، ففكرت في أنني أعطي أموالي ليعمل فيها ويستثمرها بالتشغيل والقيام عليها، ووصلت إلى أن الوقت أغلى من المال بكثير وقررت التفرغ للدعوة إذ أن ذلك أفضل بكثير.(13/314)
س: ألا تفكر في تشغيل بعض أموالك في بعض المشاريع الصغيرة وتعهد بذلك إلى بعض المسلمين الأمناء لتنمية مواردك؟
أفكر في هذا النوع من المشاريع، فمثلا أفكر جديا في تصنيع الأشرطة " أشرطة التسجيل والفيديو " ولدي أحد المتخصصين في هذا المجال، وكذلك نعمل على إعداد محل لبيع الأشرطة المسجلة، ولدي الآن فعلا " إستديو " للأشرطة، ولكن ليس لدي الوقت للتفرغ له أو التركيز عليه، وقد فكرت في هذا النوع من العمل لتخلف المسلمين وتأخرهم، وهذا مجال قد ينفع ولا يحتاج لخبرة كبيرة، وإن كانت معرفتي في هذا المجال جيدة ومن هنا أنشأت هذا " الإستديو " ولا وقت عندي حاليا لأصرفه فيه حيث يشغلني ما هو أهم من ذلك، وهو العمل في الدعوة ومجال التعليم والقيام على أمور المدرسة، وإنني بصدد البحث عن شخص أمين وعلى خبرة للقيام بهذا العمل لعدم تفرغي له.
وعندما يحين الوقت سنبدأ في العمل إن شاء الله تعالى ونسعى في تنمية مواردنا المالية بما يعود على الدعوة بخير إن شاء الله تعالى، ولسوف يكون مجالنا إنتاج الأشرطة والكتب والفيديو، ولعلنا نركز على أشرطة التسجيل أكثر من غيرها عندما يأخذ العمل صورته النهائية وسيري المسلمون خيرا إن شاء الله تعالى، ولكن نحن نعطي الأمور الأساسية الأولوية على ما سواها وكل شيء يأتي في ترتيبه الطبيعي من قائمة الأولويات كما هو معلوم.
س: كم عمرك الآن؟
بعد أن أسلمت عملت حسابات وفوارق التقويم الهجري من التقويم الميلادي واتضح لي أنني ولدت في شهر رمضان عام 1367 هـ أي أن عمري الآن حوالي 38 سنة.
س: هل هناك مشكلات تواجه المسلمين في إنجلترا فيما يتعلق بتزويج بناتهم؟
في الحقيقة توجد مشكلات متعلقة بهذا الأمر، وهذا ما يجعلني مهتما بإنشاء المدارس لا سيما ما كان منها خاصا بالبنات، حيث إن أخطر المشكلات التي تواجهنا تتعلق بالبنات حيث التعليم المختلط، والجهود الآن في بريطانيا تدور على قدم وساق لجعل(13/315)
التعليم كله بلا استثناء تعليما مختلطا مما جعلنا في قلق حول مستقبل المسلمين عموما، والبنات بصفة خاصة. كيف تتصور الأمور مع اختلاط الذكور بالإناث لا سيما في سن المراهقة، ذلك السن الخطير، والأخطر من ذلك أن الكثير من الفتيات يحملن ويلدن على الرغم من كونهن غير متزوجات، وقد حدث نفس الشيء بالنسبة لبعض الفتيات المسلمات.
وهناك قانون في بريطانيا يعمل به الآن يخول للبنات اللواتي لم يبلغن سن الرشد " القاصرات " ويعطيهن الحق في عدم إخبار الوالدين بالحمل والمضي به رغم أنهن غير متزوجات، وفي نفس الوقت قاصرات، تمضي بالحمل رغم أنف الوالدين وفي كثير من الحالات دون علم الوالدين، ويعطيهن القانون أيضا الحق في أخذ حبوب منع الحمل أو حبوب للإجهاض أو القيام بإجراء عملية الإجهاض والتخلص من الجنين، كل ذلك دون علم الوالدين، وإذا علم الوالدان، فلا يستطيعان التدخل، فالقانون يحمي البنات، وقد فعلت ذلك بعض المسلمات للأسف، بل إن بعضهن يحاولن الانتحار عند استفحال الأمر، بالطبع هذه حالات موجودة، ولكنها نادرة بالنسبة للفتيات المسلمات وليست سمة عامة، ولكنها موجودة على أي حال.
مشكلة أخرى تتلخص في أن الزواج يتم عن طريق العائلات، الأسر المسلمة هي التي تتولى التزويج، ويتم التزاوج بين المسلمين على أساس البلاد التي أتوا منها، فالباكستانيون لا يتزوجون إلا من الباكستانيات، وكذلك البنغاليون لا يتزوجون إلا من البنغاليات، وهكذا بالنسبة لسائر الجنسيات، وهذا يوجد مشكلة بالنسبة للمسلمات الجدد أو المسلمات اللواتي لا يوجد ذكور مسلمون من بني جنسهن، أعني أوطانهن، وقد يحدث مع هذا التفلت نوع من عدم الانضباط، وقد تضطر المرأة المسلمة للقبول بأي رجل كزوج لها بغض النظر عن دينه أو التزامه، وهذه من جملة المشكلات التي نواجه بها في مجتمعنا " بريطانيا ".
ومما لا شك فيه أن وجود التعليم الإسلامي سيخرج لنا نخبة من أمهات المستقبل، ولكن لا نتصور كيف سيكون الوضع عند تخرج الفتيات من مدارسنا، ولكن الأمر المهم هو توفير التعليم المناسب للمرأة عندنا لننتشلها من براثن الفتن وشرور الاختلاط وعواقبه المدمرة، ولنتلافى المفاسد التي نراها الآن من الوقوع في الرذيلة والحمل بدون(13/316)
زواج أو الإقدام على الانتحار للتخلص من آثار الجريمة، أو الإقبال على جريمة الإجهاض وقتل النفس، أو خطر وجود أبناء غير شرعيين، أو ارتباط المسلمة بزوج لا يصلح لها أو الدخول في زواج محرم شرعا إلى مفاسد أخرى في قائمة المحرمات والمحظورات الشرعية لا حد لها.
كل هذا يدعونا إلى التفكير الجدي في حل مشكلة الفتيات المسلمات عندنا بإيجاد التعليم المناسب لهن سدا لأبواب الفتن المتلاطمة، وهو عندنا في قائمة الأولويات في مركز الصدارة حتى نتمكن من إعداد أمهات المستقبل ليقمن على تربية أجيال المستقبل وتنشئتها تنشئة إسلامية، ولا أتصور إعداد جيل مسلم صالح بدون أمهات مسلمات مستقيمات على أمر الله تعالى.
س: ما هي وصيتك لإخوانك المسلمين؟
أهم ما أوصي به إخواني المسلمين هو ما قرأته في الكتاب العزيز ومضمونه أن الإسلام منهج شامل متكامل للحياة، فينبغي علينا أن نعيش الإسلام وأن نقيم منهجه في صدورنا، فننطلق على أسس إسلامية في الصغيرة والكبيرة من أمرنا، هذا ما أوصي به إخواني المسلمين أن تصطبغ حياتهم كلها بالإسلام كمنهج رباني متكامل للحياة، وليس في جانب الأقوال دون الأفعال والله يقول: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) فليقبل المسلمون لينهلوا من هذا المنهج الثري السخي، ففيه كل شيء يريده الناس قاطبة، وليعلم إخواني المسلمون أن الناس، كل الناس متعطشون للمعرفة وعندهم جوع روحي شديد، وبأيدينا المنهج الرباني الذي لهم فيه، أعني لكل الناس الري والشبع الذي يحتاجه كل الناس، أوصي إخواني المسلمين بتطبيق الإسلام تطبيقا كاملا في كافة أمورهم وألا تتناقض عندنا الأقوال مع الأفعال، وعندها سيكون كل منا قدوة لغيره.
إنني أعجب حين أرى الكثيرين من غير المسلمين، حتى في المملكة العربية السعودية، نراهم غير معتنى بهم وليست لهم برامج خاصة لرعايتهم وتعريفهم
__________
(1) سورة البقرة الآية 63(13/317)
بالإسلام، وإن وجدنا بعض الجهود، فهي جهود مباركة ولكنها تبقى جهودا فردية يعتريها التقصير وعدم المتابعة على كل حال، ولا أفهم لماذا يقف الأمر عند هذا الحد، ولعله يتم تدارك هذا النقص إن شاء الله تعالى.
ونصيحة أخرى إلى إخواني المسلمين، أدعوهم إذا سافروا في رحلات خارجية أن يتمسكوا بالآداب والأخلاق الإسلامية في السلوك والتصرفات والمعاملات واللباس وكل ما هو إسلامي، أدعوهم أن يحتفظوا بشخصيتهم الإسلامية الفريدة، وألا يسارعوا بتغيير ثيابهم الإسلامية ويستبدلون بها أزياء وثياب أهل الكفر، أرجوهم ألا يستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، ومن وراء تغيير الثياب شر عظيم، إذ يعقبه تغيير الأخلاق والآداب والسلوكيات الإسلامية.
إنني أوجه نصيحتي لإخوتي جميعا وبأعلى صوتي فأقول ألا لا تغيروا الأخلاق القرآنية، ولا تتخلوا عن عزكم ومصدر فخركم الذي ينبع من التمسك بالإسلام قولا وعملا.
والمداومة على التمسك بكل ما هو إسلامي في صدق وآباء وشمم بما ينبئ عن روح إسلامية حقيقية، وإن الظاهر الإسلامي عز ووقار وفيه الحفاظ على الجوهر النقي، أقول هذا وأنا أشعر بمرارة الألم عندما أرى إخواني المسلمين في الخارج يطرحون ثياب الإسلام ويلبسون ثياب الإفرنج الكفرة، بل ويسيرون في أمور معاشهم اليومية على النهج الغربي غير الإسلامي في السلوك والمعاملة ويركبون سفن من كان قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، في الوقت الذي ينبغي عليهم أن يحافظوا على شخصيتهم الإسلامية مصدر العز والفخار لنا جميعا، وكأني بهم يخجلون من كونهم مسلمين ويحرصون على ألا يرى أحدهم بالزي الإسلامي، وكأنها وصمة عار تلحق من ظهر بهذا المظهر، وتراهم يعادون اللحية فتمتد أيديهم لحلقها والتخلص منها فيجزونها ليتشبهوا بالقوم الذين حلوا في ديارهم، فهل نرى نحن الكفار يتشبهون بنا إن هم حلوا في بلاد الإسلام؟ فكيف يبقى الكافر على كفره بين ظهراني المسلمين ويتحول المسلم عن إسلامه ومما يطلبه منه دينه بين ظهراني الكفار؟ والواجب أن يظهر المسلم معتزا ومفتخرا بكونه مسلما ينتسب لدين الحق.(13/318)
أقول لإخواني المسلمين احتفظوا بشخصيتكم الإسلامية، إذ هذه هي أكبر دعوة لغير المسلمين للدخول في الإسلام، نعم عندما يروننا نطبق سلوكيات الإسلام وأخلاقياته ونتمسك بها شرقنا أو غربنا، هنالك يعلمون أنها الحق الذي لا يتغير بالبيئة المكانية، وهي دعوة إلى الله تعالى بالفعال قبل المقال وهي أدعى للدخول في الإسلام إن شاء الله تعالى، أما عندما نتخلى عن هذه الشخصية الإسلامية المتميزة وعندما ننبذ الأخلاق الإسلامية والسلوكيات المتعلقة بها، ونترك الشكل الإسلامي والمظهر المطلوب أن يظهر به المسلم ونزهد في كل تلك الأمور، فغير المسلمين أولى أن يزهدوا فيها، ويكون ذلك منا نوع من الصد عن سبيل الله، فيا أيها الإخوة، تعالوا ندع إلى الإسلام بفعالنا قبل مقالنا.
ونصيحتي الأخيرة لإخواني المسلمين أن يؤدوا زكاة وقتهم تماما كما يؤدون زكاة أموالهم، وذلك بتخصيص وقت لدعوة الناس والتفرغ لها، ولندع إلى الله على بصيرة وماذا على كل مسلم لو خصص جزء، من وقته يقوم فيه بدعوة الناس وينتظم في صفوف الدعاة إلى الله وينال شرف الدعوة إلى الله بأدائه لزكاة وقته، والرسول صلى الله عليه وسلم عليه وسلم يقول: «بلغوا عني ولو آية (1) » .
كذلك فليؤد المسلم زكاة المعرفة، من علمه الله تعالى وآتاه علما، ينبغي عليه أن ينفق منه وأن يكرس جزءا من وقته ينفق فيه من هذا العلم الذي حباه الله به ومن به عليه، فليقم بحق الله عليه في هذا العلم بتعليم إخوانه ودعوتهم إلى الله، لكي لا يكون علمه حجة عليه.
" ألا هل بلغت اللهم فاشهد ".
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قام بالترجمة \ محمد بن رفيق العجمي
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3461) ، سنن الترمذي العلم (2669) ، مسند أحمد بن حنبل (2/159) ، سنن الدارمي المقدمة (542) .(13/319)
صفحة فارغة(13/320)
عدالة السلف الصالح
برهان يقظتهم
بقلم: الشيخ سعد بن إبراهيم الخرعان
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد: - فقد نشرت صحيفة المدينة بعددها رقم 6088 وتاريخ 23 \ صفر 1404هـ ص 15 الموضوع المشار إليه أعلاه " نتائج غفلة المسلمين ".
وقد استهدفت فيه كعب الأحبار رحمه الله، وهو تابعي جليل، فرمته بالنفاق والكيد منه للإسلام كما رمت الصحابة رضي الله عنهم بالغفلة إزاء ما زعمته من نفاق كعب وأمثاله من مسلمة أحبار أهل الكتاب كوهب بن منبه، فآل الأمر بالمسلمين من جراء تلك الغفلة المزعومة إلى قتل عمر ثم عثمان ثم الفتن التي انتشرت فعمت المسلمين كقطع الليل المظلم. . إلخ.
ولا شك أن مثل هذا المقال المغرض لا يصدر إلا من جاهل بحقيقة حال كعب رحمه الله، وبما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، أو من ذي غل أعمى بصيرته فلم يبصر حال أولئك على حقيقتها فضل عن واجب الأخوة الإيمانية حيث قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1) .
__________
(1) سورة الحشر الآية 10(13/321)
كما لم يمتثل وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه (1) » قال الترمذي حسن صحيح، وقال ابن حبان صحيح وكذا الحاكم.
وقوله: «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه (2) » متفق عليه، وقوله في الأنصار: «لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله (3) » رواه البخاري، والآيات والأحاديث الدالة على وجوب موالاة السلف الصالح ومودتهم والذب عنهم كثيرة معلومة.
وأما ما شجر بينهم فمسلك النجاة من أثاره هو الكف عنه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حيث قال: وأما ما شجر بينهم فالواجب الكف عنه، لأنهم إما مجتهدون مصيبون فلهم أجران، أجر اجتهادهم وأجر ما أصابوا فيه، وإما مجتهدون مخطئون فلهم أجر اجتهادهم والخطأ مغفور لهم.
ثم القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل مغمور في جنب فضائلهم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح.
ومن نظر في سيرتهم بعلم وبصيرة وما من الله عليهم به من الفضائل علم علما يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله فرضي الله عنهم أجمعين. اهـ.
فموقف كل مسلم من السلف الصالح موقف من أرشده الله فقال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (4) .
ولا يخفى أن ما نسب إلى كعب خاصة وأن ما نسب إلى الصحابة عامة من غفلة دعاوى عارية من العلم والبصيرة، فلا تعويل عليها بحال، كيف وقد زكاهم من يعلم السر وأخفى خالقهم تعالى ولحق رسوله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى وهو عنهم راض.
__________
(1) سنن الترمذي المناقب (3862) ، مسند أحمد بن حنبل (4/87) .
(2) صحيح البخاري المناقب (3673) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2541) ، سنن الترمذي المناقب (3861) ، سنن أبو داود السنة (4658) ، سنن ابن ماجه المقدمة (161) ، مسند أحمد بن حنبل (3/55) .
(3) صحيح البخاري المناقب (3783) ، صحيح مسلم الإيمان (75) ، سنن الترمذي المناقب (3900) ، سنن ابن ماجه المقدمة (163) ، مسند أحمد بن حنبل (4/292) .
(4) سورة الحشر الآية 10(13/322)
أفبعد تزكية الله لهم قرآنا يتلى إلى أن يرث الأرض ومن عليها، ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم عنهم سنة ثابتة كالشمس في رابعة النهار، يجترئ على اتههامهم بنقيصة إلا جاهل مركب أو منحرف عن سبيل المؤمنين قد عرض نفسه للوعيد حيث قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (1) .
وما حقيقة الطعن فيهم وحاشاهم إلا الطعن فيما وصل إلى المسلمين بعدهم من الدين الحنيف، قال أهل التحقيق: وأما كعب الأحبار وأمثاله من مسلمة أهل الكتاب كوهب بن منبه فليسوا في عداد المنافقين كما زعمته الصحيفة ولا حتى في عداد الضعفاء من أصحاب الرواية ولا يقدح في عدالته هو وأمثاله إن كانوا يروون أخبارا من كتب قد دخلها التحريف والتبديل قال عنه معاوية رضي الله عنه: " إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب " فهذا القول توثيق لكعب من معاوية وثناء عليه بأنه من أصدق المحدثين، وكون بعض ما يرويه عن أهل الكتاب لا يطابق الواقع فمرجع هذا إلى تلك الكتب المنقول عنها حيث دخلها التحريف والتبديل لا إلى كعب إذ لم يتعمد الكذب، وكقول معاوية قول ابن عباس فيه، بدل من قبله فوقع في الكذب. اهـ.
والتحديث عن بني إسرائيل كما درج عليه السلف الصالح لا حرج فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (2) » . رواه البخاري.
وقال ابن حبان في كتاب الثقات تجاه كعب: " أراد معاوية أنه يخطئ أحيانا فيما يخبر به ولم يرد أنه كان كذابا ". اهـ.
وقال ابن الجوزي - رحمه الله: المعنى أن بعض الذي يخبر به كعب عن أهل الكتاب يكون كذبا لا أنه يتعمد الكذب، وإلا فقد كان كعب الأحبار من خيار الأحبار. اهـ.
وقال الحافظ ابن كثير - رحمه الله " في تأويل الحديث يعني فيما ينقله، لا أنه كان يتعمد نقل ما ليس في صحفه، ولكن الشأن في صحفه أنها كانت من الإسرائيليات التي غالبها مبدل مصحف محرف مختلق. اهـ.
__________
(1) سورة النساء الآية 115
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3461) ، سنن الترمذي العلم (2669) ، مسند أحمد بن حنبل (2/159) ، سنن الدارمي المقدمة (542) .(13/323)
وقد عده ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام، واتفقت كلمة نقاد الحديث على توثيقه، ولذا لا يوجد له ذكر في الضعفاء.
ومما تقدم ذكره يتضح أن الواجب لزوم تقوى الله والتأسي بمسلك السلف الصالح تجاه كعب وأمثاله، والكف عن مقالة السوء بلا علم ودونما مصلحة شرعية قال تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} (1) وقال: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (2)
ولا جرم فنصوص الكتاب والسنة كفيلة بتمييز الغث من السمين مما روي عن أهل الكتاب، فلا لبس والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله وسلم على من بلغ البلاغ المبين محمد بن عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه وعلى آله وصحبه.
__________
(1) سورة النساء الآية 148
(2) سورة الإسراء الآية 36(13/324)
تعقيب
سماحة الشيخ على ما نشر في مجلة منار الإسلام
من أن الفائدة البسيطة تجوز استثناء:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيلهم، واتبع هداهم إلى يوم الدين أما بعد: -
فقد اطلعت على ما نشرته (مجلة منار الإسلام) الصادرة في (أبو ظبي) عن وزارة العدل والشئون الدينية في عددها الثالث الصادر في ربيع الأول من عام 1404 هـ السنة التاسعة عن إعلان إحدى دوائر المحكمة الاتحادية العليا في دولة الإمارات العربية المتحدة بعض المبادئ بخصوص الفوائد المصرفية، والتقاضي بشأنها أمام المحاكم، وما تضمنته من أن الفائدة البسيطة للقرض تجوز استثناء من أصل تحريم الربا إذا دعت الحاجة إليها واقتضتها المصلحة، واعتبار أن البنوك في حالتها الراهنة ووفقا لأنظمتها العالمية تتطلبها حاجة العباد ولا تتم مصالح معاشهم إلا بها، وأن المحاكم لا تملك الامتناع من القضاء بالفوائد بمقولة إن الشريعة تحرم الفائدة، وأنه ليس للقاضي في حالة الفائدة الاتفاقية إلا أن يحكم بها، وأخيرا القول بجواز الفائدة البسيطة ما دامت في حدود 12 % في المسائل التجارية و 9 % في غيرها.(13/325)
واعتبارهم أن هذه الفوائد في تلك الحالات لا تتنافى مع الشريعة الإسلامية التي تلتزم بها دولة الإمارات المسلمة.
وإنني أستغرب جدا هذه الخطوة الجريئة على إعلان هذه المبادئ الغريبة التي تحمل انتهاكا لحرمات الله وتعاليم شريعته السمحة المعلومة في دين الإسلام، من نصوص القرآن الصريحة وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة، وخاصة أنها أعلنت في ظل دولة إسلامية يرأسها رجل مسلم، وفي هذه البادرة الخطيرة افتراء على الإسلام وتحليل لما هو من أشد المحرمات في شريعة الله، كما أبان ذلك سماحة رئيس القضاء الشرعي في دولة الإمارات العربية في رده على هذه المبادئ وإبانته وجه الحق.
ومعلوم أن الله سبحانه وتعالى قد حرم الربا بجميع أشكاله وألوانه في كتابه العزيز في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (2) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) وقال: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} (4) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (5) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (6) وهذا الأسلوب الشديد يدل على أن الربا من أكبر الجرائم وأفظعها وأنه من أعظم الكبائر الموجبة لغضب الله والمسببة لحلول العقوبات العاجلة والآجلة، قال سبحانه وتعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (7) وقال عليه الصلاة
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 276
(3) سورة آل عمران الآية 130
(4) سورة الروم الآية 39
(5) سورة البقرة الآية 278
(6) سورة البقرة الآية 279
(7) سورة النور الآية 63(13/326)
والسلام: «اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله: وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات (1) » ومعنى الموبقات: المهلكات. وقال صلى الله عليه وسلم: «الربا اثنان وسبعون بابا أدناها مثل إتيان الرجل أمه (2) » وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه «لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء (3) » وقال صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء (4) » رواه مسلم. فهذه الآيات والأحاديث وغيرها تؤكد حرمة الربا قليله وكثيره. وتبين خطره على الفرد والمجتمع، وأن من تعامل به أو تعاطاه فقد أصبح محاربا لله ورسوله، وليس بين جميع أهل العلم خلاف في تحريم ذلك لصراحة النصوص فيه.
وكيف يجيز المسلم الغيور على دينه، الذي يؤمن بأن هذا الإسلام العظيم جاء دينا شاملا كاملا متضمنا جلب المصالح ودرء المفاسد، صالحا للتطبيق في كل العصور والأمكنة، كيف يجيز لنفسه إباحة الربا والتعامل به.
وإن هذه المبادئ التي أعلنتها إحدى دوائر المحكمة الاتحادية العليا في دولة الإمارات لتحليل ما حرمه الله ورسوله، بحجة قيام الحاجة إليها، فيها جرأة على الله، ومحادة لأحكامه وقول عليه بغير علم، وحاجة الناس إلى المصارف لا تكون إلا بسيرها على أسس من الشريعة الإسلامية، بإحلال ما أحله الله وتحريم ما حرمه فإذا كانت خلاف ذلك فهي شر وفساد، وأحكام شريعة الله ثابتة وقطعية لأنها صدرت من عزيز حكيم يعلم شئون عباده وما يصلح أحوالهم، ولا يجوز لنا تحكيم الرأي أو الهوى أو ما أشبههما في تحليل حرام أو تحريم حلال.
__________
(1) رواه البخاري \ كتاب المحاربين (30) ومسلم شرح النووي باب الإيمان (44) .
(2) حديث صحيح.
(3) أخرجه مسلم.
(4) صحيح البخاري البيوع (2176، 2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584، 1584، 1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240، 1241) ، سنن النسائي البيوع (4561، 4565) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (3/4، 3/47، 3/51، 3/53) ، كتاب باقي مسند المكثرين (3/61) ، باقي مسند المكثرين (3/73، 3/81، 3/9) ، باقي مسند الأنصار (5/314) ، موطأ مالك البيوع (1324) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .(13/327)
وامتثالا لأمر الله ورسوله في وجوب التناصح بين المسلمين، وأداء لما يجب على مثلي من البيان والتحذير عما حرمه الله ورسوله، جرى تحرير هذه الكلمة الموجزة، وأسأل الله أن يوفقنا وجميع المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه، والنصح لله ولعباده والحذر من كل ما يخالف شرعه المطهر، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(13/328)
تنبيه
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم رئيس تحرير جريدة عرب نيوز. . وفقه الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد: -
فقد اطلعت على ترجمة ما جاء في جريدتكم عدد يوم الجمعة الموافق 24 \ 2 \ 1984 م صفحة 7 في الصفحة المخصصة للديانة جواب السؤال التالي الذي ورد لكم من س. ر خان ص. ب: 7125 جدة وهذا نص السؤال (ما حكم الإسلام عن اللحية والشارب؟ هل يوجد عقاب معين بعد الوفاة للذي يحلق اللحية؟ هل حالق اللحية يفقد ثواب عبادته والأعمال الصالحة التي يأتي بها في حياته؟) فرأيت الجواب الذي نشرته الجريدة قاصرا وليس وافيا بالمطلوب، والجواب الصحيح أن يقال: إن إعفاء اللحية وقص الشارب أمر مفترض من الشارع صلى الله عليه وسلم حيث قال فيما صح عنه: «قصوا الشوارب وأعفوا اللحى، خالفوا المشركين (1) » متفق على صحته. وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس (2) » وهذان الحديثان الصحيحان وما جاء في معناهما كلها تدل على وجوب إعفاء اللحية وإرخائها وعدم التعرض لها بقص أو حلق، وعلى وجوب قص الشارب ولم يرد في ذلك عقوبة معينة، ولكن الواجب على المسلم أن يمتثل أمر الله سبحانه وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وأن ينتهي عما نهى الله عنه ورسوله ولو لم يرد في ذلك عقاب معين، ويجوز لولي الأمر أن يعاقب من خالف الأوامر والنواهي بما يراه من العقوبات الرادعة فيما دون عقوبات الحدود ردعا للناس عن ارتكاب محارم الله
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/229) .
(2) صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن النسائي الزينة (5224) ، سنن أبو داود الترجل (4199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/16) ، موطأ مالك الجامع (1764) .(13/329)
والتعدي على حدوده، وقد ثبت عن الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، ومن مات على ذلك فهو تحت مشيئة الله كسائر المعاصي إن شاء غفر له وإن شاء سبحانه عاقبه بما يستحق على ما فعله من المعاصي، ومن جملة ذلك حلق اللحي وإطالة الشوارب. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) وقد دلت هذه الآية الكريمة على أن جميع الذنوب التي دون الشرك تحت مشيئة الله سبحانه، وهذا هو قول أهل السنة والجماعة خلافا للخوارج والمعتزلة ومن سلك مسلكهما من أهل البلاغ، وبذلك يعلم أن حلق اللحى وإطالة الشوارب وغيرهما من المعاصي التي دون الشرك لا تحبط الأعمال الصالحة ولا تبطل ثوابها، وإنما تحبط الأعمال بالشرك وأنواع الكفر الأكبر لا بالمعاصي كما قال الله سبحانه {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) وقال عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ونسأل الله للجميع الهداية والتوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة الأنعام الآية 88
(3) سورة الزمر الآية 65(13/330)
متى ثبتت رؤية الهلال
ثبوتا شرعيا
وجب العمل بها ولم يجز
أن تعارض بكسوف ولا غيره
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد فقد اطلعت على ما نشرته صحيفة الندوة في عددها الصادر في 23 \ 8 \ 1405 هـ. نقلا عن الفلكي حبيب علوي الحسين من جزمه بأنه سيكون كسوف للشمس في ليلة الاثنين 30 \ 8 \ 1405 هـ. حسب توقيت أم القرى، وأنه لا تمكن رؤية الهلال تلك الليلة بسبب الكسوف وأن أول رمضان سيكون يوم الثلاثاء. . إلخ.
ونظرا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد علق إثبات الأهلة بالرؤية أو بإكمال العدة، وحكمه صلى الله عليه وسلم يعم زمانه وما بعده إلى يوم القيامة؛ لأن الله عز وجل بعثه إلى العالمين بشريعة كاملة لا يعتريها نقص بوجه من الوجوه كما قال الله سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) وهو سبحانه يعلم ما
__________
(1) سورة المائدة الآية 3(13/331)
يقع من الكسوف في كل زمان ولم يخبر عباده بما يجب عليهم اعتباره وقت الكسوف من جهة إثبات الأهلة، مع أنه سبحانه أخبرهم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بما يشرع لهم وقت الكسوف من صلاة وغيرها، ونظرا إلى أن قول الفلكيين إن كسوف الشمس لا يكون إلا في آخر الشهر وفي ليالي استسرار القمر ليس عليه دليل يعتمد عليه وتخالف من أجله الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صرح جمع من أهل العلم بأن كسوف الشمس يمكن وقوعه في غير آخر الشهر والله سبحانه على كل شيء قدير، وكون العادة الغالبة وقوعه في آخر الشهر لا يمنع وقوعه في غيره، ونظرا إلى أن بعض الناس قد يرتاب في العمل بالسنة بسبب أقوال الفلكيين، وقد يحمله ذلك على تكذيب البينة العادلة برؤية الهلال، رأيت التنبيه على هذا الأمر إيضاحا للحق وكشفا للشبهة ونظرا للشريعة المحمدية ودفاعا عن حكم الشريعة الإسلامية في هذا الأمر العظيم الذي يتعلق بجميع المسلمين.
فأقول: قد صحت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجوب اعتماد الرؤية في إثبات الأهلة أو إكمال العدد، وهي أحاديث مشهورة مستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكمه صلى الله عليه وسلم لا يختص بزمانه فقط بل يعم زمانه وما يأتي بعده إلى يوم القيامة؛ لأنه رسول الله إلى الجميع، وأنه سبحانه الذي أرسله إلى الناس وأمره أن يبلغهم ما شرعه لهم في إثبات هلال رمضان وغيره. وهو العالم بغيب السماوات والأرض، والعالم بما سيحدث بعد زمانه صلى الله عليه وسلم من المراصد وغيرها. ويعلم سبحانه ما يقع من الكسوفات، ولم يثبت عن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنه قيد العمل بالرؤية بموافقة مرصد أو عدم وجود كسوف، وهو سبحانه وتعالى لا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء، لا فيما سبق من الزمان ولا فيما يأتي إلى يوم القيامة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا وخنس إبهامه في الثالثة والشهر هكذا وهكذا وهكذا وأشار بأصابعه العشر (1) » يرشد بذلك أمته عليه الصلاة والسلام إلى أن الشهر تارة يكون تسعا وعشرين وتارة يكون ثلاثين، وصح عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «لا تصوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ولا تفطروا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة (2) » ولم يأمر بالرجوع إلى الحساب ولم يأذن في إثبات الشهور بذلك.
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1913) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2140) ، سنن أبو داود الصوم (2319) ، مسند أحمد بن حنبل (2/43) .
(2) سنن النسائي الصيام (2127) ، سنن أبو داود الصوم (2326) ، مسند أحمد بن حنبل (4/314) .(13/332)
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في رسالة صنفها في هذه المسألة إجماع العلماء أنه لا يجوز العمل بالحساب في إثبات الأهلة، وهو - رحمه الله - من أعلم الناس بمسائل الإجماع والخلاف (1) .
والأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها تدل على ما دل عليه الإجماع المذكور، ولست أقصد من هذا منع الاستعانة بالمراصد والنظارات على رؤية الهلال ولكني أقصد منع الاعتماد عليها أو جعلها معيارا للرؤية لا تثبت إلا إذا شهدت لها المراصد بالصحة، أو بأن الهلال قد ولد فهذا كله باطل، ولا يخفى على كل من له معرفة بأحوال الحاسبين من أهل الفلك ما يقع بينهم من الاختلاف في كثير من الأحيان في إثبات ولادة الهلال أو عدمها، وفي إمكان رؤيته أو عدمها، ولو فرضنا إجماعهم في وقت من الأوقات على ولادته أو عدم ولادته لم يكن إجماعهم حجة لأنهم ليسوا معصومين بل يجوز عليهم الخطأ جميعا، وإنما الإجماع المعصوم الذي يحتج به هو إجماع سلف الأمة في المسائل الشرعية؛ لأنهم إذا أجمعوا دخلت فيهم الطائفة المنصورة التي شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها لا تزال على الحق إلى يوم القيامة، وأما الاحتجاج بالكسوف فمن أضعف الحجج؛ لأنه لا يوجد نص من كتاب الله عز وجل ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يدل على أن الخسوف للقمر لا يقع إلا في ليالي الأبدار، وأن الكسوف للشمس لا يكون إلا أيام الاستسرار، كما يقوله بعض العلماء بل قد صرح جمع من أهل العلم بأنه يجوز أن يقع في كل وقت، وذكر غير واحد منهم أنه يمكن وقوعه في يوم عيد الفطر وعيد النحر، وهذان اليومان ليسا من أيام الأبدار ولا من أيام الاستسرار، فنقابل من قال إنه لا يقع الخسوف إلا في ليالي الأبدار وأيام الاستسرار بقول من قال: إنه يمكن وقوعه في كل وقت، وليس قول أحدهما بأولى من الآخر، وتسلم لنا الأدلة الشرعية التي ليس لها معارض، وليس في شرع الله سبحانه ولا في قدرته فيما نعلم ما يمنع وقوع الكسوف في كل وقت لأن الله عز وجل له القدرة الكاملة على كل شيء وله الحكمة البالغة في جميع ما يقدره ويشرعه لعباده، وقد أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم، أن كسوف الشمس وخسوف القمر آيتان من
__________
(1) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية المجلد 25 صفحة 132.(13/333)
آيات الله يخوف الله بهما عباده، والعباد في أشد الحاجة إلى التخويف والإنذار من أسباب العذاب في كل وقت، وهذا المعنى نفسه من الأدلة الدالة على صحة قول من قال من العلماء بجواز وقوع الخسوف والكسوف في جميع الأوقات، والرؤية لهلال شعبان ليلة السبت هذا العام ثبتت بشهادة عدلين وحكم بثبوتها المجلس الأعلى للقضاء في المملكة العربية السعودية بهيئته الدائمة، فهي رؤية شرعية يجب الاعتماد عليها في الصوم والإفطار لموافقتها للأدلة الشرعية وبطلان ما يعارضها، وعليها يكون يوم الاثنين أول يوم من رمضان إلا أن يرى الهلال ليلة الأحد، للأحاديث السابقة ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما (1) » ولقوله صلى الله عليه وسلم: «الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون (2) » أخرجه الترمذي وغيره بإسناد حسن.
وأرجو أن يكون فيما ذكرته مقنع لطالب الحق وكشف للشبهة التي ذكرناها في صدر هذه الكلمة، والله سبحانه ولي التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا وإمامنا محمد وآله وصحبه.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
ورئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1909) ، صحيح مسلم الصيام (1081) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2119) ، سنن ابن ماجه الصيام (1655) ، مسند أحمد بن حنبل (2/497) ، سنن الدارمي الصوم (1685) .
(2) سنن الترمذي الصوم (697) ، سنن ابن ماجه الصيام (1660) .(13/334)
حكم الحيوان المذبوح بالصعق الكهربائي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه أما بعد:
فقد اطلعت على الفتوى التي نشرت في جريدة المسلمون بالعدد 14 في 21 \ 8 \ 1405هـ. لفضيلة الشيخ يوسف القرضاوي، وقد جاء فيها ما نصه: (اللحوم المستوردة من عند أهل الكتاب كالدجاج ولحوم البقر المحفوظة مما قد تكون تذكيته بالصعق الكهربائي ونحوه حل لنا ما داموا يعتبرون هذا حلالا مذكي. . . . . إلخ) اهـ.
وأقول: هذه الفتوى فيها تفصيل مع العلم بأن الكتاب والسنة قد دلا على حل ذبيحة أهل الكتاب، وعلى تحريم ذبائح غيرهم من الكفار - قال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (1) فهذه الآية نص صريح في حل طعام أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى وطعامهم ذبائحهم، وهي دالة بمفهومها على تحريم ذبائح غيرهم من الكفار - ويستثنى من ذلك عند أهل العلم ما علم أنه أهل به لغير الله، لأن ما أهل به لغير الله منصوص على تحريمه مطلقا، لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (2) وأما ما ذبح على غير الوجه الشرعي كالحيوان الذي علمنا أنه مات بالصعق أو بالخنق ونحوهما فهو يعتبر من الموقوذة أو المنخنقة حسب الواقع، سواء كان ذلك من عمل أهل الكتاب أو عمل المسلمين، وما لم نعلم كيفية ذبحه فالأصل حله إذا كان من ذبائح المسلمين أو أهل الكتاب، وما صعق أو ضرب وأدرك حيا وذكي
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) سورة المائدة الآية 3(13/335)
على الكيفية الشرعية فهو حلال، قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} (1) فدلت الآية على تحريم الموقوذة والمنخنقة، وفي حكمهما المصعوقة إذا ماتت قبل إدراك ذبحها - وهكذا التي تضرب في رأسها أو غيره فتموت قبل إدراك ذبحها يحرم أكلها للآية الكريمة المذكورة.
وبما ذكرنا، يتضح ما في جواب الشيخ يوسف - وفقه الله - من الإجمال، أما كون اليهود أو النصارى يستجيزون المقتولة بالخنق أو الصعق فليس ذلك يجيز لنا أكلهما كما لو استجازه بعض المسلمين - وإنما الاعتبار بما أحله الشرع المطهر أو حرمه - وكون الآية الكريمة قد أجملت طعامهم لا يجوز أن يؤخذ من ذلك حل ما نصت الآية الأخرى على تحريمه من المنخنقة والموقوذة ونحوهما، بل يجب حمل المجمل على المبين كما هي القاعدة الشرعية المقررة في الأصول.
أما حديث عائشة الذي أشار إليه الشيخ يوسف، فهو في أناس مسلمين حدثاء عهد بالإسلام، وليسوا كفارا فلا يجوز أن يحتج به على حل ذبائح الكفار التي دل الشرع على تحريمها وهذا نصه: (عن عائشة رضي الله عنها «أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوما يأتونا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا، فقال: سموا عليه أنتم وكلوه - قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر (2) » رواه البخاري.
ولواجب النصح والبيان والتعاون على البر والتقوى جرى تحريره، وأسأل الله أن يوفقنا وفضيلة الشيخ يوسف وسائر المسلمين لإصابة الحق في القول والعمل إنه خير مسئول، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5507، 5507) ، سنن النسائي الضحايا (4436، 4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829، 2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174، 3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054، 1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976، 1976) .(13/336)
حديث شريف
عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى (1) »
رواه مسلم
__________
(1) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (720) ، سنن أبو داود الصلاة (1286) .(13/337)
بسم الله الرحمن الرحيم
{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} (1) {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} (2) {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى} (3)
(سورة الأعلى، الآيات " 9 - 10 - 11 ")
__________
(1) سورة الأعلى الآية 9
(2) سورة الأعلى الآية 10
(3) سورة الأعلى الآية 11(14/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(14/2)
مجلة البحوث الإسلامية
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا
العدد الرابع عشر:
ذو القعدة. ذو الحجة عام 1405 هـ. محرم. صفر 1406 هـ(14/3)
المحتويات
الافتتاحية
نصح وتذكير وتنبيه على مسائل في التعزية والختان والحلف بغير الله سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
رسائل لسماحة الرئيس العام
حكم السفور والحجاب ونكاح الشغار سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 15
كلمة سماحة الشيخ لحجاج بيت الله الحرام لحج عام 1405هـ سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 29
موضوع العدد
في نزع القرنية من عين إنسان وزرعها في آخر اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 39
الطريقة التيجانية اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 69
الفتاوى
فتاوى خاصة بالصيام اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 101
أسئلة وأجوبة في الحج مقابلة مع جريدة الجزيرة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 131(14/4)
بحوث في العقيدة
البدع طعن في الدين الشيخ صالح بن سعود آل علي 145
الإلحاد وعلاقته باليهود والنصارى الدكتور محمد بن سعد الشويعر 209
مخطوطة
مسند بلال بن رباح تحقيق الشيخ أبي عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري 227
بحوث فقهية
الاجتهاد ومدى إمكانه في هذا الزمان الدكتور صالح بن فوزان الفوزان 245
حكم بيع العينة الدكتور عبد الله بن محمد الطريقي 261
تحريم الرشوة الشيخ يوسف البرقاوي 297
ردود وتنبيهات
تعقيب لسماحة الشيخ على ما نشر في مجلة البلاغ حول تفسير قوله تعالى {استوى على العرش} سماحة الرئيس العام 317
وجوب استعمال الماء عند القدرة عليه في الطهارتين وتحريم التيمم في هذه الحال سماحة الرئيس العام 321
علم الحساب لا يعتمد عليه في إثبات الصوم والفطر سماحة الرئيس العام 323
بيان ما يلزم المحدة على زوجها من الأحكام سماحة الرئيس العام 325(14/5)
صفحة فارغة(14/6)
الافتتاحية
نصح- وتذكير- وتنبيه على مسائل التعزية- والختان- والحلف بغير الله
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه ويطلع عليه من إخواني المسلمين، وفقني الله وإياهم إلى فعل الطاعات وجنبني وإياهم البدع والمنكرات. . . . . . . . آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: -
فإن الداعي لكتابة هذه الكلمة هو النصح والتذكير والتنبيه على مسائل في التعزية والختان والحلف بغير الله مخالفة للشرع قد وقع فيها بعض الناس ولا ينبغي السكوت عنها بل يجب التنبيه والتحذير منها فأقول وبالله التوفيق:
1 - ما يتعلق بالتعزية: -
على كل مسلم أن يعلم علم اليقين أن ما أصابه فهو بقضاء الله وقدره وعليه أن يصبر ويحتسب وينبغي للمصاب أن يستعين بالله تعالى ويتعزى بعزائه ويمتثل أمره في الاستعانة بالصبر والصلاة لينال ما وعد به الصابرين في قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (1) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (2) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (3) وروى مسلم في صحيحه عن أم سلمة
__________
(1) سورة البقرة الآية 155
(2) سورة البقرة الآية 156
(3) سورة البقرة الآية 157(14/7)
رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصبتي واخلف لي خيرا منها، إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها (1) » وليحذر المصاب أن يتكلم بشيء يحبط أجره ويسخط ربه مما يشبه التظلم والتسخط فهو سبحانه وتعالى عدل لا يجور وله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى وله في ذلك الحكمة البالغة وهو الفعال لما يريد. ومن عارض في هذا أو مانعه فإنما يعترض على قضاء الله وقدره الذي هو عين المصلحة والحكمة وأساس العدل والصلاح. ولا يدعو على نفسه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما مات أبو سلمة: «لا تدعو على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون (2) » ويحتسب ثواب الله ويحمده.
وتعزية المصاب بالميت مستحبة لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عزى مصابا فله مثل أجره (3) » والمقصود منها تسلية أهل المصيبة في مصيبتهم ومواساتهم وجبرهم، ولا بأس بالبكاء على الميت لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله لما مات ابنه إبراهيم وبعض بناته صلى الله عليه وسلم.
أما الندب والنياحة ولطم الخد وشق الجيب وخمش الوجه ونتف الشعر والدعاء بالويل والثبور وما أشبهها فكل ذلك محرم لما روى ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية (4) » وعن أبي موسى رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة، والحالقة، والشاقة (5) » ، وذلك لأن هذه الأشياء وما أشبهها فيها إظهار للجزع والتسخط وعدم الرضاء والتسليم. والصالقة: هي التي ترفع
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (918) ، سنن أبو داود الجنائز (3119) ، مسند أحمد بن حنبل (6/309) ، موطأ مالك الجنائز (558) .
(2) صحيح مسلم الجنائز (920) ، سنن أبو داود الجنائز (3118) ، مسند أحمد بن حنبل (6/297) .
(3) سنن الترمذي الجنائز (1073) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1602) .
(4) صحيح البخاري الجنائز (1297) ، صحيح مسلم الإيمان (103) ، سنن الترمذي الجنائز (999) ، سنن النسائي الجنائز (1860) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1584) ، مسند أحمد بن حنبل (1/465) .
(5) صحيح مسلم الإيمان (104) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/397) .(14/8)
صوتها عند المصيبة، والحالقة: هي التي تحلق شعرها عند المصيبة، والشاقة هي التي تشق ثوبها عند المصيبة.
ويستحب إصلاح طعام لأهل الميت يبعث به إليهم إعانة لهم وجبرا لقلوبهم فإنهم ربما اشتغلوا بمصيبتهم وبمن يأتي إليهم عن إصلاح طعام لأنفسهم لما روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه بسند صحيح عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما قال: «لما جاء نعي جعفر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصنعوا لآل جعفر طعاما فإنه قد أتاهم ما يشغلهم (1) » وروي عن عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما أنه قال: فما زالت السنة فينا حتى تركها من تركها.
أما صنع أهل البيت الطعام للناس؛ سواء أكان ذلك من مال الورثة أم من ثلث الميت أو من شخص يفد عليهم فهذا لا يجوز؛ لأنه خلاف السنة ومن عمل الجاهلية؛ لأن في ذلك زيادة تعب لهم على مصيبتهم، وشغلا إلى شغلهم. وروى أحمد وابن ماجه بإسناد جيد عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد الدفن من النياحة. وأما الإحداد فيحرم إحداد فوق ثلاثة أيام على ميت غير زوج فيلزم زوجته الإحداد مدة العدة فقط؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا (2) » .
أما إحداد النساء سنة كاملة فهذا مخالف للشريعة الإسلامية السمحة، وهو من عادات الجاهلية التي أبطلها الإسلام، وحذر منها فالواجب إنكاره والتواصي بتركه، قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: وهذا من تمام محاسن الشريعة وحكمتها ورعايتها على أكمل الوجوه. فإن الإحداد على الميت من تعظيم مصيبة الموت التي كان أهل الجاهلية
__________
(1) سنن الترمذي الجنائز (998) ، سنن أبو داود الجنائز (3132) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1610) .
(2) صحيح البخاري الطلاق (5334) ، صحيح مسلم الطلاق (1486) ، سنن الترمذي الطلاق (1195) ، سنن النسائي الطلاق (3533) ، سنن أبو داود الطلاق (2299) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2084) ، مسند أحمد بن حنبل (6/326) ، موطأ مالك الطلاق (1269) ، سنن الدارمي الطلاق (2284) .(14/9)
يبالغون فيها أعظم مبالغة وتمكث المرأة سنة في أضيق بيت وأوحشه لا تمس طيبا ولا تدهن ولا تغتسل إلى غير ذلك مما هو تسخط على الرب وأقداره. فأبطل الله بحكمته سنة الجاهلية وأبدلنا بها الصبر والحمد.
ولما كانت مصيبة الموت لا بد أن تحدث للمصاب من الجزع والألم والحزن ما تتقاضاه الطباع سمح لها الحكيم الخبير في اليسير من ذلك وهو ثلاثة أيام تجد بها نوع راحة وتقضي بها وطرا من الحزن، وما زاد عن ذلك فمفسدة راجحة فمنع منه والمقصود أنه أباح لهن الإحداد على موتاهن ثلاثة أيام وأما الإحداد على الزوج فإنه تابع للعدة بالشهور. وأما الحامل فإذا انقضى حملها سقط وجوب الإحداد لأنه يستمر إلى حين الوضع. اهـ كلامه رحمه الله.
أما عمل الحفل: بعد خروج المرأة من العدة فهو بدعة إذا اشتمل على ما حرم الله من نياحة وعويل وندب ونحوها. ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه رضي الله عنهم ولا عن السلف الصالح إقامة حفل للميت مطلقا لا عند وفاته ولا بعد أسبوع أو أربعين يوما أو سنة من وفاته بل ذلك بدعة وعادة قبيحة.
فيجب البعد عن مثل هذه الأشياء وإنكارها والتوبة إلى الله منها وتجنبها لما فيها من الابتداع في الدين ومشابهة المشركين وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي. وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم (1) » . وثبت عنه أيضا عليه الصلاة والسلام أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على النهي عن التشبه بالمشركين وعن الابتداع في الدين والله أعلم.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/92) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(14/10)
2 - الختان: -
أما الختان فهو من سنن الفطرة ومن شعار المسلمين لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الفطرة خمس: - الختان- والاستحداد وقص الشارب- وتقليم الأظفار- ونتف الإبط (1) » فبدأ صلى الله عليه وسلم بالختان وأخبر أنه من سنن الفطرة.
والختان الشرعي: -
هو قطع القلفة الساترة لحشفة الذكر فقط. أما من يسلخ الجلد الذي يحيط بالذكر أو يسلخ الذكر كله كما في بعض البلدان المتوحشة ويزعمون جهلا منهم أن هذا هو الختان المشروع وما هو إلا تشريع من الشيطان زينه للجهال وتعذيب للمختون ومخالفة للسنة المحمدية والشريعة الإسلامية التي جاءت باليسر والسهولة والمحافظة على النفس وهو محرم لعدة وجوه منها:
1 - أن السنة وردت بقطع القلفة الساترة لحشفة الذكر فقط.
2 - أن هذا تعذيب للنفس وتمثيل بها وقد «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة (2) » وعن صبر البهائم والعبث بها أو تقطيع أطرافها فالتعذيب لبني آدم من باب أولى وهو أشد إثما.
3 - أن هذا مخالف للإحسان والرفق الذي حث عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء (3) » الحديث.
4 - أن هذا قد يؤدي إلى السراية وموت المختون وذلك لا يجوز لقوله
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5889) ، صحيح مسلم الطهارة (257) ، سنن الترمذي الأدب (2756) ، سنن النسائي الزينة (5225) ، سنن أبو داود الترجل (4198) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (292) ، مسند أحمد بن حنبل (2/239) ، موطأ مالك الجامع (1709) .
(2) سنن الترمذي الطهارة (72) ، سنن النسائي الطهارة (305) ، سنن أبو داود الحدود (4364) .
(3) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1955) ، سنن الترمذي الديات (1409) ، سنن النسائي الضحايا (4405) ، سنن أبو داود الضحايا (2815) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3170) ، مسند أحمد بن حنبل (4/125) ، سنن الدارمي الأضاحي (1970) .(14/11)
تعالى {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) وقوله سبحانه {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (2) ولهذا نص العلماء على أنه لا يجب الختان الشرعي على الكبير إذا خيف عليه من ذلك.
أما التجمع رجالا ونساء في يوم معلوم لحضور الختان وإيقاف الولد متكشفا أمامهم فهذا حرام لما فيه من كشف العورة التي أمر الدين الإسلامي بسترها ونهى عن كشفها.
وهكذا الاختلاط بين الرجال والنساء بهذه المناسبة لا يجوز لما فيه من الفتنة ومخالفة الشرع المطهر.
__________
(1) سورة البقرة الآية 195
(2) سورة النساء الآية 29(14/12)
الحلف بغير الله: -
لله سبحانه وتعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته على ما شاء منها ولا يجوز لمخلوق كائنا من كان أن يحلف ويقسم بغيره جل وعلا. فإن الله شرع لعباده المؤمنين أن تكون أيمانهم به سبحانه وتعالى أو بصفة من صفاته وهذا خلاف ما كان يفعله المشركون في الجاهلية فقد كانوا يحلفون بغيره من المخلوقات كالكعبة والشرف والنبي والملائكة والمشايخ والملوك والعظماء والآباء والسيوف وغير ذلك مما يحلف به كثير من الجهلة بأمور الدين فهذه الأيمان كلها لا تجوز بإجماع أهل العلم لقوله صلى الله عليه وسلم «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (1) » وقوله صلى الله عليه وسلم «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فلا يحلف إلا بالله (2) » رواه البخاري. ولمسلم: «فمن كان حالفا فلا يحلف إلا بالله أو ليصمت (3) » وفي حديث آخر: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون (4) » .
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6108) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1535) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/125) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(2) صحيح البخاري الأدب (6108) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(3) صحيح البخاري الأدب (6108) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، مسند أحمد بن حنبل (2/11) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(4) سنن النسائي الأيمان والنذور (3769) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3248) .(14/12)
وقوله صلى الله عليه وسلم «من حلف بالأمانة فليس منا (1) » وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا) والأحاديث والآثار في هذا المعنى كثيرة.
فالواجب على المسلمين أن يحفظوا أيمانهم وألا يحلفوا إلا بالله وحده أو صفة من صفاته وأن يحذروا الحلف بغير الله كائنا من كان للأحاديث السابقة. نسأل الله عز وجل أن يوفق المسلمين لما يرضيه وأن يمنحهم الفقه في دينه وأن يعيذنا وإياهم من مضلات الفتن ومن شرور النفس وسيئات العمل إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن أبو داود الأيمان والنذور (3253) ، مسند أحمد بن حنبل (5/352) .(14/13)
صفحة فارغة(14/14)
حكم السفور والحجاب
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه من المسلمين سلك الله بي وبهم سبيل الاستقامة وأعاذني وإياهم من أسباب الخزي والندامة، آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد: فلا يخفى عليكم أيها المسلمون ما عمت به البلوى في كثير من البلدان من تبرج الكثير من النساء وسفورهن وعدم تحجبهن من الرجال وإبداء الكثير من زينتهن التي حرم الله عليهن إبداءها، ولا شك أن ذلك من المنكرات العظيمة والمعاصي الظاهرة ومن أعظم أسباب حلول العقوبات ونزول النقمات لما يترتب على التبرج والسفور من ظهور الفواحش وارتكاب الجرائم وقلة الحياء وعموم الفساد.
فاتقوا الله أيها المسلمون وخذوا على أيدي سفهائكم وامنعوا نساءكم مما حرم الله عليهن وألزموهن التحجب والتستر واحذروا غضب الله سبحانه وعظيم عقوبته فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه (1) » وقد قال الله سبحانه في كتابه الكريم {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (2) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (3) .
__________
(1) سنن الترمذي الفتن (2168) ، سنن ابن ماجه الفتن (4005) .
(2) سورة المائدة الآية 78
(3) سورة المائدة الآية 79(14/15)
وفي المسند وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية ثم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم (1) » وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (2) » وقد أمر الله سبحانه في كتابه الكريم بتحجب النساء ولزومهن البيوت وحذر من التبرج والخضوع بالقول للرجال صيانة لهن عن الفساد وتحذيرا لهن من أسباب الفتنة فقال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (3) {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (4) الآية.
نهى سبحانه في هذه الآيات نساء النبي الكريم أمهات المؤمنين وهن من خير النساء وأطهرهن عن الخضوع بالقول للرجال وهو تليين القول وترقيقه لئلا يطمع فيهن من في قلبه مرض شهوة الزنا ويظن أنهن يوافقنه على ذلك وأمر بلزومهن البيوت ونهاهن عن تبرج الجاهلية وهو إظهار الزينة والمحاسن كالرأس والوجه والعنق والصدر والذراع والساق ونحو ذلك من الزينة لما في ذلك من الفساد العظيم والفتنة الكبيرة وتحريك قلوب الرجال إلى تعاطي أسباب الزنا، وإذا كان الله سبحانه يحذر أمهات المؤمنين من هذه الأشياء المنكرة مع صلاحهن وإيمانهن فغيرهن أولى وأولى بالتحذير والإنكار والخوف عليهن من أسباب الفتنة، عصمنا الله وإياكم من مضلات الفتن. ويدل على عموم الحكم لهن
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3047) ، سنن أبو داود الملاحم (4336) ، سنن ابن ماجه الفتن (4006) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .
(3) سورة الأحزاب الآية 32
(4) سورة الأحزاب الآية 33(14/16)
ولغيرهن قوله سبحانه في هذه الآية: {وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) فإن هذه الأوامر أحكام عامة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن وقال عز وجل: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ} (2) فهذه الآية الكريمة نص واضح في وجوب تحجب النساء عن الرجال وتسترهن منهم وقد أوضح الله سبحانه في هذه الآية أن التحجب أطهر لقلوب الرجال والنساء وأبعد عن الفاحشة وأسبابها وأشار سبحانه إلى أن السفور وعدم التحجب خبث ونجاسة وأن التحجب طهارة وسلامة.
فيا معشر المسلمين تأدبوا بتأديب الله وامتثلوا أمر الله وألزموا نساءكم بالتحجب الذي هو سبب الطهارة ووسيلة النجاة والسلامة. وقال عز وجل {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (3) ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما.
أمر الله سبحانه جميع نساء المؤمنين بإدناء جلابيبهن على محاسنهن من الشعور والوجه وغير ذلك حتى يعرفن بالعفة فلا يفتتن ولا يفتن غيرهن فيؤذيهن. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة.
وقال محمد بن سيرين: سألت عبيدة السلماني عن قول الله عز وجل: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (4) فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 33
(2) سورة الأحزاب الآية 53
(3) سورة الأحزاب الآية 59
(4) سورة الأحزاب الآية 59(14/17)
اليسرى. . . ثم أخبر الله سبحانه أنه غفور رحيم عما سلف من التقصير في ذلك قبل النهي والتحذير منه سبحانه. وقال تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) يخبر سبحانه أن القواعد من النساء - وهن العجائز اللاتي لا يرجون نكاحا- لا جناح عليهن أن يضعن ثيابهن عن وجوههن وأيديهن إذا كن غير متبرجات بزينة فعلم بذلك أن المتبرجة بالزينة ليس لها أن تضع ثوبها عن وجهها ويديها وغير ذلك من زينتها، وأن عليها جناحا في ذلك ولو كانت عجوزا؛ لأن كل ساقطة لها لاقطة، ولأن التبرج يفضي إلى الفتنة بالمتبرجة ولو كانت عجوزا فكيف يكون الحال بالشابة والجميلة إذا تبرجت؟ لا شك أن إثمها أعظم، والجناح عليها أشد والفتنة بها أكبر، وشرط سبحانه في حق العجوز أن لا تكون ممن يرجو النكاح وما ذاك- والله أعلم إلا لأن رجاءها النكاح يدعوها إلى التجمل والتبرج بالزينة طمعا في الأزواج فنهيت عن وضع ثيابها عن محاسنها صيانة لها ولغيرها من الفتنة. ثم ختم الآية سبحانه بتحريض القواعد على الاستعفاف، وأوضح أنه خير لهن، وإن لم يتبرجن.
يظهر بذلك فضل التحجب والتستر بالثياب، ولو من العجائز وأنه خير لهن من وضع الثياب، فوجب أن يكون التحجب والاستعفاف عن إظهار الزينة خير للشابات من باب أولى وأبعد لهن عن أسباب الفتنة. وقال تعالى:
__________
(1) سورة النور الآية 60(14/18)
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُون} (1) {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) .
أمر الله سبحانه في هاتين الآيتين الكريمتين المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار وحفظ الفروج وما ذاك إلا لعظم فاحشة الزنا وما يترتب عليها من الفساد الكبير بين المسلمين ولأن إطلاق البصر من وسائل مرض القلب ووقوع الفاحشة وغض البصر من أسباب السلامة من ذلك، ولهذا قال سبحانه: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (3)
فغض البصر وحفظ الفرج أزكى للمؤمن في الدنيا والآخرة. وإطلاق البصر والفرج من أعظم أسباب العطب والعذاب في الدنيا والآخرة. نسأل الله العافية من ذلك.
وأخبر عز وجل أنه خبير بما يصنعه الناس وأنه لا يخفى عليه خافية، وفي ذلك تحذير للمؤمنين من ركوب ما حرم الله عليهم، والإعراض عما شرع الله لهم، وتذكير لهم بأن الله سبحانه يراهم ويعلم
__________
(1) سورة النور الآية 30
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة النور الآية 30(14/19)
أفعالهم الطيبة وغيرها كما قال تعالى {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (1) .
وقال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} (2) .
فالواجب على العبد أن يحذر ربه وأن يستحي منه أن يراه على معصيته أو يفقده من طاعته التي أوجب عليه ثم قال سبحانه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (3) فأمر المؤمنات بغض البصر وحفظ الفرج، كما أمر المؤمنين بذلك صيانة لهن من أسباب الفتنة، وتحريضا لهن على أسباب العفة والسلامة، ثم قال سبحانه: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (4) قال ابن مسعود رضي الله عنه: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (5) يعني بذلك ما ظهر من اللباس فإن ذلك معفو عنه، ومراده بذلك - رضي الله عنه - الملابس التي ليس فيها تبرج وفتنة.
وأما ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسر {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (6) بالوجه والكفين فهو محمول على حالة النساء قبل نزول آية الحجاب. وأما بعد ذلك فقد أوجب الله عليهن ستر الجميع كما سبق في الآيات الكريمات من سورة الأحزاب وغيرها. ويدل على أن ابن عباس أراد بذلك ما رواه علي بن أبي طلحة عنه أن قال: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة. وقد نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن
__________
(1) سورة غافر الآية 19
(2) سورة يونس الآية 61
(3) سورة النور الآية 31
(4) سورة النور الآية 31
(5) سورة النور الآية 31
(6) سورة النور الآية 31(14/20)
تيمية وغيره من أهل العلم والتحقيق. وهو الحق الذي لا ريب فيه. وأما ما رواه أبو داود في سننه عن عائشة رضي الله عنها: «أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها رسول الله! وقال: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه (1) » . فهو حديث ضعيف الإسناد لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه من رواية خالد بن دريك عن عائشة وهو لم يسمع منها فهو منقطع، ولهذا قال أبو داود بعد روايته لهذا الحديث هذا مرسل، خالد لم يدرك عائشة. . . ولأن في إسناده سعيد بن بشير وهو ضعيف لا يحتج بروايته. . وفيه علة أخرى ثالثة وهي: عنعنة قتادة عن خالد بن دريك وهو مدلس.
ومعلوم ما يترتب على ظهور الوجه والكفين من الفساد والفتنة، وقد تقدم قوله تعالى {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} (2) ولم يستثن شيئا، وهي آية محكمة فوجب الأخذ بها والتعويل عليها وحمل ما سواها عليها والحكم فيها عام في نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن من نساء المؤمنين. وتقدم في سورة النور ما يرشد إلى ذلك وهو ما ذكره الله سبحانه في حق القواعد وتحريم وضعهن الثياب إلا بشرطين: أحدهما: كونهن لا يرجون النكاح. والثاني: عدم التبرج بالزينة. وسبق الكلام على ذلك وأن الآية المذكورة حجة ظاهرة وبرهان قاطع على تحريم سفور النساء وتبرجهن بالزينة. ولا يخفى ما وقع فيه النساء اليوم من التوسع في التبرج وإبداء المحاسن فوجب سد الذرائع وحسم الوسائل المفضية إلى الفساد وظهور الفواحش. ومن أعظم أسباب الفساد: خلوة الرجال بالنساء وسفرهم بهن من دون
__________
(1) سنن أبو داود اللباس (4104) .
(2) سورة الأحزاب الآية 53(14/21)
محرم. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم ولا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم (1) » وقال صلى الله عليه وسلم «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما (2) » وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يبيتن رجل عند امرأة إلا أن يكون زوجا أو ذا محرم (3) » رواه مسلم في صحيحه. فاتقوا الله أيها المسلمون وخذوا على أيدي نسائكم، وامنعوهن مما حرم الله عليهن من السفور والتبرج، وإظهار المحاسن. والتشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى وسائر الكفرة ومن تشبه بهم، واعلموا أن السكوت عنهن مشاركة لهن في الإثم وتعرض لغضب الله وعموم عقابه، عافانا الله وإياكم من شر ذلك.
ومن أعظم الواجبات تحذير الرجال من الخلوة بالنساء والدخول عليهن والسفر بهن بدون محرم، لأن ذلك من وسائل الفتنة والفساد، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء (4) » وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون؟ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء (5) » وقال عليه الصلاة والسلام: «رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة (6) » . وقال صلى الله عليه وسلم: «صنفان من أهل النار لم أرهما بعد؛ نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، ورجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس (7) » وهذا تحذير شديد من التبرج والسفور ولبس الرقيق والقصير من الثياب، والميل عن الحق والعفة، وإمالة الناس إلى الباطل، وتحذير شديد من ظلم النفس والتعدى عليهم، ووعيد لمن فعل ذلك بحرمان دخول الجنة. نسأل الله العافية من ذلك.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1862) ، صحيح مسلم الحج (1341) ، سنن ابن ماجه المناسك (2900) ، مسند أحمد بن حنبل (1/222) .
(2) سنن الترمذي الفتن (2165) ، مسند أحمد بن حنبل (1/18) .
(3) صحيح مسلم السلام (2171) .
(4) صحيح البخاري النكاح (5096) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2741) ، سنن الترمذي الأدب (2780) ، سنن ابن ماجه الفتن (3998) ، مسند أحمد بن حنبل (5/210) .
(5) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2742) ، سنن الترمذي الفتن (2191) ، سنن ابن ماجه الفتن (4000) ، مسند أحمد بن حنبل (3/61) .
(6) صحيح البخاري الجمعة (1126) ، سنن الترمذي الفتن (2196) ، مسند أحمد بن حنبل (6/297) ، موطأ مالك الجامع (1695) .
(7) صحيح مسلم اللباس والزينة (2128) ، مسند أحمد بن حنبل (2/440) .(14/22)
ومن أعظم الفساد تشبه الكثير من النساء بنساء الكفار من اليهود والنصارى، ومن تشبه بهم في لبس القصير والرقيق من الثياب وإبداء الشعور والمحاسن. وقد قال صلى الله عليه وسلم «من تشبه بقوم فهو منهم (1) » ومعلوم ما يترتب على هذا التشبه وهذه الملابس القصيرة التي تجعل المرأة شبه عارية من الفساد والفتنة ورقة الدين، وقلة الحياء. فالواجب الحذر من ذلك غاية الحذر، ومنع النساء منه، والشدة في ذلك لأن عاقبته وخيمة وفساده عظيم، ولا يجوز التساهل في ذلك مع البنات الصغار لأن تربيتهن عليه يفضي إلى اعتيادهن له وكراهتهن لما سواه إذا كبرن، فيقع بذلك الفساد والمحذور والفتنة المخوفة التي وقع فيها الكبيرات من النساء.
فاتقوا الله عباد الله واحذروا ما حرم الله عليكم وتعاونوا على البر والتقوى وتواصوا بالحق والصبر عليه. واعلموا أن الله سبحانه سائلكم عن ذلك ومجازيكم على أعمالكم، وهو سبحانه مع الصابرين، ومع المتقين والمحسنين، فاصبروا وصابروا واتقوا الله وأحسنوا إن الله يحب المحسنين.
ولا ريب أن الواجب على ولاة الأمور من الأمراء والقضاة والعلماء ورؤساء الهيئات وأعضاء الهيئات أكبر من الواجب على غيرهم، والخطر عليهم أشد والفتنة في سكوت من سكت منهم عظيمة، ولكن ليس إنكار المنكر خاصا بهم، بل الواجب على جميع المسلمين ولا سيما أعيانهم وكبارهم، وبالأخص أولياء النساء وأزواجهن، إنكار المنكر والغلظة فيه والشدة على من تساهل في ذلك، لعل الله سبحانه يرفع عنا ما نزل من البلاء ويهدينا ونساءنا إلى سواء السبيل. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما بعث الله من نبي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون
__________
(1) سنن أبو داود اللباس (4031) .(14/23)
بسنته، ويهتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل (1) » وأسأل الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته وأن يصلح ولاة أمورنا ويقمع بهم الفساد وينصر بهم الحق، ويصلح لهم البطانة، وأن يوفقنا وإياكم وإياهم وسائر المسلمين لما فيه صلاح العباد والبلاد في المعاش والمعاد، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (50) ، مسند أحمد بن حنبل (1/458) .(14/24)
- حكم نكاح الشغار -
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يطلع عليه من المسلمين وفقني الله وإياهم لمعرفة الحق واتباعه آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد: فالداعي لهذا الكتاب هو التنبيه على مسائل في النكاح مخالفة للشرع قد وقع فيها كثير من الناس، منها نكاح الشغار، وهو أن يزوج الرجل ابنته أو أخته أو غيرهما ممن له الولاية عليه على أن يزوجه الآخر أو يزوج ابنه أو ابن أخيه: ابنته أو أخته أو بنت أخيه أو نحو ذلك. وهذا العقد على هذا الوجه فاسد سواء ذكر فيه مهر أو لا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وحذر منه، وقد قال الله تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) وفي الصحيحين عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن الشغار (2) » وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم «نهى عن الشغار (3) » قال: (والشغار: أن يقول الرجل زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي أو زوجني أختك وأزوجك أختي) وقال عليه الصلاة والسلام: «لا شغار في الإسلام (4) » فهذه الأحاديث الصحيحة تدل على تحريم نكاح الشغار وفساده وأنه مخالف لشرع الله، ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين ما سمي فيه مهر وما لم يسم فيه شيء.
وأما ما ورد في حديث ابن عمر من تفسير الشغار بأن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، وليس بينهما صداق، فهذا التفسير قد
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) صحيح البخاري النكاح (5112) ، صحيح مسلم النكاح (1415) ، سنن الترمذي النكاح (1124) ، سنن النسائي النكاح (3337) ، سنن أبو داود النكاح (2074) ، سنن ابن ماجه النكاح (1883) ، مسند أحمد بن حنبل (2/62) ، موطأ مالك النكاح (1134) ، سنن الدارمي النكاح (2180) .
(3) صحيح البخاري النكاح (5112) ، صحيح مسلم النكاح (1415) ، سنن الترمذي النكاح (1124) ، سنن النسائي النكاح (3337) ، سنن أبو داود النكاح (2074) ، سنن ابن ماجه النكاح (1883) ، مسند أحمد بن حنبل (2/62) ، موطأ مالك النكاح (1134) ، سنن الدارمي النكاح (2180) .
(4) صحيح مسلم النكاح (1415) ، سنن أبو داود النكاح (2074) ، سنن ابن ماجه النكاح (1883) ، مسند أحمد بن حنبل (2/62) ، موطأ مالك النكاح (1134) ، سنن الدارمي النكاح (2180) .(14/25)
ذكر أهل العلم أنه من كلام نافع الراوي عن ابن عمر، وليس هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة بما تقدم، وهو أن يزوج الرجل ابنته أو أخته على أنه يزوجه الآخر ابنته أو أخته، ولم يقل وليس بينهما صداق فدل ذلك على أن تسمية الصداق أو عدمها لا أثر لها في ذلك، وإنما المقتضي للفساد هو اشتراط المبادلة.
وفي ذلك فساد كبير لأنه يفضي إلى إجبار النساء على نكاح من لا يرغبن فيه إيثارا لمصلحة الأولياء على مصلحة النساء. وذلك منكر وظلم للنساء، ولأن ذلك أيضا يفضي إلى حرمان النساء من مهور أمثالهن، كما هو الواقع بين الناس المتعاطين لهذا العقد المنكر إلا من شاء الله، كما أنه كثيرا ما يفضي إلى النزاع والخصومات بعد الزواج، وهذا من العقوبات العاجلة لمن خالف الشرع، وروى أحمد وأبو داود بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن هرمز «أن العباس بن عبد الله بن عباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته وأنكحه عبد الرحمن ابنته وكانا جعلا صداقا فكتب معاوية إلى أمير المدينة مروان بن الحكم يأمره بالتفريق بينهما، وقال في كتابه: هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) » . فهذه الحادثة التي وقعت في عهد أمير المؤمنين معاوية توضح لنا معنى الشغار الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المتقدمة، وأن تسمية الصداق لا تصحح النكاح ولا تخرجه عن كونه شغارا لأن العباس بن عبد الله وعبد الرحمن بن الحكم قد سميا صداقا ولكن لم يلتفت معاوية رضي الله عنه إلى هذه التسمية وأمر بالتفريق بينهما، وقال: هذا هو الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعاوية رضي الله عنه أعلم باللغة العربية وبمعاني أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم من نافع مولى ابن عمر رضي الله عن الجميع.
ومن المسائل المنكرة في النكاح ما يفعله بعض الناس من إجبار ابنته أو أخته أو بنت أخيه على نكاح من لا ترضى بنكاحه، وذلك منكر ظاهر وظلم للنساء لا يجوز للأب ولا لغيره من الأولياء أن يتعاطاه لما في ذلك
__________
(1) سنن أبو داود النكاح (2075) ، مسند أحمد بن حنبل (4/94) .(14/26)
من ظلم النساء ومخالفة السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن تزويج النساء إلا بإذنهن، ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت (1) » . وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والبكر يستأذنها أبوها وإذنها صماتها (2) » . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ويستثنى من هذا تزويج الرجل ابنته التي لم تبلغ تسع سنين بالكفء إذا رأى المصلحة لها في ذلك بغير إذنها لكونها لا تعرف مصالحها، ويدل لذلك تزويج الصديق ابنته عائشة أم المؤمنين للنبي صلى الله عليه وسلم وهي دون التسع بغير إذنها، فالواجب على كل من يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتقي الله في كل أموره وأن يحذر ما نهى الله عنه ورسوله في النكاح وغيره. وفي اتباع الشريعة والتمسك بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم خير الدنيا والآخرة والسعادة الأبدية. جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وكم جرى بسبب إجبار النساء على من لا يرضين به في النكاح من فتن ومشاكل وشحناء وخصومات، وذلك بعض ما يستحقه من خالف الشريعة المطهرة وتابع هواه. نسأل الله العافية مما يخالف رضاه.
ومن المسائل المنكرة في هذا ما يتعاطاه الكثير من البادية وبعض الحاضرة من حجر ابنة العم ومنعها من التزوج بغيره، وهذا منكر عظيم وسنة جاهلية وظلم للنساء. وقد وقع بسببه فتن كثيرة وشرور عظيمة من شحناء وقطيعة رحم وسفك دماء وغير ذلك. فالواجب على من يخالف الله أن يحذر ذلك ويحذره أقاربه، وقد أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى استئذان النساء وأن لا يزوجن إلا برضاهن. فالواجب على الأولياء أن ينظروا في مصلحة النساء وأن لا يزوجوهن إلا بالأكفاء دينا وخلقا بعد إذنهن، وبذلك تبرأ الذمة ويسلم الأولياء من العهدة. والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين وأن يمن عليهم بالفقه في دينه والتواصي بطاعته
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5136) ، سنن الترمذي النكاح (1107) ، سنن النسائي النكاح (3267) ، سنن أبو داود النكاح (2092) ، سنن ابن ماجه النكاح (1871) ، مسند أحمد بن حنبل (2/434) ، سنن الدارمي النكاح (2186) .
(2) صحيح مسلم النكاح (1421) ، سنن الترمذي النكاح (1108) ، سنن النسائي النكاح (3260) ، سنن أبو داود النكاح (2098) ، سنن ابن ماجه النكاح (1870) ، مسند أحمد بن حنبل (1/274) ، موطأ مالك النكاح (1114) ، سنن الدارمي النكاح (2190) .(14/27)
وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يصلح ولاتهم ويمنحهم البطانة الصالحة، إنه على كل شيء قدير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(14/28)
كلمة سماحة الشيخ إلى
حجاج بيت الله الحرام
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها المسلمون من حجاج بيت الله الحرام:
أسأل الله لنا ولكم التوفيق لما يرضيه والعافية من مضلات الفتن.
كما أسأله سبحانه أن يوفقكم جميعا لأداء مناسككم على الوجه الذي يرضيه. وأن يتقبل منكم وأن يردكم إلى بلادكم سالمين موفقين إنه خير مسئول. أيها المسلمون إن وصيتي للجميع هي تقوى الله سبحانه في جميع الأحوال والاستقامة على دينه والحذر من أسباب غضبه. وإن أهم الفرائض وأعظم الواجبات هو توحيد الله والإخلاص له في جميع العبادات، مع العناية باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأعمال. وأن تؤدى مناسك الحج وسائر العبادات على الوجه الذي شرعه الله لعباده على لسان رسوله وخليله وصفوته من خلقه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. وإن أعظم المنكرات وأخطر الجرائم هو الشرك بالله سبحانه. وهو صرف العبادة أو بعضها لغيره سبحانه؛ لقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1)
__________
(1) سورة النساء الآية 48(14/29)
وقوله سبحانه يخاطب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) حجاج بيت الله الحرام: إن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد هجرته إلى المدينة إلا حجة واحدة وهي حجة الوداع وذلك في آخر حياته صلى الله عليه وسلم. وقد علم الناس فيها مناسكهم بقوله وفعله. وقال لهم صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم (2) » . فالواجب على المسلمين جميعا أن يتأسوا به في ذلك. وأن يؤدوا مناسكهم على الوجه الذي شرعه لهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو المعلم المرشد، وقد بعثه الله رحمة للعالمين وحجة على العباد أجمعين، فأمر الله عباده بأن يطيعوه وأن يتبعوه وبين أن اتباعه هو سبب دخول الجنة والنجاة من النار، وأنه الدليل على صدق حب العبد لربه وعلى حب الله للعبد كما قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3) وقال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (4) وقال عز وجل: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (5) وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (6) .
__________
(1) سورة الزمر الآية 65
(2) صحيح مسلم في باب الحج، أبو داود في المناسك والنسائي في المناسك.
(3) سورة الحشر الآية 7
(4) سورة النور الآية 56
(5) سورة النساء الآية 80
(6) سورة الأحزاب الآية 21(14/30)
وقال سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (2) وقال عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (3) وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (4) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فوصيتي لكم جميعا ولنفسي: تقوى الله في جميع الأحوال والصدق في متابعة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله تفوزوا بالسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة.
حجاج بيت الله الحرام: إن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم لما كان يوم الثامن من ذي الحجة توجه من مكة إلى منى ملبيا وأمر أصحابه رضي الله عنهم أن يهلوا بالحج من منازلهم ويتوجهوا إلى منى، ولم يأمر بطواف الوداع فدل ذلك على أن السنة لمن أراد الحج من أهل مكة وغيرهم من المقيمين فيها، ومن المحلين من عمرتهم وغيرهم من الحجاج أن يتوجهوا إلى منى في اليوم الثامن ملبين بالحج، وليس عليهم أن يذهبوا إلى المسجد الحرام للطواف بالكعبة طواف الوداع.
ويستحب للمسلم عند إحرامه بالحج أن يفعل ما يفعله في الميقات عند الإحرام: من الغسل والطيب والتنظف كما «أمر النبي صلى الله عليه
__________
(1) سورة النساء الآية 13
(2) سورة النساء الآية 14
(3) سورة الأعراف الآية 158
(4) سورة آل عمران الآية 31(14/31)
وسلم عائشة بذلك لما أرادت الإحرام بالحج وكانت قد أحرمت بالعمرة فأصابها الحيض عند دخول مكة، وتعذر عليها الطواف قبل خروجها إلى منى؛ فأمرها صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وتهل بالحج» ففعلت ذلك فصارت قارنة بين الحج والعمرة. وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في منى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصرا من دون جمع، وهذا هو السنة تأسيا به صلى الله عليه وسلم. ويسن للحجاج في هذه الرحلة أن يشتغلوا بالتلبية، وبذكر الله عز وجل وقراءة القران وغير ذلك من وجوه الخير كالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإحسان إلى الفقراء.
فلما طلعت الشمس يوم عرفة توجه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم إلى عرفات منهم من يلبي، ومنهم من يكبر، فلما وصل عرفات نزل بقبة من شعر ضربت له هناك، واستظل بها عليه الصلاة والسلام، فدل ذلك على جواز استظلال الحجاج بالخيام والشجر ونحوها.
فلما زالت الشمس ركب دابته عليه الصلاة والسلام، وخطب الناس وذكرهم وعلمهم مناسك حجهم، وحذرهم من الربا وأعمال الجاهلية، وأخبرهم أن دماءهم وأموالهم وأعراضهم عليهم حرام. وأمرهم بالاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأخبرهم أنهم لن يضلوا ما داموا معتصمين بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالواجب على جميع المسلمين من الحجاج وغيرهم أن يلتزموا بهذه الوصية، وأن يستقيموا عليها أينما كانوا، ويجب على حكام المسلمين(14/32)
جميعا أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يحكموهما في جميع شئونهم وأن يلزموا شعوبهم بالتحاكم إليها، وذلك هو طريق العزة والكرامة والسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة. وفق الله الجميع لذلك.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم صلى بالناس الظهر والعصر قصرا وجمعا جمع تقديم بأذان واحد وإقامتين ثم توجه إلى الموقف واستقبل القبلة ووقف على دابته يذكر الله ويدعوه، ويرفع يديه بالدعاء حتى غابت الشمس وكان مفطرا ذلك اليوم، فعلم بذلك أن المشروع للحجاج أن يفعلوا كفعله صلى الله عليه وسلم في عرفات وأن يشتغلوا بذكر الله والدعاء والتلبية إلى غروب الشمس وأن يرفعوا أيديهم بالدعاء وأن يكونوا مفطرين لا صائمين، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من يوم أكثر أن يعتق الله عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه سبحانه ليدنو فيباهي بهم ملائكته (1) » وروي عنه صلى الله عليه وسلم «أن الله يقول يوم عرفة لملائكته: انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا يرجون رحمتي أشهدكم أني قد غفرت لهم (2) » . وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف (3) » .
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الغروب توجه ملبيا إلى مزدلفة وصلى بها المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بأذان واحد وإقامتين ثم
__________
(1) رواه مسلم في باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة الباب 79 حديث رقم 1348 ترتيب عبد الباقي.
(2) رواه أحمد بنحو هذا.
(3) رواه مسلم في كتاب الحج جـ 8 س 195 مسلم بشرح النووي ط \ دار الفكر.(14/33)
بات بها وصلى بها الفجر مع سنتها بأذان وإقامة، ثم أتى المشعر فذكر الله عنده وكبره وهلله ودعا ورفع يديه وقال: «وقفت هاهنا وجمع كلها موقف (1) » .
فدل ذلك على أن جميع مزدلفة موقف للحجاج يبيت كل حاج في مكانه ويذكر الله ويستغفره في مكانه، ولا حاجة إلى أن يتوجه إلى موقف النبي صلى الله عليه وسلم. وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم ليلة مزدلفة للضعفة أن ينصرفوا إلى منى بليل. فدل ذلك على أنه لا حرج على الضعفة من النساء والمرضى والشيوخ ومن تبعهم في التوجه من مزدلفة إلى منى في النصف الأخير من الليل عملا بالرخصة وحذرا من مشقة الزحمة. ويجوز لهم أن يرموا الجمرة ليلا كما ثبت ذلك عن أم سلمة وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها.
وذكرت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للنساء بذلك ثم إنه صلى الله عليه وسلم بعدما أسفر جدا دفع إلى منى ملبيا، فقصد جمرة العقبة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم نحر هديه ثم حلق رأسه ثم طيبته عائشة رضي الله عنها ثم توجه إلى البيت فطاف به (2) » .
وسئل صلى الله عليه وسلم في يوم النحر عمن ذبح قبل أن يرمي، ومن حلق قبل أن يذبح، ومن أفاض إلى البيت قبل أن يرمي، فقال: لا حرج.
قال الراوي: فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج. وسأله رجل فقال: «يا رسول الله سعيت قبل أن أطوف
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الحج ج8 ص 195.
(2) صحيح البخاري الحج (1750) ، صحيح مسلم الحج (1296) ، سنن الترمذي الحج (901) ، سنن النسائي مناسك الحج (3073) ، سنن أبو داود المناسك (1974) ، سنن ابن ماجه المناسك (3030) ، مسند أحمد بن حنبل (1/427) .(14/34)
فقال: لا حرج (1) » . فعلم بهذا أن السنة للحجاج أن يبدءوا برمي الجمرة يوم العيد ثم ينحروا إذا كان عليهم هدي، ثم يحلقوا أو يقصروا. والحلق أفضل من التقصير فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بالمغفرة والرحمة ثلاث مرات للمحلقين، ومرة واحدة للمقصرين. وبذلك يحصل للحاج التحلل الأول فيلبس المخيط، ويتطيب، ويباح له كل شيء حرم عليه بالإحرام إلا النساء، ثم يذهب إلى البيت فيطوف به في يوم العيد أو بعده. والسعي بين الصفاء والمروة إن كان متمتعا.
وبذلك يحل له كل شيء حرم عليه بالإحرام حتى النساء.
أما إن كان الحاج مفردا أو قارنا فإنه يكفيه السعي الأول الذي أتى به مع طواف القدوم.
فإن لم يسع مع طواف القدوم وجب عليه أن يسعى مع طواف الإفاضة.
ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى منى فأقام بها بقية يوم العيد واليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، يرمي الجمرات كل يوم من أيام التشريق بعد الزوال، يرمى كل جمرة بسبع حصيات، ويكبر مع كل حصاة ويدعو ويرفع يديه بعد الفراغ من
الجمرة الأولى والثانية ويجعل الأولى عن يساره حين الدعاء، والثانية عن يمينه ولا يقف عند الثالثة.
ثم دفع صلى الله عليه وسلم في اليوم الثالث عشر بعد رمي الجمرات فنزل بالأبطح وصلى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (2015) .(14/35)
ثم نزل إلى مكة في آخر الليل وصلى الفجر بالناس عليه الصلاة والسلام، وطاف للوداع ثم توجه بعد الصلاة إلى المدينة في صبيحة اليوم الرابع عشر عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم.
فعلم من ذلك أن السنة للحاج أن يفعل كفعله صلى الله عليه وسلم في أيام منى فيرمي الجمار الثلاث بعد الزوال في كل يوم: كل واحدة بسبع حصيات ويكبر مع كل حصاة، ويشرع له أن يقف بعد رميه الأولى ويستقبل القبلة ويدعو ويرفع يديه ويجعلها عن يساره ويقف بعد رمي الثانية كذلك ويجعلها عن يمينه وهذا مستحب وليس بواجب، ولا يقف بعد رمي الثالثة.
فإن لم يتيسر له الرمي بعد الزوال وقبل غروب الشمس رمى في الليل عن اليوم الذي غابت شمسه إلى آخر الليل في أصح قولي العلماء رحمة من الله سبحانه بعباده وتوسعة عليهم.
ومن شاء أن يتعجل في اليوم الثاني عشر بعد رمي الجمار فلا بأس ومن أحب أن يتأخر حتى يرمي الجمار في اليوم الثالث عشر فهو أفضل لكونه موافقا لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
والسنة للحاج أن يبيت في منى ليلة الحادي عشر والثاني عشر وهذا المبيت واجب عند كثير من أهل العلم ويكفي أكثر الليل إذا تيسر ذلك وممن كان له عذر شرعي كالسقاة والرعاة ونحوهم فلا مبيت عليه.
أما ليلة الثالث عشر فلا يجب على الحاج أن يبيتوها بمنى إذا تعجلوا ونفروا من منى قبل الغروب. أما من أدركه المبيت بمنى فإنه يبيت ليلة الثالث عشر ويرمي الجمار بعد الزوال يوم الثالث عشر ثم ينفر، وليس على أحد رمي بعد الثالث عشر ولو أقام بمنى.(14/36)
ومتى أراد الحاج السفر إلى بلاده وجب عليه أن يطوف بالبيت للوداع سبعة أشواط لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » إلا الحائض والنفساء فلا وداع عليهما لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض) (2) ومن أخر طواف الإفاضة فطافه عند السفر أجزأه عن الوداع لعموم الحديثين المذكورين. . وأسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يتقبل منا ومنكم ويجعلنا وإياكم من العتقاء من النار، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) رواه مسلم في الحج (باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض) جـ 9 ص 78 \ 8
(2) رواه مسلم في الحج (باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض) ج 1 ص 79 \ 8(14/37)
صفحة فارغة(14/38)
نزع القرنية من عين إنسان
وزرعها في عين آخر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
فبناء على ما رآه مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة العاشرة المنعقدة بمدينة الرياض في الأيام الأخيرة من شهر ربيع الأول، والأولى من شهر ربيع الآخر عام 1397هـ من دراسة البحث المعد في نزع القرنية من عين إنسان وزرعها في عين آخر في الدورة الحادية عشرة وطلبه كلمة في ضابط الإيثار المرغب فيه شرعا، وأخرى في ضابط المثلة الممنوعة شرعا، وثالثة في مدى ملك الإنسان التصرف في نفسه أو في عضو من أعضائه، تتميما للبحث كتبت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المسائل الثلاث ما يلي:
والله الموفق(14/39)
ا- ضابط الإيثار المرغب فيه شرعا
لما كان تمييز الإيثار المحمود شرعا من غيره يتوقف على تتبع النصوص التي وردت فيه من الكتاب والسنة وتدبرها مع الاستعانة بكلام العلماء السابقين في ذلك، كان لزاما علينا أن نستعرض جملة من الآيات والأحاديث في الإيثار، وجملة أخرى من كلام أهل العلم فيه، ثم نستخلص من ذلك المطلوب إن شاء الله فنقول:
قال الله تعالى: (في سورة الحشر) {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) فأثنى جل شأنه على الأنصار الذين استوطنوا المدينة قبل غيرهم من المهاجرين، بحبهم من هاجر إليهم من المؤمنين، وبطهارة قلوبهم من الأحقاد وسلامتها من الضغائن، وبطيب أنفسهم وكرمها وسماحتها حيث لم يجدوا في دخيلتهم حرجا مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره من الأموال، وبإيثارهم المهاجرين على أنفسهم بما شرحته أحاديث الإخاء الذي عقده الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، بهذا وأمثاله أثنى الله عليهم وكتب لهم الفوز والفلاح.
وقال البخاري: (2) باب قوله ويؤثرون على أنفسهم الآية
__________
(1) سورة الحشر الآية 9
(2) صحيح البخاري كتاب التفسير.(14/40)
الخصاصة؛ فاقة، المفلحون: الفائزون بالخلود، والفلاح: البقاء، حي على الفلاح: عجل، وقال الحسن حاجة: حسدا. حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير، حدثنا أبو أسامة، حدثنا فضيل بن غزوان، حدثنا أبو حازم الأشجعي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أصابني الجهد فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا رجل يضيفه الليلة يرحمه الله. فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله فذهب إلى أهله فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخريه شيئا. فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت. ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد عجب الله عز وجل أو ضحك من فلان وفلانة فأنزل الله عز وجل (2) » .
وقال البخاري أيضا: باب قول الله عز وجل {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (3) حدثنا مسدد، حدثنا عبد الله بن داود عن فضيل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه، «أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إلى نسائه فقلن ما معنا إلا الماء فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم من يضم أو يضيف هذا؟ فقال رجل من الأنصار أنا، فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء. فهيات طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين، فلما أصبح
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4889) ، صحيح مسلم الأشربة (2054) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3304) .
(2) سورة الحشر الآية 9 (1) {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}
(3) سورة الحشر الآية 9(14/41)
غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما، فأنزل الله (2) » .
ففي قصة هذا الأنصاري وأسرته مع الضيف إيثار له بالطعام على نفسه وعلى أسرته مع شدة حاجتهم إليه، لكنه إيثار لا يقضي على أحد منهم، ولا يفوت عليه عضوا من أعضائه، بل يمكنهم استدراك ما فاتهم في مستقبل أمرهم إن شاء الله. وقد أثنى الله عليهم بذلك ثناء عاطرا، وكتب لهم الأجر الجزيل جزاء وفاقا بما كسبت أيديهم من الفعل الجميل.
وقال البخاري: باب إجابة دعاء من بر والديه: (3) حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، قال: أخبرني نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما ثلاثة نفر يتماشون أخذهم المطر فمالوا إلى غار في الجبل فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالا عملتموها لله صالحة فادعوا الله بها لعله يفرجها. فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار كنت أرعى عليهم، فإذا رحت عليهم فحلبت بدأت بوالدي أسقيهما قبل ولدي، وإنه نأى بي الشجر فما أتيت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب فقمت عند رؤسهما أكره أن أوقظهما من نومهما وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما والصبية يتضاغون عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن
__________
(1) سبقت.
(2) سورة الحشر الآية 9 (1) {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
(3) باب مناقب الأنصار من صحيح البخاري.(14/42)
كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء، ففرج الله لهم فرجة حتى يرون منها السماء (1) » . . . . الحديث.
وقال البخاري عن عائشة رضي الله عنها (2) قالت: دخلت امرأة معها ابنتان لها تسأل فلم تجد عندي شيئا غير تمرة فأعطيتها إياها، فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها ثم قامت فخرجت، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا فأخبرته، فقال: «من ابتلي من هذه البنات بشيء كن له سترا من النار (3) » .
في الحديث الأول من هذين الحديثين إيثار الرجل والديه بالطعام على نفسه وسائر أسرته مع شدة حاجتهم إليه، وقد رضي الله عنه بذلك فاستجاب دعاءه حينما أصابته وصاحبيه شدة.
وفي الحديث الثاني إيثار المرأة ابنتيها على نفسها بالتمرة مع حاجتها إليها، وقد أعجب النبي صلى الله عليه وسلم منها ما فعلت، وأخبر بأن مثل ذلك يكون وقاية لمن فعل ابتغاء وجه الله من النار. وإيثار عائشة رضي الله عنها المرأة وابنتيها على نفسها ومن معها بالتمرة وليس عندها غيرها.
وقال البخاري: (4) باب إخاء النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال: حدثني إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال: «لما قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، فقال لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالا فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (5974) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2743) ، مسند أحمد بن حنبل (2/116) .
(2) كتاب الزكاة.
(3) صحيح البخاري الزكاة (1418) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2629) ، سنن الترمذي البر والصلة (1915) ، مسند أحمد بن حنبل (6/88) .
(4) ص 112 ج7.(14/43)
فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها. قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقك؟ فدلوه على سوق بني قينقاع فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن ثم تابع الغدو ثم جاء يوما وبه أثر صفرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم مهيم؟ قال تزوجت قال: كم سقت إليها قال نواة من ذهب أو وزن نواة (1) » شك إبراهيم. حدثنا قتيبة حدثنا إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس رضي الله عنه أنه قال: «قدم علينا عبد الرحمن بن عوف وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع وكان كثير المال، فقال سعد: قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالا سأقسم مالي بيني وبينك شطرين ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فأطلقها حتى إذا حلت تزوجتها، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك فلم يرجع يومئذ حتى أفضل شيئا من سمن وأقط فلم يلبث إلا يسيرا حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه وضر من صفرة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم مهيم؟ قال: تزوجت امرأة من الأنصار. فقال: ما سقت إليها. قال: وزن نواة من ذهب أو نواة من ذهب فقال: أولم ولو بشاة (2) » .
في قصة الإخاء بين المهاجرين والأنصار إيثار سعد بن الربيع عبد الرحمن بن عوف بنصف ماله وبإحدى زوجتيه فقد أمره أن يقسم ماله بينهما وأمره أن ينظر إلى أعجب زوجتيه إليه ليطلقها فيتزوجها عبد الرحمن بعد انتهاء عدتها، وهذا الإيثار أعلى مما قبله، لكنه بما ينفع غيره ولا يضر بمن بذله ضررا فادحا، ومع ذلك يمكنه استدراك ما فاته.
وقال البخاري: حدثني عبد الله بن أبي شيبة، حدثنا وكيع عن إسماعيل عن قيس قال: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3780) .
(2) صحيح البخاري المناقب (3781) ، صحيح مسلم النكاح (1427) ، سنن الترمذي البر والصلة (1933) ، سنن النسائي النكاح (3388) ، سنن أبو داود النكاح (2109) ، سنن ابن ماجه النكاح (1907) ، مسند أحمد بن حنبل (3/205) ، موطأ مالك النكاح (1157) ، سنن الدارمي النكاح (2204) .(14/44)
عليه وسلم يوم أحد. حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز عن أنس رضي الله عنه قال: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوب عليه بحجفة له، وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا، وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل فيقول: انثرها لأبي طلحة قال: ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: بأبي أنت وأمي لا تشرف يصبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك، ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وأنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما تنقزان القرب على متونهما تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم، ولقد وقع السيف من يد أبي طلحة إما مرتين أو ثلاثا (1) .
في هذا الحديث إيثار أبي طلحة رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه بالحياة والسلامة من المكاره؛ فقد فداه بنفسه فقال: نحري دون نحرك، وجوب عليه بحجفة له، وهذا إيثار أعلى مما قبله إيثار بالنفس، وذلك في ميدان الجهاد وقد أوجبه الله على المؤمنين، وكتب لمن قتل فيه الشهادة، ولمن أصيب فيه الأجر الجزيل. ثم هو إيثار واجب بالنفس والأعضاء لمن هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم. وفيه أن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم ووقاه بيده حتى أصيبت بشلل.
وروى مسلم عن أنس رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش. فلما
__________
(1) ص 253 ـ 254 ج7.(14/45)
رهقوه قال: من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضا فقال: من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه: ما أنصفنا أصحابنا (1) » .
وروى البخاري عن سعيد بن المسيب أنه قال: قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بين أبويه كليهما يريد حين قال: فداك أبي وأمي وهو يقاتل (2) » .
وروى البخاري أيضا عن علي رضي الله عنه قال: «ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جمع أبويه لأحد إلا لسعد بن مالك فإني سمعته يقول يوم أحد: يا سعد ارم فداك أبي وأمي (3) » . وقاتل عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا مصعب بن عمير وعلي بن أبي طالب وآخرون من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم حتى قضى بعضهم نحبه.
وفي الموضوع أحاديث وآثار اكتفينا عن إيرادها بما ذكرنا؛ لكونها في معناه.
مما تقدم يتبين أن الإيثار المحمود شرعا يمكن أن يضبط بما أباح الشرع البذل في جنسه (4) كالأموال ومنافع الأبدان وثمار الأفكار ونحو ذلك مما هو من حظوظ النفس ومتعها، أو أوجب بذل النفس فيه كالجهاد في سبيل الله نصرة للدين وإقامة لحدوده وإحياء لمعالمه، ومع ذلك لا يسلم نفسه لعدوه، ولا يستسلم للأحداث، بل يستعد بما استطاع من قوة ليحفظ نفسه وإخوانه، وليكون سيف الله المسلول على
__________
(1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1789) ، مسند أحمد بن حنبل (3/286) .
(2) صحيح البخاري المغازي (4057) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2412) ، سنن الترمذي الأدب (2830) ، سنن ابن ماجه المقدمة (130) ، مسند أحمد بن حنبل (1/186) .
(3) صحيح البخاري المغازي (4059) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2411) ، سنن الترمذي الأدب (2829) ، سنن ابن ماجه المقدمة (129) ، مسند أحمد بن حنبل (1/92) .
(4) أو حث عليه ورغب فيه.(14/46)
الأعداء، فإن قتل كان شهيدا، وإن رجع منتصرا سالما أو مصابا أجر وغنم، فله الحسنيان أو إحداهما على كل حال.
أما الإيثار بما حرم الله عليه البذل في جنسه فلا يجوز، بل هو جريمة يعاقب عليها.
وقال ابن القيم: قال صاحب المنازل: (1) .
فصل: ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) منزلة الإيثار، قال الله تعالى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) فالإيثار ضد الشح؛ فإن المؤثر على نفسه تارك لما هو محتاج إليه، والشحيح حريص على ما ليس بيده، فإذا حصل بيده شيء شح عليه وبخل بإخراجه، فالبخل ثمرة الشح والشح يأمر بالبخل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «إياكم والشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا (4) » .
فالبخيل من أجاب داعي الشح، والمؤثر من أجاب داعي الجود. كذلك السخاء عما في أيدي الناس هو السخاء، وهو أفضل من سخاء البذل، قال عبد الله بن المبارك: سخاء النفس عما في أيدي الناس خير من سخاء النفس بالبذل.
وهذا المنزل هو منزل الجود والسخاء والإحسان.
وسمي بمنزل " الإيثار " لأنه أعلى مراتبه؛ فإن المراتب ثلاثة.
__________
(1) ص 291 ـ 304 ج2 من مدارج السالكين على منازل السائرين.
(2) سورة الفاتحة الآية 5
(3) سورة الحشر الآية 9
(4) سنن أبو داود الزكاة (1698) .(14/47)
إحداها: أن لا ينغصه البذل ولا يصعب عليه فهو منزلة " السخاء ".
الثانية: أن يعطي الأكثر ويبقى له شيء. أو يبقي مثل ما أعطى. فهو الجود ".
الثالثة: أن يؤثر غيره بالشيء مع حاجته إليه وهو مرتبة " الإيثار " وعكسها " الأثرة " وهو استئثاره عن أخيه بما هو محتاج إليه. وهي المرتبة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار رضي الله عنهم: «لا إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض (1) » والأنصار: هم الذين وصفهم الله بالإيثار في قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (2) فوصفهم بأعلى مراتب السخاء وكان ذلك فيهم معروفا.
وكان قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما من الأجواد المعروفين. حتى أنه مرض مرة فاستبطأ إخوانه في العيادة. فسأل عنهم، فقالوا: إنهم كانوا يستحيون مما لك عليهم من الدين. فقال: أخزى الله مالا يمنع الإخوان من الزيارة. ثم أمر مناديا ينادي: من كان لقيس عليه مال فهو منه في حل. فما أمسى حتى كسرت عتبة بابه لكثرة من عاده.
وقالوا له يوما: هل رأيت أسخى منك؟ قال: نعم: نزلنا بالبادية على امرأة فحضر زوجها. فقالت إنه نزل بك ضيفان. فجاء بناقة فنحرها وقال شأنكم، فلما كان من الغد جاء بأخرى فنحرها. فقلنا: ما أكلنا من التي نحرت البارحة إلا اليسير. فقال إني لا أطعم ضيفاني
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4330) ، صحيح مسلم الزكاة (1061) ، مسند أحمد بن حنبل (4/42) .
(2) سورة الحشر الآية 9(14/48)
البائت. فبقينا عنده يومين أو ثلاثة والسماء تمطر. وهو يفعل ذلك. فلما أردنا الرحيل وضعنا مائة دينار في بيته وقلنا للمرأة اعتذري لنا إليه، ومضينا. فلما طلع النهار إذا نحن برجل يصيح خلفنا. قفوا أيها الركب اللئام. أعطيتموني ثمن قراي؟ ثم إنه لحقنا وقال لتأخذنه أو لأطاعننكم برمحي، فأخذناه وانصرف.
فتأمل سر التقدير حيث قدر الحكيم الخبير، سبحانه، استئثار الناس على الأنصار بالدنيا- وهم أهل الإيثار- ليجازيهم على إيثارهم إخوانهم في الدنيا على نفوسهم بالمنازل العالية في جنات عدن على الناس. فتظهر حينئذ فضيلة إيثارهم ودرجته ويغبطهم من استأثر عليهم بالدنيا أعظم غبطة. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
فإذا رأيت الناس يستأثرون عليك- مع كونك من أهل الإيثار- فاعلم أنه الخير يراد بك والله سبحانه وتعالى أعلم.(14/49)
فصل
و" الجود " عشر مراتب.
أحدها: الجود بالنفس. وهو أعلى مراتبه كما قال الشاعر:
يجود بالنفس , إذ ضن البخيل بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود
"
فأطلق فيه ولم يفصل، ثم ذكر بقية مراتب الجود ثم قال:
قال: " وهو على ثلاث درجات. الدرجة الأولى: أن تؤثر الخلق(14/49)
على نفسك فيما لا يخرم عليك دينا، ولا يقطع عليك طريقا، ولا يفسد عليك وقتا.
يعني: أن تقدمهم على نفسك في مصالحهم. مثل أن تطعمهم وتجوع وتكسوهم وتعرى وتسقيهم وتظمأ بحيث لا يؤدي ذلك إلى ارتكاب إتلاف لا يجوز في الدين. مثل أن تؤثرهم بمالك وتقعد كلا مضطرا مستشرفا للناس أو سائلا. وكذلك إيثارهم بكل ما يحرمه على المؤثر دينه فإنه سفه وعجز يذم المؤثر به عند الله وعند الناس.
وأما قوله " ولا يقطع عليك طريقا " أي لا يقطع عليك طريق الطلب والمسير إلى الله تعالى، مثل أن تؤثر جليسك على ذكرك وتوجهك وجمعيتك على الله. فتكون قد آثرته على الله وآثرت بنصيبك من الله ما لا يستحق الإيثار. فيكون مثلك كمثل مسافر سائر على الطريق لقيه رجل فاستوقفه وأخذ يحدثه ويلهيه حتى فاته الرفاق. وهذا حال أكثر الخلق مع الصادق السائر إلى الله تعالى، فإيثارهم عليه عين الغبن. وما أكثر المؤثرين على الله تعالى غيره. وما أقل المؤثرين الله على غيره.
وكذلك الإيثار بما يفسد على المؤثر وقته قبيح أيضا. مثل أن يؤثر بوقته ويفرق قلبه في طلب خلفه. أو يؤثر بأمر قد جمع قلبه وهمه على الله. فيفرق قلبه عليه بعد جمعيته، ويشتت خاطره فهذا أيضا إيثار غير محمود.
وكذلك الإيثار باشتغال القلب والفكر في مهماتهم ومصالحهم التي لا تتعين عليك على الفكر النافع واشتغال القلب بالله. ونظائر ذلك تخفى. بل ذلك حال الخلق والغالب عليهم.(14/50)
وكل سبب يعود عليك بصلاح قلبك ووقتك وحالك مع الله، فلا تؤثر به أحدا. فإن آثرت به فإنما تؤثر الشيطان على الله وأنت لا تعلم.
وتأمل أحوال أكثر الخلق في إيثارهم على الله من يضرهم إيثارهم له ولا ينفعهم، وأي جهالة وسفه فوق هذا.
ومن هذا تكلم الفقهاء في الإيثار بالقرب وقالوا: إنه مكروه أو حرام كمن يؤثر بالصف الأول غيره ويتأخر هو أو يؤثره بقربه من الإمام يوم الجمعة، أو يؤثر غيره بالأذان والإقامة أو يؤثره بعلم يحرمه نفسه ويرفعه إليه فيفوز به دونه.
وتكلموا في إيثار عائشة رضي الله عنها لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بدفنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرتها.
وأجابوا عنه بأن الميت ينقطع عمله بموته وبقربه. فلا يتصور في حقه الإيثار بالقرب بعد الموت إذ لا تقرب في حق الميت. وإنما هذا إيثار بمسكن شريف فاضل لمن هو أولى به منها، فالإيثار به قربة إلى الله عز وجل للمؤثر والله أعلم. أهـ- المقصود منه ثم ذكر الدرجتين الأخيرتين وقد تركناهما لعدم الحاجة إليهما في الموضوع.
وذكر أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي (1) تحت عنوان
" المسألة الخامسة "
جلب المصلحة أو دفع المفسدة إذا كان مأذونا فيه بثمانية أقسام، نذكر منها الرابع لصلته بالإيثار في الجملة، قال:
__________
(1) ص 255- 263 من جـ2 من الموافقات.(14/51)
وأما الرابع فإن الموضع في الجملة يحتمل نظرين: نظر من جهة إثبات الحظوظ، ونظر من جهة إسقاطها، فإن اعتبرنا الحظوظ فإن حق الجالب أو الدافع مقدم وإن استضر غيره بذلك؛ لأن جلب المنفعة أو دفع المضرة مطلوب للشارع مقصود، ولذلك أبيحت الميتة وغيرها من المحرمات الأكل، وأبيح الدرهم بالدرهم إلى أجل للحاجة الماسة للمقرض والتوسعة على العباد والرطب باليابس في العرية للحاجة الماسة في طريق المواساة إلى أشياء من ذلك كثيرة دلت الأدلة على قصد الشارع إليها، وإذا ثبت هذا فما سبق إليه الإنسان من ذلك قد ثبت حقه فيه شرعا بحوزه له دون غيره، وسبقه إليه لا مخالفة فيه للشارع فصح، وبذلك ظهر أن تقديم حق المسبوق على حق السابق ليس بمقصود شرعا إلا مع إسقاط السابق لحقه، وذلك لا يلزمه بل قد يتعين عليه حق نفسه في الضروريات فلا يكون له خيرة في إسقاط حقه؛ لأنه من حقه على بينة ومن حق غيره على ظن أو شك، وذلك في دفع الضرر واضح، وكذلك في جلب المصلحة إن كان عدمها يضر به، وقد سئل الداودي: هل ترى لمن قدر أن يتخلص من غرم هذا الذي يسمى بالخراج إلى السلطان أن يفعل قال: نعم ولا يحل له إلا ذلك. قيل له: فإن وضعه السلطان على أهل بلده وأخذهم بمال معلوم يردونه على أموالهم هل لمن قدر على الخلاص من ذلك أن يفعل وهو إذا تخلص أخذ سائر أهل البلد بتمام ما جعل عليهم؟ قال: ذلك له) إلى أن قال:
هذا كله مع اعتبار الحظوظ وإن لم نعتبرها فيتصور هنا وجهان:
أحدهما: إسقاط الاستبداد والدخول في المواساة على سواء، وهو محمود جدا وقد فعل ذلك في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل(14/52)
طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد فهم مني وأنا منهم (1) » وذلك أن مسقط الحظ هنا قد رأى غيره مثل نفسه. وكأنه أخوه أو ابنه أو قريبه أو يتيمه أو غير ذلك ممن طلب بالقيام عليه ندبا أو وجوبا وإنه قائم في خلق الله بالإصلاح والنظر والتسديد فهو على ذلك واحد منهم، فإذا صار كذلك لم يقدر على الاحتجان لنفسه دون غيره ممن هو مثله، بل ممن أمر بالقيام عليه كما أن الأب الشفيق لا يقدر على الانفراد بالقوت دون أولاده، فعلى هذا الترتيب كان الأشعريون رضي الله عنهم، فقال عليه الصلاة والسلام: «فهم مني وأنا منهم (2) » لأنه عليه الصلاة والسلام كان في هذا المعنى الإمام الأعظم وفي الشفقة الأب الأكبر إذ كان لا يستبد بشيء دون أمته، وفي مسلم عن أبي سعيد قال: بينما نحن في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له قال: فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له (3) » قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل " وفي الحديث أيضا أن في المال حقا سوى الزكاة ومشروعية الزكاة والإقراض والحرية والمنحة، وغير ذلك مؤكد لهذا المعنى وجميعه جار على أصل مكارم الأخلاق وهو لا يقضي استبدادا، وعلى هذه الطريقة لا يلحق العامل ضرر إلا بمقدار ما يلحق الجميع أو أقل، ولا يكون موقعا على نفسه ضررا ناجزا، وإنما هو متوقع أو قليل يحتمله في دفع بعض الضرر عن غيره، وهو نظر من يعد المسلمين كلهم شيئا واحدا على مقتضى قوله عليه الصلاة والسلام: «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا (4) » وقوله «المؤمنون كالجسد الواحد إذا
__________
(1) صحيح البخاري الشركة (2486) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2500) .
(2) صحيح البخاري الشركة (2486) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2500) .
(3) صحيح مسلم اللقطة (1728) ، سنن أبو داود الزكاة (1663) ، مسند أحمد بن حنبل (3/34) .
(4) صحيح البخاري الصلاة (481) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) .(14/53)
اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (1) » وقوله: «المؤمن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه (2) » وسائر ما في المعنى من الأحاديث، إذ لا يكون شد المؤمن للمؤمن على التمام إلا بهذا المعنى وأسبابه وكذلك لا يكونون كالجسد الواحد إلا إذا كان النفع واردا عليهم على السواء كل أحد بما يليق به كما أن كل عضو من الجسد يأخذ من الغذاء بمقداره قسمة عدل لا يزيد ولا ينقص، فلو أخذ بعض الأعضاء أكثر مما يحتاج إليه أو أقل لخرج عن اعتداله، وأصل هذا من الكتاب ما وصف الله به المؤمنين من أن بعضهم أولياء بعض وما أمروا به من اجتماع الكلمة والأخوة وترك الفرقة وهو كثير إذ لا يستقيم ذلك إلا بهذه الأشياء وأشباهها مما يرجع إليها.
والوجه الثاني: الإيثار على النفس، وهو أعرق في إسقاط الحظوظ، وذلك أن يترك حظه لحظ غيره اعتمادا على صحة اليقين وإصابة لعين التوكل وتحملا للمشقة في عون الأخ في الله على المحبة من أجله، وهو من محامد الأخلاق وزكيات الأعمال، وهو ثابت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن خلقه المرضي، وقد «كان عليه الصلاة والسلام أجود الناس بالخير وأجود ما كان في شهر رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة (3) » . وقالت له خديجة: «إنك تحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق (4) » «وحمل إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير ثم قام إليها يقسمها فما رد سائلا حتى فرغ منه» «وجاءه رجل فسأله فقال: ما عندي شيء ولكن ابتع علي فإذا جاءنا شيء قضيناه، فقال له عمر رضي الله عنه: ما كلفك الله ما لا تقدر عليه، فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .
(2) صحيح البخاري الإيمان (13) ، صحيح مسلم الإيمان (45) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2515) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5016) ، سنن ابن ماجه المقدمة (66) ، مسند أحمد بن حنبل (3/272) ، سنن الدارمي الرقاق (2740) .
(3) صحيح البخاري المناقب (3554) ، صحيح مسلم الفضائل (2308) ، سنن النسائي الصيام (2095) ، مسند أحمد بن حنبل (1/363) .
(4) صحيح البخاري بدء الوحي (4) ، صحيح مسلم الإيمان (160) ، مسند أحمد بن حنبل (6/233) .(14/54)
وعرف البشر في وجهه وقال: بهذا أموت» ذكره الترمذي. وقال أنس: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئا لغد (1) » وهذا كثير. وهكذا كان الصحابة. وقد علمت ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (2) وما جاء في الصحيح في قوله {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (3) وما روي عن عائشة وهو مذكور في باب الأسباب من كتاب الأحكام عند الكلام على مسألة العول على إسقاط الحظوظ وهو ضربان: إيثار بالملك من المال وبالزوجة بفراقها لتحل للمؤثر كما في حديث المؤاخاة المذكور في الصحيح، وإيثار بالنفس كما في الصحيح: «أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم فيقول له أبو طلحة: لا تشرف يا رسول الله يصيبك سهم من سهام القوم نحري دون نحرك، ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت (4) » وهو معلوم من فعله عليه الصلاة والسلام إذ كان في غزوة أقرب الناس إلى العدو، ولقد «فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا قد سبقهم إلى الصوت وقد استبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عري والسيف في عنقه وهو يقول لن تراعوا (5) » وهذا فعل من آثر بنفسه، وحديث علي بن أبي طالب في مبيته على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عزم الكفار على قتله مشهور وفي المثل الشائع: والجود بالنفس أقصى غاية الجود. ومن الصوفية من يعرف المحبة بأنها الإيثار، ويدل على ذلك قول امرأة العزيز في يوسف عليه السلام {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (6)
__________
(1) سنن الترمذي الزهد (2362) .
(2) سورة الإنسان الآية 8
(3) سورة الحشر الآية 9
(4) صحيح البخاري المناقب (3811) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1811) .
(5) صحيح البخاري الجهاد والسير (2908) ، صحيح مسلم الفضائل (2307) ، سنن الترمذي الجهاد (1687) ، سنن أبو داود الأدب (4988) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2772) ، مسند أحمد بن حنبل (3/147) .
(6) سورة يوسف الآية 51(14/55)
فآثرته بالبراءة على نفسها. قال النووي: أجمع العلماء على فضيلة الإيثار بالطعام ونحوه من أمور الدنيا وحظوظ النفس بخلاف القربات فإن الحق فيها لله، وهذا مع ما قبله على مراتب والناس في ذلك مختلفون باختلاف أحوالهم في الاتصاف بأوصاف التوكل المحض واليقين التام، وقد ورد «أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل من أبي بكر جميع ماله ومن عمر النصف، ورد أبا لبابة وكعب بن مالك إلى الثلث» ، قال ابن العربي: لقصورهما عن درجتي أبي بكر وعمر وهذا ما قال.
وتحصل أن الإيثار هنا مبني على إسقاط الحظوظ العاجلة فتحمل المضرة اللاحقة بسبب ذلك لا عتب فيه إذا لم يخل بمقصد شرعي، فإن أخل بمقصد شرعي فلا يعد ذلك إسقاطا للحظ ولا هو محمود شرعا. أما أنه ليس بمحمود شرعا فلأن إسقاط الحظوظ إما لمجرد أمر الآمر وإما لأمر آخر أو لغير شيء. فكونه لغير شيء عبث لا يقع من العقلاء، وكونه لأمر الآمر يضاد كونه مخلا بمقصد شرعي؛ لأن الإخلال بذلك ليس بأمر الآمر، إذا لم يكن كذلك فهو مخالف له ومخالفة أمر الآمر ضد الموافقة له، فثبت أنه لأمر ثالث وهو الحظ، وقد مر بيان الحصر فيما تقدم من مسألة إسقاط الحظوظ. هذا تمام الكلام في القسم الرابع ومنه يعرف حكم الأقسام الثلاثة المتقدمة بالنسبة إلى إسقاط الحظوظ. انتهى المقصود منه.(14/56)
2 - ضابط المثلة الممنوعة
نذكر فيما يلي بيان معنى المثلة، وما تيسر من الآيات والأحاديث فيها مع كلام بعض العلماء عليها، لنستخلص من ذلك ما يجوز من المثلة وما يمتنع، فنقول:
أولا: في القاموس: مثل قام منتصبا كمثل بالضم مثولا. . وبفلان مثلا ومثلة بالضم نكل كمثل تمثيلا وهي المثلة بضم الثاء وسكونها ج مثولات ومثلات) . اهـ المقصود منه.
وفي المفردات في غريب القران للراغب الأصفهاني:
والمثلة نقمة تنزل بالإنسان فيجعل مثالا يرتدع به غيره، وذلك كالنكال، وجمعه مثلات ومثلات وقد قرئ: (من قبلهم المثلات، والمثلات) بإسكان الثاء على التخفيف نحو عضد وعضد وقد أمثل السلطان فلانا إذا نكل به) اهـ المقصود منه.
ثانيا: وفي تفسير ابن جرير قوله تعالى {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ} (1) يقول تعالى ذكره: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} (2) يا محمد مشركو قومك بالبلاء والعقوبة قبل الرخاء والعافية فيقولون اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. وهم يعلمون ما حل بمن خلا قبلهم من الأمم التي عصت ربها وكذبت رسلها
__________
(1) سورة الرعد الآية 6
(2) سورة الرعد الآية 6(14/57)
من عقوبات الله وعظيم بلائه فمن بين أمة مسخت قردة وأخرى خنازير، ومن بين أمة أهلكت بالرجفة وأخرى بالخسف وذلك هو المثلات التي قال الله جل ثناؤه: {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} (1) والمثلات العقوبات المنكلات، والواحدة منها مثلة بفتح الميم وضم الثاء ثم تجمع المثلات كما واحد الصدقات صدقة ثم تجمع صدقات، وذكر أن تميما من بين العرب تضم الميم والثاء جميعا من المثلات فالواحدة على لغتهم منها مثلة، ثم تجمع مثلات كغرفة وغرفات، والفعل منه مثلت به أمثل مثلا بفتح الميم وتسكين الثاء فإذا أردت أنك أقصصته من غيره قلت أمثلته من صاحبه أمثله إمثالا وذلك إذا قصصته منه) اهـ.
وفي تفسير الكشاف للزمخشري قوله تعالى {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} (2) أي عقوبات أمثالهم من المكذبين فما بالهم لم يعتبروا بها فلا يستهزئوا، والمثلة العقوبة بوزن السمرة والمثلة، لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة " وجزاء سيئة سيئة مثلها. ويقال: أمثلت للرجل من صاحبه أقصصته منه، والمثال القصاص " ثم ذكر قراءات في المثلات " ولغات فيها أغنى عنها ما تقدم.
وروى البخاري عن مسلم عن قتادة عن أنس رضي الله عنه (3) : «أن ناسا من عكل وعرينة قدموا المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم وتكلموا بالإسلام فقالوا يا نبي الله إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف واستوخموا المدينة فأمر لهم رسول الله صلى الله
__________
(1) سورة الرعد الآية 6
(2) سورة الرعد الآية 6
(3) باب قصة عكل وعرينة.(14/58)
عليه وسلم بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الطلب في آثارهم فأمر بهم فسمروا أعينهم وقطعوا أيديهم وأرجلهم وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم (1) » قال قتادة: وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك «كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة (2) » .
وفي الصحيح عن بريدة بن الحصيب عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الطويل أنه قال: «لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا (3) » . .
وروى النسائي عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمثلوا بالبهائم (4) » .
وروى النسائي أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من إنسان يقتل عصفورة فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله عز وجل عنها قيل: يا رسول الله وما حقها؟ قال: يذبحها فيأكلها ولا يقطع رأسها يرمى به (5) » .
ثالثا: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (6) .
فأما التمثيل في القتل فلا يجوز إلا على وجه القصاص وقد قال عمران بن حصين رضي الله عنهما:
ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة حتى الكفار إذا قتلناهم فإنا لا نمثل بهم بعد
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الطهارة (72) ، سنن النسائي الطهارة (305) ، سنن أبو داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الحدود (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/163) .
(2) سنن النسائي تحريم الدم (4047) .
(3) صحيح مسلم الجهاد والسير (1731) ، سنن الترمذي السير (1617) ، سنن أبو داود الجهاد (2613) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2858) ، مسند أحمد بن حنبل (5/358) ، سنن الدارمي السير (2439) .
(4) سنن النسائي الضحايا (4440) .
(5) سنن النسائي الصيد والذبائح (4349) ، مسند أحمد بن حنبل (2/166) .
(6) ص314- من جـ 28 من مجموع الفتاوى.(14/59)
القتل ولا نجدع آذانهم وأنوفهم ولا نبقر بطونهم إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بنا فنفعل بهم مثل ما فعلوا، والترك أفضل كما قال الله تعالى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (1) {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} (2) قيل إنها نزلت «لما مثل المشركون بحمزة وغيره من شهداء أحد رضي الله عنهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بضعفي ما مثلوا بنا» أنزل الله هذه الآية- وإن كانت قد نزلت قبل ذلك بمكة مثل قوله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (3) وقوله {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (4) وغير ذلك من الآيات التي نزلت بمكة ثم جرى بالمدينة سبب يقتضي الخطاب فأنزلت مرة ثانية- فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل نصبر وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أو في حاجة نفسه أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله تعالى وبمن معه من المسلمين خيرا ثم يقول: اغزوا بسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا (5) » اهـ.
__________
(1) سورة النحل الآية 126
(2) سورة النحل الآية 127
(3) سورة الإسراء الآية 85
(4) سورة هود الآية 114
(5) صحيح مسلم الجهاد والسير (1731) ، سنن الترمذي الديات (1408) ، سنن أبو داود الجهاد (2612) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2858) ، مسند أحمد بن حنبل (5/358) ، سنن الدارمي السير (2439) .(14/60)
الخلاصة
أولا: المثلة كل ما كان فيه تشويه للخلق من سمل عين أو فقئها أو بقر بطن أو قطع عضو وأمثال ذلك سواء كان ذلك قصاصا أم مجرد نكاية وعقوبة، شفاء لغل وحقد أم عبثا ولهوا.
ثانيا: ما كان منها قصاصا فهو جائز وتركه أولى لقوله تعالى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (1) وقوله {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (2) الآيات.
وما كان منها في حي لمصلحته فهو جائز وقد يجب وقد يمنع حسب اختلاف الأحوال، ولمصلحة غيره فهو محل نظر واجتهاد، وما كان منها في ميت لمصلحته أو لحق غيره أو لمضطر فهو محل نظر واجتهاد، يعلم تفصيله مما تقدم في بحث " التشريع والقرنية " وما كان منها عبثا ولهوا أو لمجرد شفاء غليل فهو محرم.
__________
(1) سورة النحل الآية 126
(2) سورة الشورى الآية 40(14/61)
3 - مدى ملك الإنسان التصرف في نفسه أو في عضو من أعضائه
سبق في الموضوع الأول من هذا البحث ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب تكريم المسلم ومن في حكمه حيا وميتا والمحافظة على حرمته في نفسه وأعضائه وبشرته فلا يجوز الخروج عن مقتضى هذه الأدلة إلا بدليل يبيح لنا الاستثناء مما دلت عليه.
وسبق في الموضوع الثاني ما قرر العلماء من أنه إذا تعارضت مصلحتان قدم أعلاهما، وإذا تعارضت مفسدتان ارتكب أخفهما، تقليلا للضرر وتخفيفا للمشقة والحرج، وإذا تعارضت مصلحة ومفسدة، قدم الأرجح منهما وعند تساويهما، يرجح جانب الخطر تقديما لدرء المفسدة على جلب المصلحة.
وسبق في الموضوع الثالث ذكر نقول عن علماء الإسلام فيها استثناء حالات دعت الضرورة فيها إلى إباحة دم المسلم واقتضت شق بطنه أو جثته أو قطع عضو من أعضائه حيا أو ميتا وليس منه أخذ عين أو قرنيتها من إنسان لزرعها في إنسان آخر تحقيقا لمصلحته مع الإضرار بمن أخذت منه فعلى من يدعي جواز ذلك أن يأتي بدليل يرخص فيه ليمكن استثناؤه من عموم الأدلة الدالة على حرمة المسلم ووجوب المحافظة على نفسه وأعضائه ووجوب مراعاة ذلك.
ونورد هنا نقلا عن الحنابلة من كتاب المغني له صلة بالموضوع.(14/62)
قال أبو محمد بن قدامة رضي الله عنه مسألة (1) " قال " ومن اضطر فأصاب الميتة وخبزا لا يعرف مالكه أكل الميتة، وبهذا قال سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم، وقال مالك إن كانوا يصدقونه أنه مضطر أكل من الزرع والثمر وشرب اللبن وإن خاف أن تقطع يده ولا يقبل منه أكل الميتة، ولأصحاب الشافعي وجهان أحدهما: يأكل الطعام، وهو قول عبد الله بن دينار لأنه قادر على الطعام الحلال فلم يجز له أكل الميتة كما لو بذله له صاحبه. ولنا أن أكل الميتة منصوص عليه ومال الآدمي مجتهد فيه والعدول إلى المنصوص عليه أولى ولأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة والمساهلة وحقوق الآدمي مبنية على الشح والتضييق ولأن حق الآدمي تلزمه غرامة وحق الله لا عوض له.
(فصل) إذا وجد المضطر من يطعمه ويسقيه لم يحل له الامتناع من الأكل والشرب ولا العدول إلى أكل الميتة إلا أن يخاف أن يسمه فيه أو يكون الطعام الذي يطعمه مما يضر ويخاف أن يهلكه أو يمرضه.
(فصل) فإن لم يجد المضطر شيئا لم يبح له أكل بعض أعضائه وقال بعض أصحاب الشافعي: له ذلك لأن له أن يحفظ الجملة بقطع عضو كما لو وقعت فيه الأكلة.
ولنا أن أكله من نفسه ربما قتله فيكون قاتلا نفسه ولا يتيقن حصول البقاء من أكله، أما قطع الأكلة (2) فإنه يخاف الهلاك بذلك العضو فأبيح
__________
(1) ص 417 من ج9 من المغني.
(2) في القاموس: الإكلة الحكة، كالأكال والأكلة كغراب وفرحة. اهـ المقصود منه.(14/63)
له إبعاده ودفع ضرره المتوجه منه بتركه كما أبيح قتل الصائل عليه ولم يبح له قتله ليأكله.
(فصل) وإن لم يجد إلا آدميا محقون الدم لم يبح له قتله إجماعا ولا إتلاف عضو منه مسلما كان أو كافرا لأنه مثلة فلا يجوز أن يبقى نفسه بإتلافه وهذا لا خلاف فيه. وإن كان مباح الدم كالحربي والمرتد فذكر القاضي أن له قتله وأكله لأن قتله مباح وهكذا قال أصحاب الشافعي؛ لأنه لا حرمة له فهو بمنزلة السباع وإن وجده ميتا أبيح أكله؛ لأن أكله مباح بعد قتله فكذلك بعد موته وإن وجد معصوما ميتا لم يبح أكله في قول أصحابنا.
وقال الشافعي وبعض الحنفية: يباح وهو أولى، لأن حرمة الحي أعظم. وقال أبو بكر بن داود: أباح الشافعي أكل لحوم الأنبياء واحتج أصحابنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كسر عظم الميت ككسر عظم الحي (1) » واختار أبو الخطاب أن له أكله وقال لا حجة في الحديث هاهنا لأن الأكل من اللحم لا من العظم والمراد بالحديث التشبيه في أصل الحرمة لا في مقدارها بدليل اختلافها في الضمان والقصاص ووجود صيانة الحي بما لا يجب به صيانة الميت.
" مسألة ": قال " فإن لم يصب إلا طعاما لم يبعه مالكه أخذه قهرا ليحيي به نفسه وأعطاه ثمنه إلا أن يكون بصاحبه مثل ضرورته " وجملته أنه إذا اضطر فلم يجد إلا طعاما لغيره نظرنا فإن كان صاحبه مضطرا إليه فهو أحق به ولم يجز لأحد أخذه منه لأنه ساواه في الضرورة وانفرد بالملك فأشبه غير حال الضرورة وإن أخذه منه أحد فمات لزمه ضمانه لأنه قتله بغير حق وإن لم يكن صاحبه مضطرا إليه لزمه بذله للمضطر
__________
(1) سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1617) .(14/64)
لأنه يتعلق به إحياء نفس آدمي معصوم فلزمه بذله له كما يلزمه بذل منافعه في إنجائه من الغرق والحريق، فإن لم يفعل فللمضطر أخذه منه؛ لأنه مستحق له دون مالكه، فجاز له أخذه كغير ماله، فإن احتيج في ذلك إلى قتال فله المقاتلة عليه، فإن قتل المضطر فهو شهيد وعلى قاتله ضمانه، وإن آل أخذه إلى قتل صاحبه فهو هدر؛ لأنه ظالم بقتاله فأشبه الصائل إلا أن يمكن أخذه بشراء أو استرضاء فليس له المقاتلة عليه لإمكان الوصول إليه دونها، فإن لم يبعه إلا بأكثر من ثمن مثله فذكر القاضي أن له قتاله والأولى أن لا يجوز له ذلك لإمكان الوصول إليه بدونها وإن اشتراه بأكثر من ثمن مثله لم يلزمه إلا ثمن مثله؛ لأنه صار مستحقا له بقيمته ويلزمه عوضه في كل موضع أخذه، فإن كان معه في الحال وإلا لزمه في ذمته، ولا يباح للمضطر من مال أخيه إلا ما يباح من الميتة " اهـ المقصود منه.(14/65)
مجمل ما ذكره ابن قدامة رحمه الله في المغني
1 - أبيح للمضطر ما كان محرما عليه من أكل زرع غيره أو ثمره أو شرب لبن أنعامه بلا إذنه إبقاء على نفسه، أو أكل الميتة إبقاء على يده حتى لا تقطع فيما لو أكل من الثمر ولم يصدق في دعوى اضطراره، وفي هذا دلالة على وجوب حفظ النفس والعضو وتحريم بذلها لغيره عند هؤلاء.
2 - لا يحل لمضطر أن يمتنع عن طعام أو شراب بذل إليه بعوض أو بغير عوض، وفي هذا دلالة على أن بذل نفسه أو عضو منها أو تفويت شيء من ذلك ليس إليه، بل يجب عليه المحافظة على ذلك ما استطاع.
3 - في أكل المضطر بعض أعضائه خلاف، قيل: يمنع خشية أن يفضي إلى قتله، وقيل: يجوز ارتكابا لأخف الضررين.
4 - ليس للمضطر أن يقتل محقون الدم مطلقا أو يقطع عضوا من أعضائه لسد حاجته أو حفظ نفسه إجماعا، وإن وجده ميتا ففي جواز أكله منه إيثارا لحق الحي، ومنعه منه محافظة على حرمة الميت قولان.
5 - من اضطر إلى طعام ووجده عند مستغن عنه وجب عليه أخذه ولو بعوض، فإن أبي صاحبه وهو مضطر إليه أيضا وجب تركه له، وإن كان مستغنيا عنه وجب أخذه منه كرها ولو بقتال، وفي وجوب العوض عليه خلاف، فإن قتل المضطر فهو شهيد وعلى قاتله ضمانه(14/66)
وإن قتل صاحب الطعام فهو هدر لأنه ظالم، وفي هذا دلالة على وجوب حفظ الإنسان نفسه وأعضاءه وإثمه بتفويت ذلك.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان المنيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(14/67)
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
قرار رقم 62 في 25 \ 10 \ 1398هـ.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه \ وبعد. . ففي الدورة الثالثة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الطائف في النصف الأخير من شهر شوال عام 1398 هـ. اطلع المجلس على بحث نقل القرنية من عين إنسان إلى آخر الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، بناء على اقتراح سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في كتابه رقم 4572 \ 2 \ 1 د واطلع على ما ذكره جماعة من المتخصصين في أمراض العيون وعلاجها عن نجاح هذه العملية، وأن النجاح يتراوح بين 50% و 95% تبعا لاختلاف الظروف والأحوال.
وبعد الدراسة والمناقشة، وتبادل وجهات النظر قرر المجلس بالأكثرية ما يلي: أولا: جواز نقل قرنية عين من إنسان بعد التأكد من موته وزرعها في عين إنسان مسلم مضطر إليها، وغلب على الظن نجاح عملية(14/67)
زرعها ما لم يمنع أولياؤه، وذلك بناء على قاعدة تحقيق أعلى المصلحتين وارتكاب أخف الضررين وإيثار مصلحة الحي على مصلحة الميت، فإنه يرجى للحي الإبصار بعد عدمه والانتفاع بذلك في نفسه ونفع الأمة به، ولا يفوت على الميت الذي أخذت قرنية عينه شيء، فإن عينه إلى الدمار والتحول إلى رفات، وليس في أخذ قرنية عينه مثالة ظاهرة، فإن عينه قد أغمضت، وطبق جفناها أعلاهما على الأسفل.
ثانيا: جواز نقل قرنية سليمة من عين قرر طبيا نزعها من إنسان لتوقع خطر عليه من بقائها، وزرعها في عين مسلم آخر مضطر إليها، فإن نزعها إنما كان محافظة على صحة صاحبها أصالة، ولا ضرر يلحقه من نقلها إلى غيره، وفي زرعها في عين آخر منفعة له، فكان ذلك مقتضى الشرع، وموجب الإنسانية.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم،،،
هيئة كبار العلماء.(14/68)
التجانية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد: فبناء على ما اقترحه سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من كتابة مختصر عن الطريقة التجانية وإدراجه في أعمال الدورة العاشرة لمجلس هيئة كبار العلماء - أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك ضمنته ما يلي: ا- كلمة عن أحمد التيجاني منشئ هذه الطريقة وعن مصدرها.
2 - نبذ من عقيدته وعقيدة أتباعه.
3 - حكم الشريعة فيمن يعتقد هذه العقيدة.(14/69)
صفحة فارغة(14/70)
الموضوع الأول
كلمة عن أحمد بن محمد التجاني
وعن مصدر الطريقة التجانية
هو أبو العباس أحمد بن محمد بن المختار بن أحمد بن محمد التجاني، ولد عام 1150 من الهجرة بقرية عين ماضي التي وفد إليها جده محمد، فاستوطن بها وتزوج من قبيلة فيها تدعى تجاني أو تجانا، فكانت أخوالا لأولاده وإليها نسبوا. نشأ أبو العباس بهذه القرية وحفظ بها القرآن ورحل في طلب العلم إلى بلاد عدة، وتأثر في أسفاره بمن التقى به من مشايخ الطرق الصوفية، وأخذ الطريق عن عدة منهم ثم انتهت به رحلاته إلى أبي صيفون، وهناك زعم أنه قد جاءه الفتح وأنه لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - يقظة لا مناما، وأنه أذن له في تربية الخلق على العموم والإطلاق وأخذ عنه الطريقة الصوفية مشافهة، وأمره أن يترك كل طريق أخذه عن مشايخ الطرق الصوفية اكتفاء بما أخذ عنه - صلى الله عليه وسلم - مشافهة وعين له النبي - صلى الله عليه وسلم - الورد الذي يلقنه مريديه وهو الاستغفار والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك سنة 1196 من الهجرة وكمل له الورد بسورة الإخلاص على رأس المائة، ولذا سميت الطريقة الأحمدية والمحمدية كما سميت التجانية نسبة إلى القبيلة التي صاهرها جده محمد فنسبوا إليها.
وزعم أحمد التجاني بعد شهرته أنه شريف ينتهي نسبه إلى(14/71)
الحسن بن علي بن أبي طالب، ولم يشأ أن يعول في إثبات ذلك على وثائق مكتوبة ولا على أخبار الأعيان والآحاد، بل زعم أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقظة وسأله عن نسبه فأجابه بقوله: أنت ولدي حقا وكررها ثلاث مرات ثم قال له: نسبك إلى الحسن صحيح. اهـ ملخصا من الباب الأول من جواهر المعاني لعلي حرازم (1) ومن الفصل الثامن والعشرين (2) من كتاب الرماح لعمر بن سعيد الفوتي.
هذا وإنه لم يثبت عن الخلفاء الراشدين ولا سائر الصحابة - رضي الله عنهم - أن أحدا منهم وهم خير الخلق بعد الأنبياء ادعى أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقظة، ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن التشريع قد أكمل في حياته - صلى الله عليه وسلم - وأن الله قد أكمل للأمة دينها وأتم عليها نعمته قبل أن يتوفى رسوله - صلى الله عليه وسلم - إليه، قال تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (3) ، فلا شك أن ما زعمه أحمد التجاني لنفسه من رؤية النبي - صلى الله وسلم - يقظة وأنه أخذ عنه الطريقة التجانية يقظة مشافهة. وأنه عين له الأوراد التي يذكر الله بها ويصلي على رسوله بها، لا شك أن هذا من البهتان والضلال المبين.
__________
(1) ص25- 57 من ج 1
(2) ص178- 181 من جـ 1
(3) سورة المائدة الآية 3(14/72)
الموضوع الثاني
نبذ من عقيدته وعقيدة أتباعه
نظرا إلى أن الدواعي التي دعت إلى إعداد بحث عن الطريقة التجانية ليعرض على هيئة كبار العلماء في الدورة العاشرة، لا تعني مناقشة رؤساء هذه الطريقة ولا الرد عليهم وبيان الصواب لهم، إنما تعني ذكر نقول من كتبهم تتجلى فيها عقائدهم، ويمكن بعد الاطلاع عليها الحكم من خلالها عليهم بما تقتضيه هذه النقول.
لهذا اقتصرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على مجموعة من النقول من بعض كتبهم دون استقصاء نتبين منها عقائدهم ويسهل الحكم بمقتضاها عليهم، ولم تضف إليها من عندها إلا إشارات خفيفة، وفيما يلي ذكر نقول من كتاب " جواهر المعاني وبلوغ الأماني " لعلي حرازم، وكتاب " رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم " لمعمر بن سعيد الفوتي: قال علي حرازم (1) : اعلم أن سيدنا رضي الله عنه سئل عن حقيقة الشيخ الواصل وما هو، فأجاب أما ما هو حقيقة الشيخ الواصل فهو الذي رفعت له جميع الحجب عن كمال النظر في الحضرة الإلهية نظرا عينيا وتحقيقا يقينيا، فإن الأمر أوله محاضرة وهو مطالعة الحقائق من وراء ستر كثيف، ثم مكاشفة وهو مطالعة الحقائق من وراء ستر رقيق، ثم مشاهدة وهو تجلي الحقائق بلا حجاب لكن مع خصوصية، ثم معاينة وهو
__________
(1) ص 160 من ج1 من جواهر المعاني.(14/73)
مطالعة الحقائق بلا حجاب ولا خصوصية ولا بقاء للغير، والغيرية عينا وأثرا وهو مقام السحق والمحق والدك وفناء الفناء، فليس في هذا إلا معاينة الحق في الحق للحق بالحق (فلم يبق إلا الله لا شئ غيره، فما ثم موصول وما ثم واصل) .
ثم حياة وهي تمييز المراتب بمعرفة جميع خصوصياتها ومقتضياتها ولوازمها وما تستحقه من كل شيء ومن أي حضرة كل مرتبة منها، ولماذا وجدت وماذا يراد منها وما يؤول إليه أمرها، وهو مقام إحاطة العبد بعينه ومعرفته بجميع خصوصياته وأسراره ومعرفة ما هي الحضرة الإلهية وما هي عليه من العظمة والجلال والنعوت العلية والكمال معرفة ذوقية ومعاينة يقينية، وصاحب هذه المرتبة هو الذي تشق إليه المهامة في طلبه، لكن مع هذه الصفة فيه كمال إذن الحق له إذنا خاصا في هداية عبيده وتوليته عليهم بإشاردهم إلى الحضرة الإلهية، فهذا هو الذي يستحق أن يطلب وهو المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبى جحيفة «سل العلماء وخالط الحكماء واصحب الكبراء» وصاحب هذه المرتبة هو المعبر عنه بالكبير، ومتى عثر المريد على من هذه صفته فلازم في حقه أن يلقي نفسه بين يديه كالميت بين يدي غاسله لا اختيار له ولا إرادة ولا عطاء له ولا إفادة؛ وليجعل همته منه تخليصه من البلية التي أغرق فيها إلى كمال الصفاء بمطالعة الحضرة الإلهية بالإعراض عن كل ما سواها، ولينزه نفسه عن جميع الاختيارات - والمرادات مما سوى هذا. ومتى أشار عليه بفعل أوامر فليحذر من سؤاله بلم وكيف وعلام ولأي شيء، فإنه باب المقت والطرد، وليعتقد أن الشيخ أعرف بمصالحه منه وأي مدرجة أدرجه فيها فإنه يجري به في ذلك على ما هو لله بالله بما فيها إخراجه عن ظلمة نفسه وهواها. . .) إلخ.(14/74)
ومن أمثلة غلو أتباع أحمد بن محمد التجاني فيه ما قاله علي حرزام ونصه (1) واعلم رحمك الله أني لا أستوفي ما لسيدنا وشيخنا ومولانا أحمد التجاني رضي الله عنه من المآثر والآيات والمناقب والكرامات أبد الآبدين ودهر الداهرين؛ لأني كلما تذكرت فضيلة وجدت فضيلة أخرى، وكلما تذكرت آية رأيت أكبر من أختها إلى هلم جرا. . . إلى أن قال: لأن مآثر هذا الشيخ لا تحصى ومناقبه لا تستقصى فقد شاعت بها الأخبار حيث سار الليل والنهار وليس يوجد لها حد ولا مقدار، وإنما نورد صبابة منها وشظية من عدها فقد يكل عنها القرطاس والقلم، ويعيا في طلبها اليد والقدم. . . إلخ.
وبعد أن أثنى على من نقل عنهم في كتابه جواهر المعاني قال: " جعلنا الله وإياكم من المنخرطين في سلكه ومن المحسوبين في حزبه وممن عرف قدره وقدر محبه بجاه محمد وآله وصحبه، فإن من تشبث بأذيالهم بلغ المأمول وكان فيما يرومه قريب الوصول، فابسط أيها المحب يد الضراعة عن ذكرهم وقف متذللا عند بابهم وقل بلسان الافتقار إليهم إرحم عبيدك الضعيف وإن كان بها على الجور والتطفيف فقد قال تعالى على لسان رسوله: «أنا عند المنكسرة قلوبهم» . . إلى أن قال: " وحاشا لمن تعلق بأذيالهم أن يهملوه أو تحيز لجنابهم أن يتركوه، فإن طفيلي ساحتهم لا يرد، وعن بابهم لا يصد، ولله در قائلهم: هم
سادتي هم راحتي هم منيتي ... أهل الصفا حازوا المعالي الفاخرة
حاشا لمن قد حبهم أوزارهم ... أن يهملوه سادتي في الآخرة
وقال أيضا: " والفرق بين من يغلبه الحال لضعفه ومن يغلبه لقوة
__________
(1) ص 7-9 من جـ1 من جواهر المعاني.(14/75)
الوارد عليه أن الذي يغلبه لضعفه علامته ألا يمد غيره، وقصاراه على نفسه والذي يغلبه الحال لقوته علامته أن يمد غيره، وأقوى من ذلك أن يسلبه ما أعطاه، وذلك هو الكامل الذي يعطي ويسترد، وكل شيء بقضاء وقدر، وقد شاهدناه غير ما مرة فعل ذلك مع بعض الإخوان لسوء أدبهم ولموجب آخر. . . إلخ.
هذا وإن ما اشتملت عليه هذه الكلمات من الغلو الفاحش والشرك الفاضح لغني عن البيان، وقد تجاوز به قائله حدا لا يقبل معه تأويل، ولا ينفع معه اعتذار، اللهم إلا إذا قيل إنه صدر من قائله في حال سلب فيها عقله، وصار إلى حال لا يحمده عليها، ولكن معظموه لا يرون ذلك ولا يقبلونه بل يرونه محمدة له وكرامة.
ثم ذكر عن أحمد التجاني أن كلامه يحوم حول الفناء ووحدة الوجود وأن شعور الولي بوجود نفسه يعتبر شركا.
وقال في وصفه أحمد التجاني (1) وحديثه عنه " وكثيرا ما يقرر هذا المعنى ويدل عليه، ويرشد بحاله ومقاله إليه، وينشد بحاله على سبيل التمثيل - أنا معي بدر الكمال، حيث يميل قلبي يميل، وذلك بأنه قد محا السوى فلا يشاهد مع الله غيرا، ولا يرى لسواه نفعا ولا ضرا، بل يشاهد الفعل من الله وأنه هو المتصرف والدال بفعله عليه والمتعرف، وأن أفعاله كلها مصحوبة بالحكمة، محفوفة بالرحمة، ويرى الخلق كالأواني المسخرة في يد غيره ويعد شهود الإنسان نفسه اثنينية ويتمثل بلسان حاله ويقول:
إذا قلت ما أذنبت قالت مجيبة ... وجودك ذنب لا يقاس به ذنب.
__________
(1) ص61- 62 من ج1 من جواهر المعاني(14/76)
وعلى هذا المعنى صارت حالته فلا ترى أفعاله وأقواله وتصريحاته وتلويحاته تحوم إلا على الفناء في الله والغيبة فيه عما سواه. . . إلى أن قال في وصفه (ص 63) يحيي القلوب ويبرئ من العيوب يغني بنظرة ويوصل إلى الحضرة إذا توجه أغنى وأقنى وبلغ المنى، يتصرف في أطوار القلوب بإذن علام الغيوب. . . إلخ. اهـ.
وهذا لون آخر من شدة غلو الشيخ في نفسه وغلو أصحابه فيه انتهى به وبهم إلى دعوى الفناء الممقوت والقول بوحدة الوجود، إن ذلك لإلحاد في الدين وبهتان وكفر مبين.
ثم زعم أن شيخه يعلم الغيب فقال (1) " ومن كماله رضي الله عنه نفوذ بصيرته الربانية وفراسته النورانية التي ظهر مقتضاها في معرفة أحوال الأصحاب وفي غيرها من إظهار مضمرات، وإخبار بمغيبات، وعلم بعواقب الحاجات، وما يترتب عليها من المصالح والآفات، وغير ذلك من الأمور الواقعات، فيعرف أحوال قلوب الأصحاب وتحول حالهم وإبدال أعراضهم وانتقال أغراضهم وحالة إقبالهم وإعراضهم وسائر عللهم وأمراضهم، ويعرف ما هم عليه ظاهرا وباطنا وما زاد وما نقص وبين ذلك في بعض الأحيان وتارة يستره رفقا بهم من الاختبار والامتحان، واتفقت لغير واحد معهد في ذلك قضايا غير ما مرة.
وقال في حصول شيخه على اسم الله الأعظم وفي تقدير ثوابه (2) " وأما ثواب الاسم الأعظم فقد قال سيدنا رضي الله عنه أعطيت من اسم الله العظيم الأعظم صيغا عديدة وعلمني كيفية أستخرج بها ما
__________
(1) ص63 - 64 من جـ1 من جواهر المعاني.
(2) ص68 من جـ1 من جواهر المعاني.(14/77)
أصيبت تراكيبه وأخبره - صلى الله عليه وسلم - بما فيه من الفضل العظيم الذي لا حد له ولا حصر، وأخبره صلى الله بخواصه العظام وكيفية الدعاء به وكيفية سلوكه وهذا الأمر لم يبلغ لنا أحد أنه بلغه غير سيدنا رضي الله عنه؛ لأنه قال رضي الله عنه أعطاني سيد الوجود - صلى الله عليه وسلم - الاسم الأعظم الخاص بسيدنا علي كرم الله وجهه بعد أن أعطاني الاسم الأعظم الخاص بمقامه هو صلى الله عليه وسلم، وقال الشيخ رضي الله عنه قال سيد الوجود - صلى الله عليه وسلم هذا - الاسم الخاص بسيدنا علي لا يعطى إلا لمن سبق عند الله في الأزل أنه يصير قطبا، ثم قال رضي الله عنه ثم قلت لسيد الوجود صلى الله عليه وسلم ائذن لي في جمع أسراره وجمع ما احتوى عليه ففعل صلى الله عليه وسلم، وأما ما أخبره به صلى الله عليه وسلم عن ثواب الاسم الأعظم الكبير الذي هو مقام قطب الأقطاب، فقال الشيخ رضي الله عنه حاكيا ما أخبره به سيد الوجود صلى الله عليه وسلم: فإنه يحصل لتاليه في كل مرة سبعون ألف مقام في الجنة في كل مقام سبعون ألفا من كل شيء في الجنة، كائن من الحور والقصور والأنهار إلى غاية ما هو مخلوق في الجنة ما عدا الحور وأنهار العسل، فله في كل مقام سبعون حوراء، وسبعون نهرا من العسل، وكل ما خرج من فهمه هبطت عليه أربعة من الملائكة المقربين فكتبوه من فيه وصعدوا به إلى الله تعالى وأروه له فيقول الجليل جل جلاله اكتبوه من أهل السعادة واكتبوا مقامه في عليين في جوار سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - هذا في كل لفظة من ذكره، وله في كل مرة ثواب جميع ما ذكر الله به على ألسنة جميع خلقه في سائر عوالمه وله في كل مرة ثواب ما سبح به ربنا على لسان كل مخلوق من أول خلق آدم إلى آخره. . . إلى كثير من هذا الخرص والتخمين والرجم بالغيب في تقدير(14/78)
الثواب بالآلاف المؤلفة إلى أن قال علي حرازم " ومما أملاه علينا رضي الله عنه قال " لو اجتمع جميع ما تلته الأمة من القرآن من بعثته - صلى الله عليه وسلم - إلى النفخ في الصور لفظا لفظا فردا فردا في القرآن ما بلغ لفظة واحدة من الاسم الأعظم، وهذا كله بالنسبة للاسم كنقطة في البحر المحيط، وهذا مما لا علم لأحد به واستأثر الله به خلقه وكشفه لمن شاء من عباده، وقال رضي الله عنه إن الاسم الأعظم هو الخاص بالذات لا غيره وهو اسم الإحاطة ولا يتحقق بجميع ما فيه إلا واحد في الدهر وهو الفرد الجامع هذا هو الاسم الباطن، وأما الاسم الأعظم الظاهر فهو اسم الرتبة الجامع لمرتبة الألوهية من أوصاف الإله ومألوهيته وتحته مرتبة أسماء التشتيت، ومن هذه الأسماء فيوض الأولياء فمن تحقق بوصف كان فيضه بحسب ذلك الاسم. ومن هذا كانت مقاماتهم مختلفة وأحوالهم كذلك وجميع فيوض المرتبة بعض من فيوض اسم الذات الأكبر. وقال رضي الله عنه إذا ذكر الذاكر الاسم الكبير يخلق الله من ذكره ملائكة كثيرة لا يحصي عددهم إلا الله، ولكل واحد من الألسنة بعدد جميع الملائكة المخلوقين من ذكر الاسم ويستغفرون في كل طرفة عين للذاكر، أي كل واحد يستغفر في كل طرفة عين بعدد جميع ألسنته، وهكذا إلى يوم القيامة، ثم قال رضي الله عنه سألت سيد الوجود - صلى الله عليه وسلم - عن فضل المسبعات العشر، وأن من ذكرها مرة لم تكتب عليه ذنوب سنة، فقال لي - صلى الله عليه وسلم - فضل جميع الأذكار وسر جميع الأذكار في الاسم الكبير، فقال الشيخ رضي الله عنه علمت أنه أراد - صلى الله عليه وسلم - جميع خواص الأذكار وفضائلها منطوية في الاسم الكبير، ثم قال رضي الله عنه يكتب لذاكر الاسم بكل ملك خلقه الله في العالم فضل عشرين من ليلة القدر ويكتب له بكل دعاء كبير وصغير ستة وثلاثون(14/79)
ألف ألف مرة بكل مرة من ذكر هذا الاسم الشريف، وقال رضي الله عنه فمن قدر أن ذاكرا ذكر جميع أسماء الله في جميع اللغات تساوي نصف مرة من ذكر الاسم من ذكر كل عارف (1) . اهـ.
وذكر عمر بن سعيد الفوتي في كتاب الرماح (2) أن الأولياء يرون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقظة وأنه يحضر كل مجلس أو مكان أراد بجسده وروحه، وأنه يتصرف ويسير في أقطار الأرض في الملكوت وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته لم يتبدل عنه شيء، وأنه مغيب عن الأبصار كما غيبت الملائكة مع كونهم أحياء بأجسادهم، فإذا أراد الله أن يراه عبد رفع عنه الحجاب فيراه على هيئته التي كان هو عليها " ثم ذكر في هذا الفصل كثيرا من النقول عن جماعة من الصوفية فيها حكايات عن رؤية الأولياء للرسول - صلى الله عليه وسلم - يقظة، وذكر في هذا الفصل كثيرا من الغرائب والمنكرات حول مجالس الأنبياء والأقطاب في المسجد الحرام عند الكعبة بأجسادهم وتصرفهم بأنفسهم ووكلائهم في الخلق، وذكر فيه أيضا أن الأنبياء والأولياء لا يبقون في قبورهم بعد الوفاة إلا زمانا محدودا يتفاوت حسب تفاوت درجاتهم ومراتبهم، ثم ختم الفصل بقوله: إذا نظرت وتحققت بجميع ما تقدم من أول الفصل إلى هنا ظهر لك ظهورا لا غبار عليه أن اجتماع القطب المكتوم والبرزخ المختوم شيخنا أحمد بن محمد التجاني سقانا الله تعالى من بحره بأعظم الأواني، ورزقنا جواره في دار التهاني رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعنا به بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما وأخذه رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعنا به عن سيدنا جده رسول الله - صلى الله عليه
__________
(1) ص71- 72 من جـ1
(2) ص 198- 199 جـ1 من الفصل الحادي والثلاثين.(14/80)
وسلم مشافهة منه إليه رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعنا به وأعاد علينا من بركاته دنيا وبرزخا وأخرى. وحضور النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم - بأجسادهم وأرواحهم قراءة جوهرة الكمال وعند أي مجلس خير أو أي مكان شاءوا، ولا ينكره إلا الطلبة الجهلة الأغبياء والحسدة المردة الأشقياء لا مهدي إلا من هداه الله تعالى ".
وقد غلا عمر بن سعيد الفوتي في تعظيم شيخه أحمد بن محمد التجاني، فزعم أنه خاتم الأولياء وسيد العارفين وأنه لا يتلقن واحد من الأولياء فيضا من نبي الله إلا عن طريقه من حيث لا يشعر به ذلك الولي قال:
الفصل السادس والثلاثون في ذكر فضل شيخنا رضي الله عنه وأرضاه وعنا به، وبيان أنه هو خاتم الأولياء وسيد العارفين وإمام الصديقين وممد الأقطاب والأغواث، وأنه هو القطب المكتوم والبرزخ المختوم الذي هو الواسطة بين الأنبياء والأولياء بحيث لا يتلقن واحد من الأولياء من كبر شأنه ومن صغر فيضا من حضرة نبي إلا بواسطته رضي الله تعالى عنه من حيث لا يشعر به ذلك الولي. . . . (1) .
إن هذه الكلمات ناطقة بالشرك الصريح والكذب المكشوف والغلو الممقوت، فقد جعل شيخه أعلى مرتبة من الصحابة وسائر القرون الثلاثة من شهد لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنهم خير القرون بله من سواهم من الصالحين، ثم ذكر ما نصه (2) أن بعض من لم يكن له في العلم ولا في نفحات أهل الله من خلاق قد يورد علينا إيرادين أولهما: أنه
__________
(1) ص4 من جـ2 من الرماح.
(2) ص5 من جـ2 من الرماح.(14/81)
يقول إن الشيخ رضي الله عنه وأرضاه وعنا به إن الفيوض التي تفيض من ذات سيد الوجود تتلقاها ذوات الأنبياء، وكل ما فاض وبرز من ذوات الأنبياء تتلقاه ذاتي، ومني يتفرق على جميع الخلائق من نشأة العالم إلى النفخ في الصور، ويدخل في جميع الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - فيكون أفضل من جميع الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - وذلك باطل. وكذا قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به ولا يشرب ولي ولا يسقى إلا من بحرنا من نشأة العالم إلى النفخ في الصور، وكذلك قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به إذا جمع الله تعالى خلقه في الموقف ينادي مناد بأعلى صوته يسمعه كل من بالموقف يا أهل المحشر هذا إمامكم الذي كان مددكم منه. وكذا " قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به روحه صلى الله عليه وسلم وروحي هكذا مشيرا بإصبعه السبابة والوسطى، روحه صلى الله عليه وسلم تمد الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام وروحي تمد الأقطاب والعارفين والأولياء من الأزل إلى الأبد، وكذا قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله تعالى من لدن آدم إلى النفخ في الصور، وكذا قوله رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعنا به أن مقامنا عند الله في الآخرة لا يصله أحد من الأولياء ولا يقاربه من كبر شأنه ولا من صغر، وأن جميع الأولياء من الصحابة إلى النفخ في الصور ليس فيهم من يصل مقامنا، وكذا قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به أعمار الناس كلها ذهبت مجانا إلا أعمار أصحاب الفاتح لما أغلق فقد فازوا بالربح دنيا وأخرى ولا يشغل بها عمره إلا السعيد.
وذكر علي حرازم عن أحمد بن محمد التجاني في سياق الكلام على المفاضلة بين تلاوة القرآن والصلاة على النبي صلى الله عليه، أن تلاوة القرآن أفضل من حيث إنه كلام الله، ومن حيث ما دل عليه من العلوم(14/82)
والمعارف والآداب. . . ثم قال ما نصه (1) . (إن هاتين الحيثيتين لا يبلغ فضل القرآن فيهما إلا عارف بالله قد انكشفت له بحار الحقائق فهو أبدا يسبح في لججها، فصاحب هذه المرتبة هو الذي يكون القرآن في حقه أفضل من جميع الأذكار والكلام؛ لحوز الفضيلتين لكونه يسمعه من الذات المقدسة سماعا صريحا لا في كل وقت، وإنما ذلك في استغراقه وفنائه في الله تعالى. والمرتبة الثانية في القرآن دون هذه وهي من عرف معاني القرآن ظاهرا وألقى سمعه عند تلاوته كأنه يسمعه من الله يقصه عليه، ويتلوه عليه مع وفائه بالحدود فهذا أيضا لاحق بالمرتبة الأولى إلا أنه دونها. والمرتبة الثالثة رجل لا يعلم شيئا من معانيه ليس إلا سرد حروفه ولا يعلم ما تدل عليه من العلوم والمعارف، فهذا إن كان مهتديا كسائر الأعاجم الذين لا يعلمون معاني العربية إلا أنه يعتقد أنه كلام الله ويلقي سمعه عند تلاوته معتقدا أن الله يتلو عليه تلاوة لا يعلم معناها، فهذا لاحق في الفضل بالمرتبتين إلا أنه منحط عنهما بكثير كثير. والمرتبة الرابعة رجل يتلو القرآن سواء علم معانيه أو لم يعلم إلا أنه متجرئ على معصية الله غير متوقف عن شيء منها فهذا لا يكون القرآن في حقه أفضل، بل كلما ازداد تلاوة ازداد ذنبا وتعاظم عليه يشهد له قوله تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ} (2) إلى قوله {فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} (3) وقوله {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} (4) إلى قوله {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (5) . . . ثم قال ما نصه " فمثل هذا لا يكون القرآن في حقه أفضل من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وصاحب المرتبة
__________
(1) ص 176- 179 من جـ1 من جواهر المعاني
(2) سورة الكهف الآية 57
(3) سورة الكهف الآية 57
(4) سورة الجاثية الآية 7
(5) سورة الجاثية الآية 10(14/83)
الرابعة: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في حقه أفضل من القرآن، وبعد أن بين ذلك قال ما نصه: " فإذا عرف ذلك بان للعارف به أن ما في طريق العامة غطاء غطى الله به أسرار القرآن وتركت أسرار القرآن ومذاقات أهل الخصوص من وراء أطوار الحس والعقل المدركان في أمر العامة، فيجب كتمه على كل من علمه إذ لم يرد سبحانه وتعالى إظهاره إلا للخاصة العليا من خلقه. قيل: إن أبا يزيد باسطه الحق في بعض مباسطته قال له: يا عبد السوء لو أخبرت الناس بمساويك لرجموك بالحجارة، فقال له وعزتك لو أخبرت الناس بما كشفت لي من سعة رحمتك لما عبدك أحد، فقال له: لا تفعل فسكت. انتهى ما أملاه علينا شيخنا أبو العباس التجاني، ثم ذكر علي حرازم ما زعمه أحمد التجاني من مباسطة الرب لأبي يزيد مرة أخرى في الجواهر ص183.(14/84)
وقال علي حرازم (1) وسألته رضي الله عنه قوله تعالى {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} (2) {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} (3) الآية (فأجاب) رضي الله عنه بقوله معنى البحرين بحر الألوهية، وبحر الوجود المطلق وبحر الخليقة، وهو الذي وقع عليه كن وهو البرزخ بينهما - صلى الله عليه وسلم، لولا برزخيته - صلى الله عليه وسلم - لاحترق بحر الخليقة كله من هيبة جلال الذات. قال سيدنا رضي الله عنه بحر الخليقة بحر الأسماء والصفات فما ترى ذرة في الكون إلا وعليها اسم أو صفة من صفات الله، وبحر الألوهية هو بحر الذات المطلقة التي لا تكيف ولا تقع العبارة عنها. يلتقيان لشدة القرب الواقع بينهما، قال سبحانه وتعالى {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} (4) ، ولا يختلطان لا تختلط الألوهية بالخليقة ولا
__________
(1) ص 204 - 205 من جـ1 من جواهر المعاني
(2) سورة الرحمن الآية 19
(3) سورة الرحمن الآية 20
(4) سورة الواقعة الآية 85(14/84)
الخليقة بالألوهية فكل منهما لا يبغي على الآخر للحاجز الذي بينهما، وهي البرزخية العظمى التي هي مقامه صلى الله عليه وسلم، فالوجود كله عائش بدوام بقائه تحت حجابيته صلى الله عليه وسلم استتارا به عن سبحات الجلال التي لو تبدت بلا حجاب لاحترق الوجود كله وصار محض العدم في أسرع من طرفة عين، فالألوهية قائمة في حدودها، والخليقة قائمة في حدودها كل منها يلتقيان ولا يختلطان للبرزخية التي بينهما لا يبغيان، أعني لا يختلط أحدهما على الآخر. انتهى ما أملاه علينا رضي الله عنه من حفظه ولفظه.
(وسألته رضي الله عنه) عن دائرته صلى الله عليه وسلم (فأجاب) رضي الله عنه بقوله هي دائرة السعادة التي وقع عليها قوله تعالى {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1) . . قال البوصيري رضي الله عنه " ولن ترى من ولي غير منتصر " البيت. كل من لم ينتصر بالنبي صلى الله عليه وسلم لا حظ له في ولاية الله وهو معنى قول الشيخ رضي الله عنه لن ترى من ولي. . . . إلخ. اهـ.
هذه طامة أخرى طامة التلاعب بآيات القرآن وتحريفها عن مواضعها، وتأويل لها بما لا تدل عليه في لغة العرب، بل بما تمجه العقول السليمة ويسخر منه أولوا الألباب.
ذكر عمر بن سعيد الفوتي أن الشيخ أحمد التجاني قال ذات ليلة في مجلسه (2) . أين السيد محمد الغالي فجعل أصحابه ينادون أين السيد محمد الغالي على عادة الناس مع الكبير إذا نادى أحد، فلما حضر بين يدي الشيخ قال رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: قدماي هاتان على رقبة كل ولي
__________
(1) سورة يونس الآية 62
(2) ص 15، 16، 17 من جـ2 من كتاب الرماح(14/85)
لله تعالى، وقال سيدي محمد الغالي وكان لا يخافه؛ لأنه من أكابر أحبابه وأمرائهم: يا سيدي أنت في الصحو والبقاء أو في السكر والفناء، فقال رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: أنا في الصحو والبقاء وكمال العقل ولله الحمد. وقال: قلت ما تقول بقول سيدي عبد القادر رضي الله عنه قدمي هذه على رقبة كل ولي لله تعالى، فقال صدق رضي الله عنه يعني أهل عصره، وأما أنا فأقول قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله تعالى من لدن آدم إلى النفخ في الصور، قال فقلت له يا سيدي فكيف تقول إذا قال أحد بعدك مثل ما قلت، فقال رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعنا به: لا يقوله أحد بعدي، قال: فقلت يا سيدي قد حجرت على الله تعالى واسعا ألم يكن الله تعالى قادرا على أن يفتح على ولي، فيعطيه من الفيوضات والتجليات والمنح والمقامات والمعارف والعلوم والأسرار والترقيات والأحوال أكثر مما أعطاك؟ فقال رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: بلى قادر على ذلك وأكثر منه، لكن لا يفعله لأنه لم يرده، ألم يكن قادرا على أن ينبيء أحدا ويرسله إلى الخلق ويعطيه أكثر مما أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم؟ قال: قلت بلى لكنه تعالى لا يفعله لأنه ما أراده في الأزل، فقال رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: هذا مثل ذلك ما أراده في الأزل ولم يسبق به علمه تعالى، فإن قلت ما صورة برزخية القطب المكتوم المعبر عنه عند العارفين والصديقين وأفراد الأحباب وجواهر الأقطاب، بجواهر الجواهر، وبرزخ البرازخ والأكابر، (فالجواب) والله تعالى الموفق بمنه للصواب اعلم وفقني الله وإياك لما يحبه ويرضاه أن الحضرات المستفيضة سبع: الأولى، حضرة الحقيقة الأحمدية وهي في جواهر المعاني غيب من غيوب الله تعالى فلم يطلع أحد على ما فيها من المعارف والعلوم والأسرار والفيوضات والتجليات والأحوال العلية والأخلاق الذكية فما(14/86)
ذاق منها أحد شيئا ولا جميع الرسل والنبيين اختص صلى الله عليه وسلم وحده بمقامه إلى أن قال: فما نال أحد منها شيئا اختص بها صلى الله عليه وسلم لكمال عزها وغاية علوها، والثانية: حضرة الحقيقة المحمدية فمنها كما في جواهر المعاني كل مدارك النبيين والمرسلين وجميع الملائكة والمقربين وجميع الأقطاب والصديقين، وجميع الأولياء والعارفين إلى أن قال: وكل ما أدركه جميع الموجودات من العلوم والمعارف والفيوضات والتجليات والترقيات والأحوال، والمقامات والأخلاق إنما هو كله من فيض حقيقته المحمدية، والثالثة: الحضرة التي فيها حضرات سادتنا الأنبياء على اختلاف أذواقهم ومراتبهم وأهل هذه الحضرة هم الذين يتلقون كل ما فاض وبرز من حضرة الحقيقة المحمدية، كما قال شيخنا رضي الله عنه وأرضاه وعنا به مشيرا إلى أهل هذه الحضرة بقوله: إن الفيوض التي تفيض من ذات الوجود صلى الله عليه وسلم تتلقاها ذوات الأنبياء، وبقوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: روحه صلى الله عليه وسلم تمد الرسل والأنبياء، إلا أن لخاتم الأولياء مشربا من النبي صلى الله عليه وسلم مع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولا اطلاع له عليه كما سيأتي الآن قريبا إن شاء الله تعالى، والرابعة: حضرة خاتم الأولياء الذي يتلقى جميع ما فاض به من ذوات الأنبياء؛ لأنه رضي الله عنه وأرضاه وعنا به هو برزخ البرازخ كما قال رضي الله عنه وأرضاه وعنا به مشيرا إلى هذه الحضرة بقوله: إن الفيوض التي تفيض من ذات سيد الوجود صلى الله عليه وسلم تتلقاها ذوات الأنبياء وكل ما فاض وبرز من ذوات الأنبياء تتلقاه ذاتي، ومني يتفرق على جميع الخلائق من نشأة العالم إلى النفخ في الصور وخصصت بعلوم بيني وبينه منه إلي مشافهة لا يعلمها إلا الله عز وجل بلا واسطة، وبقوله أنا سيد الأولياء كما كان صلى(14/87)
الله عليه وسلم سيد الأنبياء، وبقوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به لا يشرب ولي ولا يسقى إلا من بحرنا من نشأة العالم إلى النفخ في الصور، وبقوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: إذا جمع الله تعالى خلقه في الموقف ينادي مناد بأعلى صوته حتى يسمع كل من في الموقف يا أهل المحشر هذا إمامكم الذي كان مددكم منه، بقوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به مشيرا بإصبعيه السبابة والوسطى روحي وروحه صلى الله عليه وسلم هكذا، روحه صلى الله عليه وسلم تمد الرسل والأنبياء، وروحي تمد الأقطاب والعارفين والأولياء من الأزل إلى الأبد. وبقوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: إن القطب المكتوم هو الواسطة بين الأنبياء والأولياء فكل ولي لله تعالى من كبر شأنه ومن صغر لا يتلقى فيضا من حضرة نبي إلا بواسطته رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعنا به من حيث لا يشعر به. ومدده الخاص به إنما يتلقاه منه صلى الله عليه وسلم، ولا اطلاع لأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على فيضه به؛ لأن له مشربا معهم منه صلى الله عليه وسلم. والخامسة: حضرة أهل طريقته الخاصة بهم، وإلى هذه الحضرة أشار الشيخ رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعنا به بقوله: ولو اطلع أكابر الأقطاب على ما أعد الله لأهل هذه الطريقة لبكوا وقالوا يا ربنا ما أعطيتنا شيئا، بقوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: لا مطمع لأحد من الأولياء في مراتب أصحابنا حتى الأقطاب الكبار ماعدا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: كل الطرائق تدخل عليها طريقتنا فتبطلها، وطابعنا يركب على كل طابع لا يحمل طابعنا غيره، وبقوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: من ترك وردا من أوراد المشايخ لأجل الدخول في طريقتنا هذه المحمدية التي شرفها الله تعالى على جميع الطرق آمنه الله تعالى في الدنيا والآخرة فلا يخاف من(14/88)
شيء يصيبه لا من الله ولا من رسوله ولا من شيخه أيا كان من الأحياء أو الأموات، وأما من دخل زمرتنا وتأخر عنها ودخل غيرها تحل به المصائب دنيا وأخرى ولا يفلح أبدا، " قلت " وهذه لأنه قد ثبت أول هذا الفصل أن صاحبها رضي الله عنه وأرضاه وعنا به هو الختم الممد الذي يستمد منه من سواه من الأولياء والعارفين. . . والصديقين والأغوات، ومن ترك المستمد ورجع إلى الممد فلا لوم عليه ولا خوف، بخلاف من ترك الممد ورجع إلى المستمد بقوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: وليس لأحد من الرجال أن يدخل كافة أصحابه الجنة بغير حساب ولا عقاب، ولو عملوا من الذنوب ما عملوا وبلغوا من المعاصي ما بلغوا إلا أنا وحدي، ووراء ذلك مما ذكر لي فيهم وضمنه صلى الله عليه وسلم أمر لا يحل لي ذكره ولا يرى ولا يعرف إلا في الآخرة، " قلت " ووجه تقديم حضرة أهل طريقته على الحضرة التي فيها حضرات الشيوخ الذين هم أهل الطرق من سادتنا الأولياء رضي الله عنهم ظاهر؛ لأن أهل طريقته هم أول من يفيض عليهم ما يستمده من الحضرة المحمدية ومن حضرات سادتنا الأنبياء عليهم من الله تعالى أفضل الصلاة وأتم السلام، ومن هنا صار جميع أهل طريقته أعلى مرتبة عند الله تعالى في الآخرة من أكابر الأقطاب وإن كان بعضهم في الظاهر من جملة العوام المحجوبين. كما سيأتي بيانه في آخر هذا الفصل وفي الفصل الثامن والثلاثين إن شاء الله تعالى، أعني الصادقون منهم، وأما الكاذبون فما توجه الكلام إليهم. والسادسة: الحضرة التي فيها حضرات سادتنا الأولياء رضي الله تعالى عن جميعهم، وهي مستمدة من حضرة خاتمهم الأكبر جميع ما نالوا، وإليها يشير قول شيخنا أحمد رضي الله عنه وأرضاه وعنا به كما في جواهر المعاني؛ لقوله فلكل شيخ من أهل(14/89)
الله تعالى حضرة لا يشاركه فيها أحد.
السابعة: الحضرة التي فيها حضرات تلامذيهم: اهـ.
إن ما تقدم في الإعداد من بدع التجانية قليل من كثير مما ذكره علي حرازم في كتابه " جواهر المعاني وغاية الأماني " وما ذكره عمر بن سعيد الفوتي في كتابه " رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم "، وهما من أوسع كتب التجانية وأوثقها في نظر أهل هذه الطريقة.
إن ما ذكر في الإعداد إنما هو نماذج لأنواع من بدع التجانية تتجلى فيها عقائدهم، وتكفي لمن عرضها على أصول الشريعة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم على كل من يعتقد هذه العقائد المبتدعة المنكرة.
ونلخص فيما يلي جملة من عقائدهم التي تضمنها البحث: 1- غلو أحمد بن محمد التجاني مؤسس الطريقة، وغلو أتباعه فيه غلوا جاوز الحد حتى أضفى على نفسه خصائص الرسالة، بل صفات الربوبية والإلهية وتبعه في ذلك مريدوه.
2 - إيمانه بالفناء ووحدة الوجود وزعمه ذلك لنفسه، بل زعم أنه في الذروة العليا من ذلك وصدقه فيه مريدوه فآمنوا به واعتقدوه.
3 - زعمه رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - يقظة، وتلقين النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه الطريقة التجانية وتلقينه وردها يقظة، والإذن له يقظة في تربية الخلق وتلقينهم هذا الورد واعتقاد مريديه وأتباعه ذلك.
4 - تصريحه بأن المدد يفيض من الله على النبي - صلى الله عليه وسلم - أولا ثم يفيض منه على الأنبياء، ثم يفيض من الأنبياء عليه، ثم منه يتفرق على جميع الخلق من آدم إلى النفخ في الصور ويزعم أنه(14/90)
يفيض أحيانا من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة ثم يفيض منه على سائر الخليقة، ويؤمن مريدوه بذلك ويعتقدونه.
5 - تهكمه على الله وعلى كل ولي لله وسوء أدبه معهم إذ يقول: قدماي على رقبة كل ولي، فلما قيل له: إن عبد القادر الجيلاني قال: - فيما زعموا قدمي على رقبة كل ولي، قال: صدق ولكن في عصره، أما أنا فقدماي على رقبة كل ولي من آدم إلى النفخ في الصور، فلما قيل له أليس قادرا على أن يوجد بعدك وليا فوق ذلك؟ قال: بلى ولكن لا يفعل كما أنه قادر على أن يوجد نبيا بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - ولكنه لا يفعل ومريدوه يؤمنون بذلك ويدافعون عنه.
6 - دعواه كذبا أنه يعلم الغيب وما تخفي الصدور، وأنه يصرف القلوب، وتصديق مريديه ذلك وعده من محامده وكراماته.
7 - إلحاده في آيات الله وتحريفها عن مواضعها بما يزعمه تفسيرا إشاريا كما سبق في الإعداد من تفسيره قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} (1) {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} (2) ، ويعتقد مريدوه أن ذلك من الفيض الإلهي.
8 - تفضيله الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - على تلاوة القرآن بالنسبة لمن يزعم أنهم أهل المرتبة الرابعة، وهي المرتبة الدنيا في نظره.
9 - زعمه هو وأتباعه أن مناديا ينادي يوم القيامة والناس في الموقف بأعلى صوته يا أهل الموقف هذا إمامكم الذي كان منه مددكم في الدنيا. . . إلخ.
__________
(1) سورة الرحمن الآية 19
(2) سورة الرحمن الآية 20(14/91)
10 - زعمه أن كل من كان تجانيا يدخل الجنة دون حساب ولا عذاب مهما فعل من الذنوب.
11 - زعمه أن من كان على طريقته وتركها إلى غيرها من الطرق الصوفية تسوء حاله ويخشى عليه سوء العاقبة والموت على الكفر.
12 - زعمه أنه يجب على المريد أن يكون بين يدي شيخه كالميت بين يدي المغسل لا اختيار له، بل يستسلم لشيخه فلا يقول: لم، ولا كيف، ولا علام، ولا لأي شيء. . . . إلخ.
13 - زعمه أنه أوتي اسم الله الأعظم، علمه إياه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم هول أمره وقدر ثوابه بالآلاف المؤلفة من الحسنات، خرطا وتخمينا ورجما بالغيب واقتحاما لأمر لا يعلم إلا بالتوقيف.
14 - زعمه أن الأنبياء والمرسلين والأولياء لا يمكثون في قبورهم بعد الموت إلا زمنا محدودا يتفاوت بتفاوت مراتبهم ودرجاتهم، ثم يخرجون من قبورهم بأجسادهم كما كانوا من قبل، إلا أن الناس لا يرونهم كما أنهم لا يرون الملائكة مع أنهم أحياء.
15 - زعمه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحضر بجسده مجالس أذكارهم وأورادهم وكذا الخلفاء الراشدون. . . إلخ.
إلى غير ذلك مما لو عرض على أصول الإسلام اعتبر شركا وإلحادا في الدين وتطاولا على الله ورسوله وتشريعه، وتضليلا للناس وتبجحا منهم بعلمه الغيب. . . إلخ هذا ما تيسر والله الموفق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(14/92)
حكم ورد التجانية
فتوى برقم 117 وتاريخ 3 \ 5 \ 1392 هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله، وبعد: فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفتاء المقدم من أحد السائلين وهو: - هل الورد الذي يقوم به التجانيون والتجانية صحيح في الإسلام، فقد سمع كثيرا من المدارس الإسلامية تعارضه، والتجانيون يستعملونه بعد صلاة المغرب فهم ينشرون قطعة قماش بيضاء في المسجد ويجلسون حولها ويتلون لا إله إلا الله وكلمتين أخريين مائة مرة ويرجو مساعدته في إيضاح الحق؟
الجواب - حثت الشريعة الإسلامية على ذكر الله تعالى ورغبت في ذلك كثيرا، وبينت أنه يحيي النفوس وتطمئن به القلوب وتنشرح به الصدور، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} (1) {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (2) ، وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (3) ، وقال النبي صلى الله عليه
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 41
(2) سورة الأحزاب الآية 42
(3) سورة الرعد الآية 28(14/93)
وسلم «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر مثل الحي والميت (1) » رواه البخاري، وكما جاء في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - الأمر بالذكر والترغيب فيه مجملا جاء فيهما مفصلا، فبين القرآن أن ذكر الله يكون بالقلب إجلالا لله وإعظاما له وهيبة، ووقارا وخوفا منه ورغبة إليه خفية وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال، وبين أن الصلاة أعظم ذكر الله، قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (2) {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (3) ، وقال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (4) ، وفي الصلاة التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد والدعاء، وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} (5) ، وبينت السنة قولية وعملية أنواع الأذكار وأوقاتها وكيفيتها، فبينت أذكارا للصباح والمساء والشدة والبلاء، وعند النوم واليقظة وعند الأسفار والعودة منها إلخ، وعينت كلماتها وكيفياتها، ففي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: «رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه (6) » . فمن ذكر الله تعالى كما جاء في بيان الكتاب والسنة من أنواع الذكر وأوقاتها وكيفياتها، فقد اتبع هدى الله تعالى وهدى رسوله عليه الصلاة والسلام وكسب الأجر والمثوبة، ومن غير صيغ الأذكار وحرفها أو بدل في كيفياتها والتزم فيها كيفيات لم يتلزمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأطلق ما قيده أو
__________
(1) صحيح البخاري الدعوات (6407) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (779) .
(2) سورة البقرة الآية 238
(3) سورة البقرة الآية 239
(4) سورة النساء الآية 103
(5) سورة الأعراف الآية 205
(6) صحيح البخاري الأذان (660) ، صحيح مسلم الزكاة (1031) ، سنن الترمذي الزهد (2391) ، سنن النسائي آداب القضاة (5380) ، مسند أحمد بن حنبل (2/439) ، موطأ مالك الجامع (1777) .(14/94)
قيد ما أطلقه والتزم طريقة في أداء الأذكار لم تعهد في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في زمن أصحابه ولا القرون الثلاثة المشهود لها بالخير، فقد أساء وابتدع في الدين ما لم يأذن به الله وحرم الأجر والثواب، ومن ذلك ما التزمه بعض أصحاب الطرق كالتجانية من نشر قطعة قماش بيضاء يلتف حولها الذاكرون بلا إله إلا الله ونحوها من الأذكار بعد المغرب. فالذكر مشروع وكلمة لا إله إلا الله أفضل ما قاله النبيون، والذكر بها من أفضل الأذكار، ولكن التزام نشر الرقعة البيضاء والاجتماع حولها وتخصيص ما بعد المغرب لذلك الذكر، وإيقاعه جماعيا بدعة ابتدعوها لم يأذن بها الله ولا رسوله، وخير العمل ما كان اتباعا، وشره ما كان ابتداعا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة (1) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » ، ومن ذلك الاجتماع قبل الفجر أو بعده أو بعد العشاء للتعبد بأوراد وضعوها من عند أنفسهم، أو لأذكار بهيئات مزرية وترنحات هي إلى الألعاب والتمثيل أقرب وبه أشبه، ومن ذلك ذكرهم بكلمة [هو] ، وكلمة [آه] ، وليستا من أسماء الله، بل الأولى ضمير الغائب والثانية كلمة توجع، فالذكر بهما من البدع المنكرة وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(14/95)
حكم الصلاة خلف الأئمة المبتدعين - كالتجانية -
فتوى برقم 2089 وتاريخ 12 \ 9 \ 1398 هـ
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم \ وبعد. . . . فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفتاء المقدم لسماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، والذي جاء فيه: " لقد تضاربت أقوال الفقهاء في الصلاة خلف الأئمة المبتدعين وأصحاب الطرق خصوصا التابعين للطريقة التجانية، وقد اطلعت على رسالة الشيخ \ عبد الرحمن بن يوسف الأفريقي رحمه الله " مدير دار الحديث بالمدينة المنورة سابقا " الأنوار الرحمانية " في هداية الفرقة التجانية؛ حيث اتضح أن عقائد أصحاب هذه الطريقة - هداهم الله إلى سواء الصراط - غير صحيحة، وهم أقرب إلى الشرك والضلالة - والعياذ بالله - منهم إلى الإيمان والتصديق بكتاب الله واتباع سنة رسوله المصطفى المختار عليه صلاة الله وسلامه، فهل تصح الصلاة خلف إمام مبتدع تابع للطريقة التجانية؟ وإذا كان الجواب لا، فهل للمسلم إقامة الصلاة في أهله وفي بيته إذا لم يجد في أي مسجد في المدينة التي يسكنها إماما غير مبتدع؟ وهل تجوز إقامة الصلاة في جماعة خاصة في المسجد بعد(14/96)
انتهاء المبتدع صاحب الطريقة التجانية من صلاته، وهذا سيؤدي إلى بلبلة في الأفكار وتفرقة بين صفوف المسلمين؟ . وأجابت اللجنة بما يلي: الفرقة التجانية من أشد الفرق كفرا وضلالا وابتداعا في الدين لما لم يأذن به الله، فلا تصح الصلاة خلف من هو على طريقتهم، وبإمكان المسلم أن يلتمس له إماما غير متبع لطريقة التجانية وغيرها من طرق المبتدعة ممن لا تتسم عباداتهم وأعمالهم بالمتابعة لمحمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وإذا لم يجد إماما غير مبتدع فيقيم له جماعة في أي مسجد من مساجد المسلمين إذا أمن الفتنة والإضرار به من المبتدع، فإن كان في بلد يتسلط فيها مبتدع فيقيم الجماعة في أهله أو بأي مكان يأمن على نفسه، ومتى أمكنته الهجرة إلى بلد تقام فيها السنة وتحارب البدع وجب عليه ذلك.
وبالله التوفيق وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم،،،،
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(14/97)
صفحة فارغة(14/98)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شئونهم الدينية والاجتماعية.(14/99)
صفحة فارغة(14/100)
فتوى برقم 1166 وتاريخ 30 \ 1 \ 1396هـ
السؤال:
شخص مصاب بقرحة في معدته ونهاه الطبيب عن الصيام لمدة خمس سنوات ماذا عليه؟
الجواب:
إذا كان الطبيب الذي نهاه عن الصوم ثقة مأمونا خبيرا في طبه فيتعين السمع والطاعة لنصحه، وذلك بإفطاره في رمضان حتى يجد القدرة والاستطاعة على الصوم، قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) ، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2) ، وقال تعالى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (3) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (4) » ، فإذا شفي من مرضه تعين عليه قضاء صوم أشهر رمضان التي أفطرها، ونسأل الله له ولجميع إخواننا المسلمين الصحة والعافية والتوفيق لما يحبه ويرضاه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان المنيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) سورة الحج الآية 78
(3) سورة البقرة الآية 286
(4) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الحج (1337) ، سنن الترمذي العلم (2679) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .(14/101)
فتوى برقم 1381 وتاريخ 18 \ 9 \ 1396 هـ
السؤال: -
أصبت بمرض الكلى وأجريت لي عمليتان ونصحني الأطباء بشرب الماء ليلا ونهارا، وقالوا إن الصيام والكف عن شرب الماء ثلاث ساعات متوالية يعرضني للخطر، هل أعمل بكلامهم أو أتوكل على الله وأصوم، مع أنهم يؤكدون بأن عندي استعدادا لتخلق الحصى، وإذا لم أصم فما الكفارة التي أدفعها؟
الجواب:
إذا كان الأمر كما ذكرت وكان هؤلاء الأطباء حذاقا بالطب، فالمشروع لك أن تفطر محافظة على صحتك ودفعا للضرر عن نفسك، ثم إن عوفيت وقويت على القضاء دون حرج وجب القضاء.
وإن استمر بك ما أصابك من المرض أو الاستعداد لتخلق الحصى عند عدم تتابع شرب الماء وقرر الأطباء أن ذلك لا يرجى برؤه، وجب عليك أن تطعم عن كل يوم أفطرته مسكينا. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان المنيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(14/102)
فتوى برقم 1182 وتاريخ 3 \ 2 1396 هـ
السؤال:
شخص يقول أنه ترك الصوم ثمانية أعوام منذ كان في التاسعة عشرة من عمره وذلك بسبب رعي الأغنام في الصحراء سيرا على الأقدام، ويقول إنه صام بعد ذلك شهرين وأنفق ستين كيلوا من الأرز، وذكر أن في نيته الصوم أربعة أشهر والإنفاق عن الأيام زيادة على الصيام ما الواجب في حقه؟
الجواب:
يجب عليك أن تصوم ما بقي عليك من الشهور التي تركت صيامها، وتطعم عن كل يوم تركت صيامه مسكينا نصف صاع من تمر وغيره من قوت البلد، وعليك التوبة والاستغفار عما أسلفته من التفريط في فطر الشهور التي ذكرتها فتندم على فعلك وتعزم على أن لا تعود لمثله وتعترف بذنبك، والله تعالى يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (1) ، وقد ذكر أهل التفسير أن المراد بهذه الآية التائبون - وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان المنيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الزمر الآية 53(14/103)
فتوى برقم 1205 وتاريخ 2 \ 3 \ 1396 هـ
السؤال:
شخص يذكر أنه حينما يكون بينه وبين زوجته ملاعبة أو تقبيل يجد في سرواله رطوبة من ذكره بعد انتشاره وارتخائه، ويسأل عن الآثار المترتبة على ذلك من حيث الطهارة وصحة الصوم من عدمه؟
الجواب:
لم يذكر السائل في سؤاله أنه يحس بالمني يخرج من أثر ملاعبة زوجته وإنما ذكر أنه يجد رطوبة في سرواله، فيظهر والله يعلم أن ما وجده مذي وليس منيا، والمذي نجس يتعين غسل البقعة المتصل بها من الثوب أو السروال، كما أنه ينتقض به الوضوء ويتعين غسل الذكر والأنتين منه لنجاسته، ثم الوضوء بعده لتحصل الطهارة ولا يفسد به الصوم على الصحيح من أقوال أهل العلم، ولا يجب به غسل أما إن كان الخارج منيا فيجب الغسل ويفسد الصوم به، وهو طاهر إلا أنه مستقذر ويشرع غسل البقعة التي يصيبها من الثوب أو السروال، وينبغي للصائم أن يحتاط لصومه بترك ما يثير شهوته من ملاعبة ونحوها، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان المنيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(14/104)
فتوى برقم 1206 وتاريخ 8 \ 3 \ 1396 هـ
السؤال:
رجل دخل عليه شهر رمضان ولم يستطع صيامه لمرضه ولم يصمه بعد شفائه، ثم دخل عليه الشهر المبارك في عام آخر وهو مصاب بمرض وتوفي في اليوم السادس عشر منه ولم يتمكن من الصيام، فماذا عليه؟ وهل وجبت الزكاة عنه في الشهر الأخير من حياته؟ وهل قراءة القرآن على روح الميت واجبة بعد موته؟
الجواب:
إذا كان الواقع كما ذكر السائل فبالنسبة لرمضان الأول إن كان هذا الشخص أخر صيامه حتى أدركه رمضان آخر وهو يستطيع الصيام خلال تلك المدة، فعليه إطعام مسكين عن كل يوم من أيام الشهر أفطره، وإن كان تأخيره قضاء الصيام حتى أدركه رمضان آخر؛ لأنه لا يستطيع الصيام في تلك المدة، فليس عليه شيء؛ لأن الصيام حق لله تعالى وجب بالشرع، ومات من يجب عليه قبل إمكان فعله فسقط إلى غير بدل كالحج، وأما بالنسبة لما تركه من صيام أيام من رمضان الثاني لعجزه عن الصيام بسبب المرض ومات في نهاية ستة عشر من نفس الشهر، فلا شيء عليه لما سبق من أنه حق لله مات من يجب عليه قبل إمكان فعله، فسقط إلى غير بدل، ولا تجب عليه زكاة الفطر لأنه لم ينعقد سبب وجوبها بالنسبة له، وأما بالنسبة للسؤال عن قراءة القرآن على روح الميت، فالجواب القراءة المشروعة هي ما كان قبل الموت وعند الاحتضار كقراءة يس أو الفاتحة أو تبارك أو غير ذلك من كتاب الله. أما حكم صرف ثواب قراءة القرآن(14/105)
للميت فلا نعلم دليلا يدل على مشروعيته، فالأولى تركه والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان المنيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(14/106)
فتوى برقم 1330 وتاريخ 9 \ 7 \ 96 هـ
السؤال:
رجل عيد عيد الفطر مع (مصر) وقد أفطرت (مصر) قبل بلده بيوم واحد بناء على ثبوت رؤية هلال شوال، هل يلزمه قضاء ذلك اليوم الذي أفطره؟ ويسأل عن الإبرة في الوريد هل يفطر الصائم إذا أخذ بها؟
الجواب:
بالنسبة لإفطار السائل في مصر لكون العيد ثبت لديهم برؤية هلال شوال، وكون السائل في مصر في ذلك الوقت لا يظهر أن في صنيعه بأسا، وليس عليه قضاء لأن حكمه حكم أهل البلد الذين ثبت لديهم دخول شهر شوال وهو عندهم.
وأما مسألة الإبرة في الوريد هل يفطر بتعاطيها الصائم، ففيها خلاف بين أهل العلم بعضهم يرى أن الصائم يفطر بتعاطيها؛ لأنها تتصل بعروق الدم، والبعض الآخر لا يرى ذلك لأنها لا تعتبر أكلا ولا شربا. والاحتياط لصحة الصوم وسلامته من أسباب الخلل تركها حتى(14/106)
الفطر وللخروج من خلاف أهل العلم في ذلك، فإن اضطر الصائم إلى أخذها نهارا فلا يظهر لنا بأس في ذلك وصيامه صحيح. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان المنيع ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(14/107)
فتوى برقم 1383 وتاريخ 18 \ 9 \ 1396 هـ
السؤال:
شخص يقول أن والده توفي بعد شهر رمضان وقد صام نصفه، ثم زاد عليه المرض فاضطر إلى فطر الباقي منه، ثم توفي بعد انتهاء الشهر ويسأل هل عليه كفارة لقضاء ما تركه من الشهر أم لا؟
الجواب:
إذا كان الأمر كما جاء في السؤال من أنه ترك ما تركه من الشهر دون صيام لمرضه الذي أعجزه عن الصوم، وأنه مات بعد خروج الشهر بمعنى أنه لم يمض عليه بعد خروج الشهر وقت كان فيه قادرا على الصوم. إذا كان الأمر كذلك فلا كفارة عليه ويسقط عنه ما عجز عن صومه من الشهر بسبب مرضه لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «وإذا أمرتكم بشيء فأتوا
__________
(1) سورة البقرة الآية 286(14/107)
منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه (1) » ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان المنيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الحج (1337) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .(14/108)
فتوى برقم 1447 وتاريخ 25 \ 1 \ 1397 هـ
السؤال:
أصبت بمرض خطير في العشر الأواخر من رمضان واضطرتني ظروف المرض أن أفطر أربعة أيام من ذلك الشهر، ونحن نستقبل رمضان جديدا ولم أتمكن من قضاء الأيام التي أفطرتها من رمضان الماضي، وليس عندي استطاعة في صيام الشهر المقبل لما أعانيه من شدة المرض، وليس عندي يقين في شفائي من المرض فيما بعد، فهل يلزمني قيمة الإطعام بالنقود؟ وهل أكرر الإنفاق على المساكين المعينين بالقرية؟
الجواب:
إذا كان الأمر كما ذكرت فعليك أن تصبر حتى يشفيك الله من هذا المرض ثم تقضي ما فاتك من الأيام التي أفطرتها من شهور رمضان التي تدركها، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 185(14/108)
وكذلك كونك تظن في نفسك أنك لن تشفى فهذا لا يصح أن يبنى عليه الحكم بأنك تطعم عن الأيام الماضية ويسقط عنك القضاء، وعليك حسن الظن بالله ورجاء الشفاء مع الاستعداد للآخرة شفاك الله من كل سوء وأعانك على أداء الواجب، ومتى قرر الأطباء أن هذا المرض الذي تشكو منه ولا تستطيع معه الصوم لا يرجى قضاؤه، فإن عليك أن تطعم عن كل يوم مسكينا نصف صاع من قوت البلد من تمر أو غيره عن الشهور الماضية والمستقبلة، وإذا عشيت مسكينا وغديته بعدد الأيام التي عليك كفى ذلك، أما النقود فلا يجزئ إخراجها وبالله التوفيق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(14/109)
فتوى برقم 1453 وتاريخ 25 \ 1 \ 1397 هـ
السؤال:
الحامل أو المرضع إذا خافت على نفسها أو على الولد في شهر رمضان وأفطرت، فماذا عليها؟ هل تفطر وتطعم وتقضي أو تفطر وتقضي(14/109)
ولا تطعم أو تفطر وتطعم ولا تقضي ما الصواب من هذه الثلاثة؟ الجواب:
إن خافت الحامل على نفسها أو جنينها من صوم رمضان أفطرت وعليها القضاء فقط، شأنها في ذلك شأن الذي لا يقوى على الصوم أو يخشى منه على نفسه مضرة، قال الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) .
وكذا المرضع إذا خافت على نفسها إن أرضعت ولدها في رمضان، أو خافت على ولدها إن صامت ولم ترضعه، أفطرت وعليها القضاء فقط. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 185(14/110)
فتوى برقم 1454 وتاريخ 25 \ 1 \ 1397 هـ
السؤال:
شخص صام شهر رمضان في فرنسا بناء على سماعه رؤية الهلال في إذاعة القاهرة، وكان الشهر تسعة وعشرين يوما، وبعد رجوعه إلى بلده وجدهم صاموا ثلاثين يوما، فهل يكفيه صيامه تسعة وعشرين يوما أم عليه أن يزيد يوما أم عليه كفارة؟
الجواب:
صيامه في فرنسا تسعة وعشرين يوما بناء على سماعه ثبوت هلال رمضان، وثبوت هلال شوال من إذاعة القاهرة يكفيه وليس عليه كفارة(14/110)
ولا زيادة يوم تكملة للثلاثين، وإن كان رمضان في بلده تلك السنة ثلاثون يوما، وإنما يلزم صيام رمضان ثلاثين يوما من كان مقيما في بلده تلك السنة، أما هو فقد صام بناء على ثبوت رؤية يعتبر ثوبتها لمثله. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(14/111)
فتوى برقم 1455 وتاريخ 25 \ 1 \ 1397 هـ
السؤال:
أنا رجل أفطرت يوما من رمضان وأنا مسافر وجاء رمضان الذي يليه ورمضان آخر ولم أذكر ذلك اليوم إلا فيما بعد فماذا علي؟
الجواب:
عليك أن تقضي هذا اليوم لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) وتكفر بنصف صاع تدفعه لمسكين، ويكون هذا التكفير عن تأخيرك صيام هذا اليوم حتى أدركك رمضان آخر وأنت مستطيع للصيام.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 185(14/111)
فتوى برقم 1467 وتاريخ 25 \ 1 \ 1397 هـ
السؤال: - إذا منع الطبيب مريضا عن الصيام وهو قادر عليه هل يصوم أم لا؟
الجواب: -
إذا كان الطبيب ثقة يعتمد على كلامه إذا قال للمريض لا تصم، فهو لم يقل ذلك إلا من أجل مصلحة المريض فيكون فطر المريض من باب الرخصة، وإذا شفاه الله من المرض فإنه يصوم، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) ، وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان المنيع ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 185(14/112)
فتوى برقم 1502 وتاريخ 11 \ 3 \ 1397 هـ
السؤال: -
نمت في رمضان واستيقظت بعد صلاة الفجر ونسيت الصيام فجامعت زوجتي، فما يلزمني وما يلزم زوجتي علما بأنها تجهل حكم(14/112)
الجماع في نهار رمضان للصائم، وقد ذكرتني بالصيام بعد الجماع؟
الجواب: - إذا كان الواقع كما ذكرت من جماعك لزوجتك ناسيا الصيام، فليس عليك قضاء ولا كفارة لأنك معذور بالنسيان، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه (1) » . والجماع في معنى ذلك. وأما المرأة فالأحوط في حقها القضاء والكفارة، لأن الظاهر مما ذكرت عنها أن لديها علما ولكنها تساهلت، نسأل الله أن يعفو عن الجميع، والكفارة في الصوم إعتاق رقبة مؤمنة، ومن لم يجد صام شهرين متتابعين فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينا ثلاثين صاعا من بر أو تمر أو أرز أو نحو ذلك مما يطعمه أهله لكل مسكين نصف صاع، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) رواه البخاري ومسلم في كتاب الصوم واللفظ لمسلم.(14/113)
فتوى برقم 1514 وتاريخ 19 \ 3 \ 1397 هـ
السؤال: - أصيبت امرأة بمرض نفساني واضطراب أعصاب تركت على إثره الصوم أربع سنوات تقريبا، فهل تقضي الصوم أم لا وما الحكم في ذلك؟(14/113)
الجواب: - إذا كانت تركت الصوم لعدم قدرتها عليه وجب عليها قضاء ما أفطرته من رمضان في السنوات الأربع عند قدرتها على ذلك. قال الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1) .
وإن كان مرضها وعجزها عن الصوم لا يرجى زواله حسب تقرير الأطباء أطعمت عن كل يوم أفطرته مسكينا نصف صاع من بر أو أرز أو تمر أو نحو ذلك مما يأكله أهلها في بيوتهم، كالشيخ الكبير والعجوز اللذين يجهدهما الصوم ويشق عليهما مشقة شديدة، وليس عليها قضاء. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 185(14/114)
فتوى برقم 1527 في 16 \ 4 \ 1397 هـ
السؤال: - مريضة اشتد عليها المرض وجاء رمضان وهي لا تقدر على الصوم، وجاء شهر رمضان الآخر ولم تستطع الصيام، ثم جاء شهر رمضان الثالث وكانت صحتها أحسن من قبل فصامت، فهل يلزمها صيام الشهرين أو(14/114)
الصدقة عنهما. علما بأنها كانت تصوم في كل شهر من أشهر السنة ثلاثة أيام؟
الجواب: - الواجب عليها قضاء صيام الشهرين المذكورين لعموم قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) وما ذكرته السائلة من صيام ثلاثة أيام من كل شهر، فإن كانت نيتها فيه القضاء عما تركته من صيام الشهرين فهذه النية صحيحة وعليها أن تأتي بما بقي من الشهرين، وإن كانت نيتها فيه التطوع فإنه لا يسقط به الفرض وعليها أن تصوم شهرين كاملين، وليس عليها إطعام مع الصيام لأنها معذورة في التأخير بسبب المرض.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 185(14/115)
فتوى برقم 1531 في 16 \ 5 \ 1397 هـ
السؤال: - إذا كان يطلب من الطيارين الطيران أثناء النهار خلال شهر رمضان المبارك، وتعاليم الطيران تنص على عدم قيام الطيار بأي رحلة جوية وهو صائم، فهل يجوز أن يفطر الطيار عندما يطلب منه أن يقوم بالطيران أثناء النهار خلال شهر رمضان المبارك أو لا؟(14/115)
الجواب: - إذا قام الطيار برحلة جوية وكانت المسافة سفرا تقصر في مثله الصلاة، جاز له الفطر في نهار رمضان بعد أن يجاوز حدود البلد الذي قام من مطاره، وله أن يترخص بجميع الرخص التي شرعت للمسافر من المسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليها، والجمع بين الصلاتين، وقصر الصلاة الرباعية ما دام في رحلته ولو حين نزوله بمطار في غير بلده إلى أن يعود إلى بلده ولو في نفس اليوم.
أما إن كان طيرانه في جو بلده يحلق فوقه ويدور عليه وعلى ضواحيه بالطيارة للتدريب أو لرش أبخرة ومطهرات ونحو ذلك، فهذا ليس بمسافر فلا يرخص له في الفطر في رمضان، ولا يجوز له أن يقصر الصلاة ولا أن يجمع بين الصلاتين ونحو ذلك.
ولو كانت مسافة تحليقه لو مدت على استقامة لساوت مسافة تقصر فيها الصلاة وتبيح الفطر في رمضان، ومثله في ذلك مثل قائد سيارة يمشي بها في شوارع بلده طول يومه وليلته في أنه لا يجوز لكل منها أن يترخص برخص السفر.
وفي الإمكان الخروج من الحرج والمشقة من ذلك بإجراء التدريب في شهر رمضان أثناء الليل، وفي بقية الشهور أثناء النهار.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(14/116)
فتوى برقم 1240 في 26 \ 4 \ 1396 هـ
السؤال: - يوجد دواء مع المرضى بمرض الربو يأخذونه بطريقة الاستنشاق فهل يفطرون باستعماله أم لا؟
الجواب: - دواء الربو الذي يستعمله المريض استنشاقا يصل إلى الرئتين عن طريق القصبة الهوائية لا إلى المعدة. فليس أكلا ولا شربا ولا شبيها بهما، وإنما هو شبيه بما يقطر في الإحليل وما تداوى به المؤمومة والجائفة وبالكحل والحقنة الشرجية ونحوها من كل ما يصل إلى الدماغ أو البدن من غير الفم أو الأنف، وهذه الأمور مما اختلف العلماء في تفطير الصائم باستعمالها، فمنهم من لم يفطر الصائم باستعمال شيء منها، ومنهم من فطر باستعمال بعض دون بعض، مع اتفاقهم جميعا على أنه لا يسمى استعمال شيء فيها أكلا ولا شربا، لكن من فطر باستعمالها أو باستعمال شيء منها جعله في حكمها بجامع أن كلا من ذلك يصل إلى الجوف باختيار.
ولما ثبت من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما (1) » . فاستثنى الصائم من ذلك مخافة أن يصل الماء إلى حلقه أو معدته بالمبالغة في الاستنشاق فيفسد الصوم، فدل على أن كل ما وصل إلى الجوف اختيارا يفطر الصائم.
ومن لم يحكم بفساد الصوم بذلك كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ومن وافقه لم ير قياس هذه الأمور على الأكل والشرب صحيحا فإنه
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (788) ، سنن النسائي الطهارة (87) ، سنن أبو داود الطهارة (142) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (407) ، مسند أحمد بن حنبل (4/211) .(14/117)
ليس في الأدلة ما يقتضي أن المفطر هو كل ما كان واصلا إلى الدماغ أو البدن، أو ما كان داخلا من منفذ أو واصلا إلى الجوف، وحيث لم يقم دليل شرعي على جعل وصف من هذه الأوصاف مناطا للحكم بفطر الصائم، صلح تعليق الحكم به شرعا، وجعل ذلك في معنى ما يصل إلى الحلق أو المعدة من الماء بسبب المبالغة في استنشاقه غير صحيح أيضا لوجود الفارق فإن الماء يغذي، فإن وصل إلى الحلق أو المعدة أفسد الصوم، سواء كان بمجرد المضمضة أو الاستنشاق دون المبالغة ولم ينه عن ذلك، فكون الفم طريقا وصف طردي لا تأثير له، فإذا وصل الماء ونحوه من الأنف كان له حكم وصوله من الفم، ثم هو يستعمل طريقا للتغذية في بعض الأحيان، فكان هو والفم سواء، والذي يظهر عدم الفطر باستعمال هذا الدواء استنشاقا لما تقدم من أنه ليس في حكم الأكل والشرب بوجه من الوجوه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان المنيع ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(14/118)
فتوى برقم 1549 وتاريخ 23 \ 5 \ 97 هـ
السؤال: - أنا رجل أفطرت شهر رمضان لسنتين متواليتين إثر مرض أصابني اتضح أنه شلل نصفي، وأريد أن أقضي ولا يوجد في قريتي فقراء، وأريد(14/118)
أن أذبح رأسا من الضأن وأوزعها ثلاثين جزءا مع كيلو أو كيلو ونصف من الأرز، فهل يجزئني هذا؟ وهل أطعم إخواني وأرحامي من هذه الصدقة؟
الجواب: - الأصل أن عليك القضاء إذا شفيت وقويت على الصيام لقول الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) أما إذا استمر معك هذا المرض وأصبحت بوجوده لا تقوى على الصيام، وقرر طبيب مختص موثوق به أن هذا المرض لا يرجى برؤه، فأطعم عن كل يوم أفطرته مسكينا بأن تعطيه نصف صاع من بر أو تمر أو أرز أو نحو ذلك من قوت البلد، ولا يجزئ عن ذلك أن تذبح رأسا من الغنم وتوزعه على المساكين ولا على أقاربك وأرحامك شفاك الله وعافاك، والله الموفق وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 185(14/119)
فتوى برقم 1575 في 17 \ 6 \ 1397 هـ
السؤال: - رجل أفطر يومين من رمضان ووصل رمضان آخر ولم يقضهما، وأفطر في رمضان الآخر ثلاثة أيام، وقضى الخمسة متوالية في محرم من السنة التالية فهل يحتاج إلى دفع دية؟(14/119)
ويقول بأن والده توفي فأخذت والدته تصلي بعد صلاتها ركعتين كل وقت لأبيه، فقال لها بعض الناس صلي يوم الجمعة فأخذت تصلي كل جمعة ركعتين بعد فرضها فهل ذلك جائز أم لا؟
الجواب: - إذا كان إفطاره لعذر فلا شيء عليه إلا القضاء الذي قام به لقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) وإن كان الإفطار لغير عذر فعليه مع القضاء الذي قام به التوبة؛ لأن الإفطار في رمضان لا يجوز إلا لعذر، ولا كفارة عليه عن الأيام الثلاثة التي أفطرها من رمضان الأخير، أما اليومان اللذان أفطرهما من رمضان الأول فعليه مع القضاء إطعام مسكين عن كل يوم إن كان أخرهما إلى رمضان الذي يليه من دون عذر شرعي، ومقدار الإطعام لكل مسكين نصف صاع من قوت البلد هذا إن كان إفطاره بغير الجماع.
أما إن كان بالجماع فعليه مع القضاء عن كل يوم أفطره بالجماع كفارة، وهي عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن عجز فإطعام ستين مسكينا.
أما ما تقوم به أمه من صلاة ركعتين لأبيه بعد كل صلاة جمعة فلا يجوز؛ لأن الله لم يشرع ذلك بل هو بدعة، وإنما شرع لها الدعاء له والصدقة عنه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 185(14/120)
فتوى برقم 1615 وتاريخ 11 \ 7 \ 1397 هـ
السؤال: - ما حكم المسلم الذي أصبح مزمنا وذا فاقة ليس في إمكانه الصوم ولا في قدرته الإطعام كيف يقضي صيامه؟
الجواب: - إذا أفطر المكلف في أيام رمضان لعذر شرعي من سفر ومرض فعليه القضاء فمتى قدر على الصيام لزمه القضاء لما فات لعموم قوله سبحانه {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) .
السؤال الثاني: - ما حكم المسلم الذي مضى عليه أشهر من رمضان خلال سنوات عديدة بدون صيام مع إقامة بقية الفرائض وهو مغترب عن بلده وبدون عائق عن الصوم أيلزمه القضاء إن تاب أو عاد لبلاده؟
الجواب:
صيام رمضان ركن من أركان الإسلام وترك المكلف عمدا للصيام من أعظم الكبائر وقد ذهب بعض أهل العلم إلى كفره وردته بذلك، وعليه التوبة النصوح والإكثار من الأعمال الصالحة من النوافل، وعليه أن يحافظ على شرائع الدين من صلاة وصيام وحج وزكاة وغير ذلك، وليس عليه قضاء في أصح قولي العلماء لأن جريمته أكبر من أن يجبرها القضاء، وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 185(14/121)
فتوى برقم 1657 في 29 \ 8 \ 1397هـ
السؤال: - الطلبة المسلمون في الولايات المتحدة وكندا يصادفهم في كل بداية لشهر رمضان مشكلة تتسبب في انقسام المسلمين إلى ثلاث فرق هي: -
ا- فرقة تصوم بتحري الهلال في البلدة التي يسكنون فيها.
2 - فرقة تصوم مع بداية الصيام في المملكة العربية السعودية.
3 - فرقة تصوم عند وصول خبر من اتحاد الطلبة المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا الذي يتحرى الهلال في أماكن متعددة في أمريكا، وفور رؤيته في إحدى البلاد يعمم على المراكز المختلفة فيصوم مسلمو أمريكا كلهم في يوم واحد على الرغم من المسافات الشاسعة التي بين المدن المختلفة.
فأي الفرق أولى بالاتباع والصيام برؤيتها وخبرها؟
الجواب: -
ويتكون من ثلاث نقاط هي: -
1 - اختلاف مطالع الأهلة من الأمور التي علمت بالضرورة حسا وعقلا ولم يختلف فيها أحد من العلماء، وإنما وقع الاختلاف بين علماء المسلمين في اعتبار اختلاف المطالع وعدم اعتباره.
2 - مسألة اعتبار اختلاف المطالع وعدم اعتباره من المسائل النظرية التي للاجتهاد فيها مجال والاختلاف فيها واقع ممن لهم الشأن في العلم والدين، وهو من الخلاف السائغ الذي يؤجر فيه المصيب أجرين أجر الاجتهاد وأجر الإصابة. ويؤجر فيه المخطئ أجر الاجتهاد.(14/122)
وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين: فمنهم من رأى اعتبار اختلاف المطالع، ومنهم من لم ير اعتباره، واستدل كل فريق منهما بأدلة من الكتاب والسنة وربما استدل الفريقان بالنص الواحد، كاشتراكهما في الاستدلال بقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (1) ، وبقوله صلى الله عليه وسلم «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته (2) » . . . الحديث.
وذلك لاختلاف الفهم في النص وسلوك كل منهما طريقا في الاستدلال به.
ونظرا لاعتبارات رأتها الهيئة وقدرتها، ونظرا إلى أن الاختلاف في هذه المسألة ليست له آثار تخشى عواقبها، فقد مضى على ظهور هذا الدين أربعة عشر قرنا، لا تعلم فيها فترة جرى فيها توحيد الأمة الإسلامية على رؤية واحدة، فإن أعضاء مجلس هيئة كبار العلماء يرون بقاء الأمر على ما كان عليه وعدم إثارة هذا الموضوع، وأن يكون لكل دولة إسلامية حق اختيار ما تراه بواسطة علمائها من الرأيين المشار إليهما في المسألة. إذا لكل منهما أدلته ومستنداته.
3 - نظر مجلس الهيئة في مسألة ثبوت الأهلة بالحساب وما ورد في ذلك من أدلة في الكتاب والسنة، واطلعوا على كلام أهل العلم في ذلك فقرروا بإجماع عدم اعتبار حساب النجوم في ثبوت الأهلة في المسائل الشرعية لقوله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته (3) » الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه (4) » الحديث. . . وما في معنى ذلك
__________
(1) سورة البقرة الآية 189
(2) صحيح البخاري الصوم (1909) ، صحيح مسلم الصيام (1081) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2117) ، مسند أحمد بن حنبل (2/497) ، سنن الدارمي الصوم (1685) .
(3) صحيح البخاري الصوم (1909) ، صحيح مسلم الصيام (1081) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2117) ، مسند أحمد بن حنبل (2/497) ، سنن الدارمي الصوم (1685) .
(4) صحيح البخاري الصوم (1906) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2121) ، سنن أبو داود الصوم (2320) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .(14/123)
من الأدلة.
وترى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء أن اتحاد الطلبة المسلمين في الدول التي حكوماتها غير إسلامية، يقوم مقام حكومة إسلامية في مسألة إثبات الهلال بالنسبة لمن يعيش في تلك الدول من المسلمين.
وبناء على ما جاء في الفقرة الثانية من قرار مجلس الهيئة يكون لهذا الاتحاد حق اختيار أحد القولين: إما اعتبار اختلاف المطالع، وإما عدم اعتبار ذلك، ثم يعمم ما رآه على المسلمين في الدولة التي هو فيها وعليهم أن يلتزموا بما رآه وعممه عليهم توحيدا للكلمة، ولبدء الصيام وخروجا من الخلاف والاضطراب، وعلى كل من يعيش في تلك الدول أن يتحروا الهلال في البلاد التي يقيمون فيها فإذا رآه ثقة منهم أو أكثر صاموا بذلك وبلغوا الاتحاد ليعمم ذلك وهذا في دخول الشهر.
أما في خروجه فلا بد من شهادة عدلين برؤية هلال شوال أو إكمال رمضان ثلاثين يوما لقوله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يوما (1) » .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (688) ، سنن النسائي الصيام (2124) ، سنن أبو داود الصوم (2327) ، موطأ مالك الصيام (635) ، سنن الدارمي الصوم (1686) .(14/124)
فتوى برقم 1402 وتاريخ 20 \ 10 \ 1396 هـ
السؤال: - شخص سافر عصر أحد أيام رمضان بالطائرة وبعد فترة من طيران الطائرة أعلن مضيفها أنه حان وقت الإفطار بالنسبة لتوقيت المدينة التي أقلعت منها الطائرة ولا تزال الشمس في السماء مرئية لجميع ركاب الطائرة، ويسأل عن حكم صوم من أفطر والحال ما ذكر؟
الجواب: - أجمع أهل العلم قاطبة على أن الصوم من طلوع الفجر حتى غروب الشمس لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (1) ، ولما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم (2) » ، وعلى أن لكل صائم حكم المكان الذي هو فيه، سواء كان على سطح الأرض أم كان على طائرة في الجو، وعليه فمن أفطر وهو في الطائرة بتوقيت بلد ما وهو يعلم أن الشمس لم تغرب، فصيامه فاسد لأنه أفطر قبل غروب الشمس بالنسبة له، وعليه قضاء ذلك اليوم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان المنيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 187
(2) رواه البخاري ومسلم في الصيام واللفظ للبخاري.(14/125)
فتوى برقم 1442 وتاريخ 25 \ 11 \ 1397 هـ
السؤال: - شخص يقول أنه في بعض جهات الدول الإسكندنافية يكون النهار فيها أطول من الليل على مدار السنة؛ حيث يكون الليل ثلاث ساعات فقط في حين يكون النهار واحدا وعشرين ساعة، وذكر أنه إذا صادف أن قدم شهر رمضان في فصل الشتاء، فإن المسلمين فيه يصومون ثلاث ساعات فقط، وأما إذا كان شهر رمضان في فصل الصيف فإنهم يتركون الصوم لعدم قدرتهم عليه، ويطلب إصدار فتوى تحدد مواعيد الإفطار والسحور بها؟
الجواب: - شريعة الإسلام كاملة وشاملة قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) ، وقال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (2) الآية، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (3) ، وقد خاطب الله المؤمنين بفرض الصيام فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (4) وبين ابتداء الصيام وانتهائه فقال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (5)
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة الأنعام الآية 19
(3) سورة سبأ الآية 28
(4) سورة البقرة الآية 183
(5) سورة البقرة الآية 187(14/126)
ولم يخصص هذا الحكم ببلد ولا بنوع من الناس، بل شرعه شرعا عاما وهؤلاء المسئول عنهم داخلون في هذا العموم، والله جل وعلا لطيف بعباده شرع لهم من طرق اليسر والسهولة ما يساعدهم على فعل ما وجب عليهم فشرع للمسافر والمريض - مثلا - الفطر في رمضان لدفع المشقة عنهما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1) الآية، فمن شهد شهر رمضان من المكلفين وجب عليه أن يصومه سواء طال النهار أو قصر، فإن عجز عن إتمام صيام يوم وخاف على نفسه الموت والمرض جاز له أن يفطر بما يسد رمقه ويدفع عنه الضرر ثم يمسك بقية يومه، وعليه قضاء ما أفطره في أيام أخر يتمكن فيها من الصيام وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 185(14/127)
فتوى برقم 1942 وتاريخ 24 \ 5 \ 1398 هـ
السؤال: - والدي عمره حوالي مائة سنة ومن الكبر لا يفارق فراشه وقد ترك الصلاة والصيام هل عليه كفارة أو لا علما أنه لا يتقن الصلاة؟
الجواب: - ما دام والدك بالحالة التي ذكرت من الكبر لا يتقن الصلاة، فلا كفارة عليه في ترك الصيام والصلاة لأنه لم يعد محلا للتكليف ولا مطالبا بالواجبات الشرعية. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(14/128)
فتوى برقم 1954 في 6 \ 6 \ 1398 هـ
السؤال: - مسافر أفطر في سفره أيمسك عندما يصل إلى محل إقامته أم ليس عليه حرج في الأكل، وما الدليل؟
الجواب: - الفطر في السفر رخصة جعلها الله توسعة لعباده فإذا زال سبب الرخصة زالت الرخصة معه، فإذا وصل إلى بلده من سفره نهارا وجب(14/128)
عليه أن يمسك لدخوله في عموم قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (1) الآية.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 185(14/129)
فتوى برقم 2014 في 8 \ 7 \ 1398 هـ
السؤال: - شخص يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وفي أحد الأشهر أصابه مرض فلم يصمها فهل عليه قضاء أو كفارة؟
الجواب: - صوم النافلة لا يقضى ولو ترك اختيارا إلا أن الأولى بالمسلم المداومة على ما كان يعمله من عمل صالح لحديث «أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل (1) » . فلا قضاء عليه في ذلك ولا كفارة علما أن ما تركه الإنسان من عمل صالح كان يعمله لمرض أو عجز أو سفر ونحو ذلك يكتب له أجره لحديث «إذا مرض ابن آدم أو سافر كتب له ما كان يعمله صحيحا مقيما (2) » .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (782) ، سنن أبو داود الصلاة (1368) ، سنن ابن ماجه الزهد (4238) ، مسند أحمد بن حنبل (6/241) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2996) ، سنن أبو داود الجنائز (3091) ، مسند أحمد بن حنبل (4/418) .(14/129)
فتوى برقم 2031 في 26 \ 7 \ 1398 هـ
السؤال: - ما هي الطريقة التي يثبت بها كل شهر قمري؟
الجواب: -
دلت الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الهلال متى رآه ثقة بعد غروب الشمس في ليلة الثلاثين من شعبان أو ثقتان ليلة الثلاثين من رمضان، فإن الرؤية تكون معتبرة ويعرف بها أول الشهر من غير الحاجة إلى اعتبار المدة التي يمكثها القمر بعد غروب الشمس، سواء كانت عشرين دقيقة أم أقل أو أكثر؛ لأنه ليس هناك في الأحاديث الصحيحة ما يدل على التحديد بدقائق معينة لغروب القمر بعد غروب الشمس.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(14/130)
لقاء الجزيرة مع سماحة الشيخ في موسم حج عام 1405هـ
السؤال الأول:
خادم الحرمين الشريفين جلالة الملك فهد بن عبد العزيز أيده الله يولي المشاعر المقدسة جل اهتمامه ورعايته ما هو تعليق سماحتكم على هذه الجهود الكبيرة لخدمة المسلمين؟
الجواب:
لا شك أنها جهود مباركة وعظيمة يشكرها لجلالته كل مسلم سليم القلب، فجزاه الله خيرا وضاعف مثوبته ووفقه للمزيد من كل خير ونصر به الحق.(14/131)
السؤال الثاني:
الحج هذا التجمع الإسلامي ما هي الكلمة التي يوجهها سماحتكم لإخوانه المسلمين وهم في رحاب مكة هذه الأيام؟
الجواب:
كلمتي التي أوجهها لإخواني المسلمين في هذا المؤتمر العظيم هي الوصية بتقوى الله سبحانه وتعالى والإكثار من ذكره وطاعته وسؤاله(14/131)
العون والتوفيق مع التواصي والتعاون على البر والتقوى وبذل المستطاع في أداء مناسكهم على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى ويقربهم منه.
كما أوصيهم بشكر الله سبحانه وتعالى على جميع نعمه قولا وعملا، ومن ذلك أن سهل لهم سبحانه الوصول إلى هذا البلد الأمين لأداء ما شرع الله لهم من المناسك تقبل الله منهم ومنحهم الفقه في الدين.(14/132)
السؤال الثالث:
الحلقات الدينية التي يقدمها التلفزيون كيف يمكن أن تساهم في تفقه الشباب المسلم وماذا يجب التركيز عليه؟
الجواب:
لا شك أن الحلقات الدينية التي تقدم من التلفاز والإذاعة بواسطة أهل العلم والبصيرة فائدتها عظيمة وعاقبتها حميدة والفائدة منها مشتركة بين الرجال والنساء والشيب والشباب، وأهمها ما يتعلق بإيضاح العقيدة الصحيحة وبيان ما درج عليه سلف الأمة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم وأتباعه بإحسان مع بيان أدلة ذلك من الكتاب والسنة، ثم ما يتعلق بأحكام الإسلام كالصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر أحكام الشريعة، ثم بيان الأخلاق الكريمة والآداب الإسلامية التي جاء بها الكتاب والتحذير من كل ما حرم الله ورسوله من أقوال وأعمال بأسلوب واضح وأدلة صحيحة وترغيب في الخير وترهيب من الشر؛ عملا بقوله تعالى {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) وقول الله عز وجل {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2)
__________
(1) سورة فصلت الآية 33
(2) سورة النحل الآية 125(14/132)
«وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه لما بعثه إلى خيبر يدعو اليهود إلى الإسلام فوالله لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (1) » متفق على صحته. وقوله عليه الصلاة والسلام «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (2) » خرجه مسلم في صحيحه.
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2942) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .
(2) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .(14/133)
السؤال الرابع:
لرابطة العالم الإسلامي جهود كبيرة لخدمة الإسلام والمسلمين في بقاع العالم كيف يرى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز هذه الجهود؟
الجواب:
لا شك أن هناك جهودا مباركة لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة منتشرة في أنحاء المعمورة تشكر عليها ونسأل الله أن يزيدها من التوفيق وأن يعينها على كل ما فيه صلاح العباد والبلاد، والفضل في ذلك لله سبحانه ثم لجلالة الملك أيده الله في دعمها وتشجيعها وإعانتها على مشاريعها الخيرية ثم للقائمين على الرابطة، وعلى رأسهم الأخ الفاضل معالي الأمين العام للرابطة الدكتور \ عبد الله نصيف والعاملين معه، نسأل الله لنا ولهم جميعا المزيد من التوفيق والنشاط في صالح الإسلام والمسلمين، إنه خير مسئول.
السؤال الخامس:
ما هي أهم المشكلات التي تواجه الإنسان المسلم في العالم اليوم؟
الجواب:
أهم المشكلات فيما أعتقد قلة وجود علماء السنة في بلاد الإنسان(14/133)
المسلم يوضحون له العقيدة الصحيحة ويرشدونه إلى أسباب النجاة ويحذرونه من أسباب الهلاك على ضوء الأدلة الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك من أعظم المشكلات التي تواجه المسلم قلة الأخيار الذين يطمئن إليهم ويتأسى بأخلاقهم الفاضلة وسيرتهم الحميدة، ويعينونه على طاعة الله، وينبغي لكل مؤمن أن يحرص على سؤال أهل العلم المعروفين بالعقيدة الصحيحة والسيرة الحميدة ويلزمهم حتى يتفقه في دينه ويحرص على صحبة الأخيار ويحذر صحبة الأشرار حتى يلقى الله سبحانه وتعالى وهو ثابت على ذلك.
السؤال السادس:
ما هي نصيحة سماحتكم للشباب والشابات في المملكة؟
الجواب:
نصيحتي لهم جميعا في المملكة وغيرها أن يتقوا الله وأن يستقيموا على دينه. وأن يتفقهوا في الدين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » . وأن يحذروا ما حرم الله عليهم من القول والعمل، وأن يبادروا بالزواج إذا تيسرت أسبابه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء (2) » . كما أوصي الجميع بالمحافظة على الصلوات في أوقاتها والعناية بها فهي عمود الإسلام وأول شيء يحاسب عنه الإنسان من العمل (فمن
__________
(1) رواه البخاري في كتاب العلم باب رقم 13.
(2) رواه البخاري في النكاح باب قول النبي صلى الله عليه وسلم من استطاع منكم الباءة فليتزوج البخاري بحاشية السدي ج3 ص 238 ورواه مسلم في النكاح باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه مسلم بشرح النووي ج9 ص 172.(14/134)
حفظها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع) . وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (1) » ، كما أنصحهم بالتأدب بآداب الإسلام والتخلق بأخلاقه في القول والعمل وأن يتمسكوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وهدي سلف الأمة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان وأن يكونوا بارين بوالديهم واصلين لأرحامهم مطيعين لولاة أمرهم في المعروف. نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق.
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .(14/135)
السؤال السابع:
ما تعليق سماحتكم على ظاهرة المخدرات التي بدأت تنتشر في المجتمعات الإسلامية، وكيف يستطيع المواطن المشاركة في محاربة هذه الظاهرة؟
الجواب:
المخدرات داء عضال وشرها عظيم وعواقبها وخيمة وقد بذلت الحكومة وفقها الله في محاربتها جهودا كبيرة، وبذلت المحاكم في ذلك ما يلزم شرعا من العقوبات الرادعة والواجب على أفراد الشعب التعاون مع الدولة ومع المحاكم في محاربة جميع المخدرات بالنصيحة والتوجيه الإسلامي والتحذير بالقول والعمل، وأن يبدأ كل واحد بنفسه فيحاربها قولا وعملا بصدق وإخلاص، وأن ينصح إخوانه في ذلك ويبين لهم أضرارها العظيمة وعواقبها السيئة؛ عملا بقول الله سبحانه وتعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) وقوله
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(14/135)
عز وجل {وَالْعَصْرِ} (1) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (2) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3) ونسأل الله لنا ولجميع المسلمين الهداية والتوفيق والعافية من كل ما يغضبه سبحانه.
__________
(1) سورة العصر الآية 1
(2) سورة العصر الآية 2
(3) سورة العصر الآية 3(14/136)
السؤال الثامن:
بالنسبة للأضحية يكثر بعض الناس من الأضاحي بحيث يضحي عن أمه بواحدة وعن أبيه بواحدة وفي هذا إسراف وإخلال باقتصاد الأسرة ما رأي سماحتكم في هذا؟
الجواب:
السنة أن يضحي الرجل بواحدة عنه وعن أهل بيته كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بواحدة عنه وعن أهل بيته، والسنة أن يأكل منها ويتصدق ويهدي إلى أقاربه وجيرانه حسب ما يرى، وإن ضحى بأكثر من ذلك فلا حرج في ذلك إذا كانت تؤكل ويتصدق منها ولا تضيع لحومها لأن ذلك عمل صالح، والأعمال الصالحة الواقعة على الوجه الشرعي لا يقال فيها: إن فيها إسرافا، ولو تصدق الإنسان بأكثر ماله في وجوه الخير، لم يكن مسرفا ولا مبذرا، والله ولي التوفيق.(14/136)
السؤال التاسع:
ما هي صفات الأضحية شرعا؟
الجواب:
الأضحية الشرعية لا بد أن تكون سليمة من العيوب كالمرض والعمى والعرج البين والهزل، وأن تكون ثنية وهي ما تم له خمس سنين من الإبل أو سنتان من البقر أو سنة واحدة من المعز. أما الضأن(14/136)
فيجزئ منه الجذع وهو ما تم له ستة أشهر فأكثر. ومن العيوب المانعة أن يكون الحيوان قد ذهب أكثر قرنه أو أذنه، فإذا كان الحيوان سليما من كل نقص كان أكمل. والبدنة تجزئ عن سبعة وهكذا البقرة أما الغنم فلا يجزئ الواحد إلا عن واحد فقط، كما يجوز للمسلم أن يضحي بشاة واحدة عنه وعن أهل بيته وإن كثروا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم «ضحى عنه وعن أهل بيته بكبش واحد (1) » ، ويجوز للمضحي أن يوكل من يتولى ذبحها من المسلمين، سواء كان ذلك في بلده أو في غير بلده، والسنة أن يأكل منها ويتصدق لقول الله عز وجل: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (2) .
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (6/8) .
(2) سورة الحج الآية 28(14/137)
السؤال العاشر:
هل يجوز إخراج ثمن الأضحية ودفعه للمجاهدين المسلمين؟
الجواب:
ذبح الأضحية أفضل من إخراج ثمنها لأن في ذلك إحياء للسنة ومن أحب أن يتصدق بثمنها فلا بأس لكن التضحية أفضل من الصدقة بثمنها.(14/137)
السؤال الحادي عشر:
ما حكم حج من ترك طواف الوداع؟
الجواب:
حجه صحيح بإجماع أهل العلم ولكن فيه نقص يجبر بدم؛ لأن طواف الوداع واجب في أصح قولي العلماء لقول النبي صلى الله عليه(14/137)
وسلم: «لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » خرجه مسلم في صحيحه. إلا الحائض والنفساء فليس عليهما وداع لما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (2) » .
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .
(2) صحيح البخاري الحج (1755) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، سنن الدارمي المناسك (1934) .(14/138)
السؤال الثاني عشر:
إذا عزم المسلم على الحج، وبعد الإحرام تعذر حجه، ماذا يلزمه؟
الجواب:
إذا أحصر الإنسان عن الحج بعد ما أحرم بمرض أو غيره جاز التحلل بعد أن ينحر هديا ثم يحلق رأسه أو يقصره لقول الله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (1) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أحصر عن دخول مكة يوم الحديبية نحر هديه وحلق رأسه ثم حل وأمر أصحابه بذلك. لكن إذا كان المحصر قد قال في إحرامه فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، حل ولم يكن عليه شيء لا هدي ولا غيره؛ لما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها «أن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب رضي الله عنها قالت: يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني (2) » .
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) صحيح البخاري النكاح (5089) ، صحيح مسلم الحج (1207) ، سنن النسائي مناسك الحج (2768) ، مسند أحمد بن حنبل (6/164) .(14/138)
السؤال الثالث عشر:
وماذا يجوز للمسلم أثناء تأدية فريضة الحج؟
وهل يجوز له الانشغال بأمور أخرى خارجة عن نطاق العبادة؟(14/138)
الجواب:
يجب عليه العناية بما أوجب الله عليه من المحافظة على الصلوات بوقتها بجماعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله سبحانه بالحكمة والموعظة الحسنة والحذر مما حرم الله عليه لقول الله عز وجل: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (1) الآية.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه (2) » . والرفث الجماع في الإحرام ودواعيه من القول والفعل، والفسوق جميع المعاصي؛ ولأن الواجب على المسلم في كل زمان ومكان أن يتقي الله وأن يحافظ على ما أوجب الله عليه وأن يحذر ما حرم الله عليه. فإذا كان في بلد الله الحرام وفي أعمال مناسك الحج، كان الواجب عليه أعظم وأشد، وكان إثمه في تعاطي ما حرم الله عليه أكبر وأغلظ، ويجوز له البيع والشراء وغير ذلك مما أباح الله له من الأقوال والأعمال لقول الله سبحانه: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُم} (3) قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره في تفسير الآية: يعني في مواسم الحج. وهذا من فضل الله ورحمته وتخفيفه على عباده وإحسانه إليهم فإن الحاج قد يحتاج إلى ذلك والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 197
(2) رواه البخاري في الحج باب المحصر ج1 ص 310 - البخاري بحاشية السندي.
(3) سورة البقرة الآية 198(14/139)
السؤال الرابع عشر:
متى يجوز التوكيل في رمي الجمرات وهل هناك أيام لا يجوز التوكيل فيها؟(14/139)
الجواب:
يجوز التوكيل في جميع الجمرات للمريض العاجز عن الرمي، والحامل التي تخاف على نفسها، والمرضع التي ليس عند أطفالها من يحفظهم، والشيخ الكبير والعجوز الكبيرة، ونحوهم ممن يعجز عن الرمي. وهكذا ولي الصبي والصبية يرمي عنهما. والوكيل يرمي عن نفسه وعن موكله في موقف واحد عند كل جمرة، يبدأ بنفسه ثم يرمي عن موكله، إلا أن يكون متنفلا فلا يلزمه البدء بالرمي عن نفسه، لكن لا يجوز أن يتولى الرمي إلا من كان حاجا، أما الشخص الذي لم يحج فليس له أن يتوكل عن غيره في الرمي، ولا يجزئ رميه عن غيره.(14/140)
السؤال الخامس عشر:
ما حكم حج المصر على المعصية أو المستمر على ارتكاب صغيرة من الذنوب؟
الجواب:
حجه صحيح إذا كان مسلما لكنه ناقص ويلزمه التوبة إلى الله سبحانه من جميع الذنوب ولا سيما في وقت الحج وفي هذا البلد الأمين ومن تاب تاب الله عليه لقول الله سبحانه وتعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) ، وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} (2) الآية.
والتوبة النصوح هي المشتملة على الإقلاع عن الذنوب والحذر منها تعظيما لله سبحانه وخوفا من عقابه مع الندم على ما مضى منها والعزم
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة التحريم الآية 8(14/140)
الصادق على ألا يعود فيها. ومن تمام التوبة رد المظالم إلى أهلها إن كان هناك مظالم في نفس أو مال أو بشرة أو عرض أو استحلال أهلها منها.
وفق الله المسلمين لما فيه صلاح قلوبهم وأعمالهم ومن علينا وعليهم جميعا بالتوبة النصوح من جميع الذنوب إنه جواد كريم.(14/141)
السؤال السادس عشر:
ما هو ضابط المبيت في مزدلفة وإذا تعذر المبيت واكتفى الحاج بالمرور بها فقط فما حكم حجه؟
الجواب:
يجب على الحاج المبيت بمزدلفة إلى أن ينتصف الليل وإن كمل المبيت وصلى بها الفجر وذكر الله بعد الصلاة واستغفره حتى يسفر كان أفضل وأكمل، ويجوز للضعفة من النساء والشيوخ ومن يلزمهم الدفع في النصف الأخير من الليل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رخص للضعفة من أهله في ذلك. أما هو صلى الله عليه وسلم فبات بها وصلى بها الفجر وذكر الله بعد الصلاة وهلله واستغفره، فلما أسفر جدا دفع إلى منى والأكمل للحجاج التأسي به صلى الله عليه وسلم في ذلك، وللضعفة الترخيص في الدفع قبل الصبح كما تقدم. ومن ترك المبيت في مزدلفة من غير عذر شرعي وجب عليه دم؛ لكونه خالف السنة، ولقول ابن عباس رضي الله عنهما: من ترك نسكا أو نسيه فيهرق دما. ولا شك أن المبيت في مزدلفة نسك عظيم حتى ذهب بعض أهل العلم إلى أنه ركن من أركان الحج، وذهب بعضهم إلى أنه سنة. وأعدل الأقوال أنه واجب من الواجبات في الحج يجب بتركه دم، مع التوبة والاستغفار ممن ترك ذلك عمدا من غير عذر شرعي.(14/141)
السؤال السابع عشر:
الشباب المسلم اليوم أحوج ما يكون إلى التفقه في دينه ماذا يرى سماحتكم من أساسيات لهذه الحاجة؟
الجواب:
لا شك أن الشباب وغيرهم في أشد الحاجة إلى التفقه في الدين في كل وقت، وفي هذا الوقت الحاجة أشد وأكبر؛ لكثرة المنحرفين عن الحق وكثرة الدعاة إلى الباطل بأنواع الشبه، فالمسلم شابا وغيره في أشد الضرورة إلى معرفة الحق بأدلته من الكتاب والسنة، وعلى أيدي العلماء المعروفين بالعقيدة الطيبة والسيرة الحميدة والسير على المنهج الإسلامي، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (1) » خرجه مسلم في الصحيح، والمراد بالعلم هنا هو العلم الشرعي المستفاد من كلام الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (2) » متفق عليه، فوصيتي للشباب بأن يعنى بالدراسة الإسلامية في المدارس والمعاهد والجامعات التي تعنى بذلك.
كما أوصيهم وأوصي جميع المسلمين شيبا وشبابا وذكورا وإناثا أن يهتموا بدينهم وأن يجتهدوا في سماع الحلقات الدينية والبرامج الإسلامية من وسائل الإعلام ومن أهمها برنامج نور على الدرب وبرنامج نداء الإسلام، فهما مفيدان كثيرا، كما أوصي أيضا بالعناية بالكتب الإسلامية، ومن أهمها كتب الحديث الشريف، وكتب المعروفين بالعقيدة الصحيحة والتحقيق في مسائل الخلاف وتأييد الدليل، كشيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم والحافظ بن كثير والشيخ محمد بن عبد الوهاب
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(2) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(14/142)
وغيرهم من دعاة الحق؛ لما في هذه الكتب من الخير الكثير والذب عن السنة والتحذير من البدع.(14/143)
السؤال الثامن عشر:
الداعية إلى الله جل وعلا فيم تكمن صفاته من وجهة نظركم؟
الجواب:
حرصه على العلم واجتهاده في معرفة الأدلة الشرعية وبذل المستطاع في دعوة الناس إلى توحيد الله واتباع شريعته وتعظيم أمره ونهيه مع البداءة بنفسه واجتهاده في تطبيق أحكام الشريعة عليها حتى يكون من الدعاة إلى الله سبحانه بأقواله وأعماله وسيرته وأخلاقه والله ولي التوفيق.(14/143)
السؤال التاسع عشر:
من لم يستطع طواف القدوم لأنه لم يصل إلى مكة إلا عصر يوم عرفة فهل يذهب لعرفة مباشرة دون المرور بالحرم وماذا عليه؟
الجواب:
هو مخير إن شاء دخل مكة وطاف وسعى وبقي على إحرامه وخرج إلى عرفات ووقف بها ما شاء الله ولو في الليل، ثم ينصرف إلى مزدلفة للمبيت بها. وإن شاء قصد عرفات ووقف بها حتى الغروب، ثم نفر إلى مزدلفة مع الناس وصلى بها المغرب والعشاء وبات بها، ثم يطوف ويسعى بعد ذلك في يوم النحر أو بعده، ولا حرج عليه في ذلك ولا دم عليه إذا كان قد أحرم بالحج فقط. أما إن كان أحرم بالحج والعمرة جميعا فعليه هدي تمتع سبع بدنة أو سبع بقرة أو ثني من المعز أو جذع من الضان يذبح في منى أو في مكة ويأكل منه ويتصدق لقول الله سبحانه(14/143)
{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (1) .
__________
(1) سورة الحج الآية 28(14/144)
السؤال العشرون:
كيف يستطيع الإعلام بوسائله المختلفة خدمة المسلمين؟
الجواب:
يستطيع الإعلام خدمة المسلمين لنشر الفضائل والدعوة إليها والنشاط المتواصل في الدعوة إلى تحكيم الشريعة الإسلامية والتحاكم إليها والالتزام بأحكامها والتحذير من كل ما يخالف الشرع المطهر من أقوال وأعمال. كما يستطيع أن يدعو العالم الإسلامي إلى الصناعات المفيدة والأعمال النافعة المباحة والعناية باستخراج خزائن الأرض بالطرق الحديثة والوسائل المفيدة في العصر الحاضر؛ ليستفيد من ذلك ويستغني عن الحاجة إلى أعداء الإسلام، ومن تمام ذلك أن يقوم الإعلام بمحاربة الرذائل القولية والعملية وأن ينشر بيان العقيدة الصحيحة التي سار عليها سلف الأمة، وهي توحيد الله والإخلاص له في جميع العبادات، والإيمان بأسمائه وصفاته وإقرارها كما جاءت على الوجه اللائق به سبحانه، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، مع الوصية بالقرآن الكريم والإكثار من تلاوته بالتدبر والتعقل، والوصية بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمها والعمل بها والذب عنها.
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه.(14/144)
البدع طعن في الشريعة وقدح في كمالها.
للشيخ \ صالح بن سعود آل علي.
بحث يتكون من الآتي:
1 - مقدمة تتضمن التحذير من البدع، ووجوب محاربتها والقضاء عليها. والاستدلال لذلك بأدلة نقلية وعقلية.
2 - تعريف البدعة في اللغة وفي الشرع - والعلاقة بين المعنيين - ومسالك العلماء في تعريفها شرعا - والفرق بين المسلكين- تخريج بعض الأحاديث والآثار الواردة بشأن البدع مدحا أو ذما بناء على هذين المسلكين.
3 - أقسام البدع من حيث أنواعها - وهل تارك الواجب أو المندوب أو المباح - تدينا- يعد مبتدعا.
4 - درجات البدع من حيث هي كفر أو معصية - وتفاوت البدع من حيث هي صغيرة وكبيرة -.
5 - الفرق بين البدع والمعاصي- معاملة أهل البدع.
6 - أهل البدع هل لهم من توبة؟ وخلاف العلماء في هذا والراجح.(14/145)
7 - من شبه المبتدعة التي تعلقوا بها في ابتداعهم - إبطال ما توهموه مستندا لهم من:
(أ) جمع عمر رضي الله عنه الناس على إمام واحد في صلاة التراويح.
(ب) زيادة عثمان بن عفان رضي الله عنه أذانا ثانيا يوم الجمعة.
(ج) ما ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن.
(د) تحقيق هذه المسائل وبيان وجه الحق فيها.
8 - نماذج من البدع المحدثة وهي:
(أ) بدعة إيثار التعبد والانقطاع به عن العلم والجهاد.
(ب) بدعة التشدد والمبالغة في الطهارة إلى حد الوسوسة.
(ي) بدعة التلفظ بالنية والجهر بها قبل العبادات.
(د) بدعة الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وإيراد الشبه في هذا والرد عليها.
1 - مقدمة في:
التحذير من البدع ووجوب محاربتها والقضاء عليها:
كان من نعم الله تعالى الجلى وآلائه العظمى أن جاءت هذه الشريعة كاملة لا تحتمل الزيادة ولهذا قال عنها سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) فلما كانت بهذه المثابة من الشمول والكمال حذر الشارع من أن يتطرق إليها
__________
(1) سورة المائدة الآية 3(14/146)
من البدع ما يشوه جمالها أو يدنس نصاعتها؛ لأن البدع مهما كان نوعها أو الباعث لها تعتبر نكتة سوداء في صفحة هذه الشريعة الغراء، تختلف أحكامها باختلاف آثارها السيئة: فبدعة تعتبر كفرا بواحا، وبدعة تعتبر من الكبائر، وأخرى تعتبر من الصغائر تقدح في كمال هذه الشريعة وجمالها، وهذا يتضح كثيرا عندما نتعرض لدرجات البدع في موضوع لاحق من هذا البحث إن شاء الله تعالى.
وبعد هذا يحسن أن نبين ذم البدع نقلا وعقلا؛ ليعلم المسلم أنه لا يسوغ له أن يزيد في هذا الدين أو ينقص منه لأن الشارع الحكيم أوجب الاتباع وحرم الابتداع بل جعل الابتداع خروجا عن الصراط المستقيم. يتضح هذا بالأدلة النقلية والعقلية الآتية:(14/147)
(أ) من الأدلة النقلية الدالة على ذم البدع وفاعليها:
1 - قول الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) ففي هذه الآية أمر سبحانه عباده باتباع صراطه وهو دينه الذي ارتضاه لعباده هذا الصراط الذي أخبر عنه بأنه مستقيما أي قويما لا اعوجاج به عن الحق، ثم نهاهم أن يسلكوا طريقا سواه أو يبغوا دينا خلافه من اليهودية أو النصرانية أو المجوسية أو عبادة الأوثان، أو غير ذلك من الملل فإنها بدع وضلالات.
وقد فسر مجاهد رحمه الله السبل: بأنها البدع والشبهات.
ثم ذكر سبحانه علة النهي عن اتباع السبل وهي أنها تبعدهم عن دينه الذي ارتضاه لهم مما ينجم عنه هلاكهم ودخولهم النار (2)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153
(2) انظر تفسير الطبري 12 \ 229 وما بعدها.(14/147)
ووجه الدلالة من الآية الكريمة: أن الله أمر باتباع دينه القويم الذي هو صراطه المستقيم، ونهى عن اتباع ما عداه من الملل والشبه والبدع؛ لأنها تنأى بالعبد عن الصراط السوي الذي ارتضاه سبحانه لعباده، فدل ذلك على تحريم هذه البدع؛ لأنها من السبل التي تودي بصاحبها إلى ما لا يرضاه سبحانه.
من هذه الآية يتضح أن الصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا إليه. وهو السنة التي جاء بها رسوله صلى الله عليه وسلم. أما السبل فهي طرق أهل الاختلاف الحائدين عن الصراط القويم، وهم أهل البدع: يدل لهذا ما جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال: «خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطا فقال: هذا سبيل الله، ثم خط عن يمين ذلك الخط وعن شماله خطوطا فقال هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها، ثم قرأ هذه الآية: (2) » وهذا حديث صحيح كما قال ابن كثير في تفسيره (3) وقال رجل لابن مسعود: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد، وعن يساره جواد، وثم رجال يدعون من مر بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} (4) الآية.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/435) ، سنن الدارمي المقدمة (202) .
(2) سورة الأنعام الآية 153 (1) {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}
(3) 190 \ 2.
(4) سورة الأنعام الآية 153(14/148)
3 - ومنها قوله سبحانه {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (1) .
ووجه الدلالة: أن الله أخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يبرأ من كل من فارق دين الله وخالفه؛ لأن الله سبحانه بعث رسوله عليه الصلاة والسلام بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق، فالذين اختلفوا فيه وكانوا شيعا أي فرقا كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات فإن الله تعالى قد برأ رسوله عليه الصلاة والسلام مما هم فيه، وهذا كاف في ذم هؤلاء، ومنهم المبتدعة (2) . 3- ومنها قوله صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (3) » أي: مردود، قال ابن دقيق العيد رحمه الله عند شرحه هذا الحديث: إنه صريح في رد كل بدعة وكل مخترع (يعني في الدين) وقال عن رواية مسلم التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (4) » قال: إنها صريحة في ترك كل محدثة سواء أحدثها فاعلها أو سبق إليها فإنه قد يحتج به (أي بما رواه الشيخان) بعض المعاندين إذا فعل البدعة فيقول: ما أحدثت شيئا فيحتج عليه بهذه الرواية (5) . اهـ.
4 - ومنها ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال.
«من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك
__________
(1) سورة الأنعام الآية 159
(2) انظر تفسير ابن كثير لهذه الآية 1 \ 196.
(3) الأربعون النووية الحديث الخامس وهو متفق عليه.
(4) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(5) شرح ابن دقيق للأربعين النووية 28.(14/149)
من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (1) » رواه مسلم (2) .
ووجه الدلالة فيه: أن من يدعو إلى ضلالة من الضلالات التي أحدثت في الدين فإنه سيبوء بأوزار من يعمل بها. وهذا من أعظم ما ينفر عن البدع ويبين سوء منقلب دعاتها والعاملين بها. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ووجه التحذير: أن الذي يحدث البدعة قد يتهاون بها لخفة أمرها في أول الأمر ولا يشعر بما يترتب عليها من المفسدة، وهو أن يلحقه إثم من عمل بها من بعده ولو لم يكن هو عمل بها بل؛ لكونه كان الأصل في إحداثها (3) .
5 - ومنها: ما جاء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى ويقول: أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (4) » . . الحديث. رواه مسلم وابن ماجه (5) .
وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته (6) » رواه الطبراني وإسناده حسن (7) .
ووجه الدلالة منهما: أنه عليه الصلاة والسلام أخبر بأن شر الأمور في الدين هي المحدثات من البدع وأن كل بدعة ضلالة. كما أخبر عن
__________
(1) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .
(2) رياض الصالحين 95 من الباب العشرين.
(3) فتح الباري 302 \ 3.
(4) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) .
(5) الترغيب. والترهيب 1 \ 62.
(6) سنن ابن ماجه المقدمة (50) .
(7) الترغيب والترهيب 62 \ 1(14/150)
حجب التوبة عن المبتدع حتى يدع بدعته، وهذا كاف في بيان سوء الابتداع وقبح البدع وأن أصحابها بعيدون عن هدي الله الذي كانوا يظنون أنهم بابتداعهم يقتربون منه. فقوله عليه الصلاة والسلام: «شر الأمور محدثاتها (1) » . وقوله: «كل محدثة بدعة (2) » . في بعض الروايات. وقوله: «وكل بدعة ضلالة (3) » . وقوله: «إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته (4) » هذه كلها نواه وزواجر تقرع الأسماع ليكون فيها عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
6 - ومنها ما جاء في الحديث الطويل عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال: قلت: «يا رسول الله: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم: دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله: صفهم لنا. قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك (5) » رواه البخاري (6) .
ووجه الدلالة من الحديث: أن المحدثات في الدين أيا كان نوعها هي من الشرور والآثام التي حذر منها الشارع وأخبر أنها سبب لقذف أصحابها في نار جهنم. وهذا وعيد شديد لدعاة الباطل كالمبتدعة وأتباعهم ليقلعوا عما هم عليه حتى لا يقعوا تحت طائلة هذا الوعيد.
7 - ومما جاء عن الصحابة والتابعين في ذم البدع:
__________
(1) سنن ابن ماجه المقدمة (46) .
(2) سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(3) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(4) سنن ابن ماجه المقدمة (50) .
(5) صحيح البخاري المناقب (3606) ، صحيح مسلم الإمارة (1847) ، سنن ابن ماجه الفتن (3979) .
(6) صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري، 35 \ 13.(14/151)
ما جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (الاقتصاد في السنة أحسن من الاجتهاد في البدع) رواه الحاكم موقوفا بإسناد صحيح (1) 8 - «وعن غضيف بن الحارث الثمالي قال: بعث إلي عبد الملك بن مروان فقال: يا أبا سليمان إنا قد جمعنا الناس على أمرين فقال: وما هما؟ قال: رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة والقصص بعد الصبح والعصر، فقال: أما إنهما أمثل بدعكم عندي ولست بمجيبكم إلى شيء منهما، قال: لم؟ قال: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما أحدث قوم بدعة إلا رفع من السنة مثلها فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة (2) » رواه أحمد بسند جيد والبزار (3) .
فإذا كان هذا جواب هذا الصحابي في أمر له أصل في السنة فما ظنك بما لا أصل له فيها فكيف بما يشتمل على ما يخالفها كما قال الحافظ ابن حجر (4) .
9 - وقال الإمام مالك: قال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمور بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر فيما خالفها ومن اقتدى بها فهو مهتد ومن استنصر بها فهو منصور ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا (5) .
__________
(1) الترغيب والترهيب 60 \ 1.
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/105) .
(3) فتح الباري 253 \ 13 والترغيب 64 \ 1.
(4) فتح الباري 254 \ 13.
(5) إغاثة اللهفان 159 \ 1.(14/152)
10 - وقال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب كان يقول: سنت لكم السنن وفرضت عليكم الفرائض وتركتم على الواضحة إلا أن تميلوا بالناس يمينا وشمالا (1) .
من هذه الأدلة وغيرها مما لا يحصى كثرة يظهر أن السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم كانوا يحثون على التمسك بالسنن التي جاءت عن الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كما كانوا يشددون في النهي عن البدع وينفرون منها؛ لأنها كما هو واقعها زيف في الدين وخبث إذا داخله عكر صفوه وشوه جماله. ولولا خوف الإطالة لاستقصيت كافة الأدلة من الكتاب والسنة والمأثور عن السلف الصالح، ولكني أكتفي بما أوردت وأحيل من أراد التوسع والاستقصاء على بعض أمهات المراجع التي أفاضت في سرد الأدلة في هذا الصدد، مثل: كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي، وإغاثة اللهفان للإمام ابن القيم، وتلبيس إبليس لابن الجوزي. ففيها ما يشفي الغليل، جزى الله مؤلفيهما خير ما يجزي به العلماء العاملين.
__________
(1) نفس المصدر.(14/153)
ب: ومن الأدلة العقلية على ذم البدع وسوء منقلب أصحابها ما يلي:
1 - أنه ثبت بالاستقراء والتتبع أن العقول لا تستقل بمصالحها: استجلابا لها. أو مفاسدها: استدفاعا لها. لأنها إما دنيوية أو أخروية:
أما الدنيوية فلا يستقل العقل بإدراكها على التفصيل لا في ابتداء وضعها ولا في استدراك ما عسى أن يعرض في طريقها إما في السوابق وإما في اللواحق؛ لأن وضعها أولا لم يكن إلا بتعليم الله تعالى كما قال(14/153)
سبحانه: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (1) . وهكذا فلولا أن من الله على الخلق ببعثه الأنبياء لم تستقم لهم حياة ولا جرت أحوالهم على كمال مصالحهم.
وأما المصالح الأخروية فالعقل أبعد ما يكون عن إدراكها والعلم بها كالعبادات وأمور الآخرة؛ لأنها لا تعلم إلا من طريق الوحي.
إذا علم هذا فإن المبتدع يعتبر قائلا على الله بغير علم لأنه بابتداعه في الدين ادعى علم ما لم يعلم.
2 - ومنها أن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان لأن الله أخبر عنها بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2) وأخبر عنها رسوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها (3) » الحديث قال المنذري (4) إسناده حسن.
وثبت أنه صلى الله عليه وسلم بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، ولم يمت حتى بين جميع ما تحتاج إليه في أمر دينها ودنياها، سواء كان هذا البيان بالتفصيل أو بالقواعد الكلية، وهذا أمر متفق عليه عند من يعتد بهم من العلماء.
والمبتدع بلسان حاله أو فعاله يقول: إن الشريعة لم تتم وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها. لأنه لو اعتقد كمالها وتمامها من
__________
(1) سورة البقرة الآية 31
(2) سورة المائدة الآية 3
(3) سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) .
(4) الترغيب 66.(14/154)
كل وجه لم يبتدع، ورحم الله الإمام مالكا حيث قال: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (1) فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا.
3 - أن المبتدع معاند للشارع محاد له لأن الشارع حدد للعباد طرقا خاصة وقصر الخلق عليها بالأمر والنهي والوعد والوعيد، وأخبر أن الخير فيها وأن الشر في تعديها؛ لأن الله سبحانه يعلم ونحن لا نعلم وأنه إنما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين والمبتدع راد لهذا كله فهو يزعم أن ثم طرقا أخر وليس ما حصره الشارع بمحصور، ولا ما عينه بمتعين فكأن الشارع يعلم والمبتدع يعلم بل ربما يفهم من هذا الابتداع أن المبتدع يعلم ما لم يعلم الشارع.
وهذا إن كان مقصودا للمبتدع فهو كفر في الشريعة والشارع وإن كان غير مقصود فهو ضلال مبين.
4 - أن المبتدع من حيث يدري أو لا يدري قد جعل نفسه مضاهيا للشارع؛ لأن الشارع وضع الشرائع وألزم الخلق الجري على سننها وصار هو المنفرد بذلك؛ لأنه حكم بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون وإلا فلو كان التشريع من مدركات الخلق لم تنزل الشرائع ولم يبق الخلاف بين الناس ولا احتيج إلى بعث الرسل عليهم السلام. والمبتدع قد صير نفسه للشارع نظيرا ومضاهيا حيث شرع مع الشارع، وفتح للاختلاف بابا ورد قصد الشارع بالانفراد بالتشريع وكفى بهذا مخالفة للدين (2) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) انظر الاعتصام 46 \ 1 وما بعدها.(14/155)
تعريف البدع
تعريف البدعة في اللغة، تعريفها في الشرع، العلاقة بين المعنيين، مسالك العلماء في تعريفها شرعا، الفرق بين المسلكين.
البدعة في اللغة:
بدع: الإبداع إنشاء صنعة بلا احتذاء واقتداء ومنه قيل: ركية بديع: أي جديدة الحفر (1) ، وقال في الصحاح (2) أبدعت الشيء اخترعته لا على مثال: والله تعالى بديع السماوات والأرض، والبدعة: الحدث في الدين بعد الإكمال.
وقال في المصباح المنير: أبدع الله تعالى الخلق إبداعا: خلقهم لا على مثال وأبدعت الشيء وابتدعته: استخرجته وأحدثته. ومنه قيل للحالة المخالفة (بدعة) وهي اسم من الابتداع كالرفعة من الارتفاع، ثم غلب استعمالها فيما هو نقص في الدين أو زيادة. وفلان بدع في هذا الأمر: أي هو أول من فعله فيكون اسم فاعل بمعنى مبتدع. والبديع
__________
(1) المفردات في غريب القرآن 38.
(2) ج3 باب العين.(14/156)
فعيل من هذا فكأن معناه هو منفرد بذلك من بين نظائره. وفيه معنى التعجب ومنه قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} (1) أي ما أنا أول من جاء بالوحي من عند الله تعالى وتشريع الشرائع بل أرسل الله تعالى الرسل قبلي مبشرين ومنذرين فأنا على هداهم (2) من هذا يظهر أن البدعة في اللغة: هي الأمر المحدث على غير مثال: محمودا كان الأمر أم مذموما.
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 9
(2) المصباح المنير 43 \ 1.(14/157)
البدعة في لسان الشارع:
البدعة: تطلق ويراد بها في الشرع: ما أحدث وليس له أصل في الشرع. أما ما كان له أصل يدل عليه في الشرع فليس ببدعه.
قال الراغب رحمه الله: البدعة في المذهب: إيراد قول لم يستن قائلها فيه بصاحب الشريعة وأماثلها المتقدمة وأصولها المتقنة وروي: كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار (1) . اهـ.
وقال في فتح الباري: (2) المحدثات جمع محدثة والمراد بها ما أحدث وليس له أصل في الشرع ويسمى في عرف الشرع بدعة. فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة فإن كل شيء أحدث على غير مثال يسمى بدعة سواء كان محمودا أو مذموما. اهـ.
__________
(1) المفردات في غريب القرآن 38.
(2) 253 \ 13.(14/157)
العلاقة بين المعنى اللغوي والشرعي:
يظهر من التعريف اللغوي للبدعة بأنها تشمل كل شيء أحدث(14/157)
على غير مثال سابق محمودا كان أم مذموما.
كما يظهر أن البدعة في اصطلاح الفقهاء هي ما أحدث في الدين مما ليس له أصل، فهي خاصة بما يحدث في الدين من الأمور المذمومة. فالمعنى اللغوي إذا أعم وأشمل من المعنى الشرعي. هذا وسنتعرض للتوسع في هذا عند الكلام على مسالك العلماء في تعريفهم البدعة في الاصطلاح.(14/158)
اختلاف العلماء في الحد الشرعي للبدعة:
ذهب العلماء في تعريف البدعة اصطلاحا مذهبين:
1 - مذهب من يتوسع في معناها فيحملها على ما أحدث بعد عهد النبوة سواء كان راجعا إلى العبادات أم العادات أم المعاملات، وسواء أكان حسنا أم قبيحا، وعلى هذا سار الإمام الشافعي رحمه الله كما نقل ذلك عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري حيث قال: قال الشافعي: البدعة بدعتان: محمودة ومذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالفها فهو مذموم. . وجاء عن الشافعي رحمه الله قوله: المحدثات ضربان: ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه بدعة الضلال. وما أحدث من الخير لا يخالف شيئا من ذلك فهذه محدثة غير مذمومة. وقد قسم العز بن عبد السلام رحمه الله بناء على هذا التعريف البدعة إلى خمسة أقسام حيث قال: البدعة فعل ما لم يعهد في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تنقسم إلى بدعة واجبة وبدعة محرمة وبدعة مندوبة(14/158)
وبدعة مكروهة وبدعة مباحة والطريق في معرفة ذلك: أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة كوضع علم النحو والاشتغال بتعلمه وتعليمه حيث يفهم به كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك واجب؛ لأن حفظ الشريعة واجبة ولا يتأتى حفظها إلا بمعرفة ذلك: فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة: مثال ذلك: مذهب القدرية والجبرية والمرجئة والمجسمة. فالرد على هؤلاء من البدع الواجبة. وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة: مثال هذا إحداث الرباط والمدارس والقناطر.
وإن دخلت في قواعد المكروه فهي مكروهة، وذلك كزخرفة المساجد وتزويق المصاحف.
وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة مثل المصافحة بعد صلاة الصبح والعصر والتوسع في اللذيذ من المآكل والمشارب والمساكن والملابس. وقد يختلف في بعض ذلك فيجعله بعض العلماء من البدع المكروهة ويجعله آخرون من السنن المفعولة على عهده صلى الله عليه وسلم فما بعده وذلك كالاستعاذة في الصلاة والبسملة (1) اهـ وممن سار على هذا التعريف ابن الأثير رحمه الله (2) 2 - مذهب من يفسر البدعة بالطريقة المخترعة على أنها من الدين وليست من الدين في شيء فهي مذمومة في كل حال ولا يدخل في حقيقتها واجب أو مندوب أو مباح وعلى هذا سار الإمام الشاطبي حيث قال:
__________
(1) قواعد الأحكام 204 \ 2 وما بعدها.
(2) النهاية في غريب الحديث 106 \ 1.(14/159)
البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه.
ومن هذا التعريف يظهر أن البدعة هي ما كانت في الدين، أما ما كان في أمور الدنيا فليس ببدعة كإحداث الصنائع والبلدان التي لم تعهد من قبل وكذا ما اخترع بعد عهد النبوة مما هو متعلق بالدين كعلم النحو وأصول الفقه وسائر العلوم الخادمة للشريعة فإنها وإن لم توجد في الزمان الأول فأصولها موجودة في الشرع فهذه ليست من البدعة في شيء؛ لأن لها في الشريعة أصولا تدخل تحتها.(14/160)
الموازنة بين هذين المسلكين:
من التعريف الأول يتضح أن البدعة في المدلول الشرعي عند هؤلاء لا تختلف عن معناها اللغوي حيث إنها تطلق على كل ما أحدث على غير مثال سابق فهي شاملة للمبتدعات الحسنة والذميمة، غير أن هذا الفريق من العلماء يقيدون البدعة الشرعية بأن يقصد بالبدعة ما يقصد بالطريقة الشرعية فيشملها الذم.
أما الفريق الثاني ومنهم الشاطبي: فإنهم يقصرون البدعة على ما أحدث بعد عصر التشريع من أمور الدين بقصد التقرب به إلى الله ومن هذا يتضح أن البدعة في الشرع لا تطلق إلا على ما يذم، ويترتب على هذا أن كل ما يطلق عليه بدعة في الشرع فإنه مذموم لا محالة فليس في الشرع بدعة محمودة، وقد تبين أن الفريقين مختلفان في حد البدعة شرعا فهي على رأي ابن عبد السلام عند الإطلاق تحتمل الذم والمدح حسبما فصلناه عنه آنفا.
وعند الشاطبي لا تحتمل إلا الذم فقط.(14/160)
توضيح وجهة نظر الفريق الثاني: الذي يظهر أن إطلاق البدعة على ما يذم شرعا هو الإطلاق المفضل بل الأصوب؛ لأن شأن البدع هو الذم وليس ثمة بدعة يليق أن يقال عنها إنها بدعة مطلوبة أحيانا أو ممنوعة أحيانا أخرى، اللهم إلا ما اختاره العز بن عبد السلام بناء على توسعه في استعمال اللفظ وهو استعمال سيتضح أنه مرجوح؛ إذ البدعة أمر ممنوع في الشرع وإذا قلنا البدعة فإنما نعني بها ما عناه العلماء بها من أنها ما أحدث بعد عهد التشريع مما لا أصل له في الشرع.
والنصوص التي وردت في البدع تفيد الذم مطلقا ومن ذلك:
1 - قوله صلى الله عليه وسلم «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » متفق عليه (2) ، وقوله صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى: «من عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3) » رواه مسلم. ووجه الدلالة منه أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الإحداث في الدين مردود، وهذا دليل على أن كل محدث من البدع مردود ومذموم. فلا بدعة واجبة ولا حسنة ولا مباحة على هذا.
2 - وقال عليه الصلاة والسلام: في حديث جابر: «وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (4) » الحديث. رواه مسلم (5) .
وقال عليه الصلاة والسلام من حديث العرباض بن سارية: «وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة (6) » رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح (7) .
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) رياض الصالحين رقم الباب 18.
(3) نفس المصدر.
(4) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(5) رياض الصالحين باب 18.
(6) سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(7) رياض الصالحين باب 16.(14/161)
وجه الدلالة من هذين الحديثين: أن شر الأمور المحدثات في الدين وهي التي حذر منها صلى الله عليه وسلم بقوله: «وإياكم ومحدثات الأمور (1) » وهذا دال على أن كل محدثة منهي عنها فلا تكون محمودة في بعض الأحيان.
وقوله صلى الله عليه وسلم «وكل بدعة ضلالة (2) » قاعدة شرعية كلية بمنطوقها ومفهومها كما يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: أما منطوقها فكأن يقال: حكم كذا بدعة وكل بدعة ضلالة، فلا تكون من الشرع؛ لأن الشرع كله هدى، فإن ثبت أن الحكم المذكور بدعة صحت المقدمتان وأنتجتا المطلوب (3) .
أما ما ذكره الفريق الأول من أن البدعة قد تكون ممنوعة وقد تكون مشروعة، فهو اصطلاح يضفي على البدعة الممنوعة شيئا من التلطيف، ويقلل من الحذر منها ويجعلها بعض الناس أمرا معتادا ومألوفا؛ لأنها كما تكون ممنوعة فإنها قد تكون مشروعة فيخف استنكارهم لها لهذا الاعتبار. علما بأن ما ذكره بدعة مطلوبة فيه اصطلاح يغني عنه في الشريعة وهو المصالح المرسلة أو الاستحسان أو ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ونحوها من المصادر الشرعية والقواعد المرعية. فلا حاجة بنا لأن ندرجها تحت أمر غلب استعماله في الذم.
مبحث: تخريج بعض الأحاديث والآثار الواردة بشأن البدعة مدحا وذما بناء على هذين المسلكين.
1 - قوله صلى الله عليه وسلم: «وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (4) » ونحوه من الأحاديث والآثار التي تذم البدع.
__________
(1) سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(2) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(3) فتح الباري 254 \ 13.
(4) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .(14/162)
محمول عند الفريق الثاني على الذم وهو متمش مع ما قالوا به من أن كل بدعة مذمومة إذ لا بدعة محمودة إطلاقا وهو من أدلتهم على هذا الإطلاق.
أما عند الفريق الأول: فهو محمول أيضا على البدعة المذمومة المحدثة في الدين. أما البدعة المحمودة التي لها أصل تستند إليه فلا يشملها هذا الذم؛ لأن لها أصلا مشروعا.
2 - قوله صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء (1) » رواه مسلم (2) .
فالفريق الأول: يجعلون هذا الحديث وأمثاله سندا لهم في أن هناك أعمالا مبتدعة فإن كانت خيرا أو تؤدي إلى خير فهي من السنن المثنى عليها في هذا الحديث وإن كانت شرا أو تؤدي إلى شر فهي من السنن المذمومة في شطر الحديث «ومن سن سنة سيئة (3) » وهذا هو معنى تقسيمنا للبدعة إلى حسنة ومذمومة.
أما الفريق الثاني: فيجيبون عن هذا الحديث وأمثاله بجواب منسجم مع اصطلاحهم: هو كما قال الشاطبي: والجواب عن هذا أن يقال: ليس المراد بالحديث الاستنان بمعنى الاختراع وإنما المراد به العمل بما ثبت من السنة النبوية وذلك لوجهين:
(أ) أن السبب الذي جاء لأجله الحديث هو الصدقة المشروعة حيث قاله الرسول صلى الله عليه وسلم عندما «جاء رجل من الأنصار بصرة كبيرة فيها
__________
(1) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، سنن ابن ماجه المقدمة (203) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (514) .
(2) رياض الصالحين ص94 فيمن سن سنة حسنة أو سيئة.
(3) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن الترمذي العلم (2675) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، سنن ابن ماجه المقدمة (203) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (512) .(14/163)
دراهم فلما رآه الناس تتابعوا في التصدق فتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم سرورا بما رآه فقال: من سن سنة حسنة (1) » الحديث. فهذا الرجل قد أحيا الصدقة التي كان مأمورا بها في الكتاب والسنة، فهذا مطابق لما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: فيما خرج الترمذي لبلال بن الحارث: «اعلم: قال: ما أعلم يا رسول الله؟ قال: اعلم يا بلال. قال ما أعلم يا رسول الله. قال: إن من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا (2) » حديث حسن (3) وقال عليه الصلاة والسلام من حديث أنس «ومن أحيا سنتي فقد أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة (4) » حديث حسن (5) .
فالرسول صلى الله عليه وسلم سمى هذه البدعة حسنة لأنها إحياء لسنة سبقت؛ ولهذا قال: «ومن ابتدع بدعة ضلالة (6) » فجعل مقابل تلك السنة الابتداع فظهر أن السنة الحسنة ليست بمبتدعة.
(ب) الوجه الثاني: أن قوله صلى الله عليه وسلم من سن سنة حسنة، ومن سن سنة سيئة لا يمكن حمله على الاختراع من أصل لأن كونها حسنة أو سيئة لا يعرف إلا من جهة الشرع؛ لأن التحسين والتقبيح مختص بالشرع لا مدخل للعقل فيه، وهو مذهب جماعة من أهل السنة، وإنما يقول به المبتدعة بالعقل. فلزم أن تكون السنة في الحديث إما حسنة في الشرع وإما قبيحة بالشرع فلا يصدق إلا على مثل الصدقة المذكورة التي قيل
__________
(1) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (514) .
(2) سنن الترمذي العلم (2677) .
(3) الجامع الصحيح للترمذي من كتاب العلم باب 16.
(4) سنن الترمذي العلم (2678) .
(5) نفس المصدر.
(6) سنن الترمذي العلم (2677) .(14/164)
الحديث فيها وما أشبهها من السنن المشروعة وتبقى السنة السيئة منزلة على المعاصي التي ثبت بالشرع كونها معاصي كالقتل المنبه عليه في حديث: ابن آدم حيث قال صلى الله عليه وسلم: «ليس من نفس تقتل ظلما إلا على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل (1) » متفق عليه (2) وعلى البدع لأنه قد ثبت ذمها والنهي عنها بالشرع.
وقوله: «من ابتدع بدعة ضلالة (3) » هو على ظاهره لأن سبب الحديث لم يقيده بشيء فلا بد من حمله على ظاهر اللفظ كالعمومات المبتدأة التي لم تثبت لها أسباب.
ويصح أن يحمل على نحو ذلك قوله «ومن سن سنة سيئة (4) » أي من اخترعها. وقوله صلى الله عليه وسلم «من ابتدع بدعة ضلالة (5) » تقييد البدعة بالضلالة. يفيد مفهوما: الجواب عنه: إما بعدم القول بالمفهوم وأنه أي المفهوم ليس بحجة كما هو رأي بعض الأصوليين وإن قلنا: إنه حجة على رأي بعضهم، فالجواب عنه أنه قد قام الدليل على تعطيله في هذا الموضع كما دل دليل تحريم الربا قليله وكثيره على تعطيل المفهوم في قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (6) ولأن الضلالة لازمة للبدعة بإطلاق الأدلة المتقدمة فلا مفهوم أيضا (7) .
3 - وأما قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس لصلاة التراويح على إمام واحد: (نعمت البدعة هذه) . فقد سماها بدعة وحسنها وإذا ثبتت بدعة مستحسنة في الشرع ثبت مطلق الاستحسان في البدع كما يقول أصحاب الرأي الأول والجواب- من أهل الرأي الثاني- أن
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3336) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1677) ، سنن الترمذي العلم (2673) ، سنن النسائي تحريم الدم (3985) ، سنن ابن ماجه الديات (2616) ، مسند أحمد بن حنبل (1/433) .
(2) رياض الصالحين باب 19.
(3) سنن الترمذي العلم (2677) .
(4) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن الترمذي العلم (2675) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، سنن ابن ماجه المقدمة (203) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (512) .
(5) سنن الترمذي العلم (2677) .
(6) سورة آل عمران الآية 130
(7) الاعتصام 182 \ 1 وما بعدها بتصرف.(14/165)
نقول: إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفق أن لم تقع في زمان أبي بكر رضي الله عنه لا أنها بدعة في المعنى: فمن سماها بدعة بهذا الاعتبار فلا مشاحة في الأسامي بسند ذلك فلا يجوز أن يستدل على جواز الابتداع بالمعنى المتكلم فيه أو أن يقال: سماها عمر بدعة بالمعنى اللغوي (1) وحسب.
وأخيرا اتضح لنا أن الفريقين متفقان على أن البدعة المذمومة هي تلك التي لا أصل لها في الشريعة من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا أصل معتبر مما يقصد به التقرب إلى الله فهي بدعة ذميمة، أما ما عدا هذه البدعة مما وجد بعد عهد النبوة فهذا يسميه الفريق الأول بدعا إما مشروعة وإما ممنوعة حسب ما تؤدي إليه.
في حين لا يسميها الفريق الثاني بدعا بل يدرجها تحت ما يناسبها من قواعد الشريعة الكلية كالمصالح المرسلة أو الاستحسان أو ما لا يتم الواجب إلا به.
أو سد الذرائع أو نحو هذا.
المهم أنهما متفقان على منع ما أحدث في الدين مما لا أصل له في الشريعة وهو البدعة المذمومة.
ولكل منهما في منحاه وجهة نظر أقل ما يقال عنها إنها اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) نفس المصدر 194 \ 1 ومجموع الفتاوى لابن تيمية 371 \ 10و 318 \ و 319 \ 21.(14/166)
مبحث: في أقسام البدع:
تنقسم البدع إلى أقسام حسب الآتي:
1 - بدعة هي إحداث في الدين غير مشروع من أصله. كصلاة الرغائب في رجب وصلاة ليلة عاشوراء.
2 - وبدعة هي زيادة على أمر مشروع كزيادة الشيعة في الأذان (أشهد أن عليا ولي الله) .
3 - وبدعة هي نقص من المشروع كالذكر بالاسم المفرد لأن الوارد إنما هو ذكر الله بلفظ مركب مفيد.
4 - وبدعة هي تحويل للمشروع عن موضعه كتقديم خطبة العيد على صلاته (1) .
5 - وبدعة هي ترك للمأذون فيه على وجه التدين وتسمى البدعة التركية.
مثال ذلك: ما حصل من بعض الصحابة حيث هم أحدهم أن يحرم نفسه النوم بالليل، وآخر: الأكل بالنهار، وآخر: إتيان النساء، وبعضهم هم بالاختصاء مبالغة في ترك شأن النساء. وفي أمثال هؤلاء قال الرسول صلى الله عليه وسلم «من رغب عن سنتي فليس مني (2) » فإذا كل من منع نفسه من تناول ما أحل الله من غير عذر شرعي، فهو خارج عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والعامل بغير السنة تدينا هو المبتدع بعينه (3) يتضح هذا من المبحث الآتي:
__________
(1) رسائل الإصلاح 82 \ 3 والاعتصام 61 \ 2.
(2) صحيح البخاري النكاح (5063) ، صحيح مسلم النكاح (1401) ، سنن النسائي النكاح (3217) ، مسند أحمد بن حنبل (3/285) .
(3) انظر الاعتصام 44 \ 1.(14/167)
مبحث: تارك الواجب أو المندوب أو المباح هل يعد مبتدعا؟
من ترك مطلوبا شرعيا لا يخلو من حالين:
أ- أن يترك هذا المطلوب لغير التدين والعبادة؛ إما كسلا أو تضييعا أو ما أشبه ذلك من الدواعي النفسية، فهذا الترك يعتبر مخالفة للأمر. فإن كان المتروك واجبا فإن تركه معصية، وإن كان مندوبا فليس كذلك.
2 - أن يترك ذلك تدينا وطلبا للقربة إلى الله فهذا الترك على هذا الوجه يعد من قبيل البدع حيث تدين بضد ما شرع الله ومثاله: ما سبق ذكره من فعل بعض الصحابة (1) الذين نهاهم صلى الله عليه وسلم.
ومن هذا يظهر أن البدع أنواع متعددة من ضمنها نوع هو البدعة التركية التي يظن أصحابها أنهم بتركهم المباحات أو الواجبات أو المندوبات تقربا إلى الله (2) يسيرون على طريق صحيح في حين أنهم قد انحرفوا عن هذا الطريق وعليهم ينطبق قول المصطفى صلى الله عليه وسلم «من رغب عن سنتي فليس مني (3) » وهكذا الحكم بالنسبة لأصحاب البدع الأخرى المذكورة بدعهم مردودة عليهم وهم آثمون غير مأجورين؛ لأنهم أتوا بما لم يأت به الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) نفس المصدر.
(2) من علماء السلف من ترك بعض المباحات زهدا وتعففا.
(3) صحيح البخاري النكاح (5063) ، صحيح مسلم النكاح (1401) ، سنن النسائي النكاح (3217) ، مسند أحمد بن حنبل (3/285) .(14/168)
مبحث: درجات البدع من حيث هي كفر أو معصية.
من سار من العلماء على أن البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة، فلا يحتاج إلى بيان الدرجات باعتبار أن الأمر واضح لا إشكال فيه من حيث تنوع رتبها. أما على تعريف الفريق الثاني من العلماء الذي يخص البدعة بما يذم شرعا فالبدعة عند هؤلاء على درجات: وذلك أن البدع إذا تم التأمل في معقولها وجدت رتبها متفاوتة فمنها:
1 - ما هو كفر صراح كبدعة الجاهلية التي نبه عليها القرآن كقوله تعالى {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} (1) ، الآية وقوله سبحانه {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} (2) فهؤلاء بتحريمهم ما أحل الله في كتابه قد جاؤا من البدع ما هو كفر صراح.
2 - ومنها ما هو من المعاصي التي ليست بكفر عند بعض العلماء، كبدعة الخوارج حين قال بعض طوائفهم: من حكم مخلوقا فهو كافر.
وقول بعضهم (3) : نحن نتبرأ من علي ومعاوية لأن أمرهما قد اشتبه علينا.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 136
(2) سورة الأنعام الآية 139
(3) تلبيس إبليس 20.(14/169)
3 - ومنها ما هو معصية كبدعة التبتل، والصيام قائما في الشمس، والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع.
4 - ومنها ما هو مكروه، مثل ذكر السلاطين بأسمائهم في خطب الجمعة، والاجتماع للدعاء عشية عرفة. وهذا النوع لم يسلم به الإمام الشاطبي بل نفاه، وقال: ليس من البدع ما هو مكروه بمعنى أن من تركه يثاب ومن اقترفه لا إثم عليه حيث قال: وأما تعيين الكراهة التي معناها نفي الإثم عن فاعلها وارتفاع الحرج ألبتة، فهذا مما لا يكاد يوجد عليه دليل من الشرع ولا من كلام الأئمة على الخصوص، أما الشرع ففيه ما يدل على خلاف ذلك؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد على من قال: «أما أنا فأقوم الليل ولا أنام. وقال الآخر: أما أنا فلا أنكح النساء إلى آخر ما قالوا. فرد عليهم صلى الله عليه وسلم وقال: من رغب عن سنتي فليس مني (1) » . وهذه العبارة أشد شيء في الإنكار، ولم يكن ما التزموا إلا فعل مندوب أو ترك مندوب إلى فعل مندوب آخر.
وقال رحمه الله: إن كلام العلماء في إطلاق الكراهية في الأمور المنهي عنها كالبدع لا يعنون به كراهية التنزيه فقط؛ لأن هذا اصطلاح المتأخرين، أرادوا به التفرقة بين ما هو مكروه كراهة تنزيه، وبين ما هو مكروه كراهية تحريم. وقال: إذا وجدت في كلامهم في البدعة أو غيرها [أكره كذا ولا أحب كذا وهذا مكروه وما أشبه ذلك] ، فلا تقطعن على أنهم يريدون التنزيه، فقط فإنه إذا دل الدليل في جميع البدع على أنها ضلالة، فمن أين يعد فيها ما هو مكروه كراهية تنزيه (2) ؟
وبعد هذا ننتقل إلى موضوع ذي صلة وثيقة بهذا المبحث وهو:
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5063) ، صحيح مسلم النكاح (1401) ، سنن النسائي النكاح (3217) ، مسند أحمد بن حنبل (3/285) .
(2) انظر الاعتصام 36 \ 2 بتصرف.(14/170)
مبحث: تفاوت البدع من حيث هي كبيرة وصغيرة.
من المعروف أن المحرمات تنقسم من حيث حكمها وما يترتب عليها من مفاسد إلى ما هو كبيرة من الكبائر وإلى ما هو صغيرة من صغائر الذنوب، والكلام هنا عن البدع وتنوعها إلى بدع كبيرة وبدع صغيرة اعتبارا بتفاوت درجاتها.
فالبدع الكبيرة هي ما أخل بأصل من الضروريات، وما لا فهي الصغيرة.
يوضح هذا أن البدع تنقسم إلى ما هو كلي في الشريعة وإلى ما هو جزئي. ومعنى ذلك أن يكون الخلل الواقع بسبب البدعة كليا في الشريعة كبدعة التحسين والتقبيح العقليين، وبدعة إنكار الأخبار السنية اقتصارا على القرآن، وبدعة الخوارج في قولهم: لا حكم إلا لله. وما أشبه ذلك من البدع التي لا تختص فرعا من فروع الشريعة دون فرع، بل نجدها تنتظم ما لا ينحصر من الفروع الجزئية.
أما الخلل الواقع جزئيا كالذي يأتي في بعض الفروع دون بعض كبدعة التثويب في الصلاة: الذي قال فيه الإمام مالك: التثويب ضلال.(14/171)
وكبدعة الأذان والإقامة في العيدين ومثل بدعة الاعتماد في الصلاة على إحدى الرجلين وما أشبه ذلك. فهذا القسم لا تتعدى فيه البدعة محلها. ولا تنتظم تحتها غيرها حتى تكون أصلا لها.
ولكن مع القول بأن البدع منها ما هو كبيرة، ومنها ما هو صغيرة فإن العلماء رحمهم الله قالوا: لا تكون البدعة من الصغائر إلا بالشروط الآتية، وذلك اقتناعا منهم بأن البدع في الأصل مضادة للشارع ومراغمة له، حيث نصب المبتدع نفسه منصب المستدرك على الشريعة لا منصب المكتفي بما حوله، وحيث إن كل بدعة وإن قلت تشريع زائد أو ناقص أو تغيير للأصل الصحيح؛ لهذا كانت البدعة مذمومة بكل حال؛ لأن النصوص الواردة في البدع بينت أن كل بدعة ضلالة، ومن أجل هذا اشترطوا في البدعة الشروط الآتية لتكون من البدع الصغيرة.
1 - ألا يداوم عليها صاحبها؛ لأن الصغيرة من المعاصي مع الإصرار تكون كبيرة كما قالوا: " لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار " فكذلك البدعة.
2 - ألا يدعو إليها، فإن البدعة قد تكون صغيرة، ثم يدعو مبتدعها إلى القول بها والعمل على مقتضاها، فيكون إثم ذلك عليه. كما جاء في الحديث الصحيح من أن كل من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا. والصغيرة إنما تخالف الكبيرة بكثرة الإثم وقلته، فإذا دعا المبتدع إلى بدعته كثرت أوزاره؛ فلا تكون البدعة حينئذ صغيرة.
3 - ألا يجاهر بها في مجتمعات الناس أو في الأماكن التي تقام فيها السنن أمام العوام؛ لأن هذا يجعلهم ينخدعون بها ويسول لهم الشيطان(14/172)
بأنها حسنة فتنتشر وتفشو وبهذا لا تكون من الصغائر.
وبهذا يظهر أن البدعة لا تكون صغيرة إلا بوجود هذه الشروط. فإن تخلف منها شرط أو أكثر صارت كبيرة أو خيف أن تكون كبيرة (1) .
__________
(1) الاعتصام بتصرف 65 \ 2 وما بعدها، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 471 \ 11 وما بعدها.(14/173)
مبحث الفرق بين البدع والمعاصي:
المعاصي والبدع: فيها تعد على حرمات الله وتجن على شريعته ولكن المعاصي والبدع تختلف بسبب اختلاف بواعثها وآثارها لهذا ذكر العلماء فروقا بينها:
1 - أن مرتكب المعصية قصده نيل غرضه وشهوته العاجلة متكلا على العفو ورفع الحرج الثابت في الشريعة، فهو إلى الطمع في رحمة الله أقرب. كما أن إيمانه لا يتزحزح في أن هذه المعصية ممنوعة شرعا، وإن اقترفها فهو يخاف الله ويرجوه، والخوف والرجاء شعبتان من شعب الإيمان.
2 - أن مرتكب المعصية ليس في ذهنه أن معصيته هذه من الشرع في شيء، فهو لا يعتقد إباحتها فضلا عن أن يعتقد شرعيتها. كما أنه بمعصيته لم ينقص من الدين شيئا، في حين أن المبتدع ببدعته قد جاء بتشريع زائد أو ناقص أو تغيير للأصل الصحيح، وكل ذلك قد يكون على انفراد أو ملحقا بما هو مشروع، فيكون قادحا في المشروع، ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عامدا لكفر؛ إذ الزيادة والنقصان فيها أو التغيير قل أو كثر كفر. ولكن من فعل هذا بتأويل فاسد أو برأي(14/173)
خاطئ فإنه يكون مخالفا لشرع الله ولا أقل من أن تكون هذه المخالفة بدعة يمنعها الشارع منعا قاطعا.
3 - أن مرتكب المعصية يؤاخذ عليها شرعا ولكنه مع صحة الاعتقاد يحب الله ورسوله، في حين أن المبتدع ليس كذلك يوضح هذا الحديثان الآتيان:
(أ) فيما يتصل بصاحب المعصية:
روى البخاري (1) : في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «أن رجلا كان يدعى حمارا وكان يشرب الخمر وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم وكان كلما أتي به النبي صلى الله عليه وسلم جلده الحد فلعنه رجل مرة وقال: لعنه الله ما أكثر ما يؤتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله (2) » .
ووجه الدلالة: أن هذا رجل كثير الشرب للخمر ومع هذا لما كان صحيح الاعتقاد ويحب الله ورسوله شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ونهى عن لعنه.
(ب) وفيما يتصل بصاحب البدعة:
جاء في الصحيحين عن علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وغيرهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم فجاءه رجل ناتئ الجبين كث اللحية محلوق الرأس بين عينيه أثر السجود وقال: ما قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يخرج من ضئضئ هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون
__________
(1) الباب الخامس من كتاب الحدود.
(2) صحيح البخاري الحدود (6780) .(14/174)
من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد (1) » . وفي رواية: «لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل (2) » . وفي رواية: «شر قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوه (3) » .
ووجه الدلالة: أن هؤلاء المبتدعة مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم وما هم عليه من العبادة والزهادة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم؛ ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل كما يروي عنه ابنه عبد الله قال: حدثنا أبي قال: قبور أهل السنة من أهل الكبائر روضة، وقبور أهل البدع من الزنادقة حفرة. فساق أهل السنة أولياء الله، وزهاد أهل البدعة أعداء الله. اهـ.
وكلام الإمام أحمد لعل المقصود به والله أعلم بيان النسبة بين ضرر الفسق وأهله والبدعة وأهلها لقوله تعالى: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} (4) ولقوله سبحانه عن أوليائه {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (5) وقد بين المحققون أن البدعة شر من المعاصي وأضر لاعتقاد أهلها أنها حق وطاعة، وذلك كذب على الله وقول في دينه بغير علم، ويندر أن يتوب صاحبها (6) .
من هذا التفريق بين المعصية والبدعة ظهر قبح البدع في الإسلام؛ لأنها كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: أظلم من الزنا والسرقة وشرب الخمر (7) .
__________
(1) صحيح البخاري التوحيد (7432) ، صحيح مسلم الزكاة (1064) ، سنن النسائي الزكاة (2578) ، سنن أبو داود السنة (4764) ، مسند أحمد بن حنبل (3/68) .
(2) سنن أبو داود السنة (4768) .
(3) سنن الترمذي تفسير القرآن (3000) ، سنن ابن ماجه المقدمة (176) .
(4) سورة الأنفال الآية 34
(5) سورة يونس الآية 63
(6) انظر كتاب الآداب الشرعية والتعليق عليه لابن مفلح 183 \ 2.
(7) انظر الفتاوى لابن تيمية 473 \ 11 وما بعدها.(14/175)
مبحث: معاملة أهل البدع.
أخطاء المبتدعة خطيرة على الدين من جهة جنايتهم عليه وإفسادهم في الأرض وخروجهم عن جادة الإسلام إلى جواد التيه والضلال، هذا الخروج الذي جعلهم يتركون صراط الله المستقيم ويستبدلون به طرقا شتى معوجة تذهب بهم وبأتباعهم إلى الغي والضلال كما قال سبحانه {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (1) لهذا فإن الأمر يقتضي أن يعاملوا بالتثريب أو التنكيل أو الطرد والإبعاد أو الإنكار أو القتل، ولكن هذه المعاملة تختلف باختلاف أحوالهم وبحسب البدعة التي أحدثوها من كونها عظيمة المفسدة في الدين، وكون صاحبها مشتهرا بها، وداعيا إليها، ومستظهرا بالأتباع وخارجا عن الناس، وكونه عاملا بها عن علم. فقد تكون البدعة على هذه الحال وقد تكون أقل من هذا، ولهذا ذكر الإمام الشاطبي رحمه الله أنواعا من معاملة هؤلاء المبتدعة حسب حجم البدعة التي يرتكبونها وحسب الأشخاص الداعين إليها أو العاملين بها. وهي:
1 - الإرشاد والتعليم وإقامة الحجة كما فعل ابن عباس رضي الله عنه مع الخوارج حين جادلهم بالحق حتى رجع منهم ألفان أو ثلاثة.
2 - الهجران وترك الكلام والسلام كما جاء عن السلف في هذا المقام وكما جاء عن عمر رضي الله عنه في قصة صبيغ العراقي أن عمر ضربه مرتين، ثم أراد أن يضربه الثالثة فقال له صبيغ: إن كنت تريد
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153(14/176)
قتلي فاقتلني قتلا جميلا وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برئت. فأذن له إلى أرضه وكتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ألا يجالسه أحد من المسلمين، فاشتد ذلك على الرجل فكتب أبو موسى إلى عمر أن قد حسنت سيئته: فكتب إليه عمر أن يأذن للناس بمجالسته.
3 - التغريب كما فعل عمر بصبيغ السابق ذكره.
4 - السجن كما سجنوا الحلاج الحسين بن منصور (1) قبل قتله، سنين عديدة.
5 - ذكرهم بما هم عليه وإظهار بدعتهم وتفنيدها كي يحذروا ولئلا يغتر بهم وبكلامهم. كما جاء عن محمد بن سهل النجاري قال: كنا عند القرباني فجعل يذكر أهل البدع فقال له رجل: لو حدثتنا كان أعجب إلينا. فغضب وقال: كلامي في أهل البدع أحب إلي من عبادة ستين سنة (2) 6 - القتال إذا ناصبوا المسلمين وخرجوا عليهم كما قاتل علي رضي الله عنه الخوارج وغيره من خلفاء السنة؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الراد على أهل البدع مجاهد حتى كان يحيى بن يحيى يقول: الذب عن السنة أفضل من الجهاد (3) .
7 - القتل إن أظهروا بدعتهم ولم يرجعوا مع الاستتابة وهذا إن كانت
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 109 \ 35.
(2) انظر تلبيس إبليس 15.
(3) الفتاوى 13 \ 4.(14/177)
البدعة مما يستحق عليه القتل كما فعل خالد بن عبد الله القسري حينما قتل الجعد بن درهم.
8 - تكفير من قام الدليل على كفره كما إذا كانت البدعة صريحة في الكفر كالإباحية، وكالباطنية القائلين بالحلول. فهؤلاء يكفرون ويشهر بهم ويحكم عليهم بألا يناكحوا ولا تقبل شهادتهم ولا روايتهم ولا يولون إمارة ولا قضاء ولا يعاد مريضهم ولا تشهد جنازتهم. وذلك ليحذرهم الناس.
9 - يحكم عليهم بالضرب كما فعل عمر بصبيغ. وقد حكم الإمام الشافعي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجرائد ويحملوا على الإبل ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام (1) : يعني أهل البدع.
ومن عرض هذه الأنواع يظهر لكل ذي لب أن علماء السلف قد شددوا في صيانة الشريعة من كل ما يؤثر في كمالها ويشوه وجهها الناصع الذي أراد الله أن تكون عليه دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وحنيفية سمحة جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم بيضاء نقية.
وإن هذه المعاملة لهؤلاء المبتدعة لهم حقيقون بها؛ لأنهم سلكوا غير سبيل المؤمنين، فولاهم الله ما تولوا وسيجزيهم بخروجهم عن صراطه السوي ما هم مستحقون له.
__________
(1) انظر الاعتصام 175 \ 1 وما بعدها.(14/178)
مبحث: هل لأهل البدع من توبة؟
المبتدع يتعلق ببدعته ويعض عليها بالنواجذ؛ لأنه يرى أنها بدعة حسنة وأنها من الشرع، وهو باعتقاده هذا يزيدها في نفسه رسوخا، ويدعو إليها وينافح عنها فتستشري هذه البدعة وتنمو وتنتشر، وقد يكون له فيها الأتباع والأنصار فيزداد بها تعلقا، ومن ثم يصعب أن يقبل الحوار حول مجافاتها للكتاب والسنة وما كان الصحابة عليه والتابعون وتابعوهم بإحسان. وحيت إن البدعة زيادة في الدين أو نقص منه أو تحريف له، وشرها يتعدى صاحبها إلى أناس آخرين فتموت بسببها السنن، وتفشو بين العامة وتندثر معالم السنة، ويظهر أهل الأهواء والتأويل وينحسر أهل الحق وتقل جهودهم بسبب هؤلاء المبتدعة؛ فلهذا اختلف العلماء في هؤلاء المبتدعين هل لهم من توبة أم لا:
وسبب اختلافهم في قبول توبة المبتدع دون العاصي: أن المبتدع كما قلنا أشرب قلبه البدعة، وتمكنت من نفسه وسرت في عروقه حتى سرى الران على قلبه وأعمته غشاوة ضلالته عن الحق، فركس في العماية وانغمس في أوحال البدعة، وصار لا يرى حقا إلا هذه البدعة ولا صوابا إلا هذا الرأي المحدث المتجانف عن صراط الله السوي مما جعل قبوله الحق ورجوعه إليه وسماع نصح أهل الحق أمرا بعيد الملتمس؛ فلهذا اختلف العلماء في قبول توبته لاستبعادهم وقوع التوبة النصوح منه وحاله ما ذكرنا.
والمقصود بقبول التوبة القبول الحكمي؛ لأنه مناط معاملة مثل هؤلاء القوم المنحرفين أما قبول التوبة عند الله سبحانه فأمره إلى الله جل(14/179)
وعلا. أما المعاصي فلم يختلف العلماء في قبول التوبة منها؛ لأنها صادرة من قوم يؤمنون بأن الله هو المشرع وحده، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، ليس لأحد أن يزيد في شرعه ولا أن ينقص منه أو يحرف فيه، بل كل ما هنالك معاص تقع بسبب ضعف الوازع الإيماني وقوة الشهوات مع الخجل من الله والطمع في مغفرته والأمل في الإقلاع عن هذه المعاصي. فتوبة من هذه حالهم متوقعة دائما، وقبولها مرتجى من الله سبحانه، ومن حكام المسلمين متعينة. وبخاصة أنها تقع في حالة تستر وخجل، وأن أضرارها قاصرة على مرتكبيها غالبا، وضررها في الدين منتف؛ لأنها لا تسبب له زيادة في تشريعه ولا نقصا ولا تحريفا. وبعد هذه المقدمة: نتعرض للموضوع فنقول وبالله التوفيق.(14/180)
الخلاف في قبول توبة المبتدع
يرى بعض العلماء أن المبتدع ليس له من توبة وممن اختار هذا أبو إسحاق الشاطبي وأبو إسحاق بن شاقلا من أصحاب أحمد وهو مذهب الربيع بن نافع. ومما احتج به هؤلاء:
* قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة (1) » .
* وبما روى أبو حفص العكبري عن أنس مرفوعا: «إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته (2) » رواه الطبراني وإسناده حسن (3) .
__________
(1) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن الترمذي العلم (2675) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، سنن ابن ماجه المقدمة (203) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (512) .
(2) سنن ابن ماجه المقدمة (50) .
(3) الترغيب 56 \ 1.(14/180)
وقال القاضي: سئل الإمام أحمد رحمه الله عما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الله احتجز التوبة عن كل صاحب بدعة (1) » وحجز التوبة أيش معناه؟ قال أحمد: لا يوفق ولا ييسر صاحب بدعة.
ووجه الدلالة من الحديث الأول أن المبتدع يلازمه وزر بدعته ووزر من عمل بها إلي يوم القيامة، وهذا يعني أنه من الأخسرين أعمالا فلا توبة له؛ لأن بدعته حالت بينه وبين التوبة، وكذلك فإن ما روي عن أنس مرفوعا من حجب التوبة عن كل صاحب بدعة، يدل على أن المبتدع محجوب عن التوبة والتوبة محجوبة عنه؛ لأن بدعته قد أحاطت به والعياذ بالله.
ويعلل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عدم توبة أهل البدع والأهواء بقوله: لأن اعتقاد هؤلاء لبدعهم يدعوهم إلى ألا ينظروا نظرا تاما إلى دليل مخالفيهم من أهل الحق فلا يعرفون الحق ولهذا قال السلف: إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية. وقال أبو أيوب السختياني وغيره: إن المبتدع لا يرجع (2) .
أما الشاطبي رحمه الله فيبرر عدم قبول توبة صاحب البدعة بقوله: أما أن صاحبها ليس له من توبة فلما جاء من قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة (3) » ، وعن يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال: كان يقال: يأبى الله لصاحب بدعة بتوبة. وما انتقل صاحب بدعة إلا إلى أشر منها. ونحوه: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما كان رجل على رأي من البدعة فتركه إلا إلى ما هو شر منه. خرج هذه الآثار ابن وضاح (4) .
__________
(1) سنن ابن ماجه المقدمة (50) .
(2) غذاء الألباب شرح منظومة الآداب لمحمد السفاريني 568 \ 2 وما بعدها.
(3) سنن ابن ماجه المقدمة (50) .
(4) الاعتصام 123 \ 1.(14/181)
وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول: اثنان لا نعاقبهما: صاحب طمع وصاحب هوى فإنهما لا ينزعان.
ثم ذكر أحاديث منها: قوله صلى الله عليه وسلم عن أهل الأهواء والبدع: «يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، ثم لا يرجعون إليه حتى يرجع السهم على فوقه (1) » .
وعن أبي ذر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «سيكون من أمتي قوم يقرءون القرآن ولا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه هم شر الخلق والخليقة (2) » . قال الشاطبي: فهذه شهادة الحديث الصحيح لمعنى هذه الآثار وحاصلها:
أنه لا توبة لصاحب البدعة عن بدعته فإن خرج عنها فإنما يخرج إلى ما هو شر منها.
ومن هنا قلنا: يبعد أن يتوب بعضهم لأن الحديث يقتضي العموم بظاهره (3) " اهـ. هذا بعض مما استدل به هؤلاء.
أما الفريق الثاني القائل بأن المبتدع له توبة: فقالوا: إن المبتدع له توبة كأي مذنب ولا حائل بينه وبين التوبة؛ لأن باب التوبة مفتوح والتوبة لا تنقطع حتى تطلع الشمس من مغربها يدل لهذا:
1 - قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (4) .
2 - وقوله سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (5) .
__________
(1) صحيح البخاري التوحيد (7432) ، صحيح مسلم الزكاة (1064) ، سنن النسائي تحريم الدم (4101) ، سنن أبو داود السنة (4765) ، مسند أحمد بن حنبل (3/68) ، موطأ مالك النداء للصلاة (477) .
(2) صحيح مسلم الزكاة (1067) ، سنن ابن ماجه المقدمة (170) ، مسند أحمد بن حنبل (5/31) ، سنن الدارمي الجهاد (2434) .
(3) الاعتصام بتصرف 123 \ 1 وما بعدها.
(4) سورة الزمر الآية 53
(5) سورة طه الآية 82(14/182)
3 وقوله سبحانه: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} (1) .
ووجه الدلالة من الآية الأولى: أن الله نهى المسرفين على أنفسهم أن يقنطوا من رحمته؛ لأنه سبحانه يغفر الذنوب جميعا. وهؤلاء المبتدعة من عباده المسرفين على أنفسهم بهذه البدع الذين أخبر وهو أصدق القائلين أنه يغفر الذنوب جميعا وبدعة هؤلاء ذنب يشمله هذا الوعد منه سبحانه. وما دام الأمر كذلك فلا مجال لتخصيص أهل البدع بعدم التوبة.
ووجه الدلالة من الآية الثانية: أنه سبحانه أخبر بأنه كثير الرحمة والمغفرة لجميع من تاب وآمن وعمل صالحا، ثم اهتدى. وكلمة (من) من صيغ العموم فتشمل كل المذنبين والمبتدع منهم.
ووجه الدلالة من الآية الثالثة: أنه سبحانه أخبر أنه صاحب مغفرة لجميع الناس الظالمين، والمبتدع من الناس وبدعته من الظلم فيشمله الغفران وتشملها المغفرة كذلك؛ ولهذا ورد عن علي بن أبي طالب قوله: ما في القرآن آية أوسع من هذه الآية: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} (2) الآية.
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: وهذه أرجى آية في القرآن. فقال عبد الله بن عباس: أرجى آية في القرآن قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} (3) .
4 - وجاء عن أبي هريرة فيما رواه مسلم (4) أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه (5) » .
__________
(1) سورة الرعد الآية 6
(2) سورة الزمر الآية 53
(3) سورة الرعد الآية 6
(4) مختصر صحيح مسلم للمنذري 271 \ 2.
(5) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2703) ، مسند أحمد بن حنبل (2/395) .(14/183)
5 - وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها (1) » . رواه مسلم (2) .
فهذان الحديثان الشريفان أفادا بمنطوقهما أن المبتدع باب التوبة له مفتوح لدخوله في عموم قوله صلى الله عليه وسلم (من تاب) و (مسيء الليل) و (مسيء النهار) .
قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم (3) : إن للتوبة ثلاثة أركان: الإقلاع والندم على فعل تلك المعصية والعزم على ألا يعود إليها أبدا. فإن كانت المعصية لحق آدمي فلها ركن رابع وهو التحلل من صاحب ذلك الحق. واتفقوا على أن التوبة من جميع المعاصي واجبة وأنها واجبة على الفور ولا يجوز تأخيرها سواء كانت المعصية صغيرة أم كبيرة. والتوبة من مهمات الإسلام وقواعده المتأكدة. ولا يجب على الله قبولها إذا وجدت بشروطها عقلا عند أهل السنة لكنه سبحانه وتعالى يقبلها كرما وفضلا وعرفنا قبولها في الشرع والإجماع. اهـ.
من هذا يظهر جليا أن الله سبحانه وتعالى قد شمل جميع عباده بقبول التوبة وأهل البدع مشمولون بهذا الفضل إذا حسنت توبتهم وأقلعوا عما أحدثوا ولا يبعد أن يمن الله عليهم برؤية الحق واتباعه والإقلاع عن البدع التي أحدثوها. والجواب عما استدل به أصحاب الرأي الأول:
1 - قوله صلى الله عليه وسلم: «من سن سنة سيئة كان عليه وزرها (4) » .
__________
(1) صحيح مسلم التوبة (2759) ، مسند أحمد بن حنبل (4/404) .
(2) نفس المصدر.
(3) باب التوبة.
(4) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن الترمذي العلم (2675) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، سنن ابن ماجه المقدمة (203) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (512) .(14/184)
الحديث محمول على ما إذا لم يتب لأن التوبة تجب ما كان قبلها كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عقيل (1) : الرجل إذا دعا إلى بدعة، ثم ندم على ما كان، وقد ضل به خلق كثير، وتفرقوا في البلاد وماتوا، فإن توبته صحيحة إذا وجدت الشرائط، ويجوز أن يغفر الله له ويقبل توبته ويسقط ذنب من ضل به بأن يرحمه ويرحمهم، وبهذا قال أكثر العلماء. اهـ.
2 - وأما بقية الأدلة: فما كان منها من أحاديث وآثار فهو معارض بالآيات الصريحة والأحاديث التي أوردنا طرفا منها فتقدم عليها. أو أن يقال إنها محمولة على ما إذا لم يتب هؤلاء وماتوا على بدعتهم.
وأما ما كان منها (أي من أدلة أهل الرأي الأول) مرويا عن السلف فمحمول على التنفير من هذه البدعة وأهلها أو على من مات ولم يتب؛ لأن شأن المبتدعة عدم التوبة بناء على التجربة التي مارسها علماء السلف مع هؤلاء. ولكن مع هذا فالمعول عليه هو النصوص المتواترة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والتي صرحت بأن باب التوبة مفتوح ويد الله مبسوطة لكل مذنب يريد التوبة، حتى لو كان كافرا أو زانيا أو قاتلا ولا نطيل في هذا لأنه من المسلمات.
__________
(1) غذاء الألباب للسفاريني 568 \ 2.(14/185)
مبحث: أسباب انحراف المبتدعة.
يتعلق المبتدعون بحجج أوهى من بيت العنكبوت؛ إذ يتعلقون في الاستدلال بأدلة يستدلون بها على خصوصات مسائلهم، وهذه الأدلة قد تكون قطعية الثبوت قطعية الدلالة ولكنهم يحرفونها عن مواضعها، وقد تكون هذه الأدلة أحاديث ضعيفة أو موضوعة، وقد يتعلقون بآثار لا أصل لها، كما أن بعضهم يكون الوازع له على هذا هو اتباع الظن والهوى(14/185)
والتشهي؛ فلهذا وقعوا فيما وقعوا فيه من انحراف عن صراط الله السوي فاستحقوا غضب الله والبعد عن مرضاته وسنتحدث بإيجاز عن أهم الأسباب التي جعلت هؤلاء المبتدعة يحيدون عن الجادة:
1 - اعتمادهم على الأحاديث الواهية الضعيفة والمكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي لا يقبلها أهل صناعة الحديث في البناء عليها. كحديث الاكتحال يوم عاشوراء وإكرام الديك الأبيض وأكل الباذنجان بنية (معينة) . وأن النبي صلى الله عليه وسلم تواجد واهتز عند السماع حتى سقط الرداء عن منكبيه. وما أشبه ذلك فإن أمثال هذه الأحاديث- على ما هو معلوم- لم ينقل الأخذ بشيء منها عمن يعتد به في طريقة العلم ولا طريقة السلوك، ومعلوم أيضا أن الأحاديث الضعيفة الواهية الإسناد لا يغلب على الظن أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، فلا يمكن أن يسند إليها حكم، فما الظن بالأحاديث المعروفة الكذب، فالذي حمل هؤلاء المبتدعة على العمل بها هو اتباع الهوى، أو الجهل بالشريعة وأصولها.
2 - اعتمادهم على تحكيم عقولهم والسير على قواعد قعدوها مما حملهم على رد أحاديث صحيحة؛ لأنها غير موافقة لأغراضهم ومذهبهم فيجب ردها، كالمنكرين لعذاب القبر والصراط والميزان ورؤية الله عز وجل في الآخرة، وكذلك حديث الذباب إذا وقع في الإناء وأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء.
وحديث المبطون الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أخاه بأن يسقيه العسل. وما أشبه ذلك من الأحاديث الصحيحة المنقولة نقل العدول.
وربما قدحوا في الرواة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم وكذا من اتفق الأئمة من المحدثين على عدالتهم وإمامتهم، كل ذلك ليردوا به(14/186)
على من خالفهم في المذهب حتى بلغ بهم الأمر أن جعلوا القول بإثبات الصراط والميزان والحوض قولا بما لا يعقل وقد سئل بعضهم: هل يكفر من قال برؤية الباري في الآخرة فقال: لا يكفر؛ لأنه قال ما لا يعقل، ومن قال ما لا يعقل فليس بكافر.
كل هذا إمعانا منهم في الضلالة حيث ردوا ما صح من النصوص وحرفوا ما لم يوافق مذاهبهم الباطلة ظلما وعدوانا.
3 - قولهم في القرآن والسنة بالخرص والتخمين مع جهلهم بعلم العربية الذي يفهم به عن الله ورسوله، فيفتاتون على الشريعة بما فهموا ويدينون به ويخالفون الراسخين في العلم.
وإنما فعلوا هذا من جهة تحسين الظن بأنفسهم واعتقادهم أنهم من أهل الاجتهاد والاستنباط وليسوا كذلك. كقول بعضهم في قوله سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} (1) أي: ألقينا فيها. كأنه عندهم من قول العرب: (ذرته الريح) وذلك لا يجوز لأن (ذرأنا) مهموز و (ذرته) غير مهموز.
ومثل قول ابن عربي في تفسير قوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} (2) قال ما نصه: واذكر اسم ربك الذي هو أنت أي: اعرف نفسك ولا تنسها فينساك الله. . إلخ وهذا التفسير مبني على اعتقاده من القول بوحدة الوجود. ومثل هذا تفسير بعض الشيعة: (الجبت والطاغوت) بأبي بكر وعمر. قاتلهم الله أني يؤفكون على هذا التأويل المنحرف.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 179
(2) سورة المزمل الآية 8(14/187)
فمثل هذه الاستدلالات لا يعبأ بها ولا يعد خلاف قائليها خلافا وما استدلوا عليه من الأحكام الفرعية أو الأصولية فهو عين البدعة؛ إذ هو خروج عن طريقة كلام العرب إلى اتباع الهوى، وصدق عمر رضي الله عنه حين قال: (إنما هذا القرآن كلام فضعوه مواضعه ولا تتبعوا به أهواءكم) .
أي: فضعوه على مواضع الكلام ولا تخرجوه عن ذلك فإنه خروج عن الطريق المستقيم إلى اتباع الهوى.
4 - الانحراف عن الأصول الواضحة إلى اتباع المتشابهات والأخذ بها تأويلا كما أخبر سبحانه في كتابه: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (1) .
والذي عليه العلماء أن كل دليل فيه اشتباه وإشكال ليس بدليل في الحقيقة حتى يتبين معناه ويظهر المراد منه. ويشترط في ذلك ألا يعارضه أصل قطعي. فإذا لم يظهر معناه لإجمال أو اشتراك أو عارضه قطعي. فليس بدليل لأن حقيقة الدليل أن يكون ظاهرا في نفسه ودالا على غيره. وإلا احتيج إلى دليل. فإن دل الدليل على عدم صحته فأحرى ألا يكون دليلا.
ومن أمثلة هذا زعم المعتزلة أن القرآن مخلوق؛ لأن الكلام لا يتصل إلا بأصوات وحروف، وكل ذلك من صفات المحدثات، والباري تنزه عنها؛ ولهذا اضطروا لتأويل مثل قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (2) ولأن الله يقول: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (3) والقرآن شيء فتشمله
__________
(1) سورة آل عمران الآية 7
(2) سورة النساء الآية 164
(3) سورة الأنعام الآية 102(14/188)
الآية، فهو إذا مخلوق وهذا المسلك منهم أخذ بالمتشابهات لأنهم قاسوا الخالق على المخلوق ونسوا أن بينهما فرقا عظيما لقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) لأن لله سبحانه صفات قائمة بذاته تليق بجلاله وعظمته لا تشبه صفات المخلوقين كما أن له أفعالا تليق به تختلف عن أفعال عباده.
فهذا التأويل إخراج لهذه النصوص عن حقائق معانيها التي نزل القرآن بها وهو خروج عن أم الكتاب إلى ما تشابه منه (2) .
وبعد، فهذه بعض المزالق التي تردى فيها المبتدعة ومن سلك سبيلهم من الأتباع وكانوا يظنون أنهم على شيء من الحق وهم أبعد ما يكونون عنه؛ لأنهم اتبعوا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا، كما حكموا العقول، والعقول لا تستقل بمعرفة مصالح العباد بغير الشرع، كما حكموا الهوى والهوى يعمي أصحابه.
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) الاعتصام 224 \ 1وما بعدها و164 \ 2وما بعدها.(14/189)
مبحث: في إبطال تعلق المبتدعة بالمسائل الآتية:
1 - جمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس على إمام واحد في صلاة التراويح.
2 - زيادة عثمان بن عفان رضي الله عنه أذانا ثانيا يوم الجمعة.
3 - تحقيق ما ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله: ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن.
وذلك أن المبتدعة يتعلقون بمثل هذه المسائل وهم يظنون أنهم(14/189)
يحسنون صنعا ولم يعلموا أن ما تعلقوا به ليس لهم فيه حجة على الوجه الذي استدلوا به وهو تحسين بدعهم ومحدثاتهم فنقول:
(أ) مشروعية صلاة التراويح ثابتة بأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم منها ما رواه الجماعة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمر فيه بعزيمة فيقول: من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (1) » رواه الجماعة (2) . قال الكرماني: اتفقوا على أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح. وقال النووي رحمه الله: إن قيام رمضان يحصل بصلاة التراويح. وقال: اتفق العلماء على استحبابها والجمهور على أن الأفضل صلاتها جماعة كما فعله عمر رضي الله عنه والصحابة رضي الله عنهم واستمر عمل المسلمين عليه لأنه من الشعائر الظاهرة فأشبه صلاة العيد. وبالغ الطحاوي فقال: إن صلاة التراويح في الجماعة واجبة على الكفاية (3) .
ومما يؤيد استحباب صلاة التراويح وأفضلية أدائها جماعة ما رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم (4) . عن عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من جوف الليل فصلى في المسجد فصلى رجال بصلاته فأصبح الناس يتحدثون بذلك فاجتمع أكثر منهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليلة الثانية فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطفق رجال منهم يقولون: الصلاة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرج لصلاة الفجر فلما قضى صلاة الفجر أقبل على الناس، ثم تشهد فقال: أما بعد: فإنه لم يخف علي
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (37) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (759) ، سنن الترمذي الصوم (808) ، سنن النسائي الصيام (2206) ، سنن أبو داود الصلاة (1371) ، مسند أحمد بن حنبل (2/423) ، موطأ مالك النداء للصلاة (251) ، سنن الدارمي الصوم (1776) .
(2) نيل الأوطار حديث 1باب التراويح 57 \ 3
(3) نفس المصدر.
(4) صحيح البخاري كتاب التهجد ومختصر المنذري 108 \ 1.(14/190)
شأنكم الليلة ولكني خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها (1) » . وفي رواية «وذلك في رمضان (2) » ووجه الدلالة من هذا أنه صلى الله عليه وسلم أدى صلاة الليل في رمضان إماما بجماعة مدة ثلاث ليال حتى بلغوا من الكثرة ما جعل المسجد يكتظ بالمأمومين. وما منعه صلى الله عليه وسلم من ترك مواصلة هذه السنة إلا الرأفة بالأمة وخوف المشقة عليها حيث صرح صلى الله عليه وسلم بهذا بقوله: «لكني خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها (3) » قال ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث ندب قيام الليل ولا سيما في رمضان جماعة لأن الخشية المذكورة أمنت بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك جمعهم عمر بن الخطاب على أبي بن كعب كما يتضح من الحديث الآتي، الذي رواه البخاري عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: خرجت مع عمر بن الخطاب في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون: يعني آخر الليل. وكان الناس يقومون أوله. ولمالك في الموطأ عن يزيد بن رومان قال: كان الناس في زمن عمر يقومون في رمضان بثلاث وعشرين ركعة (4) . وجه الدلالة من جمع عمر الناس مع إمام واحد على سنية التراويح: إقرار الصحابة رضي الله عنهم لهذا العمل، بل وامتثالهم له دون معارض فدل على استحبابه. يوضح هذا ما نقله ابن حجر عن ابن
__________
(1) صحيح البخاري صلاة التراويح (2012) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (761) ، سنن أبو داود الصلاة (1373) ، مسند أحمد بن حنبل (6/268) ، موطأ مالك النداء للصلاة (250) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (1129) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (761) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1604) ، سنن أبو داود الصلاة (1373) ، موطأ مالك النداء للصلاة (250) .
(3) صحيح البخاري صلاة التراويح (2012) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (761) ، مسند أحمد بن حنبل (6/169) .
(4) نيل الأوطار 60 \ 3.(14/191)
التين وغيره حيث قال: استنبط عمر ذلك من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم من صلى معه في تلك الليالي وإن كان كره ذلك لهم، فإنما كرهه خشية أن يفرض عليهم، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم حصل الأمن من ذلك. ورجح عند عمر ذلك؛ لما في الاختلاف من افتراق الكلمة، ولأن الاجتماع على واحد أنشط لكثير من المصلين. وإلى قول عمر جنح الجمهور. وقال الطحاوي: إن صلاة التراويح جماعة واجبة على الكفاية (كما سبق) وقال ابن بطال: قيام رمضان سنة؛ لأن عمر إنما أخذه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما تركه النبي صلى الله عليه وسلم خشية الافتراض (1) أهـ فمن أقوال هؤلاء العلماء يتضح أن صلاة التراويح سنة بدأها الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم توقف عنها لمصلحة رآها أو خوف مفسدة تراءت وهي الخوف من فرضها على المسلمين؛ مما يسبب الضيق والحرج عليهم وهكذا استمر توقف هذه السنة زمن أبي بكر وجزءا من خلافة عمر. ثم أعادها عمر رضي الله عنه إلى ما كانت عليه أول الأمر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أخذا من فعله صلى الله عليه وسلم، كما نقل ابن بطال رحمه الله. وأخذا من تقريره صلى الله عليه وسلم من صلى معه في الثلاث الليالي الأولى كما قال ابن التين وغيره.
__________
(1) فتح الباري 252 \ 4.(14/192)
مبحث: سبب تسمية عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا العمل بدعة.
وتحسينه لها بقوله: نعمت البدعة هذه، وهل يصح مستمسكا للمبتدعة في استحسان بعض البدع؟
والجواب عن هذا:
1 - أن عمر رضي الله عنه لم يأت بجديد لم يسبق إليه، كما اتضح من الاستدلال السابق، بل جاء بعمل بدأه الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله وأقر عليه، ولولا خوف فرضه لاستمر عليه؛ فلهذا الاعتبار لم يكن عمر مبتدعا.
2 - إقرار الصحابة وسكوتهم بل وفعلهم هذه السنة دليل على مشروعيتها وأن لها أصلا لعله ما ذكرناه من فعله وتقريره.
3 - وفي سكوت الصحابة وإقرارهم لعمر وامتثالهم ما يوحي بالإجماع وهو حجة، والعمل المستند إلى الإجماع لا يقال لفاعله إنه جاء ببدعة لم يكن لها في الشرع مستند.
وفعل عمر رضي الله عنه هذا وجمعه الناس على إمام واحد حجة؛ لأنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والذي قال فيه صلى الله عليه وسلم «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ (1) » .
ففعله رضي الله عنه سنة؛ لأنه من الخلفاء الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم باحتذاء سنتهم. قال الإمام الشاطبي في الموافقات: ويطلق لفظ السنة
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي حديث صحيح.(14/193)
على ما عمل عليه الصحابة وجد ذلك في الكتاب أو السنة أو لم يوجد لكونه اتباعا لسنة ثبتت عندهم لم تنقل إلينا أو اجتهادا مجتمعا عليه منهم أو من خلفائهم؛ فإن إجماعهم إجماع وعمل خلفائهم راجع أيضا إلى حقيقة الإجماع، إذا حملوا الناس عليه والتزمه الجميع وسار وافيه بدون نكير، فهذا يدل على إجماعهم عليه (1) اهـ. وعلى هذا فلا وجه لتسمية صلاة التراويح بدعة حسنة من فعل عمر. يتذرع بها أهل الرأي والاستحسان الخاطئ والمبتدعة ويؤيدون بها آراءهم الضالة.
أما تسمية أمير المؤمنين عمر هذا العمل بدعة، فالجواب عنه: أنه إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفق أن لم تقع في زمان أبي بكر رضي الله عنه، لا لأنها بدعة في المعنى. فمن سماها بدعة لهذا الاعتبار فلا مشاحة في الأسامي وعند ذلك فلا يجوز أن يستدل بها على جواز الابتداع بالمعنى الشائع. لأنه تحريف للكلم عن مواضعه (2) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ما سمي بدعة وثبت حسنه بأدلة الشرع فأحد الأمرين فيه لازم: إما أن يقال: ليس ببدعة في الدين، وإن كان يسمى بدعة من حيث اللغة، كما قال عمر: (نعمت البدعة هذه) . وإما أن يقال: هذا عام خصت منه هذه الصورة لمعارض راجح، فيبقى فيما عداها على مقتضى العموم كسائر عمومات الكتاب والسنة (3) . اهـ والعموم الذي يشير إليه شيخ الإسلام هو ما يستفاد من الأحاديث الواردة في ذم البدع، كقوله صلى الله عليه وسلم «كل بدعة ضلالة (4) » .
__________
(1) الموافقات 5 \ 4.
(2) انظر الاعتصام 194 \ 1.
(3) مجموع الفتاوى 370 \ 1.
(4) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .(14/194)
وبعد هذا التخريج لتسمية
عمر هذه الصلاة بدعة، يتضح بما لا يدع مجالا للشك أن أهل البدع ليس لهم بمثل هذا متعلق ألبتة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (1) » وهو عام يشمل كل البدع دون استثناء. أما ما كان من الأمور المشروعة التي أحدثت دون سابق عمل من الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنها لا تسمى بدعة إلا بالمعنى اللغوي لأنها مستندة لأصل من أصول الشريعة، كما سبق توضيحه في ثنايا هذا البحث، والله سبحانه أعلم بالصواب.
__________
(1) سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(14/195)
(ب) زيادة عثمان رضي الله عنه أذانا ثانيا يوم الجمعة:
الأذان يوم الجمعة يطلق ويراد به واحد من ثلاثة:
1 - ما يقع عقيب صعود الإمام على المنبر فهذا لا خلاف فيه فقد كان يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح البخاري (1) عن السائب بن يزيد قال: «كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان عثمان رضي الله عنه وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء، فثبت الأمر على ذلك (2) » وهذا الأذان هو الذي يمنع البيع ويلزم السعي لأنه تعالى أمر بالسعي ونهى عن البيع بعد النداء بقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (3) ولكون هذا الأذان الذي يقع عقيب صعود الإمام على المنبر هو النداء الموجود على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ تعلق الحكم به دون غيره (4) .
__________
(1) البخاري مع فتح الباري 393 \ 2.
(2) صحيح البخاري الجمعة (912) ، سنن الترمذي الجمعة (516) ، سنن النسائي الجمعة (1392) ، سنن أبو داود الصلاة (1087) .
(3) سورة الجمعة الآية 9
(4) انظر المغنى والشرح الكبير 145 \ 2.(14/195)
2 - والثاني هو الإقامة للصلاة: وتسميتها أذانا من باب تغليب الأذان عليها، أو لاشتراكهما في الإعلام؛ حيث جاء عن ابن أبي ذؤيب: «كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر أذانين يوم الجمعة (1) » ووجه كونها أذانا ثانيا هو أنها تقع في الترتيب بعد الأذان المعهود في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه. وهذا الأذان أو الإقامة لا خلاف فيها.
3 - الأذان الثالث وهو ما وجد على عهد عثمان رضي الله عنه كما ورد في الحديث السابق وهذا هو محل البحث:
عرفنا من فعل عثمان للأذان الثاني أنه سنة مشروعة لا بدعة للأسباب الآتية:
1 - أنه أمر بهذا في وقت الصحابة وفعله، وأقروه على هذا دون نكير، فكان كالإجماع، اللهم إلا ما روي عن ابن عمر أنه قال: الأذان الأول يوم الجمعة بدعة. فهذا منه: يحتمل الإنكار، ويحتمل أن يريد أنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما لم يكن في زمنه يسمى بدعة، ويكون قصد ابن عمر على هذا: أنه بدعة لغوية كما سمى أبوه صلاة التراويح بدعة لهذا السبب كما فصلنا القول فيه آنفا.
2 - أنه أحدثه لإعلام الناس بدخول الوقت لما كثروا قياسا على بقية الصلوات، فألحق الجمعة بها وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب (2) 3 - وفعل عثمان رضي الله عنه هذا مشروع لقوله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ (3) » وعثمان من الخلفاء الذين أمرنا بالاستنان بسنتهم. فلا يكون عثمان
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/450) .
(2) انظر فتح الباري 394 \ 2، وعون المعبود 360 \ 12، وتفسير القرطبي 100 \ 18.
(3) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(14/196)
رضي الله عنه بهذا مبتدعا وتابعه كذلك لا يصح أن يقال إنه جاء ببدعة.
ولهذا فلا متعلق للمبتدعة بإحداث عثمان هذا الأذان؛ لأن له أصلا شرعيا، وليس من البدعة في شيء؛ لأن البدعة محدثة لا أصل لها من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا فعل صحابي كعثمان.
(جـ) يتعلق المبتدعة بأدلة يزعمون أنها تبرر ما جاءوا به من بدع وما أحدثوا من مخالفات: ومن هذا: استدلالهم بما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه: (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رأوه قبيحا فهو عند الله قبيح) والمقصود ما رأوه بعقولهم، وإلا لو كان حسنه بالدليل الشرعي لم يكن من حسن ما يرون؛ إذ لا مجال للعقول في التشريع، فدل على أن المقصود ما رأوه برأيهم.
ولكن نقول قبل الكلام عن هذا الحديث: إن الاستحسان لا يكون إلا بمستحسن وهو: إما العقل وإما الشرع. أما الشرع فاستحسانه هو الاستحسان الحق؛ لأن الأدلة اقتضت هذا، وأما العقل إذا استحسن فإن كان بدليل فهو حق، ولا فائدة لهذه التسمية لرجوعه إلى الأدلة لا إلى غيرها، وإن كان بغير دليل فذلك هو البدعة التي تستحسن، ويشهد لهذا تعريف من عرف الاستحسان: بأنه ما يستحسنه المجتهد بعقله، ويميل إليه برأيه. وهذا النوع من الاستحسان هو الذي تعلق به المبتدعة، وبه حسنوا بدعهم. وهم حينما فعلوا كانوا يظنون أنهم على شيء من الحق وأنهم باستحسانهم لهذه البدع إنما ساروا على مصدر من مصادر التشريع المعتبرة عند كثير من العلماء. ولم يعرفوا أن الاستحسان الذي ساروا على فهمه يختلف عن الاستحسان الذي فهمه العلماء(14/197)