18 - أما المستمسكون بصحف شيص وإدريس وإبراهيم وزبور داود فأهل العلم على أنهم ليسوا أهل كتاب؛ لأن هذه الصحف لا تغادر أن تكون مجموعة مواعظ ليست كتبا؛ ولقول الله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} (1) لكن القاضي يعتبرهم من أهل الكتاب.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 156(10/318)
الكتابية الحربية والكتابية الذمية:
19 - الذين أجازوا زواج حرائر أهل الكتاب لم يجيزوا زواج "الحربية " منهن؛ لما في خطر لحاقها بدار الحرب، وإمكان انتقال المسلم إلى دار الحرب، فضلا عن إمكان وجود الطفل المسلم في دار الحرب إلى جوارهما، قرره ابن عباس: لا تحل نساء أهل الكتاب حربا، وتلا قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} (1) الآية.
بينما أجازوا زواج الكتابية الذمية التي تقيم في دار الإسلام ومثلها المستأمنة التي أقامت بدار الإسلام بعقد أمان، وهذه النظرة وإن كانت صحيحة بالنسبة لمن كان من أهل الكتاب في حالة حرب معنا. . . مثل اليهود في فلسطين المحتلة. .
أما في ديار الكفر التي قد تعتبر -فقها - دار حرب. . فإننا نرى بعض التحفظ؛ لأن أكثر هذه البلاد - خاصة بلاد أوروبا الغربية - تحكمها قوانين تفصل حقوق الفرد. . فإن كانت نظم تلك البلاد تسمح للمسلم بالاحتفاظ بدينه له ولأولاده من بعده فلا يصح أن تطبق عليه أحكام دار الحرب. . وإلا طبقت واعتبرت بناتها حربيات يسري عليهن حكم المشركين من ناحية الحظر.
__________
(1) سورة التوبة الآية 29(10/318)
أما الكتابيات المقيمات في بلاد الإسلام فإنهن يأخذن حكم الذميات وإن ارتفع حكم الإسلام في أكثر هذه البلاد.(10/319)
الكتابية إن غيرت دينها، والمرتدة:
20 - المرتدة حكمها حكم المشركة، ويلحق بها من كان أحد أبويها وثنيا والآخر كتابيا.
والكتابية إن غيرت دينها يعطيها البعض حكم المرتدة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه (1) » فهو عام بالنسبة لكل تغيير.
ولا نرى ذلك.
لأن تغيير اليهودية إلى النصرانية، وتغيير النصرانية إلى يهودية ليس هو المقصود بالتغيير.
إنما المقصود هنا التغيير من الإسلام إلى غيره، وإذا كان ثمة قياس فإنه يكون لمن غير من دين إلى دين أسوأ منه أو إلى غير دين، كمن انتقلت من اليهودية أو النصرانية إلى المجوسية أو غيرها. وإن كنا لا نرى محلا لعمل القياس في هذا المجال؛ لأن القياس لا يعمل
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3017) ، سنن الترمذي الحدود (1458) ، سنن النسائي تحريم الدم (4060) ، سنن أبو داود الحدود (4351) ، سنن ابن ماجه الحدود (2535) ، مسند أحمد بن حنبل (1/282) .(10/319)
في مجال العقوبات، والحديث خاص بعقوبة، لكننا من ناحية أخرى نرى أن التي تترك اليهودية أو النصرانية إلى المجوسية أو إلى غير دين ينطبق عليها أنها مرتدة في مجال أحكام الزواج، ومن ثم لا يصح الزواج منها، فإن كانت متزوجة فرق بينهما - والله أعلم.(10/320)
عمر وابن عمر وزواج الكتابية:
21 - ثبت عن عمر (1) رضي الله عنه أنه نهى عن زواج الكتابيات بأكثر من رواية؛ وذلك كله لمناسبة زواج حذيفة بيهودية.
فقيل: إن عمر رضي الله عنه قال. . . والمسلمة؟
وقيل: إن عمر رضي الله عنه قال. . ولكني أخاف أن تواقعوا المومسات منهن (2) .
وثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال تعليقا على زواج الكتابية: " إن الله حرم المشركات على المؤمنين، ولا أعلم من الإشراك شيئا أكبر من أن تقول المرأة: ربها عيسى ". وقيل: إنه يكره زواج الكتابية.
وذكر البعض في تحريم زواج الكتابية أن آية البقرة ناسخة لآية المائدة كما ذكر أن الكتابية مشركة كما ذهب إلى ذلك ابن عمر رضي الله عنهما.
22 - ولنا على ذلك:
أن الرواية الأولى لعمر تكشف عن عبقرية في فهم المصالح؛ إذ إنها تشير إلى أن زواج الكتابية سوف يصيب سوق المسلمة بالبوار.
وهو حق إن تتابع الناس فيه، كان لولي الأمر دفعا للمضرة عن المسلمة، وجلبا للمصلحة لها أن يقيد المباح فيمنع الزواج بكتابية إلا بإذن من ولي الأمر، أو يقيدها بحالة الضرورة؛ كما سنشير له بإذن الله عند إيراد رأينا في الموضوع.
أما الرواية الثانية عن عمر: " أخشى أن تواقعوا المومسات منهن " فهي كذلك تكشف عن نظر ثاقب. . إن أكثرهن أقرب إلى المومسات خلقا وسلوكا وإن كن لا يتقاضين أجرا
__________
(1) أحكام القرآن للإمام أبي بكر أحمد بن علي الجصاص الحنفي المتوفى سنة 370 هـ 2 \ 324
(2) ابن حزم ج 11 من المحلى ص12 وما بعدها(10/320)
وإن الخطيئة زال مفهومها في هذا المجال بعدما سقطت أوروبا في حمأة الفلسفة الوبيئة الحديثة التي استحلت محارم الله. .
ومن ذلك نقول. . يبقى شرط الإحصان - الذي قدمنا - حائلا ومانعا دون الوقوع في هذا النوع. .، ويبقى للنادر حكمه ما دام قد أحله الله. .
23 - أما ما روي عن ابن عمر - وهو الصحابي الجليل - فلنا عليه أن غيره من الصحابة أجاز نكاح الكتابيات حتى نقل عنهم الإجماع، وأن غيره من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار يعلمون ما قاله. . من أن تأليه عيسى كفر أو شرك. . ومع ذلك فقد حفظ القرآن لأهل الكتاب الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم أو قالوا: المسيح ابن الله. أو قالوا: إنه ثالث ثلاثة - حفظ القرآن لأهل الكتاب أحكاما خاصة، وحفظ لهم التاريخ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة ومن تبعهم بإحسان معاملة خاصة مغايرة لمعاملة "الكفار أوالمشركين".
فكيف نسوي بين من لم يسو بينهم الله ورسوله؟ (1) .
أما القول الأخير. . فقد سبق الرد على الجزء الأخير منه. . إن الكتابية لا تدخل في مدلول المشركة، ومن ثم لا تأخذ حكمها في هذا المجال كما لم تأخذ - كذلك- في مجال الذبائح، أما الجزء الأول منه وهو القائل بنسخ آية المائدة بآية البقرة فمردود بأن الآية الأخيرة سابقة على الأولى فكيف يصير النسخ؟
__________
(1) راجع في الرد على ما نسب إلى ابن عمر في المحلى لابن حزم 6 \ 544 وما بعدها(10/321)
نكاح الإماء الكتابيات:
24 - أما النكاح بمعنى الزواج فالأصل المنع، حتى لا يجتمع على الولد الرق والكفر معا. . ولأنه إن صار من الحرة إلى الأمة، فيقيده قوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} (1) .
__________
(1) سورة النساء الآية 25(10/321)
وأما النكاح بمعنى الوطء.
فالأصل فيه الإباحة لدخوله تحت عموم قوله تعالى: {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (1) .
ولأن الأصل في الإماء أنهن غير مسلمات.
ولأن الصحابة والتابعين فعلوا ذلك. .
ويلحق البعض بحل الوطء لإماء أهل الكتاب حل الإماء المجوسيات بل والكافرات ويستندون إلى فعل الصحابة.
ثم إن الافتراش امتهان. . فلا بأس من ذلك؛ ولأن أكثر الإماء يكن كافرات أو مجوسيات.
25 - ولنا على ذلك:
أن فعل الصحابة غير ذلك؛ فقد روي أنهم كانوا يعرضون عليهن الإسلام ولا يقربوهن حتى يسلمن، ويتطهرن، ويستبرئن أرحامهن، فإن كن أولات حمل انتظروا وضع الحمل، وإن كن غير ذلك انتظروا أن تحيض حيضة، أما القول بأن الافتراش امتهان. . فمعارض بقوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} (2) والأمر متبادل والأمر بعيد عن معنى الامتهان. . وعلى أي فقد رأينا الاختصار في هذه النقطة رغم التوسع الكبير فيها في كتب الفقه؛ إذ فقدت أهميتها؛ لعدم وجود الرقيق من ناحية عملية وواقعية؛ لتوقف الجهاد الإسلامي منذ مئات السنين. . وإن بقي البعض يستعمله باسمه أو بأسماء أخرى. .، لكن النادر لا حكم له.
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 6
(2) سورة البقرة الآية 187(10/322)
آثار الزواج بالكتابية:
26 - إذا انعقد زواج الكتابية بالمسلم انعقد صحيحا تماما كزواج المسلم بالمسلمة. . وهو بهذا يرث نفس الحقوق إلا أمرين:
أولهما: أن شهادة غير المسلم تصح في زواج الكتابية بالمسلم بينما لا تصح في العقد الآخر.
ثانيهما: أنه لا إرث بينهما، فإن توفي أحدهما لم يرثه الآخر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يرث الكافر مؤمنا (1) » .
أما الولد: فإنه يلحق بالأب باتفاق.
تلك هي الآثار القريبة والشرعية.
27 - أما الآثار البعيدة فإنها تتفاوت. . . تبعا لشخصية الزوج أولا. . . وتبعا لحالة الأمة الإسلامية ثانيا. . وتبعا لشخصية الزوجة ثالثا.
ونستطيع بعون الله أن نلخص بإجمال هذه الآثار. .
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4283) ، صحيح مسلم الفرائض (1614) ، سنن الترمذي الفرائض (2107) ، سنن أبو داود الفرائض (2909) ، سنن ابن ماجه الفرائض (2730) ، مسند أحمد بن حنبل (5/203) ، سنن الدارمي الفرائض (2998) .(10/323)
أ- داخل الأسرة:
28 - أما داخل الأسرة الصغيرة. . فإن الأمر يكون تبعا للعوامل الثلاثة السابقة، فإن كان الزوج قوي الشخصية. . كان ذلك له تأثير على الزوجة وأكبر الظن أنها تقتنع بالإسلام.
وفي حالات متعددة أقبلت الزوجات على الإسلام فأصبحن أكبر شغفا وأكثر اقتناعا، وأشد تمسكا من المسلمات؛ لأنهن أحسسن النقلة الكبيرة من الظلمة إلى النور، من الرجس إلى الطهر، من الضلال إلى الهدى، وفي حالات أخرى استمسكت الزوجة بدينها القديم ومارست ما يبيحه دينها أو ما يظنون أنه يبيحه. . من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، والمخادنة، فكان عاقبة أمرها خسرا، تفككت الأسرة المسلمة وتحللت، ونشأ أبناؤها على المنكر الذي صار معروفا، وانتقلت عاداتهم إلى غيرهم.
وقد يزيد الأمر سوءا إذا تعمدت الزوجة المتعصبة أو العنيدة إلى اصطحاب أولادها(10/323)
إلى الكنيسة، ورؤيتهم صلوات القسيس، واعتيادهم ذلك أو ربما استحسانهم ذلك. . . ومن شب على شيء شاب عليه، وإن لم يكن له فاقها أو فاهما. .
بل أكثر من ذلك قد تعمد إلى " تعميد" الأطفال طبقا للعادات النصرانية، وتصر على ارتدائهم الصليب وغير ذلك من العادات " النصرانية ". كل ذلك في نطاق الأسرة. . وقد يمتد إلى أوسع من ذلك. .(10/324)
ب- الآثار في المجتمع:
29 - تكاثر "الكتابيات" داخل المجتمع المسلم أمر خطير. .
وأخطر منه أن يتم ذلك بناء على تخطيط.
أما خطورته داخل المجتمع، فهو في حالة انحطاط الأمة الإسلامية - وهو الواقع القائم - وارتفاع المستوى " المادي " للأمم النصرانية. . إنهن في هذه الحالة رسل الغزو الفكري الخطير داخل الأمة الإسلامية بما يحملنه من أفكار " العلمانية" وما يتلوها من تحلل وانحلال، وبما يمارسن من عادات نصرانية تنتقل من الأسرة إلى الأسر، ومن الجار إلى الجيران. . حتى تعتبر علما على تفرنج الأسرة وتمدنها وتقدمها. .
وفي مقدمتها عادات الاختلاط بين الرجال والنساء، مع عري الملابس كشفا أو شفا أو تحديدا.
وقد تصل هذه العادات إلى الرقص الغربي الذي تتلاصق فيه أجساد الرجال مع النساء. . مع الأضواء الخافتة والموسيقى الحالمة أو الصاخبة. . فترتفع الدماء وترقص الشياطين ويكون معها ومن بعدها الشر الخطير.
ومعها عادات الأكل باليد اليسرى، والتحية باللغة الفرنسية والإنجليزية واستقلال الولد والبنت منذ البلوغ، والحرية "الكاذبة" لهم أو لهن منذ هذا السن الخطير. .
30 - هذا فضلا عن آثار سياسة تأتي تبعا. . هي الارتباط ببلاد الأم ارتباط تأثير وتأثر، والأفكار كالماء تنزل من المكان العالي إلى المكان المنخفض، أو من القمة إلى السفح، هذا إلى ما تمارسه بعض الكتابيات من تأثير على الشخصيات الكبيرة إذا قدر لهن الزواج بها مع البقاء على دينهن ظاهرا وباطنا، أو باطنا وإسلامهن ظاهرا. .(10/324)
والقصة التي يحكيها سفر " أستير " لليهودية التي تزوجت سلطان فارس، وساعدت على توسيع نفوذ اليهود في فارس حتى إذا أراد الوزير الفارسي هامان أن يبطش باليهود صورت الأمر للسلطان أنه تآمر عليه هو، حتى إذا جاء يوم التنفيذ سيق الوزير إلى المشنقة التي أعدها لليهودي مردخاي، وليساق معه خمسة وسبعون ألفا في السادس عشر من شهر آذار حتى صار اليوم التالي الرابع عشر من آذار أحد أعياد اليهود الرسمية.
وفي العصر الحديث لعبت زوجات يهوديات أو نصرانيات أدوارا في جر أزواجهن وأوطانهم إلى مواقف وأوضاع ما كان يمكن أن تتم بغير تأثيرهن.
هذا فضلا عن الأدوار الدنيئة التي تمارسها "بائعات الهوى" في المجتمعات الإسلامية لحساب اليهود والنصارى تجسسا وتنفيذا لمؤامرات، وهن في وضع أشد من أوضاع الزوجات التصاقا وتأثيرا. .(10/325)
الرأي في الزواج من الأجنبيات:
31 - رأينا أن الحكم الفقهي واضح في زواج المشركات. . . أنه التحريم المطلق.
ورأينا كذلك الحكم الفقهي واضح في زواج الكتابيات. .
1 - أنه يرى أن الزواج بالمسلمة أولى وأوفق.
2 - أنه يرى المنع من زواج الحربية.
3 - أنه يرى إباحة الزواج من الذمية.
ولكنه اشترط:
أ - أن تكون من الحرائر، وشرط الإحصان (العفة) .
ب - أن يملن إلى الإسلام بحيث يرجى إسلامهن.
4 - أنه في حالة تتابع المجتمعات والأفراد في الزواج من الكتابيات بحيث صارت ظاهرة مهددة للمجتمع فإنه لولي الأمر -سدا للذريعة -:
أ - أن يوقف أمر الزواج على إذن منه.
ب - أن يمنع ذلك إذا خيف ضرر أكبر. .(10/325)
وإن كنت أميل إلى المنع المطلق؛ نظرا لوجود المخاطر والمفاسد التي تترتب على الزواج من الأجنبيات، والتي تجر على المجتمع المسلم أفدح العواقب، وتجر على أمة الإسلام الويلات والنكبات، وللمسلمين في نسائهم غناء وكفاية. . والله ولي التوفيق
محمد بن أحمد الصالح(10/326)
مدى إمكانية
ترجمة القرآن
بقلم الدكتور محمد فاروق النبهان
يعتبر موضوع ترجمة القرآن الكريم من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى من الموضوعات التي يجدر بنا أن ندرسها بعناية، وأن نضع لها الضوابط الممكنة؛ لكي تكون الترجمة أمينة صادقة معبرة؛ وذلك لأن الترجمة ليست مجرد مهمة يسيرة يمكن أن يقوم بها فرد، فيجتهد فيها، ويبذل جهده المستطاع في تقديم ترجمة لمعاني القرآن قد تكون بعيدة كل البعد عن الأهداف والمقاصد القرآنية، وقد تسهم في تشويه المعاني القرآنية. .
ومن هذا المنطلق فإنني أعتقد أن هذا الموضوع يحتاج إلى أن يلقى عناية خاصة من المهتمين بالدراسات القرآنية، ومن المؤسسات العلمية التي تحرص على خدمة القرآن الكريم.(10/327)
مدى أهمية ترجمة القرآن
ويجب أن نسلم - في البداية - بأن القرآن الكريم الذي هو كلام الله المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بلغة عربية فصيحة، يشتمل على أصول ومبادئ الإسلام العقائدية والتنظيمية والأخلاقية، وأن كل مسلم يحتاج إلى أن يتعلم تلك المبادئ والأصول، سواء كان ذلك المسلم ممن يتقن اللغة العربية أو لا. . .
وإن ذلك المسلم الذي لا يستطيع فهم لغة القرآن يحتاج إلى أن يتبع بنفسه توجيهات القرآن وأحكامه، ولا يتم له ذلك إلا بأن يكون القرآن مترجما إلى لغته ترجمة أمينة معبرة بأدق ما يكون التعبير عن المعاني والمقاصد القرآنية. .
والترجمة بهذا الاعتبار تعتبر ضرورة دينية، يدعو إليها الإسلام لكي تبلغ دعوة الله إلى الناس أجمعين، ولسنا بحاجة في هذا المجال إلى بيان مدى ما تسهم فيه ترجمة القرآن من التعريف بأحكام القرآن وتوجيهاته إلى المسلمين الذين لا يتكلمون اللغة العربية. .(10/328)
استحالة ترجمة القرآن:
وبالرغم من تسليمي المطلق بأهمية ترجمة القرآن إلى مختلف اللغات، فإنني أتساءل - بموضوعية - عن مدى إمكان ذلك، لا من حيث الإمكان الفعلي، ولكن من حيث إمكان ترجمة القرآن، بكل ما تشتمل عليه كلمة ترجمة من التعبير الشامل عن المعنى المراد. .
إن كلمة "ترجمة" تفيد الإتيان بالكلمة البديلة المعبرة عن الكلمة الأصلية، ويصح هذا في مجال المفردات اللغوية التي تتشابه معانيها، كما يصح في مجال الجمل التي يراد بها التعبير عن المعاني ذات الدلالة البسيطة، ومع هذا. . فكثيرا ما تكون دلالات تلك المفردات مختلفة، وبخاصة في مجال التعبير عن بعض المقاصد التي لا يدركها إلا أصحاب الذوق اللغوي الرفيع، وقد يختلف هؤلاء في مدى إدراكهم لمقاصد المتكلم ولغاياته.
ويمتاز القرآن الكريم بخاصة الإعجاز البياني، الذي تحدى الله تعالى به العرب فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (1) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 23
(2) سورة البقرة الآية 24(10/328)
وقال أيضا:
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (1) .
وقد تصدى العلماء لدراسة أوجه الإعجاز القرآني، ومن أهم هؤلاء الجاحظ في كتابه نظم القرآن، والرماني والباقلاني في كتابيهما إعجاز القرآن، والجرجاني في كتابه: دلائل الإعجاز، وحاولوا بيان ذلك الإعجاز من خلال منهج لغوي اختاروه دليلا على الإعجاز. .
وفي العصر الحديث تصدى بعض العلماء لموضوع الإعجاز القرآني، فلم يتابعوا منهج الأقدمين في البحث عن الجانب البلاغي واللغوي، وإنما قدموا رؤية جديدة لمفهوم الإعجاز، ومن هؤلاء الأستاذ مصطفى صادق الرافعي الذي التمس معنى الإعجاز من خلال النظم القرآني، والحركة الصرفية واللغوية التي تجري في الوضع والتراكيب، والتي يهيئ بعضها لبعض، ويساند بعضها بعضا، حتى إن الحركة التي قد تكون ثقيلة في نفسها صعبة التعبير، قاسية فاقدة لمعنى الجمال، إذا استعملت في القرآن كان لها شأن عجيب، وخاصة وأنها تأتي في إطار كلمات وتعابير ومعان تمهد لها، وتهيئ الظروف المناسبة لتقبلها، فإذا بالتعبير يؤدي الغرض منه، في ظل إعجاز بياني لا يرقى البشر لمثله (2) .
ثم جاء الأستاذ سيد قطب بمنهج جديد، إذ التمس معنى الإعجاز من خلال التصوير الفني، الذي يمثل - في رأيه - الأداة المفضلة في أسلوب القرآن.
هذا الإعجاز الذي يعتبر من أهم خصائص القرآن الكريم، والذي أعجز العرب وهم أصحاب بلاغة وفصاحة أن يأتوا بمثله، وتلمس كبار علماء البيان قديما وحديثا، أن يستوعبوا بعضا منه، لا يمكن للترجمة مهما توفرت الكفاءة فيمن تصدوا لها، أن تعبر
__________
(1) سورة الإسراء الآية 88
(2) انظر تاريخ آداب العرب للأستاذ مصطفى صادق الرافعي ج2ص239(10/329)
عنها أو عن بعضها، وإذا ما حاول المترجمون أن يترجموا بعضا منها، فإن ترجمتهم ستكون باهتة الظلال فاقدة لأية قيمة تعبيرية، أو أية دلالة مؤثرة.
وكيف يمكن للمترجم أن يترجم بصدق وأمانة تصوير القرآن الكريم لحالة من ينفرون من دعوة الإيمان في قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} (1) {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} (2) {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} (3) وهنا نلاحظ أن ملكة الخيال تصور حالة الفرار من الإيمان كما تنفر حمر الوحش من الأسود. وكيف يمكن للمترجم أن يعبر عن تصوير الصبح إذا تنفس وانفرجت ثناياه، وتصوير الأرض الهامدة التي إذا نزل عليها المطر اهتزت وربت، والتعبير عن الرجفة التي تصيب الأرض والجبال في قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} (4) .
__________
(1) سورة المدثر الآية 49
(2) سورة المدثر الآية 50
(3) سورة المدثر الآية 51
(4) سورة المزمل الآية 14(10/330)
اختلاف الدلالات اللغوية للنص القرآني:
من المتفق عليه لدى علماء اللغة أن المفردات اللغوية ذات دلالات مختلفة، وأحيانا تكون تلك الدلالات متعارضة ومتباينة، وبناء على ذلك الاختلاف في الدلالات اللغوية يختلف تفسير النص القرآني، وتختلف معه الأحكام المستنبطة منه.
ولو رجعنا إلى كتب التفسير فإننا سوف نجد الاختلاف الكبير في الدلالات اللغوية للألفاظ القرآنية، ولذا فإن التفسير المأثور قد أسهم بقسط وافر في بيان بعض الألفاظ القرآنية، وتحديد المراد بها. .
وبالإضافة إلى هذا. . . فإن " موضوع الدلالات " يعتبر من أهم موضوعات علم أصول الفقه وأكثرها دقة؛ لأن النص القرآني لا يمكن أن يفهم فهما صحيحا إلا بعد معرفة قواعد دلالة الألفاظ على الأحكام، وتلك الدلالة قد تكون مباشرة، أي يدل عليها النص بطريقة مباشرة، وقد تكون دلالة غير مباشرة، وتسمى عندئذ "دلالة الإشارة".
ويراد بدلالة الإشارة دلالة اللفظ على معنى غير مقصود، ولكنه مرتبط بالحكم الذي سيق اللفظ لإفادته، الفرق بين الحكم الثابت بالعبارة والحكم الثابت بالإشارة(10/330)
أن الأول قد سيق له النص بشكل مقصود، بخلاف دلالة الإشارة فإنه غير مقصود، ولكنه لازم للحكم، ويحتاج في استنباطه لقدر من التأمل. .
لهذه الاعتبارات جميعا فإنني أعتقد أن ترجمة القرآن مستحيلة من الناحية الواقعية، وغير جائزة من الناحية الشرعية، وذلك للأسباب التالية:
أولا: استحالة اشتمال الترجمة على جميع الدلالات اللغوية والشرعية المرادة من النص القرآني، وتلك الدلالات تعتبر من أهم ما يستهدفه النص القرآني في مجال التشريع. .
ثانيا: استحالة تعبير الترجمة على أي قدر ولو يسير من جوانب الإعجاز البياني للقرآن الكريم، سواء تمثلت في صورة بلاغية، أو سلامة النظم القرآني، أو في الحركة اللغوية العامة التي تجري في تركيب المفردات والجمل. .
ثالثا: عدم جواز إطلاق كلمة "قرآن" على أية ترجمة للقرآن، وعدم صحة إطلاق "ترجمة القرآن"، وإنما هي ترجمة تفسيرية لبعض ما يفهمه المترجم من معاني القرآن. .(10/331)
شروط ضرورية للترجمة:
لا يجوز أن تكون ترجمة القرآن خاضعة للأهواء وللإرادات الفردية ذات الأهداف المتعددة، وذلك لأن الترجمة التي لا تتوفر فيها شروط الصحة تسهم في تشويه صورة القرآن، وتقدمه إلى الناس مشوه المعالم، ركيك العبارة، جامد التعبير، لا يثير في النفس ما يثيره القرآن الكريم المعجز من آثار، ولا يترك لدى القارئ ما يتركه لدى قارئه في اللغة العربية من إعجاب.
وإن المؤسسات الإسلامية المختصة بالدفاع عن مقدسات الإسلام والغيورة على كل ما يتعلق بكتاب الله تعالى، مدعوة اليوم للتصدي للمحاولات الفردية العابثة التي استهدفت ترجمة القرآن، وأساءت للقرآن بتلك الترجمة.
وأعتقد أن من الضروري أن تتوفر فيمن يتصدى لترجمة القرآن الشروط التالية:
1 - أن يكون المترجم عربي اللسان، نشأة وتكوينا، لكي يكون قادرا - بفطرته - على فهم ما يشير إليه القرآن من دلالات، ومثل هذا الفهم العميق لا يمكن أن يدركه إلا(10/331)
من توفرت له إمكانية تذوق اللغة العربية بكل ما يدل عليه التعبير من دلالات، وعندما أشترط أن يكون عربي اللسان، فإنني لا أعني أن يكون عربي النسب، وإنما أعني أن يكون قد عاش في بيئة عربية تمكنه من فهم النص العربي، لكي يكون مؤهلا لتذوق النص القرآني، وفهم دلالاته، وإدراك معانيه، بكل ما يفيده النص من أبعاد، سواء في مجال الإعجاز الأسلوبي، أو في مجال التوجيه التشريعي وإقرار الأحكام.
وإنني أعرف أن كثيرا من أبناء اللغة العربية نسبا لا يملكون القدرة على فهم الدلالات العربية للنص العربي، بكل ما يملكه من طاقة في مجال التعبير أو التصوير أو التمثيل. .
2 - أن يكون المترجم متمكنا من معرفة علوم القرآن، عالما بأصول الشريعة ومبادئها العامة، على وجه الإجمال لا التفصيل؛ وذلك لأن المترجم لا يمكن له ترجمة النص ترجمة دقيقة ما لم يكن ملما بكل ما يتعلق بذلك النص، من أسباب نزوله، ودلالاته من حيث العموم والخصوص، عارفا بكل المصطلحات اللغوية الواردة في القرآن، متمكنا من دلالاتها الشرعية على الأحكام المرادة بها، حتى يكون قادرا على اختيار اللفظ المعبر عن المعنى المراد. .
3 - أن يكون المترجم متمكنا كل التمكن من اللغة التي يريد الترجمة إليها، وذلك لكي يكون قادرا على اختيار اللفظ الملائم والمعبر، وإن المعرفة السطحية باللغة المترجم إليها تدفع المترجم إلى أن يختار مفردات قاموسية قد لا تكون دلالاتها الفعلية منسجمة في حالة التركيب مع المعنى القرآني المراد، أو مع ما أراده المترجم من أفكار. .(10/332)
حكم ترجمة المستشرقين:
دأب بعض المستشرقين على ترجمة القرآن إلى اللغات الرئيسية كاللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وجاءت ترجمات القرآن مختلفة في دلالاتها، متباينة كل التباين في كثير من معانيها، تختلف اختلافا واضحا من حيث قيمتها العلمية.
وأود هنا أن أوضح أن المستشرق ليس مؤهلا بحسب تكوينه الاستشراقي للتصدي لترجمة القرآن؛ وذلك لأن المستشرق ينظر للقرآن نظرة تختلف عن نظرة المسلم له، ولا يملك الغيرة الوجدانية التي تدفعه للدقة في اختيار المفردات المعبرة عن المعاني القرآنية(10/332)
فضلا عن أن المستشرق متهم في التزامه الموضوعية تجاه الإسلام، وذلك الاتهام كفيل بأن يلقي ظلالا من الشك حول الثقة بما يسهم به في مجال الترجمة القرآنية. .
ويدخل في حكم المستشرق كل من اتهم من المسلمين في دينه وعقيدته؛ لأن الترجمة أمانة، ولا يجوز أن يتصدى لها إلا من توفرت له كامل الثقة بسلامة عقيدته، وحسن خلقه، وبكفاءته اللغوية، وبجدارته للقيام بهذه المهمة الجليلة.(10/333)
إنشاء مؤسسة معتمدة للترجمة القرآنية:
لا أعتقد أن ما ذكرناه من شروط يمكن أن يتوفر بدقة وموضوعية في ترجمة القرآن، والترجمة كما ذكرت هي نوع من أنواع التفسير والبيان، وفي جميع الأحوال لا يمكن اعتبارها قرآنا؛ لأنها ليست القرآن، وليست من كلام الله، وإنما هي من كلام البشر، ويجوز أن تصحح وتعدل بعض مفرداتها، كما يجري عليها احتمال الخطأ والصواب. .
ومع هذا. . . ولئلا نسمح بالعبث في ترجمة القرآن عن طريق طرح ترجمات متعددة، ربما يشتهر بعضها يوما، فتصبح قرآنا بلغة أخرى، يتداوله عوام المسلمين ممن لم يتوفروا على قدر كاف من الوعي والنضج والإدراك. . فإنني أقترح "تشكيل مؤسسة متخصصة معتمدة" تتوفر على بعض أصحاب الاختصاص اللغوي والشرعي، من المتمكنين في المعاني القرآنية، والقادرين على الترجمة الدقيقة السليمة، وتقوم هذه المؤسسة عن طريق اللجان العلمية المتخصصة بإعداد ترجمة تفسيرية للقرآن، لا أقول معبرة كل التعبير عن كل معاني القرآن، وإنما يمكن أن تكون أفضل من الترجمة الفردية التي لا يتوفر فيها ما يتوفر في الترجمة المعتمدة من إعداد سليم.
وإن مثل هذه المؤسسة ستكون مؤهلة - على وجه التأكيد - لتقديم ترجمة تفسيرية للقرآن الكريم إلى اللغات الأخرى، لا نجد فيها من ركاكة الترجمة، وعدم الدقة فيها ما نجده في الترجمات المتعددة التي نراها اليوم. . . وأتمنى من أعماق قلبي أن تتصدى الجهات المسئولة في العالم الإسلامي لحمل الأمانة فيما يتعلق بهذا الجانب الهام من الدراسات القرآنية، لكي توقف خطرا لا بد أن يتزايد أثره مع الزمن. . .
محمد فاروق النبهان(10/333)
صفحة فارغة(10/334)
تعقيب
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم سماحة شيخ الأزهر جاد الحق علي جاد الحق، وفقه الله لما يحبه ويرضاه. .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فقد بلغني بالنشرة المرفقة تصريح سماحتكم لصحيفة الأخبار المتضمن إنكار صيام رمضان 28 يوما ثم قضاء اليوم الأول من رمضان باعتبار وقوع خطأ في تحديده. . . إلخ.
وأخبر سماحتكم أنني استغربت ما تضمنه هذا التصريح؛ لما أعلمه عن فضيلتكم من العلم والفضل، وأن مثل هذا الحدث لا يخفى عليكم. . وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الشهر لا ينقص عن تسعة وعشرين يوما. ومتى ثبت دخول شوال بالبينة الشرعية بعد صيام المسلمين ثمانية وعشرين يوما، فإنه يتعين أن يكونوا أفطروا اليوم الأول من رمضان، فعليهم قضاؤه؛ لأنه لا يمكن أن يكون الشهر ثمانية وعشرين يوما، وإنما الشهر تسعة وعشرون يوما أو ثلاثون.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في الجزء 25 من فتاواه ص154-155 أن هذا حدث في زمن علي رضي الله عنه صاموا ثمانية وعشرين يوما وأمرهم علي بصيام اليوم الذي نقصهم وإتمام الشهر تسعة وعشرين يوما.
فآمل التنويه على الصحيفة بالصواب، إذا كان قد صدر من فضيلتكم لها خلافه، ولا يخفى أن فضيلتكم محل الثقة والاعتبار، وسيأخذ بفتواكم من لا يحصيه إلا الله ويعتمدون عليها.
ولوجوب التناصح بيننا والتواصي بالحق والتعاون على البر والتقوى رأيت الكتابة إلى فضيلتكم في ذلك. والله المسئول أن يوفقنا جميعا لإصابة الحق في القول والعمل، وأن يجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين، إنه جواد كريم. أثابكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(10/335)
حديث شريف
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع على عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم (1) »
رواه الترمذي وقال:
حديث حسن صحيح
__________
(1) سنن الترمذي فضائل الجهاد (1633) ، سنن النسائي الجهاد (3108) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2774) ، مسند أحمد بن حنبل (2/505) .(10/336)
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَالْعَصْرِ} (1) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (2) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3)
صدق الله العظيم
سورة العصر
__________
(1) سورة العصر الآية 1
(2) سورة العصر الآية 2
(3) سورة العصر الآية 3(11/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(11/2)
مجلة البحوث الإسلامية
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(11/3)
المحتويات
الافتتاحية
وجوب التوبة إلى الله سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
موضوع العدد
بحث.. الحكم في السطو والاختطاف والمسكرات.. القسم الأول إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 13
الفتاوى
الفتاوى إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 145
الموضوعات
منهج السلف في العقيدة وأثره في وحدة المسلمين للشيخ صالح بن سعد السحيمي 171(11/4)
الربا في ضوء الكتاب والسنة للشيخ عبد الله بن الغني خياط 193
المعاجم العربية وكيفية الإفادة منها للدكتور محمد جابر الفياض 227
حكم لعب الأطفال للشيخ عبد الله بن حمد العبودي 263
حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله اللواء الركن محمود شيت خطاب 285
منقبة للملك فيصل للدكتور محمد تقي الدين الهلالي 313
نداء وتذكير للتبرع للمجاهدين الأفغان سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 319(11/5)
صفحة فارغة(11/6)
الافتتاحية
وجوب التوبة إلى الله والضراعة إليه عند نزول المصائب
لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يطلع عليه من المسلمين، وفقني الله وإياكم للتذكر والاعتبار والاتعاظ بما تجري به الأقدار. والمبادرة بالتوبة النصوح من جميع الذنوب والأوزار آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فإن الله - عز وجل - بحكمته البالغة وحجته القاطعة، وعلمه المحيط بكل شيء، يبتلي عباده بالسراء والضراء، والشدة والرخاء، وبالنعم والنقم؛ ليمتحن صبرهم وشكرهم؛ فمن صبر عند البلاء، وشكر عند الرخاء، وضرع إلى الله سبحانه عند حصول المصائب، يشكو إليه ذنوبه وتقصيره، ويسأله رحمته وعفوه؛ أفلح كل الفلاح، وفاز بالعاقبة الحميدة، قال الله - جل وعلا - في كتابه العظيم {الم} (1) {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (2) {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (3) .
والمقصود بالفتنة في هذه الآية الاختبار والامتحان، حتى يتبين الصادق من الكاذب، والصابر والشاكر. كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} (4)
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 1
(2) سورة العنكبوت الآية 2
(3) سورة العنكبوت الآية 3
(4) سورة الفرقان الآية 20(11/7)
وقال - عز وجل -: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (1) ، وقال سبحانه: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (2) ، والحسنات هنا هي النعم من الخصب والرخاء، والصحة والعزة، والنصر على الأعداء ونحو ذلك، والسيئات هنا هي المصائب. كالأمراض وتسليط الأعداء والزلازل والرياح العاصفة، والسيول الجارفة المدمرة، ونحو ذلك وقال - عز وجل -: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (3) ، والمعنى أنه سبحانه قدر ما قدر من الحسنات والسيئات، وما ظهر من الفساد ليرجع الناس إلى الحق، ويبادروا بالتوبة مما حرم الله عليهم، ويسارعوا إلى طاعة الله ورسوله؛ لأن الكفر والمعاصي هما سبب كل بلاء وشر في الدنيا والآخرة، وأما توحيد الله والإيمان به وبرسله وطاعته وطاعة رسله، والتمسك بشريعته والدعوة إليها والإنكار على من خالفها؛ فذلك هو سبب كل خير في الدنيا والآخرة، وفي الثبات على ذلك، والتواصي به، والتعاون عليه عز الدنيا والآخرة، والنجاة من كل مكروه، والعافية من كل فتنة، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (4) ، وقال سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (5) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (6) ، وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (7) ، وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (8) .
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 35
(2) سورة الأعراف الآية 168
(3) سورة الروم الآية 41
(4) سورة محمد الآية 7
(5) سورة الحج الآية 40
(6) سورة الحج الآية 41
(7) سورة النور الآية 55
(8) سورة الأعراف الآية 96(11/8)
وقد بين سبحانه في آيات كثيرات أن الذي أصاب الأمم السابقة من العذاب والنكال بالطوفان والريح العقيم والصيحة والغرق والخسف، وغير ذلك كله بأسباب كفرهم وذنوبهم، كما قال - عز وجل -: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (1) ، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (2) ، وأمر عباده بالتوبة إليه، والضراعة إليه عند المصائب؛ فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (3) ، وقال سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4) ، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} (5) {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (6) ، وفي هذه الآية الكريمة حث من الله سبحانه لعباده وترغيب لهم إذا حلت بهم المصائب من الأمراض والجراح والقتال والزلازل والريح العاصفة، وغير ذلك من المصائب، أن يتضرعوا إليه ويفتقروا إليه فيسألوه العون، وهذا هو معنى قوله سبحانه: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} (7) ، والمعنى: هلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا. ثم بين سبحانه أن قسوة قلوبهم، وتزيين الشيطان لهم أعمالهم السيئة، كل ذلك صدهم عن التوبة والضراعة والاستغفار، فقال - عز وجل -: {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (8) .
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 40
(2) سورة الشورى الآية 30
(3) سورة التحريم الآية 8
(4) سورة النور الآية 31
(5) سورة الأنعام الآية 42
(6) سورة الأنعام الآية 43
(7) سورة الأنعام الآية 43
(8) سورة الأنعام الآية 43(11/9)
وقد ثبت عن الخليفة الراشد - رحمه الله - أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، أنه لما وقع الزلزال في زمانه كتب إلى عماله في البلدان، وأمرهم أن يأمروا المسلمين بالتوبة إلى الله والضراعة إليه والاستغفار من ذنوبهم، وقد علمتم أيها المسلمون، ما وقع في عصرنا هذا من أنواع الفتن والمصائب، ومن ذلك تسليط الكفار على المسلمين في أفغانستان والفلبين والهند وفلسطين ولبنان وأثيوبيا وغيرها، ومن ذلك ما وقع من الزلازل في اليمن وبلدان كثيرة، ومن ذلك ما وقع من فيضانات مدمرة والريح العاصفة المدمرة لكثير من الأموال والأشجار والمراكب البحرية وغير ذلك، وأنواع الثلوج التي حصل بها ما لا يحصى من الضرر، ومن ذلك المجاعة والجدب والقحط في كثير من البلدان كل هذا وأشباهه من أنواع العقوبات والمصائب التي ابتلى الله بها العباد بأسباب الكفر والمعاصي والانحراف عن طاعته سبحانه، والإقبال على الدنيا وشهواتها العاجلة، والإعراض عن الآخرة وعدم الإعداد لها، إلا من رحم الله من عباده.
ولا شك أن هذه المصائب وغيرها توجب على العباد البدار بالتوبة إلى الله سبحانه من جميع ما حرم عليهم، والبدار إلى طاعته وتحكيم شريعته، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه، ومتى تاب العباد إلى ربهم وتضرعوا إليه، وسارعوا إلى ما يرضيه، وتعاونوا على البر والتقوى، وتآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، أصلح الله أحوالهم، وكفاهم شر أعدائهم، ومكن لهم في الأرض ونصرهم على عدوهم، وأسبغ عليهم نعمه، وصرف عنهم نقمه، كما قال سبحانه، وهو أصدق القائلين: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (1) ، وقال - عز وجل -: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (2) {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (3) ، وقال - عز وجل -: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} (4) ، وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} (5) الآية.
__________
(1) سورة الروم الآية 47
(2) سورة الأعراف الآية 55
(3) سورة الأعراف الآية 56
(4) سورة هود الآية 3
(5) سورة النور الآية 55(11/10)
وقال - عز وجل -: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) .
فأوضح - عز وجل - في هذه الآيات أن رحمته وإحسانه وأمنه وسائر أنواع نعمه إنما تحصل على الكمال الموصول بنعيم الآخرة لمن اتقاه وآمن به وأطاع رسله، واستقام على شرعه وتاب إليه من ذنوبه.
أما من أعرض عن طاعته وتكبر عن أداء حقه، وأصر على كفره وعصيانه، فقد توعده سبحانه بأنواع العقوبات في الدنيا والآخرة، وعجل له من ذلك ما اقتضته حكمته ليكون عبرة وعظة لغيره كما قال سبحانه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} (2) {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (3) .
فيا معشر المسلمين، حاسبوا أنفسكم وتوبوا إلى ربكم، واستغفروه وبادروا إلى طاعته، واحذروا معصيته، وتعاونوا على البر والتقوى، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين، وأقسطوا إن الله يحب المقسطين، وأعدوا العدة الصالحة قبل نزول الموت، وارحموا ضعفاءكم، وواسوا فقراءكم، وأكثروا من ذكر الله واستغفاره، وتآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر لعلكم ترحمون، واعتبروا بما أصاب غيركم من المصائب بأسباب الذنوب والمعاصي، والله يتوب على التائبين ويرحم المحسنين ويحسن العاقبة للمتقين، كما قال سبحانه: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (4) ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (5) .
والله المسئول بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، أن يرحم عباده المسلمين، وأن يفقههم في الدين، وينصرهم على أعدائه وأعدائهم
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة الأنعام الآية 44
(3) سورة الأنعام الآية 45
(4) سورة هود الآية 49
(5) سورة النحل الآية 128(11/11)
من الكفار والمنافقين، وأن ينزل بأسه بهم الذي لا يرد عن القوم المجرمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(11/12)
موضوع العدد
الحكم في
السطو
والاختطاف
والمسكرات
إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
فبناء على ما ورد من جلالة الملك خالد - رحمه الله تعالى - برقم 5934 \ 2 وتاريخ 17 \ 6 \ 1401هـ من رغبته الملحة في دراسة موضوع تهريب المخدرات وترويجها وتعاطيها، وموضوع خطف بعض المجرمين أشخاصا للاعتداء كل أعراضهم أو أنفسهم أو أموالهم. وبيان الحكم الشرعي فيمن يرتكب هذه الجرائم ليطبق عليهم تحقيقا للأمن وحماية للأمة من شرهم.
وبناء على ما اقترحه مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة السابعة عشرة المنعقدة بالرياض في رجب عام 1401 هـ بعد مناقشة(11/13)
الموضوع من ضرورة إعداد بحث في تفاصيل أحكام السطو والخطف والمخدرات ليعرض في الدورة الثامنة عشرة - إن شاء الله - وعهد بذلك إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بناء؛ على ذلك أعدت الدائمة بحثا في الموضوع يتضمن ما يلي:
1 - مقدمة في وجوب حفظ الأمن تحقيقا لطمأنينة الأمة وسلامتها في دينها ونفسها وعرضها ومالها، وموقف ولاة الأمور من ذلك.
2 - كلام بعض علماء التفسير وشراح الحديث على نصوص من الكتاب والسنة تتعلق بعقوبة الحرابة والإفساد في الأرض مع مناقشتها.
3 - أقوال فقهاء الإسلام في تحديد المراد بجريمة الحرابة والإفساد في الأرض، وفي عقوبتها مع مناقشتها.
4 - تعريف الخمرة وبيان الفرق بين المسكر والمخدر والمفتر. وذكر أقوال الفقهاء في حكم تعاطيها وعقوبة من يتعاطاها ومن يساعد على ذلك.
5 - تعليقا على ما تقدم يتضمن مدى انطباق حكم جريمة الحرابة والإفساد في الأرض على الجزئيات التي اقترح المجلس بيان حكم الشرع فيها.
وفيما يلي ذكر ذلك بتوفيق الله تعالى:
أولا: مقدمة في وجوب حفظ الأمن تحقيقا لطمأنينة الأمة وسلامتها في دينها ونفسها وعرضها ومالها، وموقف ولاة الأمور من ذلك.
استقرأ علماء الإسلام نصوص التشريع الإسلامي وتتبعوا أدلته واستخلصوا منها كليات عليا ومقاصد عامة إليها يرجع جميع أنواع التشريع الإسلامي وجزئياته، اندراجا تحتها وتحقيقا لها، ومحافظة عليها، وقسموا هذه الأصول ثلاثة أقسام: ضروريات، وحاجيات، وتحسينيات.
1 - فالمقاصد الضرورية هي التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، وبدونها(11/14)
تتفشى الفوضى ويعم الاضطراب والهرج والقتل في الدنيا. ويفوت الفوز والنعيم في الآخرة.
وهي خمسة أنواع: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العرض والنسل، وحفظ المال، وحفظ العقل.
وللمحافظة عليها شرع الله تعالى أصول العبادات. وأحكاما في العبادات والمعاملات والجنايات. وفرض أنواعا من الحدود والعقوبات يطبقها ولاة أمور المؤمنين على من ثبت لديهم أنهم تجاوزوا حدود الشريعة فاعتدوا على حق الله، أو حق أنفسهم، أو حقوق العباد. صيانة لهذه المقاصد ومحافظة على كيان الأمة، رعاتها ورعيتها، وخشية أن تذهب ريحهم وتدول دولتهم.
فشرع سبحانه أصول العبادات والجهاد في سبيله وقتل المرتدين، وعقوبة المبتدعين محافظة على الدين، وشرع القصاص والديات محافظة على النفس والأعضاء، وشرع النكاح وحرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن من الزنا واللواط، وفرض على ولاة الأمور إقامة حد الجلد والرجم على من ثبت لديهم أنه ارتكب هذه الفاحشة محافظة على النسل والأعراض، وحرم الخمر اتقاء لمضارها، وأوجب حد شاربها محافظة على العقل، وحرم الاعتداء على الأموال، وأوجب في السرقة حد القطع حفظا للأموال وتطهيرا للمجتمع الإسلامي من التلصص، ودفعا له إلى الكسب من طرقه المشروعة. وحرم الحرابة والإفساد في الأرض؛ صيانة لكيان الأمة ومحافظة على أمنها وسلامتها، وقضاء على الفوضى وأسباب الانهيار.
2 - والحاجيات هي التي شرعت للتوسعة على الأمة ورفع الضيق ودفع المشقة والحرج عند المكلفين؛ فشرع رخص السفر والمرض في العبادات، وشرع عقود تبادل المنافع بيعا وشراء وإجارة وكراء ونحو ذلك في المعاملات، وأباح الصيد بالجوارح والأسلحة، والتمتع بالطيبات مأكلا ومشربا ومسكنا ونحو ذلك، مما لو لم يشرع لأصاب الناس ضيق، ووقعوا في مشقة وحرج.
3 - التحسينيات: هي ما شرع من محاسن العادات والمعاملات ومكارم الأخلاق(11/15)
والترفع عن الدنيات وكل ما تأباه الفطر السليمة والعقول الرشيدة. كالتقرب إلى الله بنوافل الخيرات، وكمراعاة الآداب في الأكل والشرب والمجالس، والتجمل بالملابس وإزالة النجاسة، وترك قتل النساء والصبيان والرهبان في جهاد الكفار، ونحو ذلك مما هو أدب وكمال وزينة وجمال.
وأعلى هذه المقاصد رتبة وأرسخها في حفظ كيان هذا العالم وتقويمه وسيره على سنن مستقيمة وأشدها خطرا عند الإخلال بها هو المقاصد الضرورية. وتليها الحاجيات ثم التحسينيات، بل هما مع اعتبارهما في أنفسهما من الأصول العليا مكملان للمقاصد الضرورية، ولهذا لم يشرع الله تعالى قتلا ولا حدا إلا في الإخلال بالضروريات كلا أو بعضا. أما الحاجيات والتحسينيات فشرع في الإخلال بهما كلا أو بعضا - التعزيرات، والتعزير يرجع في تقديره إلى ولاة الأمور. ومن ولوه شأنا من شئونهم، وذلك على قدر ما يرونه من خطر الإخلال والظروف المحيطة بالمسيء وبجريمته.
هذا وإن المسئولية الكبرى في رعاية هذه المقاصد والمحافظة على كيان الأمة الإسلامية وعلى أمنها وسلامتها علما وعملا لملقاة على عاتق ولاة الأمور من العلماء والحكام عملا بقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) ، وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله، قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين - وعامتهم (2) » .
فعلى علماء الإسلام بيان أحكام الشرع للناس راعيها ورعيتها؛ إنارة للبصائر، وإقامة للحجة عليهم، وإعذارا إليهم، فمن اهتدى بهدي الإسلام فاز، ومن ضل وركب رأسه وجب على الحكام الأخذ على يديه؛ وقاية للأمة من شره، وتطهيرا للمجتمع من خبثه.
والذي يعنينا هنا بيان حكم ما فشا بين الناس اليوم من السطو على البيوت ونحوها، وخطف الصبيان والنساء والتغرير بهم، وتناول المسكرات والمخدرات وبيان جزاء من يفعل ذلك من المجرمين ليرتدع من أراد الله به الخير، وليقوم الحكام بعقوبة من أخذته العزة بالإثم ولج في طغيانه بما يناسب جريمته جزاء وفاقا بما كسبت يداه.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) رواه البخاري ـ في كتاب الإيمان ص20 (حاشية السندي) ، ورواه مسلم في كتاب الإيمان ص37 - مسلم بشرح النووي ـ ورواه غيرهم(11/16)
وفيما يلي نقول عن فقهاء الإسلام من المفسرين وغيرهم لها وثيق الصلة بذلك يستخلص منها الحكم، والجزاء - إن شاء الله.(11/17)
ثانيا: كلام بعض علماء التفسير وشراح الحديث على نصوص من الكتاب والسنة تتعلق بعقوبة الحرابة والإفساد في الأرض مع المناقشة.
لما كان موضوع سطو المجرمين على الناس في بيوتهم أو طرقاتهم وأسفارهم وخطفهم أو مخادعتهم للاعتداء عليهم في أنفسهم أو أموالهم أو أعراضهم، وكذا المخدرات وما يتعلق بها وثيق الصلة بالحرابة والإفساد في الأرض؛ كان لا بد من الكلام عليهما، وبيان الحكم فيهما لينتقل من ذلك إلى بيان الحكم في موضوع البحث وتفصيله في جزئياته التي اقترحها المجلس في الدورة السابعة عشرة، فلنبدأ بجمع النقول في ذلك من بعض كتب التفسير، وكتب شراح الحديث.
1 - نقول عن بعض علماء التفسير:
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) الآيتين.
هذا بيان من الله - عز ذكره - عن حكم الفساد في الأرض الذي ذكره في قوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} (2) ، أعلم عباده ما الذي يستحق المفسد في الأرض من العقوبة والنكال فقال - تبارك وتعالى - لا جزاء له في الدنيا إلا القتل والصلب وقطع اليد والرجل من خلاف، أو النفي من الأرض خزيا له، وأما في الآخرة إن لم يتب في الدنيا فعذاب أليم.
ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية فقال بعضهم نزلت في قوم من أهل الكتاب كانوا أهل موادعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنقضوا العهد، وأفسدوا في الأرض؛ فعرف الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - الحكم فيهم.
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) سورة المائدة الآية 32(11/17)
ذكر من قال ذلك
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي (1) عن ابن عباس، قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} (2) ، قال: كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد وميثاق، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فخير رسوله، إن شاء أن يقتل، وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر (3) ، عن الضحاك قال: كان قوم بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميثاق، فنقضوا العهد وقطعوا السبيل، وأفسدوا في الأرض؛ فخير الله - جل وعز - نبيه - صلى الله عليه وسلم - فيهم، فإن شاء قتل، وإن شاء صلب، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
تم قال آخرون: نزلت في قوم من المشركين.
حدثنا ابن حميد (4) ، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين (5) بن وافد عن يزيد عن عكرمة والحسن البصري قالا: قال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} (6) إلى {أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (7) نزلت هذه الآية في المشركين. فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه لم يكن عليه سبيل، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل، أو أفسد في الأرض، أو حارب الله ورسوله، ثم لحق بالكفار قبل أن يقدر عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصاب.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن سعيد عن أشعب عن الحسن {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (8) قال: نزلت في أهل الشرك.
__________
(1) هو ابن أبي لحة: أرسل عن ابن عباس والمغيرة، وهو صدوق قد يخطئ
(2) سورة المائدة الآية 33
(3) هو ابن سعيد الأزدي، أبو القاسم البلخي، قال ابن حجر في التقريب: ضعيف جدا
(4) هو محمد بن حميد الرازي، قال ابن حجر في التقريب: حافظ ضعيف
(5) هو أبو عبد الله القاضي المروزي، قال ابن حجر: نقوله أوهام
(6) سورة المائدة الآية 33
(7) سورة المائدة الآية 34
(8) سورة المائدة الآية 33(11/18)
وقال آخرون: بل نزلت في قوم من عرينة وعكل ارتدوا عن الإسلام، وحاربوا الله ورسوله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، عن أنس «أن رهطا من عكل وعرينة أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا يا رسول الله؛ إنا أهل ضرع. ولم نكن أهل ريف، وإنا استوخمنا المدينة، فأمر لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذود وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها فقتلوا راعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستاقوا الذود وكفروا بعد إسلامهم فأتي بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا؛ فذكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم: (2) »
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا روح، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله عن قتادة عن أنس بن مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل هذه القصة.
حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، قال: سمعت أبي يقول: أخبرنا أبو حمزة، عن عبد الكريم، وسئل عن أبوال الإبل، فقال: حدثني سعيد بن جبير، عن المحاربين، فقال: «كان ناس أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: نبايعك على الإسلام فبايعوه وهم كذبة، وليس الإسلام يريدون، ثم قالوا: إنا نجتوي المدينة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هذه اللقاح تغدو عليكم وتروح فاشربوا من أبوالها وألبانها قال: فبينا هم كذلك إذ جاء الصريخ فصرخ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: قتلوا الراعي وساقوا النعم فأمر نبي الله فنودي في الناس، أن يا خيل الله اركبي، قال: فركبوا لا ينتظر فارس فارسا، قال فركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أثرهم فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم مأمنهم فرجع صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد أسروا منهم فأتوا بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (3) الآية. قال فكان نفيهم أن نفوهم حتى أدخلوهم مأمنهم وأرضهم ونفوهم من أرض المسلمين، وقتل نبي الله منهم وصلب وقطع وسمل الأعين، قال: فما مثل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل ولا بعد، قال: ونهى عن المثلة، وقال لا تمثلوا بشيء» قال: فكان أنس بن مالك يقول ذلك، غير أنه قال: أحرقهم بالنار بعدما قتلهم إلى أن قال.
وأولى الأقوال في ذلك عندي أن يقال: أنزل الله هذه الآية على نبيه - صلى الله عليه وسلم - معرفة
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3018) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الطهارة (72) ، سنن النسائي الطهارة (305) ، سنن أبو داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الحدود (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/233) .
(2) سورة المائدة الآية 33 (1) {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}
(3) سورة المائدة الآية 33(11/19)
حكمه على من حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادا. بعد الذي كان من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعرنيين ما فعل.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب في ذلك؛ لأن القصص التي قصها الله - جل وعز - قبل هذه الآية وبعدها من قصص بني إسرائيل وأنبائهم، فإن يكن ذلك متوسطا منه يعرف الحكم فيهم وفي نظرائهم، أولى وأحق (1) ، وقلنا: كان نزول ذلك بعد الذي كان من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعرنيين ما فعل لتظاهر الأخبار عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك،
وإذا كان ذلك أولى بالآية لما وصفنا فتأويلها: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو سعى بفساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون يقول: لساعون في الأرض بالفساد وقاتلو النفوس بغير نفس، وغير سعي في الأرض بالفساد، حربا لله ولرسوله فمن فعل ذلك منهم يا محمد، فإنما جزاؤه أن يقتلوا أو يصلبوا أو أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. أو ينفوا من الأرض.
فإن قال لنا قائل: وكيف يجوز أن تكون الآية نزلت في الحال التي ذكرت من حال نقض كافر من بني إسرائيل عهده، ومن قولك: إن حكم هذه الآية حكم من الله في أهل الإسلام دون أهل الحرب من المشركين؟ قيل: جاز أن يكون ذلك كذلك؛ لأن حكم من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا من أهل ذمتنا وملتنا واحد والذين عنوا بالآية كانوا أهل عهد وذمة، وإن كان داخلا في حكمها كل ذمي وملي، وليس يبطل بدخول في حكم الآية من الناس أن يكون صحيحا نزولها فيمن نزلت فيه.
ثم قال: واختلف أهل العلم في المستحق اسم المحارب لله ورسوله الذي يلزمه حكم هذه: فقال بعضهم: هو اللص الذي يقطع الطريق (2) .
__________
(1) سيأتي رده في ص.. من الأعداد
(2) إن أريد بذلك بيان المحارب بنوع من أنواعه فمسلم، وإلا فالصحيح أن المراد بالمحارب أعم من ذلك.(11/20)
ذكر من قال ذلك
حدثنا الحسن بن يحيى: قال: أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة وعطاء الخرساني في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} (1) الآية، قالا: هذا هو اللص الذي يقطع الطريق فهو محارب.
وقال آخرون: هو اللص المجاهر بلصوصيته المكابر في المصر وغيره، وممن قال ذلك الأوزاعي.
حدثنا بذلك العباس عن أبيه عنه، وعن مالك والليث بن سعد وابن لهيعة.
حدثنا علي بن سهل قال: ثنا الوليد بن سلم، قال: قلت لمالك بن أنس تكون محاربة في المصر؟ قال: نعم والمحارب عندنا من حمل السلاح على المسلحين في مصر أو خلاء، فكان ذلك منه على غير ثائرة كانت بينهم ولا دحل ولا عداوة قاطعا للسبيل والطريق والديار، مخيفا بسلاحه فقتل أحدا منهم قتله الإمام كقتلة المحارب ليس لولي المقتول فيه عفو ولا قود.
حدثني علي، قال: ثنا الوليد، قال: وسألت عن ذلك الليث بن سعد وابن لهيعة، قلت: تكون المحاربة في دور المصر والمدائن والقرى؟ فقالا: نعم إذا هم دخلوا عليهم بالسيوف علانية أو ليلا بالنيران، قلت: فقتلوا أو أخذوا المال ولم يقتلوا، فقال: نعم هم المحاربون، فإن قتلوا قتلوا وإن لم يقتلوا وأخذوا المال قطعوا من خلاف، إذا هم خرجوا به من الدار، ليس من حارب المسلمين في الخلاء والسبيل بأعظم من محاربة من حاربهم في حريمهم ودورهم.
حدثني علي قال: ثنا الوليد قال: قال أبو عمرو وتكون المحاربة في المصر شهيرا على أهله بسلاحه ليلا أو نهارا قال علي: قال الوليد: وأخبرني مالك أن قتل الغيلة عنده بمنزلة المحاربة. قلت: وما قتل الغيلة؟ قال: هو الرجل يخدع الرجل والصبي، فيدخله بيتا أو يخلو به فيقلته، ويأخذ ماله، فالإمام ولي قتل هذا، وليس لولي الدم والجرح قود ولا
__________
(1) سورة المائدة الآية 33(11/21)
قصاص، وهو قول الشافعي.
حدثنا بذلك عنه الربيع.
وقال آخرون: المحارب هو قاطع الطريق، فأما المكابر في الأمصار فليس بالمحارب الذي له حكم المحاربين، وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه.
حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين قال ثنا بشر بن المفضل عن داود بن أبي هند، قال: تذاكرنا المحارب ونحن عند ابن هبيرة في ناس من أهل البصرة، فاجتمع رأيهم أن المحارب ما كان خارجا من المصر.
وقال مجاهد بما حدثني القاسم قال: ثنا المحسين قال: ثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} (1) قال: الزنا والسرقة وقتل الناس وإهلاك الحرث والنسل (2) .
حدثنا ابن حميد قال: ثنا حكام (3) عن عنبسة عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} (4) قال: الفساد: القتل والزنا والسرقة.
* وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: المحارب لله ورسوله من حارب في ساملة المسلمين وذمتهم، والمغير عليهم في أمصارهم وقراهم حرابة.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب؛ لأنه لا خلاف بين الحجة أن من نصب حربا للمسلمين على الظلم منه لهم أنه لهم محارب، ولا خلاف فيه، فالذي وصفنا صفته، لا شك فيه أنه لهم مناصب حربا ظلما. وإذا كان ذلك كذلك فسواء كان نصبه الحرب لهم في مصرهم وقراهم، أو في سبلهم وطرقهم في أنه لله ولرسوله محارب بحربه من نهاه الله ورسوله عن حربه.
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) إذا أريد ذلك مع المغالبة فصحيح، وإلا فلا
(3) هو ابن سنم الرازي قال ابن حجر في التقريب ثقة له غرائب
(4) سورة المائدة الآية 33(11/22)
وأما قوله: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} (1) فإنه يعني: يعملون في أرض الله بالمعاصي من إخافة سبل عباده المؤمنين به، أو سبل ذمتهم، وقطع طرقهم، وأخذ أموالهم ظلما وعدوانا، والتوثب على حرمهم فجورا وفسوقا.
القول في تأويل قوله: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (2) .
يقول تعالى ذكره: ما للذي حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا من أهل ملة الإسلام أو ذمتهم إلا بعض هذه الخلال التي ذكرها جل ثناؤه.
ثم اختلف أهل التأويل في هذه الخلال أتلزم المحارب باستحقاقه اسم المحاربة أم يلزمه ما لزمه من ذلك على قدر جرمه. مختلفا باختلاف إجرامه.
فقال بعضهم: تجب على المحارب العقوبة على قدر استحقاقه، ويلزمه ما لزمه من ذلك على قدر جرمه، مختلفا باختلاف إجرامه.
ذكر من قال ذلك
حدثني محمد بن سعد قال: ثني أبي قال: ثني عمي قال: ثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (3) إلى قوله: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (4) قال: إذا حارب فقتل فعليه القتل إذا ظهر عليه قبل توبته، وإذا حارب وأخذ المال وقتل فعليه الصلب إن ظهر عليه قبل توبته، وإذا حارب وأخذ ولم يقتل فعليه قطع اليد والرجل من خلاف إن ظهر عليه قبل توبته، وإذا حارب وأخاف السبيل؛ فإنما عليه النفي.
حدثنا ابن وكيع وأبو السائب قالا: ثنا ابن إدريس عن أبيه عن حماد عن إبراهيم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (5) قال: إذا خرج فأخاف السبيل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا أخاف السبيل ولم يأخذ المال وقتل - صلب.
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) سورة المائدة الآية 33
(3) سورة المائدة الآية 33
(4) سورة المائدة الآية 33
(5) سورة المائدة الآية 33(11/23)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير عن مغيرة، عن حماد عن إبراهيم فيما أرى في الرجل يخرج محاربا، قال: إن قطع الطريق وأخذ المال قطعت يده ورجله، وإن أخذ المال وقتل: قتل، وإن أخذ المال وقتل ومثل: صلب.
حدثنا ابن وكيع قال: ثنا أبي عن عمران بن حدير عن أبي مجلز {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) الآية، قال: إذا قتل وأخذ المال وأخاف السبيل صلب. وإذا قتل لم يعد ذلك قطع، وإذا كان يفسد نفي.
حدثني المثنى قال: ثنا الحماني قال: ثنا شريك (2) عن سماك عن الحسن {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (3) إلى قوله: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (4) قال: إذا أخاف الطريق ولم يقتل ولم يأخذ المال نفي.
حدثنا المثنى قال: ثنا عمرو بن عون قال: أخبرنا هشام، عن حصين قال: كان يقال: من حارب فأخاف السبيل وأخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا أخذ المال وقتل صلب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد عن قتادة أنه كان يقول في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (5) إلى قوله: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (6) حدود أربعة أنزلها الله فأما من أصاب الدم والمال جميعا صلب، وأما من أصاب الدم وكف عن المال قتل، ومن أصاب المال وكف عن الدم قطع، ومن لم يصب شيئا من هذا نفي.
حدثنا هناد قال: ثنا أبو معاوية عن حجاج (7) . عن عطية العوفي (8) عن ابن عباس قال: إذا خرج المحارب وأخاف الطريق وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف، فإن هو خرج فقتل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف ثم صلب، وإن خرج فقتل ولم يأخذ المال قتل، وإن أخاف السبيل، ولم يقتل ولم يأخذ المال نفي.
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) هو ابن عبد الله القاضي قال ابن حجر في التقريب: صدوق يخطئ كثيرا، تغير منذ ولي القضاء بالكوفة
(3) سورة المائدة الآية 33
(4) سورة المائدة الآية 33
(5) سورة المائدة الآية 33
(6) سورة المائدة الآية 33
(7) هو ابن أرطأة النخفي، قال فيه ابن حجر في التقريب: صدوق كثير الخطأ والتدليس
(8) هو ابن سعد بن جنادة، قال ابن حجر في التقريب: صدوق يخطئ كثيرا كان شيعيا مدلسا.(11/24)
حدثنا ابن البرقي قال: ثنا ابن أبي مريم قال: أخبرنا نافع بن يزيد قال ثني أبو صخر عن محمد بن كعب القرظي، وعن أبي معاوية عن سعيد بن جبير في هذه الآية: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} (1) قالا: إن أخاف المسلمين فاقتطع المال ولم يسفك قطع، وإذا سفك دما قتل وصلب، وإن جمعهما فاقتطع مالا وسفك دما قطع ثم قتل، ثم صلب، كان الصلب مثله. وكان القطع {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (2) وكان القتل النفس بالنفس، وإن امتنع فإن من الحق على الإمام وعلى المسلمين أن يطلبوه حتى يأخذوه فيقيموا عليه حكم كتاب الله أو ينفوا من الأرض. من أرض الإسلام إلى أرض الكفر.
قال أبو جعفر: واعتل قائلو هذه المقالة لقولهم هذا، بأن قالوا: إن الله أوجب على القاتل القود، وعلى السارق القطع، وقالوا: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خلال: رجل قتل فقتل، ورجل زنى بعد إحصان فرجم، ورجل كفر بعد إسلامه (3) » . قالوا فحظر النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل رجل مسلم إلا بإحدى هذه الخلال الثلاث، فإما أن يقتل من أجل إخافته السبيل من غير أن يقتل أو يأخذ مالا؛ فذلك تقدم على الله ورسوله بالخلاف عليهما في الحكم، قالوا: ومعنى قول من قال: الإمام فيه بالخيار إذا قتل، وأخاف السبيل، وأخذ المال، فهناك خيار الإمام في قولهم بين القتل أو القتل والصلب، أو قطع اليد والرجل من خلاف، وأما صلبه باسم المحاربة من غير أن يفعل شيئا من قتل أو أخذ مال فذلك ما لم يقله عالم.
وقال آخرون: الإمام فيه بالخيار أن يفعل أي هذه الأشياء التي ذكرها الله في كتابه.
ذكر من قال ذلك
حدثني يعقوب قال: ثنا هشيم قال: أخبرنا جرير عن عطاء وعن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد في المحارب: أن الإمام مخير فيه، أي ذلك شاء فعل.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ثنا هشيم عن عبيدة عن إبراهيم: الإمام مخير في المحارب أي ذلك شاء فعل، إن شاء قتل، وإن شاء قطع، وإن شاء نفي، وإن شاء صلب.
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) سورة المائدة الآية 38
(3) سنن الترمذي كتاب الفتن (2158) ، سنن النسائي تحريم الدم (4019) ، سنن أبو داود الديات (4502) ، سنن ابن ماجه الحدود (2533) ، مسند أحمد بن حنبل (1/62) ، سنن الدارمي الحدود (2297) .(11/25)
حدثنا ابن حميد قال: ثنا جرير عن عاصم عن المحسن في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) إلى قوله: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (2) قال: يأخذ الإمام بأيهما أحب.
حدثنا سفيان قال: ثنا أبي عن سفيان عن عاصم عن الحسن: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (3) وقال: الإمام مخير فيها.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء، مثله.
حدثني المثنى قال: ثنا أبو حذيفة قال ثنا شبل عن قيس بن سعد قال: قال عطاء يصنع الإمام في ذلك ما شاء، إن شاء قتل أو قطع أو نفى لقول الله: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (4) ؛ فذلك إلى الإمام الحاكم يصنع فيه ما شاء.
حدثني المثنى قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (5) الآية، قال: من شهر السلاح في فئة الإسلام وأخاف السبيل، ثم ظفر به وقدر عليه؛ فإمام المسلمين فيه بالخيار إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله.
حدثنا هناد قال: ثنا أبو أسامة قال: أخبرنا أبو هلال قال: أخبرنا قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال في المحارب: ذلك إلى الإمام إذا أخذه يصنع به ما شاء.
حدثنا هناد قال: ثنا أبو أسامة عن أبي هلال قال: ثنا هارون عن الحسن في المحارب، قال: ذاك إلى الإمام يصنع به ما شاء.
حدثنا هناد قال: ثنا حفص بن غياث عن عاصم عن الحسن: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (6) قال: ذلك إلى الإمام.
قال أبو جعفر: واعتل قائلو هذه المقالة بأن قالوا: وجدنا العطوف التي بأو في القرآن بمعنى التخيير، في كل ما أوجب الله به فرضا منها، وذلك كقوله في كفارة اليمين
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) سورة المائدة الآية 33
(3) سورة المائدة الآية 33
(4) سورة المائدة الآية 33
(5) سورة المائدة الآية 33
(6) سورة المائدة الآية 33(11/26)
{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (1) ، وكقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (2) ، وكقوله: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} (3) ، قالوا: فإذا كانت العطوف التي بأو في القرآن في كل ما أوجب الله به فرضا منها في سائر القرآن بمعنى التخيير، فكذلك ذلك في آية المحاربين، الإمام مخير فيما رأى الحكم به على المحارب إذا قدر عليه قبل التوبة.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك عندنا تأويل من أوجب على المحارب من العقوبة على قدر استحقاقه، وجعل الحكم على المحاربين مختلفا باختلاف أفعالهم. فأوجب على مخيف السبيل منهم إذا قدر عليه قبل التوبة وقبل أخذ مال أو قتل: النفي من الأرض، وإذا قدر عليه بعد أخذ المال وقتل النفس المحرم قتلها: الصلب؛ لما ذكرت من العلة قبل لقائلي هذه المقالة.
فأما ما اعتل به القائلون: إن الإمام فيه بالخيار من أن " أو " في العطف تأتي بمعنى التخيير في الفرض فقول: لا معنى له لأن أصل " أو " في كلام العرب قد تأتي بضروب من المعاني لولا كراهة إطالة الكتاب بذكرها لذكرتها، وقد بينت كثيرا من معانيها فيما مضى، وسنأتي على باقيها فيما يستقبل في أماكنها إن شاء الله، (4) ، فأما في هذا الموضع فإن معناها التعقيب، وذلك نظير قول القائل: إن جزاء المؤمنين عند الله يوم القيامة أن يدخلهم الجنة أو يرفع منازلهم في عليين أو يسكنهم مع الأنبياء والصديقين. فمعلوم أن قائل ذلك غير قاصد بقوله إلى أن جزاء كل مؤمن آمن بالله ورسوله فهو في مرتبة واحدة من هذه المراتب ومنزلة واحدة من هذه المنازل بإيمانه بل المعقول عنه. أن معناه: أن جزاء المؤمن لم يخل عند الله من بعض هذه المنازل: فالمقتصد منزلته دون منزلة السابق بالخيرات، والسابق بالخيرات أعلى منه منزلة، والظالم لنفسه دونهما، وكل في الجنة، كما قال جل ثناؤه: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} (5) ؛ فكذلك معنى المعطوف
__________
(1) سورة المائدة الآية 89
(2) سورة البقرة الآية 196
(3) سورة المائدة الآية 95
(4) لكنها ظاهرة في التخيير فلا تصرف عنه إلا بدليل
(5) سورة الرعد الآية 23(11/27)
بأو في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) الآية، إنما هو التعقيب (2) فتأويله: إن الذي يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فسادا لن يخلو من أن يستحق الجزاء بإحدى هذه الخلال الأربع التي ذكرها الله - عز ذكره - لا أن الإمام محكم فيه ومخير في أمره كائنة ما كانت حالته، عظمت جريرته أو خفت؛ لأن ذلك لو كان كذلك لكان للإمام قتل من شهر السلاح مخيفا السبيل وصلبه وإن لم يأخذ مالا ولا قتل أحدا، وكان له نفي من قتل وأخذ المال وأخاف السبيل، وذلك قول إن قاله قائل خلاف ما صحت به الآثار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خلال: رجل قتل رجلا فقتل، أو زنى بعد إحصان فرجم، أو ارتد عن دينه (3) » ، وخلاف قوله: «القطع في ربع دينار فصاعدا (4) » ، وغير المعروف من أحكامه.
فإن قال قائل: فإن هذه الأحكام التي ذكرت كانت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غير المحارب، وللمحارب حكم غير ذلك منفرد به، قيل له: الحكم الذي انفرد به المحارب في سننه فإن ادعى عنه - صلى الله عليه وسلم - حكما خلاف الذي ذكرنا أكذبه جميع أهل العلم لأن ذلك غير موجود بنقل واحد ولا جماعة (5) ، وإن زعم أن ذلك الحكم هو ما في ظاهر الكتاب قيل له: فإن أحسن حالاتك أن يسلم لك أن ظاهر الآية قد يحتمل ما قلت، وما قاله من خالفك فما رهانك على أن تأويلك أولى بتأويل الآية من تأويله؟ وبعد: فإذا كان الإمام مخيرا في الحكم على المحارب من أجل أن " أو " بمعنى التخيير في هذا الموضع عندك، أفله أن يصلبه حيا ويتركه على الخشبة مصلوبا حتى يموت من غير قتله؟
فإن قال ذلك له خالف في ذلك الأمة، وإن زعم أن ذلك ليس له، وإنما له قتله ثم صلبه، أو صلبه ثم قتله، ترك علته من أن الإمام إنما كان له الخيار في الحكم. على المحارب من أجل أن " أو " تأتي بمعنى التخيير، وقيل له: فكيف كان له الخيار في القتل أو النفي أو القطع، ولم يكن له الخيار في الصلب وحده حتى تجمع إليه عقوبة أخرى، وقيل له هل بينك وبين من جعل الخيار حيث أبيت وأبى ذلك حيث جعلته له فرق من أصل أو قياس، فلن يقول في
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) سيأتي الجواب عنه في كلام أبى بكر بن العربي ص.. إن شاء الله تعالى
(3) سنن الترمذي كتاب الفتن (2158) ، سنن النسائي تحريم الدم (4019) ، سنن أبو داود الديات (4502) ، سنن ابن ماجه الحدود (2533) ، مسند أحمد بن حنبل (1/62) ، سنن الدارمي الحدود (2297) .
(4) صحيح البخاري الحدود (6789) ، صحيح مسلم الحدود (1684) ، سنن الترمذي الحدود (1445) ، سنن النسائي قطع السارق (4925) ، سنن أبو داود الحدود (4384) ، سنن ابن ماجه الحدود (2585) ، مسند أحمد بن حنبل (6/104) ، موطأ مالك الحدود (1576) ، سنن الدارمي الحدود (2300) .
(5) غير مسلم لما تقدم ممن ذكر الخلاف(11/28)
أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله. وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتصحيح ما قلنا في ذلك بما في إسناده نظر.
وذلك ما حدثنا به علي بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن سيد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية؟ فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين، وهم من بجيلة، قال أنس: فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي وساقوا الإبل وأخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام، قال أنس: فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل - عليه السلام - عن القضاء فيمن حارب؟ فقال: من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته، ورجله بإخافته، ومن قتل فاقتله، ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه.
وأما قوله: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} (1) فإنه يعني جل ثناؤه أن تقطع أيديهم مخالفا في قطعها قطع أرجلهم، وذلك أن تقطع أيمن أيديهم وأشمل أرجلهم، فذلك الخلاف بينهما في القطع، ولو كان مكان " من " في هذا الموضع أو الباء، فقيل أو تقطع أيديهم وأرجلهم على خلاف، أو بخلاف لأديا عما أدت عنه " من " من المعنى.
واختلف أهل التأويل في معنى النفي الذي ذكر الله في هذا الموضع: فقال بعضهم: هو أن يطلب حتى يقدر عليه أو يهرب من دار الإسلام.
ذكر من قال ذلك
حدثني محمد بن الحسين قال: ثنا أحمد بن مفضل قال: ثتا أسباط عن السدي قوله: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (2) قال: يطلبهم الإمام بالخيل والرجال حتى يأخذهم فيقيم فيهم الحكم، أو ينفوا من أرض المسلمين.
وحدثني محمد بن سعد قال: ثني أبي قال: ثني عمي قال: ثني أبي عن أبيه عن ابن عباس، قال: نفيه أن يطلب.
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) سورة المائدة الآية 33(11/29)
حدثني المثنى قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (1) يقول: أو يهربوا حتى يخرجوا من دار الإسلام، إذا دار الحرب.
حدثني علي بن سهل قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال أخبرني عبد الله بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن كتاب أنس بن مالك إلى عبد الملك بن مروان أنه كتب إليه ونفيه أن يطلبه الإمام حتى يأخذه. فإذا أخذه أقام عليه إحدى هذه المنازل التي ذكر الله - جل وعز - بما استحل.
حدثني علي بن سهل قال: ثنا الوليد، قال: فذكرت ذلك لليث بن سعد، فقال: نفيه طلبه من بلد إلى بلد حتى يؤخذ أو يخرجه طلبه من دار الإسلام إلى دار الشرك والحرب، إذا كان محاربا مرتدا عن الإسلام، قال الوليد: وسألت مالك بن أنس فقال مثله.
حدثني علي قال: ثنا الوليد قال: قلت: لمالك بن أنس والليث بن سعد، وكذلك يطلب المحارب القيم على إسلامه يضطره بطلبه من بلد إلى بلد حتى يصير إلى ثغر من ثغور المسلمين أو أقصى جوار المسلمين؛ فإن هم طلبوه دخل دار الشرك قالا: لا يضطر مسلم إلى ذلك.
حدثنا هناد بن السري قال: ثنا هشيم. عن جويبر عن الضحاك: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (2) قال: أن يطلبوه حتى يعجزوا.
حدثت عن الحسين بن الفرج. قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثني عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول، فذكر نحوه.
حدثنا ابن وكيع، قال ثنا حفص بن غياث عن عاصم عن الحسن {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (3) قال: ينفى حتى لا يقدر عليه.
حدثني المثنى قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله عن أبيه عن الربيع بن أنس، في قوله: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (4) قال: أخرجوا من الأرض أينما أدركوا أخرجوا حتى يلحقوا بأرض العدو.
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) سورة المائدة الآية 33
(3) سورة المائدة الآية 33
(4) سورة المائدة الآية 33(11/30)
حدثنا الحسن قال: ثنا عبد الرزاق قال: ثنا معمر عن الزهري في قوله: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (1) قال: نفيه أن يطلب فلا يقدر عليه كلما سمع به في أرض طلب.
حدثني علي بن سهل قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: أخبرني سعيد عن قتادة {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (2) قال: إذا لم يقتل ولم يأخذ مالا طلب حتى يعجز.
حدثني ابن البرقي قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرني نافع بن يزيد، قال: ثنى أبو صخر عن محمد بن كعب القرظي، وعن أبي معاوية عن سعيد بن جبير {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (3) من أرض الإسلام إلى أرض الكفر.
وقال آخرون: معنى النفي في هذا الموضع أن الإمام إذا قدر عليه نفاه من بلدته إلى بلدة أخرى غيرها.
ذكر من قال ذلك
حدثني المثنى قال: ثنا أبو حذيفة قال: ثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن قيس بن سعد عن سعيد بن جبير {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (4) قال: من أخاف سبيل المسلمين نفي من بلده إلى غيره لقول الله - عز وجل - {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (5)
حدثني المثنى قال: ثنا أبو صالح قال: ثني الليث قال: ثني يزيد (6) بن أبي حبيب وغيره عن أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز في اللصوص، ووصف له لصوصيتهم وحبسهم في السجون، قال الله في كتابه: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} (7) وترك {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (8) فكتب إليه عمر بن عبد العزيز، أما بعد، فإنك كتبت إلي تذكر قول الله - جل وعز - {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} (9) وتركت قول الله {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (10) فنبي أنت يا حبان ابن أم حبان، لا تحرك الأشياء عن مواضعها، أتجردت للقتل والصلب، كأنك عبد بني عقيل من غير ما أشبهك به، إذا أتاك كتابي هذا فانفهم إلى شغب.
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) سورة المائدة الآية 33
(3) سورة المائدة الآية 33
(4) سورة المائدة الآية 33
(5) سورة المائدة الآية 33
(6) قال ابن حجر في التقريب كان ثقة فقيها وكان يرسل.
(7) سورة المائدة الآية 33
(8) سورة المائدة الآية 33
(9) سورة المائدة الآية 33
(10) سورة المائدة الآية 33(11/31)
حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن الصلت كاتب حبان بن سريح، أخبرهم أن حبان كتب إلى عمر بن عبد العزيز: أن ناسا من القبط قامت عليهم البينة بأنهم حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا، وأن الله يقول: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} (1) فقرأ حتى بلغ: {وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} (2) وسكت عن النفي، وكتب إليه: فإن رأى أمير المؤمنين أن يمضي قضاء الله فيهم؛ فليكتب بذلك، فلما قرأ عمر بن عبد العزيز كتابه قال: لقد اجتزأ حبان ثم كتب إليه: أنه قد بلغني كتابك وفهمته، ولقد اجتزأت كأنما كتبت بكتاب يزيد بن أبي مسلم، أو علج صاحب العراق من غير أن أشبهك بهما. فكتبت بأول الآية ثم سكت عن آخرها، وأن الله يقول: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (3) ؛ فإن كانت قامت عليهم البينة بما كتبت به فاعقد في أعناقهم حديدا ثم غيبهم إلى شغب وبدا.
قال أبو جعفر: شغب وبدا موضعان.
وقال آخرون: معنى النفي من الأرض في هذا الموضع: الحبس، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: معنى النفي من الأرض في هذا الموضع هو نفيه من بلد إلى بلد غيره. وحبسه في السجن في البلد الذي نفي إليه. حتى تظهر توبته من فسوقه، ونزوعه عن معصيته ربه.
وإنما قلت: ذلك أولى الأقوال بالصحة؛ لأن أهل التأويل اختلفوا في معنى ذلك على أحد الأوجه الثلاثة التي ذكرت. وإذا كان ذلك كذلك، وكان معلوما أن الله - جل ثناؤه - إنما جعل جزاء المحارب القتل أو الصلب أو قطع اليد والرجل من خلاف بعد القدرة عليه، لا في حال امتناعه، كان معلوما أن النفي أيضا إنما هو جزاؤه بعد القدرة عليه لا قبلها، ولو كان هروبه من الطلب نفيا له من الأرض كان قطع يده ورجله من خلاف في حال امتناعه وحربه على وجه القتال، بمعنى إقامة الحد عليه بعد القدرة عليه، وفي إجماع الجميع أن ذلك لا يقوم مقام نفيه الذي جعله الله - عز وجل - حدا له بعد القدرة عليه، وإذا كان كذلك فمعلوم أنه لم يبق إلا الوجهان الآخران، وهو النفي من بلدة إلى أخرى غيرها أو السجن، فإذا كان ذلك كذلك فلا شك أنه إذا نفي من بلدة إلى أخرى غيرها فلم ينف من
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) سورة المائدة الآية 33
(3) سورة المائدة الآية 33(11/32)
الأرض بل إنما نفي من أرض دون أرض. وإذا كان ذلك كذلك. وكان الله - جل ثناؤه - إنما أمر بنفيه من الأرض كان معلوما أنه لا سبيل إلى نفيه من الأرض إلا بحبسه في بقعة منها عن سائرها فيكون منفيا حينئذ عن جميعها إلا مما لا سبيل إلى نفيه منه.
القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1) يعني - جل ثناؤه - بقوله " ذلك " هذا الجزاء الذي جازيت به الذين حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا في الدنيا من قتل أو صلب أو قطع يد ورجل من خلاف لهم، يعني لهؤلاء المحاربين خزي في الدنيا يقول هو لهم شر وعار وذلة ونكال وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة، يقال منه: أخزيت فلانا فخزي هو خزيا، وقوله: {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (2) يقول - عز ذكره - لهؤلاء الذين حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا فلم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا في الآخرة مع الخزي الذي جازيتهم به في الدنيا والعقوبة التي عاقبهم بها فيها - عذاب عظيم يعني عذاب جهنم.
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) سورة المائدة الآية 33(11/33)
القول في تأويل الرد
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) . اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك إلا الذين تابوا من شركهم ومناصبتهم الحرب لله ولرسوله، والسعي في الأرض بالفساد بالإسلام والدخول في الإيمان من قبل قدرة المؤمنين عليهم؛ فإنه لا سبيل للمؤمنين عليهم بشيء من العقوبات التي جعلها الله جزاء لمن حاربه ورسوله. وسعى في الأرض فسادا، من قتل، أو صلب، أو قطع يد ورجل من خلاف، أو نفي من الأرض، فلا تباعة قبله لأحد فيما كان أصحاب في حال كفره وحربه المؤمنين في مال ولا دم ولا حرمة، قالوا: فأما المسلم إذا حارب المسلمين أو المعاهدين وأتى بعض ما يجب عليه العقوبة؛ فلن تضع توبته عنه عقوبة ذنبه بل توبته فيما بينه وبين الله، وعلى الإمام إقامة الحد الذي أوجبه الله عليه، وأخذه بحقوق الناس.
__________
(1) سورة المائدة الآية 34(11/33)
ذكر من قال ذلك.
حدثنا ابن حميد قال: ثنا يحيى بن واضح عن الحسين بن واقد عن يزيد النحوي ?عن عكرمة والحسن البصري قالا: قوله {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ} (1) إلى قوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) نزلت هذه الآية في المشركين فمن تاب منهم من قبل أن يقدر عليه لم يكن عليه سبيل، وليس تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله، ثم لحق بالكفار قبل أن يقدر عليه ذلك يقام عليه الحد الذي أصاب.
حدثنا بشار قال: ثنا روح بن عبادة قال: ثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) قال: هذا لأهل الشرك إذا فعلوا شيئا في شركهم؛ فإن الله غفور رحيم إذا تابوا وأسلموا.
وقال آخرون: بل هذه الآية معني بالحكم بها المحاربون الله ورسوله الحراب من أهل الإسلام من قطع منهم الطريق، وهو مقيم على إسلامه ثم استأمن فأومن على جناياته التي جناها، وهو للمسلمين حرب، ومن فعل ذلك منهم مرتدا عن الإسلام، ثم لحق بدار الحرب ثم استأمن فأومن، قالوا: فإذا أمنه الإمام على جناياته التي سلفت لم يكن قبله لأحد تبعة في دم ولا مال أصابه قبل توبته وقبل أمان الإمام إياه.
ذكر من قال ذلك
حدثني علي بن سهل قال: ثنا الوليد قال: أخبرني أبو أسامة عن أشعث (4) بن سوار عن عامر الشعبي أن حارثة بن بدر خرج محاربا فأخاف السبيل وسفك الدم وأخذ الأموال ثم جاء تائبا من قبل أن يقدر عليه فقبل علي بن أبي طالب - عليه السلام - توبته وجعل له أمانا منشورا على ما كان أصاب من دم أو مال.
حدثني المثنى قال: ثنا عمرو بن عون، قال أخبرنا هشيم عن مجالد (5) عن الشعبي أن حارثة بن بدر حارب في عهد علي بن أبي طالب فأتى الحسن بن علي - رضوان الله عليهما -.
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) سورة المائدة الآية 34
(3) سورة المائدة الآية 34
(4) أشعث بن سوار الكندي قاضي الأهواز قال ابن حجر في التقريب: هو ضعيف
(5) مجالد هو ابن سعيد الهمداني قال ابن حجر: ليس بالقوي وقد تغير في آخر عمره(11/34)
فطالب إليه أن يستأمن له من علي فأبى، ثم أتى ابن جعفر فأبى عليه، فأتى سعيد بن قيس الهمداني فأمنه وضمه إليه، وقال له: استأمن إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، قال فلما صلى علي الغداة أتاه سعيد بن قيس، فقال: يا أمير المؤمنين، ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله؟ قال: أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، قال: ثم قال: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم، قال سعيد: وإذا كان حارثة بن بدر؟ قال: وإن كان حارثة بن بدر، قال: فهذا حارثة بن بدر قد جاء تائبا؛ فهو آمن؟ قال: نعم، قال: فجاء به فبايعه، وقبل ذلك منه، وكتب له أمانا.
حدثني المثنى قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن مجالد عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر قد أفسد في الأرض وحارب ثم تاب، وكلم له علي فلم يؤمنه، فأتى سعيد بن قيس فكلمه فانطلق سعيد بن قيس إلى علي، فقال: يا أمير المؤمنين؛ ما تقول فيمن حارب الله ورسوله؟ فقرأ الآية كلها، فقال: أرأيت من تاب من قبل أن تقدر عليه؟ قال: أقول كما قال الله، قال: فإنه حارثة بن بدر، قال: فأمنه علي فقال حارثة:
ألا أبلغن همدان أما لقيتها ... على النأي لا يسلم عدو يعيبها
لعمر أبيها إن همدان تتقى ... السلم له ويقضي بالكتاب خطيبها
حدثني محمد بن الحسين قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط عن السدي (1) ، قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (2) وتوبته من قبل أن يقدر عليه: أن يكتب إلى الإمام يستأمنه على ما قتل وأفسد في الأرض؛ فإن لم يؤمني على ذلك ازددت فسادا وقتلا وأخذا للأموال أكثر مما فعلت ذلك قبل، فعلى الإمام من الحق أن يؤمنه على ذلك، فإذا أمنه الإمام جاء حتى يضع يده في يد الإمام، فليس لأحد من الناس أن يتبعه ولا يأخذه بدم سفكه ولا مال أخذه، وكل ما كان له فهو له؛ لكيلا يقتل المؤمنين أيضا ويفسد، فإذا رجع إلى الله - جل وعز - فهو وليه يأخذه بما صنع، وتوبته فيما بينه وبين الإمام والناس، فإذا أخذه الإمام وقد تاب فيما يزعم إلى الله - جل ثناؤه - قبل أن يؤمنه الإمام فليقم عليه الحد.
__________
(1) إسماعيل السدي ذكر ابن حجر في التقريب أنه صدوق يهم وأنه رمي بالتشيع.
(2) سورة المائدة الآية 34(11/35)
حدثنا علي بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم عن سعيد بن عبد العزيز، أخبرني مكحول أنه قال: إذا أعطى الإمام أمانا فهو آمن ولا يقام عليه الحد ما كان أصاب.
وقال آخرون: معنى ذلك كل من جاء تائبا من الحراب قبل القدرة عليه استأمن الإمام فأمنه أو استأمنه بعد أن يجيء مستسلما تاركا للحرب.
ذكر من قال ذلك
حدثني المثنى: قال: ثنا إسحاق قال: ثنا محمد بن فضيل عن أشعث (1) عن عامر قال: جاء رجل من مراد إلى أبي موسى وهو على الكوفة في إمرة عثمان بعدما صلى المكتوبة، فقال: يا أبا موسى، هذا مقام العائذ بك، أنا فلان بن فلان المرادي، كنت حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض، وإني تبت من قبل أن يقدر علي، فقام أبو موسى فقال: هذا فلان بن فلان، وإنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا، وإنه تاب قبل أن يقدر عليه، فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير؛ فأقام الرجل ما شاء الله، ثم إنه خرج فأدركه الله بذنوبه فقتله.
حدثني الحارث بن محمد قال: ثنا عبد العزيز قال: ثنا سفيان عن إسماعيل السدي (2) عن الشعبي قال: جاء رجل إلى أبي موسى فذكر نحوه.
حدثني علي بن سهل قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: قلت لمالك: أرأيت هذا المحارب الذي قد أخاف السبيل وأصاب الدم والمال فلحق بدار الحرب، أو تمنع في بلاد الإسلام، ثم جاء تائبا من قبل أن يقدر عليه، قال: تقبل توبته، قال: قلت: فلا يتبع بشيء من إحداثه، قال: لا، إلا أن يوجد معه مال بعينه فيرد إلى صاحبه، أو يطلبه ولي من قتل بدم في حربه يثبت ببينة أو اعتراف فيقاد به، وأما الدماء التي أصابها ولم يطلبها أولياؤها فلا يتبعه الإمام بشيء، قال علي: قال الوليد: فذكرت ذلك لأبي عمرو فقال: تقبل توبته إذا كان محاربا للعامة والأئمة قد آذاهم بحربه، فشهر سلاحه وأصاب الدماء والأموال؛ فكانت له منعة أو فئة يلجأ إليهم، أو لحق بدار الحرب فارتد عن الإسلام، أو كان مقيما عليه ثم جاء
__________
(1) هو ابن سوار الهمداني ذكر ابن حجر في التقريب أنه ضعيف.
(2) إسماعيل السدي ذكر ابن حجر في التقريب أنه صدوق يهم وأنه رمي بالتشيع.(11/36)
تائبا من قبل أن يقدر عليه قبلت توبته، ولم يتبع بشيء منه.
حدثني علي قال: ثنا الوليد قال: قال أبو عمرو عن ابن شهاب الزهري يقول ذلك.
حدثني علي بن سهل قال: ثنا الوليد، قال فذكرت قول أبي عمرو ومالك لليث بن سعد في هذه المسألة، فقال: إذا أعلن بالمحاربة للعامة والأئمة وأصاب الدماء والأموال فامتنع بمحاربته من الحكومة عليه. أو لحق بدار الحرب ثم جاء تائبا من قبل أن يقدر عليه قبلت توبته، ولم يتبع بشيء من إحداثه في حربه من دم خاصة ولا عامة، وإن طلبه وليه.
حدثني علي قال: ثنا الوليد قال: قال الليث وكذلك: ثني موسى بن إسحاق المدني - وهو الأمير عندنا - أن عليا الأسدي حارب وأخاف السبيل وأصاب الدم والمال فطلبته الأئمة والعامة فامتنع ولم يقدر عليه حتى جاء تائبا، وذلك أنه جمع رجلا يقرأ هذه الآية: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} (1) الآية فوقف عليه فقال: يا عبد الله، أعد قراءتها فأعادها عليه، فغمد سيفه ثم جاء تائبا حتى قدم المدينة من السحر. فاغتسل ثم أتى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى الصبح، ثم قعد إلى أبي هريرة في غمار أصحابه؛ فلما أسفر عرفه الناس وقاموا إليه؛ فقال: لا سبيل لكم علي جئت تائبا من قبل أن تقدروا علي؛ فقال أبو هريرة: صدق وأخذ بيده أبو هريرة حتى أتى مروان بن الحكم في إمرته على المدينة في زمن معاوية، فقال: هذا علي جاء تائبا، ولا سبيل لكم عليه ولا قتل، قال: فترك من ذلك كله، قال: وخرج علي تائبا مجاهدا في سبيل الله في البحر فلقوا الروم فقربوا سفينته إلى سفينة من سفنهم فاقتحم على الروم في سفينتهم فهزموا منه إلى سفينتهم الأخرى، فمالت بهم وبه فغرقوا جميعا.
حدثني أحمد بن حازم قال: ثنا أبو نعيم قال: ثنا مطرف بن معقل، قال: سمعت عطاء قال في رجل سرق سرقة فجاء بها تائبا من غير أن يؤخذ فهل عليه حد؟ قال: لا، ثم قال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (2) الآية.
حدثنا ابن البرقي، قال: ثنا ابن أبي مريم قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال: ثني أبو صخرة عن محمد بن كعب القرظي، وعن أبي معاوية، عن سعيد بن جبير قالا: إن جاء
__________
(1) سورة الزمر الآية 53
(2) سورة المائدة الآية 34(11/37)
تائبا لم يقتطع مالا ولم يسفك دما ترك، فذلك الذي قال الله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (1) يعني بذلك أنه لم يسفك دما ولم يقتطع مالا.
وقال آخرون: بل عني بالاستثناء في ذلك التائب من حربه الله ورسوله والسعي في الأرض فسادا لحاقه في حربه بدار الكفر، فأما إذا كانت حرابته وحربه وهو مقيم في دار الإسلام وداخل في غمار الأمة؛ فليست توبته واضعة عنه شيئا من حدود الله ولا من حقوق المسلمين والمعاهدين بل يؤخذ بذلك.
ذكر من قال ذلك
حدثني علي بن سهل قال: ثنا الوليد بن مسلم قال: أخبرني إسماعيل عن هشام بن عروة أنه أخبره أنهم سألوا عروة عمن تلصص في الإسلام فأصاب حدودا ثم جاء تائبا؟ فقال: لا تقبل توبته؛ لو قبل ذلك منهم اجترءوا عليه، وكان فسادا كبيرا، ولكن لو فر إلى العدو ثم جاء تائبا لم أر عليه عقوبة.
وقد روي عن عروة خلاف هذا القول، وهو ما حدثني به علي قال: ثنا الوليد قال أخبرني من سمع هشام بن عروة عن عروة قال يقام عليه حد ما فر منه، ولا يجوز لأحد فيه أمان، يعني الذي يصيب حدا، ثم يفر فيلحق الكفار ثم يجيء تائبا.
وقال آخرون: إن كانت حرابته أو حربه في دار الإسلام، وهو في غير منعة من فئة يلجأ إليها ثم جاء تائبا قبل القدرة عليه، فإن توبته لا تضع عنه شيئا من العقوبة ولا من حقوق الناس، وإن كانت حرابته وحربه في دار الإسلام أو هو لاحق بدار الكفر غير أنه في كل ذلك كان يلجأ إلى فئة تمنعه ممن أراده من سلطان المسلمين، ثم جاء تائبا قبل القدرة عليه؛ فإن توبته تضع عنه كل ما كان من إحداثه في أيام حرابته تلك، إلا أن يكون أصاب حدا أو أمر الرفقة بما فيه عقوبة أو غرم لمسلم أو معاهد، وهو غير ملتجئ إلى فئة تمنعه؛ فإنه يأخذ بما أصاب من ذلك، وهو كذلك ولا يضع ذلك عنه توبته.
ذكر من قال ذلك:
حدثني علي بن سهل قال: ثنا الوليد، قال: قال أبو عمرو: إذا قطع الطريق أو جماعة من اللصوص فأصابوا ما أصابوا من الدماء والأموال ولم يكن لهم فئة يلجئون إليها
__________
(1) سورة المائدة الآية 34(11/38)
ولا منعة ولا يأمنون إلا بالدخول في غمار أمتهم وسواد عامتهم، ثم جاء تائبا من قبل أن يقدر عليه لم تقبل توبته، وأقيم عليه حده ما كان.
حدثني علي قال: ثنا الوليد، قال: ذكرت لأبي عمرو قول عروة: يقام عليه حد ما فر منه، ولا يجوز لأحد فيه أمان. فقال أبو عمرو: إن فر من حدثه في دار الإسلام فأعطاه إمام أمانا لم يجز أمانه، وإن هو لحق بدار الحرب ثم سأل إماما أمانا على إحداثه لم ينبغ للإمام أن يعطيه أمانا، وإن أعطاه الإمام أمانا وهو غير عالم بإحداثه فهو آمن، وإن جاء أحد يطلبه بدم أو مال رد إلى مأمنه، فإن أبى أن يرجع فهو آمن، ولا يتعرض له.
قال: وإن أعطاه أمانا على أحداثه وهو يعرفها فالإمام ضامن، واجب عليه عقل ما كان أصاب من دم أو مال. وكان فيما عطل من تلك الحدود والدماء آثما، وأمره إلى الله - عز وجل - قال: وقال أبو عمرو: فإذا أصاب ذلك وكانت له منعة أو فئة يلجأ إليها. أو لحق بدار الحرب فارتد عن الإسلام، أو كان مقيما عليه ثم جاء تائبا من قبل أن يقدر عليه قبلت توبته، ولم يتبع بشيء من أحداثه التي أصابها في حربه. إلا أن يوجد معه شيء قائم بعينه فيرد إلى صاحبه.
حدثني علي قال ثنا الوليد قال: أخبرني ابن لهيعة عن ربعية قال: تقبل توبته ولا يتبع بشيء من أحداثه في حربه إلا أن يطلبه أحد بدم كان أصابه في سلمه قبل حربه؛ فإنه يقاد به.
حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين قال: ثنا معمر الرقي، قال: ثنا الحجاج عن الحكم بن عيبة، قال: قاتل الله الحجاج إن كان ليفقه أمن رجلا من محاربته، فقال: انظروا هل أصاب شيئا قبل خروجه.
وقال آخرون: تضع توبته عنه حد الله الذي وجب عليه بمحاربته، ولا يسقط عنه حقوق بني آدم، وممن قال ذلك الشافعي، حدثنا بذلك عنه الربيع.
وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب عندي قول من قال: توبة المحارب الممتنع بنفسه أو بجماعة معه قبل القدرة عليه، تضع عنه تبعات الدنيا التي كانت لزمته في أيام حربه وحرابته من حدود الله وغرم لازم وقود وقصاص، إلا ما كان قائما في يده من أموال المسلمين والمعاهدين بعينه، فيرد على أهله لإجماع الجميع على أن ذلك حكم الجماعة(11/39)
الممتنعة المحاربة لله ولرسوله، الساعية في الأرض فسادا على وجه الردة عن الإسلام. فكذلك حكم كل ممتنع سعى في الأرض فسادا جماعة كانوا أو واحدا. فأما المستخفي بسرقته والمتلصص على وجه إغفال من سرقة، والشاهر السلاح في خلاء على بعض السابلة، وهو عند الطلب غير قادر على الامتناع؛ فإن حكم الله عليه تاب أو لم يتب ماس، وبحقوق من أخذ ماله أو أصاب وليه بدم أو ختل مأخوذ، وتوبته فيما بينه وبين الله قياسا على إجماع الجميع على أنه لو أصاب شيئا من ذلك وهو للمسلمين سلم ثم صار لهم حربا إن حربه إياهم لن يضع عنه حقا لله - عز ذكره -. ولا لآدمي، فكذلك حكمه إذا أصاب ذلك في خلاء أو باستخفاء وهو غير ممتنع من السلطان بنفسه إن أراده، ولا له فئة يلجأ إليها مانعة منه.
وفي قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (1) دليل واضح لمن وفق لفهمه أن الحكم الذي ذكره الله في المحاربين يجري في المسلمين والمعاهدين دون المشركين الذين قد نصبوا للمسلمين حربا؛ وذلك أن ذلك لو كان حكما في أهل الحرب من المشركين دون المسلمين ودون ذمتهم لوجب أن لا يسقط إسلامهم عنهم إذا أسلموا أو تابوا بعد قدرتنا عليهم ما كان لهم قبل إسلامهم وتوبتهم من القتل، وما للمسلمين في أهل الحرب من المشركين، وفي إجماع المسلمين أن إسلام المشرك الحربي يضع عنه بعد قدرة المسلمين عليه ما كان واضعه عنه إسلامه قبل القدرة عليه، ما يدل على أن الصحيح من القول في ذلك قول من قال: عني بآية المحاربين في هذا الموضع حراب أهل الإسلام أو الذمة دون من سواهم من مشركي أهل الحرب.
وأما قوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) فإن معناه فاعلموا أيها المؤمنون؛ أن الله غير مؤاخذ من تاب من أهل الحرب لله ولرسوله الساعين في الأرض فسادا وغيرهم بذنوبه، ولكنه يعفو عنه فيسترها عليه ولا يفضحه بها بالعقوبة في الدنيا والآخرة، رحيم به في عفوه عنه، وتركه عقوبته عليها.
__________
(1) سورة المائدة الآية 34
(2) سورة المائدة الآية 34(11/40)
وقال ابن كثير في تفسيره:
آية المحاربة
المحاربة: هي المضادة والمخالفة، وهي صادقة على الكفر، وعلى قطع الطريق، وإخافة السبيل، وكذلك الإفساد في الأرض.(11/40)
يطلق على أنواع من الشر حتى قال كثير من السلف - منهم سعيد بن المسيب -: إن قبض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض، وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (1) . ثم قال بعضهم: نزلت هذه الآية الكريمة في المشركين كما قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا الحسين بن واقد عن يزيد عن عكرمة، والحسن البصري قالا: {الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} (2) نزلت هذه الآية في المشركين فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه لم يكن عليه سبيل، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد، إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله، ثم لحق بالكفار قبل أن يقدر عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصاب، ورواه أبو داود والنسائي من طريق عكرمة عن ابن عباس: {الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} (3) نزلت في المشركين فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} (4) الآية، قال: كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد وميثاق، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فخير الله رسوله إن شاء أن يقتل، وإن شاء أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، رواه ابن جرير.
وروى شعبة عن منصور عن هلال بن يساف عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: نزلت في الحرورية: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} (5) رواه ابن مردويه، والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات كما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي قلابة، واسمه عبد الله بن زيد الحرمي البصري، عن أنس بن مالك: «أن نفرا من عكل ثمانية قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبايعوه على الإسلام فاستوخموا المدينة، وسقمت أجسامهم فشكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك فقال: ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبوا من أبوالها وألبانها، فقالوا: بلى، فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها فصحوا فقتلوا الراعي وطردوا الإبل، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعث في آثارهم فأدركوا فجيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسملت أعينهم، ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا (6) » لفظ مسلم. وفي لفظ لهم: من عكل أو عرينة وفي لفظ: «والقوافي
__________
(1) سورة البقرة الآية 205
(2) سورة المائدة الآية 33
(3) سورة المائدة الآية 33
(4) سورة المائدة الآية 33
(5) سورة المائدة الآية 33
(6) صحيح البخاري الديات (6899) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الطهارة (72) ، سنن النسائي تحريم الدم (4024) ، سنن أبو داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الحدود (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/186) .(11/41)
الحرة فجعلوا يستسقون فلا يسقون (1) » ، وفي لفظ لمسلم: ولم يحمهم، وعند البخاري قال أبو قلابة: «فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله (2) » ، رواه مسلم من طريق هشيم عن عبد العزيز بن صهيب، وحميد عن أنس فذكر نحوه وعنده فارتدوا وقد أخرجاه من رواية قتادة عن أنس بنحوه، وقال سعيد عن قتادة: من عكل وعرينة ورواه مسلم من طريق سليمان التيمي عن أنس قال: «إنما سمل النبي - صلى الله عليه وسلم - أعين أولئك؛ لأنهم سملوا أعين الرعاة (3) » . ورواه مسلم من حديث معاوية بن قرة عن أنس قال: «أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفر من عرينة فأسلموا وبايعوه وقد وقع بالمدينة الموم (4) » ، وهو البرسام ذكر نحو حديثهم وزاد عنده: «شباب من الأنصار قريب من عشرين فأرسلهم وبعث معهم قائفا يقفو أثرهم (5) » ، وهذه كلها ألفاظ مسلم - رحمه الله -.
ثم قد احتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء في ذهابهم إلى أن حكم المحاربة في الأمصار وفي السبلان. على السواء لقوله: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} (6) وهذا مذهب مالك والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد بن حنبل، حتى قال مالك في الذي يغتال الرجل فيخدعه حتى يدخله بيتا فيقتله ويأخذ ما معه، إن هذه محاربة ودمه إلى السلطان لا إلى ولي المقتول، ولا اعتبار بعفوه عنه في إسقاط القتل.
وقال أبو حنيفة وأصحابه لا تكون المحاربة إلا في الطرقات، فأما في الأمصار فلا؛ لأنه يلحقه الغوث إذا استغاث. بخلاف الطريق لبعده ممن يغيثه ويعينه، وقوله تعالى: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (7) قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية: من شهر السلاح في فئة الإسلام وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار، إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله، وكذا قال سعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النخعي والضحاك، وروى ذلك كله أبو جعفر بن جرير، وحكي مثله عن مالك بن أنس - رحمه الله -، ويستند هذا القول أن ظاهر " أو " للتخيير كما في نظائر ذلك من القران كقوله في جزاء الصيد: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} (8) ، وكقوله في كفارة الفدية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (9) ، وكقوله في كفارة اليمين: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (10)
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (233) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الطهارة (72) ، سنن النسائي الطهارة (305) ، سنن أبو داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الحدود (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/163) .
(2) صحيح البخاري الوضوء (233) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الطهارة (72) ، سنن النسائي الطهارة (305) ، سنن أبو داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الحدود (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/163) .
(3) صحيح البخاري الديات (6899) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الطهارة (73) ، سنن النسائي الطهارة (305) ، سنن أبو داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الحدود (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/163) .
(4) صحيح البخاري الديات (6899) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الطهارة (72) ، سنن النسائي الطهارة (305) ، سنن أبو داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الحدود (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/163) .
(5) صحيح البخاري الديات (6899) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الطهارة (72) ، سنن النسائي الطهارة (305) ، سنن أبو داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الحدود (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/163) .
(6) سورة المائدة الآية 33
(7) سورة المائدة الآية 33
(8) سورة المائدة الآية 95
(9) سورة البقرة الآية 196
(10) سورة المائدة الآية 89(11/42)
وهذه كلها على التخيير، فكذلك فلتكن هذه الآية، وقال الجمهور: هذه الآية منزلة على أحوال كما قال أبو عبد الله الشافعي، أنبأنا إبراهيم: (1) بن أبي يحيى عن صالح (2) ، مولى التوأمة، عن ابن عباس في قطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال: قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال: قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا: قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض، وقد رواه ابن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان، عن حجاج عن عطية عن ابن عباس بنحوه عن أبي مجلز وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والسدي وعطاء الخراساني نحو ذلك، وهكذا قال غير واحد من السلف والأئمة.
ثم ذكر نحوا مما ذكره ابن جرير في شرح بقية الآيتين.
__________
(1) قال ابن حجر في التقريب: متروك
(2) قال ابن حجر في التقريب: صدوق اختلط بأخرة(11/43)
قال أبو بكر الجصاص في (باب حد المحاربين)
قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} (1) الآية، وبعد أن ذكر أن في قوله تعالى: {يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (2) مجازا بالحذف أو التشبيه على طريقة علماء الكلام قال: لا خلاف بين السلف والخلف من فقهاء الأمصار أن هذا الحكم غير مخصوص بأهل الردة، وأنه فيمن قطع الطريق وإن كان من أهل الملة، وحكي عن بعض المتأخرين ممن لا يعتد به أن ذلك مخصوص بالمرتدين، وهو قول ساقط مردود مخالف للآية وإجماع السلف والخلف، ويدل على أن المراد به قطاع الطريق من أهل الملة قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) ومعلوم أن المرتدين لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقطها عنهم قبل القدرة، وقد فرق الله بين توبتهم قبل القدرة أو بعدها، وأيضا فإن الإسلام لا يسقط الحد عمن وجب عليه، فعلمنا أن المراد قطاع الطريق من أهل الملة، وأن توبتهم من الفعل قبل القدرة عليهم هي المسقطة للحد عنهم، وأيضا فإن المرتد يستحق
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) سورة المائدة الآية 33
(3) سورة المائدة الآية 34(11/43)
القتل بنفس الردة دون المحاربة، والمذكور في الآية من استحق القتل بالمحاربة فعلمنا أنه لم يرد المرتد وأيضا ذكر فيه نفي من لم يتب قبل القدرة عليه، والمرتد لا ينفى فعلمنا أن حكم الآية جار في أهل الملة، وأيضا فإنه لا خلاف أن أحدا لا يستحق قطع اليد والرجل بالكفر، وأن الأسير من أهل الردة متى حصل في أيدينا عرض عليه الإسلام، فإن أسلم وإلا قتل، ولا نقطع يده ولا رجله وأيضا فإن الآية أوجبت قطع يد المحارب ورجله ولم توجب معه شيئا آخر، ومعلوم أن المرتد لا يجوز أن تقطع يده ورجله ويخلى سبيله بل يقتل إن لم يسلم، والله تعالى قد أوجب الاقتصار بهم في حال على قطع اليد والرجل دون غيره، وأيضا ليس من حكم المرتدين الصلب، فعلمنا أن الآية في غير أهل الردة، ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (1) ، وقال في المحاربين {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) فشرط في زوال الحد عن المحاربين وجود التوبة منهم قبل القدرة عليهم وأسقط عقوبة الكفر بالتوبة قبل القدرة وبعدها، فلما علم أنه لم يرد بالمحاربين أهل الردة فهذه الوجوه التي ذكرناها كلها دالة على بطلان قول من ادعى خصوص الآية في المرتدين. فإن قال قائل: قد روى قتادة وعبد العزيز بن صهيب وغيرهما عن أنس قال: «قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - أناس من عرينة، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو خرجتم إلى ذودنا فشربتم من ألبانها وأبوالها ففعلوا فلما صحوا قاموا إلى راعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقتلوه ورجعوا كفارا واستاقوا ذود رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فأرسل في طلبهم، فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا (3) » .
قيل له: إن خبر العرنيين مختلف فيه، فذكر بعضهم عن أنس نحو ما ذكرنا، وزاد فيه أنه كان سبب نزول الآية، وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: أنها نزلت في أصحاب أبي برزة الأسلمي، وكان موادعا للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقطعوا الطريق على قوم جاءوا يريدون الإسلام؛ فنزلت فيهم، وروي عكرمة عن ابن عباس أنها نزلت في المشركين، فلم يذكر مثل قصة العرنيين، وروي عن ابن عمر: أنها نزلت في العرنيين، ولم يذكر رده. ولا يخلو نزول الآية من أن يكون في شأن العرنيين أو الموادعين، فإن كان نزولها في العرنيين وأنهم ارتدوا فإن نزولها في شأنهم لا يوجب الاقتصار بها عليهم؛ لأنه لا حكم للسبب عندنا، وإنما الحكم عندنا لعموم اللفظ
__________
(1) سورة الأنفال الآية 38
(2) سورة المائدة الآية 34
(3) صحيح البخاري الديات (6899) ، صحيح مسلم كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الطهارة (72) ، سنن النسائي تحريم الدم (4029) ، سنن أبو داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الحدود (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/107) .(11/44)
إلا أن تقوم الدلالة على الاقتصار به على السبب، وأيضا فإن من ذكر نزولها في شأن العرنيين فإنه ما ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول الآية قال شيئا، وإنما تركهم في الحرة حتى ماتوا، ويستحيل نزول الآية في الأمر بقطع من قد قطع وقتل من قد قتل؛ لأن ذلك غير ممكن؛ فعلمنا أنهم غير مرادين بحكم الآية، ولأن الآية عامة في سائر من يتناوله الاسم غير متصور الحكم على المرتدين، وقد روى همام عن قتادة عن ابن سيرين قال: كان أمر العرنيين قبل أن ينزل الحدود، فأخبر أنه كان قبل نزول الآية، ويدل عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمل أعينهم، وذلك منسوخ بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المثلة. . .
ثم قال (ذكر الاختلاف في ذلك)
واختلف السلف وفقهاء الأمصار في حكم الآية من وجوه أنا ذاكرها بعد اتفاقهم على أن حكم الآية جار في أهل الملة إذا قطعوا الطريق، فروى الحجاج بن أرطأة عن عطية العوفي، عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} (1) الآية، قال: إذا حارب الرجل فقتل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف وقتل وصلب، فإن قتل ولم يأخذ المال قتل، وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا لم يقتل ولم يأخذ المال نفي. وروى أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم في الرجل يقطع الطريق ويأخذ المال ويقتل أن الإمام فيه بالخيار، إن شاء قطع يده ورجله من خلاف وقتله وصلبه، وإن شاء صلبه ولم يقطع يده ولا رجله، وإن شاء قتله ولم يصلبه، فإن أخذ مالا ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وإن لم يأخذ مالا ولم يقتل عزر، ونفي من الأرض، ونفيه حبسه، وفي رواية أخرى: أوجع عقوبة وحبس حتى يحدث خيرا، وهو قول الحسن رواية وسعيد بن جبير وحماد وقتادة وعطاء الخراساني، فهذا قول السلف الذين جعلوا حكم الآية على الترتيب، وقال الآخرون: الإمام مخير فيهم إذا خرجوا يجري عليهم أي هذه الأحكام شاء، وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالا، وممن قال ذلك سعيد بن المسيب ومجاهد والحسن رواية وعطاء بن أبي رباح. وقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد: إذا قتل المحاربون ولم يعدوا ذلك قتلوا، وإن أخذوا المال ولم يعدوا ذلك قطعت أيديهم
__________
(1) سورة المائدة الآية 33(11/45)
وأرجلهم من خلاف، لا خلاف بين أصحابنا في ذلك، فإن قتلوا وأخذوا المال فإن أبا حنيفة قال: للإمام أربع خيارات: إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم وقتلهم، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم، وإن شاء صلبهم، وإن شاء قتلهم وترك القطع، وقال أبو يوسف ومحمد: إذا قتلوا وأخذوا المال فإنهم يصلبون ويقتلون ولا يقطعون، وروي عن أبي يوسف في الإملاء أنه قال: إن شاء قطع يده ورجله وصلبه، فأما الصلب فلا أعفيه منه. وقال الشافعي في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال: قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال: قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا: قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل: نفوا، وإذا هربوا: طلبوا حتى يؤخذوا فيقام عليهم الحدود، إلا من تاب قبل أن يقدر عليه سقط عنه الحد ولا يسقط حقوق الآدميين، ويحتمل أن يسقط كل حق لله تعالى بالتوبة ويقطع من أخذ ربع دينار فصاعدا. وقال مالك: إذا أخذ المحارب المخيف للسبيل فإن الإمام مخير في إقامة أي الحدود التي أمر الله تعالى بها، قتل المحارب أو لم يقتل، أخذ مالا أو لم يأخذ، الإمام مخير في ذلك: إن شاء قتله، وإن شاء قطعه خلافا، وإن شاء نفاه، ونفيه حبسه حتى يظهر توبة، فإن لم يقدر على المحارب حتى يأتيه تائبا وضع عنه حد المحاربة القتل والقطع والنفي، وأخذ بحقوق الناس. وقال الليث بن سعد: الذي يقتل ويأخذ المال يصلب فيطعن بالحربة حتى يموت، والذي يقتل فإنه يقتل بالسيف، وقال أبو الزناد في المحاربين: ما يصنع الوالي فيهم فهو صواب: من قتل أو صلب أو قطع أو نفي، قال أبو بكر: الدليل (1) على أن حكم الآية على الترتيب الذي ذكرنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس (2) » ، فنفى - صلى الله عليه وسلم - قتل من خرج عن هذه الوجوه الثلاثة، ولم يخصص فيه قطاع الطريق، فانتفى بذلك قتل من لم يقتل من قطاع الطريق، وإذا انتفى قتل من لم يقتل وجب قطع يده ورجله، إذا أخذ المال وهذا لا خلاف فيه (3) .
فإن قيل: روى إبراهيم بن طهمان عن عبد العزيز بن رفيع عن عبيد بن عمير عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنا بعد إحصان، ورجل قتل رجلا فقتل به، ورجل خرج محاربا لله ولرسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض (4) » . قيل له: قد روي هذا الحديث من وجوه صحاح ولم يذكر
__________
(1) ستأتي مناقشته فيما ينقل عن أبي بكر بن العربي والقرطبي
(2) سنن الترمذي كتاب الفتن (2158) ، سنن النسائي تحريم الدم (4019) ، سنن أبو داود الديات (4502) ، سنن ابن ماجه الحدود (2533) ، مسند أحمد بن حنبل (1/163) ، سنن الدارمي الحدود (2297) .
(3) تقدم أن فيه خلافا
(4) سنن الترمذي كتاب الفتن (2158) ، سنن النسائي تحريم الدم (4019) ، سنن أبو داود الديات (4502) ، سنن ابن ماجه الحدود (2533) ، مسند أحمد بن حنبل (1/163) ، سنن الدارمي الحدود (2297) .(11/46)
فيه قتل المحارب، ورواه عثمان وعبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكر فيه قتل المحارب، والصحيح منها ما لم يذكر ذلك فيه؛ لأن المرتد لا محالة مستحق للقتل بالاتفاق، وهو أحد الثلاثة المذكورين في خبر هؤلاء، فلم يبق من الثلاثة غيرهم، ويكون المحارب إذا لم يقتل خارجا منهم، وإن صح ذكر المحارب فيه فالمعنى فيه إذا قتل؛ حتى يكون موافقا للإخبار الآخر، وتكون فائدته جواز قتله على وجه الصلب. فإن قيل: فقد ذكر فيه: أو ينفى من الأرض. قيل له: لا يمتنع أن يكون مبتدأ قد أضر فيه إن لم يقتل (1) . فإن قيل: فقد يقتل الباغي وإن لم يقتل، وهو خارج عن الثلاثة المذكورين في الخبر. قيل له: ظاهر الخبر ينفي قتله، وإنما قتلناه بدلالة الاتفاق وبقي حكم الخبر في نفي قتل المحارب إلا أن يقتل على العموم، وأيضا فإن الخبر إنما ورد فيمن استحق القتل بفعل سبق منه واستقر حكمه عليه، كالزاني المحصن والمرتد والقاتل، والباغي لا يستحق القتل على هذا الوجه، وإنما يقتل على وجه الدفع، ألا ترى أنه لو قعد في بيته ولم يقاتل: لم يقتل، وإن كان معتقدا لمقالة أهل البغي فثبت بما وصفنا أن حكم الآية على الترتيب على الوجه الذي بينا لا على التخيير، ويدل على أن في الآية ضميرا ولا تخيير فيها باتفاق الجميع (2) ، على أنهم لو أخذوا مالا ولم يقتلوا لم يجز للإمام أن ينفيهم ويترك قطع أيدهم وأرجلهم، وكذلك لو قتلوا وأخذوا المال لم يجز للإمام أن يعفيهم من القتل أو الصلب (3) ، ولو كان الأمر على ما قال القائلون بالتخيير لكان التخيير ثابتا فيما إذا أخذوا المال وقتلوا، أو أخذوا المال ولم يقتلوا، فلما كان ذلك على ما وصفنا ثبت أن في الآية ضميرا، وهو أن يقتلوا إن قتلوا، أو يصلبوا إن قتلوا وأخذوا المال، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن أخذوا المال ولم يقتلوا، أو ينفوا من الأرض إن خرجوا ولم يفعلوا شيئا من ذلك حتى ظفر بهم (4) . واحتج القائلون بالتخيير بظاهر الآية، وبقوله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (5) ، فدل على أن الفساد في الأرض بمنزلة قتل النفس في باب وجوب قتله.
__________
(1) الأصل عدم الإضمار
(2) تقدم أن في المسألة خلافا
(3) بل يجوز له ذلك عندهم
(4) الأصل عدم الإضمار وإبقاء الآية على ظاهرها
(5) سورة المائدة الآية 32(11/47)
والمحاربون مفسدون في الأرض بخروجهم وامتناعهم وإخافتهم السبيل، وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالا، وليس ما ذكروه بموجب للتخيير مع قيام الدلالة على ضمير الآية وتعلق الحكم به دون مقتضى ظاهرها، وهو ما قدمنا من أنها لو كانت موجبة للتخيير ولم يكن فيها ضمير لكان الخيار باقيا إذا قتلوا وأخذوا المال في العدول عن قتلهم وقطعهم إلى نفيهم، فلما ثبت أنه غير جائز العدول عن القتل والقطع في هذه الحال صح أن معناها أن يقتلوا إن قتلوا، أو يصلبوا إن قتلوا وأخذوا المال، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن أخذوا المال. فإن قال قائل: إنما وجب قتلهم إذا قتلوا، وقطعهم إذا أخذوا المال، ولم يجز العدول عنه إلى النفي؛ لأن القتل على الانفراد يستحق به القتل، وإن لم يكن محاربا وأخذ المال يستحق به القطع إذا كان سارقا؛ فلذلك لم يجز في هذه الحال العدول إلى النفي وترك القتل أو القطع. قيل له: قتل المحارب في هذه الحال وقطعه حد ليس على وجه القود، ألا ترى أن عفو الأولياء غير جائز فيه، فثبت أنه إنما يستحق ذلك على وجه الحد؛ لأنه قتل على وجه المحاربة، ووجب قطعه لأخذه المال على وجه المحاربة، فإذا لم يقتل ولم يأخذ مالا لم يجز أن يقتل ولا يقطع؛ لأنه لو كان القتل واجبا حدا لما جاز العدول عنه إلى النفي، وكذلك القطع كما أنهم إذا قتلوا وأخذوا المال لم يجز العدول عن القتل أو القطع إلى النفي إذا كان وجوب ذلك على وجه الحد، وفي ذلك دليل على أن المحارب لا يستحق القتل إلا إذا قتل، ولا القطع إلا إذا أخذ المال، ويصلح أن يكون ذلك دليلا مبتدأ؛ لأن القتل إذا وجب حدا لم يجز العدول عنه إلى غيره، وكذلك القطع كالزاني والسارق فلما جاز للإمام أن يعدل عن قتل المحارب الذي لم يقتل إلى النفي علمنا أنه غير مستحق للقتل بنفس الخروج، وكما لو قتل لم يجز أن يعفى عن قتله، فلو كان يستحق القتل بنفس المحاربة لما جاز أن يعدل عنه كما لم يجز أن يعدل عنه إذا قتل. وأما قوله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (1) ، وتسويته بين قتل النفس بغير النفس وبين الفساد في الأرض، فإنما المراد الفساد في الأرض الذي يكون معه قتل أو قتله في حال إظهار الفساد، فيقتل على وجه الدفع، ونحن قد نقتل المحارب الذي لم يقتل على وجه الدفع، وإنما الكلام فيمن صار في يد
__________
(1) سورة المائدة الآية 32(11/48)
الإمام قبل أن يتوب هل يجوز أن يقتله إذا لم يقتل، فأما على وجه الدفع فلا خلاف فيه، فجائز أن يكون المراد من قوله تعالى: {أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} (1) على هذا الوجه؛ لأن الفساد في الأرض لو كان يستحق به القتل لما جاز العدول عنه إلى النفي، فلما جاز عند الجميع نفيه دل على أنه غير مستحق للقتل، فصح بما وصفنا قول من قال بإيجاب ترتيب حكم الآية على الوجه الذي ذكرنا، وأيضا فإن الوصول إلى القتل لا يستحق بأخذ المال ولا القصد له، ومعلوم أن المحاربين إنما خرجوا لأخذ المال، فإن كان القتل غير مستحق لأخذ المال في الأصول فالقصد لأخذه أولى أن لا يستحق به القتل على وجه الحد (2) ، فإذا خرج المحاربون وقتلوا قتلوا حدا لأجل القتل، وليس قتلهم هذا قودا؛ لأن القتل يستحق به القتل في الأصول إلا أنه لما قتله على جهة إظهار الفساد في الأرض تأكد حكمه بأن أوجب قتله حدا على أنه حق لله تعالى لا يجوز فيه عفو الأولياء، فإن أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف لما في الآية من ذكر ذلك، وقطع اليد والرجل يستحق بأخذ المال في الأصول، ألا ترى أن السارق تقطع يده، فإن عاد فسرق قطعت رجله، إلا أنه غلظت عقوبته حين كان أخذه للمال على وجه الفساد في الأرض، فإن قتل وأخذ فالإمام فيه بالخيار على ما ذكرنا من اختلاف أصحابنا فيه، فكان عند أبي حنيفة: له أن يجمع عليه قطع اليد والرجل والصلب والقتل، وكان ذلك عنده حدا واحدا، وكذلك لما استحق القتل في هذا الموضع مستحق على وجه الحد كالقطع، وأن عفو الأولياء فيه لا يجوز؛ فدل ذلك على أنهما جميعا حد واحد؛ فلذلك كان للإمام أن يجمعهما جميعا، وله أن يقتلهم فيدخل فيه قطع اليد والرجل، وذلك لأنه لم يؤخذ على الإمام الترتيب في التبدئة ببعض ذلك دون بعض، فله أن يبدأ بالقتل أو بالقطع. فإن قال قائل: هلا قتلته وأسقطت القطع كمن سرق وقتل إنه يقتل ولا يقطع. قيل له: لما بينا من أن جميع ذلك حد واحد مستحق بسبب واحد، وهو القتل وأخذ المال على وجه المحاربة، وأما السرقة والقتل فكل واحد منهما مستحق بسبب غير السبب الذي به استحق الآخر، وقد أمرنا بدرء الحدود ما استطعنا؛ فلذلك بدأنا بالقتل لندرأ أحد الحدين، وليس في مسألتنا درء أحد الحدين، وإنما هو حد واحد فلم يلزمنا إسقاط بعضه وإيجاب بعض، وهو مخير أيضا بين أن يقتله صلبا
__________
(1) سورة المائدة الآية 32
(2) نعم، لكنه يستحق للحرابة فإن لها نوعا من الحد مستقلا عن الحدود الأخرى(11/49)
وبين الاقتصار على القتل دون الصلب؛ لقوله تعالى: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} (1) وذكر أبو جعفر الطحاوي: أن الصلب المذكور في آية المحارب هو الصلب بعد القتل في قول أبي حنيفة، وكان أبو الحسن الكرخي يحكي عن أبي يوسف أنه يصلب ثم يقتل ببعج بطنه برمح أو غيره فيقتل، وقال أبو الحسن: هذا هو الصحيح، وصلبه بعد القتل لا معنى له؛ لأن الصلب عقوبة وذلك يستحيل في الميت، فقيل له: لم لا يجوز أن يصلب بعد القتل ردعا لغيره، فقال: لأن الصلب إذا كان موضوعه للتعذيب والعقوبة لم يجز إيقاعه إلا على الوجه الموضوع في الشريعة. فإن قال قائل: إن كان الله تعالى إنما أوجب القتل أو الصلب على وجه التخيير فكيف يجوز جمعهما عليه. قيل له: أراد قتلا على غير وجه الصلب إذا قتل ولم يأخذ المال، وأراد قتلا على وجه الصلب إذا قتل وأخذ المال؛ فغلظت العقوبة عليه في صفة القتل لجمعه بين القتل وأخذ المال، وروى مغيرة عن إبراهيم قال: يترك المصلوب من المحاربين على الخشبة يوما، وقال يحيى بن آدم ثلاثة أيام. واختلف في النفي فقال أصحابنا: هو حبسه حيث يرى الإمام، وروي مثله عن إبراهيم، وروي عن إبراهيم رواية أخرى وهو أن نفيه طلبه، وقال مالك: ينفى إلى بلد آخر غير البلد الذي يستحق فيه العقوبة فيحبس هناك، وقال مجاهد وغيره: هو أن يطلب الإمام الحد عليه حتى يخرج عن دار الإسلام. قال أبو بكر: فأما من قال: إنه ينفى عن كل بلد يدخله فهو إنما ينفيه عن البلد الذي هو فيه، والإقامة فيه وهو حينئذ غير منفي من التصرف في غيره، فلا معنى لذلك، ولا معنى أيضا لحبسه في بلد غير بلده؛ إذ الحبس يستوي في البلد الذي أصاب فيه وفي غيره، فالصحيح إذا حبسه في بلد وأيضا فلا يخلو قوله تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (2) من أن يكون المراد به نفيه من جميع الأرض وذلك محال؛ لأنه لا يمكن نفيه من جميع الأرض إلا بأن يقتل، ومعلوم أنه لم يرد بالنفي القتل؛ لأنه قد ذكر في الآية القتل مع النفي أو يكون مراده نفيه من الأرض التي خرج منها محاربا من غير حبسه؛ لأنه معلوم أن المراد بما ذكره زجره عن إخافة السبيل وكف أذاه عن المسلمين، وهو إذا صار إلى بلد آخر فكان هناك مخلا كانت معرته قائمة على المسلمين إذا كان تصرفه هناك كتصرفه في غيره أو أن يكون المراد نفيه عن دار الإسلام، وذلك ممتنع أيضا؛ لأنه لا يجوز نفي المسلم إلى دار الحرب لما فيه من تعريضه للردة ومصيره إلى أن يكون حربيا؛ فثبت أن معنى النفي هو نفيه عن سائر الأرض إلا موضع
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) سورة المائدة الآية 33(11/50)
حبسه لا يمكنه فيه العبث والفساد. وقوله تعالى: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1) يدل على أن إقامة الحد عليه لا كفارة لذنوبه، لإخبار الله تعالى بوعيده في الآخرة بعد إقامة الحد عليهم، قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) ، استثناء لمن تاب منهم من قبل القدرة عليهم وإخراج لهم من جملة من أوجب الله عليه الحد؛ لأن الاستثناء إنما هو إخراج بعض ما انتظمته الجملة منها؛ كقوله تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} (3) {إِلَّا امْرَأَتَهُ} (4) ، فأخرج آل لوط من جملة المهلكين، وأخرج المرأة بالاستثناء من جملة المنجين، وكقوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} (5) {إِلَّا إِبْلِيسَ} (6) ، فكان إبليس خارجا من جملة الساجدين، فكذلك لما استثناهم من جملة من أوجب عليهم الحد إذا تابوا قبل القدرة عليهم، فقد نفى إيجاب الحد عليهم، وقد أكد ذلك بقوله تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (7) كقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (8) عقل بذلك سقوط عقوبات الدنيا والآخرة عنهم. فإن قال قائل: قد قال في السرقة: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (9) ومع ذلك فليست توبة السارق مسقطة للحد عنه. قيل: لأنه لم يستثنهم من جملة من أوجب عليهم الحد، وإنما أخبر أن الله غفور رحيم لمن تاب منهم، وفي آية المحاربة استثناء يوجب إخراجهم من الجملة، وأيضا فإن قوله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} (10) يصح أن يكون كلاما مبتدأ مستغنيا بنفسه عن تضمينه بغيره، وكل كلام اكتفى بنفسه لم نجعله مضمنا بغيره إلا بدلالة، وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (11) مفتقر في صحته إلى ما قبله، فمن أجل ذلك كان مضمنا به. ومتى سقط الحد المذكور في الآية وجبت حقوق الآدميين من القتل والجراحات وضمان الأموال، وإذا وجب الحد سقط ضمان حقوق الآدميين في المال والنفس والجراحات، وذلك لأن وجوب الحد بهذا الفعل يسقط ما تعلق به من حق الآدمي كالسارق إذا سرق وقطع لم يضمن السرقة، وكالزاني إذا وجب عليه
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) سورة المائدة الآية 34
(3) سورة الحجر الآية 59
(4) سورة الحجر الآية 60
(5) سورة الحجر الآية 30
(6) سورة الحجر الآية 31
(7) سورة المائدة الآية 34
(8) سورة الأنفال الآية 38
(9) سورة المائدة الآية 39
(10) سورة المائدة الآية 39
(11) سورة المائدة الآية 34(11/51)
الحد لم يلزمه المهر، وكالقاتل إذا وجب عليه القود لم يلزمه ضمان المال، كذلك المحاربون إذا وجب عليهم الحد سقطت حقوق الآدميين، فإذا سقط الحد عن المحارب وجب ضمان ما تناوله من مال أو نفس كالسارق إذا أدرئ عنه الحد وجب عليه ضمان المال، وكالزاني إذا سقط عنه الحد لزمه.
واختلف في الموضع الذي يكون به محاربا، فقال أبو حنيفة: من قطع الطريق في المصر ليلا أو نهارا أو بين الحيرة والكوفة ليلا أو نهارا فلا يكون قاطعا للطريق إلا في الصحاري، وحكى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف: أن الأمصار وغيرها سواء، وهم المحاربون يقام حدهم، وروي عن أبي يوسف في اللصوص الذين يكبسون الناس ليلا في دورهم في المصر: أنهم بمنزلة قطاع الطريق، يجري عليهم أحكامهم. وحكي عن مالك: أنه لا يكون محاربا حتى يقطع على ثلاثة أميال من القرية، وذكر عنه أيضا قال: المحاربة أن يقاتلوا على طلب المال من غير ثائرة، ولم يفرق ههنا بين المصر وغيره. وقال الشافعي قطاع الطريق الذين يعرضون بالسلاح للقوم حتى يغصبوهم المال، والصحاري والمصر واحد. وقال الثوري: لا يكون محاربا بالكوفة حتى يكون خارجا منها.
قال أبو بكر: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا قطع على خائن، ولا مختلس (1) » ، فنفى - عليه السلام - القطع عن المختلس، والمختلس هو الذي يختلس الشيء، وهو غير ممتنع فوجب بذلك اعتبار المنعة من المحاربين، وأنهم متى كانوا في موضع لا يمكنهم أن يمتنعوا، وقد يلحق من قصدوه الغوث من قبل المسلمين أن لا يكونوا محاربين، وأن يكونوا بمنزلة المختلس والمنتهب؛ كالرجل الواحد إذا فعل ذلك في المصر، فيكون مختلسا غاصبا لا يجري عليه أحكام قطاع الطريق، وإذا كانت جماعة ممتنعة في الصحراء فهؤلاء يمكنهم أخذ أموال السابلة قبل أن يلحقهم الغوث فباينوا بذلك المختلس ومن ليس له امتناع في أحكامهم، ولو وجب أن يستوي حكم المصر وغيره لوجب استواء حكم الرجل الواحد والجماعة، ومعلوم أن الرجل الواحد لا يكون محاربا في المصر لعدم الامتناع منه، فكذلك ينبغي أن يكون حكم الجماعة في المصر لفقد الامتناع منهم على أهل المصر، وأما إذا كانوا في الصحراء فهم ممتنعون غير مقدور عليهم إلا بالطلب والقتال؛ فلذلك اختلف حكمهم وحكم من في مصر.
فإن قال قائل: إن كان الاعتبار بما ذكرت فواجب أن يكون العشرة من اللصوص إذا اعترضوا قافلة فيها ألف رجل غير محاربين إذ قد يمكنهم الامتناع عليهم. قيل له: صاروا محاربين بالامتناع والخروج، سواء قصدوا القافلة أو لم يقصدوها، فلا يزول عنهم هذا الحكم بعد ذلك بكون القافلة
__________
(1) سنن الترمذي الحدود (1448) ، سنن النسائي قطع السارق (4971) ، سنن أبو داود الحدود (4391) ، سنن ابن ماجه الحدود (2591) ، مسند أحمد بن حنبل (3/380) ، سنن الدارمي الحدود (2310) .(11/52)
ممتنعة منهم كما لا يزول بكون أهل الأمصار ممتنعين منهم، وأجرى أبو يوسف على اللصوص في المصر حكم المحاربين لامتناعهم والخروج على وجه المحاربة لأخذ المال، فلا يختلف حكمهم بالمصر وغيره، كما أن سائر ما يوجب الحد من الزنا والسرقة والقذف والقتل لا يختلف أحكام فاعليها بالمصر وغيره.
فصل
واعتبر أصحابنا في إيجاب قطع المحارب مقدار المال المأخوذ بأن يصيب كل واحد منهم عشرة دراهم، واعتبر الشافعي ربع دينار، كما اعتبره في قطع السارق، ولم يعتبره مالك؛ لأنه يرى إجراء الحكم عليهم بالخروج قبل أخذ المال (1) .
(فصل)
وقال أصحابنا: إذا كان الذي ولي القتل وأخذ المال بعضهم كان حكم جميعهم حكم المحاربين يجري الحكم عليهم، وذلك لأن حكم المحاربة والمنعة لم يحصل إلا باجتماعهم جميعا فلما كان السبب الذي تعلق به حكم المحاربة -وهو المنعة - حصل باجتماعهم جميعا: وجب أن لا يختلف حكم من ولي القتل منهم، ومن كان عونا أو ظهيرا، والدليل عليه أن الجيش إذا غنموا من أهل الحرب لم يختلف فيه حكم من ولي القتال منهم، ومن كان منهم ردءا وظهيرا، ولذلك لم يختلف حكم من قتل بعصا أو بسيف إذ كان من لم يل القتال يجري عليه الحكم.
__________
(1) قد يقال قول مالك هو الصحيح؛ لأن حد الحرابة منفرد يخالف حد السرقة.(11/53)
قال أبو بكر بن العربي في تفسير آية: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) في الآية اثنتا عشرة مسألة، ثم ذكر في المسألة الأولى منها أن في قوله تعالى: {يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (2) مجازا بالتشبيه أو بالحذف على طريقة علماء الكلام.
ثم قال: المسألة الثانية في سبب نزولها وفيها خمسة أقوال:
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) سورة المائدة الآية 33(11/53)
الأول - أنها نزلت في أهل الكتاب، نقضوا العهد وأخافوا السبيل وأفسدوا في الأرض، فخير الله نبيه فيهم.
الثاني - نزلت في المشركين، قاله الحسن.
الثالث - نزلت في عكل أو عرينة قدم منهم نفر على النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وتكلموا بالإسلام فقالوا: «يا نبي الله، إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف واستوخموا المدينة فأمر لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذود وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي - صلى الله عليه وسلم - واستاقوا الذود، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبعث الطلب في آثارهم فأمر بهم فسملوا أعينهم وقطعوا أيديهم وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم (1) » .
وقال قتادة: فبلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك كان «يحث على الصدقة وينهى عن المثلة (2) » .
هذا في الصحيح من قصتهم، وتمامها على الاستيفاء في صريح الصحيح، زاد الطبري: وفي ذلك نزلت هذه الآية، ورواه جماعة.
الرابع - أن هذه الآية نزلت معاتبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن العرنيين، قاله الليث.
الخامس - قال قتادة: هي ناسخة لما فعل في العرنيين.
المسألة الثالثة - في تحقيق ذلك:
لو ثبت أن هذه الآية نزلت في شأن عكل أو عرينة لكان غرضا ثابتا ونصا صريحا. واختار الطبري أنها نزلت في يهود، ودخل تحتها كل ذمي وملي، وهذا ما لم يصح فإنه لم يبلغنا أن أحدا من اليهود حارب، ولا أنه جوزي بهذا الجزاء.
ومن قال: إنها نزلت في المشركين أقرب إلى الصواب؛ لأن عكلا وعرينة ارتدوا وقتلوا وأفسدوا، ولكن يبعد؛ لأن الكفار لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما يسقط قبلها، وقد قيل للكفار: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (3) وقال في المحاربين: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (4) وكذلك المرتد يقتل بالردة دون المحاربة، وفي الآية النفي لمن لم يتب قبل القدرة، والمرتد لا ينفى، وفيها قطع اليد والرجل، والمرتد لا تقطع له يد ولا رجل، فثبت أنها لا يراد بها المشركون ولا المرتدون.
فإن قيل: كيف يصح أن يقال: إنها في شأن العرنيين أقوى، ولا يمكن أن يحكم فيهم بحكم العرنيين من سمل الأعين وقطع الأيدي.
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الطهارة (72) ، سنن النسائي الطهارة (305) ، سنن أبو داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الحدود (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/163) .
(2) صحيح البخاري المغازي (4192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الطهارة (72) ، سنن النسائي الطهارة (305) ، سنن أبو داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الحدود (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/163) .
(3) سورة الأنفال الآية 38
(4) سورة المائدة الآية 34(11/54)
قلنا: ذلك ممكن لأن الحربي إذا قطع الأيدي وسمل الأعين فعل به مثل ذلك إذا تعين فاعل ذلك.
فإن. قيل: لم يكن هؤلاء حربيين، وإنما كانوا مرتدين والمرتد يلزم استتابته، وعند إصراره على الكفر يقتل.
قلنا: فيه روايتان: إحداهما أنه يستتاب والأخرى لا يستتاب.
وقد اختلف العلماء على القولين، فقيل: لا يستتاب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل هؤلاء ولم يستتبهم.
وقيل: يستتاب المرتد، وهو مشهور المذهب، وإنما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - استتابة هؤلاء لما أحدثوا من القتل والمثلة والحرب، وإنما يستتاب المرتد الذي يرتاب فيستريب، ويرشد ويبين له الشكل، وتجلى له الشبهة.
فإن قيل: فكيف يقال: إن هذه الآية تناولت المسلمين وقد قال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) وتلك صفة الكفار؟ .
قلنا: الحرابة تكون بالاعتقاد الفاسد، وقد تكون بالمعصية؛ فيجازى بمثلها، وقد قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (2) .
فإن قيل: ذلك فيمن يستحل الربا.
قلنا: نعم، وفيمن فعله فقد اتفقت الأمة على أن من يفعل المعصية يحارب كما لو اتفق أهل بلد على العمل بالربا، وعلى ترك الجمعة والجماعة.
المسألة الرابعة - في تحقيق المحاربة:
وهي إشهار السلاح قصد السلب مأخوذ من الحرب، وهو استلاب ما على المسلم بإظهار السلاح عليه، والمسلمون أولياء الله بقوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (3) {الَّذِينَ آمَنُوا} (4) .
وقد شرح ذلك مالك شرحا بالغا فيما رواه ابن وهب عنه: قال ابن وهب: قال مالك: المحارب الذي يقطع السبيل وينفر بالناس في كل مكان. ويظهر الفساد في الأرض وإن لم يقتل أحدا إذا ظهر عليه يقتل، وإن لم يقتل فللإمام أن يرى فيه رأيه بالقتل أو الصلب أو القطع أو النفي، قال مالك: والمستتر في ذلك والمعلن بحرابته سواء. وإن استخفى بذلك وظهر في الناس إذا أراد الأموال وأخاف
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) سورة يونس الآية 62
(4) سورة يونس الآية 63(11/55)
فقطع السبيل أو قتل فذلك إلى الإمام يجتهد أي هذه الخصال شاء، وفي رواية عن ابن وهب: أن ذلك إن كان قريبا وأخذ بحدثان فليأخذ الإمام فيه بأشد العقوبة، وفي ذلك أربعة أقوال:
الأول - ما تقدم ذكره لمالك.
الثاني - أنها الزنا والسرقة والقتل، قاله مجاهد.
الثالث - أنه المجاهر بقطع الطريق والمكابر باللصوصية في المصر وغيره، قاله الشافعي، ومالك في رواية، والأوزاعي.
الرابع - أنه المجاهر في الطريق لا في المصر، قاله أبو حنيفة وعطاء.
المسألة الخامسة - في التنقيح:
أما قول مجاهد فساقط إلا أن يريد به أن يفعله مجاهرة مغالبة؛ فإن ذلك أفحش في الحرابة.
قال القاضي - رضي الله عنه -: ولقد كنت أيام تولية القضاء قد رفع إلي قوم خرجوا محاربين إلى رفقة فأخذوا منهم امرأة مغالبة على نفسها من زوجها ومن جملة المسلمين معه فيها، فاحتملوها، ثم جد فيهم الطلب فأخذوا وجيء بهم فسألت من كان ابتلاني الله به من المفتين، فقالوا: ليسوا محاربين؛ لأن الحرابة إنما تكون في الأموال لا في الفروج، فقلت لهم: إنا لله وإنا إليه راجعون، ألم تعلموا أن الحرابة في الفروج أفحش منها في الأموال. وأن الناس كلهم ليرضون أن تذهب أموالهم وتحرب من بين أيديهم ولا يحرب المرء من زوجته وبنته، ولو كان فوق ما قال الله عقوبة لكانت لمن يسلب الفروج، وحسبكم من بلاء صحبة الجهال، وخصوصا في الفتيا والقضاء.
وأما قول من قال: إنه سواء في المصر والبيداء؛ فإنه أخذ بمطلق القرآن.
وأما من فرق فإنه رأى أن الحرابة في البيداء أفحش منها في المصر؛ لعدم الغوث في البيداء وإمكانه في المصر.
والذي نختاره أن الحرابة عامة في المصر والقفر، وإن كان بعضها أفحش من بعض، ولكن اسم الحرابة يتناولها ومعنى الحرابة موجود فيها، ولو خرج بعصا من في المصر لقتل بالسيف، ويؤخذ فيه بأشد ذلك لا بأيسره؛ فإنه سلب غيلة، وفعل الغيلة أقبح من فعل الظاهرة، ولذلك دخل العفو في قتل المجاهرة فكان قصاصا، ولم يدخل في قتل الغيلة وكان(11/56)
حدا فتحرر إن قطع السبيل موجب للقتل في أصح أقوالنا، خلافا للشافعي وغيره.
فإن قيل: هذا لا يوجب إجراء الباغي بالفساد في الأرض خاصة مجرى الذي يضم إليه القتل وأخذ المال؛ لعظيم الزيادة من أحدهما على الآخر.
والذي يدل على عدم التسوية بينهما أن الذي يضم إلى السعي بالفساد في الأرض القتل وأخذ المال يجب القتل عليه ولا يجوز إسقاطه عنه، والذي ينفرد بالسعي في إخافة السبيل خاصة يجوز ترك قتله يؤكده أن المحارب إذا قتل قوبل بالقتل، وإذا أخذ المال قطعت يده لأخذه المال، ورجله لإخافته السبيل. وهذه عمدة الشافعية علينا وخصوصا أهل خراسان منهم، وهي باطلة لا يقولها مبتدئ.
أما قولهم: كيف يسوى بين من أخاف السبيل وقتل وبين من أخاف السبيل ولم يقتل، وقد وجدت منه الزيادة العظمى وهي القتل.
قلنا: وما الذي يمنع من استواء الجريمتين في العقوبة وإن كانت إحداهما أفحش من الأخرى ولم أحلتم ذلك؟ أعقلا فعلتم ذلك أم شرعا؟ أما العقل فلا مجال له في هذا، وإن عولتم على الشرع فأين الشرع؟ بل قد شاهدنا ذلك في الشرع، فإن عقوبة القاتل كعقوبة الكافر، وإحداهما أفحش.
وأما قوله: لو استوى حكمهما لم يجز إسقاط القتل عمن أخاف السبيل ولم يقتل كما لم يجز إسقاطه عمن أخاف وقتل.
قلنا": هذه غفلة منكم، فإن الذي يخيف ويقتل أجمعت الأمة على تعين القتل عليه فلم يجز مخالفته.
أما إذا أخاف ولم يقتل فهي مسألة مختلف فيها ومحل اجتهاد، فمن أداه اجتهاده إلى القتل حكم به، ومن أداه اجتهاده إلى إسقاطه أسقطه، ولهذه النكتة قال مالك: وليستشر ليعلم الحقيقة من الإجماع والخلاف وطرق الاجتهاد لئلا يقدم على جهالة كما أقدمتم.
وأما قولهم: إن القتل يقابل القتل وقطع اليد يقابل السرقة وقطع الرجل يقابل المال، فهو تحكم منهم ومزج للقصاص والسرقة بالحرابة، وهو حكم منفرد بنفسه خارج عن جميع حدود الشريعة لفحشه وقبح أمره.
المسألة السادسة - قوله تعالى: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (1)
__________
(1) سورة المائدة الآية 33(11/57)
فيها قولان:
الأول: أنها على التخيير، قاله سعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء وإبراهيم.
الثاني: أنها على التفصيل.
واختلفوا في كيفية التفصيل على سبعة أقوال:
الأول: أن المعنى أن يقتلوا إن قتلوا، أو يصلبوا إن قتلوا وأخذوا المال، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن أخذوا المال، أو ينفوا من الأرض إن أخافوا السبيل. قاله ابن عباس والحسن وقتادة والشافعي وجماعة.
الثاني: المعنى: إن حارب فقتل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف وقتل وصلب، فإن قتل ولم يأخذ مالا قتل، وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا لم يقتل ولم يأخذ مالا نفي، وهذا يقارب الأول إلا في الجمع بين قطع الأيدي والأرجل والقتل والصلب.
الثالث: أنه إن قتل وأخذ المال وقطع الطريق يخير فيه الإمام إن شاء قطع يده ورجله من خلاف وصلبه، وإن شاء صلبه ولم يقطع يده ورجله، وإن شاء قتله ولم يقطع رجله ويده ولم يصلبه، فإن أخذ بالأول فقتل قطع من خلاف، وإن لم يأخذ بالأول غرب ونفي من الأرض.
الرابع: قال الحسن مثله إلا في الآخر، فإنه قال: يؤدب ويسجن حتى يموت.
الخامس: قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن: إن اقتصروا على القتل قتلوا، وإن اقتصروا على أخذ المال قطعوا من خلاف، وإن أخذوا المال وقتلوا فإن أبا حنيفة قال: يخير فيهم بأربع جهات: قتل صلب قطع، وقتل قطع وصلب، وهذا نحو ما تقدم وهذا سادس.
السابع: قال ابن المسيب ومالك في إحدى روايتيه بتخيير الإمام بمجرد الخروج، أما من قال لأن (أو) على التخيير فهو أصلها، وموردها في كتاب الله تعالى.
وأما من قال إنها للتفصيل فهو اختيار الطبري، وقال: هذا كما لو قال: إن جزاء المؤمنين إذا دخلوا الجنة أن ترفع منازلهم أو يكونوا مع الأنبياء في منازلهم وليس المراد حلول المؤمنين معهم في مرتبة واحدة، وهذا الذي قاله الطبري، لا يكفي إلا بدليل، ومعولهم قول(11/58)
النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصان، أو كفر بعد إيمان، أو قتل نفسا بغير نفس (1) » ، فمن لم يقتل كيف يقتل.
قالوا: وأما قولكم: إنها على التخيير فإن التخيير يبدأ فيه بالأخف ثم ينتقل فيه إلى الأثقل، وههنا بدأ بالأثقل ثم انتقل إلى الأخف؛ فدل على أنه قرر ترتيب الجزاء على الأفعال، فترتب عليه بالمعنى، فمن قتل قتل، فإن زاد وأخذ المال صلب، فإن الفعل جاء أفحش، فإن أخذ المال وحده قطع من خلاف، وإن أخاف نفي.
الجواب: الآية نص في التخيير، وصرفها إلى التعقيب والتفصيل تحكم على الآية وتخصيص لها، وما تعلقوا منه بالحديث لا يصح؛ لأنهم قالوا: يقتل الردة ولم يقتل، وقد جاء القتل بأكثر من عشرة أشياء منها متفق عليها، ومنها مختلف فيها، فلا تعلق بهذا الحديث لأحد. وتحرير الجواب القطع لتشغيبهم، إن الله تعالى رتب التخيير على المحاربة والفساد، وقد بينا أن الفساد وحده موجب للقتل، ومع المحاربة أشد.
المسألة السابعة - قوله تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (2)
وفيه أربعة أقوال:
الأول - يسجن، قاله أبو حنيفة وأهل الكوفة، وهو مشهور مذهب مالك في غير بلد الجناية.
الثاني: ينفى إلى بلد الشرك، قاله أنس والشافعي والزهري وقتادة وغيرهم.
الثالث - يخرجون من مدينة إلى مدينة أبدا، قاله ابن جبير وعمر بن عبد العزيز.
الرابع - يطلبون بالحدود أبدا، فيهربون منها، قاله ابن عباس والزهري وقتادة ومالك.
والحق أن يسجن فيكون السجن له نفيا من الأرض، وأما نفيه إلى بلد الشرك فعون له على الفتك، وأما نفيه من بلد إلى بلد فشغل لا يدان به لأحد، وربما فر فقطع الطريق ثانية.
وأما قول من قال: يطلب أبدا، وهو يهرب من الحد فليس بشيء، فإن هذا ليس بجزاء، وإنما هو محاولة طلب الجزاء.
المسألة الثامنة - قوله تعالى: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ} (3)
__________
(1) سنن الترمذي كتاب الفتن (2158) ، سنن النسائي تحريم الدم (4019) ، سنن أبو داود الديات (4502) ، سنن ابن ماجه الحدود (2533) ، مسند أحمد بن حنبل (1/62) ، سنن الدارمي الحدود (2297) .
(2) سورة المائدة الآية 33
(3) سورة المائدة الآية 33(11/59)
قال الشافعي: إذا أخذ في الحرابة نصابا قلنا: أنصف من نفسك أبا عبد الله، ووف شيخك حقه لله. إن ربنا - تبارك وتعالى - قال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (1) ، فاقتضى هذا قطعه في حقه. وقال في المحاربة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (2) فاقتضى بذلك توفية الجزاء لهم على المحاربة عن حقه، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - في السارق أن قطعه في نصاب وهو ربع دينار، وبقيت المحاربة على عمومها. فإن أردت أن ترد المحاربة إلى السرقة كنت ملحقا الأعلى بالأدنى، وخافضا الأرفع إلى الأسفل، وذلك عكس القياس، وكيف يصح أن يقاس المحارب - وهو يطلب النفس إن وقي المال بها - على السارق، وهو يطلب خطف المال، فإن شعر به فر، حتى إن السارق إذا دخل بالسلاح يطلب المال فإن منع منه أو صيح عليه وحارب عليه فهو محارب، يحكم عليه بحكم المحارب.
قال القاضي: وكنت في أيام حكمي بين الناس إذا جاءني أحد بسارق، وقد دخل الدار بسكين يحبسه على قلب صاحب الدار وهو نائم وأصحابه يأخذون مال الرجل حكمت فيهم بحكم المحاربين، فافهموا هذا من أصل الدين، وارتفعوا إلى بقاع العلم عن حضيض الجاهلين.
والمسكت للشافعي أنه لم يعتبر الحرز فلو كان المحارب ملحقا بالسارق لما كان ذلك إلا على حرز.
وتحريره أن يقول أحد شرطي السرقة فلا يعتبر في المحارب كالحرز والتعليل النصاب.
المسألة التاسعة - إذا صلب الإمام المحارب فإنه يصلبه حيا.
وقال الشافعي: يصلبه ميتا ثلاثة أيام؛ لأن الله تعالى قال {يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} (3) فبدأ بالقتل.
قلنا: نعم، القتل مذكور أولا، ولكن بقي أنا إذا جمعنا بينهما كيف يكون الحكم ههنا هو الخلاف، والصلب حيا أصح؛ لأنه أنكى وأفضح، وهو مقتضى معنى الردع الأصلح.
المسألة العاشرة - لا خلاف في أن الحرابة يقتل فيها من قتل، وإن لم يكن المقتول
__________
(1) سورة المائدة الآية 38
(2) سورة المائدة الآية 33
(3) سورة المائدة الآية 33(11/60)
مكافئا للقاتل.
وللشافعي قولان: منهما أنه تعتبر المكافأة في الدماء؛ لأنه قتل فاعتبرت فيه المكافأة كالقصاص. وهذا ضعيف؛ لأن القتل ههنا ليس على مجرد القتل، وإنما هو على الفساد العام من التخويف وسلب المال، فإن انضافت إليه إراقة الدم فحش؛ ولأجل هذا لا يراعى مال مسلم من كافر.
المسألة الحادية عشرة - إذا خرج المحاربون فاقتتلوا مع القافلة فقتل بعض المحاربين ولم يقتل بعض: قتل الجميع.
وقال الشافعي: لا يقتل إلا من قتل. وهذا مبني على تخيير الإمام وتفصيل الأحكام، وقد تقدم.
ويعضد هذا أن من حضر الوقعة شركاء في الغنيمة، وإن لم يقتل جميعهم، وقد اتفق معنا على قتل الردة، وهو الطالع فالمحارب أولى.
المسألة الثانية عشرة - قولة تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (1) وفيه خمسة أقوال:
الأول - إلا الذين تابوا من أهل الكفر، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة.
الثاني - إلا الذين تابوا وقد حاربوا بأرض الشرك.
الثالث - إلا المؤمنين الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم.
الرابع - إلا الذين تابوا في حقوق الله، قاله الشافعي ومالك، إلا أن مالكا قال: وفي حقوق الآدميين، إلا أن يكون بيده مال يعرف أو يقوم ولي يطلب دمه فله أخذه والقصاص منه.
الخامس - قال الليث بن سعد: لا يطلب بشيء لا من حقوق الله ولا من حقوق الآدميين.
أما قول من قال: إن الآية في المشركين فهو الذي يقول إن قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} (2) عائد عليهم، وقد بينا ضعفه.
__________
(1) سورة المائدة الآية 34
(2) سورة المائدة الآية 34(11/61)
وأما من قال: إنه أراد إلا الذين تابوا ممن هو بأرض الشرك، فهو تخصيص طريف، وله وجه طريف، وهو أن قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (1) يعطي أنهم بغير أرض أهل الإسلام، ولكن كل من هو في دار الإسلام تأخذه الأحكام وتستولي عليه القدرة، وهذا إذا تبينته لم يصح تنزيله، فإن الذي يقدر عليه هو الذي يكون بين المسلمين، فأما الذي خرج إلى الجبل وتوسط البيداء في منعة فلا تتفق القدرة عليه إلا بجر جيش ونفير قوم فلا يقال: إنا قادرون عليه.
وأما من قال: أراد به المؤمنين فيرجع إلى الرابع والخامس، قلنا: إنا نقول: هو على عمومه في الحقوق كلها أو في بعضها.
فأما من قال: إنه على عمومه في الحقوق كلها فقد علمنا بطلان ذلك بما قام من الدليل على أن حقوق الآدميين لا يغفرها الباري سبحانه إلا بمغفرة صاحبها ولا يسقطها إلا بإسقاطه.
فإن قيل: فقد قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (2) فكانت هذه المغفرة عامة في كل حق.
قلنا: هذه مغفرة عامة بلا خلاف للمصلحة في التحريض لأهل الكفر على الدخول في الإسلام، فأما من التزم حكم الإسلام فلا يسقط عنه حقوق المسلمين إلا أربابها.
وقد «قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشهادة: إنها تكفر كل خطيئة إلا الدين (3) » .
وأما من قال: إن حكمها أنها تكفر حقوق الله تعالى فهو صحيح؛ لقوله تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4)
وأما من قال في حقوق الآدميين: إن الإمام لا يتولى طلبها، وإنما يطلبها أربابها، وهو مذهب مالك فصحيح؛ لأن الإمام ليس بوكيل لمعينين من الناس في حقوقهم المعينة، وإنما هو نائبهم في حقوقهم المجملة المبهمة التي ليست بمعينة.
وأما إن عرفنا بيده مالا لأحد أخذه في الحرابة فلا نبقيه في يده؛ لأنه غصب، ونحن نشاهده والإقرار على المنكر لا يجوز؛ فيكون بيد صاحبه المسلم حتى يأخذه مالكه من يد
__________
(1) سورة المائدة الآية 34
(2) سورة الأنفال الآية 38
(3) سنن الترمذي فضائل الجهاد (1640) .
(4) سورة المائدة الآية 34(11/62)
صاحبه وأخيه الذي يوقفه الإمام عنده.(11/63)
قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) الآيتين فيه خمسة عشر مسألة:
الأولى - اختلف الناس في سبب نزول هذه الآية، فالذي عليه الجمهور أنها نزلت في امرأتين، روى الأئمة واللفظ لأبي داود عن أنس بن مالك: «أن قوما من عكل - أو قال: من عرنة - قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجتووا المدينة، فأمر لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها؛ فانطلقوا فلما صحوا قتلوا راعي النبي - صلى الله عليه وسلم - واستاقوا النعم، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - خبرهم من أول النهار فأرسل في آثارهم، فما ارتفع النهار حتى جيء بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسملت أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون، (2) » قال أبو قلابة: فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله. وفي رواية: «فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم، وقطع أيديهم وأرجلهم وما حسمهم (3) » ، وفي رواية: «فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلبهم قافلة، فأتي بهم قال: فأنزل الله - تبارك وتعالى - في ذلك: الآية (5) » . وفي رواية: قال أنس: «فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشا حتى ماتوا (6) » ، وفي البخاري: قال جرير بن عبد الله في حديثه: «فبعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوم من المسلمين حتى أدركناهم وقد أشرفوا على بلادهم، فجئنا بهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (7) » ، قال جرير: «فكانوا يقولون الماء، ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النار» ، وقد حكى أهل التواريخ والسيرة أنهم قطعوا يدي الراعي ورجليه وغرزوا الشوك في عينيه حتى مات وأدخل المدينة ميتا، وكان اسمه يسار، وكان نوبيا. وكان هذا الفعل من المرتدين سنة ست من الهجرة، وفي بعض الروايات عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحرقهم بالنار بعدما قتلهم، وروي عن ابن عباس والضحاك أنها نزلت بسبب قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد فنقضوا العهد، وقطعوا السبيل، وأفسدوا في الأرض. وفي مصنف أبي داود عن ابن عباس قال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (8) إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} (9) نزلت هذه الآية في المشركين فمن أخذ منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه. وممن قال إن الآية نزلت في المشركين: عكرمة والحسن، وهذا ضعيف، يرده قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (10)
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) صحيح البخاري الوضوء (233) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الطهارة (72) ، سنن النسائي الطهارة (305) ، سنن أبو داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الحدود (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/163) .
(3) صحيح البخاري الحدود (6804) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الطهارة (72) ، سنن النسائي الطهارة (305) ، سنن أبو داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الحدود (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/163) .
(4) صحيح البخاري الديات (6899) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الطهارة (72) ، سنن النسائي الطهارة (305) ، سنن أبو داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الحدود (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/107) .
(5) سورة المائدة الآية 33 (4) {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا}
(6) صحيح البخاري الديات (6899) ، صحيح مسلم كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الطهارة (72) ، سنن النسائي تحريم الدم (4034) ، سنن أبو داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الحدود (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/107) .
(7) صحيح البخاري الديات (6899) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الطهارة (72) ، سنن النسائي الطهارة (305) ، سنن أبو داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الحدود (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/163) .
(8) سورة المائدة الآية 33
(9) سورة المائدة الآية 34
(10) سورة الأنفال الآية 38(11/63)
وقوله - عليه الصلاة والسلام -: «الإسلام يهدم ما قبله (1) » ، أخرجه مسلم. والصحيح الأول؛ لنصوص الأحاديث الثابتة في ذلك. وقال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي: الآية نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل ويسعى في الأرض بالفساد، قال ابن المنذر: قول مالك صحيح، قال أبو ثور محتجا لهذا القول: وفي الآية دليل على أنها نزلت في غير أهل الشرك، وهو قوله - جل ثناؤه -: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (2) وقد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا فأسلموا أن دماءهم تحرم، فدل ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام. وحكى الطبري عن بعض أهل العلم: أن هذه الآية نسخت فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في العرنيين فوقف الأمر على هذه الحدود، وروى محمد بن سيرين قال: كان هذا قبل أن تنزل الحدود، يعني حديث أنس ذكره أبو داود، وقال قوم منهم الليث بن سعد: ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بوفد عرينة نسخ، إذ لا يجوز التمثيل بالمرتد. قال أبو الزناد: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار عاتبه الله - عز وجل - في ذلك، فأنزل الله تعالى في ذلك: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} (3) الآية، أخرجه أبو داود. قال أبو الزناد: فلما وعظ ونهي عن المثلة لم يعد. وحكي عن جماعة أن هذه الآية ليست بناسخة لذلك الفعل؛ لأن ذلك وقع في مرتدين. لا سيما وقد ثبت في صحيح مسلم وكتاب النسائي وغيرهما قال: إنما سمل النبي - صلى الله عليه وسلم - أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة، فكان هذا قصاصا، وهذه الآية في المحارب المؤمن.
قلت: وهذا قول حسن، وهو معنى ما ذهب إليه مالك والشافعي؛ ولذلك قال الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (4) ومعلوم أن الكفار لا تختلف أحكامهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقط قبل القدرة. والمرتد يستحق القتل بنفس الردة دون المحاربة، ولا ينفى ولا تقطع يده ولا رجله ولا يخلى سبيله بل يقتل إن لم يسلم ولا يصلب أيضا، فدل أن ما اشتملت عليه الآية ما عني به المرتد، وقال تعالى في حق الكفار: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (5) وقال في المحاربين {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} (6) الآية، وهذا بين. وعلى ما قررناه في أول الباب لا إشكال ولا لوم ولا عتاب، إذ هو مقتضى الكتاب، قال الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (7)
__________
(1) سنن الدارمي كتاب المقدمة (649) .
(2) سورة المائدة الآية 34
(3) سورة المائدة الآية 33
(4) سورة المائدة الآية 34
(5) سورة الأنفال الآية 38
(6) سورة المائدة الآية 34
(7) سورة البقرة الآية 194(11/64)
فمثلوا فمثل بهم إلا أنه يحتمل أن يكون العتاب إن صح على الزيادة في القتل، وذلك تكحيلهم بمسامير محماة، وتركهم عطاشى حتى ماتوا، والله أعلم. وحكى الطبري عن السدي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسمل أعين العرنيين، وإنما أراد ذلك، فنزلت الآية ناهية عن ذلك وهذا ضعيف جدا؛ فإن الأخبار الثابتة وردت بالسمل في صحيح البخاري: «فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم (1) » . ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام، وإن كانت نزلت في المرتدين أو اليهود. وفي قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (2) واستعارة ومجاز إذ أن الله - سبحانه وتعالى - لا يحارب ولا يغالب لما هو عليه من صفات الكمال. ولما وجب له من التنزيه عن الأضداد والأنداد. والمعنى يحاربون أولياء الله، فعبر بنفسه العزيزة عن أوليائه إكبارا لإذايتهم كما عبر بنفسه عن الفقراء الضعفاء في قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} (3) حثا على الاستعطاف عليهم، ومثله في صحيح مسلم «استطعمتك فلم تطعمني (4) » الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدم في (البقرة) .
الثانية - اختلف العلماء فيمن يستحق اسم المحاربة، فقال مالك: المحارب عندنا من حمل على الناس في مصر أو في برية وكابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون نائرة ولا ذحل ولا عداوة، قال ابن المنذر اختلف عن مالك في هذه المسألة، فأثبت المحاربة في المصر مرة، وفي ذلك مرة، وقالت طائفة حكم ذلك في المصر أو في المنازل والطرق وديار أهل البادية والقرى سواء، وحدودهم واحدة، وهذا قول الشافعي وأبي ثور قال ابن المنذر: كذلك هو لأن كلا يقع عليه اسم المحاربة والكتاب على العموم، وليس لأحد أن يخرج من جملة الآية قوما بغير حجة، وقالت طائفة لا تكون المحاربة في المصر إنما تكون خارجا عن المصر، هذا قول سفيان الثوري وإسحاق والنعمان والمغتال كالمحارب، وهو الذي يحتال في قتل إنسان على أخذ ماله، وإن لم يشهر السلاح ولكن دخل عليه بيته أو صحبه في سكر فأطعمه سما فقتله فيقتل هذا لا قودا.
الثالثة - واختلفوا في حكم المحارب، فقالت طائفة: يقام عليه بقدر فعله، فمن أخاف السبيل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف. وإن أخذ المال وقتل قطعت يده
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6804) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الطهارة (72) ، سنن النسائي الطهارة (305) ، سنن أبو داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الحدود (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/163) .
(2) سورة المائدة الآية 33
(3) سورة البقرة الآية 245
(4) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/404) .(11/65)
ورجله ثم صلب، فإذا قتل ولم يأخذ المال قتل، وإن هو لم يأخذ المال ولم يقتل نفي. قاله ابن عباس، وروي عن أبي مجلز والنخعي وعطاء الخراساني وغيرهم. وقال أبو يوسف إذا أخذ المال وقتل صلب وقتل على الخشبة، قال الليث: بالحربة مصلوبا. وقال أبو حنيفة: إذا قتل قتل، وإذا أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا أخذ المال وقتل فالسلطان مخير فيه، إن شاء قطع يده ورجله، وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه. قال أبو يوسف: القتل يأتي على كل شيء. ونحوه قول الأوزاعي، وقال الشافعي: إذا أخذ المال قطعت يده اليمنى وحسمت ثم قطعت رجله اليسرى وحسمت وخلي؛ لأن هذه الجناية زادت عن السرقة بالحرابة، وإذا قتل قتل، وإذا أخذ المال وقتل قتل وصلب، وروي عنه أنه قال: يصلب ثلاثة أيام، قال: وإن حضر وكثر وهيب وكان ردءا للعدو حبس، وقال أحمد: إن قتل قتل، وإن أخذ المال قطعت يده ورجله، كقوله الشافعي، وقال قوم: لا ينبغي أن يصلب قبل القتل فيحال بينه وبين الصلاة والأكل والشرب، وحكي عن الشافعي: أكره أن يقتل مصلوبا؛ لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المثلة. وقال أبو ثور: الإمام مخير على ظاهر الآية، أو كذلك قال مالك، وهو مروي عن ابن عباس، وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومجاهد والضحاك والنخعي كلهم قال: الإمام مخير في الحكم على المحاربين، يحكم عليهم بأي الأحكام التي أوجبها الله تعالى من القتل والصلب أو القطع أو النفي بظاهر الآية، قال ابن عباس ما كان في القرآن (أو) فصاحبه بالخيار، وهذا القول أشعر بظاهر الآية، فإن أهل القول الأول الذين قالوا: إن الواو للترتيب - وإن اختلفوا - فإنك تجد أقوالهم أنهم يجمعون عليه حدين، فيقولون: يقتل ويصلب، ويقول بعضهم: يصلب ويقتل، ويقول بعضهم: تقطع يده ورجله وينفى، وليس كذلك الآية، ولا معنى (أو) في اللغة، قاله النحاس. واحتج الأولون بما ذكره الطبري عن أنس بن مالك أنه قال: «سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل - عليه السلام - عن الحكم في المحارب فقال: (من أخاف السبيل وأخذ المال فاقطع يده للأخذ ورجله للإخافة، ومن قتل فاقتله، ومن جمع ذلك فاصلبه) » ، قال ابن عطية: وبقي النفي للمخيف فقط، والمخيف في حكم القاتل، ومع ذلك فمالك يرى فيه الأخذ بأيسر العذاب والعقاب استحسانا.
الرابعة - قوله تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (1) اختلف في معناه، فقال السدي: هو أن يطلب أبدا بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه حد الله أو يخرج من دار الإسلام هربا
__________
(1) سورة المائدة الآية 33(11/66)
ممن يطلبه، عن ابن عباس وأنس بن مالك ومالك بن أنس والحسن والسدي والضحاك وقتادة وسعيد بن جبير والربيع بن أنس والزهري. حكاه الرماني في كتابه، وحكي عن الشافعي أنهم يخرجون من بلد إلى بلد ويطلبون لتقام عليهم الحدود، وقاله الليث بن سعد والزهري أيضا. وقال مالك أيضا ينفى من البلد الذي أحدث فيه هذا إلى غيره، ويحبس فيه كالزاني، وقال مالك أيضا والكوفيون: نفيهم سجنهم، فينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها، فصار كأنه إذا سجن فقد نفي من الأرض، إلا من موضع استقراره، واحتجوا بقول بعض أهل السجون في ذلك.
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
إذا جاءنا السجان يوما لحاجة ... عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
حكى مكحول أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أول من حبس في السجون، وقال: احبسه حتى أعلم منه التوبة، ولا أنفيه من بلد إلى بلد فيؤذيهم، والظاهر أن الأرض في الآية هي أرض النازلة، وقد تجنب الناس قديما الأرض التي أصابوا فيها الذنوب، ومنه الحديث الذي ناء بصدره نحو الأرض المقدسة، وينبغي للإمام إن كان هذا المحارب مخوف الجانب يظن أنه يعود إلى حرابه أو إفساد أن يسجنه في البلد الذي يغرب إليه. وإن كان غير مخوف الجانب (فظن أنه لا يعود إلى جناية) سرح، قال ابن عطية: وهذا صريح مذهب مالك أن يغرب ويسجن حيث يغرب، وهذا على الأغلب في أنه مخوف، ورجحه الطبري وهو الواضح؛ لأن نفيه من أرض النازلة هو نص الآية، وسجنه بعد بحسب الخوف منه، فإن تاب وفهمت حاله سرح.
الخامسة - قوله تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (1) النفي أصله الإهلاك، ومنه الإثبات والنفي، فالنفي الإهلاك بالإعدام، ومنه النفاية لردي المتاع، ومنه النفي لما تطاير من الماء عن الدلو.
قال الراجز:
كأن متنيه من النفي ... مواقع الطير على الصفى
السادسة: قال ابن خويز منداد: ولا يراعى المال الذي يأخذه المحارب نصابا كما
__________
(1) سورة المائدة الآية 33(11/67)
يراعى في السارق، وقد قيل: يراعى في ذلك النصاب ربع دينار، قال ابن العربي: قال الشافعي وأصحاب الرأي: لا يقطع من قطاع الطريق إلا من أخذ قدر ما تقطع فيه يد السارق، وقال مالك: يحكم عليه بحكم المحارب، وهو الصحيح، فإن الله تعالى وقت على لسان نبيه - عليه الصلاة والسلام - القطع في السرقة في ربع دينار، ولم يؤقت في الحرابة شيئا، بل ذكر جزاء المحارب فانتفى ذلك توفية الجزاء لهم على المحاربة عن حية، ثم إن هذا قياس أصل على أصل، وهو مختلف فيه، وقياس الأعلى بالأدنى، والأدنى بالأسفل، وذلك عكس القياس، وكيف يصح أن يقاس المحارب على السارق، وهو يطلب خطف المال؟ ! فإن شعر به فر، حتى إن السارق إذا دخل بالسلاح يطلب المال فإن منع منه أو صيح عليه وحارب عليه فهو محارب يحكم عليه بحكم المحارب، قال القاضي ابن العربي: كنت في أيام حكمي بين الناس إذا جاءني أحد بسارق وقد دخل الدار بسكين يحبسه على قلب صاحب الدار وهو نائم وأصحابه يأخذون مال الرجل حكمت فيهم بحكم المحاربين، فافهموا هذا من أصل الدين وارتفعوا إلى بقاع العلم عن حضيض الجاهلين.
قلت: اليفع أعلى الجبل، ومنه غلام يفعة، إذا ارتفع إلى البلوغ، والحضيض: الحفرة في أسفل الوادي، كذا قال أهل اللغة.
السابعة - ولا خلاف في أن الحرابة يقتل فيها من قتل، وإن لم يكن المقتول مكافئا للقاتل، وللشافعي قولان: أحدهما: أنها تعتبر المكافأة؛ لأنه قتل فاعتبر فيه المكافأة كالقصاص، وهذا ضعيف؛ لأن القتل هنا ليس على مجرد القتل، وإنما هو على الفساد العام من التخويف وسلب المال، قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا} (1) فأمر تعالى بإقامة الحدود على المحارب إذا جمع شيئين محاربة وسعي في الأرض بالفساد، ولم يخص شريفا من وضيع، ولا رفيعا من دنيء.
الثامنة - وإذا خرج المحاربون فاقتتلوا مع القافلة فقتل بعض المحاربين ولم يقتل بعض قتل الجميع، وقال الشافعي: لا يقتل إلا من قتل، وهذا أيضا ضعيف، فإن من حضر الوقيعة شركاء في الغنيمة، وإن لم يقتل جميعهم، وقد اتفق معنا على قتل الردة، وهو الطليعة، فالمحارب أولى.
التاسعة - وإذا أخاف المحاربون السبيل وقطعوا الطريق وجب على الإمام قتالهم من
__________
(1) سورة المائدة الآية 33(11/68)
غير أن يدعوهم، ووجب على المسلمين التعاون على قتالهم وكفهم عن أذى المسلمين، فإن انهزموا لم يتبع منهم مدبرا إلا أن يكون قد قتل وأخذ مالا؛ فإن كان كذلك اتبع ليؤخذ ويقام عليه ما وجب لجنايته، ولا يدفف منهم على جريح إلا أن يكون قد قتل، فإن أخذوا ووجد في أيديهم مال لأحد بعينه رد إليه أو إلى ورثته، وإن لم يوجد له صاحب جعل في بيت المال، وما أتلفوه من مال لأحد غرموه ولا دية لمن قتلوا إذا قدر عليهم قبل التوبة، فإن تابوا وجاءوا تائبين وهي:
العاشرة: لم يكن للإمام عليهم سبيل، وسقط عنهم ما كان حدا لله، وأخذوا بحقوق الآدميين فاقتص منهم من النفس والجراح، وكان عليهم ما أتلفوه من مال ودم لأوليائه في ذلك، ويجوز لهم العفو والهبة كسائر الجناة من غير المحاربين، هذا مذهب مالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي، وإنما أخذ ما بأيديهم من الأموال وضمنوا قيمة ما استهلكوا؛ لأن ذلك غصب، فلا يجوز ملكه لهم، ويصرف إلى أربابه، أو يقفه الإمام عنده حتى يعلم صاحبه. وقال قوم من الصحابة والتابعين: لا يطلب من المال إلا بما وجد عنده، وإما ما استهلكه فلا يطلبه، وذكر الطبري ذلك عن مالك من رواية الوليد بن مسلم عنه، وهو الظاهر من فعل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بحارثة بن بدر الغداني؛ فإنه كان محاربا، ثم تاب قبل القدرة عليه. فكتب له بسقوط الأموال والدم عنه كتابا منشورا، قال ابن خويز منداد: واختلفت الرواية عن مالك في المحارب إذا أقيم عليه الحد، ولم يوجد له مال هل يتبع دينا بما أخذ أو يسقط عنه كما يسقط عن السارق؟ والمسلم والذمي في ذلك سواء.
الحادية عشرة - وأجمع أهل العلم على أن السلطان ولي من حارب فإن قتل محارب أخا امرئ أو أباه في حال المحاربة فليس إلى طالب الدم من أمر المحارب شيء، ولا يجوز عفو ولي الدم، والقائم بذلك الإمام، جعلوا ذلك بمنزلة حد من حدود الله تعالى.
قلت: فهذه جملة من أحكام المحاربين جمعنا غررها واجتلينا دررها، ومن أغرب ما قيل في تفسيرها وهي:
الثانية عشرة - تفسير مجاهد لها، قال مجاهد: المراد بالمحاربة في هذه الآية الزنى والسرقة، وليس بصحيح، فإن الله سبحانه بين في كتابه وعلى لسان نبيه أن السارق تقطع يده، وأن الزاني يجلد ويغرب إن كان بكرا ويرجم إن كان ثيبا محصنا. وأحكام المحارب(11/69)
في هذه الآية مخالف لذلك؛ اللهم إلا أن يريد إخافة الطريق بإظهار السلاح قصدا للغلبة على الفروج؛ فهذا أفحش المحاربة، وأقبح من أخذ الأموال، وقد دخل هذا في معنى قوله تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} (1)
الثالثة عشر - قال علماؤنا ويناشد اللص بالله تعالى، فإن كف ترك، وإن أبى قوتل، فإن أنت قتلته فشر قتيل، ودمه هدر. روى النسائي عن أبي هريرة: «أن رجلا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أرأيت إن عدي على مالي؟ قال: فانشد بالله، قال: فإن أبوا علي، قال فانشد بالله، قال: فإن أبوا علي، قال: فانشد بالله، قال: فإن أبوا علي، قال: فقاتل، فإن قتلت ففي الجنة، وإن قتلت ففي النار (2) » وأخرجه البخاري ومسلم. وليس فيه ذكر المناشدة - عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني، قال: فقاتله، قال: أرأيت إن قتلني، قال: فأنت شهيد، قال: إن قتلته؟ قال: هو في النار (3) » ، قال ابن المنذر: وروينا عن جماعة من أهل العلم أنهم رأوا قتال اللصوص ودفعهم عن أنفسهم وأموالهم هذا مذهب ابن عمرو الحسن البصع وإياهم النخعي وقتادة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق والنعمان، وبهذا يقول عوام أهل العلم للرجل أن يقاتل عن نفسه وأهله وماله إذا أريد ظلما؛ للأخبار التي جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخص وقتا دون وقت، ولا حالا دون حال، إلا السلطان فإن جماعة أهل الحديث كالمجتمعين على أن من لم يمكنه أن يمنع عن نفسه وماله إلا بالخروج على السلطان ومحاربته أنه لا يحاربه ولا يخرج عليه للأخبار الدالة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي فيها الأمر بالصبر على ما يكون منهم من الجور والظلم وترك قتالهم والخروج عليهم ما أقاموا الصلاة.
قلت: وقد اختلف مذهبنا إذا طلب الشيء الخفيف، كالثوب والطعام هل يعطونه ويقاتلون، وهذا الخلاف مبني على أصل، وهو هل الأمر بقتالهم لأنه تغيير منكر أو هو من باب دفع الضرر، وعلى هذا أيضا ينبني الخلاف في دعوتهم قبل القتال. والله أعلم.
الرابعة عشر - قوله تعالى: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} (4) لشناعة المحاربة، وعظم ضررها، وإنما كانت المحاربة عظيمة الضرر؛ لأن فيها سد سبيل الكسب على الناس؛ لأن أكثر المكاسب وأعظمها التجارات وركنها وعمادها الضرب في الأرض كما قال - عز وجل -:
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) سنن النسائي تحريم الدم (4083) ، مسند أحمد بن حنبل (2/339) .
(3) صحيح مسلم الإيمان (140) .
(4) سورة المائدة الآية 33(11/70)
{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (1) فإذا أخيف الطريق انقطع الناس عن السفر، واحتاجوا إلى لزوم البيوت فانسد باب التجارة عليهم، وانقطعت أكسابهم، فشرع الله على قطاع الطريق الحدود المغلظة، وذلك الخزي في الدنيا وردعا لهم عن سوء فعلهم، وفتحا لباب التجارة التي أباحها لعباده لمن أرادها منهم، ووعد فيها بالعذاب العظيم في الآخرة. وتكون هذه المعصية خارجة عن المعاصي ومستثناة من حديث عبادة في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة (2) » والله أعلم.
ويحتمل أن يكون الخزي لمن عوقب وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا، ويجري هذا الذنب مجرى غيره، ولا خلود لمؤمن في النار على ما تقدم، ولكن يعظم عقابه لعظم الذنب، ثم يخرج إما بالشفاعة، وإما بالقبضة، ثم إن هذا الوعيد مشروط الإنفاذ بالمشيئة كقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (3) أما أن الخوف يغلب عليهم بحسب الوعيد وكبر المعصية.
الخامسة عشرة - قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (4) استثنى جل وعز التائبين قبل أن يقدر عليهم، وأخبر بسقوط حقه عنهم، بقوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (5) أما القصاص وحقوق الآدميين فلا تسقط ومن تاب بعد القدرة فظاهر الآية أن التوبة لا تنفع وتقام الحدود عليه كما تقدم. وللشافعي قول: إنه يسقط كل حد بالتوبة، والصحيح من مذهبه أن ما تعلق به حق الآدمي قصاصا كان أو غيره، فإنه لا يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه.
وقيل: أراد بالاستثناء المشرك إذا تاب وآمن قبل القدرة عليه، فإنه تسقط عنه الحدود، وهذا ضعيف؛ لأنه إن آمن بعد القدرة عليه لم يقتل أيضا بالإجماع.
وقيل: إنما لا يسقط الحد من المحاربين بعد القدرة عليهم، والله أعلم؛ لأنهم متهمون بالكذب في توبتهم والتصنع فيها إذا نالتهم يد الإمام، أو لأنه لما قدر عليهم صاروا بمعرض أن ينكل بهم فلم تقبل توبتهم كالمتلبس بالعذاب من الأمم قبلنا، أو من صار إلى حال الغرغرة فتاب، فأما إذا تقدمت توبتهم القدرة عليهم فلا تهمة، وهي نافعة على ما يأتي بيانه في سورة (يونس) ، فأما الشراب والزناة والسراق إذا تابوا وأصلحوا وعرف ذلك منهم ثم
__________
(1) سورة المزمل الآية 20
(2) صحيح البخاري الإيمان (18) ، صحيح مسلم الحدود (1709) ، سنن الترمذي الحدود (1439) ، سنن النسائي البيعة (4161) ، سنن الدارمي السير (2453) .
(3) سورة النساء الآية 48
(4) سورة المائدة الآية 34
(5) سورة المائدة الآية 34(11/71)
رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدهم وإن رفعوا إليه فقالوا: تبنا، لم يتركوا وهم في هذه الحال؛ كالمحاربين إذا غلبوا. والله أعلم.(11/72)
أقوال فقهاء الإسلام في تحديد المراد بجريمة الحرابة والإفساد في الأرض، وفي عقوبتها مع مناقشتها
ا - مذهب الحنفية
أ - جاء في الهداية على البداية ما نصه (باب قطع الطريق) :
قال (وإذا خرج جماعة ممتنعين أو واحد يقدر على الامتناع فقصدوا قطع الطريق فأخذوا قبل أن يأخذوا مالا ويقتلوا نفسا حبسهم الإمام حتى يحدثوا توبة، وإن أخذوا مال مسلم أو ذمي، والمأخوذ إذا قسم على جماعتهم أصاب كل واحد منهم عشرة دراهم فصاعدا أو ما تبلغ قيمته ذلك؛ قطع الإمام أيديهم وأرجلهم من خلاف. وإن قتلوا ولم يأخذوا مالا قتلهم الإمام حدا، والأصل فيه قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) الآية، والمراد منه - والله أعلم - التوزيع على الأحوال وهي أربعة: هذه الثلاثة المذكورة والرابعة نذكرها -إن شاء الله تعالى- ولأن الجنايات تتفاوت على الأحوال فاللائق تغلظ الحكم بتغليظها، أما الحبس في الأولى فلأنه بالنفي المذكور؛ لأنه نفي عن وجه الأرض بدفع شرهم عن أهلها، ويعزرون أيضا لمباشرتهم منكر الإخافة وشرط القدرة على الامتناع؛ لأن المحاربة لا تتحقق إلا بالمنعة، والحالة الثانية كما بيناها لما تلوناه وشرط أن يكون المأخوذ مال مسلم أو ذمي لتكون العصمة مؤيدة، ولهذا لو قطع الطريق على المستأمن لا يجب القطع، وشرط كمال النصاب في حق كل واحد كي لا يستباح طرفه إلا بتناوله ما له خطر، والمراد قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى؛ كي لا يؤدي إلى تفويت جنس المنفعة، والحالة الثالثة كما بيناها لما تلوناه (ويقتلون حدا، حتى لو عفا الأولياء عنهم لا يلتفت إلى عفوهم) ؛ لأنه حق الشرع (و) الرابعة: (إذا قتلوا وأخذوا المال فالإمام بالخيار، إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم وصلبهم، وإن شاء قتلهم، وإن شاء صلبهم، وقال محمد: يقتل أو يصلب ولا يقطع) ؛ لأنه جناية واحدة فلا توجب حدين، ولأن ما دون النفس
__________
(1) سورة المائدة الآية 33(11/72)
يدخل في النفس في باب الحد. كحد السرقة والرجم، ولهما أن هذه عقوبة واحدة تغلظت لتغلظ سببها، وهو تفويت الأمن على التناهي بالقتل وأخذ المال، ولهذا كان قطع اليد والرجل معا في الكبرى حدا واحدا، وإن كانا في الصغرى حدين والتداخل في الحدود لا في حد واحد. ثم ذكر في الكتاب التخيير بين الصلب وتركه، وهو ظاهر الرواية. وعن أبي يوسف أنه لا يتركه لأنه منصوص عليه، والمقصود التشهير ليعتبر به غيره. ونحن نقول: أصل التشهير بالقتل والمبالغة بالصلب فيخير فيه. ثم قال: (ويصلب حيا ويبعج بطنه برمح إلى أن يموت) ، ومثله عن الكرخي، وعن الطحاوي أنه يقتل ثم يصلب توقيا عن المثلة. وجه الأول وهو الأصح: أن الصلب على هذا الوجه أبلغ في الردع، وهو المقصود به. قال: (ولا يصلب أكثر من ثلاثة أيام) ؛ لأنه يتغير بعدها فيتأذى الناس به. وعن أبي يوسف أنه يترك على خشبة حتى يتقطع فيسقط ليعتبر به غيره.
قلنا: حصل الاعتبار بما ذكرناه والنهاية غير مطلوبة، قال: (وإذا قتل القاطع فلا ضمان عليه في مال أخذه) اعتبارا بالسرقة الصغرى وقد بيناه، (فإن باشر القتل أحدهم أجري الحد عليهم بأجمعهم) ؛ لأنه جزاء المحاربة. وهي تتحقق بأن يكون البعض ردءا للبعض حتى إذا زلت أقدامهم انحازوا إليهم. وإنما الشرط القتل من واحد منهم، وقد تحقق. قال: (والقتل وإن كان بعصا أو بحجر أو بسيف فهو سواء) ؛ لأنه يقع قطعا للطريق بقطع المارة، (وإن لم يقتل القاتل ولم يأخذ مالا وقد جرح اقتص منه فيما فيه القصاص، وأخذ الأرش منه فيما فيه الأرش، وذلك إلى الأولياء) ؛ لأنه لا حد في هذه الجناية، فظهر، حتى العبد، وهو ما ذكرناه فيستوي فيه الولي (وإن أخذ مالا ثم جرح قطعت يده ورجله وبطلت الجراحات) ؛ لأنه لما وجب الحد حقا لله سقطت عصمة النفس، حقا للعبد كما تسقط عصمة المال، (وإن أخذ بعدما تاب وقد قتل عمدا، فإن شاء الأولياء قتلوه، وإن شاءوا عفوا عنه) ؛ لأن الحد في هذه الجناية لا يقام بعد التوبة للاستثناء المذكور في النص؛ ولأن التوبة تتوقف على رد المال، ولا قطع في مثله فظهر حق العبد في النفس والمال حتى يستوفي الولي القصاص أو يعفو. ويجب الضمان إذا هلك في يده أو استهلكه، (وإن كان من القطاع صبي أو مجنون أو ذو رحم محرم من المقطوع عليه سقط الحد عن الباقين) ، فالمذكور في الصبي والمجنون قول أبي حنيفة وزفر.
وعن أبي يوسف أنه لو باشر العقلاء يحد الباقون، وعلى هذا السرقة الصغرى.
له أن المباشر أصل، والرد تابع، ولا خلل في مباشرة العاقل، ولا اعتبار بالخلل في التبع(11/73)
وفي عكسه ينعكس المعنى والحكم. ولهما أنه جناية واحدة قامت بالكل، فإذا لم يقع فعل بعضهم موجبا كان فعل الباقين بعض العلة، وبه لا يثبت الحكم فصار كالخاطئ مع العامد، وأما ذو الرحم المحرم فقد قيل: تأويله إذا كان المال مشتركا بين المقطوع عليهم، والأصح أنه مطلق؛ لأن الجناية واحدة على ما ذكرناه. فالامتناع في حق البعض يوجب الامتناع في حق الباقين. بخلاف ما إذا كان فيهم مستأمن؛ لأن الامتناع في حقه لخلل في العصمة وهو يخصه، أما هنا الامتناع لخلل في الحرز، والقافلة حرز واحد.
(وإذا سقط الحد صار القتل إلى الأولياء) ؛ لظهور حق العبد على ما ذكرناه، (فإن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا عفوا. وإن قطع بعض القافلة الطريق على البعض لم يجب الحد) ؛ لأن الحرز واحد؛ فصارت القافلة كدار واحدة، (ومن قطع الطريق ليلا أو نهارا في المصر أو بين الكوفة والحيرة فليس بقاطع الطريق) استحسانا، وفي القياس يكون قاطع الطريق، وهو قول الشافعي لوجوده حقيقة. وعن أبي يوسف أنه يجب الحد إذا كان خارج المصر إن كان بقربه؛ لأنه لا يلحقه الغوث.
وعنه إن قاتلوا نهارا بالسلاح أو ليلا به أو بالخشب فهم قطاع الطريق؛ لأن السلاح لا يلبث والغوث يبطئ بالليالي، ونحن نقول: إن قطع الطريق بقطع المارة، ولا يتحقق ذلك في المصر وبقرب منه؛ لأن الظاهر لحوق الغوث، إلا أنهم يؤخذون برد المال أيضا لا للحق إلى المستحق، ويؤدبون ويحبسون لارتكابهم الجناية، ولو قتلوا فالأمر فيه إلى الأولياء لما بينا، (ومن خنق رجلا حتى قتله فالدية على عاقلته عند أبي حنيفة) ، وهي مسألة القتل بالمثقل، وسنبين في باب الديات - إن شاء الله تعالى - (وإن خنق في المصر غير مرة قتل به) ؛ لأنه صار ساعيا في الأرض بالفساد فيدفع شره بالقتل. والله تعالى أعلم.(11/74)
ب - وجاء في فتح القدير على الهداية ما نصه (باب قطع الطريق) .
آخره عن السرقة وأحكامها لأنه ليس بسرقة مطلقة، ولذا لا يتبادر هو أو ما يدخل هو فيه من إطلاق لفظ السرقة، بل إنما يتبادر الأخذ خفية عن الناس. ولكن أطلق على قطع الطريق اسم السرقة مجاز الضرب من الإخفاء، وهو الإخفاء عن الإمام، ومن نصبه الإمام لحفظ الطريق من الكشاف وأرباب الإدراك فكان السرقة فيه مجازا؛ ولذا لا تطلق السرقة عليه إلا مقيدة، فيقال السرقة الكبرى. ولو قيل: السرقة فقط لم يفهم أصلا، ولزوم(11/74)
التقييد من علامات المجاز.
(قوله: وإذا خرج جماعة ممتنعين) بقوتهم عمن يقصد مقاتلهم أو واحد له منعة بقوته ونجدته يعني شوكته، يقصدون قطع الطريق أي أخذ المارة، فأحوالهم بالنسبة إلى الجزاء الشرعي أربعة. وبالنسبة إلى ما هو أعم منه خمسة. أما بالنسبة إلى الجزاء فإما أن يؤخذوا قبل أن يأخذوا مالا ويقتلوا نفسا، بل لم يوجد منهم سوى مجرد إخافة الطريق إلى أن أخذوا فحكمهم أن يعزروا ويحبسوا إلى أن تظهر توبتهم في الحبس أو يموتوا. وأما إن أخذوا مال مسلم أو ذمي والمأخوذ إذا قسم على جماعتهم أصاب كل واحد عشرة دراهم فصاعدا أو ما يبلغ قيمته ذلك فيقطع الإمام يد كل منهم اليمنى ورجله اليسرى. وأما إن قتلوا مسلما أو ذميا ولم يأخذوا مالا فيقتلهم الإمام حدا.
ومعنى حدا أنه لو عفا أولياء المقتولين لا يقبل عفوهم؛ لأن الحد خالص حق الله تعالى لا يسمع فيه عفو غيره. فمتى عفا عنهم عصى الله تعالى. والرابعة أن يأخذوا المال ويقتلوا. وستأتي - إن شاء الله تعالى -، وفي فتاوى قاضيخان: وإن قتل ولم يأخذ المال يقتل قصاصا. وهذا يخالف ما ذكرنا إلا أن يكون معناه إذا أمكنه أخذ المال فلم يأخذ شيئا، ومال إلى القتل، فإنا سنذكر في نظيرها أنه يقتل قصاصا خلافا لعيسى بن أبان. وفيها أيضا إن خرج على القافلة في الطريق وأخاف الناس ولم يأخذ المال ولم يقتل يعزر ويخلى سبيله، وهو خلاف المعروف من أنه يحبس امتثالا للنفي المذكور في الآية. وأما بالنسبة إلى ما هو أعم فالأربعة المذكورة. والخامسة أن يؤخذوا بعدما أحدثوا توبة، وتأتي أيضا في الكتاب. والتقييد بمسلم أو ذمي في صدر المسألة ليخرج المستأمن. فلو قطعوا الطريق على مستأمن لم يلزمهم شيء مما ذكرنا إلا التعزير والحبس باعتبار إخافة الطريق وإخفار ذمة المسلمين؛ لأن ماله غير معصوم على التأييد وباقي الشروط من كون ذلك في برية لا في مصر ولا قرية ولا بين قريتين وغير ذلك مما يقدمه الشارحون، يأتي ذلك كله في الكتاب مفصلا.
(والأصل فيه) أي في توزيع الأجزية كما ذكرنا على الجنايات المذكورة قوله - تعالى -: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} (1) الآية، سمي قاطع الطريق محاربا لله؛ لأن المسافر معتمد على الله تعالى. فالذي يزيل أمنه محارب لمن اعتمد عليه في تحصيل الأمن. وأما محاربته لرسوله، فإما باعتبار عصيان أمره، وإما باعتبار أن الرسول هو الحافظ لطريق المسلمين والخلفاء والملوك بعده نوابه، فإذا قطع الطريق التي تولى حفظها بنفسه ونائبه فقد حاربه، أو هو على حذف مضاف أي
__________
(1) سورة المائدة الآية 33(11/75)
يحاربون عباد الله. وهو أحسن من تقدير أولياء الله؛ لأن هذا الحكم يثبت بالقطع على الكافر الذمي.
(والمراد من الآية التوزيع) أي توزيع الأجزية المذكورة على أنواع قطع الطريق، وبه قال الشافعي والليث وإسحاق وقتادة وأصحاب أحمد، وقال عطاء وسعيد بن المسيب ومجاهد والحسن والضحاك والنخعي وأبو ثور وداود: الإمام مخير فيه على ما هو ظاهر النص مطلقا، وقال مالك: إذا رأى الإمام القاطع جلدا ذا رأي قتله، وإن كان جلدا لا رأي له قطعه.
ولنا ما روى محمد عن أبي يوسف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: «وادع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بردة هلال بن عويمر الأسلمي فجاء أناس يريدون الإسلام فقطع عليهم أصحاب أبي بردة الطريق فنزل جبريل - عليه السلام - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحد أن من قتل وأخذ المال صلب، ومن قتل ولم يأخذ قتل، ومن أخذ مالا ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، ومن جاء مسلما هدم الإسلام ما كان منه في الشرك» ، وفي رواية عطية عن ابن عباس: «ومن أخاف الطريق ولم يقتل ولم يأخذ المال نفي» ، وبالنظر إلى المعنى، وهو أن من المقطوع به أن ما ذكر من القتل والصلب والقطع والنفي كلها أجزية على جناية القطع.
ومن المقطوع به أن هذه الجناية تتفاوت خفة وغلظا والعمل بالإطلاق المحض للآية يقتضي أن يجوز أن يرتب على أغلظها أخف الأجزية المذكورة، وعلى أخفها أغلظ الأجزية، وهذا مما يدفعه قواعد الشرع والعقل؛ فوجب القول بتوزيع الأغلظ للأغلظ، والأخف للأخف؛ ولأن في هذا التوزيع موافقة لأصل الشرع حيث يجب القتل بالقتل، والقطع بالأخذ، إلا أن هذا الأخذ لما كان أغلظ من أخذ السرقة، حيث كان مجاهرة ومكابرة مع إشهار السلاح جعل المرة منه كالمرتين، فقطع في الأخذ مرة اليد والرجل معا من غير اشتراط كون النصاب فيه عشرين؛ لأن الغلظ في هذه الجناية من جهة الفعل لا متعلقة. ولموافقة قاعدة الشرع شرط في قطعهم كون ما يصيب كل واحد منهم نصابا كاملا كي لا يستباح طرفه بأقل من النصاب، فيخالف قاعدة الشرع.
ولم يشرط مالك سوى أن يكون المأخوذ نصابا فصاعدا أصاب كلا نصاب أو لا، وكون المقطوع اليد اليمنى والرجل اليسرى بالإجماع، كي لا يثوى نصفه، وكذا الأحكام السابقة من أنه لو كانت يسراه شلاء لا تقطع يمينه، وكذا رجله اليمنى لو كانت شلاء لا تقطع اليسرى، ولو كان مقطوع اليد اليمنى لا تقطع له يد، وكذا الرجل اليسرى؛ فإن قلت ليس في الأجزية الموزعة الحبس قلنا: هو المراد بالنفي، وذلك لأن ظاهره(11/76)
لا يعمل به، وهو النفي من الأرض، أي من وجه الأرض؛ لأنه يتحقق ما دام حيا. وإن حمل على بعضها وهي بلدته لا يحصل به المقصود، وهو دفع أذاه عن الناس؛ لأنه إذا كان ذا منعة يقطع الطريق فيما يصير إليه من البلدة الأخرى فعملنا بمجازه وهو الحبس؛ فإنه قد يطلق عليه أنه خارج من الدنيا، قال صالح بن عبد القدوس فيما ذكره الشريف في الغرر:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى
إذا جاءنا السجان يوما لحاجة ... عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
ولما رأى مالك - رضي الله عنه - أن مجرد النفي لا يفيد في المقصود قال: يحبس في بلدة النفي، ومعلوم أن المقصود لا يتفاوت بالحبس في بلدة النفي وغيرها، فيقع تعيين بلدة النفي في غير القاعدة المطلوبة.
(قوله: والرابعة) أي من أنواع هذه الجناية، (ما إذا قتلوا وأخذوا المال، فالإمام بالخيار، إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم وصلبهم، وإن شاء قتلهم) بلا صلب وقطع، (وإن شاء صلبهم) أحياء ثم قتلهم. وهذا قول أبي حنيفة وزفر. وقال أبو يوسف - رحمه الله -: لا بد من الصلب للنص في الحد. ولا يجوز ترك الحد كالقتل. وبه قال الشافعي وأحمد أجاب بأن أصل التشهير يحصل بالقتل والمبالغة بالصلب. ولم ينقل أنه - صلى الله عليه وسلم - صلب العرنيين ولا غيره صلب أحدا. ومع أن ظاهر النص لا يحتم الصلب. فإن قوله: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} (1) إنما يفيد أن يقتلوا بلا صلب، أو يصلبوا بلا قتل. لكن يقتل بعد الصلب مصلوبا بالإجماع. وقال محمد: لا يقطع ولكن يقتل أو يصلب. وفي عامة الروايات من المباسيط وشروح الجامع الصغير ذكر أبو يوسف ومحمد - وبه قال مالك -: إن كان القاطع ذا رأي، والشافعي وأحمد مع أبي يوسف في أنه لا بد من الصلب، ومع محمد في أنه لا يقطع.
(وجه قولهم: أنه جناية واحدة، هي جناية قطع الطريق فلا توجب حدين، ولأن ما دون النفس في باب الحد يدخل في النفس كحد السرقة والرجم) إذا اجتمعا، بأن سرق المحصن ثم زنى؛ فإنه يرجم ولا يقطع اتفاقا (ولهما) أي لأبي حنيفة وأبى يوسف - وهذا على اعتبار أبي يوسف مع أبي حنيفة لا مع محمد - (أن هذه) الجناية وإن كانت واحدة باعتبار أنه قطع الطريق فهذا المجموع من القطع والقتل أيضا (عقوبة واحدة، وإنما تغلظت لتغلظ سببها) ، حيث بلغ النهاية في تفويت
__________
(1) سورة المائدة الآية 33(11/77)
الأمن (حيث فوت الأمن على المال والنفس بالقتل وأخذ المال) ، وكونها أمورا متعددة لا يستلزم تعدد الحدود في قطع الطريق، ألا يرى أن قطع اليد والرجل فيها حد واحد، وهو في الصغرى حدان؛ ولأن مقتضى التوزيع الذي لزم اعتباره أن يتعين القطع ثم القتل؛ لأن التوزيع أدى إلى أن من أخذ المال قطع، وهذا قد أخذه فيقطع، وأن من قتل يقتل أو يصلب، وهذا قتل فيجب أن يجمع له بين القطع والقتل إلا أن ذلك كان فيما إذا فعل ذلك على الانفراد، فأما على الاجتماع فجاز أن يؤخذ حكمه من الانفراد، فجاز ذلك للإمام. وما ذكر من دخول ما دون النفس في النفس هو ما إذا كانا حدين، أحدهما غير النفس والآخر النفس، أما إذا كان ذلك حدا واحدا فلا بد من إقامته، فهي أجزاء حد واحد غير أنه إن بدأ بالجزء الذي لا تتلف به النفس فعل الآخر، وإن بدأ بما تتلف به لا يفعل الآخر لانتفاء الفائدة، وهو الضرب بعد الموت.
(قوله: ثم قال) أي القدوري فيما إذا اختار الإمام صلبه، أو ما إذا قلنا بلزومه على قول أبي يوسف أنه (يصلب حيا ويبعج بطنه إلى أن يموت، ومثله عن الكرخي وجه قوله وهو الأصح إن الصلب على هذا الوجه أبلغ في الردع) ؛ ولأن المقصود الزجر، وهو بما يحصل في الحياة لا بما بعد الموت. إلا أن يقال: النص دل على ذلك، فإنه قال: أن يقتلوا أو يصلبوا فلزم كون الصلب بلا قتل؛ لأنه معاند له بحرف العناد فلا يتصادق معه، والقتل الذي يعرض بعد الصلب ليس في اللفظ، وعن الطحاوي يقتل ثم يصلب توقيا عن المثلة؛ فإنها نسخت من لدن العرنيين على ما عرف. لا يقال وجه الأول، وهو الأصح، لا يخفى أنه لا يكافئ وجه الطحاوي؛ لأننا نقول: الحاصل ليس غير صلب وقتل بطعن الرمح، والثاني هو المعتاد بينهم؛ لأن عادتهم القتل به، فليس مثلة عندهم كما هو في جدع الأذنين، وقطع الأنف، وسمل العينين، فإن كان هناك مثلة، فالصلب ليس غير، وهو مقطوع بشرعيته؛ فتكون هذه المثلة الخاصة مستثناة من المنسوخ قطعا لا يحتمل الشك، ثم يخلى بينه وبين أهله يدفنونه، وعلمت في كتاب الشهيد أنه لا يصلى على قاطع الطريق، (ولا يصلب أكثر من ثلاثة أيام؛ لأنه يتغير بعدها فيتأذى به الناس. وعن أبي يوسف أنه يترك على خشبة حتى يتقطع فيسقط ليعتبر به غيره. قلنا: حصل الاعتبار بما ذكرنا والنهاية غير لازمة) من النص، وكونه أمر بالصلب لا يقتضي الدوام بل بمقدار متعارف لإبلاء الأعذار كما في مهلة المرتد وغيره كما في مدة الخيار.
(قوله: وإذا قتل القاطع فلا ضمان عليه فيما أخذه) لما بينا في السرقة الصغرى من سقوط(11/78)
عصمته بالقطع، (قوله: وإن باشر القتل أحدهم) أي واحد منهم والباقون وقوف لم يقتلوا معه ولم يعينوه (أجري الحد على جميعهم) فيقتلوا. ولو كانوا مائة بقتل واحد منهم واحدا (لأن القتل جزاء المحاربة التي فيها قتل بالنص مع التوزيع، والمحاربة تتحقق بأن يكون البعض ردءا للبعض حتى إذا انهزموا انحازوا إليهم، وقد تحققت المحاربة مع القتل؛ فيشمل الجزاء الكل، وهو قول مالك وأحمد خلافا للشافعي.
قلنا: إنه حكم تعلق بالمحاربة فيستوي فيه المباشرة والردة كالغنيمة. ولا فرق بين كون القتل بسيف أو عصا أو حجر في قتل الكل، وإن لم يوجب أبي حنيفة القصاص بالمثقل؛ لأن هذا ليس بطريق القصاص فلا يستدعي المماثلة، ولهذا يقتل غير المباشر وإن لم يقتل القاطع ولم يأخذ مالا، وقد جرح فما كان من جراحة يجري فيها القصاص اقتص، وما كان لا يجري فيه ذلك لزمه الأرش، ويعرف ما يقتص به وما لا يقتص في الجنايات - إن شاء الله رب العالمين -. وهذا لأنه لا حد في هذه الجناية من قطع أو قتل فظهر حق العبد فيستوفيه الولي، وإن أخذ مالا ثم جرح قطعت يده ورجله من خلاف وبطلت الجراحات؛ لأنه لما وجب الحد حقا لله سقطت عصمة النفس، أي ما حل بها من تفريق اتصال الجسم بالجارحات حقا للعبد كما تسقط عصمة المال؛ ولذا تبطل الجراحات إذا قتل فقتل حدا؛ لأن الحد والضمان لا يجتمعان، قوله: وإن أخذ بعدما تاب سقط الحد عنه بلا خلاف بالنص. قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (1) فإن كان قد قتل، فإن شاء الأولياء قتلوه، وإن شاءوا عفوا عنه؛ لأن هذا القتل قصاص فصح العفو عنه والصلح به، وحينئذ لا بد أن يكون قتل بحديد ونحوه؛ لأن القصاص لا يجب إلا به. ونحوه عند أبي حنيفة، وكذا إذا كان أخذ مالا ثم تاب؛ فإن صاحبه إن شاء تركه، وإن شاء ضمنه، إن كان هالكا ويأخذه إن كان قائما؛ لأنه لا يقطع بعد التوبة لسقوط الحد؛ فظهر حق العبد في ماله كما في النفس، وفي المبسوط والمحيط رد المال من تمام توبتهم لتنقطع به خصومة صاحبه، ولو تاب ولم يرد المال لم يذكره في الكتاب، واختلفوا فيه فقيل: لا يسقط الحد كسائر الحدود لا تسقط بالتوبة، وقيل: يسقط، أشار إليه محمد في الأصل؛ لأن التوبة تسقط الحد في السرقة الكبرى بخصوصها للاستثناء في النص، فلا يصح قياسها على باقي الحدود مع معارضة النص. وسائر الحدود لا تسقط بالتوبة عندنا، وبه قال مالك وأحمد في رواية والشافعي في قول، وعنهما تسقط لقوله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} (2) ونحن نقطع بأن
__________
(1) سورة المائدة الآية 34
(2) سورة النساء الآية 16(11/79)
رجم ماعز والغامدية كان بعد توبتهما، والآية منسوخة. إنما كان ذلك في أول الأمر، وإذا عرف هذا القول المصنف، ولأن التوبة تتوقف على رد المال ولا قطع في مثله شبه التناقض؛ لأنها إذا توقفت على رد المال فأخذ القاطع قبل الرد أخذ قبل التوبة. والأخذ قبل التوبة بعد أخذ المال فيه الحد بقطع اليد والرجل، أجيب بفرض المسألة فيما إذا رد بعضه فإنه علامة توبته، فيكون ذلك شبهة في سقوط الحد فيجب الضمان لو هلك الباقي أو استهلكه، ومثل ما لو أخذوا بعد التوبة في سقوط الحد والرجوع إلى القصاص وتصرف الأولياء فيه وفي المال ما لو أخذوا قبل التوبة، وقد قتلوا ولكن أخذوا من المال قليلا لا يصيب كلا نصاب؛ فإن الأمر في القتل والجرح إلى الأولياء إن شاءوا قتلوا قصاصا وإن شاءوا عفوا. وقال عيسى: يقتلهم الإمام حدا؛ لأنهم لو قتلوا ولم يأخذوا شيئا من المال قتلهم حدا لا قصاصا. وهذا لأن ما دون النصاب كالعدم، ولأنه تتغلظ جنايتهم بأخذ شيء من المال فلا يسقط الحد، والأصح ما ذكر في الكتاب؛ لأن وجوب الحد عليهم باعتبار ما هو المقصود، وهم يقصدون بالقطع أخذ المال وقتلهم ليس إلا ليصلوا إليه، فإذا تركوا أخذ المال عرفنا أن قصدهم القتل لا القطع؛ لأن القطع ليس إلا للمال فيقتص منهم إن شاء الولي، وتجري فيه أحكام القصاص، قوله: وإن كان من القطاع صبي أو مجنون أو ذو رحم محرم من المقطوع عليه سقط الحد عن الباقين. فتظهر أحكام القصاص وتضمين المال والجراحات، وفي المبسوط: تابوا، وفيهم عبد قطع يد حر دفعه مولاه أو فداه كما لو فعله في غير قطع الطريق، وهذا لأنه قصاص بين العبيد الأحرار فيما دون النفس، فيبقى حكم الدفع والفداء، فإن كانت فيهم امرأة فعلت ذلك فعليها دية اليد في مالها؛ لأنه لا قصاص بين الرجال والنساء في الأطراف، والواقع منها عمد لا تعقله العاقلة.
قال المصنف فالمذكور في الصبي والمجنون قول أبي حنيفة وزفر - رحمهما الله -. وعن أبي يوسف: أنه لو باشر العقلاء الأخذ والقتل يحد الباقون، وإن باشر ذلك الصبي والمجنون فلا حد على الباقين، وقيل: كان الوجه أن يقول وقال أبو يوسف بعد أن قال المذكور في الصبي والمجنون قول أبو حنيفة وزفر، أو يقول المذكور ظاهر الرواية عن أصحابنا. وعن أبي يوسف كما قال القدوري في شرحه لمختصر الكرخي وغيره. ولم يذكر قول محمد واكتفى بقوله العقلاء، عن البالغين، فإن العقلاء مما يقال في مقابلة الصبيان والمجانين، وعلى هذا السرقة الصغرى إن ولي المجنون أو الصبي إخراج المتاع سقط الحد عن الكل، وإن ولي غيرهما قطعوا إلا الصبي والمجنون،(11/80)
وقالت الأئمة الثلاثة وأكثر أهل العلم: لا يسقط الحد عن غير الصبي والمجنون وذي الرحم؛ لأنها شبهة اختص بها واحد فلا يسقط الحد عن الباقين، لأبي يوسف أن المباشر أصل، والردة تابع. ففي مباشرة العاقل الخلل في التبع ولا عبرة به بعد أن لا خلل في الأصل فيحد الباقون، وفي عكسه وهو أن يباشر الصبي والمجنون ينعكس المعنى، وهو السقوط عن الأصل. فإن السقوط حينئذ في التبع فينعكس الحكم وهو حد الباقين فلا يحدون ولهما - أي لأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - أن قطع الطريق جناية واحدة؛ لأن الموجود من الكل يسمى جناية قطع الطريق غير أنها لا تتحقق في الغالب إلا بجماعة، فكان الصادر من الكثير جناية واحدة قامت بالكل، فإذا لم يقع فهل بعضهم موجبا للحد لشبهة أو عدم تكليف لا يوجب في حق الباقين؛ لأن فعل الباقين حينئذ بعض العلة وببعض العلة لا يثبت الحكم وصار كالخاطئ مع العامد إذا اجتمعا في قتل معصوم الدم يسقط القصاص عن العامد.
وأما ذو الرحم المحرم فقيل: تأويله، أي تأويل سقوط الحد عن الكل، أن يكون المال مشتركا بين المقطوع عليهم، وفي القطاع ذو رحم محرم من أحدهم فلا يجب الحد على الباقين باعتبار نصيب ذي الرحم المحرم، وتصير شبهة في نصيب الباقين فلا يجب الحد عليهم؛ لأن المأخوذ شيء واحد، فإذا امتنع في حق أحدهم بسبب القرابة يمتنع في حق الباقين، فأما إذا لم يكن المال مشتركا، فإن لم يأخذ المال إلا من ذي الرحم المحرم فكذلك، وإن أخذوا منه ومن غيره يحدون باعتبار المأخوذ عن ذلك الغير، والأصل أنه مجرى على الإطلاق، وأنهم لا يحدون بكل حال؛ لأن مال جميع القافلة في حق قطاع الطرق كشيء واحد؛ لأنه محرز بحرز واحد وهو القافلة، والجناية واحدة وهي قطع الطريق، فالامتناع في حق البعض لا يوجب الامتناع في حق الباقين بخلاف السرقة من حرزين؛ لأن كل واحد من الفعلين هناك منفصل عن الآخر حقيقة وحكما، وإذا كان في المقطوع عليهم شريك مفاوض لبعض القطاع لا يحدون كذي الرحم المحرم.
قوله: بخلاف ما إذا كان فيهم أي في المقطوع عليهم، وهو القافلة، مستأمن جواب عن مقدر، هو أن القطع على المستأمن وحده لا يوجب حد القطع كما على ذي الرحم لمحرم، ثم عند اختلاط ذي الرحم القاطع مع غيره من القافلة صار شبهة في الحد. فكذا يجب عند اختلاط المستأمن كذلك، وليس كذلك بل يقام الحد عليهم.
أجاب بأن الامتناع في حق المستأمن إنما كان لخلل في عصمة نفسه وماله، وهو أمر يخصه، أما هنا الامتناع لخلل في الحرز والقافلة حرز واحد؛ فيصير كأن(11/81)
لقريب سرق مال القريب وغير القريب من بيت القريب، وإذا سقط الحد صار القتل إلى الأولياء إن شاءوا عفوا وإن شاءوا اقتصوا، ويجري الحال في المال على ما ذكر من قريب، ولو لم يقع القتل والأخذ إلا في المستأمنين لا حد عليهم، ولكن يضمنون أموال المستأمنين لثبوت عصمة أموالهم للحال، وإن لم يكن معصوما على التأييد، والله تعالى أعلم.
قوله: (وإذا قطع بعض القافلة الطريق على البعض لم يجب الحد لأن الحرز واحد) ، وهو القافلة فصار كسارق سرق متاع غيره وهو معه في دار واحدة؛ فلا يجب الحد، وإذا لم يجب الحد وجب القصاص في النفس إن قتل عمدا بحديدة أو بمثقل عندهما، ورد المال إن أخذه وهو قائم، وضمانه إن هلك أو استهلكه.
قوله: (ومن قطع الطريق ليلا أو نهارا في المصر أو بين الكوفة والحيرة) ، وهي منزل النعمان بن المنذر قريب من الكوفة بحيث يتصل عمران إحداهما بالأخرى فليس بقاطع الطريق استحسانا، وكذا بين القريتين، وحد بعضهم مكان القطع أن يكون في قرية بينهما وبين المصر مسيرة سفر في ظاهر الرواية، وفي القياس أن يكون قاطعا، وهو قول الشافعي، فإن في وجيزهم من أخذ في البلد مالا مغالبة فهو قاطع طريق.
وعن أبي يوسف أنه إذا كان خارج المصر ولو بقرب منه يجب الحد؛ لأنه لا يلحقه الغوث؛ لأنه محارب بل مجاهرته هنا أغلظ من مجاهرته في المفازة، ولا تفصيل في النص في مكان القطع.
وعن مالك: كل من أخذ المال في وجه لا يمكن لصاحبه الاستغاثة فهو محارب. وعنه: لا محاربة إلا على قدر ثلاثة أميال من العمران.
وتوقف أحمد مرة وأكثر أصحابه أن يكون بموضع لا يلحقه الغوث.
وعن أبي يوسف في رواية أخرى إن قصده بالسلاح نهارا في المصر فهو قاطع، وإن كان بغيره من الخشب ونحوه فليس بقاطع. وفي الليل يكون قاطعا بالخشب والحجر؛ لأن السلاح لا يلبث فيتحقق القطع قبل الغوث، والغوث يبطئ بالليل فيتحقق بلا سلاح.
وفي شرح الطحاوي: الفتوى على قول أبي يوسف. قال المصنف: ونحن نقول إن قطع الطريق يقطع المارة ولا يتحقق ذلك في المصر وما يقرب منه؛ لأن الظاهر لحوق الغوث، وأنت تعلم أن الحد المذكور في الآية لم ينط بمسمى قطع الطريق، وإنما هو اسم بين الناس، وإنما أنيط بمحاربة عباد الله على ما ذكرنا من تقدير المضاف، وذلك يتحقق في المصر وخارجه، ثم هذا الدليل المذكور لا يفيد تعيين مسيرة ثلاثة أيام بين المصر والقاطع. ولا شك في أن ليس لحوق الغوث في ذلك المقدار ظاهرا، وهو ما علل به الظاهر، وإذا قلنا: إنهم ليسوا قطاعا فسبيلهم أن يضربوا ويحبسوا، وإن(11/82)
قتلوا لزم القصاص وأحكامه، وإن أخذوا مالا ضمنوه إذا أتلفوه، وعلى تقدير أنهم قطاع إن قتلوا قتلوا حدا؛ فلا يقبل عفو الأولياء فيهم، ثم لا يضمنون على ما سمعت، وقوله لما بينا أي من قوله لظهور حق العبد عند اندفاع الحد.
قوله: ومن خنق رجلا حتى قتله لزمته الدية على عاقلته عند أبي حنيفة، وهي مسألة القتل بالمثقل. وسنبينه - إن شاء الله تعالى - في الديات، وظاهر أنها ليست مسألة المثقل، وإنما المعنى أنها مثلها في ثبوت الشبهة عنده في العمد، حيث كانت الآلة فيها قصور يوجب التردد في أنه قصد قتله بهذا الفعل أو قصد المبالغة في إيلامه، وإدخال الضرر على نفسه، فأنفق موته وعدم احتماله لذلك، فإن خنق غير مرة قتل الآن؛ لأنه ظهر قصده إلى القتل بالتخنيق حيث عرف إفضاؤه إلى القتل ثم صار يعتمده؛ ولأنه صار ساعيا في الأرض بالفساد، وكل من كان كذلك يدفع شره بالقتل.
(فروع) نص في الأصل على أن العبد والمرأة في حكم قطع الطريق كغيرهما، أما العبد فظاهر، وأما المرأة فكغيرها في السرقة الكبرى في ظاهر الرواية، وهو اختيار الطحاوي؛ لأن الواجب قطع وقتل، وهي كالرجل في جريان كل منهما عليها عند تحقق السبب منها، وذكر الكرخي: أن حد قطاع الطريق لا يجب على النساء؛ لأن السبب هو المحاربة، والمرأة بأصل الخلقة ليست محاربة كالصبي، ألا يرى أنها في استحقاق ما يستحق بالمحاربة، وهو السهم من الغنيمة لا يساوي بين الرجل والمرأة، فكذا في العقوبة المستحقة بالمحاربة.
ولكن يرد على هذا العبد فإنه لا يساوي الحر في استحقاق الغنيمة ويساويه في هذا الحد. وفي الصبيان والمجانين لعدم أهلية العقوبة، وذلك لا يوجد في النساء. وذكر هشام في نوادره عن أبي يوسف إذا قطع قوم الطريق ومعهم امرأة، فباشرت المرأة القتل وأخذت المال دون الرجال، فإنه يقام الحد عليهم لا عليها، وقال محمد: يقام عليها، ولا يقام عليهم، وذكر ابن سماعة عن محمد عن أبي حنيفة أنه يدرأ عنهم جميعا لكون المرأة فيهم، وجعل المرأة كالصبي. والعجب ممن يذكر هذه. أعني كون المرأة مع الرجال في القطع ثم يقتصر على ذكر الخلاف بين أبي يوسف ومحمد فيها، ويذكر حاصل هاتين الروايتين عنهما، ويترك نقل ما في المبسوط من أنها كالرجال منسوبا إلى ظاهر الرواية مع مساعدة الوجه وورود النقص الصحيح على مختار الكرخي بالعبد كما ذكرنا. وممن نقل ذلك صاحب الدراية وصاحب الفتاوى الكبرى والمصنف في التجنيس وغيرهم مع ضعف الأوجه المذكورة في التفرقة مثل الفرق بضعف البنية في أصل الخلقة، ومثل ذلك من الكلام الضعيف من مصادمته إطلاق الكتاب في(11/83)
المحاربين ولا قوة إلا بالله. وما في النوازل من قوله: عشر نسوة قطعن الطريق فقتلن وأخذن المال قتلن وضمن المال بناء على غير الظاهر من أنهن لسن محاربات؛ وعلله بأن المرأة إذا قاتلت العدو وأسرت لم تقتل، وإنما قتلن بقتلهن، والضمان لأخذهن المال.
ويثبت قطع الطريق بالإقرار مرة واحدة. وأبو يوسف شرط مرتين كقوله في السرقة الصغرى، ويقبل رجوع القاطع كما في السرقة الصغرى، فيسقط الحد ويؤخذ بالمال، إن كان أقر به معه، وبالبينة بشهادة اثنين على معاينة القطع أو الإقرار. فلو شهد أحدهما بالمعاينة والآخر على إقرارهم به لا يقبل.
ولا يقبل الشهادة بالقطع على أب الشاهد وإن علا، وابنه وإن سفل، ولو قالا: قطعوا علينا وعلى أصحابنا وأخذوا مالنا لا يقبل؛ لأنهما شهدا لأنفسهما. ولو شهدوا أنهم قطعوا على رجل من عرض الناس وله ولي يعرف أو لا يعرف لا يقيم الحد عليهم إلا بمحضر من الخصم، ولو قطعوا في دار الحرب على تجار مستأمنين أو في دار الإسلام في موضع غلب عليه أهل البغي، ثم أتي بهم إلى الإمام لا يمضي عليهم الحد؛ لأنهم باشروا السبب حين لم يكونوا تحت يده، وفي موضع لا يجري به حكمه فلم ينعقد فعلهم موجبا عليه الإقامة عليهم فلا يفعله، ومثله تقدم في الزنا في دار الحرب.
ولو رفعوا إلى قاض يرى تضمينهم المال فضمنهم وسلمهم إلى أولياء القود فصالحوهم على الديات ثم رفعوا بعد زمان إلى قاض آخر لم يقم عليهم الحد، إما لتقادم العهد - وفيه نظر - أو لعدم الخصم، وقد سقط خصومتهم بما وصل إليهم، أو لقضاء الأول فيتم بذلك لنفاذه؛ إذ هو في فصل مجتهد فيه من تقرر الضمان.
وإذا قضى القاضي عليهم بالقتل وحبسهم لذلك، فذهب أجنبي فقتلهم لا شيء عليه. وكذا لو قطع يده؛ لأنه لما سقطت حرمة نفسه سقطت حرمة أطرافه، ولو قتله قبل الثبوت عليه ثم قامت البينة بقطع للطريق اقتص منه؛ لأنه قتل نفسا معصومة ثم لا يقضي القاضي بحل دمه بهذه البينة بعدما قتل؛ لفوات المحل، فوجود هذه البينة كعدمها إلا أن يكون القاتل ولي الذي قتله القاطع في قطع الطريق، فلا يلزمه شيء لظهور أنه استوفى حق نفسه، ولو أن لصوصا أخذوا متاع قوم، فاستعانوا بقوم وخرجوا في طلبهم، إن كان أرباب المتاع معهم حل قتالهم، وكذا إذا غابوا والخارجون يعرفون مكانهم ويقدرون على رد المتاع.(11/84)
2 - مذهب المالكية
1 - (جاء في المدونة الكبرى ما نصه: (كتاب المحاربين)
(ما جاء في المحاربين)
قلت لابن القاسم: أرأيت أهل الذمة وأهل الإسلام إذا حاربوا فأخافوا ولم يأخذوا مالا ولم يقتلوا فأخذوا كيف يصنع بهم الإمام في قول مالك؟ قال: قال مالك إذا أخافوا السبيل كان الإمام مخيرا إن شاء قتل، وإن شاء قطع، قال مالك: ورب محارب لا يقتل وهو أخوف وأعظم في خوفه ممن قتل.
(قلت) : فإن أخذه الإمام وقد أخاف ولم يأخذ مالا ولم يقتل أيكون الإمام مخيرا فيه، يرى في ذلك رأيه إن شاء قطع يده، وإن شاء قطع رجله، وإن شاء قتله وصلبه، أم لا يكون ذلك للإمام؟ قال: قال مالك: إذا نصب وأخاف وحارب وإن لم يقتل كان الإمام مخيرا، وتأول مالك هذه الآية قول الله - تبارك وتعالى -، في كتابه {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (1) ، قال فقد جعل الله الفساد مثل القتل.
قلت: وكذلك إن أخاف ولم يأخذ المال، قال: إذا أخاف ونصب ولم يأخذ المال فإن الإمام مخير، وقد قال مالك: وليس كل المحاربين سواء، قال مالك: منهم من يخرج بعصاه أو بشيء فيؤخذ على تلك الحال لم يخف السبيل ولم يأخذ المال ولم يقتل، قال مالك: فهذا لو أخذ فيه بأيسره لم أر بذلك بأسا.
قلت: وما أيسره عند مالك؟ قال: أيسره وأخفه أن يجلد وينفى ويسجن في الموضع الذي نفي إليه.
قلت: وإلى أي موضع نفي هذا المحارب إليه إذا أخذ بمصر؟ (قال:) قد نفى عمر بن عبد العزيز من مصر إلى شغب، ولم أسمع من مالك فيه شيئا إلا أنه قال: قد كان ينفى عندنا إلى فدك أو خيبر، وقد كان لهم سجن يسجنون فيه.
قلت: وكم يسجن حيث ينفى؟ قال مالك: يسجن حتى تعرف له توبة.
قلت: أرأيت إن أخذه الإمام وقد قتل وأخذ الأموال وأخاف السبيل كيف يحكم فيه؟ (قال) : يقتله ولا يقطع يده ولا رجله عند مالك.
(قلت:) ويصلبه؟ (قال) : قال مالك: لم أسمع أحدا صلب إلا عبد الملك بن مروان؛ فإنه كان صلب الذي كان يقال له: الحارث؛ الذي كان تنبأ، صلبه عبد الملك، (قال) : قال مالك:
__________
(1) سورة المائدة الآية 32(11/85)
وذلك إلى الإمام يجتهد في ذلك.
(قلت:) وكيف يصلبه في قول مالك، أحيا أم ميتا؟ (قال) : لم أسمع من مالك إلا ما أخبرتك مما ذكر عن عبد الملك بن مروان فإنه صلب الحارث وهو حي وطعنه بالحربة بيده. (قال) : وأنا أرى أن يصلب حيا ويطعن بعد ذلك.
قلت: أرأيت الذي أخذه الإمام ولم يقتل ولم يفسد ولم يخف السبيل إلا أنه قد حارب خرج بخشبة أو ما أشبه هذا أيكون للإمام أن يعفو عن هذا؟ قال: لا يكون للإمام أن يعفو عن هذا عند مالك، ولا عن أحد من المحاربين.
(قلت:) فكم يضربه في قول مالك؟ قال: يجتهد الإمام برأيه في ضربه ونفيه.
قلت: أرأيت المحاربين من أهل الذمة وأهل الإسلام في قول مالك أهم سواء؟ قال: نعم، والنصارى والعبيد والمسلمون في ذلك الحكم فيهم واحد عند مالك، إلا أنه لا نفي على العبيد.
قلت: أرأيت إن أخذ وقد أخاف السبيل وأخذ المال؟ قال: قال مالك: إذا خرج ولم يخف السبيل ولم يأخذ المال ولم يقتل وأخذ بحضرة ما خرج أو خرج بخشبة أو ما أشبه ذلك ولم ينصب ولم يعل أمره، فإن الإمام يجلد مثل هذا وينفيه، قال مالك: وإن هو خرج وأخاف السبيل ونصب وعلا أمره ولم يأخذ المال فالإمام مخير، إن شاء قتله، وإن شاء قطع يده ورجله، قلت: فهل يجتمع مع القطع والفشل الضرب، قال: لم أسمع من مالك فيه شيئا، ولا أرى ذلك.
قلت: أرأيت إن هو قتل وأخذ المال وأخاف أيكون للإمام أن يقطع يده ورجله ولا يقتله؟ قال: لا يكون ذلك إلى الإمام إذا قتل وأخذ المال، قال مالك: فأرى أن يقتل، إن رأى ذلك الإمام - إذا أخذ المال ولم يقتل - أن يقتله قتله؛ لأن الله يقول في كتابه: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (1) فأخذ المال من الفساد في الأرض، وإنما يجتهد الإمام في الذي يخيف ولا يقتل ولا يأخذ مالا ويؤخذ يحضره ذلك قبل أن يطول زمانه، قال مالك: والذي تقطع يده ورجله لا أرى أن يضرب إذا قطعت يده ورجله.
قلت: فإن قتل وأخذ المال أتقطع يده ورجله وتقتله أم تقتله ولا تقطع يده ورجله في قول مالك؟ قال: القتل يأتي على ذلك كله، قال: وإنما يخير الإمام عند مالك إذا أخاف ولم يأخذ مالا ولم يقتل فأخذ بحضرة ذلك، فأما من طال زمانه، ونصب نصبا شديدا؛ فهذا لا يكون الإمام فيه مخيرا، ويقتله الإمام، وأما الذي أخذه بحضرة الخروج، فإن مالكا قال في هذا: لو أن الإمام أخذ بأيسره لم أر بذلك بأسا، وقد فسرت لك ذلك فهذا أصل قول مالك في هذه الأشياء.
قلت: أرأيت إن أخذ المحاربون من المال أقل مما تقطع
__________
(1) سورة المائدة الآية 32(11/86)
فيه اليد أقل من ثلاثة دراهم؟ قال: ليس حد المحاربين مثل حد السارق، والمحارب إذا أخذ المال قليلا كان أو كثيرا فهو سواء، والسارق لا يقطع إلا في ربع دينار.
قلت: أرأيت فإن قطعوا على المسلمين وعلى أهل الذمة أهو سواء في قول مالك؟ قال: نعم، ولقد بلغني عن مالك أخبرني عنه من أثق به عن غير واحد أن عثمان قتل مسلما وقتل ذميا على وجه الحرابة، قتله على مال كان معه، فقتله عثمان.
قلت: أرأيت إن تابوا من قبل أن يقدر عليهم، وقد كانوا قتلوا وأخافوا وأخذوا الأموال وجرحوا الناس، قال: قال مالك: يضع عنهم حد الإمام كل شيء إلا أن يكونوا قتلوا فيدفعون إلى أولياء القتلى، وإن أخذوا المال أغرموا المال.
قلت: وكذلك الجراحات؟ قال: نعم.
قلت: ويدرأ عنهم القتل والقطع في الذي كان يجب عليهم لو أخذوا قبل أن يتوبوا؟ فأما ما صنعوا في أموال الناس وفي دمائهم وفي أبدانهم فهم يؤخذون بذلك عند مالك، إلا أن يعفى عنهم، قال: نعم.
قلت: أرأيت إن كانوا محاربين فقطعوا على الناس الطريق فقتلوا رجلا قتله واحد منهم إلا أنهم كانوا أعوانا له في تلك الحال إلا أن هذا الواحد منهم ولي القتل حين زاحفوهم، ثم تابوا وأصلحوا، فجاء ولي المقتول يطلب دمه أيقتلهم كلهم أم يقتل الذي قتل وليه وحده؟ قال: قال مالك: يقتلون كلهم إذا أخذوا على تلك الحال. قال ابن القاسم: فإن تابوا قبل أن يؤخذوا فأتى أولياء القتيل يطلبون دمه دفعوا كلهم إلى أولياء المقتول فقتلوا من شاءوا، وعفوا عمن شاءوا، وأخذوا الدية ممن شاءوا، وقد ذكر مالك عن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - حين قال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا. فهذا يدلك على أنهم شركاء في قتله، فذلك إلى أولياء المقتول، يقتلون من شاءوا منهم، ويعفون عمن شاءوا منهم.
قال: ولقد قال لي مالك في قوم خرجوا وقطعوا الطريق فتولى رجل منهم أخذ مالا كان مع رجل ممن أخذ، أخذه منه والآخرون وقوف، لا أنه بهم قوي، وأخذ المال فأراد بعض من لم يأخذ المال التوبة، وقد أخذ المال الذي أخذ ودفع إلى الذي لم يأخذ حصته، ماذا ترى عليه حين ذلك أحصته التي أخذ أم المال كله؟ .
(قال) : بل أرى المال كله عليه؛ لأنه إنما قوي الذي أخذ المال بهم، والقتل أشد من هذا، فهذا يدلك على ما أخبرتك به من القتل، ولقد ذكروا عن مالك عن عمر بن الخطاب أن بعضهم كان ربيئة للذين قتلوا فقتله عمر معهم، قلت: أرأيت إن كانوا قد أخذوا المال فلما تابوا كانوا عدما لا مال لهم أيكون ذلك لأصحاب المال دينا عليهم في قول مالك؟ قال: نعم. قلت: فإن(11/87)
أخذوا قبل أن يتوبوا أقيم عليهم الحد فقطعوا أو قتلوا ولهم أموال أخذت أموال الناس من أموالهم، وإن لم يكن لهم يومئذ مال لم يتبعوا بشيء مما أخذوا بمنزلة السرقة؟ قال: نعم، وهو قول مالك فيما بلغني عمن أثق به وهو رأيي.
قلت: أرأيت إن أخذهم الإمام وقد قتلوا وجرحوا وأخذوا الأموال فعفا عنهم أولياء القتلى وأولياء الجراحات، وأهل الأموال أيجوز عفوهم في قول مالك؟ قال: قال مالك: لا يجوز العفو هاهنا، ولا يجوز للإمام أن يعفو؛ لأن هذا حد من حدود الله قد بلغ السلطان فلا يجوز فيه العفو ولا يصلح لأحد أن يشفع فيه؛ لأنه حد من حدود الله.
قلت: فإن تابوا وأصلحوا وقد قتلوا أناسا من أهل الذمة ولم يقتلوا أحدا غيرهم؟ قال: أرى أن الدية في أموالهم لأولياء القتلى؛ لأن المسلم لا يقتل بالذمي عند مالك.
قلت: فإن كانوا ذميين أكان عليهم القود في قول مالك؟ قال: نعم؛ لأن مالكا قال: يقتل النصراني بالنصراني.
قلت: وكيف تعرف توبة هؤلاء النصارى المحاربين في قول مالك؟ قال: ما سمعت من مالك فيه شيئا، وأرى إن تركوا ما كانوا عليه قبل أن يقدر عليهم، فلا أرى أن يقام عليهم حد المحاربين.
قلت: أرأيت إن كانت فيهم امرأة أيكون سبيلها في قول مالك سبيل الرجال أم لا؟ وهل يكون النساء محاربات في قول مالك أم لا؟ قال: أرى أن النساء والرجال في ذلك سواء.
قلت فالصبيان؟ قال: لا يكونون محاربين حتى يحتلموا عند مالك؛ لأن الحدود لا تقام عليهم عند مالك، والحرابة حد من الحدود، والنساء إنما صرن محاربات؛ لأن مالكا قال: تقام عليهن الحدود، والحرابة حد من الحدود.
قلت: أرأيت إن قطعوا الطريق في مدينتهم التي خرجوا منها فأخذوا أيكونون محاربين في قول مالك؟ قال: نعم.
قلت: أرأيت إن خرج مرة فأخذه الإمام فقطع يده ورجله، ثم خرج ثانية فأخذه الإمام أيكون له أن يقطع يده الأخرى ورجله الأخرى؟ قال: نعم إن رأى أن يقطعه قطعه.
قلت: وسمعته من مالك قال: لا، إلا أني أراه مثل السارق، ألا ترى أنه يقطع يده ثم رجله ثم يده ثم رجله فكذلك المحارب تقطع يده ورجله، فإن خرج ثانية فإن رأى الإمام أن يقطعه قطع يده الباقية ورجله.
قلت: أرأيت إن أخذ الإمام هذا المحارب، وهو أقطع اليد اليمنى فأراد قطعه ورأى أن يقطعه كيف يقطعه، قال: ما سمعت من مالك فيه شيئا، إلا أن قول مالك في السارق إذا كان أقطع اليد اليمنى أو أشل اليد اليمنى قطع رجله اليسرى وترك يده اليمنى فكذلك المحارب إذا لم تكن يده اليمنى قائمة قطعت يده اليسرى ورجله اليسرى، وهذا(11/88)
عندنا بين لأن الله - تبارك وتعالى - قال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (1) فالقطع في المحارب في يده ورجله جميعا إنما هما جميعا شيء واحد بمنزلة القطع في يد السارق أو رجله، إنما هو شيء واحد، فإذا أصاب إحدى اليدين شلل أو قطع رجع إلى اليد الأخرى والرجل التي تقطع معها؛ لأنهما في القطع بمنزلة الشيء الواحد في المحارب، ألا ترى أن السارق إذا أصيب أقطع اليد اليمنى أو أشل اليد اليمنى رجع الإمام إلى رجله اليسرى، فإن أصابه أيضا أقطع أصابع اليمنى قطع رجله اليسرى، ولم يقطع بعض اليد دون بعض، فكذلك إذا كانت اليد ذاهبة في المحارب لم تقطع الرجل التي كانت تقطع معها ولكن تقطع اليد الأخرى، والرجل التي تقطع معها حتى يكون من خلاف كما قال الله تعالى.
قلت: أرأيت المحارب يخرج بغير سلاح. أيكون محاربا أم لا؟ قال: لم أسمع من مالك فيه شيئا، وأرى إن فعل ما يفعل المحارب من تلصصهم على الناس وأخذ أموالهم مكابرة منه لهم فأراه محاربا.
قلت: أرأيت الرجل الواحد هل يكون محاربا في قول مالك؟ قال: نعم، وقد قتل مالك رجلا واحدا كان قد قتل على وجه الحرابة، وأخذ مالا وأنا بالمدينة يومئذ.
قلت: أرأيت القوم يشهدون على المحاربين أنهم قد قطعوا الطريق عليهم وقتلوا منهم ناسا وأخذوا أموالهم منهم؟ قال: سألت مالكا عنهم فقال مالك: ومن يشهد على المحاربين إلا الذين قطع عليهم الطريق، قال: نعم، تجوز شهادتهم عليهم فيما شهدوا عليهم إذا كانوا عدولا، من قتل أو أخذ مال أو غير ذلك.
قلت: ويعطيهم هذه الأموال التي شهدوا عليها، وأن هؤلاء المحاربين قطعوا عليهم السبيل وأخذوها منهم أيعطيهم مالك هذا المال بشهادتهم؟ قال: نعم في رأيي، إذا شهد بعضهم لبعض، ولا تقبل شهادة أحد في نفسه في مال أخذ منه.
قلت: أرأيت المحاربين اللصوص. إذا أخذوا ومعهم الأموال فجاء قوم يدعون تلك الأموال، وليست لهم بينة، قال: سألت مالكا عنها، فقال مالك: أرى الإمام أن يقبل قولهم في أن المال لهم، ولكن لا أرى أن يعجل بدفع ذلك المال إليهم ولكن ليستأن قليلا ولا يطول حتى ينتشر ذلك، فإن لم يجئ لمال طالب سواهم دفعه إليهم وضمنهم، قال: فقلت لمالك: الجميل؟ قال لا، ولكن يشهد عليهم ونضمنهم في أموالهم بغير جميل إن جاء لذلك طالب، قلت أفيستحلفهم في قول مالك؟ قال: لم أسمعه من مالك، وأرى أن يحلفهم، قلت: رأيت القوم يخرجون تجارا
__________
(1) سورة المائدة الآية 33(11/89)
إلى أرض الحرب فيقطع بعضهم الطريق على بعض، وكلهم مسلمون، إلا أنهم قد قطعوا في دار الحرب على مسلمين مثلهم وذميين دخلوا دار الحرب بأمان؟ قال: قال مالك: في هؤلاء الخناقين الذين يخرجون مع الجيش إلى أرض الحرب فيخنقون الناس على أموالهم في دار الحرب في الطوائف، قال: بلغني عن مالك أنه قال: يقتلون، قلت: والخناق محارب عند مالك؟ قال: نعم، الخناق محارب إذا خنق على أخذ مال.(11/90)
في الذين يسقون الناس السيكران
قال: وقال مالك وهؤلاء الذين يسقون الناس السيكران إنهم محاربون إذا سقوهم ليسكروا فيأخذوا أموالهم، قال: قال مالك: هم محاربون يقتلون، قلت: هذا يدلني على قول مالك: أن من حارب وحده بغير سلاح أنه محارب، قال: نعم يستدل بهذا.
قلت: أرأيت محاربين أخذوا وقد أخذوا أموالا وأخافوا ولم يقتلوا فرأى الإمام أن يقطع أيديهم وأرجلهم ولا يقتلهم، فقطع أيديهم وأرجلهم ولم يقتلهم أيضمنهم المال الذي أخذوا وقد استهلكوه في أموالهم أم لا؟ قال: بلغني عن مالك أنه قال: هو مثل السرقة، وأنهم يضمنون إن كان لهم مال يومئذ، ولا يتبعون به دينا إذا لم يكن لهم مال.
قلت: أرأيت من قتل غيلة ورفع إلى قاض من القضاة فرأى أن لا يقتله، وأن يمكن أولياء المقتول منه ففعل فعفوا عنه ثم استقضى غيره فرفع إليه أفترى أن يقتله القاضي الثاني أم لا يقتله؛ لأنه قد حكم به قاض قبله في قول مالك قال: لا أرى أن يقتله؛ لأنه مما اختلف الناس فيه، قال: وقال لي مالك: من دخل على رجل في حريمه على أخذ ماله فهو عندهم بمنزلة المحارب يحكم فيه كما يحكم في المحارب.
قلت: أرأيت قوما محاربين شهد عليهم الشهود بالحرابة فقتلهم رجل قبل أن تزكى البينة، وقبل أن يأمر القاضي بقتلهم كيف يصنع مالك بهذا الذي قتلهم، قال: قال مالك: إن زكيت البينة أدب هذا الذي قتلهم ولم يفشل.
قلت: أرأيت إن لم تزك البينة وبطلت الشهادة أتقتله؟ قال: نعم في رأي.
قلت: أرأيت المحاربين؛ أجهادهم عند مالك جهاد؟ قال: قال مالك: نعم، جهادهم جهاد.
قلت: فإن شهدت الشهود بإقراره بالحرابة وهو منكر، أيقيم الإمام عليه الحد حد الحرابة أم لا؟ قال: لا يقام ذلك عليه ويقال. اهـ.(11/90)
ب - جاء في الشرح الكبير للدردير على مختصر خليل ما نصه (باب) في الحرابة:
وما يتعلق بها من الأحكام وعقبها السرقة لاشتراكها معها في بعض حدودها، وهو مطلق القطع، وليكون المشبه به في قوله الآتي واتبع كالسارق معلوما، وعرف المحارب المشتق من الحرابة فيعلم منه تعريفها بقوله: (المحارب قاطع الطريق لمنع سلوك) ؛ علة للقطع، أي من قطعها لأجل عدم الانتفاع بالمرور فيها، ولو لم يقصد أخذ مال السالكين والمراد بالقطع الإخافة لا المنع، وإلا لزم تعليل الشيء بنفسه، وسواء كانت الطريق خارجة عن العمران أو داخلة كالأزقة، أو آخذ بالمد اسم فاعل معطوف على قاطع، (مال مسلم أو غيره) من ذمي ومعاهد ولو لم يبلغ نصابا، (على وجه يتعذر معه الغوث) ، أي شأنه تعذر الغوث؛ فإن كان شأنه عدم تعذره فغير محارب بل غاصب، ولو سلطانا وقراءة " آخذ " بالمد اسم فاعل أولى من قراءته مصدر الإفادة أنه محارب، ولو لم يحصل منه قطع طريق فيشمل مسألة سقي السيكران، ومخادعة الصبي أو غيره ليأخذ ما معه وجبابرة أمراء مصر، ونحن وهم يسلبون أموال المسلمين ويمنعونهم أرزاقهم، ويغيرون على بلادهم ولا تتيسر استغاثة منهم بعلماء ولا بغيرهم.
ولا يشترط عدد المحارب ولا قصده عموم الناس بل يعد محاربا (وإن انفرد بمدينة) قصد جميع أهلها أم لا (كمسقي السيكران، بضم الكاف، نبت معلوم؛ (لذلك) أي لأجل أخذ المال وأشد منه في تغييب العقل البنج، وأشد منه نبت يسمى الداتورة. والبنج، بفتح الباء الموحدة وسكون النون نبت معروف، والكاف للتمثيل إن قرئ آخذ اسم فاعل، وللتشبيع إن قرئ مصدرا، (ومخادع الصبي) أي المميز، إذ هو الذي يخدع (أو غيره) أي خدعه حتى أدخله مكانا (ليأخذ ما معه) ، ولو لم يقتله وقتله من قتل الغيلة، (والداخل) عطف على مسقي أي وكالداخل، (في ليل أو نهار في زقاق أو دار) حال كونه (قاتل) حين الأخذ، (ليأخذ المال) ، وأخذه على وجه يتعذر معه الغوث، واحترز بقول قاتل ليأخذ عما لو أخذه ثم علم به فقاتل لينجو به، فلا يكون محاربا بل هو سارق إن علم به خارج الحرز، لا قبله فمختلس إن نجا به.
ثم شرع في بيان حد المحارب، وأنه أحد أنواع أربعة كما في الآية بقوله: (فيقاتل بعد المناشدة) ، والمناشدة مندوبة كما في الخطاب، ويندب أن تكون ثلاث مرات، يقال له ناشدتك الله ألا ما خليت سبيلنا ونحو ذلك، (إن أمكن) ، فإن عاجل بالقتال قوتل بلا مناشدة بالسلاح أو غيره مما فيه هلاكه، فعلم من قوله "يقاتل" أنه يقتل، وهو أحد حدوده الأربع، والقاتل له مأرب المال حال حرابته له، وأما(11/91)
الحاكم ولو بعد حرابته إذا قدر عليه قبل توبته كما يأتي، (ثم يصلب فيقتل) ، عطف على مقدر، أي فيقتل ثم إلخ، وثم للترتيب الإخباري، ولو قال: أو يصلب إلخ كان أحسن و (أو) في الآية للتخيير، والمعنى أن الإمام مخير بين أن يقتله بلا صلب، أو يصلبه على خشبة ونحوها حيا غير منكوس الرأس، ثم يقتله مصلوبا قبل نزوله على الأرجح، وهذا هو النوع الثاني من أنواع حده، وأشار للثالث بقوله: (أو ينفى) الذكر (الحر) البالغ العاقل (كالزنا) في مسافة البعد كفدك وخيبر من المدينة، ولكنه يسجن هنا حتى تظهر توبته أو يموت، وأما في الزنا فيسجن سنة، فالتشبيه ليس بتام ويكون النفي بعد الضرب باجتهاد الإمام، ولم يذكره المصنف، والقتل مع الصلب والضرب مع النفي ظاهر القرآن خلافه.
فلعله أخذ منه من المعنى، وذلك لأن الحرابة أشد من الزنا بدليل أن الحد فيها أشد، والزنا قرن النفي فيه بالجلد، ومجرد صلب بلا قتل ليس فيه كبير ردع المفسدين في الأرض، فعلم أنه لا يضمن قتله بعده، وأشار للرابع بقوله: (أو تقطع يمينه) أي يده اليمنى من الكوع (ورجله اليسرى) من مفصل الكعبين (ولاء) بلا تأخير ولو خيف عليه الموت؛ لأن القتل أحد حدوده، فإن كان مقطوع اليمنى أو أشلها قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى؛ ليكون القطع من خلاف، وكذا إن كان أقطع الرجل اليسرى فتقطع يده اليسرى ورجله اليمنى، فإن لم يكن له إلا يد أو رجل قطعت، فإن كان له يدان أو رجلان فقط قطعت اليد اليمنى فقط، أو الرجل اليسرى فقط، وهذه الحدود الأربعة يخير الإمام فيها باعتبار المصلحة في حق الرجال الأحرار، وأما المرأة فلا تصلب ولا تنفى، وإنما حدها القتل أو القطع من خلاف، وأما العبد فحده ثلاثة، وهي ما عدا النفي كما أشار له المصنف - رحمه الله تعالى - بقوله: أو ينفى الحر، (وبالقتل يجب قتله) مجرد أو مع صلب، ولا يجوز قطعه أو نفيه بقتل حر مسلم بل، (ولو بكافر) أو عبد (أو بإعانة) على القتل بمسك أو إشارة بل، ولو يتقوى بجاهه إذ لولا جاهه ما تجرأ القاتل على القتل فجاهه أعانه عليه حكما، (ولو جاء) المحارب القاتل (تائبا) قبل القدرة عليه إذ توبته لا تسقط حقوق الآدميين، (وليس للولي) أي ولي المقتول (العفو) عن القاتل قبل مجيئه تائبا؛ لأن الحق لله، وأما بعد مجيئه تائبا فله العفو؛ لأن قتله حينئذ قصاص لا حراب (وندب) للإمام النظر بالمصلحة، ولا يتعين عليه شيء بخصوصه؛ لأن (أو) في الآية للتخيير، فالأولى (لذي التدبير) من المحاربين (القتل) ؛ لأن(11/92)
القطع مثلا لا يدفع ضرره، (و) لذي (البطش) إذا لم يقتل أحدا (القطع) من خلاف، (ولغيرهما ولمن وقعت منه) الحرابة (فله) بلا قتل أحد (النفي والضرب) بالاجتهاد، وما ذكره المصنف من الندب هو المذهب، (والتعيين) فما يندب فعله (للإمام لا لمن قطعت، يده ونحوها) ، من جرح وأخذ مال فلا كلام له؛ لأن ما يفعله الإمام بالمحارب ليس عن شيء معين، وإنما هو عن جميع ما وقع منه في حرابته من إخافة وأخذ مال وجرح وغير ذلك لا لخصوص ما وقع لهذا الشخص، (وغرم كل) أي كل واحد بانفراده من المحاربين إذا أخذوا شيئا من الأموال (عن الجميع) ؛ لأنهم كالحملاء فكل من قدر عليه منهم أخذ بجميع ما أخذه هو وأصحابه (مطلقا) ، أي سواء كان ما أخذه أصحابه باقيا أم لا، جاء المحارب تائبا أم لا، نابه بشيء مما نهبوه أم لا، لتقوي بعضهم ببعض؛ فكانوا كالحملاء كما تقدم، ومثلهم البغاة والنصاب واللصوص، (وأتبع) المحارب (كالسارق) ، فإن سقط عنه الحد بمجيئه تائبا أغرم مطلقا أيسر أو أعسر، وإن قتل أو قطع أغرم إن أيسر من الأخذ إلى القطع أو القتل فيؤخذ من تركته؛ لأن اليسار المتصل كقيام المال، وإلا فلا غرم والنفي كالقطع على الراجح، وقيل: كسقوط الحد فيغرم فيه مطلقا، (ودفع ما بأيديهم لمن طلبه) أي ادعاءات وصفه كما توصف اللقطة (بعد الاستيناء) ، وبعد (اليمين) من الطالب خوف أن يأتي غيره بأثبت مما أتى به، ولا يؤخذ منه حميل، وإنما يدفعه له الإمام ويشهد عليه، فإن جاء غيره بأثبت منه نزعه منه ودفعه لذلك الغير (أو بشهادة رجلين) عدلين (من الرفقة) ، وأولى من غيرهم بلا استيناء؛ ولذا أخر البينة عن الاستيناء فتجوز شهادة بعضهم لبعض ما لم يشهد العدل لأبيه أو ابنه أو نحوهما، وأولى لنفسه على أن ما يصدر من الشخص لنفسه لا يسمى شهادة، (وإنما هو دعوى فلا حاجة لقوله: (لأنفسهما) وبقي الرجل والمرأتان أو أحدهما مع يمين الطالب، والظاهر أنه كالعدلين لثبوت الأموال بذلك، فكأنه احترز بالرجلين عن الرجل بلا يمين معه من الطالب.
(ولو شهد اثنان عدلان عند الحاكم على رجل اشتهر بالحرابة (أنه) أي هذا الشخص هو (المشهر بها) أي بالحرابة عند الناس (ثبتت) الحرابة بشهادتهما، (وإن لم يعايناها) منه فللإمام قتله بشهادتهما، (وسقط حدها) أي الحرابة دون غيرها كالزنا والقذف والشرب والقتل، (بإتيان الإمام طائعا) قبل القدرة عليه لا إن تاب بعد القدرة عليه، (أو ترك ما هو عليه) من الحرابة، وإن لم يأت الإمام، وإنما عليه غرم ما أخذه مطلقا أيسر أو أعسر بقي ما أخذه أم لا كما قدمه.(11/93)
مذهب الشافعية
أ - قال الشافعي في الأم (حد قاطع الطريق) :
قال الشافعي - رحمه الله - قال الله - تبارك وتعالى -: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} (1) الآية. قال الشافعي أخبرنا إبراهيم (2) عن صالح مولى التوأمة (3) عن ابن عباس في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال: قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يصلبوا المال: قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا: قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا هربوا: طلبوا حتى يوجدوا فتقام عليهم الحدود، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا: نفوا من الأرض.
(قال الشافعي) : وبهذا نقول: وهو موافق معنى كتاب الله - تبارك وتعالى -، وذلك أن الحدود إنما نزلت فيمن أسلم، فأما أهل الشرك فلا حدود فيهم إلا القتل أو السباء والجزية، واختلاف حدودهم باختلاف أفعالهم على ما قال ابن عباس - رضي الله عنهما إن شاء الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (4) فمن تاب قبل أن يقدر عليه سقط حق الله عنه وأخذ بحقوق بني آدم، ولا يقطع من قطاع الطريق إلا من أخذ قيمة ربع دينار فصاعدا قياسا على السنة في السارق.
(قال الشافعي) - رحمه الله -: والمحاربون الذين هذه حدودهم: القوم يعرضون بالسلاح للقوم حتى يغصبوهم مجاهرة في الصحاري والطرق، (قال) : رأى ذلك في ديار أهل البادية وفي القرى سواء، إن لم يكن من كان في المصر أعظم ذنبا فحدودهم واحدة، فإذا عرض اللصوص لجماعة أو واحد مكابرة بسلاح فاختلف أفعال المعارضين فكان منهم من قتل وأخذ المال، ومنهم من قتل ولم يأخذ مالا، ومنهم من أخذ مالا ولم يقتل، ومنهم من كثر الجماعة وهيب، ومنهم من كان ردا للصوص يتقوون بمكانه، أقيمت عليهم الحدود باختلاف أفعالهم على ما وصفت وينظر إلى من قتل منهم وأخذ مالا، فيقتله ويصلبه وأحب إلي أن يبدأ بقتله قبل صلبه؛ لأن في صلبه وقتله على الخشبة تعذيبا له يشبه المثلة، وقد قال غيري: يصلب ثم يطعن فيقتل، وإذا قتل ولم يأخذ مالا قتل ودفع إلي أوليائه فيدفنوه أو يدفنه غيرهم، ومن أخذ مالا ولم يقتل قطعت يده اليمنى ثم حسمت ثم رجله
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) هو ابن محمد بن أبي يحيى الأسلمي، قال ابن حجر في التقريب: متروك.
(3) هو ابن نبهان المدني، قال ابن حجر في التقريب: صدوق اختلط بأخرة.
(4) سورة المائدة الآية 34(11/94)
اليسرى، ثم حسمت في مكان واحد وخلي، ومن حضر وكثر وهيب، أو كان ردا يدفع عنهم، عزر وحبس وسواء افترقت أفعالهم كما وصفت في مقام واحد، أو كانت جماعة كابرت ففعلت فعلا واحدا مثل قتل وحده، أو قتل وأخذ مال أو أخذ مال بلا قتل، حد كل واحد منهم حد مثله بقدر فعله، ولو هيبوا ولم يبلغوا قتلا ولا أخذ مال عزروا، ولو هيبوا وجرحوا أقص منهم بما فيه القصاص وعزروا وحبسوا، ولو كان القاتل قتل منهم رجلا وجرح آخر أقص صاحب الجرح منه ثم قتل، وكذلك لو كان أخذ المال وجرح أقص صاحب الجرح ثم قطع لا تمنع حقوق الله حقوق الآدميين في الجراح وغيرها، ولو كانت الجراح مما لا قصاص فيه، وهي عمد فأرشها كلها في مال الجارح يؤخذ دينا من ماله، وإن قتل أو قطع فأراد أهل الجارح عفو الجراح فذلك لهم، وإن أراد أولياء المقتولين عفو دماء من قتلوا لم يكن ذلك بحقن دماء من عفوا عنه، وكان على الإمام أن يقتلهم إذا بلغت جنايتهم القتل، (قال الشافعي) - رحمه الله -: وأحفظ عن بعض أهل العلم قبلنا أنه قال: يقتلون، وإن قتلوا عبدا أو ذميا على مال يأخذونه، وهذا مخالف للقتل على غير الغيلة، (قال) : ولقوله هذا وجه؛ لأن الله - عز وجل - ذكر القتل والصلب فيمن حارب وسعى في الأرض فسادا؛ فيحتمل أن يكون إذا نيل هذا من عبد أو ذمي من المحاربة أو الفساد، ويحتمل أن يكونوا إذا فعلوا ما في مثله القصاص، وإن كنت أراه قد خالف سبيل القصاص في غيره؛ لأن دم القاتل فيه لا يحقن بعفو الولي عنه، ولا يصلحه لو صالح فيه كان الصلح مردودا، وفعل المصالح؛ لأنه حد من حدود الله - عز وجل - ليس فيه خبر يلزم فيتبع، ولا إجماع أتبعه، ولا قياس بتفرق فيصح، وإنما أستخير الله فيه.(11/95)
الشهادات والإقرار في السرقة وقطع الطريق وغير ذلك
(قال الشافعي) - رحمه الله -: ولا يقام على سارق ولا محارب حدا إلا بواحد من وجهين:
إما شاهدان عدلان يشهدان عليه بما في مثله الحد، وإما باعتراف يثبت عليه حتى يقام عليه الحد، وعلى الإمام أن يقف الشاهدين في السرقة حتى يقولا: سرق فلان، ويثبتاه بعينه وإن لم يثبتاه باسمه ونسبه متاعا لهذا يساوي ربع دينار، وحضر المسروق منه يدعي ما قال الشاهدان، فإن كذب الشاهدين لم يقطع السارق، وإن لم يحضر حبس السارق حتى يحضر(11/95)
فيدعي أو يكذب الشاهدين، وإذا ادعى مرة كفى ما لم يرجع بعدها، فإذا لم يعرفا القيمة شهدا على المتاع بعينه أو صفة يثبتانها أنها أكثر ثمنا من ربع دينار، ويقولان: سرق من حرز، ويصفان الحرز، لا يقبل منهما غير صفته؛ لأنه قد يكون عندهما حرزا وليس عند العلماء بحرز، فإذا اجتمع هذا أقيم عليه الحد، وكذلك يشهد الشاهدان على قطاع الطريق بأعيانهم وإن لم يسموا أسماءهم وأنسابهم أنهم عرضوا بالسلاح لهؤلاء أو لهذا بعينه وأخافوه بالسلاح ونالوا منه ثم فعلوا ما فيه حد، فإن شهدوا على أخذ المتاع شهدوا كما يشهد شهود السارق على متاع بعينه أو بقيمته أو بصفته كما وصفت في شهادة السارق ويحضر أهل المتاع وأولياء المقتول، وإن شهد شاهدان من أهل رفقته أن هؤلاء عرضوا لنا فنالونا وأخذوا منا أو من بعضنا لم تجز شهادتهما؛ لأنهما خصمان ويسعهما أن يشهدا أن هؤلاء عرضوا لهؤلاء ففعلوا وفعلوا، ونحن ننظر.
وليس على الإمام عندي أن يقفهم فيسألهم هل كنتم فيهم؟ لأن أكثر الشهادة عليهم هكذا، فإن شهدوا أن هؤلاء عرضوا ففعل بعضهم لا يثبت أيهم فعل من أيهم لم يفعل، لم يؤخذوا بهذه الشهادة حتى يثبت الفعل على فاعل بعينه، وكذلك السرقة.
(قال الشافعي) - رحمه الله -: ولا يجوز في الحدود شهادة النساء، ولا يقبل في السرقة ولا قطع الطريق أقل من شاهدين، ولا يقبل فيه شاهد ويمين، وكذلك حتى يبينوا الجارح والقاتل وأخذ المتاع بأعيانهم، فإن لم يوجد شاهدان فجاء رب السرقة بشاهد حلف مع شاهده وأخذ سرقته بعينها أو قيمتها يوم سرقت إن فاتت؛ لأن هذا مال يستحقه، ولم يقطع السارق وإن جاء بشاهد وامرأتين أخذ سرقته بعينها أو قيمتها يوم سرقها، فإن هذا مال، وتجوز شهادة النساء فيه، ولا يختلف، وهكذا يفعل من طلب قطاع الطريق بكل مال أخذوه، وإن طلب جرحا يقتص منه وجاء بشاهد لم يقسم في الجراح، وأحلف المدعى عليه وبرئ، وإن طلب جرحا لا قصاص فيه وجاء بشاهد أحلف مع شاهده وأخذ الأرش، وإن جاء بشاهد على سرقته من حرز أو غير حرز أحلف مع شاهده وأخذ السرقة أو قيمتها إن لم توجد، ولا يقطع أحد بشاهد ويمين، ولا يقتص منه من جرح ولا بشاهد وامرأتين، وإن أقر السارق بالسرقة، ووصفها وقيمتها، وكانت مما يقطع به قطع. (قال الربيع) : يقطع إلا أن يرجع فلا يقطع، وتؤخذ منه قيمة السلعة التي أتلف على ما أقر به أولا، (قال الشافعي) - رحمه الله -: وقاطع الطريق كذلك، ولو أقر بقتل فلان وجرح فلان وأخذ مال فلان أو بعض ذلك فيكفي كل واحد منهما الإقرار مرة، ويلزم(11/96)
كل واحد منهما ما أقر به على ما أقر به فيحدان معا حدهما، ويقتص ممن عليه القصاص منهما، ويغرم كل واحد منهما ما يلزمه كما يفعل به لو قامت به عليه بينة عادلة، فإن أقرا بما وصفت ثم رجعا قبل أن يقام عليهما الحد لم يقم عليهما حد القطع ولا القتل ولا الصلب بقطع الطريق، ولزمهما حقوق الناس وأغرم السارق قيمة ما سرق، وأغرم قاطع الطريق قيمة ما أقر أنه أخذ لأصحابه، وإن كان في إقراره أنه قتل فلانا دفع إلى وليه، فإن شاء قتله، وإن شاء أخذ منه الدية، وإن شاء عفا عنه؛ لأنه ليس بالحد يقتل، إنما يقتل باعتراف قد رجع عنه، ولو ثبت على الاعتراف قتل، ولم يحقن دمه عفو الولي عنه، وإن كان أقر بجرح، وكان يقتص منه اقتص منه، وإن كان لا يقتص منه أخذ أرشه من ماله، ولو قال: أصبته بذلك الجرح خطأ أخذ من ماله، لا تعقل عاقلته عنه اعترافا، ولو قطعت بعض يد السارق بالإقرار ثم رجع كف عن قطع ما بقي من يده، إلا أن يأمر هو بها على أنه لا يصلحه إلا ذلك، فإن شاء من أمره قطعه، وإن شاء فلا، هو حينئذ يقطع على العيب، ولو قطعت يد المعترف بقطع الطريق ثم رجع لم تقطع رجله إذا كان لا يقام عليه إلا باعترافه، إلا أن تثبت بينة عليه فسواء تقدم رجوعه أو تأخر، أو وجد المانع للحد خوفا منه أو لم يجده، وتؤخذ منهما حقوق الناس كما وصفت قبل هذه المسألة.
(قال الشافعي) ذكر الله - تبارك وتعالى - حد استتابة المحارب فقال - عز وجل -: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (1) فمن أخاف في المحاربة الطريق وفعل فيها ما وصفت من قتل أو جرح وأخذ مال أو بعضه، فاختلف أصحابنا فيه فقال بعضهم: كل ما كان لله - عز وجل - من حد يسقط فلا يقطع، وكل ما كان للآدميين لم يبطل يجرح بالجرح، ويؤخذ منه أرشه إن لم يكن فيه قصاص، ويؤخذ منه قيمة ما أخذ، وإن قتل دفع إلى أولياء القتيل، فإن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا عفوا ولا يصلب، وإن عفا جاز العفو؛ لأنه إنما يصير قصاصا لا حدا، وبهذا أقول، وقال بعضهم: يسقط عنه ما لله - عز وجل - وللناس كله إلا أن يوجد عنده متاع رجل بعينه فيدفعه إليه.
(قال الشافعي) والله أعلم السارق مثله قياسا عليه، فيسقط عنه القطع، ويؤخذ بغرم ما سرق، وإن فات ما سرق.
__________
(1) سورة المائدة الآية 34(11/97)
ب - وقال مؤلف نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ما نصه:
(باب قاطع الطريق)
أي أحكامهم، وقطعه هو البروز لأخذ مال أو لقتل أو إرهاب مكابرة اعتمادا على الشوكة مع البعد عن الغوث كما سيأتي، والأصل فيه قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) الآية، قال جمهور العلماء: إنما نزلت في قطاع الطريق لا في الكفار، واحتجوا له بقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (2) الآية، إذ المراد التوبة عن قطع الطريق، ولو كان المراد الكفار لكانت توبتهم بإسلامهم، وهو دافع للعقوبة قبل القدرة وبعدها، (هو مسلم) لا حربي لعدم التزامه أحكامنا، ولا معاهد ومؤمن، أما الذمي فيثبت له حكم قطع الطريق كما قاله ابن المنذر في الإشراف، وصرح به الشافعي، قال الزركشي: وهو قضية إطلاق الأصحاب فإنهم لم يشرطوا الإسلام. اهـ.
ويمكن أن يقال: إنه مخصوص بغير الذمي، أو أن جميع أحكام قطاع الطريق لا تتأتى فيهم، أو أنه خرج بقوله مسلم الكافر، وفيه تفصيل، وهو أنه إن كان ذميا ثبت له حكم قطع الطريق، أو حربيا أو معاهدا أو مؤمنا فلا، والمفهوم إذا كان فيه تفصيل لا يرد (مكلف) أو سكران يختار، ولو قلنا: وامرأة فلا عقوبة على صبي ومجنون ومكره، وإن ضمنوا النفس والمال (له شوكة) أي قوة وقدرة، ولو واحدا يغلب جمعا، وقد تعرض للنفس أو البضع أو المال مجاهرا، (لا مختلسون يتعرضون لآخر قافلة يعتمدون الهرب) ؛ لانتفاء الشوكة فحكمهم قودا أو ضمانا كغيرهم، والفرق عسر دفع ذي الشوكة بغير السلطان فغلظت عقوبته ردعا له، بخلاف نحو المختلس.
(والذين يغلبون شرذمة بقوتهم قطاع في حقهم) لاعتمادهم على الشوكة بالنسبة إليهم، (لا لقافلة عظيمة) ، إذ لا قوة لهم بالنسبة إليهم، فالشوكة أمر نسبي فلو فقدت بالنسبة لجمع يقاومونهم لكن استسلموا لهم حتى أخذوهم، لم يكونوا قطاعا وإن كانوا ضامنين لما أخذوه؛ لأن ما فعلوه لا يصدر عن شوكتهم بل عن تفريط القافلة، (وحيث يلحق غوث) لو استغاثوا (ليسوا بقطاع) بل منتهبون (وفقد الغوث يكون للبعد) عن العمران أو السلطان (أو الضعف) بأهل العمران أو بالسلطان أو بغيرهما، كأن دخل جمع دارا وشهروا السلاح ومنعوا أهلها من الاستغاثة، فهم قطاع في حقهم، وإن كان السلطان موجودا قويا (وقد يغلبون والحالة هذه) أي وقد ضعف السلطان أو
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) سورة المائدة الآية 34(11/98)
بعد هو وأعوانه (في بلد) لعدم من يقاومهم من أهلها (فهم قطاع) كالذين بالصحراء، وأولى لعظم جراءتهم.
ولو علم الإمام قوما يخيفون الطريق أو واحدا ولم يأخذوا مالا أي نصابا (ولا) قتلوا نفسا عزرهم وجوبا ما لم ير في تركه مصلحة، كما يؤاخذ من باب التعزير (بحبس وغيره) ردعا لهم عن هذه الأمور الفظيعة. وقد فسر النفي في الآية بالحبس، ومن ثم كان أولى من غيره، فلا يتعين وله جمع غيره معه كما اقتضاه كلام المصنف، ويرجع في قدره وقدر غيره وجنسه لرأي الإمام، ولا يتعين الحبس كما هو ظاهر ولا يتقدر بمدة، والأولى استدامته إلى ظهور توبته، وأن يكون بغير بلده وأفهم قوله علم أن له الحكم بعلمه هنا نظرا لحق الآدمي.
(وإذا أخذ القاطع نصاب السرقة) ، ولو لجمع اشتركوا فيه واتحد حرزه وتعتبر قيمة محل الأخذ بفرض أن لا قطاع، ثم إن كان محل بيع، وإلا فأقرب محل بيع إليه من حرزه كأن يكون معه أو بقربه ملاحظ بشرطه المار من قوته أو قدرته على الاستغاثة، قاله الماوردي.
لا يقال القوة والقدرة تمنع قطع الطريق لما مر أنه حيث لحق غوث لو استغيث لم يكونوا قطاعا؛ لأنا نمنع ذلك؛ إذ القوة والقدرة بالنسبة للحرز غيرهما بالنسبة لقطع الطريق؛ لأنه لا بد فيه من خصوص الشوكة ونحوها كما علم مما مر بخلاف الحرز يكفي فيه مبالاة السارق به عرفا، وإن لم يقاوم السارق من غير شبهة مع بقية شروطها المارة، ويثبت ذلك برجلين لا بغيرهما إلا بالنسبة للمال وطلب المالك نظير ما مر في السرقة (قطعت يده اليمين) للمال كالسرقة (ورجله اليسرى) للمحاربة كما قاله العمراني، وجزم به ابن المقري تبعا للروضة بعد ذلك، ومع ذلك هو حد واحد، وخولف بينهما لئلا تفوت المنفعة كلها من جانب واحد، ولو فقدت إحداهما ولو قبل أخذ المال ولو لشللها وعدم أمن نزف الدم اكتفي بالأخرى، ولو عكس ذلك بأن قطع الإمام يده اليمنى. ورجله اليمنى فقد تعدى ولزمه القود في رجله إن تعمد وإلا فديتها، ولا يسقط قطع رجله اليسرى، ولو قطع يده اليسرى ورجله اليمنى فقد أساء، ولا يضمن وأجزاه والفرق أن قطعهما من خلاف نص يوجب مخالفته الضمان، وتقديم اليمنى على اليسرى اجتهاد يسقط بمخالفة الضمان. ذكره الماوردي والروياني، وتوقف الأذرعي في إيجاب القود وعدم الإجزاء في الحالة الأولى.
قال الزركشي: وقضية الفرق أنه لو قطع في السرقة يده اليسرى في المرة الأولى عامدا أجزأ؛ لأن تقديم اليمنى عليها بالاجتهاد(11/99)
أي وليس كذلك كما مر، وأجيب بعدم تسليم أن تقديم اليمنى تم بالاجتهاد بل بالنص، لما مر أنه قرئ شاذا "فاقطعوا أيمانهما"، وأن القراءة الشاذة كخبر الواحد. وينبغي كما قاله الأذرعي مجيء ما مر في السرقة هنا من توقف القطع على طلب المالك، وعلى عدم دعوى التملك ونحوه من المسقطات، فقد قال البلقيني: إنه القياس، وفي الأم ما يقتضيه ولا بد من انتفاء الشبهة كما في التنبيه، ويحسم موضع القطع كما في السارق، ويجوز أن تحسم اليد ثم تقطع الرجل، وأن يقطعا جميعا ثم يحسما، فإن فقدتا قبل الأخذ أو عاد ثانيا بعد قطعهما إلى أخذ المال فيسراه ويمناه يقطعان للآية، (وإن قتل) قتلا يوجب القود ولو بسراية جرح مات منه بعد أيام قبل الظفر به والتوبة، قتل حتما؛ لأن المحاربة تفيد زيادة ولا زيادة هنا إلا التحتم فلا يسقط بعفو مستحق القود، ويستوفيه الإمام؛ لأنه حقه تعالى.
قال البندنيجي: وإنما يتحتم، إن قتل لأخذ المال واعتمده البلقيني وهو الأوجه، (وإن قتل) قتلا يوجب القود (وأخذ مالا) يقطع به في السرقة، كما دل عليه كلامهما، وإن نازع فيه البلقيني قتل بلا قطع ثم غسل كفن وصلي عليه، ثم صلب مكفنا معترضا على نحو خشبة، ولا يقدم الصلب على القتل لكونه زيادة تعذيب ثلاثا من الأيام بلياليها وجوبا، ولا تجوز الزيادة عليها ليشتهر الحال ويتم النكال، وحذف التاء لحذف المعدود سائغ، ثم ينزل إن لم يخف تغيره قبلها وإلا أنزل حينئذ.
قال الأذرعي: وكان المراد بالتغير هنا الانفجار ونحوه، وإلا فمتى حبست جيفة الميت ثلاثا حصل النتن والتغير غالبا، وقيل: يبقى وجوبا حتى يتهرى ويسيل صديده تغليظا عليه. ومحل قتله وصلبه محل محاربته إلا أن لا يكون محل مرور الناس فأقرب محل إليه.
وظاهر أن هذا مندوب لا واجب، وفي قول يصلب حيا قليلا ثم ينزل فيقتل؛ لأن الصلب عقوبة فيفعل به حيا، واعتراض قوله قليلا بأنه زيادة لم تحك عن هذا القول، فإن أريد به ثلاثة أيام كان أحد أوجه ثلاثة مفرعة على هذا القول لا أنه من جملته. ويجاب: بأن من حفظ حجة على من لم يحفظ، فإذا حفظا أن قليلا من جملة هذا القول قدما، ثم الذي يتجه أن المراد به أدنى زمن ينزجر به عرفا غيره.
وافهم ترتيبه الصلب على القتل أنه يسقط بموته حتف أنفه، وبقتله بغير هذه الجهة كقود في غير المحاربة؛ إذ التابع يسقط بسقوط متبوعه، وبما تقرر فسر ابن عباس - رضي الله عنهما - الآية فإنه جعل (أو) فيها للتنويع لا للتخيير، حيث قال: المعنى أن يقتلوا إن قتلوا أو يصلبوا مع ذلك إن قتلوا وأخذوا المال، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن أخذوه فقط،(11/100)
أو ينفوا من الأرض إن أرعبوا ولم يأخذوه، وهذا منه إما توقيف وهو الأقرب أو لغة، وكل منهما من مثله حجة؛ لأنه ترجمان القرآن؛ ولأن الله تعالى بدأ فيه بالأغلظ فكان مرتبا ككفارة الظهار، ولو أريد التخيير لبدأ بالأخف ككفارة اليمين، ومن أعانهم وكثر جمعهم مقتصرا على ذلك عزر بحبس وتغريب وغيرهما كبقية المعاصي، وتعبير أصله (بأو) لا ينافي كلام المصنف؛ إذ المرجع إلى رأي الإمام نظير ما مر فيمن أخافوا الطريق، (وقيل: يتعين التغريب إلى حيث يراه) الإمام وما تقتضيه المصلحة، وقيل: القاطع المتحتم يغلب فيه معنى القصاص، إذ الأصل في اجتماع حقه تعالى.
وحق الآدمي تغليب الثاني لكونه مبنيا على التضييق، وفي قول الحد لعدم صحة العفو عنه، ويستقل الإمام باستيفائه، فعلى الأول تلزمه الكفارة ولا يقتل بولده وإن سفل، وذمي وقن للأصالة أو لعدم الكفاءة، بل تلزمه الدية أو القيمة، وعلى الأول أيضا لو مات القاطع بلا قطع فدية للمقتول في ماله إن كان حرا، وإلا فقيمته، وعليه أيضا لو قتل جمعا معا، قتل بواحد وللباقين ديات، فإن قتلهم مرتبا قتل بالأول، وعليه أيضا لو عفا وليه بمال وجب وسقط القصاص، ويقتل حدا كما لو وجب قتل على مرتد فعفا عنه وليه، وعليه أيضا لو قتل بمثقل أو بقطع عضو فعل به مثله) رعاية للمماثلة كما مر في فصل القود، وإن نازع فيه البلقيني بأنه يقتل بالسيف على القولين، وقال: إن النص يقتضيه ويختص التحتم بالقتل والصلب دون غيرهما، فحينئذ لو جرح جرحا فيه قود كقطع يد فاندمل أو قتله عقبه لم يتحتم قصاص فيه في ذلك الجرح في الأظهر، بل يتخير المجروح بين القود والعفو على مال أو غيره؛ لأن التحتم تغليظ لحقه تعالى فاختص بالنفس كالكفارة.
أما إذا سرى إلى النفس فيتحتم القتل كما مر، والثاني يتحتم كالقتل، والثالث في اليدين والرجلين للشروع فيها القطع حدا دون غيرهما كالأذن والأنف والعين، وتسقط عقوبات تخص القاطع من تحتم وصلب وقطع رجل وكذا يد، كما شمل ذلك كلامه؛ لأن المختص به القاطع اجتماع قطعهما فهما عقوبة واحدة إذا سقط بعضها سقط كلها بتوبته عن قطع الطريق قبل القدرة عليه؛ لقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} (1) الآية، والمراد بما قبل القدرة أن لا تمتد إليهم يد الإمام بهرب أو استخفاء أو امتناع، بخلاف ما لا تخصه كالقود وضمان المال لا بعدها، وإن صلح عمله على المذهب لمفهوم الآية، وإلا لم يكن لقبل فيها فائدة، والفرق أنه قبلها غير متهم فيها بخلافه بعدها لاتهامه بدفع الحد. ولو ادعى
__________
(1) سورة المائدة الآية 34(11/101)
بعد الظفر سبق توبة وظهرت أمارة صدقه فوجهان: أوجههما: عدم تصديقه لاتهامه ما لم تقم بها بينة، وقيل في كل منهما قولان، ولا تسقط سائر الحدود المختصة بالله تعالى كحد زنا وسرقة وشرب مسكر بها أي بالتوبة قبل الرفع وبعده، ولو في قاطع الطريق في الأظهر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حد من ظهرت توبته، بل من أخبر عنها بها بعد قتلها. والثاني تسقط بها قياسا على حد قاطع الطريق، وانتصر له جمع، نعم؛ تارك الصلاة يسقط حده بها عليهما ولا يسقط بها عن ذمي بإسلامه كما مر، ومحل الخلاف في الظاهر، أما فيما بينه وبين الله تعالى فحيث صحت توبته سقط بها سائر الحدود قطعا ومن حد في الدنيا لم يعاقب عليه. اهـ.(11/102)
مذهب الحنابلة
قال ابن قدامة - رحمه الله - في المغني ما نصه (كتاب قطاع الطريق)
الأصل في حكمهم قول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (1) وهذه الآية في قول ابن عباس وكثير من العلماء نزلت في قطاع الطريق من المسلمين، وبه يقول مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وحكي عن ابن عمر أنه قال: نزلت هذه الآية في المرتدين، وحكي ذلك عن الحسن وعطاء وعبد الكريم؛ لأن سبب نزولها قصة العرنيين، وكانوا ارتدوا عن الإسلام وقتلوا الرعاة فاستاقوا إبل الصدقة؛ فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - من جاء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وألقاهم في الحرة حتى ماتوا، قال أنس: فأنزل الله تعالى في ذلك: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ} (2) الآية، أخرجه أبو داود والنسائي، ولأن محاربة الله ورسوله إنما تكون من الكفار لا من المسلمين.
ولنا قول الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (3) والكفار تقبل توبتهم بعد القدرة كما تقبل قبلها، ويسقط عنهم القتل والقطع في كل حال، والمحاربة قد تكون من المسلمين بدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (4) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (5) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) سورة المائدة الآية 33
(3) سورة المائدة الآية 34
(4) سورة البقرة الآية 278
(5) سورة البقرة الآية 279(11/102)
مسألة: قال: (المحاربون الذين يعرضون للقوم بالسلاح في الصحراء فيغصبونهم المال مجاهرة) .
وجملته أن المحاربين الذين تثبت لهم أحكام المحاربة التي نذكرها بعد تعتبر لهم شروط ثلاثة: (أحدها) : أن يكون ذلك في الصحراء، فإن كان ذلك منهم في القرى والأمصار فقد توقف أحمد - رحمه الله - فيهم، وظاهر كلام الخرقي أنهم غير محاربين، وبه قال أبو حنيفة والثوري وإسحاق؛ لأن الواجب يسمى حد قطاع الطريق وقطع الطريق إنما هو في الصحراء؛ ولأن من في المصر يلحق به الغوث غالبا؛ فتذهب شوكة المعتدين ويكونون مختلسين، والمختلس ليس بقاطع ولا حد عليه، وقال كثير من أصحابنا: هو قاطع حيث كان، وبه قال الأوزاعي والليث والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور لتناول الآية بعمومها كل محارب؛ ولأن ذلك إذا وجد في المصر كان أعظم خوفا وأكثر ضررا فكان بذلك أولى.
يشترط في المحاربين أن يكون معهم سلاح وأن يأتوا مجاهرة. . . إلخ.
وذكر القاضي أن هذا إن كان في المصر مثل أن كبسوا دارا، فكان أهل الدار بحيث لو صاحوا أدركهم الغوث، فليس هؤلاء بقطاع طريق؛ لأنهم في موضع يلحقهم الغوث عادة، وإن حصروا قرية أو بلدا ففتحوه وغلبوا على أهله أو محلة منفردة بحيث لا يدركهم الغوث عادة فهم محاربون؛ لأنهم لا يلحقهم الغوث، فأشبه قطاع الطريق في الصحراء.
(الشرط الثاني) أن يكون معهم سلاح، فإن لم يكن معهم سلاح فهم غير محاربين؛ لأنهم لا يمنعون من يقصدهم، ولا نعلم في هذا خلافا، فإن عرضوا بالعصي والحجارة فهم محاربون، وبه قال الشافعي وأبو ثور، وقال أبو حنيفة ليسوا محاربين؛ لأنه لا سلاح معهم.
ولنا أن ذلك من جملة السلاح الذي يأتي على النفس والطرف فأشبه الحديد.
(الشرط الثالث) أن يأتوا مجاهرة ويأخذوا المال قهرا، فأما إن أخذوه مختفين فهم سراق، وإن اختطفوه وهربوا فهم منتهبون لا قطع عليهم، وكذلك إن خرج الواحد والاثنان على آخر قافلة فاستلبوا منها شيئا فليسوا بمحاربين؛ لأنهم لا راجعون إلى منعة(11/103)
وقوة، وإن خرجوا على عدد يسير فقهروهم فهم قطاع طريق.
مسألة - قال: (فمن قتل منهم وأخذ المال قتل وإن عفا صاحب المال، وصلب حتى يشتهر ودفع إلى أهله، ومن قتل منهم ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب، وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد ثم حسمتا وخلي) .
روينا نحو هذا عن ابن عباس وبه قال قتادة ومجلز وحماد والليث والشافعي وإسحاق، وعن أحمد أنه إذا قتل وأخذ المال قتل وقطع؛ لأن كل واحدة من الجنايتين توجب حدا منفردا فإذا اجتمعا وجب حدهما معا كما لو زنى وسرق، وذهبت طائفة إلى أن الإمام مخير فيهم بين القتل والصلب، والقطع والنفي؛ لأن (أو) تقتضي التخيير كقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (1) ، وهذا قول سعيد بن المسيب، وعطاء ومجاهد والحسن والضحاك والنخعي وأبي الزناد وأبى ثور وأبي داود، وروي عن ابن عباس ما كان في القرآن (أو) فصاحبه بالخيار، وقال أصحاب الرأي: إن قتل قتل، وإن أخذ المال قطع، وإن قتل وأخذ المال فالإمام مخير بين قتله وصلبه، وبين قتله وقطعه، وبين أن يجمع له ذلك كله؛ لأنه قد وجد منه ما يوجب القتل والقطع فكان للإمام فعلهما كما لو قتل وقطع في غير قطع طريق، وقال مالك: إذا قطع الطريق فرآه الإمام جلدا ذا رأي قتله، وإن كان جلدا لا رأي له قطعه ولم يعتبر فعله.
ولنا على أنه لا يقتل إذا لم يقتل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ولا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حق (2) » ، فأما (أو) فقد قال ابن عباس مثل قولنا، فإما أن يكون توقيفا أو لغة وأيهما كان فهو حجة يدل عليه أنه بدأ بالأغلظ فالأغلظ، وعرف القرآن فيما أريد به التخيير البداءة بالأخف ككفارة اليمين، وما أريد به الترتيب بدئ فيه بالأغلظ فالأغلظ ككفارة الظهار والقتل، ويدل عليه أيضا أن العقوبات تختلف باختلاف الإجرام؛ ولذلك اختلف حكم الزاني والقاذف
__________
(1) سورة المائدة الآية 89
(2) رواه البخاري في الديات ورواه مسلم في القسامة بهذا المعنى ورواه أبو داود في الديات ص640 واللفظ له.(11/104)
والسارق، وقد سووا بينهم مع اختلاف جناياتهم، وهذا يرد على مالك فإنه إنما اعتبر الجلد والرأي دون الجنايات، وهو مخالف للأصول التي ذكرناها.
وأما قول أبي حنيفة فلا يصح؛ لأن القتل لو وجب لحق الله تعالى لم يخير الإمام فيه كقطع السارق، وكما لو انفرد بأخذ المال، ولأن الحدود لله تعالى إذا كان فيها قتل سقط ما دونه كما لو سرق وزنى وهو محصن.
وقد روي عن ابن عباس قال: «وادع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا برزة الأسلمي فجاء ناس يريدون الإسلام فقطع عليهم أصحابه فنزل جبريل - عليه السلام - بالحد فيهم: أن من قتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن قتل ولم يأخذ المال قتل، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف» ، وقيل: إنه رواه أبو داود وهذا كالمسند، وهو نص، فإذا ثبت هذا فإن قاطع الطريق لا يخلو من أحوال خمس:
(الأول) إذا قتل وأخذ المال فإنه يقتل ويصلب في ظاهر المذهب، وقتله متحتم لا يدخله عفو. أجمع على هذا كل أهل العلم، قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من تحفظ عنه من أهل العلم. روي ذلك عن عمر، وبه قال سليمان بن موسى والزهري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي؛ ولأنه حد من حدود الله تعالى فلم يسقط بالعفو كسائر الحدود.
وهل يعتبر التكافؤ بين القاتل والمقتول، فيه روايتان: (إحداهما) : لا يعتبر بل يؤخذ الحر بالعبد، والمسلم بالذمي، والأب بالابن؛ لأن هذا القتل حد الله تعالى فلا تعتبر فيه المكافأة كالزنا والسرقة. (والثانية) : تعتبر المكافأة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقتل مسلم بكافر (1) » ، والحد فيه انحتامه بدليل أنه لو تاب قبل القدرة عليه سقط الانحتام ولم يسقط القصاص، فعلى هذه الرواية إذا قتل المسلم ذميا أو الحر عبدا أو أخذ ماله قطعت يده ورجله من خلاف لأخذه المال، وغرم دية الذمي وقيمة العبد، وإن قتله ولم يأخذ مالا غرم ديته ونفي، وذكر القاضي أنه إنما يتحتم قتله إذا قتله ليأخذ المال، وإن قتله لغير ذلك مثل أن يقصد لعداوة بينهما، فالواجب قصاص غير متحتم، وإذا قتل صلب لقول الله تعالى: {أَوْ يُصَلَّبُوا} (2) والكلام فيه في ثلاثة أمور:.
(أحدهما) : في وقته، ووقته بعد القتل، وبهذا قال الشافعي، وقال الأوزاعي ومالك والليث وأبو حنيفة وأبو يوسف: يصلب حيا ثم يقتل مصلوبا يطعن بالحربة؛ لأن الصلب عقوبة، وإنما يعاقب الحي لا الميت، ولأنه جزاء على المحاربة فيشرع في
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (487) ، سنن النسائي التطبيق (1134) ، سنن أبو داود الصلاة (872) ، مسند أحمد بن حنبل (6/149) .
(2) سورة المائدة الآية 33(11/105)
الحياة كسائر الأجزية، ولأن الصلب بعد قتله يمنع تكفينه ودفنه فلا يجوز.
ولنا أن الله تعالى قدم القتل على الصلب لفظا، والترتيب بينهما ثابت بغير خلاف؛ فيجب تقديم الأول في اللفظ كقوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (1) ، ولأن القتل إذا أطلق في لسان الشرع كان قتلا بالسيف، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة (2) » ، وأحسن القتل، هو القتل بالسيف، وفي صلبه حيا تعذيب له، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تعذيب الحيوان، وقولهم: إنه جزاء على المحاربة، قلنا: لو شرع لردعه لسقط بقتله كما يسقط سائر الحدود مع القتل، وإنما شرع الصلب ردعا لغيره ليشتهر أمره، وهذا يحصل بصلبه بعد قتله، وقولهم: يمنع تكفينه ودفنه، قلنا: هذا لازم لهم؛ لأنهم يتركونه بعد قتله مصلوبا.
(الثاني) : في قدره ولا توقيت فيه إلا قدر ما يشتهر أمره، قال أبو بكر: لم يوقت أحمد في الصلب، فأقول يصلب قدر ما يقع عليه الاسم، والصحيح توقيته بما ذكر الخرقي من الشهرة؛ لأن المقصود يحصل به، وقال الشافعي: يصلب ثلاثا، وهو مذهب أبي حنيفة، وهذا توقيت بغير توقيف، فلا يجوز مع أنه في الظاهر يقضي إلى تغيره ونتنه وأذى المسلمين برائحته ونظره، ويمنع تغسيله وتكفينه ودفنه فلا يجوز بغير دليل.
(الثالث) : في وجوبه وهذا واجب حتم في حق من قتل وأخذ المال لا يسقط بعفو ولا غيره، وقال أصحاب الرأي: إن شاء الإمام صلب، وإن شتاء لم يصلب.
ولنا حديث ابن عباس أن جبريل نزل بأن من قتل وأخذ المال صلب؛ ولأنه شرع حدا فلم يتخير بين فعله وتركه كالقتل وسائر الحدود، إذا ثبت هذا فإنه إذا اشتهر أنزل ودفع إلى أهله فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن.
(فصل) وإن مات قبل قتله لم يصلب؛ لأن الصلب من تمام الحد، وقد فات الحد بموته فيسقط ما هو من تتمته، وإن قتل في المحاربة بمثقل قتل، كما لو قتل بمحدد؛ لأنهما سواء في وجوب القصاص بهما، وإن قتل بآلة لا يجب القصاص بالقتل بها كالسوط والعصا والحجر الصغير، فظاهر كلام الخرقي أنهم يقتلون أيضا؛ لأنهم دخلوا في العموم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 158
(2) رواه مسلم، في كتاب الصيد والذبائح ص106 (مسلم بشرح النووي ج7.(11/106)
(الحال الثاني) : قتلوا ولم يأخذوا المال فإنهم يقتلون ولا يصلبون. وعن أحمد رواية أخرى أنهم يصلبون؛ لأنهم محاربون يجب قتلهم، فيصلبون كالذين أخذوا المال، والأولى أصح؛ لأن الخبر المروي فيهم قال فيه: «ومن قتل ولم يأخذ المال قتل» ، ولم يذكر صلبا، ولأن جنايتهم بأخذ المال مع القتل تزيد على الجناية بالقتل وحده، فيجب أن تكون عقوبتهم أغلظ، ولو شرع الصلب هنا لاستويا، والحكم في تحتم القتل، وكونه حدا هاهنا كالحكم فيه إذا قتل وأخذ المال.
(فصل) وإذا جرح المحارب جرحا في مثله قصاص فهل يتحتم فيه القصاص، على روايتين:
(إحداهما) : لا يتحتم؛ لأن الشرع لم يرد بشرع الحد في حقه بالجراح، فإن الله تعالى ذكر في حدود المحاربين القتل والصلب والقطع والنفي؛ فلم يتعلق بالمحاربة غيرها فلا يتحتم بخلاف القتل، فإنه حد فتحتم كسائر الحدود فحينئذ لا يجب فيه أكثر من القصاص.
(والثانية) : يتحتم؛ لأن الجراح تابعة للقتل، فيثبت فيها مثل حكمه، ولأنه نوع قود أشبه القود في النفس والأولى أولى، وإن جرحه جرحا لا قصاص فيه كالجائفة فلبس فيه إلا الدية، وإن جرح إنسانا، وقتل آخر اقتص منه للجراح وقتل للمحاربة، وقال أبو حنيفة تسقط الجراح؛ لأن الحدود إنما اجتمعت وفيها قتل، سقط ما سوى البتل.
ولنا أنها جناية يجب بها القصاص في غير المحاربة فيجب بها في المحاربة كالقتل ولا نسلم أن القصاص في الجراح حد، وإنما هو قصاص متمحص فأشبه ما لو كان الجرح في غير المحاربة، وإن سلمنا أنه حد، فإنه مشروع مع القتل فلم يسقط به كالصلب وكقطع اليد والرجل.
(الحال الثالث) : أخذ المال ولم يقتل فإنه تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، وهذا معنى قوله سبحانه: من خلاف، وإنما قطعنا يده اليمنى للمعنى الذي قطعنا به يمنى السارق، ثم قطعنا رجله اليسرى لتتحقق المخالفة، وليكون أرفق به في إمكان مشيه ولا ينتظر اندمال اليد في قطع الرجل بل يقطعان معا، يبدأ بيمينه فتقطع وتحسم ثم برجله؛ لأن الله تعالى بدأ بذكر الأيدي ولا خلاف بين أهل العلم في أنه لا يقطع منه غير يد ورجل إذا كانت يداه ورجلاه صحيحين، فأما إن كان معدوم اليد والرجل، إما لكونه قد قطع في قطع طريق أو سرقة أو قصاص، أو لمرض فمقتضى كلام الخرقي سقوط القطع عنه سواء كانت اليد اليمنى(11/107)
والرجل اليسرى أو بالعكس؛ لأن القطع زيادة في على ذلك يذهب بمنفعة الجنس، إما منفعة البطش أو المشي أو كليهما، وهذا مذهب أبي حنيفة، وعلى الرواية التي تستوفي أعضاء السارق الأربعة يقطع ما بقي من أعضائه، فإن كانت يده اليمنى مقطوعة قطعت رجله اليسرى وحدها، ولو كانت يداه صحيحتين ورجله اليسرى مقطوعة قطعت يمنى يديه ولم يقطع غير ذلك وجها واحدا، وهو مذهب الشافعي، ولا نعلم فيه خلافا؛ لأنه وجد في محل الحد ما يستوفي فاكتفي باستيفائه، كما لو كانت اليد ناقصة بخلاف التي قبلها، وإن كان ما وجب قطعه أشل فذكر أهل الطب أن قطعه يفضي إلى تلفه لم يقطع، وكان حكمه حكم المعدوم، وإن قالوا: لا يفضي إلى تلفه ففي قطعه روايتان ذكرناهما في قطع السارق.
(الحال الرابع) : إذا أخافوا السبيل ولم يقتلوا ولم يأخذوا مالا.
(الحال الخامس) : إذا تابوا قبل القدرة عليهم، ويأتي ذكر حكهما - إن شاء الله تعالى -.
مسألة: قال: (ولا يقطع منهم إلا من أخذ ما يقطع السارق في مثله) .
وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر، قال مالك وأبو ثور: للإمام أن يحكم عليه حكم المحارب؛ لأنه محارب لله ولرسوله، ساع في الأرض بالفساد فيدخل في عموم الآية، ولأنه لا يعتبر الحرز، فكذلك النصاب.
ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا قطع إلا في ربع دينار (1) » ، ولم يفصل، ولأن هذه جناية تعلقت بها عقوبة في حق غير المحارب فلا تتغلظ في المحارب بأكثر من وجه واحد كالقتل يغلظ بالانختام، كذلك ههنا تتغلظ بقطع الرجل معها ولا تتغلظ بما دون النصاب، وأما الحرز فهو معتبر فإنهم لو أخذوا مالا مضيعا لا حافظ له لم يجب القطع، وإن أخذوا ما يبلغ نصابا ولا تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا قطعوا على قياس قولنا في السرقة، وقياس قول الشافعي وأصحاب الرأي أنه لا يجب القطع حتى تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا، ويشترط أيضا أن لا تكون لهم شبهة فيما يأخذونه من المال على ما ذكرنا في المسروق.
__________
(1) رواه النسائي (كتاب قطع السارق ص81.(11/108)
مسألة: قال: (ونفيهم أن يشردوا فلا يتركوا يأوون في بلد)
وجملته: أن المحاربين إذا أخافوا السبيل ولم يقتلوا ولم يأخذوا مالا فإنهم ينفون من(11/108)
الأرض لقول الله تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (1) ويروى عن ابن عباس أن النفي يكون في هذه الحالة، وهو قول النخعي وقتادة وعطاء الخراساني، والنفي هو تشريدهم عن الأمصار والبلدان فلا يتركون يأوون بلدا، ويروى نحو هذا عن الحسن والزهري وعن ابن عباس أنه ينفى من بلده إلى بلد غيره كنفي الزاني، وبه قال طائفة من أهل العلم، قال أبو الزناد: كان منفى الناس إلى باضع من أرض الحبشة، وذلك أقصى تهامة اليمن، وقال مالك: يحبس في البلد الذي ينفى إليه كقوله في الزاني، وقال أبو حنيفة: نفيه حبسه حتى يحدث توبة، ونحو هذا قال الشافعي: فإنه قال في هذه الحال يعزرهم الإمام، وإن رأى أن يحبسهم حبسهم، وقيل عنه: النفي طلب الإمام لهم ليقيم فيهم حدود الله تعالى، وروي ذلك عن ابن عباس، وقال ابن سريج: يحبسهم في غير بلدهم، وهذا مثل قول مالك، وهذا أولى؛ لأن تشريدهم إخراج لهم إلى مكان يقطعون فيه الطريق ويؤذون به الناس، فكان حبسهم أولى، وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى، معناها: أن نفيهم طلب الإمام لهم، فإذا ظفر بهم عزرهم بما يردعهم.
ولنا ظاهر الآية فإن النفي الطرد والإبعاد، والحبس إمساك، وهما يتنافيان، فأما نفيهم إلى غير مكان معين فلقوله سبحانه: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (2) وهذا يتناول نفيه من جميعها، وما ذكروه يبطل بنفي الزاني، فإنه ينفى إلى مكان يحتمل أن يوجد منه الزنا فيه، ولم يذكر أصحابنا قدر مدة نفيهم، فيحتمل أن تتقدر مدته بما تظهر فيه توبتهم، وتحسن سيرتهم، ويحتمل أن ينفوا عاما كنفي الزاني.
مسألة: - قال: (فإن تابوا قبل أن يقدر عليهم قطعت عنهم حدود الله تعالى، وأخذوا بحقوق الآدميين من الأنفس والجراح والأموال إلا أن يعفى لهم عنها) ، لا نعلم في هذا خلافا بين أهل العلم، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي وأبو ثور، والأصل في هذا قول الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) فعلى هذا يسقط عنهم تحتم القتل والصلب والقطع والنفي، ويبقى عليهم القصاص في النفس والجراح وغرامة المال والدية لما لا قصاص فيه. فأما إن تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه شيء من الحدود؛ لقول الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (4) فأوجب عليهم الحد ثم استثنى التائبين قبل القدرة، فمن عداهم يبقى على قضية
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) سورة المائدة الآية 33
(3) سورة المائدة الآية 34
(4) سورة المائدة الآية 34(11/109)
العموم، ولأنه إذا تاب قبل القدرة فالظاهر أنها توبة إخلاص، وبعدها الظاهر أنها تقية من إقامة الحد عليه، ولأن في قبول توبته وإسقاط الحد عنه قبل القدرة ترغيبا في توبته والرجوع عن محاربته وإفساده فناسب ذلك الإسقاط عنه، وأما بعدها فلا حاجة إلى ترغيبه؛ لأنه قد عجز عن الفساد والمحاربة.
(فصل) وإن فعل المحارب ما يوجب حدا لا يختص المحاربة كالزنا والقذف وشرب الخمر والسرقة، فذكر القاضي: أنها تسقط بالتوبة؛ لأنها حدود الله تعالى؛ فتسقط بالتوبة كحد المحاربة، إلا حد القذف فإنه لا يسقط؛ لأنه حق آدمي؛ ولأن في إسقاطها ترغيبا في التوبة، ويحتمل أن لا تسقط؛ لأنها لا تختص المحاربة، فكانت في حقه كهي في حق غيره، وإن أتى حدا قبل المحاربة ثم حارب وتاب قبل القدرة عليه لم يسقط الحد الأول؛ لأن التوبة إنما يسقط بها الذنب الذي تاب منه دون غيره.
(فصل) وإن تاب من عليه حد من غير المحاربين وأصلح، ففيه روايتان:
(إحداهما) يسقط عنه لقول الله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} (1) ، وذكر حد السارق ثم قال: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} (2) ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (3) » ، ومن لا ذنب له لا حد عليه، وقال في ماعز لما أخبر بهربه: «هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه (4) » ، ولأنه خالص حق الله تعالى فيسقط بالتوبة كحد المحارب.
(والرواية الثانية) لا يسقط، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي لقول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (5) ، وهذا عام في التائبين وغيرهم، وقال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (6) ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزا والغامدية، وقطع الذي أقر بالسرقة، وقد جاءوا تائبين يطلبون التطهير بإقامة الحد
__________
(1) سورة النساء الآية 16
(2) سورة المائدة الآية 39
(3) رواه ابن ماجة (كتاب الزهد ص 1420 ذكر صاحب الزوائد، وقال: إسناده صحيح.
(4) سنن أبو داود الحدود (4419) ، مسند أحمد بن حنبل (5/217) .
(5) سورة النور الآية 2
(6) سورة المائدة الآية 38(11/110)
قد سمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلهم توبة، فقال في حق المرأة: «لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم (1) » ، «وجاء عمرو بن سمرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إني سرقت جملا لبني فلان فطهرني (2) » ، وقد أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحد عليهم، ولأن الحد كفارة فلم يسقط بالتوبة ككفارة اليمين والقتل؛ ولأنه مقدور عليه فلم يسقط عنه الحد بالتوبة كالمحارب بعد القدرة عليه.
فإن قلنا بسقوط الحد بالتوبة فهل يسقط بمجرد التوبة أو بها مع إصلاح العمل، فيه وجهان: (أحدهما) : يسقط بمجردها، وهو ظاهر قول أصحابنا؛ لأنها توبة مسقطة للحد فأشبهت توبة المحارب قبل القدرة عليه. (والثاني) يعتبر إصلاح العمل؛ لقول الله تعالى: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} (3) وقال: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} (4) فعلى هذا القول يعتبر مضي مدة يعلم بها صدق توبته وصلاح نيته، وليست مقدرة بمدة معلومة، وقال بعض أصحاب الشافعي مدة ذلك سنة، وهذا توقيت بغير توقيف فلا يجوز.
(فصل) وحكم الردء من القطاع حكم المباشر، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة، وقال الشافعي: ليس على الردء إلا التعزير؛ لأن الحد يجب بارتكاب المعصية، فلا يتعلق بالمعين كسائر الحدود. ولنا أنه حكم يتعلق بالمحاربة، فاستوى فيه الردء والمباشر كاستحقاق الغنيمة، وذلك لأن المحاربة مبنية على حصول المنعة والمعاضدة والمناصرة، فلا يتمكن المباشر من فعله إلا بقوة الردء بخلاف سائر الحدود، فعلى هذا إذا قتل واحد منهم ثبت حكم القتل في حق جميعهم، فيجب قتل جميعهم، وإن قتل بعضهم وأخذ بعضهم المال جاز قتلهم وصلبهم كما لو فعل الأمرين كل واحد منهم.
(فصل) وإن كان فيهم صبي أو مجنون أو ذو رحم من المقطوع عليه لم يسقط الحد من غيره في قول أكثر أهل العلم، وقال أبو حنيفة يسقط الحد عن جميعهم ويصير القتل للأولياء إن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا عفوا؛ لأن حكم الجميع واحد فالشبهة في فعل واحد شبهة في حق الجميع.
ولنا أنها شبهة تختص بها واحد فلم يسقط الحد عن الباقين كما لو اشتركوا في وطء امرأة وما ذكروه لا أصل له فعلى هذا لا حد على الصبي والمجنون وإن باشرا قتل وأخذا
__________
(1) رواه مسلم في (الحدود ص 205) مسلم بشرح النووي، ورواه غيره.
(2) سنن ابن ماجه الحدود (2588) .
(3) سورة النساء الآية 16
(4) سورة المائدة الآية 39(11/111)
المال لأنهما ليسا من أهل الحدود، وعليهما ضمان ما أخذا من المال في أموالهما، ودية قتيلهما على عاقلتهما، ولا شيء على الردء لهما؛ لأنه إذا لم يثبت ذلك للمباشر لم يثبت لمن هو تبع له بطريق الأولى، وإن كان المباشر غيرهما لم يلزمهما شيء؛ لأنهما لم يثبت في حقهما حكم المحاربة، وثبوت الحكم في حق الردء ثبت بالمحاربة.
(فصل) وإن كان فيهم امرأة ثبت في حقها حكم المحاربة فمتى قتلت وأخذت المال فحدها حد قطاع الطريق، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يجب عليها الحد، ولا على من معها؛ لأنها ليست من أهل المحاربة كالرجل، فأشبهت الصبي والمجنون، ولنا أنها تحد في السرقة؛ فيلزمها حكم المحاربة كالرجل، وتخالف الصبي والمجنون، ولأنها مكلفة يلزمها القصاص وسائر الحدود، فلزمها هذا الحد كالرجل إذا ثبت هذا، فإنها إن باشرت القتل أو أخذ المال ثبت حكم المحاربة في حق من معها؛ لأنهم ردء لها، وإن فعل ذلك غيرها ثبت حكمه في حقها، لأنها ردء له كالرجل سواء، وإن قطع أهل الذمة الطريق أو كان مع المحاربين المسلمين ذمي، فهل ينتقض عهدهم بذلك؟ فيه روايتان: فإن قلنا: ينتقض عهدهم حلت دماؤهم وأموالهم بكل حال، وإن قلنا: لا ينتقض عهدهم حكمنا عليهم بما نحكم على المسلمين.
(فصل) وإذا أخذ المحاربون المال وأقيمت فيهم حدود الله تعالى، فإن كانت الأموال موجودة ردت إلى مالكها، وإن كانت تالفة أو معدومة وجب ضمانها على من أخذها، وهذا مذهب الشافعي، ومقتضى قول أصحاب الرأي أنها إن كانت تالفة لم يلزمهم غرامتها كقولهم في المسروق إذا قطع السارق، ووجه المذهبين ما تقدم في السرقة، ويجب الضمان على الأخذ دون الردء؛ لأن وجود الضمان ليس بحد، فلا يتعلق بغير المباشر له كالغصب والنهب، ولو تاب المحاربون قبل القدرة عليهم، وتعلقت بهم حقوق الآدميين من القصاص والضمان لاختص ذلك بالمباشر دون الردء لذلك، ولو وجب الضمان في السرقة لتعلق بالمباشر دون الردء لما ذكرنا، والله أعلم.
(فصل) إذا اجتمعت الحدود لم تخل من ثلاثة أقسام: (القسم الأول) : أن تكون خالصة الله تعالى، فهي نوعان: (أحدهما) : أن يكون فيها قتل مثل أن يسرق ويزني وهو محصن، ويشرب الخمر ويقتل في المحاربة؛ فهذا يقتل ويسقط سائرها، وهذا قول ابن مسعود(11/112)
وعطاء والشعبي والنخعي والأوزاعي وحماد ومالك وأبي حنيفة، وقال الشافعي: يستوفى جميعها؛ لأن ما وجب مع غير القتل وجب مع القتل كقطع اليد قصاصا. ولنا قول ابن مسعود، قال سعيد: حدثنا حسان بن علي، حدثنا مجالد عن عامر عن مسروق عن عبد الله، قال: إذا اجتمع حدان أحدهما القتل أحاط القتل بذلك، وقال إبراهيم: يكفيه القتل.
وقال: حدثنا هشيم، أخبرنا حجاج عن إبراهيم والشعبي وعطاء، أنهم قالوا مثل ذلك، وهذه أقوال انتشرت في عصر الصحابة والتابعين، ولم يظهر لها مخالف فكانت إجماعا؛ ولأنها حدود الله تعالى فيها قتل فسقط ما دونه كالمحارب إذا قتل وأخذ المال، فإنه يكتفى بقتله ولا يقطع؛ ولأن هذه الحدود تراد لمجرد الزجر، ومع القتل لا حاجة إلى زجره ولا فائدة فيه فلا يشرع ويفارق القصاص، فإن فيه غرض التشفي والانتقام، ولا يقصد منه مجرد الزجر.
إذا ثبت هذا فإنه إذا وجد ما يوجب الرجم والقتل للمحاربة أو القتل للردة أو لترك الصلاة فينبغي أن يقتل للمحاربة ويسقط الرجم؛ لأن في القتل للمحاربة حق آدمي في القصاص، وإنما أثرت المحاربة في تحريمه وحق الآدمي يجب تقديمه.
(النوع الثاني) أن لا يكون فيها قتل، فإن جميعها يستوفى من غير خلاف نعلمه، ويبدأ بالأخف فالأخف، فإذا شرب وزنى وسرق حد للشرب أولا، ثم حد للزنا، ثم قطع السرقة، وإن أخذ المال في المحاربة قطع لذلك، ويدخل فيه القطع للسرقة، ولأن محل القطعين واحد فتداخلا كالقتلين، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: يتخير بين البداءة بحد الزنا وقطع السرقة؛ لأن كل واحد منهما ثبت بنص القرآن، ثم يحد للشرب.
ولنا أن حد الشرب أخف فيقدم كحد القذف، ولا نسلم أن حد الشرب غير منصوص عليه في السنة، ومجمع على وجوبه، وهذا التقديم على سبيل الاستحباب، ولو بدأ بغيره جاز ووقع، ولا يوالي بين هذه الحدود؛ لأنه ربما أفضى إلى تلفه بل متى برأ من حد أقيم الذي يليه.
(القسم الثاني) : الحدود الخالصة للآدمي، وهو القصاص وحد القذف، فهذه تستوفى كلها، ويبدأ بأخفها، فيحد للقذف ثم يقطع، ثم يقتل؛ لأنها حقوق للآدميين أمكن استيفاؤها فوجب كسائر حقوقهم، وهذا قول الأوزاعي والشافعي، وقال أبو حنيفة: يدخل ما دون القتل فيه احتجاجا بقول ابن مسعود، وقياسا على الحدود الخالصة الله تعالى، ولنا أن ما(11/113)
دون القتل حق لآدمي فلم يسقط به كذنوبهم، وفارق حق الله تعالى؛ فإنه مبني على المسامحة.
(القسم الثالث) : أن تجتمع حدود الله وحدود الآدميين، وهذه ثلاثة أنواع:
(أحدهما) : أن لا يكون فيها قتل، فهذه تستوفى كلها، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وعن مالك أن حدي الشرب والقذف يتداخلان لاستوائهما فهما كالقتلين والقطعين.
ولنا أنهما حدان من جنسين لا يفوت بهما المحل فلم يتداخلا كحد الزنا والشرب، ولا نسلم استواءهما، فإن حد الشرب أربعون، وحد القذف ثمانون، وإن سلم استواؤها لم يلزم تداخلهما؛ لأن ذلك لو اقتضى تداخلهما لوجب دخولهما في حد الزنا؛ لأن الأقل مما يتداخل يدخل في الأكثر، وفارق القتلين والقطعين؛ لأن المحل يفوت بالأول فيتعذر استيفاء الثاني، وهذا بخلافه فعلى هذا يبدأ بحد القذف؛ لأنه اجتمع فيه معنيان خفته، وكونه حقا الآدمي شحيح إلا إذا قلنا: حد الشرب أربعون، فإنه يبدأ به لخفته، ثم بحد القذف، وأيهما قدم فالآخر يليه ثم بحد الزنا فإنه لا إتلاف فيه ثم بالقطع، هكذا ذكره القاضي، وقال أبو الخطاب: يبدأ بالقطع قصاصا؛ لأنه حق آدمي متمحض، فإذا برأ حد للقذف، إذا قلنا هو حق آدمي ثم بحد الشرب فإذا برأ حد للزنا؛ لأن حق الآدمي يجب تقديمه لتأكيده.
(النوع الثاني) أن تجتمع حدود الله تعالى وحدود الآدمي وفيها قتل؛ فإن حدود الله تعالى تدخل في القتل، سواء كان من حدود الله تعالى كالرجم في الزنا والقتل للمحاربة أو الردة، أو لحق آدمي كالقصاص لما قدمناه، وأما حقوق الآدمي فتستوفى كلها ثم إن كان القتل حقا لله تعالى استوفيت الحقوق كلها متوالية؛ لأنه لا بد من فوات نفسه فلا فائدة في التأخير، وإن كان القتل حقا لآدمي انتظر باستيفائه الثاني براءة من الأول لوجهين: (أحدهما) : أن الولاة بينهما يحتمل أن تفوت نفسه قبل القصاص فيفوت حق الآدمي، (والثاني) أن العفو جائز فتأخره يحتمل أن يعفو الولي فيحيا بخلاف القتل حقا لله سبحانه.
(النوع الثالث) : أن يتفق الحقان في محل واحد، ويكون تفويتا كالقتل والقطع قصاصا وحدا، فإن كان فيه ما هو خالص لحق الله تعالى كالرجم في الزنا، وما هو حق الآدمي كالقصاص، قدم القصاص لتأكد حق الآدمي، وإن اجتمع القتل للقتل في المحاربة والقصاص، بدئ بأسبقهما؛ لأن القتل في المحاربة فيه حق لآدمي أيضا، فيقدم أسبقهما، فإن(11/114)
سبق القتل في المحاربة استوفي ووجب لولي المقتول الآخر ديته في مال الجاني، وإن سبق القصاص قتل قصاصا ولم يصلب؛ لأن الصلب من تمام الحد وقد سقط الحد بالقصاص، فسقط الصلب كما لو مات، ويجب لولي المقتول في المحاربة ديته؛ لأن القتل تعذر استيفاؤه وهو قصاص فصار الوجوب إلى الدية، وهكذا لو مات القاتل في المحاربة وجبت الدية في تركته؛ لتعذر استيفاء القتل من القاتل، ولو كان القصاص سابقا فعفا ولي المقتول استوفي للمحاربة، سواء عفا مطلقا أو إلى الدية، وهذا مذهب الشافعي. وأما القطع فإذا اجتمع وجوب القطع في يد أو رجل قصاصا وحدا قدم القصاص على الحد المتمحض لله تعالى لما ذكرناه، سواء تقدم سببه أو تأخر، وإن عفا ولي الجناية استوفي الحد، فإذا قطع يدا وأخذ المال في المحاربة قطعت يده قصاصا وينتظر برؤه، فإذا برأ قطعت رجله للمحاربة؛ لأنهما حدان، وإنما قدم القصاص في القطع دون القتل؛ لأن القطع في المحاربة حد محض، وليس بقصاص، والقتل فيها يتضمن القصاص، ولهذا لو فات القتل في المحاربة وجبت الدية، ولو فات القطع لم يجب له بدل، وإذا ثبت أنه يقدم القصاص على القطع في المحاربة فقطع يده قصاصا، فإن رجله تقطع، وهل تقطع يده الأخرى؟ نظرنا فإن كان المقطوع بالقصاص قد كان يستحق القطع بالمحاربة قبل الجناية الموجبة للقصاص فيه لم يقطع أكثر من العضو الباقي من العضوين اللذين استحق قطعهما؛ لأن محل القطع ذهب بعارض حادث فلم يجب قطع يد له كما لو ذهبت بعدوان أو بمرض، وعلى هذا لو ذهب العضوان جميعا سقط القطع عنه بالكلية، وإن كان سبب القطع قصاصا سابقا على محاربته، أو كان المقطوع غير العضو الذي وجب قطعه في المحاربة مثل إن وجب عليه القصاص في يساره بعد وجود قطع يمناه في المحاربة فهل تقطع اليد الأخرى للمحاربة؟ على وجهين بناء على الروايتين في قطع يسرى السارق بعد قطع يمينه، إن قلنا: تقطع ثم قطعت هاهنا وإلا فلا، وإن سرق وأخذ المال في المحاربة قطعت يده اليمنى لأسبقهما، فإن كانت المحاربة سابقة، قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد وحسمتاه، وهل تقطع يسرى يديه للسرقة على الروايتين، فإن قلنا: تقطع انتظر برؤه من القطع للمحاربة؛ لأنهما حدان، وإن كانت السرقة سابقة قطعت يمناه للسرقة. ولا تقطع رجله للمحاربة حتى تبرأ يده، وهل تقطع يسرى يديه للمحاربة؟ على وجهين:
(فصل) وإن سرق وقتل في المحاربة ولم يأخذ المال قتل حتما، ولم يصلب ولم تقطع(11/115)
يده؛ لأنهما حدان فيهما قتل؛ فدخل ما دون القتل فيه، ولم يصلب لأن الصلب من تمام حد قاطع الطريق إذا أخذ المال مع القتل ولم يوجد، وهذان حدان كل واحد منهما منفصل عن صاحبه، فإذا اجتمعا تداخلا، وإن قتل في المحاربة جماعة قتل بالأول حتما، وللباقين ديات أوليائهم؛ لأن قتله استحق بقتل الأول، وتحتم بحيث لا يسقط فتعينت حقوق الباقين في الدية كما لو مات.
(فصل) إذا شهد عدلان على رجل أنه قطع عليهما الطريق وعلى فلان، وأخذ متاعهم لم تقبل شهادتهما؛ لأنهما صارا خصمين له بقطعه عليهما. وإن قالا: نشهد أن هذا قطع الطريق على فلان، وأخذ متاعه قبلت شهادتهما. ولم يسألهما الحاكم هل قطع عليكما معه أم لا؛ لأنه لا يسألهما مما لم يدع عليهما، وإن عاد المشهود له فشهد عليه أنه قطع عليهما الطريق وأخذ متاعهما لم تقبل شهادته؛ لأنه صار عدوا له بقطعه الطريق عليه، وإن شهد شاهدان أن هؤلاء عرضوا لنا في الطريق، وقطعوها على فلان قبلت شهادتهما؛ لأنه لم يثبت كونهما خصمين بما ذكراه.
قال ابن حزم في كتاب المحاربين بعد أن ذكر الخلاف في سبب نزول آية الحرابة والخلاف فيما تتحقق فيه الحرابة من الصحراء فقط أو الصحراء والمصر:
قال أبو محمد (1) - رحمه الله -: فلما اختلفوا كما ذكرنا، وجب أن نطلب الحق من أقوالهم لعلم الصواب فتبعه بمن الله تعالى، فنظرنا فيما تحتج به كل طائفة لقولها فنظرنا فيما احتج به من قال: إن المحارب لا يكون إلا مشركا أو مرتدا فوجدناهم يذكرون: أنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية، نا أحمد بن شعيب النسائي، أخبرنا العباس بن محمد، نا أبو عامر العقدي عن إبراهيم بن طهمان عن عبد العزيز بن رفيع عن عبيد بن عمير، عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال: زان محصن يرجم، أو رجل قتل متعمدا فيقتل، أو رجل يخرج من الإسلام فيحارب الله ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض (2) » ، وبما ذكره ابن جريج آنفا من قوله: ما نعلم أحدا حارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أشرك.
__________
(1) ص303 من ج 11 من المحلى.
(2) سنن الترمذي كتاب الفتن (2158) ، سنن النسائي تحريم الدم (4019) ، سنن أبو داود الديات (4502) ، سنن ابن ماجه الحدود (2533) ، مسند أحمد بن حنبل (1/62) ، سنن الدارمي الحدود (2297) .(11/116)
قال أبو محمد - رحمه الله -: فنظرنا فيما احتجوا به من ذلك فوجدنا الخبر المذكور لا يصح؛ لأنه انفرد به إبراهيم بن طهمان وليس بالقوي. وأما قول ابن جريج: ما نعلم أحدا حارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أشرك، فإن محاربة الله تعالى، ومحاربة رسوله - عليه السلام - تكون على وجهين:
أحدهما من مستحل لذلك، فهو كافر بإجماع الأمة كلها، لا خلاف في ذلك إلا ممن لا يعتد به في الإسلام، وتكون من فاسق عاص معترف بحرمة، فلا يكون بذلك كافرا، لكن كسائر الذنوب من الزنا، والقتل، والغصب، وشرب الخمر، وأكل الخنزير والميتة والدم، وترك الصلاة، وترك الزكاة، وترك صوم شهر رمضان، وترك الحج؛ فهذا لا يكون كافرا؛ لما قد تقصيناه في كتاب الفصل وغيره، ويجمع الحجة في ذلك أنه لو كان فاعل شيء من هذه العظائم كافرا بفعله، ذلك لكان مرتدا بلا شك، ولو كان بذلك مرتدا لوجب قتله لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل من ارتد وبدل دينه، وهذا لا يقوله مسلم.
قال أبو محمد (فإن قال قائل) : إننا لا نسلم أن من عصى بغير الكفر لا يكون محاربا لله تعالى ولرسوله عليه السلام.
(قلنا له) : - وبالله تعالى التوفيق - قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (2) الآية، كتب إلي أبو المرجى بن ذروان، قال: نا أبو الحسن الرحبي، نا أبو مسلم الكاتب، نا عبد الله بن أحمد بن المفلس، نا عبد الله بن أحمد بن حنبل، نا أبي، نا حماد بن خالد الخياط، نا عبد الواحد - مولى عروة - عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله تعالى: من آذى لي وليا فقد استحل محاربتي (3) » ، وقال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (4) وإلى قوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (5) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تقتل عمارا الفئة الباغية (6) » ، فصح أنه ليس كل عاص محاربا، ولا كل محارب كافرا، ثم نظرنا في ذلك أيضا فوجدنا الله تعالى قد حكم في المحارب ما ذكرنا من القتل أو الصلب أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من الأرض، وإسقاط ذلك كله عنه بالتوبة قبل القدرة عليه فلو كان المحارب المأمور فيه بهذه الأوامر كافرا لم يخل من ثلاثة أوجه لا رابع لها، إما أن يكون حربيا مذ كان، وإما أن يكون ذميا فنقض
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(4) سورة الحجرات الآية 9
(5) سورة الحجرات الآية 10
(6) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2916) ، مسند أحمد بن حنبل (6/289) .(11/117)
الذمة وحارب فصار حربيا، وإما أن يكون مسلما فارتد إلى الكفر، لا بد من أحد هذه الوجوه ضرورة ولا يمكن، ولا يوجد غيرها، فلو كان حربيا مذ كان فلا يختلف من الأمة اثنان في أنه ليس هذا حكم الحربيين وإنما حكم الحربيين القتل في اللقاء كيف أمكن حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، من كان منهم كتابيا في قولنا وقول طوائف من الناس، أو من كان منهم من أي دين كان ما لم يكن عربيا في قول غيرنا، أو يؤسر فيكون حكمه ضرب العنق فقط بلا خلاف؛ كما قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقبة بن أبي معيط. والنضر بن الحارث. وبني قريظة وغيرهم، أو يسترق، أو يطلق إلى أرضه كما أطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمامة بن أثال الحنفي، وأبا العاصي بن الربيع وغيرهما، أو يفادى به كما قال الله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (1) ، أو نطلقهم أحرارا ذمة كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأهل خيبر فهذه أحكام الحربيين بنص القرآن والسنن الثابتة والإجماع المتيقن، ولا خلاف في أنه ليس الصلب ولا قطع الأيدي والأرجل ولا النفي من أحكامهم، فبطل أن يكون المحارب المذكور في الآية حربيا كافرا، وإن كان ذميا فنقض العهد فللناس فيه أقوال ثلاثة لا رابع لها: أحدها أنه ينتقل إلى حكم الحربيين في كل ما ذكرنا. والثاني: أنه محارب حتى يقدر عليه فيرد إلى ذمته كما كان ولا بد.
والثالث: أنه لا يقبل منه إلا الإسلام أو السيف، وقد فرق بعض الناس بين الذمي ينقض العهد فيصير حربيا، وبين الذمي يحارب فيكون له عندهم حكم المحارب المذكور في الآية لا حكم الحربي، فصح بلا خلاف أن الذمي الناقض لذمته المنتقل إلى حكم أهل الحرب ليس له حكم المحارب المذكور في الآية بلا خلاف، وبين هذا قول الله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} (2) إلى قوله: {لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} (3) .
فأمر الله تعالى بقتالهم إذا نكثوا عهدهم حتى ينتهوا، وهذا عموم يوجب الانتهاء عن كل ما هم عليه من الضلال، وهذا يقتضي ولا بد أن لا يقبل منهم إلا الإسلام وحده، (ولا يجوز أن يخص بقوله تعالى: حتى ينتهوا، انتهاء دون انتهاء، فيكون فاعل ذلك قائلا على الله
__________
(1) سورة محمد الآية 4
(2) سورة التوبة الآية 12
(3) سورة التوبة الآية 12(11/118)
تعالى ما لا علم له به، وهذا حرام، قال الله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) ، وإن كان المحارب المذكور في الآية مرتدا عن إسلامه فقد بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم المرتد بقوله: «من بدل دينه فاقتلوه (2) » ، وبينه الله تعالى بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} (3) ، فصح يقينا أن حكم المرتد الذي أوجب الله تعالى في القرآن وعلى لسان رسوله - عليه السلام - هو غير حكمه تعالى في المحارب، فصح يقينا أن المحارب ليس مرتدا، وأيضا فلا خلاف بين أحد من الأمة في أن حكم المرتد المقدور عليه ليس هو الصلب، ولا قطع اليد والرجل ولا النفي من الأرض؛ فصح بكل ما ذكرنا أن المحارب ليس كافرا أصلا، إذ ليس له شيء من أحكام الكفر، ولا لأحد من الكفار حكم المحارب، والرواية عن ابن عباس فيها الحسن بن واقد (4) ، وليس بالقوي، وهو أيضا من قول ابن عباس لا سندا، فإذ قد صح ما ذكرنا يقينا فقد ثبت بلا شك أن المحارب إنما هو مسلم عاص، فإذ هو كذلك فالواجب أن ننظر ما المعصية التي بها وجب أن يكون محاربا، وأن يكون له حكم المحارب، فنظرنا في جميع المعاصي من الزنا والقذف والسرقة، والغصب والسحر والظلم، وشرب الخمر والمحرمات أو أكلها، والفرار من الزحف. وغير ذلك فوجدنا جميع هذه المعاصي ليس منها شيء جاء نص أو إجماع في أنه محارب، فبطل أن يكون فاعل شيء منها محاربا، وأيضا فإن جميع المعاصي التي ذكرنا والتي لم نذكر لا تخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما. إما أن يكون فيها نص بحد محدود أو لا يكون فيها نص بحد محدود، فالتي فيها النص بحد محدود فهي الردة، والزنا، والقذف، والخمر، والسرقة. وجحد للعارية، وليس لشيء منها الحكم المذكور في الآية في المحارب فبطل أن يكون شيء من هذه المعاصي محاربة، وهذا أيضا إجماع متيقن. وأما ما ليس فيه من الله تعالى حد محدود لا في القرآن، ولا على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يحل لأحد أن
__________
(1) سورة البقرة الآية 169
(2) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير، ص 172، (حاشية السندي) ، ورواه غيره.
(3) سورة آل عمران الآية 90
(4) كذا بالأصل، والصواب الحسين بن واقد، وهو ثقة له أوهام كما في التقريب(11/119)
يلحقها بحد المحاربة. فيكون شارعا في الدين ما لم يأذن به الله تعالى، وهذا لا يحل بل قد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام (1) » ، فوجب يقينا أن لا يستباح دم أحد ولا بشرته ولا ماله ولا عرضه، إلا بنص وارد فيه بعينه من قرآن، أو سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو إجماع متيقن من الصحابة - رضي الله عنهم - راجع إلى توقيف رسول الله - صلى الله عليه سلم -.
فبطل أن يكون شيء من المعاصي المذكورة هي المحاربة، فإذ لا شك في هذا فلم يبق إلا قاطع الطريق والباغي فهما جميعا مقاتلان، والمقاتلة هي المحاربة في اللغة فنظرنا في ذلك فوجدنا الباغي قد ورد فيه النص بأن يقاتل حتى يفيء فقط، فيصلح بينه وبين المبغي عليه؛ فخرج الباغي عن أن يكون له حكم المحاربين فلم يبق إلا قاطع الطريق، ومخيف السبيل، فهذا مفسد في الأرض بيقين، وقد قال جمهور الناس: إنه هو المحارب المذكور في الآية، ولم يبق غيره، وقد بطل كما قدمنا أن يكون كافرا ولم يقل أحد من أهل الإسلام في أحد من أهل المعاصي إنه المحارب المذكور في الآية إلا قاطع الطريق المخيف فيها أو في اللص، فصح أن مخيف السبيل المفسد فيها هو المحارب المذكور في الآية بلا شك، وبقي أمر اللص، فنظرنا فيه بعون الله تعالى فوجدناه إن دخل مستخفيا ليسرق أو ليزني أو ليقتل، ففعل شيئا من ذلك مختفيا، فإنما هو سارق عليه ما على السارق لا ما على المحارب بلا خلاف، أو إنما هو زان فعليه ما على الزاني لا ما على المحارب بلا خلاف، أو إنما هو قاتل فعليه ما على القاتل بنص القرآن والسنة فيمن قتل عمدا، وإن كان قد خالف في هذا قوم خلافا لا تقوم به حجة، فإن اشتهر أمره ففر وأخذ فليس محاربا؛ لأنه لم يحارب أحدا، وإنما هو عاص فقط، ولا يكون عليه له حكم المحاربة، لكن حكم من فعل منكرا فليس عليه إلا التعزير، وإن دافع وكابر فهو محارب بلا شك؛ لأنه قد حارب وأخاف السبيل وأفسد في الأرض فله حكم المحارب كما قال الشعبي وغيره.
قال أبو محمد - رحمه الله -: وأما قول من قال: لا تكون المحاربة إلا في الصحراء، أو من قال: لا تكون المحاربة في المدن إلا ليلا فقولان فاسدان، ودعويان ساقطتان، بلا برهان لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ولا من إجماع، ولا من قول صاحب، ولا من قياس، ولا من رأي سديد، وما يبعد أن يكون فيهم من هان عنده الكذب على الأمة
__________
(1) صحيح البخاري الفتن (7078) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، سنن ابن ماجه المقدمة (233) ، مسند أحمد بن حنبل (5/39) ، سنن الدارمي المناسك (1916) .(11/120)
كلها. فيقول: من حارب في الصحراء فقد صح عليه اسم محارب.(11/121)
(ومن كتاب المحاربين)
قال أبو محمد - رحمه الله -: فإن اعترض معترض في أن المحارب لا يكون إلا من شهر السلاح بما ناه عبد الله بن ربيع، نا محمد بن معاوية، نا أحمد بن شعيب، أنا إسحاق بن راهويه، أرنا الفضل بن موسى، نا معمر، عن عبد الله بن طاوس، عن ابن الزبير، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من شهر سيفه ثم وضعه فدمه هدر (1) » ، قال إسحاق: أرناه عبد الرزاق بهذا الإسناذ مثله ولم يرفعه، يريد أنه جعله من كلام ابن الزبير، قال ابن شعيب: وأنا أبو داود، نا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن الزبير قال: «من حمل السلاح ثم وضعه فدمه هدر (2) » ، حدثنا عبد الله بن ربيع، نا محمد بن معاوية، أخبرني أحمد بن شعيب، أنا أحمد بن عمرو بن السرح، أخبرني ابن وهب، أنا مالك وأسامة بن زيد ويونس بن يزيد، أن نافعا أخبرهم عن عبد الله بن عمران، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حمل علينا السلاح فليس منا (3) » .
قال أبو محمد - رحمه الله -: فهذا كله حق وآثار صحاح لا يضرها إيقاف من أوقفها إلا أنه لا حجة فيها لمن لم علي المحارب إلا من حارب بسلاح؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما ذكر في هذين الأثرين من وضع سيفه وشهر سلاحه فقط، وسكت عما عدا ذلك فيهما، ولم يقل - عليه السلام -: إن المحارب إلا من هذه صفته، فوجب من هذين الأثرين حكم من حمل السلاح، وبقي حكم من لم يحمل السلاح أن يطلب في غيرهما، ففعلنا فوجدنا ما ناه عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن محمد، نا حمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، نا زهير بن حرب، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، نا مهدي، ثنا ابن ميمون، عن غيلان بن جرير، عن زياد بن رباح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديثه: «ومن خرج من أمتي على أمتي يضرب برها وفاجرها لا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي بذي عهدها فليس مني (4) » ، فقد عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما تسمع الضرب، ولم يقل بسلاح ولا غيره، فصح أن كل حرابة بسلاح أو بلا سلاح فسواء، قال: فوجب بما
__________
(1) سنن النسائي تحريم الدم (4097) .
(2) سنن النسائي تحريم الدم (4099) .
(3) صحيح البخاري الديات (6874) ، صحيح مسلم الإيمان (98) ، سنن النسائي تحريم الدم (4100) ، سنن ابن ماجه الحدود (2576) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) .
(4) صحيح مسلم الإمارة (1848) ، سنن النسائي تحريم الدم (4114) ، مسند أحمد بن حنبل (2/306) .(11/121)
ذكرنا أن المحارب هو المكابر المخيف لأهل الطريق المفسد في سبيل الأرض سواء بسلاح أو بلا سلاح أصلا، سواء ليلا أو نهارا، في مصر أو في فلاة، أو في قصر الخليفة أو الجامع، سواء قدموا على أنفسهم إماما أو لم يقدموا سوى الخليفة نفسه فعل ذلك بجنده أو غيره، منقطعين في الصحراء أو أهل قرية سكانا في دورهم، أو أهل حصن كذلك أو أهل مدينة عظيمة أو غير عظيمة، كذلك واحد أكان أو أكثر، كل من حارب المار، وأخاف السبيل بقتل نفس أو أخذ مال أو لجراحة أو لانتهاك فرج فهو محارب عليه وعليهم - كثروا أو قلوا - حكم المحاربين المنصوص في الآية؛ لأن الله تعالى لم يخص شيئا من هذه الوجوه إذ عهد إلينا بحكم المحاربين {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (1) ، ونحن نشهد بشهادة الله تعالى أن الله سبحانه لو أراد أن يخص بعض هذه الوجوه لما أغفل شيئا من ذلك. ولا نسيه ولا أعنتنا بتعمد ترك ذكره حتى يبنيه لنا غيره بالتكهن والظن الكاذب. . .) إلى أن قال:
(المحارب يقتل) :
مسألة (هل لولي المقتول في ذلك حكم أم لا؟ قال أبو محمد - رحمه الله -: نا حمام، نا ابن مفرج، نا الحسن بن سعد، نا الديري، نا عبد الرزاق، عن ابن جريج، أخبر في عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: إن في كتاب لعمر بن الخطاب: والسلطان ولي من حارب الدين وإن قتل أباه أو أخاه فليس إلى طالب الدم من أمر من حارب الدين وسعى في الأرض فسادا شيء، وقال ابن جريج: وقال لي سليمان بن موسى مثل هذا سواء سواء حرفا حرفا، وبه إلى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري قال: عقوبة المحارب إلى السلطان لا تجوز عقوبة ولي الدم ذلك إلى الإمام، قال: وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأبي سليمان وأصحابهم.
قال أبو محمد - رحمه الله -: وبهذا نقول؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في الخبرين اللذين رويناهما من طريق ابن عباس ذكرناهما في كتاب الحج، وكتاب الصيام، وباب وجوب قضاء الحج الواجب، وقضاء الصيام الواجب عن الميت «اقضوا الله فهو أحق بالوفاء،
__________
(1) سورة مريم الآية 64(11/122)
دين الله أحق أن يقضى (1) » ، وبقوله - عليه السلام - في حديث بريرة: «كتاب الله أحق وشرط الله أوثق (2) » .
قال أبو محمد - رحمه الله -: فلما اجتمع حقان أحدهما لله والثاني لولي المقتول كان حق الله تعالى أحق بالقضاء، ودينه أولى بالأداء، وشرطه المقدم في الوفاء على حقوق الناس، فإن قتله الإمام أو صلبه للمحاربة كان للولي أخذ الدية في مال المقتول؛ لأن حقه في القود قد سقط فبقي حقه في الدية أو العفو عنها على ما بينا في كتاب القصاص، ولله الحمد. فإن اختار الإمام قطع يد المحارب ورجله أو نفيه أنفذ ذلك، وكان حينئذ للولي الخيار في قتله أو الدية أو المعاداة أو العفو؛ لأن الإمام قد استوفى ما جعل الله تعالى له الخيار فيه، وليس هاهنا شيء يسقط حق الولي إذ ممكن له أن يستوفي حقه بعد استيفاء حق الله تعالى، ولقد تناقض ههنا الحنفيون والمالكيون أسمج تناقض؛ لأنهم لا يختلفون في الحج والصيام والزكاة والكفارات والنذور، بأن حقوق الناس أولى من حقوق الله تعالى، وأن ديون الغرماء أوجب في القضاء من ديون الله تعالى، وأن شروط الناس مقدمة في الوفاء على شروط الله تعالى، وقد تركوا هاهنا هذه الأقوال الفاسدة. وقدموا حقوق الله تعالى على حقوق الناس، وبالله تعالى التوفيق.
ثم قال (مسألة) : هل يبادر اللص أم يناشد؟ قال أبو محمد - رحمه الله -: نا أحمد بن محمد بن الجسور، نا أحمد بن الفضل الدينوري، نا محمد بن جرير الطبري، نا محمد بن بشار، ومحمد بن المثنى قالا جميعا: نا أبو عامر العقدي، نا عبد العزيز بن المطلب، عن أخيه الحكم بن المطلب، عن أبيه - هو المطلب بن حنطب - بن فهيذ بن مطرف الغفاري «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله سائل: إن عدا علي عاد فأمره أن ينهاه ثلاث مرات، قال: فإن أبى علي؟ فأمره بقتاله، وقال - عليه السلام -: إن قتلك فأنت في الجنة، وإن قتلته فهو في النار (3) » .
حدثنا يوسف بن عبد البر النمري، نا عبد الله بن محمد بن يوسف بن أحمد الضبي، نا العقيلي، نا جدي، نا بعلي بن أسد العمي، نا محمد بن كثير السلمي، هو القصاب، عن يونس بن عبيد، عن محمد بن سيرين، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدار حرم، فمن دخل عليك حرمك فاقتله (4) » .
قال أبو محمد - رحمه الله -: الحديث الأول ليس بالقوي، ففيه الحكم بن المطلب، ولا
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1852) ، سنن النسائي مناسك الحج (2633) ، مسند أحمد بن حنبل (1/240) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2332) .
(2) صحيح البخاري العتق (2563) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن الترمذي الوصايا (2124) ، سنن النسائي الطلاق (3451) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2521) ، مسند أحمد بن حنبل (6/82) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (3/423) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (5/326) .(11/123)
يعرف حاله، والخبر الثاني فيه محمد بن كثير القصاب، وهو ذاهب الحديث، وليس بشيء، قال أبو محمد - رحمه الله -: والمعتمد عليه في الأخبار التي صدرنا بها في كتابنا في المحاربين من إباحة القتل دون المال وسائر المظالم، لكن إن كان على القوم المقطوع عليهم أو الواحد المقطوع عليه والمدخول عليه منزله في المصر ليلا أو نهارا في أخذ ماله أو في طلب زنا أو غير ذلك مهلة فالمناشدة فعل حسن لقول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) ، فإن لم يكن في الأمر مهلة ففرض على المظلوم أن يبادر إلى كل ما يمكنه به الدفاع عن نفسه، وإن كان في ذلك إتلاف نفس اللص والقاطع من أول وهلة، فإن كان على يقين من أنه إن ضربه ولم يقتله ارتدع حرام عليه قتله، فإن لم يكن على يقين من هذا، فقد صح اليقين بأن مباحا له الدفع والمقاتلة فلا شيء عليه إن قتله من أول ضربه أو بعدها قصدا إلى مقتله أو إلى غير مقتله؛ لأن الله تعالى قد أباح له المقاتلة والمدافعة قاتلا ومقتولا، وبالله تعالى التوفيق.
فأما لو كان اللص من الضعف بحيث لا يدافع أصلا أو يدافع دفاعا يوقن معه أنه لا يقدر على قتل صاحب الدار فقتله صاحب المنزل فعليه القود؛ لأنه قادر على منعه بغير القتل فهو متعد. حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، نا أحمد بن عبد البصير، نا قاسم بن أصبغ، نا محمد بن عبد السلام الخشني، نا محمد بن المثنى، نا موسى بن إسماعيل، نا سفيان الثوري، عن مسلم الضبي، قال: قال إبراهيم النخعي: إن خشيت أن يبتدرك اللص فابدره، قال أبو محمد - رحمه الله -: هذا نظير قولنا، والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد - رحمه الله -: نا حمام، نا ابن مفرج، نا ابن الأعرابي، نا الديري، نا عبد الرزاق، عن معمر قال: قلت للزهري: إن هشام بن عروة أخبرني أن عمر بن عبد العزيز إذ هو عامل على المدينة في زمان الوليد بن عبد الملك قطع يد رجل ضرب آخر بالسيف، فضحك الزهري وقال لي: أو هذا مما يؤخذ به؟ إنما كتب الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز أن يقطع يد رجل ضرب آخر بالسيف، قال الزهري: فدعاني عمر بن عبد العزيز واستفتاني في قطعه، فقلت له: أرى أن يصدقه الحديث، ويكتب إليه أن صفوان بن المعطل ضرب حسان بن ثابت بالسيف على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يقطع النبي - عليه السلام -
__________
(1) سورة النحل الآية 125(11/124)
يده. وضرب فلان فلانا بالسيف زمن مروان فلم يقطع مروان يده، وكتب إليه عمر بذلك فمكث حينا يأتيه رجع كتابه ثم كتب إليه الوليد أن حسانا كان يهجو صفوان، ويذكر أنه ونساء أخر قد قاله الزهري: وذكرت أن مروان لم يقطع يده، ولكن عبد الملك قطع يده فاقطع يده، قال الزهري: فقطع عمر يده وكان من ذنوبه التي كان يستغفر الله تعالى منها.
قال أبو محمد - رحمه الله -: إن كان رفع السيف على سبيل إخافة الطريق فهو محارب عليه حكم المحارب، وإن كان لعدوان فقط لا قطع طريق فعليه القصاص فقط إلى المجروح، فإن لم يكن هنالك جرح فلا شيء إلا التعزير فقط، وبالله تعالى التوفيق.
(مسألة) قطع الطريق من المسلم على المسلم وعلى الذمي سواء، وذلك لأن الله تعالى إنما نص على حكم من حاربه وحارب رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو سعى في الأرض فسادا، ولم يخص بذلك مسلم من ذمي {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (1) ، وليس هذا قتلا للمسلم بالذمي، ومعاذ الله من هذا لكنه قتل له بالحرابة، ويمضي دم الذمي هدرا، وكذلك القطع على امرأة أو صبي أو مجنون كل ذلك محاربة صحيحة يستحق بها ما ذكرنا من حكم المحاربة، وأما الذمي إن حارب فليس محاربا لكنه ناقض الذمة؛ لأنه قد فارق الصغار فلا يجوز إلا قتله، ولا بد أو يسلم فلا يجب عليه شيء أصلا في كل ما أصاب من دم أو فرج أو مال، إلا ما وجد في يده فقط؛ لأنه حربي لا محارب، وبالله تعالى التوفيق.
وأما المسلم يرتد فيحارب فعليه أحكام المحارب كلها على ما ذكرنا من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعرنيين الذين اقتص منهم قودا، وأقام عليهم حكم المحاربة، وكانوا مرتدين محاربين متعدين، وبالله تعالى التوفيق، اهـ المقصود.
وقال ابن تيمية الحفيد - رحمه الله - (2) :
فصل
ومن ذلك عقوبة المحاربين، وقطاع الطريق: الذين يعترضون الناس بالسلاح في
__________
(1) سورة مريم الآية 64
(2) ص309 من ج28 من مجموع الفتاوى.(11/125)
الطرقات ونحوها، ليغصبوهم المال مجاهرة: من الأعراب والتركمان، والأكراد والفلاحين، وفسقة الجند أو مردة الحاضرة، أو غيرهم. قال الله تعالى فيهم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1) وقد روى الشافعي - رحمه الله - في مسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض (2) .
وهذا قول كثير من أهل العلم: كالشافعي وأحمد، وهو قريب من قول أبي حنيفة - رحمه الله -، ومنهم من قال: للإمام أن يجتهد فيهم فيقتل من رأى قتله مصلحة. وإن كان لم يقتل: مثل أن يكون رئيسا مطاعا فيها، ويقطع من رأى قطعة مصلحة، وإن كان لم يأخذ المال، مثل أن يكون ذا جلد وقوة في أخذ المال، كما أن منهم من يرى أنهم إذا أخذوا المال قتلوا وقطعوا وصلبوا. والأول بإجماع العلماء، ذكره ابن المنذر، ولا يكون أمره إلى ورثة المقتول، بخلاف ما لو قتل رجل رجلا لعداوة بينهما أو خصومة أو نحو ذلك من الأسباب الخاصة، فإن هذا دمه لأولياء المقتول، إن أحبوا قتلوا. وإن أحبوا عفوا، وإن أحبوا أخذوا الدية، لأنه قتله لغرض خاص.
وأما المحاربون فإنما يقتلون لأخذ أموال الناس، فضررهم عام بمنزلة السراق، فكان قتلهم حدا لله، وهذا متفق عليه بين الفقهاء، حتى لو كان المقتول غير مكافئ للقاتل، مثل أن يكون القاتل حرا والمقتول عبدا، أو القاتل مسلما والمقتول ذميا أو مستأمنا، فقد اختلف الفقهاء هل يقتل في المحاربة؟ والأقوى أنه يقتل؛ لأنه قتل للفساد العام حدا، كما يقطع إذا أخذ أموالهم وكما يحبس بحقوقهم.
وإذا كان المحاربون الحرامية جماعة، فالواحد منهم باشر القتل بنفسه والباقون له أعوان وردء له، فقد قيل: إنه يقتل المباشر فقط، والجمهور على أن الجميع يقتلون ولو كانوا مائة، وأن الردء والمباشر سواء، وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين، فإن عمر بن
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) تقدم ما في سنده في ص25 من الإعداد.(11/126)
الخطاب - رضي الله عنه - قتل ربيئة المحاربين، والربيئة هو الناظر الذي يجلس على مكان عال ينظر منه لهم من يجيء، ولأن المباشر إنما تمكن من قتله بقوة الردء ومعونته.
والطائفة إذا انتصر بعضها ببعض حتى صاروا ممتنعين فهم مشتركون في الثواب والعقاب كالمجاهدين، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، ويرد متسريهم على قاعدهم (1) » ، يعني أن جيش المسلمين إذا تسرت منه سرية فغنمت مالا، فإن الجيش يشاركها فيما غنمت؛ لأنها بظهره وقوته تمكنت لكن تنفل عنه نفلا. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - «كان ينفل السرية إذا كانوا في بدايتهم الربع بعد الخمس، فإذا رجعوا إلى أوطانهم وتسرت سرية نفلهم الثلث بعد الخمس (2) » ، وكذلك لو غنم الجيش غنيمة شاركته السرية؛ لأنها في مصلحة الجيش كما قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - والزبير يوم بدر، لأنه كان قد بعثهما في مصلحة الجيش، فأعوان الطائفة الممتنعة وأنصارها منها، فيما لهم وعليهم.
وهكذا المقتتلون على باطل لا تأويل فيه: مثل المقتتلين على عصبية ودعوى جاهلية كقيس ويمن ونحوهما، هما ظالمتان، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله، هذا القاتل. فما بال المقتول؟ قال: إنه أراد قتل صاحبه (3) » ، أخرجاه في الصحيحين، وتضمن كل طائفة ما أتلفته للأخرى من نفس ومال. وإن لم يعرف عين القائل؛ لأن الطائفة الواحدة الممتنع بعضها ببعض كالشخص الواحد. وفي ذلك قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (4) .
وأما إذا أخذوا المال فقط ولم يقتلوا - كما قد يفعله الأعراب كثيرا -؛ فإنه يقطع من كل واحد يده اليمنى ورجله اليسرى عند أكثر العلماء كأبي حنيفة وأحمد وغيرهم، وهذا معنى قول الله تعالى: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} (5) تقطع اليد التي يبطش بها، والرجل التي يمشي عليها، وتحسم يده ورجله بالزيت المغلي ونحوه لينحسم الدم فلا يخرج فيفضي إلى تلفه، وكذلك تحسم يد السارق بالزيت.
__________
(1) رواه ابن ماجه، في كتاب الديات (باب المسلمون تتكافأ دماؤهم) ورواه غيره بغير هذا اللفظ
(2) سنن أبو داود الجهاد (2749) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2853) ، مسند أحمد بن حنبل (4/160) .
(3) صحيح البخاري الإيمان (31) ، صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2888) ، سنن النسائي تحريم الدم (4122) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4268) ، سنن ابن ماجه الفتن (3965) ، مسند أحمد بن حنبل (5/51) .
(4) سورة البقرة الآية 178
(5) سورة المائدة الآية 33(11/127)
وهذا الفعل قد يكون أزجر من القتل؛ فإن الأعراب وفسقة الجند وغيرهم إذا رأوا دائما من هو بينهم مقطوع اليد والرجل، ذكروا بذلك جرمه فارتدعوا بخلاف القتل؛ فإنه قد ينسى، وقد يؤثر بعض النفوس الأبية قتله على قطع يده ورجله من خلاف، فيكون هذا أشد تنكيلا له ولأمثاله. وأما إذا شهروا السلاح ولم يقتلوا نفسا، ولم يأخذوا مالا ثم أغمدوه أو هربوا وتركوا الحراب؛ فإنهم ينفون، فقيل: نفيهم تشريدهم، فلا يتركون يأوون في بلد، وقيل: هو حبسهم، وقيل: هو ما يراه الإمام أصلح من نفي أو حبس أو نحو ذلك.
والقتل المشروع: هو ضرب الرقبة بالسيف ونحوه؛ لأن ذلك أروح أنواع القتل، وكذلك شرع الله قتل ما يباح قتله من الآدميين والبهائم إذا قدر عليه على هذا الوجه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته (1) » رواه مسلم، وقال: «إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان (2) » ، وأما الصلب المذكور فهو رفعهم على مكان عال ليراهم الناس، ويشتهر أمرهم، وهو بعد القتل عند جمهور العلماء، ومنهم من قال: يصلبون ثم يقتلون وهم مصلبون، وقد جوز بعض العلماء قتلهم بغير السيف، حتى قال: يتركون على المكان العالي حتى يموتوا حتف أنوفهم بلا قتل.
فأما التمثيل في القتل فلا يجوز إلا على وجه القصاص، وقد قال عمران بن حصين - رضي الله عنهما -: «ما خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة إلا أمرنا بالصدقة، ونهانا عن المثلة حتى الكفار إذا قتلناهم، فإنا لا نمثل بهم بعد القتل، ولا نجدع آذانهم وأنوفهم، ولا نبقر بطونهم إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بنا؛ فنفعل بهم مثل ما فعلوا (3) » ، والترك أفضل كما قال الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (4) {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} (5) ، قيل: إنها نزلت لما مثل المشركون بحمزة وغيره من شهداء أحد - رضي الله عنهم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بضعفي ما مثلوا بنا» ؛ فأنزل الله هذه الآية، وإن كانت قد نزلت قبل ذلك بمكة مثل قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (6)
__________
(1) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1955) ، سنن الترمذي الديات (1409) ، سنن النسائي الضحايا (4413) ، سنن أبو داود الضحايا (2815) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3170) ، مسند أحمد بن حنبل (4/125) ، سنن الدارمي الأضاحي (1970) .
(2) سنن أبو داود الجهاد (2666) ، سنن ابن ماجه الديات (2682) ، مسند أحمد بن حنبل (1/393) .
(3) سنن أبو داود الجهاد (2667) ، مسند أحمد بن حنبل (4/429) ، سنن الدارمي الزكاة (1656) .
(4) سورة النحل الآية 126
(5) سورة النحل الآية 127
(6) سورة الإسراء الآية 85(11/128)
وقوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (1) ، وغير ذلك من الآيات التي نزلت بمكة.
ثم جرى بالمدينة سبب يقتضي الخطاب. فأنزلت مرة ثانية فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بل نصبر» ، وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أو في حاجة نفسه أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله تعالى وبمن معه من المسلمين خيرا، ثم يقول: اغزوا باسم الله، في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا (2) » .
ولو شهروا السلاح في البنيان - لا في الصحراء - لأخذ المال، فقد قيل: إنهم ليسوا محاربين، بل هم بمنزلة المختلس والمنتهب؛ لأن المطلوب يدركه الغوث إذا استغاث بالناس، وقال أكثرهم: إن حكمهم في البنيان والصحراء واحد. وهذا قول مالك - في المشهور عنه - والشافعي، وأكثر أصحاب أحمد، وبعض أصحاب أبي حنيفة، بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء؛ لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة، ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم، فإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة، ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله، والمسافر لا يكون معه - غالبا - إلا بعض ماله، وهذا هو الصواب: لا سيما هؤلاء المتحزبون الذين تسميهم العامة في الشام ومصر "المنسر"، وكانوا يسمون ببغداد العيارين، ولو حاربوا بالعصي والحجارة المقذوفة بالأيدي أو المقاليح ونحوها؛ فهم محاربون أيضا، وقد حكي عن بعض الفقهاء: لا محاربة إلا بالمحدد، وحكى بعضهم الإجماع على أن المحاربة تكون بالمحدد والمثقل، وسواء كان فيه خلاف أو لم يكن.
فالصواب الذي عليه جماهير المسلمين: أن من قاتل على أخذ المال بأي نوع كان من أنواع القتال فهو محارب قاطع، كما أن قاتل المسلمين من الكفار بأي نوع كان من أنواع القتال فهو حربي، ومن قاتل الكفار من المسلمين بسيف أو رمح أو سهم أو حجارة أو بعصي فهو مجاهد في سبيل الله.
__________
(1) سورة هود الآية 114
(2) صحيح مسلم الجهاد والسير (1731) ، سنن الترمذي السير (1617) ، سنن أبو داود الجهاد (2613) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2858) ، مسند أحمد بن حنبل (5/358) ، سنن الدارمي السير (2439) .(11/129)
وأما إذا كان يقتل النفوس سرا لأخذ المال مثل الذي يجلس في خان يكريه لأبناء السبيل، فإذا انفرد بقوم منهم قتلهم وأخذ أموالهم، أو يدعو إلى منزله من يستأجره لخياطة أو طب أو نحو ذلك فيقتله، ويأخذ ماله، وهذا يسمى القتل غيلة، ويسميهم بعض العامة المعرجين، فإذا كان لأخذ المال فهل هم كالمحاربين أو يجري عليهم حكم القود؟ فيه قولان للفقهاء:
أحدهما: أنهم كالمحاربين؛ لأن القتل بالحيلة كالقتل مكابرة كلاهما لا يمكن الاحتراز منه، بل قد يكون ضرر هذا أشد؛ لأنه لا يدري به.
والثاني: أن المحارب هو المجاهر بالقتال، وأن هذا المغتال يكون أمره إلى ولي الدم، والأول أشبه بأصول الشريعة، بل قد يكون ضرر هذا أشد لأنه لا يدري به.
واختلف الفقهاء أيضا فيمن يقتل السلطان كقتلة عثمان، وقاتل علي - رضي الله عنهما - هل هم كالمحاربين فيقتلون حدا، أو يكون أمرهم إلى أولياء الدم، على قولين في مذهب أحمد وغيره؛ لأن في قتله فسادا عاما.
فصل
وهذا كله إذا قدر عليهم، فأما إذا طلبهم السلطان أو نوابه لإقامة الحد بلا عدوان، فامتنعوا عليه فإنه يجب على المسلمين قتالهم باتفاق العلماء، حتى يقدر عليهم كلهم، ومتى لم ينقادوا إلا بقتال يفضي إلى قتلهم كلهم، قوتلوا وإن أفضى إلى ذلك، سواء كانوا قد قتلوا أو لم يقتلوا، ويقتلون في القتال كيفما أمكن في العنق وغيره، ويقاتل من قاتل معهم ممن يحميهم ويعينهم، فهذا قتال وذاك إقامة حد.
وقتال هؤلاء أوكد من قتل الطوائف الممتنعة عن شرائع الإسلام، فإن هؤلاء قد تحزبوا لفساد النفوس والأموال وهلاك الحرث والنسل ليس مقصودهم إقامة دين ولا ملك.
وهؤلاء كالمحاربين الذين يأوون إلى حصن أو مغارة أو رأس جبل أو بطن واد ونحو ذلك يقطعون الطريق على من مر بهم، وإذا جاءهم جند ولي الأمر يطلبهم للدخول في طاعة المسلمين والجماعة لإقامة الحدود: قاتلوهم ودفعوهم مثل الأعراب الذين يقطعون(11/130)
الطريق على الحاج أو غيره من الطرقات، أو الجبلية الذي يعتصمون برءوس الجبال أو المغارات لقطع الطريق، وكالأحلاف الذي تحالفوا لقطع الطريق بين الشام والعراق، ويسمون ذلك " النهيضة "، فإنهم يقاتلون كما ذكرنا لكن قتالهم ليس بمنزلة قتال الكفار إذا لم يكونوا كفارا، ولا تؤخذ أموالهم إلا أن تكون أموال الناس بغير حق، فإن عليهم ضمانها فيؤخذ منهم بقدر ما أخذوا، وإن لم نعلم عين الأخذ، وكذلك لو علم عينه فإن الردء والمباشر سواء كما قلناه، لكن إذا عرف عينه كان قرار الضمان عليه، ويرد ما يؤخذ منهم على أرباب الأموال، فإن تعذر الرد عليهم كان لمصالح المسلمين، من رزق الطائفة المقاتلة لهم وغير ذلك:
بل المقصود من قتالهم التمكن منهم لإقامة الحدود ومنعهم من الفساد، فإذا جرح الرجل منهم جرحا مثخنا لم يجهز عليه حتى يموت، إلا أن يكون قد وجب عليه القتل، وإذا هرب وكفانا شره لم نتبعه، إلا أن يكون عليه حد أو تخاف عاقبته، ومن أسر منهم أقيم عليه الحد الذي يقام على غيره، ومن الفقهاء من يشدد فيهم حتى يرى غنيمة أموالهم وتخميسها، وأكثرهم يأبون ذلك، فأما إذا تحيزوا إلى مملكة طائفة خارجة عن شريعة الإسلام، وأعانوهم على المسلمين قوتلوا كقتالهم.
وأما من كان لا يقطع الطريق، ولكنه يأخذ خفاره أو ضريبة من أبناء السبيل على الرءوس والدواب والأحمال ونحو ذلك، فهذا مكاس، عليه عقوبة المكاسين، وقد اختلف الفقهاء في جواز قتله، وليس هو من قطاع الطريق، فإن الطريق لا ينقطع به، مع أنه أشد الناس عذابا يوم القيامة، حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغامدية: «لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له (1) » ، ويجوز للمظلومين - الذين تراد أموالهم - قتال المحاربين بإجماع المسلمين، ولا يجب بذل لهم من المال لا قليل ولا كثير، إذا أمكن قتالهم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد (2) » .
__________
(1) رواه مسلم كتاب الحدود (ص 203 مسلم بشرح النووي) ورواه غيره.
(2) رواه أبو داود (في كتاب السنة رقم الحديث 4772، ورواه الترمذي (في كتاب الديات رقم الحديث 1421) وقال حديث حسن صحيح.(11/131)
وهذا الذي تسميه الفقهاء " الصائل، وهو الظالم بلا تأويل ولا ولاية، فإذا كان مطلوبه المال جاز دفعه بما يمكن، فإذا لم يندفع إلى بالقتال قوتل، وإن ترك القتال وأعطاهم شيئا من المال جاز، وأما إذا كان مطلوبه الحرمة مثل أن يطلب الزنا بمحارم الإنسان، أو يطلب من المرأة أو الصبي المملوك أو غيره الفجور به؛ فإنه يجب عليه أن يدفع عن نفسه بما يمكن ولو بالقتال، ولا يجوز التمكين منه بحال، بخلاف المال، فإنه يجوز التمكين منه؛ لأن بذل المال جائز، وبذل الفجور بالنفس أو بالحرمة غير جائز، وأما إذا كان مقصوده قتل الإنسان جاز له الدفع عن نفسه، وهل يجب إليه؟ على قولين للعلماء في مذهب أحمد وغيره.
وهذا إذا كان للناس سلطان، فأما إذا كان - والعياذ بالله - فتنة، مثل أن يختلف سلطانان للمسلمين ويقتتلان على الملك، فهل يجوز للإنسان إذا دخل أحدهما بلد الآخر وجرى السيف أن يدفع عن نفسه في الفتنة أو يستسلم فلا يقاتل فيها؟ على قولين لأهل العلم في مذهب أحمد وغيره.
فإذا ظفر السلطان بالمحاربين الحرامية - وقد أخذوا الأموال التي للناس - فعليه أن يستخرج في منهم الأموال التي للناس ويرد عليهم مع إقامة الحد على أبدانهم، وكذلك السارق، فإن امتنعوا من إحضار المال بعد ثبوته عليهم عاقبهم بالحبس والضرب، حتى يمكنوا من أخذه يإحضاره أو توكيل من يحضره، أو الإخبار بمكانه، كما يعاقب كل ممتنع عن حق وجب عليه أداؤه، فإن أنه قد أباح للرجل في كتابه أن يضرب امرأته إذا نشزت فامتنعت من الحق الواجب عليها، حتى تؤديه، فهؤلاء، أولى وأحرى، وهذه المطالبة والعقوبة حق لرب المال، فإن أراد هبتهم المال أو المصالحة عليه أو العفو عن عقوبتهم فله ذلك بخلاف إقامة الحد عليهم، فإنه لا سبيل إلى العفو عنه بحال، وليس للإمام أن يلزم رب المال بترك شيء من حقه.
وإن كانت الأموال قد تلفت بالأكل وغيرهم عندهم أو عند السارق، فقيل: يضمنونها لأربابها كما يضمن سائر الغارمين، وهو قال الشافعي وأحمد - رضي الله عنهما -، وتبقى مع الأعمار في ذمتهم إلى ميسرة، وقيل: لا يجتمع الغرم والقطع، وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله - وقيل، يضمنونها مع اليسار فقط دون الإعسار، وهو قول مالك - رحمه الله -.
ولا يحل للسلطان أن يأخذ من أرباب الأموال جعلا على طلب المحاربين وإقامة الحد(11/132)
وارتجاع أموال الناس منهم، ولا على طلب السارقين لا لنفسه ولا للجند الذين يرسلهم في طلبهم، بل طلب هؤلاء من نوع الجهاد في سبيل الله، فيخرج فيه جند المسلمين كما يخرج في غيره من الغزوات التي تسمى البيكار، وينفق على المجاهدين في هذا من المال الذي ينفق منه على سائر الغزاة، فإن كان لهم أقطاع أو عطاء يكفيهم وإلا أعطاهم تمام كفاية غزوهم من مال المصالح من الصدقات.
فإن هذا من سبيل الله، فإن كان على أبناء السبيل المأخوذين زكاة مثل التجار الذين قد يؤخذون، فأخذ الإمام زكاة أموالهم وأنفقها في سبيل الله كنفقة الذين يطلبون المحاربين، جاز ولو كانت بهم شوكة قوية تحتاج إلى تأليف؛ فأعطى الإمام من الفيء والمصالح والزكاة لبعض رؤسائهم يعينهم على إحضار الباقين أو لترك شره، فيضعف الباقون ونحو ذلك جاز، وكان هؤلاء من المؤلفة قلوبهم، وقد ذكر مثل ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره، وهو ظاهر الكتاب والسنة وأصول الشريعة.
ولا يجوز أن يرسل الإمام من يضعف عن مقاومة الحرامية، ولا من يأخذ مالا من المأخوذين التجار ونحوهم، من أبناء السبيل بل يرسل من الجند الأقوياء الأمناء إلا أن يتعذر ذلك فيرسل الأمثل فالأمثل.
فإن كان بعض نواب السلطان أو رؤساء القرى ونحوهم يأمرون الحرامية بالأخذ في الباطن أو الظاهر حتى إذا أخذوا شيئا قاسمهم ودافع عنهم، وأرضى المأخوذين ببعض أموالهم أو لم يرضهم، فهذا أعظم جرما من مقدم الحرامية؛ لأن ذلك يمكن دفعه بدون ما يندفع به هذا، والواجب أن يقال فيه ما يقال في الردء والعون لهم، فإن قتلوا قتل هو على قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وأكثر أهل العلم، وإن أخذوا المال قطعت يده ورجله، وإن قتلوا وأخذوا المال قتلى وصلب، وعلى قول طائفة من أهل العلم يقطع ويقتل ويصلب، وقيل: يخير بين هذين، وإن كان لم يأذن لهم: لكن لما قدر عليهم قاسمهم الأموال، وعطل بعض الحقوق والحدود.
ومن آوى محاربا أو سارقا أو قاتلا ونحوهم، ممن وجب عليه حد أو حق لله تعالى أو لآدمي، ومنعه أن يستوفى منه الواجب بلا عدوان، فهو شريكه في الجرم، وقد لعنه الله(11/133)
ورسوله، روى مسلم في صحيحه، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لعن الله من أحدث حدثا، أو آوى محدثا (1) » ، وإذا ظفر بهذا الذي آوى المحدث، فإنه يطلب منه إحضاره أو الإعلام به، فإن امتنع عوقب بالحبس والضرب مرة بعد مرة حتى يمكن من ذلك المحدث، كما ذكرنا أنه يعاقب الممتنع من أداء المال الواجب، فمن وجب حضوره من النفوس والأموال يعاقب من منع حضورها.
ولو كان رجلا يعرف مكان المال المطلوب بحق أو الرجل المطلوب بحق وهو الذي يمنعه، فإنه يجب عليه الإعلام به، والدلالة عليه، ولا يجوز كتمانه، فإن هذا من باب التعاون على البر والتقوى، وذلك واجب: بخلاف ما لو كان النفس أو المال مطلوبا بباطل، فإنه لا يحل الإعلام به؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان، بل يجب الدفع عنه: لأن نصر المظلوم واجب، ففي الصحيحين عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قلت: يا رسول الله، أنصره مظلوما. فكيف أنصره ظالما؟ قال: تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه (2) » .
وروى مسلم نحوه عن جابر، وفي الصحيحين عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: «أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، وإجابة الدعوة، ونصر المظلوم، ونهانا عن خواتيم الذهب، وعن الشرب بالفضة، وعن المياثر، وعن لبس الحرير، والقسي، والديباج، والإستبرق (3) » ، فإن امتنع هذا العالم به من الإعلام بمكانه جازت عقوبته بالحبس وغيره، حتى يخبر به؛ لأنه امتنع من حق واجب عليه، لا تدخله النيابة فعوقب كما تقدم، ولا تجوز عقوبته على ذلك إلا إذا عرف أنه عالم به.
وهذا مطرد في ما تتولاه الولاة والقضاء وغيرهم، في كل من امتنع من واجب من قول أو فعل، وليس هذا بمطالبة للرجل بحق وجب على غيره، ولا عقوبة على جناية غيره، حتى يدخل في قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (4) ، وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا لا يجني جان إلا على نفسه (5) » ، وإنما ذلك مثل أن يطلب بمال قد وجب على غيره، وهو ليس
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1870) ، صحيح مسلم الحج (1370) ، سنن النسائي القسامة (4734) ، سنن أبو داود المناسك (2034) ، مسند أحمد بن حنبل (1/119) .
(2) صحيح البخاري الإكراه (6952) ، سنن الترمذي الفتن (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (3/99) .
(3) صحيح البخاري النكاح (5175) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2066) ، سنن الترمذي الأدب (2809) ، سنن النسائي الجنائز (1939) ، مسند أحمد بن حنبل (4/287) .
(4) سورة الأنعام الآية 164
(5) سنن الترمذي الفتن (2159) ، سنن ابن ماجه المناسك (3055) .(11/134)
وكيلا ولا ضامنا ولا له عنده مال، أو يعاقب الرجل بجريمة قريبة أو جاره، من غير أن يكون هو قد أذنب، لا يترك واجب، ولا يفعل محرم، فهذا الذي لا يحل، فإنما هذا، فإنما يعاقب على ذنب نفسه، وهو أن يكون قد علم مكان الظالم الذي يطلب حضوره لاستيفاء الحق أو يعلم المال الذي قد تعلق به حقوق المستحقين، فيمتنع من الإعانة والنصرة الواجبة عليه في الكتاب والسنة والإجماع، إما محاباة أو حمية لذلك الظالم، كما قد يفعل أهل العصبية بعضهم ببعض، وإما معاداة أو بغضا للمظلوم، وقد قال الله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (1) .
وإما إعراضا - عن القيام لله، والقيام بالقسط الذي أوجبه الله - وجبنا وفشلا وخذلانا لدينه، كما يفعل التاركون لنصر الله ورسوله ودينه وكتابه، الذين إذا قيل لهم: انفروا في سبيل الله اثاقلوا إلى الأرض.
وعلى كل تقدير فهذا الضرب، يستحق العقوبة باتفاق العلماء.
ومن لم يسلك هذه السبل، عطل الحدود وضيع الحقوق، وأكل القوي الضعيف.
وهو يشبه من عنده مال الظالم المماطل من عين أو دين، وقد امتنع من تسليمه لحاكم عادل يوفي به دينه. أو يؤدي منه النفقة الواجبة عليه لأهله أو أقاربه أو مماليكه أو بهائمه، وكثيرا ما يجب على الرجل حق بسبب غيره، كما تجب عليه النفقة بسبب حاجة قريبة، وكما تجب الدية على عاقلة القاتل، وهذا الضرب من التعزير عقوبة لمن علم أن عنده مالا أو نفسا يجب إحضاره، وهو لا يحضره، كالقطاع والسراق وحماتهم، أو علم أنه خبير به وهو لا يخبر بمكانه، فأما إن امتنع من الإخبار والإحضار لئلا يتعدى عليه الطالب أو يظلمه فهذا محسن، وكثيرا ما يشتبه أحدهما بالآخر، ويجتمع شبهة وشهوة، والواجب تمييز الحق من الباطل.
وهذا يقع كثيرا في الرؤساء من أهل البادية والحاضرة إذا استجار بهم مستجير، أو كان بينهما قرابة أو صداقة؛ فإنهم يرون الحمية الجاهلية، والعزة بالإثم، والسمعة عند الأوباش، أنهم ينصرونه - وإن كان ظالما مبطلا - على المحق المظلوم: لا سيما إن كان الظالم رئيسا
__________
(1) سورة المائدة الآية 8(11/135)
يناديهم ويناويهم فيرون في تسليم المستجير بهم إلى من يناويهم ذلا أو عجزا: وهذا - على الإطلاق - جاهلية محضة، وهي من أكبر أسباب فساد الدين والدنيا، وقد ذكر أنه إنما كان سبب كثير من حروب الأعراب كحرب البسوس التي كانت بين بني بكر وتغلب، إلى نحو هذا، وكذلك سبب دخول الترك والمغول دار الإسلام، واستيلاؤهم على ملوك ما وراء النهر وخراسان كان سببه نحو هذا.
ومن أذل نفسه لله فقد أعزها، ومن بذل الحق من نفسه فقد أكرم نفسه، فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم، ومن اعتز بالظلم من منع الحق وفعل الإثم فقد أذل نفسه وأهانها، قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (1) ، وقال تعالى عن المنافقين: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (2) ، وقال الله تعالى في صفة هذا الضرب: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} (3) {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (4) {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} (5) .
وإنما الواجب على من استجار به مستجير إن كان مظلوما أن ينصره، وأن لا يثبت أنه مظلوم بمجود دعواه؛ فلطالما اشتكى الرجل وهو ظالم، بل يكشف خبره من خصمه وغيره، فإن كان ظالما رده عن الظلم بالرفق إن أمكن، إما بالصلح أو حكم بالقسط وإلا فبالقوة.
وإن كان كل منهم ظالما مظلوما كأهل الأهواء من قيس ويمن ونحوهم وأكثر المتداعين من أهل الأمصار والبوادي، أو كانا جميعا غير ظالمين لشبهة أو تأويل لو غلظ وقع فيها بينهما: سعى بينهما بالإصلاح أو الحكم كما قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (6)
__________
(1) سورة فاطر الآية 10
(2) سورة المنافقون الآية 8
(3) سورة البقرة الآية 204
(4) سورة البقرة الآية 205
(5) سورة البقرة الآية 206
(6) سورة الحجرات الآية 9(11/136)
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) ، وقال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (2) ، وقد روى أبو داود في السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قيل له: «أمن العصبية أن ينصر الرجل قومه في الحق؟ قال: لا؛ قال: ولكن من العصبية أن ينصر الرجل قومه في الباطل (3) » وقال: «خيركم الدافع عن قومه ما لم يأثم (4) » ، وقال: «مثل الذي ينصر قومه في الباطل كبعير تردى في بئر فهو يجر بذنبه (5) » وقال: «من سمعتوه يتعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه، ولا تكنوا (6) » .
وكل ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن: من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية، بل لما اختصم رجلان من المهاجرين والأنصار فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري يا للأنصار، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم (7) » ، وغضب لذلك غضبا شديدا.
__________
(1) سورة الحجرات الآية 10
(2) سورة النساء الآية 114
(3) سنن أبو داود الأدب (5119) ، سنن ابن ماجه الفتن (3949) ، مسند أحمد بن حنبل (4/107) .
(4) سنن أبو داود الأدب (5120) .
(5) سنن أبو داود الأدب (5117) ، مسند أحمد بن حنبل (1/393) .
(6) مسند أحمد بن حنبل (5/136) .
(7) صحيح البخاري المناقب (3518) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2584) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3315) ، مسند أحمد بن حنبل (3/393) .(11/137)
4 - تعريف الخمرة وبيان الفرق بين المسكر والمخدر والمفتر، وذكر أقول الفقهاء في حكم تعاطيها، وعقوبة من يتعاطاها، ومن يساعد على ذلك:
معنى الخمر لغة وشرعا:
المعنى اللغوي: ترجع مشتقات هذه المادة إلى التغطية والستر والإدراك، ذكر أحمد بن فارس بن زكريا، وابن الأثير، والفيروزآبادي وغير هؤلاء من علماء اللغة.
أ - قال أحمد بن فارس: الخاء والميم والراء أصل واحد يدل على التغطية والمخالطة في ستر فالخمر الشراب المعروف، قال الخليل: الخمر معروفة، واختمارها إدراكها وغليانها، ويقولون: دخل في خمار الناس وخمرهم أي زحمتهم، والتخمير: التغطية، ويقال في القوم إذا تواروا في خمر الشجر: أخمروا، ويقال: خامره الداء إذا خالط(11/137)
جوفه (1) ، انتهى المقصود منه.
ب - قال ابن الأثير تحت مادة " خمر " فيه: خمروا الإناء وأوكوا السقاء، التخمير: التغطية، ومنه حديث أويس القرني: أكون في خمار الناس أي في زحمتهم حيث أخفى ولا أعرف، وفيه حديث أم سلمة قال لها وهي حائض: ناوليني الخمرة، وسميت خمرة؛ لأن خيوطها مستورة بسعفها، وفيه أنه كان يمسح على الخف والخمار؛ أراد به العمامة؛ لأن الرجل يغطي بها رأسه كما أن المرأة تغطيه بخمارها، وذلك إذا كان قد اعتم عمة العرب، فأدارها تحت الخشك فلا يستطيع نزعها كل وقت. . . إلخ.
ج - قال الفيروزآبادي تحت مادة (الخمر) ما أسكر من عصير العنب أو عام كالخمرة، وقد يذكر، والعموم أصح؛ لأنها حرمت، وما بالمدينة خمر عنب، وما كان شرابهم إلا البسر والتمر، سميت خمرا؛ لأنها تخمر العقل وتستره، ولأنها تركت حتى أدركت واختمرت، أو لأنها تخامر العقل، أي تخالطه. انتهى المقصود منه (2) ، وجاء هذا المعنى على لسان العرب (3) .
تعريفها شرعا:
نذكر فيما يلي تعريفها في المذاهب الأربعة مرتبة:
أ - تعريفها عند الحنفية: قال الزيلعي هي التي من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد.
وقال بعضهم: كل مسكر خمر؛ لما روي عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام (4) » ، رواه مسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم.
وفي لفظ: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام (5) » ، رواه مسلم.
ولقوله - عليه الصلاة والسلام -: «الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة (6) » ، رواه مسلم وأبو داود والترمذي وجماعة.
__________
(1) معجم مقاييس اللغة
(2) القاموس: 2 \ 23
(3) لسان العرب: 5 \ 338 وما بعدها.
(4) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) .
(5) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) .
(6) صحيح مسلم الأشربة (1985) ، سنن الترمذي الأشربة (1875) ، سنن النسائي الأشربة (5572) ، سنن أبو داود الأشربة (3678) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3378) ، مسند أحمد بن حنبل (2/526) ، سنن الدارمي الأشربة (2096) .(11/138)
وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن من الحنطة خمرا، وإن من الشعير خمرا، ومن الزبيب خمرا، ومن العسل خمرا (1) » ، رواه أبو داود والترمذي وجماعة أخر؛ ولأنها سميت خمرا لمخامرتها العقل، والسكر يوجد بشرب غيرها فكان خمرا، ولنا أن الخمر حقيقة اسم للنيء من ماء العنب، المسكر باتفاق أهل اللغة، وغيره يسمى مثلثا وباذقا إلى غير ذلك من أسمائه، وتسمية غيرها خمرا مجازا، وعليه يعمل الحديث أو على بيان الحكم إن ثبت؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - بعث له لا لبيان الحقائق.
ولا نسلم أنها سميت خمرا لمخامرتها العقل بل لتخمرها، ولكن سلمنا لأنها سميت بالخمر لمخامرتها العقل لا يلزم منه أن يسمى غيرها بالخمر قياسا عليها؛ لأن القياس لإثبات الأسماء اللغوية باطل، وإنما هو لتعدي الحكم الشرعي، ألا ترى أن البرج سمي برجا لتبرجه، وهو الظهور، وكذا النجم سمي نجما لظهوره، ثم لا يسمى كل ظاهر برجا ولا نجما.
وما ذكره في المختصر من تعريف الخمر، هو قول أبي حنيفة - رحمه الله -.
وعندهما: إذا اشتد صار خمرا، ولا يشترط فيه القذف بالزبد؛ لأن اللذة المطربة والقوة المسكرة تحصل به، وهو المؤثر في إيقاع العداوة والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وأما القذف بالزبد فهو وصف لا تأثير له في إحداث صفة السكر، وله أن الغليان بداية الشدة وكماله بقذف الزبد؛ لأنه يتميز به الصافي من الكدر، وأحكام الشرع المتعلقة بها قطعية كالحد وإكفار مستحلها ونحو ذلك؛ فتناط بالنهاية به.
وقيل يؤخذ في حرمة الشرب بمجرد الاشتداد، وفي وجوب الحد على الشارب بقذف الزبد احتياطا (2) .
تعريفها عند المالكية:
أ - في المدونة قلت لابن القاسم: هل كان مالك يكره المسكر من النبيذ، قال: قال مالك: ما أسكر من الأشربة كلها فهو خمر. انتهى المقصود (3) .
__________
(1) سنن الترمذي الأشربة (1872) ، سنن أبو داود الأشربة (3676) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3379) .
(2) انظر كتاب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي، وبهامشه حاشية الشيلي \ 6 \ 44
(3) المدونة \ 4 \ 410(11/139)
ب - وقال الزرقاني: وهي ما خامر العقل كما خطب بذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بحضرة الصحابة الأكابر، ولم ينكره أحد؛ فشمل كل مسكر سميت بذلك؛ لأنها تخمر العقل أي تغطيه وتستره، وكل شيء غطى شيئا فقد خمره كخمار المرأة؛ لأنه يغطي رأسها، ويقال للشجر الملتف: الخمر؛ لأنه يغطي ما تحته، أو لأنها تركت حتى أدركت، كما يقال: خمر الرأي واختمر أي ترك حتى يتبين فيه الوجه، واختمر الخبز إذا بلغ إدراكه، أو لأنها استقت من المخامرة التي هي مخالطة؛ لأنها تخلط العقل، وهذا قريب من الأول، والثلاثة موجودة في الخمر؛ لأنها تركت حتى أدركت الغليان وحد الإسكار، وهي مخالطة للعقل، وربما قلت عليه وغطته، قاله أبو عمر (1) .
تعريفها عند الشافعية:
قال المزني: قال الشافعي: كل شراب أسكر كثيرة فقليلة حرام، انتهى المقصود (2) .
وقال الرملي: وحقيقة الخمر المسكر من عصر العنب، وإن لم يقذف بالزبد وتحريم غيرها بنصوص ذلك على ذلك.
تعريفها عند الحنابلة:
قال ابن قدامة: كل مسكر حرام قليله وكثيره، وهو خمر حكمه حكم عصير العنب في تحريمه ووجوب الحد على شاربه. انتهى المقصود (3) .
قال شيخ الإسلام: والخمر التي حرمها الله ورسوله، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بجلد شاربها كل شراب مسكر من أي أصل كان، سواء كان من الثمار: كالعنب والرطب والتين، أو الحبوب: كالحنطة والشعير، أو الطاول: كالعسل، أو الحيوان: كلبن الخيل، بل لما أنزل الله - سبحانه وتعالى -
__________
(1) الأرقاني على الموطأ \ 4 \ 169
(2) مختصر المزني مع الأم \ 5 \ 174 والمهذب للشيرازي \ 2 \ 282
(3) المغني \ 9 \ 139(11/140)
على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - تحريم الخمر، لم يكن عندهم في المدينة من خمر العنب شيء؛ لأنه لم يكن في المدينة شجر عنب، وإنما كانت تجلب من الشام، وكان عامة شرابهم من نبيذ التمر، وقد تواترت السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه وأصحابه - رضي الله عنهم - أنه حرم كل مسكر وبين أنه خمرا (1) .
وللبحث بقية في العدد القادم
__________
(1) السياسة الشرعية \ 50(11/141)
صفحة فارغة(11/142)
صفحة فارغة(11/143)
صفحة فارغة(11/144)
فتوى رقم 443 في 16 \ 5 \ 1393هـ -
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين، وهو:
السؤال الأول: هل يجوز مع الضرورات أكل ذبائح النصارى دون الخنزير أو ما نهى عنه الدين، والذبح عندهم يكون ضربا بآلتهم التي تنفذ مقاتل الذبيحة ضربة واحدة؟
الجواب: ذبائح النصارى دون الخنزير أو ما نهى عنه الدين، والذبح عندهم يكون ضربا بآلتهم التي تنفذ مقاتل الذبيحة ضربة واحدة يتبين حكمها من التفصيل الآتي:
الأصل في جواز الأكل من ذبائح أهل الكتاب قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1) .
فسر ابن عباس الطعام بذبائحهم، وهو أحد التفسيرين للآية، والكتابي إذا ذبح ذبيحة، فأما بالنسبة للتسمية فإن علمنا أنه ذكر اسم الله عليها جاز أكلها، وإن علمنا أنه ذكر اسم غير الله فلا يجوز أكلها؛ لعموم قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (2) ، وإن جهلنا فلا ندري هل ذكر اسم الله عليها أو لا؟ فالأصل في ذبائحهم الحل، وأما الآلة التي يكون فيها الذبح فإنها عامة في كل محدد، إلا ما استثناه الدليل، فقد ثبت في صحيحي البخاري ومسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما أنهر الدم فكل، ليس السن والظفر (3) » ، فقد عمم في هذا الحديث جواز الذبح بكل آلة، واستثنى آلتين: السن والظفر، أو الصعق أو وضع ما يراد ذبحه بماء حار حتى يموت ونحو ذلك؛ فهذا حكمه حكم الميتة، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (4) إلى أن قال تعالى: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} (5) الآية، وأما محل
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) سورة الأنعام الآية 121
(3) صحيح البخاري الشركة (2488، 2507) ، الجهاد والسير (3075) ، الذبائح والصيد (5498، 5543) ، صحيح مسلم الأضاحي (1968) ، سنن أبو داود الضحايا (2821) ، مسند أحمد بن حنبل (3/464) ، مسند الشاميين (4/140) .
(4) سورة المائدة الآية 3
(5) سورة المائدة الآية 3(11/145)
الذبح فلا بد في الذبح من قطع الحلقوم، وهو مجرى النفس، والمريء وهو مجرى الطعام والشراب، وسواء كان القطع فوق الغلصمة - وهو الموضع الناتئ من الحلق - أو دونها، وأما الضرورة التي أشار إليها السائل، فالضرورات تبيح المحرمات، إلا ما استثناه الدليل كافتقاد الكفر وكالزنا وقتل النفس المعصومة بغير حق، فهذه لا تباح مع الضرورات، والضرورة المبيحة لأكل الذبيحة المحرمة هي ما إذا ترتب على ترك الأكل فوات نفس تارك الأكل، قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) ، ويأكل من هذا اللحم المحرم ما يسد رمقه ولا يجد غيره، لقوله في الآية: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} (2) قال القرطبي في تفسيره: والمعنى فيما قاله قتادة والحسن والربيع وابن زيد وعكرمة: غير باغ في أكله فوق حاجته، ولا عاد بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة ويأكلها، وقال السدي: غير باغ في أكلها شهوة وتلذذا، ولا عاد باستيفاء الأكل إلى حد الشبع، قال مجاهد وابن جبير وغيرهما: المعنى غير باغ على المسلمين ولا عاد عليهم فيدخل في الباغي والعادي قطاع الطريق، والخارج على السلطان والمسافر في قطع الرحم والغارة على المسلمين وما شاكلها، وهذا صحيح، فإن أصل البغي في اللغة قصد الفساد، انتهى المقصود.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 173
(2) سورة البقرة الآية 173(11/146)
السؤال الثاني: ما حكم عمل المسلم المستخدم في مصانع لا يصنع فيها إلا عصير الخمر والمسكرات؟
الجواب: الخمر وسائر المسكرات محرمة، وتأسيس المصانع لها والاستخدام بها كل ذلك حرام، فعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أتاني جبريل - عليه السلام - قال: يا محمد، إن الله - عز وجل - لعن الخمر وعاصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها وساقيها ومسقاها (1) » ، أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: رواه أحمد والطبراني، ورجاله ثقات، ورواه أبو داود والحاكم وفيه زيادة، (ومعتصرها)
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1295) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3381) .(11/146)
فهذا الشخص المستخدم في المصانع التي تصنع فيها الخمور، لا يجوز له البقاء فيها لهذا الحديث الذي سبق، وهو دال على أنه ملعون، ولأنه من التعاون على الإثم والعدوان، وقد قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) .
أما ما مضى من الاستخدام، وهو يجهل الحكم فهو معذور في ذلك لعموم قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (2) ، والرسول ينزل عليه الوحي من الله ويبلغه الأمة، فالعبد لا يكون مكلفا إلا بعد أن يبلغه كما كلف به.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة الإسراء الآية 15(11/147)
السؤال الثالث: هل يجوز للمسلم إكرام الرفقاء غير المسلمين، ويقدم لهم طعاما وشرابا مما حرمه عليه الدين الإسلامي؟
الجواب: الإسلام دين السماحة واليسر والسهولة، وهو مع ذلك دين العدل، والإكرام من الآداب الإسلامية، لكن إذا كان كافرا فيختلف الحكم باختلاف قصد المكرم له، وباختلاف ما يكرمه به، فإذا كان المقصود شرعيا لكونه يريد إيجاد انسجام بينه وبينه حتى يدعوه إلى الإسلام، وينقذه من الكفر والضلال فهذا قصد نبيل.
ومن القواعد المقررة في الشريعة أن الوسائل لها حكم الغايات، فإذا كانت الغاية واجبة، وجبت الوسيلة، وإذا كانت الغاية محرمة حرمت الوسيلة وهكذا، وإذا لم يكن له مقصود شرعي في الإكرام ولم يترتب على تركه ضرر على هذا المكرم في دينه أو نفسه أو أهله أو ماله فلا يجوز ذلك، وإن ترتب عليه ضرر جاز، وأما إكرامهم بالطعام والشراب مما حرمه الله - جل وعلا - كلحم الخنزير والخمر، فهذا لا يجوز، فإن إكرامهم بذلك معصية لله وطاعة لهم، وتقديم لحقهم على حق الله، والواجب على المسلم هو التمسك بدينه، وفي البلاد الأجنبية يظهر لتمسكه بدينه آثار جليلة؛ فيكون داعيا إلى الإسلام بقوله وفعله.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(11/147)
السؤال الرابع: ما حكم النفس التي كادت أن تهلك ولا يمكن استشفاؤها بشيء سوى الخمر؟
الجواب: التداوي من الأمور المشروعة، ولكن يكون بما شرعه الله - جل وعلا -، وبما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا هو الذي يمكن أن يكون فيه الشفاء، أما ما حرمه الله فلا شفاء فيه، ومما يدل على تحريم التداوي بالأدوية المحرمة عامة وبالخمر خاصة، ما رواه البخاري في صحيحه معلقا عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: (إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم) ، وقد وصله الطبراني بإسناد رجاله رجال الصحيح، وأخرجه أحمد وابن حبان في صحيحه، والبزار وأبو يعلى والطبراني، ورجال أبي يعلى ثقات عن أم سلمة.
وما رواه أبو داود في سننه من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء؛ فتداووا ولا تداووا بحرام (1) » ، وفي صحيح مسلم عن طارق بن سويد الجعفي، «أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر؟ فنهاه، وكره أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال: إنه ليس دواء ولكنه داء (2) » ، ومما يحسن التنبيه عليه أن الله إذا أمر بشيء فهو إما لمصلحة محضة أو راجحة على مفسدته، وإذا نهى عن شيء فهو إما لمفسدة محضة أو أن مفسدته أرجح من مصلحته، والله - جل وعلا - حكيم عليم، وتصور أن هذا المرض لا يشفى إلا بشرب الخمر أمر موهوم؛ فالأدوية كثيرة من دينية وطبيعية، ثم إن الدواء لا يشفي المرض، وإنما يحصل الشفاء من الله - جل وعلا - عند استعمال الدواء، فإن تعاطي الأسباب الشرعية قد يكون مصحوبا بالاعتماد عليها، وقد يكون مصحوبا بجعلها سببا مع الاعتماد على الله - جل وعلا -، واعتقاد أنها قد تنفع وقد لا تنفع، فهذا هو المطلوب شرعا، أما الاعتماد عليها اعتمادا كليا فهذا شرك، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن أبو داود الطب (3874) .
(2) صحيح مسلم الأشربة (1984) ، سنن الترمذي الطب (2046) ، سنن أبو داود الطب (3873) ، مسند أحمد بن حنبل (4/317) .(11/148)
فتوى رقم 1393 وتاريخ 25 \ 9 \ 1396 هـ.
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين، وهو:
السؤال الأول: هل ذبح المرأة جائز عند عدم الضرورة؟
الجواب: ذبح المرأة جائز إذا كانت مسلمة أو كتابية؛ لعموم الأدلة في ذلك، وعدم وجود مخصص يخرج المرأة من دخولها في هذا العموم، ولحديث ابن كعب بن مالك يحدث عن أبيه: «أنه كانت لهم غنم ترعى بسلع، فأبصرت جارية لنا بشاة من غنمنا موتا فكسرت حجرا فذبحتها به، فقال لهم: لا تأكلوا حتى أسأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو أرسل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من يسأله، وأنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فأمره بأكلها (1) » أخرجه البخاري، والأمر بأكلها مع أن التي ذبحتها امرأة، دليل على جواز ذبحها، ولو كان ذبحها غير جائز لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حقه - صلى الله عليه وسلم - بإجماع العلماء.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الوكالة (2304) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3182) ، مسند أحمد بن حنبل (3/454) ، موطأ مالك الذبائح (1057) .(11/149)
السؤال الثاني: ما حكم أكل لحم الدجاج المثلج المستورد من الخارج؟
الجواب: لقد ورد سؤال إلى اللجنة عن حكم اللحم الذي يوجد في الأسواق، وقد ذبح في الخارج، هل يجوز الأكل منه أم لا؟
فصدر عليه جواب تكتفي اللجنة بذكره لدخول المسألة المسئول عنها في عمومه، وهذا نصه: " إن كان مذكي الأنعام أو الطيور غير كتابي ككفار روسيا وبلغاريا وما شابهها في الإلحاد ونبذ الديانات فلا تؤكل ذبيحته، سواء ذكر اسم الله عليها أم لا؛ لأن الأصل حل ذبائح المسلمين فقط، واستثني ذبائح أهل الكتاب بالنص، وإن كان من ذكاها من(11/149)
أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، فإن كانت تذكيته إياها بذبح رقبتها أو نحرها في لبتها وهي حية، وذكر اسم الله عليها أكلت اتفاقا؛ لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1) ، وإن لم يذكر اسم الله عليها عمدا ولا اسم غيره ففي جواز أكلها خلاف، وإن جهلنا أن أهل الكتاب ذكروا اسم الله على ما ذبحوه أم لا؛ فالأصل حل ذبائحهم لعموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (2) وإن ذكر اسم غير الله عليها لم تؤكل، وهي ميتة لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (3) ، وإن ضربها في رأسها بمسدس، أو سلط عليها تيارا كهربائيا - مثلا - فماتت من ذلك فهي موقوذة، ولو قطع رقبتها بعد ذلك، وقد حرمها الله في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ} (4) ، إلا إذا كانت حية بعد ضرب رأسها قبلا وذكيت فتؤكل؛ لقوله تعالى في آخر هذه الآية: {وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} (5) ، فاستثنى سبحانه من المحرمات ما ذكر منها إذا أدرك حيا؛ لأن التذكية لا تأثير لها في الميتة، أما ما خنق منها حتى مات، أو سلط عليه تيار كهربائي حتى مات، فلا يؤكل باتفاق، وإن ذكر اسم الله عليه حين خنقه، أو تسليط الكهرباء عليه، أو عند أكله.
أما قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سموا الله وكلوا (6) » ، فإنه كان في ذبائح ذبحها قوم أسلموا، لكنهم حديثو عهد بجاهلية، ولم يعلم أذكر اسم الله عليها أم لا؟
فأمر المسلمين الذين شكوا في تسمية هؤلاء على ذبائحهم، أن يفعلوا ما عليهم، وهي التسمية عند الأكل، وأن يعملوا أمر هؤلاء الذابحين على ما عهد في المسلمين من التسمية عند الذبح.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) سورة المائدة الآية 5
(3) سورة الأنعام الآية 121
(4) سورة المائدة الآية 3
(5) سورة المائدة الآية 3
(6) صحيح البخاري البيوع (2057) ، سنن النسائي الضحايا (4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976) .(11/150)
فتوى رقم 1413 في 28 \ 11 \ 1396 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين، وهو:
السؤال: تثار كثير من الإشاعات عن السمن المستورد واللحوم والبيبسي، فكثيرا ما نسمع أن البيبسي والسمن تضاف إليه أشياء محرمة، واللحوم المستوردة: يشك في طريقة ذبحها من ناحية، ومن ناحية أخرى يتحرج المسلم بالنسبة للذبائح، خصوصا المستوردة من البلاد الشيوعية.
الجواب: أما ما يختص بالسمن المستورد والبيبسي، فلم يتبين لنا فيها ما يقتضي التحريم؛ لأن الأصل في الأشياء الحل، حتى يتبين ما يوجب الحرمة، لكن من حصل في نفسه ما يريبه فليدعه إلى ما لا يريبه، للحديث الوارد في ذلك.
وقد كتبنا لوزارة التجارة بخصوص ما قيل عن السمن المستورد، فأجابت بأنه خال مما يشاع عنه من خلطه بمحرم.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(11/151)
فتوى رقم 1414 في 28 \ 11 \ 1396 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين، وهو:
السؤال: هل يجوز قتل الضفدع، وهل يعتبر الضفدع من الحيوانات البرية أم البحرية، وإن يكن بريا فهل يجوز أكله بدون الذبح والناس لا يذبحونه، ولا يمكن ذبحه لأنه معدوم العنق، وإنما يقطعون منه الرجل للأكل ويرمون الباقي، وإن يكن بحريا فما المانع من أن يكون داخلا في صيد البحر الذي أحله الله؟ يقول بعض أهل العلم: إن جميع الأحاديث التي وردت في النهي عن قتل الضفدع ضعيفة، ولم يصح منها شيء، فماذا تقولون؟
الجواب: بعد دراسة اللجنة للسؤال أجابت بما يلي:
اختلف أهل العلم في حكم أكل الضفدع: فمنهم من أجاز أكله، ومنهم من منعه، وممن أجاز أكله: مالك بن أنس ومن وافقه من أهل العلم، وممن منع أكله الإمام أحمد ومن وافقه من أهل العلم، والذين أجازوا استدلوا بعموم قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} (1) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في البحر: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته (2) » ، وهذا العموم يتناول الضفدع؛ لأنه من صيد البحر.
والذين منعوا أكله استدلوا بما أخرجه أبو داود في الطب وفي الأدب، والنسائي في الصيد عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن خالد عن سعيد بن المسيب، عن عبد الرحمن بن عثمان القرشي: «أن طبيبا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الضفدع يجعلها في دواء فنهى عن قتلها (3) » ، انتهى.
ورواه أحمد وإسحاق بن راهويه وأبو داود الطيالسي في مسانيدهم، والحاكم في
__________
(1) سورة المائدة الآية 96
(2) سنن الترمذي الطهارة (69) ، سنن النسائي المياه (332) ، سنن أبو داود الطهارة (83) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (386) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) ، موطأ مالك الطهارة (43) ، سنن الدارمي الطهارة (729) .
(3) سنن النسائي الصيد والذبائح (4355) ، سنن أبو داود الطب (3871) ، مسند أحمد بن حنبل (3/453) ، سنن الدارمي الأضاحي (1998) .(11/152)
المستدرك في الفضائل عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي، وأعاده في الطب، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال البيهقي: هو أقوى ما ورد في الضفدع.
ففي هذا الحديث دليل على تحريم أكل الضفدع؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتله، والنهي عن قتل الحيوان إما لحرمته كالآدمي، وإما لتحريم أكله كالضفدع، فإنه ليس بمحرم فنصرف النهي أكله.
وهذا الحديث معلول بأن فيه سعيد بن خالد القارظي، ضعفه النسائي، وأجيب عنه بأنه وثقة ابن حبان، وقال الدارقطني: مدني يحتج به، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(11/153)
فتوى رقم 11423 وتاريخ 28 \ 12 \ 1396 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين، وهو:
السؤال: جماعة من طلبة العلم يزعمون حل ذبائح من يستغيث بغير الله ويدعو غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، إذا ذكروا عليها اسم الله؛ مستدلين بعموم قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (1) الآية، وقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} (2) ، ويرون أن من يحرم ذلك من المعتدين الذين
__________
(1) سورة الأنعام الآية 118
(2) سورة الأنعام الآية 119(11/153)
يضلون بأهوائهم بغير علم، ويقولون: إن الله فصل لنا ما حرم علينا في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (1) الآية، وقوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (2) الآية، إلى أمثال ذلك من الآيات التي فصلت ما حرم من الذبائح، ولم يذكر فيها تحريم شيء مما ذكر اسم الله عليه، ولو كان الذابح وثنيا أو مجوسيا، ويجزمون أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان يأكل من ذبائح الذين يدعون زيد بن الخطاب إذا ذكروا عليها اسم الله، فهل قولهم هذا صحيح؟ وما الجواب على ما استدلوا به إن كانوا مخطئين، وما هو الحق في ذلك مع الدليل؟
الجواب: يختلف حكم الذبائح حلا وحرمة باختلاف حال الذابحين، فإن كان الذابح مسلما ولم يعلم عنه أنه أتى بما ينقض أصل إسلامه، وذكر اسم الله على ذبيحته، أو لم يعلم أذكر اسم الله عليها، أم لا؟ فذبيحته حلال بإجماع المسلمين، ولعموم قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} (3) {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (4) الآية.
وإن كان الذابح كتابيا يهوديا أو نصرانيا، وذكر اسم الله على ذبيحته فهي حلال بإجماع؛ ولقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (5) ، وإن لم يذكر اسم الله ولا اسم غيره ففي حل ذبيحته خلاف، من أحلها استدل بعموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (6) ، ومن حرمها استدل بعموم أدلة وجوب التسمية على الذبيحة والصيد، وبالنهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه في قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (7) الآية، وهذا هو الظاهر، وإن ذكر الكتابي اسم غير الله عليها كأن يقول باسم العزير أو باسم المسيح أو الصليب، لم يحل الأكل منها لدخولها في عموم قوله تعالى في آية ما حرم من الطعام: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (8) ، إذا هي مخصصة لعموم
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة النحل الآية 115
(3) سورة الأنعام الآية 118
(4) سورة الأنعام الآية 119
(5) سورة المائدة الآية 5
(6) سورة المائدة الآية 5
(7) سورة الأنعام الآية 121
(8) سورة النحل الآية 115(11/154)
قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1)
وإن كان الذابح مجوسيا لم تؤكل، سواء ذكر اسم الله عليها أم لا بلا خلاف فيما نعلم، إلا ما نقل عن أبي ثور من إباحته صيده وذبيحته. لما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب (2) » ، ولأنهم يقرون على دينهم بالجزية كأهل الكتاب؛ فيباح صيدهم وذبائحهم، وقد أنكر عليه العلماء ذلك، واعتبروه خلافا لإجماع من سبقه من السلف، قال ابن قدامة في المغني: " قال إبراهيم الحربي: خرق أبو ثور الإجماع، قال أحمد: هاهنا قوم لا يرون بذبائح المجوس بأسا ما أعجب هذا؟ يعرض بأبي ثور، وممن رويت عنه كراهية ذبائحهم ابن مسعود وابن عباس وعلي، وجابر وأبو بردة وسعيد بن المسيب، وعكرمة والحسن بن محمد وعطاء، ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن جبير ومرة الهمداني، والزهري ومالك والثوري، والشافعي وأصحاب الرأي، قال أحمد: ولا أعلم أحدا قال بخلافه إلا أن يكون صاحب بدعة؛ ولأن الله تعالى قال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (3) فمفهومه تحريم طعام غيرهم من الكفار، ولأنهم لا كتاب لهم فلا تحل ذبائحهم كأهل الأوثان، ثم قال: وإنما أخذت منهم الجزية؛ لأن شبهة الكتاب تقتضي تحريم دمائهم، فلما غلبت في تحريم دمائهم وجب أن يغلب عدم الكتاب في تحريم ذبائحهم ونسائهم احتياطا للتحريم في الموضعين، ولأنه إجماع، فإنه قول من سمينا ولا مخالف لهم في عصرهم ولا فيمن بعدهم إلا رواية عن سعيد روي عنه خلافها " انتهى من المغني.
وإن كان الذابح من المشركين عباد الأوثان ومن في حكمهم ممن سوى المجوس وأهل الكتاب، فقد أجمع المسلمون على تحريم ذبائحهم، سواء ذكروا اسم الله عليها أم لا، ودل قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (4) بمفهومه على تحريم ذبائح غيرهم من الكفار، وإلا لما كان لتخصيصهم بالذكر في سياق الحكم بالحل فائدة.
وكذا من انتسب إلى الإسلام، وهو يدعو غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، ويستغيث بغير الله فذبائحهم كذبائح الكفار الوثنيين والزنادقة، فلا تحل ذبائحهم كما لا تحل ذبائح أولئك الكفار لشركهم وارتدادهم عن الإسلام، وعلى هذا فالإجماع على تحريم ذبائحهم، ودلالة مفهوم الآية على ذلك كلاهما مخصص لعموم قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (5)
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) موطأ مالك الزكاة (617) .
(3) سورة المائدة الآية 5
(4) سورة المائدة الآية 5
(5) سورة الأنعام الآية 118(11/155)
وقوله {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (1) الآية. فلا يصح الاستدلال بهاتين الآيتين وما في معناهما على حل ذبائح عباد الأوثان ومن في حكمهم ممن ارتد عن الإسلام بإصراره على استغاثته بغير الله ودعائه إياه من الأموات ونحوهم فيما لا يقدر عليه إلا الله بعد البيان له وإقامة الدليل عليه بأن ذلك شرك كشرك الجاهلية الأولى.
كما أنه لا يصح الاعتماد في حل ذبائح من استغاث بغير الله من الأموات ونحوهم، واستنجد بغيره فيما هو من اختصاص الله، إذا ذكر اسم الله عليها بعدم ذكر ذبائحهم صراحة في آية: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ} (2) ، وما في معناها من الآيات التي ذكر الله فيها ما حرم على عباده من الأطعمة، فإن ذبائح هؤلاء وإن لم تذكر صراحة في نصوص الأطعمة المحرمة فهي داخلة في عموم الميتة لارتدادهم عن الإسلام من أجل ارتكابهم ما ينقض أصل إيمانهم وإصرارهم على ذلك بعد البيان.
ومن زعم أن إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - كان يأكل من ذبائح أهل نجد، وهم يدعون زيد بن الخطاب فزعمه خرص وتخمين ومجرد دعوى لا يشهد لها نقل عنه - رحمه الله -، بل هي مخالفة لما تشهد به كتبه ومؤلفاته من الحكم على من يدعو غير الله من ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد لله صالح فيما لا يقدر عليه إلا الله، بأنه مشرك مرتد عن الإسلام بل شركه أشد من شرك أهل الجاهلية، فالحكم فيه وفي ذبائحه كالحكم فيهم أو أشد، وقد أجمع المسلمون على تحريم ذبائح الكفار غير أهل الكتاب، وإن ذكروا عليها اسم الله؛ لأن التسمية على الذبيحة نوع من العبادة؛ فلا تصح إلا مع إخلاص العبادة لله سبحانه؛ لقوله سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم وأحكم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأنعام الآية 119
(2) سورة النحل الآية 115
(3) سورة الأنعام الآية 88(11/156)
فتوى رقم 1550 في 23 \ 5 \ 1397هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين، وهو:
السؤال: ما حكم شرب الدخان وأكل الضبع؟
الجواب: شرب الدخان حرام؛ لأنه خبيث مستقذر من ذوي النفوس والعقول الطيبة السليمة، والله - سبحانه وتعالى - يقول: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (1) ، ويقول - سبحانه وتعالى -: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (2) الآية؛ ولأنه مفتر، وقد «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أحمد وأبو داود عن أم سلمة عن كل مسكر ومفتر (3) » ؛ ولثبوت أضراره طبيا بالصحة، ومعلوم أن ما ثبت ضرره حرم استعماله؛ ولأن الاتفاق والحال ما ذكر يعتبر إضاعة للمال، وقد نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال، فقد روى البخاري ومسلم - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات ومنعا وهات، وكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال (4) » ، والكراهة هنا كراهة تحريم.
أما أكل الضبع فحلال لما روى الإمام أحمد وأصحاب السنن عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمارة قال: «قلت لجابر: الضبع أصيد هي؟ قال: نعم، قلت: آكلها؟ قال: نعم، قلت: أقاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم (5) » .
والله الموفق، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأعراف الآية 157
(2) سورة المائدة الآية 4
(3) سنن أبو داود الأشربة (3686) ، مسند أحمد بن حنبل (6/309) .
(4) صحيح البخاري الأدب (5975) ، صحيح مسلم الأقضية (593) ، مسند أحمد بن حنبل (4/246) ، سنن الدارمي الرقاق (2751) .
(5) سنن الترمذي الحج (851) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4323) ، سنن أبو داود الأطعمة (3801) ، سنن ابن ماجه الصيد (3236) ، مسند أحمد بن حنبل (3/322) ، سنن الدارمي المناسك (1942) .(11/157)
فتوى رقم 1598 في 4 \ 7 \ 1397هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين، وهو:
السؤال: إذا ذبح الذبيحة فرد تارك للصلاة، هل يجوز للمصلي أن يأكل من تلك الذبيحة؟
الجواب: الصلاة أكبر الأركان الخمسة بعد الشهادتين، فمن تركها جاحدا لوجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين، ومن تركها تهاونا وكسلا، فالصحيح من أقوال العلماء أنه يكفر، والأصل في ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «بين العبد وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (1) » ، وما رواه الإمام أحمد في المسند، وأهل السنن بإسناد صحيح، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر (2) » ، وعلى هذا فإن كان من سألت عنه تاركا للصلاة جاحدا لها لم تؤكل ذبيحته إجماعا، وإن تركها تهاونا بها أو كسلا، فعلى القول بكفره وهو الأظهر، لا يجوز الأكل مما تولى ذبحه بيده؛ لأنه مرتد، والمرتد لا تؤكل ذبيحته، كما صرح بذلك العلماء - رحمهم الله -، والله الموفق.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2618) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/370) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .
(2) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .(11/158)
فتوى رقم 1653 في 22 \ 8 \ 97 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين، وهو:
السؤال الأول: ما حكم الذبائح التي تباع في الأسواق من البلاد التي لا يسلم أهلها من الشرك، مع دعواهم الإسلام؛ لغلبة الجهل والطرق البدعية عليهم كالتيجانية؟
الجواب: إذا كان الأمر كما ذكر في السؤال، من أن الذابح يدعي الإسلام، وعرف عنه أنه من جماعة تبيح الاستعانة بغير الله فيما لا يقدر على دفعه إلا الله، وتستعين بالأموات من الأنبياء، ومن تعتقد فيه الولاية مثلا؛ فذبيحته كذبيحة المشركين الوثنيين عباد اللات والعزى ومناة وود وسواع ويغوث ويعوق ونسرا، لا يحل للمسلم الحقيقي أكلها؛ لأنها ميتة، بل حاله أنه من حال هؤلاء؛ لأنه مرتد عن الإسلام الذي يزعمه، من أجل لجئه إلى غير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله، من توفيق ضال، وشفاء مريض، وأمثال ذلك، مما تنتسب فيه الآثار إلى ما وراء الأسباب المادية، من أسرار الأموات وبركاتهم، ومن في حكم الأموات، من الغائبين الذين يناديهم الجهلة؛ لاعتقادهم فيهم البركة، وأن لهم من الخواص ما يمكنهم من سماع دعاء من استغاث بهم، لكشف ضر أو جلب نفع، وإن كان الداعي في أقصى المشرق، والمدعو في أقصى المغرب.
وعلى من يعيش في بلادهم من أهل السنة، أن ينصحوهم، ويرشدوهم إلى التوحيد الخالص، فإن استجابوا فالحمد لله، وإن لم يستجيبوا بعد البيان فلا عذر لهم.
أما إن لم يعرف حال الذابح، لكن غلب على من يدعي الإسلام في بلاده أنهم ممن يستغيثون بالأموات، ويضرعون إليهم، فيحكم لذبيحته بحكم الغالب؛ فلا يحل أكلها.(11/159)
السؤال الثاني: ما حكم من أكل من هذه الذبائح وهو إمام مسجد، هل يصلى خلفه؟
الجواب: إذا كان إمام مسجد يأكل من هذه الذبائح بعد البيان، وإقامة الحجة عليه، مستبيحا لأكلها، لم تصح الصلاة خلفه؛ لاعتقاده حل ما حرم الله من الميتة، وإن كان يأكل منها بعد البيان له، وإقامة الحجة عليه، معتقدا حرمتها فهو فاسق، وفي حكم الصلاة خلف المسلم الفاسق تفصيل.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(11/160)
فتوى رقم 1659 في 17 \ 9 \ 1397 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين، وهو:
السؤال: ما حكم الإسلام في المسلم الذي يشرب الخمر ولا يقبل النصح، ويعلل ذلك بقوله: إن الله هو الوحيد الذي يحاسبه، ولا يسمح لأحد أن يتدخل في شئونه، فهل يجوز للمسلمين أن يتعاملوا معه أم لا؟
الجواب: يجب على من عرف الحق من المسلمين أن يبلغه قدر طاقته، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حسب استطاعته، فإن قبلت نصيحته فالحمد لله، وإلا رفع أمر من ارتكب المنكر أو فرط في الواجبات إلى ولي الأمر العام أو الخاص، ليأخذ على يد(11/160)
المسيء حتى يرتدع، ولا ينتشر الشر.
ودعوى من يشرب الخمر، ويصر على ذلك أنه لا يحاسبه أحد على شربها، ولا يسمح لأحد أن يتدخل في شئونه غير صحيحة.
إذا كان يشربها علنا، فإن من يراه يشربها مكلف بالإنكار عليه حسب استطاعته، فإن لم يقم بالواجب عليه نحو من يرتكب المنكر عوقب على تفريطه في واجب البلاغ والإنكار، فليس شرب إنسان الخمر علنا مما يختص جرمه بالشارب، بل يعود ضرره على المجتمع في الدنيا، وخطره يوم القيامة على الشارب والمفرط في الإنكار عليه، وفي الأخذ على يده، وعلى من عرف من المسلمين حال المجرم، أن يهجره في المعاملات، وألا يخالطه إلا بقدر ما ينصح له، وما يضطر إليه فيه، وليجتهد ما استطاع في إبلاغ ذلك إلى ولاة الأمور؛ ليقيموا عليه الحد ردعا له ولغيره، وقطعا لدابر الشر والفساد وتطهير المجتمع من ذلك الوباء.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(11/161)
فتوى رقم 1665 وتاريخ 22 \ 9 \ 1397 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفتاء المقدم إلى سماحة الرئيس العام من فضيلة الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي ونصه: " تلقيت خطابا من(11/161)
الأخ سيد عزيز باشا السكرتير العام لاتحاد الجمعيات الإسلامية في لندن، يفيد فيه بأنه تلقى رسالة من الجمعية الملكية البريطانية لمنع القسوة على الحيوان ترجو منه فيها إقناع الجماعات الإسلامية المستوطنة في بريطانيا، بقبول أكل لحوم الحيوانات التي يتم صعقها قبل ذبحها، وذكر أن هذه الجمعية أشارت في رسالتها إلى أن القاضي الأكبر في تنزانيا، كان قد خطب في الناس، بأنه ليس هناك نص في القرآن يحرم أكل اللحوم التي تم صعق بهائمها أو حيواناتها قبل ذبحها، وقد طلب المذكور الفتوى الصحيحة في ذلك، نرجو من سماحتكم التفضل بإصدار فتوى حول هذا الموضوع، وموافاتنا بها حتى يتسنى لنا إجابة المذكور باللازم.
وقد أجابت اللجنة بما يلي:
أولا: إن كان صعقها بضرب رأسها أو تسليط تيار كهربائي عليها مثلا فماتت من ذلك قبل أن تذكى فهي موقوذة لا تؤكل، ولو قطع رقبتها أو نحرها في لبتها بعد ذلك، وقد حرمها الله تعالى في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ} (1) ، وقد أجمع علماء الإسلام على تحريم مثل هذه الذبيحة، وإن أدركت حية بعد صقعها بما ذكر ونحوه وذبحت أو نحرت جاز أكلها؛ لقوله تعالى في آخر هذه الآية بالنسبة للمنخنقة: {وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} (2) ، فاستثنى سبحانه من هذه المحرمات ما أدرك منها حيا وذكي فيؤكل؛ لتأثير التذكية فيه، بخلاف ما مات منها بالصعق قبل الذبح أو النحر، فإن التذكية لا تأثير لها في حله، وبهذا يعلم أن القران حرم ما يصعق من الحيوانات إذا مات بالصعق قبل تذكيته؛ لأن المصعوقة موقوذة، وقد بين الله في آية المائدة تحريمها، إلا إذا أدركت حية وذكيت بذبح أو نحر.
ثانيا: يحرم صعق الحيوان بضرب، أو تسليط كهرباء، أو نحوها عليه، لما فيه من تعذيبه، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إيذائه وتعذيبه، وأمر بالرفق والإحسان مطلقا، وفي الذبح خاصة، فقد روى مسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تتخذوا شيئا فيه غرضا (3) » ، وروى مسلم عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: «نهى
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة المائدة الآية 3
(3) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1957) ، سنن الترمذي الأطعمة (1475) ، سنن النسائي الضحايا (4443) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3187) ، مسند أحمد بن حنبل (1/297) .(11/162)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقتل شيء من الدواب صبرا (1) » ، وروى مسلم أيضا عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته (2) » ، فإن كان لا يتيسر ذبح الحيوان أو نحره إلا بعد صعقه صعقا لا يقضي عليه قبل ذبحه أو نحره جاز صعقه ثم تذكيته حال حياته للضرورة، وإن كان لا تتيسر تذكيته إلا بما يقضي على حياته، كان حكمها حكم الصيد، يرمى بما ينفذ فيه من سهم أو رصاص ونحوهما، لا بخنق ولا بكهرباء أو نحوهما، فإن أدرك حيا ذكي وإلا كانت إصابته بما رمي به ذكاة له، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن الخذف وقال: إنها لا تصيد صيدا ولا تنكأ عدوا، ولكن تكسر السن، وتفقأ العين (3) » .
وروى البخاري ومسلم عن رافع بن خديج - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل، ليس السن والظفر، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة (4) » ، قال: «وأصبنا نهب إبل وغنم فند منها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا (5) » ، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: ما أعجز من البهائم مما في يديك فهو كالصيد، وفي بعير تردى في بئر من حيث قدرت عليه فذكه، ورأى ذلك علي وابن عمر وعائشة - رضي الله عنهم -، وروى البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله تعالى عليه، فإن أمسكن عليك فأدركته حيا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله، وإن وجدت مع كلبك كلبا غيره وقد قتل فلا تأكل؛ فإنك لا تدري أيهما قتله، وإن رميت بسهم منك فاذكر اسم الله تعالى، فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت، وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل (6) » .
وروى البخاري عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال: «سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيد المعراض فقال: إذا أصبت بحده فكل، وإذا أصبت بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل (7) » .
__________
(1) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1959) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3188) ، مسند أحمد بن حنبل (3/318) .
(2) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1955) ، سنن الترمذي الديات (1409) ، سنن النسائي الضحايا (4405) ، سنن أبو داود الضحايا (2815) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3170) ، مسند أحمد بن حنبل (4/125) ، سنن الدارمي الأضاحي (1970) .
(3) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5479) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1954) ، سنن النسائي القسامة (4815) ، سنن أبو داود الأدب (5270) ، سنن ابن ماجه الصيد (3227) ، مسند أحمد بن حنبل (5/56) ، سنن الدارمي المقدمة (440) .
(4) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5509) ، صحيح مسلم الأضاحي (1968) ، سنن الترمذي الأحكام والفوائد (1491) ، سنن النسائي الضحايا (4410) ، سنن أبو داود الضحايا (2821) ، مسند أحمد بن حنبل (3/463) ، سنن الدارمي الأضاحي (1977) .
(5) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5509) ، صحيح مسلم الأضاحي (1968) ، سنن الترمذي الأحكام والفوائد (1492) ، سنن النسائي الضحايا (4410) ، سنن أبو داود الضحايا (2821) ، مسند أحمد بن حنبل (4/140) ، سنن الدارمي الأضاحي (1977) .
(6) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5486) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) ، سنن الترمذي الصيد (1470) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4263) ، سنن أبو داود الصيد (2847) ، سنن ابن ماجه الصيد (3208) ، مسند أحمد بن حنبل (4/380) ، سنن الدارمي الصيد (2002) .
(7) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5486) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) ، سنن الترمذي الصيد (1471) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4274) ، سنن أبو داود الصيد (2847) ، سنن ابن ماجه الصيد (3208) ، مسند أحمد بن حنبل (4/256) ، سنن الدارمي الصيد (2002) .(11/163)
فينبغي للقائمين على الجمعية الملكية البريطانية لمنع القسوة على الحيوان أن يرفقوا بالحيوانات، حتى التي يراد ذبحها فلا يضربوها في رأسها ولا يسلطوا عليها تيارا كهربائيا مثلا، ولا يسمحوا لأحد أن يفعل ذلك بالحيوانات عند تذكيتها بذبح أو نحر إلا إذا لم يمكن تذكيتها إلا رميا يضبطه، ويمكن من تذكيته كربطه بحبال ونحوها، فإن لم يمكن ذلك طعن أو رمي بما ينفذ فيه لكونه ذكاة له، إذا لم يدرك حيا بعد رميه أو طعنه لما سبق من الأحاديث، ولقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة التغابن الآية 16(11/164)
فتوى رقم 1914 في 8 \ 5 \ 1398 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين، وهو:
السؤال: ليس لوالدي غيري ويطلب مني إحضار الدخان له، وإن لم أطعه يغضب ويضيق صدره علي، وأنا أكره إحضار الدخان لعلمي بتحريمه، أفتوني مأجورين؟
الجواب: الدخان من الخبائث، وهي محرمة، فيكون محرما، وشربه معصية لله، وإحضاره لمن يشربه وسيلة لشربه، والوسائل لها حكم الغايات، فإذا كانت الغاية محرمة، فكذلك الوسيلة الموصلة إليها، وطاعة الوالدين مشروعة فيما هو طاعة الله وما هو مباح، أما طاعتهما في معصية الله، فغير جائزة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا طاعة لأحد في معصية(11/164)
الله، إنما الطاعة في المعروف (1) » ، رواه النسائي وابن ماجه، عن علي - رضي الله عنه -، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (2) » ، رواه الإمام أحمد في المسند، والحاكم في المستدرك، عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري أخبار الآحاد (7257) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/82) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/131) .(11/165)
فتوى رقم 1984 في 20 \ 6 \ 1398 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين، وهو:
السؤال: جرت عادة بعض العرب على استرضاء بعضهم بعضا عند الحاجة، فأحيانا يأتي المسترضي بشاة ولا يدخل من الباب إلا بعد ذبحها باسم الله، وأحيانا إذا أقبل المسترضي بالشاة (العقيرة) أخذها المقبل عليه، وقال: العقيرة حرام، ورفعها لنفسه، وذبح للمسترضي غيرها إكراما له، فهل يجوز أكل لحم الشاتين أو إحداها أو لا يجوز؟
الجواب: ذبح الإنسان شاة أو نحوها لغيره، قد يكون القصد منه إكرامه، بتقديم الذبيحة إليه طعاما يأكل منه هو ورفقاؤه، ومن دعي إلى الأكل معهم، فهذا جائز، بل حثت عليه الأحاديث الصحيحة ورغبت فيه، فقد ثبت من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه (1) » ، وثبت من حديث أبي شريح الكعبي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، جائزته يوم وليلة، والضيافة: ثلاثة أيام، فما بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحل له
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6019) ، صحيح مسلم الإيمان (48) ، سنن الترمذي البر والصلة (1967) ، سنن أبو داود الأطعمة (3748) ، سنن ابن ماجه الأدب (3672) ، مسند أحمد بن حنبل (4/31) ، موطأ مالك الجامع (1728) ، سنن الدارمي الأطعمة (2036) .(11/165)
أن يثوي عنده حتى يحرجه (1) » .
وقد يكون القصد من الذبح مجرد إعظامه وتكريمه، سواء قدمت الذبيحة بعد ذلك طعاما لأكله أم لا، فذلك غير جائز، بل هو شرك يوجب اللعنة؛ لدخوله في عموم الذبح لغير الله، وقد ثبت عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: حدثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربع كلمات: «لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا، لعن الله من غير منار الأرض (2) » ، وعلى هذا لا يجوز الأكل من هذه الذبيحة، ولو ذكر الذابح عليها اسم الله؛ لأن الأعمال بالنيات، وهذه قصد بها تقديم عقيرة تحية لغير الله إعظاما، ومجرد تكريم له، لا أكله منها.
أما إن قدمها حية فأخذها المسترضى وذبحها للضيوف، أو ذبح غيرها للضيوف فيجوز الأكل من كل منهما لكونها لم تذبح لإعظامه.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6135) ، صحيح مسلم اللقطة (48) ، سنن الترمذي البر والصلة (1967) ، سنن أبو داود الأطعمة (3748) ، سنن ابن ماجه الأدب (3672) ، مسند أحمد بن حنبل (6/385) ، موطأ مالك الجامع (1728) ، سنن الدارمي الأطعمة (2036) .
(2) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .(11/166)
فتوى رقم 1989 وتاريخ 20 \ 6 \ 1398 هـ-
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين، وهو:
السؤال: بعير هائج أراد أن يأكل صاحبه فقتله بسهم أو غيره، في غير مذبحه فهل يحل أكله؟(11/166)
الجواب: التسمية على الذبيحة مشروعة، قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (1) ، وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (2) ، وفي الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا (3) » ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " التسمية عليه واجبة بالكتاب والسنة، وهو قول جمهور العلماء. انتهى.
وعلى هذا، فالصورة المسئول عنها إذا لم يمكن الوصول إلى المذبح فيجرح حيث أمكن، مثل الطعن في الفخذ أو غيره، كما يفعل بالصيد الممتنع، ويباح بذلك عند جمهور العلماء، والأصل في هذا ما ثبت في الصحيحين عن رافع بن خديج - رضي الله عنه - «أنه ند على الناس بعير في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فرماه رجل بسهم فقتله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما ند عليكم منها فاصنعوا به هكذا (4) » .
لكن لو أدركه حيا فإنه ينحره مع المذبح حيث أمكن ذلك؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصيد: «فإن أدركته حيا فاذبحه (5) » الحديث.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأنعام الآية 118
(2) سورة الأنعام الآية 121
(3) صحيح البخاري الشركة (2507) ، صحيح مسلم الأضاحي (1968) ، سنن الترمذي الأحكام والفوائد (1491) ، سنن النسائي الضحايا (4410) ، سنن أبو داود الضحايا (2821) ، مسند أحمد بن حنبل (3/463) .
(4) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5498) ، صحيح مسلم الأضاحي (1968) ، سنن الترمذي الأحكام والفوائد (1492) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4297) ، سنن أبو داود الضحايا (2821) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3183) ، مسند أحمد بن حنبل (3/463) ، سنن الدارمي الأضاحي (1977) .
(5) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4263) ، سنن الدارمي الصيد (2002) .(11/167)
فتوى رقم 1997 في 2 \ 7 \ 1398 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين، وهو:
السؤال الأول: هل يجوز لمن لا يدين بدين الإسلام أن يأكل من لحم عيد الأضحى؟(11/167)
الجواب: نعم يجوز لنا أن نطعم الكافر المعاهد والأسير من لحم الأضحية، ويجوز إعطاؤه منها لفقره أو قرابته، أو جواره أو تأليف قلبه؛ لأن النسك إنما هو في ذبحها أو نحرها قربانا لله وعبادة له، وأما لحمها فالأفضل أن يأكل ثلثه، ويهدي إلى أقاربه وجيرانه وأصدقائه ثلثه، ويتصدق بثلثه على الفقراء، وإن زاد أو نقص في هذه الأقسام أو اكتفى ببعضها فلا حرج، والأمر في ذلك واسع، ولا يعطى من لحم الأضحية حربيا؛ لأن الواجب كبته وإضعافه، لا مواساته وتقويته بالصدقة، وكذلك الحكم في صدقات التطوع؛ لعموم قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1) ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - أن تصل أمها بالمال وهي مشركة.
السؤال الثاني: هل يجوز للمسلم أن يأكل اللحم غير المذبوح الذي يبيعه الأوربيون وهو ميتة، مع أن في استطاعتنا أن نشتري الدجاج والأرانب والغنم، ولدينا القدرة على ذبحها؟
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكرت من أن لحوم الدجاج والأرانب والشياه ونحوها لديكم لحوم حيوانات غير مذبوحة، وأنها ميتة، فلا يجوز لكم معشر المسلمين أن تأكلوا منها، إلا في حالة الضرورة، التي تبيح أكل الميتة، وقد ذكرت في سؤالك أن في استطاعتكم أن تذبحوا ما تحتاجونه ذبحا شرعيا، فاذبحوا لأنفسكم على الصفة الشرعية، واجتنبوا ما كان من اللحوم على الصفة التي ذكرت في السؤال فإنها رجس.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 8(11/168)
فتوى رقم 2065 في 26 \ 8 \ 1398 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين، وهو:
السؤال: دهست سيارة شاة، فكسرت ظهرها ورجلها، فأسرعت إليها وهي حية وذبحتها، وهي تمشي وتتعثر، وبعدما ذبحتها وفسخت جلدها، قيل لي: إن هذه الشاة حرام، فتركتها، أرجو الإجابة فما حكم هذه الذبيحة؟
الجواب: إذا كان الأمر كما ذكرت فهذه الذبيحة حلال؛ لأنك ذبحتها وهي لا تزال حية؛ لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} (1) إلى أن قال: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} (2) وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة المائدة الآية 3(11/169)
صفحة فارغة(11/170)
منهج السلف في العقيدة
وأثره في وحدة المسلمين
إعداد: الدكتور صالح بن سعد السحيمي
الدكتور صالح بن سعد السحيمي.
تاريخ الميلاد: 1366 هـ.
حصل على الشهادة العالية " الليسانس " من كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 1392 هـ، ثم الماجستير من جامعة الأزهر، كلية الشريعة عام 1400 هـ وكان موضوع الرسالة " المساقاة وأحكامها في الشريعة الإسلامية، ثم حصل على الدكتوراة من الجامعة الإسلامية من شعبة الفقه عام 1403 هـ، وكان موضوع الرسالة " أحكام عقد الإجارة في الشريعة الإسلامية ".
يعمل أستاذا مساعدا في كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية، ورئيسا لقسم الفقه بكليات الجامعة.
قدم عدة بحوث نشرت في بعض المجلات الإسلامية.
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كبيرا.
وبعد:
فهذا جهد متواضع، أساهم به لبيان المنهج الذي كان عليه السلف الصالح في العقيدة، ومدى مخالفة الناس لذلك المنهج، مما فرق كلمة المسلمين وأضعف وحدتهم.
وجعلت عنوان البحث: منهج السلف في العقيدة وأثره في وحدة المسلمين؛ وقد حملني على ذلك إهمال كثير من الباحثين لهذا الجانب، أعني جانب العقيدة، والذي هو(11/171)
العامل الأول، والركيزة الأساسية التي ينبني عليها كيان المجتمع الإسلامي، وتنضوي تحت لوائها صفوف المسلمين، منها يستلهمون طريق وحدتهم، وعلى ضوئها يشقون طريقهم إلى أعلى قمم المجد والعلى، وبهداها ومبادئها القيمة يفتحون القلوب قبل أن يفتحوا الأمصار والأقطار، ولقد كثرت المؤلفات والخطب والمحاضرات والمواعظ والندوات التي تنادي بوحدة المسلمين، وجمع كلمتهم وتوحيد صفوفهم بالأساليب المتعددة، وطرح الحلول الكثيرة، لكن هذه الأساليب والحلول ناقصة وغير تامة؛ نظرا لاهتمامها بالجوانب الفرعية فقط، فنجد أن جماعة ممن يهتمون بعوامل التضامن الإسلامي يركزون جل اهتمامهم على الجانب السياسي، ونجد جماعة أخرى تركز على الجانب الأخلاقي، ونجد جماعة ثالثة تركز على جوانب الترغيب والترهيب والزهد والورع، وقل أن تجد من بين هؤلاء من يهتم بالجانب الأساسي والركن العظيم، والذي هو الحصن الحصين، والمنطلق المتين لجمع كلمة المسلمين، ألا وهو عقيدة التوحيد الذي جمعنا الله به بعد الفرقة، وألف بين قلوبنا بعد التمزق، حتى أصبحنا به أمة واحدة ذات هدف واحد ومنطلق واحد، وعقيدة واحدة، هي مصدر عزتنا، وعنوان سعادتنا، ومناط وجودنا في هذه الحياة، إنها عبادة الله الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، إنه الهدف الأسمى، والمقصد الأعلى الذي خلقنا الله له، وأوجدنا من أجله، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) ، وقال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (2) .
وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (3) ، إذا تأملنا هذه الآيات الكريمات وما جاء في معناها - وما أكثره في كتاب الله - وجدنا أن أساس كل عمل في الإسلام إنما ينطلق من العقيدة، ويرتكز عليها، كما يرتكز البناء على أركانه.
والبيت لا يبتنى إلا له عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
وإذا عرفنا ذلك فإن أية دعوة إلى التضامن الإسلامي، إذا لم ينطلق أصحابها من
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة الزمر الآية 2
(3) سورة البينة الآية 5(11/172)
هذا المبدأ الأساسي، ولم تؤسس على هذا البناء الراسخ، ولم تقم على تحقيق التوحيد، وتخليصه من شوائب الشرك والبدع والمعاصي؛ فإنها دعوة سيكتب لها الفشل لا محالة، عاجلا أم آجلا؛ لأن البناء لا يقوم في الهواء، ولا يمكن تشييده إلا على أرض صلبة حتى لا يتعرض للانهيار يوما من الأيام.
قال الله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (1) .
وحينما نقول: إن مبنى التضامن الإسلامي على عقيدة التوحيد وعندما ندعو إلى وجوب الانطلاق من هذا المبدأ، فإن ذلك لا يعني إهمال الجوانب الأخرى التي أشرنا إليها أو إلى بعضها في ما مضى، وإنما نعني وجوب التأسيس، وذلك بأن نبدأ أعمالنا كلها من هذا المنطلق.
فعلى ضوئه تكون السياسة، وعلى منهجه نبني الآداب والأخلاق، وفي حدوده ندعو إلى الترغيب والترهيب، وعلى مبادئه يوجد بإذن الله تعالى المجتمع الإسلامي الصالح المنشود، وتوجد السعادة البشرية في الدنيا والآخرة، ويعود الناس إلى دين الله أفواجا فينعمون بالخير والأمن والطمأنينة، وفق هدى العقيدة الخالصة الوارفة الظلال، فيتخلصون بذلك من أدران الوثنية وأوضار الجهل، وحينئذ تصفو قلوبهم، وتخلص لله، وتخلع ربقة الشرك الذي ران عليها سنين طويلة، والذي هو أعظم ذنب عصي به الله - عز وجل -، منذ أن انحرف الناس عن الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها حتى وقعوا فيما وقعوا فيه من الإفراط والتفريط والغلو والتقصير، فلقد كان الإنسان في أول خلقه على المنهج الرباني الصحيح، عقيدة وسلوكا، وأخلاقا وعبادة ومعاملة، حقبة من الزمن.
يذكر علماء التاريخ والسير بأنها تقدر بعشرة قرون، إلى أن بدأ الانحراف في العقيدة، في أولئك القوم الذين بعث الله فيهم نوحا - عليه الصلاة والسلام -، بعد أن زين لهم الشيطان عبادة الأصنام والأوثان، بسبب الغلو في الصالحين؛ فقد روى البخاري - رحمه الله - في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (2)
__________
(1) سورة التوبة الآية 109
(2) سورة نوح الآية 23(11/173)
قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا، ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت، فانظر كيف بدأ الانحراف عن الصراط السوي نتيجة للغلو بطريق التدريج، وذلك أنهم كانوا يتبركون بدعائهم، وكلما مات منهم أحد مثلوا صورته وتمسحوا بها زمنا طويلا إلى أن عبدوها باستدراج الشيطان لهم، ثم صارت سنة في الناس يهرم عليها الكبير، ويشب عليها الصغير إلى أن بعث الله فيهم نوحا - عليه الصلاة والسلام - فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى توحيد الله ونبذ عبادة ما سواه، فأصروا واستكبروا استكبارا، ولم يؤمن منهم إلا النزر اليسير.
وما كان عليه حال قوم نوح هي نفس الحال التي ارتكس فيها الناس بعد ذلك من الغلو ومجاوزة الحد، واتباع الهوى الذي أودى بالناس إلى عبادة غير الله - سبحانه وتعالى -، وأخطر هذه الأسباب هو الغلو الذي حذر الله منه في غير ما آية من كتابه.
والغلو هو مجاوزة الحد، وضابطه: تعدي ما أمر الله به بالزيادة فيه، وهو الطغيان الذي نهى الله عنه في قوله تعالى: {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} (1) . وكذا قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (2) ، أي لا تتعدوا ما حد الله لكم.
وأهل الكتاب هنا: هم اليهود والنصارى، فنهاهم عن الغلو في الدين، ونحن كذلك كما قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (3) ، والغلو كثير في النصارى، فإنهم غلوا في عيسى - عليه الصلاة والسلام - فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله، يعبدونه كما يعبدون الله، بل غلوا فيمن زعم أنه على دينه من أتباعه، فادعوا لهم العصمة، واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقا أو باطلا، وناقضتهم اليهود في أمر عيسى - عليه الصلاة والسلام -، فحطوا من منزلته
__________
(1) سورة طه الآية 81
(2) سورة النساء الآية 171
(3) سورة هود الآية 112(11/174)
حتى جعلوه ولد بغي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - يرحمه الله -: " ومن تشبه من هذه الأمة باليهود والنصارى، وغلا في الحين بإفراط أو تفريط، وضاهاهم في ذلك، فقد شابههم، كالخوارج المارقين من الإسلام الذين خرجوا في خلافة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وقاتلهم حين خرجوا على المسلمين، وكان قاتلهم بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما ثبت ذلك من عشرة أوجه في الصحاح، والمسانيد وغير ذلك، وكذلك من غلا في دينه من الرافضة والقدرية والجهمية والمعتزلة "، وقال أيضا: " فإذا كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من انتسب إلى الإسلام وقد مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان، قد يمرق أيضا من الإسلام، وذلك بأسباب منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه، حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (1) اهـ.
وهذا الكلام يدل دلالة واضحة على أن أعظم فتنة ابتليت بها البشرية إنما هي فتنة الغلو الذي جاء التحذير منه في غير ما آية وحديث، وقد تقدم من الآيات ما يوضح ذلك، أما الأحاديث فمنها ما ثبت في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله (2) » ، وثبت في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه، من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو (3) » .
وهذه نصوص صريحة وواضحة في أن سبب الانحراف عن العقيدة الصحيحة والفطرة السليمة إنما هو ذلك الغلو ومجاوزة الحد الذي أدى بالتالي إلى صرف العبادة إلى غير الله - سبحانه وتعالى -، الأمر الذي من أجله بعث الله الرسل لإعادة الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ذلكم هو الهدف الأسمى الذي أوجد الله من أجله الثقلين: الجن والإنس، فكل عاقل في هذا الوجود يعرف أنه مخلوق لخالق، ومربوب لرب، أوجده بعد أن لم يكن.
لو طرح سؤال مفاده: لماذا خلقت في هذه الحياة؟ ولماذا فضلت على سائر الكائنات الأخرى؟ وما هي مهمتك في هذه الحياة؟ فإن الجواب عند المؤمن حاضر بكل
__________
(1) سورة النساء الآية 171
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3445) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) .
(3) سنن النسائي مناسك الحج (3057) .(11/175)
بساطة: إن كان صانع يعرف سر صنعته، لماذا صنعها؟ ولماذا صنعها على نحو معين دون غيره؟
والله تعالى هو صانع الإنسان وخالقه، ومدبر أمره.
فلنسأله: يا رب لماذا خلقت هذا الإنسان؟
هل خلقته لمجرد الطعام والشراب؟ هل خلقته للهو واللعب؟ هل خلقته لمجرد أن يمشي على التراب ويأكل مما خرج من التراب، ثم يعود كما كان إلى التراب، فإذا لم يكن الأمر كذلك فما سر هذه القوى والملكات التي أودعها الله الإنسان من عقل وإرادة ونفس وروح.
لقد جاء جواب ذلك بما يشفي ويكفي في الكتاب العزيز الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (1) حيث نص - تبارك وتعالى - على أنه خلق هذا الإنسان ليكون خليفة في الأرض:
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (2) ، وهذه الخلافة معناها أن يعرف الإنسان ربه حق معرفته، ويعبده حق عبادته.
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (3) .
ويقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (4) {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (5) {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (6) وإذن فالجواب البدهي الذي تنطلق به الفطرة في هذا الكون أن الإنسان عبد الله، خلق لذلك، وسخر الله له ما في السماوات وما في الأرض من أجل تحقيق هذا
__________
(1) سورة فصلت الآية 42
(2) سورة البقرة الآية 30
(3) سورة الطلاق الآية 12
(4) سورة الذاريات الآية 56
(5) سورة الذاريات الآية 57
(6) سورة الذاريات الآية 58(11/176)
الغرض.
ومن هنا يعلم كل ذي فطرة سليمة، وعقل متجرد، أن عبادة الإنسان، لقوى الطبيعة ومظاهرها من فوقه، ومن تحته كالشمس والقمر والنجوم والأنهار والأبقار والأشجار ونحوها قلب للوضع الطبيعي، وانتكاس بالإنسان أي انتكاس! !
والإنسان إذن، بحكم فطرته ومنطق الكون، إنما هو مربوب لله سبحانه لا لغيره، لعبادته وحده لا لعبادة بشر ولا حجر ولا بقر ولا شجر، ولا شمس ولا قمر، وكل عبادة لغير الله إنما هي من تزيين الشيطان عدو الإنسان؛ ولذا نرى أول نداء يوجهه الله لرسله هو الأمر بعبادته، وبيان أنه لا إله غيره، ولا رب سواه، اقرأ مثلا: قوله تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (1) .
هذه العبادة لله وحده هي العهد القديم الذي أخذه الله على بني الإنسان، ورسخه في فطرهم البشرية، وغرسه في طبائعهم الأصيلة، منذ خلقهم وصورهم، وجعلهم في أحسن تقويم، وأوجد فيهم العقل الواعي، الذي يتميزون به على سائر الكائنات، وجعل كل ما حولهم من الآيات البينات دليلا قاطعا على وحدانيته سبحانه، وإفراده بكامل العبودية، وأخذ العهد عليهم حيث قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (2) {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (3) .
ومن هنا نعلم أن كل عبادة لغير الله، وإن ظهرت في صورة عبادة حجر، أو شجر، أو مدر، أو هوى، إنما هو من إيحاء الشيطان وتزيينه ووسوسته بشكل مباشر أو غير مباشر، بغض النظر عن القالب الذي ظهرت فيه تلك العبادة؛ ولذا نرى أن الله - تبارك وتعالى - قد أخذ العهد على بني آدم منذ أن كانوا في صلب أبيهم آدم.
هذا العهد بين الله وعباده، هو الذي صوره القرآن في أروع صورة وبلاغة، حين قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (4) {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} (5) .
__________
(1) سورة هود الآية 50
(2) سورة يس الآية 60
(3) سورة يس الآية 61
(4) سورة الأعراف الآية 172
(5) سورة الأعراف الآية 173(11/177)
فلا عجب أن يكون المقصود الأعظم من بعثة النبيين وإرسال المرسلين، وإنزال الكتب المقدسة، هو تذكير الناس بهذا العهد القديم، وإزالة ما تراكم على معدن الفطرة من غبار الغفلة أو الوثنية، أو التقليد الأعمى.
ولا عجب أن يكون النداء الأول لكل رسول: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (1) .
بهذا دعا قومه، نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، كل رسول بعث إلى قوم مكذبين، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (2) .
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (3) ، وقال تعالى بعد أن ذكر قصص طائفة كبيرة من الأنبياء: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (4) ، وكما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (5) {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (6) .
وقد أمر الله نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (7) ، أي الموت، كما قال تعالى على لسان قوم: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} (8) {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} (9) وهو الموت، فالتكليف بالعبادة لازم له حتى يلقى ربه.
ولم تسقط عنه بسمو الروح، ولا بالاتصال القوي بالله كما يدعي غلاة الصوفية.
__________
(1) سورة هود الآية 50
(2) سورة النحل الآية 36
(3) سورة الأنبياء الآية 25
(4) سورة الأنبياء الآية 92
(5) سورة المؤمنون الآية 51
(6) سورة المؤمنون الآية 52
(7) سورة الحجر الآية 99
(8) سورة المدثر الآية 46
(9) سورة المدثر الآية 47(11/178)
وقال تعالى في شأن عيسى ابن مريم الذي رفعه قومه إلى مرتبة الألوهية: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} (1) .
{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (2) .
ويعرض لنا القرآن مشهدا من مشاهد يوم الحشر، يسأل الله فيه المسيح - عليه الصلاة والسلام - عما نسبوه إليه وافتروه عليه، فيجيب في أدب العبودية متبرئا مما صنعوا: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (3) {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (4) .
فالأديان كلها دعوة إلى عبادة الله وحده، والأنبياء جميعا أول العابدين لله، فعبادة الله وحده هي - إذن مهمة الإنسان الأولى في الوجود كما بينت ذلك كل الرسالات، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (5) ، فقد دلت الآية الكريمة وما في معناها على وحدة الهدف والعقيدة التي هي محور دعوة جميع الرسل من لدن نوح - عليه الصلاة والسلام - إلى خاتمهم وأفضلهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، الذي بعثه الله رحمة للعاملين؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولينقذهم من أوحال الشرك وأدران الوثنية، فكان بذلك نبراسا لأمة ينير لها الطريق، ومشعلا: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (6) .
__________
(1) سورة النساء الآية 172
(2) سورة النساء الآية 173
(3) سورة المائدة الآية 116
(4) سورة المائدة الآية 117
(5) سورة الشورى الآية 13
(6) سورة المائدة الآية 16(11/179)
وقد كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين يترسمون تلك الخطى النبوية، ويستلهمون سر وحدتهم من صفاء العقيدة الخالصة التي لم تشبها شائبة؛ فأصبحوا بذلك سادة الدنيا، وفتح الله لهم أبواب الخير من كل مكان ورفعوا راية التوحيد في مشارق الأرض ومغاربها، وكل عاقل يدرك أن هذا النصر المؤزر الذي حققه الله على أيديهم لم يكن وليد الصدفة، ولم يكن بسبب كثرة العدد والعدة، وإنما تحقق ذلك بسبب اعتمادهم على الله والتوكل عليه مع الأخذ بالأسباب المشروعة، وبدئهم بالأهم قبل المهم، وانطلاقهم في دعوتهم من تحقيق كلمتي التوحيد " لا إله إلا الله محمد رسول الله "؛ لأن ذلك هو الأساس الذي أمروا أن يبدءوا به، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (1) ، وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (2) ، وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (3) ، وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (4) .
ومن السنة ما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس قال: «لما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذا إلى اليمن قال: إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله (5) » . . . الحديث.
ومما يدل على أهمية العقيدة، وكونها أساس كل عمل: تكفيرها للذنوب والكبائر إذا صدرت عن إخلاص وقوة إيمان، يدل لذلك ما رواه الترمذي وغيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص من حديث صاحب البطاقة «حيث ينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل من البصر، ثم يؤتى ببطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة فتطيش السجلات، وتثقل البطاقة (6) » .
__________
(1) سورة النساء الآية 36
(2) سورة الإسراء الآية 23
(3) سورة الأنعام الآية 151
(4) سورة يوسف الآية 108
(5) صحيح البخاري المغازي (4347) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .
(6) سنن الترمذي الإيمان (2639) ، سنن ابن ماجه الزهد (4300) ، مسند أحمد بن حنبل (2/213) .(11/180)
وإذا فتوحيد الله تعالى، هو رأس الأمر كله، والجسد لا يستقيم بلا رأس، كما قال الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله (1) » .
وهذه نصوص صريحة دالة إلى وجوب البدء بالدعوة إلى توحيد الله تعالى، قبل جميع التكاليف؛ لأن قبول جميع التكاليف مرهون بتحقيق ذلك، وهذا ما سار عليه السلف الصالح في دعوتهم، مما حقق لهم النجاح في برهة وجيزة، أذهلت العقول، وتحطمت أمامها عروش الكفر والطغيان.
وقد استمر الأمر على هذا الحال ثم بدأ الانحراف بعد ذلك عن هذه الجادة بسب الانصراف عن الكتاب والسنة - اللذين يجب أن نأخذ العقيدة منهما - والاشتغال بالفلسفة والمنطق، اللذين لم يستفد منهما المسلمون غير تخريب العقيدة، والقيل والقال، والجدل الذي لا طائل تحته، ولا جدوى من ورائه، حتى قال قائلهم:
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
الأمر الذي حدا بكثير من الناس إلى تعطيل صفات الله - عز وجل -، أو تفويضها، أو تأويلها، أو تمثيلها، وكذلك الحال في عبادة الله - عز وجل - حيث لم يقتصر الأمر على التقيد بالكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح في ذلك، حتى أصبح الناس في العبادة نتيجة لجهلهم بما كان عليه السلف الصالح من صحة الاعتقاد، أصبحوا ما بين مفرط ومفرط، فالمفرطون أسرفوا في دعوى المحبة حتى أخرجهم ذلك إلى نوع من الرعونة والدعاوى التي تنافي العبودية، وتثبت الربوبية أو شيئا منها لغير الله، ومعلوم أن الرب والمعبود هو الله وحده، ومع ذلك يدعي هؤلاء دعاوى تتجاوز حدود الأنبياء والمرسلين فضلا عن عامة الناس، أو بطلب من غير الله ما لا يصلح بكل وجه إلا الله، لا يصلح للأنبياء ولا للمرسلين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: وهذا باب وقع فيه كثير من الشيوخ (يعني شيوخ المتصوفة) وسببه: ضعف تحقيق العبودية التي بينها الرسل، وحددها الأمر والنهي،
__________
(1) من حديث طويل رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح كتاب الإيمان 8 ما جاء في حرمة الصلاة(11/181)
الذي جاءوا به، بل ضعف العقل الذي به يعرف العبد حقيقته.
وإذا ضعف العقل، وقل العلم بالدين، وفي النفس محبة طائشة جاهلة، انبسطت النفس بحمقها في ذلك، كما ينبسط الإنسان في محبة الإنسان مع حمقه وجهله، ويكون سببا لبغض المحبوب له، ونفوره منه، بل سببا لعقوبته.
وكثير من السالكين سلكوا في دعوى حب الله أنواعا من أمور الجهل بالدين، إما من تعدي حدود الله، وإما من تضييع حقوق الله، وإما من ادعاء الدعاوى الباطلة التي لا حقيقة لها، كقول بعضهم: أي مريد لي ترك في النار أحدا فأنا بريء منه، وقال الآخر: أي مريد لي ترك أحدا من المؤمنين يدخل النار فأنا منه بريء.
فالأول: جعل مريده يخرج كل من في النار.
والثاني: جعل مريده يمنع أهل الكبائر من دخول النار.
ويقول بعضهم: إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على جهنم، حتى لا يدخلها أحد، وأمثال ذلك من الأقوال التي تؤثر عن بعض المشايخ المشهورين، وهي إما كذب عليهم، وإما غلط منهم ". اهـ.
وإذا كانت هذه المقالات الإلحادية قد وجدت في عهد شيخ الإسلام ابن تيمية وقبله، فإن في عصرنا من الدعاوى التي تبلغ حد التأليه، ما هو أدهى وأمر.
من ذلك قول أحد زعماء الطرق الصوفية المعاصرين، قد خصني بالفضل والتشريف أن قلت: كن يكن بلا تسويف، ويدعي هذا الكذاب الأشر أن رجلا نصرانيا دخل الجنة بسبب أنه عاشر امرأة من أتباع ذلك الشيخ معاشرة غير شرعية، مع أن المرأة التي عاشرها كما يقول ليست ملتزمة - كما يقول - بالطريقة، ولكنه دخل الجنة ببركة شيخ الطريقة التي تنتمي إليها هذه المرأة، ويقول أحد الأفاكين من هؤلاء: إن من ضرورات مذهبهم أن لأئمتهم درجة لا يبلغها ملك مقرب، ولا نبي مرسل إلى غير ذلك من المقالات الكفرية والإلحادية، القديمة والحديثة، والتي لا تكاد تعد ولا تحصى.
ترى ماذا ترك هؤلاء الملاحدة من العبودية، إذا ادعوا بلوغ مثل هذه المراتب، وإذا سئلوا عن تفسير هذه الترهات، ادعوا أنهم كانوا في حالة سكر بحب الإله، قال(11/182)
الشاعر في التهكم بهم ووصف أحوالهم التي يزعمون أنها عبادة:
ألا قل لهم قول عبد نصو ... ح وحق النصيحة أن تستمع
متى علم الناس في ديننا ... بأن الغنا سنة تتبع
وأن يأكل المرأ أكل الحمار ... ويرقص في الجمع حتى يقع
وقالوا: سكرنا بحب الإله ... وما أسكر القوم إلا القصع
كذاك البهائم إن أشبعت ... يرقصها ربها والشبع
ويسكره الناي ثم الغنا ... ويس لو تليت ما انصدع
فيا للعقول ويا للنهى ... ألا منكر منكمو للبدع
تهان مساجدنا بالسماع ... وتكرم عن مثل ذاك البيع
وقال آخر:
تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة ... لكنه إطراق ساه لاهي
وأتى الغناء فكالحمير تناهقوا ... والله ما رقصوا لأجل الله
دف ومزمار ونغمة شادن ... فمتى رأيت عبادة بملاهي
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا ... تقييده بأوامر ونواهي
سمعوا له رعدا وبرقا إذ حوى ... زجرا وتخويفا بفعل مناهي
ورأوه أعظم قاطع للنفس عن ... شهواتها يا ذبحها المتناهي
وأتى السماع موافقا أغراضها ... فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه
أين المساعد للهوى من قاطع ... أسبابه عند الجهول الساهي
إن لم يكن خمر الجسوم فإنه ... خمر العقول مماثل ومضاهي
فانظر إلى النشوان عند شرابه ... وانظر إلى النشوان عند ملاهي
وانظر إلى تمزيق ذا أتوا به ... من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي
واحكم فأي الخمرتين أحق بال ... تحريم والتأثيم عند الله
وما وصفه الشاعر من أحوال هؤلاء الناس يعطي صورة حقيقية عن مدى الانحراف الذي وقعوا فيه حيث بلغ بهم الحال إلى اعتبار الرقص والغناء عبادة تقربهم إلى الله بدعوى أن تلك الرقصات والأنغام الصوفية، إنما هي نابعة من قلب مفعم بالمحبة، فجعلوا(11/183)
محبتهم للخالق مشابهة لمحبة المخلوق من وجود العتاب والعذل واللوم والغرم، ونحو ذلك مما يجب أن ينزه الله عنه؛ لأنه لا يليق بجلال الله وعظمته.
ولكن الدليل والبرهان على محبة القلب الله وخضوعه له إنما يتجسد في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (1) ، فلا يكون محبا لله إلا من يتبع رسوله.
وطاعة الرسول، ومتابعته لا تكون إلا بتحقيق العبودية.
وكثير ممن يدعي المحبة يخرج عن شريعته وسنته - صلى الله عليه وسلم -، ويدعي من الحالات ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، حتى قد يظن أحدهم سقوط الأمر، وتحليل الحرام له، وغير ذلك مما فيه مخالفة لشريعة الرسول وسنته وطاعته.
بل قد جعل الله أساس محبته ومحبة رسوله، الجهاد في سبيله، والجهاد يتضمن كمال محبة ما أمر الله به، وكمال بغض ما نهى الله عنه؛ ولهذا قال في صفة من يحبهم ويحبونه: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} (2) ، ولهذا كانت محبة هذه الأمة الله أكمل من محبة من قبلها، وعبوديتهم لله أكمل من عبودية من قبلهم وأكمل، هذه الأمة في ذلك هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن كان بهم أشبه كان ذلك فيه أكمل.
" هذا صنف ".
والصنف الثاني وهم المفرطون وهم العصاة أو الذين غلطوا في فهم حقيقة العبادة، وهم الذين ظنوا أن المحبة تنافي أدب العبودية، ولا تصاحب خشية الله ومخافته التي يجب أن يتصف بها كل عبد لله، كما ظن أن المحبة لا تتحقق من المخلوق للخالق، وإنما المطلوب منه الطاعة والخضوع فقط.
ولذا نجد بعضهم يقول " اللهم إني أعبدك لا طمعا في ثوابك ولا خوفا من عقابك "، فانظر يا أخي المسلم، كيف فصلوا بين العبادة وبين الخوف والخشية، والمحبة والرجاء.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 31
(2) سورة المائدة الآية 54(11/184)
والحقيقة أن المحبة لا تنافي الخشية، والمخافة بل الخوف لازم للمحبة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إذ ليس عند القلب السليم أحلى ولا ألذ، ولا أطيب ولا أسر ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله، ومحبته له، وإخلاص الدين له ".
وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله، فيصير القلب منيبا إلى الله خائفا منه، راغبا راهبا، كما قال تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} (1) ، إذ المحب يخاف من زوال مطلوبه أو عدم حصول مرغوبه، فلا يكون عبد الله ومحبه، إلا بين خوف ورجاء، كما قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (2) .
فقد دلت الآية الكريمة على أن كل عبد مخلص لله لا بد أن يكون مع عبادته بين الخوف والرجاء، وقد نص العلماء - رحمهم الله - على أنه ينبغي للمسلم أن يغلب جانب الخوف في الصحة حتى لا يأمن من مكر الله، وأن يغلب جانب الرجاء في المرض حتى لا ييأس من روح الله، والآية الكريمة نزلت في أناس من الإنس كانوا يعبدون نفرا من الجن، فأسلم الجن، وبقي الإنس على عبادتهم إياهم، فأخبر الله تعالى، أن هؤلاء المدعوين يطلبون القربة إلى الله - عز وجل - بالعمل بما يرضيه، خوفا من عقابه وطمعا في ثوابه، وهذا ينطبق على كل من يدعو غير الله في الوقت الذي يكون المدعوون أحوج ما يكون إلى عبادة الله، كما يقال: (فاقد الشيء لا يعطيه) ، ومع ذلك نجد كثيرا ممن انتكست فطرتهم، يعكف عند ميت في قبره، يطلب منه قضاء الحاجات، وتفرج الكربات، ويزعم أنه يعلم الغيب، ويعطي الولد، وغير ذلك، مما لا يقدر عليه إلا الله.
ولا نكاد نجد بلدا من بلاد الإسلام، إلا وفيه أنماط من هذه الطقوس التي حالت بين الناس، وبين فهم العقيدة الصحيحة، ومن هنا تبدو الحاجة ملحة إلى بيان تلك العقيدة الصافية الخالصة، التي ترتكز على نصوص الوحيين الكتاب والسنة.
فالإنسان في كل زمان ومكان، في حاجة ماسة إلى عقيدة تحدد له غايته، وتوضح
__________
(1) سورة ق الآية 33
(2) سورة الإسراء الآية 57(11/185)
له منهجه الذي يسير عليه؛ لتحقيق هذه الغاية، ولكنه عندما تنتكس فطرته، وتطول غفلته، وينقلب فهمه، حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن، عندها تتحول عقيدته إلى حجر يقدسه، أو شجر يعظمه، أو شمس تضيء نهاره، أو قمر ينير ليله، أو بحر تتلاطم أمواجه، أو نار تتلظى، أو حيوان يهابه، أو إنسان يكبر في نفسه، أو أي مخلوق يرى له فضلا عليه من ملك أو جني، أو نبي، أو ولي، ميت أو حي، فيتعلق من ذلك كله بما هو أوهن من خيوط بيت العنكبوت.
قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (1) .
وقد يكون ذلك منه لمجرد التقليد من غير وعي أو تفكير: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} (2) {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} (3) {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (4) {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (5) .
وقد لا يكون الانحراف في العقيدة، باتباع الهوى الذي ذمه الله في غير ما آية، فمن كتابه العزيز.
قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (6) {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (7) .
وقال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (8) .
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 41
(2) سورة الزخرف الآية 20
(3) سورة الزخرف الآية 21
(4) سورة الزخرف الآية 22
(5) سورة الزخرف الآية 23
(6) سورة الجاثية الآية 23
(7) سورة الجاثية الآية 24
(8) سورة النجم الآية 23(11/186)
وفي هذا العصر الذي ادلهمت فيه الظلمات، وانقلبت فيه الحقائق، وتغيرت فيه المفاهيم، يتساءل الفرد المسلم عن طريق الخلاص يتساءل وهو حائر بين هذه الجماعات المتصارعة، والأحزاب المتناحرة، والدعوات المتفرقة ذات المناهج المختلفة التي تدعي لنفسها السير على المنهج الصحيح.
وكل يدعي وصلا لليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاك
وهذه الدعوات لا يخلو أمرها من حالين:
إحداهما: الخطأ في المنهج والسلوك.
كمناهج الطرق الصوفية التي ذكرنا فيما سبق بعض مقالاتهم الإلحادية التي لا تمت إلى الدين بصلة بل صرفت اتباعها عن الاعتماد على الكتاب والسنة اللذين هما مصدر شريعة الإسلام، والحال الثانية، الخطأ في الفكر. كمثل جماعات الدعوة الإسلامية المعاصرة، والتي تنطلق في دعواتها من منطلق حزبي ضيق.
الأمر الذي بعد بهم عن منهج السلف الصالح، إذ أن هذه الجماعات لم تؤسس بناء دعوتها على توحيد الباري - جل وعلا - والعقيدة السلفية الصافية من الشوائب.
فإن من تأثر بتلك الدعوات إن كان من أهل العقيدة أصلا لا يكون ولاؤه لها، ولا يكون فكره متفقا معها، بسبب سيطرة هذه المناهج على أفكاره، حتى ماتت العقيدة في نفسه؛ فأصبح لا يدعو لها، وإن كان يعتقدها، لكنه بعد عنها تحت تأثير المنهج الحزبي؛ لأنه يوالي ويعادي على ذلك الفكر الضيق، الذي بني على غير أسس سليمة، فلا يكون للعقيدة مكان ولا مجال في التطبيق العملي، ولا تعطي ثمراتها الطيبة اليانعة، فهي لا تفيد معتقدها؛ لأنها قد فقدت روحها، فأصبحت بلا روح، كالجذوة التي استترت وانغمرت تحت الرماد.
وخطورة هذا الأمر لا تقل عن الجهل بالعقيدة، فإن من يعرف العقيدة ولا يدعو إليها، هو كالجاهل بها سواء بسواء، وهؤلاء إنما أصيبوا بالخرس عن الدعوة إلى العقيدة بدعوى أن ذلك يفرق الأمة، ويمزق كيانها؛ لأنهم يريدون أن يجمعوا تحت لوائهم من(11/187)
هب ودب، لا فرق في ذلك عندهم بين ملتزم بالعقيدة الصحيحة وغيره.
إذ أن الهدف الذي يقصدونه هو مجرد الجمع دون تمييز، وهذا منهج بلا شك سينتهي بأصحابه إلى الفشل الذريع؛ نظرا لكونه قد بني على غير أسس سليمة، وذلك أن أصحاب هذا المسلك أتوا من عدم الفهم والإدراك الصحيح، حيث لم يفرقوا في الدعوة، بين الأصول والفروع.
فتراهم يبدءون بالدعوة إلى بعض الفروع، ويزعمون أنه متى أقيم هذا الفرع، فإنه سوف يوجد الأصل تلقائيا؛ ولذا نرى كثيرا منهم يهتمون بالجانب السياسي، بدعوى أنه متى وجدت الدولة التي ينشدونها عند ذلك تصلح العقيدة وغيرها، مما فسد من أحوال المسلمين، وهذا تصور غير صحيح؛ لأن صاحب هذا التصور ذكر شيئا، وغابت عنه أشياء.
هذا على فرض أن صاحب هذا الفكر حسن النية، بيد أننا نشك في حسن نيته، وإنما يروج بذلك على أولئك الذين لا رسوخ لهم في فهم العقيدة مستغلا عواطفهم نحوها، لكنه ينوي خلاف ذلك؛ لأنه ليس من أهل العقيدة ولا أدل على ذلك من كونه يدعي أن الدعوة إلى العقيدة تفرق الأمة كما أسلفنا.
نعم الإسلام دين ودولة، وعقيدة وشريعة، ولكن يجب أن نأخذه كوحدة متكاملة بحيث ينطلق في سياسته، وجميع أموره من العقيدة الإسلامية المستمدة من الكتاب والسنة، وهما كفيلان ببيان منهج الدعوة الإسلامية كما فصلنا ذلك فيما تقدم.
لا بمجرد الدعاية والأناشيد الحماسية والهتافات، والشعارات الجوفاء التي لم يستفد منها المسلمون سوى القضاء على الدعوة وأهلها في كثير من البلاد، حيث يهيجون الشباب المسلم، ويلهبون حماسه ويستثيرونه، إلى أن يثور ويتحرك فيقع في أيدي الطغاة الظلمة أعداء الإسلام والمسلمين؛ فيقضون على هؤلاء الشباب، ويهدرون هذه الطاقة نتيجة لذلك المسلك الخاطئ، الذي تسلكه تلك الجماعات في دعوتها، وإذا أردنا أن يتحقق للمسلمين، ما يصبون إليه، وما يتطلعون إليه، من العودة بالمسلمين إلى الإسلام الصحيح، فعلينا أن نسلك بهم طريق التعليم والتربية، وتفقيه الشباب المسلم الشوائب التي علقت بالدين ودعوته، وتلك الرواسب التي أكل عليها الدهر وشرب، والتي(11/188)
انحرفت بالمسلمين عن الجادة الصحيحة التي رسمها لهم الله - عز وجل - في كتابه المبين، وبينها رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - في سنته المطهرة، ولنا أسوة حسنة في أولئك الدعاة المصلحين الذين أسسوا دعوتهم على عقيدة الإسلام، وبدءوا بتطهيرها من شوائب الشرك والخرافات.
الأمر الذي تحقق بسببه رفع راية التوحيد خفاقة في ربوع الجزيرة العربية، بعد أن ران عليها الجهل، وخيم عليها الظلام عدة قرون، وعاد كثير من الناس إلى الشرك والخرافات، فانقشع ذلك الجهل، وتحول ذلك الظلام إلى نور، على يد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -، الذي بدأ بتعليم الناس العقيدة الصحيحة، وقامت بفضل هذه العقيدة دولة التوحيد، منذ أن قام الإمام محمد بن سعود - رحمه الله - مؤسس هذه الدولة المباركة بتبني هذه الدعوة الطيبة، فكتب الله لها بذلك النصر والبقاء، وزالت مظاهر الشرك والوثنية في برهة وجيزة، وهي لم تكن لتزول، لو لم تنطلق هذه الدعوة من روح العقيدة.
ولست مبالغا حينما أذكر هذه الحقيقة، فإنها حقيقة يسلم بها الأعداء فضلا عن الأصدقاء، والحق ما شهدت به الأعداء.
وخلاصة القول: إنه لا صلاح لنا ولا فلاح، ولا نجاح لدعوتنا، إلا إذا بدأنا بالأهم قبل المهم، وذلك بأن ننطلق في دعوتنا من عقيدة التوحيد، نبني عليها سياستنا، وأحكامنا، وأخلاقنا، وآدابنا، ننطلق في كل ذلك من هدي الكتاب، والسنة، بلا إفراط، ولا تفريط، ذلكم هو الصراط المستقيم، والمنهج القويم، الذي أمرنا الله تعالى، بسلوكه، فقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (1) .
وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (2) ، وقال رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم -: «تركت فيكم أمرين، لن تضلوا بعدي ما تمسكتم بهما، كتاب الله وسنتي (3) » .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153
(2) سورة آل عمران الآية 103
(3) الموطأ ص 899 كتاب القدر.(11/189)
ويقول الإمام مالك بن أنس - رحمه الله -: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، اللهم إنا نسألك أن ترد المسلمين إلى دينهم ردا جميلا، ونسألك أن ترينا الحق حقا وترزقنا اتباعه، والباطل باطلا وترزقنا اجتنابه، وأن لا تجعله ملتبسا علينا فنضل إنك ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
صالح بن سعد السحيمي.(11/190)
الشيخ عبد الله عبد الغني الخياط
من مواليد مكة المكرمة، تلقى علومه الأولية في مدينة الخياط بمكة مكرمة، ودرس المنهج الثانوي في المدرسة الراقية، تخرج في المعهد العلمي السعودي بمكة المكرمة، ودرس على المشايخ في المسجد الحرام وغيره.
عمل مديرا للمدرسة الفيصلية بمكة المكرمة، فمديرا لمدرسة الأمراء أنجال الملك عبد العزيز، فمستشارا لوزارة المعارف بمكة، ثم مشرفا على إدارة التعليم ومديرا لكلية الشريعة بمكة المكرمة.
يعمل عضوا في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخطيبا بالمسجد الحرام، وعضوا في هيئة كبار العلماء وعضوا في اللجنة الثقافية برابطة العالم الإسلامي.
من مؤلفاته: اعتقاد السلف - دليل المسلم - ما يجب أن يعرف المسلم عن دينه - الخطب في المسجد الحرام - الرواد الثلاثة - صحائف مطوية - حكم وأحكام من السيرة النبوية - تأملات في دروب الحق والباطل(11/191)
صفحة فارغة(11/192)
الربا في ضوء الكتاب والسنة
بقلم الشيخ عبد الله عبد الغني خياط
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (2) .
تقديم
الإسلام دين العمل والكد، وبقدر ما يعمل المسلم يأخذ، وبقدر ما يغرس يحظى بالثمار، أما التبطل والقعود عن الكسب المشروع اتكالا على مجهود الغير أو اعتدادا بغنيمة باردة تصل إليه دون عناء وبذل جهد، فليس ذلك من دين الإسلام، بل هو مناقض لما جاء به الإسلام وحض عليه ورغب فيه، ألا ترى كيف توحي الآية الكريمة التالية وأمثالها بمزاولة العمل بعد أداء فريضة الله ابتغاء رزق الله، ودفعا للتبطل، يقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) سورة الجمعة الآية 9
(4) سورة الجمعة الآية 10(11/193)
فالأمر بالانتشار في الأرض قرنه سبحانه بالفريضة التي هي عماد الدين، وفتح الأنظار للاتجاه إليه والأخذ كمقوم للحياة ترتكز عليه، وجاء في الحديث: «ما أكل أحد طعاما خيرا له من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده (1) » ، وفي حديث آخر يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفقير جاء يطلب مددا من المال: «لئن يحتزم أحدكم حزمة من حطب فيحملها على ظهره فيبيعها خير له من أن يسأل رجلا يعطيه أو يمنعه (2) » .
هذه مقدمة وضعناها بين يدي بحث اليوم لنركز في الأذهان أن الربا تبطل وقعود عن الكسب المشروع، واستمراء لحياة رتيبة لا نصب فيها ولا كد ولا عناء أو جهد، بل يعيش صاحبها على حساب الآخرين يأكل كسبهم ويمتص نشاطهم، ويجعلهم كالأجراء يعملون له، وليتهم يأخذون أجرا على عملهم، وإنما يأكلون من فتات المائدة لو فضل من المائدة فتات، وسوف نسير - إن شاء الله - في كتابة هذا البحث على المخطط الذي رسمناه له على ضوء الكتاب والسنة، فنبدأ أولا بتعريف الربا لغة وشرعا، (2) الربا في آي الكتاب العزيز، (3) الربا في السنة، (4) حكم الربا في الإسلام، ويشتمل هذا المبحث على: -
أ - مضار الربا.
ب - تحريم الربا.
ج - أنواع الربا وحكم كل نوع.
د - وسائل القضاء على الربا ويتفرع عنه ما يأتي:
1 - القرض الحسن.
2 - الحض على التعاون لصالح الفرد والمجتمع، وهذا التعاون يترجم عنه التعاون الصناعي والتعاون الزراعي التعاون الاجتماعي.
3 - خطر الربا الاستهلاكي والإنتاجي.
4 - خاتمة.
__________
(1) أخرجه أحمد، ج4 ص 131، والبخاري ج 3 ص 121.
(2) البخاري، ج3 ص 121، ومسلم ج2 ص 721 واللفظ له.(11/194)
تعريف الربا لغة وشرعا
أما التعريف اللغوي فهو: الزيادة على الشيء ومنه (أربى فلان على فلان) إذا زاد عليه (وربا الشيء) إذا زاد على ما كان عليه فعظم (فهو يربو ربوا) ، وإنما قيل للرابية (رابية) لزيادتها في العظم والإشراف على ما استوى من الأرض مما حولها من قولهم (ربا يربو) ، ومن ذلك قيل (فلان في رباوة قومه) يراد أنه في رفعة وشرف منهم فأصل الربا الأناقة والزيادة، ثم يقال: (أربى فلان) أي أناف ماله حين صيره زائدا وإنما قيل للمربي (مرب) لتضعيفه المال الذي كان له على غريمه حالا أو لزيادته عليه السبب الأجل الذي يؤخره إليه فيزيده إلى أجله الذي كان له قبل حل دينه عليه ولذلك قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (1) .
وأما تعريف الربا في الشرع فيقع على معان لم يكن الاسم موضوعا لها في اللغة، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى النسء ربا في حديث أسامة بن زيد فقال: «إنما الربا في النسيئة (2) » ، وقال عمر بن الخطاب إن آية الربا من آخر ما نزل من القرآن وإن النبي صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يبينه لنا فدعوا الربا والريبة.
فثبت بذلك أن الربا قد صار اسما شرعيا لأنه لو كان باقيا على حكمه في أصل اللغة لما خفي على عمر؛ لأنه كان عالما بأسماء اللغة؛ ولأنه من أهلها ويدل عليه أن العرب لم تكن تعرف بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة نسء ربا، وهو ربا في الشرع وإذا كان ذلك على ما وصفنا صار بمنزلة سائر الأسماء المجملة المفتقرة إلى البيان وهي الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع لمعان لم يكن الإسلام موضوعا لها في اللغة نحو الصلاة والصوم والزكاة فهو مفتقر إلى البيان ولا يصح الاستدلال بعمومه في تحريم شيء من العقود إلا فيما قامت دلالته أنه مسمى في الشرع بذلك (3) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 130
(2) أخرجه البخاري، 3 \ 155، ومسلم 3 \ 1218.
(3) أحكام القرآن ج1 ص551 - 552.(11/195)
مبحث الربا في الكتاب العزيز
ننتقل بعد هذا البسط في مدلول الربا لغة وشرعا إلى إيراد الآيات القرآنية التي جاء فيها ذكر الربا موضحا قال تعالى في سورة البقرة {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (2) {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (3) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (4) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (5) {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (6) {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (7) .
تفسير الآيات
يقول الحافظ ابن كثير - يرحمه الله-: " لما ذكر تعالى الأبرار المؤدين للنفقات المخرجين للزكوات المتفضلين بالبر والصدقات لذوي الحاجات والقرابات في جميع الأحوال والأوقات شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات فأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم فقال: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (8) أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه، وتخبط الشيطان له، وذلك أنه يقوم قياما منكرا. وقال ابن عباس: آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق. رواه ابن أبي حاتم، ونقل- أي ابن كثير - عن بعض مفسري السلف نحو هذا المعنى، ثم استمر يرحمه الله في نقل الروايات عن مفسري السلف في أن قيامهم على الوضع المذكور يكون يوم القيامة ونقل
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 276
(3) سورة البقرة الآية 277
(4) سورة البقرة الآية 278
(5) سورة البقرة الآية 279
(6) سورة البقرة الآية 280
(7) سورة البقرة الآية 281
(8) سورة البقرة الآية 275(11/196)
عن ابن جرير بالسند إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: يقال يوم القيامة لآكل الربا خذ سلاحك للحرب وقرأ {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} (1) الآية وذلك حين يقوم من قبره (2) ، وجاء في "فتح القدير" عند تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} (3) قوله: اختصاص هذا الوعيد بمن يأكله بل هو عام لكل من يعامل بالربا فيأخذه ويعطيه وإنما خص الأكل لزيادة التشنيع على فاعله ولكونه هو الغرض الأهم فإن آخذ الربا إنما أخذه للأكل، وقوله: {لَا يَقُومُونَ} (4) أي يوم القيامة كما يدل عليه قراءة ابن مسعود وبهذا فسره جمهور المفسرين قالوا: إنه يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتا عند أهل المحشر، وقيل: المراد تشبيه من يحرص في تجارته فيجمع ماله من الربا بقيام المجنون لأن الحرص والطمع والرغبة في الجمع قد استفزته حتى صار شبيها في حركته بالمجنون كما يقال لمن يسرع في مشية ويضطرب في حركاتها: إنه قد جن، ومنه قول الأعشى:
وتصبح من غب السرى وكأنها ... ألم بها من طائف الجن أولق
فجعلها - أي ناقته - بسرعة مشيها ونشاطها كالمجنون، وقوله: {إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ} (5) أي إلا قياما كقيام الذي يتخبطه، والخبط: الضرب بغير استواء كخبط العشواء وهو المصروع، والمس: الجنون، والأمس: المجنون، وكذلك الأولق وهو متعلق بقوله يقومون أي لا يقومون من المس الذي بهم {إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ} (6) أو متعلق بيقوم، وفي الآية دليل على فساد قول من قال: إن الصرع لا يكون من جهة الجن وزعم أنه من فعل الطبائع، وقال: إن الآية خارجة على ما كانت العرب تزعمه من أن الشيطان يصرع الإنسان وليس بصحيح وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من أن يتخبطه الشيطان.
كما أخرجه النسائي وغيره قوله ذلك إشارة إلى ما ذكر من مبالغة بجعلهم الربا أصلا والبيع فرعا، أي: إنما البيع بلا زيادة عند حلول الأجل كالبيع بزيادة عند حلوله، فإن العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك فرد الله عليهم بقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (7) أي أن الله أحل البيع وحرم نوعا من أنواعه وهو البيع المشتمل على الربا. والبيع
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) تفسير ابن كثير، ج2 ص 54-55.
(3) سورة البقرة الآية 275
(4) سورة البقرة الآية 275
(5) سورة البقرة الآية 275
(6) سورة البقرة الآية 275
(7) سورة البقرة الآية 275(11/197)
مصدر باع يبيع أي دفع عوضا وأخذ معوضا، والجملة بيانية لا محل لها من الإعراب، قوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} (1) أي: من بلغته موعظة من الله من المواعظ التي تشتمل عليها الأوامر والنواهي ومنها ما وقع هنا من النهي عن الربا فانتهى أي: فامتثل النهي الذي جاءه وانزجر عن المنهي عنه، وهو معطوف، أي: قوله: فانتهى على قوله: جاءه وقوله: من ربه متعلق بقوله: (جاءه) أو بمحذوف وقع صفة لموعظة، أي كائنة من من ربه فله ما سلف أي ما تقدم منه من الربا لا يؤاخذ به لأنه فعله قبل أن يبلغه تحريم الربا أو قبل أن تنزل آية تحريم الربا، وقوله: {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) قيل: الضمير عائد إلى الربا، أي: وأمر الربا إلى الله في تحريمه على عباده واستمراره ذلك التحريم، وقيل الضمير يرجع إلى المرابي، أي: أمر من عاد بالربا إلى الله في تثبيته على الانتهاء أو الرجوع إلى المعصية ومن عاد إلى أكل الربا والمعاملة به {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (3) والإشارة إلى من عاد، وجمع أصحاب باعتبار معنى من، وقيل إن معنى من عاد هو أن يعود إلى القول {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (4) وأنه يكفر بذلك فيستحق الخلود، وعلى التقدير الأول يكون الخلود مستعارا على معنى المبالغة، كما تقول العرب: ملك خالد [أي: طويل البقاء] ، والمصير إلى هذا التأويل واجب للأحاديث المتواترة القاضية بخروج الموحدين من النار قوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} (5) أي يذهب بركته في الدنيا، وإن كان كثيرا فلا يبقى بيد صاحبه. وقيل: يمحق بركته في الآخرة، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (6)
قوله: اتقوا قوا أنفسكم من عقابه واتركوا البقايا التي بقيت لكم من الربا، وظاهره أنه أبطل من الربا ما لم يكن مقبوضا، قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (7) قيل: هو شرط مجازي على جهة المبالغة، وقيل: إن إن في هذه الآية بمعنى (إذ) قال ابن عطية: وهو مردود لا يعرف في اللغة، والظاهر أن المعنى: إن كنتم مؤمنين على الحقيقة فإن ذلك يستلزم امتثال أوامر الله ونواهيه، قوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} (8) يعني ما أمرتم به من الاتقاء وترك ما بقي من الربا {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (9) أي فاعلموا بها، من أذن بالشيء إذا علم به، وقيل هو من الأذن بالشيء وهو الاستماع لأنه من طريق العلم، وقرأ أبو بكر عن عاصم وحمزة فأذنوا على معنى فأعلموا غيركم أنكم على حربهم، وقد دلت هذه الآية على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر ولا خلاف في ذلك، وتنكير الحرب للتعظيم وزادها تعظيما نسبتها إلى اسم الله
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 275
(4) سورة البقرة الآية 275
(5) سورة البقرة الآية 276
(6) سورة البقرة الآية 278
(7) سورة البقرة الآية 278
(8) سورة البقرة الآية 279
(9) سورة البقرة الآية 279(11/198)
الأعظم وإلى رسوله الذي هو أشرف خليقته، قوله فإن تبتم أي من الربا {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (1) تأخذونها {لَا تَظْلِمُونَ} (2) غرماءكم بأخذ الزيادة {وَلَا تُظْلَمُونَ} (3) أنتم من قبلهم بالمطل والنقص، والجملة حالية أو استثنائية وفي هذا دليل على أن أموالهم مع عدم التوبة حلال لمن أخذها من الأئمة ونحوهم ممن ينوب عنهم، قوله: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} (4) لما حكم سبحانه لأهل الربا برءوس أموالهم عند الواجدين للمال حكم في ذوي العسرة بالنظرة إلى يسار، [والعسرة] ضيق الحال من جهة عدم المال، ومنه جيش العسرة، [والنظرة] التأخير، [والميسرة] مصدر بمعنى اليسر وارتفع ذو بكان التامة بمعنى وجد، واستمر في شرحه لرفع ذو ثم أورد رواية للمعتمر عن حجاج الوراق قال في مصحف عثمان: "إن كان ذا عسرة" قال النحاس ومكي والنقاش وعلي: هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا، وعلى من قرأ ذو فهي عامة في جميع من عليه دين وإليه ذهب الجمهور.
قوله: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا} (5) بحذف إحدى التاءين، وقرئ بتشديد الصاد أي: وأن تصدقوا على معسر غرمائكم بالإبراء خير لكم، وفيه الترغيب لهم بأن يتصدقوا برءوس أموالهم على من أعسر وجعل ذلك خيرا من الإنظار قاله السدي.
ونقل ابن جرير الطبري في تفسيره أن المراد: التصدق برءوس أموالكم على الغني والفقير منهم قال: (وأولى التأويلين بالصواب تأويل من قال: معناه وأن تصدقوا على المعسر برءوس أموالكم خير لكم لأنه يلي ذكر حكمه في المعنيين وإلحاقه بالذي يليه أحب إلي من إلحاقه بالذي بعد منه) (6) .
قوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (7) جوابه محذوف أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتم به، قوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا} (8) هو يوم القيامة، وتنكيره للتهويل، وهو منصوب على أنه مفعول به لا ظرف، قوله {تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} (9) وصف له، وذهب قوم إلى أن هذا اليوم المذكور هو يوم الموت وذهب الجمهور إلى أنه يوم القيامة كما تقدم قوله إلى الله وفيه مضاف محذوف تقديره إلى حكم الله {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} (10) من النفوس المكلفة ما كسبت أي: جزاء ما عملت من خير أو شر وجملة {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (11) حالية، وجمع الضمير لأنه أنسب بحال الجزاء، كما أن الإفراد أنسب بحال الكسب،
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) سورة البقرة الآية 279
(4) سورة البقرة الآية 280
(5) سورة البقرة الآية 280
(6) تفسير الطبري، ج6 ص 35.
(7) سورة البقرة الآية 280
(8) سورة البقرة الآية 281
(9) سورة البقرة الآية 281
(10) سورة البقرة الآية 281
(11) سورة البقرة الآية 281(11/199)
وهذه الآية فيها الموعظة الحسنة لجميع الناس، وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (1) قال: نزلت في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة كانا شريكين في الجاهلية يسلفان الربا إلى ناس من ثقيف فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا. فأنزل الله هذه الآية، وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: كانت ثقيف قد صالحت النبي صلى الله عليه وسلم على أن ما لهم من ربا على الناس وما كان للناس عليهم من ربا فهو موضوع، فلما كان الفتح استعمل عتاب بن أسيد على مكة، وكانت بنو عمرو بن عوف يأخذون الربا من بني المغيرة وكان بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية، فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كثير فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم فأبى بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام ورفعوا ذلك إلى عتاب بن أسيد فكتب عتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (2) فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب وقال: إن رضوا وإلا فآذنهم بحرب، وبسند ابن جرير وغيره عن ابن عباس في قوله: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ} (3) قال: من كان مقيما على الربا لا ينزع منه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه، وأخرجوا أيضا عنه في قوله: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ} (4) قال: استيقنوا بحرب، وأخرج أهل السنن وغيرهم عن عمرو الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ألا وإن كل ربا في الجاهلية موضوع، لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، وأول ربا موضوع ربا العباس (5) » . وأخرج ابن منده عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في ربيعة بن عمرو وأصحابه {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (6) وبالسند عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} (7) قال: نزلت في الربا، وأخرج عبد الرزاق بالسند عن ابن جريج عن الضحاك في الآية قال: وكذلك كل دين على مسلم، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه وقد وردت أحاديث صحيحة في الصحيحين وغيرهما في الترغيب لمن له دين على معسر أن ينظره، وبالسند عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت من القرآن {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} (8) وعن ابن عباس أيضا كان بين نزولها وبين موت النبي صلى الله عليه وسلم إحدى وثمانون يوما، وعن سعيد بن جبير أنه عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها تسع ليال (9) اهـ.
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 278
(3) سورة البقرة الآية 279
(4) سورة البقرة الآية 279
(5) سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3087) ، سنن ابن ماجه المناسك (3055) .
(6) سورة البقرة الآية 279
(7) سورة البقرة الآية 280
(8) سورة البقرة الآية 281
(9) فتح القدير (1ص 297 ـ 298- 299) .(11/200)
خلاصة التفسير
تلخص من مجموع ما أوردناه في تفسير الآيات ما يأتي:
1- المراد بأكل الربا جميع التصرفات وعبر عن ذلك بالأكل لأنه الغرض الرئيسي وغيره من الأغراض تبع له.
2- تشبيه المرابي بالمصروع لأن المصروع يتخبط في سيره فينهض ويسقط وكذلك آكل الربا يوم القيامة.
3- تشبيه البيع بالربا مبالغة في جعل الربا أصلا في الحل والبيع فرعا والعكس هو الصحيح.
4- المحقق يشمل ما يأتي:
أ - المحق بالكلية بحيث يذهب المال من يد المرابي دون أن ينتفع به.
ب - محق بركة المال مهما كثر فإن عاقبته إلى قل.
5- إسدال الستر على ما سبق من تعاطي الربا قبل تحريمه فلا يلحق المرء تبعته.
6- الترغيب في بذل الصدقات للوعد الكريم بتنمية الله لها.
7- الوعيد الشديد لمن يزاول تعاطي الربا بعد التحريم.
8- للمرابي أن يأخذ رأس ماله ويدع الزيادة عليه.
9- الترغيب في إنظار المعسر أو إبراء ذمته من الدين.
10- توجيه الأنظار ليوم القيامة والتذكير بالوقفة فيه أمام رب العزة للحساب والجزاء على الأعمال.(11/201)
(مبحث الربا في السنة النبوية)
قوام الدين وعماده والمصدر الذي يؤخذ منه التشريع كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وقد عرضنا فيما تقدم من هذا المبحث للآيات التي ورد فيها ذكر الربا وتحريمه(11/201)
والوعيد عليه ونردف ذلك بما ورد في السنة النبوية في موضوع الربا ولن نستعرض كل الأحاديث الواردة في ذلك وإنما نكتفي منها بما يلي:
1 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات (1) » رواه البخاري ومسلم.
الشرح
قوله (اجتنبوا) أي: أبعدوا وهو أبلغ من قوله دعوا واتركوا لأن النهي عن القربان أبلغ كقوله: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (2) قوله: الموبقات أي: المهلكات وسميت هذه موبقات لأنها تهلك فاعلها في الدنيا بما يترتب عليها من العقوبات وفي الآخرة من العذاب، وفي حديث ابن عمر عند البخاري في الأدب المفرد والطبري في التفسير وعبد الرزاق مرفوعا وموقوفا قال: «الكبائر تسع وذكر السبعة المذكورة وزاد والإلحاد في الحرم وعقوق الوالدين (3) » إلى آخر ما أفاض فيه شارح الحديث في تعداد الكبائر، قوله: (الشرك بالله) هو أن يجعل لله ندا يدعوه ويرجوه ويخافه كما يخاف الله. بدأ به لأنه أعظم ذنب عصي الله به في الأرض كما في الصحيحين عن ابن مسعود «سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك (4) » الحديث، وأخرجه الترمذي بسنده عن صفوان بن عسال ثم أورد الحديث بتمامه وقال: صحيح.
قوله: (السحر) السحر في اللغة عبارة عما خفي ولطف سببه، وقال في الكافي: السحر عزائم ورقى يؤثر في القلوب والأبدان إلى آخر ما أفاض فيه الشارح يرحمه الله، قوله: (وقتل النفس التي حرم الله) أي حرم الله قتلها وهي نفس المسلم المعصوم. (إلا بالحق) أي: بأن تفعل ما يوجب قتلها، قوله: (وأكل الربا) تناوله بأي وجه كان كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (5) الآيات من سورة البقرة، قال ابن دقيق العيد: وهو مجرب لسوء الخاتمة نعوذ بالله من ذلك وأكل مال اليتيم يعني التعدي فيه وعبر بالأكل لأنه أعم وجوه الانتفاع، قوله: (والتولي يوم
__________
(1) صحيح البخاري الوصايا (2767) ، صحيح مسلم الإيمان (89) ، سنن النسائي الوصايا (3671) ، سنن أبو داود الوصايا (2874) .
(2) سورة الأنعام الآية 151
(3) سنن أبو داود الوصايا (2874) .
(4) صحيح البخاري تفسير القرآن (4477) ، صحيح مسلم الإيمان (86) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3183) ، سنن النسائي تحريم الدم (4014) ، سنن أبو داود الطلاق (2310) ، مسند أحمد بن حنبل (1/434) .
(5) سورة البقرة الآية 275(11/202)
الزحف) أي الإدبار عن الكفار وقت التحام القتال، وإنما يكون كبيرة إذا فر إلى غير فئة أو غير متحرف لقتال كما قيد به في الآية (15) في سورة الأنفال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} (1) وقوله: (وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) أي: المحفوظات من الزنا والمراد الحرائر العفيفات (2) .
2 - حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه (3) » رواه الخمسة وصححه الترمذي غير أن لفظ النسائي: «آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه إذا علموا ذلك ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة (4) » .
3 - عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «درهم من ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية (5) » رواه أحمد.
الشرح
حديث ابن مسعود أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم وصححاه وأخرجه مسلم من حديث جابر بلفظ «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه (6) » وقال: هم سواء. وفي الباب عن علي رضي الله عنه عند النسائي وعن أبي جحفة، وحديث عبد الله بن حنظلة أخرجه أيضا الطبراني في الأوسط والكبير قال في مجمع الزوائد: ورجال أحمد رجال الصحيح، ويشهد له حديث البراء عند ابن جرير بلفظ: «الربا اثنان وستون بابا أدناها مثل إتيان الرجل أمه (7) » وهو حديث صحيح، وحديث أبي هريرة عند البيهقي بلفظ: «الربا ثلاثة وسبعون بابا أدناها مثل أن ينكح الرجل أمه (8) » ، وأخرج ابن جرير نحوه، وكذلك أخرج عنه نحوه ابن أبي الدنيا وحديث عبد الله بن مسعود عند الحاكم وصححه بلفظ: «الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه وأن أربى الربا عرض الرجل المسلم (9) » وهو حديث صحيح، وقوله (آكل الربا) ومؤكله بسكون الهمزة بعد الميم ويجوز إبدالها واوا أي: ولعن مطعمه غيره، وسمي آخذ المال آكلا، ودافعه مؤكلا؛ لأن المقصود منه
__________
(1) سورة الأنفال الآية 15
(2) فتح المجيد (ص 237 إلى 240) فتح الباري 12 \ 181-184، وصحيح مسلم بشرح النووي 2 \ 83-88.
(3) صحيح مسلم المساقاة (1597) ، سنن الترمذي البيوع (1206) ، سنن أبو داود البيوع (3333) ، سنن ابن ماجه التجارات (2277) ، مسند أحمد بن حنبل (1/465) ، سنن الدارمي البيوع (2535) .
(4) سنن النسائي الزينة (5102) ، مسند أحمد بن حنبل (1/465) .
(5) مسند أحمد بن حنبل (5/225) .
(6) صحيح مسلم المساقاة (1597) ، سنن الترمذي البيوع (1206) ، سنن النسائي الطلاق (3416) ، سنن أبو داود البيوع (3333) ، سنن ابن ماجه التجارات (2277) ، مسند أحمد بن حنبل (1/465) ، سنن الدارمي البيوع (2535) .
(7) سنن ابن ماجه التجارات (2274) .
(8) سنن ابن ماجه التجارات (2274) .
(9) سنن ابن ماجه التجارات (2275) .(11/203)
الأكل وهو أعظم منافعه وسببه إتلاف أكثر الأشياء.
قوله: (وشاهديه) رواية أبي داود بالإفراد والبيهقي وشاهديه أو شاهده، قوله: (وكاتبه) دليل على تحريم كتابة الربا إذا علم ذلك، وكذلك الشاهد لا يحرم عليه الشهادة إلا مع العلم، فأما من كتب أو شهد غير عالم فلا يدخل في الوعيد، قوله: (أشد من ست وثلاثين. . . إلخ) يدل على أن معصية الربا من أشد المعاصي لأن المعصية التي تعدل معصية الزنا التي هي في غاية الفظاعة والشناعة بمقدار العدد المذكور بل أشد منها لا شك أنها قد تجاوزت الحد في القبح، وأقبح منها استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم ولهذا جعله الشارع أربى الربا. فالرجل يتكلم بالكلمة التي لا يجد لها لذة ولا تزيد في ماله ولا جاهه فيكون إثمه عند الله أشد من إثم من زنى ستا وثلاثين زنية هذا ما لا يصنعه بنفسه عاقل (1) .
4 - حديث سمرة بن جندب الطويل نجتزئ منه بما يلي: قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة أقبل علينا بوجهه فقال: هل رأى منكم أحد الليلة رؤيا فإن كان أحد رأى فيها رؤيا قصها عليه فيقول فيها ما شاء الله، فسألنا يوما هل رأى أحد منكم رؤيا فقلنا: لا، قال: ولكني رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي فأخرجاني إلى أرض مستوية أو فضاء، فمررنا برجل جالس ورجل قائم على رأسه وبيده كلوب من حديد يدخله في شدقه فيشقه حتى يبلغ فاه ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك ويلتئم شدقه هذا فيعود فيه فيصنع به مثل ذلك، قال: قلت ما هذا؟ قالا: انطلق، واستمر الرسول صلى الله عليه وسلم في سرد رؤيته إلى أن قال: فانطلقنا حتى نأتي على نهر من دم فيه رجل قائم وعلى شط النهر رجل قائم بين يديه حجارة فأقبل ذلك الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج منه رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فرده حيث كان، فقلت لهما: ما هذا؟ قالا: انطلق (2) » . الحديث أخرجه البخاري نعرض بعد هذا للإيضاح عن الفقرات التي وردت في هذا الحديث عن الملكين:
قالا: أما الرجل الذي رأيت يشق شدقه فإنه رجل كذاب يتحدث بالكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فهو يصنع به ما ترى إلى يوم القيامة، وأما الرجل الذي رأيته يشدخ رأسه فإن ذلك رجل علمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل بما فيه بالنهار فهو
__________
(1) نيل الأوطار، ح 5 (ص 296-297) .
(2) صحيح البخاري التعبير (7047) ، صحيح مسلم الرؤيا (2275) ، سنن الترمذي الرؤيا (2294) ، مسند أحمد بن حنبل (5/15) .(11/204)
يعمل به ما رأيت إلى يوم القيامة، وأما الذي رأيت في نهر الدم فذاك آكل الربا وهذه الفقرة هي المقصودة من إيراد هذا الحديث (1) .
وعلق الإمام الذهبي في كتابه الكبائر على هذا الحديث أو على الفقرة التي جاء فيها الوعيد لآكل الربا بقوله. . . " إن آكل الربا يعذب من حين يموت إلى يوم القيامة بالسباحة في النهر الأحمر الذي هو مثل الدم ويلقم بالحجارة وهو المال الحرام الذي كان جمعه في الدنيا يكلف المشقة فيه ويلقم حجارة من نار كما ابتلع الحرام في الدنيا، هذا العذاب له في البرزخ قبل يوم القيامة مع لعنة الله له كما في حديث أبي أمامة بسند ضعيف جدا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أربع حق على الله أن لا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها: مدمن الخمر، وآكل الربا، وآكل مال اليتيم بغير حق، والعاق لوالديه إلا أن يتوبوا (2) » أخرجه الحاكم وأبو الشيخ والمقدسي في المختارة، وقد ورد أن أكلة الربا يحشرون في صور الكلاب والخنازير من أجل حيلهم على أكل الربا كما مسخ أصحاب السبت حين تحيلوا على إخراج الحيتان التي نهاهم الله عن اصطيادها يوم السبت فحفروا لها حياضا تقع فيها يوم السبت، فيأخذونها يوم الأحد. فلما فعلوا ذلك مسخهم الله قردة وخنازير، وهكذا الذين يتحيلون على الربا بأنواع الحيل فإن الله لا تخفى عليه حيل المحتالين (3) . اهـ.
وحسبنا الأحاديث التي أوردناها عن الربا وبشاعته وعقوبة المرابين، ننتقل بعد ذلك إلى:
__________
(1) شرح السنة، ص 51-52-53.
(2) سنن النسائي الزكاة (2562) ، مسند أحمد بن حنبل (2/69) .
(3) الكبائر، ص68-69.(11/205)
مبحث حكم الربا في الإسلام
وقد تقدم من آي الكتاب العزيز، والسنة النبوية ما يشعر ويوجب تحريم الربا مما لا يدع مجالا للتردد في ذلك أو التأويل ولم يحرم الإسلام شيئا إلا لحكمة واضحة أو منفعة تعود على العباد وتبعا لتحريمه حرم الوسائل المفضية إليه سدا للذريعة، فمثلا: حرم بيع العينة بكسر العين وفتح النون وهي: أن تباع سلعة بثمن معلوم إلى أجل ثم يشتريها البائع من المشتري بأقل ليبقى الكثير في ذمته، وسميت عينة لحصول العين أي النقد فيها؛ ولأنه يعود إلى(11/205)
البائع عين ماله، واستدل لتحريم بيع العينة بالحديث الذي رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم (1) » .
ففي هذا الحديث دليل على تحريم هذا البيع، وذهب إليه مالك وأحمد وبعض الشافعية قالوا: لما فيه من تفويت مقصد الشارع من المنع عن الربا وسد الذرائع، قال القرطبي: لأن بعض صور هذا البيع تؤدي إلى بيع التمر بالتمر متفاضلا ويكون الثمن لغوا (2) . اهـ. نعود إلى الحديث آنف الذكر «إذا تبايعتم بالعينة (3) » الحديث. لنكشف عن صحته وهل عليه مأخذ من حيث سنده يهبط به عن درجة الصحة.
يقول الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله في كتابه (سلسلة الأحاديث الصحيحة) : " هو حديث صحيح لمجموع طرقه وقد وقفت على ثلاث منها كلها عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعا، الأولى: عن إسحاق أبي عبد الرحمن أن عطاء الخراساني حدثه أن نافعا حدثه عن ابن عمر قال: فذكره- أي الحديث - إلى أن قال- أي الشيخ الألباني -: روي ذلك من وجهين عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر يشير بذلك إلى تقوية الحديث، وقد وقفت على أحد الوجهين المشار إليهما وهو الطريق الثانية: عن أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر أخرجه أحمد، الثالثة: عن شهر بن حوشب عن ابن عمر رواه أحمد.
ثم وجدنا له شاهدا من رواية بشير بن زياد الخراساني حدثنا ابن جريج عن عطاء عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - فذكره- أي الحديث، أخرجه ابن عدي في ترجمة بشير هذا من (الكامل) وهو غير معروف، في حديثه بعض النكارة، وقال الذهبي ولم يترك (4) . وجاء في (معالم السنن) توجيه الخطابي لوجهة نظر المحرمين للعينة، قال المحرمون للعينة: الدليل على تحريمها من وجوه، أحدها: أن الله تعالى حرم الربا والعينة وسيلة إليه بل هي من أقرب وسائله، والوسيلة إلى الحرام حرام، فهنا مقامان أحدهما: بيان كونها وسيلة، والثاني: بيان الوسيلة إلى الحرام حرام، فأما الأول فيشهد له النقل والعرف والنية
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (2/84) .
(2) سبل السلام، ج3، ص 55.
(3) سنن أبو داود البيوع (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (2/84) .
(4) سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج1، ص15ـ 16.(11/206)
والقصد وحال المتعاقدين ثم أورد جملة أحاديث تصور البيع بالعينة إلى أن قال: وأما شهادة العرف بذلك فأظهر من أن تحتاج إلى تقرير بل قد علم الله وعباده من المتبايعين قصدهما أنهما لم يعقدا على السلعة عقدا يقصدان به تملكها، ولا غرض لهما فيها بحال وإنما الغرض والمقصود بالقصد الأول، مائة بمائة وعشرين وإدخال تلك السلعة في الوسط تلبيس وعبث، وهي بمنزلة الحرف الذي لا معنى له في نفسه بل جيء به لمعنى في غيره، حتى لو كانت تلك السلعة تساوي أضعاف ذلك الثمن أو تساوي أقل جزء من أجزائه لم يبالوا بجعلها موردا للعقد لأنهم لا غرض لهم فيها، وأهل العرف لا يكابرون أنفسهم في هذا. وأما النية والقصد فالأجنبي المشاهد لهما يقطع بأنه لا غرض لهما في السلعة وإنما القصد الأول مائة بمائة وعشرين فضلا عن علم المتعاقدين ونيتهما، ولهذا يتواطأ كثير منهم على ذلك قبل العقد ثم يحضران تلك السلعة محلالا لما حرم الله ورسوله.
وأما المقام الثاني وهو أن الوسيلة إلى الحرام حرام، فبانت بالكتاب والسنة والفطرة والمعقول، فإن الله سبحانه مسخ اليهود قردة وخنازير لما توسلوا إلى الصيد الحرام بالوسيلة التي ظنوها مباحة، وسمى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون مثل ذلك مخادعة كما تقدم، وقال أيوب السختياني: يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه كان أسهل. والرجوع إلى الصحابة في معاني الألفاظ متعين سواء كانت لغوية أو شرعية والخداع حرام، وأيضا فإن هذا العقد يتضمن إظهار صورة مباحة وإضمار ما هو أكبر من الكبائر فلا تنقلب الكبيرة مباحة بإخراجها في صورة البيع الذي لم يقصد نقل الملك فيه أصلا. وإنما قصده حقيقة الربا.
وأيضا فإن الطريق متى أفضت إلى الحرام فإن الشريعة لا تأتي بأختها أصلا؛ لأن إباحتها وتحريم الغاية جمع بين النقيضين، فلا يتصور أن يباح شيء ويحرم ما يفضي إليه، بل لا بد من تحريمهما أو إباحتهما. والثاني باطل قطعا فتعين الأول، وأيضا فإن الشارع إنما حرم الربا لأن فيه أعظم الفساد والضرر فلا يتصور مع هذا أن يبيح هذا الفساد العظيم بأيسر شيء يكون من الحيل (1) اهـ.
__________
(1) مختصر سنن أبي دواد، ج 5 ص (100، 101، 102) .(11/207)
ولشيخ الإسلام ابن تيمية - يرحمه الله - جملة فتاوى في مسألة بيع العينة منها: أنه سئل عن رجل طلب من إنسان ألف درهم إلى سنة بألف ومائتي درهم فباعه فرسا أو قماشا بألف درهم واشتراه منه بألف ومائتي درهم إلى أجل معلوم.
فأجاب: لا يحل له بذلك بل هو ربا باتفاق الصحابة والعلماء، كما دلت على ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. سئل ابن عباس رضي الله عنه عن رجل باع حريرة تم ابتاعها لأجل زيادة درهم فقال: دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة، وسئل عن ذلك أنس بن مالك فقال: هذا مما حرم الله ورسوله. وقالت عائشة لأم ولد زيد بن أرقم في نحو ذلك: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أخبري زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب. فمتى كان المقصود المتعامل دراهم بدراهم إلى أجل، فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.
فسواء باع المعطى الأجل أو باع الأجل المعطى ثم استعاد السلعة، وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا (1) » ، وفيه أيضا: «إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر وتركتم الجهاد في سبيل الله أرسل الله عليكم ذلا لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم (2) » وهذا كله بيع العينة وهو بيعتان في بيعة، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع ولا سلف ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك (3) » قال الترمذي: حديث صحيح، فحرم صلى الله عليه وسلم أن يبيع الرجل شيئا ويقرضه مع ذلك فإنه يحابيه في البيع لأجل القرض حتى ينفعه فهو ربا. وهذه الأحاديث وغيرها تبين أن ما تواطأ عليه الرجلان بما يقصدان به دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل فإنه ربا، سواء كان يبيع ثم يبتاع أو يبيع ويقرض وما أشبه ذلك، والله أعلم (4) .
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) ، سنن أبو داود البيوع (3461) ، مسند أحمد بن حنبل (2/432) .
(2) سنن أبو داود البيوع (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (2/84) .
(3) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .
(4) مجموع الفتاوى، ج29 ـ ص431، 432، 433(11/208)
الخلاصة
اتضح مما أوردناه من آي الكتاب العزيز وتفسيرها والسنة النبوية وشروحها وأقوال الصحابة والتابعين: اتضح تحريم الربا في الإسلام والوسائل المفضية إليه فتلخص من ذلك ما يأتي:
1 - النهي عن تعاطي الربا بكل الألوان والوسائل.
2 - إنه من الموبقات أي المهلكات.
3 - إنه من كبائر الذنوب.
4 - لعن آكل الربا ومؤكله وكل من تعاون عليه بكتابة أو شهادة.
5 - معصية أكل الربا تجاوزت الحد في القبح لأنها تعدل معصية الزنا.
6 - آكل الربا كما جاء في حديث سمرة وتعليق صاحب شرح السنة: يعذب في البرزخ بالسباحة في النهر الأحمر، ويلقم بحجارة من نار، وعليه اللعنة ثم الحيلولة بينه وبين دخول الجنة.
7 - حرمة عرض المسلم وتحريم الاستطالة فيه.
8 - أكلة الربا يحشرون في صورة الكلاب والخنازير من أجل تحيلهم على أكله.
9 - من وسائل التحيل لآكل الربا بيع العينة.
10 - الوعيد الوارد على التبايع بالعينة.
11 - الوسيلة للحرام محرمة.
12 - تحريم الربا وإباحة الوسيلة الموصلة إليه هو جمع بين النقيضين وذلك لا يقره الإسلام.
13 - لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما لم يكن تحت تصرف البائع.(11/209)
14 - ما تواطأ عليه البائع والمشتري بما يقصدان به دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل فإنه ربا، سواء كان يبيع ثم يبتاع أو يبيع ويقرض وأمثال ذلك.(11/210)
مضار الربا وحكمة تحريمه
قلت في مقدمة هذا البحث: إن الإسلام دين العمل وبقدر ما يعمل المسلم يأخذ، أما التبطل والقعود عن الكسب المشروع اتكالا على مجهود الغير أو اعتدادا بغنيمة باردة تصل إليه فليس ذلك من دين الإسلام بل هو مناقض لما جاء به الإسلام. ومن ثم نجد المدخل لمضار الربا فهو تبطل يعيش المتعاطي له على حساب الغير؛ يأكل كسبهم ويمتص نشاطهم إلى آخر ما سطرته في المقدمة، بالإضافة إلى أنه يسبب العداء بين أفراد المجتمع. ودين الإسلام دين التراحم والتعاطف والمساواة لا يقر الهامل الذي يعيش كالمتطفل على كدح غيره، يستمرئ حياة الدعة ليأكل الربا غنيمة باردة دون عناء وجهد في الكسب، ولذلك أباح الله البيع وحرم الربا؛ للفارق العظيم بين البيع والربا، فالبيع: كد وجهد مبذول ولقمة يأكلها البائع من عرق الجبين، بخلاف المرابي فإنه تتضخم ثروته وينمو ماله بالغنيمة الباردة التي يستبزها من الفقير المحتاج.
وهنالك خسارة قد تحيق بالمرابي دون أن يحسب لها حسابا ألا وهي هبوط الأسعار والديون التي أثقل بها نفسه وأخذها بفائدة ليوسع بها تجارته قد ينجم عنه الإفلاس، فهو مضطر إذا حان أجل التسديد أن يبيع السلعة برأس مالها حتى يأتي على كل السلع التي تحت يديه والتي كانت قوام تجارته ويغدو صفر اليدين، بل قد تلجئه الحاجة إلى أن يتكفف الناس أو يركن إلى الاستدانة، وذلك ما تترجم عنه الآية الكريمة: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} (1) والحديث النبوي الشريف: «الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قل (2) » أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذكر بعض العلماء المعاصرين عن مضار الربا أنه وسيلة للاستعمار وشقائه فقد ثبت أن الغزو الاقتصادي القائم على المعاملات الربوية كان التمهيد الفعال للاحتلال العسكري الذي سقطت أكثر دول الشرق تحت رحمته، فقد اقترضت الحكومات الشرقية بالربا وفتحت أبواب البلاد للمرابين الأجانب فما هي إلا سنوات معدودة حتى تسربت
__________
(1) سورة البقرة الآية 276
(2) سنن ابن ماجه التجارات (2279) ، مسند أحمد بن حنبل (1/395) .(11/210)
الثروة من أيدي المواطنين إلى هؤلاء الأجانب حتى إذا أفاقت الحكومات وأرادت الذود عن نفسها وأموالها استعدى هؤلاء الأجانب عليها دولهم فدخلت باسم حماية رعاياها، ثم تغلغلت هي كذلك فوضعت يدها مستثمرة مرافق البلاد، ولهذا لعن رسول الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء (1) .
أما حكمة تحريم الربا فتشمل الجانب الاقتصادي والأخلاقي والاجتماعي، وتفصيل ذلك ملخصا فيما جاء في تفسير الفخر الرازي وهي كما يلي:
1 - إن الربا يقتضي أخذ مال الإنسان من غير عوض؛ لأن من يبيع الدرهم بالدرهمين يحصل له زيادة درهم من غير عوض. ومال الإنسان متعلق بحاجته وله حرمة عظيمة كما جاء في الحديث: «حرمة مال المسلم كحرمة دمه (2) » فوجب أن يكون أخذ ماله من غير عوض محرما.
2 - إن الاعتماد على الربا يمنع الناس عن الاشتغال بالمكاسب، وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقدا كان أو نسيئة خف عليه اكتساب وجه المعيشة، فلا يكاد يتحمل مشقة الكسب والصناعات الشاقة والتجارة وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق. ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تنتظم إلا بالتجارات والحرف والصناعات والعمارات، وهذا هو الجانب الاقتصادي.
3 - إنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض؛ لأن الربا إذا حرم طابت النفوس بقرض الدراهم واسترجاع مثله. ولو حل الربا لكانت حاجة المحتاج تحمله على أخذ الدرهم بدرهمين فيفضي ذلك إلى انقطاع المواساة والمعروف والإحسان، وهذا هو الجانب الأخلاقي.
4 - إن الغالب أن المقرض يكون غنيا والمستقرض يكون فقيرا، فالقول بتجويز عقد الربا تمكين من يأخذ من الفقير الضعيف مالا زائدا وذلك غير جائز برحمة الرحيم وهذا هو الجانب الاجتماعي. ومعنى هذا أن الربا فيه اعتصار الضعيف لمصلحة القوي ونتيجته أن يزداد الغني غنى والفقير فقرا مما يفضي إلى تضخم طبقة من المجتمع على حساب طبقة
__________
(1) رواه مسلم ـ روح الدين الإسلامي ص 332.
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/446) .(11/211)
أو طبقات أخرى مما يخلق الأحقاد والضغائن ويورث نار الصراع بين المجتمع بعضه ببعض، ويؤدي إلى الثورات المتطرفة والمبادئ الهدامة، كما أثبت التاريخ القريب خطر الربا والمرابين على السياسة والحكم والأمن المحلي والدول جميعا (1) .
__________
(1) الحلال والحرام ص 263.(11/212)
أنوع الربا وحكم كل نوع
الشح: خلة وضعة وهوان تزري بصاحبها وتجعله نشازا في مجتمعه، يجمع المال ويشح بإنفاقه حتى على مصالح نفسه. وعلى العكس منه البذل بسخاء خاصة في وجوه البر والخير وإغاثة الملهوف وكل ما فيه مصلحة للمجموع. وعلى هذا الاعتبار جاء تحريم الربا والترغيب في البذل ابتغاء كريم الأجر، ونزل القرآن والعرب تتعامل بالربا لتفكك مجتمعهم وانفصام عرى التآلف بينهم، فعندما تنزل الحاجة بأحدهم أو يوصله الفقر بالرغام لا يجد من يسعفه أو يعينه في محنته أو ينقذه من ذل الحاجة إلا بنكبته بالزيادة على ما يقرضه، والمفاضلة بين ما يقبضه ويعيده من مال، وذلك هو الربا الذي جاء الإسلام بتحريمه، وقد أوردنا من آي الكتاب العزيز والسنة المطهرة ما يكفي عن المزيد، بقي أن نوضح نوعية الربا المحرم والذي كانت العرب تتعامل به، جاء في كتاب "أحكام القرآن " قوله: الربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به ولم يكونوا يعرفون البيع بالنقد إذا كان متفاضلا من جنس واحد، هذا كان المتعارف المشهور بينهم، ولذلك قال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} (1) فأخبر أن تلك الزيادة المشروطة إنما كانت ربا في المال العين لأنه لا عوض لها من جهة المقرض وقال تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (2) إخبارا عن الحال التي خرج عليها الكلام من شرط الزيادة أضعافا مضاعفة، فأبطل الله الربا الذي كانوا يتعاملون به وأبطل ضروبا من البياعات وسماها ربا، فانتظم قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (3) تحريم جميعها لشمول الاسم عليها من طريق الشرع، ولم يكن تعاملهم بالربا إلا على الوجه الذي ذكرناه من قرض دراهم أو دنانير إلى أجل
__________
(1) سورة الروم الآية 39
(2) سورة آل عمران الآية 130
(3) سورة البقرة الآية 275(11/212)
مع شرط الزيادة (1) اهـ.
وذكر صاحب تفسير آيات الأحكام أن الربا ينقسم إلى قسمين: ربا النسيئة، وربا الفضل. فربا النسيئة: هو الذي كان معروفا بين العرب في الجاهلية لا يعرفون غيره وهو أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدرا معينا. فإذا حل الأجل طولب المدين برأس المال كاملا فإن تعذر الأداء زادوا في الحق والأجل.
وربا الفضل: أن يباع من الحنطة بمنوين منها أو درهم بدرهمين أو دينار بدينارين أو رطل من العسل برطلين، وقد كان ابن عباس لا يحرم إلا القسم الأول، وكان يجوز ربا الفضل اعتمادا على ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الربا في النسيئة (2) » ولكن لما تواتر عنده الخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد (3) » وذكر الأصناف الستة كما رواه عبادة بن الصامت وغيره رجع عن قوله.
وأما قوله عليه السلام: «وإنما الربا في النسيئة (4) » فمحمول على اختلاف الجنس، فإن النسيئة حينئذ تحرم ويباح التفاضل كبيع الحنطة بالشعير تحرم فيه النسيئة ويباح التفاضل ولذلك وقع الاتفاق على تحريم الربا في القسمين. أما (الأول) : فقد ثبت تحريمه بالقرآن، (وأما الثاني) : فقد ثبت تحريمه بالخبر الصحيح. كما روي عن عبادة ابن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (5) » . واشتهرت روايته هذه حتى كانت مسلمة عند الجميع.
ثم اختلف العلماء بعد ذلك فقال نفاة القياس: إن الحرمة مقصورة على هذه الأشياء الستة، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وجمهور الفقهاء: إن الحرمة غير مقصورة على هذه الأشياء الستة، بل تتعداها إلى غيرها. وأن الحرمة ثبتت في هذه الستة لعلة، فتتعدى الحرمة إلى كل ما توجد فيه تلك العلة، ثم اختلفوا في هذه العلة. فقال الحنفية: إن العلة هي اتحاد هذه الأشياء الستة في الجنس والقدر- أي الكيل والوزن- فمتى اتحدت البلدان في الجنس والقدر حرم الربا كبيع الحنطة بالحنطة وإذا عدما معا حل التفاضل والنسيئة كبيع الحنطة بالدراهم إلى أجل. وإذا عدم القدر واتحد الجنس حل الفضل دون النسيئة كبيع عبد بعبدين،
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص، ص 552.
(2) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1588) ، سنن النسائي البيوع (4559) ، سنن ابن ماجه التجارات (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (2/232) .
(4) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (5/200) .
(5) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .(11/213)
وإذا عدم الجنس واتحد القدر حل الفضل دون النسيئة أيضا كبيع الحنطة بالشعير.
وقال المالكية: إن العلة هي اتحاد الجنسين مع الاقتيات أو ما يصلح به الاقتيات. وقال الشافعية: إن العلة في الذهب والفضة هي اتحاد الجنس مع النقدية، وفي الأشياء الأربعة الباقية اتحاد الجنس مع الطعم، والتفاضل في أمر الربا يعلم من كتب الفقه (1) .
__________
(1) تفسير آيات الأحكام، ص 162، 263(11/214)
نوعية الربا كما أوضحها ابن القيم
وقفت في جملة ما وقفت عليه من المراجع على كتاب بعنوان: (الودائع المصرفية النقدية واستثمارها في الإسلام) لمؤلفه " حسن عبد الله الأمين " أورد فيه نص ابن قيم الجوزية رحمه الله عن نوعية الربا وقدم له بقوله:
تكلمنا فما سبق عن التقسيم الفقهي القديم للربا: ربا النسيئة، وربا الفضل. . . وبقي هناك قسم ثالث للربا وضعه عالم جليل هو ابن القيم الجوزية وهو تقسيم يتفق في مضمونه مع تقسيم الربا: إلى ربا ديون، وربا بيوع ولكنه يسمي الأول: الربا (الجلي) وأن تحريمه تحريم مقاصد؛ لأنه ثابت بالقرآن الكريم وهو ما كانت تفعله الجاهلية. ويسمي النوع الثاني: الربا (الخفي) وأنه حرم سدا للذريعة من الربا الجلي فتحريمه تحريم وسيلة وهو الذي ثبت بالسنة في الأصناف الستة، ثم ذكر النص من كتاب (إعلام الموقعين) فقال - أي ابن القيم -: الربا نوعان: جلي وخفي؛ (فالجلي) : حرم لما فيه من الضرر العظيم، (والخفي) : حرم لأنه ذريعة إلى الجلي. فتحريم الأول قصدا، وتحريم الثاني وسيلة.
فأما الجلي: فربا النسيئة وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية مثل أن يؤخر دينه ويزيده في المال. وكلما أخره زاد في المال حتى تصير المائة عنده آلافا (1) .
وأما ربا الفضل: فتحريمه من باب سد الذرائع كما صرح به في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإني أخاف عليكم الرماء (2) » والرماء هو الربا. فمنعهم من ربا الفضل لما يخافه عليهم من ربا النسيئة،
__________
(1) إعلام الموقعين، ج2 ـ ص 99.
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/109) .(11/214)
وذلك أنهم إذا باعوا درهما بدرهمين، ولا يفعل هذا إلا للتفاوت الذي بين النوعيين، إما في الجودة وإما في السكة وإما في الثقل والخفة وغير ذلك، تدرجوا بالربح المعجل فيها إلى الربح المؤخر وهو عين ربا النسيئة، وهذه ذريعة قريبة جدا فمن حكمة الشارع أن سد عليهم هذه الذرائع ومنعهم من بيع درهم بدرهمين نقدا أو نسيئة (1) .
__________
(1) إعلام الموقعين، ج2 ـ ص 99-100.(11/215)
التعامل مع البنوك
التعامل مع البنوك على إقراض المال بفائدة مشروطة محددة كاثنين في المائة مثلا أو أكثر أو أقل، هل هو من أنواع الربا المحرم أم له احتمال آخر؟
نعود مرة أخرى إلى كتاب الودائع المصرفية آنف الذكر فنجد المؤلف يقرر بصراحة أن معنى الزيادة في القرض عند العقد هي إحدى صورتي ربا الجاهلية الذي حرم تحريما قاطعا بنص القرآن، ونص كلامه كالآتي: (إذا كان معنى الفائدة يختلف عن معنى الربح في المصطلح الفقهي ولا يلتقي معه بحال، فماذا يكون موقف الفائدة من الربا، هل تلتقي معه في إحدى صوره أم أنها تختلف عنه كما اختلفت عن الربح ولا تلتقي معه في واحدة منها، ثم أفاض في البسط حتى قال: تبين لنا على ضوء ما تقدم أن معنى (الفائدة) على ضوء ما تقدم يلتقي تماما في مقاييس الفقه والشريعة الإسلامية بمعنى الزيادة في القرض عند العقد وهي أحد صورتي ربا الجاهلية الذي حرم تحريما قاطعا بنص القرآن، بل هي الصورة البارزة في ربا الجاهلية حتى أن الجصاص بالغ في التوكيد عليها لدرجة أنه قال: ولم يكن تعاملهم - أي: عرب الجاهلية- بالربا إلا على الوجه الذي ذكرنا من قرض دراهم أو دنانير إلى أجل مع الزيادة، فالفائدة إذن ما هي إلا زيادة مشروطة في قرض مؤجل لمصلحة المودع في حالة الودائع المؤجلة أو ودائع الادخار بدليل عدم وجودها في الودائع الجارية - أي: تحت الطلب- مع أنها هي أيضا معتبرة قرضا في الفقه والتشريع، كما أنها زيادة في قرض مؤجل أيضا لمصلحة البنك في حالة إقراضه لشخص آخر، فالزيادة في حالة استقراض البنك بقبول الودائع المؤجلة أو إقراضه بدفع قروض من أمواله الخاصة(11/215)
أو من ودائع المقترضين الآخرين هي ربا. بل هي الربا الذي لا يشك فيه؛ لأنها إحدى صورتي ربا الجاهلية الذي كانوا يتعاملون به والذي حرمه القرآن تحريما قاطعا بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب (2) » .
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) الودائع المصرفية واستثمارها في الإسلام، ص280 -281.(11/216)
تحريم الربا الاستهلاكي والإنتاجي
يفرق بعض علماء الاقتصاد من الغربيين بين تحريم الربا الاستهلاكي والإنتاجي بدعوى أن تحريم الربا كان من الضروريات في الماضي وأن إباحته في هذا العصر من الضروريات أيضا؛ لأن الدين فيما مضى كان للاستهلاك وأما الآن فهو للإنتاج. وهو زعم متداع؛ لأن الربا إن كان للاستهلاك فهو لنفقة المستدين على حاجاته الضرورية فإنه لا يجوز أن يرهق برد زائد على دينه، فحسبه أن يرد أصل الدين عند الميسرة. وإن كان للإنتاج فالأصل أن الجهد الذي يبذله المستدين هو الذي ينال عليه الربح لا المال الذي يستدينه فالمال لا يربح إلا بالجهد (1) .
وفي إطار الحديث عن أنواع الربا يتحدث الداعية الإسلامي أبو الأعلى المودودي في الفصل الخامس من كتابه (الربا) تحت عنوان "الربا وأحكامه " فيقول: إن الربا هو الزيادة التي ينالها الدائن من مدينه نظير التأجيل، وهذا النوع من الربا يصطلح عليه شرعا بربا النسيئة أي الزيادة بسبب النسيئة وهي التأجيل، وهذا النوع من الربا هو المنصوص على تحريمه في القرآن، وأجمع على تحريمه السلف الصالح والعلماء المجتهدون من بعدهم وتعاقبت القرون على ذلك الإجماع ولم يتطرق إليه الريب في عصر من العصور واستمر في البسط إلى أن قال: لقد كان الإسلام إنما نهى عن التعامل بالربا في شئون الدين والقرض في بادئ الأمر، واستمر في البسط فتحدث عن ربا الفضل وقال: وهذا النوع أيضا قد حرمه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه يفتح الباب في وجه الناس إلى الربا الصريح وينشئ فيهم
__________
(1) روح الدين الإسلامي، ص333، 334.(11/216)
عقلية من نتائجها اللازمة شيوع المراباة في المجتمع، وذلك عين ما أوضحه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا تبيعوا الدرهم بدرهمين فإني أخاف عليكم الرماء (1) » وهو الربا. وتحدث عن حكم ربا الفضل وأورد حديث عبادة بن الصامت وجملة أحاديث في معناه، ثم علق عليها تعليقا ضافيا ثم ذكر خلاف الفقهاء في علة تحريم ربا الفضل وخلص من ذلك إلى القول بأن الاختلاف بين المذاهب في الأمور التي يدخلها الربا إنما هو من الأمور المشتبهة الواقعة على الحد بين الحلال والحرام، فإن حاول أحد الآن محتجا بهذه المسائل المختلف فيها أن يرمي بالاشتباه أحكام الشريعة في المعاملات التي قد وردت النصوص على كونها من الربا ويفتح باب الرخص والحيل بهذا الطريق للاستدلال ويدعو الأمة إلى سلوك طرق الرأسمالية فلا شك أنه يعد تاركا للكتاب والسنة للظن والخرص وضالا مضلا ولو كان مخلصا صادق النية عند نفسه (2) اهـ.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/109) .
(2) الربا ص90، 91، 98.(11/217)
وسائل القضاء على الربا
من مزايا دين الإسلام أنه لم يحرم شيئا إلا وأوجد له بديلا يغني عنه، ويأخذ بحجز المسلمين من أن يقعوا في المحرم المنكور، ولا نطيل ضرب الأمثلة لذلك وإنما نكتفي بتحريم الخمر. أبدل الله المسلمين عن شربها بشرب جميع العصيرات والمنتبذات مما لا يكون فيه شبهة حرام وعندما حرم الربا أباح البيع والتجارة في الأمور المباحة وأنواع المضاربة، وهكذا فلم يرهق المسلم من أمره عسرا، ولم يكلفه شططا، وإنما أوجد له الحلول وشرع وسائل من شأنها القضاء على الربا والتجافي عنه والترفع عن مزالقه والتورط في إثمه، ويشمل ذلك ما يأتي:
(أ) القرض الحسن: فبدلا من أن يقرض المسلم ماله بفائدة تقض مضجع المقترض وتزيد من محنته وبلباله، رغب الإسلام في القرض الحسن بالوعد الكريم والجزاء الضافي كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} (1) ،
__________
(1) سورة البقرة الآية 245(11/217)
وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} (1) .
__________
(1) سورة الحديد الآية 11(11/218)
(ب) إنظار المعسر ريثما يزول إعساره والترغيب في إبراء ذمته من الدين دون مطالبته كما قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 280(11/218)
(جـ) التعاون في مختلف دروبه وبكل وسائله يشمل التعاون الاجتماعي والصناعي والزراعي ويدخل في إطار ذلك الضمان الاجتماعي وتمويل المزارعين وأصحاب الصناعات بما يشد أزرهم ويضاعف إنتاجهم فيما يعود بالخير للمجموعة الإسلامية، وثمة فتح المدارس وبناء المستشفيات ودور العجزة، وما إليه مما تشمله الآية الكريمة {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) ، فيغدو المجتمع في ظلال هذا التعاون الشامل سعيدا بعيدا عن مآسي الربا والانزلاق إلى أوحاله، ولا يغيب عن الأذهان إخراج زكاة الأموال ودفعها إلى مستحقيها كما نصت على ذلك الآية الكريمة {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} (2) ، وجملة القول أن وسائل القضاء على الربا والأخذ بها والتعاون على تنفيذها وفي الطليعة إخراج الزكاة دون تهرب أو تسويف أو طغيان الأنانية على بعض النفوس فتستأثر بالمال وتحتجزه وتشح به فلا تستجيب لإنفاقه كما أمر الله وكما قال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} (3) ، كل أولئك مما يحول دون الارتداع في أرجاس الربا والوقوع في أوحاله.
وقبل أن نضع القلم يجدر أن نعرض لموضوع كثر الأخذ به في أعقاب الزمن وهو بيع التورق، يشتري المرء السلعة بثمن إلى أجل ثم يبيعها بأقل من الثمن الذي اشتراها به وذلك ما يسمى بمسألة التورق لأن البائع ليس له حاجة في السلعة وإنما حاجته في الورق، وإيضاح ذلك من قول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- في فتاويه حيث يقول: وقد
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) سورة الحديد الآية 7(11/218)
سئل عن الرجل يبيع سلعة بثمن مؤجل ثم يشتريها من ذلك الرجل بأقل من ذلك الثمن حالا هل يجوز أم لا؟ فأجاب: إذا باع السلعة إلى أجل ثم اشتراها من المشتري بأقل من ذلك حالا فهذه تسمى (مسألة العينة) . وهي غير جائزة عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم، وهو المأثور عن الصحابة كعائشة وابن عباس وأنس بن مالك، فإن ابن عباس سئل عن حريرة بيعت إلى أجل ثم اشتريت بأقل فقال: دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة، وأبلغ من ذلك أن ابن عباس قال: إذا اشتريت بنقد ثم بعت بنسيئة فتلك دراهم بدراهم. فبين أنه إذا قوم السلعة بدراهم ثم باعها إلى أجل فيكون مقصوده دراهم بدراهم - والأعمال بالنيات- وهذه تسمى (التورق) . فإن المشتري تارة يشتري السلعة لينتفع بها وتارة يشتريها ليتجر بها فهذان جائزان باتفاق المسلمين، وتارة لا يكون مقصوده إلا أخذ الدراهم فينظر كم تساوي نقدا فيشتري بها إلى أجل ثم يبيعها في السوق بنقد فمقصوده الورق. فهذا مكروه في أظهر قولي العلماء، كما نقل ذلك عن عمر بن عبد العزيز وهو إحدى الروايتين عن أحمد إلى آخر ما أفاض فيه يرحمه الله مما خرج به للاستطراد (1) .
__________
(1) الفتاوى، ج29 ـ ص 446، 447.(11/219)
خاتمة البحث
نأتي بعد أن فرغنا من كتابة البحث بتوفيق الله إلى الخاتمة فقد عرضنا بعد المقدمة لتعريف الربا لغة وشرعا وأوردنا الآيات القرآنية التي جاءت منتظمة عن الربا مع تفسيرها وقد تحصل من التفسير ما يأتي:
ا- المراد بأكل الربا جميع التصرفات.
2 - تشبيه المرابي بالمصروع.
3 - المحق يشمل ذهاب المال وذهاب بركته.
4 - لا يلحق متعاطي الربا تبعة التعامل به قبل التحريم.(11/219)
5 - الترغيب في بذل الصدقات.
6 - الوعيد لمن تعاطى الربا بعد التحريم.
7 - للمرء أن يأخذ رأس ماله بعد التوبة من تعاطي الربا.
8 - الترغيب في إنظار المعسر وإبراء ذمته، وأردفنا ذلك بمبحث الربا في السنة وإيراد نص ما ورد من الأحاديث مع شرحها ثم بيان حكم الربا في الإسلام وأنه محرم بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة وأساطير العلم بما في ذلك تحريم كل وسيلة تفضي إليه كبيع العينة واستخلصنا من مجموع ذلك ما يأتي:
أ- النهي عن تعاطي الربا بكل الألوان والوسائل.
ب- إنه من الموبقات ومن كبائر الذنوب.
جـ- لعن آكل الربا كل متعاون عليه.
د- معصية الربا تجاوزت الحد في القبح.
هـ- تحريم الاستطالة في عرض المسلم.
وآكل الربا يعذب في البرزخ وعليه اللعنة ويحال بينه وبين دخول الجنة.
ز- أكلة الربا يحشرون في أسوأ صورة.
ح- تحريم التبايع بالعينة والوعيد عليها.
ط- الوسيلة للحرام محرمة.
ك- لا يحل سلف ولا بيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما لم يكن تحت تصرف البائع.
ل- ما تواطأ عليه البائع والمشتري بما يقصدان به دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل فهو ربا محرم سواء كان يبيع ثم يبتاع أو يبيع ويقرض.
ثم انتقلنا بعد ذلك إلى مضار الربا وحكمة تحريمه، وأوردنا نقولا عن ذلك من أقوال العلماء القدامى والمعاصرين مبسوطة في الصفحات (18، 19) وعقبنا بمبحث أنواع الربا وحكم كل نوع فذكرنا ربا النسيئة وأنه هو الربا الذي كانت تتعامل به الجاهلية الأولى وهو الذي ورد تحريمه بالقرآن، ثم ربا الفضل وتحريمه جاءت به السنة النبوية سدا(11/220)
للذريعة، وعرضنا لعلة تحريم ربا الفضل واختلاف العلماء فيها، ثم لنوعية الربا كما أوضحها ابن القيم -يرحمه الله- ثم لبحث التعامل مع البنوك وفيه القرض بالفائدة المشروطة وأنها محرمة، ثم تناولنا بحث تحريم الربا الاستهلاكي والإنتاجي ورد نظرية تحريم الربا في الماضي وإباحته في الحاضر، وأردفنا ذلك بالحديث عن وسائل القضاء على الربا وذكرنا أن منها القرض الحسن وإنظار المعسر وإبراء ذمته والتعاون الاجتماعي والصناعي والزراعي وتوزيع أموال الزكاة، ثم أنهينا البحث بموضوع التورق وأنه مكروه وأوردنا فتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية -يرحمه الله- في هذه المسألة. وأسأل الله أن يأجرني بقدر ما بذلت في هذا البحث من جهد علمي وجسمي ولم أصل فيه إلى الكمال، وإنما هو إسهام وجهد مقل، وأن يشمل سبحانه بتوفيقه ابني أسامة على ما أسهم به من تهيئة المراجع المطلوبة للبحث والعون بجهد مشكور وينفع به كل من قرأه مغضيا عما لعله أن يكون فيه من مآخذ - فالكمال لله وحده- ويأجر أيضا كل من تعاون على إشاعته بكل وسيلة خاصة مجلة البحوث بالرياض ورئاسة تحريرها والمشرفين عليها.
وصلى الله على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع سبيله وسار على نهجه، وقد فرغت من وضعه في شهر جمادى الثانية سنة ألف وأربعمائة وأربعة.
والله يوفقنا إلى ما فيه الخير والرشاد،،،(11/221)
ثبت المراجع والمصادر
1 - ابن تيمية، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني. (الفتاوى) .
الطبعة: الأولى 1382 هـ.
الرياض: مطابع الرياض.
2 - ابن حجر، أحمد بن علي العسقلاني.
(فتح الباري بشرح صحيح البخاري) .
الطبعة: الأولى.
تصحيح وترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي - محب الدين الخطيب.
القاهرة: المطبعة السلفية (13 جزء) .(11/221)
3 - ابن جرير، أبو جعفر محمد بن جعفر الطبري.
(جامع البيان عن تأويل آي القرآن) .
تحقيق: محمود محمد شاكر - أحمد محمد شاكر.
الطبعة: الأولى.
القاهرة: دار المعارف (15 جزء) .
4 - ابن كثير، أبو الفداء عماد الدين القرشي الدمشقي.
(تفسير القرآن العظيم) .
الطبعة: الأولى 1347 هـ.
القاهرة: مطبعة المنار (9 أجزاء ومعه تفسير البغوي) .
5 - ابن حنبل، أحمد بن محمد الشيباني.
(المسند) .
الطبعة: الأولى.
القاهرة: المطبعة الميمنية المصرية (6 أجزاء) .
6 - الأمير الصنعاني، محمد بن إسماعيل.
(سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام) .
الطبعة الأولى.
القاهرة: إدارة الطباعة المنيرية (4 أجزاء) .
7 - الألباني، محمد ناصر الدين الألباني.
(سلسلة الأحاديث الصحيحة) .
الطبعة: الثانية 1399 هـ.
بيروت: المكتب الإسلامي. (4 مجلدات) .
8 - الأمين، حسن عبد الله.
(الودائع المصرفية واستثمارها في الإسلام) .
الطبعة: الأولى.
جدة: دار الشروق.
9 - البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن بردزيه.
(الجامع الصحيح المسند المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه) .
القاهرة: إدارة الطباعة المنيرية. (9 أجزاء) .(11/222)
10 - البغوي، أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء.
(شرح السنة) .
الطبعة: الأولى 1399 هـ.
بيروت: المكتب الإسلامي (16 جزء) .
11 - الجصاص.
(أحكام القرآن) .
12 - الذهبي، أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أحمد.
(الكبائر) .
تصحيح وتعليق: محمد عبد الرزاق حمزة.
الطبعة: الأولى 1356 هـ.
13 - السايس، محمد علي.
(تفسير آيات الأحكام) .
القاهرة: مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح (4 أجزاء) .
14 - الشوكاني، محمد بن علي.
(فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في التفسير) .
بيروت: محفوظ العلي (6 أجزاء)
15 - طباع، عفيف عبد الفتاح.
(روح الدين الإسلامي) .
الطبعة: الثانية عشرة.
بيروت: دار العلم للملايين.
16 - القرضاوي، يوسف.
(الحلال والحرام في الإسلام) .
17 - مسلم، ابن الحجاج القشيري النيسابوري.
(الجامع المسند المختصر من السن بنقل العدل عن العدل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي.
بيروت: تصوير دار الكتاب العربي (5 أجزاء) .
18 - المودودي، أبو الأعلى.
(الربا) .
الطبعة:
بيروت: مؤسسة الرسالة.(11/223)
صفحة فارغة(11/224)
* الدكتور: محمد جابر فياض العلواني.
* مولده: في مدينة الفلوجة \ محافظة الأنبار \ العراق.
* تاريخ مولده: 1352 هـ 1932 م.
* درس المراحل الثلاث الابتدائية والإعدادية والثانوية في العراق. وكذلك المرحلة الجامعية الأولية، ثم رحل إلى مصر فحصل على الماجستير في البلاغة العربية من كلية الآداب جامعة عين شمس سنة 1388 هـ، وعاد إلى العراق.
وبعد سنوات من ذلك عاد مرة أخرى إلى مصر فنال درجة الدكتوراه في التخصص نفسه، ومن الجامعة ذاتها.
* له من المؤلفات:
1 - أمثال القرآن العظيم. دراسة.
2 - أمثال الحديث دراسة وجمع وتخريج وتحقيق.
جمع فيه الأمثال النبوية من كتب الحديث التسعة المعروفة، وضم إليها أمثال الرامهرمزي والعسكري.
كان يرأس تحرير مجلة الأجيال التي كانت تصدرها نقابة المعلمين في العراق قبل عشرين عاما.
وله جملة من البحوث والمقالات والمشاركات العلمية.(11/225)
صفحة فارغة(11/226)
المعاجم العربية
بقلم. الدكتور محمد جابر فياض العلواني
المقدمة
المعاجم اللغوية في العربية وغيرها، هي الملجأ الذي يهرع إليه الدارس والمدرس، والعالم والمتعلم، إذا ما أشكل عليه معنى مما يقرؤه، أو يسمعه من ألفاظ اللغة. وما أكثر ما يشكل عليه منها، وبخاصة إذا كانت لغة كالعربية ظلت حية نامية عبر قرون وقرون، ومن هنا فنحن أحوج ما نكون إلى معرفة معاجم لغتنا والسبل التي انتهجت في تأليفها، وترتيب موادها كيما نستطيع العثور على ما ننشده فيها بسهولة ويسر. ولهذا فقد اقتصر البحث- أو كاد- على مدارس المعاجم العربية، ومنهج كل منها، وما ينتمي إليها من معاجم وأعرض عن نقدها والوقوف على حياة مؤلفيها وما إلى ذلك مما ليست له صلة مباشرة بتيسير الانتفاع بها. غير أن الحروف هي الأساس الذي قامت عليه المعاجم العربية فكان لا بد من الإلمام بها والكشف عن العلاقة بينها وبين المؤلفات التي صارت هذه الحروف عليها، والوقوف على ترتيبها وتصوره، وما أهمل واستخدم من أنواعه.
ومن يلزم نفسه بدراسة المعاجم العربية لا ينبغي له أن يجهل معنى المعجم وما يتصل به من جمعه ومرادفه ومصدر تسميته. وإذا كنا قد أطلنا في الحديث عن مصدر التسمية فما ذلك إلا لكثرة ما قيل فيه وتباينه. ولحرصنا على أن يختار المتدرب لا أن نتولى الاختيار نيابة عنه.(11/227)
كلمة لا بد منها
المعاجم العربية ميدان واسع لا يفي به بحث كهذا. وقد سبق أن كتب فيه الأستاذ الدكتور حسين نصار رسالته للدكتوراه في مجلدين كبيرين. وكتب فيه بعد ذلك بحثين لمعهد التربية في بيروت (الأنروا) ، اختص الثاني منهما بالمعاجم التي راعت الترتيب الألفبائي. وأردف المعهد هذين البحثين بورقة عمل. غير أننا آثرنا أن نتناوله ببحث واحد، رغم تعدد محتوياته، وتفاوتها كيلا نضطر إلى معالجته أكثر من مرة، ومع أننا اقتصرنا على جوانب منه فقد جاء على شيء من الاتساع وكان لا بد له من هذا لسعة الموضوع. فالمعاجم العربية كثيرة، منها المخطوط والمطبوع، وما اتبع هذا الترتيب أو ذاك، فالتحق بهذه المدرسة أو تلك، وغير خاف أن هذه المدارس ليست سواء في الصعوبة، والأهمية، ومقدار حاجة المتدرب إليها. غير أن مثل هذه البحوث تتقيد بعناوينها. وهي بعد هذا صورة لما تتناوله من موضوعات. فالموضوعات العسيرة المعقدة لا ينتظر أن تأتي بحوثها سهلة يستطيع كل قارئ أن يفهمها بمجرد قراءتها قراءته للصحف والمجلات. ولكن للقارئ من حرية التصرف فيها والاختيار منها ما ليس للباحث. فله أن يأخذ مما يستسهله ويروق له ويحتاج إليه أكثر من غيره. وهذا الذي يأخذه ليس بقصيدة يراد حفظها واستظهارها أو نظرية علمية تكلفه ما تكلفه من جهد التفهم والتثبت والتدقيق في كل جزء من أجزائها. فلكل موضوع طبيعته. ونحن هنا لا نطمح إلى أكثر من أن يعرف المتدرب معاجم لغته، كيلا تقتصر معرفته على ما شاع منها. ويدرك ما يقتضيه البحث عن الألفاظ فيها من إرجاع تلك الألفاظ إلى أصولها، ويدرس بإمعان منهج المدرسة التي يرى في نفسه حاجة إلى معاجمها. فلا تفوته معرفة المعاجم العربية وكيفية الإفادة منها. وما سواها من تفصيلات إنما هي معلومات هامة مفيدة يمكن أن يستفيد منها عاجلا أو آجلا، فالمتدرب هو المتحكم بها وليس لها أن تتحكم فيه ولا نريد لها ذلك والله الموفق لما فيه الخير.(11/228)
المعجم
تعريفه:
أطلق لفظ المعجم على الكتاب الذي أورد الألفاظ اللغوية ومعانيها مرتبة بحسب حروفها.
مصدر التسمية:
أخذت التسمية هذه من حروف المعجم لإطلاقهم اللفظ - (المعجم) - على الكتب التي راعت- أي نوع من المراعاة- الحروف في ترتيبها كمعاجم اللغة، والأدباء، والشعراء، والمؤلفين، والبلدان، وغيرها (1) .
__________
(1) وانظر المعاجم العربية الدكتور حسين نصار1 \ 1 والمعجم العربي له 1 \ 12 - 13.(11/229)
تعليل تسمية حروف العربية بحروف المعجم:
تباينت أراء العلماء في تعليل تسمية الحروف العربية بحروف المعجم فذهب الخليل بن أحمد الفراهيدي إلى أنها سميت بهذا الاسم لكونها أعجمية (1) من غير أن يوضح ما أراده بأعجميتها. ولهذا قال ابن فارس: (وأظن الخليل أراد بالأعجمية أنها ما دامت مقطعة، غير مؤلفة تأليف الكلام المفهوم، فهي أعجمية، لأنها لا تدل على شيء، فإن كان أراد هذا فله وجه، وإلا فما أدرى أي شيء أراد بالأعجمية) (2) .
وذهب الفارابي مذهب الخليل في أعجميتها المتأتية من تقطيعها فقال: (حروف المعجم: الحروف المقطعة) (3) . وسئل أبو العباس ثعلب عن تسميتها بحروف المعجم فقال: " أما أبو عمرو الشيباني فيقول: أعجمت: أبهمت، وقال الفراء: أنها أخذت من أعجمت الحروف، ويقال: قفل معجم، وأمر معجم إذا اعتاص. وقال أبو الهيثم: (معجم الخط:
__________
(1) المقاييس - ابن فارس (عجم) 1 \ 240، المفردات- الراغب الأصفهاني (عجم) 323- 324.
(2) المقاييس: الموضع السابق.
(3) ديوان الأدب- الفارابي مخطوط- باب '' مفعل '' بضم الميم وفتح العين ص 69.(11/229)
هو الذي أعجمه كاتبه بالنقط) (1) .
وقال الجوهري: (والمعجم: النقط بالسواد مثل التاء عليه نقطتان، يقال: أعجمت الحرف، والتعجيم مثله. . . ومنه حروف المعجم: وهي الحروف المقطعة التي يختص أكثرها بالنقط من بين سائر حروف الاسم. ومعناه: حروف الخط المعجم كما تقول: مسجد الجامع، وصلاة الأولى: أي مسجد اليوم الجامع وصلاة الساعة الأولى) (2) .
وذهب المبرد إلى أن المعجم بمعنى الإعجام، وأيده فيما ذهب إليه ابن جني (أبو الفتح عثمان بن جني ت 342) فقال: (والصواب في ذلك عندنا ما ذهب إليه أبو العباس محمد بن يزيد (المبرد) -رحمه الله تعالى- من أن المعجم مصدر بمنزلة الإعجام. كما تقول: أدخلته مدخلا، وأخرجته مخرجا: أي إدخالا وإخراجا. . فكأنهم قالوا: هذه حروف الإعجام. فهذه أسد وأصوب من أن يذهب إلى أن قولهم: حروف المعجم بمنزلة قولهم صلاة الأولى، ومسجد الجامع فالأولى غير الصلاة في المعنى، والجامع غير المسجد في المعنى أيضا) (3) .
وناقش عبارة حروف المعجم مناقشة نحوية توسع فيها أيما توسع فنفى أن يكون المعجم وصفا للحروف، إذ لا توصف النكرة بمعرفة. وأكد أن حروف المعجم لا تعني حروف الكلام المعجم، وإنما تعني أن الحروف هي المعجمة، وفاته أن الكلام أو الخط الذي تعجم حروفه: كلام معجم وخط معجم. وليس هناك- على الإطلاق- ما يمنع من وصفها بالإعجام ما دامت حروفهما معجمة. وأنهما كأعضاء الجسد، وأفراد المجتمع. وسلامة الجسد من سلامة أعضائه، وصلاح المجتمع من صلاح أفراده وبالعكس. وما لنا وهذا ونحن ننعت الأفعال بالصحة والعلة لا لشيء إلا لصحة حروفها واعتلالها وكذلك الشأن في المهموز منها والواوي. فلا أدري- بعد هذا- ما الذي يمنع
__________
(1) التهذيب - الأزهري (عجم) 1 \ 391، اللسان- ابن منظور- (عجم) 12 \ 388.
(2) الصحاح - الجوهري- (عجم) 5 \ 1980- 1981.
(3) سر صناعة الإعراب- ابن جني- 1 \ 39- 40.(11/230)
أن يوصف الكلام بالإعجام لإعجام حروفه؟؟
أما إضافة الحروف إلى المعجم فهي إضافة صحيحة لا غبار عليها. وإذا تهيأ لابن جني أن الحروف هي الكلام أو الخط، وأن الشيء- كما ذهب النحاة- لا يضاف إلى نفسه فقد أبعد؛ لأن الكلام أو الخط غير الحروف وإن كانت الحروف ركنا هاما فيهما لا قوام لهما بدونه. فهما مكونان من حروف معينة موصولة متحركة (منطوقة) مرتبة على نسق أراده المتكلم أو الكاتب للتعبير عن معنى ما. أما الحروف فهي مقطعة غير موصولة، صامتة غير منطوقة لخلوها من الحركات، وهي بعد هذا لا تؤدي أي معنى من المعاني.
ومهما يكن من شيء فإن ما أنكره ابن جنى على غيره من القائلين بأن حروف المعجم تعني حروف الكلام أو الخط المعجم غير منكر. وربما كان هذا أقرب من غيره- وكلها قريبة - إذ إن حروف الكلام أو الخط المعجم إنما تعني حروف الكلام أو الخط العربي ما دام الإعجام خاصا بهما كما اعتقد علماء العربية القدامى. وقد صرح ابن فارس باعتقادهم هذا فقال: (والذي عندنا في ذلك أنه أريد بحروف المعجم حروف الخط المعجم وهو الخط العربي لأنا لا نعلم خطا من الخطوط يعجم هذا الإعجام حتى يدل على المعاني الكثيرة) (1) .
ولهذا استغنوا عن حروف الخط العربي بحروف الخط المعجم، ثم استطالوا هذه العبارة فحذفوا الكلام أو الخط منها، استغناء عنهما بذكر أبرز خصائصهما فكانت حروف المعجم بمعنى حروف الخط المعجم أو حروف العربية. ولهذا رأينا حروف المعجم هذه تدخل في عناوين الكتب التي راعت الحروف العربية- كما أسلفنا- أي نوع من المراعاة في ترتيب موادها، فقيل: (كتاب كذا على حروف المعجم) وهو في الحقيقة على حروف العربية ويبدو أنهم استطالوا هذه العبارة أيضا فاكتفوا بالقول: (كتاب كذا على الحروف) بحذف لفظ المعجم أو (معجم كذا) بحذف لفظ الحروف وإضافة المعجم
__________
(1) المقاييس- ابن فارس: (عجم) 1 \ 240.(11/231)
إلى مضمون الكتاب. وراجت هذه العبارة أكثر من الأولى لاختصارها من غير ما إخلال بالمعنى، وصارت علما للكتب المتحدث عنها كمعجم الأدباء، ومعجم الشعراء، ومعجم البلدان، ومعجم ألفاظ القرآن، ومعجم ألفاظ الحديث، وغيرها.(11/232)
تاريخ استخدام اللفظ وشيوعه:
الحق أننا لا ندري- على وجه اليقين- متى استخدم لفظ المعجم في عناوين الكتب، ومن ذا الذي استخدمه وفي أي مؤلف من مؤلفاته لضياع كثير من مؤلفات علمائنا الأقدمين. ولقد قيل: إن الإمام البخاري (أبو عبد الله محمد بن إسماعيل المولود 194 هـ) كان أول من أطلقه على واحد من مؤلفاته المرتبة على الحروف (1) .
وعد من أوائل مستخدميه البغوي (أبو القاسم عبد الله بن محمد المولود 214 هـ) في كتابه (معجم الحديث) والمعجم الكبير والصغير والأوسط في قراءات القرآن (2) .
وفي القرن الرابع الهجري كثر إطلاقه على كثير من المؤلفات في القراءات والحديث والتراجم. ويبدو أن اللفظ انتقل من هذه الكتب إلى كتب اللغة لما بينها من مشابهة في الجمع والاستقصاء والترتيب وإلا فإن أصحاب المعاجم اللغوية كانوا قد سموا معاجمهم بأسماء مختلفة كالعين، والجيم، والجمهرة، والصحاح، والتهذيب، والمقاييس، واللسان، والتاج، وغيرها.
__________
(1) مصادر التراث العربي - الدكتور عمر الدقاق: 170، البحث اللغوي عند العرب.
(2) المعجم العربي الدكتور حسين نصار 1 \ 13، المعجم العربي بين الماضي والحاضر الدكتور عدنان الخطيب 31.(11/232)
جمع اللفظ والخلاف فيه:
ذهب أستاذنا الدكتور مصطفى جواد - رحمه الله- إلى أن القياس يوجب أن يجمع المعجم على معاجيم مثل مرسل- مراسيل، ومسند - مسانيد. . . أو معجمات (1) مثل مفرد- مفردات ولكن الجمع الذي شاع (معاجم) وقد صوبه الدكتور ناصر الدين الأسد
__________
(1) المباحث اللغوية في العراق - الدكتور مصطفى جواد 64، 74 والمعاجم العربية 1 \ 2.(11/232)
قياسا على جمع القدماء لما ماثله كمسند- مساند، ومذهب- مذاهب، ومطرف- مطارف، ومصعب- مصاعب، ومصحف- مصاحف (1) وقد خصص الفارابي (إسحاق بن إبراهيم متوفى 350 هـ) في كتابه (ديوان الأدب) بابا لما جاء من الألفاظ على وزن مفعل بضم الميم وفتح العين، ضمنه الألفاظ التي ذكرها الدكتور ناصر الدين الأسد وكثيرا غيرها منها: مغزل- مغازل، ومنخل- لغة في منخل- مناخل (2) ولهذا فلا ضير في جمع المعجم على معاجم قياسا على جمع هذه الألفاظ وللمعاجم بعد هذا مزية الشيوع والاختصار.
__________
(1) المعاجم العربية الدكتور حسين نصار 1 \ 2 - 3.
(2) ديوان الأدب- الفارابي- مخطوط ص 96.(11/233)
مرادفه (القاموس) :
عرفت المعاجم اللغوية بالقواميس، مفردها قاموس ومعناه: البحر أو أبعد موضع فيه غورا وقيل وسطه ومعظمه (1) . وقد أطلقه الفيروزآبادي على معجمه فسماه (القاموس المحيط) : أي البحر الأعظم كما ذكر ذلك المؤلف نفسه (2) ولما كثر تداوله اكتفي من اسمه بالقاموس، ثم انتقل منه إلى ما ماثله فشمل المعاجم اللغوية السابقة واللاحقة وصار القاموس مرادفا للمعجم.
__________
(1) اللسان- مادة (قمس) 6 \ 183.
(2) القاموس المحيط- المقدمة: 1 \ 3.(11/233)
الحروف العربية من الأبجدية إلى الهجائية إلى المخارج
سرى ترتيب الحروف الأبجدي الفينيقي إلى سائر اللغات السامية ومنها العربية، وقد سمي هذا الترتيب بالأبجدي نسبة إلى الكلمة الأولى من الكلمات الست وهي:
أبجد- هوز- حطي- كلمن- سعفص - قرشت- أي: أب ج د - هـ وز - ح ط ي(11/233)
- ك ل م ن- س ع ف ص- ق ر ش ت. ولقد أردفت (ألحقت) العربية بالحروف الفينيقية هذه ستة أحرف هي (ث، خ، ذ، ض، ظ، غ) جمعتها كلمتا (ثخذ، ضظغ) سميت بالروادف (اللواحق) . ولخلو الحروف من النقط وتماثل كثير منها في الرسم برزت الحاجة إلى التمييز بين ما تماثل منها لأمن اللبس وضبط الأداء، فعهد الحجاج بن يوسف الثقفي إلى نصر بن عاصم الليثي المتوفى سنة 90 هـ القيام بمهمة التمييز هذه، فعمد عاصم إلى الحروف الأبجدية تاركا الألف المهموزة على حالها لتفردها وانتقل إلى الباء فوضع بعدها ما ماثلها (التاء والثاء) فوضع تحت الباء نقطة وفوق التاء نقطتين وفوق الثاء ثلاث نقاط.
وانتقل إلى الجيم من كلمة أبجد وقام بمثل ما قام به مع الباء، وكذلك فعل مع بقية الحروف الأبجدية. وجمع أحرف العلة في النهاية. وهكذا تم له ترتيب الحروف ترتيبا جديدا والتمييز بين ما تماثل منها في وقت واحد، فانتهى بها إلى ما نعهدها عليه الآن (أ، ب، ت، ث، ج، ح، خ، د، ذ. . . إلخ) .
وقد عرف ترتيبه هذا بالترتيب الهجائي لأن حروفه- كما يبدو لي- تظل فيه مقطعة مفصولة، ولا تقرأ إلا كذلك، فلا تتصل ببعضها لتؤلف ما ألفته حروف الترتيب الأول من كلمات أبجد هوز. . إلخ. والتهجي: قراءة أحرف الكلمة أو قراءة الكلمة مقطعة الحروف إذ الهجاء: القراءة والتقطيع ففي القاموس المحيط (الهجاء ككساء: تقطيع اللفظة بحروفها) وقال أبو زيد: (الهجاء: القراءة) (1) وعندي أن المعنيين (القراءة والتقطيع) قد اجتمعا في حروف الهجاء.
ولقد ذهب غير واحد من المحدثين إلى تسمية هذا الترتيب بالترتيب (الألفبائي) منتزعين هذه التسمية من الحرفين الأولين له وهما: الألف والباء.
ولقد رتبت الحروف الهجائية العربية ترتيبا آخر يختلف عن الترتيبين السابقين (الأبجدي والهجائي) ألا وهو: الترتيب المخرجي الذي ابتدعه الخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى 170 أو 175 أو 177 مراعيا فيه مخارج الحروف مبتدئا بأبعدها والأقرب فالأقرب حتى انتهى إلى أدناها مخرجا
__________
(1) التهذيب- الأزهري 6 \ 347 باب الهاء والجيم.(11/234)
ثم اختتمها بأحرف اللين (العلة) ، والهمزة، فجاءت الحروف الهجائية العربية في ترتيبه هذا على النحو التالي (ع، ح، هـ، خ، ق، ج، ش، ض، ص، س، ز، ط، د، ت، ظ، ث، ذ، ر، ل، ن، ف، ب، م، و، أ، ي، هـ، ء (الهمزة) (1) .
ومع أن الترتيب الأبجدي أقدم ترتيب عرفته العربية للحروف فما من أحد من اللغويين العرب ألف معجما للألفاظ على نسقه لأنه لم يكن يعتمد على دلالة واضحة في منطق العربية ولا يتسم بالأصالة ولا يراعي تعاقب الحروف المتشابهات رسما أو المتقاربات نطقا (2) . فليس له من مزية على الترتيبين الهجائي والمخرجي غير إمكانية تجميع حروفه في كلمات تيسر الإحاطة بتلك الحروف وترتيبها وإن لم يكن للكلمات المؤلفة منها أي معنى واضح.
ولم يكتب للترتيب الهجائي الذيوع أول مرة مع ما تميز به من جودة لوضعه الأخرى المتماثلات شكلا ونطقا في نسق مقبول ومعقول. فضاع ترتيب المخارج أول الأمر ثم ما لبث أن شاع الترتيب الهجائي (الألفبائي) لسهولته ويسره.
__________
(1) العين: 1 \ 65.
(2) مصادر التراث العربي الدكتور عمر الدقاق: 168.(11/235)
نشوء المعاجم اللغوية
الحديث عن نشوء المعاجم اللغوية إن هو إلا حديث عن جمع اللغة إذ ليست المعاجم إلا مجامع لها. ومن الطبيعي ألا تتم عملية الجمع هذه وتصل إلى ما وصلت إليه من السعة والشمول في المعاجم اللغوية الشاملة دفعة واحدة. ولهذا فقد أصاب الأستاذ أحمد أمين فيما ذهب إليه من أن عملية الجمع كانت قد مرت بثلاث مراحل:
الأولى: جمع الكلمات حيثما اتفق، فالعالم يرحل إلى البادية يسمع كلمة في المطر، وكلمة في اسم السيف، وأخرى في الزرع والنبات وغيرها. . . إلى غير ذلك. فيدون كل ما سمع من غير ترتيب. إلا ترتيب السماع.
المرحلة الثانية: جمع الكلمات المتعلقة بموضوع واحد في موضع واحد. . . وتوجت(11/235)
هذه المرحلة بكتب تؤلف في الموضوع الواحد. فألف أبو زيد كتابا في المطر، وكتابا في اللبن وألف الأصمعي كتبا كثيرة، كل كتاب في موضع.
والمرحلة الثالثة: وضع معجم يشمل كل الكلمات العربية كل نمط خاص يرجع إليه من أراد البحث عن معنى كلمة. . . هذه هي المراحل الطبيعية لجمع اللغة. وكانت كل مرحلة من هذه المراحل تسلم إلى ما بعدها (1) .
غير أن الذي ينبغي أن نتنبه إليه- وإن لم يكن ليقدم في فكرة المراحل الطبيعية هذه - أن الرواية أو المرحلة الأولى لجمع اللغة ما كانت خالصة للغة خاصة بها؛ إذ لم تكن العلوم الدينية قد استقلت عن العربية ذلك العهد، ولم تكن اللغة الباعث الوحيد أو الرئيس للرواية، بل كانت الدراسات القرآنية أهم بواعثها.
وعلى أي حال فلقد رويت الألفاظ العربية مفردات وعبارات منشورة أو منظومة عن طرف أولئك الرواة أيا كان ما حفزهم إلى الرواية. والأهم من هذا أنه ليست هناك فواصل زمنية فصلت بين مرحلة وأخرى كما قد يوهم ما ذكره الأستاذ أحمد أمين فهذه المراحل متصلة تمام الاتصال، بل نستطيع أن نقول: إنها متداخلة ببعضها فلقد ألفت كثير من الرسائل الخاصة بالموضوعات- وهي المرحلة الثانية- بعد المرحلة الثالثة، مرحلة ابتكار المعجم الشامل. بل إن الرواية ذاتها- المرحلة الأولى- قد امتدت إلى ما بعد ابتكار المعجم. ويكفي في هذا أن ننظر في أشهر رواة اللغة وما أنتجوه لنتبين مثل هذا التداخل غير أن هذا لا يعني- بالطبع- أن المعجم أو ابتكاره قد سبق الرواية وتأليف الرسائل الخاصة بالموضوعات؛ لأن امتداد المرحلتين أو إحداهما إلى ما بعد المرحلة الثالثة لا يتعارض مع تقدمها فضلا عن أن ينفيه.
ومهما يكن من شيء، فلقد تم ابتكار المعجم اللغوي العربي في النصف الثاني من
__________
(1) ضحى الإسلام- أحمد أمين 2 \ 263- 266.(11/236)
القرن الثاني على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي كما أجمع المتحدثون من القدماء والمحدثين عن هذا النشاط من تراثنا العربي، واقتصر شك طائفة منهم على مقدار ما عمله الخليل من كتاب العين لا أكثر.(11/237)
البحث عن الألفاظ في المعاجم العربية
يتطلب البحث عن الألفاظ اللغوية في المعاجم العربية إلماما بجوانب من خصائص العربية وطريقة المعجم الذي نحاول الكشف فيه عنها.
ولعل من أبرز الخصائص التي ينبغي الإلمام بها لهذا الغرض أنها لغة متصرفة أو اشتقاقية. أي أنها تتألف من أسر لغوية، أو مواد أولية تعد أصولا لكل ما يشتق منها من مفردات. فمادة (الضاد والراء والياء) مثلا أصل لكل من (ضرب- يضرب- أضرب- ضربا - ضربة- ضارب- مضروب- مضرب. . . إلخ) ولكون هذه الأحرف الثلاثة- (ض- ر- ب) - قد كونت المادة الأولية التي اشتقت منها كل هذه المفردات، وحددت لها دلالتها العامة ودخلت في تركيب مفرداتها على اختلاف صيغها فقد سميت أحرفا أصلية. وسميت الأخرى التي جاءت بها الصيغ المختلفة للدلالة على ما تختص به كل صيغة بها أحرفا زائدة لزيادتها على الأصل الذي اشتقت منه تلك الصيغ واستغنائه عنها.
وقد استقرأ الصرفيون أحرف الزيادة فانتهوا إلى أنها عشرة حروف جمعتها العبارة: (سألتمونيها) أو (اليوم تنساه) أو (هويت السمان) وغيرها (1) كما انتهوا إلى أن الزيادة قد تكون بتكرار حرف من أحرف اللفظ الأصلية (2) وعدوا اللفظ مجردا، إذا تجرد من
__________
(1) شرح شافية ابن الحاجب للأستراباذي 2 \ 330- 331.
(2) شرح شافية ابن الحاجب للأستراباذي 2 \ 331- 332.(11/237)
أحرف الزيادة بنوعيها واقتصر على أحرفه الأصلية، ومزيدا إن تضمن أية زيادة عليها.
ولقد ذهب علماء العربية إلى أن الأصل في الحروف أن تتألف من حرف أو حرفين (1) وما جاوزهما فقد خرج عن الأصل فيها وأشبه الأفعال والأسماء (2) إذ الأصل في هذه أن تتألف من أحرف لا تقل عن ثلاثة، ولا تزيد الأفعال على أربعة أصلية، والأسماء على خمسة منها (3) .
وما جاء من الأسماء على أقل من ثلاثة أحرف فإما أن يكون كذلك حقيقة مثل بعض الضمائر (4) وأسماء الإشارة والأسماء الموصولة وأسماء الشرط والاستفهام (5) وأسماء الأفعال المرتجلة (6) وغيرها، فيكون خارجا عن الأصل في الأسماء مشبها الحروف في هيئتها وبنائها فأصله ما جاء عليه؛ إذ ليس له أصل غيره يلجأ إليه.
وإما أن يكون الاسم أو الفعل كذلك ظاهرا لا حقيقة مثل يد ودم من الأسماء (7) وما سقطت همزته من الأفعال، أو سقط حرف أو أكثر من أحرفه الأصلية المعتلة لسبب صرفي أو نحوي (8) ومثل هذه الألفاظ ينبغي أن تعاد إليها الأحرف الساقطة منها لتعرف أصولها ومن ثم يبحث عنها في المعاجم لأن هذه المعاجم كانت قد اعتمدت في ترتيبها الأحرف الأصلية ما وجد منها في اللفظ وما سقط منه. ويمكن معرفة ما سقط من
__________
(1) مثل الباء، واللام، من، عن. وانظر تقرير هذا الأصل في شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك 1 \ 30 - 31.
(2) ولذلك قيل الحروف المشبهة بالفعل لعملها وبنيتها.
(3) العين- للخليل 55.
(4) مثل الضمائر المتصلة: وهو، وهي، وهم، وغيرها من المنفصلة.
(5) مثل من، وما في كل من الأسلوبين.
(6) مثل صه، بخ.
(7) إذ الأصل فيهما يدي ودمو لقولهم: (يديت الرجل) أي أصبت يده، وقولهم النسبة إلى الدم دموي.
(8) مثل (وقى- يقي- ق) .(11/238)
الأسماء بأن ننسب إليها، أو أن تقف على أفعالها وتصريفها إن كانت لها أفعال.
أما ما حذف من الأفعال فتصريفها كفيل بإعادتها إليها. وإذا عاد الباحث بالألفاظ إلى أصولها لا يكون أمامه غير معرفة السبيل التي انتهجها المعجم في ترتيب مواده اللغوية وسنبين هذه السبل في مدارس المعاجم اللغوية.(11/239)
مدارس المعاجم العربية.
1 - مدرسة العين:
(أ) كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي (100- 175 أو 177 هـ) مبتدع العروض أو بحور الشعر العربي (1) ومبتكر ترتيب حروف الهجاء العربية بحسب مخارجها لجمع الألفاظ العربية المستعمل منها والمهمل وبكتابه هذا عرفت مدرسة العين وقد اعتمد في ترتيبه على ثلاثة أسس هي:
1 - المخارج:
إذ قسم معجمه إلى تسعة وعشرين كتابا سمى كلا منها بحرف من أحرف الهجاء. غير أنه عمد إلى ترتيبها وفقا للترتيب المخرجي الذي ابتدعه. فابتدأ بالعين وانتهى بالهمزة ولهذا سمى معجمه (كتاب العين) من باب تسمية الكل باسم الجزء، وضمن كلا من هذه الكتب جميع الألفاظ التي تضمنت الحرف الذي عنون به الكتاب إلا ما قد تقدم ذكره في كتاب سبقه، فكلمة (رعب) مثلا أوردها في كتاب العين لكون العين أول الحروف في ترتيبه المخرجي ولا يتكرر ورودها في كتاب الراء أو الباء.
ويمكننا أن نسمي كل كتاب من هذه الكتب بابا كيلا تتعدد الأسماء لمسمى واحد
__________
(1) الخليل بن أحمد- المخزومي 187- 190، مصادر التراث- الدكتور عمر الدقاق 171.(11/239)
لأن الجوهري ومن تلاه من أصحاب المعاجم أو أكثرهم كانوا قد سموا ما يقابل هذه الكتب أبوابا.
2 - الأبنية:
أو عدد أحرف الألفاظ: إذ قسم كل كتاب أو باب إلى ستة أقسام أو فصول.
أ- الثنائي الصحيح المضاعف: فمنه الألفاظ المؤلفة من حرفين صحيحين كرر أحدهما مثل (مد) أو كلاهما مثل (زلزل) .
ب- الثلاثي الصحيح: المؤلف من ثلاثة أحرف صحيحة متنوعة مثل (ذهب) .
ج- الثلاثي المعتل: المؤلف من ثلاثة أحرف منها واحد معتل أو مهموز مثل (رمى، قرأ) .
د- الثلاثي اللفيف: المؤلف من ثلاثة أعتل حرفان منه مثل (وعى) .
هـ- الرباعي: المؤلف من أربعة أحرف أصلية مختلفة مثل (بعثر، دحرج) .
والخماسي: المؤلف من خمسة أحرف أصلية مختلفة مثل (سفرجل) .
3 - التقاليب:
تغيير مواقع أحرف اللفظ أو ترتيبها حتى يأخذ كل منها مواقع الأحرف المشتركة معه في تكوين اللفظ.
وقد عمد الخليل إلى التقاليب ليقف على كل ما يمكن أن يتكون من حروف الهجاء من ألفاظ مستعملة أو مهملة. وقد انتهى- فعلا- إلى أن للثنائي أو المضعف صورتين فالدال والراء مثلا لا يتكون منهما غير (در، رد) . أما الثلاثي فله ست صور فالذال والهاء والباء مثلا لا يتكون منها غير: (ذهب، ذبه، هبذ، هذب، بذه، بهذ) وترتفع هذه التقاليب في الرباعي فتصل إلى أربع وعشرين صورة وفي الخماسي إلى مائة وعشرين صورة، وقد جمع الخليل تقاليب اللفظ كلها في أسبق حرف منها في ترتيبه المخرجي، ولهذا فالبحث عن لفظ من الألفاظ في معجم العين يتطلب:(11/240)
أ- ترتيب أحرفه بحسب ترتيب الخليل للحروف- بعد إرجاع اللفظ بالطبع إلى أصله كما في كل المعاجم- لكي تقف على الكتاب أو الباب الذي يرد اللفظ فيه.
ب- النظر في بنيته إن ثنائيا أو ثلاثيا أو غير ذلك لمعرفة الفصل الذي يورده فيه.
ج- الصورة التي ورد به اللفظ المبحوث عنه لمعرفة القسم الخاص به فالفعل (لعب) مثلا يرتب بحسب ترتيب الخليل للحروف فيكون (علب) إذ العين قبل اللام، واللام قبل الباء. ولهذا يبحث عنه في كتاب أو باب العين. ولما كان الفعل ثلاثيا صحيحا فالبحث عنه في باب العين ينحصر في الفصل الخاص منه بالثلاثي الصحيح الذي اتصلت فيه العين باللام مع الباء. ولكن اللفظ المبحوث عنه (لعب) وليس (علب) لذا يبحث عنه في الصورة أو التقليب الذي يطابقه وهكذا.
ب- كتاب البارع في اللغة لأبي علي القالي (إسماعيل بن القاسم 288 - 356 هـ) اتبع مؤلفه منهج الخليل في اعتماده على المخارج والأبنية والتقاليب غير أن ترتيبه للحروف أقرب إلى ترتيب سيبويه لها منه إلى الخليل (1) فقد جاء ترتيبه على النحو التالي:
هـ- ح- ع- خ- غ- ق- ك- ض- ج- ر- ش- ل- ون- ط- د- ت- ص- ز- س- ظ- ذ- ث- ف- ب- م- أ- ي- د (2) .
كما أنه خالف الخليل في بعض أبنيته- وإن قسمها مثله إلى ستة- فقد جمع في الثلاثي ما اعتل بحرف وحرفين فجاء هذا القسم مقابلا لقسمي الثلاثي في كتاب العين وهما الثلاثي المعتل واللفيف وأخلص قسما لما سماه بالحواشي والأوشاب جمع فيه
__________
(1) انظر ترتيب الخليل للحروف في العين 1 \ 65 وص 11 من هذا البحث.
(2) المعاجم العربية- درويش- 32، المعاجم العربية - نصار 1 \ 20 والمعجم العربي له 314- 315.(11/241)
الثنائي الخفيف الصحيح مثل، قق (حكاية صوت الضحك) والمعتل مثل (هو) .
وعلى أية حال فطريقة استعماله طريقة العين ذاتها مع مراعاة الاختلافات اليسيرة التي أشرنا إليها.
ج- تهذيب اللغة لأبي منصور الأزهري (محمد بن أحمد - 282 هـ- 370 هـ) فقد اتبع فيه الأزهري منهج الخليل بحذافيره حتى جاء التهذيب صورة مكبرة للعين.
د- المحكم والمحيط الأعظم لابن سيده (علي بن إسماعيل 398 هـ- 458 هـ) وقد اتبع فيه ابن سيده الخليل في ترتيبه للحروف مخرجيا، كما اتبعه في أبنيته ولكن على النحو الذي انتهى بها إليه أبو بكر الزبيدي (محمد بن الحسن المتوفى 379 للهجرة) في كتابه تلخيص مختصر العين إذ فصل الزبيدي بين الثنائي المضعف الصحيح والثنائي المضعف المعتل، فصارت أبنية الخليل الستة عنده سبعة أبنية، وأضاف ابن سيده إليها بناء آخر تفرد به ألا وهو بناء السداسي، وضع فيه بعض الألفاظ الأعجمية الأصل مثل الشاهفوم (نوع من الزهر) وبعض الأصوات. كما اتبع الخليل في تقاليب الألفاظ.
ومهما يكن من شيء فإن هذه الكتب كلها كانت قد اعتمدت الأسس التي اعتمدها الخليل في كتاب العين من المخارج والأبنية والتقاليب.(11/242)
2 - مدرسة الجمهرة: نسبة إلى كتاب الجمهرة لأبي بكر بن دريد الأزدي (محمد بن الحسن 223 هـ- 321 هـ) ولقد اختار ابن دريد لمؤلفه هذا الاسم لأنه- كما صرح في مقدمته- اقتصر فيه على جمهور كلام العرب معرضا عن وحشيه ومستنكره، واستقل بمعجمه عن مدرسة العين باتخاذه الأبنية أساسا رئيسا لتقسيم كتابه؛ إذ قسمه إلى أربعة أقسام رئيسية جعل كل قسم منها بناء خاصا وهي:
1 - الثنائي في الصحيح المدغم: يريد به الثلاثي المضعف.(11/242)
2 - الثلاثي الصحيح.
3 - الرباعي.
4 - الخماسي.
وأردف كلا من هذه الأقسام بملحقات. فألحق بالثنائي المضعف الرباعي (الثنائي الذي تكرر حرفاه) والثنائي المعتل.
وألحق بالثلاثي الصحيح الثلاثي الذي اجتمع فيه حرفان متماثلان. وما كان عين فعله حرف لين، وما لحق بالثلاثي بأحد حروف العلة والنوادر في الهمز.
وألحق بالرباعي والخماسي أبوابا بحسب الأوزان والصيغ من غير ترتيب، وختم معجمه بأبواب لغوية أخرى كثيرة لا نظام لها، عدها من النوادر في موضوعاتها وصيغها فكثرت أبواب معجمه بهذه الملاحق كثرة ملحوظة، ولم يعدل ابن دريد إلى الأبنية فحسب وإنما عدل إلى الترتيب الهجائي معرضا عن الترتيب الصوتي للحروف الذي سارت عليه مدرسة العين.
فرتب أقسام تلك الأبواب أو فصولها بسبب حروف الهجاء (أ- ب- ت- ث. . الخ) فبدأ بالهمزة مع بقية الحروف التي تليها وانتقل إلى الباء مع ما تلاها وهكذا حتى انتهى منها جميعا. غير أنه حين تناول الثلاثي لم يبدأ بالهمزة وإنما أخرها إلى نهاية ما ألحقه بالثلاثي وهو النوادر في الهمز.
ولقد التزم في مواد هذه الفصول بنظام التقاليب الذي أجبره على أخذ الحرف مع ما يليه دائما كما سبق في مدرسة العين.
ومهما يكن من شيء فالبحث عن لفظ في الجمهرة يتطلب أول ما يتطلبه النظر في عدد أحرفه الأصلية لمعرفة إن كان ثنائيا مضعفا أو ثلاثيا أو رباعيا أو خماسيا أو مما يتصل بأي من هذه الأبواب لمعرفة الكتاب أو الباب الذي تضمنه. ثم النظر في موقع أسبق حرف من أحرفه الأصلية في الترتيب الهجائي (الألفبائي) المعروف للوصول إلى الفصل الذي يتناول ذلك اللفظ، وعندها نصل إلى المادة اللغوية المطلوبة وتقاليبها فيه بملاحظة(11/243)
تتابع أحرفها الأصلية في الترتيب الهجائي. فلفظ مثل "كتب " ثلاثي صحيح فهو في باب الثلاثي الصحيح. ولما كانت أحرفه في الترتيب الهجائي الباء ثم التاء ثم الكاف فالبحث عنه ينبغي أن يكون في باب الثلاثي الصحيح فصل الباء مقلوب مادة الباء والتاء والكاف ويوسع الباحث عن لفظ فيه أن ينظر في فهرس الألفاظ الذي عمله ناشرو الكتاب إذ رتبت فيه الألفاظ بحسب الترتيب الهجائي المعروف وتوالي الحروف في تلك الألفاظ ابتداء من الحرف الأول كما في المعاجم الحديثة.(11/244)
3 - مدرسة المقاييس:
(أ) مقاييس اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس المتوفي 395 هـ وإليه نسبت المدرسة وقد سمى معجمه هذا بالمقاييس لعنايته بمقاييس اللغة وربطه فروع موادها بأصولها وقياسها عليها لفظا ومعنى (1) .
ولقد استقل ابن فارس في تنظيم معجمه بمنهج خاص عمد فيه إلى الترتيب الهجائي (الألفبائي) للحروف. فخص كل حرف منها بكتاب فبدأ بكتابة الهمزة وأعقبه بكتاب الباء ثم التاء ثم الثاء إلى أن انتهى منها جميعا. فخالف بهذا مدرسة العين التي اعتمدت الترتيب الصوتي للحروف. كما خالف مدرسة الجمهرة (لاعتمادها على الأبنية في التقسيم الرئيسي للكتاب. وخالفهما معا في أخذهما بنظام التقاليب وإعراضه عنه إعراضا تاما. ولهذا فليس بالإمكان ربطه بأي من المدرستين السابقتين لاختلافه عنهما اختلافا منهجيا ظاهرا.
وبعد أن قسم كتابه بحسب حروف الهجاء عددا وترتيبا قسم كلا من تلك الكتب إلى ثلاثة أقسام: أولها للثنائي المضعف، وثانيها للثلاثي، وثالثها لما زاد على الثلاثي. غير أنه ألزم نفسه بأخذ الحرف مع ما تلاه من مواد تلك الأبنية حتى إذا فرغ من كل ما تلاه أخذه
__________
(1) انظر مقدمة المؤلف 1 \ 3 ومقدمة محققه 1 \ 39.(11/244)
مع ما سبقه فصار السابق- عنده- لاحقا واللاحق سابقا لعدوله عن نظام التقاليب والتزامه بالحرف مع ما تلاه أولا. ففي الثنائي المضعف من كتاب الراء مثلا سيبدأ بالراء والزاء (رز) ثم الراء والسين (رس) ثم الراء والشين (رش) حتى إذا انتهى من كل ما تلاها عاد فأخذها مع ما سبقها فأخذها مع الهمزة (رأ) ومع الباء (رب) ومع التاء (رت) ومع الثاء (رث) إلى أن وصل إلى الراء والذال (رذ) وهو آخر ما كان تركه من الحروف السابقة إذ لم يجدها متصلة بالراء المضعف فأنهى بهذا الثنائي المضعف من كتاب الراء. وهذا شأنه مع الحروف الأخرى.
وفي الثلاثي من كتاب القاف بدأ بالقاف واللام- إذ لم تتصل القاف بالكاف في لفظ عربي- فأخذهما مع الميم (قلم) ومع الهاء (قله) ومع الواو (قلو) ثم عاد فأخذهما مع ما سبقهما- أو في الأصح مع ما سبق الثاني منهما- مبتدئا من الهمزة فلما لم يجدهما متصلين بها أخذهما مع الباء (قلب) ومع التاء (قلت) إلى أن وصل بهما إلى (قلق) آخر ما وجده سابقا اللام من ألفاظ اللغة إذ لم تتصل القاف واللام بالكاف.
وبعد أن أنهى القاف واللام وما يثلثهما من أحرف لاحقة وسابقة انتقل إلى القاف والميم وما يثلثهما سالكا السبيل ذاتها.
حتى إذا انتهى من القاف مع ما تلاها من حروف أخذها مع ما سبقها مبتدئا بالقاف والهمزة وما يثلثهما ثم القاف والباء وما يثلثهما حتى انتهى عند القاف مع كل الحروف اللاحقة والسابقة. وهذا شأنه مع الحروف كلها.
أما ما زاد على الثلاثي فلم يلتزم فيه بغير الحرف الأول منه. فعلى من يبحث عن لفظ كهذا في المقاييس أن يعمد إلى الكتاب الخاص بحرفه الأول وإلى الباب الخاص منه بما زاد على الثلاثي فيبحث فيه عنه حتى يجده.
فلفظ مثل (بعثر) يبحث عنه في كتاب الباء باب ما زاد على الثلاثي، ومما ييسر العثور على مثل هذه الألفاظ في أبوابها قلة مواد هذه الأبواب.(11/245)
ب- المجمل: ويلحق بالمقاييس (مجمل اللغة) لابن فارس نفسه، وقد قصد فيه إلى الاختصار والإيجاز (1) متبعا منهج المقاييس بحذافيره، فطريقة استخدامه هي طريق استخدام المقاييس ذاتها.
__________
(1) جاء في مقدمة مؤلفه قوله: (وسميته مجمل اللغة لأني أجملت الكلام فيه إجمالا) .(11/246)
4 - مدرسة الصحاح: نسبة إلى كتاب (تاج اللغة وصحاح العربية) لأبي نصر الجوهري (إسماعيل بن حماد المتوفى سنة 399 هـ) .
وقد ضمت هذه المدرسة عددا من المعاجم أشهرها.
أ- تاج اللغة وصحاح العربية المشهور بالصحاح وبه سميت المدرسة هذه.
1 - مختار الصحاح.
2 - التكملة.
ب- العباب.
ج- لسان العرب.
د- القاموس المحيط.
هـ- تاج العروس.
أ- الصحاح: انتخب له الجوهري هذا الأمم لاقتصاره فيه على ما صح عنده من ألفاظ اللغة. واختط لمعجمه هذا منهجا خاصا أعرض فيه عن الترتيب الصوتي (المخرجي) للحروف كما أعرض عن نظام التقاليب والأبنية. وعمد إلى الترتيب الهجائي (الألفبائي) للحروف، واتخذه الأساس الأول والأخير في تنظيم معجمه أبوابا وفصولا وما تضمنه من مواد لغوية، مخالفا بهذا المدارس السابقة متخلصا مما شاب مناهجها من صعوبات. ولقد طبق الترتيب الهجائي- أول ما طبقه- على أواخر الألفاظ ومن ثم على أوائلها وعلى ما تلا الحروف الأولى حتى أتى على حروفها كافة. فقسم معجمه إلى ثمانية وعشرين بابا، جعل لكل حرف من حروف الهجاء بابا منها، إلا أنه جمع الواو والياء في باب واحد. وأودع في كل باب جميع الألفاظ المنتهية بحرفه. فالباب- عنده- يشير إلى الحرف الأخير من اللفظ ولهذا سمي نظامه بنظام القافية. ففي باب الهمزة- مثلا- جمع كل ما(11/246)
انتهى بها من ألفاظ وهكذا.
وقسم كل باب منها إلى فصول بعدد وترتيب حروف الهجاء (الألفباء) مشيرا بهذه الفصول إلى أوائل حروف الألفاظ. فابتدأ باب الهمزة بفصل الهمزة وأعقبه بفصل الباء ثم التاء إلى آخر الحروف.
وهذا هو شأنه في الأبواب كلها فباب الباء فصل الهمزة ضم جميع الألفاظ المنتهية بالباء والمبدوءة بالهمزة أيا كانت أبنية هذه الألفاظ.
كما أنه رتب مواد كل فصل من هذه الفصول بحسب أسبقية ما بين الحرفين الأول والأخير منها في الترتيب الهجائي أيضا.
ففي باب الدال فصل الواو يتقدم الفعل (وأد) على الفعل (وجد) لا لشيء إلا لأن الهمزة تسبق الجيم في الترتيب الهجائي. والفعل (حرجم) يسبق الفعل (حرم) مع أن كلا منهما في باب الميم فصل الحاء وأن الحرف الثاني فيهما راء غير أن الحرف الثالث في "حرجم " جيم وهو في (حرم) ميم والجيم متسابقة الميم في الترتيب الهجائي.
ولهذا فالبحث عن لفظ في الصحاح وما ماثله في معاجم يتطلب معرفة الحرف الأخير منه لمعرفة بابه كما يتطلب معرفة حرفه الأول للوقوف على الفصل الذي تضمنه من ذلك الباب، وتنظر بعد هذا وذاك بقية أحرفه- بحسب تواليها- لتحديد موضعه من الفصل.
ولقد أعجب بالكتاب ومنهجه أكثر اللغويين وقامت حوله دراسات أثمرت كتبا متعددة متنوعة سلكت سبيل الصحاح في تنظيمها يضيق هذا البحث بالتحدث عنها. لذا نكتفي بذكر مثالين لنوعين من أنواع تلك الدراسات وهما مختار الصحاح، والتكملة والذيل والصلة.
1 - مختار الصحاح:
ألفه الرازي (محمد بن أبي بكر بن عبد القادر ت 666 هـ) واقتصر فيه- كما في(11/247)
مقدمته- على ما لا بد منه مما كثر استعماله وجريانه على الألسنة (1) ضم إليه ألفاظا كثيرة أخذها من تهذيب اللغة للأزهري وغيره من الأصول اللغوية المعتمدة. واتبع فيه منهج الصحاح ذاته. غير أن وزارة المعارف المصرية كانت قد كلفت الأستاذ محمود خاطر بأن يتولى ترتيبه بحسب الحروف الأولى وما يليها من أحرف الألفاظ على نحو ما نعهده في المعاجم الحديثة. وطبع الكتاب طبعات عديدة.
2 - التكملة والذيل والصلة لكتاب تاج اللغة وصحاح العربية.
ألفه الصغاني (الحسن بن محمد بن الحسن 577 هـ- 651 هـ) وقال مؤلفه في مقدمته: (هذا كتاب جمعت فيه ما أهمله أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري رحمه الله في كتابه وذيلت عليه وسميته كتاب التكملة والذيل والصلة غير مدع استيفاء ما أهمله) (2) وقد اتبع فيه سبيل الجوهري في صحاحه فطريقة استخدامهما واحدة.
ب- العباب: ألفه الصغاني صاحب التكملة المتقدم ذكره وقد جاء في مقدمته ما يفسر سبب تسميته حيث قال مؤلفه: (أؤلف كتابا في لغة العرب يكون- إن شاء الله- جامعا شتاتها وشواردها حاويا مشاهير لغاتها وأوابدها، يشتمل على أداني التراكيب وأقاصيها ولا يغادر منها -سوى المهملة - صغيرة ولا كبيرة إلا وهو يحصيها) (3) .
وقد وصفه السيوطي بقوله: (وأعظم كتاب ألف في اللغة بعد عصر الصحاح كتاب المحكم والمحيط الأعظم لأبي الحسن علي بن سيده الأندلسي الضرير. ثم كتاب العباب للرضي الصغاني (4) .
وقال فيه محمد صديق: (العباب الزاخر واللباب الفاخر في عشرين مجلدا) (5) .
وذكر الدكتور حسين نصار: إن دار الكتب المصرية لا تمتلك منه غير مجلد واحد من
__________
(1) ولهذا انتخب له هذا الاسم لاختياره من الصحاح ما اختاره.
(2) 1 \ 5 من المطبوع. وقد وصل إلينا منه ثلاثة أجزاء.
(3) المعجم العربي - الدكتور حسين نصار 2 \ 530.
(4) المعجم العربي - الدكتور حسين نصار 2 \ 533 والمزهر للسيوطي 1 \ 100.
(5) نفس المرجع والموضع من كتاب الدكتور حسين نصار.(11/248)
أول الكتاب إلى مادة (عجرد) (1) وكان مؤلفه قد أشرف به على نهاية مادة (بكم) (2) ووافاه أجله قبل أن يتمه.
ج- لسان العرب:
ألفه ابن منظور (محمد بن مكرمة بن علي الخزرجي الأفريقي 630 هـ- 711) . ولقد أراد ابن منظور أن يجمع فيه بين الاستقصاء وجودة الترتيب فعمد لتحقيق الغرض الأول إلى إبراز المعاجم السابقة- كما رآها هو- فأفرغها في موسوعته وذكرها مصرحا بذكرها في مقدمته وهي:
تهذيب اللغة للأزهري، والمحكم لابن سيده، والصحاح للجوهري، وحواشي ابن بري على الصحاح، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير. وقال بكل تواضع: (وليس لي من هذا الكتاب فضيلة أمت بها، ولا وسيلة أتمسك بسببها سوى أني جمعت ما تفرق في تلك الكتب من العلوم وبسطت القول فيه) (3) وأضاف قائلا:
(فليعتد من ينقل عن كتابي هذا أنه ينقل عن هذه الأصول الخمسة) (4) .
وأما الغرض الثاني (جودة الترتيب) فرأى أن انتهاجه منهج الجوهري في صحاحه كفيل بتحقيقه. فلقد أعرب عن إعجابه به وتفضيله إياه على ما سواه قائلا:
ورأيت أبا نصر إسماعيل بن حماد الجوهري قد أحسن ترتيب مختصره، وشهره بسهولة وضعه فخف على الناس أمره فتناولوه. وقرب عليهم ما أخذه فتداولوه وتناقلوه) (5) إلى أن قال (ورتبته ترتيب الصحاح في الأبواب والفصول) (6) .
ولقد ذاع صيت اللسان وطبقت شهرته الآفاق.
__________
(1) نفس المرجع والموضع.
(2) نفس المرجع 2 \ 530 والمزهر للسيوطي 1 \ 100.
(3) مقدمة المؤلف 1 \ 7- 9.
(4) مقدمة المؤلف 1 \ 7- 9.
(5) مقدمة المؤلف 1 \ 7- 9.
(6) مقدمة المؤلف 1 \ 7- 9.(11/249)
د- القاموس المحيط: ألفه الفيروزآبادي (محمد بن يعقوب بن محمد بن يعقوب بن إبراهيم 729 هـ 817) .
ولقد أراد له مؤلفه أن يكون جامعا موجزا في الوقت ذاته. فحقق الشمول والاستيعاب بتعويله على العباب للصغاني والمحكم لابن سيده (1) فأودع في كتابه - عن طريقهما- خلاصة ما في العين والجمهرة والتهذيب والصحاح والتكملة وذكر في مقدمته أنه أضاف من زياداته إلى ما تضمنه العباب والمحيط. وقد سبقت الإشارة إلى أنه سماه القاموس المحيط لكونه- كما رآه- البحر الأعظم (2) وكما عمد إلى الشمول، فقد عمد إلى الإيجاز، وصرح به قائلا: وسئلت تقديم كتاب وجيز على ذلك النظام وعمل مفرغ في قالب الإيجاز والإحكام، مع إتمام المعاني، وإبرام المباني فصرفت صوب هذا القصد عناني، وألفت هذا الكتاب محذوف الشواهد، مطروح الزوائد، معربا عن الفصح والشوارد (3) .
ولم يكتف بحذف الشواهد دون طرح الزوائد بل عمد إلى استخدام الرموز مكتفيا بكتابة (ع، د، ة، ج، م) عن موضع وبلد وقرية والجمع ومعروف (4) .
وقد اتبع الجوهري في منهجه لأنه لم يؤلف كتابه إلا ليتتبعه فيذكر ما أغفله وينبه إلى ما توهمه لاشتهار مؤلفه وتعويل المدرسين عليه فقال:
(وخصصت الجوهري من بين الكتب اللغوية مع ما في غالبها من الأوهام الواضحة والأغلاط الفاضحة لتداوله واشتهاره بخصوصه، واعتماد المدرسين على نصوصه.
__________
(1) مقدمة المؤلف من 1 \ 3- 4.
(2) مقدمة المؤلف من 1 \ 3- 4.
(3) مقدمة المؤلف من 1 \ 3- 4.
(4) مقدمة المؤلف من 1 \ 3- 4.(11/250)
هـ- تاج العروس من جواهر القاموس:
قال الزبيدي (محمد مرتضى الحسيني 1145 هـ- 1205) .
وقد ألفه صاحبه شرحا لقاموس الفيروزآبادي، والتزم فيه بإيراد جميع مواد القاموس وتحقيقها والتنبيه إلى مراجعها وتفسير ما يحوج منها إلى تفسير، والإتيان بالشواهد التي استغنى القاموس عنها فاضطره هذا كله أن يرجع إلى مائة وعشرين كتابا، ذكرها في مقدمته وبإيراده ما في القاموس وما استدركه عليه من كل هذه الكتب صار التاج- بحق - أجمع معجم عربي بلا نزاع. وقد طبعته المطبعة الأميرية ببولاق في القاهرة طبعة كاملة في عشرة أجزاء. وقامت وزارة الإرشاد والأنباء الكويتية بطبع أجزاء منه طباعة حديثة أنيقة ولا تزال مستمرة في طبع ما بقي منه.(11/251)
5 - مدرسة الأساس:
عرفت هذه المدرسة بمدرسة الأساس نسبة إلى أساس البلاغة لجار الله الزمخشري (محمود بن عمر بن محمد 467 هـ-538) .
أ- الأساس: سماه الزمخشري أساس البلاغة لمخالفته أصحاب المعاجم اللغوية؛ إذ لم يكن همه فيه استقصاء الألفاظ العربية ومعانيها اللغوية وإنما انحصر همه أو كاد في اقتناص العبارات الأدبية البليغة من آيات وأحاديث وأمثال وأشعار، والوقوف من خلالها على معاني الألفاظ واستعمالاتها مبتدئا بالحقيقة ثم الدلالات المجازية فاصلا- في الأعم الأغلب- بين هذه وتلك منبها إليها.
ولقد خالف في تنظيم معجمه النظم التي اتبعت في المعاجم الأخرى. إذ أخذ بالترتيب الهجائي (الألفبائي) للحروف وطبقه على أحرف الألفاظ. مبتدئا من أوائلها والتي تليها بحسب تسلسلها فيها حتى انتهى بأواخرها. فقسم معجمه إلى كتب بعدد وترتيب حروف الهجاء، فالألفاظ المبدوءة بالهمزة- مثلا- جمعها كتاب الهمزة في أول(11/251)
المعجم، والمبدوءة بالباء ضمها كتاب الباء التالي لكتاب الهمزة والسابق لكتاب التاء وهكذا.
ورتبت مواد كل كتاب بحسب تسلسل حروفها الثواني، ففي كتاب الدال تتقدم الألفاظ المبدوءة بالدال والهمزة على المبدوءة بالدال والراء. فلفظ (دأب) قبل لفظ (درب) وإذا درج اللفظان في الحرفين الأول والثاني ينظر إلى الحرف الثالث، فلفظ (درج) يسبق لفظ (درس) لتأخر السين عن الجيم في الترتيب الهجائي وهكذا.
وطريقته هذه- بالطبع- أيسر طرائق البحث عن الألفاظ في المعاجم وهي المتبعة الآن في المعاجم الحديثة.
وقد طبع أكثر من مرة في مجلدين كما طبع أخيرا في مجلد واحد بأحرف أصغر من غير ما إخلال بمواد المعجم.
ولقد آثر اللغويون المحدثون طريقة الزمخشري في ترتيب الألفاظ اللغوية لسهولتها على العالم والمتعلم فاتبعوها في تأليف معاجمهم الحديثة.
ب - محيط المحيط: لبطرس بن بولس بن عبد الله البستاني اللبناني (1819م. - 1883) .
وقد اتخذ من القاموس المحيط للفيروزآبادي أساسا لمادة معجمه، وحذف أسماء الأماكن والأشخاص والقبائل والمشتقات القياسية وبعض اللغات، وصاغ التفسيرات صياغة تلائم روح العصر الحديث وأضاف غير قليل من المعاني المولدة والمسيحية والعامية والمصطلحات العلمية والفلسفية (1) .
ج- قطر المحيط: لبطرس البستاني أيضا وقد قال فيه مؤلفه أنه سماه بهذا الاسم لأن نسبته إلى محيط المحيط نسبة قطر دائرة إلى محيطها وقد أتى فيه على مواد المحيط غير أنه حذف جزءا كبيرا من كل مادة منها واتبع فيه منهج المحيط.
د- أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد:
__________
(1) انظر محيط المحيط.(11/252)
ألفه سعيد بن عبد الله الخوري الشرتوني (1849- 1912) . وعنوانه يشير إلى ما قصد إليه مؤلفه من التيسير ودقة التنظيم. فقسم معجمه إلى قسمين: استقل الأول منهما بالمفردات، والثاني بالمصطلحات العلمية والكلم المولد والإعلام وأردفهما بذيل لما استدركه على نفسه وعلى غيره.
وقد أصدر القسم الأول والذيل وأرجأ القسم الثاني غير أن الموت لم يهمله لإصداره، وكان قد عول في القسم الأول من معجمه على مواد القاموس للفيروزآبادي بعد أن غير ترتيبها بحسب ترتيب الأساس. وقام بمثل ما قام به البستاني في محيطه من حذف وإضافة وصياغة غير أنه خالف البستاني أيضا فحذف كثيرا من الألفاظ العامية والمسيحية وأسماء الكتب، واستعمل الرموز مشيرا بها إلى أبواب الأفعال والتزم نظاما صارما لتقديم الأفعال على الأسماء، وراعى ترتيبا معينا في تناول الأفعال ذاتها. فمعجمه أكثر انتظاما من محيط البستاني تيسيرا للبحث مع كونه أغزر منه مادة. وقد لا نجانب الصواب إذا ما قلنا إنه أشمل المعاجم التي أصدرها اللبنانيون للمفردات.
هـ- المنجد: للأب لويس المعلوف أخرجه سنة 1908م اختصر فيه محيط المحيط للبستاني وسار على نظامه، ورجع إلى التاج كثيرا في تفسير مواده. واستعان بالرموز على غرار المعاجم الأجنبية فرمز للصيغ وتكرار اللفظ المشروح. وأكثر من الصور الموضحة. فلقي رواجا منقطع النظير لما انطوى عليه من مميزات فهو مبرأ من فصول القول والاستطرادات وتعدد الأوجه، مكثف المادة غزيرها، رائق في حجمه ومظهره. غير أنه مع هذا كله لا يصلح مرجعا موثوقا للباحثين المختصين لوقوعه في بعض الأخطاء، ولأنه مشوب في عدد من مواده بأمور تتصل بالدين الإسلامي والتراث العربي مما درج على ترديده عدد من المستشرقين المغرضين. وعلى الرغم من تعدد طبعاته فإن القائمين على طبعه لم يتلافوا المآخذ التي دأب الباحثون على كشفها فيه طوال هذه السنين العديدة.
ولقد أدخلت عليه تحسينات كثيرة فحفل بالصور والجداول والخرائط وكتبت المواد في أول السطر باللون الأحمر، وألحق به معجم للآداب والعلوم حوى تراجم لأعلام الشرق والغرب صنعه الأب فرديناند توتل سنة 1956م فصار المنجد في طليعة المعاجم العربية الحديثة تنظيما، وأيسرها تناولا، وأكثرها انتشارا مع ما فيه من مآخذ.(11/253)
والبستان: لعضو المجمع العربي بدمشق في حينه، عبد الله بن ميخائيل البستاني (1854م- 1930) استقى مادته من محيط المحيط لبطرس البستاني وتصرف فيها حذفا وإضافة وأفاد كثيرا مما أدخل في المعاجم الحديثة من تحسينات.
ولقد أكثر من الألفاظ الداخلية والمولدة وبخاصة المخترعات والمصطلحات الحديثة وآثر في تفسيره للألفاظ عبارات التاج على عبارات القاموس المحيط فتضخم معجمه فاستنفذ مجلدين كبيرين أصدرهما سنة 1930 م.
ز- فاكهة البستان: لعبد الله البستاني أيضا اختصر فيه البستان ليتيسر اقتناؤه ويعم الانتفاع به فطبعه في مجلد واحد 1935 أيضا.
ح- معجم متن اللغة: للشيخ أحمد رضا العاملي عضو المجمع العربي في دمشق سابقا. صنعه بتكليف من مجمعه. ويبدو أنه أخذ بتوجيهات مجمعه عند تأليف معجمه فجاءت محتويات كل مادة من مواده مرتبة ترتيبا دقيقا. إذ قدم الأفعال على الأسماء، وبدأ بالمجرد من الأفعال فرتبها بحسب تسلسل أبوابها الستة المعروفة ورتب المزيد منها ترتيبا خاصا وكذلك الأسماء، معولا في تفسيرها على معاجم الأقدمين معرضا عن المعاجم الحديثة كيلا تتسرب أخطاؤها إلى صنيعه، غير أنه أفاد كثيرا مما فيها من مظاهر التنظيم.
ولقد تجنب تعدد الأوجه وكثرة الاستطرادات والتعليلات في المعاجم القديمة. وحرص على ذكر المجاز إلى جانب الحقيقة. وأدخل الألفاظ المصرية والمستحدثة والصيغ التي أقرها كل من المجمعين اللغويين في القاهرة ودمشق. وأفرد الألفاظ العامية في هوامش مواده كيلا تختلط بالفصيح ولا يفتقر إليها معجمه. ولم يكثر من المصطلحات العلمية والفنية لكونها خارجة عن متن اللغة. وإذا أورد مصطلحا دخيلا وضع إلى جواره اسمه الأجنبي بأحرفه اللاتينية.
وقد صدر معجمه هذا في سبعة مجلدات عن دار الحياة في بيروت سنة 1958 بعد وفاة مؤلفه.
ط- المعجم الوسيط: ألفته لجنة من أعضاء مجمع اللغة العربية في القاهرة بتكليف منه. وقد أفادت اللجنة من آخر ما وصلت إليه المعاجم العربية الحديثة من تطور في المادة(11/254)
والمنهج. فضمت إلى المعاجم كثيرا من المصطلحات. وما استحدث في حياتنا العامة من ألفاظ مولدة ومعربة حديثا واستغنت عن الحوشي والمهجور من ألفاظ اللغة وبعسر المتراصات، واستعانت بالرموز للاختصار، والتزمت بمنهج خاص في ترتيب ما أوردته في كل مادة، كتقديم الأفعال على الأسماء، ومجردها على مزيدها ولازمها على متعديها، واتخذت- بالطبع- نظام الأساس نظاما لها في ترتيب معجمها. فجاء معجمها أكثر المعاجم العربية الصغيرة مادة، وأرحبها صدرا للمصطلحات، والمستحدث من الألفاظ والدلالات وأضبطها وأوثقها وأحكها منهجا. وهو بعد هذا كله أول معجم عربي حديث صدر عن مجمع له حق التشريع في اللغة. غير أنه مع هذا كله لم يسلم من سقطات وهفوات. وقد تتبعها الدكتور عدنان الخطيب ونشرها تباعا في سلسلة مقالات نشرها في مجلة اللغة العربية في دمشق من سنة 1963- 1967 ثم تولى جمعها في كتاب خاص به نشره سنة 1967.
ي- المعجم الكبير: شرع مجمع اللغة العربية في القاهرة منذ فترة في عمل معجم كبير للغة العربية يغني عن غيره من المعاجم وقد استطاع أن ينتهي من جزئه الأول الخاص بحرف الهمزة فنشره سنة 1970 م في سبعمائة صفحة.
ويتضح من مقدمة هذا الجزء أن المجمع كان قد رمى إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية:
أ- دقة الترتيب: إذ اختار ترتيب الأساس أي الترتيب الهجائي (الألفبائي) ابتداء من الحرف الأصلي الأول من أحرف الألفاظ إلى آخر حرف فيها. أما الألفاظ الدخيلة (غير العربية) التي لم يشتق العرب منها فقد اعتبرت جميع أحرفها أصيلة فلفظ مثل: إستبرق وضع في الهمزة وما تلاها من أحرف اللفظ بحسب ترتيبها. ولقد رتبت كل مادة ترتيبا دقيقا شاملا فقسمت إلى ستة أقسام هي:
1 - نظائرها في اللغات السامية.
2 - معانيها الكلية أو العامة.
3 - أفعالها.(11/255)
4 - مصادرها.
5 - مشتقاتها.
6 - الأسماء.
ولم يهمل من هذه الأقسام إلا ما ليس له وجود في اللغة، والتزم في ترتيب المعاني والأفعال والأسماء بما التزم به في المعجم الوسيط من تقديم المعاني الأصلية على الفرعية، والحسية على المعنوية، وتقديم المجرد من الأفعال على المزيد، واللازم على المتعدي.
ورتبت الأسماء بحسب أسبقية أوائلها في الترتيب الهجائي. كما رتبت الشواهد بحسب قدمها.
واستخدم الرموز الدالة بغية الإيجاز، وفسر المواد بعبارات واضحة موجزة دقيقة.
ب- الإحاطة اللغوية: تلك الإحاطة القائمة على الاستيعاب وتصوير المادة تصويرا كاملا في جميع الأزمنة والأمكنة التي عاشت فيها. فبحث عن المواد في المعاجم القديمة وتجاوزها إلى كتب الأدب والعلوم ولم يشر إلى غير ما انفرد منها بشيء مما أخذه. وأكمل اشتقاقات بعض المواد التي سمعت طائفة من اشتقاقاتها ولم تسمع بقيتها. وأقر تعريب المحدثين، فجاء المعجم شاملا لما يريده الباحث من ألفاظ القدماء والمحدثين ودلالاتها إلى عصرنا الحاضر.
ج- موسوعية التأليف المعجمي: وقد تمثلت في تقديم ألوان من المعارف والعلوم تحت أسماء المصطلحات والأعلام جميع المصطلحات القديمة وما أقره المجمع من مصطلحات حديثة وما كان وثيق الصلة بالاستعمال الأدبي واللغوي وأورد الأعلام العربية وكل ما له من أهمية تاريخية أو أدبية وفسر هذه الألوان من المعارف والعلوم بدقة ووضوح وإيجاز.
والحق أن المجمع في عمله كان قد طبق منهج المستشرق الألماني فيشر في معجمه (المعجم اللغوي التاريخي) الذي تولى مجمع اللغة العربية في القاهرة نشر مقدمته وقسم من باب الهمزة (ينتهي بمادة (أبد) .) ويظهر- كما ذهب الدكتور إبراهيم مدكور - أن فيشر كان قد احتذى منهج معجم أكسفورد وأراد أن يطبقه على العربية.(11/256)
المصادر والمراجع
1 - أساس البلاغة- الزمخشري (محمود بن عمر ت 358 هـ) الطبعة الأولى بطريقة الأوفست- مطبعة أولاد أورنايد- القاهرة 1372 هـ 1952م.
2 - أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد- الشرتوني (سعيد بن عبد الله الخوري 1849 - 1912م) .
3 - البحث اللغوي عند العرب مع دراسة لقضية التأثير والتأثر - الدكتور أحمد مختار عمر - دار المعارف بمصر - 1971م.
4 - البستان- البستاني (عبد الله بن ميخائيل 1854 م- 1930 المطبعة الأمريكية- بيروت - 1927 م.
5 - التاج (تاج العروس من جواهر القاموس) - الزبيدي (محمد مرتضى الحسيني) - المطبعة الخيرية بمصر 1306 هـ- 1307 هـ.
6 - التكملة (التكملة والذيل والصلة لكتاب تاج اللغة وصحاح العربية) الصغاني (الحسن بن محمد بن الحسن ت 650 هـ) .
7 - التهذيب (تهذيب اللغة) - الأزهري (أبو منصور محمد بن أحمد - 282 هـ 370) مطبعة الدار القومية للطباعة- القاهرة 1384 هـ 1964م.
8 - الجمهرة (جمهرة اللغة) - ابن دريد أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي (ت 321 هـ) - الطبعة الأولى: مطبعة دائرة المعارف في حيدرآباد الدكن - 1344 هـ.
9 - الخليل بن أحمد الفراهيدي أعماله ومنهجه - الدكتور مهدي المخزومي مطبعة الزهراء- بغداد - 1960م.
10 - ديوان الأدب- الفارابي (أبو نصر إسحاق بن إبراهيم ت 350هـ) مخطوط - مكتبة الأوقاف ببغداد رقم 1106.
11 - رواية اللغة- الدكتور عبد الحميد الشلقاني - دار المعارف بمصر 1971.
12 - سر صناعة الإعراب- ابن جني (أبو الفتح عثمان) الجزء الأول منه فقط تحقيق مصطفى السقا وآخرين- الطبعة الأولى مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر 1374 هـ- 1954م.
13 - شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك - ابن عقيل عبد الله بن عقيل العقيلي 698 هـ- 769) تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد الطبعة الرابعة عشرة مطبعة السعادة بمصر 1384 هـ 1964م) .
14 - شرح الشافية (شرح شافية ابن الحاجب) - الرضي الأستراباذي (محمد رضي الدين بن الحسن ت 1093 هـ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد وآخرين- الطبعة الأولى مطبعة حجازي في(11/257)
القاهرة - 1358- 1929 م.
15 - الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية) - الجوهري (إسماعيل بن حماد 332 هـ- 369) تحقيق أحمد عبد الغفور عطار - مطبعة دار الكتاب العربي - القاهرة - 1376 هـ- 1956م) .
16 - ضحى الإسلام- أحمد أمين - الطبعة السابعة مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر- القاهرة 1964 م) .
17 - العين- الخليل (الخليل بن أحمد الفراهيدي 100 هـ- 175) تحقيق الدكتور عبد الله درويش - مطبعة العاني- بغداد 1386 هـ 1967 م (الجزء الأول منه فقط) .
18 - فاكهة البستان- البستاني (عبد الله بن ميخائيل 1854 م- 1930م) . المطبعة الأمريكية- بيروت 1930 م) .
19 - الفهرست- ابن النديم (أبو الفرج محمد بن إسحاق ت 438 مطبعة الاستقامة في القاهرة.
20 - القاموس المحيط- الفيروزآبادي (محمد بن يعقوب بن محمد 729 هـ 817) الطبعة الرابعة- مطبعة دار المأمون- القاهرة 1357 هـ 1938م) .
21 - قطر المحيط- البستاني (بطرس بن بولس بن عبد الله 1819 - 1883) . بيروت - 1870م.
22 - الكتاب- سيبويه (أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر 148 هـ- 180) نسخة مصورة بالأوفست عن الطبعة الأولى- المطبعة الأميرية ببولاق القاهرة - 1316 هـ.
23 - اللسان (لسان العرب) - ابن منظور (محمد بن مكرم بن منظور 630 هـ- 711) - دار صادر ودار بيروت للطباعة والنشر- بيروت 1388 هـ- 1968 م) .
24 - المباحث اللغوية في العراق ومشكلة العربية العصرية الدكتور مصطفى جواد الطبعة الثانية- مطبعة العاني بغداد - 1385 هـ- 1965 م) .
25 - المجمل (مجمل اللغة) - ابن فارس (أبو الحسين أحمد بن فارس ت 395 هـ) تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد - الطبعة الأولى- مطبعة السعادة- القاهرة 1366 هـ- 1947 م (الجزء الأول منه فقط) .
26 - محيط المحيط- البستاني - بطرس البستاني - نسخة مصورة بالأوفست عن الطبعة الأولى 1870 م.
27 - المحكم والمحيط الأعظم في اللغة- ابن سيده (علي بن إسماعيل ت 458 هـ) مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر 1958 م الأجزاء الثلاثة الأولى حققت لمعهد الدراسات العربية العليا في القاهرة.
28 - مختار الصحاح- الرازي (محمد بن أبي بكر بن عبد القادر ت 666 هـ) القاهرة.
29 - مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة اللغة والنحو- الدكتور مهدي المخزومي مطبعة الزهراء- بغداد - 1960م.
30 - المزهر في علوم اللغة وأنواعها- السيوطي (عبد الرحمن بن أبي بكر ت911 هـ) مطبعة عيسى(11/258)
الحلبي وشركاه- القاهرة.
31 - مصادر التراث العربي في اللغة والمعاجم والأدب والتراجم- الدكتور عمر الدقاق - الطبعة الثالثة- دار الشرق- بيروت.
32 - المعاجم العربية- الدكتور حسين نصار - معهد التربية الأنروا- اليونسكو بيروت. القسم الأول trepa \ A \ 8 القسم الثاني prepa \ A \ 9
33 - المعاجم العربية مع اعتناء خاص بمعجم العين للخليل بن أحمد - الدكتور عبد الله درويش - مطبعة الرسالة- القاهرة 1375 هـ 1956م.
34 - معجم الأدباء (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) - ياقوت الحموي (ياقوت بن عبد الله 574 هـ- 626) . نسخة مصورة بالأوفست عن الطبعة الثانية مطبعة هندية- القاهرة 923 م.
35 - المعجم العربي بين الماضي والحاضر- الدكتور عدنان الخطيب مطبعة النهضة الجديدة- القاهرة - 1967م.
36 - المعجم العربي نشأته وتطوره- الدكتور حسين نصار الطبعة الثانية- دار مصر للطباعة- القاهرة - 1968م.
37 - المعجم الكبير- معجم اللغة العربية في القاهرة - مطبعة دار الكتب المصرية القاهرة 1970م (الجزء الأول منه فقط) .
38 - المعجم اللغوي التأريخي- المستعرب الألماني أ. فيشر - الطبعة الأولى المطابع الأميرية- القاهرة - 1387 هـ 1967م (القسم الأول منه فقط) .
39 - معجم متن اللغة- الشيخ أحمد رضا العاملي - دار مكتبة الحياة- بيروت 1958 م.
40 - المعجم الوسيط- معجم اللغة العربية (إبراهيم مصطفى وآخرون) مطبعة مصر- 1380 هـ- 1960م.
41 - المفردات (المفردات في غريب القرآن) الراغب الأصفهاني (أبو القاسم حسين بن محمد ت502 هـ) تحقيق محمد سيد كيلاني مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده في القاهرة 1389 هـ-1969م.
42 - مقاييس اللغة- ابن فارس (أبو الحسين أحمد بن فارس ت 395 هـ) تحقيق عبد السلام محمد هارون - الطبعة الثانية- مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده في القاهرة 1389 هـ- 1970 م.
43 - المكتبة العربية (دراسة لأمهات الكتب في الثقافة العربية) الدكتور عزة حسن دمشق - 1390 هـ- 1970 م (الجزء الأول منه فقط) .
44 - المنجد في اللغة والأدب والعلوم- لويس المعلوف الطبعة الخامسة عشرة- مطبعة الآباء اليسوعيين- بيروت - 1956م.(11/259)
صفحة فارغة(11/260)
الاسم: عبد الله بن حمد بن عبد الله العبودي
مكان الولادة: أشيقر، تاريخها: 1358هـ.
الدراسة بمدرسة أشيقر الابتدائية، ثم بمعهد الرياض العلمي، ثم بكلية الشريعة بالرياض، حصل على شهادة الليسانس من كلية الشريعة عام 1381هـ.
بعد التخرج عين مدرسا بالمرحلة المتوسطة ثم بالمرحلة الثانوية ثم موجها للمواد الدينية لجميع المراحل.
ثم موجها إسلاميا بالرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد (بإدارة الدعوة بالخارج) .
ثم رشح للعمل بإدارة البحوث العلمية - بالأمانة العامة لهيئة كبار العلماء ولا يزال.(11/261)
صفحة فارغة(11/262)
حكم
لعب الأطفال
مجسمة
وغير
مجسمة
إعداد الشيخ: عبد الله بن حمد بن عبد الله العبودي
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد. . .
فحيث وكل إلي عمل بحث في (لعب الأطفال مجسمة وغير مجسمة) يتضمن أقوال العلماء والمفسرين وآراء الفقهاء في ذلك. وحيث لم أجد كلاما مستقلا في كتب المفسرين والمحدثين والفقهاء مما اطلعت عليها يتضمن هذا الموضوع بعينه جملة وتفصيلا، وإنما يشار إلى ذلك في باب البيوع أو اللباس أو التصاوير أو العشرة أو الانبساط إلى الناس، وكلهم مركز على ما ورد عن عائشة رضي الله عنها:(11/263)
«كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمعن منه فيسربهن إلي فيلعبن معي (1) » . رواه البخاري، وأخرج أبو داود والنسائي من وجه آخر عن عائشة رضي الله عنها قالت: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر فذكر الحديث في هتكه الستر الذي نصبته على بابها، قالت: فكشف ناحية الستر على بنات لعائشة (لعب) فقال: (ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي، قالت: ورأى فيها فرسا مربوطا له جناحان فقال: ما هذا؟ قلت فرس، قال: فرس له جناحان؟ قلت: ألم تسمع أنه كان لسليمان خيل لها أجنحة؟ فضحك (2) » .
وأغلب من تكلم منهم عن هذين الحديثين ضمن كلامه آراء علماء وفقهاء عصره، أو من تقدموا عليه، وكل منهم متقارب؛ إذ في الغالب أن المتأخر منهم ينقل عن المتقدم إما نصا أو بزيادة بسيطة تتضمن رأيه وأحيانا رأي علماء عصره في الموضوع، لذا رأيت أن أختار مما اطلعت عليه في هذا الموضوع ما يسر الله لي نقله وكتابته مما أظنه كافيا لأداء الغرض. علما بأني لم أتعرض لأي نقل أو كتابة في موضوع التصوير بذاته؛ إذ يوجد لدى الأمانة فيه كتابات سابقة ولاحقة وتكلم عليه المفسرون والمحدثون والفقهاء والعلماء قديما وحديثا بما هو واضح وجلي والحمد لله. وذلك اقتصارا مني على المطلوب وتوخيا للاختصار.
وخلاصة ما كتب في الموضوع تتضمنها فتوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله تعالى- وكذا ما كتبه والدنا سماحة الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد أثابه الله وجزاه خيرا في كتابه (الجواب المفيد في حكم التصوير) ، وكذا ما كتبه الشيخ (حمود بن عبد الله التويجري) جزاه الله خيرا في كتابه (إعلان النكير على المفتونين بالتصوير) ، وقد نقلت كلامهم ضمن ما كتبته هنا.
هذا وأرجو من الله سبحانه وتعالى أن يوفق عباده المؤمنين لاتباع هديه وشرع نبيه وأن يجنبهم المخالفة إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6130) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2440) ، سنن أبو داود الأدب (4931) ، سنن ابن ماجه النكاح (1982) ، مسند أحمد بن حنبل (6/234) .
(2) سنن أبو داود الأدب (4932) .(11/264)
قال الإمام الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- في باب " الانبساط إلى الناس " بعد هذا الحديث حدثنا محمد أخبرنا أبو معاوية حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمعن منه فيسربهن إلي فيلعبن معي (1) » .
بعدما تكلم رحمه الله عن لغويات الحديث وما يتعلق بها قال:
واستدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ صور البنات واللعب من أجل لعب البنات بهن، وخص ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور، وبه جزم عياض ونقله عن الجمهور، وأنهم أجازوا بيع اللعب للبنات لتدريبهن من صغرهن على أمر بيوتهن وأولادهن، قال: وذهب بعضهم إلى أنه منسوخ وإليه مال ابن بطال، وحكى ابن زيد عن مالك " أنه كره أن يشتري الرجل لابنته الصور"، ومن ثم رجح الداودي أنه منسوخ، وقد ترجم ابن حبان "الإباحة لصغار النساء اللعب باللعب"، وترجم له النسائي "إباحة الرجل لزوجته اللعب بالبنات" فلم يقيد بالصغر وفيه نظر.
قال البيهقي -بعد تخريجه-: ثبت النهي عن اتخاذ الصور فيحتمل على أن الرخصة لعائشة في ذلك كانت قبل التحريم، وبه جزم ابن الجوزي، وقال المنذري: إن كانت اللعب كالصورة فهو قبل التحريم، وإلا فقد يسمى ما ليس بصورة لعبة وبهذا جزم الحليمي فقال: إن كانت صورة كالوثن لم يجز والإ جاز، وقيل: معنى هذا الحديث "اللعب مع البنات، أي الجواري والباء هنا بمعنى مع حكاه ابن التين عن الداودي ورده، قلت: ويرده ما أخرجه ابن عيينة في الجامع من رواية سعيد بن عبد الرحمن المخزومي عنه عن هشام بن عروة في هذا الحديث: «وكن جواري يأتين فيلعبن بها معي (2) » وفي رواية جرير عن هشام: «كنت ألعب بالبنات وهن اللعب (3) » أخرجه أبو عوانة وغيره، وأخرج أبو داود والنسائي من وجه آخر عن عائشة رضي الله عنها قالت: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر (4) » فذكر الحديث في هتكه الستر الذي نصبته على بابها قالت: «فكشف ناحية الستر على بنات لعائشة لعب فقال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي، قالت: ورأى فيها فرسا مربوطا له جناحان فقال ما هذا؟ قلت: فرس، قال: فرس له جناحان؟ قلت: ألم تسمع أنه كان لسليمان خيل لها أجنحة؟ فضحك (5) » فهذا صريح في أن المراد باللعب غير
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6130) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2440) ، سنن أبو داود الأدب (4931) ، سنن ابن ماجه النكاح (1982) ، مسند أحمد بن حنبل (6/234) .
(2) صحيح البخاري الأدب (6130) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2440) ، سنن أبو داود الأدب (4931) ، سنن ابن ماجه النكاح (1982) ، مسند أحمد بن حنبل (6/57) .
(3) صحيح البخاري الأدب (6130) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2440) ، سنن أبو داود الأدب (4931) ، سنن ابن ماجه النكاح (1982) ، مسند أحمد بن حنبل (6/234) .
(4) سنن أبو داود الأدب (4932) .
(5) سنن أبو داود الأدب (4932) .(11/265)
الآدميات. قال الخطابي في هذا الحديث: إن اللعب بالبنات ليس كالتلهي بسائر الصور الذي جاء فيها الوعيد وإنما أرخص لعائشة فيها لأنها إذ ذاك كانت غير بالغ، قلت: وفي الجزم به نظر لكنه محتمل؛ لأن عائشة كانت في غزوة خيبر بنت أربع عشرة سنة إما أكملتها أو جاوزتها أو قاربتها، وأما في غزوة تبوك فكانت قد بلغت قطعا فيترجح رواية من قال في خيبر ويجمع بما قال الخطابي لأن ذلك أولى من التعارض (1) انتهى المراد مما قاله الحافظ ابن جحر -رحمه الله تعالى-.
وحول موضوع "لعب البنات" وهو ما نحن بصدده قال "الشيخ الإمام بدر الدين أبو محمد محمود بن أحمد العيني "- رحمه الله تعالى- في "باب التصاوير" (في باب عذاب المصورين يوم القيامة) ما نصه:
وفي التوضيح قال أصحابنا وغيرهم: تصوير صورة الحيوان حرام أشد التحريم وهو من الكبائر وسواء صنعه لما يمتهن أو لغيره فحرام بكل حال؛ لأن فيه مضاهاة لخلق الله وسواء كان في ثوب أو بساط أو دينار أو درهم أو فلس أو إناء أو حائط، وأما ما ليس فيه صورة حيوان كالشجر ونحوه فليس بحرام، وسواء كان في هذا كله ما له ظل وما لا ظل له، وبمعناه قال جماعة العلماء: مالك والثوري وأبو حنيفة وغيرهم، وقال القاضي: إلا ما ورد في لعب البنات، وكان مالك يكره شراء ذلك (2) .
وقال أيضا رحمه الله تعالى (في باب التصاوير التي ليس فيها روح وما يكره من ذلك) بعدما تكلم عن حكم التصاوير وآراء العلماء في ذلك قال ما نصه:
وقال عياض: وأجمعوا على منع ما كان له ظل ووجوب تغييره إلا ما ورد في اللعب بالبنات لصغار البنات، والرخصة في ذلك، وكره مالك شراء ذلك لابنته، وادعى بعضهم أن إباحة اللعب للبنات منسوخ.
وقال القرطبي: واستثنى بعض أصحابنا من ذلك ما لا يبقى كصور الفخار والشمع وما شاكل ذلك وهو مطالب بدليل التخصيص وقال - رحمه الله تعالى- أيضا في كتاب الآداب " باب الانبساط إلى الناس ":
__________
(1) فتح الباري جزء -10- من صفحة 526- 527.
(2) عمدة القاري جزء 22 صفحة 70.(11/266)
154 (حدثنا محمد أخبرنا أبو معاوية حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها ثم ذكر حديث عائشة السابق الذي ساقه البخاري في باب الانبساط إلى الناس، وتكلم عليه الحافظ ابن حجر في الفتح (1) ثم قال العيني في شرحه لحديث عائشة رضي الله عنها:
مطابقته للترجمة من حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينبسط إلى عائشة حيث يرضى بلعبها بالبنات ويرسل إليها صواحبها حتى يلعبن معها، وكانت عائشة حينئذ غير بالغة، فلذلك رخص لها، والكراهة لها فيها قائمة للبوالغ. ومحمد هو ابن سلام. وجوز الكرماني أن يكون محمد بن المثنى، وأبو معاوية محمد بن خازم بالخاء المعجمة والزاي، وهشام هو ابن عروة، يروي عن أبيه عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، والحديث أخرجه مسلم في الفضائل عن أبي كريب عن أبي معاوية.
قوله: "بالبنات" وهي "التماثيل" التي تسمى لعب البنات وهي مشهورة، وقال الداودي: يحتمل أن تكون الباء بمعنى مع والبنات الجواري. قوله: (صواحب) جمع صاحبة وهي الجواري من أقرانها، قوله: (إذا دخل) أي البيت، قوله: "يتقمعن" منه أي يذهبن ويستترن من النبي صلى الله عليه وسلم وهو من الانقماع من باب الانفعال، وهو رواية الكشميهني. وعند غيره يتقمعن من التقمع من باب التفصل ومادته (قاف وميم وعين مهملة) ، وقال أبو عبيد: يتقمعن يعني يدخلن البيت ويغبن. ويقال: الإنسان قد انقمع وتقمع إذا دخل في الشيء، وقال الأصمعي: ومنه سمي القمع الذي يصب فيه الدهن وغيره لدخوله في الإناء. قوله: "فيسربهن بالسين المهملة" أي يرسلهن من التسريب وهو الإرسال والتسريح، والسارب الذاهب، يقال: سرب عليه الخيل وهو أن يبعث عليه الخيل قطعة بعد قطعة. قوله: (إلي) بتشديد الياء المفتوحة.
واستدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ صور اللعب من أجل لعب البنات بهن، وخص ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور وبه جزم عياض ونقله عن الجمهور، وأنهم أجازوا بيع اللعب للبنات لتدريبهن من صغرهن على أمر بيوتهن وأولادهن، قال: وذهب بعضهم إلى أنه منسوخ وإليه مال ابن بطال وقد ترجم له ابن حبان "الإباحة لصغار النساء اللعب باللعب"، وترجم له النسائي "إباحة الرجل لزوجته اللعب بالبنات"
__________
(1) تقدم الحديث المشار إليه وكلام الحافظ ابن حجر عليه في أول البحث.(11/267)
ولم يقيد بالصغر، وفيه نظر. وجزم ابن الجوزي بأن الرخصة لعائشة في ذلك كانت قبل التحريم، وقال المنذري: إن كانت كالصورة فهي مثل التحريم وإلا فقد يسمى ما ليس بصورة لعبة، وقال الخطابي في هذا الحديث: إن اللعب بالبنات ليس كالتلهي بسائر الصور التي جاء فيها الوعيد، وإنما رخص لعائشة رضي الله تعالى عنها فيها لأنها إذ ذاك كانت غير بالغ (1) انتهى المقصود من إيراد ما ذكره العيني رحمه الله تعالى.
وقال النووي رحمه الله تعالى في الكلام عن التصوير في باب "تحريم صورة الحيوان" في شرحه لصحيح مسلم ما نصه:
وأجمعوا على منع ما كان له ظل ووجوب تغييره. قال القاضي: إلا ما ورد في اللعب بالبنات لصغار البنات والرخصة في ذلك. لكن كره مالك (شراء الرجل ذلك لابنته) .
وادعى بعضهم أن إباحة اللعب لهن بالبنات منسوخ بهذه الأحاديث، والله أعلم (2) .
انتهى المراد من كلامه رحمه الله تعالى.
وقال أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن) في تفسير قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} (3) .
قال فيه ثماني مسائل: إلى أن قال:
الثانية: وقد استثني من هذا الباب لعب البنات لما ثبت عن عائشة رضي الله عنها لأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت سبع سنين، وزفت إليه وهي بنت تسع ولعبها معها، ومات عنها وهي بنت ثماني عشرة، وعنها أيضا قالت: «كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمعن منه فيسربهن إلي فيلعبن معي (4) » أخرجهما مسلم.
قال العلماء: وذلك للضرورة إلى ذلك وحاجة البنات حتى يتدربن على تربية أولادهن، ثم إنه لا بقاء لذلك. وكذلك ما يصنع من الحلاوة أو من العجين لا بقاء له،
__________
(1) عمدة القاري جزء 22 صفحة -70- وما بعدها.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم جزء 14 صفحة 82.
(3) سورة سبأ الآية 13
(4) صحيح البخاري الأدب (6130) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2440) ، سنن أبو داود الأدب (4931) ، سنن ابن ماجه النكاح (1982) ، مسند أحمد بن حنبل (6/234) .(11/268)
فرخص في ذلك والله أعلم (1) .
انتهى المراد من كلام القرطبي رحمه الله تعالى.
وقال الإمام " محمد بن علي الشوكاني رحمه الله تعالى في كتابه نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار في (باب إحسان العشرة وبيان حق الزوجين) بعد إيراده هذا الحديث الآتي:
3 - وعن عائشة قالت: «كنت ألعب بالبنات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته "وهن اللعب") (2) » ، الحديث. قوله: (بالبنات) قال في القاموس: والبنات التماثيل الصغار يلعب بها انتهى.
وقوله (اللعب) بضم اللام جمع لعبة قال في القاموس: واللعبة بالضم التمثال وما يلعب به كالشطرنج ونحوه.
قوله: (يتقمعن) قال في القاموس: (تقمع) دخل البيت مستخفيا وفي هذا الحديث دليل على أنه يجوز تمكين الصغار من اللعب بالتماثيل.
وقد روي عن مالك (أنه كره للرجل أن يشتري لبنته ذلك) وقال القاضي عياض: إن اللعب بالبنات للبنات الصغار رخصة.
وحكى النووي عن بعض العلماء "أن إباحة اللعب لهن بالبنات منسوخة بالأحاديث الواردة في تحريم الصور ووجوب تغييره " (3) .
انتهى المقصود من إيراده.
وحول موضوع (لعب البنات) قال الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن مفلح المقدسي الحنبلي رحمه الله تعالى ما نصه:
" فصل- في إباحة اللعب للبنات ومن قيدها بغير المصورة"
لولي الصغيرة الإذن لها في اللعب بلعب غير مصورة نص عليه، قال في الرعاية
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن جزء14 صفحة 274 مطبعة دار الكتب المصرية.
(2) صحيح البخاري الأدب (6130) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2440) ، سنن أبو داود الأدب (4931) ، سنن ابن ماجه النكاح (1982) ، مسند أحمد بن حنبل (6/234) .
(3) نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار جزء 6 صفحة 359.(11/269)
الكبرى: وله شراؤها بمالها نص عليه، وقيل: بل بماله. وقال في التلخيص: هل يشتريها من مالها أو من ماله؟ فيه احتمالان. قال ابن حمدان: المراد بالمصورة ما لها جسم مصنوع له طول وعرض وعمق.
وقال القاضي في الأحكام السلطانية في فصل والي الحسبة: وأما اللعب فليس يقصد بها المعاصي وإنما يقصد بها إلف البنات لتربية الأولاد، ففيها وجه من وجوه التدبير يقارنه معصية بتصوير ذات الأرواح ومشابهة الأصنام، فللتمكين منها وجه وللمنع منها وجه بحسب ما تقتضيه شواهد الأحوال يكون إنكاره وإقراره، وظاهر كلام الإمام أحمد المنع منها وإنكارها إذا كانت على صورة ذوات الأرواح، قال في رواية المروذي: وقد سئل عن الوصي يشتري للصبية لعبة إذا طلبت، فقال: إن كانت صورة فلا، وقال: في رواية بكر بن محمد وقد سئل عن حديث عائشة «كنت ألعب بالبنات (1) » ، قال لا بأس بلعب اللعب إذا لم يكن فيه صورة، فإذا كان فيه صورة فلا، وظاهر أنه منع من اللعب بها إذا كانت صورة، وقد روى أحمد بإسناده عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة وهي تلعب بالبنات، ومعها جوار فقال: ما هذه يا عائشة؟ فقالت: هذا خيل سليمان، فجعل يضحك من قولها صلى الله عليه وسلم» قال أحمد: وهو غريب لم أسمعه من غيرهم عن يحيى بن سعيد. انتهى كلام القاضي وفي الصبح (أنها كانت في متاع عائشة رضي الله عنها لما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم) فمن العلماء من جعله مخصوصا من عموم الصور، ومنهم من جعله في أول الأمر قبل النهي عن الصور ثم نسخ، وذكر القاضي عياض أنه قول جمهور العلماء. (2) .
ومما كتبه العالم \ محمد السفاريني الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه: (غذاء الألباب شرح منظومة الآداب) ما يلي:
- مطلب في حكم شراء اللعبة لليتيمة-
وحل شراه لليتيمة لعبة ... بلا رأس أن تطلب وبالرأس فاصدد
(وحل شراه) أي الولي (لليتيمة) القاصرة عن درجة البلوغ (لعبة) بالضم تمثالا تلعب به بشرط كونه بلا رأس حتى يخرج عن التصاوير المحرمة.
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6130) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2440) ، سنن أبو داود الأدب (4931) ، سنن ابن ماجه النكاح (1982) ، مسند أحمد بن حنبل (6/234) .
(2) الآداب الشرعية والمنح المرعية جزء 3 صفحة 517.(11/270)
(أن تطلب) اليتيمة ذلك، فظاهره عدم الحل إن لم تطلبه وليس مرادا. وإنما قيده بذلك لما يأتي من النص وليستقيم الوزن والله الموفق.
وأما اللعبة (بالرأس) التي تكون على هيئة ذي الروح من الحيوان (فاصدد) لها عن اللعب بها وامنعها.
ولا يشتري ما كان من ذاك صورة ... ومن ماله لا مالها في المجرد
ولا يشتري الولي (ما) الذي (كان) هو (من ذاك) اسم إشارة يرجع إلى المذكور أو التمثال أي ولا يشتري ما كان من التمثال أو الشيء المذكور (صورة) أي ذا صورة؛ لأنه محرم.
قال في الآداب الكبرى: لولي الصغيرة الإذن لها في اللعب باللعب غير المصورة، نص عليه فظاهر كلامه عدم اختصاصه باليتيمة وهو كذلك.
ولذلك عبر في الإقناع بقوله: " وللولي أن يأذن للصغيرة أن تلعب بلعب غير مصورة أي بلا رأس "، انتهى. وكذا في الفروع وغيره.
وكلام النظم يخص اليتيمة والحق الشمول لقضية عائشة رضي الله عنها قال القاضي في الأحكام السلطانية في (فصل والي الحسبة) : وأما اللعب فليس يقصد بها المعاصي وإنما يقصد بها إلف البنات لتربية الأولاد، ففيها وجه من وجوه التدبير يقارنه معصية بتصوير ذوات الأرواح ومشابهة الأصنام فللتمكين منها وبحسب ما يقضيه شواهد الأحوال يكون إقراره وإنكاره يعني إن كانت قرينة الحال تقتضي المصلحة أقره، وإلا أنكره.
وظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله الإنكار إذا كانت على صورة ذوات الأرواح فإنه سئل عن الوصي يشتري للصبية لعبة إذا طلبت فقال: إن كانت صورة فلا. وقال في رواية بكر بن محمد وقد سأله عن حديث عائشة رضي الله عنها «كنت ألعب بالبنات (1) » فقال: لا بأس بلعب اللعب إذا لم يكن فيها صورة، فإن كان فيها صورة فلا.
وروى أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وهي تلعب بالبنات ومعها جوار، فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقالت: هذا خيل سليمان. قال: فجعل يضحك من قولها» . قال الإمام أحمد هو غريب.
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6130) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2440) ، سنن أبو داود الأدب (4931) ، سنن ابن ماجه النكاح (1982) ، مسند أحمد بن حنبل (6/234) .(11/271)
وفي الصحيح أنها كانت في متاع عائشة لما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن العلماء من جعله مخصوصا من عموم الصور، ومنهم من جعل هذا في أول الأمر ثم نسخ، قال القاضي عياض: هو قول الجمهور من العلماء.
قلت: وممن ذكر الخصوصية الإمام النووي فقال في شرح صحيح مسلم: قال ابن حزم: (وجائز للصبايا خاصة اللعب بالصور ولا يجوز لغيرهن. والصور محرمة إلا هذا إلا ما كان رقما في ثوب) انتهى.
وقد علمت حرمه كونه رقما في ثوب. وكذا لعبة ما لم تكن على غير صور ذوات الأرواح من نحو شجرة أو بلا رأس. والله أعلم.
وحيث جاز شراء الولي للعبة فثمنها من ماله أي من مال الولي لا من مالها أي اليتيمة على ما في كتاب الإمام الأوحد، والهمام الأمجد، حامل لواء مذهب سيدنا الإمام أحمد القاضي أبي يعلى طيب الله ثراه، وجعل الفردوس مأواه المسمى (بالمجرد) .
وقال في الرعاية الكبرى. وله شراؤها بمالها، نص عليه، وقيل: بل بماله وفي التلخيص: هل يشتريها من مالها أو من ماله؟ فيه احتمالان:
وفي الإنصاف: للولي أن يأذن للصغيرة أن تلعب باللعب إذا كانت غير مصورة وشراؤه لها بمالها. نص عليهما. وهذا المذهب.
وقيل من ماله، وصححه الناظم في آدابه وهما احتمالان مطلقان في التلخيص في باب اللباس. انتهى.
وقال ابن حمدان: المراد بالصورة ما لها جسم مصنوع له طول وعرض وعمق. قلت: والمعتمد له شراؤها من مالها كما جزم به في الإقناع وغيره والله الموفق (1) .
انتهى ما قاله السفاريني رحمه الله تعالى.
ومما ورد في كتاب (كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع) لمؤلفه أبي العباس أحمد بن محمد بن علي بن حجر المكي الهيثمي رحمه الله تعالى.
__________
(1) غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب جزء 2 -صفحة 212- 213.(11/272)
قال: وأما المصور صورة الحيوان فإن كان معلقا على حائط أو سقف كثوب أو عمامة أو نحوها مما لا يعد ممتهنا فحرام أو ممتهنا كبساط يداس ومخدة ووسادة ونحوها فلا يحرم، لكن هل يمنع دخول ملائكة الرحمة ذلك البيت؟ الأظهر أنه عام في كل صورة لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة (1) » ولا فرق بين ما له ظل ولا ما لا ظل له، هذا تلخيص مذهب جمهور علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم كالشافعي، ومالك، والثوري، وأبي حنيفة وغيرهم وأجمعوا على تغيير ما له ظل.
قال القاضي: إلا ما ورد في لعب البنات الصغار من الرخصة، ولكن كره مالك شراء الرجل ذلك لبنته. وادعى بعضهم أن إباحة اللعب لهن منسوخ- انتهى (2) .
وقال الشيخ (محمد رشيد رضا) رحمه الله تعالى (3) :
في باب (في باب (حكم التصوير وصنع الصور والتماثيل واتخاذها) بعدما ذكر حديث عائشة السابق في اللعب بالبنات. قال: وقد حرف بعض المشددين في مسألة الصور هذا الحديث فزعم أن معنى قولها: (كنت ألعب بالبنات) (كنت ألعب مع البنات) ثم ذكر كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى على الحديث، وعلق على شرحه لما قاله الخطابي بقوله:
قال الخطابي في شرح حديث اللعب: أن اللعب بالبنات ليس كالتلهي بسائر الصور التي جاء فيها الوعد وإنما رخص لعائشة فيها لأنها إذ ذاك كانت غير بالغ. ثم قال:
قال الحافظ عقب نقله: وفي الجزم به نظر لكنه محتمل؛ لأن عائشة كانت في غزوة خيبر بنت أربع عشرة سنة إما أكملتها أو جاوزتها أو قاربتها، وأما في غزوة تبوك فكانت قد بلغت قطعا، فيترجح رواية من قال في خيبر. ويجمع بما قال الخطابي؛ لأن ذلك أولى من التعارض. اهـ.
وأقول: إن هذا ليس بجمع إذ لو كانت لعب البنات محرمة لما أقر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وصواحبها عن اللعب بها وإن كن غير بالغات، ولما تركها في بيته.
والصواب أن هذا اللعب لا تدخل في عموم ما أنكره من الصور المعلقة، بل هي
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3322) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2106) ، سنن الترمذي الأدب (2804) ، سنن النسائي الزينة (5348) ، سنن ابن ماجه اللباس (3649) ، مسند أحمد بن حنبل (4/30) .
(2) كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع.
(3) فتاوى الشيخ (محمد رشيد رضا) ، المجلد الرابع صفحة 1401- 1402.(11/273)
أشبه بما أقره من الصور في الوسائد والمرافق في أن كلا منهما لا يشبه ما كان يعبد من الصور والتماثيل (1) .
انتهى المراد من فتاوى الشيخ (محمد رشيد رضا) .
ومن فتاوى ورسائل لسماحة الشيخ (محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ) طيب الله ثراه. جمع وترتيب وتحقيق محمد بن عبد الرحمن بن قاسم وفقه الله. الطبعة الأولى الجزء الأول.
قرأت في ص 180 كلاما جامعا وفتوى مقنعة حول هذا الموضوع ونصه ما يلي:
100 - الصور المجسمة الصغيرة ولعب عائشة رضي الله عنها.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد: فقد نشرت جريدة البلاد السعودية بعددها 1419 الصادر في يوم الثلاثاء الموافق 9 \ 4 - 73 حول مطالعات أحمد إبراهيم الغزاوي بعنوان " عرائس البنات " تعليقا قالت فيه: إن عرائس البنات ولعب الأولاد أو الدمى لا زالت حاجة ملحة من حاجات الطفولة تدخل إلى الأطفال المسرة، وتشيع البهجة في نفوسهم، إلا أن هذه اللعب "الدمى" قد تطورت مع الزمن كما تطور كل شيء في الدنيا فأخذت تصنعها المصانع فزادت فيها تشويقا وتلوينا وتنويعا ولكنها لم تخرج عن حقيقتها كلعب أطفال. فهل يختلف الحكم في هذه اللعب عن الحكم على لعب عائشة رضي الله عنها؟
وقد وجهت الجريدة إلي استفتاءها في ذلك فأقول مستعينا بالله تعالى:
نعم يختلف حكم هذه الحادثة الجديدة عن حكم لعب عائشة رضي الله عنها، لما في هذه الجديدة الحادثة من حقيقة التمثيل والمضاهاة والمشابهة بخلق الله تعالى لكونها صورا تامة بكل اعتبار، ولها من المنظر الأنيق والصنع الدقيق والرونق الرائع ما لا يوجد مثله، ولا قريب منه في الصور التي حرمتها الشريعة المطهرة. وتسميتها لعبا وصغر أجسامها لا يخرجها عن أن تكون صورا؛ إذ العبرة في الأشياء بحقائقها لا بأسمائها. فكما أن الشرك شرك
__________
(1) فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا المجلد الرابع صفحة 1409.(11/274)
وإن سماه صاحبه استشفاعا وتوسلا، والخمر خمر وإن سماها صاحبها نبيذا ".
فهذه صور حقيقية وإن سماها صانعوها والمتاجرون فيها والمفتونون بالصور لعب أطفال، وفي الحديث: «يجيء في آخر الزمان أقوام يستحلون الخمر يسمونها بغير اسمها (1) » .
ومن زعم أن لعب عائشة رضي الله عنها صور حقيقية لذوات الأرواح فعليه إقامة الدليل ولن يجد إلى ذلك سبيلا، فإنها ليست منقوشة ولا منحوتة ولا مطبوعة من المعادن المنطبقة ولا نحو ذلك. بل الظاهر أنها من عهن أو قطن أو خرق أو قصبة، أو عظم مربوط في عرضه عودا معترضا بشكل يشبه الموجود في اللعب في أيدي البنات الآن في البلدان العربية البعيدة عن التمدن والحضارة مما لا تشبه الصورة المحرمة إلا بنسبة بعيدة جدا؛ لما في صحيح البخاري من «أن الصحابة يصومون أولادهم فإذا طلبوا الطعام أعطوهم اللعب من العهن يعللونهم بذلك (2) » . ولما في سنن أبي داود وشرحها من حديث عائشة من ذكر الفرس ذي أربعة أجنحة من رقاع يعني من خرق، ولما علم من حال العرب من الخشونة غالبا في أوانيهم ومراكبهم وآلاتهم آلات اللعب وغيرها. وفيما ذكرت ها هنا مقنع لمريد الحق إن شاء الله تعالى.
ثم ليعلم أن تطور الزمن بأي نسبة لا يخرج شيئا عن حكمه الشرعي؛ إذ رفع حكم ثبت شرعا بالحوادث لا يجوز بحال لأنه يكون نسخا بالحوادث، ويفضي إلى رفع الشرع رأسا وربما شبه ها هنا بعض الجهلة بقول عائشة رضي الله عنها: "لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المساجد، ولا حجة فيه بحمد الله على تغيير الأحكام الثابتة شرعا بالحوادث، فإن عائشة ردت الأمر إلى صاحب الشرع فقالت: لو رأى لمنع. ولم تمنع هي، ولم تر لأحد أن يمنع، وهذا واضح بحمد الله، والله الموفق.
محمد بن إبراهيم آل الشيخ - الرياض 22 \ 5 \ 1373 هـ.
انتهى المراد من كلامه رحمه الله تعالى.
__________
(1) سنن النسائي الأشربة (5658) ، مسند أحمد بن حنبل (4/237) .
(2) صحيح البخاري الصوم (1960) ، صحيح مسلم الصيام (1136) ، مسند أحمد بن حنبل (6/359) .(11/275)
ومما كتبه سماحة والدنا الشيخ (عبد العزيز بن عبد الله بن باز) أثابه الله وجزاه خير الجزاء في كتابه (الجواب المفيد في حكم التصوير) ، قال:
وأما اللعب المصورة على صورة شيء من ذوات الأرواح فقد اختلف العلماء في جواز اتخاذها للبنات وعدمه.
وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: «كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم (1) » . . .) الحديث. بعدما ذكر هذا الحديث وذكر كلام الحافظ في الفتح عليه (2) .
قال بعد ذلك: إذا عرفت ما ذكره (الحافظ) رحمه الله تعالى فالأحوط ترك اتخاذ اللعب المصورة؛ لأن في حلها شكا لاحتمال أن يكون إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة على اتخاذ اللعب المصورة قبل الأمر بطمس الصور فيكون ذلك منسوخا بالأحاديث التي فيها الأمر بمحو الصور وطمسها إلا ما قطع رأسه أو كان ممتهنا كما ذهب إليه البيهقي وابن الجوزي ومال إليه ابن بطال.
ويحتمل أنها مخصوصة من النهي كما قاله الجمهور لمصلحة التمرين، ولأن في لعب البنات بها نوع امتهان.
ومع الاحتمال المذكور والشك في حلها الأحوط تركها، وتمرين البنات بلعب غير مصورة حسما لمادة بقاء الصور المجسدة، وعملا بقوله صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (3) » ، وقوله في حديث النعمان بن بشير المخرج في الصحيحين مرفوعا: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه (4) » والله أعلم (5) .
انتهى ما كتبه سماحته حفظه الله في هذا الموضوع.
ومما كتب في بحث اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برقم 40 وتاريخ 28 \ 6 \ 1394 هـ حول هذا الموضوع ما يلي:
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6130) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2440) ، سنن أبو داود الأدب (4931) ، سنن ابن ماجه النكاح (1982) ، مسند أحمد بن حنبل (6/234) .
(2) تقدم في أول البحث حديث عائشة بأكمله وكلام الحافظ عليه.
(3) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) .
(4) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .
(5) الجواب المفيد- في حكم التصوير صفحة 20 وما بعدها- رسالة صغيرة مطبوعة وتوزع مجانا.(11/276)
تحت عنوان 3- (ما يباح اتخاذه من الصور)
أ- يجوز اتخاذ صور ليلعب بها الصبيان ولو كانت مجسمة على خلاف في ذلك فقد روى البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لي صواحب يلعبن معي فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمعن منه، فيسربهن إلي فيلعبن معي (1) » ، وقد أول من منع من ذلك قول عائشة كنت ألعب بالبنات، فقال: معناه كنت ألعب مع البنات عند النبي صلى الله عليه وسلم.
ويروى ما رواه أبو داود والنسائي من وجه آخر عن عائشة قالت: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر (2) » . . . إلى أن قالت: «فكشف ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب فقال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي، ورأى فيها فرسا مربوطا له جناحان، فقال: ما هذا؟ قلت: فرس، قال: فرس له جناحان، قلت: ألم تسمع أنه كان لسليمان خيل لها أجنحة فضحك (3) » ، فهذا صريح في أن المراد باللعب التماثيل المجسمة لا بنات من بني آدم.
ويرده أيضا أنه يلزم على هذا التفسير أن يكون لها بعد: «وكان لي صواحب يلعبن معي (4) » لغوا لكونه مكررا.
وإنما أقر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة والجواري على اللعب بهذه الصور إما لصغرهن، وهذا يرجح أن قدومه صلى الله عليه وسلم كان من غزوة خيبر، وإما لامتهان هذه الصور باللعب بها.
ب - يجوز اتخاذ صور ذوات الأرواح إذا كانت في فرش ممتهنة تداس وتوطأ، كما يجوز اتخاذها واستعمالها بعد أن تقطع رءوسها أو تطمس حتى تقطع معالمها.
ج - أجاز بعض العلماء الصور التي لا استقرار لها كصور الحلوى وصور الفخار إلحاقا لها بالممتهنة، ومنع منها آخرون لعموم نصوص المنع.
ومن أحسن ما كتب في هذا الموضوع ما كتبه الشيخ \ حمود بن عبد الله التويجري جزاه الله خيرا في كتابه (إعلان النكير على المفتونين بالتصوير) قال:
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6130) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2440) ، سنن أبو داود الأدب (4931) ، سنن ابن ماجه النكاح (1982) ، مسند أحمد بن حنبل (6/234) .
(2) سنن أبو داود الأدب (4932) .
(3) سنن أبو داود الأدب (4932) .
(4) صحيح البخاري الأدب (6130) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2440) ، سنن أبو داود الأدب (4931) ، سنن ابن ماجه النكاح (1982) ، مسند أحمد بن حنبل (6/234) .(11/277)
فصل
ومن أقوى ما يتعلق به المصورون أيضا حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم (1) » . . .) الحديث.
وقال بعده: رواه الشافعي وأحمد والشيخان وأهل السنن إلا الترمذي، وفي رواية لمسلم: «كنت ألعب بالبنات في بيته (2) » وهن اللعب.
وعنها رضي الله عنها قالت: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب فقال: (ما هذا يا عائشة، قالت: بناتي ورأى بينهن فرسا له جناحان من رقاع، فقال: ما هذا الذي أرى وسطهن؟ قالت: فرس، قال: وما هذا الذي عليه؟ قالت: جناحان، قال: فرس له جناحان؟ قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة؟ قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه (3) » رواه أبو داود والنسائي. ثم لما ذكر بعد ذلك كلام الحافظ ابن حجر في فتح الباري إلى قوله: وبهذا جزم الحليمي فقال: إن كانت صورة كالوثن لم يجز وإلا جاز، ثم قال: انتهى المقصود مما ذكره ابن حجر رحمه الله تعالى (4) . قال بعد ذلك: وأحسن هذه الأقوال وأقربها إلى الصواب قول المنذري والحليمي.
وأما ما جزم به عياض وغيره من جواز اتخاذ صور البنات وأن ذلك مخصوص من عموم النهي عن اتخاذ الصور فإنه قول مردود. والجواب عنه من وجوه:
أحدها: أنه ليس في حديث عائشة رضي الله عنها تصريح بأن لعبها كانت صورا حقيقية وبانتفاء التصريح بأنها كانت صورا حقيقية ينبغي الاستدلال بالحديث على جواز اتخاذ اللعب من الصور الحقيقية.
ومن ادعى أن لعب عائشة كانت صورا حقيقية فعليه إقامة الدليل على ذلك ولن يجد إلى الدليل سبيلا.
وأما تسمية اللعب بنات كما في حديث عائشة رضي الله عنها فلا يلزم منه أنها كانت صورا حقيقية كما قد يظن ذلك من قصر فهمه.
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6130) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2440) ، سنن أبو داود الأدب (4931) ، سنن ابن ماجه النكاح (1982) ، مسند أحمد بن حنبل (6/234) .
(2) صحيح البخاري الأدب (6130) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2440) ، سنن أبو داود الأدب (4931) ، سنن ابن ماجه النكاح (1982) ، مسند أحمد بن حنبل (6/234) .
(3) سنن أبو داود الأدب (4932) .
(4) انظر كلام الحافظ في أول البحث.(11/278)
بل الظاهر -والله أعلم- أنها كانت على نحو لعب بنات العرب في زماننا فإنهن يأخذن عودا أو قصبة أو خرقة ملفوفة أو نحو ذلك فيضعن قريبا من أعلاه عودا معترضا ثم يلبسنه ثيابا ويضعن على أعلاه نحو خمار المرأة، وربما جعلنه على هيئة الصبي في المهد ثم يلعبن بهذه اللعب ويسمينهن بنات لهن على وفق ما هو مروي عن عائشة وصواحباتها رضي الله عنهن.
وقد رأينا البنات يتوارثن اللعب بهذه اللعب اللاتي وصفنا زمانا بعد زمان، ولا يبعد أن يكون هذا التوارث قديما ومستمرا في بنات العرب من زمان الجاهلية إلى زماننا هذا والله أعلم.
وليس كل بنات العرب في زماننا هذا يلعبن باللعب اللاتي وصفنا، بل كثير منهن يلعبن بالصور الحقيقية من صور البنات وغير البنات من أنواع الحيوانات، وهؤلاء هن اللاتي دخلت عليهن وعلى أهليهن المدنية الإفرنجية، وكثرت مخالطتهم للأعاجم وأشباه الأعاجم.
وأما السالمات من أدناس المدنية الإفرنجية ومن مخالطة نساء الأعاجم وأشباه الأعاجم فهؤلاء لم يزلن على طريقة بنات العرب ولعبهن على ما وصفنا من قبل، وكما أن بين لعب هؤلاء وأولئك بونا بعيدا في الحقيقة والشكل الظاهر فكذلك الحكم فيها مختلف أيضا. فأما اللعب اللاتي على ما وصفنا فلا بأس بعملهن واتخاذهن واللعب بهن؛ لأنهن لسن صورا حقيقية، وأما اللعب اللاتي على صور البنات وأنواع الحيوانات فصناعتهن حرام، وبيعهن حرام، وشراؤهن واتخاذهن حرام، والتلهي بهن حرام، وإتلافهن واجب على من قدر على ذلك؛ لأنهن من الأصنام. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بطمس الأصنام كما تقدم في حديث علي رضي الله عنه.
والقول في الفرس الذي كان في لعب عائشة رضي الله عنها كالقول في لعبها سواء،(11/279)
ومن ادعى أنها كانت صورة حقيقية لها رأس ووجه فعليه إقامة الدليل على ذلك ولن يجد إليه سبيلا.
والظاهر -والله أعلم- أنها على نحو لعب صبيان العرب في زماننا فإنهم يأخذون العظم ونحوه ويجعلون عليه شبه الأكاف ويسمونه حمارا وربما سموه فرسا. ويأخذون أيضا من كرب النخل ويغرزون في ظهر كل واحدة عودين كهيئة عودي الرحل ثم يضعون بينهما شبه ما يوضح على النجائب من الأخراج وغيرها ويجعلون لها مقودا يمدونها به، وربما اتخذوا ذلك من خشبة منجورة في أعلاها السنام وبين يديه ومن خلفه عودان كهيئة عودي الرحل يوضع بينهما شبه ما يوضع على النجائب ومن أمامها عود كهيئة الرقبة يوضع فيه المقود ولها أربع عجلات تمشي عليهن ويسمون هذه اللعب والتي قبلها إبلا. وليست هذه اللعب من الصور المحرمة في شيء والنسبة بينهما وبين الصور الحقيقية بعيدة جدا.
ومما يدل على أن الفرس كانت على نحو لعب صبيان العرب ولم يكن صورة حقيقية أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عائشة رضي الله عنها ما هذا؟ فقالت: فرس. ولو كانت صورة حقيقية لعرفه النبي صلى الله عليه وسلم من أول وهلة ولم يحتج إلى سؤال عائشة عنه- وكذلك سؤاله صلى الله عليه وسلم عن اللعب يدل على أنها لم تكن صورا حقيقية، ولو كانت صورا حقيقية لم يحتج إلى السؤال عنها والله أعلم.
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على عائشة رضي الله عنها نصب الستر الذي فيه الصور، وتلون وجهه لما رآه ثم تناوله بيده الكريمة فهتكه، وقد قدمت الأحاديث بذلك.
وهذا يدل على أن لعب عائشة رضي الله عنها لم تكن صورا حقيقية، ولو كانت صورا حقيقية لكانت أولى بالتغيير من الصور المرموقة في الستر؛ لأن الصور المجسدة أقرب إلى مشابهة الحيوانات وأبلغ في المضاهاة بخلق الله تعالى من الصور المرموقة؛ فكانت أشد تحريما وأولى بالتغيير من الصور المرموقة.
الوجه الثالث: ما تقدم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم «لم يكن يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إلا نقضه (1) » وفي رواية: إلا قضبه. وفي رواية: تصاوير بدل تصاليب. وصيغة هذا الحديث تقتضي العموم؛ لأن شيئا نكرة في سياق النفي فتعم كل
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5952) ، سنن أبو داود اللباس (4151) ، مسند أحمد بن حنبل (6/216) .(11/280)
صليب وصورة، وهذا يدل على أن لعب عائشة رضي الله عنها لم تكن صورا حقيقية، ولو كانت صورا حقيقية لقضبها النبي صلى الله عليه وسلم كسائر التصاليب والصور.
الوجه الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ولا صورة، وقد تقدمت الأحاديث بذلك، «وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام أنه أتاه ليلة فلم يدخل البيت من أجل كلب فيه، ومن أجل ما فيه من تمثال الرجال، ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: مر بقطع رأس التمثال وإخراج الكلب (1) » . وهذا يدل على أن لعب عائشة رضي الله عنها لم تكن صورا حقيقية، ولو كانت صورا حقيقية لمنعت الملائكة من دخول بيتها، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليترك في بيته شيئا يمنع من دخول الملائكة فيه، فتعين أن لعب عائشة رضي الله عنها لم تكن صورا حقيقية وإنما هي على نحو ما وصفته في الوجه الأول.
الوجه الخامس: ما تقدم من رواية عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة فأمر بها فأخرجت (2) » .
وفي رواية: «أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت (3) » .
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد امتنع من دخول الكعبة مرة واحدة من أجل ما فيها من الصور فكيف يظن به أنه كان يدخل بيت عائشة رضي الله عنها في اليوم والليلة مرارا متعددة وفيه الصور؟ فتعين أن لعب عائشة رضي الله عنها لم تكن صورا حقيقية، وبهذا تجتمع الأحاديث وينتفي عنها التعارض.
الوجه السادس. ما تقدم من حديث أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي رضي الله عنه: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته (4) » . وفي رواية: «ولا صورة إلا طمستها (5) » .
وفي رواية: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليا رضي الله عنه أن يسوي كل قبر ويطمس كل صنم (6) » . والفكرة في هذا الحديث من صيغ العموم كما تقدم تقرير ذلك، ويستفاد من هذا أن لعب عائشة رضي الله عنها لم تكن صورا حقيقية، ولو كانت صورا حقيقية لكانت داخلة في عموم ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بطمسه. ولم يجئ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا حرف واحد يقتضي استثناء لعب عائشة رضي الله عنها من هذا العموم؛ فتعين كونها من غير الصور الحقيقية.
__________
(1) سنن الترمذي الأدب (2806) ، سنن النسائي الزينة (5365) ، سنن أبو داود اللباس (4158) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2117) ، مسند أحمد بن حنبل (1/347) .
(2) صحيح البخاري المغازي (4289) .
(3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3352) ، صحيح مسلم الحج (1330) ، سنن أبو داود المناسك (2027) .
(4) صحيح مسلم الجنائز (969) ، سنن الترمذي الجنائز (1049) ، سنن النسائي الجنائز (2031) ، سنن أبو داود الجنائز (3218) ، مسند أحمد بن حنبل (1/150) .
(5) صحيح مسلم الجنائز (969) ، سنن الترمذي الجنائز (1049) ، سنن النسائي الجنائز (2031) ، سنن أبو داود الجنائز (3218) ، مسند أحمد بن حنبل (1/139) .
(6) صحيح مسلم الجنائز (969) ، سنن الترمذي الجنائز (1049) ، سنن النسائي الجنائز (2031) ، سنن أبو داود الجنائز (3218) ، مسند أحمد بن حنبل (1/89) .(11/281)
الوجه السابع. ما تقدم من حديث علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من عاد لصنعة شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (1) » ، وفي هذا الزجر الأكيد أوضح دليل على تحريم اتخاذ الصور كلها، ولا فرق بين أن تكون لعبا أو غير لعب.
وأكثر الأحاديث التي تقدم ذكرها تدل على ما دل عليه هذا الحديث من عموم تحريم الصنعة والاتخاذ لكل صورة من صور ذوات الأرواح؛ وعلى هذا فيتعين القول بأن لعب عائشة رضي الله عنها لم تكن صورا حقيقية.
الوجه الثامن: أن التخصيص نوع من النسخ لكونه رفعا لبعض أفراد الحكم العام بدليل خاص، والنسخ لا بد فيه من أمرين:
أحدها: ثبوت دليل النسخ.
والثاني: تأخر تاريخه عن تاريخ المنسوخ.
وإذا فرضنا إمكان ما زعمه عياض وغيره من تخصيص صور البنات من عموم النهي عن الصور بناء على أن لعب عائشة رضي الله عنها كانت صورا حقيقية فلا بد إذا من إقامة الدليل على أن لعب عائشة رضي الله عنها كانت صورا حقيقية.
ولا بد أيضا من ثبوت التخصيص بأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم رأى تلك الصور عند عائشة رضي الله عنها بعد نهيه العام عن الصور فأقرها على الاتخاذ. وإذا كان كل من الأمرين معدوما فلا شك في بطلان ما زعمه عياض ومن قال بقوله.
وقد قال المروذي في كتاب الورع (باب كراهة شراء اللعب وما فيه الصور) : قيل لأبي عبد الله -يعني الإمام أحمد بن حنبل - ترى للرجل الوصي تسأله الصبية أن يشتري لها لعب؟ فقال: إن كانت صورة فلا. وذكر فيها شيئا.
قلت: الصورة إذا كانت يدا أو رجلا؟ فقال عكرمة: يقول: كل شيء له رأس فهو صورة، قال أبو عبد الله: فقد يصيرون لها صدرا أو عينا وأنفا وأسنانا، قلت: فأحب إليك أن يجتنب شراؤها، قال: نعم. وقال الإمام أحمد - أيضا- في رواية بكر بن محمد وقد سئل
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/87) .(11/282)
عن حديث عائشة رضي الله عنها «كنت ألعب بالبنات (1) » قال: لا بأس بلعب اللعب إذا لم يكن فيه صورة، فإذا كان فيه صورة فلا.
وهذا نص من أحمد رحمه الله تعالى على منع اللعب باللعبة إذا كانت صورة، وفي رواية المروذي منع شراء الصورة للصبية. وقد كان أحمد رحمه الله تعالى من أتبع الناس للسنة، ومن أعلمهم بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روى في مسنده حديث عائشة رضي الله عنها "أنها كانت تلعب باللعب عند النبي صلى الله عليه وسلم" كما تقدم ذكر ذلك ومع هذا فقد أفتى بما ذكره المروذي وبكر بن محمد عنه.
ولو ثبت عنده أن لعب عائشة رضي الله عنها كانت صورا حقيقية وأنها مخصوصة من عموم النهي عن الصور لما أفتى بخلاف ذلك. هذا هو المعروف من حاله رضي الله عنه وشدة تمسكه بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين.
وبما قررته في هذا الفصل يزول الإشكال عن لعب عائشة رضي الله عنها، ويتبين الصواب لكل منصف مؤثر لاتباع السنة النبوية، ويبين أيضا بطلان قول من أجاز اتخاذ اللعب من الصور المحرمة. والله سبحانه وتعالى أعلم (2) .
انتهى كلام الشيخ حمود بن عبد الله التويجري جزاه الله خيرا، وهذا آخر ما تيسر جمعه في هذه المسألة أعني مسألة التصوير وما يتعلق بلعب الأطفال، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
عبد الله بن حمد العبودي
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6130) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2440) ، سنن أبو داود الأدب (4931) ، سنن ابن ماجه النكاح (1982) ، مسند أحمد بن حنبل (6/234) .
(2) من كتاب (إعلان النكير على المفتونين بالتصوير) الطبعة الأولى من صفحة 97 وما بعدها.(11/283)
مصادر البحث
1 - فتح الباري شرح صحيح البخاري -الحافظ ابن حجر رحمه الله.
2 - عمدة القاري شرح صحيح البخاري - بدر الدين أبو محمد محمود بن أحمد العيني رحمه الله.
3 - شرح مسلم - النووي رحمه الله.
4 - الجامع لأحكام القرآن- القرطبي رحمه الله.
5 - نيل الأوطار- الشوكاني رحمه الله.
6 - الآداب الشرعية- ابن مفلح المقدسي رحمه الله.
7 - غذاء الألباب شرح منظومة الآداب- السفاريني رحمه الله.
8 - كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع- ابن حجر المكي الهيثمي رحمه الله.
9 - فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا - رحمه الله.
10 - فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله.
11 - الجواب المفيد في حكم التصوير- سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز.
12 - بحث للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء رقم 20 وتاريخ 28 \ 6 \ 1394 هـ.
13 - إعلان النكير على المفتونين بالتصوير- حمود بن عبد الله التويجري.(11/284)
حمزة بن عبد المطلب
أسد الله
وأسد رسوله
وسيد الشهداء
اللواء الركن: محمود شيت خطاب.
نسبة وأيامه قبل الإسلام
هو حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي (1) ، أبوه: عبد المطلب سيد قريش حتى مات (2) ، وأمه: هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن
__________
(1) نسب قريش (17) وجمهرة أنساب العرب (15) ، وانظر تفاصيل نسبه في سيرة ابن هشام (1 \ 1-2) .
(2) أنساب الأشراف (1 \ 64) .(11/285)
زهرة (1) ، وهي بنت عم آمنة بنت وهب أم الرسول صلى الله عليه وسلم، وحمزة شقيق صفية بنت عبد المطلب أم الزبير بن العوام رضي الله عنهم (2) .
ولي أبوه عبد المطلب بن هاشم السقاية والرفادة بعد عمه المطلب، فأقامها للناس، وأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون قبل قومهم من أمرهم، وشرف في قومه شرفا لم يبلغه أحد من آبائه، وأحبه قومه وعظم خطره فيهم (3) ، وكان من أعماله الباقية حتى اليوم حفر بئر زمزم (4) .
وحمزة: عم النبي صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة، أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب بن عبد المطلب، أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم أياما، وأرضعت قبله حمزة (5) .
وكان حمزة أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين، وقيل بأربع، والأول أصح (6) ، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد ولد سنة (571م) ، فإن حمزة قد ولد سنة (569م) .
وشهد حمزة حرب الفجار الثاني، وكان بعد عام الفيل بعشرين سنة، بعد موت عبد المطلب باثنتي عشرة سنة، ولم يكن في أيام العرب أشهر منه ولا أعظم، وإنما سمي الفجار لما استحل الحيان: كنانة وقيس من المحارم. وكان بين قيس ومعها ثقيف وغيرها، وبين قريش ومعها كنانة والأحابيش وأسد بن خزيمة، فكان على بني هاشم الزبير بن عبد المطلب ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإخوة الزبير وهم: أبو طالب وحمزة والعباس بنو عبد المطلب، وجرت المعركة بين الجانبين في (عكاظ) ، فانتصرت قريش وحلفاؤها على قيس وحلفائها (7) .
__________
(1) نسب قريش (17) .
(2) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 68) .
(3) سيرة ابن هشام (1 \ 153) .
(4) انظر التفاصيل في سيرة ابن هاشم (1 \ 154- 164) .
(5) أنساب الأشراف (1 \ 94) .
(6) أسد الغابة (2 \ 46) .
(7) انظر التفاصيل في ابن الأثير (1 \ 588- 595) .(11/286)
وكانت حرب الفجار أول تدريب عملي بالنسبة لحمزة، مارس فيها التدريب العملي على استعمال السلاح وعاش جو المعركة في حرب حقيقية وتحمل فيها أعباء القتال ومشقات الحرب، فتوج بها تدريبه النظري على الفروسية واستعمال السلاح واستخدام الأرض في المعركة.
وكان عمره حين شهد حرب الفجار اثنتين وعشرين سنة، لأنه ولد قبل عام الفيل بسنتين.
وكان حمزة مغرما بالصيد والقنص (1) ، وهو دليل على مهارته في الفروسية والتسديد الدقيق في الرمي، كما أنه تدريب عملي على ممارسة هذين الفنين العسكريين.
وقد كان لحمزة دور بارز في زواج النبي صلى الله عليه وسلم بخديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وكانت خديجة امرأة حازمة عاقلة شريفة، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرضت عليه نفسها، وكانت أوسط نساء قريش نسبا وأكثرهن مالا وشرفا، وكل قومها كان حريصا على ذلك منها لو يقدر عليه. فلما أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه عمه حتى دخل على أهلها، فخطبها إليه وتزوجها.
ولما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (2) جمع النبي صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلا، يزيدون رجلا أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة وأبو لهب، ودعاهم إلى الله (3) .
وبدأ المشركون يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ممن يؤذيه عمه أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب، وكان شديدا على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، عظيم التكذيب له، دائم الأذى، فكان يطرح العذرة (4) والنتن على باب النبي صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) أسد الغابة (2 \ 46) وابن الأثير (2 \ 83) .
(2) سورة الشعراء الآية 214
(3) ابن الأثير (2 \ 62) .
(4) العذرة: فضلات الإنسان التي تخرج من بطنه، الغائط.(11/287)
وكان جاره، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أتى جوار هذا يا بني عبد المطلب! . ورآه يوما حمزة، فأخذ العذرة وطرحها على رأس أبي لهب، فجعل ينقضها عن رأسه ويقول: "صاحبي أحمق! "، وأقصر عما كان يفعله، لكنه يضع من يفعل ذلك (1) .
وهكذا نصر حمزة ابن أخيه على أخيه، لأنه وجد أن أخاه هو المعتدي، وابن أخيه هو المعتدى عليه، فنصر المظلوم على الظالم، مما يدل على سريرته الطاهرة وانحيازه إلى جانب الحق إذا تبين له الحق، كما يدل على أنه كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم ليس لأنه عمه وأخاه بالرضاعة، بل لأنه أحبه لسجاياه، والأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف.
__________
(1) ابن الأثير (2 \ 70) .(11/288)
إسلام حمزة
مر أبو جهل برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس عند (الصفا) ، فآذاه وشتمه ونال منه وعاب دينه، وكانت مولاة لعبد الله بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك. وانصرف أبو جهل عن النبي صلى الله عليه وسلم فجلس في نادي قريش عند الكعبة، فلم يلبث حمزة أن أقبل من قنصه متوشحا قوسه، وكان أعز قريش وأشدهم شكيمة. فلما مر بالمولاة، وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع إلى بيته، قالت له: "يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد من أبي الحكم بن هشام، فإنه سبه وآذاه، ثم انصرف عنه، ولم يكلمه محمد ".
واجتاح الغضب حمزة، فخرج سريعا لا يقف على أحد، كما كان يصنع، يريد الطواف بالكعبة، معدا لأبي جهل إذا لقيه أن يقع به، حتى دخل المسجد، فرآه جالسا في القوم، فأقبل نحوه وضرب رأسه بالقوس، فشجه شجة منكرة، وقال: "أتشتمه وأنا(11/288)
على دينه، أقول ما يقول؟ فاردد علي إن استطعت".
وقامت رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل: "دعوا أبا عمارة، فإني سببت ابن أخيه سبا قبيحا".
فلما أسلم حمزة، عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه (1) .
وكان إسلام حمزة في السنة الثانية من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) وقيل: بل أسلم بعد دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم في السنة السادسة من مبعثه صلى الله عليه وسلم (3) ، والراجح الرواية الأولى، لإجماع أكثر المصادر المعتمدة عليها.
وكان حمزة قد أسلم قبل عمر بن الخطاب، فلما أسلم عمر، قوي الإسلام بهما، وعلم المشركون أنهما سيمنعان رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين (4) .
__________
(1) أسد الغابة (2 \ 46- 47) وابن الأثير (2 \ 83) وانظر سيرة ابن هشام 1 \ 312- 313) .
(2) أسد الغابة (2 \ 46) والإصابة (2 \ 37) وتهذيب الأسماء واللغات (1 \ 168) والاستيعاب (1 \ 369) .
(3) الاستيعاب (1 \ 369) .
(4) ابن الأثير (2 \ 84) . الشعب: انفراج بين الجبلين.(11/289)
في شعب أبي طالب (1) .
لما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلدا أصابوا به أمنا وقرارا هي الحبشة، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر وحمزة قد أسلما، وجعل الإسلام يفشو في القبائل؛ اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب: على أن لا ينكحوا إليهم، ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم. فلما اجتمعوا لذلك كتبوا صحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم.
وانحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب بن عبد المطلب، فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشم أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب إلى قريش، فظاهرهم وكان معهم في تحالفهم على إخوته وبني إخوته.
__________
(1) شعاب، وشعب أبي طالب: منزل بني هاشم ومساكنهم في مكة، انظر معجم البلدان (5 \ 270) .(11/289)
وأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا لا يصل إليهم شيء إلا سرا، مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش. وقد كان أبو جهل بن هشام لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه في الشعب، فتعلق به وقال: "أتذهب بالطعام إلى بني هاشم! والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة ". وجاءه أبو البختري بن هشام بن الحارث بن أسد، فقال: "ما لك وله! "، فقال: "يحمل الطعام إلى بني هاشم "، فقال أبو البختري: "طعام كان لعمته عنده، بعثت إليه أفتمنعه أن يأتيها بطعامها، خل سبيل الرجل"، فأبى أبو جهل، حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لحي (1) بعير فضربه به، فشجه، ووطئه وطئا شديدا، وحمزة قريب يرى ذلك، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيشتموا بهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا وسرا وجهارا، مناديا بأمر الله، لا يتقي فيه أحدا من الناس (2) .
وأخيرا مزقت الصحيفة، وانتهت القطيعة، وعاد بنو هاشم وبنو المطلب إلى حياتهم الاعتيادية، وعاد معهم حمزة أقوى ما يكون دفاعا عن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين (3) .
__________
(1) اللحي: منبت اللحية من الإنسان وغيره، والعظمان اللذان فيهما الأسنان من ذي لحي.
(2) انظر التفاصيل في سيرة ابن هشام (1 \ 371- 396) .
(3) انظر التفاصيل في سيرة ابن هشام (1 \ 397- 406) .(11/290)
الهجرة العامة
أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالهجرة إلى المدينة قاعدة المسلمين الأمينة، فهاجر حمزة مع من هاجر إلى المدينة المنورة قبيل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها بوقت قصير، فنزل حمزة وزيد بن حارثة وأبو مرثد كناز بن حصن، ويقال: ابن حصين، وابنه مرثد الغنويان حليفا حمزة علي كلثوم بن هدم، أخي بني عمرو بن عوف بـ (قباء) ، ويقال: بل نزلوا على سعد بن خيثمة، ويقال: نزل حمزة على أسعد بن زرارة أخي بني النجار.(11/290)
وفي المدينة المنورة، آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإليه أوصى حمزة يوم (أحد) حين حضره القتال، إن حدث به حادث الموت (1) .
__________
(1) سيرة ابن هشام (2 \ 124) وتهذيب الأسماء واللغات (1 \ 168) والإصابة (1 \ 37) .(11/291)
أول لواء في الإسلام
قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، حين هاجر إليها من مكة، يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول، وهو المجمع عليه، فكان أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، لحمزة في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لواء أبيض، فكان الذي حمله أبو مرثد كناز الغنوي حليف حمزة، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثين رجلا من المهاجرين.
وخرج حمزة يعترض لعير قريش وقد جاءت من الشام تريد مكة، وفيها أبو جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل، فبلغوا سيف البحر، يعني ساحله، من ناحية (العيص) . والتقى الجانبان حتى اصطفوا للقتال، فمشى مجدي بن عمرو الجهني، وكان حليفا للفريقين جميعا، إلى هؤلاء مرة وإلى هؤلاء مرة حتى حجز بينهم ولم يقتتلوا.
وتوجه أبو جهل في أصحابه وعيره إلى مكة، وانصرف حمزة في أصحابه إلى المدينة.
وبدون شك، أثر المسلمون في معنويات قريش، فتخلوا عن القتال بالرغم من تفوق المشركين على المسلمين تفوقا ساحقا، وخافوا المسلمين على قافلتهم التجارية، ورأس المال دائما جبان كما يقولون.(11/291)
وبهذه الغزوة بدأ فرض الحصار الاقتصادي على قريش، بتهديد طريق مكة - الشام الحيوي لتجارة قريش تهديدا إيجابيا خطيرا.
وهناك من يذكر أن أول راية عقدها النبي صلى الله عليه وسلم وكانت لعبيدة بن الحارث بن المطلب، وذلك أن بعث حمزة وبعث عبيدة كانا في وقتين متقاربين: الأول في رمضان، والثاني في شوال، فشبه ذلك على الناس (1) .
ولا مجال للاشتباه؛ لأن راية حمزة عقدت في رمضان، بينما عقدت راية عبيدة في شوال، أي بعد شهر تقريبا. كما شهد حمزة مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة (ودان) (2) ، وكان لواؤه أبيض يحمله حمزة في هذه الغزوة (3) .
__________
(1) انظر سيرة ابن هشام (2 \ 230) .
(2) ودان: قرية قريبة من الجحفة على مرحلة منها.
(3) ابن الأثير (2 \ 113) .(11/292)
في غزوة بدر الكبرى
خرج النبي صلى الله عليه وسلم باتجاه موضع (بدر) من المدينة المنورة لثمان ليال خلون من شهر رمضان، من السنة الثانية الهجرية (623 م) على رأس أصحابه، وكان معه سبعون بعيرا يعتقبها أصحابه، وكان حمزة وزيد بن حارثة وأبو كبشة وأنسة موليا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتقبون بعيرا (1) واحدا.
وفي بدر، قبل نشوب القتال، خرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي، وكان رجلا شرسا سيئ الخلق، فقال: " أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن "، فخرج إليه حمزة، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن (2) قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب (3) رجله دما، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه ليبر يمينه، واتبعه حمزة، فضربه حتى قتله في الحوض.
__________
(1) سيرة ابن هشام (1 \ 251) .
(2) أطن: أطارها.
(3) تشخب: تسيل بصوت.(11/292)
ثم خرج بعده عتبة بن ربيعة بن أخيه شيبة وابنه الوليد بن عتبة، حتى إذا فصل (1) من الصف دعا إلى المبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار، فقالوا: "من أنتم؟ "، فقالوا: "رهط من الأنصار ". قالوا: "ما لنا بكم من حاجة"، ثم نادى مناديهم: "يا محمد أخرج إلينا أكفأنا من قومنا "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة، قم يا علي ". ولما قاموا ودنوا منهم قالوا: "من أنتم؟ "، فذكروا أسماءهم، فقالوا: "نعم، أكفاء كرام".
وبارز عبيدة -وكان أسن القوم- عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد بن عتبة.
فأما حمزة، فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين، كلاهما جرح صاحبه، فكر علي وحمزة بأسيافهما على عتبة، فدففا عليه (2) ، واحتملا صاحبهما إلى معسكر المسلمين (3) .
لقد أبلى في بدر بلاء عظيما، وقاتل بسيفين (4) ، وقد سأل أمية بن خلف الذي أسر يوم (بدر) عبد الرحمن بن عوف: "من الرجل المعلم بريشة نعامة في صدره؟ "، فقال عبد الرحمن بن عوف: " حمزة بن عبد المطلب "، فقال أمية: "هو الذي فعل بنا الأفاعيل" (5) .
إن دور حمزة في غزوة بدر الكبرى الحاسمة لم يكن دورا اعتياديا، بل كان دورا بارزا للغاية، فقد قتل أشجع شجعان قريش وأكثرهم إقداما، الذي تحدى المسلمين في محاولة الشرب من حوضهم أو هدمه، وقتل شيبة وشارك في قتل عتبة ابني ربيعة، وهما من أبرز أشراف قريش ومن أشجع شجعانها، وبذلك أثر أعمق الأثر في معنويات قريش، فانهارت تلك المعنويات من جراء هذه البداية غير الموفقة، والجيش الذي يخسر معنوياته لا ينتصر أبدا.
__________
(1) فصل: مزج.
(2) دففا عليه: أسرعا في قتله، وأجهزا عليه.
(3) سيرة ابن هشام (2 \ 265) وابن الأثير (2 \ 124-125) .
(4) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 168) .
(5) أسد الغابة (2 \ 47) وابن الأثير (2 \ 127) .(11/293)
ولم يكن حمزة يقاتل بصورة اعتيادية في بدر، بل كان مستقتلا في قتاله، فقتل كثيرا من المشركين، ومزق صفوفهم، وشد عليهم شدة لا هوادة فيها، وطارد فلولهم بدون رحمة، وفعل بهم الأفاعيل.
لقد كان حمزة بحق بطل غزوة بدر الكبرى، فلا عجب أن تشتد نقمة المشركين عليه ويستهدفون حياته الغالية إذا نشب القتال بينهم وبين المسلمين من جديد.(11/294)
في غزوة بني قينقاع
لما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر، أظهرت يهود له الحسد بما فتح الله عليه وبغوا ونقضوا العهد، وكان قد وادعهم حين قدم المدينة مهاجرا، فلما بلغه حسدهم، جمعهم بسوق بني قينقاع وقال لهم: «احذروا ما نزل بقريش وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل " فقالوا: يا محمد، لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة» ، فكانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبينه.
وبينما هم على مجاهرتهم وكفرهم، إذ جاءت امرأة مسلمة إلى سوق بني قينقاع، فجلست عند صائغ لأجل حلي لها، فجاء رجل منهم فحل درعها إلى ظهرها، وهي لا تشعر، فلما قامت بدت عورتها، فضحكوا منها، فقام إليه رجل من المسلمين فقتله، ونبذوا العهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحصنوا بحصونهم، فغزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرهم خمس عشرة ليلة، فنزلوا على حكمه، فأجلاهم عن المدينة إلى (أذرعات) (1) .
وكان لواء النبي صلى الله عليه وسلم مع حمزة، وكان اللواء أبيض (2) وكانت الغزوة يوم السبت للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من مهاجرته عليه الصلاة والسلام (3) .
__________
(1) أذرعات: موضع يقع في شرقي الأردن حاليا، وهو بين أجنادين والشام.
(2) طبقات ابن سعد (2 \ 28 - 30) . وابن الأثير (2 \ 137 - 138) .
(3) طبقات ابن سعد (2 \ 28- 29) .(11/294)
ومن المعلوم أن اللواء يحمله أشجع الشجعان؛ لأن الدفاع عنه وإبقاءه مرفوعا دون أن يهوي إلى الأرض أو يعفر بالتراب، لا يتم إلا بالشجاعة والإقدام والثبات وقوة الأعصاب والألمعية والذكاء.(11/295)
في غزوة أحد
1 - في المعركة
كانت غزوة أحد يوم السبت لسبع ليال خلون من شوال، على رأس اثنين وثلاثين شهرا من مهاجره عليه الصلاة والسلام (1) في السنة الثالثة الهجرية (624م) ، وقد استقبل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وترك أحدا خلف ظهره، وجعل وراءه الرماة وهم خمسون رجلا، وأمر عليهم عبد الله بن جبير، أخا خوات بن جبير، وقال له: «انضح عنا الخيل بالنبل، لا يأتونا من خلفنا، واثبت مكانك إن كانت لنا أو علينا» وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين، وأعطى اللواء مصعب بن عمير، وأمر الزبير بن العوام على الخيل ومعه المقداد، وخرج حمزة بالجيش بين يديه (2) .
ونشب القتال بين الجانبين، واقتتل الناس قتالا شديدا، وأمعن في الناس وعلي وأبو دجانة في رجال من المسلمين وكانت الهزيمة على المشركين، وهرب النساء مصعدات في الجبل، ودخل المسلمون عسكرهم، فلما نظر بعض الرماة إلى العسكر حين انكشف الكفار عنه، أقبلوا يريدون الغنائم، وثبتت طائفة منهم وقالوا: نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونثبت في مكاننا.
ولما فارق بعض الرماة مكانهم، رأى خالد بن الوليد قلة من بقي من الرماة، فحمل عليهم وقتلهم، وحمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من خلفهم. فلما رأى المشركون خيلهم تقاتل، أعادوا الكرة على المسلمين. فهزموهم وقتلوهم (3) .
__________
(1) طبقات ابن سعد (2 \ 36) .
(2) ابن الأثير (2 \ 152) .
(3) ابن الأثير (2 \ 153 - 154) .(11/295)
وكان حمزة قد أبلى بلاء عظيما في هذه المعركة، فقد قتل واحدا وثلاثين من الكفار (1) .
__________
(1) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 169) والإصابة (2 \ 37) وأسد الغابة (2 \ 42) .(11/296)
2 - الشهيد
قاتل حمزة حتى مر به سباع بن عبد العزى العبشاني، وكان يكنى بأبي نيار، فقال له حمزة: "هلم إلي يا ابن مقطعة البظور"، وكانت أمه أم أنمار مولاة شريق بن الأخنس بن شريق، وكانت ختانة بمكة، فلما التقيا ضربه حمزة فقتله.
قال وحشي غلام جبير بن مطعم: "والله إني لأنظر إلى حمزة يهد (1) الناس بسيفه ما يليق (2) به شيئا مثل الجمل الأورق (3) إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى، فقال له حمزة: هلم إلي يا ابن مقطعة البظور، فضربه ضربة، فكأنما أخطأ رأسه (4) . وهززت حربتي، حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه، فوقعت في ثنته (5) ، حتى خرجت من بين رجليه فأقبل نحوي، فقلب فوقع، وأمهلته حتى إذا مات جئت فأخذت حربتي ثم تنحيت إلى العسكر، ولم يكن لي بشيء حاجة غيره" (6) .
وكان وحشي غلاما لجبير بن مطعم وكان عمه طعيمة بن عدي قد أصيب يوم بدر، فلما سارت قريش إلى أحد، قال جبير لوحشي: "إن قتلت حمزة عم محمد فأنت عتيق"، فخرج وحشي مع الناس. وكان رجلا حبشيا يقذف بالحربة قذف الحبشة، قلما يخطئ، فلما التقى الجانبان خرج ينظر حمزة، فلما قتل حمزة عاد أدراجه إلى معسكر قريش وقعد فيه؛ إذ لم يكن له بغير حمزة حاجة، وإنما قتله ليعتق، فلما عاد إلى مكة أعتق (7) .
__________
(1) يهد: يهلكهم، ويروى: يهز في ابن الأثير (2 \ 156) ومعناه: يسرع في قتلهم.
(2) ما يليق: ما يبقي.
(3) الأورق: الذي لونه بين الغبرة والسواد.
(4) فكأنما أخطأ رأسه: هذا عند المبالغة في الإصابة، كذا في الزرقاني على المواهب.
(5) الثنية. أسفل بطنه. والتة: أسفل البطن.
(6) سيرة ابن هشام (3 \ 15) .
(7) سيرة ابن هشام (3 \ 17) والبداية والنهاية.(11/296)
وقد استشهد حمزة يوم السبت النصف من شهر شوال (1) من سنة ثلاث من الهجرة (2) (624م) .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمس حمزة، فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده، ومثل به فجدع أنفه وأذناه، فحزن عليه النبي صلى الله عليه وسلم. فلما رأى المسلمون حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيظه على من فعل بعمه ما فعل قالوا: والله لئن أظفرنا الله بهم يوما من الدهر، لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب.
ولما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة قال: «لن أصاب بمثلك أبدا، ما وقفت موقفا أغيظ إلي من هذا (3) » .
وكفن حمزة في بردة (4) إذا غطي رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطيت رجلاه خرج رأسه، فغطي رأسه وجعل على رجليه إذخر (5) .
«ووضع النبي صلى الله عليه وسلم حمزة فصلى عليه، ثم جيء برجل فوضع فصلى عليهما جميعا، ثم رفع الرجل وجيء بآخر، فما زال يفعل ذلك حتى صلى يومئذ على حمزة سبعين صلاة (6) » .
«وأقبلت صفية بنت عبد المطلب شقيقة حمزة لتنظر إلى حمزة قبل دفنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام: (القها فأرجعها، لا ترى ما بأخيها) ، فقال لها: " يا أمت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي، قالت: ولم؟ وقد بلغني أن قد مثل بأخي، وذلك في الله فما أرضانا بما كان من ذلك لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله". فلما جاء الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، قال: خل سبيلها، فأتته ونظرت إليه وصلت عليه واسترجعت واستغفرت له (7) » .
__________
(1) أسد الغابة (2 \ 47) .
(2) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 169) .
(3) سيرة ابن هشام (3 \ 47) .
(4) البردة: كساء مخطط يلتحف به (ج) برد، وبرد.
(5) إذخر: نبات فيه رائحة طيبة.
(6) طبقات ابن سعد (3 \ 15 - 16) .
(7) سيرة ابن هشام (3 \ 48) .(11/297)
ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم منظرا أوجع لقلبه من منظر حمزة مقتولا ممثلا به، فقال: «رحمك الله أي عم- فلقد كنت وصولا للرحم، فعولا للخيرات، فوالله لئن أظفرني الله بالقوم لأمثلن بسبعين منهم (1) » فما برح حتى نزل قول الله في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول أصحابه: {مجلة البحوث الإسلامية body {font-family: verdana, arial, helvetica, sans-serif; font-size: 14px;} h1 {font-size:18px} a:link {color:#33c} a:visited {color:#339} /* This is where you can customize the appearance of the tooltip */ div#tipDiv {position:absolute; visibility:hidden; left:0; top:0; z-index:10000; background-color:AntiqueWhite; border:1px solid #336; padding:4px; color:#000; font-size:11px; line-height:1.2;} /* These are optional. They demonstrate how you can individually format tooltip content */ div.tp1 {font-size:12px; color:#336; font-style:italic} div.tp2 {font-weight:bolder; color:#337; padding-top:4px}
مجلة البحوث الإسلامية (2)
تصفح برقم المجلد > العدد الحادي عشر - الإصدار: من ذو القعدة إلى صفر لسنة 1404هـ 1405هـ > البحوث > حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله > في غزوة أحد > الشهيد
2 - الشهيد
قاتل حمزة حتى مر به سباع بن عبد العزى العبشاني، وكان يكنى بأبي نيار، فقال له حمزة: "هلم إلي يا ابن مقطعة البظور"، وكانت أمه أم أنمار مولاة شريق بن الأخنس بن شريق، وكانت ختانة بمكة، فلما التقيا ضربه حمزة فقتله.
قال وحشي غلام جبير بن مطعم: "والله إني لأنظر إلى حمزة يهد (3) الناس بسيفه ما يليق (4) به شيئا مثل الجمل الأورق (5) إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى، فقال له حمزة: هلم إلي يا ابن مقطعة البظور، فضربه ضربة، فكأنما أخطأ رأسه (6) . وهززت حربتي، حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه، فوقعت في ثنته (7) ، حتى خرجت من بين رجليه فأقبل نحوي، فقلب فوقع، وأمهلته حتى إذا مات جئت فأخذت حربتي ثم تنحيت إلى العسكر، ولم يكن لي بشيء حاجة غيره" (8) .
وكان وحشي غلاما لجبير بن مطعم وكان عمه طعيمة بن عدي قد أصيب يوم بدر، فلما سارت قريش إلى أحد، قال جبير لوحشي: "إن قتلت حمزة عم محمد فأنت عتيق"، فخرج وحشي مع الناس. وكان رجلا حبشيا يقذف بالحربة قذف الحبشة، قلما يخطئ، فلما التقى الجانبان خرج ينظر حمزة، فلما قتل حمزة عاد أدراجه إلى معسكر قريش وقعد فيه؛ إذ لم يكن له بغير حمزة حاجة، وإنما قتله ليعتق، فلما عاد إلى مكة أعتق (9) .
__________
(1) الاستيعاب (1 \ 374) .
(2) سورة النحل الآية 126
(3) يهد: يهلكهم، ويروى: يهز في ابن الأثير (2 \ 156) ومعناه: يسرع في قتلهم.
(4) ما يليق: ما يبقي.
(5) الأورق: الذي لونه بين الغبرة والسواد.
(6) فكأنما أخطأ رأسه: هذا عند المبالغة في الإصابة، كذا في الزرقاني على المواهب.
(7) الثنية. أسفل بطنه. والتة: أسفل البطن.
(8) سيرة ابن هشام (3 \ 15) .
(9) سيرة ابن هشام (3 \ 17) والبداية والنهاية.(11/298)
وقد استشهد حمزة يوم السبت النصف من شهر شوال (1) من سنة ثلاث من الهجرة (2) (624م) .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمس حمزة، فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده، ومثل به فجدع أنفه وأذناه، فحزن عليه النبي صلى الله عليه وسلم. فلما رأى المسلمون حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيظه على من فعل بعمه ما فعل قالوا: والله لئن أظفرنا الله بهم يوما من الدهر، لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب.
ولما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة قال: «لن أصاب بمثلك أبدا، ما وقفت موقفا أغيظ إلي من هذا (3) » .
وكفن حمزة في بردة (4) إذا غطي رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطيت رجلاه خرج رأسه، فغطي رأسه وجعل على رجليه إذخر (5) .
«ووضع النبي صلى الله عليه وسلم حمزة فصلى عليه، ثم جيء برجل فوضع فصلى عليهما جميعا، ثم رفع الرجل وجيء بآخر، فما زال يفعل ذلك حتى صلى يومئذ على حمزة سبعين صلاة (6) » .
«وأقبلت صفية بنت عبد المطلب شقيقة حمزة لتنظر إلى حمزة قبل دفنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام: (القها فأرجعها، لا ترى ما بأخيها) ، فقال لها: " يا أمت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي، قالت: ولم؟ وقد بلغني أن قد مثل بأخي، وذلك في الله فما أرضانا بما كان من ذلك لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله". فلما جاء الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، قال: خل سبيلها، فأتته ونظرت إليه وصلت عليه واسترجعت واستغفرت له (7) » .
__________
(1) أسد الغابة (2 \ 47) .
(2) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 169) .
(3) سيرة ابن هشام (3 \ 47) .
(4) البردة: كساء مخطط يلتحف به (ج) برد، وبرد.
(5) إذخر: نبات فيه رائحة طيبة.
(6) طبقات ابن سعد (3 \ 15 - 16) .
(7) سيرة ابن هشام (3 \ 48) .(11/297)
ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم منظرا أوجع لقلبه من منظر حمزة مقتولا ممثلا به، فقال: «رحمك الله أي عم- فلقد كنت وصولا للرحم، فعولا للخيرات، فوالله لئن أظفرني الله بالقوم لأمثلن بسبعين منهم (1) » فما برح حتى نزل قول الله في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول أصحابه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (2) {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} (3) ، فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبر، ونهى عن المثلة (4) .
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزة فدفن في (أحد) ودفن معه ابن أخته عبد الله بن جحش وأمه أميمة بنت عبد المطلب، وكان قد مثل به أيضا (5) .
وقبرهما معروف في (أحد) حتى اليوم.
«ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد، سمع نساء بني عبد الأشهل من الأنصار يبكين على شهدائهن، فقال: "لكن حمزة لا بواكي له" فاجتمع نساء وبكين حمزة، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بكاءهن، فقال: "من هؤلاء؟ " فقيل: نساء الأنصار، فخرج إليهن فقال: "ارجعن، لا بكاء بعد اليوم (6) » ودعا لهن ولأولادهن وأولاد أولادهن بالخير والبركة والرحمة (7) .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد مر في طريق عودته من أحد إلى المدينة بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، فلما نعوا لها قالت: "فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ "، قالوا: خيرا يا أم فلان! هو بحمد الله كما تحبين قالت: " أرونيه حتى أنظر إليه "، فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: "كل مصيبة بعدك جلل "، تريد صغيرة (8) .
__________
(1) الاستيعاب (1 \ 374) .
(2) سورة النحل الآية 126
(3) سورة النحل الآية 127
(4) سيرة ابن هشام (3 \ 45 - 46) .
(5) البداية والنهاية (4 \ 42) .
(6) طبقات ابن سعد (3 \ 18) .
(7) طبقات ابن سعد (3 \ 18) وسيرة ابن هشام (3 \ 50) .
(8) سيرة ابن هشام (3 \ 51) .(11/298)
وهكذا ضحى حمزة بنفسه من أجل الدفاع عن عقيدته، ولم يضح بعقيدته من أجل الدفاع عن نفسه، فاستحق لقب: أسد رسوله (1) ، وسيد الشهداء (2) ، وحزن عليه النبي صلى الله عليه وسلم حزنا لم يحزن مثله على أحد غيره، وقال عنه: «حمزة سيد الشهداء (3) » لأنه كان يقاتل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد بسيفين، فيذهل الناس بشجاعته وإقدامه، حتى يقول قائلهم فيه: أي أسد (4) .
لقد كان استشهاد حمزة خسارة للمسلمين كافة، لا لآل البيت وحدهم، لأنه كان رجلا في أمة، وأمة في رجل، لا يعيش لنفسه بل للمسلمين جميعا.
__________
(1) الإصابة (2 \ 37) .
(2) الاستيعاب (1 \ 372) .
(3) الاستيعاب (1 \ 372) .
(4) الاستيعاب (1 \ 373) .(11/299)
رثاؤه
حظي حمزة بعد استشهاده بكثير من المراثي لكثير من الشعراء المسلمين، مما يدل على حب الناس له وإعجابهم به وتقديرهم لسجاياه.
قال كعب بن مالك يرثي حمزة وقتلى أحد من المسلمين رضي الله عنهم:
نشجت وهل لك من منشج ... وكنت متى تذكر تلجج (1)
فقلبك من ذكرهم خافق ... من الشوق والحزن المنضج
وقتلاهم في جنان النعيم ... كرام المداخل والمخرج
بما صبروا تحت ظل اللواء ... لواء الرسول بذي الأضوج (2)
غداة أجابت بأسيافها ... جميعا بنو الأوس والخزرج
وأشياع أحمد إذ شايعوا ... على الحق ذي النور والمنهج
__________
(1) نشجت: بكيت، والنشيج: البكاء مع صوت متردد. وتلجج: هو التمادي في الشيء والإقامة عليه.
(2) الأضوج: جمع ضوج، وهو جانب الوادي.(11/299)
فما برحوا يضربون الكماة ... ويمضون في القسطل المرهج (1)
كذلك حتى دعاهم مليك ... إلى جنة دوحة المولج (2)
فكلهم مات حر البلاء ... على ملة الله لم يحرج (3)
كحمزة لما وفى صادقا ... بذي هبة صارم سلجج (4)
فلاقاه عبد بني نوفل ... يبربر كالجمل الأدعج (5)
فأوجره حربة كالشهاب ... تلهب في اللهب الموهج (6)
ونعمان أوفى بميثاقه ... وحنظلة الخير لم يحنج (7)
عن الحق حتى غدت روحه ... إلى منزل فايز الزبرج (8)
أولئك لا من ثوى منكم ... من النار في الدرك المرتج (9)
وقال حسان بن ثابت يرثي حمزة وشهداء أحد:
أشاقك من أم الوليد ربوع ... بلاقع ما من أهلهن جميع (10)
عفاهن صيفي الرياح وواكف ... من الدلو رجاف السحاب هموع
فلم يبق إلا موقد النار حوله ... رواكد أمثال الحمام كنوع
__________
(1) الكماة: الشجعان، واحدهم كمي، والقسطل: الغبار. والمرهج: الذي علا وارتفع في الجو.
(2) الدوحة: الكثيرة الأغصان، والمولج: المدخل، وأراد هنا أن الجنة كثيرة الأبواب.
(3) لم يحرج: لم يأثم.
(4) بذي هبة: أراد به سيفا. وهبة السيف: وقوعه بالعظم. والصارم: القاطع. سلجج: مرهف حاد قاطع.
(5) أراد بعبد بني نوفل: وحشيا: ويبربر: يتكلم بما لا يفهم. والجمل الأدعج: الأسود.
(6) أوجره: طعنه في صدره. والشهاب: القطعة من النار. والموهج: المتقد.
(7) لم يحنج: لم يصرف عن وجهه الذي أراد من الحق.
(8) الزبرج: الموشى، وهو أيضا الذهب.
(9) المرتج: المغلق، تقول: أرتجت الباب: إذا أغلقته.
(10) ربوع: جمع ربع، وهو المنزل. وبلاقع: جمع بلقع، وهو القفر الخالي، وجميع: مجتمع مؤتلف.(11/300)
فدع ذكر دار بددت بين أهلها ... نوى لمتينات الحبال قطوع
وقل إن يكن يوم بأحد يعده ... سفيه فإن الحق سوف يشيع (1)
فقد صابرت فيه بنو الأوس كلهم ... وكان لهم ذكر هناك رفيع
وحامى بنو النجار فيه وصابروا ... وما كان منهم في اللقاء جزوع
أمام رسول الله لا يخذلونه ... لهم ناصر من ربهم وشفيع
وفوا إذ كفرتم يا سخين بربكم ... ولا يستوي عبد وفى ومضيع (2)
بأيديهم بيض إذا حمش الوغى ... فلا بد أن يردى لهن صريع (3)
كما غادرت في النقع عتبة ثاويا ... وسعدا مريعا والوشيج شروع (4)
وقد غادرت تحت العجاجة مسندا ... أبيا وقد بل القميص نجيع (5)
بكف رسول الله حيث تنصبت ... على القوم مما يثرن نقوع (6)
أولئك قوم سادة من فروعكم ... وفي كل قوم سادة وفروع
بهن نعز الله حتى يعزنا ... وإن كان أمر يا سخين فظيع (7)
فلا تذكروا قتلى وحمزة فيهم ... قتيل ثوى لله وهو مطيع
فإن جنان الخلد منزلة له ... وأمر الذي يقضي الأمور سريع
وقتلاكم في النار أفضل رزقهم ... حميم معا في جوفها وضريع (8)
وقال حسان بن ثابت يرثي حمزة سيد الشهداء بأحد:
أتعرف الدار عفا رسمها ... بعدك صوب المسبل الهاطل (9)
__________
(1) يشيع: يغشو أمره ينتشر ذكره وينبه شأنه.
(2) يا سخين: أراد يا سخينة وهي الحساء يتخذ من الدقيق وكانت قريش تنبز بها.
(3) حمش: اشتد وقوي، والوغى: الحرب، ويردى يهلك.
(4) غادرت: تركت، والنقع: الغبار، وثاويا: مقيما، والوشيج: الرماح، وشوج: مائلة للطعن.
(5) العجاجة: الغبرة والتراب الثائر، والنجع: الدم.
(6) نقوع: جمع نقع وهو الغبار.
(7) يا سخين: مضى تفسيرها قريبا والفظيع: الثقيل الكريه.
(8) الحميم: الحار، والضريع: نبات أخضر يرمي به البحر وانظر القصيدة في سيرة ابن هشام (3 \ 107 -110) .
(9) عفا: غير ودرس، ورسمها: أثرها، والصوب: المطر، والهاطل: الكثير السيلان.(11/301)
بين السراديح فأدمانة ... فمدفع الروحاء في حائل
سألتها عن ذاك فاستعجمت ... لم تدر ما مرجوعة السائل (1)
دع عنك دارا قد عفا رسمها ... وابك على حمزة ذي النائل (2)
المالئ الشيزى إذا أعصفت ... غبراء في ذي الشبم الماحل
والتارك القرن لذي لبدة ... يعثر في ذي الخرص الذابل (3)
واللابس الخيل إذا أحجمت ... كالليث في غابته الباسل
أبيض في الذروة من هاشم ... لم يمر دون الحق بالباطل
مال شهيدا بين أسيافكم ... شلت يدا وحشي من قاتل
أي امرئ غادر في آلة ... مطرورة مارنة العامل
أظلمت الدنيا لفقدانه ... واسود نور القمر الناصل (4)
صلى عليه الله في جنة ... عالية مكرمة الداخل
كنا نرى حمزة حرزا لنا ... في كل أمر نابنا نازل
وكان في الإسلام ذا تدرأ ... يكفيك فقد القاعد الخاذل (5)
لا تفرحي يا هند واستجلبي ... دمعا وأذري عبرة الثاكل (6)
وابكي على عتبة إذ قطه ... بالسيف تحت الرهج الجائل
إذ خر في مشيخة منكم ... من كل عات قلبه جاهل
__________
(1) استعجمت: لم تر جوابا. ومرجوعة السائل: رجوع جوابه.
(2) النائل: العطاء.
(3) القرن: الذي يقاومك في القتال. واللبدة.
(4) الناصل: الخارج من المسجد.
(5) ذا تدرأ: كثير الدفاع عنا.
(6) أذري: اسكبى واسترخص. والعكرة: الدمعة. والثاكل: المرأة التي فقدت ولدها.(11/302)
أرداهم حمزة في أسرة ... يمشون تحت الحلق الفاضل
غداة جبريل وزير له ... نعم وزير الفارس الحامل (1)
وقال كعب بن مالك يبكي حمزة رضي الله عنه:
طرقت همومك فالرقاد مسهد ... جزعت أن سلخ الشباب الأغبد
ودعت فؤادك للهوى ضمرية ... فهوال غوري وصيبك منجد (2)
فدع التمادي في الغواية سادرا ... قد كنت في طلب الغواية تفندا
ولقد أنى لك أن تناهى طائعا ... أو تستفيق إذا نهاك المرشد (3)
ولقد هددت لفقد حمزة هدة ... ظلت بنات الجوذ منها ترعد (4)
ولو أنه فجعت حراء بمثله ... لرأيت راسي صخرها يتبدد (5)
قرم تمكن في ذؤابة هاشم ... حيث النبوة والندى والسؤدد (6)
والعاقر الكوم الجلاد إذا غدت ... ريح يكاد الريح فيها يجمد
والتارك القرن الكمي مجدلا ... يوم الكريهة والقنا يتقصد (7)
__________
(1) سيرة ابن هشام (3 \ 132- 135) .
(2) ضربة منسوبة إلى بني ضمرة، إحدى القبائل العربية. وغوري: منسوب إلى الغور، وهو المنخفض من الأرض.
(3) أنى: خان.
(4) بنات الجوذ: أراد قلبه وما اتصل به من كبده وأمعائه؛ لأن الجوف يضمها ويشتمل عليها.
(5) حراء: اسم جبل، وأنثه باعتبار بقعة من الأرض. والراسي: الثابت. ويتبدد: يتفتت.
(6) القرم: الفحل. وذؤابة هاشم: أعاليها، وأراد أسمى أنسابها وأرفعها.
(7) الكمي: الشجاع. ومجدلا: مطروحا على الجدالة، وهي الأرض. ويتقصد: يتكسر.(11/303)
وتراه يرفل في الحديد كأنه ... ذو لبدة شثن البراثن أربد
عم النبي محمد وصفيه ... ورد الحمام فطاب ذاك المورد
وأتى المنية معلما في أسرة ... نصروا النبي ومنهم المستشهد (1)
ولقد إخال بذاك هندا بشرت ... لتميت داخل غصة لا تبرد (2)
مما صبحنا بالعقنقل قومها ... يوم تغيب فيه عنها الأسعد (3)
وببئر بدر إذا يرد وجوههم ... جبريل تحت لوائنا ومحمد
حتى رأيت لدى النبي سراتهم ... قسمين نقتل من نشاء ونطرد (4)
فأقام بالعطن المعطن منهم ... سبعون عتبة منهم والأسود (5)
وابن المغيرة قد ضربنا ضربة ... فوق الوريد لها رشاش مزبد (6)
وأمية الجمحي قوم ميله ... عضب بأيدي المؤمنين مهند (7)
فأتاك فل المشركين كأنهم ... والخيل تثفنهم نعام شرد
شتان من هو في جهنم ثاويا ... أبدا ومن هو بالجنان مخلد (8)
وقال كعب بن مالك يرثي حمزة رضي الله عنه:
صفية قومي ولا تعجزي ... وتبكي النساء على حمزة
ولا تسأمي أن تطيلي البكا ... على أسد الله في الهزة (9)
__________
(1) معلما: شهر نفسه بعلامة تميزه من سائر المحاربين، وأسرة: رهط.
(2) إخال: أظن، والغصة ما يقف في الحلق فيخنق.
(3) العقنقل: الكثيب من الرمل أراد به كثيب بدر وصبحناهم: أتيناهم صباحا للغارة عليهم.
(4) سراتهم: أشرافهم وخيارهم، ونطرد: نسوقه كما تساق الأنعام، يريد أنا قتلنا قسما وأسرنا قسما آخر.
(5) العطن: مبرك الإبل حول الماء. والمعطن: الذي عود أن يتخذ عطنا.
(6) الوريد: عرق في صفحة العنق، ورشاش مزبد: يريد دما تعلوه الرغوة.
(7) عضب: سيف قاطع.
(8) ثاويا: مقيما ليس يبرحها، ويروى (ثاويا) ، وهو الهالك انظر سيرة ابن هشام (136 - 138) .
(9) الهزة: الاختلاط في الحرب.(11/304)
فقد كان عزا لأيتامنا ... وليث الملاحم في البزة (1)
يريد بذاك رضا أحمد ... ورضوان ذي العرش والعزة (2)
وقال كعب أيضا في رثاء حمزة رضي الله عنه (3) .
بكت عيني وحق لها بكاها ... وما يغني البكاء ولا العويل (4)
على أسد الإله غداة قالوا ... أحمزة ذاكم الرجل القتيل
أصيب المسلمون به جميعا ... هناك وقد أصيب به الرسول
أبا يعلى لك الأركان هدت ... وأنت الماجد البر الوصول
عليك سلام ربك في جنان ... مخالطها نعيم لا يزول
ألا يا هاشم الأخيار صبرا ... فكل فعالكم حسن جميل
رسول الله مصطبر كريم ... بأمر الله ينطق إذ يقول
ألا من مبلغ عني لؤبا ... فبعد اليوم دائلة تدول (5)
وقبل اليوم ما عرفوا وذاقوا ... وقائعنا بها يشفى الغليل (6)
نسيتم ضربنا بقليب بدر ... غداة أتاكم الموت العجيل (7)
غداة ثوى أبو جهل صريعا ... عليه الطير حائمة تجول (8)
وعتبة وابنه خرا جميعا ... وشيبة عضه السيف الصقيل (9)
ومتراكنا أمية مجلعبا ... وفي حيزمومه لدن نبيل (10)
__________
(1) الملاحم: جمع ملحمة، وهي الحرب التي يكثر فيها القتلى.
(2) سيرة ابن هشام (3 \ 139- 140) .
(3) وتروى هذه القصيدة لعبد الله بن رواحة أيضا، انظر سيرة ابن هشام (3 \ 148) .
(4) العويل: البكاء مع ارتفاع الصوت.
(5) دائلة تدول: يريد دائرة الحرب.
(6) الغليل حرارة الجوف من عطش أو حزن.
(7) العجيل: العاجل السريع.
(8) حائمة: تدور حوله، وتجول: تجيء وتذهب.
(9) خرا جميعا: سقطا على الأرض.
(10) مجلعبا: معناه أنه ممتد مع الأرض. والحيزوم: أسفل الصدر. واللدن: الرمح اللبن.(11/305)
وهام بنو ربيعة سائلوها ... ففي أسيافنا منها فلول
ألا يا هند فابكي لا تملي ... فأنت الواله العبرى الهبول (1)
ألا يا هند لا تبدي شماتا ... بحمزة إن عزكم ذليل (2)
تلك غيض من فيض القصائد التي قيلت في رثاء حمزة والشهداء الآخرين من غزوة أحد، تدل دلالة واضحة على مبلغ حزن المسلمين كافة على استشهاد حمزة بخاصة والشهداء الآخرين بعامة، وهي إن دلت على شيء، فإنما تدل على سجاياه الرفيعة التي كان يتمتع بها حيا، والفراغ الهائل الذي خلفه بعد استشهاده.
__________
(1) الواله: الشديد الحزم. والعبرى: الكثيرة الدمع. والهبول: التي فقدت عزيزها.
(2) سيرة ابن هشام (3 \ 148 - 149) وانظر الاستيعاب (1 \ 374- 375) والإصابة (2 \ 38) .(11/306)
الإنسان
لم يسلم من ولد عبد المطلب بن هاشم أحد إلا حمزة والعباس (1) .
ولد حمزة عمارة، وأمه خولة بنت قيس بن فهد الأنصاري، ويعلى، وعامر، أمهما أنصارية، وابنته تزوجها سلمة بن أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي (2) .
يكنى: أبا عمارة، وأبا يعلى أيضا بابنيه عمارة ويعلى (3) ، وقد انقرض عقب حمزة رضي الله عنه (4) .
واسم ابنة حمزة: أمامة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوج أمامة بنت حمزة سلمة بن أبي سلمة المخزومي، فماتت قبل أن يجمعها (5) .
وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حمزة وبين زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهذا السبب خاصم زيد عليا وجعفرا ابني أبي طالب في ابنة حمزة، فدفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) الاستيعاب (1 \ 371) وجمهرة أنساب العرب (17) .
(2) جمهرة أنساب العرب (17) .
(3) الاستيعاب (1 \ 369) .
(4) جمهرة أنساب العرب (17) .
(5) المحبر (14) .(11/306)
إلى جعفر؛ لأن خالتها أسماء بنت عميس كانت عند جعفر (1) ، وكانت عند حمزة أختها سلمى بنت عميس (2) .
كان من السابقين إلى الإسلام، فأعز الله به المسلمين والإسلام (3) ولم يقف موقفا سلبيا بعد إسلامه، بل وقف موقفا إيجابيا مدافعا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن المسلمين كافة، وبقي موقفه إيجابيا حتى استشهد في غزوة أحد، فقدم روحه هدية للمصلحة العامة للمسلمين، فربح نفسه وخسره المسلمون.
وكان الحافز لإسلامه، حميته على ابن أخيه الذي آذاه أبو جهل واضطهده وأهانه لا لشيء إلا أن يقول: ربي الله، فتحدى قريشا بإسلامه، وانتقم من أبي جهل (4) علنا. ولكن يبدو أن جذور الإيمان في نفس حمزة كانت عميقة، فقد كان عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مقاربا له في السن، يعرفه حق المعرفة، لأنه مطلع على أدق تفاصيل أحواله إنسانا ونبيا، فهو واثق بالنبي صلى الله عليه وسلم ثقة بغير حدود، فكان إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم الحافز الذي فجر إيمان حمزة، فأعلن إسلامه على ملأ من قريش.
لقد كان حمزة أعز قريش وأشدهم شكيمة (5) فكان إسلامه عزا للمسلمين، فقوي الإسلام به (6) ، وصدق حسان بن ثابت إذ قال في رثائه:
كنا نرى حمزة حرزا لنا ... في كل أمر نابنا نازل
كما صدق كعب بن مالك، إذ قال في رثائه أيضا:
أصيب المسلمون به جميعا ... هناك وقد أصيب به الرسول
ولكن القول بأن حمزة خسره المسلمون لشجاعته الفذة وبطولته النادرة دفاعا عن الإسلام والمسلمين على صواب هذا القول وصدقه، إلا أنه لا يغني عن كل قول.
__________
(1) المحبر (70- 71) .
(2) المحبر (106) والتنبيه والإشراف (263) .
(3) جوامع السيرة لابن حزم (64) .
(4) أسد الغابة (2 \ 46- 47) وابن الأثير (2 \ 83) وانظر سيرة ابن هشام (1 \ 312-313) .
(5) أسد الغابة (2 \ 46) .
(6) ابن الأثير (2 \ 84) .(11/307)
فالواقع أن حمزة، كان يرعى المسلمين في السلام رعاية الأب لابنه والأم لولدها، كما كان يدافع عنهم في الحرب دفاع القائد الشجاع والبطل المغوار، وصدق كعب في رثائه:
فقد كان عزا لأيتامنا ... وليث الملاحم في البزة
إنه بحق الأب الحنون والأم الرءوم للمسلمين كافة في السلام، والمدافع عنهم بروحه في الحرب.
لقد كان إنسانا رفيعا في سجاياه، من أولئك الذين هيأهم الله للخير والمثل العليا، فكان جل حياته رهين مثله العليا، لا يفكر بغيرها، ولا يعمل إلا من أجلها، فعاش لها ومات دفاعا عنها، ولا نعلم أنه شغل نفسه بالتجارة أو أتعب نفسه للثراء، فقضى عمره فقيرا، ومات فقيرا، ولم يكتنز درهما ولا دينارا، ولا اقتنى دارا أو عقارا، فكان فقيرا بالمادة، غنيا بالروح.
وكان عمره حين استشهد تسعا وخمسين سنة على قول من يقول: إنه كان أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع سنين، وقيل: كان عمره أربعا وخمسين سنة (1) .
فإذا ثبت لنا أن حمزة أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين (2) ، وأنه ولد سنة (579 م) ، واستشهد في السنة الثالثة الهجرية (624 م) ، فمعنى ذلك أنه عاش ستا وخمسين سنة قمرية، وخمسا وخمسين سنة شمسية.
ومضى حمزة إلى ربه طاهر الذيل، عف اللسان، مرفوع الرأس، طيب الذكر، سخر طاقاته لخدمة عقيدته وخدمة الناس، ولم يسخر عقيدته ولا أحدا من الناس لخدمته، ملك روحه فما ضن بها على الإسلام، بل ضحى بها طوعا مقبلا غير مدبر، فكانت روحه اللبنة الصلدة في صرح الدين الحنيف.
__________
(1) أسد الغابة (2 \ 49) .
(2) أسد الغابة (2 \ 46)(11/308)
القائد
كان حمزة من أبطال المسلمين الأولين، مشهودا له بالشجاعة والإقدام، ولعل(11/308)
شجاعته الفائقة هي التي فرضت احترامه الشديد على الناس قبل الإسلام وبعد الإسلام، بالإضافة إلى سجاياه الرفيعة الأخرى، التي يمكن أن أطلق عليها: سجايا الفروسية.
لقد اعتدى أبو جهل المخزومي على النبي صلى الله عليه وسلم فشجه حمزة شجة منكرة في البيت الحرام، وهو بين قومه بني مخزوم، وهم أعز قريش، فقام بنو مخزوم لينصروا أبا جهل، ولكن حمزة تحداهم جميعا بإعلانه الإسلام قائلا: "وما يمنعني وقد استبان لي منه ذلك، أنا أشهد أنه رسول صلى الله عليه وسلم، وأن الذي يقول الحق، فوالله لا أنزع، فامنعوني إن كنتم صادقين"، فقال أبو جهل: "دعوا أبا عمارة، فإني والله قد سببت ابن أخيه سبا قبيحا (1) .
لقد منع أبو جهل قومه بني مخزوم من نصرته على حمزة، لأنه كان يعلم أن نصرته ستكلفه وتكلف قومه غاليا، فانسحب من تحدي حمزة راضيا بالذل والهوان بين قومه بني مخزوم وحشد رجال قريش، خوفا من حمزة لا إشفاقا عليه، وهكذا تفرض الشجاعة نفسها فرضا على الأعداء والأصدقاء.
وعز الإسلام بحمزة والمسلمون بعد إسلامه، لأنه شجاع لا كالشجعان، وهو الذي جندل رجالات قريش في المبارزة يوم بدر، ويوم أحد أيضا، وفعل بهم الأفاعيل في القتال.
وحسبنا دليلا على مبلغ شجاعته الفائقة ما حظي به من تكريم النبي صلى الله عليه وسلم الذي أطلق عليه: أسد الله، وأسد رسوله.
ولعل أكبر دليل على كفايته القيادية، أن النبي صلى الله عليه وسلم قلده أول لواء في الإسلام، فبعثه على رأس سرية في ثلاثين من المهاجرين، ليتصدى لقافلة قريش بقيادة أبي جهل في ثلاثمائة من المشركين فاصطف الجانبان للقتال، ولكنهما حجزا فلم يكن هناك أي قتال، ولكن أثر سرية حمزة في المشركين من الناحية المعنوية كان عظيما.
وما كان حمزة في كل حياته يخشى أن يقع على الموت أو يقع الموت عليه، لهذا كان يضع علامة في رأسه أو على صدره، يتميز بها عن المجاهدين الآخرين، دون أن يحسب
__________
(1) أسد الغابة (2 \ 47) .(11/309)
أي حساب لإظهار شخصيته لأعدائه متحديا لهم غير هياب ولا وجل مما يكتنفه من هذا التحدي على حياته من أخطار.
وليس توليته أول قيادة إلا دليلا على ثقة النبي صلى الله عليه وسلم بقيادة حمزة، لأنها أول مجابهة بين المسلمين والمشركين، ونتائجها تؤثر في معنويات الجانبين تأثيرا حاسما. وهذه الثقة النبوية، لشجاعته ولمزاياه القيادية الأخرى.
وكما كان حمزة موضع ثقة النبي صلى الله عليه وسلم، كان موضع ثقة المسلمين كافة، وكان يبادلهم ثقة بثقة، والثقة المتبادلة من مزايا القائد المتميز.
كما كان موضع محبة النبي صلى الله عليه وسلم وموضع محبة المسلمين جميعا، وكان حمزة يبادلهم حبا بحب وتقديرا بتقدير.
وقد تيسرت لحمزة مزايا القائد الثلاث الرئيسية: الطبع الموهوب، والعلم المكتسب، والتجربة العملية.
فقد وهبه الله طبعا هو طبع القائد الموهوب، فالشجاعة طبع أصيل فيه، وكان ألمعي الذكاء، وهذا أيضا من الطبع الموهوب.
ولعل ثقته العالية بنفسه في القتال، هي نتيجة من نتائج شجاعته وذكائه، فصقل هذا الطبع بالعلم المكتسب في التدريب على استعمال السلاح والفروسية وتحمل المشاق والصبر والمصابرة والإيمان العميق بالقضاء والقدر.
أما تجربته العملية، فقد مارس القتال من نعومة أظفاره في حرب الفجار، إلى استشهاده في غزوة أحد، فسقط مضرجا بدمائه، ولم يسقط من يده السيف.
أما مزايا القائد الفرعية أو الثانوية، فقد كان حمزة يتمتع بأكثرها وأهمها.
فقد كان سريع القرار سليم القرار، ذا إرادة قوية ثابتة، يتحمل المسئولية كاملة ولا يتهرب منها ولا يلقيها على عواتق غيره من القادة أو المرءوسين، له نفسية ثابتة لا تتبدل في حالة النصر أو الهزيمة، وكان عارفا بنفسيات رجاله وقابلياتهم؛ لأنه يعيش معهم ويقضي أكثر وقته بينهم، ذا شخصية نافذة قوية، له قابلية بدنية فذة، وماضي ناصع مجيد.(11/310)
وكان قائدا يطبق مبادئ الحرب: يختار مقصده ويسعى إلى تحقيقه، قائدا لا يلجأ إلى الدفاع، يتوخى تطبيق مبدأ المباغتة أهم مبادئ الحرب على الإطلاق، يحشد قواته لتحقيق مقصده، ويقتصد بالقوة ولا يسرف فيها، ويحقق الأمن لرجاله وغالبا ما يستأثر بالخطر ويؤثرهم بالاطمئنان، خططه مرنة لتناسب المواقف المتبدلة بسرعة في الحرب، يطبق مبدأ التعاون تطبيقا متميزا، يديم معنويات رجاله وهو بحق عنصر من أهم عناصر رفع المعنويات في رجاله، ويهتم بتأمين الأمور الإدارية للعاملين بإمرته.
وهو كذلك يساوي مع رجاله، ولا يتميز عنهم بالراحة وقد تميز عنهم بالعناء، ويشاور رجاله ولا يستبد دونهم بالقرار.
ولم تطل مدته في القيادة، فقد سارع إلى الشهادة، وإلا لكان له شأن عظيم في سرايا النبي صلى الله عليه وسلم وغزواته، ولكان له شأن عظيم في أيام الفتح الإسلامي العظيم.(11/311)
حمزة في التاريخ
يذكر التاريخ لحمزة، أنه كان شخصية مرموقة من شخصيات قريش في الجاهلية. ويذكر له أن إسلامه كان عزا للإسلام والمسلمين.
ويذكر له أنه كان بطل الإسلام والمسلمين في مكة المكرمة، وظل بطل الإسلام والمسلمين بعد هجرته إلى المدينة المنورة.
ويذكر له أنه تقلد أول لواء في الإسلام في بداية الصراع الحاكم بين المسلمين والمشركين.
ويذكر له أنه بطل الإسلام والمسلمين في غزوة بدر، وكان لجهاده الفذ وشجاعته الخارقة أعظم الأثر في نصر المسلمين على المشركين في تلك الغزوة الحاسمة.
ويذكر له أنه بطل الإسلام والمسلمين في غزوة أحد، فضحى بروحه من أجل(11/311)
عقيدته، ولم يضح بعقيدته من أجل روحه.
ويذكر له أنه خدم الإسلام والمسلمين في السلام كما خدم الإسلام والمسلمين في الحرب.
رضي الله عن سيف الله، وسيف رسوله، سيد الشهداء، أسد الله، وأسد رسوله، عم النبي صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب القرشي الهاشمي.
محمود شيت خطاب(11/312)
منقبة
للملك فيصل
قدس الله روحه
بقلم الدكتور: محمد تقي الدين بن عبد القادر الهلالي.
قبل بضع سنين كنت مقيما في باريس، عند أحد الإخوان من الموحدين. وكنت قد سمعت بأن الطبيب الجراح الشهير الدكتور موريس بوكاي، ألف كتابا بين فيه أن القرآن العظيم، هو الكتاب الوحيد الذي يستطيع المثقف ثقافة علمية عصرية، أن يعتقد أنه حق منزل من الله تعالى، ليس فيه حرف زائد، ولا ناقص، وقلت للأخ الذي أنا مقيم عنده، أريد أن أزور الدكتور الشهير موريس بوكاي، لأعرف سبب نصرته لكتاب الله، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبني بل ذهب إلى الهاتف "التليفون"، وتكلم مع الدكتور موريس بوكاي، وقال له: إن عندي الدكتور محمد تقي الدين الهلالي البالغ من العمر سبعا وثمانين سنة، يريد أن يزورك، ويتحدث معك.
فقال له: أنا أزوره الآن، وبعد قليل طرق الباب فذهب صاحب البيت وفتح الباب، فإذا الدكتور موريس بوكاي قد جاء، فدخل علينا ففرحنا بزيارته وقلت له: أرجو من فضلك أن تحدثنا بسبب تأليفك لكتابك: (التوراة والإنجيل والقرآن، في نظر(11/313)
العلم العصري) فشرع يتكلم فقال لي: إنه كان من أشد أعداء القرآن والرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وكان كلما جاءه مريض مسلم محتاج إلى علاج جراحي يعالجه، فإذا تم علاجه وشفي يقول له: ماذا تقول في القرآن، هل هو من الله تعالى، أنزله على محمد، أم هو من كلام محمد نسبه إلى الله افتراء عليه؟ قال: فيجيبني هو من الله ومحمد صادق، قال: فأقول له: أنا أعتقد أنه ليس من الله وأن محمدا ليس صادقا، فيسكت، ومضيت على ذلك زمانا حتى جاءني الملك فيصل بن عبد العزيز، ملك المملكة العربية السعودية. فعالجته علاجا جراحيا حتى شفي، فألقيت عليه السؤال المتقدم الذكر، فأجابني: بأن القرآن حق، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق. قال: فقلت له: أنا لا أعتقد صدقه. فقال لي الملك فيصل: هل قرأت القرآن؟ فقلت: نعم قرأته مرارا وتأملته.
فقال لي الملك فيصل: هل قرأته بلغته أم بغير لغته، أي بالترجمة فقلت: أنا ما قرأته بلغته، بل قرأته بالترجمة فقط، فقال لي: إذن أنت تقلد المترجم، والمقلد لا علم له؛ إذ لم يطلع على الحقيقة، لكنه أخبر بشيء فصدقه، والمترجم ليس معصوم منه الخطأ والتحريف عمدا، فعاهدني أن تتعلم اللغة العربية وتقرأه بها، وأنا أرجو أن يتبدل اعتقادك هذا الخاطئ.
قال: فتعجبت من جوابه، فقلت له: سألت كثيرا قبلك من المسلمين، فلم أجد الجواب إلا عندك.
ووضعت يدي في يده وعاهدته على أن لا أتكلم في القرآن، ولا في محمد إلا إذا تعلمت اللغة العربية، وقرأت القرآن بلغته، وأمعنت النظر فيه، حتى تظهر لي النتيجة بالتصديق، أو بالتكذيب.
فذهبت من يومي ذلك إلى الجامعة الكبرى بباريس، إلى قسم اللغة العربية، واتفقت مع أستاذ بالأجرة أن يأتيني كل يوم إلى بيتي، ويعلمني اللغة العربية ساعة واحدة، كل يوم حتى يوم الأحد الذي هو يوم الراحة، ومضيت على ذلك سنتين كاملتين لم تفتني ساعة واحدة، فتلقيت منه سبعمائة وثلاثين درسا، وقرأت القرآن بإمعان،(11/314)
ووجدته هو الكتاب الوحيد، الذي يضطر المثقف بالعلوم العصرية، أن يؤمن بأنه من الله، لا يزيد حرف ولا ينقص، أما التوراة والأناجيل الأربعة فيها كذب كثير لا يستطيع عالم عصري أن يصدقها.
انتهى ما دار بيني وبينه من الحديث في هذا الشأن.
وكان في الحاضرين شاب مغربي، تعلم الطب في المغرب، وبعث إلى فرنسا ليتدرب، فقال للدكتور موريس بوكاي: إن القرآن يقول في آخر سورة لقمان {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} (1) ويقول علماء المسلمين إن هذه الخمس لا يعلمها إلا الله، وعلماء هذا العمر يعلمون ما في الأرحام. فغضب الدكتور موريس بوكاي. وقال: هذا كذب، ها أنت تدعي أنك طبيب فتعال معي إلى المستشفى الخاص بي وأعرض عليك نساء حوامل، فأخبرني بما في بطونها، بدليل علمي.
فأسقط في يد الشاب
وقال الدكتور موريس بوكاي: لو علمت أن مثل هذا الشاب موجود في هذا المجلس ما زرتكم.
والآن أذكر شيئا قليلا مما في التوراة من الكذب الواضح الذي لا يعتقده من يؤمن بالأنبياء ويصدقهم.
فمن ذلك أن يعقوب عليه السلام سمع أن زوجة ابنه قاعدة بجانب الطريق تزني بالأجرة، فبعث إليها فجيء بها فأمر برجمها بعدما اعترفت، فقالت له: مهلا، وأخرجت ثوبا وناولته إياه قائلة لمن هذا الثوب؟ . فقال: هذا ثوبي: فقالت له: أنت زنيت بي، وأعطيتني هذا الثوب أجرة، فارجم نفسك أولا، ثم ارجمني.
__________
(1) سورة لقمان الآية 34(11/315)
الكذبة الثانية: أن لوطا عليه السلام كان يسكن في جبل في فلسطين، وكانت له ابنتان بالغتان، ولم يكن له ولد ذكر، فقالت الكبرى للصغرى نحن نسكن في هذا الجبل وحدنا، وقد بدأ والدنا يتقدم في السن، فلو مات لم نستطع أن نبقى وحدنا هنا، فتعالي نسقي والدنا خمرا في ليلة، فإذا سكر أنام معه أنا، وبعد عدة ليال إذا حملت أنا، نسقيه خمرا أخرى فتنامين أنت، لعل الله يرزقنا ولدين ذكرين، يقومان بحمايتنا، فسقتاه خمرا فسكر فنامت معه الصغرى فحملت وولدت كل واحدة منهما ولدا ذكرا، فكان كل واحد من الولدين حبرا لقبيلة من قبائل بني إسرائيل.
الكذبة الثالثة: أن نوحا عليه السلام شرب الخمر فسكر فانكشفت عورته، وكان له ثلاثة من الأولاد: سام، ويافث، وحام. فذهب حام ووجد أباه نوحا سكران مستلقيا على ظهره، مكشوف العورة، فرجع وأخبر أخويه ساما ويافث فأخذا غطاء وجعلا يمشيان إلى الوراء حتى لا يريا عورة أبيهما فلما وصلا إليه، ألقيا عليه الغطاء تم انصرفا، فلما أفاق أبوهما نوح عليه السلام وعلم بذلك، دعا على حام أن يجعل الله ذريته عبيدا لذرية أخويه، فصار أبناؤه كلهم سودا يباعون في الأسواق عبيدا، وأبناء سام ويافث بيضا سادة.
قرأت هذا في التوراة باللغة العبرانية، لما كنت أدرسها في ألمانيا، واسمها العربي في كتاب تخطيط البلدان، لابن الفقيه البغدادي المتوفى في آخر القرن الثالث الهجري " جرمانية ".
والمراد بكتابة هذا المقال تنبيه القراء إلى ما خص الله به الملك فيصل رحمه الله من الذكاء الذي كان سببا في انقلاب الدكتور موريس بوكاي من عدو لدود للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ولدينه الحق اليقين إلى صديق حميم يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن القرآن، بكل ما عنده من القوة، وقد أخبرني بذلك المجلس أن كتابه المذكور ترجم باثنتي عشرة لغة، منها العربية والإنجليزية، وقد حضر مؤتمرات كثيرة في جميع أنحاء العالم، وألقى أحاديث طويلة في إقامة الحجة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وأن القرآن من الله تعالى ليس فيه زيادة(11/316)
ولا نقصان، وقد أخبرني لما اجتمعت به، أن وزير الإعلام المغربي دعاه ليلقي محاضرات في المغرب، ووعده خيرا، ثم جاء إلى المغرب وألقى محاضرات عديدة.
وهذا الرجل وأمثاله حجة في هذا العصر على المرتدين من أبناء المسلمين الذين يزعمون أن العلم العصري هو سبب كفرهم، وقد أقمت الحجة في كتابي: (دواء الشاكي وقامع المشككين) على كذبهم، وأن كفرهم ناشئ عن الجهل للعلوم المدنية والجديدة، وأقمت عليهم الحجة القاطعة المذكورة في ذلك الكتاب بأن زرت جميع السفارات بل أكثرها التي دولها (ديموقراطية) يستطيع كل واحد من أهلها أن يصرح بعقيدته. فسألت الملحق الثقافي في كل سفارة: كم عدد الملحدين في دولتكم؟ فوجدت أكثر الملحدين في الولايات المتحدة الأميركية، وهو ثلاثة في المائة، وقال لي الملحق الثقافي في سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في الرباط: إن الثلاثة في المائة ليس كلهم يجحدون ربوبية الله تعالى، بل كثير منهم يكفرون بالكنيسة فقط؛ لأن الكنيسة الكاثوليكية، إذا خطب رجل تابع للكنيسة البروستانتية امرأة كاثوليكية يحرمونها عليه، فيكفر بالكنيسة، وتكفر المرأة بها فيتزوجان زواجا مدنيا.
أما ضلال النصارى وكذبهم على عيسى، وزعمهم أن الله تعالى ثلاثة أقانيم: الأول: هو الأب. الأقنوم الثاني: الابن. الأقنوم الثالث: روح القدس، وغير ذلك من أكاذيبهم وتناقضهم، يشتمل عليه كتابي (البراهين الإنجيلية على أن عيسى داخل في العبودية، ولا حظ له في الألوهية) وقد طبع منه صاحب السماحة والمعالي رئيسنا الجليل الأستاذ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز أطال الله بقاءه، وأدام عزه وارتقاءه، عشرين ألف نسخة، وكتب إلي الإخوان من المملكة الأردنية، راجين الإذن في إعادة طبعه، وقالوا لي فيه: لم نزل نناظر النصارى فلم نتغلب عليهم إلا بهذا الكتاب، لما ناظرهم به انهزموا شر هزيمة، وكتب إلي شخص من البلاد الفارسية، التي بدل أهلها اسمها بكلمة إيران التي لا وجود لها في التاريخ.(11/317)
وسبب إملاء هذا الحديث أني سمعت هذه القصة في إذاعة المملكة العربية السعودية بالرياض، فظهر لي أن الأستاذ الذي ألقاها إنما اعتمد على رأيه في الكتاب فقط، ولم يجتمع بالدكتور موريس بوكاي، ولا أخبره بسبب تأليفه الكتاب، فأردت إفادة المستمعين لإذاعة المملكة العربية السعودية وغيرها، أن يعرفوا السبب ويزيدوا علما بما خص الله به الملك فيصل بن عبد العزيز، قدس الله روحه من الفضائل والمناقب. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
محمد تقي الدين بن عبد القادر الهلالي
الدار البيضاء - المغرب(11/318)
نداء وتذكير
للتبرع للمجاهدين الأفغان
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فيقول الله تبارك وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) الآية.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر (2) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا (3) » وشبك بين أصابعه، ويقول صلى الله عليه وسلم: «من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا (4) » .
فمساعدة المجاهدين والمهاجرين الأفغانيين من أفضل القربات، ومن أعظم الأعمال الصالحات من الزكاة وغيرها، ومن حكمة الزكاة في الإسلام والصدقات أن يشعر المسلم برابطة تجذبه نحو أخيه؛ لأنه يشعر بما يؤلمه، ويحس بما يقع عليه من كوارث ومصائب، فيرق له قلبه، ويعطف عليه، ليدفع مما آتاه الله بنفس راضية، وقلب مطمئن بالإيمان.
والمجاهدون الأفغان والمهاجرون منهم -وفقهم الله جميعا- يعانون مشكلات في حياتهم، فرغم أن عدوهم وعدو الدين الإسلامي يضربهم بقوته وأسلحته، وبكل ما يستطيع، فإنهم -بحمد الله- صامدون ومصرون على مواصلة الجهاد في سبيل الله كما
__________
(1) سورة البقرة الآية 261
(2) البخاري أدب 27، ومسلم بر 66.
(3) البخاري صلاة 88، ومسلم بر 65.
(4) البخاري جهاد 38، ومسلم جهاد 125 واللفظ لمسلم.(11/319)
تتحدث عنهم الأخبار والصحف، لم يضعفوا ولم تلن شكيمتهم، إلا أن مشكلتهم نتجت من الدمار الذي حل بديارهم، والتخريب الذي أحدثته أسلحة الروس وطائراتهم، والفاقة التي حلت بأهلهم، مما تسبب في هجرة جماعية إلي الباكستان فقد ذكرت الأنباء الأخيرة بأن عدد اللاجئين الأفغان قد وصل إلى ثلاثة ملايين كلهم هربوا من ديارهم وأماكن رزقهم، وأصبحوا بدون مأوى ولا مصدر رزق إلا ما ييسره الله ممن أفاء الله عليه بنعمة ليجود بما يستطيع.
وإنها لدعوة أوجهها لإخواننا المسلمين في كل مكان، بأن يقدموا مما آتاهم الله من رزق ومال بالصدقات التي لا يراد بها إلا وجه الله، ومنها الزكاة التي فرضها الله في أموالهم حقا لمن حددهم الله جل وعلا في سورة التوبة وهم ثمانية. يدخل إخواننا المجاهدون والمهاجرون الأفغان في ضمنهم.
والله تبارك وتعالى عندما فرض الحق في مال الغني لأخيه المسلم في آيات كثيرة من كتابه الكريم كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} (1) {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (2) وقوله سبحانه: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ} (3) .
فإنه يثيب المسلم على ما يقدم لإخوانه ثوابا عاجلا وثوابا أخرويا يجد جزاءه عنده في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. كما ويدفع عنه في الدنيا بعض المصائب التي لولا الله سبحانه ثم الصدقات والإحسان لحلت به أو بماله أو بولده فدفع الله بلاءها بصدقته الطيبة وعمله الصالح، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما نقص مال من صدقة (4) » ويقول صلوات الله وسلامه عليه: «إن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار (5) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «اتقوا النار ولو بشق تمرة (6) » .
وإخوانكم الأفغان أيها المسلمون يقاسون آلام الجوع والغربة والحرب الفردية فهم في أشد الحاجة إلى الكساء والطعام، وفي حاجة إلى الدواء كما أن المجاهدين منهم في أشد
__________
(1) سورة المعارج الآية 24
(2) سورة المعارج الآية 25
(3) سورة الحديد الآية 7
(4) رواه مسلم في كتاب البر، والترمذي في كتاب البر بلفظ (ما نقصت صدقة من مال) .
(5) سنن الترمذي الجمعة (614) .
(6) صحيح البخاري الزكاة (1417) ، صحيح مسلم الزكاة (1016) ، سنن النسائي الزكاة (2553) ، مسند أحمد بن حنبل (4/256) .(11/320)
الضرورة إلى هذه الأشياء وإلى السلاح الذي يقاتلون به أعداء الله أعداءهم؛ فجودوا عليهم أيها المسلمون مما أعطاكم الله. واعطفوا عليهم يبارك الله لكم، وتأسوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في اهتمامه بمن في مثل حالة المهاجرين الأفغان الذين طردوا من ديارهم وبيوتهم كما جاء في الحديث الصحيح عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: «كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء قوم مجتابو النمار أو العباء متقلدو السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة فدخل ثم خرج، فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى، ثم خطب فقال: والآية التي في الحشر تصدق رجل من ديناره من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة. قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها. بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء (3) » رواه مسلم في صحيحه، ثم هذه النفقة تؤجرون عليها، وتخلف عليكم كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (4) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: يا ابن آدم أنفق ننفق عليك (5) » ، فنسأل الله عز وجل أن يضاعف أجركم، ويتقبل منكم ما تجودون به، وأن يعين المجاهدين الأفغان، ويثبت أقدامهم في جهادهم، وأن ينصرهم على عدو الإسلام وعدوهم إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن الترمذي العلم (2675) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، سنن ابن ماجه المقدمة (203) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (514) .
(2) سورة النساء الآية 1 (1) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}
(3) سورة الحشر الآية 18 (2) {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}
(4) سورة سبأ الآية 39
(5) البخاري تفسير، ومسلم في كتاب الزكاة.(11/321)
حديث شريف
عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى (1) »
متفق عليه
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .(11/322)
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1)
صدق الله العظيم
(سورة الأحزاب، الآية 56)
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 56(12/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(12/2)
مجلة البحوث الإسلامية
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(12/3)
المحتويات
الافتتاحية
مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بصفة كاملة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
موضوع العدد
بحث الحكم في السطو والاختطاف والمسكرات - القسم الثاني اللجنة الدائمة للبحوث العلمية 11
الفتاوى
فتاوى عامة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية 85
فتوى عن المسيح عليه السلام اللجنة الدائمة للبحوث العلمية 105
أسئلة الشباب القطري مع سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز التحرير 119
بحوث في العقيدة
بيان الأدلة الشرعية والعقلية على إثبات علو الله سبحانه فوق عرشه الشيخ حمود بن عبد الله التويجري 129(12/4)
قواعد في أسماء الله وصفاته الشيخ محمد العثيمين 209
آيات الصفات الدكتور أحمد سعد الحمدان 247
التصوف من صور الجاهلية الشيخ محمد أمان الجامي 267
بحوث عامة
من أهداف الإسلام الدكتور عبد الله العجلان 293
ترجمة معاني القرآن الكريم الدكتور أحمد عوض الله 305
الإمام وكيع حياته وآثاره الشيخ عبد الرحمن الفيرواني 315
الإسلام ومواجهة حركات التبشير الدكتور سعيد الناصري 353
نداء للتبرع للمسلمين وغيرهم في أفريقيا سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز 365
ما هكذا الدعوة إلى الله.. يا صالح سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز 369
مؤتمرات إسلامية 375(12/5)
صفحة فارغة(12/6)
الافتتاحية
مشروعية الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم) بصفة كاملة، وكراهية الإشارة إليها عند الكتابة بحرف أو أكثر
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه، أما بعد:
فقد أرسل الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، أرسله بالهدى والرحمة ودين الحق، وسعادة الدنيا والآخرة لمن آمن به وأحبه واتبع سبيله صلى الله عليه وسلم، ولقد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فجزاه الله عن ذلك خير الجزاء وأحسنه وأكمله.
وطاعته صلى الله عليه وسلم، وامتثال أمره، واجتناب نهيه، من أهم فرائض الإسلام، وهي المقصود من رسالته. والشهادة له بالرسالة تقتضي محبته واتباعه والصلاة عليه في كل مناسبة وعند ذكره؛ لأن في ذلك أداء لبعض حقه صلى الله عليه وسلم، وشكرا لله على نعمته علينا بإرساله صلى الله عليه وسلم.
وفي الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فوائد كثيرة منها: امتثال أمر الله سبحانه وتعالى، والموافقة له في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، والموافقة لملائكته أيضا في ذلك- قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 56(12/7)
ومنها أيضا مضاعفة أجر المصلي عليه، ورجاء إجابة دعائه، وسبب لحصول البركة، ودوام محبته صلى الله عليه وسلم وزيادتها وتضاعفها، وسبب هداية العبد وحياة قلبه، فكلما أكثر الصلاة عليه وذكره استولت محبته على قلبه؛ حتى لا يبقى في قلبه معارضة لشيء من أوامره، ولا شك في شيء مما جاء به.
كما أنه صلوات الله وسلامه عليه رغب في الصلاة عليه بأحاديث كثيرة ثبتت عنه منها ما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا (1) » وعنه رضي الله عنه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم (2) » . وقال صلى الله عليه وسلم: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي (3) » .
وبما أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مشروعة في الصلوات في التشهد، ومشروعة في الخطب والأدعية والاستغفار، وبعد الأذان، وعند دخول المسجد والخروج منه، وعند ذكره وفي مواضع أخرى، فهي تتأكد عند كتابة اسمه في كتاب أو مؤلف أو رسالة أو مقال أو نحو ذلك؛ لما تقدم من الأدلة. والمشروع أن تكتب كاملة؛ تحقيقا لما أمرنا الله تعالى به، وليتذكرها القارئ عند مروره عليها، ولا ينبغي عند الكتابة الاقتصار في الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلمة (ص) أو (صلعم) وما أشبهها من الرموز التي قد يستعملها بعض الكتبة والمؤلفين؛ لما في ذلك من مخالفة أمر الله - سبحانه وتعالى - في كتابه العزيز بقوله: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (4) . مع أنه لا يتم بها المقصود، وتنعدم الأفضلية الموجودة في كتابة (صلى الله عليه وسلم) كاملة. وقد لا ينتبه لها القارئ أو لا يفهم المراد بها، علما بأن الرمز لها قد كرهه أهل العلم وحذروا منه.
فقد قال ابن الصلاح في كتابه علوم الحديث المعروف بمقدمة ابن الصلاح في النوع الخامس والعشرين من كتابة الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده، قال ما نصه:
التاسع: أن يحافظ على كتابة الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذكره، ولا
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (384) ، سنن الترمذي المناقب (3614) ، سنن النسائي الأذان (678) ، سنن أبو داود الصلاة (523) ، مسند أحمد بن حنبل (2/168) .
(2) أخرجه أبو داود وأحمد في كتاب المناسك، باب زيارة القبور، وأحمد في 2 \ 316.
(3) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، وقال: حديث حسن غريب.
(4) سورة الأحزاب الآية 56(12/8)
يسأم من تكرير ذلك عند تكرره، فإن ذلك من أكبر الفوائد التي يتعجلها طلبة الحديث وكتبته، ومن أغفل ذلك فقد حرم حظا عظيما. وقد رأينا لأهل ذلك منامات صالحة، وما يكتبه من ذلك فهو دعاء يثبته لا كلام يرويه فلذلك لا يتقيد فيه بالرواية. ولا يقتصر فيه على ما في الأصل.
وهكذا الأمر في الثناء على الله سبحانه عند ذكر اسمه نحو عز وجل وتبارك وتعالى، وما ضاهى ذلك إلى أن قال: (ثم ليتجنب في إثباتها نقصين: أحدهما أن يكتبها منقوصة صورة رامزا إليها بحرفين أو نحو ذلك، والثاني: أن يكتبها منقوصة معنى بألا يكتب (وسلم) ، وروي عن حمزة الكناني - رحمه الله تعالى - أنه كان يقول: كنت أكتب الحديث، وكنت أكتب عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أكتب (وسلم) ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: ما لك لا تتم الصلاة علي؟ قال: فما كتبت بعد ذلك صلى الله عليه إلا كتبت (وسلم) إلى أن قال ابن الصلاح: قلت ويكره أيضا الاقتصار على قوله (عليه السلام) والله أعلم. انتهى المقصود من كلامه - رحمه الله تعالى- ملخصا.
وقال العلامة السخاوي - رحمه الله تعالى - في كتابه "فتح المغيث شرح ألفية الحديث للعراقي " ما نصه: واجتنب أيها الكاتب (الرمز لها) أي: الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطك، بأن تقتصر منها على حرفين ونحو ذلك فتكون منقوصة - صورة - كما يفعله (الكتاني) والجهلة من أبناء العجم غالبا وعوام الطلبة فيكتبون بدلا من صلى الله عليه وسلم (ص) أو (صم) أو (صلم) أو (صلعم) فذلك لما فيه من نقص الأجر لنقص الكتابة خلاف الأولى.
وقال السيوطي - رحمه الله تعالى - في كتابه "تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي ": ويكره الاقتصار على الصلاة أو التسليم هنا وفي كل موضع شرعت فيه الصلاة كما في شرح مسلم وغيره؛ لقوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) . إلى أن قال: ويكره الرمز إليهما في الكتابة بحرف أو حرفين كمن يكتب (صلعم) بل يكتبهما بكمالهما. انتهى المقصود من كلامه - رحمه الله تعالى- ملخصا.
هذا ووصيتي لكل مسلم وقارئ وكاتب أن يلتمس الأفضل، ويبحث عما فيه زيادة أجره وثوابه، ويبتعد عما يبطله أو ينقصه. نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يوفقنا جميعا لما فيه رضاه، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 56(12/9)
صفحة فارغة(12/10)
الحكم في السطو والاختطاف والمسكرات
" القسم الثاني "
إعداد: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الفرق بين حقيقة كل من الخمر والمخدر والمفتر والعلاقة بينهما:
لا يليق بمن يريد أن يبين الحكم الشرعي في تعاطي شيء من هذه الأنواع الثلاثة أن يتكلم في ذلك إلا بعد أن يعرف من خواصها وآثارها في متعاطيها، وفي المجتمع ما يسهل له الرجوع بها إلى نصوص الشريعة عامها وخاصها، وينير له الطريق في الحكم عليها وإلا كان كمن يقتحم لجة البحر؛ ليسبح فيها وهو لا يحسن السباحة. وكان جريئا على القول على الله بغير علم. وقد نهى سبحانه عن ذلك في عموم قوله: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (1) .
وفيما يلي بيان معانيها وخواصها:
أما الخمر فقد تقدم الكلام على معناها لغة وشرعا بما فيه الكفاية إن شاء الله.
وأما المخدر: فهو مأخوذ من الخدر وهو الضعف والكسل والفتور والاسترخاء، يقال: خدر العضو إذا استرخى فلا يطيق الحركة، وخدر الشارب كفرح خدرا إذا فتر وضعف، ويطلق الخدر أيضا على ظلمة المكان وغموضه، يقال: مكان أخدر إذا كان مظلما ومنه قيل للظلمة الشديدة: خدرة وكل ما منعك بصرك عن شيء، وحجبه عنه فقد أخدره.
والخدر كل ما واراك، ومنه خدر الجارية وهو ما استترت فيه من البيت، وخدر الأسد يخدر وأخدر لزم خدره وأقام به، وخدره أكمته وأخدره عرينه واراه، ويطلق الخدر أيضا على البرودة- يقال: ليلة خدرة- إذا كانت باردة، ويوم خدر إذا كان باردا. ويطلق الخدور على التحير يقال: رجل خادر- إذا كان متحيرا. . .
__________
(1) سورة الإسراء الآية 36(12/11)
من هذا يتبين أن المادة تدور على معنى الضعف والكسل والفتور. ومعنى الظلمة والسير والغموض، وعلى معنى البرودة ومعنى لزوم الشيء والإقامة به، ويتبع ذلك الجبن والشاخر والخيرة والتردد والتبلد وعدم الغيرة. وكل هذه المعاني متحققة فيمن يتعاطى المخدرات مائعها وجامدها.
وأما المفتر: فهو مأخوذ من التفتير والإفتار وهو ما يورث ضعفا بعد قوة، وسكونا بعد حدة وحركة، واسترخاء بعد صلابة، وقصورا بعد نشاط، يقال: فتره الأفيون مثلا يفتره تفتيرا وأفتره يفتره إفتارا إذا أصابه بما ذكر من الضعف والقصور والاسترخاء، ففتر يفتر، ويفتر لان بعد شدة واسترخى بعد صلابة، وضعف بعد قوة، وكسل بعد نشاط، وكل هذه الآفات متحققة فيمن يتعاطى المخدرات على اختلاف أنواعها مائعها وجامدها.
مما تقدم يتبين أن بين الثلاثة صلة وثيقة، ونسبا قويا، وإن اختلفت مفاهيمها، فإن كلا منها يجني على العقل، يعبث به، ويذهب برشده، ويقضي على صوابه، فلا يكاد يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، ويجني على الأعصاب وسائر قوى البدن والأخلاق حيرة واضطرابا وذبولا وضعفا ومرضا، ورخاوة وفتورا وجبنا وخورا. ومن هنا أيضا كان شربها أو تناولها جناية على الدين ومدرجة لانتهاك الحرمات، والاعتداء على النفوس والأعراض ومضيعة للأموال، وفي ذلك إخلال بكليات الشريعة العليا. ومقاصدها الضرورية التي علم من الإسلام وجوب المحافظة عليها، والتي فرض الله الحدود والتعزيرات من أجل صيانتها من قريب ومن بعيد؛ تحقيقا لأمن الأمة وتطهيرا للمجتمع مما يدنسه، ويقضي على راحته وطمأنينته وسيأتي بيان مضار استعمالها بعنوان:
"دراسات حديثة تؤيد وجهة نظر فقهاء الإسلام " إن شاء الله تعالى.(12/12)
ما يثبت أنه شربها من شهادة أو رائحة أو قيء ونحو ذلك:
يثبت شرب الخمر بشهادة الشهود والإقرار والرائحة والسكر والقيء، ونظرا إلى أن الرائحة والقيء من قرائن الأحوال التي يثبت بها الشرب عند جماعة من العلماء فإننا نذكر نقولا عن أهل العلم بالعمل بالقرائن، ثم نذكر أدلة العمل بها من الكتاب والسنة وطائفة من أمثلة العمل بها، وبعد ذلك نتكلم على هذه الأدلة الخمسة مبينين خلاف العلماء في كل دليل ومستندهم مع المناقشة:(12/12)
أ- أما كلام العلماء فمن ذلك ما جاء في معين الحكام، قال بعض العلماء: على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح وهو قوة التهمة، ولا خلاف في الحكم بها، وقد جاء العمل بها في مسائل اتفق عليها الطوائف الأربع. انتهى (1) .
وقال ابن فرحون نقلا عن ابن العربي ما يتفق مع هذا الكلام (2) .
وقال ابن القيم: ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم، أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط بها علما.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم في كتابه وعلى لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا، فالعالم من يتوصل بمعرفته الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله - ومضى في ذكر الأدلة والأمثلة إلى أن قال: ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله. انتهى (3) .
ب- وأما ما يدل على ذلك من الكتاب فمنه قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (4) {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (5) {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} (6) .
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - على هذه الآية: (يفهم من هذه الآية لزوم الحكم بالقرينة الواضحة الدالة على صدق أحد الخصمين، وكذب الآخر؛ لأن ذكر الله لهذه القصة في معرض تسليم الاستدلال بتلك القرينة على براءة يوسف يدل على أن الحكم بمثل ذلك حق وصواب؛ لأن كون القميص مشقوقا من جهة دبره دليل واضح على أنه هارب عنها وهي تنوئه من خلفه، ولكنه تعالى بين في موضع آخر أن محل العمل بالقرينة ما لم تعارضها قرينة أقوى منها فإن عارضها قرينة أقوى منها أبطلت وذلك في
__________
(1) معين الحكام \ 161.
(2) تبصرة الحكام 2 \ 201 على هامش فتاوى عليش.
(3) أعلام الموقعين 1 \ 94 - 95.
(4) سورة يوسف الآية 26
(5) سورة يوسف الآية 27
(6) سورة يوسف الآية 28(12/13)
قوله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (1) لأن أولاد يعقوب لما جعلوا يوسف في غيابة الجب جعلوا على قميصه دم سخلة؛ ليكون وجود الدم على قميصه قرينة على صدقهم في دعواهم أنه أكله الذئب، ولا شك أن الدم قرينة على افتراس الذئب له، ولكن يعقوب أبطل قرينتهم هذه بقرينة أقوى منها وهي عدم شق القميص فقال: سبحان الله! متى كان الذئب حليما يأكل يوسف ولا يشق قميصه! ولذا صرح بتكذيبه لهم في قوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (2) . وهذه الآيات المذكورة أصل في الحكم بالقرائن (3) انتهى.
والأظهر أن تكذيب يعقوب لبنيه في دعواهم أن الذئب أكل يوسف ليس من أجل كون الدم ليس دم إنسان، ولا من أجل كون الثوب لم يخرق؛ لأن هذين الأمرين منقولان عن بني إسرائيل ونحوهم، وأخبارهم لا تصدق ولا تكذب ولا يعتمد عليها إلا بدليل يدل على صحتها، وإنما كذبهم لأمر آخر إما لكون الرؤيا التي رآها يوسف في سجود الكواكب والشمس والقمر له لم تتحقق، وإما لوحي أوحاه الله إليه عرف منه ما يدل على كذبهم في دعواهم.
جـ - وأما الأدلة من السنة فمن ذلك:
1 - أنه صلى الله عليه وسلم اعتبر باللوث في القسامة وجوز للمدعين أن يحلفوا خمسين يمينا ويستحقوا دم القتيل في حديث حويصة ومحيصة.
2 - أنه صلى الله عليه وسلم أمر الزبير أن يقرر عم حيي بن أخطب بالعذاب على إخراج المال الذي غيبه وادعى نفاده فقال: العهد قريب والمال أكثر من ذلك.
3 - أنه صلى الله عليه وسلم أمر الملتقط أن يدفع اللقطة إلى واصفها، وجعل وصفه لعفاصها ووكائها قائما مقام البينة.
4 - حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلفائه من بعده بالقافة وجعلها دليلا على ثبوت
__________
(1) سورة يوسف الآية 18
(2) سورة يوسف الآية 18
(3) أضواء البيان \ 2 \ 69 -70، ويرجع إلى تبصرة الحكام لابن فرحون 2 \ 101.(12/14)
النسب، وليس فيها إلا مجرد الأمارات والعلامات.
5 - ابنا عفراء تداعيا قتل أبي جهل يوم بدر فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا. فقال صلى الله عليه وسلم: أرياني سيفيكما، فلما نظر فيهما قال لأحدهما هذا قتله وحكم له بسلبه (1) » .
هـ- وأما المسائل التطبيقية للعمل بها فقد ذكر صاحب معين الحكام وابن فرحون والإمام ابن القيم مسائل كثيرة نذكر منها ما يلي:
الأولى: أن الفقهاء كلهم يقولون بجواز وطء المرأة إذا أهديت إليه ليلة الزفاف، وإن لم يشهد عنده عدلان من الرجال أن هذه فلانة بنت فلان التي عقدت عليها، وإن لم يستنطق النساء أن هذه امرأته؛ اعتمادا على القرينة الظاهرة المنزلة منزلة الشهادة.
الثانية: أن الناس قديما وحديثا لم يزالوا يعتمدون في الصبيان والإماء المرسل معهم الهدايا، وأنها مرسلة إليهم فيقبلون أموالهم ويأكلوا الطعام المرسل به، ونقل القرافي أن خبر الكافر في ذلك كاف.
الثالثة: أنهم يعتبرون إذن الصبيان في الدخول إلى المنزل.
الرابعة: أن الضيف يشرب من كوز صاحب البيت، ويتكئ على وسادته، ويقضي حاجته في مرحاضه من غير استئذان، ولا يعد متصرفا في ملكه بغير إذنه.
الخامسة: جواز أخذ ما يسقط من الإنسان إذا لم يعرف صاحبه مما لا يتبعه الإنسان نفسه كالفلس والتمرة والعصا ونحو ذلك.
ووأما الأدلة التي يستدل بها على شربها فقد سبق أنها الشهادة والإقرار والرائحة والقيء والسكر. فأما الشهادة فيشترط أن لا يقل عدد الشهود عن رجلين، تتوفر فيهما شروط الشهادة، ويزيد أبو حنيفة وأبو يوسف على هذا بأن تكون الرائحة قائمة وقت تحمل الشهادة، ويخالفهما محمد فلا يشترط ذلك.
__________
(1) تبصرة الحكام 2 \ 103.(12/15)
وأما الإقرار فيكفي مرة واحدة في المذاهب الأربعة، ويرى أبو يوسف أن كل إقرار يسقط بالرجوع، فعدد الإقرار فيه كعدد الشهود، فلا بد من الإقرار مرتين عنده، وأما الرائحة فالمقدم في مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - أنه لا يجب الحد بوجود الرائحة، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي - رحمهما الله تعالى -، ويخالفهم مالك - رحمه الله - فيرى وجوب الحد بوجود الرائحة، وقوله هذا رواية عن أحمد - رحمه الله -.
وكذلك القيء، لا يعتبر وجوده دليلا شرعيا عند أبي حنيفة، وهو مذهب الشافعي - رحمه الله -، ورواية عن أحمد - رحمه الله -، ويخالفهم مالك - رحمه الله - وهو الرواية الثانية في مذهب أحمد - رحمه الله - وهو القول بوجوب الحد اعتمادا على القيء.(12/16)
وأما السكر فالشافعي ومن وافقه يرون عدم حده، والرواية المقدمة في مذهب أحمد ومن يقول بها من العلماء أنه يحد.
وفيما يلي نقول عن فقهاء الإسلام في ذلك مع أدلتهم ومناقشتها:
1 - جاء في "البداية وشرحها الهداية" ومن شرب الخمر فأخذ وريحها موجودة، وجاءوا به سكران فشهد الشهود عليه بذلك؛ فعليه الحد، وكذلك إذا أقر وريحها موجودة؛ لأن جناية الشرب قد ظهرت ولم يتقادم العهد، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: «من شرب الخمر فاجلدوه؛ فإن عاد فاجلدوه (1) » .
وإن أقر بعد ذهاب رائحتها لم يحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -، وقال محمد - رحمه الله -: يحد وكذلك إذا شهدوا عليه بعد ما ذهب ريحها والسكر، لم يحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وقال محمد - رحمه الله -: يحد فالتقادم يمنع قبول الشهادة بالاتفاق غير أنه مقدر بالزمان عنده اعتبارا بحد الزنا، وهذا لأن التأخير يتحقق بعض الزمان والرائحة قد تكون من غيره كما قيل:
يقولون لي أني شربت مدامة ... فقلت لهم لا بل أكلت السفرجلا
وعندهما يقدر بزوال الرائحة لقول ابن مسعود رضي الله عنه فيه: فإن وجدتم رائحة الخمر فاجلدوه.
ولأن قيام الأثر من أقوى دلالة القرب وإنما يصار إلى التقدير بالزمان عند تعذر اعتباره، والتمييز بين الروائح ممكن للمستدل وإنما تشتبه على الجهال. وأما الإقرار فالتقادم
__________
(1) سنن أبو داود الحدود (4485) .(12/16)
لا يبطله عند محمد - رحمه الله - كما في حد الزنا على ما مر تقريره، وعندهما لا يقام الحد إلا عند قيام الرائحة؛ لأن حد الشرب ثبت بإجماع الصحابة رضي الله عنهم ولا إجماع إلا برأي ابن مسعود رضي الله عنه وقد شرط قيام الرائحة على ما روينا.
قال: فإن أخذه الشهود، وريحها توجد منه وهو سكران، فذهبوا به من مصر إلى مصر فيه الإمام فانقطع ذلك قبل أن ينتهوا به صرف قولهم جميعا؛ لأن هذا عذر كبعد المسافة في حد الزنا والشاهد لا يتهم في مثله.
". . . ولا حد على من وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها " لأن الرائحة محتملة وكذا الشرب، قد يقع عن إكراه أو اضطرار، ويثبت الشرب بشهادة شاهدين ويثبت بالإقرار مرة واحدة، وعن أبي يوسف - رحمه الله - أنه يشترط الإقرار مرتين وهو نظير الاختلاف في السرقة، ولا تقبل فيه شهادة النساء مع الرجال؛ لأن فيها شبهة البدلية وتهمة الضلال والنسيان. انتهى (1) .
وقال ابن الهمام على قول صاحب الهداية: والرائحة قد تكون من غيره إلخ. قال: يظهر أن رائحة الخمر مما يلتبس بغيرها، فلا يناط شيء من الأحكام بوجودها ولا بذهابها، ولو سلمنا أنها لا تلتبس على ذوي المعرفة فلا موجب لتقييد العمل بالبينة بوجودها؛ لأن المعقول تقييد قبولها بعدم التهمة، والتهمة لا تتحقق في الشهادة بسبب وقوعها بعد ذهاب الرائحة، بل بسبب تأخير الأداء تأخيرا يعد تفريطا، وذلك منتف في تأخير يوم ونحوه، وبه تذهب الرائحة.
أجاب المصنف وغيره بما حاصله أن اشتراط قيام الرائحة لقبول الشهادة عرف من قول ابن مسعود، وهو ما روى عبد الرزاق حدثنا سفيان الثوري عن يحيى بن عبد الله التميمي الجابر عن أبي ماجد الحنفي قال: جاء رجل بابن أخ له سكران إلى عبد الله بن مسعود فقال عبد الله: ترتروه ومزمزوه واستنكهوه، ففعلوا فرفعه إلى السجن ثم عاد به من الغد ودعا بسوط ثم أمر به، فدقت تمرته بين حجرين حتى صارت درة، ثم قال للجلاد: اجلد وارجع يدك وأعط كل عضو حقه.
ومن طريق عبد الرزاق رواه الطبراني، ورواه إسحاق بن راهويه أخبرنا جرير عن
__________
(1) البداية ومعها الهداية \ 2 \ 111 \ 112.(12/17)
عبد الحميد عن يحيى بن عبد الله الجابر به.
ودفع بأن محل النزاع كون الشهادة لا يعمل بها إلا مع قيام الرائحة، والحديث المذكور عن ابن مسعود ليس فيه شهادة منع من العمل بها؛ لعدم الرائحة وقت أدائها، بل ولا إقرار إنما فيه أنه حده بظهور الرائحة بالترترة والمزمزة، والمزمزة: التحريك بعنف والترترة والتلتلة التحريك، وهما بتاءين متتاليتين من فوق، قال ذو الرمة يصف بعيرا:
بعيد مساف الخطو غوج شمردل ... تقطع أنفاس المهارى ثلاثا
أي حركاته، والمساف جمع مسافة، والغوج بالغين المعجمة الواسع الصدر، ومعنى تقطع ثلاثا أنفاس المهارى أنه إذا بارها في السير أظهر في أنفاسها الضيق لما يجهدها، وإنما فعله؛ لأن بالتحريك تظهر الرائحة من المعدة التي كانت خفت، وكان ذلك مذهبه، ويدل عليه ما في الصحيحين عن ابن مسعود «أنه قرأ سورة يوسف فقال رجل: ما هكذا أنزلت، فقال عبد الله: والله لقد قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: أحسنت (1) » ، فبينما هو يكلمه إذ وجد منه رائحة الخمر فقال: أتشرب الخمر وتكذب بالكتاب فضربه الحد.
وأخرج الدارقطني بسند صحيح عن السائب بن يزيد عن عمر بن الخطاب أنه ضرب رجلا وجد منه ريح الخمر، وفي لفظ ريح شراب. والحاصل أن حده عند وجود الريح مع عدم البينة والإقرار لا يستلزم اشتراط الرائحة مع أحدهما، ثم هو مذهب لبعض العلماء منهم مالك، وقول للشافعي برواية عن أحمد والأصح عن الشافعي وأكثر أهل العلم نفيه، وما ذكرناه عن عمر يعارض ما ذكرنا عنه أنه عزر من وجد منه الرائحة ويترجح؛ لأنه أصح وإن قال ابن المنذر: ثبت عن عمر أنه جلد من وجد منه رائحة الخمر حدا تاما، وقد استبعد بعض أهل العلم حديث ابن مسعود من جهة المعنى وهو أن الأصل في الحدود إذا جاء صاحبها مقرا أن يرد ويدرأ ما يستطيع فكيف يأمر ابن مسعود بالمزمزة عند عدم الرائحة؛ ليظهر الريح فيحده، فإن صح فتأويله أنه كان رجلا مولعا بالشراب مدمنا عليه فاستجاز ذلك فيه (2) . انتهى.
ويمكن أن يقال: إنه إنما أمر بترترته ومزمزته؛ لكونه لم يأت تائبا وإنما جاء به عمه؛ ليقام
__________
(1) صحيح البخاري فضائل القرآن (5001) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (801) ، مسند أحمد بن حنبل (1/425) .
(2) فتح القدير \ 4 \ 180.(12/18)
عليه الحد؛ فأراد ابن مسعود أن يستثبت في وقوع الشرب منه بالعمل المذكور؛ لتظهر الرائحة.(12/19)
قال ابن فرحون:
ويجب الحد على من وجدت منه رائحة الخمر أو قاءها، وحكم به عمر رضي الله تعالى عنه، وفي حديث ماعز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أشربت خمرا؟ فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر (1) » - قال اللخمي: فيه دليل أن الرائحة يقضي بها دليل آخر أن إقرار السكران غير لازم.
(مسألة) قال اللخمي - رحمه الله تعالى -: ذهب مالك رضي الله تعالى عنه وجماعة من أصحابه إلى أن الحد يجب على من وجد منه ريح السكر، والدليل على ذلك ما روي عن السائب بن يزيد أنه حضر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو يجلد رجلا وجد منه ريح شراب فجلده الحد تاما، والدليل من جهة المعنى أن هذا معنى يعلم به صفة ما شرب المكلف وجنسه، فوجب أن يكون طريقا إلى إثبات الحد وأصل ذلك الرؤية لما شربه، بل الرائحة أقوى من معرفة حال المشروب من الرؤية؛ لأن الرؤية لا يعلم بها الشراب أسكر هو أم لا، وإنما يعلم ذلك برائحته.
(فصل) والكلام في ذلك يتعلق بثلاثة أمور الأول: فيمن يجب استنكاهه، الثاني: فيمن يثبت ذلك بشهادته، الثالث: فيما يجب بذلك إذا تيقن رائحة السكر أو أشكلت.
(الأول) : فيمن يجب استنكاهه وذلك فيما يرى الحاكم منه تخليطا في قول أو مشي يشبه السكران ففي الموازية من رواية أصبغ عن ابن القاسم أنه إذا رأى ذلك منه أمر باستنكاهه قال: لأنه قد بلغ إلى الحاكم فلا يسعه إلا تحققه، فإذا ثبت الحد حد أمامه.
(مسألة) : وكذلك لو شم منه رائحة ينكرها أو أنكرها بحضرته من ينكرها، قال الباجي: فعندي أنه قد تعين عليه استنكاهه وتحقق حاله؛ لأن هذه صفة ينكرها حاله ويستراب بها ويقوى بها الظن في وجوب الحد عليه، فيجب بذلك اختباره وتحقق حاله كالتخليط في الكلام والمشي.
(مسألة) : فإن لم يظهر منه شيء من هذه الأحوال يريد التخليط في القول والمشي لم يستنكه، رواه أصبغ عن ابن القاسم بالعتبية والموازية قال: ولا يتجسس عليه، ووجه ذلك إن لم ير منه ريبة ولا خروجا عن أحوال الناس المعتادة، فلا يجوز التجسس على الناس والتعرض لهم من غير ريبة.
(الثاني) فيمن يثبت ذلك بشهادته قال القاضي أبو
__________
(1) صحيح مسلم الحدود (1695) .(12/19)
الوليد: فأما من يثبت ذلك عليه بشهادته فإنه يحتاج إلى معرفة صفتهم وعددهم، فأما صفتهم فقد قال القاضي أبو الحسن في كتابه: إن صفة الشاهدين على الرائحة، أن يكونا ممن خبر شربها في وقت ما، إما في حال كفرهما أو شرباها في إسلامهما فجلدا ثم تابا؛ حتى يكونا ممن يعرف الخمر بريحها- قال القاضي أبو الوليد: هذا عندي فيه نظر؛ لأن من هذه صفته معدوم قليل ولو لم تثبت الرائحة إلا بشهادة من هذه صفته لبطلت الشهادة بها في الأغلب، وقد يكون من لم يشربها قط يعرف رائحتها معرفة صحيحة؛ بأن يخبره عنها المرة بعد المرة من قد شربها أنها هي رائحة الخمر حتى يعرف ذلك كما يعرفها الذي قد شربها.
(مسألة) : وأما العدد فلا يخلو أن يكون الحاكم أمر الشهود بالاستنكاه أو فعلوا هم ذلك ابتداء، فإن كان الحاكم أمرهم بذلك فقد روى ابن حبيب عن أصبغ أنه يستحب أن يأمر شاهدين، فإن لم يكن إلا واحدا وجب به الحد، وأما إن كان الشهود فعلوا ذلك من قبل أنفسهم فلا يجزئ أقل من اثنين كالشهادة على الشرب، وقد روى ابن وهيب عن مالك رضي الله تعالى عنه أنه إن لم يكن مع الحاكم إلا واحدا فليرفعه إلى من هو فوقه، قال القاضي أبو الوليد - رحمه الله تعالى -: وما رواه ابن حبيب عن أصبغ مبني على أن الحاكم يحكم بعلمه فلذلك جاز عنده علم من استنابه وإلا فقد يجب أن لا يحد في ذلك حتى يشهد عنده فيه شاهدان.
(الثالث) : فيما يجب بشهادة الاستنكاه ولا يخلو أن يكون الشهود متيقنين للرائحة أو شاكين فيها، فإن كانوا متيقنين للرائحة فلا يخلو أن يتفقوا على أنها رائحة مسكر أو على أنها غير رائحة مسكر، أو يختلفوا في ذلك؛ فإن اتفقوا على أنها غير رائحة مسكر فلا نعلم في المذهب خلافا في وجوب ترك الحد، وإن اتفقوا على أنها رائحة مسكر وجب الحد عليه وإن اختلفوا في ذلك، فقال بعضهم: رائحة مسكر، وقال بعضهم: ليس برائحة مسكر، فقد قال ابن حبيب: إذا اجتمع منهم اثنان على أنها رائحة مسكر حد؛ ووجه ذلك أن الشهادة قد قامت وكملت، ولا يؤثر في ذلك نفي من نفى مقتضاها، كما لو شهد شاهدان أنهما رأياه شرب خمرا، وقال آخران: لم يشرب خمرا.
(مسألة) : فإن شك الشهود في الرائحة هل هي رائحة مسكر أو غيره نظرت حاله؛ فإن كان من أهل السفه نكل، وإن كان من أهل العدل خلي سبيله، حكاه ابن القاسم في العتبية والموازية، ووجه ذلك أن من عرف بالسفه والشر والتخليط خيف أن يكون ما شك فيه مما حرم عليه، ووجب أن يزجر عن التسمية بذلك؛ لكي لا يتطرق بذلك إلى إظهار معصية، وأما من كان من أهل العدل فتبعد عنه الريبة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(مسألة) قال(12/20)
القاضي أبو الوليد - رحمه الله تعالى-: فإذا ثبت ذلك فإن الحد يتعلق بما يقع به النظر من تجاوز الشراب من الفم إلى الحلق.
(مسألة) : ولو شهد شاهدان أنه قاء خمرا وجب عليه الحد؛ لأنه لا يقئها حتى يشربها، وقد روي نحو هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وسيأتي في باب القضاء بالسياسة صفة الشهادة وصفة الضارب والضرب، وما يضاف إلى الحد إن شاء الله تعالى.
3 - جاء في المنهاج وشرحه نهاية المحتاج " ويحد بإقراره وشهادة رجلين " أو علم السيد دون غيره كما مر نظيره في السرقة لا بريح خمر و "هيئة" سكر وقيء؛ لاحتمال أنه احتقن أو أسعط بها، أو أنه شربها؛ لعذر من غلط أو إكراه. أما حد عثمان بالقيء فاجتهاد له، ويكفي في إقرار وشهادة شرب خمرا أو شرب مما شرب منه غيره فسكر، وسواء أقال وهو محتار عالم أم لا كما في نحو بيع وطلاق؛ إذ الأصل عدم الإكراه، والغالب من حال الشارب علمه بما يشربه.
وقيل: يشترط في كل من المقر والشاهد أن يقول شربها وهو عالم به مختار لاحتمال ما مر كالشهادة بالزنا؛ إذ العقوبة لا تثبت إلا بيقين، وفرق الأول بأن الزنا قد يطلق على مقدماته كما في الخبر على أنهم سامحوا في الخمر؛ لسهولة حدها ما لم يسامحوا في غيرها؛ لا سيما مع أن الابتداء بكثرة شربها يقتضي التوسع في سبب الزجر عنها، فوسع فيه ما لم يوسع في غيره.
ويعتبر على الثاني زيادة من غير ضرورة؛ احترازا من الإساغة والشرب لنحو عطش أو تداو. انتهى (1) .
__________
(1) المنهاج وشرحه نهاية المحتاج \ 8 \ 16.(12/21)
4 - وقال ابن قدامة:
ولا يجب الحد حتى يثبت شربه بأحد شيئين: الإقرار والبينة، ويكفي في الإقرار مرة واحدة في قول عامة أهل العلم؛ لأنه حد لا يتضمن إتلافا فأشبه حد القذف، وإذا رجع عن إقراره قبل رجوعه؛ لأنه حد لله - سبحانه - فقبل رجوعه عنه كسائر الحدود، ولا يعتبر مع الإقرار وجود الرائحة.
وحكي عن أبي حنيفة لا حد عليه إلا أن توجد رائحة، ولا يصح؛ لأنه أحد بينتي الشرب فلم يعتبر معه وجود الرائحة كالشهادة، ولأنه قد يقر بعد زوال الرائحة عنه، ولأنه إقرار بحد فاكتفي به كسائر الحدود.(12/21)
(فصل) ولا يجب الحد بوجود الرائحة للخمر من فيه في قول أكثر أهل العلم منهم الثوري وأبو حنيفة والشافعي، وروى أبو طالب عن أحمد أنه يحد بذلك وهو قول مالك؛ لأن ابن مسعود جلد رجلا وجد منه رائحة الخمر.
وروي عن عمر أنه قال: إني وجدت من عبيد الله ريح شراب فأقر أنه شرب الطلا، فقال عمر: إني سائل عنه فإن كان يسكر جلدته.
ولأن الرائحة تدل على شربه فجرى مجرى الإقرار.
والأول أولى؛ لأن الرائحة يحتمل أنه تمضمض بها وحسبها ماء فلما صارت إلى فيه مجها وظنها لا تسكر أو كان مكرها، أو أكل نبقا بالغا أو شرب شراب التفاح فإنه يكون منه كرائحة الخمر، وإذا احتمل ذلك لم يجب الحد الذي يدرأ بالشبهات، وحديث عمر حجة لنا فإنه لم يحده بوجود الرائحة، ولو وجب ذلك لبادر إليه عمر.
(فصل) : وإن وجد سكران أو تقيأ الخمر فعن أحمد لا حد عليه؛ لاحتمال أن يكون مكرها أو لم يعلم أنها تسكر، وهذا مذهب الشافعي، ورواية أبي طالب عنه في الحد بالرائحة يدل على وجوب الحد هاهنا بطريق الأولى؛ لأن ذلك لا يكون إلا بعد شربها فأشبه ما لو قامت البينة عليه بشربها.
وقد روى سعيد حدثنا هشيم حدثنا المغيرة عن الشعبي قال: لما كان من أمر قدامة ما كان جاء علقمة الخصي فقال: أشهد أني رأيته يتقيؤها، فقال عمر: من قاءها فقد شربها، فضربه الحد.
وروى حصين بن المنذر الرقاشي قال: "شهدت عثمان وأتي بالوليد بن عقبة فشهد عليه حمران ورجل آخر؛ فشهد أحدهما أنه رآه شربها، وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها، فقال لعلي: أقم عليه الحد، فأمر علي عبد الله بن جعفر فضربه " رواه مسلم.
وفي رواية له فقال عثمان: لقد تنطعت في الشهادة وهذا بمحضر من علماء الصحابة وسادتهم، ولم ينكر فكان إجماعا؛ ولأنه يكفي في الشهادة عليه أنه شربها ولا يتقيؤها، أو لا يسكر منها حتى يشربها.
(فصل) : وأما البينة فلا تكون إلا رجلين عدلين مسلمين يشهدان أنه مسكر ولا(12/22)
يحتاجان إلى بيان نوعه؛ لأنه لا ينقسم إلى ما يوجب الحد وإلى ما لا يوجبه، بخلاف الزنا فإنه يطلق على الصريح وعلى دواعيه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه (1) » فلهذا احتاج الشاهدان إلى تفسيره، وفي مسألتنا لا يسمى غير المسكر مسكرا فلم يفتقر إلى ذكر نوعه، ولا يفتقر في الشهادة إلى ذكر عدم الإكراه ولا إلى ذكر علمه أنه مسكر؛ لأن الظاهر الاختيار والعلم وما عداهما نادر بعيد، فلم يحتج إلى بيانه؛ ولذلك لم يعتبر ذلك في شيء من الشهادات، ولم يعتبره عثمان في الشهادة على الوليد بن عقبة، ولا اعتبره عمر في الشهادة على قدامة بن مظعون ولا في الشهادة على المغيرة بن شعبة، ولو شهدا بعتق أو طلاق لم يفتقر إلى ذكر الاختيار كذا هاهنا (2) انتهى.
وجاء في حاشية المقنع على قوله: (وهل يجب الحد بوجود الرائحة على روايتين إحداهما: لا يحد وهو قول عامة أهل العلم منهم الثوري وأبو حنيفة والشافعي، وعنه يحد وهو قول مالك؛ لأن ابن مسعود رضي الله عنه جلد رجلا وجد منه رائحة الخمر، وعنه يحد إذا لم يدع شبهة، قال ابن أبي موسى: وهي أظهر عن أحمد واختارها ابن عبدوس في تذكرته، والشيخ تقي الدين.
ووجه الأول أنه يحتمل أنه تمضمض بها، أو ظنها ماء فلما صارت في فيه مجها أو ظنها لا تسكر، أو كان مكرها (3) انتهى.
وجاء في الإنصاف على قول ابن قدامة وهل يحد بوجود الرائحة؟ على روايتين وأطلقهما في مسبوك الذهب وتجريد العناية ونهاية ابن رزين، إحداهما لا يحد وهو المذهب صححه المصنف والشارح وابن منجا في شرحه وصاحب الخلاصة والتصحيح وغيره، وجزم به في الوجيز والمنور. والرواية الثانية: يحد إذا لم يدع شبهة قال ابن أبي موسى في الإرشاد هذه أظهر عن الإمام أحمد - رحمه الله - واختارها ابن عبدوس في تذكرته والشيخ تقي الدين - رحمه الله - وقدمها في المستوعب، وعنه يحد وإن ادعى شبهة. ذكرها في الفروع. وذكر هذه المسألة في باب حد الزنا، وأطلقهن في تجريد العناية ونقل الجماعة عن الإمام أحمد - رحمه الله - يؤدب برائحته. واختاره الخلال كالحاضر مع من يشربه، فائدتان:
__________
(1) صحيح البخاري الاستئذان (6243) ، صحيح مسلم القدر (2657) ، سنن أبو داود النكاح (2152) ، مسند أحمد بن حنبل (2/344) .
(2) المغني \ 9 \ 143 وما بعدها. الناشر مكتبة القاهرة، مطابع سجل العرب.
(3) المقنع ومعه الحاشية \ 3 \ 479.(12/23)
إحداهما: لو وجد سكران وقد تقيأ الخمر فقيل: حكمه حكم الرائحة، وقدمه في الفصول وجزم به في الرعاية الكبرى.
وقيل: يحد هنا وإن لم نحده بالرائحة، واختاره المصنف والشارح، وهو ظاهر كلامه في الإرشاد، وهذا المذهب على ما اصطلحناه في المقدمة وأطلقهما في الفروع.
والثانية: يثبت شربه للخمر بإقراره مرة على الصحيح من المذهب كحد القذف، جزم به في الفصول والمذهب والحاوي الصغير والمغني والشرح وقدمه في الفروع.
وعنه مرتين واختاره القاضي وأصحابه وصححه الناظم، واختاره ابن عبدوس في تذكرته، وقدمه في المحرر والنظم والرعايتين، وجزم به في المنور وغيره، وجعل أبو الخطاب أن بقية الحدود لا يثبت إلا بإقراره مرتين. وقال في عيون المسائل في حد الخمر بمرتين وإن سلمناه؛ فلأنه لا يتضمن إتلافا بخلاف حد السرقة، قال في الفروع: ولم يفرقوا بين حد القذف وغيره؛ لأنه حق آدمي كالقود، فدل على رواية فيه، قال: وهذا متجه.
ويثبت أيضا شربها بشهادة عدلين مطلقا على الصحيح من المذهب، وقيل: ويعتبر قولهما، عالما بتحريمه واختياره وأطلقهما في الرعاية الكبرى (1) انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: والحد واجب إذا قامت البينة أو اعترف الشارب، فإن وجدت منه رائحة الخمر أو رؤي وهو يتقايؤها ونحو ذلك فقد قيل: لا يقام عليه الحد؛ لاحتمال أنه شرب ما ليس بخمر أو شربها جاهلا بها أو مكرها ونحو ذلك.
وقيل: يجلد إذا عرف أن ذلك مسكر، وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة كعثمان وعلي وابن مسعود، وعليه تدل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي اصطلح عليه الناس، وهو مذهب مالك وأحمد في غالب نصوصه. انتهى (2) .
وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: وحكم عمر وابن مسعود رضي الله عنهما ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة بوجوب الحد برائحة الخمر من قيء الرجل أو قيئه خمرا اعتمادا على القرينة الظاهرة. انتهى (3) .
__________
(1) الإنصاف \ 10 \ 233.
(2) السياسة الشرعية \ 51.
(3) الطرق الحكيمة \ 6.(12/24)
عقوبة من ثبت عليه شرب الخمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين:
روى البخاري في الصحيح بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين (1) » .
وذكر ابن حجر أن هذا الحديث أخرجه البيهقي في الخلافيات من طريق جعفر بن محمد القلانسي عن آدم شيخ البخاري فيه بلفظ: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل شرب الخمر فضربه بجريدتين نحوا من أربعين ثم صنع أبو بكر مثل ذلك، فلما كان عمر استشار الناس فقال له عبد الرحمن بن عوف: أخف الحدود ثمانون ففعله عمر (2) » . . . ولفظ رواية خالد التي ذكرتها (3) إلى قوله: "نحوا من أربعين " وأخرجه مسلم والنسائي أيضا من طريق محمد بن جعفر عن شعبة مثل رواية آدم إلا أنه قال: "وفعله أبو بكر فلما كان عمر - أي في خلافته - استشار الناس فقال عبد الرحمن- يعني ابن عوف -: أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر "، وأخرج النسائي من طريق يزيد بن هارون عن شعبة: «فضربه بالنعال نحوا من أربعين ثم أتي به وأبو بكر فصنع به مثل ذلك (4) » . ورواه همام عن قتادة بلفظ «فأمر قريبا من عشرين رجلا فجلده كل رجل جلدتين بالجريد والنعال (5) » أخرجه أحمد والبيهقي - وهذا يجمع بين ما اختلف فيه على شعبة، وإن جملة الضربات كانت نحو أربعين لا أنه جلده بجريدتين أربعين، فتكون الجملة ثمانين كما أجاب به بعض الناس. ورواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة بلفظ: «جلد بالجريد والنعال أربعين (6) » علقه أبو داود بسند صحيح ووصله البيهقي، وكذا أخرجه مسلم من طريق وكيع عن هشام بلفظ: "كان يضرب في الخمر" مثله (7) انتهى المقصود.
2 - أخرج البخاري بسنده عن عقبة بن الحارث «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بنعيمان - أو بابن نعيمان - وهو سكران، فشق عليه وأمر من في البيت أن يضربوه فضربوه بالجريد والنعال، وكنت فيمن ضربه (8) » .
3 - أخرج البخاري بسنده عن عمير بن سعيد النخعي قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت فأجد في نفسي إلا صاحب الخمر؛ فإنه لو مات وديته وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه (9) » .
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6773) ، سنن أبو داود الحدود (4479) ، سنن ابن ماجه الحدود (2570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/247) ، سنن الدارمي الحدود (2311) .
(2) صحيح البخاري الحدود (6773) ، صحيح مسلم الحدود (1706) ، سنن الترمذي الحدود (1443) ، سنن أبو داود الحدود (4479) ، سنن ابن ماجه الحدود (2570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/176) ، سنن الدارمي الحدود (2311) .
(3) ما روى خالد بن الحارث عن شعبة هي المذكورة أولا.
(4) صحيح البخاري الحدود (6773) ، صحيح مسلم الحدود (1706) ، سنن الترمذي الحدود (1443) ، سنن أبو داود الحدود (4479) ، سنن ابن ماجه الحدود (2570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/247) ، سنن الدارمي الحدود (2311) .
(5) مسند أحمد بن حنبل (3/247) .
(6) صحيح البخاري الحدود (6773) ، صحيح مسلم الحدود (1706) ، سنن الترمذي الحدود (1443) ، سنن أبو داود الحدود (4479) ، سنن ابن ماجه الحدود (2570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/247) ، سنن الدارمي الحدود (2311) .
(7) الفتح \ 12 \ 63 - 64.
(8) صحيح البخاري الحدود (6775) ، مسند أحمد بن حنبل (4/8) .
(9) صحيح البخاري الحدود (6778) ، صحيح مسلم الحدود (1707) ، سنن أبو داود الحدود (4486) ، سنن ابن ماجه الحدود (2569) ، مسند أحمد بن حنبل (1/130) .(12/25)
4 - أخرج البخاري بسنده عن السائب بن يزيد قال: «كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمرة أبي بكر فصدرا من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين، حتى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين (1) » . وقد علق ابن حجر على قوله: (حتى كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين) ظاهره أن التحديد بأربعين إنما وقع في آخر خلافة عمر، وليس كذلك لما في قصة خالد بن الوليد وكتابته إلى عمر رضي الله عنه، فإنه يدل على أن أمر عمر بجلد ثمانين كان في وسط إمارته؛ لأن خالدا مات في وسط خلافة عمر (2) . انتهى المقصود.
5 - قال ابن حجر: أخرج النسائي بسند صحيح عن أبي سعيد «أتي النبي صلى الله عليه وسلم بنشوان فأمر به فنهز بالأيدي وخفق بالنعال (3) » الحديث.
ولعبد الرزاق بسند صحيح عن عبيد بن عمير - أحد كبار التابعين - «كان الذي يشرب الخمر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وبعض إمارة عمر يضربونه بأيديهم ونعالهم ويصكونه (4) » .
6 - قال ابن حجر: وقع في مرسل عبيد بن عمير - أحد كبار التابعين - فيما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عنه نحو حديث السائب وفيه: "أن عمر جعله أربعين سوطا فلما رآهم لا يتناهون جعله ستين سوطا، فلما رآهم لا يتناهون جعله ثمانين سوطا وقال هذا أدنى الحدود (5) .
7 - أخرج مالك في الموطأ عن ثور بن يزيد أن عمر استشار في الخمر فقال له علي بن أبي طالب: نرى أن تجعله ثمانين؛ فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فجلد عمر في الخمر ثمانين.
قال ابن حجر (6) : وهذا معضل وقد وصله النسائي والطحاوي من طريق يحيى بن فليح عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس مطولا ولفظه: «أن الشراب كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأيدي والنعال والعصا حتى توفي. فكانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم، فقال أبو بكر: لو فرضنا عليهم حدا فتوخى نحو ما كانوا يضربون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فجلدهم أربعين حتى توفي، ثم كان عمر فجلدهم كذلك» حتى أتي برجل فذكر قصة وأنه تأول قوله تعالى:
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6779) ، مسند أحمد بن حنبل (3/449) .
(2) الفتح 12 \ 96.
(3) مسند أحمد بن حنبل (3/34) .
(4) الفتح \ 12 \ 67.
(5) الفتح \ 12 \ 69.
(6) فتح الباري مجلد 12 صفحة 69 وما بعدها.(12/26)
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} (1) ، وأن ابن عباس ناظره في ذلك واحتج ببقية الآية وهو قوله تعالى: {إِذَا مَا اتَّقَوْا} (2) والذي يرتكب ما حرمه الله ليس بمتق، فقال عمر ما ترون؟ فقال علي فذكره وزاد بعد قوله: وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون جلدة، فأمر به عمر فجلده ثمانين، ولهذا الأثر عن علي طرق أخرى منها ما أخرجها الطبراني والطحاوي والبيهقي من طريق أسامة بن زيد عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن (أن رجلا من بني كلب يقال له: ابن دبرة أخبره أن أبا بكر كان يجلد في الخمر أربعين، وكان عمر يجلد فيها أربعين، قال فبعثني خالد بن الوليد إلى عمر فقلت: إن الناس قد انهمكوا في الخمر واستخفوا العقوبة، فقال عمر لمن حوله: ما ترون؟ قال: ووجدت عنده عليا وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف في المسجد، فقال علي فذكر مثل رواية ثور الموصولة. ومنها ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عكرمة أن عمر شاور الناس في الخمر فقال له علي: إن السكران إذا سكر هذى" الحديث.
ومنها ما أخرجه ابن أبي شيبة من رواية أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال: شرب نفر من أهل الشام الخمر وتأولوا الآية المذكورة فاستشار عمر فيهم، فقلت: أرى أن تستتيبهم فإن تابوا ضربتهم ثمانين ثمانين وإلا ضربت أعناقهم؛ لأنهم استحلوا ما حرم الله فاستتابهم فتابوا. فضربهم ثمانين ثمانين. وأخرج أبو داود والنسائي من حديث عبد الرحمن بن أزهر في قصة الشارب الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم بحنين، وفيه فلما كان عمر كتب إليه خالد بن الوليد: أن الناس قد انهمكوا في الشرب وتحاقروا العقوبة قال: وعنده المهاجرون والأنصار فسألهم واجتمعوا على أن يضربه ثمانين وقال علي فذكر مثله. وأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج ومعمر عن ابن شهاب قال: "فرض أبو بكر في الخمر أربعين سوطا، وفرض فيها عمر ثمانين، قال الطحاوي: جاءت الأخبار متواترة عن علي «أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسن في الخمر شيئا (3) » ، ويؤيده فذكر الأحاديث التي ليس فيها تقييد بعدد حديث أبي هريرة وحديث عقبة بن الحارث المتقدمين، وحديث عبد الرحمن بن أزهر «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فقال للناس: اضربوه فمنهم من ضربه بالنعال، ومنهم من ضربه بالعصا، ومنهم من ضربه بالجريد، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ترابا فرمى به في وجهه (4) » وتعقب بأنه قد ورد في بعض طرقه ما يخالف قوله وهو ما عند أبي داود والنسائي في هذا الحديث، ثم أتي أبو بكر بسكران فتوخى الذي كان من ضربهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه أربعين، ثم أتي عمر بسكران فضربه أربعين؛ فإنه يدل على أنه وإن لم يكن في الخبر تنصيص على عدد معين ففيما اعتمده أبو بكر حجة على ذلك، ويؤيده ما أخرجه مسلم من طريق حضير بمهملة وضاد معجمة مصغرا ابن المنذر «أن عثمان أمر عليا بجلد
__________
(1) سورة المائدة الآية 93
(2) سورة المائدة الآية 93
(3) صحيح البخاري الحدود (6778) ، سنن أبو داود الحدود (4486) ، سنن ابن ماجه الحدود (2569) ، مسند أحمد بن حنبل (1/130) .
(4) سنن أبو داود كتاب الحدود (4487) .(12/27)
الوليد بن عقبة في الخمر فقال لعبد الله بن جعفر: اجلده، فجلده فلما بلغ أربعين قال أمسك، جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وكل سنة. وهذا أحب إلي (1) » ؛ فإن فيه الجزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين، وسائر الأخبار ليس فيها عدد إلا بعض الروايات الماضية عن أنس ففيها نحو الأربعين، والجمع بينهما أن عليا أطلق الأربعين فهو حجة على من ذكرها بلفظ التقريب. وادعى الطحاوي أن رواية أبي ساسان هذه ضعيفة؛ لمخالفتها الآثار المذكورة، ولأن راويها عبد الله بن فيروز المعروف بالداناج بنون وجيم ضعيف وتعقبه البيهقي بأنه حديث صحيح مخرج في المسانيد والسنن. وأن الترمذي سأل البخاري عنه فقواه وقد صححه مسلم وتلقاه الناس بالقبول، وقال ابن عبد البر: إنه أثبت شيء في هذا الباب قال البيهقي: وصحة الحديث إنما تعرف بثقة رجاله، وقد عرفهم حفاظ الحديث وقبلوهم وتضعيفه الداناج لا يقبل؛ لأن الجرح بعد ثبوت التعديل لا يقبل إلا مفسرا، ومخالفة الراوي غيره في بعض ألفاظ الحديث لا تقتضي تضعيفه ولا سيما مع ظهور الجمع، قلت: وثق الداناج المذكور أبو زرعة والنسائي وقد ثبت عن علي في هذه القصة من وجه آخر أنه جلد الوليد أربعين، ثم ساقه من طريق هشام بن يوسف عن معمر وقال: أخرجه البخاري وهو كما قال، وقد تقدم في مناقب عثمان وأن بعض الرواة قال فيه: إنه جلد ثمانين وذكرت ما قيل في ذلك هناك وطعن الطحاوي ومن تبعه في رواية أبي ساسان أيضا بأن عليا قال: وهذا أحب إلي، أي: جلد أربعين مع أن عليا جلد النجاشي الشاعر في خلافته ثمانين، وبأن ابن أبي شيبة أخرج من وجه آخر عن علي أن حد النبيذ ثمانون، والجواب عن ذلك من وجهين:
أحدهما: أنه لا تصح أسانيد شيء من ذلك عن علي.
والثاني: على تقدير ثبوته فإنه يجوز أن ذلك يختلف بحال الشارب، وأن حد الخمر لا ينقص عن الأربعين، ولا يزيد على الثمانين، والحجة إنما هي في جزمه بأنه صلى الله عليه وسلم جلد أربعين، وقد جمع الطحاوي بينهما بما أخرجه هو والطبري من طريق أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين أن عليا جلد الوليد بسوط له طرفان، وأخرج الطحاوي أيضا من طريق عروة مثله، لكن قال: "له ذنبان أربعين جلدة في الخمر في زمن عثمان " قال الطحاوي: ففي هذا الحديث أن عليا جلد ثمانين؛ لأن كل سوط سوطان، وتعقب بأن السند الأول منقطع فإن أبا جعفر ولد بعد موت علي بأكثر من عشرين سنة، وبأن الثاني في سنده ابن لهيعة وهو ضعيف، وعروة لم يكن في الوقت المذكور مميزا، وعلى تقدير ثبوته فليس في الطريقين أن الطرفين أصاباه في كل ضربة.
وقال البيهقي: يحتمل أن يكون ضربه بالطرفين عشرين، فأراد بالأربعين مما اجتمع من عشرين وعشرين، ويوضح ذلك قوله في بقية الخبر: "وكل سنة وهذا أحب إلي " لأنه لا يقتضي التغاير، والتأويل المذكور يقتضي أن يكون كل من الفريقين جلد ثمانين فلا يبقى هناك عدد يقع التفاضل فيه.
وأما دعوى من زعم أن المراد بقوله هذا الإشارة إلى الثمانين، فيلزم من ذلك أن يكون علي رجح ما فعل عمر على ما فعل النبي
__________
(1) صحيح مسلم الحدود (1707) ، سنن أبو داود الحدود (4480) ، سنن ابن ماجه الحدود (2571) ، مسند أحمد بن حنبل (1/145) ، سنن الدارمي الحدود (2312) .(12/28)
صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهذا لا يظن به قاله البيهقي، واستدل الطحاوي لضعف حديث أبي ساسان بما تقدم ذكره من قول علي: أنه إذا سكر هذى إلخ.
قال: فلما اعتمد علي في ذلك على ضرب المثل، واستخرج الحد بطريق الاستنباط، دل على أنه لا توقيف عنده من الشارع في ذلك، فيكون جزمه بأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين غلطا من الراوي؛ إذ لو كان عنده الحديث المرفوع لم يعدل عنه إلى القياس، ولو كان عند من بحضرته من الصحابة كعمر وسائر من ذكر في ذلك شيء مرفوع لأنكروا عليه، وتعقب بأنه إنما يتجه الإنكار لو كان المنزع واحدا، فأما مع الاختلاف فلا يتجه الإنكار، وبيان ذلك أن في سياق القصة ما يقتضي أنهم كانوا يعرفون أن الحد أربعون، وإنما تشاوروا في أمر يحصل به الارتداع، يزيد على ما كان مقررا.
ويشير إلى ذلك ما وقع من التصريح في بعض طرقه أنهم احتقروا العقوبة وانهمكوا، فاقتضى رأيهم أن يضيفوا إلى الحد المذكور قدره، إما اجتهادا بناء على جواز دخول القياس في الحدود، فيكون الكل حدا، أو استنبطوا من النص معنى يقتضي الزيادة في الحد لا النقصان منه، أو القدر الذي زادوه كان على سبيل التعزير تحذيرا وتخويفا؛ لأن من احتقر العقوبة إذا عرف أنها غلظت في حقه كان أقرب إلى ارتداعه، فيحتمل أن يكونوا ارتدعوا بذلك.
ورجع الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك فرأى علي الرجوع إلى الحد المنصوص، وأعرض عن الزيادة لانتفاء سببها، ويحتمل أن يكون القدر الزائد كان عندهم خاصا بمن تمرد وظهرت منه آمارات الاشتهار بالفجور، ويدل على ذلك أن بعض طرق حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عند الدارقطني وغيره، فكان عمر إذا أتي بالرجل الضعيف تكون منه الزلة جلده أربعين. قال: وكذلك عثمان جلد أربعين وثمانين.
وقال المازري: لو فهم الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم حد في الخمر حدا معينا؛ لما قالوا فيه بالرأي كما لم يقولوا بالرأي في غيره، فلعلهم فهموا أنه ضرب فيه باجتهاده في حق من ضربه. انتهى.
وقد وقع التصريح بالحد المعلوم فوجب المصير إليه، ورجح القول بأن الذي اجتهدوا فيه زيادة على الحد إنما هو التعزير على القول بأنهم اجتهدوا في الحد المعين؛ لما يلزم منه من المخالفة التي ذكرها، كما سبق تقريره.
وقد أخرج عبد الرزاق عن ابن جريج أنبأنا عطاء أنه سمع عبيد بن عمير يقول: كان الذي يشرب الخمر يضربونه بأيديهم ونعالهم، فلما كان عمر فعل ذلك حتى خشي فجعله أربعين سوطا، فرآهم لا يتناهون جعله ثمانين سوطا، وقال: هذا أخف الحدود.
والجمع بين حديث علي المصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين، وأنه سنة، وبين حديثه المذكور في هذا الباب، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنه، بأن يحمل النفي على أنه لم يحد الثمانين، أي: لم يسن شيئا زائدا على الأربعين، ويؤيده قوله: " وإنما هو شيء صنعناه نحن ". يشير إلى ما أشار به على عمر، وعلى هذا فقوله: لو مات لوديته "أي في الأربعين الزائدة" وبذلك جزم البيهقي وابن حزم، ويحتمل أن يكون قوله: "لم يسنه" أي: الثمانين لقوله في الرواية الأخرى: "وإنما هو شيء صنعناه " فكأنه خاف من الذي صنعوه باجتهادهم أن(12/29)
لا يكون مطابقا، واختص هو بذلك؛ لكونه الذي كان أشار بذلك، واستدل له ثم ظهر له أن الوقوف عند ما كان الأمر عليه أولا أولى، فرجع إلى ترجيحه وأخبر بأنه لو أقام الحد ثمانين فمات المضروب وداه للعلة المذكورة، ويحتمل أن يكون الضمير في قوله: (لم يسنه) لصفة الضرب، وكونها بسوط الجلد أي: لم يسن الجلد بالسوط، وإنما كان يضرب فيه بالنعال وغيرها مما تقدم ذكره، أشار إلى ذلك البيهقي، وقال ابن حزم أيضا: لو جاء عن غير علي من الصحابة في حكم واحد أنه مسنون، وأنه غير مسنون لوجب حمل أحدهما على غير ما حمل عليه الآخر، فضلا عن علي مع سعة علمه وقوة فهمه.
وإذا تعارض خبر عمير بن سعيد وخبر أبي ساسان، فخبر أبي ساسان أولى بالقبول؛ لأنه مصرح فيه برفع الحديث عن علي، وخبر عمير موقوف على علي، وإذا تعارض المرفوع والموقوف؛ قدم المرفوع، وأما دعوى ضعف سند أبي ساسان فمردودة والجمع أولى مهما أمكن من توهين الأخبار الصحيحة، وعلى تقدير أن تكون إحدى الروايتين وهما فرواية الإثبات مقدمة على رواية النفي، وقد ساعدتها رواية أنس على اختلاف ألفاظ النقلة عن قتادة، وعلى تقدير أن يكون بينهما تمام التعارض، فحديث أنس سالم من ذلك.(12/30)
خلاف العلماء في أن العقوبة في شرب الخمر هل هي حد أو تعزير مع بيان ما يترتب على ذلك:
اختلف أهل العلم في عقوبة شارب الخمر على قولين أحدهما: أنها حد. والثاني: أنها تعزير، والذين قالوا بأنها حد اختلفوا على قولين هما المشهوران، منهم من قال بأنه ثمانون، ومنهم من قال بأن الحد أربعون وما زاد على ذلك يرجع فيه إلى اجتهاد الإمام؛ فإن رأى الزيادة زاد وإلا فلا، وفيما يلي بيان هذه الأقوال مع الأدلة والمناقشة:
القول الأول: إنه تعزير قال: الحافظ ابن حجر: إن الطبري وابن المنذر حكوا عن طائفة من أهل العلم أن الخمر لا حد فيها، وإنما فيها التعزير.
واستدلوا بأحاديث الباب؛ فإنها ساكتة عن تعيين عدد الضرب وأصرحها حديث أنس، ولم يجزم فيه بالأربعين في أرجح الطرق عنه، وقد قال عبد الرزاق: أنبأنا ابن جريج ومعمر سئل ابن شهاب «كم جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر؟ فقال: لم يكن فرض فيها حدا، كان يأمر من حضره أن يضربوه بأيديهم ونعالهم حتى يقول لهم: ارفعوا، (1) » وورد أنه لم يضربه أصلا وذلك فيما أخرجه أبو داود والنسائي بسند قوي عن ابن عباس أن رسول الله
__________
(1) سنن أبو داود الحدود (4488) ، مسند أحمد بن حنبل (4/88) .(12/30)
صلى الله عليه وسلم «لم يوقت في الخمر حدا (1) » ، قال ابن عباس: «وشرب رجل فسكر فانطلق به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما حاذى دار العباس انفلت فدخل على العباس، فالتزمه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك ولم يأمر فيه بشيء (2) » .
وأخرج الطبري من وجه آخر عن ابن عباس «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر إلا أخيرا، ولقد غزا تبوك فغشي حجرته من الليل سكران فقال: ليقم إليه رجل فيأخذ بيده حتى يرده إلى رحله» .
والجواب: أن الإجماع انعقد بعد ذلك على وجوب الحد؛ لأن أبا بكر تحرى ما كان النبي صلى الله عليه وسلم ضرب السكران فصيره حدا واستمر عليه، وكذا استمر من بعده، وإن اختلفوا في العدد.
وجمع القرطبي بين الأخبار بأنه لم يكن أولا في شرب الخمر حد، وعلى ذلك يحمل حديث ابن عباس في الذي استجار بالعباس، ثم شرع فيه التعزير على ما في سائر الأحاديث التي لا تقدير فيها، ثم شرع الحد ولم يطلع أكثرهم على تعيينه صريحا مع اعتقادهم أن فيه الحد المعين، ومن ثم توخى أبو بكر على ما فعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فاستقر عليه الأمر، ثم رأى عمر ومن وافقه الزيادة على الأربعين إما حدا بطريق الاستنباط، وإما تعزيرا. انتهى المقصود من كلام ابن حجر (3) .
القول الثاني: إنها حد وأنه ثمانون، وهو مذهب الحنفية والمالكية والمقدم عند الحنابلة.
ففي بداية المهتدي: وحد الخمر والسكر إلى ثمانين سوطا (4) وفي قوانين الأحكام الفقهية وهو ثمانون جلدة للحر (5) ، وقال ابن قدامة: إحداهما: أنه ثمانون، وبهذا قال مالك والثوري وأبو حنيفة ومن تبعهم (6) . انتهى.
واستدل لهذا بإجماع الصحابة؛ فإنه روي أن عمر استشار الناس في حد الخمر، فقال عبد الرحمن بن عوف: اجعله كأخف الحدود ثمانين، فضرب عمر ثمانين وكتب به إلى خالد
__________
(1) سنن أبو داود الحدود (4476) ، مسند أحمد بن حنبل (1/322) .
(2) سنن أبو داود الحدود (4476) ، مسند أحمد بن حنبل (1/322) .
(3) فتح الباري \ 12 \ 72.
(4) البداية \ 2 \ 111.
(5) قوانين الأحكام الفقهية 391.
(6) المغني \ 9 \ 141.(12/31)
وأبي عبيدة بالشام.
وروي أن عليا قال في المشورة: إنه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحدوه حد المفتري. روى ذلك الجوزجاني والدارقطني وغيرهما. انتهى من كلام ابن قدامة (1) .
ونوقش هذا الدليل بما يلي:
أولا: أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم حجة لا يجوز تركه بفعل غيره، ولا ينعقد الإجماع على ما خالف فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فتحمل الزيادة من عمر على أنها تعزير يجوز فعلها إذا رآه الإمام- ذكر هذا الوجه ابن قدامة (2) ثانيا: أن عليا أشار على عمر بذلك، ثم رجع علي عن ذلك واقتصر على الأربعين؛ لأنها القدر الذي اتفقوا عليه في زمن أبي بكر مستندين إلى تقدير ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الذي أشار به فقد تبين من سياق قصته أنه أشار بذلك؛ ردعا للذين انهمكوا؛ لأن في بعض طرق القصة - كما تقدم - أنهم احتقروا العقوبة (3) .
القول الثالث: أنه أربعون، وما زاد عن ذلك يرجع فيه إلى اجتهاد الإمام، وبهذا قال الشافعي، وهو الرواية الثانية عن الإمام أحمد، وبه قال أبو ثور وداود ومن وافقهم من أهل العلم.
قال الشيرازي وقال الشافعي وأبو ثور وداود: الحد في ذلك أربعون- ومضى إلى أن قال: فإن رأى الإمام أن يبلغ بحد الحر ثمانين وبحد العبد أربعين جاز (4) . انتهى.
__________
(1) المغني \ 9 \ 141.
(2) المغني \ 9 \ 142.
(3) الفتح \ 12 \ 73.
(4) المهذب \ 18 \ 448.(12/32)
وقال ابن قدامة: والرواية الثانية أن الحد أربعون، وهو اختيار أبي بكر ومذهب الشافعي (1) . انتهى. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا أوجه القولين (2) .
واستدل لهذا القول بما روى أبو ساسان قال: «لما شهد على الوليد بن عقبة، قال عثمان لعلي: دونك ابن عمك فاجلده. قال: قم يا حسن فاجلده. قال: فيما أنت وذاك ول هذا غيري. قال: ولكنك ضعفت وعجزت ووهنت. فقال: قم يا عبد الله بن جعفر فاجلده وعلي يعد ذلك، فعد أربعين، وقال: جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر أربعين، وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين، وكل سنة (3) » . أخرجه البيهقي.
وأخرج مسلم عن حصين بن المنذر قال: «شهدت عثمان بن عفان أتي بالوليد وقد صلى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب، وشهد آخر أنه رآه يتقيؤها فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى يشربها. فقال: يا يا علي قم فاجلده. فقال علي: قم يا حسن فاجلده. فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها، فكأنه وجد عليه. فقال: يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين فقال: أمسك. ثم قال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة، وهذا أحب إلي (4) » .
وأما كون الزيادة عن الأربعين راجعة إلى رأي الإمام، فقد استدلوا لذلك بما رواه أبو وبرة الكلبي قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر رضي الله عنه، فأتيته ومعه عثمان وعبد الرحمن بن عوف وعلي وطارق والزبير رضي الله عنهم، فقلت: إن خالد بن الوليد رضي الله عنه يقرأ عليك السلام ويقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر، وتحاقروا العقوبة فيه.
قال عمر: هم هؤلاء عندك فسلهم، فقال: تراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون. فقال عمر: بلغ صاحبك ما قالوا. فجلد خالد ثمانين، وجلد عمر ثمانين.
وقال: وكان عمر إذا أتي بالرجل القوي المنهمك في الشراب جلده ثمانين، وإذا أتي بالرجل الضعيف الذي كانت منه زلة جلده أربعين (5) .
__________
(1) المغني 9 \ 142
(2) السياسة الشرعية \ 50.
(3) سنن أبو داود الحدود (4480) ، مسند أحمد بن حنبل (1/145) .
(4) سنن أبو داود الحدود (4480) ، سنن ابن ماجه الحدود (2571) ، مسند أحمد بن حنبل (1/145) .
(5) المهذبة ومعه الشرح \ 18 \ 48 وما بعدها.(12/33)
وأما بيان ما يترتب على القول بأنها تعزير وحد، فعلى القول بأنها حد لا يدخله العفو والإسقاط والصلح؛ لأنه من حقوق الله - جل وعلا - وإذا مات المضروب ثمانين عند من يقول بذلك، وأربعين عند من يقول بهذا؛ فإنه يموت هدرا لا دية له، وعلى القول بأنها تعزير، يدخله العفو والإسقاط والصلح من جهة أصله عند من يقول بأنه تعزير، وما زاد على الأربعين ففيه الدية. وفيما يلي نقول عن أهل العلم في ذلك:
1 - قال الشيرازي: فإن جلده أربعين ومات لم يضمن؛ لأن الحق قتله، وإن جلده ثمانين ومات ضمن نصف الدية؛ لأن نصفه حد ونصفه تعزير، وسقط النصف بالحد ووجب النصف بالتعزير. انتهى المقصود (1) .
2 - قال الخرقي (مسألة) : فإن مات في جلده فالحق قتله، يعني ليس على أحد ضمانه، قال ابن قدامة: وهذا قول مالك وأصحاب الرأي، وبه قال الشافعي، إن لم يزد على الأربعين، وإن زاد على الأربعين فمات فعليه الضمان؛ لأن ذلك تعزير؛ إنما يفعله الإمام برأيه، وفي قدر الضمان قولان:
أحدهما: نصف الدية؛ لأنه تلف من فعلين: مضمون وغير مضمون، فكان عليه نصف الضمان.
والثاني: تقسط الدية على عدد الضربات كلها، فيجب من الدية بقدر زيادته على الأربعين.
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت فأجد في نفسي منه شيئا إلا صاحب الخمر، ولو مات وديته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنه لنا (2) » .
ولنا أنه حد وجب لله فلم يجب ضمان من مات به كسائر الحدود، وما زاد على الأربعين قد ذكرنا أنه من الحد، وإن كان تعزيرا فالتعزير يجب وهو بمنزلة الحد.
وأما حديث علي فقد صح عنه أنه قال: «جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين، (3) » وثبت الحد بالإجماع فلم تبق فيه شبهة (4) .
__________
(1) المهذب \ 2 \ 287.
(2) صحيح البخاري الحدود (6778) ، صحيح مسلم الحدود (1707) ، سنن أبو داود الحدود (4486) ، سنن ابن ماجه الحدود (2569) ، مسند أحمد بن حنبل (1/130) .
(3) صحيح البخاري الحدود (6778) ، صحيح مسلم الحدود (1707) ، سنن أبو داود الحدود (4481) ، سنن ابن ماجه الحدود (2571) ، مسند أحمد بن حنبل (1/82) ، سنن الدارمي الحدود (2312) .
(4) المغني \ 9 \ 145.(12/34)
كلمة عن التعزير:
قال أبو محمد ابن قدامة في المغني (مسألة) قال: (ولا يبلغ التعزير الحد) .
التعزير هو العقوبة المشروعة على جناية لا حد فيها، كوطء الشريك الجارية المشتركة، أو أمته المزوجة، أو جارية ابنه، أو وطء امرأته في دبرها أو حيضها، أو وطء أجنبية دون الفرج، أو سرقة ما دون النصاب، أو من غير حرز، أو النهب أو الغصب أو الاختلاس، أو الجناية على إنسان بما لا يوجب حدا ولا قصاصا ولا دية، أو شتمه بما ليس بقذف ونحو ذلك يسمى تعزيرا؛ لأنه منع من الجناية.
والأصل في التعزير المنع، ومنه التعزير بمعنى النصرة؛ لأنه منع لعدوه من أذاه، واختلف عن أحمد في قدره، فروي عنه أنه لا يزاد على عشر جلدات، نص أحمد على هذا في مواضع، وبه قال إسحاق: لما روى أبو بردة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى (1) » متفق عليه.
والرواية الثانية: لا يبلغ به الحد، وهو الذي ذكره الخرقي، فيحتمل أنه أراد لا يبلغ به أدنى حد مشروع، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي، فعلى هذا لا يبلغ به أربعين سوطا؛ لأنها حد العبد في الخمر والقذف، وهذا قول أبي حنيفة، وإن قلنا: إن حد الخمر أربعون لم يبلغ به عشرين سوطا في حد العبد، وأربعين في حد الحر، وهذا مذهب الشافعي، فلا يزاد العبد على تسعة عشر سوطا، ولا الحر على تسعة وثلاثين سوطا.
وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف: أدنى الحدود ثمانون فلا يزاد في التعزير على تسعة وسبعين، ويحتمل كلام أحمد والخرقي أنه لا يبلغ كل جناية حدا مشروعا في جنسها، ويجوز أن يزيد مائة إلا سوطا؛ لينقص عن حد الزنا، وما كان سببه غير الوطء لم يبلغ به أدنى الحدود؛ لما روي عن النعمان بن بشير في الذي وطئ جارية امرأته بإذنها بجلد مائة، وهذا تعزير؛ لأنه في حق المحصن وحده إنما هو الرجم.
وعن سعيد بن المسيب عن عمر في أمة بين رجلين وطئها أحدهما، يجلد الحد إلا سوطا واحدا، رواه الأثرم واحتج به أحمد، قال القاضي: هذا عندي من نص أحمد لا يقتضي اختلافا في التعزير، بل المذهب أنه لا يزاد على عشر جلدات؛ اتباعا للأثر إلا في وطء جارية امرأته؛ لحديث النعمان، وفي الجارية المشتركة؛ لحديث عمر، وما عداهما يبقى على العموم؛ لحديث أبي بردة، وهذا قول حسن.
وإذا ثبت تقدير أكثر فليس أقله مقدرا؛ لأنه لو تقدر لكان حدا، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قدر أكثره ولم يقدر أقله، فيرجع فيه إلى اجتهاد الإمام
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6850) ، صحيح مسلم الحدود (1708) ، سنن الترمذي الحدود (1463) ، سنن أبو داود الحدود (4491) ، سنن ابن ماجه الحدود (2601) ، مسند أحمد بن حنبل (3/466) ، سنن الدارمي الحدود (2314) .(12/35)
فيما يراه وما يقتضيه حال الشخص.
وقال مالك: يجوز أن يزاد التعزير على الحد إذا رأى الإمام؛ لما روي أن معن بن زائدة عمل خاتما على نقش خاتم بيت المال، ثم جاء به صاحب بيت المال فأخذ منه مالا، فبلغ عمر رضي الله عنه فضربه مائة وحبسه فكلم فيه، فضربه مائة أخرى فكلم فيه من بعد، فضربه مائة ونفاه.
وروى أحمد بإسناده أن عليا أتي بالنجاشي قد شرب خمرا في رمضان فجلده ثمانين الحد، وعشرين سوطا لفطره في رمضان.
وروي أن أبا الأسود استخلفه ابن عباس على قضاء البصرة فأتي بسارق قد كان جمع المتاع في البيت ولم يخرجه، فقال أبو الأسود: أعجلتموه المسكين، فضربه خمسة وعشرين سوطا، وخلى سبيله.
ولنا: حديث أبي بردة وروى الشالنجي بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ومن بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين» . ولأن العقوبة على قدر الإجرام والمعصية، والمعاصي المنصوص على حدودها أعظم عن غيرها، فلا يجوز أن يبلغ في أهون الأمرين عقوبة أعظمها، وما قالوه يؤدي إلى أن من قبل امرأة حراما يضرب أكثر من حد الزنا، وهذا غير جائز؛ لأن الزنا مع عظمه وفحشه لا يجوز أن يزاد على حده فما دونه أولى.
فأما حديث معن فيحتمل أنه كانت له ذنوب كثيرة فأدب على جميعها، أو تكرر منه الأخذ، أو كان ذنبه مشتملا على جنايات أحدها تزويره، والثاني: أخذه لمال بيت المال بغير حقه، والثالث: فتحه باب هذه الحيلة لغيره وغير هذا.
وأما حديث النجاشي فإن عليا ضربه الحد لشربه، ثم عزره عشرين لفطره فلم يبلغ بتعزيره حدا، وقد ذهب أحمد إلى هذا، وروي أن من شرب الخمر في رمضان يحد، ثم يعزر لجنايته من وجهين، والذي يدل على صحة ما ذكرناه، ما روي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى أن لا يبلغ بنكال أكثر من عشرين سوطا.
(فصل) : والتعزيز يكون بالضرب والحبس والتوبيخ، ولا يجوز قطع شيء منه ولا جرحه، ولا أخذ ماله؛ لأن الشرع لم يرد بشيء من ذلك عن أحد يقتدى به، ولأن الواجب أدب والتأديب لا يكون بالإتلاف.
(فصل) : والتعزير فيما شرع فيه التعزير واجب إذا رآه الإمام، وبه قال مالك وأبو حنيفة، وقال الشافعي: ليس بواجب؛ لأن «رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لقيت امرأة فأصبت منها ما دون أن أطأها. فقال: أصليت معنا؟ قال: نعم، فتلا عليه:(12/36)
(2) » .
وقال في الأنصار: «اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم (3) » «وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم في حكم حكم به للزبير: أن كان ابن عمتك؛ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعزره على مقالته (4) » . وقال له رجل: «إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله (5) » ، فلم يعزره.
ولنا أن ما كان من التعزير منصوصا عليه كوطء جارية امرأته أو جارية مشتركة، فيجب امتثال الأمر فيه، وما لم يكن منصوصا عليه، إذا رأى الإمام المصلحة فيه أو علم أنه لا ينزجر إلا به وجب؛ لأنه زجر مشروع لحق الله تعالى، فوجب كالحد.
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4687) ، صحيح مسلم كتاب التوبة (2763) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3112) ، سنن أبو داود كتاب الحدود (4468) ، سنن ابن ماجه الزهد (4254) ، مسند أحمد بن حنبل (1/449) .
(2) سورة هود الآية 114 (1) {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}
(3) مسند أحمد بن حنبل (3/241) .
(4) صحيح البخاري المساقاة (2360) ، صحيح مسلم الفضائل (2357) ، سنن الترمذي الأحكام (1363) ، سنن النسائي آداب القضاة (5407) ، سنن أبو داود الأقضية (3637) ، سنن ابن ماجه المقدمة (15) ، مسند أحمد بن حنبل (1/166) .
(5) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3405) ، صحيح مسلم الزكاة (1062) ، مسند أحمد بن حنبل (1/380) .(12/37)
(فصل) : وإذا مات من التعزير لم يجب ضمانه، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة، وقال الشافعي: يضمنه؛ لقول علي: ليس أحد أقيم عليه الحد فيموت فأجد في نفسي شيئا أن الحق قتله إلا حد الخمر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه لنا، وأشار على عمر بضمان التي أجهضت جنينها حين أرسل إليها.
ولنا أنها عقوبة مشروعة للردع والزجر، فلم يضمن من تلف بها كالحد، وأما قول علي في دية من قتله حد الخمر، فقد خالفه غيره من الصحابة، فلم يوجبوا شيئا به، ولم يعمل به الشافعي ولا غيره من الفقهاء، فكيف يحتج به مع ترك الجميع له؟
وأما قوله في الجنين: فلا حجة لهم فيه؛ فإن الجنين الذي تلف لا جناية منه ولا تعزير عليه فكيف يسقط ضمانه؟ ولو أن الإمام حد حاملا فأتلف جنينها، ضمنه مع أن الحد متفق عليه بيننا على أنه لا يجب ضمان المحدود إذا أتلف به (1) .
وقال ابن تيمية - رحمه الله - (2) : وقد تنازع العلماء في مقدار أعلى التعزير الذي يقام بفعل المحرمات على أقوال:
(أحدها) : - وهو أحسنها وهو قول طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما- أنه لا يبلغ في التعزير في كل جريمة الحد المقدر فيها، وإن زاد على حد مقدر في غيرها، فيجوز التعزير في المباشرة المحرمة، وفي السرقة من غير حرز بالضرب الذي يزيد على حد القذف، ولا يبلغ بذلك الرجم والقطع، والقول الثاني: أنه لا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود: إما
__________
(1) المغني ج8 ص 324 وما بعدها طبعة مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
(2) ص 404 من مجموع الفتاوى ج 35.(12/37)
أربعين وإما ثمانين، وهو قول كثير من أصحاب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة.
والقول الثالث: أن لا يزاد في التعزير على عشرة أسواط، وهو أحد الأقوال في مذهب أحمد وغيره.
وعلى القول الأول: هل يجوز أن يبلغ بها القتل مثل قتل الجاسوس المسلم؟ في ذلك قولان: (أحدهما) : قد يبلغ بها القتل فيجوز قتل الجاسوس المسلم إذا قصد المصلحة، وهو قول مالك وبعض أصحاب أحمد كابن عقيل، وقد ذكر نحو ذلك بعض أصحاب الشافعي وأحمد في قتل الداعية إلى البدع، ومن لا يزول فساده إلا بالقتل، وكذلك مذهب مالك قتل الداعية إلى البدع كالقدرية ونحوهم.
والقول الثاني: أنه لا يقتل الجاسوس، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي والقاضي أبي يعلى من أصحاب أحمد، والمنصوص عن أحمد التوقف في المسألة.
وممن يجوز التعزير بالقتل في الذنوب الكبار أصحاب أبي حنيفة في مواضع يسمون القتل فيها (سياسة) كقتل من تكرر لواطه أو قتله بالمثقل، فإنهم يجوزون قتله سياسة وتعزيرا؟ وإن كان أبو حنيفة لا يوجب ذلك بل ولا يجوزه فيمن فعله مرة واحدة، وأما صاحباه فمع سائر الأئمة فيخالفون في أنه يجب القود في القتل، وفي وجوب قتل اللوطي إما مطلقا سواء كان محصنا أو غير محصن، كمذهب مالك وأحمد في أشهر روايتيه، والشافعي في أحد قوليه. وإما أن يكون حده مثل حد الزاني كقول صاحبي أبي حنيفة والشافعي في أشهر قوليه، وأحمد في أحد روايتيه.
والمنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين يوافق القول الأول، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بجلد الذي أحلت امرأته له جاريتها مائة، وجلد أبو بكر وعمر رجلا وجد مع امرأة في فراش مائة، وعمر بن الخطاب ضرب الذي زور عليه خاتمه، فأخذ من بيت المال مائة، ثم ضربه في اليوم الثاني والثالث مائة مائة، وليس هذا موضع بسط أصناف التعزير؛ فإنها كثيرة الشعب.(12/38)
حكم من تكرر عنه شربها "القتل أو الجلد":
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين أحدهما: أنه يقتل وبه قال ابن حزم ومن وافقه من أهل العلم.
والثاني: أنه لا يقتل، وبه قال جمهور أهل العلم، وفيما يلي بيان القولين مع الأدلة والمناقشة:(12/38)
القول الأول:
إن شارب الخمر إذا شرب ثم حد، ثم شرب ثم حد، ثم شرب ثم حد، ثم شرب الرابعة قتل، وهذا يقول به ابن حزم ومن يوافقه من أهل العلم، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقيل: هو محكم وقد يقال: هو تعزير يفعله الإمام عند الحاجة، وقال أيضا: وطائفة يقولون: إذا لم ينتهوا عن الشرب إلا بالقتل جاز ذلك. انتهى المقصود (1) .
والحجة لهذا القول:
1 - قال ابن حزم: نا أحمد بن قاسم نا أبي قاسم بن محمد بن قاسم نا جدي قاسم بن أصبغ نا الحرث- هو ابن أبي أسامة - نا عبد الوهاب بن عطاء نا قرة بن خالد عن الحسن بن عبد الله بن البصري عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: ائتوني برجل أقيم عليه حد في الخمر؛ فإن لم أقتله فأنا كاذب. انتهى (2) .
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه (3) » قال عبد الله: ائتوني برجل قد شرب الخمر في الرابعة فلكم علي أن أقتله. وأجيب عن هذا الحديث بأنه منقطع فلا حجة لهم فيه، قال ابن حجر: (وهذا منقطع؛ لأن الحسن لم يسمع من عبد الله بن عمرو كما جزم به ابن المديني وغيره، فلا حجة فيه، وإذا لم يصح هذا عن عبد الله بن عمرو لم يبق لمن رد الإجماع على ترك القتل متمسك حتى ولو ثبت عن عبد الله بن عمرو لكان عذره أنه لم يبلغه النسخ، وعد ذلك من نزره المخالف.
وقد جاء عن عبد الله بن عمرو أشد من الأول، فأخرج سعيد بن منصور عنه بسند لين قال: لو رأيت أحدا يشرب الخمر واستطعت أن أقتله لقتلته) (4) انتهى.
2 - عن معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا شربوا الخمر فاجلدوهم، ثم إذا شربوا فاجلدوهم، ثم إذا شربوا الرابعة فاقتلوهم (5) » رواه الخمسة إلا النسائي، قال الشوكاني: قال البخاري: هو أوضح ما في هذا الباب، وأخرجه أيضا الشافعي والدارمي
__________
(1) مجموع الفتاوى 34 \ 217.
(2) السياسة الشرعية \ 49- 50.
(3) سنن الترمذي كتاب الحدود (1444) ، سنن أبو داود الحدود (4482) ، سنن ابن ماجه الحدود (2573) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) .
(4) الفتح \ 12 \ 80-.
(5) سنن الترمذي كتاب الحدود (1444) ، سنن أبو داود الحدود (4482) ، سنن ابن ماجه الحدود (2573) ، مسند أحمد بن حنبل (4/95) .(12/39)
وابن المنذر وابن حبان، وصححه من حديث أبي هريرة، وأخرجه ابن أبي شيبة من رواية أبي سعيد، والمحفوظ أنه عن معاوية، وأخرجه أبو داود من رواية أبان العطار وفيه "فإن شربوا - يعني بعد الرابعة - فاقتلوهم ". ورواه أيضا أبو داود من حديث ابن عمرو قال: وأحسبه قال في الخامسة: "ثم إن شربها فاقتلوه " قال: وكذا في حديث غطيف في الخامسة. انتهى (1) .
3 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن سكر فاجلدوه، ثم إن سكر فاجلدوه، ثم إن سكر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاضربوا عنقه (2) » رواه الخمسة إلا الترمذي:
وأجيب عن هذه الأحاديث وما في معناها أن القتل منسوخ وأدلة النسخ:
1 - قال الترمذي: إنما كان هذا في أول الأمر ثم نسخ بعد، هكذا روى محمد بن إسحاق عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد الرابعة فاقتلوه قال: ثم أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك برجل قد شرب في الرابعة فضربه ولم يقتله (3) » ، وأخرجه النسائي أيضا.
-2 عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد في الثالثة أو الرابعة فاقتلوه. فأتي برجل قد شرب فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده، ورفع القتل وكان رخصة (4) » . رواه أبو داود وذكره الترمذي بمعناه.
وأخرجه أيضا الشافعي وعبد الرزاق وعلقه الترمذي، وأخرجه أيضا الخطيب عن ابن إسحاق عن الزهري عن قبيصة، قال سفيان بن عيينة: حدث الزهري بهذا، وعند منصور بن المعتمر ومخول بن راشد فقال لهما: كونا وافدا أهل العراق بهذا الحديث، وقبيصة بن ذؤيب من أولاد الصحابة، ولد عام الفتح، وقيل: إنه ولد أول سنة من الهجرة، ولم يذكر له سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعده الأئمة من التابعين، وذكروا أنه سمع الصحابة.
قال المنذري: وإذا ثبت أن مولده أول سنة من الهجرة أمكن أن يكون سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قيل: إنه أتي به صلى الله عليه وسلم وهو غلام يدعو له، وذكر عن الزهري أنه كان إذا ذكر قبيصة بن ذؤيب قال: كان من علماء هذه الأمة
__________
(1) نيل الأوطار \ 7 \ 325.
(2) سنن النسائي الأشربة (5662) ، سنن أبو داود الحدود (4484) ، سنن ابن ماجه الحدود (2572) ، مسند أحمد بن حنبل (2/504) ، سنن الدارمي الأشربة (2105) .
(3) سنن الترمذي كتاب الحدود (1444) ، سنن أبو داود الحدود (4482) ، سنن ابن ماجه الحدود (2573) ، مسند أحمد بن حنبل (4/96) .
(4) سنن أبو داود الحدود (4485) .(12/40)
وأما أبوه ذؤيب بن حلحلة فله صحبة. انتهى.
ورجال الحديث مع إرساله ثقات، وأعله الطحاوي بما أخرجه من طريق الأوزاعي أن الزهري راويه قال: بلغني عن قبيصة، ولم يذكر أنه سمع منه.
وعورض بأنه رواه ابن وهب عن يونس قال: أخبرني الزهري أن قبيصة حدثه أنه بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويونس أحفظ لحديث الزهري من الأوزاعي، وأخرج عبد الرزاق عن ابن المنكدر مثله. انتهي (1) من كلام الشوكاني.
وقال ابن حجر: وأخرجه الخطيب في المبهمات من طريق محمد بن إسحاق عن الزهري، وقال فيه: فأتي برجل من الأنصار يقال له، نعيمان فضربه أربع مرات، فرأى المسلمون أن القتل قد أخر، وأن الضرب قد وجب.
وقال ابن حجر على قوله: " بلغه" والظاهر أن الذي بلغ قبيصة ذلك صاحبي فيكون الحديث على شرط الصحيح؛ لأن إبهام الصحابي لا يضر. وله شاهد أخرجه عبد الرزاق عن معمر قال: حدثت به ابن المنكدر فقال: ترك ذلك، «قد أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن نعيمان فجلده ثلاثا، ثم أتي به في الرابعة فجلده ولم يزد (2) » . ووقع عند النسائي من طريق محمد بن إسحاق عن ابن المنكدر عن جابر «فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل منا قد شرب في الرابعة فلم يقتله» .
وأخرجه من وجه آخر عن محمد بن إسحاق بلفظ: «فإن عاد الرابعة فأضربوا عنقه (3) » ، فضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع مرات، فرأى المسلمون أن الحد قد وقع، وأن القتل قد رفع (4) انتهى.
يمكن أن يقال أن هذه العقوبة تعزير، وأن أمرها إلى الإمام تشديد أو تخفيف على ما يراه الإمام بمقتضى الظروف والأحوال، فلا يلزم أن يكون الترك نسخا.
__________
(1) نيل الأوطار \ 7 \ 326.
(2) سنن أبو داود الحدود (4485) .
(3) سنن النسائي الأشربة (5662) ، سنن أبو داود الحدود (4484) ، سنن ابن ماجه الحدود (2572) ، مسند أحمد بن حنبل (2/504) ، سنن الدارمي الأشربة (2105) .
(4) الفتح \ 12 \ 80.(12/41)
القول الثاني:
إنه لا يقتل، وإن القتل منسوخ، وهذا قول جمهور العلماء وفيما يلي بيان بعض من قال(12/41)
بذلك مع الأدلة والمناقشة:
قال الشوكاني: ذهب الجمهور إلى أنه لا يقتل الشارب، وأن القتل منسوخ، قال الشافعي: - والقتل منسوخ بهذا الحديث وغيره، يعني حديث قبيصة بن ذؤيب، ثم ذكر أنه لا خلاف في ذلك بين أهل العلم، وقال الخطابي: قد يرد الأمر بالوعيد ولا يراد به الفعل، وإنما يقصد به الردع والتحذير، وقد يحتمل أن يكون القتل في الخامسة واجبا، ثم نسخ بحصول الإجماع من الأمة على أن لا يقتل. انتهى.
وحكى المنذري عن بعض أهل العلم أنه قال: أجمع المسلمون على وجوب الحد في الخمر، وأجمعوا على أنه لا يقتل إذا تكرر منه إلا طائفة شاذة، قالت: يقتل بعد حده أربع مرات للحديث، وهو عند الكافة منسوخ. انتهى.
وقال الترمذي: إنه لا يعلم في ذلك اختلافا بين أهل العلم في القديم والحديث، وذكر أيضا في آخر كتابه الجامع في العلل أن جميع ما فيه معمول به عند البعض من أهل العلم إلا حديث «إذا سكر فاجلدوه (1) » المذكور في الباب، وحديث الجمع بين الصلاتين. انتهى (2) .
وقال ابن حجر: وأما ابن المنذر فقال: كان العمل فيمن شرب الخمر أن يضرب وينكل به، ثم نسخ بالأمر بجلده، فإن تكرر ذلك أربعا قتل، ثم نسخ ذلك بالأخبار الثابتة وبإجماع أهل العلم إلا من شذ ممن لا يعد خلافه خلافا. انتهى (3) .
وقال شيخ الإسلام: والقتل عند أكثر العلماء منسوخ. انتهى (4) .
وقال شيخ الإسلام أيضا: وقد روي من وجوه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شربها فاجلدوه، ثم إن شربها فاجلدوه، ثم إن شربها في الثالثة أو الرابعة فاقتلوه (5) » فأمر بقتل الشارب في الثالثة أو الرابعة وأكثر العلماء لا يوجبون القتل بل يجعلون هذا الحديث منسوخا وهو المشهور من مذاهب الأئمة. وبعد ذكره للقول بالقتل ودليله قال: والحق ما تقدم- ثم ذكر حديث عبد الله (حمار) الثابت في الصحيح وسيأتي ذكره (6) .
__________
(1) سنن النسائي الأشربة (5662) ، سنن أبو داود الحدود (4484) ، سنن ابن ماجه الحدود (2572) ، مسند أحمد بن حنبل (2/504) ، سنن الدارمي الأشربة (2105) .
(2) نيل الأوطار \ 7 \ 326 - 327.
(3) فتح الباري \ 12 \ 80-.
(4) السياسة الشرعية \ 50.
(5) مسند أحمد بن حنبل (2/214) .
(6) مجموع الفتاوى \ 34 \ 217.(12/42)
وقال ابن حزم: وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم: لا يقتل عليه، وذكروا ذلك عن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص. انتهى (1) .
__________
(1) المحلى \ 11 \ 366.(12/43)
الأدلة
الدليل الأول:
روى ابن حزم بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شرب الرجل فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد الرابعة فاقتلوه، فأتي برجل منا فلم يقتله (1) » . ونوقش بأنه لا يصح؛ لأنه لم يروه عن ابن المنكدر أحد متصلا إلا شريك القاضي وزياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق عن ابن المنكدر، وهما ضعيفان، ذكر ذلك ابن حزم.
وقد يجاب عن ذلك أولا: بأن زيادا صدوق وثبت في روايته عن ابن إسحاق لا مطعن فيها عند أئمة الحديث.
وقد يجاب عن ذلك ثانيا: بأن الضعف الذي ادعاه بعض أئمة الحديث في شريك، وبعضهم في زياد يزول هنا بمتابعة أحدهما للآخر في رواية هذا الحديث عن محمد بن إسحاق، كما تزول تهمة التدليس من ابن إسحاق برواية قبيصة بن ذؤيب الآتية؛ لأن المدلس إذا تابعه غيره من المعتبرين صار حديثه حسنا لغيره.
الدليل الثاني:
ما رواه ابن حزم بسنده عن ابن شهاب أن قبيصة بن ذؤيب حدثه أنه بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لشارب الخمر: «إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه، فأتي برجل قد شرب ثلاث مرات فجلده، ثم أتي به في الرابعة فجلده ووضع القتل عن الناس (2) » .
وناقشه ابن حزم بأنه منقطع ولا حجة في المنقطع، وقد مضى الجواب عن ذلك في الكلام على درجة هذا الحديث عند الاستدلال به على النسخ (3) .
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/191) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/211) .
(3) المحلى \ 11 \ 369.(12/43)
الدليل الثالث:
ما رواه ابن حزم عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب «أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارا، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشرب، فأتي به يوما فأمر به فجلد، فقال رجل في القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به. فقال رسول صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه فوالله ما علمته إلا يحب الله ورسوله (1) » .
وناقش ابن حزم هذا الحديث قائلا: وأما حديث زيد بن أسلم الذي من طريق معمر عنه فمنقطع، ثم لو صح لما كانت فيه حجة؛ لأنه ليس فيه أن ذلك كان بعد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتل، فإذ ليس ذلك فيه فاليقين الثابت لا يحل تركه للضعيف الذي لا يصح، ولو صح لكان ظنا فسقط التعلق به جملة.
ولو أن إنسانا يجلده النبي صلى الله عليه وسلم في الخمر ثلاث مرات قبل أن يأمر بقتله في الرابعة لكان مقتضى أمره صلى الله عليه وسلم استئناف جلده بعد ذلك ثلاث مرات، ولا بد لأنه عليه السلام حين لفظ بالحديث المذكور أمر في المستأنف بضربه إن شرب، ثم بضربه إن شرب ثانية، ثم بضربه ثالثة، ثم بقتله رابعة، هذا نص حديثه وكلامه عليه السلام، فإنما كان يكون حجة لو بين أنه أتى به أربع مرات بعد أمره عليه السلام بقتله في الرابعة، وهكذا القول سواء بسواء في حديث عمر الذي من طريق سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم.
وأجيب عن ذلك بما يلي:
أولا: هذا الحديث أخرجه البخاري في الصحيح فقال: حدثنا يحيى بن بكير حدثني الليث قال: حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب «أن رجلا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوما فأمر به فجلد فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله (2) » .
قال ابن حجر على هذا الحديث وفيه ما يدل على نسخ الأمر الوارد بقتل شارب
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6780) .
(2) صحيح البخاري الحدود (6780) .(12/44)
الخمر إذا تكرر منه إلى الرابعة أو الخامسة، فقد ذكر ابن عبد البر أنه أتي به أكثر من خمسين مرة. انتهى (1) .
ثانيا: أن بعض الصحابة عمل بالناسخ فأخرج عبد الرزاق في مصنفه بسند لين عن عمر بن الخطاب أنه جلد أبا محجن الثقفي في الخمر ثمان مرار، وأورد نحو ذلك عن سعد بن أبي وقاص وأخرج جاد بن سلمة في مصنفه من طريق أخرى رجالها ثقات أن عمر جلد أبا محجن في الخمر أربع مرار، ثم قال له: أنت خليع فقال: أما إذا خلعتني فلا أشربها أبدا. انتهى. ذكر ذلك ابن حجر (2) .
ثالثا: سبق القول عن أهل العلم بالقول بالنسخ، وذكر الشافعي أنه مما لا اختلاف فيه.
رابعا: إذا كان ثابتا فقد مضى حديث جابر عند الترمذي والنسائي وفيه بيان أن القتل كان متقدما وأن تركه كان متأخرا.
الدليل الرابع:
قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو نفس بنفس (3) » .
وجه الدلالة أنه لا يجوز أن يقتل أحد لم يذكر في هذا الخمر، ذكر ذلك ابن حزم، وقد يجاب عن ذلك بأن هذا مسلم لو لم يرد دليل يدل على القتل، وقد ورد ويناقض ذلك بتسليم ورود القتل، ولكنه نسخ وقد تقدم بيان ذلك.
__________
(1) فتح الباري \ 12 \ 78.
(2) فتح الباري \ 80 \ 81.
(3) سنن الترمذي كتاب الفتن (2158) ، سنن النسائي تحريم الدم (4019) ، سنن أبو داود الديات (4502) ، سنن ابن ماجه الحدود (2533) ، مسند أحمد بن حنبل (1/70) ، سنن الدارمي الحدود (2297) .(12/45)
ولابن تيمية الحفيد - رحمه الله - فتاوى كثيرة جوابا عن استفتاءات عديدة في بيان معنى الخمر والمخدر والمفتر وحكم كل منها نجتزئ منها بما يلي: (1) .
أما الأشربة المسكرة فمذهب جمهور العلماء المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وسائر العلماء أن كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام.
__________
(1) جـ 34 ص 186 مجموع فتاوى شيخ الإسلام.(12/45)
وهذا مذهب مالك وأصحابه، والشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وأصحابه، وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة، وهو اختيار محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، واختيار طائفة من المشائخ.
وأورد أسماء كثيرة منهم، ثم قال: وذهب طائفة من العلماء من أهل الكوفة: كالنخعي والشعبي وأبو حنيفة وشريك وغيرهم إلى أن ما أسكر من غير الشجرتين النخل والعنب كنبيذ الحنطة والشعير والذرة والعسل ولبن الخيل وغير ذلك، فإنما يحرم منه القدر الذي يسكر، وأما القليل الذي لا يسكر فلا يحرم. وأما عصير العنب الذي إذا غلا واشتد وقذف بالزبد فهو خمر، يحرم قليله وكثيره بإجماع المسلمين.
وأصحاب القول الثاني قالوا: لا يسمى خمرا إلا ما كان من العنب، وقالوا: إن نبيذ التمر والزبيب إذا كان نيا مسكرا حرم قليله كثيره ولا يسمى خمرا. فإن طبخ أدنى طبخ حل، وأما عصير العنب إذا طبخ وهو مسكر لم يحل. إلا أن يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه، فأما بعد أن يصير خمرا فلا يحل وإن طبخ إذا كان مسكرا بلا نزاع.
والقول الأول الذي عليه جمهور علماء المسلمين هو الصحيح الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار، فإن الله تعالى قال في كتابه: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (2) .
واسم الخمر في لغة العرب الذين خوطبوا بالقرآن كان يتناول المسكر من التمر وغيره، ولا يختص بالمسكر من العنب؛ فإنه قد ثبت بالنقول الصحيحة أن الخمر لما حرمت بالمدينة النبوية وكان تحريمها بعد غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة لم يكن من عصير العنب شيء، فإن المدينة ليس فيها شجر عنب وإنما كانت خمرهم من التمر، فلما حرمها الله عليهم أراقوها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم. بل وكسروا أوعيتها وشقوا ظروفها، وكانوا يسمونها خمرا، فعلم أن اسم الخمر في كتاب الله عام لا يختص بعصير العنب.
فروى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نزل تحريم الخمر وإن
__________
(1) سورة المائدة الآية 90
(2) سورة المائدة الآية 91(12/46)
بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة، ما منها شراب العنب.
وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: «إن الخمر حرمت يومئذ من البسر والتمر (1) » . وفي لفظ لمسلم: «لقد أنزل الله هذه الآية التي حرم فيها الخمر وما بالمدينة شراب إلا من تمر وبسر (2) » .
وفي لفظ للبخاري: «وحرمت علينا حين حرمت، وما نجد خمر الأعناب إلا قليلا، وعامة خمرنا البسر والتمر (3) » .
وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: «كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب من فريخ زهو وتمر، فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت. فقال أبو طلحة: يا أنس، قم إلى هذه الجرار فأهرقها، فأهرقتها (4) » .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أن الخمر يكون من الحنطة والشعير كما يكون من العنب، ففي الصحيحين عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال على منبر النبي صلى الله عليه وسلم: أما بعد أيها الناس، إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير. والخمر ما خامر العقل. وروى أهل السنن أبو داود والترمذي وابن ماجه عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من الحنطة خمرا، ومن الشعير خمرا، ومن الزبيب خمرا، ومن التمر خمرا، ومن العسل خمرا - زاد أبو داود: وأنا أنهى عن كل مسكر (5) » .
وقد استفاضت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن كل مسكر خمر، وهو حرام كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «سئل رسول الله عليه الصلاة والسلام عن البتع وهو نبيذ العسل، وكان أهل اليمن يشربونه، فقال: كل شراب أسكر فهو حرام (6) » .
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: «قلت يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن: البتع؛ وهو من العسل ينبذ حتى يشتد؟ قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع الكلم نخواتيمه فقال: كل مسكر حرام (7) » .
وفي صحيح مسلم عن جابر «أن رجلا من حبشان - وحبشان من اليمن - سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأراضيهم من الذرة يقال له: " المزر" فقال: أمسكر هو؟ قال: نعم، قال: كل مسكر حرام، إن على الله عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال. قالوا: يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال: عرق أهل النار أو عصارة أهل النار (8) » .
وفي صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مسكر خمر وكل مسكر حرام (9) » . وفي رواية له «كل مسكر خمر وكل خمر حرام (10) » .
وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما
__________
(1) صحيح البخاري الأشربة (5584) ، سنن النسائي الأشربة (5542) ، سنن أبو داود الأشربة (3673) ، مسند أحمد بن حنبل (3/217) ، سنن الدارمي الأشربة (2089) .
(2) صحيح مسلم الأشربة (1982) .
(3) صحيح البخاري الأشربة (5580) ، مسند أحمد بن حنبل (3/217) .
(4) صحيح البخاري الأشربة (5582) ، صحيح مسلم الأشربة (1980) ، سنن النسائي الأشربة (5542) ، موطأ مالك الأشربة (1599) ، سنن الدارمي الأشربة (2089) .
(5) سنن الترمذي الأشربة (1872) ، سنن أبو داود الأشربة (3676) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3379) .
(6) صحيح البخاري الأشربة (5586) ، صحيح مسلم الأشربة (2001) ، سنن الترمذي الأشربة (1863) ، سنن النسائي الأشربة (5594) ، سنن أبو داود الأشربة (3682) ، مسند أحمد بن حنبل (6/97) ، موطأ مالك الأشربة (1595) ، سنن الدارمي الأشربة (2097) .
(7) صحيح البخاري المغازي (4345) ، صحيح مسلم الأشربة (1733) ، سنن النسائي الأشربة (5603) ، سنن أبو داود الأشربة (3684) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3391) ، مسند أحمد بن حنبل (4/402) ، سنن الدارمي الأشربة (2098) .
(8) صحيح مسلم الأشربة (2002) ، سنن النسائي الأشربة (5709) ، مسند أحمد بن حنبل (3/361) .
(9) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) .
(10) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) .(12/47)
أسكر كثيره فقليله حرام (1) » . رواه ابن ماجه، والدارقطني وصححه، وقد روى أهل السنن مثله من حديث جابر ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. والأحاديث كثيرة صحيحة في هذا الباب.
ولكن عذر من خالفها من أهل العلم أنها لم تبلغهم، وسمعوا أن من الصحابة من شرب النبيذ، وبلغتهم في ذلك آثار؛ فظنوا أن الذي شربوه كان مسكرا، وإنما كان الذي تنازع فيه الصحابة هو ما نبذ في الأوعية الصلبة.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن الانتباذ في الدباء وهو القرع، وفي الحنتم (2) » وهو ما يصنع من التراب من الفخار، ونهى عن النقير وهو الخشب الذي ينقر، ونهى عن المزفت وهو الظرف المزفت، وأمرهم أن ينتبذوا في الظروف الموكاة وهو أن ينقع التمر أو الزبيب في الماء؛ حتى يحلو فيشرب حلوا قبل أن يشتد، فهذا حلال باتفاق المسلمين.
ونهاهم أن ينتبذوا هذا النبيذ الحلال في تلك الأوعية؛ لأن الشدة تدب في الشراب شيئا فشيئا، فيشربه المسلم وهو لا يدري أنه قد اشتد، فيكون قد شرب محرما، وأمرهم أن ينتبذوا في الظرف الذي يربطون فمه؛ لأنه إن اشتد الشراب انشق الظرف فلا يشربون مسكرا.
والنهي عن نبيذ الأوعية القوية فيه أحاديث كثير مستفيضة، ثم روي عنه إباحة ذلك كما في صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكرا (3) » وفي رواية: «نهيتكم عن الظروف وإن ظرفا لا يحل شيئا ولا يحرمه، وكل مسكر حرام (4) » . فمن الصحابة والتابعين من لم يثبت عنده النسخ فأخذ بالأحاديث الأول، ومنهم من اعتقد صحة النسخ فأباح الانتباذ في كل وعاء، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي، والنهي عن بعض الأوعية قول مالك. وعن أحمد روايتان.
فلما سمع طائفة من علماء الكوفة أن من السلف من شرب النبيذ ظنوا أنهم شربوا المسكر، فقال طائفة منهم كالشافعي والنخعي وأبي حنيفة وشريك وابن أبي ليلى وغيرهم: يحل ذلك، كما تقدم وهم في ذلك مجتهدون قاصدون للحق.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر (5) » .
وأما سائر العلماء فقالوا بتلك الأحاديث الصحيحة، وهذا هو الثابت عن الصحابة
__________
(1) سنن الترمذي الأشربة (1865) ، سنن أبو داود الأشربة (3681) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3393) ، مسند أحمد بن حنبل (3/343) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/66) ، موطأ مالك كتاب الضحايا (1048) .
(3) صحيح مسلم الأشربة (977) ، سنن أبو داود الأشربة (3698) ، مسند أحمد بن حنبل (5/359) .
(4) صحيح مسلم الأشربة (977) ، مسند أحمد بن حنبل (5/359) .
(5) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7352) ، صحيح مسلم الأقضية (1716) ، سنن أبو داود الأقضية (3574) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2314) .(12/48)
وعليه دل القياس الجلي، فإن الله تعالى قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (1) فإن المفسدة التي لأجلها حرم الله - سبحانه وتعالى - الخمر هي أنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتقع العداوة والبغضاء. وهذا أمر تشترك فيه جميع المسكرات لا فرق في ذلك بين مسكر ومسكر، والله - سبحانه وتعالى - حرم القليل؛ لأنه يدعو إلى الكثير وهذا موجود في جميع المسكرات إلى أن قال: وأما الحشيشة الملعونة المسكرة فهي بمنزلة غيرها من المسكرات، والمسكر منها حرام باتفاق العلماء، بل كل ما يزيل العقل فإنه يحرم أكله، ولو لم يكن مسكرا كالبنج، فإن المسكر يجب فيه الحد، وغير المسكر يجب فيه التعزير.
وأما قليل الحشيشة المسكرة فحرام عند جماهير العلماء كسائر القليل من المسكرات، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام (2) » يتناول ما يسكر. ولا فرق بين أن يكون المسكر مأكولا أو مشروبا أو جامدا أو مائعا، فلو اصطبغ كالخمر كان حراما، ولو أماع الحشيشة وشربها كان حراما. ونبينا صلى الله عليه وسلم بعث بجوامع الكلم، فإذا قال كلمة جامعة كانت عامة في كل ما يدخل في لفظها ومعناها. سواء كانت الأعيان موجودة في زمانه أو مكانه أو لم تكن إلى أن قال.
وهذه الحشيشة فإن أول ما بلغنا أنها ظهرت بين المسلمين في أواخر المائة السادسة وأوائل السابعة، حيث ظهرت دولة التتار، وكان ظهورها مع ظهور سيف " جنكسخان " لما أظهر الناس ما نهاهم الله ورسوله عنه من الذنوب؛ سلط الله عليهم العدو. وكانت هذه الحشيشة الملعونة من أعظم المنكرات وهي شر من الشراب المسكر من بعض الوجوه، والمسكر شر منها من وجه آخر، فإنها مع أنها تسكر آكلها حتى يبقى مصطولا تورث التخنيث والديوثة وتفسد المزاج فتجعل الكبير كالسفنجة، وتوجب كثرة الأكل وتورث الجنون، كثير من الناس صار مجنونا بسبب أكلها.
ومن الناس من يقول: إنها تغير العقل فلا تسكر كالبنج، وليس كذلك بل تورث نشوة ولذة وطربا كالخمر. وهذا هو الداعي إلى تناولها وقليلها يدعو إلى كثيرها كالشراب المسكر، والمعتاد لها يصعب عليه فطامه عنها أكثر من الخمر. فضررها من بعض الوجوه أعظم من
__________
(1) سورة المائدة الآية 91
(2) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) .(12/49)
الخمر ولهذا قال الفقهاء أنه يجب فيها الحد كما يجب في الخمر.
وتنازعوا في نجاستها على ثلاثة أوجه في مذهب أحمد وغيره فقيل: هي نجسة. وقيل: ليست بنجسة. وقيل: رطبها نجس كالخمر ويابسها ليس بنجس، والصحيح أن النجاسة تتناول الجميع كما تتناول النجاسة جامد الخمر ومائعها.
فمن سكر من شراب مسكر أو حشيشة مسكرة لم يحل له قربان المسجد حتى يصحو، ولا تصح صلاته حتى يعلم ما يقول ولا بد أن يغسل فمه ويديه وثيابه في هذا وهذا، والصلاة فرض عينية، لكن لا تقبل منه حتى يتوب أربعين يوما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوما، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها لم تقبل له صلاة أربعين يوما، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال، قيل: وما طينة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار أو عرق أهل النار (1) » .
وأما قول القائل أن هذه ما فيها آية ولا حديث، فهذا من جهله، فإن القرآن والحديث فيهما كلمات جامعة هي قواعد عامة. وقضايا كلية، تتناول كل ما دخل فيها، وكل ما دخل فيها فهو مذكور في القرآن والحديث باسمه العام وإلا فلا يمكن ذكر كل شيء باسمه الخاص.
فإن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق وقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (2) ، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} (3) ، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (4) ، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (5) .
فاسم الناس والعالمين يدخل فيه العرب وغير العرب من الفرس والروم والهند والبربر، فلو قال قائل: إن محمدا ما أرسل إلى الترك والهند والبربر؛ لأن الله لم يذكرهم في القرآن، كان جاهلا كما لو قال: إن الله لم يرسله إلى بني تميم وبني أسد وغطفان وغير ذلك من قبائل العرب؛ فإن الله لم يذكر هذه القبائل بأسمائها الخاصة، وكما لو قال: إن الله لم يرسله إلى أبي جهل وعتبة وشيبة وغيرهم من قريش؛ لأن الله لم يذكرهم بأسمائهم الخاصة في القرآن.
__________
(1) سنن الترمذي الأشربة (1862) ، سنن النسائي الأشربة (5670) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3377) ، مسند أحمد بن حنبل (2/189) ، سنن الدارمي الأشربة (2091) .
(2) سورة الأعراف الآية 158
(3) سورة سبأ الآية 28
(4) سورة الفرقان الآية 1
(5) سورة الأنبياء الآية 107(12/50)
وكذلك لما قال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (1) . دخل في الميسر الذي لم تعرفه العرب ولم يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم.
كل الميسر حرام باتفاق المسلمين، وإن لم يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم، كاللعب بالشطرنج وغيره بالعوض، فإنه حرام بإجماع المسلمين، وهو الميسر الذي حرمه الله، ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. والنرد أيضا من الميسر الذي حرمه الله، وليس في القرآن ذكر النرد والشطرنج باسم خاص، بل لفظ الميسر يعمها.
وجمهور العلماء على أن النرد والشطرنج محرمان بعوض وغير عوض، وبعد أن ذكر نظائر أخرى من النصوص يعتمد على عمومها في الاستدلال بها على إثبات الحكم لكل ما اندرج تحته من الأفراد دون حاجة إلى تعينها، قال: ولو قدر بأن اللفظ لم يتناوله وكان في معنى ما في القرآن والسنة ألحق به بطريق الاعتبار والقياس، كما دخل اليهود والنصارى والفرس في عموم الآية، ودخلت جميع المسكرات في معنى خمر العنب وأنه بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالكتاب والميزان؛ ليقوم الناس بالقسط والكتاب القرآن والميزان العدل.
والقياس الصحيح هو من العدل؛ لأنه لا يفرق بين المتماثلين بل سوى بينهما؛ فاستوت السيئات في المعنى الموجب للتحريم، لم يخص أحدها بالتحريم دون الآخر، بل من العدل أن يسوي بينهما، ولو لم يسو بينهما كان تناقضا. وحكم الله ورسوله منزه عن التناقض.
ولو أن الطبيب حمى المريض عن شيء؛ لما فيه من الضرر وأباحه له لخرج عن قانون الطب، والشرع طب القلوب، والأنبياء أطباء القلوب والأديان، ولا بد إذا أحل الشرع شيئا منه أن يخص هذا بما يفرق به بينه وبين هذا؛ حتى يكون فيه معنى خاص بما حرمه دون ما أحله. والله أعلم.
وسئل - رحمه الله تعالى - عمن يأكل الحشيشة ما يجب عليه؟
فأجاب: الحمد لله، هذه الحشيشة الصلبة حرام سواء سكر منها أو لم يسكر. والسكر منها حرام باتفاق المسلمين، ومن استحل ذلك وزعم أنه حلال، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتدا لا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين.
وأما إن اعتقد ذلك قربة وقال: هي لقيمة الذكر والفكر، وتحرك العزم الساكن إلى أشرف الأماكن، وتنفع في الطريق فهو أعظم وأكبر؛ فإن هذا من جنس دين النصارى الذين يتقربون بشرب الخمر، ومن جنس
__________
(1) سورة المائدة الآية 90(12/51)
من يعتقد الفواحش قربة وطاعة، قال الله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (1) ، ومن كان يستحل ذلك جاهلا، وقد جمع بعض الفقهاء يقول:
حرموها من غير عقل ونقل ... وحرام تحريم غير الحرام
فإنه ما يعرف الله ورسوله، وأنها محرمة والسكر منها حرام بالإجماع.
وإذا عرف ذلك ولم يقر بتحريم ذلك فإنه يكون كافرا مرتدا، كما تقدم، وكل ما يغيب العقل فإنه حرام، وإن لم تحصل به نشوة ولا طرب، فإن تغيب العقل حرام بإجماع المسلمين.
وأما تعاطي (البنج) الذي لم يسكر ولم يغيب العقل ففيه التعزير. وأما المحققون من الفقهاء فعلموا أنها مسكرة، وإنما يتناولها الفجار؛ لما فيها من النشوة والطرب، فهي تجامع الشراب المسكر في ذلك، والخمر توجب الحركة والخصومة، وهذه توجب الفتور والذلة.
وفيها مع ذلك من فساد المزاج والعقل، وفتح باب الشهوة، وما توجبه من الدياثة، مما هي من شر الشراب المسكر، وإنما حدثت في الناس بحدوث التتار إلى أن قال: (2) نعم يجب على آكلها حد شارب الخمر.
وهؤلاء القوم ضلال جهال عصاة لله ولرسوله، وكفى برجل جهلا أن يعرف بأن هذا الفعل محرم، وأنه معصية لله ولرسوله ثم يقول: إنه تطيب له العبادة، وتصلح له حاله. ويح هذا القائل؟ أيظن أن الله - سبحانه وتعالى - ورسوله صلى الله عليه وسلم حرم على الخلق ما ينفعهم ويصلح لهم حالهم؟ نعم قد يكون في الشيء منفعة وفيه مضرة أكثر من منفعته؛ فيحرمه الله - سبحانه وتعالى-؛ لأن المضرة إذا كانت أكثر من المنفعة بقيت الزيادة مضرة محضة، وصار هذا الرجل كأنه قال لرجل: خذ مني هذا الدرهم وأعطني دينارا. فجهله يقول له: هو يعطيك درهما فخذه، والعقل يقول: إنما يحصل الدرهم بفوات الدينار، وهذا ضرر لا منفعة له، بل جميع ما حرمه الله ورسوله إن ثبت فيه منفعة ما فلا بد أن يكون ضرره أكثر.
فهذه الحشيشة الملعونة هي وآكلوها ومستحلوها الموجبة لسخط الله وسخط رسوله وسخط عباده المؤمنين، المعرضة صاحبها لعقوبة الله إذا كانت كما يقوله الضالون من أنها تجمع الهمة، وتدعو إلى العبادة، فإنها مشتملة على ضرر في دين المرء وعقله وخلقه وطبعه
__________
(1) سورة الأعراف الآية 28
(2) في حكم أكل العبيراء للإعانة على العبادة، والعبيراء: شراب مسكر يؤخذ من الذرة.(12/52)
أضعاف ما فيها من خير، ولا خير فيها ولكن هي تحلل الرطوبات فتتصاعد الأبخرة إلى الدماغ، وتورث خيالات فاسدة فيهون على المرء ما يفعله من عبادة، ويشغله بتلك التخيلات عن إضرار الناس.
وهذه رشوة الشيطان يرشو بها المبطلين ليطيعوه فيها، بمنزلة الفضة القليلة في الدرهم المغشوش، وكل منفعة تحصل بهذا السبب فإنها تنقلب مضرة في المال، ولا يبارك لصاحبها فيها. وإنما هذا نظير السكران بالخمر؛ فإنها تطيش عقله حتى يسخو بماله، ويتشجع على أقرانه، فيعتقد الغر أنها أورثته السخاء والشجاعة وهو جاهل، وإنما أورثته عدم العقل، ومن لا عقل له لا يعرف قدر النفس والمال فيجود بجهله لا عن عقل فيه.
وكذلك هذه الحشيشة المسكرة إذا أضعفت العقل، وفتحت باب الخيال؛ تبقى العادة فيها مثل العبادات في الدين الباطل، ودين النصارى، فإن الراهب تجده يجتهد في أنواع العبادة لا يفعلها المسلم الحنيف؛ فإن دينه باطل والباطل خفيف؛ ولهذا تجود النفوس في السماع المحرم والعشرة المحرمة بالأموال وحسن الخلق مما لا تجود به في الحق، وما هذا بالذي يبيح تلك المحارم، أو يدعو المؤمن إلى فعله؛ لأن ذلك إنما كان لأن الطبع لما أخذ نصيبه من الحظ المحرم ولم يبال بما بذله عوضا عن ذلك، وليس في هذا منفعة في دين المرء ولا دنياه، وإنما ذلك لذة ساعة بمنزلة لذة الزاني حال الفعل، ولذة شفاء الغضب حال القتل، ولذة الخمر حال النشوة، ثم إذا صحا من ذلك وجد عمله باطلا وذنوبه محيطة به، وقد نقص عليه عقله ودينه وخلقه.
وأين هؤلاء الضلال مما تورثه هذه الملعونة من قلة الغيرة، وزوال الحمية حتى يصير أكلها إما ديوثا، وإما مأبونا، وإما كلاهما.
وتفسد الأمزجة؛ حتى جعلت خلقا كثيرا مجانين، وتجعل الكبد بمنزلة السفنج، ومن لم يجن منهم فقد أعطته نقص العقل ولو صحا منها فإنه لا بد أن يكون في عقله خبل، ثم إن كثيرها يسكر؛ حتى يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهي وإن كانت لا توجب قوة نفس صاحبها حتى يضارب ويشاتم، فكفى بالرجل شرا أنها تصده عن ذكر الله، وعن الصلاة إذا سكر منها، وقليلها وإن لم يسكر فهو بمنزلة قليل الخمر، ثم إنها تورث من مهانة آكلها، ودناءة نفسه، وانفتاح شهوته ما لا يورثه الخمر، ففيها من المفاسد ما ليس في الخمر.
وإن كان في الخمر مفسدة ليست فيها وهي الحدة، فهي بالتحريم أولى من الخمر؛ لأن ضرر آكل الحشيشة على نفسه أشد من ضرر الخمر، وضرر(12/53)
شارب الخمر على الناس أشد إلا أنه في هذه الأزمان؛ لكثرة أكل الحشيشة صار الضرر الذي منها على الناس أعظم من الخمر، وإنما حرم الله المحارم؛ لأنها تضر أصحابها وإلا فلو ضرت الناس ولم تضره لم يحرمها؛ إذ الحاسد يضره حال المحسود، ولم يحرم الله اكتساب المعالي؛ لدفع تضرر الحاسد.
هذا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر خمر وكل مسكر حرام (1) » ، وهذه مسكرة ولو لم يشملها لفظ بعينها لكان فيها من المفاسد ما حرمت الخمر لأجلها، مع أن فيها مفاسد أخر غير مفاسد الخمر توجب تحريمها. ا. هـ
__________
(1) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) .(12/54)
(دراسات حديثة تؤيد وجهة نظر فقهاء الإسلام) ومنها يتبين مضارها وآثارها السيئة
بعد أن انتهينا من عرض موجز من المعلومات الإسلامية، والأحكام الفقهية في موضوع المسكرات والمخدرات، فإنه يجدر بنا أن نبين أن هذه المخدرات منكر يأباه العقل والذوق والمجتمع كما يأباه الشرع.
وإذا كنا بصدد البحث عن وجهة نظر فقهاء الشريعة الإسلامية إلى المخدرات، فإن جانب المصلحة هو المضروب المشترك، والقدر الذي لا يتخلف، وكلما تأكد وجه النظر في أمر منكر، زادت بشاعته وتجلت حكمة الشارع الحكيم في حظره على ما قرره الفقهاء من حكمه، وكم انتفع الفقهاء السابقون بأنظار الأطباء في عصورهم، ورجعوا إليهم قبل البت في أحكامهم؛ لأنهم يجلون لهم وجه المصلحة أو المفسدة التي هي أساس التشريع الإسلامي، ولقد نقل الفقهاء كثيرا من أحكام الطب ووجوه الحكمة في الأمور، فكانت لهم نبراسا يضيء أمامهم طريق الحياة.
وهذه الخبائث طالما قاومها المصلحون ورجال القانون وغيرهم ممن يعنيهم شأن الأمم، فمن الخير أن ننتفع في بحثنا بما يؤكد لنا الأحكام الشرعية، ويجعلها معقولة المعنى.
لذا رأينا أن نقتبس من كتاب ظاهرة تعاطي الحشيش للدكتور سعيد المغربي ما يأتي:
1 - جاء في مقدمة الكتاب أن الحشيش مما خلفه الاستعمار وأوضاعه بما تركه من آثار سيئة، وأن الحاجة الآن ملحة لإعادة تطهير المجتمع وتصفيته من تلك المشكلات الحادة المزمنة، ثم أشار إلى أن القانون المصري مهتم بهذه الجريمة اهتماما بالغا، وقد تدرج في تشديد العقوبة وهذا دليل ظاهر على ظهور خطر هذه السموم، وعلى أنه مشكلة صحية(12/54)
وسيكيولوجية، وأن بعض الباحثين يرى أنه يؤدي إلى حالة من الاضطراب العقلي.
ثم قال: إن متعاطي هذه الجريمة قوى معطلة عن العمل والإنتاج؛ لأنها تستلزم السهر الذي يستنفذ جهدا وطاقة، وأنها توجه طبقة من المجرمين شأنهم الاعتداء والعدوان؛ لأنهم فارغون ومحتاجون ومتحيلون.
2 - يبين أنه له آثار ضارة طبيعية فيه كالدوار في أوله، والشعور بالاسترخاء والنوم العميق، والهبوط العام للجهاز المركزي، وحرمان الجهاز الهضمي من الكميات المطلوبة للجسم نفسه كاللعاب والعصارات الهضمية، ثم التصلب في الشرايين، ويصحب ذلك الضعف الجسمي وقلة الرغبة في إرضاء الطرف الآخر.
3 - تناول بعض الأمراض النفسية والاجتماعية، ومنها أنه إذا اقترب موعد التعاطي تنتاب المدمن أعراض تشتد تدريجيا وهي توتر وشعور بقلق شديد وانقباض وهبوط عصبي لا يستقر المدمن معه، ثم يبين أن معظم المدمنين على وعي تام بآثار مدمرة لهم صحيا ونفسيا لدرجة أن بعضهم يحاول العلاج تلقائيا أو بمعونة الطبيب، وأنهم أحيانا يكونون في حالة بكاء تشل الجسد عن الحركة حين تجيء النوبة إلى أن يتعاطى الحشيش.
4 - من بين نتائج الدراسة أن الحشيش يسبب حالة من المرح والتهيج مع اعتقاد متعاطيه أنه قادر على كل شيء، فضلا عن اتجاهه إلى اختراع أفكار وهمية، وأنه يؤدي إلى ارتكاب الجريمة؛ لأن شخصيته غير مستقرة ويصير ذلك به إلى التشرد والسرقة والخوف والجبن، ثم يكون الهجوم والعدوان، وقد كانت له ضحايا كثيرة من مرضى العقول والمجانين.
5 - يقول الدكتور (وولف) وهو عضو في لجنة المخدرات بهيئة الصحة العالمية: إن الحشيش يعمل على تجسيم المشاعر والانفعالات، وأن أكثر المتعاطيي تتأثر تهيآتهم وتتضخم إلى أقصى درجة، وهنا يكون العدوان. ويقول باحث يوناني أنه تأكد لديه الدور الواضح الذي يلعبه الحشيش كباعث للجريمة؛ حتى أصبحت كلمة حشاش في اليونان ترادف كلمة (مجرم) .
6 - جاء في بعض مواضع البحث أن أخطر ما فيه حوادث السيارات؛ لأنه يقرب البعيد في النظر، ويبعد القريب أحيانا فتقر الحادثة ولا يشعر السائق.(12/55)
7 - وفي بعض فقراته إجابة من موظف صغير عن سؤال وجه إليه بشأن الأفيون يقول فيها: إن الأفيون داء فظيع إذا تمكن من صاحبه كان في عداد الأموات؛ فهو يرخي الأعصاب، ولا يتمكن صاحبه من أداء أي عمل إلا إذا تعاطاه، ويكون دائما ذليلا في تهيج وتذلل حتى في شرائه للمخدر، ويتألم إذا لم يتعاطاه حتى يشعر بارتخاء في أعصابه، ودمع في عينيه، واضطراب في نظره، والتهاب في أنفه.
-8 أورد في بعض الملاحظات بالنسبة للأعراض البدنية لمتعاطي الحشيش أمرين:
1 - انخفاض في مستوى الصحة ويتبعه الانخفاض بمستوى الكفاءة البدنية والنفسية والعقلية مما يؤثر على حياته في جوانبه المختلفة.
2 - اختلال التوازن واضطراب الحواس، ثم الكسل والتراخي، ثم ينقل عن بيزل أن الفحوص الطبية دلت على أن المدمنين يصابون بهبوط في جميع وظائف الأعضاء البدنية والعصبية مع فقدان الشهية، ويقول (كوبروكوبر) : إنهم يصابون بوضوح بالتهاب الملتحمة، ولا يفارقهم ذلك حتى بعد الإقلاع، ويجمع الباحثون على ذلك.
9 - يقول في فقرات أخرى- أنه يؤدي إلى اضطراب وأمراض بالجهاز التنفسي ومسالكه وأهمها الربو والتهاب الشعب وأطال في تعليل ذلك.
10 - ثم يقول: إن الرأي القائل بأن الحشيش يثير الرغبة الجنسية ويطيل أمد المتعة على جانب كثير من الخطورة؛ لأنه يعتمد على الأوهام والشائعات، ويدعوا إلى انتشاره دون جدوى، والدراسات العلمية تكاد تجمع على ذلك، ومن ادعى ذلك من الباحثين لا يفرق بين الرغبة الجنسية وبين الحيوية.
وما أكثر الفوائد القيمة في هذا الكتاب التي تستقى منه الإحصاءات المطردة المتواصلة ولا سبيل لنا هنا إلى الاستقصاء وإنما سبيلنا أن نربط بين العلم والدين بالرباط الحكيم المبين، وما أعظم قول الله - عز وجل - في هذه المناسبة: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (1) .
وفي نهاية هذه الدراسة القيمة للدكتور سعيد المغربي يقول: (تبين من هذا كله أن
__________
(1) سورة فصلت الآية 53(12/56)
القانون لم يحل المشكلة وليس هو بالناحية الأساسية فالاعتماد عليه خطر، فالحق أن علاجها من وجهة النظر النفسية والاجتماعية بالرجوع إلى حالة سلوك واقعية، ثم يجيء القانون من بين الحواجز المثبطة وتلخيص الحل في التغيير الجوهري للعناصر التي يعيش فيها الفرد بحيث تهيئ له الفرص التي يشبع فيها حاجاته في ظل التكامل الصادق الذي يشعر الشخص بالتفاؤل والنجاح) ويا حبذا لو قال الباحث: إن الدين أكبر مصلح ومهذب، موجه للوعي إلى كل خير ورشاد، فهل يعود الإنسان إلى دينه الذي بعث الله به النبيين هدى ورحمة؟ اللهم حقق ذلك لعبادك الضالين واهدنا الصراط المستقيم يا رب العالمين.
مما تقدم يتبين أن المخدرات مما يقوض أركان مقاصد الإسلام الخمسة، ويزلزل بنيانها على شيء من التفاوت، وبيان ذلك أنها تؤثر في العقل وتخل بتوازنه، وهو تلك اللطيفة الربانية التي يبصر بها الإنسان وجوه الصواب وطرق الرشاد، ويعبد بها ربه والتي ينوه الله - سبحانه - بها فيجعلها وقاية من الشرور وسلامة من العذاب يوم القيامة إذا سلمت من الهوى، فيقول في الحديث عن بعض ما يصدر من أهل النار وهم في سعيرها: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (1) ، يقول سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (2) .
إن هذا العقل الذي استحق به الإنسان أن يكون خليفة في الأرض وسخر الله له جميع الكون لعرضة للتضحية به في شربة كأس، أو مضغة حشيش، أو أفيون، أو غيرها عن الخبائث. فويل لمن خسر عقله ضحية متعة موهومة أو نشوة منقضية مذمومة؛ لأن وراءها آفات تفسد الحياة، وترد الإنسان من شر ما خلق الله.
ألست ترى ذبول أبدانهم وصفرة ألوانهم، وتعشيش الفقر في بيوتهم ولفظ المجتمع لهم، وترحيب السجون بهم، وهل سميت المخدرات إلا لأنها تغطي العقل، والعقل إذا تغطى عبث الذئب بصاحبه وصار أطوع من الطفل لشيطانه فلم يستح من فعل يصدر منه، ولم يفكر في كلمة تخرج من فمه، والمرء بأصغريه قلبه ولسانه. أما قلب المتخدر؛ فإنه في إجازة لا يدري متى بعود منها، وأما لسانه فإنه ينطق بلا عقل يريه كيف ينطق. ولهذا روي أن
__________
(1) سورة الملك الآية 10
(2) سورة ق الآية 37(12/57)
نصيبا الشاعر قال لبعض الخلفاء وقد سأله لم لا تشرب؟ فقال له: يا أمير المؤمنين، ما رشحني لمجلسي هذا إلا عقلي فكيف أجالسك بدونه فأكون من الخاسرين؟
ولا فرق في إصابة العقل والجناية عليه بين المسكر والمخدر، وما أكثر ضحايا المخدرات في مستشفيات الأمراض العقلية، فإذا كان حفظ العقل من الضروريات الخمس التي تحرص عليها جميع الأديان السابقة، فماذا عسى أن يكون حكم الإسلام وهو الدين الخاتم الذي وسع كل شيء بنصوصه خاصها وعامها هل يرضى للمنتسب إليه أن يكون مجنونا لا يفهم أو صائرا إلى الجنون، حاشى لله وحاشى لدينه الذي رضيه للمسلمين وأكمله لهم، فأتم نعمته عليهم أن يكون ذلك فيما يرضاه أو يحله لهم.
وكما أن المخدرات تذهب بعقل الإنسان وتخل توازنه فهي تفسد عليه دينه وهو الذي خلق الله الإنس والجن لأجله لقوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (1) ولهذا جعل الله - سبحانه - الخمر رجسا من عمل الشيطان وبين أن الشيطان- تحقيقا لمهمته - يغري الناس بشرب الخمر ولعب الميسر وأشباههما؛ ليوقع العداوة بين الإخوة ويصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، وطبق الفقهاء ذلك على ما لم يكن موجودا وقت نزول الآية كالحشيش والأفيون، وحكم المحققون منهم بكفر مستحلها كما هو الشأن في الخمر؛ لأنها رجس تصد عن ذكر الله وعن الصلاة كالخمر، وفيها كثير من صفاتها التي اقتضت تحريمها.
وقد جعل الفقهاء من شرط صحة العمل العقل، فلا يصح عمله إلا به فهو أساس الدين، وهذه المخدرات مسلبة للدين وجناية عليه، فهل ترى أن نظرة الشريعة إليها نظرة تبيح شيئا منها للإنسان هيهات. ولهذا جاء الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الخمر أم الخبائث (2) » ومن طريف ما يقال أن امرأة عربية قديمة تناولت بعض الشراب في مناسبة غير سعيدة فلما لعبت برأسها قالت: أيشرب هذا نساؤكم؟ قالوا: نعم. قالت:.
زنيت ورب الكعبة. ومعنى هذا أنها سترت بشربة عقلها فكشفت عن بزتها واسترخت لما يريد الشيطان منها.
ثم تجيء بعد ذلك المحافظة على المال الذي جعله الله - سبحانه - قياما للناس كما يقول
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سنن النسائي الأشربة (5666) .(12/58)
جل شأنه في كتابه الكريم: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} (1) ويمكن أن نشير في مناسبة الآية الكريمة إلى أن من يتعاطون المخدرات من أعرق الناس في السفه؛ لأنهم ينفقون أموالهم فيما يضر عقولهم وأبدانهم، ويسرفون في ذلك حتى ينتهي بهم تماديهم وإسرافهم إلى الفقر، ويصبحون في أمس الحاجة إلى من ينفق عليهم ويتولى أمرهم، وربما لا يجدون ذلك، وصدق القائل:
دية العقل بدرة فلماذا ... يا خسيسا قد بعته بحشيشة
فمن الآن فليشعر متعاطي هذه المخدرات أو من يفكر في صحبة متعاطيها أنها جناية على المال وتعريض به للضياع؛ لأن قليلها يدعو إلى كثيرها، والمضغة الواحدة منها طريق إلى التمادي فيها، وأن فيها معصية لله - سبحانه - بإضاعة المال وحرمان مستحقه من الأهل والعيال، وكيف ترضى شريعة الإسلام ذلك لا سيما أنها إضاعة تأخذ معها العقل وتسلب الدين؟!
وأما حفظ النسب: فإن مرجعه إلى التوقي من الزنا وحفظ الفرج من غير الزوج الشرعي، وكيف يكون التوقي لمن طار عقله وطاش لبه وضعف دينه وذهب حياؤه؟! على أنه قد نص العلماء كابن تيمية وغيره أن متعاطي الحشيشة ديوث لا يغار على عرضه ولا يبالي أن يعتدى على حريمه وأهله؛ لأنه فقد التقدير وخسر عقله وأعصابه.
وأما حفظ النفس: فإن مرجعه إلى المحافظة على البدن من الأمراض والحيلولة بينه وبين التهلكة، والمخدرات لا تعرف المحافظة على البدن، ولا تلتقي معها؛ ولهذا كثرت ضحاياها التي استفاض أمرها وغصت المستشفيات العقلية بأصحابها، وما أكثر من يموت من مدمنيها بالسكتة القلبية وهو أحوج ما يكون إلى أن يرعى نفسه أو من حوله من آباء وأبناء.
فهذه المخدرات محادة لله ولرسله وللأديان السماوية التي أمرت بحفظ الضروريات التي هي قوام الدين والدنيا، فهل تجد مجالا في الإسلام لمن عرف السبيل إلى هذه السموم الفتاكة؟ نسأل الله العافية والسلام.
__________
(1) سورة النساء الآية 5(12/59)
1 - معنى المحاربة لغة:
الحرب بسكون الراء مؤنثة، وحكى ابن الأعرابي فيها التذكير، وهي ضد السلم.(12/59)
والمحارب المشلح. والحرب بفتح الراء أن يسلب الرجل ماله، يقال: حربه يحربه إذا أخذ ماله، فهو محروب وحريب من قوم حربي، وحريبته ماله الذي سلبه لا يسمى بذلك إلا بعد أن يسلبه. وقيل: حريبة الرجل ماله الذي يعيش به، تقول: حربه يحربه حربا إذا أخذ ماله وتركه بلا شيء، وقال الأزهري: حرب فلان حربا فالحرب أن يؤخذ ماله كله فهو رجل حرب، أي نزل به الحرب وهو محروب حريب والمحروب الذي سلب حريبته، ويطلق الحرب على شدة الغضب وعلى معان أخرى، ويطلق المحراب على عرين الأسد وعلى الموضع الذي ينفرد فيه الملك والإمام وعلى معان أخرى، وبالجملة فالمادة متضمنة معنى العداوة والمنعة والانفراد والبعد والاعتداء ونحو ذلك مما تضمنه معنى المحارب شرعا كما سيأتي ذكره في كلام الفقهاء.
2 - أقوال الفقهاء في سبب نزول آية المحاربة ومناقشتها:
اختلف العلماء فيمن نزلت فيه آية الحرابة، فقيل: نزلت في المشركين، وقيل: في قوم من أهل الكتاب كانوا أهل موادعة فنقضوا العهد وأخافوا السبيل وأفسدوا في الأرض (1) وقيل في قوم ارتدوا عن الإسلام فقط (2) .
ونوقشت الثلاثة بأنها تصح سندا، وبأن عقوبة هؤلاء مفصلة في الكتاب والسنة، وهي مخالفة لما ذكر في الآية من عقوبة المحاربين، فلا يصح أن تكون نازلة في طائفة من هؤلاء من أجل شركهم أو نقضهم العهد أو ردتهم.
وقيل: نزلت ناسخه لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بالعرنيين من المثلة أو عتابا له على ذلك (3) ونوقش بأن التمثيل بهم كان جزاء عادلا؛ لتمثيلهم برعاة الإبل، وذلك لم ينسخ، ولم ينه عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت أنه عوتب عليه، بل مازال شرعا ثابتا بالنسبة لمن مثل بالمسلمين. وقيل: نزلت في جماعة من عكل وعرينة (4) ، واختاره، ابن كثير وجماعة وأيا كان سبب النزول فالآية عامة في كل من أخاف السبيل وقطع الطريق وسعى في الأرض فسادا لبيان
__________
(1) ص 17- 18- 44 من البحث في العدد الحادي عشر.
(2) ص 43 من البحث في العدد الحادي عشر.
(3) ص41- 42-44- 62- 63 من البحث في العدد الحادي عشر.
(4) ص 44 من البحث في العدد الحادي عشر.(12/60)
عقوبته على إخافته السبيل، وسعيه في الأرض فسادا واختاره ابن كثير وجماعة؛ لأن العبرة بعموم النص لا بخصوص سبب نزوله (1) .
3 - الأقوال فما يعتبر مكانا للمحاربة:
اختلف العلماء في المكان الذي تتأتى فيه المحاربة فقال أبو حنيفة: لا تكون إلا في الصحراء ونحوها بقطع جماعة لها شوكة الطريق جهارا أو إخافتهم السبيل، وكذلك تكون من واحد له منعة؛ وذلك لأنه إذا استغاث لا يدركه الغوث غالبا بخلاف الإغارة على مصر أو مدينة؛ فإن الغالب أن الغوث يدرك أهلها.
وقال أبو يوسف: تكون خارج المصر ولو بالقرب منه؛ لأن الغالب أن الغوث يدرك سكان المصر لا من بقربه، وفي رواية أخرى عنه إن شهر سلاحا في المصر نهارا فهو قاطع؛ لأن السلاح لا يلبث، وإن كان هجومه بخشب ونحوه نهارا فليس بقاطع، وإن كان ليلا بخشب وحجر ونحوهما كان قاطعا؛ لأن الغوث يبطئ ليلا (2) .
وقال مالك: تكون في المصر وخارجه من جماعة لها منعة ومن واحد كذلك، وتكون بخديعة شخص لآخر حتى يظفر به ني نفسه أو عرضه أو ماله إذا تيسر له ذلك (3) .
وقال الشافعي: لا تكون محاربة إلا جهارا في الصحراء وما في حكها من البلاد البعيدة عن المدن؛ حيث لا يتأتى الغوث، أما في المصر ونحوه فلا تكون محاربة إلا عند ضعف السلطان أو أهل المصر من الغوث (4) .
وقال الحنابلة: لا تكون محاربة إلا مجاهرة ممن له منعة بسلاح في صحراء؛ لأنهم هم الذين لا يدركهم الغوث غالبا، وقيل: تكون من هؤلاء في بلد أو قرية لا يدرك أهلها الغوث عند الإغارة عليهم (5) وفي الإنصاف، وقال أبو بكر: حكهم في المصر والصحراء سواء، قال الشيخ تقي الدين - رحمه الله -: هو قول الأكثرين. قلت: منهم أبو بكر والقاضي
__________
(1) ص 41- 44 من البحث في العدد الحادي عشر.
(2) ص 74- 82 من البحث في العدد الحادي عشر.
(3) ص 91- 130 من البحث في العدد الحادي عشر.
(4) ص 98- 99 من البحث في العدد الحادي عشر.
(5) ص 102- 103 من البحث في العدد الحادي عشر.(12/61)
والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وصححه في الخلاصة وقدمه في الفروع (1) .
4 - من جرائم المحاربة وفاقا وخلافا:
من الجرائم التي تعتبر حرابة اتفاقا القتل، وأخذ المال، وانتهاك العرض، وقطع الطريق، وإخافة السبيل إذا وقع ذلك أو بعضه جهارا بالسلاح في صحراء، ومنها ما حصل من ذلك في مصر بسلاح أو مفجرات ليلا أو نهارا، أو بخشب ونحوه في مصر ليلا عند أبي يوسف ومن وافقه. ومنها ما يقع من ذلك خنقا أو خديعة وتعزيرا أو تنويما بحبوب ونحوها في مصر أو صحراء ليلا أو نهارا عند مالك ومن وافقه (2) ، ومنها ما يقع من ذلك في طائرة بالجو أو سفينة في بحر أو قطار أو سيارة بالإرهاب بسلاح ونحوه إلى أمثال ذلك.
5 - الحلاف في عقوبة جرائم المحاربة ومناقشتها:
اختلف العلماء في عقوبة جرائم الحرابة والسعي في الأرض فسادا هل هي على التوزيع حسب نوع الجريمة، أو هي على التخيير. أيها شاء الإمام فعل، أو بعضها على التخيير، وبعضها على التوزيع، ومنشأ الخلاف في ذلك الخلاف في معنى (أو) في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} (3) هل هو توزيع للعقوبة تبع نوع الجريمة أو تخيير للإمام فيها مع اتفاق الجميع على أنها من الحدود فلا يجوز العفو فيها من الإمام ولا ولي الدم.
أولا: قال الجمهور: إنها على التوزيع ثم اختلفوا في كيفيته:
أ- فقال الحنفية وجماعة: إن أخذ قبل أن يقتل ويأخذ مالا. وإنما كان منه مجرد إخافة السبيل؛ نفي - أي: حبس - حتى يتوب أو يموت، وإن قتل مسلما أو ذميا ولم يأخذ مالا قتل، وإن أخذ مالا ولم يقتل وكان ما أخذ قدر عشرة دراهم أو ما يعادلها قطعت يده اليمنى
__________
(1) ص 129 من البحث في العدد الحادي عشر.
(2) ص 130 من البحث في العدد الحادي عشر.
(3) سورة المائدة الآية 33(12/62)
ورجله اليسرى، وإن قتل وأخذ المال فالإمام مخير إن شاء قطع يده ورجله من خلاف وقتله وصلبه، وإن شاء قتله وصلبه، وقال محمد: يقتل أو يصلب؛ لأن ما دون النفس يدخل في النفس (1) .
ب- وقال الشافعية: إذا أخاف السبيل وأخذ قبل أن يقتل أو يأخذ مالا؛ عزر بما يراه الإمام من حبس ونحوه. وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى إذا بلغ ما أخذه نصاب القطع في السرقة، وإذا قتل قتلا يوجب القود ولم يأخذ مالا قتل فقط، وإذا قتل قتلا يوجب القول وأخذ مالا يوجب القطع قتل ولم يقطع، ثم غسل وكفن وصلي عليه، ثم صلب ثلاثة أيام بلياليها أو يبقى مصلوبا حتى يتهرى لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير آية الحرابة فإن ذلك منه توقيف أو بيان لمعنى- أو لغة - كل منهما من مثله حجة؛ لأنه ترجمان القرآن (2) .
ج- وقال ابن جرير الطبري: إذا حارب فقتل فعليه القتل، وإذا حارب وأخذ المال وقتل فعليه الصلب. وإذا حارب وأخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف.
وإذا حارب وأخاف السبيل فقط فعليه النفي. كل ذلك إذا أخذ قبل التوبة (3) .
د- وقال الحنابلة: إن أخافوا السبيل ولم يقتلوا ولم يأخذوا مالا نفوا فلا يتركون يأوون في بلد. وإذا قتلوا ولم يأخذوا مالا قتلوا ولم يصلبوا، وفي رواية أخرى عن أحمد يقتلون ويصلبون، وإذا أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى إذا بلغ ما أخذه نصاب القطع، وإذا قتل وأخذ المال قتل ثم صلب حتى يشتهر، ثم يدفع إلى أهله ليغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن (4) .
وقد يقال: أن ما استدل به من يقول بتوزيع العقوبات التي بالآية على الجرائم حسب ما هو معروف من النصوص الأخرى في عقوبة القتل والسرقة. . إلخ من النقل عن ابن عباس رضي الله عنهما لا يصح؛ لما تقدم من الطعن في سنده، ولأن ما ذكروه من جريمة أخذ المال لا يتحقق فيه ضابط السرقة، لكونه وقع على سبيل الغصب
__________
(1) ص 45- 72- 75 من البحث في العدد الحادي عشر.
(2) ص 94- 98- 101 من البحث في العدد الحادي عشر.
(3) ص 23- 24 من البحث في العدد الحادي عشر.
(4) ص 103 وما بعدها من البحث في العدد الحادي عشر.(12/63)
والمغالبة، وأيضا الحد في الآية لم يعرف في نصوص الشريعة أنه حد للسرقة، فكان حدا للمحاربة مستقلا؛ ولأن الصلب لم يعرف عقوبة شرعية لمجرد القتل. فكان في الآية حدا منفردا للحرابة، ولأن عقوبة قتل النفس قصاصا لا تسمى حدا فيقبل فيها عفو ولي الدم بخلافها في الحرابة والسعي في الأرض فسادا، فكانت حدا منفردا خاصا بها، ولأن عقوبة القتل والقطع لا تتأثر بالتوبة قبل القدرة على القاتل والسارق في غير الحرابة بخلافها في الحرابة فكانت فيها حدا منفردا. أ. هـ
وإذا كان الأمر كذلك وجب ألا تكون العقوبة فيها على التوزيع والترتيب حسب نوع الجريمة؛ ولأنهم قد يجمعون بين عقوبتين من الأربع دون مناسب، ثم دعوى الإجماع على أن المحارب الذي أخاف السبيل فقط لا يقتل، مردودة بوجود الخلاف عن جماعة ممن نقل عنهم القول بتخيير الإمام (1) .
وأخيرا ما ذكر عنهم من التوزيع لم يجر على سنن مستقيمة ولا أصل مطرد.
ثانيا: قال الحسن ومجاهد وعطاء والنخعي وجماعة: الإمام بالخيار في المحارب: له أن يفعل أي هذه الأشياء التي ذكرها الله تعالى في الآية، كما هو المراد منها في آيات أخرى ولم يوجد ما يصرفها عن ذلك (2) وهذا مروي عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة ولم يسمع منه. وذكره ابن القاسم عن مالك في إخافة السبيل فقط (3) ؛ لأن الظاهر من معنى هذه الآية التخيير، ولأن من أخذ قبل التوبة وقد أخاف السبيل فقط قد يكون أشد بأسا ممن أخذ بعد القتل وأخذ المال، وقد يكون قطع القاتل فقط من خلاف أنكى وأعظم عبرة فجعل الخيار للإمام أرعى للمصلحة (4) وما روي من الأثر "عن ابن عباس رضي الله عنه في التخيير يستأنس به لذلك، ويبطل به وبما ذكره معه عن الحسن ومجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي دعوى الإجماع- وقولهم: إن - أو- إذا كانا للتخيير بدئ بالأسهل فالأشد من الخصال المخير بينها قد يكون فيها المطلوب فيه السماحة والتخفيف، كخصال كفارة اليمين بخلاف ما المطلوب فيه التغليظ كما في آية الحرابة.
ثالثا: جمع مالك بين توزيع العقوبة في الحرابة وترتيبها حسب جريمتها وبين التخيير
__________
(1) ص 25- 26 من البحث في العدد الحادي عشر.
(2) ص 25- 26- 42- 44- 65- 126 من البحث.
(3) ص 85 من البحث في العدد الحادي عشر.
(4) ص 128 من البحث في العدد الحادي عشر.(12/64)
وبيان ذلك أن المحارب إن قتل قتل أو صلب، ولا تخيير للإمام في قطعه أو نفيه، وإن أخذ المال ولم يقتل فللإمام الخيار في قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف دون نفيه، وإن أخاف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ مالا فالإمام مخير في قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف أو نفيه. ومعنى التخيير عنده أن الأمر راجع إلى اجتهاد الإمام، فإن كان المحارب ذا رأى وتدبير في الحرابة خير في قتله أو صلبه؛ لأن شره إنما يزول بذلك، وإن كان ذا بأس وبطش قطع من خلاف. وإلا عزر بأيسر من ذلك من ضرب أو نفي (1) .
هذا ويرد على قول مالك بالتخيير في بعض الأحوال دون بعض ما ورد على قول الجمهور، بل فيه زيادة تحكم واضطراب وبعد عن ظاهر الآية من إطلاق التخيير.
6 - ما يسقط بالتوبة قبل القدرة ولا يسقط بها من الحقوق:
1 - يسقط بالتوبة حد الحرابة فقط، ولا تسقط حقوق الله الأخرى كحد الزنا وقطع السارق ونحوهما، ولا تسقط حقوق الناس في الدماء والأموال بل يتبعهم بها المستحقون هذا عند الحنفية والمالكية (2) .
2 - وتسقط بها حقوق الله كلها من حد حرابة، وحد زنا، وقطع في سرقة دون حقوق الناس من قصاص ودية وأموال عند الشافعية (3) والحنابلة (4) .
3 - وقيل: يسقط بالتوبة جميع حقوق الله، ويؤخذ بحقوق الناس في الدماء والأموال فيما وجد بعينه في أيديهم ولا تتبع ذممهم (5) .
-4 وقيل: التوبة تسقط حقوق الله وحقوق الآدميين من الدماء والأموال إلا ما كان من المال قائما بعينه في يده (6) .
__________
(1) ص85- 92- 93 من البحث في العدد الحادي عشر
(2) ص21- 22- 37- 38 من البحث
(3) ص42- 45 من البحث
(4) ص54- 55 من البحث.
(5) ص528 من جـ2 من بداية المجتهد.
(6) ص132 من البحث في العدد الحادي عشر.(12/65)
7 - عقوبة شارب الخمر ومتعاطي المخدرات:
أ- «أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعقوبة شارب الخمر فضرب في عهده بالجريد والنعال وغيرها (1) » ، وقدر بعض الصحابة رضي الله عنهم ذلك بأربعين أو نحوا من أربعين، وقال أنس رضي الله عنه: «جلد النبي صلى الله عليه وسلم نحو أربعين (2) » ، وقال علي رضي الله عنه: «جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سنة (3) » ، وقال في جلده أربعين: هو أحب إلي.
وجلده أبو بكر رضي الله عنه أيام خلافته أربعين، وجلده عمر بمشورة الصحابة رضي الله عنهم آخر خلافته ثمانين، ومن هنا اختلف في عقوبة من يتناول المسكر هل هي حد أو تعزير؟ فمن نظر إلى ما نقل من التقدير اعتبرها حدا، ومن نظر إلى أن أمره صلى الله عليه وسلم بها ليس فيه تقدير، وأن الضرب كان مختلفا بالجريد والنعال واليد ونحوها، وأن تقدير من قدره من الصحابة رضي الله عنهم كان على وجه التقريب لا التحديد، وأنها زيدت آخر خلافة عمر رضي الله عنه. قال: إن العقوبة تعزير؛ لعدم التحديد منه صلى الله عليه وسلم والحدود لا تثبت بالتقدير التقريبي، ولا تجوز الزيادة عليها، وإذا كانت تعزيرا فللإمام تركها في بعض الوقائع لما يحيط بها مما يقضي بأن الترك أصلح، وله أن ينفذها مع التفاوت بالزيادة والنقص.
ب- المخدرات أشد خطرا من الخمر على متعاطيها في نفسه وأخلاقه وماله، وأسوأ عاقبة على المجتمع، فهي أشد تحريما من الخمر سواء قيل: إنها مسكرة أم لا، فيجب التشديد في عقوبتها والتغليظ على مروجيها بصناعة أو تجارة أو دعاية، لتعاونهم على الإثم والعدوان من إفساد العقول والأخلاق وانتشار الأمراض وضياع الأموال ونحو ذلك مما يخل بالأمن ويقلق راحة المجتمع.
8 - مما تغلظ به العقوبة:
قد تغلظ العقوبة بالجهر بالمعصية وبمكابرة مرتكبها، وبفشوها وانتشارها بين الناس، وتتابعهم في ارتكابها، وتغلظ على الفرد بتكراره لها وإصراره عليها، وقد يكون التعزير بالقتل إذا لم تدرأ المفسدة إلا به.
9 - ما تثبت به الحرابة وشرب الخمر والمخدر والمفتر:
تثبت الحرابة بشهادة عدلين وفي ثبوتها بالشهادة على السماع وبشهادة المسلوبين فيما
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6773) ، صحيح مسلم الحدود (1706) ، سنن الترمذي الحدود (1443) ، سنن أبو داود الحدود (4479) ، سنن ابن ماجه الحدود (2570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/247) ، سنن الدارمي الحدود (2311) .
(2) صحيح البخاري الحدود (6776) ، صحيح مسلم الحدود (1706) ، سنن الترمذي الحدود (1443) ، سنن أبو داود الحدود (4479) ، سنن ابن ماجه الحدود (2570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/115) ، سنن الدارمي الحدود (2311) .
(3) صحيح مسلم الحدود (1707) ، سنن أبو داود الحدود (4480) ، سنن ابن ماجه الحدود (2571) ، مسند أحمد بن حنبل (1/140) ، سنن الدارمي الحدود (2312) .(12/66)
سلبوه خلاف.
ويثبت تناول المسكر أو المخدر أو المفتر بشهادة اثنين تتوفر فيهما شروط الشهادة على التناول، واشترط أبو حنيفة وجود الرائحة عند التحمل. وبالإقرار، وفي اعتبار تكراره خلاف، وبالرائحة والقيء عند مالك وهو رواية عن أحمد فيهما وبوجوده سكران.
10 - الخلاف في قتل من تكرر منه شرب الخمر بعد عقوبته:
من شرب مسكرا فحد، ثم شرب فحد، ثم شرب فحد، ثم شرب الرابعة أو الخامسة قتل؛ للحديث الصحيح في ذلك وبه قال ابن حزم وجماعة (1) ، وقال جمهور العلماء: من تكرر منه شرب ما يسكر يحد أو يعزر ولا يقتل؛ لأن حديث قتله بعد الرابعة منقطع، أو لأنه منسوخ وأن نسخه لم يبلغ عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، وبالإجماع على أن قتله بعد الرابعة ترك، وفيما ذكر نظر لرواية الحديث متصلا من طرق، ولأن قتله بعد الرابعة أو الخامسة تعزير فللإمام تركه وفعله بناء على ما يراه مصلحة في الوقائع فلا يدل الترك على النسخ، ولأن الأصل عدم النسخ فلا يصار إليه إلا عند توافر شروطه (2) .
__________
(1) ص40 من البحث في هذا العدد
(2) ص42 من البحث في هذا العدد.(12/67)
تطبيق إجمالي على المسائل المطلوب بيان حكمها
على ضوء ما تقدم يمكن أن يقال:
أولا: أ- من كان ذا منعة وسطا جهارا بسلاح في صحراء ونحوها أو في طائرة، في جو أو سفينة، في بحر أو سيارة، في بر مثلا فقتل أو أخذ مالا أو انتهك عرضا أو أرهب وأخاف، فهو محارب اتفاقا، فللإمام أن يعاقبه بأي عقوبة من العقوبات الأربع التي في آية المحاربة على قول من قال من العلماء: إن- أو- في الآية للتخيير مطلقا حسب ما يراه مما يدرأ المفسدة ويحقق المصلحة لا بالهوى والتشهي.
أما على رأي من يقول: إن- أو- في الآية لتوزيع العقوبة حسب نوع الجريمة، فعلى ولي الأمر أن يقتل من قتل أو يصلبه حتى يموت، وأن يقطع يده ورجله من خلاف إن(12/67)
أخذ المال فقط، وأن يحده إن زنى، وأن يعزره إن انتهك العرض بما دون الجماع، وأن يعاقبه بمثل جنايته إن كانت دون القتل، وأن ينفيه إن لم يكن منه إلا الإخافة والإرهاب.
ب: وإن وقع ذلك منه في مصر ونحوه فللإمام الخيار في عقوبته كما تقدم عند من رأى أن المحاربة تكون في المصر، وقال: إن- أو- في الآية للتخيير.
أما على قول من قال من العلماء: إن المحاربة لا تكون في المصر فعلى الإمام أن يعاقبه حسب جريمته بالعقوبات المبينة تفصيلا في الكتاب والسنة إلا آية الحرابة؛ لكونه غير محارب في نظرهم.
ثانيا - أ- من كان ذا قوة أو منعة فخطف إنسانا جهارا في صحراء، فقتل أو أخذ مالا أو انتهك عرضا، أو جنى جناية أقل من القتل، أو أخاف وأرهب فقط، فهو محارب، للإمام الخيار في أن يعاقبه بإحدى العقوبات التي بآية المحاربة عند من يقول أن- أو- في آية المحاربة للتخيير، وذلك حسب ما يراه قاضيا على المفسدة ومحققا للمصلحة لا بالهوى والتشهي.
أما على قول من يرى أن- أو- في الآية لتوزيع العقوبة حسب نوع الجريمة، فعلى ولي الأمر أن يقتل من قتل أو يصلبه حتى يموت، وأن يقطع يده ورجله من خلاف إذا أخذ المال فقط، وأن يحده إن زنى، وأن يعزره إذا انتهك العرض بما دون الجماع، وأن يعاقبه بمثل جرمه إن جنى بما دون القتل، وأن ينفيه إن لم يكن منه إلا الإرهاب والإخافة.
ب- وإن وقع ذلك منه في مصر ونحوه فللإمام الخيار في عقوبته، كما تقدم عند من رأى أن المحاربة تكون في المصر ونحوه، وقال: إن- أو- في آية الحرابة للتخيير.
أما على قول من قال: إن المحاربة لا تكون في المصر، فعلى الإمام أن يعاقبه حسب جريمته بالعقوبات التي نص عليها في الكتاب والسنة، فيما عدا آية الحرابة والتي استنبطها العلماء منهما؛ لكونه غير محارب.
ثالثا- من زنى بامرأة بالإكراه أقيم عليهما حد الزنا رجما أو جلدا مع مراعاة تحقيق شروط إقامة الحد بالزنا، وانتفاء الموانع، وإن انتهك حرمتها برضاها لكن بغير جماع؛ عزر بما يقتضيه نظر ولي الأمر أو نائبه في ذلك.(12/68)
رابعا- من غرر بصبي أو صبية وانتهك العرض كان محاربا في نظر مالك وجماعة، ويقام عليه حد الحرابة على التفصيل الذي تقدم؛ لأن هذا نوع من الغيلة وهي داخلة في الحرابة عندهم.
ومن لم يعتبر هذا غيلة أو لم يجعل الغيلة داخلة في الحرابة، أي أنه يعاقب بما تقتضيه جريمته من حد أو تعزير.
خامسا: الخمر والمخدرات:
إن الله تعالى قد كرم الإنسان بالعقل وميزه به عن الحيوان، وجعله مناط التكليف بالعقائد والعبادات والمعاملات، وصلح به أن يكون خليفة في الأرض يدير شئونها، ويدبر أمورها بما شرع الله تعالى في كتبه وعلى ألسنة رسله، فينتظم بها العمران وتطيب فيها الحياة.
وإن الخمر تؤثر في العقل، وتخل بتوازنه، بل تذهب بإدراكه وتفكيره فيفقد الإنسان بذلك ميزته، ومصدر سعادته، ويصير مثار شر على نفسه، وخطر على مجتمعه دينا ودنيا، فإن السكران تنعكس في نفسه مقاييس الأمور، فيحسب الخير شرا والمعروف منكرا، وتسول له نفسه الاعتداء على النفوس والأموال، والعبث بالأعراض، ولا وزن لديه لآداب ومكارم الأخلاق، وبذلك تسود الفوضى في الأمة، وينتشر فيها الاضطراب، ويختل الأمن، ويداخل النفوس القلق، وعدم الاطمئنان، وليس إدمان المخدرات بأقل خطرا من شرب الخمر، بل ربما كان إدمانها أشد ضررا على من ابتلي بها. وأسوأ عاقبة في مجتمعه في الدنيا والدين.
لذلك حرم الإسلام تناول الخمر وكل مخدر، وشرع فيها الحد أو التعزير؛ تأديبا لمتعاطيها، وراحة لغيره، وحماية للمجتمع من خطرها، وتطهيرا له من رجسها، ومحافظة على أمن الأمة واطمئنانها، وعلى سلامتها في دينها، وصحتها وعرضها ومالها، فعلى ولاة الأمور من العلماء والحكام أن يقوموا بواجبهم في ذلك بيانا وإرشادا أو دعوة ونصحا، وتنفيذا للعقوبة حدا أو تعزيرا، قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1) .
__________
(1) سورة الحديد الآية 25(12/69)
وعلى هذا وما تقدم في الإعداد وخاصة ما في كلام شيخ الإسلام ابن تيميه - رحمه الله - وما ذكر بعده تحت عنوان: (دراسات حديثة) من مضار الخمر وآثارها السيئة، يمكن أن يقال:
أ - من أدمن تعاطي المسكرات أو المخدرات من خمر وحشيش وأفيون وجوزة الطيب وحبوب مسكرة أو مخدرة ونحوها، بأن طعمها فعوقب، ثم طعمها فعوقب، وهكذا فلولي الأمر أن يعزره ولو بالقتل إذا لم تدرأ المفسدة إلا بذلك. فإن التعزير قد يغلظ بتكرار الجريمة وبفشوها وانتشارها بين الناس، وما ينشأ عنها من شدة الخطر، وما يترتب عليها من عظيم الأضرار.
أما إذا لم يتكرر منه ذلك، أو كانت المفسدة تدرأ بما دون القتل فعلى ولي الأمر أن يعاقبه بما دون القتل من حد أو تعزير.
ب - من روج المسكرات أو المخدرات أيا كان نوعها ببيعها، أو إهدائها، أو تهريبها، أو صنعها، أو تصديرها، أو استيرادها، أو الإغراء بها، وإيهام منافع لها ونحو ذلك، فهو معين على انتشار الشر، وساع في الأرض فسادا، ومتعاون مع متعاطيها على الإثم والعدوان، وربما كان خطر الترويج والتهريب والتجارة فيها وما شابه ذلك أشد من المتناول والضرر به أعم وأشمل، فلولي الأمر تعزيرهم ولو بالقتل إذا لم يردعهم إلا ذلك. ولم تدرأ المفسدة إلا به. فإن تحقيق المصلحة العامة للأمة مقدم على المصلحة الفردية، ودرء المفسدة العامة للمجتمع يجب تقديمه على درء المفسدة الخاصة، وليس هذا بغريب.
فإن جماعة من المنافقين ومرضى القلوب قد تعرضوا بالأذى والفتنة لنساء المؤمنين في الطرقات حين ذهابهن لحاجتهن، فأمرهن الله أن يدنين عليهن من جلابيبهن؛ ليعرفن بالعفة فلا يطمع في انتهاك حرمتهن منافق أو مريض قلب، ويسلمن من الأذى والفتنة، وأنذر أولئك الذين يتعرضون لهن، وهددهم إن لم ينتهوا عن صنيعهم الكريه من التعرض للمؤمنات أن يغري بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينزل بهم أليم عقابه؛ تشريدا ونفيا عن المدينة؛ حتى لا يجاوروه فيها إلا قليلا، وأن يسلطه عليهم فيقتلهم تقتيلا أين ما وجدهم، وتمكن من(12/70)
التنكيل بهم؛ جزاء وفاقا بما كسبت أيديهم من التعرض لانتهاك حرمات المؤمنات.
وهناك طائفة أخرى أرجفت في المدينة بنشر أخبار كاذبة، كحديثهم عن قوة الكفار واجتماعهم وتعاونهم ومسيرهم إلى المؤمنين؛ ليدخلوا بذلك الفزع على المؤمنين؛ فيتخاذلوا على نحو ما ذكر الله تعالى عنهم في الآيات الأولى من سورة الأحزاب، فهؤلاء ليسوا أقل خطرا ممن قبلهم على كيان الأمة، وإن كانت الأولى في الأعراض إشاعة للفاحشة وتدنيسا للأخلاق، والثانية في السياسة تخذيلا وتحطيما للأعصاب، وقد أنذرهم الله بما أنذر به من تعرض بالأذى لنساء المؤمنين، وهددهم بالتشريد والنفي والتقتيل أين ما ثقفوا، مع أنه لم يثبت على هؤلاء ولا أولئك ما يوجب الرجم أو الجلد أو القصاص، وإنما وقع منهم ما يوجب التعزير بالنفي والتقتيل إن لم يكفوا عن جريمتهم، ولم يكن ذلك لمجرد نفاقهم ومرض قلوبهم وضعف نفوسهم، فليس ببعيد أن يبلغ ولي الأمر بالتعزيز فيما نحن بصدد بحثه أو بيان عقوبته قتلا- والمروجون لشرب الخمر وتناول المخدرات بأي وسيلة من وسائل الترويج والإغراء، وإن لم يتناولوا شيئا مسكرا أو مخدرا، لكنهم سعوا في الأرض فسادا.
وبعد فالواقع الأليم، والبلاء الداهم ليس من عدم وجود أصول علمية واضحة، ولا من عدم وقوف القضاة الأفاضل عليها وفهمهم إياها.
فالنظريات العلمية والقواعد الفقهية متيسرة مطروقة، والقضاة - والحمد لله - قد وقفوا عليها وفهموها، وإنما جاء ذلك من البطء في اتخاذ الإجراءات، والتراخي في تطبيق القواعد الفقهية عليها مع مراعاة الظروف والأحوال المحيطة بها، وشاهد ذلك أنه قد حدثت أحداث من جنس موضوع البحث، ونالت العناية في تعجيل الإجراءات، وأخذ المسئولون عنها أنفسهم بالحزم وقوة العزم والجد والاجتهاد في فحصها، والبت فيها فصدر الحكم، وتم التنفيذ في عدة أيام. والواقع خير شهيد، فطريقة تعجيل النظر في القضايا المهمة وإحكام بحثها وإصدار الحكم فيها معلومة مطروقة. فلتسلك في مثل هذه القضايا مستقبلا كما سلكت قبل في نظائرها؛ فإن هذا هو حل المشكلة والطريق لإنقاذ الأمة من ويلات الحوادث المؤلمة التي تلظى بنارها.
وقد عرض هذا بعض أعضاء مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة السابعة عشرة، لكن تغلبت فكرة إعداد بحث فأعد بذكر أراء الفقهاء - رحمهم الله - الاجتهادية والنظرية، وتطبيق ذلك نظريا إجمالا على الجزيئات المقترح بيان الحكم فيها.
أما تطبيقه تفصيلا على(12/71)
الوقائع الشخصية فهو رهين بالظروف وقرائن الأحوال التي تختص بها كل واقعة بعينها، وهذه مسئولية القضاة - أعانهم الله - والله الموفق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة لبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
نقاط البحث في القسم الأول في العدد الحادي عشر
صفحة
14 - مقدمة في وجوب حفظ الأمن. تحقيقا لطمأنينة الأمة.
17 - كلام بعض علماء التفسير على نصوص من الكتاب والسنة، تتعلق بعقوبة الحرابة والإفساد في الأرض مع مناقشتها.
72 - أقوال فقهاء الإسلام في تحديد جريمة الحرابة والإفساد في الأرض وفي عقوبتها مع المناقشة.
72 - مذهب الحنفية.
85 - مذهب المالكية.
94 - مذهب الشافعية.
-102 مذهب الحنابلة.
-116 رأي ابن حزم.
-125 نقل عن ابن تيمية في الحرابة وما يتعلق بها.
-137 تعريف الخمر وبيان الفرق بين المسكر والمخدر والمفتر، وذكر أقوال الفقهاء في حكم تعاطيها، وعقوبة من يتعاطها ومن يساعد عليها.
137 - معنى الخمر لغة وشرعا
نقاط البحث في القسم الثاني في العدد الثاني عشر
الفرق بين حقيقة كل من الخمر والمخدر والمفتر وبيان العلاقة بينها.
12 - ما يثبت به شرب الخمر.(12/72)
52 - عقوبة من ثبت عليه شرب الخمر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين.
53 - كلمة عن ابن قدامة وابن تيمية في التعزير.
37 - خلاف العلماء في أن عقوبتها حد أو تعزير.
38 - حكم من تكرر منه شرب الخمر.
45 - كلمة لشيخ الإسلام ابن تيمية الحفيد عن الخمر والمخدر والمفتر.
54 - دراسات حديثة تؤيد وجهة نظر فقهاء الإسلام في حكمهم في الخمر والمخدرات وتبين خطرها.
57 - خلاصة المقصود مما تقدم.
67 - تطبيق إجمالي على المسائل المطلوب بيان حكمها.(12/73)
قرار رقم 83 وتاريخ 23 \ 7 \ 1401 هـ
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
فقد اطلع مجلس هيئة كبار العلماء في دورته السابعة عشرة المنعقدة في مدينة الرياض من يوم 12 \ 7 \ 1401 هـ حتى 23 منه على كتاب جلالة الملك - وفقه الله - الموجه لعضوي هيئة كبار العلماء: رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، برقم 5934 \ 2 في 17 \ 6 \ 1401 هـ المتضمن إشارة جلالته إلى موضوعين هامين، وأن فيهما فسادا للأخلاق وإخلالا بالأمن، وهما تهريب المخدرات وترويجها على اختلاف أنواعها والحشيش والأفيون مما سبب كثرة استعمالها إلى حد الإدمان من البعض، وأنه نتج عن ذلك فساد أخلاق متعاطيها، وذهاب معنوياتهم، وحصول بعض الحوادث الجنائية، والأمر الثاني: كثرة حوادث اختطاف الأشخاص من قبل بعض المجرمين داخل المدن وخارجها بقصد الاعتداء على العرض أو النفس أو المال، ثم قال جلالته: ولا يخفاكم أنه لا يقضي على هذه الأمور إلا جزاءات فورية قوية رادعة في حدود ما تقتضيه الشريعة المطهرة؛ لأن إطالة الإجراء في مثل هذه المسائل يسبب تأخير تنفيذ الجزاء ونسيان الجريمة، ورغب دراسة هذين الموضوعين وإفادة جلالته.
فتم إحالة كتاب جلالته إلى هيئة كبار العلماء، وبعد دراسة الموضوع وتداول الرأي تقرر تشكيل لجنة من المجلس لتقديم توصياتها فقدمت ما توصلت، إليه وبعد الاطلاع على(12/73)
ما قدمته ولأهمية هذه المواضيع وضرورة البلاد إلى القضاء على الإجرام وإشاعة الأمن بين الأمة في مدنها وقراها، ولما يطلبه ذلك من مزيد البحث والتقصي لإلحاق هذه الجرائم بما يماثلها؛ حتى يسهل تقرير العقوبة الزاجرة عن ارتكاب أمثال هذه الجرائم بإلحاقها بما يشبهها من أنواع الفساد والإجرام، التي قررت الشريعة عقوباتها المناسبة لها، الكفيلة باجتثاث أسبابها، واقتلاع جذورها من المجتمع الإسلامي، ولذا رأى المجلس تأجيل إصدار القرار المتضمن وصف هذه الجرائم وإلحاقها بأشباهها، وتحديد العقوبات المناسبة لأخطارها القاضية على بواعثها، المزيلة لآثارها عن هذا المجتمع الذي اعتاد الأمن ونعم بالاستقرار؛ بسبب تطبيق العقوبات الشرعية ليستمر له أمنه، وتدوم عليه نعمة الأمان على الأنفس والأعراض والأموال، ولتعالج أمراضه بأدوية الشريعة الكاملة القاضية بقطع كل عضو لا ينفع فيه علاج ولا يدفعه تعزير؛ ليعد فيه البحث اللازم.
ورأى المجلس إصدار توصية تعم على الدوائر المختصة بمكافحة الجرائم والتحقيق فيها، ودوائر القضاء بأن يهتم المختصون في تلك الدوائر بإعطاء هذه الجرائم أولوية في النظر والإنجاز، وإيلاءها اهتماما بالغا من الإسراع الذي لا يخل بما يقتضيه العمل من إتقان، وسوف يصدر القرار الخاص بوصف هذه الجرائم وإلحاقها بأمثالها وأشباهها، وتعيين أنواع العقوبات التي نصت عليها الشريعة الكاملة؛ لمعالجة هذه الجرائم، ومنع حدوثها، وزجر من يفكرون في ممارستها بجزاءات تكفل الردع والزجر في الدورة القادمة إن شاء الله تعالى، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
محمد بن علي الحركان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله بن محمد بن حميد
سليمان بن عبيد ... عبد الله خياط ... عبد العزيز بن صالح
راشد بن خنين ... محمد بن جبير ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
عبد الله بن غديان ... صالح بن غصون ... عبد المجيد حسن
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن منيع ... صالح بن لحيدان(12/74)
قرار رقم 85 وتاريخ 11 \ 11 \ 1401هـ
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
ففي الدورة السابعة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض في شهر رجب عام 1401 هـ، اطلع المجلس على كتاب جلالة الملك خالد بن عبد العزيز - حفظه الله - الذي بعثه إلى سماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رئيس المجلس الأعلى للقضاء، وإلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، يطلب فيه جلالته دراسة موضوعين هامين فيهما إفساد للأخلاق وإخلال بالأمن:
أحدهما: قيام بعض المجرمين بحوادث السطو والاختطاف داخل المدن وخارجها بقصد الاعتداء على العرض أو النفس أو المال.
الثاني: تعاطي المسكرات والمخدرات على اختلاف أنواعها، وترويجها وتهريبها، مما سبب كثرة استعمالها، وإدمان بعض المنحرفين على تعاطيها حتى فسدت أخلاقهم، وذهبت معنوياتهم وقاموا بحوادث جنائية.
وذكر جلالته أنه لا يقضي على هذه الأمور إلا عقوبات فورية رادعة، في حدود ما تقتضيه الشريعة الإسلامية المطهرة؛ لأن إطالة الإجراءات في مثل هذه المسائل يسبب تأخير تنفيذ الجزاء ونسيان الجريمة.
وقد أحاله سماحتهما إلى المجلس للقيام بالدراسة المطلوبة، ولما نظر المجلس في الموضوع رأى أنه ينبغي دراسته دراسة وافية متأنية، وأن تعد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا فيه، ثم يناقش في الدورة الثامنة عشر- وأصدر قراره رقم 83 وتاريخ 23 \ 7 \ 1401 هـ يتضمن الوصية بالتعميم على الدوائر المختصة بمكافحة الجرائم، والتحقيق فيها، ودوائر القضاء، بأن يهتم المختصون في تلك الدوائر بإعطاء هذه الجرائم أولوية في النظر والإنجاز، وأن يولوها اهتماما بالغا من الإسراع الذي لا يخل بما يقتضيه العمل من إتقان.
وفي الدورة الثامنة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الطائف من 29 \ 10 \ 1401 هـ حتى 11 \ 11 \ 1401 هـ نظر المجلس في الموضوع واطلع على البحث(12/75)
الذي أعدته اللجنة الدائمة، وبعد المناقشة المستفيضة وتداول الرأي انتهى المجلس إلى ما يلي:
أولا: ما يتعلق بقضايا السطو والخطف:
لقد اطلع المجلس على ما ذكره أهل العلم من أن الأحكام الشرعية تدور من حيث الجملة على وجوب حماية الضروريات الخمس، والعناية بأسباب بقائها مصونة سالمة، وهي الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال، وقدر تلك الأخطار العظيمة التي تنشأ عن جرائم الاعتداء على حرمات المسلمين في نفوسهم أو أعراضهم أو أموالهم، وما تسببه من التهديد للأمن العام في البلاد والله - سبحانه وتعالى - قد حفظ للناس أديانهم، وأبدانهم، وأرواحهم، وأعراضهم وعقولهم؛ بما شرعه من الحدود والعقوبات التي تحقق الأمن العام والخاص، وأن تنفيذ مقتضى آية الحرابة، وما حكم به صلى الله عليه وسلم في المحاربين، كفيل بإشاعة الأمن والاطمئنان، وردع من تسول له نفسه الإجرام والاعتداء على المسلمين؛ إذ قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1) وفي الصحيحين واللفظ للبخاري عن أنس رضي الله عنه قال: «قدم رهط من عكل على النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا في الصفة فاجتووا المدينة فقالوا: يا رسول الله أبغنا رسلا. فقال: ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بإبل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتوها فشربوا من ألبانها وأبوالها حتى صحوا وسمنوا؛ وقتلوا الراعي، واستاقوا الذود، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم الصريخ، فبعث الطلب في آثارهم، فما ترجل النهار حتى أتي بهم، فأمر بمساير فأحميت فكحلهم وقطع أيديهم وأرجلهم، وما حسمهم، ثم ألقوا في الحرة يستسقون فما سقوا حتى ماتوا (2) » . قال أبو قلابة: سرقوا وقتلوا وحاربوا الله ورسوله. اهـ.
وبناء على ما تقدم فإن المجلس يقرر الأمور التالية:
أ- إن جرائم الخطف والسطو لانتهاك حرمات المسلمين على سبيل المكابرة والمجاهرة من ضروب المحاربة والسعي في الأرض فسادا، المستحقة للعقاب الذي ذكره الله سبحانه في آية المائدة، سواء وقع ذلك على النفس أو المال أو العرض، أو أحدث إخافة السبيل
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) صحيح البخاري الحدود (6804) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الطهارة (72) ، سنن النسائي تحريم الدم (4031) ، سنن أبو داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الحدود (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/107) .(12/76)
وقطع الطريق، ولا فرق في ذلك بين وقوعه في المدن والقرى أو في الصحاري والقفار، كما هو الراجح من آراء العلماء - رحمهم الله تعالى -.
قال ابن العربي يحكي عن وقت قضائه: رفع إلي قوم خرجوا محاربين إلى رفقة؛ فأخذوا منهم امرأة مغالبة على نفسها من زوجها، ومن جملة المسلمين معه فيها، فاحتملوها، ثم جد فيهم الطلب فأخذوا وجيء بهم، فسألت من كان ابتلاني الله به من المفتين؟ فقالوا: ليسوا محاربين؛ لأن الحرابة إنما تكون في الأموال لا في الفروج، فقلت لهم: إنا لله وإنا إليه راجعون، ألم تعلموا أن الحرابة في الفروج أفحش منها في الأموال، وأن الناس كلهم ليرضون أن تذهب أموالهم، وتحرب من بين أيديهم، ولا يحرب المرء من زوجته وبنته؟ ولو كان فوق ما قال الله عقوبة لكانت لمن يسلب الفروج ا. هـ.
ب- يرى المجلس في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} (1) أن (أو) للتخيير كما هو الظاهر من الآية الكريمة. وقول كثيرين من المحققين من أهل العلم - رحمهم الله -.
جـ- يرى المجلس بالأكثرية أن يتولى نواب الإمام- القضاة - إثبات نوع الجريمة والحكم فيها، فإذا ثبت لديهم أنها من المحاربة لله ورسوله والسعي في الأرض فسادا؛ فإنهم مخيرون في الحكم فيها بالقتل، أو الصلب، أو قطع اليد والرجل من خلاف، أو النفي من الأرض، بناء على اجتهادهم، مراعين واقع المجرم، وظروف الجريمة وأثرها في المجتمع، وما يحقق المصلحة العامة للإسلام والمسلمين إلا إذا كان المحارب قد قتل؛ فإنه يتعين قتله حتما كما حكاه ابن العربي المالكي إجماعا، وقال صاحب الإنصاف من الحنابلة: " لا نزاع فيه ".
ثانيا: ما يتعلق بقضايا المسكرات والمخدرات:
نظرا إلى أن للمخدرات آثارا سيئة على نفوس متعاطيها، وتحملهم على ارتكاب جرائم الفتك وحوادث السيارات والجري. وراء أوهام تؤدي إلى ذلك، وأنها توجد طبقة من المجرمين شأنهم العدوان، وأنها تسبب حالة من المرح والتهيج مع اعتقاد متعاطيها أنه قادر على كل شيء، فضلا عن اتجاهه إلى اختراع أفكار وهمية تحمله على ارتكاب الجريمة، كما أن
__________
(1) سورة المائدة الآية 33(12/77)
لها آثارا ضارة بالصحة العامة، وقد تؤدي إلى الخلل في العقل والجنون، وحيث إن أصحاب هذه الجرائم فريقان:
أحدهما: من يتعاطاها للاستعمال فقط، فهذا يجري في حقه الحكم الشرعي للسكر، فإن أدمن على تعاطيها ولم يجد في حقه إقامة الحد؛ كان للحاكم الشرعي الاجتهاد في تقرير العقوبة التعزيرية الموجبة للزجر والردع ولو بقتله.
الثاني: من يروجها سواء كان ذلك بطريق التصنيع أو الاستيراد بيعا وشراء أو إهداء، ونحو ذلك من ضروب إشاعتها ونشرها، فإن كان ذلك للمرة الأولى فيعزر تعزيرا بليغا بالحبس، أو الجلد، أو الغرامة المالية، أو بها جميعا حسبما يقتضيه النظر القضائي، وإن تكرر منه ذلك فيعزر بما يقطع شره عن المجتمع ولو كان ذلك بالقتل؛ لأنه بفعله هذا يعتبر من المفسدين في الأرض، وممن تأصل الإجرام في نفوسهم، وقد قرر المحققون من أهل العلم أن القتل ضرب من التعزير، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: ومن لم يندفع فساده في الأرض إلا بالقتل قتل، مثل قتل المفرق لجماعة المسلمين الداعي للبدع في الدين إلى أن قال: «وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل رجل تعمد الكذب عليه» وسأله ابن الديلمي عمن لم ينته عن شرب الخمر، فقال: «من لم ينته عنها فاقتلوه (1) » . وفي موضع آخر قال رحمه الله في تعليل القتل تعزيرا ما نصه: وهذا لأن المفسد كالصائل، وإذا لم يندفع الصائل إلا بالقتل قتل (2) .
ثالثا: نظرا إلى أن جرائم الخطف والسطو وتعاطي المسكرات والمخدرات على سبيل الترويج لها من القضايا الهامة التي قد يحكم فيها بالقتل تعزيرا؛ فإنه ينبغي أن تختص بنظرها المحاكم العامة، وأن تنظر من ثلاثة قضاة كما هو الحال في قضايا القتل والرجم، وأن ترفع للتمييز ثم للمجلس الأعلى للقضاء لمراجعة الأحكام الصادرة بخصوصها؛ براءة للذمة واحتياطا لسفك الدماء.
رابعا: ما يتعلق بالنواحي الإدارية:
نظرا لما لاحظه المجلس من كثرة وقوع جرائم القتل والسطو والخطف وتناول المخدرات
__________
(1) مجموع الفتاوى جـ 28 ص 209.
(2) مجموع الفتاوى جـ 28 ص 347(12/78)
والمسكرات وضرورة اتخاذ إجراءات وتدابير وقائية تعين على ما تهدف إليه حكومة جلالة الملك - حفظه الله - من استتباب الأمن وتقليل الحوادث فإنه يوصي بالأمور التالية: 1- ستقوم الحكومة وفقها الله بتقوية أجهزة الإمارات ورجال الأمن، وخاصة في كون المسئولين فيها من الرجال المعروفين بالدين والقوة والأمانة، ويشعر كل أمير ناحية بأنه المسئول الأول من ناحية حفظ الأمن في البلاد التي تقع تحت إمارته، وأن على الشرطة ورجال الإمارات الجد والاجتهاد في سبيل تأدية واجباتهم، والقيام بمتابعة الجميع ومعاقبة المقصر في أداء واجبه بما يكفي لردع أمثاله.
2 - تؤكد الدولة - وفقها الله - على الإمارات بأنه إذا وقعت جريمة القتل أو السطو أو الاعتداء على العرض ونحو ذلك من الجرائم المخلة بالأمن؛ فإن إمارة الجهة التي وقعت فيها مسئولة عن القضية من ابتدائها حتى يتم تنفيذ مقتضى الحكم الصادر فيها، فتقوم ببذل جميع الأسباب والوسائل للقبض على الجاني وسرعة إنهاء الإجراءات الضرورية مادامت لديها، ثم تتابعها وتكلف مندوبا من جهتها يقوم بالتعقيب عليها لدى الجهات الأخرى، ويطلب من كل أمير ناحية أن يكتب تقريرا عن القضية بعد انتهائها وتنفيذ الحكم الصادر فيها يبين سيرها وملاحظاته بشأنها.
3 - يرى المجلس تأليف لجنة من مندوبين، أحدهما من وزارة الداخلية، والثاني من وزارة العدل؛ لدراسة مجرى المعاملات الجنائية والروتين الذي تمر به، والبحث عن الطريقة المثلى لذلك مما لا يؤثر على الإجراءات الضرورية في التحقيق والنظر القضائي.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
رئيس الدورة
عبد العزيز بن صالح
عبد الله خياط ... عبد الله بن حميد ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
عبد المجيد حسن ... محمد بن علي الحركان ... عبد الرزاق عفيفي
محمد بن جبير ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد
عبد الله بن غديان ... صالح بن غصون ... راشد بن خنين
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن منيع ... صالح بن لحيدان(12/79)
وجهة نظر
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الهادي الأمين محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين وبعد:
فإن الله - سبحانه - أرسل رسوله محمدا بالهدى والنور وشرع له لأمته شريعة هي منتهى الكمال والسمو، وفيها ما يحتاج الناس إليه في أمور دينهم ودنياهم فيها الوعد والإغراء لمن تمسك بحبل الله، وأحل ما أحل الله ورسوله، وحرم ما حرم الله ورسوله، ودان دين الحق بأن يمكن الله له في الأرض، ويزيده بصيرة عند انبهام الأمور، ويقينا عند اضطراب الأفكار، وفرقانا يفرق به بين الحق والباطل، قال الله - سبحانه وتعالى -: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} (1) وعلم سبحانه حاجة عباده إلى حفظ ما تتوقف حياتهم الطيبة عليه، مما سماه العلماء الضروريات الخمس التي هي حفظ الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال، وشرع عقابا صارما يرتب ردعا وزجرا، وينتج عنه أمن واستقرار، وأعطى كل ذي رعاية ما هو مؤهل لتحمله، وجعل عليه مسئولية بقدر ما أعطاه من سلطة، فللإمام العام سلطة واسعة وعليه مسئولية عظيمة، عليه مسئولية الحفاظ على كيان الأمة، والعناية بحماية حرماتها، وصيانة معتقدها وأنفسها وعقولها وأعراضها وأموالها، وشرع عقوبات جعل بعضها خاصا بصاحب المسئولية العامة والولاية العليا، يوقع منها ما يضمن قمع الباطل وكبح جماح أهل الفساد، ويزجر به مرضى النفوس الذين لا يزعهم إيمانهم لضعفه، ولا يوقف اندفاعهم إسلامهم لخفته وقلة مبالاتهم، فهم بحاجة إلى زاجر سلطاني وعقوبة شرعية.
فلذا شرع سبحانه الحدود التي هي أصلح علاج لأمراض الأمة، وأنجع دواء لأدوائها، ابتداء بحد القذف والخمر، وانتهاء بحد الرجم وقطع يد السارق، وعقوبة المحاربين ومن ألحق بهم من أهل الجرائم، وما كان من هذه الجرائم فرديا يقع أثره على الأفراد جعل حده غير قابل للزيادة والنقصان، وما كان من الجرائم أثره عاما يهدد كيان الأمة بالاضطراب، ويجرئ أهل الشر على الخروج علانية، شرع له عقوبة قوية وجعل أمرها عائدا إلى ولي أمر الأمة، وراعي مصالحها، والمسئول عن المحافظة على أمنها وإشاعة العدل والأمان بين أفرادها، ومن ذلك جريمة المحاربين الساعين في الأرض بالفساد، وحصر جزاء هذه الفئة بما ذكره سبحانه في آية المائدة حيث قال عز وجل
__________
(1) سورة الأنفال الآية 29(12/80)
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1) وقد قرر المحققون من أهل العلم أن الإمام مخير في إيقاع إحدى العقوبات المنصوص عليها في هذه الآية على من اتصف بالصفة المذكورة فيها، وأن لفظة (أو) تفيد التخيير وهذا المعنى هو الذي أخذ به كافة أعضاء هيئة كبار العلماء، كما هو موضح في القرار رقم (85) في 11 \ 11 \ 1401 هـ الصادر في هذه الدورة، ولم يخالف في ذلك أحد، ونظرا لأن أكثرية الأعضاء رأوا أن التخيير المنصوص عليه في الآية ينبغي إسناده إلى القضاة؛ لأنهم نواب الإمام في إصدار الأحكام، واستثنوا من التخيير ما لو قتل المحارب في محاربته أحدا فرأوا أنه لا خيار في قتله، وأن قتله حتم، وأن ذلك إجماع على ما حكاه ابن المنذر رحمه الله.
ونظرا لأننا نرى أن الخيار إنما هو للإمام؛ لماله من سعة النظر وشمول الولاية ومعرفة مصالح البلاد عامة، وتقديره لما لا يقدره القضاة من أبعاد سياسية لها أثرها في مصير الأمة، ويعاني من شرور المجرمين ما لا يعاني بعضه القضاة- وقد فرق العلماء بين تصرفات القاضي والإمام، وبينوا أن بعض التصرفات مما ينبغي أن يختص به الإمام العام، ولا شك أن التخيير في عقوبة المحارب من ذلك، فإنه لا أحد من أهل العلم فيما نعلم قال أن القاضي مخير في عقاب المحاربين، وجميع من تكلم على تفسير آية الحرابة ممن يقول بالتخيير قال: إن الإمام هو المخير، لكن إذا قال ولي الأمر في قضية جزئية من قضايا الحرابة والسعي بالأرض فسادا أن على القاضي أن يحكم فيها بما يراه الأصلح صار القاضي مفوضا فيها، والذي نرى أنه المتفق مع مدلول الآية الكريمة، والمتفق مع ما قرره المحققون من أهل العلم أن الخيار لولي الأمر وليس للقاضي، وإنما يصير للقاضي بإسناده إليه من الإمام، فقد يخفى على القاضي ما كان معلوما للإمام، وقد لا يحيط بظروف الأحوال في جميع أنحاء الدولة؛ فيحكم القاضي بالحبس في قضية يرى الإمام أن القتل فيها أنكى، وقد يرى الإمام في قضية أخرى أن قطع الأيدي والأرجل من خلاف أوقع في النفوس وأزجر لها، وقد يرى في بعض الأحوال أن عدم القتل أجلب للمصلحة وأعظم دفعا للمفاسد، ولهذا نظائر وأمثال فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل من يستحق القتل لولا أمر خارج عن مستحق القتل، كما في امتناعه صلى الله عليه من
__________
(1) سورة المائدة الآية 33(12/81)
قتل رأس المنافقين؛ لئلا يقول الناس أن محمدا يقتل أصحابه، وترك صلى الله عليه وسلم قتله؛ درءا للفتنة كما في قصة الإفك، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي (1) » إلى آخر الحديث. ومثله امتناعه من قتل حاطب رضي الله عنه؛ لأنه شهد بدرا وغير ذلك، وقد درأ عمر رضي الله عنه حد السرقة عن السارق؛ لظروف اقتضت ذلك، والإمام بحكم ما له من نظر شامل ومسئولية واسعة وإحساس بما يقع في بلاده وما يحيط بها، ولارتباطه بأمور لا يرتبط بها القاضي يكون هو المعني بالتخيير، ومهمة القاضي إثبات جريمة الحرابة، ولذا فإننا نرى ما يلي:
1 - إن الخيار المقصود في الآية معني به الإمام وليس القاضي، وأن الإمام مخير في إيقاع أي العقوبات الأربع شاء من قتل أو صلب حتى الموت، أو تقطيع للأيدي والأرجل من خلاف، أو نفي من الأرض بأن يحبس المحارب حتى يموت في سجنه، وإسناد الاختيار إلى القضاة رغم أنه لم يقل به أحد من العلماء فيما نعلم، سوف يكون له آثار لا تخدم مصلحة الأمة، ولا يحصل معها زجر المفسدين، فكثيرا ما تصدر الأحكام في قضايا خطيرة بعقوبات خفيفة، وقد عانت السلطة من ذلك الشيء الكثير، وأقرب الأمور أن القضاة -في الأعم الأغلب- سوف يختارون أخف العقوبات إلا في حال حصول قتل من المحاربين، ثم قد يختلفون هل يحكمون بقتل الجميع أو بقتل من حصل منه القتل وحده، وفي ذلك من النتائج التي لا تحمد.
2 - إن هذا الخيار للإمام في كافة أنواع الحرابة والفساد المنصوص على حكمه في آية المائدة، ولا يستثنى من ذلك كون المحارب قتل أحدا أثناء حرابته، فإذا تحقق للإمام أن عدم قتله أعظم دفعا للمفاسد وأكبر جلبا للمصالح، فله أن يختار عقوبة غير القتل من العقوبات المنصوص عليها في الآية. وعليه في كل ما يختار أن يتقي الله سبحانه، ويقصد في اختياره وجه الله، وأن لا تأخذه في الله لومة لائم، وأن لا يتأثر بشفاعة أحد؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من يقبل شفاعة في حد من حدود الله (2) » ، وإذا أشكل على ولي الأمر شيء من ذلك فعليه أن يشاور من يثق بعلمه ودينه وبعد نظره. قال سبحانه وتعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (3) وقال جل وعلا: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (4) ، وقال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (5) ،
__________
(1) صحيح البخاري الشهادات (2661) ، صحيح مسلم كتاب التوبة (2770) ، مسند أحمد بن حنبل (6/198) .
(2) صحيح البخاري الحدود (6788) ، صحيح مسلم الحدود (1688) ، سنن الترمذي الحدود (1430) ، سنن النسائي قطع السارق (4902) ، سنن أبو داود الحدود (4373) ، سنن ابن ماجه الحدود (2547) ، مسند أحمد بن حنبل (6/162) ، سنن الدارمي الحدود (2302) .
(3) سورة الشورى الآية 38
(4) سورة آل عمران الآية 159
(5) سورة الأنبياء الآية 7(12/82)
وقال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
صالح بن محمد بن لحيدان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله بن عبد الرحمن الغديان
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(12/83)
صفحة فارغة(12/84)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شئونهم الدينية والاجتماعية.(12/85)
صفحة فارغة(12/86)
فتوى برقم 421 في 27 \ 1393 هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: شخص يعتقد أن الموجب للغسل في الاحتلام هو خروج المني إذا رأى النائم صريح الوطء، وأنه كان لا يغتسل إلا إذا رأى ذلك منه في النوم. فإذا خرج منه المني ولم ير صريح فعل الوطء منه في النوم لم يغتسل، وأنه مضى عليه قرابة ثمانية أعوام وهو على هذا، ويسأل عن حكم صلاته لهذه الأعوام الماضية.
* * *
الجواب: وبعد دراسة اللجنة الدائمة للاستفتاء أجابت بما يلي:
لا يخفى أن الغسل يجب بخروج المني دفقا بلذة في اليقظة، وبوجوده مطلقا في حال النوم؛ لما روى الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا فضخت الماء فاغتسل، وإن لم تكن فاضخا فلا تغتسل (1) » ، والفضح هو خروجه بالغلبة.
ولما في الصحيحين عن أم سلمة رضي الله عنها «أن أم سليم رضي الله عنها قالت: يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال: نعم إذا رأت الماء (2) » ، ولا يتقيد وجوب الغسل بالوطء، وإنما يجب بخروج المني ولو لم يحصل الوطء؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا فضخت الماء فاغتسل (3) » أما إذا التقى الختانان في حال اليقظة، فيجب الغسل مطلقا سواء أنزل أم لا، وعليه فإن على هذا السائل أن يعيد صلواته طيلة المدة الطويلة التي كان لا يغتسل إذا خرج المني منه بدون رؤية صريح الوطء في النوم بقدر الاستطاعة، وبالله التوفيق.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (178) ، صحيح مسلم كتاب الحيض (303) ، سنن الترمذي الطهارة (114) ، سنن النسائي الطهارة (193) ، سنن أبو داود الطهارة (206) ، سنن ابن ماجه كتاب الطهارة وسننها (505) ، مسند أحمد بن حنبل (1/109) ، موطأ مالك الطهارة (86) .
(2) صحيح البخاري العلم (130) ، صحيح مسلم الحيض (313) ، سنن الترمذي الطهارة (122) ، سنن النسائي الطهارة (197) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (600) ، مسند أحمد بن حنبل (6/292) ، موطأ مالك الطهارة (118) .
(3) صحيح البخاري الوضوء (178) ، صحيح مسلم كتاب الحيض (303) ، سنن الترمذي الطهارة (114) ، سنن النسائي الطهارة (193) ، سنن أبو داود الطهارة (206) ، سنن ابن ماجه كتاب الطهارة وسننها (505) ، مسند أحمد بن حنبل (1/109) ، موطأ مالك الطهارة (86) .(12/87)
فتوى برقم 584 وتاريخ 4 \ 11 \ 1393 هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال الأول: هل يجوز أن يؤم المسافر أفرادا مقيمين وماذا عليهم في حال قصره الصلاة وجمعه فيها؟
الجواب: إذا كان المسافر أهلا للإمامة جاز له أن يؤم أفرادا مقيمين، فإذا كانت الصلاة مما يرخص للمسافر أن يقصرها وقصرها فإذا فرغ منها أتموا ما قصر. فإذا جمع ما يجوز له جمعه منها لم يجمعوا معه، لانفراده بالرخصة في ذلك دونهم- لما ثبت أن عمر كان إذا قدم مكة صلى لهم ركعتين ثم قال: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر. رواه مالك في الموطأ.(12/88)
السؤال الثاني: هل يجوز للمسافر أن يجمع بدون قصر أو يقصر بدون جمع؟
الجواب: نعم يجوز له ذلك، والقصر في حقه أفضل من الإتمام- لأن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه- كما أن الجمع له في حال مسيره في السفر أفضل له لما ذكر.(12/88)
السؤال الثالث: هل يجوز أن يأتم المسافر بالمقيم، وهل له بعد فراغه من الصلاة أن يجمع معها ما يجوز له جمعه منفردا أو بجماعة مثله؟(12/88)
الجواب: نعم يجوز للمسافر أن يأتم بالمقيم إلا أنه يتعين عليه متابعته في صلاته حتى يسلم، بمعنى أنه لا يجوز له وهو مؤتم بمقيم أن يقصر الصلاة الرباعية بل يتعين عليه إتمامها متابعة لإمامه- لما رواه أحمد بسنده «عن ابن عباس أنه سئل (ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد وأربعا إذا ائتم بمقيم؟ فقال تلك السنة» ، وفي رواية أخرى تلك سنة أبي القاسم) .
وقد أورد ابن حجر هذا الحديث في التلخيص الحبير، ولم يتكلم عليه وقال: إن أصله في مسلم والنسائي: فإذا فرغ من صلاته جاز له أن يجمع ما له جمعه معها سواء انفرد في ذلك أم جمع مع جماعة المسافرين.(12/89)
السؤال الرابع: هل الأفضل أن يصلي المسافرون مع الإمام الراتب في المسجد صلاة الظهر، ثم يصلون العصر جمعا بعد ذلك، أم يصلون الظهر والعصر ولا ينتظرون الإمام؟
الجواب: إذا لم يشق عليهم انتظار الإمام الراتب فمن الأفضل صلاتهم مع الإمام الراتب في المسجد؛ لما في تلك الصلاة من مزيد الأجر بكثرة الاجتماع والانتظار الذي هو نوع من الصلاة، أما إذا كان يشق عليهم ذاك فإن لهم أن يصلوا الظهر والعصر جمعا وقصرا ولا ينتظرون الإمام الراتب.(12/89)
السؤال الخامس: هل يجوز للجنود المقيمين في غير وطنهم من أفراد القوات المسلحة الجمع والقصر، وهل يجوز لمن يسافر يوميا من عاصمة تلك البلد إلى مقر عمله والمسافة تبعد 130 كم أن يجمع ويقصر أثناء السفر. ذهابا وإيابا؟
الجواب: إذا كانت إقامتهم على نية الإقامة لأكثر من أربعة أيام فالمذهب (1) أن عليهم الإتمام وعدم الجمع؛ لأن الترخص برخص السفر مشروط بأن لا تزيد الإقامة على أربعة أيام. أما إذا لم تكن لهم فيه إقامة أو كانت لهم إلا أنها أربعة أيام فأقل فلهم القصر والجمع على
__________
(1) المذهب الحنبلي.(12/89)
المشهور في المذهب.
أما الجواب على الشق الثاني من السؤال فما دام مقر إقامتهم عاصمة تلك البلد فلا يجوز لهم الجمع والقصر فيها. أما إذا غادروها إلى مقر عملهم أو إلى غيره مما تزيد مسافته على 80 كيلو مترا، فإن لهم الأخذ برخص السفر، ومن ذلك الجمع والقصر حتى يرجعوا إلى مقر إقامتهم ما لم يكن هناك نية في الإقامة أكثر من أربعة أيام- فإذا كان كذلك فلا يجوز الجمع ولا القصر.(12/90)
السؤال السادس: هل يجوز لمن صلى الفرض أن يؤم جماعة أخرى بالفرض نفسه؟
الجواب: اختلف أهل العلم في جواز ذلك، والذي يظهر لنا جواز إتمام المفترض لمن سبق له أن صلى هذا الفرض، وإتمام المفترض بالمتنفل؛ لأن «معاذا رضي الله عنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يرجع فيصلي بقومه تلك الصلاة (1) » متفق عليه.
ولما روى أبو داود في سننه «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بطائفة من أصحابه في صلاة الخوف ركعتين ثم سلم، ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعتين ثم سلم (2) » . وهذا القول إحدى الروايتين عن الإمام أحمد وهو قول عطاء والأوزاعي والشافعي وأبي ثور وابن المنذر وغيرهم من أهل العلم. والله أعلم.
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6106) ، صحيح مسلم الصلاة (465) ، سنن الترمذي الجمعة (583) ، سنن النسائي الإمامة (835) ، سنن أبو داود الصلاة (790) ، مسند أحمد بن حنبل (3/308) ، سنن الدارمي الصلاة (1296) .
(2) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (843) ، مسند أحمد بن حنبل (3/390) .(12/90)
السؤال السابع: ما حكم قراءة الفاتحة للمأموم؟
الجواب: المشهور في المذهب أن قراءة الفاتحة غر واجبة على المأموم لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان له إمام فقراءته له قراءة (1) » بمعنى أن الإمام يتحملها عنه كتحمله عنه سهوه وسترته.
وهذا القول يروى عن علي وابن مسعود وابن عباس وجابر وابن عمر، وهو قول أكثر
__________
(1) سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (850) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .(12/90)
أهل العلم، ويستحب للمأموم أن يقرأها في سكتات الإمام وفيما لا يجهر فيه أو لا يسمع قراءته لبعده عنه. والله أعلم.(12/91)
السؤال الثامن: هل يجوز المسح على الجوارب المعروفة إذا كانت قد لبست على طهارة، وما هي مدة المسح، وهل يجوز المسح على الخفين من فوق الجوارب مع العلم بأنها لا تستر كل الفرض وعلى البسطار ذات الساق الطويلة؟
الجواب: إذا كان الجورب صفيقا ساترا للمفروض، ولبس على طهارة فيجوز المسح عليه في الطهارة من حدث أصغر، ومدة المسح يوم وليلة للمقيم وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها، وتبدأ المدة من أول حدث بعد اللبس، ويجوز المسح على الخف من فوق الجورب وذلك باعتبارهما خفا واحدا، فإن خلع الخف بعد المسح وقبل انقضاء مدة المسح انتهت المدة بذلك الخلع.
وأما البسطار فيجوز اعتباره خفا مستقلا؛ لكونه يستر المفروض وبالتالي يجوز المسح عليه بعد لبسه على طهارة مدة المسح ما لم يخلع قبل تمامها.(12/91)
السؤال التاسع: ما حكم متابعة المأموم الإمام في التسليمتين هل هذا جائز أم يتعين الانتظار حتى ينتهي الإمام من التسليمة الثانية؟
الجواب: روى الشيخان في صحيحيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا (1) » ، والمذهب أن التسليمتين أحد أركان الصلاة، وفي تسليم المأموم التسليمة الأولى قبل تسليم الإمام التسليمة الثانية مخالفة للائتمام به، وهذا غير جائز.
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (378) ، صحيح مسلم الصلاة (411) ، سنن الترمذي الصلاة (361) ، سنن النسائي الإمامة (832) ، سنن أبو داود الصلاة (601) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1238) ، مسند أحمد بن حنبل (3/200) ، موطأ مالك النداء للصلاة (306) ، سنن الدارمي الصلاة (1256) .(12/91)
السؤال العاشر: هل يجوز نقل زكاة المال إلى بلد غير البلد الذي فيها إقامة المزكي لوجود قرابة هناك؟ وهل يجوز نقل زكاة الفطر، وهل يجوز إخراج زكاة الفطر نقدا أم لا؟
الجواب: اختلف أهل العلم في حكم نقل الزكاة إلى بلد غير بلد المزكي؛ فبعض منع من ذلك إلا أن لا يكون في بلده فقراء فينقلها إلى أقرب البلاد إليه، واستدل على المنع بحديث معاذ وفيه: «وأخبرهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم (1) » .
وبعضهم أجاز ذلك لا سيما إذا كان تم بقصد شرعي وهو إعطاؤها أقاربه المحتاجين ممن لا تلزمه نفقتهم، وأجاب عن الحديث بأن المقصود من الضميرين في قوله: «تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم (2) » عموم المسلمين؛ ولأن في الصدقة على القريب المحتاج أجرين، أجر الصدقة وأجر الصلة.
وأما زكاة الفطر فنظرا إلى أن من مقاصدها إغناء فقراء كل بلد عن السؤال يوم العيد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم» ، فالذي يظهر عدم جواز نقلها عن البلد الذي وجبت فيه.
ولا يجوز العدول في الزكاة إلى القيمة إلا للحاجة كفقدها.
والواجب في زكاة الفطر صاع من البر أو الشعير أو دقيقهما أو سويقهما، أو من التمر أو الزبيب أو الأقط، أو من غيرهما مما هو غالب قوت البلد كالأرز أو الذرة أو الدخن.
وبالله التوفيق. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1395) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .
(2) صحيح البخاري الزكاة (1395) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .(12/92)
فتوى برقم 933 وتاريخ 14 \ 1 \ 1395 هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال الأول: رجل بطريق طويل، وحدثت عليه جنابة أثناء الطريق، ولم يوجد لديه ماء يغتسل به فهل يجوز له أن يصلي وهو نجس أم كيف يفعل؟
الجواب: من أجنب في سفر ولا ماء معه يغتسل منه فاضلا عن حاجته للشرب والأكل، وبحث عن وجود ماء حتى غلب على ظنه عدم وجوده في الجهة التي هو فيها؛ فمن كان كذلك فإنه يتيمم ويصلي؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 6(12/93)
السؤال الثاني: رجل تزوج امرأة ويريد أن يتزوج ابنة أختها عليها فما الحكم هل يجوز ذلك أم لا؟
الجواب: زوجته التي في عصمته هي خالة للبنت التي يرغب الزواج بها، فإذا كان يرغب الزواج بهذه الفتاة مع بقاء خالتها في عصمته، فهذا لا يجوز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها (1) » . وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5109) ، صحيح مسلم النكاح (1408) ، سنن الترمذي النكاح (1126) ، سنن النسائي النكاح (3291) ، سنن أبو داود النكاح (2065) ، سنن ابن ماجه النكاح (1929) ، مسند أحمد بن حنبل (2/489) ، موطأ مالك النكاح (1129) ، سنن الدارمي النكاح (2178) .(12/93)
فتوى برقم 1180 وتاريخ 3 \ 2 \ 1396 هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: يقول السائل: إننا بدو في البر، والماء يبعد عنا خمسين كيلو مترا، ونحن نجلب الماء لأهلنا على السيارات، ونسقي الإبل والغنم، فهل يجب علينا الوضوء والغسل من الجنابة، وبعض البيوت فيه عشرة أفراد، والبعض أكثر من ذلك أم يجوز لنا التيمم؟
الجواب: شرع الله الوضوء والغسل في حالة وجود الماء، وشرع التيمم عند فقد الماء أو تعذر استعماله؛ لمرض أو نحوه، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (1) الآية.
وحيث إن السائل ذكر أنهم يأتون بالماء لسقي الإبل والغنم فهم واجدون للماء، فليزمهم الوضوء والغسل. وكونهم في البر، وأن الماء يبعد عنهم خمسين كيلو مترا فهذا لا يكون عذرا مبيحا للتيمم ما داموا يأتون بالماء على السيارات للإبل والغنم. والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 6(12/94)
فتوى برقم 1191 وتاريخ 14 \ 2 \ 1396 هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: هل هناك فرق بين غسل الرجل والمرأة من الجنابة؟ وهل تنقض المرأة شعرها أو يكفيها أن تحثو عليه ثلاث حثيات من الماء للحديث؟ وما الفرق بين غسل الجنابة والحيض؟
الجواب: لا فرق بين غسل الرجل والمرأة من الجنابة، ولا ينقض كل منهما شعره للغسل، بل يكفي أن يحثي على رأسه ثلاث حثيات من الماء، ثم يفيض الماء على سائر جسده؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: «إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه للجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضي عليه الماء فتطهري (1) » رواه مسلم. فإن كان على رأس الرجل أو المرأة من السدر أو الخضاب أو نحوهما مما يمنع وصول الماء إلى البشرة وجب إزالته، وإن كان خفيفا لا يمنع وصوله إليها لم تجب إزالته.
أما اغتسال المرأة من الحيض فقد اختلف في وجوب نقضها شعرها للغسل منه، والصحيح أنه لا يجب عليها نقضه لذلك؛ لما ورد في بعض روايات أم سلمة عند مسلم أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: «إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه للحيض وللجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضي عليك الماء فتطهري (2) » . فهذه الرواية نص في عدم وجوب نقض الشعر للغسل من الحيض ومن الجنابة.
لكن الأفضل أن تنقض شعرها في الغسل من الحيض احتياطا وخروجا من الخلاف وجمعا بين الأدلة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) صحيح مسلم الحيض (330) ، سنن الترمذي الطهارة (105) ، سنن النسائي الطهارة (241) ، سنن أبو داود الطهارة (251) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (603) ، مسند أحمد بن حنبل (6/315) ، سنن الدارمي الطهارة (1157) .
(2) صحيح مسلم الحيض (330) ، سنن الترمذي الطهارة (105) ، سنن النسائي الطهارة (241) ، سنن أبو داود الطهارة (251) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (603) ، مسند أحمد بن حنبل (6/315) ، سنن الدارمي الطهارة (1157) .(12/95)
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(12/96)
فتوى برقم 1231 وتاريخ 5 \ 4 \ 1396 هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: هل يجوز المسح على الجوربين إذا كان الوقت باردا؟ وهل يكون يوما وليلة دون أن تفسخ الجوارب؟
الجواب: يجوز المسح على الجورب إذا كان صفيقا، أي لا ترى البشرة معه، ويكون ساترا للمفروض.
ومدة المسح يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن. وتبدأ مدة المسح من حدث بعد لبس، والأصل في ذلك ما رواه مسلم عن علي رضي الله عنه يرفعه «للمسافر ثلاثة أيام بلياليها وللمقيم يوم وليلة (1) » . وما رواه أحمد وغيره، وصححه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم «مسح على الجوربين والنعلين (2) » .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الطهارة (276) ، سنن النسائي الطهارة (128) ، سنن ابن ماجه الفتن (3934) ، الطهارة وسننها (552) ، مسند أحمد بن حنبل (1/113) ، باقي مسند الأنصار (6/20) ، سنن الدارمي الطهارة (714) .
(2) سنن الترمذي الطهارة (99) ، سنن النسائي الطهارة (125) ، سنن أبو داود الطهارة (159) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (559) ، مسند أحمد بن حنبل (4/252) .(12/96)
فتوى برقم 658 وتاريخ 21 \ 1 \ 1397 هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال الأول: ما حكم من سافر إلى الحج ونوى عمرته لأمه وحجه لأبيه، والعام الثاني يعكس يحج لأمه ويعتمر لأبيه فهل يجوز أم لا؟
الجواب: كل من الحج والعمرة نسك مستقل وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كيفية أدائهما قرانا وإفرادا وتمتعا بالعمرة إلى الحج، فمن أراد الإحرام بالعمرة عن أمه مثلا والإحرام بالحج بعد التحلل من العمرة عن أبيه أو العكس فله ذلك، وإذا أحرم بأحد النسكين عن نفسه وبعد أن تحلل منه أحرم بالأخرى عن أبيه مثلا كان جائزا؛ لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(12/97)
السؤال الثاني: هل بقاء الجوربين على الإنسان مقيد بيوم وليلة، أي خمس صلوات فقط، وإذا كان على طهارة وصلى أكثر من خمس صلوات كأن يبتدئ بالمسح مثلا بعد صلاة العشاء الآخرة فيمسح لصلاة الفجر والظهر والعصر والمغرب، وحان وقت العشاء الآخرة وهو على وضؤ المغرب، فهل يصلي العشاء بوضوء المغرب أو ينزع الجوربين ويتوضأ؟
الجواب: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم «وقت للمسافر في المسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليهن، وللمقيم يوما وليلة (1) » . - ولم يوقت رخصة المسح عليهما بعدد الصلوات- وعلى هذا يمكن المقيم أن يصلي بالمسح أكثر من خمس صلوات، وذلك بأن يمسح عليهما في وضوء بعد حدث في وقت المغرب، ثم يجمع بين المغرب والعشاء جمع تقديم، ويتوضأ ويمسح لكل
__________
(1) سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (556) .(12/97)
من صلاة الفجر والظهر والعصر، ويجمع بين المغرب والعشاء في اليوم الثاني جمع تقديم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(12/98)
السؤال الثالث: ما حكم صلاة من يحمل صورة، كأن يكون معه حفيظة نفوس فيها صورته ويخشى من ضياعها إذا تركها حتى يصلي أو يكون معه فلوس فيها صورة؟
الجواب: يجوز للإنسان أن يصلي الفرض والنفل وهو حامل حفيظة نفوس فيها صورته أو حامل لنقود فيها صور. وصلاته بدون حمل صورة خير له إذا أمكنه التخلص من ذلك بغير ضرر يلحقه أو مشقة تصيبه- عملا بظواهر الأحاديث، وخروجا من خلاف العلماء في الصور غير المجسمة- وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(12/98)
فتوى برقم 1528 في 16 \ 4 \ 1397 هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال الأول: مريض بالسل يشق عليه الصوم في رمضان، وقد أفطر رمضان الماضي فهل عليه إطعام؟ علما بأنه لا يرجى برؤه ولم يعالج إلا مدة يسيرة كشهر ينزل من مسكنه بالبادية إلى البلد، ومن ثم يضيق في البلد ويخرج.
الجواب: إذا كان هذا المريض لا يقوى على صيام رمضان، وكان لا يرجى برؤه، سقط عنه الصيام، ووجب عليه أن يطعم عن كل يوم فطره مسكينا يعطيه نصف صاع من بر أو تمر أو أرز ونحو ذلك مما اعتاد أهله أن يأكلوا من الطعام مع القدرة على ذلك(12/98)
كالشيخ الكبير والعجوز الكبيرة الذين يشق عليهما الصوم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(12/99)
السؤال الثاني: رجل مصاب بفقر الدم وطلب المستشفى له دما، ومعروف لدينا أن الدم نجس. فهل هناك رخصة لمن يريد أن يتبرع بدمه لهذا المريض المضطر إلى ذلك؟
الجواب: الأصل في التداوي أن يكون بما أبيح شرعا، لكن إذا كان المريض لا سبيل إلى تقويته أو علاجه إلا بدم غيره، وتعين هذا طريقا للإنقاذ من المرض أو الضعف، وغلب على ظن أهل المعرفة انتفاعه بذلك، فلا بأس بعلاجه به وتخليصه من مرضه وضعفه بدم غيره لقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) وقوله سبحانه: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (2) .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 173
(2) سورة الأنعام الآية 119(12/99)
السؤال الثالث:
السقط المتبين أنه ذكر أو أنثى هل له عقيقة؟ وكذلك المولود إذا ولد ثم مات بعد أيام ولم يعق عنه في حياته هل يعق عنه بعد موته؟ وإذا مضى على المولود شهر أو شهران أو نصف سنة أو سنة أو كبر ولم يعق عنه هل يعق أم- لا؟
الجواب: جمهور الفقهاء على أن العقيقة سنة؛ لما رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن عن سلمان بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى (1) » وما رواه الحسن عن حمزة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل غلام رهينة بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويحلق ويسمى (2) » رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي، وما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل؛ عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة (3) » رواه أحمد وأبو داود والنسائي بإسناد حسن.
__________
(1) صحيح البخاري العقيقة (5471) ، سنن الترمذي الأضاحي (1515) ، سنن النسائي العقيقة (4214) ، سنن أبو داود الضحايا (2839) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3164) ، مسند أحمد بن حنبل (4/17) ، سنن الدارمي الأضاحي (1967) .
(2) صحيح البخاري العقيقة (5472) ، سنن الترمذي الأضاحي (1522) ، سنن النسائي العقيقة (4220) ، سنن أبو داود الضحايا (2838) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3165) ، مسند أحمد بن حنبل (5/8) ، سنن الدارمي الأضاحي (1969) .
(3) سنن النسائي العقيقة (4212) ، سنن أبو داود الضحايا (2842) ، مسند أحمد بن حنبل (2/183) .(12/99)
ولا عقيقة عن السقط، ولو تبين أنه ذكر أو أنثى إذا سقط قبل نفخ الروح فيه؛ لأنه لا يسمى غلاما ولا مولودا، وتذبح العقيقة في اليوم السابع من الولادة.
وإذا ولد الجنين حيا ومات قبل اليوم السابع فيسن أن يعق عنه في اليوم السابع، وإذا مضى اليوم السابع ولم يعق عنه فرأى بعض الفقهاء أنه لا يسن أن يعق عنه بعده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقتها باليوم السابع.
وذهب الحنابلة وجماعة من الفقهاء إلى أنه يسن أن يعق عنه ولو بعد شهر أو سنة أو أكثر من ولادته؛ لما أخرجه البيهقي عن أنس رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد البعثة وهو أحوط» .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(12/100)
السؤال الرابع
إذا كان عند إنسان سلعة كالحبوب أو السكر أو الأدهان أو مواش تساوي قيمته حاضرا مائة ريال، ويريد أن يبيعها على المدين بمائة وثلاثين ريالا مثلا إلى أجل محدود، والمعتاد سنة كاملة، وقد تمضي سنة أو سنتان ولا يسدد. .؟
وكذلك إذا اشتراها المدين من المخزن والدكان وعدها عليه صاحبها بأعيانها فهل يبيعها في محلها بعد عدها واستلامها. أو لا بد من أن يحوزها وينقلها إلى محل آخر؟ أفتونا مأجورين؟
الجواب
يجوز للإنسان أن يبيع سلعة من الطعام أو غيره إلى أجل معلوم ولو زاد ثمن بيعه إلى أجل عن قيمتها وقت بيعيها أو عن ثمن بيعها حالا، وينبغي للمدين الوفاء بأداء الدين إلى صاحبه عند أجله؛ لعموم قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} (1) .
ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله (2) » .
وإذا اشترى إنسان سلعة من مخزن أو دكان مثلا وعدها عليه صاحبها بأعيانها فلا يجوز للمشتري أن يبيعها في محلها بمجرد عدد أعيانها، ولا يعتبر ذلك تسلما بل لا بد لجواز
__________
(1) سورة البقرة الآية 283
(2) صحيح البخاري في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2387) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2411) ، مسند أحمد بن حنبل (2/417) .(12/100)
بيع المشتري لها من حوزه إياها إلى محل آخر؛ لما رواه أحمد - رحمه الله - «عن حكيم بن حزام أنه قال: قلت: يا رسول الله إني أشتري بيوعا مما يحل لي منها وما يحرم علي، قال: إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه (1) » . ولما رواه أحمد وأبو داود عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (2) » . ولما رواه أحمد ومسلم عن جابر رضي الله عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تستوفيه (3) » . وفي رواية لمسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ابتاع طعاما فلا يبيعه حتى يكتاله (4) » .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4603) ، سنن أبو داود البيوع (3503) ، سنن ابن ماجه التجارات (2187) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(3) صحيح مسلم البيوع (1529) ، مسند أحمد بن حنبل (3/327) .
(4) صحيح البخاري البيوع (2126) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4596) ، سنن أبو داود البيوع (3492) ، سنن ابن ماجه التجارات (2226) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1335) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .(12/101)
السؤال الخامس: يوجد أناس تكتب العزائم على المرضى والمجانين والمصابين بالأمراض النفسية يكتبون حروزا معروفة من القرآن والسنة، ولا نزكيهم نحن فقد نصحناهم وأبوا، يقولون: كتاب الله وسنة رسوله ليسا ممنوعين، ومنهم من يعلقه على المريض بنفسه وهو غير طاهر كالحائض والنفساء والمجنون والمعتوه والصغير الذي لا يعقل ولا يتطهر فهل يجوز ذلك؟
الجواب: أذن النبي صلى الله عليه وسلم: في الرقية بالقرآن والأذكار والأدعية ما لم تكن شركا أو كلاما لا يفهم معناه؛ لما روى مسلم في صحيحه عن عوف بن مالك قال: «كنا نرقي في الجاهلية فقلنا يا رسول الله كيف نرقي في ذلك. فقال أعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا (1) » .
وقد أجمع العلماء على جواز الرقى إذا كانت على الوجه المذكور آنفا مع اعتقاد أنها سبب لا تأثير له إلا بتقدير الله تعالى. أما تعليق شيء بالعنق أو بربطه بأي عضو من أعضاء الشخص. فإن كان من غير القرآن فهو محرم بل شرك؛ لما رواه الإمام أحمد في مسنده عن عمران بن حصين رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم «رأى رجلا في يده حلقة من صفر فقال: ما هذا؟ قال: من الواهنة فقال: انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا (2) » .
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2200) ، سنن أبو داود الطب (3886) .
(2) سنن ابن ماجه الطب (3531) ، مسند أحمد بن حنبل (4/445) .(12/101)
وما رواه عن عقبة بن عامر عنه صلى الله عليه وسلم قال: «من تعلق بتميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له (1) » .
وفى رواية لأحمد أيضا: «من تعلق تميمة فقد أشرك (2) » . وما رواه أحمد وأبو داود عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك (3) » وإن كان ما علقه من آيات القرآن فالصحيح أنه ممنوع أيضا؛ لثلاثة أمور هي: 1- عموم أحاديث النهي عن تعليق القائم ولا مخصص لها.
2 - سد الذريعة؛ فإنه يفضي إلى تعليق ما ليس كذلك.
3 - أن ما علق من ذلك يكون عرضة للامتهان بحمله معه في حال قضاء الحاجة والاستنجاء والجماع ونحو ذلك.
كتابة سورة أو آيات من القرآن في لوح أو طين أو قرطاس وغسله بماء أو زعفران أو غيرهما، وشرب تلك الغسالة رجاء بركة أو استفادة علم أو كسب مال أو صحة وعافية ونحو ذلك، فلم نعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله لنفسه أو غيره، ولا أنه أذن فيه لأحد من أصحابه أو رخص فيه لأمته مع وجود الدواعي التي تدعو إلى ذلك، ولم يثبت في أثر صحيح فيما علمنا من أحد من الصحابة رضي الله عنهم أنه فعل ذلك أو رخص فيه، وعلى هذا فالأولى تركه، وأن يستغني عنه بما ثبت في الشريعة من الرقية بالقرآن وأسماء الله الحسنى، وما صح من الأذكار والأدعية النبوية ونحوها مما يعرف معناه، ولا شائبة للشرك فيه، وليتقرب إلى الله بما شرع؛ رجاء للمثوبة، وأن يفرج الله كربته ويكشف غمته، ويرزقه العلم النافع. ففي ذلك الكفاية، ومن استغنى بما شرع الله أغناه الله عما سواه. والله الموفق.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/154) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/156) .
(3) سنن أبو داود الطب (3883) ، سنن ابن ماجه الطب (3530) ، مسند أحمد بن حنبل (1/381) .(12/102)
السؤال السادس: الحائض التي انتقلت من حال وعادتها الأولى زيادة يومين أو ثلاثة أو أربعة أيام مثلا، عادتها الأولى ستة أو سبعة أيام. ثم صارت عشرة أيام أو خمسة عشر يوما، وترى الطهر يوما واحدا أو ليلة واحدة ثم يعودها، هل تغتسل وتصلي أو تجلس حتى تطهر طهرا كاملا؛ لأنها زادت على العادة الأولى، وهي ليست مستحاضة، فما هو قول الشرع في ذلك؟(12/102)
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكر من انقطاع الحيض يوما واحدا أو ليلة واحدة أثناء أيام حيضها فعليها أن تغتسل وتصلي الصلوات التي أدركت وقتها وهي طاهر؛ لقول ابن عباس: (أما إذا رأت الدم البحراني فإنها لا تصلي، وإذا رأت الطهر ساعة فلتغتسل) .
وروى أن الطهر إذا كان أقل من يوم لا يلتفت إليه؛ لقول عائشة رضي عنها: لا يعجلن حتى يرين القصة البيضاء، ولأن الدم يجري مرة وينقطع أخرى فلا يثبت الطهر بمجرد انقطاعه كما لو انقطع أقل من ساعة، وهذا اختيار صاحب المغني الحنبلي. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(12/103)
فتوى برقم 1946 وتاريخ 29 \ 5 \ 1398 هـ
السؤال: ما حكم المسح على الجوربين؟
الجواب: في المسح على الجوربين في الوضوء خلاف بين الفقهاء، فمنم من منعه، ومنهم من أجازه، والصحيح أنه جائز إذا لبسهما على طهارة وكانا ساترين للقدمين والكعبين لمدة يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام للمسافر، إلى غير ذلك من شروط المسح التي دلت عليها الأحاديث الصحيحة؛ لما ثبت عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه قال: «توضأ النبي صلى الله عليه وسلم ومسح على الجوربين والنعلين (1) » . . رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وقال: الترمذي حديث حسن صحيح، وقد عمل عبد الله بن مسعود والبراء بن عازب وأنس بن مالك وأبو أمامة وسهل بن سعد وعمرو بن حريث. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهم، وهو قول جماعة من أهل العلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (99) ، سنن أبو داود الطهارة (159) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (559) .(12/103)
صفحة فارغة(12/104)
فتوى
عن المسيح عليه السلام(12/105)
صفحة فارغة(12/106)
رقم الفتوى 1621 في 11 \ 7 \ 1397 هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله، وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الأسئلة المقدمة من أحد السائلين حول المسيح عليه السلام، وأجابت عن كل سؤال منها عقبه:
السؤال الأول: هل عيسى ابن مريم حي أو ميت؟ وما الدليل من الكتاب والسنة؟ إذا كان حيا أو ميتا فأين هو الآن، وما الدليل من الكتاب والسنة؟
الجواب: عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام حي لم يمت حتى الآن، ولم يقتله اليهود ولم يصلبوه، ولكن شبه لهم، بل رفعه الله إلى السماء ببدنه وروحه، وهو إلى الآن في السماء، والدليل على ذلك قوله تعالى في فرية اليهود والرد عليها: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} (1) {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (2) .
فأنكر سبحانه على اليهود أنهم قتلوه أو صلبوه، وأخبر أنه رفعه إليه، وقد كان ذلك منه تعالى رحمة به وتكريما له، وليكون آية من آياته التي يؤتيها من يشاء من رسله، وما أكثر آيات الله في عيسى ابن مريم عليه السلام أولا وآخرا، ومقتضى الإضراب في قوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (3) أن يكون سبحانه وتعالى قد رفع عيسى عليه الصلاة والسلام بدنا وروحا؛ حتى يتحقق به الرد على زعم اليهود أنهم صلبوه وقتلوه؛ لأن القتل والصلب إنما يكون للبدن أصالة، ولأن الروح وحدها، لا ينافي دعواهم القتل والصلب، فلا يكون رفع الروح وحدها ردا عليهم؛ ولأن اسم عيسى عليه السلام حقيقة في الروح والبدن جميعا، فلا ينصرف إلى أحدهما عند الإطلاق إلا بقرينة ولا قرينة هناك، ولأن رفع روحه وبدنه جميعا مقتضى كمال عزة الله وحكمته وتكريمه ونصره من شاء من رسله حسبما قضى به قوله تعالى في ختام الآية: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (4) .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة النساء الآية 157
(2) سورة النساء الآية 158
(3) سورة النساء الآية 158
(4) سورة النساء الآية 158(12/107)
السؤال الثاني: إذا كان عيسى عليه السلام حيا فهل سينزل آخر الزمان ويحكم بين الناس ويتبع في ذلك دين محمد صلى الله عليه وسلم، وما الدليل؟ وبم نرد على من زعم أن عيسى لن يبعث آخر الزمان، ولن يحكم بين الناس؟
الجواب: نعم سينزل نبي الله عيسى ابن مريم آخر الزمان، ويحكم بين الناس بالعدل متبعا في ذلك شريعة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام، وسيؤمن به أهل الكتاب اليهود والنصارى جميعا قبل موته بعد أن ينزل آخر الزمان، قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} (1) .
فأخبر تعالى بأن جميع أهل الكتاب اليهود والنصارى سوف يؤمنون بعيسى ابن مريم عليه السلام قبل موته- أي موت عيسى - وذلك عند نزوله آخر الزمان حكما عدلا داعيا إلى الإسلام، كما سيجيء بيانه في الحديث الدال على نزوله.
وهذا المعنى هو المتعين، فإن الكلام سبق لبيان موقف اليهود من عيسى وصنيعهم معه عليه الصلاة والسلام، ولبيان سنة الله في إنجازه وكيد أعدائه، فيتعين رجوع الضميرين المجرورين إلى عيسى عليه السلام؛ رعاية لسياق الكلام، وتوحيدا لمرجع الضميرين، وثبت في أحاديث كثيرة صحيحة من طرق متعددة بلغت مبلغ التواتر أن الله تعالى رفع عيسى إلى السماء، وأنه سينزل آخر الزمان حكما عدلا، وأنه سيقتل المسيح الدجال.
قال ابن تيمية بعد أن ذكر أحاديث رفع عيسى عليه السلام ونزوله آخر الزمان من طرق كثيرة: فهذه أحاديث متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة وابن مسعود وعثمان بن أبي العاص وأبي أمامة والنواس بن سمعان وعبد الله بن عمرو بن العاص وسجع بن جارية وحذيفة بن أسيد رضي الله عنهم، ومنها دلالة على صفة نزوله ومكانه. . . إلخ اهـ.
ومن هذه الأحاديث ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي
__________
(1) سورة النساء الآية 159(12/108)
بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد (1) » ، قال أبو هريرة اقرءوا إن شئتم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} (2) الآية. وفي رواية عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم (3) » ، وثبت في الصحيح أيضا أن جابر بن عبد الله رضي عنهما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى ابن مريم عليه السلام فيقول أميرهم: تعال صل لنا فيقول: لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله لهذه الأمة (4) » . . .
فدلت الأحاديث على نزوله آخر الزمان، وعلى أنه يحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى أن إمام هذه الأمة في الصلاة وغيرها أيام نزوله من هذه الأمة لا مجال فيها للشك، وليس هناك منافاة بين نزوله وبين ختم النبوة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث لم يأت عيسى عليه السلام بشريعة جديدة ولله الحكم أولا آخرا، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكه وهو العزيز الحكيم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2222) ، صحيح مسلم الإيمان (155) ، سنن الترمذي الفتن (2233) ، سنن أبو داود الملاحم (4324) ، سنن ابن ماجه الفتن (4078) ، مسند أحمد بن حنبل (2/272) .
(2) سورة النساء الآية 159
(3) صحيح مسلم الإيمان (155، 8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/52) ، باقي مسند المكثرين (2/336) .
(4) صحيح مسلم الإيمان (156) ، مسند أحمد بن حنبل (3/384) .(12/109)
السؤال الثالث: بما أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء فلم لم يرفع إلى السماء بدلا من عيسى؟ وإذا كان عيسى رفع إليها حقيقة فلماذا اختص عيسى بالرفع دون سائر الأنبياء؟
الجواب: إن الله تعالى وسع كل شيء رحمة وعلما، وأحاط بكل شيء قوة وقهرا، سبحانه وتعالى له الحكمة البالغة، والإرادة النافذة، والقدرة الشاملة، اصطفى من شاء من الناس أنبياء ورسلا مبشرين ومنذرين، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، وخص كلا منهم بما شاء من المزايا، فضلا منه ورحمة فخص بالخلة خليليه إبراهيم ومحمدا عليهما الصلاة والسلام، وخص كل نبي بما أراد من الآيات والمعجزات التي تتناسب مع زمنه، وبها تقوم الحجة على قومه حكمة منه وعدلا لا معقب لحكمه وهو العزيز الحكيم اللطيف الخبير.
وليس كل مزية بمفردها بموجبة للأفضلية، فاختصاص عيسى برفعه إلى السماء حيا جار على مقتضى إرادة الله وحكمته، وليس ذلك لكونه أفضل من إخوانه المرسلين كإبراهيم ومحمد(12/109)
وموسى ونوح عليهم الصلاة والسلام، فإنهم أعطوا من المزايا والآيات ما يقتضي تفضيلهم عليه، أو بالجملة فرجع الأمر في ذلك إلى الله يدبره كما يشاء، لا يسأل عما يفعل لكمال علمه وحكمته، ثم إنه لا يترتب على السؤال عن ذلك عمل أو تثبيت عقيدة، بل ربما أصيب بالحيرة من حام حول ذلك، واستولت عليه الريب والشكوك، وعلى المؤمن التسليم فيما هو من شئون الله، وليجتهد فيما هو من شئون العباد عقيدة وعملا، وهذا هو منهج الأنبياء والمرسلين، وطريق الخلفاء الراشدين، وسلف الأمة المهتدين.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(12/110)
السؤال الرابع: لماذا سمي عيسى ابن مريم بالمسيح؟
الجواب: سمي عيسى ابن مريم بالمسيح؛ لأنه ما مسح على ذي عاهة إلا برئ بإذن الله.
وقال بعض السلف: سمي مسيحا لمسحه الأرض، وكثرة سياحته فيها للدعوة إلى الدين.
وعلى هذين القولين يكون المسيح بمعنى ماسح، وقيل: سمي مسيحا؛ لأنه كان مسيح القدمين لا أخمص له، وقيل: لأنه مسح بالبركة، أو طهر من الذنوب فكان مباركا، وعلى هذين القولين يكون مسيح ممسوح والأظهر الأول، والله أعلم.
وعلى كل حال لا يتعلق بذلك عقيدة ولا عمل فالجدوى في ذلك ضعيفة أو معدومة.
مع هذه الأسئلة نصوص يستدل بها القاديانيون على موت عيسى ودفنه، أرجو بيان تلك النصوص وكيف نرد عليهم؟
الآية الأولى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} (1) .
الجواب: القصد من هذه الآية الرد على من قال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (2) ، ومن قالوا: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} (3) ببيان أن عيسى المسيح عليه السلام ليس ربا ولا إلها يعبد،
__________
(1) سورة المائدة الآية 75
(2) سورة المائدة الآية 72
(3) سورة المائدة الآية 73(12/110)
بل رسول كرمه الله بالرسالة، شأنه شأن الرسل الذين مضوا من قبله أجله محدود، لكن لم تبين هذه الآية متى يموت، وقد بينت الأدلة الماضية من الكتاب والسنة أنه رفع حيا، وأنه سينزل حكما عدلا، ثم يموت بعد نزوله آخر الزمان وحكمه بين الناس، ثم ذكر تعالى أن عيسى وأمه عليهما السلام كانا يأكلان الطعام، فدل بذلك على أنهما ليسا إلهين مع الله؛ لشدة حاجتهما إلى ما يحفظ عليهما حياتهما من الطعام، والله تعالى فرد صمد له الغنى المطلق يحتاج إليه كل ما عداه، ولا يحتاج هو إلى أحد سواه.
يؤيد أن المراد بالآية ما ذكر سابقها ولاحقها من الآيات فقد سبقها آية: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (1) وآية {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} (2) وقد ذكر بعدها النهي عن الغلو في الدين وإنكار عبادة غير الله، ولعن من فعل ذلك أو سكت عنه ولم ينكره، ويوضح ذلك أيضا قوله تعالى في سورة الأنعام: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} (3) .
الآية الثانية: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} (4) .
الجواب: القصد من الآية الرد على من كفر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لزعمه أن الرسول إنما يكون من الملائكة لا من البشر، فرد الله عليهم زعمهم ببيان أن سنة الله سبحانه في إرسال الرسل إلى البشر أن يصطفيهم من البشر، وأنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، شأنهم في ذلك شأن البشر، وليس في الآية تحديد لأجل عيسى عليه السلام، وقد بينت الآيات الأخرى والأحاديث رفعه حيا ثم نزوله وحكمه بعد نزوله آخر الزمان، ثم موته كما تقدم.
الآية الثالثة: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لاَ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} (5) .
الجواب: ليس في هذه الآية أي دلالة على موت عيسى عليه السلام حينما تآمر اليهود على قتله وصلبه، وإنما فيها الدلالة على أن الأنبياء والمرسلين ومنهم عيسى، ليسوا أجسادا لا تأكل
__________
(1) سورة المائدة الآية 17
(2) سورة المائدة الآية 73
(3) سورة الأنعام الآية 14
(4) سورة الفرقان الآية 20
(5) سورة الأنبياء الآية 8(12/111)
بل يأكلون كما يأكل الناس، وفيها الحكم بأنهم لا يخلدون في الدنيا، وأهل السنة يؤمنون بذلك، وأن عيسى كغيره من المرسلين يأتي عليه الموت كغيره، إلا أن الكتاب والسنة دلا على أن ذلك بالنسبة له لا يكون إلا بعد نزوله من السماء حكما عدلا، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير كما تقدم.
الآية الرابعة: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (1) .
الجواب: هذه الجملة وإن كانت عامة، إلا أنها خصصت بالآيات والمعجزات التي أجراها الله على أيدي رسله، وكانت حجة لهم على أممهم في إثبات الرسالة، كانفلاق البحر لموسى اثني عشر طريقا يبسا بضربة عصا، وكإبراء عيسى الأكمه والأبرص وإحيائه الموتى بإذن الله، إلى غير هذا مما هو كثير معلوم، فرفع عيسى حيا وإبقاؤه قرونا ونزوله بعد ذلك مما استثني من هذا العموم كغيره من خوارق العادات التي هي سنة الله مع رسله، ولا غرابة في ذلك.
الآية الخامسة: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} (2) .
الجواب: هذه الآية تثبت العبودية لعيسى عليه السلام، وأن الله أنعم عليه بالرسالة، وليس ربا ولا إلها، وأنه آية على كمال قدرة الله، ومثل أعلى في الخير يقتدى به ويهتدى بهديه فهي شبيهة في مغزاها بالآية الأولى، وليس فيها أي دلالة على تحديد لأجل عيسى عليه السلام، وإنما يؤخذ بيان ذلك وتحديده من نصوص أخرى كما تقدم.
الآية السادسة: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} (3) .
الجواب: جاء في صدر الآية {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (4) ، فكان قوله تعالى: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} (5) ردا على زعمهم أن عيسى عليه السلام هو الله، ببيان أن عيسى وأمه عبدان ضعيفان كسائر خلق الله، لو شاء الله أن يهلكه وأمه ومن في
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 62
(2) سورة الزخرف الآية 59
(3) سورة المائدة الآية 17
(4) سورة المائدة الآية 72
(5) سورة المائدة الآية 17(12/112)
الأرض جميعا من المخلوقات لفعل، ولكنه لم يعمهم بالهلاك بل أجرى فيهم سنته بالإهلاك في مواقيت محدودة اقتضتها حكمته سبحانه، وكان من حكمته أنه لم يهلك عيسى عليه السلام حينما تآمر عليه اليهود، ولا بعد رفعه، وإنما رفعه حيا وأبقاه حيا حتى ينزل ويحكم ببن الناس بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يميته بعد ذلك كما تقدم.
الآية السابعة: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} (1) .
الجواب: حملت مريم بعيسى عليهما السلام بلا أب، بل على خلاف السنة الكونية في غيرهما من الآيات البينات الدالة على كمال قدرة الله سبحانه، وقد آواهما الله إلى ربوة مكان مرتفع خصيب فيه استقراه وماء معين ظاهر تراه العيون، والمراد بذلك بيت المقدس من فلسطين؛ رحمة من الله بهما ونعمة من الله عليهما، وكان ذلك في فلسطين لا في بلد من بلاد باكستان، وكان ذلك قبل ميلاد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأكثر من خمسمائة عام، لا بعد هجرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأكثر من اثني عشر قرنا، فمن حمل الربوة على مكان بباكستان، أو تأول ابن مريم على غلام أحمد فقد حرف الآية وافترى على الله كذبا، وخرج عن واقع التاريخ.
الآية الثامنة: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (2) .
الجواب: استدلال القاديانيين بهذه الآية على موت عيسى عليه السلام فيما مضى مبني على تفسير المتوفى بالإماتة، وهو مخالف لما صح عن السلف من تفسيره بقبض الله رسوله عيسى عليه السلام من الأرض، ورفعه إليه حيا، وتخليصه بذلك من الذين كفروا جميعا بين نصوص الكتاب والسنة الصحيحة الدالة على رفعه حيا، وعلى نزوله أخر الزمان وعلى إيمان أهل الكتاب جميعا وغيرهم به.
أما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من تفسير التوفي هنا بالإماتة فلم يصح سنده؛ لانقطاعه إذ هو من رواية علي بن أبي طلحة عنه، وعلي لم يسمع منه ولم يره، ولم يصح أيضا ما روي عن وهب بن منبه اليماني من تفسير التوفي بالإماتة؛ لأنه من رواية محمد بن إسحاق عمن لا يتهم عن وهب ففيه عنعنة ابن إسحاق وهو مدلس، وفيه مجهول، ثم هذا التفسير لا يزيد عن
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 50
(2) سورة آل عمران الآية 55(12/113)
كونه احتمالا في معنى التوفي؛ فإنه قد فسر بمعان: فسر بأن الله قد قبضه من الأرض بدنا وروحا، ورفعه إليه حيا وفسر بأنه أنامه ثم رفعه، وبأنه يميته بعد رفعه ونزوله آخر الزمان؛ إذ الواو لا تقتضي الترتيب، وإنما تقتضي جمع الأمرين له فقط.
وإذا اختلفت الأقوال في معنى الآية وجب المصير إلى القول الذي يوافق ظواهر الأدلة الأخرى؛ جمعا بين الأدلة وردا للمتشابه منها إلى المحكم، كما هو شأن الراسخين في العلم، دون أهل الزيغ الذين يتبعون ما تشابه من التنزيل؛ ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. وقانا الله شرهم.
الآية التاسعة: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} (1) .
الجواب: الاستدلال بالآية على موت عيسى عليه السلام، قبل رفعه إلى السماء، أو بعد رفعه، وقبل نزوله آخر الزمان، مبني على تفسير التوفي بالإماتة كما سبق في الكلام على الآية الثامنة، وقد تقدم أن هذا التفسير غير صحيح، وأنه على خلاف ما فسره به السلف جمعا بين نصوص الأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة.
الآية العاشرة: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} (2) .
الجواب: هذه الكلمة مما حكاه الله سبحانه في القرآن، من كلام عيسى عليه السلام في المهد، وفيها أنه سبحانه أمره بالصلاة والزكاة ما دام حيا، وليس فيها تحديد لحياته ولا بيان لوقت مماته، وقد بينت ذلك الآيات التي تقدم ذكرها، فيجب حمل المجمل على المفصل من النصوص، وألا يضرب بعضها ببعض، ولا يوقف عند الذي يتشابه؛ فإن جميع ذلك من عند الله يبين بعضه بعضا ويصدق بعضه بعضا.
الآية الحادية عشرة: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} (3)
__________
(1) سورة المائدة الآية 117
(2) سورة مريم الآية 31
(3) سورة مريم الآية 33(12/114)
الجواب: هذه كالتي قبلها، فيها إثبات السلام والأمن له من الله في كل أحواله، وليس فيها تحديد لمدة حياته، ولا لوقت موته، فيجب الرجوع إلى النصوص الأخرى التي تبين ذلك كما تقدم بيانه.
الآية الثانية عشرة: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (1) {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} (2) الجواب: هذه الآية سبقت للرد على من عبد غير الله من الملائكة، وعزيز وعيسى واللات والعزى ومناة، ببيان أنهم لا يخلقون شيئا ما ولا ذبابا، بل هم مخلوقون مربوبون أموات غير أحياء.
لكن الأدلة الأخرى دلت على بقاء عيسى عليه السلام حيا؛ حتى ينزل ويحكم بين الناس بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ثم يموت.
الآية الثالثة عشرة: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (3) .
الجواب: هذه الآية أمر الله فيها بالإيمان بجميع الأنبياء وما أنزل إليهم من ربهم، وبين أنه سبحانه لا يفرق بينهما في وجوب الإيمان بهم، وما أنزل إليهم من الله، وفي هذا رد على اليهود والنصارى الذين قالوا: كونوا هودا أو نصارى تهتدوا، وبيان لما أجمل من الرد عليهم في قوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (4) وليس المراد الأمر بعدم التفريق بينهم في الموت والحياة، فإن هذا لا يرشد إليه سياق الكلام، بل يرشد إلى ما ذكرنا.
كما أن ذلك مما لم تدع إليه الرسل فحمل الآية عليه تحريف لها عما سيقت له من المعنى، وعلى تقدير حمل قوله تعالى: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} (5) على عمومة حتى يشمل عدم التفريق
__________
(1) سورة النحل الآية 20
(2) سورة النحل الآية 21
(3) سورة البقرة الآية 136
(4) سورة البقرة الآية 135
(5) سورة البقرة الآية 136(12/115)
بينهم في جنس الموت والحياة بدليل الواقع والنصوص، فإن ذلك يدل على التفاوت بينهم في كثير من صفات الموت والحياة وأنواعها ومكانها وطول العمر وقصره، إلى غير ذلك فلتكن من حياة عيسى وامتدادها طويلا ومكانها وموته بعد ذلك، مما اختلف فيه عن إخوانه النبيين بدليل النصوص السابقة.
الآية الرابعة عشرة: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) .
الجواب: القصد من هذه الآية بيان أن كل إنسان مجزي بعمله لا يتجاوزه إلى غيره، ولا يسأل عنه سواه، كما في قوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (2) ، وقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (3) .
فعليه أن يسعى جهده في كسب الخير واجتناب الشر، وألا يتعلق على غيره فخرا به أو أملا في النجاة من العذاب يوم القيامة بقرابته منه أو صلته به وتعظيمه له في دنياه.
وعيسى عليه السلام وإن دخل في عموم الأمة الماضية، إلا أن الأدلة من الكتاب والسنة قد خصصته برفعه إلى السماء وإبقائه حيا، ثم إنزاله آخر الزمان إلى آخر ما تقدم بيانه، ومن الأصول المعلومة في الشريعة الإسلامية أن النصوص الخاصة يقضى بها على النصوص العامة فتخصها، والنصوص التي نحن بصددها من ذلك.
الآية الخامسة عشرة: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} (4) {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (5) .
الآية السادسة عشرة: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} (6) .
الجواب: تقدم الكلام على هاتين الآيتين في الكلام على الآية الأولى والثانية والثالثة
__________
(1) سورة البقرة الآية 134
(2) سورة الطور الآية 21
(3) سورة الأنعام الآية 164
(4) سورة النساء الآية 157
(5) سورة النساء الآية 158
(6) سورة النساء الآية 159(12/116)
والرابعة.
وبالجملة فما يتعلل به القاديانيون من الآيات القرآنية لإثبات ما زعموا أن عيسى عليه السلام قد مات ودفن:
أ- إما عموميات خصصتها أدلة أخرى من الآيات والأحاديث دلت على رفع عيسى حيا وبقائه كذلك حتى ينزل آخر الزمان ويحكم بشريعة القرآن.
ووقف القاديانيون عند عموم الآيات بعد تخصيصها، وذلك باطل لمخالفته للقواعد والأصول الإسلامية.
-2 وإما آيات مجملة فسرتها نصوص أخرى يجب المصير إليها، فوقف القاديانيون عند المجمل يتعللون به لباطلهم، دون أن يرجعوا إلى المحكم الذي فسره، وهذا شأن من في قلوبهم زيغ ونفاق، الذين يتبعون ما تشابه من نصوص الكتاب والسنة؛ ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله على ما يوافق هواهم.
3 - وإما كلمات اعتمدوا في تفسيرها على آثار لم يصح نسبتها إلى السلف، وقد تقدم بيان ذلك عند الكلام على الآية الثامنة: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (1) ، ففرح هؤلاء بهذه الآثار؛ لموافقتها لهواهم وموهوا بها على الجمهور، ولم ينظروا إلى أسانيدها، إما لجهلهم وإما تدليسا وخداعا؛ ترويجا لباطلهم، وما ذلك إلا لزيغهم ورغبتهم في الفتنة، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) ، والله الموفق للصواب وصلى الله على نبينا محمد آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة آل عمران الآية 55
(2) سورة آل عمران الآية 7(12/117)
صفحة فارغة(12/118)
أسئلة
الشباب القطري
مع سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز(12/119)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فقد اطلعت على الأسئلة المقدمة من الأخ خالد بن أحمد بن عبد الله وإخوانه من شبيبة الدوحة، وهذه الإجابة عليها:
السؤال الأول: مسألة الاستمناء باليد. يقول الشيخ القرضاوي (1) : وروي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه اعتبر المني فضلة من فضلات الجسم، فجاز إخراجه كالفصد، وهذا ما ذهب إليه وأيده ابن حزم. فهل صحيح أن الإمام أحمد أجاز الاستمناء عموما؟ وما دليله؟ ثم البلوى التي نشتكي إلى الله نحوها، هي أن الشباب ابتلوا بهذه الفعلة، ونسوا الصيام المأمور به عند هذه الحالة، وأن بعضهم أخذ يخبرنا أنه يصنع هيكلا من القماش والقطن، كهيئة قبل ودبر الأمرد، أو الفتاة، وبهذا يطأ هذا الشاب هذا الهيكل بإيلاج ذكره فيه. . إلخ.
الجواب: الاستمناء باليد محرم في أصح أقوال أهل العلم، وهو قول جمهورهم؛ لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (2) {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (3) {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (4) ، فأثنى سبحانه على من حفظ فرجه فلم يقض وطره إلا مع زوجته أو أمته، وحكم بأن من قضى وطره فيما وراء ذلك أيا كان، فهو عاد متجاوز لما أحله الله له، ويدخل في عموم ذلك الاستمناء باليد، كما نبه على ذلك الحافظ ابن كثير وغيره؛ ولأن في استعماله مضار كثيرة، وله عواقب وخيمة: منها إنهاك القوى، وضعف الأعصاب، وقد جاءت الشريعة الإسلامية بمنع ما يضر الإنسان في دينه وبدنه وماله وعرضه.
قال الموفق ابن قدامة - رحمه الله - في كتابه المغني: (ولو استمنى بيده فقد فعل محرما، ولا يفسد صومه به إلا أن ينزل، فإن أنزل فسد صومه؛ لأنه في معنى القبلة) اهـ. ومراده أنه في معنى القبلة؛ إذ أنزل بسببها، أما القبلة بدون إنزال فلا تفسد الصوم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في مجموع الفتاوى (5) : (أما الاستمناء باليد فهو حرام عند جمهور العلماء، وهو أصح القولين في مذهب أحمد؛ ولذلك يعزر من فعله، وفي القول الآخر هو مكروه غير محرم، وأكثرهم لا يبيحونه؛ لخوف العنت ولا غيره) اهـ.
__________
(1) الحلال والحرام ص 116 طبعة المكتب الإسلامي
(2) سورة المؤمنون الآية 5
(3) سورة المؤمنون الآية 6
(4) سورة المؤمنون الآية 7
(5) مجموع الفتاوى ج 34 ص 328.(12/120)
وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - في تفسيره أضواء البيان (1) ما نصه: (المسألة الثالثة: اعلم أنه لا شك في أن آية: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (2) هذه التي هي: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (3) تدل بعمومها على منع الاستمناء باليد، -المعروف بجلد عميرة، ويقال له: الخضخضة - لأن من تلذذ بيده حتى أنزل منيه بذلك؛ قد ابتغى وراء ما أحله الله؛ فهو من العادين بنص هذه الآية الكريمة المذكورة هنا، وفي سورة سأل سائل، وقد ذكر ابن كثير: أن الشافعي ومن تبعه استدلوا بهذه الآية على منع الاستمناء باليد.
وقال القرطبي: قال محمد بن عبد الحكم: سمعت حرملة بن عبد العزيز قال: سألت مالكا عن الرجل يجلد عميرة، فتلا هذه الآية: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (4) إلى قوله: {الْعَادُونَ} (5) قال مقيده- عفا الله عنه وغفر له -: الذي يظهر لي أن استدلال مالك والشافعي وغيرهما من أهل العلم بهذه الآية الكريمة على منع جلد عميرة الذي هو الاستمناء باليد، استدلال صحيح بكتاب الله، يدل عليه ظاهر القرآن. ولم يرد شيء يعارضه من كتاب ولا سنة. وما روي عن الإمام أحمد مع علمه وجلالته وورعه من إباحة جلد عميرة مستدلا على ذلك بالقياس قائلا: هو إخراج فضلة من البدن تدعو الضرورة إلى إخراجها، فجاز قياسا على الفصد والحجامة، كما قال في ذلك بعض الشعراء:
إذا حللت بواد لا أنيس به ... فاجلد عميرة لا عار ولا حرج
فهو خلاف الصواب، وإن كان قائله في المنزلة المعروفة التي هو بها؛ لأنه قياس يخالف ظاهر عموم القرآن، والقياس إن كان كذلك؛ رد بالقادح المسمى فساد الاعتبار كما أوضحناه في هذا الكتاب المبارك مرارا، وذكرنا فيه قول صاحب مراقي السعود:
والخلق للنص أو إجماع دعا ... فساد الاعتبار كل من وعى
فالله - جل وعلا - قال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (6) ولم يستثن من ذلك البتة إلا النوعين المذكورين في قوله تعالى: {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} (7) وصرح برفع الملامة في عدم حفظ الفرج عن الزوجة والمملوكة فقط، ثم جاء بصيغة عامة شاملة لغير النوعين
__________
(1) أضواء البيان ج5 البيان ص 769.
(2) سورة المؤمنون الآية 1
(3) سورة المؤمنون الآية 7
(4) سورة المؤمنون الآية 5
(5) سورة المؤمنون الآية 7
(6) سورة المؤمنون الآية 5
(7) سورة المؤمنون الآية 6(12/121)
المذكورين دالة على المنع هي قوله: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (1) وهذا العموم لا شك أنه يتناول بظاهرة ناكح يده، وظاهر عموم القرآن لا يجوز العدول عنه إلا لدليل من كتاب أو سنة يجب الرجوع إليه، أما القياس المخالف له فهو فاسد الاعتبار كما أوضحنا، والعلم عند الله تعالى. اهـ.
وقال أبو الفضل عبد الله بن محمد بن الصديق الحسني الإدريسي في كتابه الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء - أو العادة السرية - من الناحيتين الدينية والصحية، ما نصه: (الباب الأول في تحريم الاستمناء وبيان دليله: ذهب المالكية والشافعية والحنفية وجمهور العلماء إلى أن الاستمناء حرام، وهذا هو المذهب الصحيح الذي لا يجوز القول بغيره، وعليه أدلة كما يتبين بحول الله تعالى:
الدليل الأول:
قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (2) {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (3) {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (4) وجه الدلالة من هذه الآية الكريمة ظاهر، فإن الله تعالى مدح المؤمنين بحفظهم لفروجهم مما حرم عليهم، وأخبر برفع الحرج واللوم عنهم في قربانهم لأزواجهم، وإمائهم المملوكات لهم مستثنيا ذلك من عموم حفظ الفرج الذي مدحهم به، ثم عقب بقوله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى} (5) أي طلب {وَرَاءَ ذَلِكَ} (6) أي سوى ذلك المذكور من الأزواج والإماء {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (7) أي الظالمون المتجاوزون الحلال إلى الحرام؛ لأن العادي هو الذي يتجاوز الحد، ومتجاوز ما حده الله ظالم بدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (8) فكانت هذه الآية عامة في تحريم ما عدا صنفي الأزواج والإماء، ولا شك أن الاستمناء غيرهما، فهو حرام ومبتغيه ظالم بنص القرآن، ثم استرسل في ذكر الأدلة إلى أن قال: (الدليل السادس: ثبت في علم الطب أن الاستمناء يورث عدة أمراض: منها: أنه يضعف البصر، ويقلل من حدته المعتادة إلى حد بعيد، ومنها: أنه يضعف عضو التناسل، ويحدث فيه ارتخاء جزئيا أو كليا، بحيث يصير فاعله أشبه بالمرأة؛ لفقده أهم مميزات الرجولة التي فضل الله بها الرجل على المرأة، فهو لا يستطيع الزواج، وإن فرض أنه تزوج فلا يستطيع القيام بالوظيفة الزوجية على الوجه المطلوب، فلا بد أن تتطلع امرأته إلى غيره؛ لأنه لم يستطع إعفافها، وفي ذلك مفاسد لا تخفى.
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 7
(2) سورة المؤمنون الآية 5
(3) سورة المؤمنون الآية 6
(4) سورة المؤمنون الآية 7
(5) سورة المؤمنون الآية 7
(6) سورة المؤمنون الآية 7
(7) سورة المؤمنون الآية 7
(8) سورة البقرة الآية 229(12/122)
ومنها: أنه يورث ضعفا في الأعصاب عامة؛ نتيجة الإجهاد الذي يحصل من تلك العملية. ومنها: أنه يورث اضطرابا في آلة الهضم؛ فيضعف عملها، ويختل نظامها. ومنها: أنه يوقف نمو الأعضاء خصوصا الإحليل والخصيتين، فلا تصل إلى حد نموها الطبيعي. ومنها: أنه يورث التهابا منويا في الخصيتين؛ فيصير صاحبه سريع الإنزال إلى حد بعيد، بحيث ينزل بمجرد احتكاك شيء بذكره أقل احتكاك.
ومنها أنه يورث ألما في فقار الظهر، وهو الصلب الذي يخرج منه المني، وينشأ عن هذا الألم تقويس في الظهر وانحناء.
ومنها: أنه يحل ماء فاعله؛ فبعد أن يكون منيه غليظا ثخينا كما هو المعتاد في مني الرجل؛ يصير بهذه العملية رقيقا خاليا من الدودات المنوية، وربما تبقى فيه دويدات ضئيلة لا تقوى على التلقيح؛ فيتكون منها جنين ضعيف، ولهذا نجد ولد المستمني- إن ولد له- ضعيفا بادي الأمراض، ليس كغيره من الأولاد الذين تولدوا من مني طبيعي.
ومنها: أنه يورث رعشة في بعض الأعضاء كالرجلين.
ومنها: أنه يورث ضعفا في الغدد المخية؛ فتضعف القوة المدركة، ويقل فهم فاعله بعد أن يكون ذكيا، وربما يبلغ ضعف الغدد المخية إلى حد يحصل معه خبل في العقل. اهـ.
وبذلك يتضح للسائل تحريم الاستمناء بغير شك؛ للأدلة والمضار التي سبق ذكرها- ويلحق بذلك استخراجه بما يصنع على هيئة الفرج من القطن ونحوه، والله أعلم.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(12/123)
السؤال الثاني: هل يجوز للرجل أن يحلق شعر جسده من الظهر والساقين والفخذين مع العانة والإبط، دون قصد تشبه بالنساء ولا بالكفرة من أهل الكتاب وغيرهم؟
الجواب: يجوز إزالة الشعر مما ذكر بما لا ضرر فيه على البدن ما دام لا يقصد فيه التشبه بالنساء أو الكفار؛ لأن الأصل هو الإباحة، ولا يجوز للمسلم أن يحرم شيئا إلا بالدليل، ولا دليل يدل على تحريم ما ذكر، وسكوت الله -سبحانه - ورسوله صلى الله عليه وسلم عن ذلك يدل على الإباحة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم شرع لنا قص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الآباط، وحلق العانة، وأباح للرجال(12/123)
حلق الرأس، ولعن النامصة والمتنمصة، وأمرنا بإعفاء اللحى، وإرخائها وتوفيرها، وسكت عما سوى ذلك، وما سكت الله عنه ورسوله فهو عفو لا يجوز تحريمه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء؛ رحمة لكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها» رواه الدارقطني وغيره، قاله النووي - رحمه الله -، وقد نص على ذلك جمع من أهل العلم للحديث المذكور، ولما جاء في معناه من الأحاديث والآثار، وقد ذكر بعضها الحافظ بن رجب - رحمه الله - في جامع العلوم والحكم في شرح حديث أبي ثعلبة، فليراجعه من أحب الوقوف عك ذلك. والله أعلم.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(12/124)
السؤال الثالث: إن بعض النسوة عندنا تشككن وارتبن من فتوى العلامة محمد ناصر الدين الألباني - محدث الديار الشامية - في كتابه آداب الزفاف نحو تحريم لبس الذهب المحلق عموما، وهناك نسوة امتنعن بالفعل عن لبسه؛ فوصفهن النساء اللابسات له بالضلال والإضلال، فما قول سماحتكم في حكم لبس الذهب المحلق خصوصا؟ وذلك لحاجتنا الماسة إلى دليلكم وفتواكم بعدما افتحل الأمر وزاد. غفر الله لكم وزادكم بسطة في العلم.
الجواب: يحل لبس النساء للذهب محلقا وغير محلق؛ لعموم قوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} (1) وحيث ذكر سبحانه أن الحلية من صفات النساء، وهي عامة في الذهب وغيره.
ولما رواه أحمد وأبو داود والنسائي بسند جيد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حريرا فجعله في يمينه، وأخذ ذهبا فجعله في شماله، ثم قال: «إن هذين حرام على ذكور أمتي (2) » . زاد ابن ماجه في روايته: «حل لإناثهم (3) » .
ولما رواه أحمد والنسائي والترمذي، وصححه وأخرجه أبو داود والحاكم، وصححه وأخرجه الطبراني، وصححه ابن حزم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي وحرم على ذكورها (4) » ، وقد أعل بالانقطاع بين سعيد بن أبي هند وأبى موسى، ولا دليل على ذلك يطمئن إليه، وقد ذكرنا آنفا من صححه. وعلى فرض صحة العلة المذكورة فهو منجبر بالأحاديث الأخرى الصحيحة، كما هي القاعدة المعروفة عند أئمة الحديث.
__________
(1) سورة الزخرف الآية 18
(2) سنن النسائي الزينة (5144) ، سنن أبو داود اللباس (4057) ، سنن ابن ماجه اللباس (3595) ، مسند أحمد (1/115) .
(3) سنن ابن ماجه اللباس (3595) .
(4) سنن الترمذي اللباس (1720) ، سنن النسائي الزينة (5148) .(12/124)
وعلى هذا درج علماء السلف، ونقل غير واحد الإجماع على جواز لبس المرأة الذهب، فنذكر أقوال بعضهم زيادة في الإيضاح.
قال الجصاص في تفسيره في كلامه عن الذهب: (الأخبار الواردة في إباحته للنساء عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أظهر وأشهر من أخبار الحظر، ودلالة الآية - يقصد بذلك الآية التي ذكرناها آنفا - أيضا ظاهرة في إباحته للنساء، وقد استفاض لبس الحلي للنساء من لدن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة إلى يومنا هذا من غير نكير من أحد عليهن، ومثل ذلك لا يعترض عليه بأخبار الآحاد) (1) . اهـ.
وقال الكيا الهراسي في أحكام القرآن عند تفسيره لقوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} (2) فيه دليل على إباحة الحلي للنساء، والإجماع منعقد عليه والأخبار في ذلك لا تحصى) (3) اهـ.
وقال البيهقي في السنن الكبرى لما ذكر بعض الأحاديث الدالة على الذهب والحرير للنساء من غير تفصيل ما نصه: (فهذه الأخبار وما في معناها تدل على إباحة التحلي بالذهب للنساء، واستدللنا بحصول الإجماع على إباحته لهن على نسخ الأخبار الدالة على تحريمه فيهن خاصة) (4) ، اهـ.
وقال النووي في المجموع: (يجوز للنساء لبس الحرير والتحلي بالفضة وبالذهب بالإجماع؛ للأحاديث الصحيحة) (5) ، اهـ.
وقال أيضا: (أجمع المسلمون على أنه يجوز للنساء لبس أنواع الحلي من الفضة والذهب جميعا كالطوق، والعقد، والخاتم، والسوار، والخلخال، والدمالج، والقلائد، والمخانق، وكل ما يتخذ في العنق وغيره، وكل ما يعتدن لبسه، ولا خلاف في شيء من هذا) (6) ، اهـ.
وقال في شرح صحيح مسلم في باب تحريم خاتم الذهب على الرجال، ونسخ ما كان من إباحته في أول الإسلام: (أجمع المسلمون على إباحة خاتم الذهب للنساء) (7) ، اهـ.
__________
(1) تفسير الجصاص ج 3 ص 388.
(2) سورة الزخرف الآية 18
(3) أحكام القرآن للكيا الهراسي ج 4 ص 391.
(4) السنن الكبرى للبيهقي ج 4 ص 142.
(5) المجموع للنووي ج 4 ص 422.
(6) المجموع للنووي ج 6 ص 40.
(7) شرح صحيح مسلم للنووي، باب تحريم خاتم الذهب.(12/125)
وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في شرح حديث البراء: «نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن سبع، نهى عن خاتم الذهب (1) » الحديث، قال: (النهي عن خاتم الذهب أو التختم به مختص بالرجال دون النساء، فقد نقل الإجماع على إباحته للنساء) (2) ، اهـ.
ويدل أيضا على حل الذهب للنساء مطلقا محلقا وغير محلق مع الحديثين السابقين، ومع ما ذكره الأئمة المذكورون آنفا من إجماع أهل العلم على ذلك الأحاديث الآتية:
1 - ما رواه أبو داود والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا. قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ فخلعتهما فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: هما لله ولرسوله (3) » ، فأوضح لها النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الزكاة في المسكتين المذكورتين، ولم ينكر عليها لبس ابنتها لهما، فدل على حل ذلك، وهما محلقتان، والحديث صحيح، وإسناده جيد، كما نبه عليه الحافظ في البلوغ.
2 - ما جاء في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: «قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم حلية من عند النجاشي أهداها له، فيها خاتم من ذهب فيه فص حبشي، قالت: فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معرضا عنه أو ببعض أصابعه، ثم دعى أمامة ابنة أبي العاص ابنة ابنته زينب فقال: (تحلي بهذه يا بنية) فقد أعطى صلى الله عليه وسلم أمامة خاتما، وهو حلقة من الذهب وقال: تحلي به (4) » . فدل على حل الذهب المحلق نصا.
-3ما رواه أبو داود والدارقطني وصححه الحاكم - كما في بلوغ المرام - «عن أم سلمة رضي الله عنها أنها كانت تلبس أوضاحا من ذهب فقالت: يا رسول الله أكنز هو؟ قال: إذا أديت زكاته فليس بكنز (5) » ، اهـ.
وأما الأحاديث التي ظاهرها النهي عن لبس الذهب للنساء فهي شاذة مخالفة لما هو أصح منها وأثبت، وقد قرر أئمة الحديث أن ما جاء من الأحاديث بأسانيد جيدة لكنها مخالفة لأحاديث أصح منها، ولم يمكن الجمع ولم يعرف التاريخ؛ فإنها تعتبر شاذة لا يعول عليها ولا يعمل بها، قال الحافظ العراقي - رحمه الله - في الألفية:
وذو الشذوذ مما يخالف الثقة ... فيه الملا فالشافعي حققه
وقال الحافظ ابن حجر في النخبة ما نصه:
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5863) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2066) ، سنن الترمذي الأدب (2809) ، سنن النسائي الجنائز (1939) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2115) ، مسند أحمد بن حنبل (4/287) .
(2) فتح الباري للحافظ ابن حجر ج 1ص 317.
(3) سنن النسائي الزكاة (2479) ، سنن أبو داود الزكاة (1563) ، مسند أحمد بن حنبل (2/204) .
(4) سنن أبو داود الخاتم (4235) ، سنن ابن ماجه اللباس (3644) ، مسند أحمد بن حنبل (6/119) .
(5) سنن أبو داود الزكاة (1564) .(12/126)
) فإن خولف بأرجح فالراجح المحفوظ ومقابله الشاذ) اهـ.
كما ذكروا أن من شرط الحديث الصحيح الذي يعمل به ألا يكون شاذا، ولا شك أن الأحاديث المروية في تحريم الذهب على النساء على تسليم سلامة أسانيدها من العلل لا يمكن الجمع بينها وبين الأحاديث الصحيحة الدالة على حل الذهب للإناث، ولم يعرف التاريخ، فوجب الحكم عليها بالشذوذ وعدم الصحة عملا بهذه القاعدة الشرعية المعتبرة عند أهل العلم.
وما ذكره أخونا في الله العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في كتابه "آداب الزفاف " من الجمع بينها وبين أحاديث الحل بحمل أحاديث التحريم على المحلق وأحاديث الحل على غيره غير صحيح وغير مطابق؛ لما جاءت به الأحاديث الصحيحة الدالة على الحل؛ لأن فيها حل الخاتم وهو محلق، وحل الأسورة وهي محلقة، فاتضح بذلك ما ذكرنا؛ ولأن الأحاديث الدالة على الحل مطلقة غير مقيدة فوجب الأخذ بها؛ لإطلاقها وصحة أسانيدها- وقد تأيدت بما حكاه جماعة من أهل العلم من الإجماع على نسخ الأحاديث الدالة على التحريم كما نقلنا أقوالهم آنفا، وهذا هو الحق بلا ريب، وبذلك تزول الشبهة، ويتضح الحكم الشرعي الذي لا ريب فيه بحل الذهب لإناث الأمة، وتحريمه على الذكور- والله ولي التوفيق، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(12/127)
صفحة فارغة(12/128)
بيان في إثبات علو الله تعالى
ومباينته لخلقه، وأن معيته لعباده
بعلمه واطلاعه وحفظه
للشيخ حمود بن عبد الله التويجري
تقديم لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد اطلعت على ما كتبه أخونا العلامة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري في بيان الأدلة الشرعية والعقلية على إثبات علو الله - سبحانه - فوق عرشه، واستوائه عليه استواء يليق بجلاله لا يشابه فيه خلقه، وفي إثبات معيته لعباده بعلمه واطلاعه وحفظه وكلاءته لأوليائه، والرد على من زعم أن معية الله لعباده ذاتية، بل قد سمعته جميعه بقراءة مؤلفه - حفظه الله - فألفيته بحثا عظيم الفائدة، مؤيدا بالأدلة الشرعية والعقلية، كما ألفيته ردا عظيما على أهل البدع القائلين بالحلول والاتحاد، وردا كافيا شافيا على من قال: إن معية الله للخلق ذاتية، فجزاه الله خيرا وزاده علما وهدى وتوفيقا، ونفع به وبمؤلفاته المسلمين.
وبالجملة فهذا البحث عظيم القدر كثير الفائدة مشتمل على أدلة كثيرة من الكتاب والسنة على إثبات أسماء الله وصفاته، وعلوه سبحانه فوق خلقه، والرد على جميع أهل البدع، كما أنه مشتمل على نقول كثيرة من كلام علماء السنة المتقدمين والمتأخرين، ومن كلام الصحابة والتابعين، رضي الله عن الجميع ورحمهم رحمة واسعة.
فنسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ينفع به المسلمين، وأن يقيم به الحجة ويقطع به المعذرة، وأن يضاعف المثوبة لمؤلفه، وأن يجعلنا وإياه وسائر إخواننا من أئمة الهدى وأنصار الحق، وأن يثبتنا جميعا على دينه حتى نلقاه سبحانه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
قاله الفقير إلى عفو ربه عبد العزيز بن عبد الله بن باز، سامحه الله وعفى عنه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(12/129)
تقديم: لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
وبعد: فقد قرأت البحث الذي أعده أخونا الفاضل الشيخ حمود بن عبد الله التويجري في إثبات علو الله تعالى، ومباينته لخلقه، والرد على من زعم أن معية الله تعالى لخلقه معية ذاتية، فوجدته كتابا قيما، قرر فيه مؤلفه الحقائق التالية:
الأولى: إثبات علو الله تعالى بذاته وصفاته؛ لدلالة الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة على ذلك.
الثانية: إثبات استوائه تعالى بذاته على عرشه استواء حقيقيا يليق بجلاله وعظمته من غير تكييف ولا تمثيل؛ لدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك.
الثالثة: إثبات معية الله لخلقه بعلمه وإحاطته إن كانت عامة، وبنصره وتأييده مع العلم والإحاطة إن كانت خاصة، وتأييد ذلك بما نقله عن السلف والأئمة.
الرابعة: إبطال قول الحلولية القائلين بأن الله تعالى بذاته في الأرض أو في الأرض وعلى العرش؛ لدلالة الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة على إبطاله.
الخامسة: إنكاره القول بالمعية الذاتية.
وكل ما قرره فهو حق، فعلو الله تعالى على خلقه بذاته وصفاته دل عليه القرآن في آيات متعددة، وعلى وجوه متنوعة معلومة لكل من قرأ كتاب الله تعالى، موجبة للعلم القطعي، ودلت عليه السنة بأنواعها القولية والفعلية والإقرارية في أحاديث كثيرة تبلغ حد التواتر، وعلى وجوه متنوعة.
ودل عليه العقل من وجهين:(12/130)
أحدهما: أن العلو صفة كمال، والله تعالى له صفات الكمال من كل وجه، كما قال تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) فوجب ثبوت العلو له.
الثاني: أنه إذا انتفت صفة العلو ثبتت صفة السفل لتقابلهما، وصفة السفل صفة نقص، والله تعالى منزه عن كل نقص.
ودلت الفطرة أيضا على علو الله تعالى دلالة ضرورية فطرية، فما من داع أو خائف إلا فزع إلى ربه تعالى، نحو السماء لا يلتفت عنه يمنة ولا يسرة، والمسلمون في سجودهم يقول القائل منهم: سبحان ربي الأعلى، فلا يجد من قلبه إلا الاتجاه نحو السماء.
وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على ما اقتضته هذه الأدلة من علو الله تعالى بذاته وصفاته.
ولم يخالف في ذلك إلا من اجتالته الشياطين من الحلولية من قدماء الجهمية وغيرهم، أو من سلكوا سبيل التعطيل المحض في هذا الباب فقالوا: إنه ليس داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا متصل بالعالم ولا منفصل عنه، وقد قال بعض العلماء: لو قيل صفوا الله بالعدم ما كان أبلغ لوصفه بذلك من هذا القول، تعالى الله عنه علوا كبيرا.
واستواء الله تعالى على عرشه بذاته حقيقة هو علو الله علوا خاصا يليق بجلاله وعظمته، وفيه عن السلف أربعة معان هذا أحدها، والثاني الصعود، والثالث الارتفاع، والرابع الاستقرار، وكلها حق لا تناقض بينها، ولا تنافي ما يجب لله تعالى من الكمال.
ولم يخالف السلف في ذلك إلا أهل التحريف والتعطيل الذين قالوا: إنه بمعنى الاستيلاء عليه، وهو قول باطل مخالف لصريح القرآن والسنة، فقد ذكر الله تعالى الاستواء على العرش في سبعة مواضع من القرآن، لم يأت في واحد منها بلفظ الاستيلاء حتى يفسر به الباقي، ثم إنه ذكر بلفظ الفعل مقرونا بثم في ستة مواضع، ومذكورا بعده عموم الملك في الموضع السابع، مما يمنع منعا ظاهرا أن يكون بمعنى الاستيلاء. وجاءت السنة بالتصريح بأن الله فوق العرش، ولا يخفى أيضا ما يلزم على تفسيره بالاستيلاء من اللوازم الباطلة.
وتفسير معية الله تعالى لخلقه بعلمه بهم وإحاطته في المعية العامة، وبنصره وحفظه مع
__________
(1) سورة الروم الآية 27(12/131)
العلم والإحاطة في المعية الخاصة أمر مشهور بين السلف، حكى الإجماع عليه غير واحد من أهل العلم. واقتضاء المعية ذلك ظاهر من سياق الآيات الواردة فيها.
ففي المعية العامة ذكرها الله تعالى في سورة المجادلة بين علمين، وفي آية الحديد ذكرها بعد العلم وقبل قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1) وفي المعية الخاصة ذكرها الله تعالى في سورة محمد حين نهى المؤمنين عن الوهن في قتال الأعداء، وفي سورة التوبة حين «قال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحزن إن الله معنا (2) » .
وهكذا بقية الآيات التي فيها ذكر المعية بنوعيها.
وبطلان القول بالحلول معلوم بدلالة الكتاب والسنة والعقل والفطرة والإجماع؛ وذلك لأن القوت به مناقض تمام المناقضة للقول بعلو الله تعالى بذاته وصفاته، فإذا كان علو الله تعالى بذاته وصفاته ثابتا بهذه الأدلة؛ كان نقيضه باطلا بها.
وإنكار القول بالمعية الذاتية واجب؛ حيث تستلزم القول بالحلول؛ لأن القول بالحلول باطل، فكل ما استلزمه فهو باطل يجب إنكاره ورده على قائله كائنا من كان.
وأسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعا من المتعاونين على البر والتقوى، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا، وأن ينصرنا بالحق ويجعلنا من أنصاره؛ إنه ولي ذلك القادر عليه، وهو القريب المجيب.
__________
(1) سورة الحديد الآية 4
(2) صحيح البخاري كتاب المناقب (3615) ، صحيح مسلم الزهد والرقائق (2009) .(12/132)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، وحجة على الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد:(12/132)
فقد رأيت مقالا سيئا لبعض المعاصرين زعم في أوله أن معية الله لخلقه معية ذاتية تليق بجلاله وعظمته، وأنها لا تقتضي اختلاطا بالخلق ولا حلولا في أماكنهم. وقال في آخر مقاله: وهكذا نقول في المعية نثبت لربنا معية ذاتية تليق بعظمته وجلاله، ولا تشبه معية المخلوق للمخلوق، ونثبت مع ذلك علوه على خلقه واستواءه على عرشه على الوجه اللائق بجلاله، ونرى أن من زعم أن الله تعالى بذاته في كل مكان فهو كافر أو ضال إن اعتقده، وكاذب إن نسبه إلى غيره من سلف الأمة أو أئمتها، فعقيدتنا أن لله تعالى معية ذاتية تليق به، وتقتضي إحاطته بكل شيء علما وقدرة وسمعا وبصرا وسلطانا وتدبيرا، وأنه سبحانه منزه أن يكون مختلطا بالخلق أو حالا في أمكنتهم، بل هو العلي بذاته وصفاته، وعلوه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها، وأنه مستو على عرشه كما يليق بجلاله، وأن ذلك لا ينافي معيته. ثم صرح أنه قال ذلك مقررا له ومعتقدا له منشرحا له صدره.
وأقول: لا يخفى على من له علم وفهم ما في كلام الكاتب من التناقض والجمع بين النقيضين، وموافقة من يقول من الحلولية أن الله بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل مكان، وما فيه من مخالفة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها.
فأما التناقض ففي تقريره لمعية الله الذاتية لخلقه مع زعمه أن هذه المعية الذاتية لا تقتضي الاختلاط بالخلق ولا الحلول في أماكنهم، ولا يخفى على عاقل أن المعية الذاتية للخلق تستلزم مخالطتهم والحلول في أماكنهم، وعلى هذا فمن أثبت المعية الذاتية للخلق، ونفى مخالطتهم والحلول في أماكنهم فقد تناقض شاء أم أبى.
وأما الجمع بين النقيضين ففي تقريره لمعية الله الذاتية لخلقه مع زعمه أن الله مستو على عرشه، وأنه العلي بذاته وصفاته، وأن علوه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها. فقد جمع في هذا التقرير بين إثبات صفة العلو لله تعالى وإثبات ضدها، وهي صفة السفل الذي تستلزمه المعية الذاتية للخلق، وعلى هذا فمن أثبت المعية الذاتية للخلق، وأثبت مع ذلك أن علو الرب من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها فقد جمع بين النقيضين شاء أم أبى.
وأما الموافقة لبعض القائلين بالحلول فإنه لازم لمن زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية؛ لأنه يلزم على هذا القول الباطل أن يكون الله مع الخلق في الأرض، وأن يكون مخالطا لهم، وحالا معهم في أماكنهم. وقد قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في(12/133)
صفحة 297 من المجلد الثاني من مجموع الفتاوى، وصفحتين بعدها ما ملخصه:
ولما ظهرت الجهمية المنكرة لمباينة الله وعلوه على خلقه؛ افترق الناس في هذا الباب على أربعة أقوال: فالسلف والأئمة يقولون: إن الله فوق سماواته مستو على عرشه، بائن عن خلقه كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة. والقول الثاني: قول معطلة الجهمية ونفاتهم، وهم الذين يقولون: لا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين له ولا محايث له، فينفون الوصفين المتقابلين اللذين لا يخلو موجود عن أحدهما، كما يقول ذلك أكثر المعتزلة ومن وافقهم من غيرهم.
والقول الثالث: قول حلولية الجهمية الذين يقولون: إنه بذاته في كل مكان. كما يقول ذلك أتباع حسين النجار وغيرهم من الجهمية.
والقول الرابع: قول من يقول: إن الله بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل مكان. وهذا قول طوائف من أهل الكلام والتصوف كأبي معاذ وأمثاله. وقد ذكر الأشعري في المقالات هذا عن طوائف.
ويوجد في كلام السالمية كأبي طالب المكي وأتباعه كأبي الحكم ابن برجان وأمثاله ما يشير إلى نحو من هذا، وفي الجملة فالقول بالحلول أو ما يناسبه وقع فيه كثير من متأخري الصوفية؛ ولهذا كان أئمة القوم يحذرون منه. انتهى المقصود من كلامه.
وما ذكره شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - عن الذين يقولون: إن الله بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل مكان، هو بعينه قول المردود عليه حيث زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية وهو مع ذلك مستو على عرشه.(12/134)
فصل
وأما مخالفة صاحب المقال لكتاب الله تعالى، فإن الله - تبارك وتعالى - ذكر استواءه على العرش في سبعة مواضع من القرآن. الموضع الأول: قوله تعالى في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (1) .
الموضع الثاني: قوله تعالى في سورة يونس:135 {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (2) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 54
(2) سورة يونس الآية 3(12/134)
الموضع الثالث: قوله تعالى في سورة الرعد: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (1) . الموضع الرابع: قوله تعالى في سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) .
الموضع الخامس: قوله تعالى في سورة الفرقان: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (3) . الموضع السادس قوله تعالى في سورة السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (4) .
الموضع السابع: قوله تعالى في سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (5) .
والنص على استواء الرب - تبارك وتعالى - على العرش - الذي هو فوق جميع المخلوقات - ينافي كونه مع سكان الأرض بذاته. وفي كل من هذه الآيات السبع أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
ومما يرد به أيضا على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية قول الله تعالى مخبرا عن الملائكة: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} (6) . وإذا كان الرب - تبارك وتعالى - فوق الملائكة - الذين هم سكان السماوات - ولم يكن معهم بذاته فكيف يقال: إن معيته - لخلقه- أي الذين في الأرض- معية ذاتية؟ هذا قول ظاهر البطلان.
ومما يرد به عليه أيضا قول الله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (7) ، وقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} (8) ، وقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (9) ، وقوله تعالى:136 {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} (10) {إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} (11) ،
__________
(1) سورة الرعد الآية 2
(2) سورة طه الآية 5
(3) سورة الفرقان الآية 59
(4) سورة السجدة الآية 4
(5) سورة الحديد الآية 4
(6) سورة النحل الآية 50
(7) سورة الأنعام الآية 18
(8) سورة الأنعام الآية 61
(9) سورة الأعلى الآية 1
(10) سورة الليل الآية 19
(11) سورة الليل الآية 20(12/135)
وقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (1) ، وقوله تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} (2) ، وقوله تعالى: {وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (3) ، وقوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (4) ، وقوله تعالى: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (5) ، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (6) ، وقوله تعالى: {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (7) ، وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (8) ، ومثلها الآية في سورة لقمان، وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} (9) ، فقد وصف الرب - تبارك وتعالى - نفسه في هذه الآيات بصفة العلو المطلق، وهو يشمل علو القدر وعلو القهر وعلو الذات، ولا يخفى على من له عقل وعلم أن صفة علو الذات تنافي المعية الذاتية للخلق أعظم المنافاة.
ومما يرد به عليه أيضا قول الله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} (10) {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} (11) الآية. قال البيهقي في كتاب " الأسماء والصفات " في الكلام على قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (12) أراد من فوق السماء كما قال: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (13) ، بمعنى على جذوع النخل.
وقال: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} (14) ، أي على الأرض. وكل ما علا فهو سماء. والعرش
__________
(1) سورة الرعد الآية 9
(2) سورة غافر الآية 15
(3) سورة البقرة الآية 255
(4) سورة الشورى الآية 4
(5) سورة الشورى الآية 51
(6) سورة النساء الآية 34
(7) سورة سبأ الآية 23
(8) سورة الحج الآية 62
(9) سورة غافر الآية 12
(10) سورة الملك الآية 16
(11) سورة الملك الآية 17
(12) سورة الملك الآية 16
(13) سورة طه الآية 71
(14) سورة التوبة الآية 2(12/136)
أعلى السماوات فمعنى الآية أأمنتم من على العرش كما صرح به في سائر الآيات. قال: وفيما كتبنا من الآيات دلالة على إبطال قول من زعم من الجهمية أن الله بذاته في كل مكان. وقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) إنما أراد بعلمه، لا بذاته، انتهى. وقد نقله عنه شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في القاعدة المراكشية، وأقره وهو في صفحة 192 - 193 من المجلد الخامس من مجمع الفتاوى.
وقال القرطبي في تفسيره في الكلام على قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (2) قال المحققون: أأمنتم من فوق السماء كقوله: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} (3) أي فوقها، انتهى.
ومن الآيات التي يرد بها على من زعم أن معية ذاتية قول الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (4) ، وقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} (5) ، وقوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (6) ، وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (7) ، وقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (8) ، وقوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (9) ، وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} (10) ، وقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} (11) ، وقوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} (12) {مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} (13) .
والآيات في إنزال القرآن من الله
__________
(1) سورة الحديد الآية 4
(2) سورة الملك الآية 16
(3) سورة التوبة الآية 2
(4) سورة فاطر الآية 10
(5) سورة السجدة الآية 5
(6) سورة المعارج الآية 4
(7) سورة آل عمران الآية 55
(8) سورة النساء الآية 158
(9) سورة النحل الآية 102
(10) سورة المائدة الآية 44
(11) سورة الأنعام الآية 91
(12) سورة آل عمران الآية 3
(13) سورة آل عمران الآية 4(12/137)
تعالى كثيرة جدا. وفيها مع ما ذكرته هاهنا من الآيات دليل على علو الرب - تبارك وتعالى - فوق خلقه. وفيها أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.(12/138)
فصل
وأما مخالفة صاحب المقال لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أسري به إلى بيت المقدس، عرج به جبريل حتى علا به فوق السماوات السبع، وظهر به لمستوى يسمع فيه صريف الأقلام، ودنا من الرب - جل جلاله - فكلمه الله وفرض عليه وعلى أمته خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فلم يزل يتردد بين ربه وبين موسى في طلب التخفيف عنه وعن أمته؛ حتى جعلها الله خمس صلوات.
وقد جاء في هذا أحاديث صحيحة، الأول منها: رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث شريك بن عبد الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه، والثاني: رواه الإمام أحمد ومسلم من حديث ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه. والثالث: رواه النسائي من حديث يزيد بن أبي مالك عن أنس رضي الله عنه. والرابع: رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم من حديث قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رضي الله عنه. والخامس: رواه البخاري ومسلم من حديث ابن شهاب عن أنس بن مالك عن أبي ذر رضي الله عنه.
وقال الزهري في هذا الحديث: أخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري رضي الله عنهما كانا يقولان: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام (1) » ، قال ابن حزم وأنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ففرض الله على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك حتى مررت على موسى عليه السلام، فقال: ما فرض الله على أمتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة. قال: فارجع إلى ربك؛ فإن أمتك لا تطيق. فراجعت فوضع شطرها، فرجعت إليه فقال: ارجع إلى ربك؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك. فراجعت، فقال: هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي (2) » الحديث.
وفي عروج النبي صلى الله عليه وسلم من الأرض إلى ما فوق السماوات السبع، وما أكرمه الله به من الدنو منه أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية. وكذلك في تردده صلى الله عليه وسلم بين ربه وبين موسى عليه الصلاة والسلام عدة مرات، حين كان موسى يقول له: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. فيعرج به جبريل إلى الله فيسأله التخفيف لأمته؛ حتى
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (349) ، صحيح مسلم الإيمان (163) ، سنن الترمذي الصلاة (213) ، سنن النسائي الصلاة (450) ، مسند أحمد بن حنبل (5/144) .
(2) صحيح البخاري الصلاة (349) ، صحيح مسلم الإيمان (163) ، سنن الترمذي الصلاة (213) ، سنن النسائي الصلاة (449) ، مسند أحمد بن حنبل (5/144) .(12/138)
صارت إلى خمس صلوات، وكل ذلك يدل على إثبات العلو لله تعالى، وأنه بائن من خلقه. وفيه أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقة معية ذاتية.
ومما يرد به على صاحب المقال أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: «أين الله؟ فقالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة» رواه مالك وأحمد ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه. قال أبو عثمان الصابوني: حكم بإيمانها لما أقرت أن ربها في السماء، وعرفت ربها بصفة العلو والفوقية.
وما يرد به عليه أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء (1) » ، رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
ومما يرد به عليه أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء (2) » . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والبخاري في الكنى، والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم والذهبي.
ومما يرد به عليه أيضا ما جاء في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من اشتكى شيئا فليقل: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك (3) » الحديث رواه أبو داود.
وقال البيهقي في كتاب " الأسماء والصفات ": معنى قوله في هذه الأخبار: من في السماء، أي فوق السماء على العرش كما نطق به الكتاب والسنة. انتهى.
ومما يرد به عليه أيضا ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يا رب يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك! (4) » رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي وقال: حديث حسن غريب.
وفي كون الداعي يمد يديه إلى السماء خاصة دون سائر الجهات أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية. ولو كان الأمر على ما زعمه القائل على الله بغير علم
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4351) ، صحيح مسلم الزكاة (1064) ، مسند أحمد بن حنبل (3/5) .
(2) سنن الترمذي البر والصلة (1924) ، سنن أبو داود الأدب (4941) .
(3) سنن أبو داود الطب (3892) .
(4) صحيح مسلم الزكاة (1015) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2989) ، مسند أحمد بن حنبل (2/328) ، سنن الدارمي الرقاق (2717) .(12/139)
لكان الداعي يمد يديه إلى سائر الجهات، من فوقه ومن أمامه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ولا يخص جهة السماء التي فوقها الله تعالى.
ومما يرد به عليه أيضا ما جاء في الحديث الطويل عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في ذكر حجة الوداع، ففيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس في بطن الوادي وقال آخر خطبته: «وأنتم مسئولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد (1) » رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه.
وفي رفع النبي صلى الله عليه وسلم إصبعه إلى السماء دون سائر الجهات أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
ومما يرد به عليه أيضا ما جاء في حديث الأوعال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعد أن ذكر سبع سماوات، بين كل سمائين مسيرة خمسمائة عام، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة عام، قال: «وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء الأرض، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين ركبهن وأظلافهن كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله - تبارك وتعالى - فوق ذلك، وليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء (2) » رواه الإمام أحمد والحاكم من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وصححه الحاكم والذهبي، وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم، والبيهقي في كتاب " الأسماء والصفات " بلفظ آخر، وقال الترمذي: حسن غريب.
ومما يرد به عليه أيضا ما رواه النسائي والحاكم في المستدرك والبيهقي في كتاب "الأسماء والصفات" من طريق الحاكم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أن سعد بن معاذ رضي الله عنه حكم على بني قريظة أن يقتل منهم كل من جرت عليه الموسى، وأن تقسم أموالهم وذراريهم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لقد حكم اليوم فيهم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سماوات (3) » ، لم يتكلم عليه الحاكم، وقال الذهبي في تلخيصه: صحيح، وذكره الذهبي أيضا في كتاب " العلو " وقال: هذا حديث صحيح. وقد رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقال فيه: «لقد حكمت فيهم بحكم الله (4) » وربما قال: «بحكم الملك (5) » . ورواه الإمام أحمد ومسلم أيضا من حديث عائشة رضي الله عنها وفيه: «لقد حكمت فيهم بحكم الله - عز وجل - (6) » زاد أحمد:
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1785) ، صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .
(2) سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3320) ، سنن أبو داود السنة (4723) ، سنن ابن ماجه المقدمة (193) ، مسند أحمد بن حنبل (1/207) .
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (3043) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1768) ، سنن أبو داود الأدب (5215) ، مسند أحمد بن حنبل (3/22) .
(4) صحيح البخاري الجهاد والسير (3043) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1768) ، سنن أبو داود الأدب (5215) ، مسند أحمد بن حنبل (3/22) .
(5) صحيح البخاري الجهاد والسير (3043) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1768) ، سنن أبو داود الأدب (5215) ، مسند أحمد بن حنبل (3/22) .
(6) صحيح البخاري الصلاة (463) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1769) ، سنن النسائي المساجد (710) ، سنن أبو داود الجنائز (3101) ، مسند أحمد بن حنبل (6/142) .(12/140)
«وحكم رسوله (1) » . ورواه الترمذي من حديث جابر رضي الله عنه ولفظه: «أصبت حكم الله فيهم (2) » .
ومما يرد به عليه أيضا ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لما قضى الله الخلق، كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش: إن رحمي غلبت غضي (3) » رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم.
ومما يرد به عليه أيضا ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو عند النوم فذكر الحديث وفيه: «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء (4) » الحديث رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.
ومما يرد به عليه أيضا ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم - وهو أعلم بهم - كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون (5) » رواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم والنسائي.
ومما يرد به عليه أيضا حديث أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل (6) » الحديث رواه الإمام أحمد ومسلم وابن ماجه.
وكما أن هذه الأحاديث دالة على علو الرب - تبارك وتعالى - فوق جميع المخلوقات، وأنه بائن من خلقه، ففيها أيضا أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
والأحاديث في الرد على من قال بهذا القول الباطل كثيرة جدا، وفيما ذكرته كفاية إن شاء الله.
__________
(1) سنن النسائي قطع السارق (4874) ، سنن أبو داود الحدود (4382) .
(2) صحيح مسلم السلام (2208) ، سنن الترمذي السير (1582) ، سنن أبو داود الطب (3866) ، سنن ابن ماجه الطب (3494) ، مسند أحمد بن حنبل (3/350) ، سنن الدارمي السير (2509) .
(3) صحيح البخاري التوحيد (7404) ، صحيح مسلم التوبة (2751) ، سنن الترمذي الدعوات (3543) ، سنن ابن ماجه الزهد (4295) ، مسند أحمد بن حنبل (2/433) .
(4) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713) ، سنن الترمذي الدعوات (3481) ، سنن أبو داود الأدب (5051) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3831) ، مسند أحمد بن حنبل (2/404) .
(5) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (555) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (632) ، سنن النسائي الصلاة (485) ، مسند أحمد بن حنبل (2/486) ، موطأ مالك النداء للصلاة (413) .
(6) صحيح مسلم الإيمان (179) ، سنن ابن ماجه المقدمة (195) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) .(12/141)
فصل
ومن المأثور عن الصحابة رضي الله عنهم في إثبات العلو لله تعالى، ما رواه ابن أبي حاتم والبيهقي في كتاب "الأسماء والصفات " عن جرير بن حازم قال: سمعت أبا يزيد يحدث قال: لقيت امرأة عمر رضي الله عنه يقال لها: خولة بنت ثعلبة، وهو يسير مع الناس فاستوقفته، فوقف لها، ودنا منها، وأصغى إليها رأسه حتى قضت حاجتها وانصرفت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، حبست رجالات قريش على هذه العجوز؟! قال: "ويحك وتدري من هذه؟ قال: لا. قال: هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت عنها؛ حتى تقضي حاجتها إلا أن تحضر صلاة فأصليها، ثم أرجع إليها حتى تقضي حاجتها" وقد ذكر هذا الأثر أبو عمر ابن عبد البر في الاستيعاب، وقال: رويناه من وجوه.
ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن أنس رضي الله عنه قال: كانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: "زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات " قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لعائشة رضي الله عنها: "كنت أحب نساء رسول صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إلا طيبا، وأنزل الله براءتك من فوق سبع سماوات، جاء بها الروح الأمين " ورواه ابن سعد في الطبقات، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
ومن ذلك ما رواه سنيد بن داود، حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (الله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم) إسناده صحيح، وقد رواه عثمان بن سعيد الدارمي عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (ما بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وبين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي وبين الماء خمسمائة عام، والعرش على الماء، والله تعالى فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه) إسناده صحيح، ورواه البيهقي في كتاب " الأسماء والصفات " من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة فذكره بنحوه، ورواه(12/142)
ابن عبد البر في التمهيد من طريق يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن زر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء إلى الأخرى مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة، والعرش على الماء، والله - تبارك وتعالى - على العرش يعلم أعمالكم) ورواه البيهقي أيضا عن طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة - وهو المسعودي - عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل - واسمه شقيق بن سلمة - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فذكره بنحوه.
ومن ذلك ما رواه إسحاق بن راهويه عن عكرمة في قوله تعالى مخبرا عن إبليس أنه قال: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} (1) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لم يستطع أن يقول: من فوقهم، علم أن الله من فوقهم ".
ومن ذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه: (ومن قال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، تلقاهن ملك فعرج بهن إلى الله، فلا يمر بملأ من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يجيء بهن وجه الرحمن) . قال ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية": أخرجه العسال في كتاب "المعرفة" بإسناد كلهم ثقات.
ومن ذلك قصة عبد الله بن رواحة رضي الله عنه مع امرأته، حين وقع على أمته، وهي مشهورة، وقد ذكرها ابن عبد البر في الاستيعاب، وقال: رويناها من وجوه صحاح، وذلك أنه مشى ليلة إلى أمة له فنالها، وفطنت له امرأته فلامته فجحدها، وكانت قد رأت جماعة لها، فقالت له: إن كنت صادقا فاقرأ القرآن؛ فإن الجنب لا يقرأ القرآن فقال:
شهدت بأن وعد الله حق ... وإن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء حق ... وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة غلاظ ... ملائكة الإله مسومينا
فقالت امرأته: صدق الله وكذبت عيني، وكانت لا تحفظ القرآن ولا تقرؤه.
وقد رواها الذهبي في "سير أعلام النبلاء" بإسناده إلى عبد العزيز بن أخي الماجشون، وفيه أن «امرأة
__________
(1) سورة الأعراف الآية 17(12/143)
عبد الله بن رواحة قالت له لما جحد خلوته بجاريته: إن كنت صادقا فاقرأ آية من القرآن. فقال:
شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا
قالت: فزدني آية. فقال:
وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة كرام ... ملائكة الإله مقربينا
فقالت: آمنت بالله وكذبت البصر، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه فضحك ولم يغير عليه» .
ومن ذلك ما رواه ابن سعد أنبأنا مالك بن إسماعيل النهدي أنبأنا عمر بن زياد عن عبد الملك بن عمير قال: «جاء حسان بن ثابت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أسمعك يا رسول الله. قال: "قل حقا" فقال:
شهدت بإذن الله أن محمدا ... رسول الذي فوق السماوات من عل
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأنا أشهد" فقال:
وأن الذي عادى اليهود ابن مريم ... له عمل من ربه متقبل
فقال: "وأنا أشهد»
وقد ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء، وقال في البيت الأخير:
وأن الذي عادى اليهود ابن مريم ... نبي أتى من عند ذي العرش مرسل
وهكذا هو في ديوان حسان بن ثابت رضي الله عنه.
ومن ذلك ما رواه عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب "النقض" على المريسي بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لما ألقي إبراهيم في النار قال: اللهم إنك في السماء واحد وأنا في الأرض واحد أعبدك".
وكما أن هذه الآثار المروية عن الصحابة رضي الله عنهم تدل على إثبات العلو لله تعالى، ففيها أيضا أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.(12/144)
فصل
وأما الإجماع من أهل السنة والجماعة على خلاف ما زعمه القائل، بأن معية الله لخلقه معية ذاتية، فقد حكاه غير واحد من أكابر العلماء. ومن أجلهم إمام أهل السنة أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - فقد روى القاضي أبو الحسين في "طبقات الحنابلة" بإسناده إلى أبي العباس أحمد بن جعفر بن يعقوب بن عبد الله الفارسي الإصطخري، قال: قال أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل: هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المتمسكين بعروقها المعروفين بها، المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وأدركت من أدركت من علماء أهل الحجاز والشام وغيرهم عليها. فمن خالف شيئا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج من الجماعة، زائل عن منهج السنة وسبيل الحق.
ثم ساق الإمام أحمد أقوالهم في هذه العقيدة إلى أن قال: وخلق سبع سماوات بعضها فوق بعض، وسبع أرضين بعضها أسفل من بعض، وبين الأرض العليا والسماء الدنيا مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة عام، والماء فوق السماء العليا السابعة، وعرش الرحمن - عز وجل - فوق الماء، والله - عز وجل - على العرش والكرسي موضع قدميه، وهو يعلم ما في السماوات والأرضين السبع وما بينهما، وما تحت الثرى، وما في قعر البحار، ومنبت كل شعرة وشجرة وكل زرع وكل نبات، ومسقط كل ورقة، وعدد كل كلمة، وعدد الحصى والرمل والتراب، ومثاقيل الجبال وأعمال العباد، وآثارهم وكلامهم وأنفاسهم، ويعلم كل شيء، لا يخفى عليه من ذلك شيء، وهو على العرش فوق السماء السابعة، ودونه حجب من نور ونار وظلمة، وما هو أعلم به.
فإن احتج مبتدع ومخالف بقول الله - عز وجل -: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (1) ، وبقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (2) ، وبقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (3) ، وإلى قوله: {هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (4) ، ونحو هذا من متشابه القرآن. فقل: إنما يعني بذلك العلم؛ لأن الله تعالى على العرش فوق السماء السابعة العليا، ويعلم ذلك كله وهو بائن من خلقه، لا يخلو من علمه مكان انتهى.
فليتأمله المبتلى بمخالفة أهل السنة والجماعة حق
__________
(1) سورة ق الآية 16
(2) سورة الحديد الآية 4
(3) سورة المجادلة الآية 7
(4) سورة المجادلة الآية 7(12/145)
التأمل. وليتق الله ولا يكن من دعاة البدع والضلالة، فقد قال الله تعالى فيهم: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ} (1) ، وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (2) » . رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وقال أبو عمر بن عبد البر: أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل، قالوا في تأويل قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (3) هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله، انتهى. وقد نقله شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله - تعالى في "القاعدة المراكشية" وأقره وهو مذكور في صفحة 193 من المجلد الخامس من مجموع الفتاوى. ثم قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: فهذا ما تلقاه الخلف عن السلف؛ إذ لم ينقل عنهم غير ذلك؛ إذ هو الحق الظاهر الذي دلت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، انتهى. وقد نقل الذهبي كلام ابن عبد البر في كتاب "العلو"، ونقله ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" وأقراه.
وذكر شيخ الإسلام أيضا في "شرح حديث النزول " قول الله تعالى في سورة الحديد: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (4) وقوله تعالى في سورة المجادلة: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (5) الآية. ثم قال: وقد ثبت عن السلف أنهم قالوا: هو معهم بعلمه.
وقد ذكر ابن عبد البر وغيره أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولم يخالفهم فيه أحد يعتمد بقوله، وهو مأثور عن ابن عباس والضحاك ومقاتل بن حيان وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم. ثم ذكر الشيخ ما رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (6) قال: هو على العرش، وعلمه معهم. وروي أيضا عن سفيان الثوري أنه قال: علمه معهم. وروي أيضا عن الضحاك بن مزاحم في قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (7) إلى قوله: {أَيْنَ مَا كَانُوا} (8) قال هو على العرش وعلمه معهم.
__________
(1) سورة النحل الآية 25
(2) صحيح البخاري التوحيد (7543) ، صحيح مسلم الحدود (1699) ، سنن أبو داود الحدود (4446) ، سنن ابن ماجه الحدود (2556) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الحدود (1551) ، سنن الدارمي الحدود (2321) .
(3) سورة المجادلة الآية 7
(4) سورة الحديد الآية 4
(5) سورة المجادلة الآية 7
(6) سورة الحديد الآية 4
(7) سورة المجادلة الآية 7
(8) سورة المجادلة الآية 7(12/146)
وقال أبو عمرو الطلمنكي: وأجمعوا - يعني أهل السنة والجماعة - على أن لله عرشا، وعلى أنه مستو على عرشه، وعلمه وقدرته وتدبيره بكل ما خلقه. قال: فأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) ، ونحو ذلك في القرآن أن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء.
قال: وقال أهل السنة في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) ، الاستواء من الله على عرشه المجيد على الحقيقة لا على المجاز، انتهى، وقد نقله شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في شرح حديث النزول، وهو في صفحة 519 من المجلد الخامس من مجموع الفتاوى، ونقل بعضه الذهبي في كتاب "العلو" وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية".
ونقل شيخ الإسلام أيضا عن أبي عمرو الطلمنكي أنه قال: وقد أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله على عرشه بائن من جميع خلقه. وتعالى الله عن قول أهل الزيغ وعما يقول الظالمون علوا كبيرا، انتهى، وهو مذكور في صفحة 501 من المجلد الخامس من مجموع الفتاوى.
وروى البيهقي في كتاب "الأسماء والصفات " بإسناد صحيح عن الأوزاعي قال: كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت السنة به من صفاته جل وعلا. وقد ذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله تعالى - قول الأوزاعي في (الفتوى الحموية الكبرى) ، ثم قال: وقد حكى الأوزاعي -وهو أحد الأئمة الأربعة في عصر تابع التابعين، الذين هم مالك إمام أهل الحجاز، والأوزاعي إمام أهل الشام، والليث إمام أهل مصر، والثوري إمام أهل العراق - حكى شهرة القول في زمن التابعين بالإيمان، بأن الله فوق العرش وبصفاته السمعية. وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور مذهب جهم المنكر لكون الله فوق عرشه، والنافي لصفاته؛ ليعرف الناس أن مذهب السلف خلاف ذلك، انتهى.
وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله تعالى - كلام الأوزاعي في كتابه "اجتماع الجيوش الإسلامية"، ثم قال: هذا الأثر يدخل في حكاية مذهبه ومذهب التابعين، انتهى.
وقال الذهبي في كتاب "العلو" قال أبو أحمد الحاكم وأبو بكر النقاش المفسر واللفظ
__________
(1) سورة الحديد الآية 4
(2) سورة طه الآية 5(12/147)
له: حدثنا أبو العباس السراج قال: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: هذا قول الأئمة في الإسلام والسنة والجماعة. نعرف ربنا أنه في السماء السابعة على عرشه كما قال جل جلاله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) وكذا نقل موسى بن هارون عن قتيبة أنه قال: نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه، قال الذهبي: فهذا قتيبة في إمامته وصدقه قد نقل الإجماع على المسألة، انتهى. وقد نقل ابن القيم كلام قتيبة في كتابه "اجتماع الجيوش الإسلامية" بمثل ما ذكره الذهبي.
وروى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي بإسناده إلى الحسن بن محمد بن الحارث قال: سئل علي بن المديني - وأنا أسمع- ما قول أهل الجماعة؟ قال: يؤمنون بالرؤية وبالكلام، وأن الله - عز وجل - فوق السماوات على عرشه استوى. فسئل عن قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (2) ، فقال: اقرأ ما قبله {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} (3) ، انتهى. وقد نقله الذهبي في كتاب "العلو" وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية".
قال أبو بكر الخلال في كتاب السنة: أخبرنا أبو بكر المروذي، حدثنا محمد بن الصباح النيسابوري، حدثنا أبو داود الخفاف سليمان بن داود قال: قال إسحاق بن راهويه: قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (4) إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى، ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة، انتهى. وقد نقله الذهبي في كتاب "العلو"، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية"، وقال الذهبي بعد إيراده: اسمع ويحك إلى هذا الإمام كيف نقل الإجماع على هذه المسألة كما نقله في زمانه قتيبة المذكور. انتهى.
وروى الذهبى في كتاب "العلو" بإسناده إلى عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سألت أبي وأبا زرعة - رحمهما الله تعالى - عن مذهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان عن ذلك. فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازا وعراقا ومصرا وشاما ويمنا، فكان من مذهبهم أن الله - تبارك وتعالى - على عرشه، بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بلا كيف
__________
(1) سورة طه الآية 5
(2) سورة المجادلة الآية 7
(3) سورة المجادلة الآية 7
(4) سورة طه الآية 5(12/148)
{أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (1) {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) . انتهى. وقد ذكره ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية"، ثم قال: وهذان الإمامان إماما أهل الدين، وهما من نظراء أحمد والبخاري - رحمهم الله تعالى -.
وقال عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب " النقض " على بشر المريسي: قد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله فوق عرشه فوق سماواته. وقال أيضا: إن الله تعالى فوق عرشه، يعلم ويسمع من فوق العرش، لا تخفى عليه خافية من خلقه، ولا يحجبهم عنه شيء. انتهى. وقد نقله الذهبي في كتاب " العلو"، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية".
وذكر ابن القيم أيضا في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية " عن حرب بن إسماعيل الكرماني صاحب أحمد وإسحاق أنه قال: والماء فوق السماء السابعة، والعرش على الماء، والله على العرش. قال ابن القيم: هذا لفظه في مسائله، وحكاه إجماعا لأهل السنة من سائر أهل الأمصار. انتهى.
وقال أبو بكر محمد بن الحسين الأجري في كتاب "الشريعة" باب التحذير من مذاهب الحلولية، ثم ذكر عنهم أنهم يحتجون لمذهبهم بقول الله تعالى في سورة المجادلة: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (3) وبقوله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} (4) إلى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (5) قال: فلبسوا على السامع بما تأولوا، وفسروا القرآن على ما تهوى أنفسهم، فضلوا وأضلوا. قال: والذي يذهب إليه أهل العلم أن الله - عز وجل - على عرشه فوق سماواته، وعلمه محيط بكل شيء، قد أحاط علمه بجميع ما خلق في السماوات العلى، وبجميع ما في سبع أرضين وما بينهما وما تحت الثرى. يسمع ويرى. لا يعزب عن الله مثقال ذرة في السماوات والأرضين وما بينهن إلا وقد أحاط علمه به. فهو على عرشه - سبحانه - العلي الأعلى، يرفع إليه أعمال العباد، وهو أعلم بها من الملائكة الذين يرفعونها بالليل والنهار.
__________
(1) سورة الطلاق الآية 12
(2) سورة الشورى الآية 11
(3) سورة المجادلة الآية 7
(4) سورة الحديد الآية 3
(5) سورة الحديد الآية 4(12/149)
فإن قال قائل: فأي شيء معنى قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} (1) الآية التي يحتجون بها.
__________
(1) سورة المجادلة الآية 7(12/149)
قيل: علمه عز وجل. والله على عرشه، وعلمه محيط بهم وبكل شيء من خلقه. كذا فسره أهل العلم. والآية يدل أولها وآخرها على أنه العلم، قال الله - عز وجل -: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} (1) إلى قوله: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (2) ، فابتدأ عز وجل الآية بالعلم وختمها بالعلم، فعلمه محيط بجميع خلقه، وهو على عرشه، وهذا قول المسلمين.
قال: وفي كتاب الله - عز وجل - آيات تدل على أن الله - عز وجل - في السماء على عرشه محيط بجميع خلقه - وذكر آيات في ذلك وقد ذكرتها فيما تقدم - ثم قال: "باب ذكر السنن التي دلت العقلاء على أن الله - عز وجل - على عرشه فوق سبع سماواته، وعلمه محيط بكل شيء، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وذكر أحاديث كثيرة في ذلك، وقد ذكرتها فيما تقدم، ثم قال: فهذه السنن قد اتفقت معانيها، ويصدق بعضها بعضا، وكلها تدل على ما قلنا أن الله - عز وجل - على عرشه فوق سماواته، وقد أحاط علمه بكل شيء، وأنه سميع بصير خبير. انتهى المقصود من كلامه ملخصا. وقد نقل الذهبي في كتاب "العلو" وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" بعض كلام الآخر مختصرا إلى قوله: وهذا قول المسلمين.
وقال الإمام الزاهد أبو عبد الله بن بطة العابري - شيخ الحنابلة - في كتابه "الإبانة" باب الإيمان بأن الله على عرشه، بائن من خلقه وعلمه، محيط بجميع خلقه، أجمع المسلمون من الصحابة والتابعين أن الله على عرشه فوق سماواته، بائن من خلقه. فأما قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} (3) فهو كما قالت العلماء. علمه. وأما قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} (4) معناه أنه هو الله في السماوات، وهو الله في الأرض إله، وتصديقه في كتاب الله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} (5) ، واحتج الجهمي بقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (6) فقال: إن الله معنا وفينا، وقد فسر العلماء أن ذلك علمه. غ قال تعالى في آخرها: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (7) انتهى.
وقد نقله عنه الذهبي في كتاب "العلو" وقال: ثم إن ابن بطة سرد بأسانيده أقوال من قال: إنه علمه، وهم
__________
(1) سورة المجادلة الآية 7
(2) سورة المجادلة الآية 7
(3) سورة الحديد الآية 4
(4) سورة الأنعام الآية 3
(5) سورة الزخرف الآية 84
(6) سورة المجادلة الآية 7
(7) سورة العنكبوت الآية 62(12/150)
الضحاك والثوري ونعيم بن حماد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
وذكر ابن القيم في كتابه "اجتماع الجيوش الإسلامية" عن أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني أنه ذكر في كتابه المفرد في السنة تقرير العلو، واستواء الرب - تعالى - على عرشه بذاته أتم تقرير فقال: " فصل " فما عليه الأمة من أمور الديانة من السنن التي خلافها بدعة وضلالة، أن الله - سبحانه وتعالى - له الأسماء الحسنى والصفات العلى، لم يزل بجميع صفاته، ثم ذكر جملة من الصفات، ومنها: أنه فوق سماواته على عرشه دون أرضه، وأنه في كل مكان بعلمه، ثم ذكر سائر العقيدة وقال في آخرها: وكل ما قدمنا ذكره فهو قول أهل السنة وأئمة الناس في الفقه والحديث، وكله قول مالك. انتهى المقصود من كلامه.
وذكر ابن القيم أيضا في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عن أبي عبد الله محمد بن أبي زمنين أنه قال في كتابه الذي صنفه في أصول السنة: ومن قول أهل السنة أن الله - عز وجل - خلق العرش، واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق، ثم استوى عليه كيف شاء كما أخبر عن نفسه. قال: ومن قول أهل السنة أن الله بائن من خلقه، محتجب عنهم بالحجب. انتهى. وقد نقله شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في "الفتوى الحموية الكبرى".
وذكر ابن القيم أيضا في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عن إمام الشافعية في وقته سعد بن علي الزنجاني أنه قال: أجمع المسلمون على أن الله هو العلي الأعلى، وأن لله علو الغلبة والعلو الأعلى من سائر وجوه العلو، فثبت بذلك أن لله علو الذات، وعلو الصفات، وعلو القهر والغلبة. انتهى.
وذكر ابن القيم أيضا في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عن إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي أنه قال في كتاب "الحجة": قال علماء السنة: إن الله - عز وجل - على عرشه بائن من خلقه، وقال أيضا: أجمع المسلمون أن الله سبحانه العلي الأعلى. قال: فنثبت أن لله تعالى علو الذات، وعلو الصفات، وعلو القهر والغلبة. انتهى.
وقال أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني في كتاب "الإبانة" ما ملخصه: فإن قيل: فهل تقولون: إنه في كل مكان؟ قيل: معاذ الله. بل هو مستو على عرشه كما أخبر في كتابه(12/151)
فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (2) وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} (3) ، قال: ولو كان في كل مكان، لكان يصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض، وإلى خلفنا ويميننا وشمالنا، وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله. انتهى.
وقد نقله شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في "الفتوى الحموية الكبرى"، ونقله الذهبي في كتاب "العلو"، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" وأقروه.
__________
(1) سورة طه الآية 5
(2) سورة فاطر الآية 10
(3) سورة الملك الآية 16(12/152)
وقال الحافظ الكبير أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني مصنف "حلية الأولياء في كتاب الاعتقاد" له: طريقتنا طريقة السلف المتبعين للكتاب والسنة، وإجماع الأمة. ومما اعتقدوه أن الأحاديث التي ثبتت في العرش، واستواء الله عليه، يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل، وأن الله بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم، وهو مستو على عرشه في سمائه من دون أرضه. انتهى.
وقد نقله شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى، والذهبي في كتاب "العلو" ثم قال: فقد نقل هذا الإمام الإجماع على هذا القول ولله الحمد.
ونقل ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" قوله: طريقنا طريق السلف المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة، قال: وساق ذكر اعتقادهم، ثم قال: ومما اعتقدوه أن الله في سمائه دون أرضه. انتهى.
وقال أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن النيسابوري الصابوني في رسالته في السنة: ويعتقد أصحاب الحديث ويشهدون أن الله فوق سبع سماواته على عرشه كما نطق به كتابه، وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف لم يختلفوا أن الله على عرشه، وعرشه فوق سماواته. انتهى، وقد نقله شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى، والذهبي في كتاب "العلو"، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية " وأقروه.
وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب "التمهيد" لما تكلم على حديث النزول في صفحة 128 وما بعدها من الجزء السابع، قال: هذا حديث ثابت من جهة النقل، صحيح الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحته. وفيه دليل على أن الله - عز وجل - في السماء على العرش من فوق سبع سماوات كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم: إن الله - عز وجل - في كل مكان، وليس على العرش، إلى أن قال: ومن الحجة في أنه(12/152)
عز وجل على العرش فوق السماوات السبع، أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمر أو نزلت بهم شدة؛ رفعوا وجوههم إلى السماء يستغيثون ربهم - تبارك وتعالى -، وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم.
قال: وأما احتجاجهم بقوله عز وجل: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (1) فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية؛ لأن علماء الصحابة والتابعين الذين حملت عنهم التآويل في القرآن قالوا في تأويل هذه الآية: هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله.
ذكر سنيد عن مقاتل بن حيان عن الضحاك بن مزاحم في قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (2) الآية. قال: هو على عرشه، وعلمه معهم أين ما كانوا، قال: وبلغني عن سفيان الثوري مثله. انتهى.
وقد نقل شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله تعالى - جملة من كلامه، وتقدم ذكرها، وكذلك الذهبي فإنه نقل بعض كلام ابن عبد البر في كتاب " العلو"، ونقله أيضا ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية"، وأقره كل منهم.
وفيما ذكره ابن عبد البر من الموحدين أنهم إذا كربهم أمر أو نزلت بهم شدة؛ رفعوا وجوههم إلى السماء يستغيثون ربهم، أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية، ولو كان الأمر على ما زعمه القائل على الله بغير علم، لكان الرب مع أهل الأرض بذاته، فلا يضطرون إلى رفع رءوسهم إلى السماء عند الكرب ونزول الشدائد، بل يوجهون وجوههم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم.
وهذا معلوم البطلان بالضرورة عند كل مؤمن يعلم أن الله تعالى فوق جميع المخلوقات، وأنه مستو على عرشه، بائن من خلقه.
ومن أبلغ الرد أيضا على من زعم أن معية لله لخلقه معية ذاتية، ما ذكر ابن عبد البر عن علماء الصحابة والتابعين أنهم قالوا في تأويل قول الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (3) قالوا: هو على العرش، وعلمه في كل مكان. قال: وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله.
وقال الشيخ الموفق أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي في كتابه "لمعة الاعتقاد" بعد أن ذكر قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (4) وقوله:
__________
(1) سورة المجادلة الآية 7
(2) سورة المجادلة الآية 7
(3) سورة المجادلة الآية 7
(4) سورة طه الآية 5(12/153)
{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (1) وقول النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: «أين الله؟ قالت: في السماء. قال: أعتقها فإنها مؤمنة (2) » ، وقوله: «ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك،» وقوله لحصين بن عبيد والد عمران بن حصين: «كم إلها تعبد؟ قال: سبعة. ستة في الأرض وواحد في السماء، قال: من لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء. قال: فاترك الستة واعبد الذي في السماء، وأنا أعلمك دعوتين» الحديث، وذكر أيضا حديث الأوعال، وفي آخره: وفوق ذلك العرش، والله سبحانه فوق ذلك، ثم قال: فهذا وما أشبهه مما أجمع السلف - رحمهم الله - على نقله وقبوله، ولم يتعرضوا لرده، ولا تأويله، ولا تشبيهه، ولا تمثيله. انتهى.
وقال الموفق أيضا في كتاب "إثبات صفة العلو": أما بعد، فإن الله تعالى وصف نفسه بالعلو في السماء، ووصفه بذلك رسوله خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وأجمع على ذلك جميع العلماء من الصحابة الأتقياء، والأئمة من الفقهاء، وتواترت الأخبار في ذلك على وجه حصل به اليقين، وجمع الله - عز وجل - عليه قلوب المسلمين، وجعله مغروزا في طبائع الخلق أجمعين، فتراهم عند نزول الكرب يلحظون السماء بأعينهم، ويرفعون عندها للدعاء أيديهم، وينتظرون مجيء الفرج من ربهم سبحانه، وينطقون بذلك بألسنتهم.
لا ينكر ذلك إلا مبتدع غال في بدعته، أو مفتون بتقليده واتباعه على ضلالته. انتهى، وقد نقله ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية"، وفيه أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
__________
(1) سورة الملك الآية 16
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (537) ، سنن النسائي السهو (1218) ، سنن أبو داود الصلاة (930) ، مسند أحمد بن حنبل (5/447) ، سنن الدارمي الصلاة (1502) .(12/154)
فصل
في ذكر الأقوال المأثورة عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من أكابر العلماء في إثبات العلو لله تعالى، وفى ضمنها الرد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
قال الإمام الحافظ أبو القاسم اللالكائي- واسمه هبة الله بن الحسن الطبري الشافعي، مصنف كتاب "شرح اعتقاد أهل السنة " وهو مجلد ضخم-: سياق ما روي في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) وأن الله على عرشه قال الله عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (2) وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (3) وقال: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (4) فدلت هذه الآيات أنه في السماء، وعلمه بكل مكان.
روي ذلك عن عمرو بن مسعود وابن عباس
__________
(1) سورة طه الآية 5
(2) سورة فاطر الآية 10
(3) سورة الملك الآية 16
(4) سورة الأنعام الآية 18(12/154)
وأم سلمة رضي الله عنهم، ومن التابعين: ربيعة وسليمان التيمي ومقاتل بن حيان، وبه قال مالك والثوري وأحمد. انتهى، وقد نقله الذهبي في كتاب "العلو"، ونقل ابن القيم بعضه في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية".
وقال الحافظ الحجة أبو نصر عبيد الله بن سعيد الوائلي السجزي في كتاب "الإنابة" الذي ألفه في السنة: أئمتنا كسفيان الثوري، ومالك، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وسفيان بن عيينة، والفضيل، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، متفقون على أن الله سبحانه فوق العرش بذاته، وأن علمه بكل مكان. انتهى.
وقد نقله شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في "القاعدة المراكشية" ثم قال: وكذلك ذكر شيخ الإسلام الأنصاري، وأبو العباس الطرقي (1) والشيخ عبد القادر الجيلي، ومن لا يحصي عدده إلا الله من أئمة الإسلام وشيوخه. انتهى.
وقال الذهبي في كتاب "العلو" بعد ما نقل كلام السجزي: هذا الذي نقله عنهم مشهور محفوظ سوى كلمة "بذاته" فإنها من كيسه، نسبها إليهم بالمعنى؛ ليفرق بين العرش وبين ماعداه من الأمكنة. انتهى.
قلت: قد تقدم ما حكاه أبو عمرو الطلمنكي من الإجماع على أن الله - تبارك وتعالى - فوق السماوات بذاته، مستو على عرشه كيف شاء. وقد نقله شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في "شرح حديث النزول "، وأقره على ذكر الذات. ونقله الذهبي في كتاب "العلو" قبل كلام السجزي بصحفتين، وأقره على ذكر الذات، فلا وجه إذا لاعتراضه على السجزي.
وقد ذكر هذه الكلمة عدد كثير من كبار العلماء، كما ذكر ذلك الذهبي في كتاب "العلو" بعد ذكره لكلام ابن أبي زيد المالكي، وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
وذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية عن علماء المالكية أنهم حكوا إجماع أهل السنة والجماعة على أن الله بذاته فوق عرشه، وفي هذا مع ما تقدم رد على اعتراض الذهبي على السجزي، وقد بين الذهبي مراد العلماء من ذكر هذه الكلمة، وهو التفريق بين كونه تعالى على العرش، وكونه معنا بالعلم، وعلى هذا فليس ذكر الذات من فضول الكلام، كما سيأتي في كلام الذهبي، الذي تعقب به كلام ابن أبي زيد القيرواني، وإنما هو من الإيضاح والتفريق بين علو الله فوق العرش بذاته، وبين معيته بالعلم مع الخلق.
__________
(1) الطرقي: بفتح الطاء، وسكون الراء المهملة، وبعدها قاف.(12/155)
قول كعب الأحبار
روى أبو صفوان الأموي بإسناده إلى كعب الأحبار قال: قال الله - عز وجل - في التوراة: «أنا الله فوق عبادي، وعرشي فوق جميع خلقي، وأنا على عرشي أدبر أمور عبادي، ولا يخفى علي شيء في السماء ولا في الأرض» . وقد ذكره الذهبي في كتاب "العلو"، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية"، وقال الذهبي: رواته ثقات. وقال: ابن القيم رواه أبو الشيخ وابن بطة وغيرهما بإسناد صحيح عن كعب.
وروى أبو الشيخ في كتاب "العظمة" بإسناده إلى كعب الأحبار قال: إن الله - عز وجل - خلق سبع سماوات، ومن الأرض مثلهن، ثم جعل بين كل سماءين كما بين السماء الدنيا والأرض، وجعل كثفها مثل ذلك، ثم رفع العرش فاستوى عليه. وقد ذكره الذهبي في كتاب "العلو" وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية"، وقال الذهبي: الإسناد نظيف.
قول مسروق بن الأجدع
روى علي بن الأقمر عن مسروق قال: حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله، المبرأة من فوق سبع سماوات. ذكره الذهبي في كتاب "العلو"، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية"، وقال الذهبي: إسناده صحيح. وصححه أيضا ابن القيم.
قول قتادة بن دعامة
روى عثمان بن سعيد الدارمي عنه أنه قال: قالت بنو إسرائيل: يا رب أنت في السماء ونحن في الأرض، فكيف لنا أن نعرف رضاك وغضبك؟ قال: إذا رضيت عنكم استعملت عليكم خياركم، وإذا غضبت عليكم استعملت عليكم شراركم.
وقد ذكره الذهبي في كتاب "العلو"، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية"، وقال الذهبي: هذا ثابت عن قتادة أحد الحفاظ، وروى ابن جرير في تفسيره عن قتادة في قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} (1) قال: يعبد في السماء، ويعبد في الأرض. وقد ذكره البخاري في كتاب "خلق أفعال العباد بدون إسناد"، ورواه البيهقي في كتاب "الأسماء والصفات "، ثم قال: وفي معنى هذه الآية قول الله - عز وجل -: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} (2) .
__________
(1) سورة الزخرف الآية 84
(2) سورة الأنعام الآية 3(12/156)
قول الضحاك بن مزاحم
روى عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "السنة"، وأبو داود في كتاب " المسائل " بإسناد حسن عن الضحاك في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} (1) قال: هو على العرش وعلمه معهم. وقد رواه ابن جرير في تفسيره، ولفظه قال: هو فوق العرش، وعلمه معهم أين ما كانوا. ورواه الآجري في كتاب "الشريعة"، والبيهيقي في كتاب "الأسماء والصفات"، والقاضي أبو الحسين في "طبقات الحنابلة "، وقال بعد إيراده: قال أبو عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - هذه السنة.
وذكره ابن عبد البر في التمهيد فقال: ذكر سنيد عن مقاتل بن حيان عن الضحاك بن مزاحم في قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (2) الآية. قال: هو على عرشه، وعلمه معهم أين ما كانوا، قال: وبلغني عن سفيان الثوري مثله. وقد ذكره الذهبي في كتاب "العلو"، قال: وفي لفظ "هو فوق العرش، وعلمه معهم أين ما كانوا "، أخرجه أبو أحمد العسال، وأبو عبد الله بن بطة، وأبو عمر بن عبد البر بإسناد جيد.
قول مقاتل بن حيان
ذكر ابن أبي حاتم في تفسيره عن مقاتل أنه قال في قوله الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} (3) قال: هو على العرش، وهو معهم بعلمه. وقد ذكره ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" نقلا عن ابن أبي حاتم.
وروى البيهقي في كتاب "الأسماء والصفات " بإسناده إلى مقاتل بن حيان قال: بلغنا - والله أعلم - في قول الله - عز وجل -: {هُوَ الْأَوَّلُ} (4) قبل كل شيء، {وَالْآخِرُ} (5) بعد كل شيء، {وَالظَّاهِرُ} (6) فوق كل شيء، {وَالْبَاطِنُ} (7) أقرب من كل شيء. وإنما يعني بالقرب بعلمه وقدرته وهو فوق عرشه {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (8) ، ثم ذكر كلامه على الآية التي بعدها إلى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (9) يعني قدرته وسلطانه وعلمه معكم أين ما كنتم {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (10) وبالإسناد عن مقاتل بن
__________
(1) سورة المجادلة الآية 7
(2) سورة المجادلة الآية 7
(3) سورة الحديد الآية 4
(4) سورة الحديد الآية 3
(5) سورة الحديد الآية 3
(6) سورة الحديد الآية 3
(7) سورة الحديد الآية 3
(8) سورة الحديد الآية 3
(9) سورة الحديد الآية 4
(10) سورة الحديد الآية 4(12/157)
حيان قال: قوله: {إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} (1) يقول: علمه وذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (2) فيعلم نجواهم، ويسمع كلامهم، ثم ينبئهم يوم القيامة بكل شيء، هو فوق عرشه، وعلمه معهم. وقد نقل الذهبي في كتاب "العلو" بعض ما رواه البيهقي عن مقاتل بن حيان، ثم قال مقاتل: هذا ثقة إمام معاصر للأوزاعي ما هو بابن سليمان، ذاك مبتدع ليس بثقة.
قول مالك بن دينار
روى أبو نعيم في "الحلية" عنه أنه كان يقول: خذوا، فيقرأ ثم يقول: اسمعوا إلى قول الصادق من فوق عرشه. قال الذهبي في كتاب "العلو" وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية": إسناده صحيح.
قول الإمام أبي عمرو الأوزاعي
قد تقدم ما رواه البيهقي عنه أنه قال: كنا والتابعون متوافرون، نقول: إن الله - تعالى ذكره - فوق عرشه، ونؤمن بما وردت السنة به من صفاته جل وعلا. وقال الذهبي في كتاب "العلو": روى أبو إسحاق الثعلبي قال: سئل الأوزاعي عن قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (3) قال: هو على عرشه كما وصف نفسه.
قول الإمام أبي حنيفة
روى البيهقي في كتاب "الأسماء والصفات" بإسناده إلى نعيم بن حماد، قال: سمعت نوح بن أبي مريم أبا عصمة يقول: كنا عند أبي حنيفة أول ما ظهر؛ إذ جاءته امرأة من ترمقا، كانت تجالس جهما، فدخلت الكوفة، فأظنني أقل ما رأيته عليها عشرة آلاف من الناس، تدعو إلى رأيها، فقيل لها: إن هاهنا رجلا قد نظر في المعقول، يقال له: أبو حنيفة، فأتته فقالت: أنت الذي تعلم الناس المسائل وقد تركت دينك، أين إلهك الذي تعبده؟ فسكت عنها، ثم مكث سبعة أيام لا يجيبها، ثم خرج إليها وقد وضع كتابا: الله تبارك وتعالى في السماء دون الأرض. فقال له رجل: أرأيت قول الله - عز وجل -: {وَهُوَ مَعَكُمْ} (4) ؟ قال: هو كما تكتب إلى الرجل إني معك وأنت غائب عنه.
قال البيهقي: لقد أصاب أبو حنيفة رضي الله عنه فيما نفى عن الله - عز وجل -، ومن الكون في الأرض، وفيما ذكر من تأويل
__________
(1) سورة المجادلة الآية 7
(2) سورة المجادلة الآية 7
(3) سورة الأعراف الآية 54
(4) سورة الحديد الآية 4(12/158)
الآية، وتبع مطلق السمع في قوله: إن الله - عز وجل - في السماء. وقد رواه الذهبي في كتاب "العلو" عن طريق البيهقي.
وقال أبو مطيع البلخي في كتاب "الفقه الأكبر" المشهور: سألت أبا حنيفة عمن يقول: لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض. قال: قد كفر؛ لأن الله - عز وجل - يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) وعرشه فوق سبع سماواته. فقلت: إنه يقول: على العرش استوى، ولكن لا يدري العرش في السماء أو في الأرض، فقال: إذا أنكر أنه في السماء كفر؛ لأنه تعالى في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل. انتهى.
وقد نقله شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في "القاعدة المراكشية"، والحافظ الذهبي في كتاب "العلو"، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية".
__________
(1) سورة طه الآية 5(12/159)
قول سفيان الثوري
روى عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "السنة" عن معدان الذي قال فيه ابن المبارك: إن كان بخراسان أحد من الأبدال فمعدان. قال: سألت سفيان الثوري عن قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) قال: علمه.
وقد ذكره البخاري في كتاب "خلق أفعال العباد"، ورواه أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" إلا أنه قال في الإسناد عن خالد بن معدان: وهذا وهم؛ لأن خالد بن معدان من الطبقة الثالثة، وسفيان الثوري من الطبقة السابعة، فلا يصح أن يقال: إن خالد بن معدان روى عن سفيان الثوري الذي هو أنزل منه بأربع طبقات، ولعل هذا الوهم وقع من بعض النساخ، والله أعلم. ورواه البيهقي في كتاب "الأسماء والصفات " بمثله.
قول الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة
روى أبو داود في كتاب "المسائل " وأبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" من طريق أبي داود، ومن طريق الفضل بن زياد، كلاهما عن الإمام أحمد بن حنبل قال: حدثني سريج بن النعمان قال: حدثنا عبد الله بن نافع قال: قال مالك بن أنس: الله - عز وجل - في السماء، علمه في كل مكان، لا يخلو من علمه مكان.
وقد رواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "السنة" عن أبيه، وزاد بعد قوله وعلمه في كل مكان لا يخلو منه شيء، وتلا هذه الآية: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} (2) وذكر
__________
(1) سورة الحديد الآية 4
(2) سورة المجادلة الآية 7(12/159)
شيخ الإسلام ابن تيمية في "القاعدة المراكشية" أن المالكية وغير المالكية نقلوا عن مالك أنه قال: في السماء، وعلمه في كل مكان، حتى ذكر ذلك مكي خطيب قرطبة في كتاب "التفسير" الذي جمعه من كلام مالك، ونقله أبو عمرو الطلمنكي، وأبو عمر بن عبد البر، وابن أبي زيد في المختصر، وغير واحد. ونقله أيضا عن مالك غير هؤلاء ممن لا يحصى عددهم، مثل أحمد بن حنبل، وابنه عبد الله، والأثرم، والخلال، والآجري، وابن بطة، وطوائف غير هؤلاء من المصنفين في السنة- إلى أن قال- وكلام أئمة المالكية، وقد مائهم في الإثبات كثير مشهور، حتى علماءهم حكوا إجماع أهل السنة والجماعة على أن الله بذاته فوق عرشه. انتهى.
قول أصبغ صاحب مالك
ذكر ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عنه أنه قال: إن الله مستو على عرشه، وبكل مكان علمه وإحاطته. قال ابن القيم: وأصبغ من أجل أصحاب مالك وأفقههم.
قول عبد الله بن المبارك
روى عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "السنة"، والبيهقي في كتاب " الأسماء والصفات " عن علي بن الحسن بن شقيق قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: نعرف ربنا فوق سبع سماوات على العرش استوى، بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية: إنه هاهنا- وأشار إلى الأرض-، وقد نقله شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في "الفتوى الحموية الكبرى" فقال: روى عبد الله بن أحمد وغيره بأسانيد صحاح عن ابن المبارك فذكره بنحوه، ثم قال: وهكذا قال الإمام أحمد وغيره.
وذكره شيخ الإسلام أيضا في موضع آخر من الفتاوى، ثم قال: هذا مشهور عن ابن المبارك، ثابت عنه من غير وجه، وهو أيضا صحيح ثابت عن أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه وغير واحد من الأئمة. انتهى. ونقله الذهبي في كتاب "العلو" وقال بعده: فقيل: هذا لأحمد بن حنبل. فقال: هكذا هو عندنا.
ورواه الذهبي بإسناده إلى علي بن الحسن قال: سألت ابن المبارك كيف ينبغي لنا أن نعرف ربنا عز وجل؟ قال: على السماء السابعة، على عرشه، ولا نقول كما تقول الجهمية: إنه هاهنا في الأرض.
وذكر القاضي أبو الحسين في "طبقات الحنابلة " ما رواه(12/160)
الأثرم عن محمد بن إبراهيم القيسي، قال: قلت لأحمد بن حنبل: يحكى عن ابن المبارك أنه قيل له: كيف نعرف ربنا عز وجل؟ قال: في السماء السابعة، على عرشه. فقال أحمد: هكذا هو عندنا. وقال البخاري في كتاب "خلق أفعال العباد": وقال ابن المبارك: لا نقول كما قالت الجهمية: إنه في الأرض هاهنا، بل على العرش استوى. وقيل له: كيف نعرف ربنا؟ قال: فوق سماواته على عرشه.
قول أبي عصمة نوح بن أبي مريم
قال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "السنة" حدثني أحمد بن سعيد الدارمي، «سمعت أبا عصمة وسأله رجل عن الله في السماء هو؟ فحدث بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حين سأل الأمة أين الله؟ قالت: في السماء. قال: فمن أنا؟ قالت: رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة (1) » ، قال: سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنة؛ أن عرفت أن الله في السماء.
قول علي بن عاصم محدث واسط، وشيخ الإمام أحمد
ذكر ابن أبي حاتم في كتاب "الرد على الجهمية " عن يحيى بن علي بن عاصم قال:
كنت عند أبي فاستأذن عليه المريسي، فقلت له: يا أبت مثل هذا يدخل عليك؟ فقال: وما له؟ قلت: إنه يقول: إن القرآن مخلوق. ويزعم أن الله معه في الأرض- وكلاما ذكرته-، فما رأيته اشتد عليه مثل ما اشتد عليه قوله: إن القرآن مخلوق. وقوله: إن الله معه في الأرض. وقد نقله الذهبي في كتاب "العلو"، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية ".
قول سعيد بن عامر الضبعي عالم البصرة
قال البخاري في كتاب "خلق أفعال العباد": وقال سعيد بن عامر: الجهمية أشر قولا من اليهود والنصارى، فقد اجتمعت اليهود والنصارى وأهل الأديان أن الله - تبارك وتعالى - على العرش، وقالوا هم: ليس على العرش شيء.
وقال الذهبي في كتاب "العلو": قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثت عن سعيد بن عامر الضبعي أنه ذكر الجهمية فقال: هم شر قولا من اليهود والنصارى. قد أجمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله - عز وجل - على العرش، وقالوا هم: ليس على العرش
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (537) ، سنن النسائي السهو (1218) ، سنن أبو داود الصلاة (930) ، مسند أحمد بن حنبل (5/447) ، سنن الدارمي الصلاة (1502) .(12/161)
شيء. وقد ذكره ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" نقلا عن كتاب "السنة" لابن أبي حاتم.(12/162)
قول يزيد بن هارون
قال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "السنة": حدثني عباس العنبري، حدثنا شاذ بن يحيى، سمعت يزيد بن هارون، وقيل له: من الجهمية؟ قال: من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما في قلوب العامة فهو جهمي.
وقد ذكره البخاري في كتاب "خلق أفعال العباد"، قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: والذي يقر في قلوب العامة هو ما فطر الله تعالى عليه الخليقة من توجهها إلى ربها تعالى عند النوازل والشدائد، والدعاء والرغبات إليه تعالى، نحو العلو لا تلتفت يمنة ولا يسرة من غير موقف وقفهم عليه، ولكن فطرة الله التي فطر الناس عليها، وما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة، حتى يجهمه وينقله إلى التعطيل من يقيض له. انتهى. وقد نقله عنه ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية".
قول عبد الله بن مسلمة القعنبي شيخ البخاري ومسلم
ذكر الذهبي في كتاب "العلو" وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عنه أنه قال: من لا يوقن أن الرحمن على العرش استوى كما يقر في قلوب العامة فهو جهمي، وقد تقدم عن يزيد بن هارون مثله.
قول عبد الله بن أبي جعفر الرازي
قال الذهبي في كتاب "العلو": قال محمد بن يحيى الذهلي: أخبرني صالح بن الضريس قال: جعل عبد الله يضرب رأس قرابة له يرى رأي جهم، فرأيته يضرب بالنعل على رأسه ويقول: لا حتى تقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) بائن من خلقه. وقد ذكره ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" نقلا عن كتاب "الرد على الجهمية " لابن أبي حاتم.
__________
(1) سورة طه الآية 5(12/162)
قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي
قال الذهبي في كتاب "العلو": روى شيخ الإسلام أبو الحسن الهكاري والحافظ أبو محمد المقدسي بإسنادهم إلى أبي ثور وأبي شعيب، كلاهما عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي قال: القول في السنة التي أنا عليها، ورأيت عليها الذين رأيتهم مثل سفيان ومالك وغيرهما، إقرار بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن الله على عرشه في سمائه، يقرب من خلقه كيف شاء، وينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء. وذكر سائر الاعتقاد.
وقد ذكره ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" من رواية عبد الرحمن بن أبي حاتم عن أبي شعيب وأبي ثور عن الشافعي - رحمه الله تعالى -. وذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في "الفتوى الحموية الكبرى" عن الشافعي أنه قال: خلافة أبي بكر الصديق حق قضاه الله في السماء، وجمع عليه قلوب عباده. انتهى.
قول عبد العزيز بن يحيى الكناني المكي
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في الفتاوى: ومن أصحاب الشافعي عبد العزيز بن يحيى الكناني المكي له كتاب "الرد على الجهمية "، وقرر فيه مسألة العلو، وأن الله تعالى فوق عرشه، والأئمة في الحديث والفقه والسنة والتصوف المائلون إلى الشافعي ما من أحد منهم إلا له كلام فيما يتعلق بهذا الباب، ما هو معروف يطول ذكره. انتهى.
قول هشام بن عبيد الله الرازي عالم الري
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في "الفتوى الحموية الكبرى": روى ابن أبي حاتم أن هشام بن عبيد الله الرازي صاحب محمد بن الحسن - قاضي الري - حبس رجلا في التهجم، فتاب فجيء به إلى هشام؛ ليطلقه فقال: الحمد لله على التوبة، فامتحنه هشام فقال: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟ فقال: أشهد أن الله على عرشه، ولا أدري ما بائن من خلقه. فقال: ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب. وقد ذكره الذهبي في كتاب "لعلو" بنحوه.(12/163)
قول محمد بن مصعب العابد
روى عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "السنة" عنه أنه قال: من زعم أنك لا تتكلم ولا ترى في الآخرة، فهو كافر بوجهك، أشهد أنك فوق العرش فوق سبع سماوات، ليس كما يقول أعداء الله الزنادقة.
قول سنيد بن داود المصيصي الحافظ
قال الذهبي في كتاب "العلو" وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية": قال أبو حاتم الرازي: حدثنا أبو عمران الطرسوسي قال: قلت لسنيد بن داود: هو عز وجل على عرشه، بائن من خلقه؟ قال: نعم.
قول عبد الله بن الزبير الحميدي شيخ البخاري
ذكر الذهبي في كتاب "العلو"، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عنه أنه قال: نقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) ومن زعم غير هذا فهو مبطل جهمي.
قول نعيم بن حماد الخزاعي الحافظ
ذكر الذهبي في كتاب "العلو" وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عنه أنه قال في قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} (2) قال: معناه إنه لا يخفى عليه خافية، بعلمه. ألا ترى إلى قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (3) الآية. أراد أنه لا تخفى عليه خافية.
قول بشر بن الوليد وأبي يوسف
قال ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية": روى ابن أبي حاتم قال: جاء بشر بن الوليد إلى أبي يوسف فقال له: تنهاني عن كلام بشر المريسي، وعلي الأحول، وفلان يتكلمون. فقال: وما يقولون؟ قال: يقولون: إن الله في كل مكان. فبعث أبو يوسف وقال: علي بهم. فانتهوا إليهم وقد قام بشر فجيء بعلي الأحول، والشيخ الآخر، فنظر أبو يوسف إلى الشيخ وقال: لو أن فيك موضع أدب لأوجعتك، وأمر به إلى الحبس، فضرب علي الأحول وطيف به.
وقد استتاب أبو يوسف بشر المريسي لما أنكر أن الله فوق عرشه، وهي
__________
(1) سورة طه الآية 5
(2) سورة الحديد الآية 4
(3) سورة المجادلة الآية 7(12/164)
قصة مشهورة ذكرها عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره، وأصحاب أبي حنيفة المتقدمون على هذا. وقد ذكر الطحاوي في اعتقاد أبي حنيفة وصاحبيه ما يوافق هذا، وأنهم من أبر الناس من التعطيل والتجهم. انتهى باختصار.
قول بشر الحافي الزاهد
قال الذهبي في كتاب "العلو": له عقيدة رواها ابن بطة في كتاب "الإبانة" وغيره، فمما فيها: والإيمان بأن الله على عرشه استوى كما شاء، وأنه عالم بكل مكان.
قول أحمد بن نصر الخزاعي
قال الذهبي في كتاب "العلو": قال إبراهيم الحربي فيما صح عنه: قال أحمد بن نصر، وسئل عن علم الله فقال: علم الله معنا، وهو على عرشه.
قول قتيبة بن سعيد
قد ذكرت عنه فيما تقدم أنه قال: نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه. وقد نقل إجماع أهل السنة والجماعة على ذلك، فليراجع.
قول علي ابن المديني
قد ذكرت عنه فيما تقدم أنه نقل الإجماع على أن الله - عز وجل - فوق السماوات على عرشه استوى، فسئل عن قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (1) فقال: اقرأ ما قبله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} (2)
قول خالد بن سليمان أبي معاذ البلخي
قال ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية": روى ابن أبي حاتم عنه بإسناده أنه قال: إن الله في السماء على العرش كما وصف نفسه.
__________
(1) سورة المجادلة الآية 7
(2) سورة المجادلة الآية 7(12/165)
قول الإمام أحمد بن محمد بن حنبل
قد تقدم في أول حكاية الإجماع على خلاف ما زعمه المردود عليه ما جاء في العقيدة(12/165)
التي رواها أبو العباس الإصطخري عن الإمام أحمد في إثبات علو الله تعالى على العرش فوق السماء السابعة، وأنه بائن من خلقه، وأنه مع الخلق بعلمه، لا يخلو من علمه مكان. فليراجع كلامه فإنه مهم جدا.
وتقدم أيضا عن عبد الله بن المبارك أنه قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، ولا نقول كما تقول الجهمية: إنه هاهنا في الأرض. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية: وهكذا قال الإمام أحمد وغيره. وقال الذهبي: قيل: هذا لأحمد بن حنبل. فقال: هكذا هو عندنا.
وروى القاضي أبو الحسين في "طبقات الحنابلة " عن يوسف بن موسى القطان قال: قيل لأبي عبد الله: والله تعالى فوق السماء السابعة على عرشه، بائن من خلقه، وقدرته وعلمه بكل مكان؟ قال: نعم على عرشه، ولا يخلو شيء من علمه. وذكر الذهبي في كتاب "العلو" عن أبي طالب أحمد بن حميد قال: سألت أحمد بن حنبل عن رجل قال: الله معنا، وتلا: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (1) فقال: قد تجهم هذا؛ يأخذون بآخر الآية ويدعون أولها. هلا قرأت عليه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} (2) فعلمه معهم، وقال في سورة (ق) : {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (3) ، فعلمه معهم. قلت: ما زعمه القائل بأن معية الله لخلقه معية ذاتية مطابق لقول الرجل الذي قال فيه الإمام أحمد: أنه قد تجهم.
وقال المروذي: قلت لأبي عبد الله: إن رجلا قال: أقول كما قال الله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (4) أقول هذا ولا أجاوزه إلى غيره. فقال أبو عبد الله: هذا كلام الجهمية. بل علمه معهم، فأول الآية يدل على أنه علمه. رواه ابن بطة في كتاب (الإبانة) عن عمر بن محمد بن رجاء عن محمد بن رجاء عن محمد بن داود عن المروذي.
قلت: ليتأمل المبتلى بمخالفة أهل السنة والجماعة كلام الإمام أحمد حق التأمل؛ حتى يعرف من كان يقول بالمعية الذاتية من أهل البدع والضلال، وأنهم شر أهل البدع.
وقال حنبل بن إسحاق في كتاب (السنة) : قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: ما معنى قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (5) و {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (6) إلى قوله: {إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (7) ؟ قال: علمه. عالم الغيب والشهادة، محيط بكل
__________
(1) سورة المجادلة الآية 7
(2) سورة المجادلة الآية 7
(3) سورة ق الآية 16
(4) سورة المجادلة الآية 7
(5) سورة الحديد الآية 4
(6) سورة المجادلة الآية 7
(7) سورة المجادلة الآية 7(12/166)
شيء، شاهد علام الغيوب، يعلم ربنا على العرش بلا حد ولا صفة وسع كرسيه السماوات والأرض. انتهى. وقد نقله شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في (شرح حديث النزول) .
وقال الشريك أبو علي محمد بن أحمد بن أبي موسى في عقيدة له ذكرها القاضي أبو الحسين "في طبقات الحنابلة ": سئل الإمام أحمد بن محمد بن حنبل عن قوله - عز وجل -: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (1) فقال: علمه.
وذكر الإمام أحمد بن حنبل في كتاب "الرد على الجهمية " أنهم قالوا: إن الله تحت الأرض السابعة كما هو على العرش، فهو على العرش، وفي السماوات، وفي الأرض، ولا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، وتلوا آية من القرآن: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} (2) فقلنا: قد عرف المسلمون أماكن كثيرة ليس فيها من عظمة الرب شيء، أجسامكم وأجوافكم، وأجواف الخنازير والوحوش، والأماكن القذرة ليس فيها من عظمة الرب شيء. وقد أخبرنا أنه في السماء، ثم ذكر أحمد الأدلة من القرآن على أن الله تعالى في السماء، وقال بعد ذلك: وإنما معنى قول الله - جل ثناؤه -: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} (3) يقول: هو إله من في السماوات، وإله من في الأرض، وهو على العرش، وقد أحاط علمه بما دون العرش، ولا يخلو من علم الله مكان، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان، فذلك قوله: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (4) .
وقال الإمام أحمد أيضا: "بيان ما تأولت الجهمية من قول الله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} (5) قالوا: إن الله معنا وفينا. فقلنا: الله - جل ثناؤه - يقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} (6) ، ثم قال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (7) يعني الله بعلمه، {وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} (8) يعني الله بعلمه، {وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} (9) يعني بعلمه فيهم، {أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (10)
__________
(1) سورة المجادلة الآية 7
(2) سورة الأنعام الآية 3
(3) سورة الأنعام الآية 3
(4) سورة الطلاق الآية 12
(5) سورة المجادلة الآية 7
(6) سورة المجادلة الآية 7
(7) سورة المجادلة الآية 7
(8) سورة المجادلة الآية 7
(9) سورة المجادلة الآية 7
(10) سورة المجادلة الآية 7(12/167)
يفتح الخبر بعلمه، ويختم الخبر بعلمه.
وقال الإمام أحمد أيضا: بيان ما ذكر الله في القرآن {وَهُوَ مَعَكُمْ} (1) وهذا على وجوه، قال الله - جل ثناؤه - لموسى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا} (2) ، يقول: في الدفع عنكما. وقال: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (3) يقول: في الدفع عنا. وقال: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (4) ، يقول: في النصر لهم على عدوهم. وقال: {فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} (5) ، في النصر لكم على عدوكم. وقال: {وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} (6) ، يقول: بعلمه فيهم. وقال: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} (7) {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (8) ، يقول: في العون على فرعون. ثم ذكر الإمام أحمد بعد هذا التفصيل أن الحجة ظهرت على الجهمي بما ادعى على الله أنه مع خلقه. انتهى.
__________
(1) سورة الحديد الآية 4
(2) سورة طه الآية 46
(3) سورة التوبة الآية 40
(4) سورة البقرة الآية 249
(5) سورة محمد الآية 35
(6) سورة النساء الآية 108
(7) سورة الشعراء الآية 61
(8) سورة الشعراء الآية 62(12/168)
قول إسحاق بن راهوية
قد ذكرت عنه فيما تقدم أنه نقل الإجماع على أن الله فوق العرش استوى، ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة.
قول المزني صاحب الشافعي
ذكر الذهبي في كتاب "العلو" وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عنه أنه قال: الحمد لله الواحد الصمد، ليس له صاحبة ولا ولد، عال على عرشه، دان بعلمه(12/168)
من خلقه، وقال أيضا: عال على عرشه، بائن عن خلقه.
وروى الذهبي بإسناده إلى محمد بن إسماعيل الترمذي قال: سمعت المزني يقول: لا يصح لأحد توحيد حتى يعلم أن الله على العرش بصفاته. قلت: مثل أي شيء؟ قال: سميع بصير عليم قدير.
قول محمد بن يحيى الذهلي
ذكر الذهبي في كتاب "العلو" عن الحاكم أنه قال: قرأت بخطابي عمرو المستملي، سئل محمد بن يحيي عن حديث عبد الله بن معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ليعلم العبد أن الله معه حيث كان» . فقال. يريد إن الله علمه محيط بكل مكان، والله على العرش.
قول الإمام محمد بن إسماعيل البخاري
قال: في كتاب التوحيد من صحيحه باب قول الله - عز وجل -: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} (1) ، {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (2) قال أبو العالية: استوى إلى السماء: ارتفع، فسواهن: خلقهن. وقال مجاهد: استوى: علا على العرش، ثم ساق حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات. وقال أيضا: باب قول الله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (3) وقوله - جل ذكره -: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (4) وقد ذكر في هذا الباب عدة أحاديث في إثبات صفة الفوقية لله تعالى، وعلوه على خلقه.
قول أبي زرعة الرازي
قد ذكرت فيما تقدم ما رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم عن أبيه وأبي زرعة أنهما قالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازا، وعراقا، ومصرا، وشاما، فكان من مذهبهم أن الله - تبارك وتعالى - على عرشه بائن من خلقه، كما وصف نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله بلا كيف، أحاط بكل شيء علما، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وذكر الذهبي في كتاب (العلو) ما رواه أبو إسماعيل الأنصاري بإسناده إلى محمد بن
__________
(1) سورة هود الآية 7
(2) سورة التوبة الآية 129
(3) سورة المعارج الآية 4
(4) سورة فاطر الآية 10(12/169)
إبراهيم الأصفهاني، سمعت أبا زرعة الرازي، وسئل عن تفسير: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) فغضب وقال: تفسيره كما تقرأ. هو على عرشه، وعلمه في كل مكان، من قال غير هذا فعليه لعنة الله. وقد ذكره شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في "الفتاوى الحموية الكبرى"، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية) .
قول أبي حاتم الرازي
ذكر الذهبي في كتاب "العلو" عن الحافظ أبي القاسم الطبري قال: وجدت في كتاب أبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي مما سمع منه يقول: مذهبنا واختيارنا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين من بعدهم، والتمسك بمذاهب أهل الأثر، مثل الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد - رحمهم الله تعالى -، ولزوم الكتاب والسنة، ونعتقد أن الله - عز وجل - على عرشه، بائن من خلقه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وقد ذكر ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" قوله: ونعتقد إلى آخره.
قول يحيى بن معاذ الرازي الواعظ
روى أبو إسماعيل الأنصاري بإسناده إلى يحيى بن معاذ أنه قال: إن الله على العرش، بائن من الخلق، وقد أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، لا يشك في هذه المقالة إلا جهمي رديء ضليل، وهالك مرتاب، يمزج الله بخلقه، ويخلط منه الذات بالأقذار والأنتان. انتهى.
وقد نقله شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في "الفتوى الحموية الكبرى"، والذهبي في كتاب "العلو"، وابن القيم في كتاب (اجتماع الجيوش الإسلامية) .
قول الإمام محمد بن أسلم الطوسي
ذكر الذهبي في كتاب "العلو" عن الحاكم أنه قال في ترجمته: حدثنا يحيى العنبري، حدثنا أحمد بن سلمة، حدثنا محمد بن أسلم قال: قال لي عبد الله بن طاهر: بلغني أنك لا ترفع رأسك إلى السماء. فقلت: ولم؟ وهل أرجو الخير إلا ممن هو في السماء.
قول عبد الوهاب الوراق
قال الذهبي في كتاب "العلو" حدث عبد الوهاب بن عبد الحكيم الوراق بقول ابن
__________
(1) سورة طه الآية 5(12/170)
عباس رضي الله عنهما: ما بين السماء السابعة إلى كرسيه سبعة آلاف نور، وهو فوق ذلك، ثم قال عبد الوهاب: من زعم أن الله هاهنا فهو جهمي خبيث، إن الله - عز وجل - فوق العرش، وعلمه محيط بالدنيا والآخرة، وقد نقل ابن القيم كلام عبد الوهاب في كتابه (اجتماع الجيوش الإسلامية) وقال: صح ذلك عنه، حكاه عنه محمد بن عثمان في رسالته في الفوقية، وقال: ثقة حافظ روى عنه أبو داود والترمذي والنسائي. انتهى. ومحمد بن عثمان الذي ذكره ابن القيم هو الحافظ الذهبي.(12/171)
قول حرب بن إسماعيل الكرماني صاحب أحمد وإسحاق
قد ذكرت فيما تقدم أنه حكى إجماع أهل السنة من سائر أهل الأمصار، أن الماء فوق السماء السابعة، والعرش على الماء، والله على العرش.
قول عثمان بن سعيد الدارمي حافظ أهل المشرق
قال في كتابه "النقض على بشر المريسي ": قد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله فوق عرشه، فوق سماواته، لا ينزل قبل يوم القيامة إلى الأرض، ولم يشكوا أنه ينزل يوم القيامة؛ ليفصل بين عباده، ويحاسبهم ويثيبهم، وتشقق السماوات يومئذ لنزوله، وتنزل الملائكة تنزيلا، ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية، كما قال الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلما لم يشك المسلمون أن الله لا ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة لشيء من أمور الدنيا، علموا يقينا أن ما يأتي الناس من العقوبات؛ إنما هو أمره وعذابه. فقوله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} (1) ، إنما هو أمره وعذابه.
وقال أيضا في كتاب "النقض ": علمه بهم محيط، وبصره فيهم نافذ، وهو بكماله فوق عرشه، ومع بعد المسافة بينه وبين الأرض يعلم ما في الأرض.
قال أيضا في كتاب (النقض) : وقد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله سبحانه في السماء، وعرفوه بذلك إلا المريسي وأصحابه. وقال في «قول النبي صلى الله عليه وسلم للأمة: أين الله؟ (2) » تكذيب لمن يقول: هو في كل مكان إلى أن قال: والله فوق سماواته، بائن من خلقه، فمن لم يعرفه بذلك لم يعرف إلهه الذي يعبده. انتهى المقصود من كلامه.
وقد نقله ابن القيم في
__________
(1) سورة النحل الآية 26
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (537) ، سنن النسائي السهو (1218) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3282) ، مسند أحمد بن حنبل (5/447) ، سنن الدارمي الصلاة (1502) .(12/171)
كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية"، وأثنى على كتاب الدارمي في الرد على الجهمية، وعلى كتابه في "النقض " على " بشر المريسي " وقال: إنهما من أجل الكتب المصنفة في السنة وأنفعها، قال: وينبغي لكل طالب سنة مراده الوقوف على ما كان عليه الصحابة والتابعون والأئمة أن يقرأ كتابيه، قال: وكان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يوصي بهذين الكتابين أشد الوصية، ويعظمهما جدا، وفيهما من تقرير التوحيد والأسماء والصفات بالعقل والنقل ما ليس في غيرهما. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى.
قول عبد الله بن مسلم بن قتيبة
قال في كتابه "تأويل مختلف الحديث": نحن نقول في قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (1) إنه معهم بالعلم بما هم عليه، كما تقول للرجل: وجهته إلى بلد شاسع، ووكلته بأمر من أمورك، احذر التقصير والإغفال لشيء مما تقدمت فيه إليك فإني معك. تريد أنه لا يخفى علي تقصيرك، أو جدك للإشراف عليك والبحث عن أمورك.
وإذا جاز هذا في المخلوق الذي لا يعلم الغيب فهو في الخالق الذي يعلم الغيب أجوز. وكيف يسوغ لأحد أن يقول: إنه بكل مكان على الحلول مع قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (3) ؟ وكيف يصعد إليه شيء هو معه، أو يرفع إليه عمل وهو عنده؟ قال: ولو أن هؤلاء رجعوا إلى فطرهم، وما ركبت عليه خلقتهم من معرفة الخالق سبحانه؛ لعلموا أن الله تعالى هو العلي، وهو الأعلى، وهو بالمكان الرفيع، وأن القلوب عند الذكر تسمو نحوه، والأيدي ترفع بالدعاء إليه. قال: والأمم كلها عربيها وعجميها تقول: إن الله تعالى في السماء ما تركت على فطرها، ولم تنقل عن ذلك بالتعليم.
قال: وأما قوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} (4) فليس في ذلك ما يدل على الحلول بهما، وإنما أراد أنه إله السماء وإله من فيها، وإله الأرض وإله من فيها. وكذلك قوله عز وجل:
{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (5) ، لا يريد أنه معهما بالحلول، ولكن بالنصرة والتوفيق والحياطة. انتهى المقصود من كلامه ملخصا.
__________
(1) سورة المجادلة الآية 7
(2) سورة طه الآية 5
(3) سورة فاطر الآية 10
(4) سورة الزخرف الآية 84
(5) سورة النحل الآية 128(12/172)
قول أبي عيسى الترمذي
ذكر في تفسير سورة الحديد من جامعه حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا في بعد ما بين السماء والأرض، وما بين كل سمائين، وأن العرش فوق السماوات وبينه، وبين السماء بعد ما بين كل سمائين، ثم ذكر بعد ما بين الأرضين السبع، ثم قال: «والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله، ثم قرأ: (2) » . قال الترمذي: حديث غريب. وقال الذهبي: هو خبر منكر. انتهى.
قلت: وهو من رواية الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد قال الترمذي بعد إيراده: يروى عن أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة. قال: وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقالوا: إنما هبط على علم الله وقدرته وسلطانه، وعلم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان، وهو على العرش، كما وصف في كتابه. انتهى.
قول محمد بن عثمان بن أبي شيبة
ذكر الذهبي في كتاب "العلو" أنه ألف كتابا في "العرش" فقال: ذكروا أن الجهمية يقولون: ليس بين الله وبين خلقه حجاب، وأنكروا العرش، وأن يكون الله فوقه، وقالوا: إنه في كل مكان. ففسرت العلماء: {وَهُوَ مَعَكُمْ} (3) يعني علمه. ثم تواترت الأخبار أن الله تعالى خلق العرش فاستوى عليه، فهو فوق العرش، بائن من خلقه.
وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في القاعدة المراكشية: "ذكر أبو عمرو الطلمنكي الإمام في كتابه الذي سماه "الوصول إلى معرفة الأصول" أن أهل السنة والجماعة متفقون على أن الله استوى بذاته على عرشه. قال: وكذلك ذكره محمد بن عثمان بن أبي شيبة - حافظ الكوفة - في طبقة البخاري ونحوه. ذكر ذلك عن أهل السنة والجماعة.
قول زكريا الساجي
ذكر الذهبي في كتاب "العلو"، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عن أبي عبد الله بن بطة العكبري قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن زكريا بن يحيى الساجي قال: قال أبى: القول في السنة التي رأيت عليها أصحابنا أهل الحديث الذي لقيناهم: إن الله تعالى على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء.
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3298) ، مسند أحمد بن حنبل (2/370) .
(2) سورة الحديد الآية 3 (1) {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
(3) سورة الحديد الآية 4(12/173)
قول محمد بن جرير الطبري
قال في تفسير قول الله تعالى في سورة الحديد: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) يقول: وهو مشاهد لكم أيها الناس أين ما كنتم، يعلمكم ويعلم أعمالكم ومتقلبكم ومثواكم، وهو على عرشه فوق سماواته السبع. وقال في تفسير قوله تعالى في سورة المجادلة: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (2) يسمع سرهم ونجواهم، لا يخفى عليه شيء من أسرارهم، {وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (3) يقول: في أي موضع ومكان كانوا. وعنى بقوله: {هُوَ رَابِعُهُمْ} (4) بمعنى أنه مشاهدهم بعلمه، وهو على عرشه.
ثم روى بإسناده إلى الضحاك في قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ} (5) إلى قوله: {هُوَ مَعَهُمْ} (6) قال: هو فوق العرش، وعلمه معهم أين ما كانوا. وقال في تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} (7) يقول تعالى ذكره: والله الذي له الألوهية في السماء معبود، وفي الأرض معبود كما هو في السماء معبود، لا شيء سواه تصلح عبادته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ثم روى بإسناده عن قتادة في قوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} (8) قال: يعبد في السماء ويعبد في الأرض.
قول حماد البوشنجي الحافظ
روى شيخ الإسلام الهروي بإسناده إلى حماد بن هناد البوشنجي قال: هذا ما رأينا عليه أهل الأمصار، وما دلت عليه مذاهبهم فيه، وإيضاح منهاج العلماء وصفة السنة وأهلها: إن الله فوق السماء السابعة على عرشه، بائن من خلقه، وعلمه وسلطانه وقدرته بكل مكان. انتهى. ونقله الذهبي في كتاب "العلو" وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية".
قول إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة
قال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في كتابه "معرفة علوم الحديث ": سمعت محمد بن صالح بن هانيء يقول: سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: من لم يقر بأن الله تعالى على عرشه قد استوى فوق سبع سماواته فهو كافر بربه، يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وألقي على بعض المزابل؛ حيث لا يتأذى المسلمون والمعاهدون بنتن ريح
__________
(1) سورة الحديد الآية 4
(2) سورة المجادلة الآية 7
(3) سورة المجادلة الآية 7
(4) سورة المجادلة الآية 7
(5) سورة المجادلة الآية 7
(6) سورة المجادلة الآية 7
(7) سورة الزخرف الآية 84
(8) سورة الزخرف الآية 84(12/174)
جيفته، وكان ماله فيئا، لا يرثه أحد من المسلمين؛ إذ المسلم لا يرث الكافر كما قال صلى الله عليه وسلم.
وذكر ابن القيم في كتابه "اجتماع الجيوش الإسلامية" ما رواه الشيخ الأنصاري بإسناده إلى ابن خزيمة أنه قال: نحن نؤمن بخبر الله سبحانه، أن خالقنا مستو على عرشه. وقال في كتاب "التوحيد" باب ذكر استواء خالقنا العلي الأعلى الفعال لما يشاء على عرشه وكان فوقه فوق كل شيء عاليا، ثم ساق الأدلة على ذلك من القرآن والسنة، ثم قال: "باب الدليل على أن الإقرار بأن الله فوق السماء من الإيمان " وذكر فيه حديث الجارية.
قول الإمام الطحاوي
قال في عقيدته المشهورة "ذكر بيان السنة والجماعة، على مذهب فقهاء الملة: أبي حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن " نقول في توحيد الله معتقدين أن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، إلى أن قال: والعرش والكرسي حق، وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه. انتهى المقصود من كلامه.
قول الحسن بن علي بن خلف البربهاري
ذكر القاضي أبو الحسين في "طبقات الحنابلة " أن البربهاري قال في "شرح كتاب السنة": ولا يتكلم في الرب إلا بما وصف به نفسه عز وجل في القرآن، وما بين رسول الله عليه الصلاة والسلام لأصحابه، وهو جل ثناؤه واحد، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) وهو على عرشه استوى، وعلمه بكل مكان، لا يخلو من علمه مكان. انتهى المقصود من كلامه.
قول أبي القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني
ذكر الذهبي في كتاب "العلو" عنه أنه قال في "كتاب السنة": له باب ما جاء في استواء الله تعالى على عرشه، بائن من خلقه، ثم ساق بعض الأحاديث الواردة في ذلك.
__________
(1) سورة الشورى الآية 11(12/175)
قول أبي الحسن الأشعري
قال في كتابه "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ": جملة ما عليه أهل الحديث والسنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئا، إلى أن قال: وإن الله سبحانه على عرشه كما قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) ثم قال بعد إيراد أقوال أصحاب الحديث والسنة: وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب.
وقال في كتاب "الإبانة عن أصول الديانة": إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول: إن الله - عز وجل - مستو على عرشه، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) واستدل بآيات من القرآن على علو الرب فوق السماوات، ومنها قول الله - عز وجل -: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} (3) ثم قال: فالسماوات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السماوات قال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (4) ؛ لأنه مستو على العرش الذي فوق السماوات، وكل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات، وليس إذا قال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (5) يعني جميع السماوات، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات، إلى أن قال: ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم - إذا دعوا - نحو السماء؛ لأن الله - عز وجل - مستو على العرش الذي هو فوق السماوات، فلولا أن الله - عز وجل - على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش. انتهى.
قول أبي بكر محمد بن الحسين الآجري
قد ذكرت كلامه في ذلك مع أقوال الذين نقلوا الإجماع على أن الله تعالى فوق العرش، وعلمه محيط بكل شيء من خلقه. وقد ذكر أن هذا قول المسلمين.
وقال في كتاب "الشريعة": قال جل ذكره: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (6) وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استفتح دعاءه يقول: «سبحان ربي الأعلى الوهاب (7) » . وكان جماعة من الصحابة إذا قرءوا: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (8) قالوا: سبحان ربنا الأعلى، منهم علي بن أبي طالب، وابن عباس، وابن مسعود، وابن عمر رضي الله عنهم.
وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن يقولوا في السجود: (سبحان ربي الأعلى ثلاثا) ، وهذا كله يقوي ما قلنا: إن الله - عز وجل - العلي الأعلى، عرشه فوق السماوات العلا، وعلمه محيط بكل شيء خلاف ما قالته
__________
(1) سورة طه الآية 5
(2) سورة طه الآية 5
(3) سورة الملك الآية 16
(4) سورة الملك الآية 16
(5) سورة الملك الآية 16
(6) سورة الأعلى الآية 1
(7) مسند أحمد بن حنبل (4/54) .
(8) سورة الأعلى الآية 1(12/176)
الحلولية. نعوذ بالله من سوء مذهبهم.
وقال أيضا: وما يحتج به الحلولية مما يلبسون به على من لا علم معه قول الله - عز وجل -: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} (1) وقد فسر أهل العلم هذه الآية: هو الأول قبل كل شيء من حياة وموت، والآخر بعد كل شيء بعد الخلق، وهو الظاهر فوق كل شيء، يعني ما في السماوات، وهو الباطن دون كل شيء، يعلم ما تحت الأرضين، دل على هذا آخر الآية: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (2) كذا فسره مقاتل بن حيان، ومقاتل بن سليمان، وبينت ذلك السنة، ثم ساق حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء (3) » . قال: ومما يلبسون به على من لا علم معه قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} (4) وبقوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} (5) وهذا كله إنما يطلبون به الفتنة، كما قال الله - عز وجل -: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (6) ، وعند أهل العلم من أهل الحق: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} (7) هو كما قال أهل الحق: يعلم سركم.
مما جاءت به السنن أن الله - عز وجل - على عرشه، وعلمه محيط بجميع خلقه، يعلم ما تسرون وما تعلنون، يعلم الجهر من القول، ويعلم ما تكتمون. وقوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} (8) فمعناه: أنه جل ذكره إله من في السماوات، وإله من في الأرض، هو الإله يعبد في السماوات، وهو الإله يعبد في الأرض، هكذا فسره العلماء. ثم روى بإسناده عن قتادة في قول الله - عز وجل -: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} (9) قال: هو إله يعبد في السماء، وإله يعبد في الأرض، انتهى.
قول الحافظ أبي الشيخ عبد الله بن محمد بن حيان
ذكر الذهبي في كتاب "العلو"، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عنه أنه قال في كتاب "العظمة": ذكر عرش الرب - تبارك وتعالى - وكرسيه، وعظمة خلقهما، وعلو الرب - جل جلاله - فوق عرشه. ثم ساق جملة من الأحاديث في ذلك.
__________
(1) سورة الحديد الآية 3
(2) سورة الحديد الآية 3
(3) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713) ، سنن الترمذي الدعوات (3481) ، سنن أبو داود الأدب (5051) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3831) ، مسند أحمد بن حنبل (2/404) .
(4) سورة الأنعام الآية 3
(5) سورة الزخرف الآية 84
(6) سورة آل عمران الآية 7
(7) سورة الأنعام الآية 3
(8) سورة الزخرف الآية 84
(9) سورة الزخرف الآية 84(12/177)
قول أبي الحسن ابن مهدي تلميذ الأشعري
ذكر الذهبي في كتاب "العلو" أنه قال في كتاب "مشكل الآيات" له: اعلم أن الله في السماء فوق كل شيء، مستو على عرشه، بمعنى أنه عال عليه، ومعنى الاستواء الاعتلاء، كما تقول العرب: استويت على ظهر الدابة، واستويت على السطح، بمعنى علوته. يدل على أنه في السماء عال على عرشه قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (1) وقوله: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (2) وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (3) وقوله: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} (4) قال: فإن قيل: ما تقولون في قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (5) ؟ قيل: معنى ذلك أنه فوق السماء على العرش، كما قال: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} (6) بمعنى على الأرض. وقيل: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (7) فكذلك {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (8) . انتهى المقصود من كلامه ملخصا.
قول ابن بطة العكبري
قد ذكرت عنه فيما تقدم أنه نقل إجماع الصحابة والتابعين: أن الله على عرشه فوق سماواته، بائن من خلقه، وذكرت أيضا كلامه على معنى قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} (9) وقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} (10) وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (11) ، وفيه الرد على من قال: إن الله معنا وفينا. فليراجع كلامه.
قول أبي محمد بن أبي زيد القيرواني شيخ المالكية
قد ذكرت عنه فيما تقدم أنه نقل إجماع الأمة على أن الله تعالى فوق سماواته، على عرشه دون أرضه، وأنه في كل مكان بعلمه، ثم ذكر أن هذا قول السنة وأئمة الناس في الفقه والحديث.
وقال في مقدمة رسالته المشهورة "باب ما تنطق به الألسنة، وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات" من ذلك الإيمان بالقلب، والنطق باللسان بأن الله إله واحد لا إله غيره، ولا شبيه له، ولا نظير له، ولا ولد له، ولا والد له، ولا صاحبة له، ولا شريك له، وأنه فوق عرشه المجيد بذاته، وهو بكل مكان بعلمه. انتهى المقصود من كلامه.
وقد نقله ابن
__________
(1) سورة الملك الآية 16
(2) سورة آل عمران الآية 55
(3) سورة فاطر الآية 10
(4) سورة السجدة الآية 5
(5) سورة الملك الآية 16
(6) سورة التوبة الآية 2
(7) سورة طه الآية 71
(8) سورة الملك الآية 16
(9) سورة الحديد الآية 4
(10) سورة الأنعام الآية 3
(11) سورة المجادلة الآية 7(12/178)
القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية"، وأقره قال: وكذلك ذكر مثل هذا في نوادره وغيرها من كتبه. ونقل عنه أيضا أنه قال في "مختصر المدونة": وأنه تعالى: فوق عرشه بذاته، فوق سبع سماواته دون أرضه. انتهى.
وقد نقل شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في "القاعدة المراكشية" قول ابن أبي زيد: إن الله تعالى فوق عرشه المجيد بذاته، وهو في كل مكان بعلمه. وقال أيضا: صرح ابن أبي زيد في "المختصر" بأن الله في سمائه دون أرضه. قال شيخ الإسلام أبو العباس: هذا لفظه. قال: والذي قاله ابن أبي زيد ما زالت تقوله أئمة أهل السنة من جميع الطوائف. انتهى.
ونقل الذهبي في كتاب "العلو" قول ابن أبي زيد: وأنه تعالى فوق عرشه المجيد بذاته، ثم قال: وقد تقدم مثل هذه العبارة عن أبي جعفر بن أبي شيبة، وعثمان بن سعيد الدارمي، وكذلك أطلقها يحيى بن عمار - واعظ سجستان - في رسالته، والحافظ أبو نصر الوائلي السجزي في كتاب "الإبانة" له فإنه قال: وأئمتنا كالثوري ومالك والحمادين، وابن عيينة وابن المبارك، والفضيل وأحمد وإسحاق متفقون على أن الله فوق العرش بذاته، وأن علمه بكل مكان، وكذا أطلقها ابن عبد البر، وكذا عبارة شيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري فإنه قال: وفي أخبار شتى أن الله في السماء السابعة على العرش بنفسه. وكذا قال أبو الحسن الكرجي الشافعي في تلك القصيدة:
عقائدهم أن الإله بذاته ... على عرشه مع علمه بالغوائب
وعلى هذه القصيدة مكتوب بخط العلامة تقي الدين بن الصلاح: هذه عقيدة أهل السنة وأصحاب الحديث. وكذا أطلق هذه اللفظة أحمد بن ثابت الطرقي الحافظ، والشيخ عبد القادر الجيلي، والمفتي عبد العزيز القحيطي وطائفة.
والله تعالى خالق كل شيء بذاته، ومدبر الخلائق بذاته، بلا معين ولا مؤازر، وإنما أراد ابن أبي زيد وغيره التفرقة بين كونه تعالى معنا، وبين كونه تعالى فوق العرش، فهو كما قال: ومعنا بالعلم، وأنه على العرش كما أعلمنا حيث يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) وقد تلفظ بالكلمة المذكورة جماعة من العلماء، كما قدمناه، وبلا ريب أن فضول الكلام تركه من حسن الإسلام. انتهى كلام
__________
(1) سورة طه الآية 5(12/179)
الذهبي.
وقد ذكرت بعد تعقيبه على ذكر الذات في كلام أبي نصر السجزي أن ذكر الذات ليس من فضول الكلام، وإنما هو من الإيضاح والتفريق بين علو الله تعالى فوق عرشه بذاته، وبين معيته بالعلم مع الخلق.
قول أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني
قد ذكرت عنه فيما تقدم أنه نقل الإجماع على خلاف من قال: إن الله في كل مكان، وعلى تخطئة قائل ذلك، وذكرت أيضا قوله في إثبات استواء الله على عرشه، وما استدل به من الآيات. فليراجع كلامه.
قول الحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني
قد ذكرت عنه فيما تقدم أنه نقل الإجماع على أن الله مستو على عرشه في سمائه دون أرضه، وأنه بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم.
قول معمر بن أحمد بن زياد الأصبهاني
ذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في "الفتوى الحموية الكبرى" عنه أنه قال: أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة، وموعظة من الحكمة. وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر، وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين. قال فيها: وإن الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، والاستواء معقول، والكيف فيه مجهول، وإنه عز وجل مستو على عرشه، بائن من خلقه، والخلق منه بائنون بلا حلول، ولا ممازجة، ولا اختلاط، ولا ملاصقة؛ لأنه الفرد البائن من الخلق، الواحد الغني عن الخلق. انتهى. وقد نقله الذهبي في كتاب (العلو) ، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية".
قول أبي القاسم عبد الله بن خلف المقري الأندلسي
نقل ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عنه أنه ذكا حديث النزول ثم قال: في هذا الحديث دليل على أنه تعالى في السماء على العرش، فوق سبع سماوات، ثم ذكر الأدلة على ذلك من القرآن، وذكر قول مالك بن أنس: الله - عز وجل - في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو من علمه مكان، إلى أن قال: ومن الحجة أيضا في أن الله(12/180)
- سبحانه وتعالى - على العرش فوق السماوات السبع أن الموجودين أجمعين إذا كربهم أمر؛ رفعوا وجوههم إلى السماء يستغيثون الله ربهم، «وقوله صلى الله عليه وسلم للأمة التي أراد مولاها أن يعتقها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء. ثم قال لها: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة (1) » . فاكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها برفع رأسها إلى السماء. ودل على ما قدمناه أنه على العرش، والعرش فوق السماوات السبع. انتهى.
قول أبي عبد الله محمد بن أبي نعيس المالكي المشهور بابن أبي زمنين
نقل ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عنه أنه قال في كتابه الذي صنفه في أصول السنة "باب الإيمان بالعرش": ومن قول أهل السنة: إن الله - عز وجل - خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق، ثم استوى عليه كيف شاء، كما أخبر عن نفسه في قوله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) إلى أن قال: ومن قول أهل السنة: إن الله بائن من خلقه متحجب عنهم بالحجب، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وذكر حديث النزول ثم قال: وهذا الحديث يبين أن الله تعالى على عرشه في السماء دون الأرض. انتهى، وقد ذكرت بعض كلامه مع أقوال الذين نقلوا إجماع أهل السنة على أن الله تعالى مستو على عرشه، بائن من خلقه.
وقد نقل شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في الفتاوى جملة من أول كلامه، وذكر عنه أنه قال: فسبحان من بعد فلا يرى، وقرب بعلمه وقدرته.
قول القاضي عبد الوهاب المالكي
ذكر ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عنه أنه صرح بأن الله سبحانه استوى على عرشه بذاته. نقله شيخ الإسلام عنه في غير موضع من كتبه، ونقله عنه القرطبي في شرح الأسماء الحسنى.
قول الإمام أبي أحمد بن الحسين الشافعي المعروف بابن الحداد
ذكر ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عنه أنه قال في عقيدته: وإنه سبحانه مستو على عرشه، وفوق جميع خلقه، كما أخبر في كتابه وعلى ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم من غير تشبيه ولا تعطيل، ولا تحريف ولا تأويل.
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (537) ، سنن النسائي السهو (1218) ، سنن أبو داود الصلاة (930) ، مسند أحمد بن حنبل (5/447) ، سنن الدارمي الصلاة (1502) .
(2) سورة طه الآية 5(12/181)
قول الحافظ أبي القاسم اللالكائي
قد ذكر كلامه في أول الفصل، وإنما قدمته من أجل ما ذكر فيه عن عمر وابن مسعود وابن عباس وأم سلمة رضي الله عنهم، ومن التابعين: ربيعة وسليمان التيمي ومقاتل بن حيان، ومن الأئمة: مالك والثوري وأحمد. فكل هؤلاء يقولون: إن الله على عرشه، وعلمه بكل مكان. وفي هذا أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
قول يحيى بن عمار السجستاني الواعظ
ذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في "القاعدة المراكشية"، والذهبي في كتاب "العلو" عنه أنه قال في رسالته: لا نقول كما قالت الجهمية: أنه تعالى مداخل للأمكنة، وممازج بكل شيء، ولا نعلم أين هو. بل نقول: هو بذاته على العرش، وعلمه محيط بكل شيء، وسمعه وبصره وقدرته مدركة لكل شيء، وذلك معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) وقد ذكر ابن القيم بعض هذا الكلام في كتابه "اجتماع الجيوش الإسلامية".
قول القادر بالله أمير المؤمنين
قال الذهبي في كتاب "العلو": له معتقد مشهور قرئ ببغداد بمشهد من علمائها وأئمتها، وأنه قول أهل السنة والجماعة، وفيه أشياء حسنة، من ذلك: وأنه خلق العرش لا لحاجة، واستوى عليه كيف شاء.
قول أبي عمرو الطلمنكي
قد ذكرت عنه فيما تقدم أنه نقل الإجماع على أن الله مستو على عرشه، وعلمه وقدرته وتدبيره بكل ما خلقه. وأن معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (2) ونحو ذلك في القرآن، أن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته، مستو على عرشه كيف شاء، وأن الاستواء من الله على عرشه على الحقيقة لا على المجاز.
وقد ذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في "القاعدة المراكشية" عن أبي عمرو الطلمنكي أنه ذكر في كتابه الذي سماه "الوصول إلى معرفة الأصول" عن أهل السنة والجماعة، أنهم متفقون على أن الله استوى بذاته على عرشه.
قال شيخ الإسلام: وكذلك ذكر محمد بن عثمان بن أبي شيبة - حافظ الكوفة - في طبقة البخاري ونحوه. ذكر ذلك عن أهل السنة والجماعة، وكذلك ذكره يحيى بن عمار
__________
(1) سورة الحديد الآية 4
(2) سورة الحديد الآية 4(12/182)
السجستاني الإمام في رسالته المشهورة التي كتبها إلى ملك بلاده، وكذلك ذكر أبو نصر السجزي الحافظ في كتاب (الإبانة) له، وكذلك ذكر شيخ الإسلام الأنصاري وأبو العباس الطرقي، والشيخ عبد القادر الجيلي، ومن لا يحصي عدده إلا الله من أئمة الإسلام وشيوخه. انتهى. وقد تقدم ذكر آخره بعد كلام السجزي في أول الفصل.
قول أبي عثمان الصابوني
قد ذكرت عنه فيما تقدم أنه نقل عن أصحاب الحديث أنهم يعتقدون ويشهدون أن الله فوق سبع سماواته، على عرشه كما نطق به كتابه. وأن علماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف لم يختلفوا أن الله على عرشه، وعرشه فوق سماواته.
قول أبي عمرو عثمان بن أبي الحسن بن الحسين السهروردي الفقيه المحدث، من أئمة
أصحاب الشافعي
ذكر ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عنه أنه قال: في كتابه في أصول الدين: ومن صفاته تبارك وتعالى: فوقيته واستواؤه على عرشه بذاته، كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بلا كيف، ثم ذكر الأدلة على ذلك من القرآن إلى أن قال: وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف لم يختلفوا في أن الله سبحانه مستو على عرشه، وعرشه فوق سبع سماواته، ثم ذكر كلام عبد الله بن المبارك: ونعرف ربنا بأنه فوق سبع سماواته على عرشه، بائن من خلقه. وساق قول ابن خزيمة من لم يقر بأن الله تعالى فوق عرشه قد استوى فوق سبع سماواته فهو كافر، ثم ذكر حديث الجارية التي قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أين الله؟ فأشارت إلى السماء، فقال لها: من أنا؟ فأشارت إليه وإلى السماء - تعني إنك رسول الله الذي في السماء- فقال: أعتقها فإنها مؤمنة (1) » فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامها وإيمانها، لما أقرت بأن ربها في السماء، وعرفت ربها بصفة العلو والفوقية. انتهى.
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (537) ، سنن النسائي السهو (1218) ، سنن أبو داود الصلاة (930) ، مسند أحمد بن حنبل (5/447) ، سنن الدارمي الصلاة (1502) .(12/183)
قول الإمام أبي بكر محمد بن محمود ابن سورة التميمي فقيه نيسابور
ذكر ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" ما رواه الحافظ عبد القاهر الرهاوي عنه أنه قال: لا أصلي خلف من لا يقر بأن الله تعالى فوق عرشه، بائن من خلقه.
قول أبي نصر السجزي
قد ذكرت كلامه في أول الفصل، وما نقله عن الثوري ومالك والحمادين، وسفيان بن عيينة والفضيل، وابن المبارك وأحمد وإسحاق أنهم متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش، وعلمه بكل مكان، وإنما قدمت كلامه في أول الفصل؛ من أجل ما نقله عن هؤلاء الأئمة من الاتفاق على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش، وعلمه بكل مكان. وفي هذا الاتفاق رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
قول إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي
ذكر ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عنه أنه قال في كتاب "الحجة" "باب في بيان استواء الله على عرشه": قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) وذكر آيات، ثم قال: قال أهل السنة: الله فوق السماوات لا يعلوه خلق من خلقه، ومن الدليل على ذلك أن الخلق يشيرون إلى السماء بأصابعهم، ويدعونه ويرفعون إليه رءوسهم وأبصارهم - ثم قال: "فصل في بيان أن العرش فوق السماوات، وأن الله - سبحانه وتعالى - فوق العرش" - إلى أن قال: قال علماء السنة: إن الله - عز وجل - على عرشه، بائن من خلقه.
وقالت المعتزلة: هو بذاته في كل مكان، إلى أن قال: وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (2) قال: هو على عرشه، وعلمه في كل مكان، إلى أن قال: وزعم هؤلاء- يعني المعتزلة - أنه لا تجوز الإشارة إلى الله سبحانه بالرءوس والأصابع إلى فوق، فإن ذلك يوجب التحديد. وقد أجمع المسلمون أن الله سبحانه العلي الأعلى، ونطق بذلك القرآن، فزعم هؤلاء أن ذلك بمعنى علو الغلبة لا علو الذات، وعند المسلمين أن لله - عز وجل - علو الغلبة، والعلو من سائر وجوه العلو؛ لأن العلو صفة مدح، فنثبت أن لله تعالى علو الذات، وعلو الصفات، وعلو القهر والغلبة.
وفي منعهم الإشارة إلى الله - سبحانه وتعالى - من جهة الفوق خلاف منهم لسائر الملل؛ لأن جماهير المسلمين وسائر الملل قد وقع منهم الإجماع على الإشارة إلى الله - سبحانه
__________
(1) سورة طه الآية 5
(2) سورة المجادلة الآية 7(12/184)
وتعالى - من جهة الفوق في الدعاء والسؤال، واتفاقهم بأجمعهم على ذلك حجة. ولم يستجز أحد الإشارة إليه من جهة الأسفل، ولا من سائر الجهات سوى جهة الفوق. انتهى المقصود من كلامه.
قول أبي عمر ابن عبد البر
قد ذكرت عنه فيما تقدم أنه نقل إجماع الصحابة والتابعين على القول بأن الله تعالى على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله. وذكرت له أيضا كلاما حسنا على حديث النزول، فليراجع كل ما تقدم عنه.
قول أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي
قال في كتابه المسمى "بالاعتقاد" باب القول في الاستواء: قال الله تبارك وتعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) ثم ذكر آيات في ذكر استواء الرب على العرش، وآيات في ذكر علو الله على خلقه، وقد ذكرت الآيات أيضا والكلام عليها في كتابه المسمى "بالأسماء والصفات "، ونقلت من كلامه ما يتعلق بالرد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية، فليراجع ذلك مع الكلام على قول الله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} (2) الآية.
قول أبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي
ذكر الذهبي في كتاب "العلو" عنه أنه قال في كتاب "الحجة" له: وإن الله تعالى مستو على عرشه، بائن من خلقه، كما قال في كتابه.
قول أبي جعفر الهمداني
قال شارح العقيدة الطحاوية: ذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين، وهو يتكلم في نفس صفة العلو ويقول: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان.
فقال الشيخ أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط: يا الله إلا وجد في قلبه ضرورة، يطلب العلو ولا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة عن
__________
(1) سورة طه الآية 5
(2) سورة الملك الآية 16(12/185)
أنفسنا؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل، وأظنه قال: وبكى وقال: حيرني الهمداني.
وقد ذكر هذه القصة ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" بنحو ما ذكرها شارح العقيدة الطحاوية. وذكرها الذهبي في كتاب "العلو" فقال: قال أبو منصور بن الوليد الحافظ في رسالة له إلى الزنجاني: أنبأنا عبد القادر الحافظ بحراد، أنبأنا الحافظ أبو العلا، أنبأنا أبو جعفر بن أبي علي الحافظ قال: سمعت أبا المعالي الجويني وقد سئل عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) فقال: كان الله ولا عرش، وجعل يتخبط في الكلام، فقلت: قد علمنا ما أشرت إليه، فهل عندك للضرورات من حيلة؟ فقال: ما تريد بهذا القول؟ وما تعني بهذه الإشارة؟ فقلت: ما قال عارف قط: يا رباه إلا قبل أن يتحرك لسانه، قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة، يقصد الفوق، فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة؟ فنبئنا نتخلص من الفوق والتحت.
وبكيت وبكى الخلق، فضرب الأستاذ بكمه على السرير وصاح: يا للحيرة، وخرق ما كان عليه وانخلع، وصارت قيامة في المسجد، ونزل ولم يجبني إلا يا حبيبي الحيرة الحيرة، والدهشة الدهشة، فسمعت بعد ذلك أصحابه يقولون: سمعناه يقول: حيرني الهمداني. قال شارح العقيدة الطحاوية في الكلام على هذه القصة أراد الشيخ أن هذا أمر فطر الله عليه عباده من أن يتلقوه من المرسلين، يجدون في قلوبهم طلبا ضروريا يتوجه إلى الله ويطلبه في العلو. انتهى.
__________
(1) سورة طه الآية 5(12/186)
قول شيخ الإسلام أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي
ذكر الذهبي في كتاب العلو عنه أنه قال في كتاب "الصفات " له "باب استواء الله على عرشه فوق السماء السابعة، بائنا من خلقه من الكتاب والسنة" "ثم ساق آيات وأحاديث - إلى أن قال - وفي أخبار شتى أن الله في السماء السابعة على العرش بنفسه، وهو ينظر كيف تعملون، وعلمه وقدرته واستماعه ونظره ورحمته في كل مكان.
قول الحسين بن مسعود البغوي
قال في الكلام على قول الله تعالى في سورة الحديد: {وَهُوَ مَعَكُمْ} (1) بالعلم. وقال في الكلام على قول الله تعالى في سورة المجادلة: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ} (2) أي: من سرار ثلاثة {إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (3) بالعلم يعلم نجواهم.
__________
(1) سورة الحديد الآية 4
(2) سورة المجادلة الآية 7
(3) سورة المجادلة الآية 7(12/186)
قول أبي الحسن الكرجي وهو من كبار الفقهاء الشافعية
ذكر الذهبي كتاب "العلو" عنه أنه قال في عقيدته الشهيرة:
عقيدة أصحاب الحديث فقد سمت ... بأرباب دين الله أسنى المراتب
عقائدهم أن الإله بذاته ... على عرشه مع علمه بالغوائب
وقد ذكرت فيما تقدم قول الذهبي: إنه مكتوب على هذه القصيدة بخط العلامة تقي الدين بن الصلاح: هذه عقيدة أهل السنة وأصحاب الحديث.
قول العلامة أبي بكر محمد بن وهب المالكي في شرحه لرسالة الإمام أبي محمد بن أبي زيد.
ذكر الذهبي في كتاب "العلو" عنه أنه قال: أما قوله: (إنه فوق عرشه المجيد بذاته) فمعنى فوق وعلى عند العرب واحد. وفي الكتاب والسنة تصديق ذلك، وهو قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (1) وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) وقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} (3) وساق حديث الجارية والمعراج إلى سدرة المنتهى- إلى أن قال- وقد تأتي لفظة "في" في لغة العرب بمعنى فوق، كقوله: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} (4) ، و {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (5) ، و {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (6) قال أهل التأويل: يريد فوقها، وهو قول مالك مما فهمه عمن أدرك من التابعين، كما فهموه عن الصحابة، مما فهموه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله في السماء، يعني فوقها وعليها، فلذلك قال الشيخ أبو محمد: إنه فوق عرشه، ثم بين أن علوه فوق عرشه إنما هو بذاته؛ لأنه تعالى بائن عن جميع خلقه بلا كيف، وهو في كل مكان بعلمه لا بذاته. انتهى المقصود من كلامه. وقد ذكره ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية ".
قول الشيخ عبد القادر الجيلي الحنبلي
ذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في "الفتوى الحموية الكبرى" والذهبي في
__________
(1) سورة يونس الآية 3
(2) سورة طه الآية 5
(3) سورة النحل الآية 50
(4) سورة الملك الآية 15
(5) سورة طه الآية 71
(6) سورة الملك الآية 16(12/187)
كتاب "العلو"، وابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عنه أنه قال في كتاب "الغنية": أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار، فهو أن تعرف وتتيقن أن الله واحد أحد - إلى أن قال: وهو بجهة العلو مستو على العرش، محتو على الملك، محيط علمه بالأشياء {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (1) {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (2) ، ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال: إنه في السماء على العرش كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3)
وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش، وكونه على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل، بلا كيف. قال ابن القيم: هذا نص كلامه في "الغنية"، وذكر ابن القيم أيضا عنه أنه قال في كتابه "تحفة المتقين وسبيل العارفين": والله تعالى بذاته على العرش، وعلمه محيط بكل مكان.
قول إمام الشافعية في وقته سعد بن علي الزنجاني
ذكر ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" عنه أنه صرح بالفوقية بالذات فقال: وهو فوق عرشه بوجود ذاته. قال ابن القيم: هذا لفظه وهو إمام في السنة، ثم ذكر ابن القيم عنه أنه قال: إنه مستو بذاته على عرشه بلا كيف كما أخبر عن نفسه.
قال: وقد أجمع المسلمون على أن الله هو العلي الأعلى، ونطق بذلك القرآن بقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (4) وأن لله علو الغلبة والعلو الأعلى من سائر وجوه العلو؛ لأن العلو صفة مدح عند كل عاقل، فثبت بذلك أن لله علو الذات، وعلو الصفات، وعلو القهر والغلبة.
وجماهير المسلمين وسائر الملل، قد وقع منهم الإجماع على الإشارة إلى الله - جل ثناؤه - من جهة الفوق في الدعاء والسؤال. فاتفاقهم بأجمعهم على الإشارة إلى الله سبحانه من جهة الفوق حجة، ولم يستجز أحد الإشارة إليه من جهة الأسفل، ولا من سائر الجهات سوى جهة الفوق. انتهى.
وقد تقدم في كلام إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي مثل ما ذكره الزنجاني من الإجماع على الإشارة إلى الله تعالى من جهة الفوق، وأنه لم يستجز أحد الإشارة إليه من جهة الأسفل، ولا من سائر الجهات سوى جهة الفوق، وفي هذا أبلغ رد على من زعم أن
__________
(1) سورة فاطر الآية 10
(2) سورة السجدة الآية 5
(3) سورة طه الآية 5
(4) سورة الأعلى الآية 1(12/188)
معية الله لخلقه معية ذاتية، ولو كان الأمر على ما زعمه من قال على الله بغير علم، لكان يجوز أن يشار إلى الله تعالى من سائر الجهات، وهذا خلاف إجماع المسلمين.
قول الشيخ الموفق أبي محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي
قد ذكرت فيما تقدم أنه نقل إجماع السلف على أن الله تعالى فوق العرش، وذكرت أيضا كلامه في كتابه "إثبات صفة العلو"، وما ذكر فيه من إجماع جميع العلماء من الصحابة، والأئمة من الفقهاء على إثبات صفة العلو لله تعالى، وأن الأخبار قد تواترت في ذلك على وجه حصل به اليقين، فليراجع كلامه في ذلك، وليراجع أيضا كما ذكره مما جعله مغروزا في طبائع الخلق عند نزول الكرب، من لحظ السماء بالأعين، ورفع الأيدي للدعاء نحوها، وانتظار مجيء الفرج من الله تعالى، وأنه لا ينكر ذلك إلا مبتدع غال في بدعته، أو مفتون بتقليده على ضلالته.
قول أبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي مؤلف التفسير الكبير
المسمى "بالجامع لأحكام القرآن "
قال في كتابه المسمى "بالأسنى في شرح أسماء الله الحسنى": وقد كان الصدر الأول لا ينفون الجهة، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى، كما نطق كتابه وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على العرش حقيقة. ثم ذكر كلام أبي بكر الحضرمي في رسالته التي سماها "بالإيماء إلى مسألة الاستواء"، وحكايته عن القاضي عبد الوهاب أنه استواء الذات على العرش، وذكر أن ذلك قول القاضي أبي بكر بن الطيب الأشعري، كبير الطائفة، وأن القاضي عبد الوهاب نقله عنه نصا، وأنه قول الأشعري وابن فورك في بعض كتبه، وقول الخطابي وغيره من الفقهاء والمحدثين.
قال القرطبى وهو قول أبي عمر بن عبد البر والطلمنكي وغيرهما من الأندلسيين، ثم قال بعد أن حكى أربعة عشر قولا: وأظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي والأخبار، وقال: جميع الفضلاء بالإخبار أن الله على عرشه، كما أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه، بلا كيف بائن من جميع خلقه، هذا مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقات. انتهى، وقد نقله ابن القيم في كتاب " اجتماع الجيوش الإسلامية" وأقره.(12/189)
قول شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية
قال في بعض فتاويه: والرب سبحانه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. انتهى. وهو في صفحة 406 من الجزء الأول من مجموع الفتاوى المطبوع في القاهرة في سنة 1326 هـ.
وقال في أول "الفتوى الحموية الكبرى": فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة، مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في أن الله - سبحانه وتعالى - هو العلي الأعلى، وهو فوق كل شيء، وأنه فوق العرش، وأنه فوق السماء، ثم ذكر الأدلة على ذلك من القرآن، ثم قال: وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى إلا بكلفة - وذكر عدة أحاديث في ذلك.
وقال بعد ذكرها: إلى أمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله مما هو من أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية التي تورث علما يقينا من أبلغ العلوم الضرورية، أن الرسول صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله ألقى إلى أمته المدعوين أن الله سبحانه على العرش، وأنه فوق السماء، كما فطر الله على ذلك جميع الأمم عربهم وعجمهم، في الجاهلية والإسلام، إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته، ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جمع لبلغ مئين أو ألوفا، ثم ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من سلف الأمة - لا من الصحابة، ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا عن الأئمة الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف - حرف واحد يخالف ذلك، لا نصا ولا ظاهرا. انتهى.
وفي كتب شيخ الإسلام وفتاويه من كلامه، وما نقله عن أكابر العلماء في إثبات علو الرب على خلقه، وأنه سبحانه مستو على عرشه، بائن من خلقه، وتقرير ذلك بالأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة والإجماع شيء كثير جدا، وقد ذكرت جملة منه فيما تقدم.
وأما كلامه في المعية وقوله: إنها معية العلم، فهو كثير أيضا، وقد نقل أقوال بعض الذين حكوا الإجماع على ذلك في مواضع كثيرة من كتبه وفتاويه، وقد ذكرت بعض نقوله عنهم فيما تقدم، فلتراجع؛ ففيها أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
وقد ذكر في" الفتوى الحموية الكبرى" عن سلف الأمة وأئمتها، أئمة أهل العلم والدين من شيوخ العلم والعبادة أنهم أثبتوا أن الله فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، وهم بائنون منه. وهو أيضا مع العباد عموما بعلمه، ومع أنبيائه وأوليائه بالنصر والتأييد والكفاية. وهو أيضا قريب مجيب.(12/190)
ففي آية النجوى دلالة على أنه عالم بهم، انتهى. وذكر في "شرح حديث النزول " قول الله تعالى في سورة الحديد: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) وقوله تعالى في سورة المجادلة: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (2) ثم قال: وقد ثبت عن السلف أنهم قالوا: هو معهم بعلمه.
وقد ذكر ابن عبد البر وغيره أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولم يخالفهم فيه أحد يعتد بقوله، وهو مأثور عن ابن عباس والضحاك ومقاتل بن حيان وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم، ثم ذكر ما رواه ابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} (3) قال: هو على العرش، وعلمه معهم. قال: وروي عن سفيان الثوري أنه قال: علمه معهم، وروي أيضا عن الضحاك بن مزاحم في قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (4) إلى قوله: {أَيْنَ مَا كَانُوا} (5) قال: هو على العرش وعلمه معهم. ورواه بإسناد آخر عن مقاتل بن حيان، وهو ثقة في التفسير ليس بمجروح كما جرح مقاتل بن سليمان.
وذكر أيضا ما رواه عبد الله بن أحمد عن الضحاك في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (6) قال: هو على العرش، وعلمه معهم، وروي أيضا عن سفيان الثوري في قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (7) قال: علمه. وذكر أيضا ما رواه حنبل بن إسحاق في كتاب "السنة" قال: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل ما معنى قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (8) و {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (9) إلى قوله: {إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (10) قال: علمه، عالم الغيب والشهادة، محيط بكل شيء، شاهد علام الغيوب، يعلم الغيب. ربنا على العرش بلا حد ولا صفة، وسع كرسيه السماوات والأرض.
قلت: قوله: بلا حد ولا صفة معناه: أنه لا يحد استواء الرب على العرش، ولا توصف كيفيته، كما قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك بن أنس: الاستواء معلوم والكيف غير معقول، قال شيخ الإسلام: وأيضا فإنه افتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم، فكان السياق يدل على أنه أراد أنه عالم بهم، ثم ذكر أن لفظ المعية في اللغة - وإن اقتضى المجامعة والمصاحبة والمقارنة - فهو إذا كان مع العباد لم يناف ذلك علوه على عرشه، ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه، فمع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان، ويخص بعضهم بالإعانة والنصر والتأييد. انتهى.
__________
(1) سورة الحديد الآية 4
(2) سورة المجادلة الآية 7
(3) سورة الحديد الآية 4
(4) سورة المجادلة الآية 7
(5) سورة المجادلة الآية 7
(6) سورة المجادلة الآية 7
(7) سورة الحديد الآية 4
(8) سورة الحديد الآية 4
(9) سورة المجادلة الآية 7
(10) سورة المجادلة الآية 7(12/191)
قول الحافظ محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي
قد صنف الذهبي - رحمه الله تعالى - في إثبات علو الله على عرشه كتابه المسمى "بالعلو للعلي الغفار"، وساق فيه أدلة العلو من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أكابر العلماء إلى قريب من زمانه، ومنهم من حكى الإجماع على أن الله تعالى فوق عرشه، ومع الخلق بعلمه، وقال في أثناء الكتاب: ويدل على أن البارئ - تبارك وتعالى - عال على الأشياء فوق عرشه المجيد، وغير حال في الأمكنة، قول الله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (1) ، ثم ساق آيات وأحاديث كثيرة في إثبات العلو، فلتراجع، وليراجع الكتاب كله، فإنه كثير الفوائد عظيم المنفعة.
قول العلامة شمس الدين بن القيم
قد صنف ابن القيم - رحمه الله تعالى - في إثبات علو الله على خلقه كتابه المسمى "باجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية "، وساق فيه أدلة العلو من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من أكابر العلماء إلى قريب من زمانه، ومنهم من حكى الإجماع على أن الله تعالى فوق عرشه، وهو مع الخلق بعلمه، فليراجع الكتاب كله؛ فإنه كثير الفوائد، عظيم المنفعة.
ولابن القيم أيضا فصول في كتابه المسمى "بالكافية الشافية"، وفي كتابه المسمى "بالصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" قرر فيها علو الرب - تبارك وتعالى - فوق جميع المخلوقات، ورد فيها على أهل التشبيه والتعطيل، فلراجع أيضا.
قول الحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير
قال في تفسير سورة الحديد: وقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (2) أي: رقيب عليكم، شهيد على أعمالكم، حيث كنتم وأين كنتم من بر أو بحر، في ليل أو نهار، في البيوت أو في القفار، الجميع في علمه على السواء، وتحت بصره وسمعه، فيسمع كلامكم ويرى مكانكم، ويعلم سركم ونجواكم، وقال في تفسير سورة المجادلة: ثم قال تعالى مخبرا عن إحاطة علمه بخلقه، واطلاعه عليهم، وسماعه كلامهم، ورؤيته مكانهم حيث كانوا
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) سورة الحديد الآية 4(12/192)
وأين كانوا فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ} (1) أي: من سر ثلاثة، {إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (2) أي: مطلع عليهم، يسمع كلامهم وسرهم ونجواهم، ورسله - أيضا مع ذلك - تكتب ما يتناجون به مع علم الله به، وسمعه له.
ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى، ولا شك في إرادة ذلك، ولكن سمعه أيضا مع علمه بهم، وبصره نافذ فيهم، فهو سبحانه وتعالى مطلع على خلقه، لا يغيب عنه من أمورهم شيء، ثم قال تعالى: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3) قال الإمام أحمد: افتتح الآية بالعلم واختتمها بالعلم. انتهى.
فهذا ما تيسر إيراده من أقوال أكابر العلماء في إثبات العلو لله تعالى، وأنه فوق جميع المخلوقات مستو على عرشه، بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، وأن معيته لخلقه معية العلم والإحاطة، والاطلاع، والسماع، والرؤية، وأن له معية خاصة مع أنبيائه وأوليائه، وهي معية النصر والتأييد والكفاية، ولم يأت في القرآن ولا في السنة، ولا في أقوال الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، ما يدل على أن معية الله لخلقه معية ذاتية، وإنما جاء ذلك عن بعض أهل البدع، وهم الذين يقولون: إن الله بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل مكان. وهذا قول باطل مردود بالأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة والإجماع، وقد تقدم بيان ذلك في أول الكتاب فليراجع.
وكلام أكابر العلماء المتأخرين في المائة الثامنة من الهجرة فما بعدها في إثبات العلو، والرد على من قال بخلاف ما عليه أهل السنة والجماعة كثير جدا، وفيما ذكرته عن المتقدمين كفاية إن شاء الله تعالى.
__________
(1) سورة المجادلة الآية 7
(2) سورة المجادلة الآية 7
(3) سورة المجادلة الآية 7(12/193)
فصل
وقد تعلق المردود عليه بجمل من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وابن رجب، وليس في شيء منها ما يؤيد زعمه أن معية الله لخلقه معية ذاتية، وإن توهم المردود عليه أو توهم غيره أن في شيء منها تأييدا لقوله الباطل، فهو محجوج بإجماع الصحابة والتابعين على أن الله تعالى على العرش، وعلمه في كل مكان، وأن معنى قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) ونحو ذلك في القرآن، أن ذلك علمه، وأن الله تعالى فوق
__________
(1) سورة الحديد الآية 4(12/193)
السماوات بذاته، مستو على عرشه كيف شاء، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد من أكابر العلماء، ونقله شيخ الإسلام ابن تيمية والذهبي وابن القيم عن غير واحد من الأئمة، وتقدم ذكر ذلك في أول الكتاب، وما خالف الإجماع من الأقوال فهو مردود على قائله كائنا من كان.
وإذا علم هذا، فمن الجمل التي تعلق بها المردود عليه قول شيخ الإسلام ابن تيمية في صفحة 3 من المجلد الخامس من مجموع الفتاوى، أن كلمة (مع) إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة، أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى، قال: فالله مع خلقه حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة، ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد، فلما قال: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} (1) إلى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (2) دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها: أنه مطلع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف أنه معهم بعلمه. وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته.
والجواب أن يقال: ليس في هذه الجملة ما يتعلق به من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية، وإنما فيها الرد عليه؛ لأن شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - قد صرح أن المعية المذكورة في قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (3) قد دل ظاهر الخطاب على أن حكمها ومقتضاها أنه مطلع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، قال: وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه، قال: وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته. انتهى.
فأما القول بالمعية الذاتية، فإنما هو من أقوال الحلولية من الجهمية، وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى، وتقدم كلامه في أول الكتاب، فليراجع.
__________
(1) سورة الحديد الآية 4
(2) سورة الحديد الآية 4
(3) سورة الحديد الآية 4(12/194)
الجملة الثانية من الجمل التي تعلق بها المردود عليه: قول شيخ الإسلام ابن تيمية في جواب له في صفحة 231 من المجلد الخامس من مجموع الفتاوى: فهو سبحانه مع المسافر في سفره، ومع أهله في وطنه، ولا يلزم من هذا أن تكون ذاته مختلطة بذواتهم، - إلى أن قال: - فإنه عالم بعباده، وهو معهم أين ما كانوا، وعلمه بهم من لوازم المعية، ثم قال: فمدلول اللفظ مراد منه، وقد أريد أيضا لازم ذلك المعنى، فقد أريد ما يدل عليه اللفظ في أصل اللغة بالمطابقة وبالالتزام، فليس اللفظ مستعملا في اللازم فقط، بل أريد به مدلوله الملزوم، وذلك حقيقة.(12/194)
والجواب أن يقال: إن المردود عليه قد اختصر كلام شيخ الإسلام، وترك جملة من أوله فيها بيان المراد من كلامه في المعية، وأنها معية العلم؛ لعموم العباد ومعية النصر والتأييد والكفاية لأنبياء الله وأوليائه، وهذا نص كلام شيخ الإسلام قال: وأما القسم الرابع فهم سلف الأمة، وأئمتها أئمة العلم والدين من شيوخ العلم والعبادة، فإنهم أثبتوا وآمنوا بجميع ما جاء به الكتاب والسنة كله من غير تحريف للكلم، أثبتوا أن الله تعالى فوق سماواته، وأنه على عرشه، بائن خلقه، وهم منه بائنون، وهو أيضا مع العباد عموما بعلمه، ومع أنبيائه وأوليائه بالنصر والتأييد والكفاية، وهو أيضا قريب مجيب، ففي آية النجوى دلالة على أنه عالم بهم.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل (1) » ، فهو سبحانه مع المسافر في سفره، ومع أهله في وطنه، ولا يلزم من هذا أن تكون ذاته مختلطة بذواتهم - إلى أن قال: - فالله تعالى عالم بعباده، وهو معهم أين ما كانوا، وعلمه بهم من لوازم المعية. انتهى.
وفي قوله: إن الله تعالى فوق سماواته، وأنه على عرشه، بائن من خلقه، وهم منه بائنون، وأنه مع العباد عموما بعلمه، ومع أنبيائه وأوليائه بالنصر والتأييد، والكفاية أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية، وكذلك قوله: إن في آية النجوى دلالة على أنه عالم بهم. فيه أيضا رد عليه.
وأما المعية المذكورة في قوله: فهو مع المسافر في سفره، ومع أهله في وطنه، فهي معية الاطلاع والحفظ والكفاية، وليست معية ذاتية كما قد توهم ذلك المردود عليه. وقد أوضح ذلك شيخ الإسلام بقوله: ولا يلزم من هذا أن تكون ذاته مختلطة بذواتهم. ومن تأمل كلام شيخ الإسلام في المعية وجده يدور على أنها معية العلم والإحاطة، والاطلاع، والسماع، والرؤية لعموم الخلق، وأن لله معية خاصة مع أنبيائه وأوليائه، وهي معية النصر والتأييد والكفاية.
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1342) ، سنن الترمذي الدعوات (3447) ، سنن أبو داود الجهاد (2599) ، مسند أحمد بن حنبل (2/150) ، سنن الدارمي الاستئذان (2673) .(12/195)
الجملة الثالثة من الجمل التي تعلق بها المردود عليه: قول شيخ الإسلام ابن تيمية في "العقيدة الواسطية": وهل هذا الكلام الذي ذكره تعالى من أنه فوق العرش، وأنه معنا، حق على حقيقته، لا يحتاج إلى تحريف. وقال في الفصل الذي يليه: وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته، فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو علي في دنوه، قريب في علوه.(12/195)
والجواب أن يقال: إن شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - لم يقل: إن معية الله لخلقه معية ذاتية حتى يكون للمردود عليه تعلق بكلامه، وقد تقدم في الجواب عن الجملة الثانية ما نقله شيخ الإسلام عن سلف الأمة وأئمتها، أنهم أثبتوا أن الله تعالى فوق سماواته، وأنه على عرشه، بائن من خلقه، وهم منه بائنون، وأنه مع العباد عموما بعلمه، ومع أنبيائه وأوليائه بالنصر والتأييد والكفاية، وأن في آية النجوى دلالة على أنه عالم بهم، فكلام شيخ الإسلام "في الفتاوى" يوضح كلامه في "العقيدة الواسطية"، ويبين أنه أراد بالمعية معية العلم، ولم يرد المعية الذاتية التي تستلزم مخالطة الخلق في كل مكان.
وأما قول شيخ الإسلام: وهو علي في دنوه، قريب في علوه، فمراده بالدنو نزول الرب - تبارك وتعالى - إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، كما جاء ذلك في الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك دنوه من أهل الموقف عشية عرفة، فقد جاء في حديث مرفوع أن الله تعالى يهبط إلى سماء الدنيا عشية عرفة، فيباهي بأهل الموقف الملائكة. وليس في نزول الرب - تبارك وتعالى - إلى السماء الدنيا في آخر الليل، وفي عشية عرفة، ودنوه من خلقه ما يقتضي أن تكون معيته لهم معية ذاتية، وليس في كلام شيخ الإسلام ما يدل على ذلك، وقد ذكرت كلامه في المعية مما ذكره في الفتاوى وغيرها من كتبه، وما نقله من إجماع المسلمين من أهل السنة على أن معنى قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) ونحو ذلك في القرآن أن ذلك علمه. فليراجع ما تقدم من النقول عنه؛ ففيها كفاية في الرد على من توهم من كلامه في "العقيدة الواسطية" خلاف ما أجمع عليه الصحابة والتابعون في المعية، وأنها معية العلم وليست معية ذاتية.
__________
(1) سورة الحديد الآية 4(12/196)
الجملة الرابعة من الجمل التي تعلق بها المردود عليه: قول ابن القيم في "مختصر الصواعق " المثال التاسع: مما ادعى فيه المجاز قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) وذكر آيات فيها المعية، ثم قال: قالت المجازية: هذا كله مجاز يمتنع حمله على الحقيقة؛ إذ حقيقته المخالطة والمجاورة، وهي منتفية قطعا، فإذا معناه العلم والقدرة والإحاطة، ومعية النصر والتأييد والمعونة، وكذلك القرب.
قال أصحاب الحقيقة: والجواب عن ذلك من وجوه - إلى أن قال: - الوجه الرابع: إنه ليس ظاهر اللفظ ولا حقيقته أنه مختلط بالمخلوقات، ممتزج بها - إلى أن قال: - وغاية ما تدل عليه (مع) المصاحبة والموافقة والمقارنة في أمر من الأمور، وذا الاقتران في كل موضع بحسبه يلزمه لوازم بحسب متعلقه، فإذا قيل: الله مع خلقه بطريق
__________
(1) سورة الحديد الآية 4(12/196)
العموم، كان من لوازم ذلك علمه بهم، وتدبيره لهم، وقدرته عليهم، وإذا كان ذلك خاصا كقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (1) ، كان من لازم ذلك معيته لهم بالنصر والتأييد والمعونة.
قال: وقد أخبر الله تعالى أنه مع خلقه مع كونه مستويا على عرشه - إلى أن قال: - فعلوه لا يناقض معيته، ومعيته لا تبطل علوه، ثم تكلم على قرب الله تعالى وقال: فهو قريب من المحسنين بذاته ورحمته قربا ليس له نظير، وهو سبحانه مع ذلك فوق سماواته على عرشه، كما أنه سبحانه يقرب من عباده في آخر الليل، وهو فوق عرشه، ويدنو من أهل عرفة عشية عرفة وهو على عرشه. قال: وهو سبحانه قريب في علوه عال في قربه.
قال: والذي يسهل عليك فهم هذا معرفة عظمة الرب وإحاطته بخلقه، وأن السماوات السبع في يده كخردلة في يد العبد، وأنه سبحانه يقبض السماوات بيده والأرض بيده الأخرى، ثم يهزهن فكيف يستحيل في حق من هذا بعض عظمته أن يكون فوق عرشه، ويقرب من خلقه كيف شاء، وهو على العرش. اهـ.
والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن يقال: إن أهل السنة والجماعة أجمعوا على أن الله - تبارك وتعالى - مستو على عرشه، وعلمه وقدرته وتدبيره بكل ما خلقه، وأجمعوا على أن معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (2) ونحو ذلك في القرآن أن ذلك علمه، وأن الله تعالى فوق السماوات بذاته، مستو على عرشه كيف شاء. وقد نقل ابن القيم هذا الإجماع في كتابه المسمى (باجتماع الجيوش الإسلامية) ، والعمدة على هذا الإجماع، ولا عبرة بما خالفه من أقوال الناس.
الوجه الثاني: أن أقول: إني لم أر في شيء من كتب ابن القيم التصريح بأن معية الله لخلقه معية ذاتية، وإنما كان كلامه يدور على إثبات معية العلم والقدرة والإحاطة والرؤية لعموم الخلق، وعلى معية النصر والتأييد والكفاية لأنبياء الله وأوليائه، وقد ذكر في كتابه المسمى "باجتماع الجيوش الإسلامية" آيات كثيرة في إثبات علو الرب - تبارك وتعالى - واستوائه على عرشه، ومنها قوله تعالى في سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (3) ، ثم قال:
__________
(1) سورة النحل الآية 128
(2) سورة الحديد الآية 4
(3) سورة الحديد الآية 4(12/197)
فذكر عموم علمه، وعموم قدرته، وعموم إحاطته، وعموم رؤيته، وذكر أيضا في كتاب " اجتماع الجيوش الإسلامية" عن القاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني أنه قال في قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (1) ، يعني بالحفظ والنصر والتأييد، ولم يرد أن ذاته معهم. قال: وقوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (2) محمول على هذا التأويل، وقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (3) يعني أنه عالم بهم وبما خفي من سرهم ونجواهم. انتهى.
وقد أقره ابن القيم على هذا القول، وذلك يدل على الرضى به والموافقة عليه، وفيه رد لما تشبث به المردود عليه من كلام ابن القيم في كتاب (الصواعق المرسلة) ، وقد قال ابن القيم في كتاب "الصواعق المرسلة" قبل كلامه الذي نقله المردود عليه بأقل من صفحة: الوجه الثاني: أن الله سبحانه قد بين في القرآن غاية البيان أنه فوق سماواته، وأنه مستو على عرشه، وأنه بائن عن خلقه، وأن الملائكة تعرج إليه وتنزل من عنده، وأنه رفع المسيح إليه، وأنه يصعد إليه الكلم الطيب إلى سائر ما دلت عليه النصوص من مباينته لخلقه وعلوه على عرشه. وهذه نصوص محكمة فيجب رد المتشابه إليها. انتهى.
قلت: وفي النصوص المحكمة الدالة على علو الله - تبارك وتعالى - فوق سماواته، ومباينته لجميع خلقه أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية؛ لأن هذا القول الباطل يستلزم الحلول مع الخلق في أماكنهم، وذلك من أبطل الباطل.
وأما دنو الرب - تبارك وتعالى - من عباده فهو ثابت في حديث النزول المتفق على صحته، وجاء في حديث مرفوع أن الله تعالى يهبط إلى سماء الدنيا عشية عرفة، فيباهي بأهل الموقف الملائكة، وهذا الحديث وحديث النزول في آخر الليل وغيرهما مما جاء في الصفات وهو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يجب الإيمان به، وإمراره كما جاء.
قال الأوزاعي: سئل مكحول والزهري عن تفسير الأحاديث - أي التي جاءت في الصفات - فقالا: أمروها كما جاءت. رواه الخلال في كتاب (السنة) ، ونقله شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتوى الحموية الكبرى"، وروى الخلال أيضا عن الوليد بن مسلم قال: سألت مالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي عن الأخبار التي جاءت في الصفات، فقالوا: أمروها كما جاءت. وفي رواية فقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف.
وقد نقل هذه الرواية أيضا
__________
(1) سورة النحل الآية 128
(2) سورة طه الآية 46
(3) سورة المجادلة الآية 7(12/198)
شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتوى الحموية الكبرى" ثم قال: والزهري ومكحول هما أعلم التابعين في زمانهم، والأربعة الباقون أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين. ونقل الشيخ أيضا عن أبي سليمان الخطابي أنه قال في رسالته المشهورة في "الغنية عن الكلام وأهله ": فأما ما سألت عنه من الصفات، وما جاء منها الكتاب والسنة فإن مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها. انتهى.
وإذا علم هذا فليس من مذهب السلف أن معية الله لخلقه معية ذاتية، ولم يقل ذلك أحد من علماء أهل السنة والجماعة فيما علمت، وإنما هو من أقوال أهل البدع، وهم الذين يقولون: إن الله بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل مكان. وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، وتقدم في أول الكتاب، فليراجع. ومن زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية، واستدل على ذلك بنزول الرب - تبارك وتعالى - إلى سماء الدنيا في آخر الليل، ودنوه من أهل الموقف في عشية يوم عرفة فقد أبعد النجعة وقال على الله بغير علم.(12/199)
الجملة الخامسة من الجمل التي تعلق بها المردود عليه: قول ابن رجب في شرح الحديث التاسع عشر من الأربعين النووية: فهذه المعية الخاصة تقتضي النصر والتأييد، والحفظ والإعانة، بخلاف المعية العامة المذكورة في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (1) إلى قوله: {إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (2) إلخ، فإن هذه المعية تقتضي علمه واطلاعه ومراقبته لأعمالهم. اهـ.
والجواب أن يقال: إن كلام ابن رجب - رحمه الله تعالى - موافق لما أجمع عليه أهل السنة والجماعة من أن المعية العامة: معية العلم والاطلاع والمراقبة. وأن المعية الخاصة: معية النصر والتأييد والحفظ والإعانة. وليس في كلامه ما يتعلق به من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
__________
(1) سورة المجادلة الآية 7
(2) سورة المجادلة الآية 7(12/199)
الجملة السادسة من الجمل التي تعلق بها المردود عليه: قول ابن كثير في تفسير سورة الحديد: أي رقيب عليكم، شهيد على أعمالكم، حيث كنتم وأين كنتم من بر وبحر، في ليل أو نهار، الجميع في علمه على السواء، وتحت سمعه وبصره، فيسمع كلامكم، ويرى مكانكم، ويعلم سركم ونجواكم، وقال في سورة المجادلة: وقد حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علمه، ولا شك في إرادة ذلك، ولكن سمعه أيضا مع علمه بهم وبصره نافذ فيهم، فهو سبحانه مطلع على خلقه، لا يغيب عنه من أمورهم شيء. اهـ.(12/199)
والجواب أن يقال: ليس في كلام ابن كثير ما يتعلق به من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية، وفيما ذكره ابن كثير من الإجماع على أن المعية معية العلم أبلغ رد على صاحب الزعم المخالف للإجماع.
وأما قول المردود عليه بعد ما ذكر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن كثير وابن رجب، ففي كلام هؤلاء العلماء الأجلاء إشارة بل في بعضه تصريح بأن تفسير معية الله تعالى لخلقه بعلمه تفسير بلازمها أو حكمها ومقتضاها، كما في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، واللازم غير الملزوم، والمقتضي غير المقتضى؛ فلهذا قال شيخ الإسلام: ففرق بين معنى المعية ومقتضاها، وربما صار مقتضاها من معناها.
ووجه ذلك أن دلالة اللفظ على مدلوله تارة تكون بالمطابقة، وتارة بالتضمن، وتارة بالالتزام، فدلالة المعية على العلم من دلالة الملزوم على اللازم، كما نص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية.
ولهذا قال: وعلمه بهم من لوازم المعية ومن التبعيض، وذلك لأن العلم ليس وحده لازم المعية، بل لها لوازم أخرى كالاطلاع والسمع والرقابة والهيمنة والقدرة والسلطان، وغير ذلك مما تقتضيه المعية. وقد مثل بهذه اللوازم الزائدة على العلم شيخ الإسلام وابن القيم وابن كثير وابن رجب رحمهم الله تعالى.
وأشار إلى مثل ذلك الشيخ الشنقيطي حيث قال: وأما المعية العامة لجميع الخلق فهي بالإحاطة التامة والعلم، ونفوذ القدرة، وكون الجميع في قبضته، فدل ذلك أن تفسير السلف لها بالعلم تفسير ببعض لوازمها، وليس وحده هو معناها، وأن مقصودهم بذلك خوف توهم حلول البارىء - جل وعلا - في أماكننا في الأرض، أو دفع دعوى من ادعى ذلك من الحلولية الجهمية، وقد ذكر أن ذلك مقصودهم الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم حيث قال في الفهارس العامة لمجموع الفتاوى ص 90: فسر بعض السلف بعض نصوص المعية بالعلم، وهو بعض مقتضاها؛ دفعا لاستدلا الحلولية بها. اهـ.
فجوابه أن يقال: إن العلماء الذين ذكرهم المردود عليه في هذه الجملة لم يقل أحد منهم أن معية الله لخلقه معية ذاتية، وإنما كان كلامهم يدور على إثبات معية العلم والقدرة والإحاطة والسماع والرؤية لعموم الخلق. وعلى إثبات معية النصر والتأييد والكفاية لأنبياء الله وأوليائه، وقد ذكر كلام شيخ الإسلام وابن القيم وابن كثير في ذلك قريبا، فليراجع.
وأما كلام ابن رجب الذي تقدم ذكره فهو موافق لكلام شيخ الإسلام وابن القيم وابن(12/200)
كثير، وقد تقدم في الجواب عن الجملة الثانية من الجمل التي تعلق بها المردود عليه، ما ذكره شيخ الإسلام عن سلف الأمة وأئمتها أئمة العلم والدين من شيوخ العلم والعبادة، أنهم أثبتوا أن الله تعالى فوق سماواته، وأنه على عرشه، بائن من خلقه، وهم منه بائنون، وهو أيضا مع العباد عموما بعلمه، ومع أنبيائه وأوليائه بالنصر والتأييد والكفاية.
وتقدم أيضا ما ذكره شيخ الإسلام والذهبي وابن القيم من الإجماع على أن معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) ونحو ذلك في القرآن، أن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته، مستو على عرشه كيف شاء. وفيما ذكروه أبلغ رد على من توهم عليهم خلاف ما ذكروه من الإجماع.
وقال شيخ الإسلام أيضا في "شرح حديث النزول ": ولفظ المعية في كتاب الله جاء عاما، كما في هاتين الآيتين، يعني قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (2) وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (3) إلى قوله: {إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (4) وجاء خاصا كما في قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (5) وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (6) وقوله: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (7) فلو كان المراد أنه بذاته مع كل شيء، لكان التعميم يناقض التخصيص. فإنه قد علم أن قوله: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (8) أراد به تخصيصه وأبا بكر دون عدوهم من الكفار. وكذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (9) خصهم بذلك دون الظالمين والفجار - إلى أن قال: - وأيضا فإنه افتتح الآية بالعلم، وختمها بالعلم، فكان السياق يدل على أنه أراد أنه عالم بهم.
وقد بسط الكلام عليه في موضع أخر، وبين أن لفظ المعية في اللغة وإن اقتضى المجامعة والمصاحبة والمقارنة فهو إذا كان مع العباد لم يناف ذلك علوه على عرشه، ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه، فمع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان، ويخص بعضهم بالإعانة والنصر والتأييد. انتهى المقصود من كلامه. وفيه أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
وقد تقدم في الجواب عن الجملة الرابعة ما ذكره ابن القيم عن القاضي أبي بكر ابن الطيب الباقلاني أنه قال في قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (10) يعني بالحفظ والنصر والتأييد، ولم يرد أن ذاته معهم. قال وقوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (11) محمول على هذا التأويل. وقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (12) يعني أنه عالم بهما، وبما خفي من سرهم ونجواهم. انتهى. وقد أقره ابن القيم على هذا القول، وفيه أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
__________
(1) سورة الحديد الآية 4
(2) سورة الحديد الآية 4
(3) سورة المجادلة الآية 7
(4) سورة المجادلة الآية 7
(5) سورة النحل الآية 128
(6) سورة طه الآية 46
(7) سورة التوبة الآية 40
(8) سورة التوبة الآية 40
(9) سورة النحل الآية 128
(10) سورة النحل الآية 128
(11) سورة طه الآية 46
(12) سورة المجادلة الآية 7(12/201)
وتقدم أيضا كلام ابن كثير على قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) وقوله {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (2) إلى قوله: {إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (3) وما ذكره من الإجماع على أن المراد بالآية معية العلم، قال: وسمعه أيضا علمه بهم وبصره نافذ فيهم. انتهى. وفيه أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
وقال الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (4) هذه المعية خاصة بعباده المؤمنين، وهي بالإعانة والنصر والتوفيق، وأما المعية العامة لجميع الخلق، فهي بالإحاطة التامة والعلم، ونفوذ القدرة، وكون الجميع في قبضته جل وعلا، فالكائنات في يده جل وعلا أصغر من حبة خردل، وهذه هي المذكورة أيضا في آيات كثيرة كقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} (5) الآية، وقوله الله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (6) الآية، وقوله: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} (7) ، وقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} (8) الآية. إلى غير ذلك من الآيات. فهو جل وعلا مستو على عرشه - كما قال - على الكيفية اللائقة بكماله وجلاله، وهو محيط بخلقه، كلهم في قبضة يده، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين. انتهى كلامه. وفيه أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
__________
(1) سورة الحديد الآية 4
(2) سورة المجادلة الآية 7
(3) سورة المجادلة الآية 7
(4) سورة النحل الآية 128
(5) سورة المجادلة الآية 7
(6) سورة الحديد الآية 4
(7) سورة الأعراف الآية 7
(8) سورة يونس الآية 61(12/202)
وإذا علم هذا فكلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وكلام من ذكر بعده من العلماء موافق لما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها، وهو أن الله - سبحانه وتعالى - مع العباد عموما بالعلم والقدرة والإحاطة والسماع والرؤية، وأنه يخص أنبياءه وأولياءه بمعية النصر والتأييد والكفاية، وليس في كلامهم ما يتعلق به من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
وأما قول المردود عليه: وإذا أردت أن تعرف أن معنى معية الله لخلقه معية حقيقية ذاتية، لا تقتضي أن يكون حالا فيهم ولا في أمكنتهم، فتأمل ما يأتي:
أ- قول شيخ الإسلام وغيره: إن ما ذكر من معيته لا ينافي ما ذكر من علوه، وأنه(12/202)
سبحانه علي في دنوه، قريب في علوه، فإنه لو كان معنى المعية مجرد العلم، ما احتاجوا إلى ذكر ذلك؛ لأن تصور المنافاة بين عموم العلم وعلو الذات غير وارد ولا مورد أيضا.
ب- قول ابن القيم - رحمه الله تعالى - في "مختصر الصواعق": والذي يسهل عليك فهم هذا إلى آخر ما نقلناه عنه في هذه الورقات. وقول الشنقيطي في تفسيره - رحمه الله تعالى -: فالكائنات في يده جل وعلا أصغر من حبة خردل - إلى أن قال: - فهو سبحانه مستو على عرشه، كما قال على الكيفية اللائقة بكماله وجلاله وهو محيط بخلقه كأنهم (1) قبضة يده.
ج- قول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: فهو قريب من المحسنين بذاته ورحمته قربا ليس له نظير، وهو مع ذلك فقو سماواته على عرشه. فأثبت له القرب الذاتي مع علوه قربا ليس له نظير.
فالجواب عن أول كلامه من وجهين أحدهما: أن يقال: إن آخر كلامه ينقض أوله. وذلك أنه أثبت المعية الذاتية للخلق، وإثباتها يستلزم إثبات الحلول معهم في أمكنتهم. كما أن نفي الحلول مع الخلق يستلزم نفي المعية الذاتية لهم. وحيث إن المردود عليه قد أثبت المعية الذاتية للخلق، وفي الحلول معهم في أمكنتهم، فقد وقع في التناقض، وإذا فلا بد له من أحد أمرين: إما أن يثبت المعية الذاتية للخلق والحلول معهم في أمكنتهم، ويكون من الحلولية الذين يقولون: إن الله بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل مكان. وإما أن ينفي المعية الذاتية للخلق، والحلول معهم في أمكنتهم، ويكون من أهل السنة والجماعة الذين قد أجمعوا على أن الله تعالى مستو على عرشه فوق جميع المخلوقات، وأنه تعالى مع عموم الخلق بالعلم والمشاهدة والسماع لأقوالهم وحركاتهم، وأنه يخص أنبياءه وأولياءه بمعية النصر والتأييد والكفاية. فليختر المردود عليه ما يناسبه من أحد الأمرين.
الوجه الثاني: أن يقال: إنه ليس في كلام شيخ الإسلام وابن القيم والشنقيطي ما يؤيد زعم المردود عليه أن معية الله لخلقه معية ذاتية، وإنما الذي في كلامهم إثبات معية العلم والقدرة، والإحاطة والسماع والرؤية لعموم الخلق. وإثبات معية النصر والتأييد والكفاية لأنبياء الله وأوليائه.
وأما قول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: إن ما ذكر من معية الله تعالى لا ينافي ما
__________
(1) قوله: كأنهم كذا هو بخط المردود عليه وصوابه كلهم.(12/203)
ذكر من علوه، فراده بالمعية: معية العلم والقدرة والسلطان لعموم الخلق، ومعية الإعانة والنصر والتأييد لأنبياء الله وأوليائه. وهذا واضح في كلامه المنقول من "شرح حديث النزول "، وقد تقدم ذكره قريبا، فليراجع.
وأما قول ابن القيم: والذي يسهل عليك فهم هذا؛ معرفة عظمة الرب، وإحاطته بخلقه، وأن السماوات السبع في يده كخردلة في يد العبد، وأنه سبحانه يقبض السماوات بيده والأرض بيده الأخرى، ثم يهزهن فكيف يستحيل في حق من هذا بعض عظمته أن يكون فوق عرشه، ويقرب من خلقه كيف شاء، وهو على العرش. فمراده ما صرح به قبل هذه الجملة، وهو أن الله تعالى يقرب من عباده في آخر الليل، وهو فوق عرشه، ويدنو من أهل عرفة عشية عرفة، وهو فوق عرشه، وأن المعية العامة يكون من لازمها العلم والتدبير والقدرة، وأما المعية الخاصة فإنه يكون من لازمها النصر والتأييد والمعونة، وقد تقدم قريبا ما نقله ابن القيم عن القاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني أنه قال في المعية الخاصة: إنها بالحفظ والنصر والتأييد، قال: ولم يرد أن ذاته معهم. وقال في المعية العامة: إنه عالم بهم وبما خفي من سرهم ونجواهم. وقد أقره ابن القيم على هذا القول وفيه- مع مما تقدم من كلا ابن القيم، وما نقله من الإجماع على أن معنى قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) ونحو ذلك في القرآن: أن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته، مستو على عرشه كيف شاء - أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
وأما الشنقيطي فقد تقدم كلامه قريبا، وفيه التصريح بأن المعية الخاصة هي بالإعانة والنصر والتوفيق. وأما في المعية العامة لجميع الخلق فهي بالإحاطة التامة والعلم، ونفوذ القدرة، وكون الجميع في قبضته جل وعلا، قال: وهو مستو على عرشه على الكيفية اللائقة بكماله وجلاله. فكلام الشنقيطي فيه أبلغ رد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية.
وأما قول ابن القيم: فهو قريب من المحسنين بذاته ورحمته قربا ليس له نظير، وقول المردود عليه فأثبت له القرب الذاتي مع علوه قربا ليس له نظير.
فجوابه أن يقال: أما قرب رحمة الله تعالى من المحسنين فهو ثابت في القرآن، قال الله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (2) ، وأما قرب ذاته منهم فليس عليه
__________
(1) سورة الحديد الآية 4
(2) سورة الأعراف الآية 56(12/204)
دليل ينص عليه لا من القرآن ولا من السنة، وما ليس عليه دليل ينص عليه فليس عليه تعويل.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ينزل ربنا - تبارك وتعالى - كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر (1) » ، وجاء في حديث مرفوع: «إن الله تعالى يهبط إلى السماء الدنيا عشية عرفة، فيباهي بأهل الموقف الملائكة» ، فيجب إثبات ما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وإمراره كما جاء، وترك ما سوى ذلك من أقوال الناس، وإن كانوا من الأكابر المرموقين، قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (2) وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (3) ، والكلام في الصفات بابه التوقيف ولا دخل للاجتهاد في ذلك أيضا.
وإذا علم هذا فليعلم أن من أثبت لله صفة لم ترد في القرآن ولا في السنة، فقوله مردود عليه كائنا من كان، والدليل على ذلك ما أمر الله به في الآيتين من سورة الأعراف.
وأما قول المردود عليه: وهكذا نقول في المعية: نثبت لربنا معية حقيقية ذاتية، تليق بعظمته وجلاله، ولا تشبه معية المخلوق للمخلوق، ونثبت مع ذلك علوه على خلقه، واستواءه على عرشه على الوجه اللائق بجلاله، لا نكيف ذلك ولا نتصور له كيفية؛ لأن تكييفنا له قول على الله بلا علم، وتصورنا لذلك كيفية محاولة لما لا يمكن الوصول إليه ولا القول به.
ونرى أن من زعم أن الله تعالى بذاته في كل مكان، فهو كافر أو ضال إن اعتقده، وكاذب إن نسبه إلى غيره من سلف الأمة أو أئمتها، فعقيدتنا أن لله تعالى معية حقيقية ذاتية تليق به، وتقتضي إحاطته بكل شيء علما وقدرة وسمعا وبصرا وسلطانا وتدبيرا، وأنه سبحانه منزه أن يكون مختلطا بالخلق أو حالا في أمكنتهم، بل هو العلي بذاته وصفاته، وعلوه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها، وأنه على عرشه كما يليق بجلاله، وأن ذلك لا ينافي معيته؛ لأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (4) قاله مقررا له ومعتقدا له، منشرحا له صدره، كاتبه. . . في 24 \ 6 \ 1403هـ التوقيع والختم.
فجوابه من وجهين: أحدهما: أن يقال: إن إثبات المعية الذاتية لله تعالى مع خلقه لم يرد في القرآن ولا في السنة، ولا عن أحد من الصحابة ولا التابعين وتابعيهم، وأئمة العلم
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1145) ، صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها (758) ، سنن الترمذي كتاب الدعوات (3498) ، سنن أبو داود الصلاة (1315) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) ، مسند أحمد بن حنبل (2/265) ، موطأ مالك النداء للصلاة (496) ، سنن الدارمي كتاب الصلاة (1479) .
(2) سورة الأعراف الآية 3
(3) سورة الأعراف الآية 158
(4) سورة الشورى الآية 11(12/205)
والهدى من بعدهم. ولم أر أحدا أثبتها سوى المردود عليه. وقد ذكرت قريبا أن من أثبت لله تعالى صفة لم ترد في القرآن ولا في السنة فقوله مردود عليه، وذكرت الدليل على ذلك من القرآن.
الوجه الثاني: أن يقال: إن كلام المردود عليه قد اشتمل على حق وباطل، فأما الذي فيه من الحق: فهو إثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه على الوجه اللائق بجلاله، وأن الاستواء لا يكيف ولا تتصور كيفيته، وأن الله تعالى هو العالي بذاته وصفاته، وأن علوه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها، وأنه محيط بكل شيء علما وقدرة وسمعا وبصرا وسلطانا وتدبيرا، وأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) ومن الحق فيه أيضا تكفير وتضليل من زعم أن الله تعالى بذاته في كل مكان، وتكذيب من نسب ذلك إلى أحد من سلف الأمة وأئمتها، وتنزيه الله تعالى عن الاختلاط بالخلق والحلول في أمكنتهم.
وأما الذي فيه من الباطل فهو: إثبات المعية الذاتية لله مع خلقه، ولا يخفى على من له علم وفهم أن إثبات المعية الذاتية لله مع خلقه، يستلزم الاختلاط بهم والحلول معهم في أمكنتهم، وهذا مما يجب تنزيه الله عنه، وفيه من الباطل أيضا زعمه أن المعية الذاتية لله مع الخلق تليق بعظمة الرب وجلاله، وهذا من قلب الحقيقة؛ لأن المعية الذاتية للرب مع خلقه تستلزم مخالطتهم والحلول معهم في أمكنتهم، وذلك ينافي عظمة الرب وجلاله وعلوه على جميع خلقه.
وفيه من الباطل أيضا جمعه بين إثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه، وبين المعية الذاتية للخلق، وهذا من الجمع بين النقيضين. وفيه من الباطل أيضا زعمه أن علو الرب على خلقه، واستواءه على عرشه لا ينافي المعية الذاتية للخلق، وهذا من قلب الحقيقة؛ لأن علو الرب واستواءه على العرش الذي هو فوق جميع الخلق، ينافي المعية الذاتية التي تستلزم مخالطة الخلق والحلول معهم في أمكنتهم.
وفيه من الباطل أيضا تقريره لقوله: الباطل في المعية الذاتية، واعتقاده له، وانشراح صدره له. فكل هذا باطل وضلال، والله المسئول أن يرد صاحب المقال الباطل إلى الحق، وأن لا يجعله من دعاة الضلالة؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وقد وقع الفراغ من كتابة هذا الرد في 28 \ 3 \ 1404هـ على يد كاتبه الفقير إلى الله تعالى حمود بن عبد الله بن حمود التويجري، غفر الله له ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
__________
(1) سورة الشورى الآية 11(12/206)
* محمد بن صالح بن محمد بن عثيمين الوهيبي التميمي.
* المولد: في عنيزة في العشر الأواخر من رمضان سنة 1347 هـ.
* قرأ القرآن على جده من جهة أمه فحفظه، ثم اتجه إلى طلب العلم فتعلم الخط والحساب وبعض فنون الآداب.
* بدأ دراسة العلم على الشيخ محمد بن عبد العزيز المطوع - رحمه الله -، فأخذ عنه مبادئ التوحيد والفقه والفرائض والنحو، وقرأ على الشيخ عبد الرحمن بن علي بن عودان الفرائض والفقه، ثم قرأ على الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي الذي يعتبر أكثر مشائخه ملازمة له، وقراءة عليه وتحصيلا، فقرأ عليه التوحيد والتفسير والحديث، والفقه وأصوله، والفرائض والمصطلح، والنحو والصرف.
* وفي عام 1371 هـ جلس للتدريس في الجامع، ولما فتحت المعاهد العلمية في الرياض التحق بها عام 1372 هـ، وبعد سنتين تخرج وعين مدرسا في معهد عنيزة العلمي مع مواصلة الدراسة انتسابا في كلية الشريعة.
* أما شيخه الثاني فهو سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، فابتدأ عليه قراءة صحيح البخاري، وبعض رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية، وبعض الكتب الفقهية، فكان له بذلك اتجاه كبير إلى علم الحديث والاعتماد عليه، والنظر في أراء فقهاء المذاهب، وربط ذلك بالمشهور من مذهب الحنابلة.
* ولما توفي ابن سعدي - رحمه الله - تولى إمامة الجامع الكبير بعنيزة، والتدريس في مكتبة عنيزة الوطنية، بالإضافة إلى التدريس في المعهد العلمي، ثم انتقل إلى التدريس في فرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في القصيم، ومازال على الإمامة والتدريس في جامع عنيزة، وفي فرع الجامعة في كليتي الشريعة وأصول الدين حتى الآن.(12/207)
المؤلفات:
1- تفسير آيات الأحكام لم يكمل.
2- شرح عمدة الأحكام لم يكمل.
3- المصطلح.
4- الأصول.
5- رسالة في الوضوء والغسل والصلاة.
6- مجالس رمضان.
7- الأضحية والزكاة.
8- المنهج لمريد العمرة والحج.
9- تسهيل الفرائض.
15- تلخيص الحموية.
11- شرح لمعة الاعتقاد.
12- شرح الواسطية.
13- عقيدة أهل السنة والجماعة.
14- رسالة في أن الطلاق الثلاث واحدة ولو بكلمات.
15- تخريج أحاديث الروض المربع.
16- رسالة الحجاب.
17- رسالة في مواقيت الصلاة الشرعية.
18- رسالة في وجوب زكاة الحلي.
19- رسالة في أحكام الميت من غسله ونحوه.
20- القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى.
21- نيل الأدب من قواعد ابن رجب.
22- أصول وقواعد فقهية نظم على بحر الرجز.
23- الضياء اللامع من الخطب الجوامع.(12/208)
قواعد
في أدلة الأسماء والصفات
للشيخ محمد بن صالح العثيمين
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
وبعد، فهذه قواعد في أدلة أسماء الله تعالى وصفاته، حررتها راجيا من الله تعالى أن ينفع بها عباده، وأن يجعلنا هداة مهتدين، وصالحين مصلحين، إنه جواد كريم.
القاعدة الأولى: الأدلة التي تثبت بها أسماء الله تعالى وصفاته هي: كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تثبت أسماء الله وصفاته بغيرهما.
وعلى هذا فما ورد إثباته لله تعالى من ذلك في الكتاب والسنة وجب إثباته.
وما ورد نفيه فيهما وجب نفيه مع إثبات كمال ضده.
وما لم يرد إثباته ولا نفيه فيهما؛ وجب التوقف في لفظه، فلا يثبت ولا ينفى؛ لعدم ورود الإثبات والنفي فيه.
وأما معناه فيفصل فيه؛ فإن أريد به حق يليق بالله تعالى فهو مقبول. وإن أريد به باطل لا يليق بالله - عز وجل - وجب رده.
فما ورد إثباته لله تعالى: كل صفة دل عليها اسم من أسماء الله تعالى دلالة مطابقة، أو -(12/209)
تضمن أو التزام.
ومنه كل صفة دل عليها فعل من أفعاله، كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين عباده يوم القيامة، ونحو ذلك من أفعاله التي لا تحصى أنواعها، فضلا عن أفرادها {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (1)
ومنه. الوجه والعينان واليدان ونحوها.
ومنه: الكلام والمشيئة والإرادة بقسميها الكوني والشرعي، فالكونية بمعنى المشيئة، والشرعية بمعنى المحبة.
ومنه: الرضا والمحبة والغضب والكراهة ونحوها (2) .
ومما ورد نفيه من الله سبحانه لانتفائه وثبوت كمال ضده: الموت، والنوم، والسنة، والعجز، والإعياء، والظلم، والغفلة، عن أعمال العباد، وأن يكون له مثيل أو كفؤ ونحو ذلك (3) . ومما لم يرد إثباته ولا نفيه لفظ (الجهة) ، فلو سأل سائل هل نثبت لله تعالى جهة؟
قلنا له: لفظ الجهة لم يرد في الكتاب والسنة إثباتا ولا نفيا، ويغنى عنه ما ثبت فيهما من أن الله تعالى في السماء. وأما معناه فإما أن يراد به جهة سفل، أو جهة علو تحيط بالله، أو جهة علو لا تحيط به.
فالأول باطل؛ لمنافاته لعلو الله تعالى الثابت بالكتاب والسنة والعقل والفطرة والإجماع.
والثاني باطل أيضا؛ لأن الله تعالى أعظم من أن يحيط به شيء من مخلوقاته.
والثالث حق؛ لأن الله تعالى العلي فوق خلقه، ولا يحيط به شيء من مخلوقاته.
ودليل هذه القاعدة السمع والعقل.
فأما السمع فمنه قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (4) ، وقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (5) .
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 27
(2) أدلة هذه مذكورة في مواضعها من كتب العقائد.
(3) أدلة هذه مذكورة في مواضعها من كتب العقائد.
(4) سورة الأنعام الآية 155
(5) سورة الأعراف الآية 158(12/210)
وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) ، وقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (2) ، وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (3) ، وقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (4) .
إلى غير ذلك من النصوص الدالة على وجوب الإيمان بما جاء في القرآن والسنة.
وكل نص يدل على وجوب الإيمان بما جاء في القرآن، فهو دال على وجوب الإيمان بما جاء في السنة؛ لأن مما جاء في القرآن الأمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والرد إليه عند التنازع، والرد إليه يكون إليه نفسه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته.
فأين الإيمان بالقرآن لمن استكبر عن اتباع الرسول الله صلى الله عليه وسلم المأمور به في القرآن؟
وأين الإيمان بالقرآن لمن لم يرد النزاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أمر الله به في القرآن؟
وأين الإيمان بالرسول الذي أمر به القرآن لمن لم يقبل ما جاء في سنته؟
ولقد قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (5) . ومن المعلوم أن كثيرا من أمور الشريعة العلمية والعملية جاء بيانها بالسنة، فيكون بيانها بالسنة من تبيان القرآن.
وأما العقل فنقول: إن تفصيل القول فيما يجب أو يمتنع أو يجوز في حق الله تعالى من أمور الغيب التي لا يمكن إدراكها بالعقل، فوجب الرجوع فيه إلى ما جاء في الكتاب والسنة.
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) سورة النساء الآية 80
(3) سورة النساء الآية 59
(4) سورة المائدة الآية 49
(5) سورة النحل الآية 89(12/211)
القاعدة الثانية: الواجب في نصوص القرآن والسنة إجراؤها على ظاهرها دون تحريف، لا سيما نصوص الصفات؛ حيث لا مجال للرأي فيها.(12/211)
ودليل ذلك السمع والعقل.
أما السمع فقوله تعالى: الروح الأمين {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (1) {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (2) ، وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (3) ، وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (4) ، وهذا يدل على وجوب فهمه على ما يقتضيه ظاهرة باللسان العربي إلا أن يمنع منه دليل شرعي.
وقد ذم الله تعالى اليهود على تحريفهم، وبين أنهم بتحريفهم من أبعد الناس عن الإيمان فقال: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (5) . وقال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} (6) الآية.
وأما العقل فلأن المتكلم بهذه النصوص أعلم بمراده من غيره، وقد خاطبنا باللسان العربي المبين، فوجب قبوله على ظاهره، وإلا لاختلفت الآراء، وتفرقت الأمة.
__________
(1) سورة الشعراء الآية 194
(2) سورة الشعراء الآية 195
(3) سورة يوسف الآية 2
(4) سورة الزخرف الآية 3
(5) سورة البقرة الآية 75
(6) سورة النساء الآية 46(12/212)
القاعدة الثالثة: ظواهر نصوص الصفات معلومة لنا باعتبار، ومجهولة لنا باعتبار آخر، فباعتبار المعنى هي معلومة، وباعتبار الكيفية التي هي عليها مجهولة.
وقد دل على ذلك السمع والعقل.
أما السمع فمنه قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) ، وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (2) ، وقوله جل ذكره: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (3) .
والتدبر لا يكون إلا فيما يمكن الوصول إلى فهمه؛ ليتذكر الإنسان بما فهمه منه.
__________
(1) سورة ص الآية 29
(2) سورة الزخرف الآية 3
(3) سورة النحل الآية 44(12/212)
وكون القرآن عربيا؛ ليعقله من يفهم العربية، يدل على أن معناه معلوم وإلا لما كان فرق بين أن يكون باللغة العربية أو غيرها.
وبيان النبي صلى الله عليه وسلم القرآن للناس شامل لبيان لفظه وبيان معناه.
وأما العقل فلأن من المحال أن ينزل الله تعالى كتابا أو يتكلم رسوله صلى الله عليه وسلم بكلام يقصد بهذا الكتاب، وهذا الكلام أن يكون هداية للخلق، ويبقى في أعظم الأمور وأشدها ضرورة مجهول المعنى بمنزلة الحروف الهجائية التي لا يفهم منها شيء؛ لأن ذلك من السفه الذي تأباه حكمة الله تعالى، وقد قال الله تعالى عن كتابه: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (1) .
هذه دلالة السمع والعقل على علمنا بمعاني نصوص الصفات.
وأما دلالتهما على جهلنا لها باعتبار الكيفية.
فمن السمع قوله تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (2) ، وقوله: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (3) . ومن المعلوم أنه لا علم لنا بكيفية صفات ربنا؛ لأنه تعالى أخبرنا عنها ولم يخبرنا عن كيفيتها، فيكون تكييفنا قفوا لما ليس لنا به علم، وقولا بما لا يمكننا الإحاطة به.
وأما العقل فلأن الشيء لا تعرف كيفية صفاته إلا بعد العلم بكيفية ذاته، أو العلم بنظيره المساوي له، أو بالخبر الصادق عنه، وكل هذه الطرق منتفية في كيفية صفات الله - عز وجل - فوجب بطلان تكييفها.
وأيضا فإننا نقول: أي كيفية تقدرها لصفات الله تعالى؟
إن أي كيفية تقدرها في ذهنك فالله أعظم وأجل من ذلك.
وأي كيفية تقدرها لصفات الله تعالى فإنك ستكون كاذبا فيها؛ لأنه لا علم لك بذلك.
__________
(1) سورة هود الآية 1
(2) سورة طه الآية 110
(3) سورة الإسراء الآية 36(12/213)
وحينئذ يجب الكف عن التكييف؛ تقديرا بالجنان، أو تقريرا باللسان، أو تحريرا بالبنان.
ولهذا لما سئل مالك - رحمه الله تعالى - عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) ، كيف استوى؟ أطرق رحمه الله برأسه حتى علاه الرحضاء (العرق) ، ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وروى عن شيخه ربيعة أيضا الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، وقد مشى أهل العلم بعدهما إلى هذا الميزان، وإذا كان الكيف غير معقول، ولم يرد به الشرع فقد انتفى عنه الدليلان العقلي والشرعي، فوجب الكف عنه.
فالحذر الحذر من التكييف أو محاولته، فإنك إن فعلت وقعت في مفاوز لا تستطيع الخلاص منها، وإن ألقاه الشيطان في قلبك؛ فاعلم أنه من نزغاته، فالجأ إلى ربك؛ فإنه معاذك، وافعل ما أمرك به؛ فإنه طبيبك، قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (2) .
وبهذا علم بطلان مذهب المفوضة، الذين يفوضون علم معاني نصوص الصفات، ويدعون أن هذا مذهب السلف، والسلف بريئون من هذا المذهب، وقد تواترت الأقوال عنهما بإثبات المعاني لهذه النصوص إجمالا أحيانا وتفصيلا أحيانا، وتفويضهم الكيفية إلى علم الله عز وجل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه المعروف بـ (العقل والنقل) ص 116 ج1 المطبوع على هامش (منهاج السنة) ، وأما التفويض فمن المعلوم أن الله أمرنا بتدبر القرآن، وحضنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله؟ - إلى أن قال ص 118- وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن - أو كثير مما وصف الله به نفسه - لا يعلم الأنبياء معناه، بل يقولون كلاما لا يعقلون معناه.
قال: ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء؛ إذ كان الله أنزل القرآن، وأخبر أنه جعله هدى وبيانا للناس، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزل إليهم، وأمر بتدبر القرآن وعقله، ومع هذا فأشرف ما فيه، وهو ما أخبر به الرب عن صفاته. . . لا يعلم أحد معناه فلا يعقل
__________
(1) سورة طه الآية 5
(2) سورة فصلت الآية 36(12/214)
ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين، وعلى هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك؛ لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة ولا يعلم أحد معناها، وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدل به، فيبقى هذا الكلام سدا لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحا لباب من يعارضهم، ويقول: إن الهدى والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء؛ لأننا نحن نعلم مما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون، فضلا عن أن يبينوا مرادهم، فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف هو شر أقوال أهل البدع والإلحاد. اهـ كلام الشيخ، وهو كلام سديد من ذى رأي رشيد، وما عليه مزيد، رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجمعنا به في جنات النعيم.(12/215)
القاعدة الرابعة: ظاهر النصوص ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني، وهو يختلف بحسب السياق وما يضاف إليه الكلام، فالكلمة الواحدة يكون لها معنى في سياق ومعنى آخر في سياق، وتركيب الكلام يفيد معنى على وجه، ومعنى آخر على وجه.
فلفظ (القرية) مثلا يراد به القوم تارة، ومساكن القوم تارة أخرى.
فمن الأول قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا} (1) .
ومن الثاني قوله تعالى عن الملائكة ضيف إبراهيم: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} (2) .
وتقول: صنعت هذا بيدي فلا تكون اليد كاليد في قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (3) ؛ لأن اليد في المثال أضيفت إلى المخلوق؛ فتكون مناسبة له، وفي الآية أضيفت إلى الخالق؛ فتكون لائقة به، فلا أحد سليم الفطرة صريح العقل يعتقد أن يد الخالق كيد المخلوق أو بالعكس.
وتقول: ما عندك إلا زيد، وما زيد إلا عندك، فتفيد الجملة الثانية معنى غير ما تفيده
__________
(1) سورة الإسراء الآية 58
(2) سورة العنكبوت الآية 31
(3) سورة ص الآية 75(12/215)
الأولى مع اتحاد الكلمات، لكن اختلف التركيب فتغير المعنى به.
إذا تقرر هذا فظاهر نصوص الصفات ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني.
وقد انقسم الناس فيه إلى ثلاثة أقسام:(12/216)
القسم الأول: من جعلوا الظاهر المتبادر منها معنى حقا يليق بالله - عز وجل -، وأبقوا دلالتها على ذلك، وهؤلاء هم السلف الذين اجتمعوا على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والذي لا يصدق لقب أهل السنة والجماعة إلا عليهم.
وقد أجمعوا على ذلك كما نقله ابن عبد البر فقال: أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة. اهـ، وقال القاضي أبو يعلى في كتاب (إبطال التأويل) : لا يجوز رد هذه الأخبار ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات الله لا تشبه صفات سائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها، لكن على ما روي عن الإمام أحمد وسائر الأئمة. اهـ. نقل ذلك - عن ابن عبد البر والقاضي - شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص 87- 89 جـ5 من مجموع الفتاوى لابن القاسم.
وهذا هو المذهب الصحيح، والطريق القويم الحكيم، وذلك لوجهين:
الأول: أنه تطبيق تام لما دل عليه الكتاب والسنة، من وجوب الأخذ بما جاء فيهما من أسماء الله وصفاته، كما يعلم ذلك من تتبعه بعلم وإنصاف.
الثاني. أن يقال: إن الحق إما أن يكون فيما قاله السلف أو فيما قاله غيرهم، والثاني باطل؛ لأنه يلزم منه أن يكون السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، تكلموا بالباطل تصريحا أو ظاهرا، ولم يتكلموا مرة واحدة لا تصريحا ولا ظاهرا بالحق الذي يجب اعتقاده، وهذا يستلزم أن يكونوا إما جاهلين بالحق، وإما عالمين به لكن كتموه، وكلاهما باطل، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم، فتعين أن يكون الحق فيما قاله السلف دون غيرهم.(12/216)
القسم الثاني: من جعلوا الظاهر المتبادر من نصوص الصفات معنى باطلا لا يليق بالله، وهو التشبيه، وأبقوا دلالتها على ذلك، وهؤلاء المشبهة، ومذهبهم باطل محرم من عدة(12/216)
أوجه:
الأول: أنه جناية على النصوص وتعطيل لها عن المراد بها، فكيف يكون المراد بها التشبيه وقد قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (1) ؟
الثاني: أن العقل دل على مباينة الخالق للمخلوق في الذات والصفات، فكيف يحكم بدلالة النصوص على التشابه بينهما؟
الثالث: أن هذا المفهوم الذي فهمه المشبه من النصوص مخالف لما فهمه السلف منها، فيكون باطلا.
فإن قال المشبه: أنا لا أعقل من نزول الله ويده إلا مثل ما للمخلوق من ذلك، والله تعالى لم يخاطبنا إلا بما نعرفه ونعقله، فجوابه من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الذي خاطبنا بذلك هو الذي قال عن نفسه: ليس كمثله شيء، ونهى عباده أن يضربوا له الأمثال أو يجعلوا له أندادا فقال: {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (2) ، وقال: {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) ، وكلامه تعالى كله حق يصدق بعضه بعضا ولا يتناقض.
ثانيها: أن يقال له: ألست تعقل لله ذاتا لا تشبه الذوات؟ فسيقول: بلى. فيقال له: فلتعقل له صفات لا تشبه الصفات، فإن القول في الصفات كالقول في الذات، ومن فرق بينهما فقد تناقض.
ثالثها: أن يقال: ألست تشاهد في المخلوقات ما يتفق في الأسماء، ويختلف في الحقيقة والكيفية؟ فسيقول: بلى. فيقال له: إذا عقلت التباين بين المخلوقات في هذا فلماذا لا تعقله بين الخالق والمخلوق مع أن التباين بين الخالق والمخلوق أظهر وأعظم، بل التماثل مستحيل بين الخالق والمخلوق؟
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة النحل الآية 74
(3) سورة البقرة الآية 22(12/217)
القسم الثالث: من جعلوا المعنى المتبادر من نصوص الصفات معنى باطلا لا يليق بالله، وهو التشبيه، ثم إنهم من أجل ذلك أنكروا ما دلت عليه من المعنى اللائق بالله، وهم أهل التعطيل، سواء كان تعطيلهم عاما في الأسماء والصفات، أم خاصا فيهما أو في أحدهما، فهؤلاء صرفوا النصوص عن ظاهرها إلى معاني عينوها بعقولهم، واضطربوا في تعيينها اضطرابا كثيرا، وسموا ذلك تأويلا، وهو في الحقيقة تحريف.
ومذهبهم باطل من وجوه:
أحدها: أنه جناية على النصوص؛ حيث جعلوها دالة على معنى باطل، غير لائق بالله ولا مراد له.
الثاني: أنه صرف لكلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ظاهرة، والله تعالى خاطب الناس بلسان عربي مبين؛ ليعقلوا الكلام ويفهموه على ما يقتضيه هذا اللسان العربي، والنبي صلى الله عليه وسلم خاطبهم بأفصح لسان البشر، فوجب حمل كلام الله ورسوله على ظاهره المفهوم بذلك اللسان العربي، غير أنه يجب أن يصان عن التكييف والتمثيل في حق الله عز وجل.
الثالث: أن صرف كلام الله ورسوله عن ظاهره إلى معنى يخالفه قول على الله بلا علم، وهو محرم لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (1) ، ولقوله سبحانه: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (2) .
فالصارف لكلام الله تعالى ورسوله عن ظاهره إلى معنى يخالفه، قد قفا ما ليس له به علم، وقال على الله ما لا يعلم من وجهين:
الأول: أنه زعم أنه ليس المراد بكلام الله تعالى ورسوله كذا، مع أنه ظاهر الكلام.
الثاني: أنه زعم أن المراد به كذا لمعنى آخر لا يدل عليه ظاهر الكلام.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 33
(2) سورة الإسراء الآية 36(12/218)
وإذا كان من المعلوم أن تعيين أحد المعنيين المتساويين في الاحتمال قولا بلا علم، فما ظنك بتعيين المعنى المرجوح المخالف لظاهر الكلام؟
مثال ذلك قوله تعالى لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (1) . فإذا صرف الكلام عن ظاهره وقال: لم يرد باليدين اليدين الحقيقيتين، وإنما أراد كذا وكذا. قلنا له: ما دليلك على ما نفيت؟ وما دليلك على ما أثبت؟ فإن أتى بدليل - وأنى له ذلك - وإلا كان قائلا على الله بلا علم في نفيه وإثباته.
الوجه الرابع في إبطال مذهب أهل التعطيل: أن صرف نصوص الصفات عن ظاهرها مخالف لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها، فيكون باطلا؛ لأن الحق بلا ريب فيما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وسلف الأمة وأئمتها.
الوجه الخامس: أن يقال للمعطل:
هل أنت أعلم بالله عن نفسه؟ فسيقول: لا.
ثم يقال له: هل ما أخبر الله به عن نفسه صدق وحق؟ فسيقول: نعم.
ثم يقال له: هل تعلم كلاما أفصح وأبين من كلام الله تعالى؟ فسيقول: لا.
ثم يقال له: هل تظن أن الله - سبحانه وتعالى - أراد أن يعمي الحق على الخلق في هذه النصوص؛ ليستخرجوه بعقولهم؟ فسيقول: لا.
هذا ما يقال له باعتبار ما جاء في القرآن.
أما باعتبار ما جاء في السنة فيقال له:
هل أنت أعلم بالله من رسوله صلى الله عليه وسلم؟ فسيقول: لا.
ثم يقال له: هل ما أخبر به رسول الله عن الله صدق وحق؟ فسيقول: نعم.
ثم يقال له: هل تعلم أن أحدا من الناس أفصح كلاما وأبين من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فسيقول: لا.
__________
(1) سورة ص الآية 75(12/219)
ثم يقال له: هل تعلم أن أحدا من الناس أنصح لعباد الله من رسول الله؟ فسيقول: لا.
فيقال له: إذا كنت تقر بذلك فلماذا لا يكون عندك الإقدام والشجاعة في إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه، وأثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقيقته وظاهره اللائق بالله؟ وكيف يكون عندك الإقدام والشجاعة في نفي حقيقته تلك، وصرفه إلى معنى يخالف ظاهره بغير علم؟
وماذا يضيرك إذا أثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه في كتابه، أو سنة نبيه على الوجه اللائق به، فأخذت بما جاء في الكتاب والسنة إثباتا ونفيا؟
أفليس هذا أسلم لك وأقوم لجوابك إذا سئلت يوم القيامة: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} (1) .
أو ليس صرفك لهذه النصوص عن ظاهرها، وتعيين معنى آخر مخاطرة منك، فلعل المراد يكون - على تقدير جواز صرفها - غير ما صرفتها إليه.
الوجه السادس في إبطال مذهب أهل التعطيل: أنه يلزم عليه لوازم باطلة، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم.
فمن هذه اللوازم:
أولا: أن أهل التعطيل لم يصرفوا نصوص الصفات عن ظاهرها إلا حيث اعتقدوا أنه مستلزم أو موهم لتشبيه الله تعالى بخلقه، وتشبيه الله تعالى بخلقه كفر؛ لأنه تكذيب لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (2) . قال نعيم بن حماد الخزاعي أحد مشايخ البخاري رحمهما الله: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها. اهـ.
ومن المعلوم أن من أبطل الباطل أن يجعل ظاهر كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم تشبيها وكفرا أو موهما لذلك.
__________
(1) سورة القصص الآية 65
(2) سورة الشورى الآية 11(12/220)
ثانيا: أن كتاب الله تعالى الذي أنزله تبيانا لكل شيء، وهدى للناس، وشفاء لما في الصدور، ونورا مبينا، وفرقانا بين الحق والباطل، لم يبين الله تعالى فيه ما يجب على العباد اعتقاده في أسمائه وصفاته، وإنما جعل ذلك موكولا إلى عقولهم، يثبتون لله ما يشاءون، وينكرون ما لا يريدون. وهذا ظاهر البطلان.
ثالثا: أن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين وأصحابه، وسلف الأمة وأئمتها كانوا قاصرين أو مقصرين في معرفة وتبيين ما يجب لله تعالى من الصفات، أو يمتنع عليه أو يجوز؛ إذ لم يرد عنهم حرف واحد فيما ذهب إليه أهل التعطيل في صفات الله تعالى وسموه تأويلا.
وحينئذ إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون، وسلف الأمة وأئمتها قاصرين؛ لجهلهم بذلك وعجزهم عن معرفته، أو مقصرين؛ لعدم بيانهم للأمة، وكلا الأمرين باطل.
رابعا: أن كلام الله ورسوله ليس مرجعا للناس فيما يعتقدونه في ربهم وإلههم، الذي معرفتهم به من أهم ما جاءت به الشرائع، بل هو زبدة الرسالات، وإنما المرجع تلك العقول المضطربة المتناقضة، وما خالفها فسبيله التكذيب إن وجدوا إلى ذلك سبيلا، أو التحريف الذي يسمونه تأويلا إن لم يتمكنوا من تكذيبه.
خامسا: أنه يلزم منه جواز نفي ما أثبته الله ورسوله، فيقال في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} (1) : إنه لا يجيء، وفي قول صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا (2) » : إنه لا ينزل؛ لأن إسناد المجيء والنزول إلى الله مجاز عندهم، وأظهر علامات المجاز عند القائلين به صحة نفيه، ونفي ما أثبته الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من أبطل الباطل، ولا يمكن الانفكاك عنه بتأويله إلى أمره؛ لأنه ليس في السياق ما يدل عليه.
ثم إن من أهل التعطيل من طرد قاعدته في جميع الصفات، أو تعدى إلى الأسماء أيضا، ومنهم من تناقض فأثبت بعض الصفات دون بعض، كالأشعرية والماتريدية، أثبتوا ما أثبتوه بحجة أن العقل يدل عليه، ونفوا ما نفوه بحجة أن العقل ينفيه أو لا يدل عليه.
فنقول لهم: نفيكم لما نفيتموه بحجة أن العقل لا يدل عليه، يمكن إثباته بالطريق العقلي الذي أثبتم به ما أثبتموه، كما هو ثابت بالدليل السمعي.
مثال ذلك أنهم أثبتوا صفة الإرادة، ونفوا صفة الرحمة.
__________
(1) سورة الفجر الآية 22
(2) صحيح البخاري الجمعة (1145) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (758) ، سنن الترمذي الصلاة (446) ، سنن أبو داود الصلاة (1315) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) ، مسند أحمد بن حنبل (2/504) ، موطأ مالك النداء للصلاة (496) ، سنن الدارمي الصلاة (1478) .(12/221)
أثبتوا صفة الإرادة؛ لدلالة السمع والعقل عليها.
أما السمع فمنه قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (1) .
وأما العقل فإن اختلاف المخلوقات، وتخصيص بعضها بما يختص به من ذات أو وصف دليل على الإرادة.
ونفوا الرحمة قالوا: لأنها تستلزم لين الراحم ورقته للمرحوم، وهذا محال في حق الله تعالى.
وأولوا الأدلة السمعية المثبتة للرحمة إلى الفعل أو إرادة الفعل، ففسروا الرحيم بالمنعم أو مريد الإنعام.
فنقول لهم: الرحمة ثابتة لله تعالى بالأدلة السمعية، وأدلة ثبوتها أكثر عددا وتنوعا من أدلة الإرادة، فقد وردت بالاسم مثل: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (2) ، والصفة مثل: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} (3) ، والفعل مثل: {وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} (4) .
ويمكن إثباتها بالعقل، فإن النعم التي تترى على العباد من كل وجه، والنقم التي تدفع عنهم في كل حين دالة على ثبوت الرحمة لله - عز وجل -، ودلالتها على ذلك أبين وأجلى من دلالة التخصيص على الإرادة؛ لظهور ذلك للخاصة والعامة، بخلاف دلالة التخصيص على الإرادة، فإنه لا يظهر إلا لأفراد من الناس.
وأما نفيها بحجة أنها تستلزم اللين والرقة، فجوابه أن هذه الحجة لو كانت مستقيمة لأمكن نفي الإرادة بمثلها،. فيقال: الإرادة ميل المريد إلى ما يرجو به حصول منفعة أو دفع مضرة، وهذا يستلزم الحاجة، والله تعالى منزه عن ذلك.
فإن أجيب بأن هذه إرادة المخلوق، أمكن الجواب بمثله في الرحمة بأن الرحمة المستلزمة للنقص هي رحمة المخلوق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 253
(2) سورة الفاتحة الآية 3
(3) سورة الكهف الآية 58
(4) سورة العنكبوت الآية 21(12/222)
وبهذا تبين بطلان مذهب أهل التعطيل، سواء كان تعطيلا عاما أم خاصا.
وبه علم أن طريق الأشاعرة والماتريدية في أسماء الله وصفاته، وما احتجوا به لذلك، لا تندفع به شبه المعتزلة والجهمية، وذلك من وجهين:
أحدهما: أنه طريق مبتدع لم يكن عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا سلف الأمة وأئمتها، والبدعة لا تدفع بالبدعة، وإنما تدفع بالسنة.
الثاني: أن المعتزلة والجهمية يمكنهم أن يحتجوا لما نفوه على الأشاعرة والماتريدية بمثل ما احتج به الأشاعرة والماتريدية لما نفوه على أهل السنة، فيقولون: لقد أبحتم لأنفسكم نفي ما نفيتم من الصفات بما زعمتموه دليلا عقليا، وأولتم دليله السمعي، فلماذا تحرمون علينا نفي ما نفيناه بما نراه دليلا عقليا، ونؤل دليله السمعي؟ فلنا عقول كما أن لكم عقولا، فإن كانت عقولنا خاطئة، فكيف كانت عقولكم صائبة؟ وإن كانت عقولكم صائبة، فكيف كانت عقولنا خاطئة، وليس لكم حجة في الإنكار علينا سوى مجرد التحكم واتباع الهوى؟
وهذه حجة دامغة وإلزام صحيح من الجهمية والمعتزلة للأشعرية والماتريدية، ولا مدفع لذلك ولا محيص عنه إلا بالرجوع لمذهب السلف الذين يطردون هذا الباب، ويثبتون لله تعالى من الأسماء والصفات ما أثبته لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، إثباتا لا تمثيل فيه ولا تكييف، وتنزيها لا تعطيل فيه ولا تحريف، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (1)
(تنبيه) علم مما سبق أن كل معطل ممثل، وكل ممثل معطل.
أما تعطيل المعطل فظاهر، وأما تمثيله؛ فلأنه إنما عطل لاعتقاده أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه، فمثل أولا وعطل ثانيا، كما أنه بتعطيله مثله بالناقص.
وأما تمثيل الممثل فظاهر، وأما تعطيله فمن ثلاثة أوجه:
الأول: أنه عطل نفس النص الذي أثبت به الصفة؛ حيث جعله دالا على التمثيل مع أنه لا دلالة فيه عليه، وإنما يدل على صفة تليق بالله عز وجل.
الثاني: أنه عطل كل نص يدل على نفي مماثلة الله لخلقه.
الثالث: أنه عطل الله تعالى عن كماله الواجب؛ حيث مثله بالمخلوق الناقص.
__________
(1) سورة النور الآية 40(12/223)
فصل
اعلم أن بعض أهل التأويل أورد على أهل السنة شبهة في نصوص من الكتاب والسنة في الصفات، ادعى أن أهل السنة صرفوها عن ظاهرها؛ ليلزم أهل السنة بالموافقة على التأويل أو المداهنة فيه، وقال: كيف تنكرون علينا تأويل ما أولناه مع ارتكابكم لمثله فيما أولتموه؟
ونحن نجيب - بعون الله تعالى- عن هذه الشبهة بجوابين: مجمل ومفصل.
أما المجمل فيتلخص في شيئين:
أحدهما: أن لا نسلم أن تفسير السلف لها صرف عن ظاهرها، فإن ظاهر الكلام ما يتبادر منه من المعنى، وهو يختلف بحسب السياق، وما يضاف إليه الكلام، فإن الكلمات يختلف معناها بحسب تركيب الكلام، والكلام مركب من كلمات وجمل، يظهر معناها ويتعين بضم بعضها إلى بعض.
ثانيهما: أننا لو سلمنا أن تفسيرهم صرف لها عن ظاهرها فإن لهم في ذلك دليلا من الكتاب والسنة، إما متصلا وإما منفصلا، وليس لمجرد شبهات يزعمها الصارف، براهين وقطعيات يتوصل بها إلى نفي ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما المفصل فعلى كل نص ادعى أن السلف صرفوه عن ظاهره.
ولنمثل بالأمثلة التالية: فنبدأ بما حكاه أبو حامد الغزالي عن بعض الحنبلية أنه قال: إن أحمد لم يتأول إلا في ثلاثة أشياء: الحجر الأسود يمين الله في الأرض. وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن. وإني أجد نفس الرحمن من قبل اليمن.
نقله عنه شيح الإسلام ابن تيمية وقال: هذه الحكاية كذب على أحمد (1) .
المثال الأول: الحجر الأسود يمين الله في الأرض.
والجواب عنه أنه حديث باطل لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن الجوزي في (العلل المتناهية) : هذا حديث لا يصح. وقال ابن العربي: حديث باطل فلا يلتفت إليه. وقال شيخ
__________
(1) مجموع الفتاوى ج5 ص398.(12/224)
الإسلام ابن تيمية: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد لا يثبت. اهـ، وعلى هذا فلا حاجة للخوض في معناه.
لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والمشهور - يعني في هذا الأثر - إنما هو عن ابن عباس قال: الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقبله؛ فكأنما صافح الله وقبل يمينه. ومن تدبر اللفظ المنقول تبين له أنه لا إشكال فيه؛ فإنه قال: يمين الله في الأرض، ولم يطلق فيقول: يمين الله، وحكم اللفظ المقيد يخالف حكم المطلق، ثم قال: فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه. وهذا صريح في أن المصافح لم يصافح يمين الله أصلا، ولكن شبه بمن يصافح الله، فأول الحديث وآخره يبين أن الحجر ليس من صفات الله تعالى، كما هو معلوم لكل عاقل. اهـ (1) .
__________
(1) مجموع الفتاوى ج6 ص 398.(12/225)
المثال الثاني: قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن.
والجواب أن هذا الحديث صحيح، رواه مسلم في الباب الثاني من كتاب القدر، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يصرفه كما يشاء، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك (1) » . .
وقد أخذ السلف أهل السنة بظاهر الحديث وقالوا: إن لله تعالى أصابع حقيقية نثبتها له كما أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من كون قلوب بني آدم بين إصبعين منها أن تكون مماسة لها، حتى يقال: إن الحديث موهم للحلول، فيجب صرفه عن ظاهره، فهذا السحاب مسخر بين السماء والأرض، وهو لا يمس السماء ولا الأرض، ويقال: بدر بين مكة والمدينة تباعد ما بينها وبينهما، فقلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن حقيقة، ولا يلزم من ذلك مماسة ولا حلول.
__________
(1) صحيح مسلم القدر (2654) ، مسند أحمد بن حنبل (2/168) .(12/225)
المثال الثالث: إني أجد نفس الرحمن من قبل اليمن.
والجواب أن هذا الحديث رواه الإمام أحمد في المسند من حديث أبي هريرة رضي(12/225)
الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إن الإيمان يمان، والحمكة يمانية، وأجد نفس ربكم من قبل اليمن (1) » . قال في (مجمع الزوائد) : رجاله رجال الصحيح غير شبيب، وهو ثقة. قلت: وكذا قال في التقريب عن شبيب: ثقة من الثالثة. وقد روى البخاري نحوه في (التاريخ الكبير) .
وهذا الحديث على ظاهره، والنفس فيه اسم مصدر نفس ينفس تنفيسا، مثل فرج يفرج تفريجا وفرجا، هكذا قال أهل اللغة كما في (النهاية والقاموس ومقاييس اللغة) ، قال في (مقاييس اللغة) : النفس كل شيء يفرج به عن مكروب، فيكون معنى الحديث أن تنفيس الله تعالى عن المؤمنين يكون من أهل اليمن. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهؤلاء هم الذين قاتلوا أهل الردة، وفتحوا الأمصار، فبهم نفس الرحمن عن المؤمنين الكربات. اهـ (2) .
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3301) ، صحيح مسلم الحج (1380) ، سنن الترمذي الفتن (2243) ، مسند أحمد بن حنبل (2/541) ، موطأ مالك الجامع (1810) .
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام لابن القاسم ج 6 ص 398.(12/226)
المثال الرابع: قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} (1) .
والجواب أن لأهل السنة في تفسيرها قولين:
أحدهما: أنها بمعنى ارتفع إلى السماء، وهو الذي رجحه ابن جرير، قال في تفسيره بعد أن ذكر الخلاف: وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ} (2) ، علا عليهن وارتفع، فدبرهن بقدرته، وخلقهن سبع سماوات. اهـ. وذكره البغوي في تفسيره قول ابن عباس وأكثر مفسري السلف: وذاك تمسكا بظاهر لفظ (استوى) ، وتفويضا لعلم كيفية هذا الارتفاع إلى الله عز وجل.
القول الثاني: أن الاستواء هنا بمعنى القصد التام، وإلى هذا القول ذهب ابن كثير في تفسير سورة البقرة، والبغوي في تفسير سورة فصلت، قال ابن كثير: أي قصد إلى السماء، والاستواء هاهنا ضمن معنى القصد والإقبال؛ لأنه عدي بإلى. وقال البغوي: أي عمد إلى خلق السماء.
وهذا القول ليس صرفا للكلام عن ظاهره، وذلك لأن الفعل (استوى) اقترن بحرف يدل على الغاية والانتهاء، فانتقل إلى معنى يناسب الحرف المقترن به، ألا ترى إلى قوله تعالى:
__________
(1) سورة فصلت الآية 11
(2) سورة البقرة الآية 29(12/226)
{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} (1) ، حيث كان معناها يروى بها عباد الله؛ لأن الفعل (يشرب) اقتران بالباء فانتقل إلى معنى يناسبها، وهو يروى، فالفعل يضمن معنى يناسب معنى الحرف المتعلق به ليلتئم الكلام.
__________
(1) سورة الإنسان الآية 6(12/227)
المثال الخامس والسادس: قوله تعالى في سورة الحديد: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) ، وقوله في سورة المجادلة: {وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (2) . .
والجواب: أن الكلام في هاتين الآيتين حق على حقيقته وظاهره. ولكن ما حقيقته وظاهره؟
هل يقال: إن ظاهره وحقيقته أن لله تعالى مع خلقه معية تقتضي أن يكون مختلطا بهما أو حالا في أمكنتهم؟
أو يقال: إن ظاهره وحقيقته أن الله تعالى مع خلقه معية تقتضي أن يكون محيطا بهم علما وقدرة، وسمعا وبصرا، وتدبيرا وسلطانا، وغير ذلك من معاني ربوبيته، مع علوه على عرشه فوق جميع خلقه؟
ولا ريب أن القول الأول لا يقتضيه السياق، ولا يدل عليه بوجه من الوجوه، وذلك لأن المعية هنا أضيفت إلى الله - عز وجل -، وهو أعظم وأجل من أن يحيط به شيء من مخلوقاته، ولأن المعية في اللغة العربية التي نزل بها القرآن لا تستلزم الاختلاط أو المصاحبة في المكان، وإنما تدل على مطلق مصاحبة، ثم تفسر في كل موضع بحسبه.
وتفسير معية الله تعالى لخلقه بما يقتضي الحلول والاختلاط باطل من وجوه:
الأول: أنه مخالف لإجماع السلف، فما فسرها أحد منهم بذلك، بل كانوا مجمعين على إنكاره.
الثاني: أنه مناف لعلو الله تعالى الثابت بالكتاب والسنة، والعقل والفطرة، وإجماع السلف، وما كان منافيا لما ثبت بدليل كان باطلا بما ثبت به ذلك المنافي، وعلى هذا فيكون
__________
(1) سورة الحديد الآية 4
(2) سورة المجادلة الآية 7(12/227)
تفسير معية الله لخلقه بالحلول والاختلاط باطلا بالكتاب والسنة والعقل والفطرة وإجماع السلف.
الثالث: أنه مستلزم للوازم باطلة لا تليق بالله سبحانه وتعالى.
ولا يمكن لمن عرف الله تعالى وقدره حق قدره، وعرف مدلول المعية في اللغة العربية التي نزل بها القرآن أن يقول: إن حقيقة معية الله لخلقه تقتضي أن يكون مختلطا بهم، أو حالا في أمكنتهم فضلا عن أن تستلزم ذلك، ولا يقول ذلك إلا جاهل باللغة جاهل بعظمة الرب جل وعلا.
فإذا تبين بطلان هذا القول تعين أن يكون الحق هو القول الثاني وهو أن لله تعالى مع خلقه معية تقتضي أن يكون محيطا بهم علما وقدرة وسمعا وبصرا وتدبيرا وسلطانا وغير ذلك مما تقتضيه ربوبيته مع علوه على عرشه فوق جميع خلقه.
وهذا هو ظاهر الآيتين بلا ريب؛ لأنهما حق ولا يكون ظاهر الحق إلا حقا، ولا يمكن أن يكون الباطل ظاهر القرآن أبدا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية (1) : ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد فلما قال: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} (2) . إلى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (3) دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطلع عليكم شهيد عليكم ومهيمن عالم بكم. وهذا معنى قول السلف إنه معهم بعلمه وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته. وكذلك قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (4) إلى قوله: {هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (5) الآية.
__________
(1) ص 103ـ ج 5 من مجموع الفتاوى لابن قاسم.
(2) سورة الحديد الآية 4
(3) سورة الحديد الآية 4
(4) سورة المجادلة الآية 7
(5) سورة المجادلة الآية 7(12/228)
ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه في الغار: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (1) كان هذا أيضا حقا على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا معية الاطلاع والنصر والتأييد. ثم قال: فلفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع يقتضي في كل موضع أمورا لا يقتضيها في الموضع الآخر، فإما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع، أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها - وإن امتاز كل موضع بخاصية - فعلى التقديرين ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب عز وجل مختلطة بالخلق، حتى يقال قد صرفت عن ظاهرها. اهـ.
ويدل على أنه ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب عز وجل مختلطة بالخلق أن الله تعالى ذكرها في آية المجادلة بين ذكر عموم علمه في أول الآية وآخرها فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (2) .
فيكون ظاهر الآية أن مقتضى هذه المعية علمه بعباده، وأنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم لا أنه سبحانه مختلط بهم ولا أنه معهم في الأرض.
أما في آية الحديد فقد ذكرها الله تعالى مسبوقة بذكر استوائه على عرشه وعموم علمه متلوة ببيان أنه بصير بما يعمل العباد، فقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (3) .
فيكون ظاهر الآية أن مقتضى هذه المعية علمه بعباده وبصره بأعمالهم مع علوه عليهم واستوائه على عرشه لا أنه سبحانه مختلط بهم، ولا أنه معهم في الأرض، وإلا لكان آخر الآية مناقضا لأولها الدال على علوه واستوائه على عرشه.
فإذا تبين ذلك علمنا أن مقتضى كونه تعالى مع عباده أنه يعلم أحوالهم ويسمع
__________
(1) سورة التوبة الآية 40
(2) سورة المجادلة الآية 7
(3) سورة الحديد الآية 4(12/229)
أقوالهم ويرى أفعالهم ويدبر شئونهم، فيحيي ويميت ويغني ويفقر ويؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء إلى غير ذلك مما تقتضيه ربوبيته وكمال سلطانه، لا يحجبه عن خلقه شيء، ومن كان هذا شأنه فهو مع خلقه حقيقة ولو كان فوقهم على عرشه حقيقة (1) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية (2) في الكلام على المعية قال: وهذا الكلام الذي ذكره الله سبحانه من أنه فوق العرش وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف ولكن يصان عن الظنون الكاذبة ا. هـ.
وقال في الفتوى الحموية (3) : وجماع الأمر في ذلك أن الكتاب والسنة يحصل منهما كمال الهدى والنور لمن تدبر كتاب الله وسنة نبيه وقصد اتباع الحق وأعرض عن تحريف الكلام عن مواضعه والإلحاد في أسماء الله وآياته.
ولا يحسب الحاسب أن شيئا من ذلك يناقض بعضه بعضا ألبتة مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله: هو معكم. وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه (4) » . ونحو ذلك فإن هذا غلط.
وذلك أن الله معنا حقيقة وهو فوق العرش حقيقة كما جمع الله بينهما في قوله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (5) . .
__________
(1) وقد سبق أن المعية في اللغة العربية لا تستلزم الاختلاط أو المصاحبة في المكان.
(2) ص 142 جـ 2 من مجموع الفتاوى لابن القاسم.
(3) ص 102، 103 جـ 5 من مجموع الفتاوى لابن قاسم.
(4) رواه أبو داود بهذا المعنى
(5) سورة الحديد الآية 4(12/230)
فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أين ما كنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال «والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه (1) » . أ. هـ.
واعلم أن تفسير المعية بظاهرها على الحقيقة اللائقة بالله تعالى لا يناقض ما ثبت من علو الله تعالى بذاته على عرشه وذلك من وجوه ثلاثة:
الأول: أن الله تعالى جمع بينهما لنفسه في كتابه المبين المنزه عن التناقض وما جمع الله بينهما في كتابه فلا تناقض بينهما.
وكل شيء في القرآن تظن فيه التناقض فيما يبدو لك فتدبره حتى يتبين لك لقوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (2) فإن لم يتبين لك فعليك بطريق الراسخين في العلم الذين يقولون: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (3) وكل الأمر إلى منزله الذي يعلمه واعلم أن القصور في علمك أو في فهمك وأن القرآن لا تناقض فيه.
وإلى هذا الوجه أشار شيخ الإسلام في قوله فيما سبق: كما جمع الله بينهما.
وكذلك ابن القيم كما في مختصر الصواعق لابن الموصلي (4) في سياق كلامه على المثال التاسع مما قيل إنه مجاز قال: وقد أخبر الله أنه مع خلقه مع كونه مستويا على عرشه وقرن بين الأمرين كما قال تعالى (وذكر آية سورة الحديد) ثم قال: فأخبر أنه خلق السماوات والأرض وأنه استوى على عرشه وأنه مع خلقه يبصر أعمالهم من فوق عرشه كما في حديث الأوعال: «والله فوق العرش يرى ما أنتم عليه (5) » فعلوه لا يناقض معيته، ومعيته لا تبطل علوه بل كلاهما حق. ا. هـ.
الوجه الثاني: أن حقيقة معنى المعية لا يناقض العلو فالاجتماع بينهما ممكن في حق المخلوق فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا ولا يعد ذلك تناقضا ولا يفهم منه أحد أن القمر نزل في الأرض، فإذا كان هذا ممكنا في حق المخلوق ففي حق الخالق المحيط بكل
__________
(1) رواه الترمذي في التفسير باب ومن سورة الحاقة بهذا المعنى كما رواه بهذا المعنى ابن ماجه في المقدمة وأبو داود في باب في الجهمية وقال الترمذي حديث حسن صحيح
(2) سورة النساء الآية 82
(3) سورة آل عمران الآية 7
(4) ص 410 طبعة الإمام.
(5) رواه الترمذي وابن ماجه وأبو داود بهذا المعنى.(12/231)
شيء مع علوه سبحانه من باب أولى وذلك لأن حقيقة المعية لا تستلزم الاجتماع في المكان.
وإلى هذا الوجه أشار شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية (1) حيث قال: وذلك أن كلمة (مع) في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى؛ فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا أو والنجم معنا، ويقال: هذا المتاع معي، لمجامعته لك وإن كان فوق رأسك فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة اهـ.
وصدق رحمه الله تعالى فإن من كان عالما بك مطلعا عليك مهيمنا عليك يسمع ما تقول ويرى ما تفعل ويدبر جميع أمورك فهو معك حقيقة، وإن كان فوق عرشه حقيقة لأن المعية لا تستلزم الاجتماع في المكان.
الوجه الثالث: أنه لو فرض امتناع اجتماع المعية والعلو في حق المخلوق لم يلزم أن يكون ذلك ممتنعا في حق الخالق الذي جمع لنفسه بينهما لأن الله تعالى لا يماثله شيء من مخلوقاته كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) .
وإلى هذا الوجه أشار شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسيطة (3) حيث قال: وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته؛ فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته وهو علي في دنوه قريب في علوه. اهـ.
(تتمة) انقسم الناس في معية الله تعالى لخلقه ثلاثة أقسام:
القسم الأول: يقولون: إن معية الله تعالى لخلقه مقتضاها العلم والإحاطة في المعية العامة ومع النصر والتأييد في المعية الخاصة مع ثبوت علوه بذاته واستوائه على عرشه.
__________
(1) ص 103 المجلد الخامس من مجموع الفتاوى لابن قاسم.
(2) سورة الشورى الآية 11
(3) ص 143 ج 3 من مجموع الفتاوى(12/232)
وهؤلاء هم السلف ومذهبهم هو الحق كما سبق تقريره.
القسم الثاني: يقولون: إن معية الله لخلقه مقتضاها أن يكون معهم في الأرض مع نفي علوه واستوائه على عرشه.
وهؤلاء هم الحلولية من قدماء الجهمية وغيرهم، ومذهبهم باطل منكر أجمع السلف على بطلانه وإنكاره كما سبق.
القسم الثالث: يقولون: إن معية الله لخلقه مقتضاها أن يكون معهم في الأرض مع ثبوت علوه فوق عرشه. ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية (1) .
وقد زعم هؤلاء أنهم أخذوا بظاهر النصوص في المعية والعلو. وكذبوا في ذلك فضلوا فإن نصوص المعية لا تقتضي ما ادعوه من الحلول لأنه باطل ولا يمكن أن يكون ظاهر كلام الله ورسوله باطلا.
(تنبيه) اعلم أن تفسير السلف لمعية الله تعالى لخلقه بأنه معهم بعلمه لا يقتضي الاقتصار على العلم بل المعية تقتضي أيضا إحاطته بهم سمعا وبصرا، وقدرة وتدبيرا، وغير ذلك من معاني ربوبيته.
(تنبيه آخر) أشرت فيما سبق إلى أن علو الله تعالى ثابت بالكتاب والسنة والعقل والفطرة والإجماع، أما الكتاب فقد تنوعت دلالته على ذلك.
فتارة بلفظ العلو والفوقية والاستواء على العرش، وكونه في السماء كقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (2) {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (3) ، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (4) ، {مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} (5) .
وتارة بلفظ صعود الأشياء وعروجها ورفعها إليه كقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (6)
__________
(1) انظر ص 229ج 5 من مجموع الفتاوى.
(2) سورة الشورى الآية 4
(3) سورة الأنعام الآية 18
(4) سورة طه الآية 5
(5) سورة الملك الآية 16
(6) سورة فاطر الآية 10(12/233)
{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (1) ، {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (2) .
وتارة بلفظ نزول الأشياء منه ونحو ذلك كقوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} (3) ، {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ} (4) .
وأما السنة فقد دلت عليه بأنواعها القولية والفعلية والإقرارية في أحاديث كثيرة تبلغ حد التواتر وعلى وجوه متنوعة كقوله صلى الله عليه وسلم في سجوده: «سبحان ربي الأعلى (5) » ، وقوله: «إن الله لما قضي الخلق كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي (6) » ، وقوله: «ألا تأمنوا لي وأنا أمين من في السماء (7) » ، «وثبت عنه أنه رفع يديه وهو على المنبر يوم الجمعة يقول: اللهم أغثنا (8) » ، «وأنه رفع يده إلى السماء وهو في يخطب الناس يوم عرفة حين قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال: اللهم اشهد (9) » . وأنه قال للجارية: «أين الله؟ قالت: في السماء، فأقرها وقال لسيدها: أعتقها فإنها مؤمنة (10) » .
وأما العقل فقد دل على وجوب صفة الكمال لله تعالى وتنزيهه عن النقص. والعلو صفة كمال والسفل نقص فوجب لله تعالى صفة العلو وتنزيهه عن ضده.
وأما الفطرة فقد دلت على علو الله تعالى دلالة ضرورية فطرية فما من داع أو خائف فزع إلى ربه تعالى إلا وجد في قلبه ضرورة الاتجاه نحو العلو لا يلتفت عن ذلك يمنة ولا يسرة.
واسأل المصلين يقول الواحد منهم في سجوده: سبحان ربي الأعلى أين تتجه قلوبهم حينذاك.
وأما الإجماع فقد أجمع الصحابة والتابعون والأئمة على أن الله تعالى فوق سماواته مستو على عرشه وكلامهم مشهور في ذلك نصا وظاهرا قال الأوزاعي: كنا والتابعون متوافرون نقول: إن
__________
(1) سورة المعارج الآية 4
(2) سورة آل عمران الآية 55
(3) سورة النحل الآية 102
(4) سورة السجدة الآية 5
(5) مسند أحمد بن حنبل (4/54) .
(6) صحيح البخاري التوحيد (7422) ، صحيح مسلم التوبة (2751) ، سنن الترمذي الدعوات (3543) ، سنن ابن ماجه المقدمة (189) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) .
(7) صحيح البخاري المغازي (4351) ، صحيح مسلم الزكاة (1064) ، سنن النسائي الزكاة (2578) ، سنن أبو داود السنة (4764) ، مسند أحمد بن حنبل (3/5) .
(8) صحيح البخاري الجمعة (1013) ، صحيح مسلم صلاة الاستسقاء (897) ، سنن النسائي الاستسقاء (1518) ، سنن أبو داود الصلاة (1174) ، مسند أحمد بن حنبل (3/194) ، موطأ مالك النداء للصلاة (450) ، سنن الدارمي الصلاة (1535) .
(9) صحيح البخاري الحج (1785) ، صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن الترمذي الحج (856) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، موطأ مالك الحج (836) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .
(10) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (537) ، سنن النسائي السهو (1218) ، سنن أبو داود الصلاة (930) ، مسند أحمد بن حنبل (5/447) ، سنن الدارمي الصلاة (1502) .(12/234)
الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما جاءت به السنة من الصفات، وقد نقل الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم ومحال أن يقع في مثل ذلك خلاف وقد تطابقت عليه هذه الأدلة العظيمة التي لا يخالفها إلا مكابر، طمس على قلبه، واجتالته الشياطين عن فطرته نسأل الله تعالى السلامة والعافية.
فعلو الله تعالى بذاته وصفاته من أبين الأشياء وأظهرها دليلا وأحق الأشياء وأثبتها واقعا.(12/235)