رضى، ومن الناس في نصح وعافية، ومع نفسه في جهاد وحساب لكنه جهاد مستلذ مستطاب، لأن ذلك كله مقرون بالطمأنينة والأمن والأمان: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} (1) {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (2) {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (3) .
هذه هي باكورة الثمرة (للفرد المؤمن) يقطفها في هذه الحياة {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (4) .
أما الثمرة التي يقطفها (المجتمع المؤمن) المؤلف من أولئك الأفراد المؤمنين فثمرة الأمن والسلام، والحب والوئام، والتعاون على البر والتقوى، والاطمئنان على النفوس والدماء، وعلى الأموال والممتلكات، وعلى الأعراض والأنساب، وعلى الحرية والقيم والمعتقدات.
وهل هناك ثمرة أطيب من هذه الثمرة للمؤمن ولمجتمع المؤمنين؟
ويمكنك يا أخي أن تقدر قيمة هذه الثمرة إذا وازنت بين مجتمعين:
أحدهما: مؤلف من أفراد عقلاء حازمين، ينظرون لعاقبة أمورهم، ويقدمون خير الزاد لغدهم، ويوقنون بأنهم مبعوثون ومسئولون عما قدموا وأخروا، قائمون مع الأولين والآخرين لرب العالمين.
والثاني: مجتمع شغلته دنياه وزينتها الفانية الزائلة، عن آخرته وعاقبته الباقية الدائمة فقصر نظره على هذه الحياة، وأنكر وكفر بما بعدها من بعث وحياة وجزاء {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (5) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 82
(2) سورة الرعد الآية 28
(3) سورة التغابن الآية 11
(4) سورة النحل الآية 97
(5) سورة العنكبوت الآية 64(8/245)
قارئي الكريم: إن رجلا عاقلا يؤمن بهذا البعث والجزاء تراه يسير في حياته هذه سيرة الكيس الكريم، يدين نفسه ويحاسبها، ويوقن بمسئوليته أمام ربه، وبجزائه في يوم آت لا ريب فيه، فيعطي كل ذي حق حقه.
يعلم أن لربه حق العبادة والتوحيد الخالص من كل شائبة، ومنه سبحانه العون، وبه الاستغاثة، وله القربان والتعظيم.
ويعلم أن لوالديه حق البر والإحسان في حياتهما، والدعاء والاستغفار لهما بعد موتهما، ويعرف لأرحامه، وجيرانه، ولأمته وإخوانه المؤمنين حقوقا رسمها الله، وبينها في كتابه وعلى لسانه رسوله، ووعد بالجزاء عليها.
هذا الرجل لا شك يكون لبنة صالحة لبناء مجتمع قوي نقي تقي «إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر (1) » .
وبالتالي ترى هذا المجتمع المؤمن بالبعث والجزاء، المؤلف من هذه اللبنات حريصا على تنفيذ ما شرعه الله من عبادات: تهذب النفس وتعزها بربها ودينها، ومعاملات: تترفع عن أساليب الغش والخداع والغرر والضرر وأكل أموال الناس بالباطل، وأخلاق وقيم: تضع الإنسانية في مقام التكريم الذي ارتضاه الله لبني آدم، وتشريعات وأحكام وحدود: تحرس للمرء (حريته) آمنة منظمة، (وعقيدته) نقية سليمة، (ودمه) محقونا محفوظا، (وعرضه) طاهرا نقيا، (وماله) محصنا مصونا وعلى وجه الإجمال تراه مجتمعا قويا تقيا نقيا، متآخي الأفراد، معتصما بحبل ربه، منصورا بنصره العزيز الذي كتبه على نفسه تفضلا منه ورحمة {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) .
وهل بعد ذلك كله من عز وسعادة في هذه الحياة؟ أما في حياتهم الآخرة التي أيقنوا بها فلهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .
(2) سورة الروم الآية 47(8/246)
وأما المجتمع الثاني: الذي كفر بالله والدار الآخرة، ونسي أن وراء هذه الدنيا حياة دائمة وأن بعد هذه الأعمال جزاء عادلا، وانساق وراء شياطين الإنس والجن {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (1) فاستباح هتك الحرمات، واحتكم إلى الأهواء والطواغيت، وانطلق في دروب الشهوات والمنكرات، وعاش باغيا طاغيا لا يعرف للضعيف حقا ولا مرحمة، وذليلا خانعا لا يعرف لنفسه عزا ولا كرامة، يخنع ويركع أمام الطاغوت العاتي بقلبه أو بجبهته، ويستعلي على الضعيف المستكين ببغيه وسلطانه وجاهه، إن هذا المجتمع أشبه بغابة الوحوش أو حظيرة الحيوان، بل إنه أحط منها {يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} (2) .
إن هؤلاء الذين لا يؤمنون بالبعث والجزاء أضرى من الحيوانات الكاسرة، وأشرس من الكلاب المسعورة، يلغون في الدماء، ويخوضون في الخبائث والأقذار، ويرون أن هذه هي متعتهم التي إن فاتتهم فلن تستعاض، لأنهم زعموا أن لن يبعثوا، وأن ليس بعد هذه الحياة من حياة، {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (3) .
وبالموازنة بين حياة هذا المجتمع الشقي اللاهث، وحياة المجتمع السابق السعيد الآمن، تتجلى لك باكورة من ثمرات الإيمان بالله واليوم الآخر في حياة طيبة مشمولة بالأمن والرضا والسلام، أما ثمرة هذا الإيمان في الدار الباقية فلست أنا ولا أنت ولا غيرنا من المخلوقات بقادر على وصفها الوصف اللائق بها، وحسبك ما جاء في
__________
(1) سورة الأنعام الآية 112
(2) سورة محمد الآية 12
(3) سورة الأنعام الآية 29(8/247)
كتاب الله من بيانها وصفائها، وديمومتها التي تفضل الله بها: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} (1) {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (2) {أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} (3) {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4) .
هذه - يا أخي - كلمة أوجزتها عن ثمرة الإيمان بالله واليوم الآخر: حياة طيبة، آمنة مطمئنة هنا، ونعيم مقيم - هناك - {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} (5) {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} (6) {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (7) {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} (8) .
__________
(1) سورة ص الآية 54
(2) سورة هود الآية 108
(3) سورة التين الآية 6
(4) سورة السجدة الآية 17
(5) سورة القمر الآية 55
(6) سورة الضحى الآية 4
(7) سورة الأعلى الآية 17
(8) سورة النحل الآية 30(8/248)
(مكانة الإيمان بالله واليوم الآخر)
لذلك كان الإيمان بالله واليوم الآخر هو الأساس والقاعدة الأولى لهذا الدين المتين، بل إن هذا الإيمان مع ما يقتضيه من العمل الصالح هما الدين كله، وما من نبي ولا رسول من رسل الله إلا جاء بدعوته مركوزة على الإيمان بالله واليوم الآخرة.
أما الإيمان بالله: فإن الكثرة الكاثرة من الناس يعترفون بوجوده سبحانه وتعالى، ولا ينازعون في ذلك، لأن الفطرة السليمة والعقل القويم يهديان إليه {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} (1) - {مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (2) {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} (3) .
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 61
(2) سورة العنكبوت الآية 63
(3) سورة يونس الآية 31(8/248)
ولا تجد من ينكر وجوده وربوبيته إلا من في فطرته أفن، أو في عقله عوج وفساد. ولهذا لن أطيل الحديث عن هذا الشق من العقيدة، وحسبك أن تقرأ وتتدبر من كتاب الله (سورة الطور، أو النحل، أو الروم، أو النمل، أو الأنعام، أو الواقعة، أو الرعد أو الحجر) وحسبك أيضا أن تنظر ماذا في السماوات والأرض من آيات القدرة والحكمة والتدبير، {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} (1) {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} (2) .
وأما الإيمان باليوم الآخر، والجزاء والمحاسبة في ذلك اليوم على ما قدم الإنسان من العمل وما أخر، وبعبارة أوجز: أما (الإيمان بالبعث) والتزود له، فهذا هو الذي لاقى كثيرا من الجحود والنزاع، والشك والارتياب، والتقاعس عن الاستعداد له بالعمل الصالح والعبادة الخالصة لله رب العالمين.
ولذلك جاءت الأغلبية العظمى من آيات القرآن الكريم وسوره تؤكد طلب الإيمان بالبعث، والعمل والاستعداد له، وتستأصل شأفة الشبه التي تقوم في سبيل تحققه وصدقه ووقوعه {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} (3) {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} (4) .
__________
(1) سورة لقمان الآية 11
(2) سورة الطور الآية 35
(3) سورة الذاريات الآية 5
(4) سورة الذاريات الآية 6(8/249)
(سبب الكفر بالبعث أو باليوم الآخر)
إن سبب إنكار الكفار لليوم الآخر، وانطلاقهم في الفحشاء والمنكر والبغي من غير نظر للعاقبة ولا خوف من الجزاء يرجع لأمرين:
الأمر الأول: أنهم يستبعدون ذلك، ويتعجبون منه، وليس لهم دليل على إنكاره سوى الابتعاد، والعجب من أن يكون: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا} (1) {وَنَرَاهُ قَرِيبًا} (2)
__________
(1) سورة المعارج الآية 6
(2) سورة المعارج الآية 7(8/249)
{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} (1) {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} (2) .
والأمر الثاني: أنه إيمان بالغيب، مبلغ العقل فيه، أو دوره أن يعترف بإمكانه، أما وقوعه وتحققه بالفعل فمرد ذلك وسنده هو السمع والتصديق لخبر صادر من صادق مقطوع بصدقه، مجزوم بصحة خبره، ولذلك كان الإيمان بالغيب هذا تصديقا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتصديقا للقرآن الكريم، وإيمانا بوحي السماء {أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (3) ومن هنا كانت أول الصفات الخمس التي امتدح الله بها عباده المتقين، ووعدهم عليها بالفوز والفلاح، وكانت آخر هذه الصفات أيضا كما جاء في صدر سورة البقرة كبرى سور القرآن الكريم هي الإيمان بالغيب، والإيقان بالدار الآخرة، وإحاطة هذا الإيمان وذلك الإيقان بكبريات الأعمال الصالحة، وأمهات الفضائل والعبادات، قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (4) {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (5) {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (6) {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (7)
__________
(1) سورة ق الآية 2
(2) سورة ق الآية 3
(3) سورة الفرقان الآية 6
(4) سورة البقرة الآية 2
(5) سورة البقرة الآية 3
(6) سورة البقرة الآية 4
(7) سورة البقرة الآية 5(8/250)
واجبنا نحو ثمرة الإيمان بالله واليوم الآخر
لقد عرفنا ما للإيمان بالله واليوم الآخر من أطايب الثمار في الآخرة والأولى، فمن الواجب المحتوم علينا أن نحرص على جني هذه الثمرة، وأن نحرض أولادنا وأحبابنا على جني هذه الثمرة، حتى لا نكون ولا يكونوا من المحرومين المتعوسين.
وجنينا لهذه الثمرة إنما يكون بأن نريد الله ورسوله والدار الآخرة، وأن نسلك سبيل الطاعة والإخلاص، وأن نتجنب طرق المعصية ومتاهات الهوى والضلال،(8/250)
ونسيان اليوم الآخر أو تناسيه، والتفريط في التزود له.
وهناك أمر مهم يجب أن ننتبه له، وذلك أن عدونا من شياطين الإنس والجن يريدون أن ينالوا منا في أولادنا بتشكيكهم في العقيدة، أو بتزيين سبل الغواية والضلال أمامهم، فعلينا أن نحصن أولادنا وأحبابنا ضد هذا الوباء الداهم، والريح العاصفة التي تهب علينا حاملة لتلك المبادئ الهدامة، والعقائد الفاسدة، والنوازع الشريرة، والأفكار الآسنة الخبيثة، التي تنطلق كلها من نفوس وقلوب لا تؤمن باليوم الآخر.
وأساس هذا التحصين والوقاية هو غرس عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر وتقويتها في النفوس، والتوجيه إلى العمل الصالح، والسعي المشكور.(8/251)
(تقوية عقيدة الإيمان باليوم الآخر)
لتوثيق هذه العقيدة وتأكيده يجب أن ننظر في آيات الله التنزيلية، والتكوينية أعني (الآيات) التي أوحى بها تنزل بها الروح الأمين على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - والآيات التي أودعها في مخلوقاته من السماوات والأرض وما بينهما، وأمر بالنظر فيها بقوله: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (1) ، {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} (2) .
إن النظر المتدبر في (الآيات الكونية) يؤكد في نفس الناظر أن البعث بعد الموت على الله يسير، {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (3) {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (4) .
__________
(1) سورة يونس الآية 101
(2) سورة يوسف الآية 105
(3) سورة العنكبوت الآية 19
(4) سورة العنكبوت الآية 20(8/251)
وإن النظر المتدبر في الآيات القرآنية يبين لنا بالنص الصريح الجازم أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (2)
__________
(1) سورة الحج الآية 6
(2) سورة الحج الآية 7(8/252)
(نظرة متدبرة في الأكوان)
قارئي الكريم: إن المتأمل في هذا العالم يراه مكونا من نوعين من الموجودات:
نوع محسوس: مشاهد يدركه الإنسان بسمعه، أو ببصره، أو بأية حاسة من حواسه الخمس وهذا هو عالم الشهادة، وتندرج تحته أجناس الحيوان، والنبات، والجماد: سائلا، وصلبا وغازا.
ونوع غير محسوس ولا مشهود بذاته، ولكننا نعرف أنه موجود، ونعرف عنه ما نعرف بطريق من طريقين:
(إما) بإدراك آثاره، وما يصدر عنه ويدل عليه - و (إما) بإخبار من صادق مجزوم بصدقه، ومن أمثلة هذا العالم غير المشاهد بذاته: (الكهرباء، والمغناطيسية، والروح، والجن، والملائكة، والشياطين) .
فالكهرباء: ليست مرئية لنا ولا مشاهدة، ولكننا نقطع بوجودها بدلالة آثارها من إضاءة، وتبريد، وتدفئة، وحركة. . وغير ذلك.
والمغناطيسية: لا نعرف حقيقتها الذاتية، ولكننا نجزم بوجودها مستدلين بما نشاهده من آثارها، جذبا، وتنافرا بين سوالبها وموجباتها.
والروح التي بين جنبينا، والتي هي أقرب الأشياء إلينا لا نعرف عنها إلا ما علمنا الله، كالآثار التي تصدر عنها من حركة، وإرادة، وتنفس، وتفكير، وما إلى(8/252)
ذلك من مظاهر الحياة {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا} (1) .
أما عوالم الجن، والملائكة، والشياطين: فمعلوماتنا عنها مستقاة من وحي السماء: قرآن كريم، أو سنة صحيحة، وما وراء ذلك رجم بالغيب.
ولندع الحديث عن عالم الغيب مؤقتا ولنتجه بنظرنا إلى عالم الشهادة المحسوس، إننا نراه مصنفا من:
معادن أو جمادات: لا تتغذى، ولا تنمو، ولا تحس، ولا تفكر، ولا تتناسل، ولا تتحرك باختيارها - كالماء، والحديد، والغاز.
ومن نباتات: تتغذى وتنمو، وقد تتناسل باللقاح أو غيره، ولكنها لا تحس ولا تفكر، ولا تتحرك باختيارها.
ولنترك - أيضا - عالمي الجماد، والنبات اللذين لا يحسان، ولا يتحركان باختيارهما، ولنقف لحظات أمام عالم الحيوان الحساس المتحرك باختياره.
إن هذا العالم الحيواني: تتجلى فيه مظاهر الحياة بدرجات متفاوتة، وإذا تتبعنا الأجناس الحيوانية فإننا نجد أن أرقاها حياة إنما هو الإنسان الذي استطاع بما آتاه الله من مواهب وقوى وخصائص أن يسخر بقية الحيوانات وأن يفيد منها بل إن الله تعالى سخر له ما في السماوات وما في الأرض، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} (2) .
إن هذا الإنسان الذي شارك بقية الحيوانات الأخرى في التغذي، والنمو، والتناسل، والحس والتحرك الاختياري قد تميز عنها كلها بخصائص وميزات لم تتوفر لغيره.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 85
(2) سورة الجاثية الآية 13(8/253)
أبرز هذه الخصائص والمزايا أربع:
1 - التفكير.
2 - القصد أو الإرادة.
3 - القدرة على تنفيذ ما قصد إليه وأراده، أو الأخذ في أسباب ذلك.
4 - الصلاحية - بفطرته - أن يتجه إلى الخير، أو إلى الشر.
وهذه المزايا الأربع التي امتاز بها الإنسان على عوالم الحيوان الأخرى، وبالتالي على عوالم الجماد والنبات - جعلته (أهلا) أن يستفيد من ماضيه لحاضره، وأن يتطلع إلى مستقبله، ولذلك ترى رغباته ومتطلباته لا تقف عند حد.
وجعلته (أهلا) أن يعمل جاهدا لتحصيل الخير لنفسه، ولمن يهمه أمره، وأن ينتظر ثمرة عمله.
وجعلته (أهلا) من ناحية ثالثة أن يكون مسئولا عن عمله وعن تصرفاته ومجزيا عليها عاجلا أو آجلا.
ومعنى ذلك: أن هذه الميزات والخصائص جعلته - وحده - من بين العالم المشاهد كله - أهلا للتكليف والمسئولية، لأن طريقي الخير والشر ممهدان أمامه، ولأن وسائل السلوك إلى أي الطريقين متوفرة لديه:
{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (1) {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (2) . {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (3) {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (4) {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (5)
__________
(1) سورة البلد الآية 10
(2) سورة الشمس الآية 8
(3) سورة البقرة الآية 256
(4) سورة الإنسان الآية 3
(5) سورة الكهف الآية 29(8/254)
وهذه المزايا الأربع: (التفكير، والقصد، والقدرة، والصلاحية للخير وللشر) . لم تكتمل للإنسان كلها دفعة واحدة، ولا في وقت واحد - بل إنه - قبل اكتمالها فيه - مر بأطوار مادية متعددة، تقع تلك الأطوار المادية، وتتكرر بتكرر الأفراد أمامنا، ولا ينكرها أي إنسان - وقد صرحت بها آيات من كتاب الله الكريم. في أكثر من موضع.(8/255)
(نظرة متدبرة في آيات القرآن)
لقد نظرنا في آيات الله (الكونية) وعرفنا يقينا أن الإنسان نشأ متنقلا ومتطورا من حالة إلى حالة، من نطفة إلى علقة إلى مضغة، إلى أن صار إنسانا سميعا بصيرا، فإذا نظرنا في آيات الله (القرآنية) : نراها قد صرحت بذلك تصريحا لا غموض فيه، وقررت حقائق لا يشك فيها أي إنسان ولا يمكن أن ينالها شيء من الارتياب، ففي (سورة المؤمنون) يقول تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} (1) {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} (2) إلخ الآية، وفي سورة المؤمن يقول: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} (3) إلخ الآية، وفي سورة الحج يقول: {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} (4) إلخ الآية، وفي سورة الروم يقول: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} (5) {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} (6) .
ويلاحظ القارئ الكريم أن هذه الآيات وأمثالها بعد أن ذكرت نشأة الإنسان وتدرجه المادي من تراب إلى نطفة إلى علقة إلى مضغة. . . إلى أن صار إنسانا سميعا
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 12
(2) سورة المؤمنون الآية 13
(3) سورة غافر الآية 67
(4) سورة الحج الآية 5
(5) سورة الروم الآية 54
(6) سورة الروم الآية 55(8/255)
بصيرا صالحا لانتهاج سبيل الخير أو الشر أتبعت ذلك التدرج الذي لا شك فيه بقضيتين اثنتين:
القضية الأولى: قضية يقينية أيضا متفق عليها لا ينازع فيها كافر ولا مؤمن، ولكنها مع تيقنها ومشاهدتها والجزم بوقوعها - تشبه الشك عند الناس، بمعنى أنهم يتصرفون في حياتهم ومسالكهم تصرفا لا يشعر باستعدادهم لها، كأنها في نظرهم لن تقع ولن تكون - تلك القضية هي (قضية الموت) التي قال في شأنها (علي بن أبي طالب) - رضي الله عنه -: "ما رأيت يقينا أشبه بالشك من الموت".
والقضية الثانية: قضية يقينية مثل أختها، لكنها ليست محل اتفاق بين الناس: فمنهم مؤمن بها جازم بتحققها ووقوعها - ومنهم منكر لها جاحد لتصديقها بل كافر بإمكانها مستهزئ بمن يخبر بها أو يطالب الناس أن يؤمنوا بها.
ومنهم صنف ثالث متحير مرتاب، متردد بين التصديق بها والتكذيب وصدق الله العظيم: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} (1) {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} (2) {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} (3) .
هذه القضية الثانية: هي قضية (البعث بعد الموت) ، أو قضية (الإيمان باليوم الآخر، والجزاء العادل) .
هاتان القضيتان: (أعني الموت، ثم البعث) - ذكرتا عقب الأطوار السبعة التي مر بها الإنسان في نشأته المادية فهما طبقان من الأطباق التي يركبها الإنسان واحدا بعد واحد {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} (4) . واقرأ قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} (5) إلى أن تصل إلى قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} (6) {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (7) فسترى أنهما ذكرتا نصا صريحا بعد الأطوار السبعة التي سلمنا بها، واتفقنا على أنها واقعة بلا شك ولا ارتياب، وهاتان
__________
(1) سورة النبأ الآية 1
(2) سورة النبأ الآية 2
(3) سورة النبأ الآية 3
(4) سورة الانشقاق الآية 19
(5) سورة المؤمنون الآية 12
(6) سورة المؤمنون الآية 15
(7) سورة المؤمنون الآية 16(8/256)
القضيتان: مصورتان تصويرا عمليا، كما تصور وسائل الإيضاح - في نماذج متعددة وفي مظاهر مشهودة في الصباح وفي المساء، وفيما بينهما:
ينام الإنسان، فيموت الموتة الصغرى، ثم يستيقظ فيحيا من موتته، فيقول إما بحاله أو بمقاله: «الحمد الله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور (1) » - أليس ذلك نموذج للحياة بعد الممات؟ {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} (2) .
تيبس الأرض، وتهمد وتخمد وتموت، ثم ينزل عليها ماء السماء، وهو - كما تعلم - جماد لا روح فيه - ولكن بنزوله على الأرض الميتة تحيا بعد موتها، وتتمخض عن ألوان لا حصر لها من أولادها الأحياء - يا للعجب!! ميت يلتقي بميت فتنبعث منهما الحياة!! سبحان الله، صنع الله الذي: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} (3) .
تذبل الشجرة: وتذوي أوراقها، وتضمر وتساقط ثمارها، ويجف ويغيض ماؤها، ثم تكون حطاما يتناثر في أحشاء الأرض، ويضطمر في بطنها، ويصير ترابا من ترابها، ثم لا تلبث الشجرة أن تنبت وتعود مورقة زاهية الإيراق، ناضرة الزهر، يانعة الثمر - ممه؟ من ماء ميت العناصر (أيدروجين وأكسوجين) ومن تراب ميت العناصر أيضا. . . ومثل الشجرة قل في الحبة والبقلة، واقرأ واستمع وتمعن في قول ربك القدير: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} (4) {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} (5) {رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} (6) .
ولن أطيل عليك الحديث، ولكني أدعوك مرة ثانية لإطالة النظر والإمعان فيما ترى من آيات الله في الأكوان، وفيما تقرأ وتسمع من آياته البينات في كتابه الكريم.
__________
(1) صحيح البخاري الدعوات (6314) ، سنن الترمذي الدعوات (3417) ، سنن أبو داود الأدب (5049) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3880) ، مسند أحمد بن حنبل (5/387) ، سنن الدارمي الاستئذان (2686) .
(2) سورة الزمر الآية 42
(3) سورة الروم الآية 19
(4) سورة ق الآية 9
(5) سورة ق الآية 10
(6) سورة ق الآية 11(8/257)
فسترى من آيات الأكوان ما يؤكد لك اليقين بأن البعث على الله يسير.
وسترى من آيات القرآن التصريح الحاسم الجازم بأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} (1) ، {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (2) ، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} (3) .
__________
(1) سورة فاطر الآية 5
(2) سورة التغابن الآية 7
(3) سورة الروم الآية 40(8/258)
(وقفة متأنية أمام قضيتي الموت والبعث)
أما قضية الموت: فلا أظن، ولا إخال إنسانا يظن أن في الدنيا كلها - أحدا ينكرها، فلتوضع في إطار من اليقين والتسليم مع أخواتها المسلمات السبع التي مر بها الإنسان في نشأته، كما كشفت عن ذلك سورة المؤمنين، في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} (1) إلى أن قال سبحانه وتعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} (2) ولذلك لا أرى داعيا - الآن - للكلام عن هذه القضية، اللهم إلا تذكرة بتلك الكلمات الحاسمة القاصمة الجازمة، التي قطعت قول كل خطيب، والتي جاءت في ثلاث سور من كتاب الله المحكم، مقرونة بالبعث والجزاء من ناحية -وبالامتحان والابتلاء من ناحية ثانية - أعني قول الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (3) فقد جاءت هذه الكلمة بالحق اليقين في سورة (آل عمران) متبوعة بالبعث والجزاء، ثم بذكر الاختبار والابتلاء، اقرأ الآيتين الكريمتين: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (4) {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} (5) إلخ الآيات.
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 12
(2) سورة المؤمنون الآية 15
(3) سورة آل عمران الآية 185
(4) سورة آل عمران الآية 185
(5) سورة آل عمران الآية 186(8/258)
وجاءت - مرة ثانية في (سورة الأنبياء) ، متبوعة بالامتحان والابتلاء، ثم بذكر الرجعة والبعث والجزاء: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (1) .
وجاءت - مرة ثالثة في (سورة العنكبوت) ، وذكر بعدها البعث والرجوع إلى الله مباشرة: {ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (2) أما الفتنة والابتلاء، فقد شاع هذا المعنى في السورة الكريمة بصورة أوضح: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (3) ?? {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (4) {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} (5) واستمع لما جاء في السورة الكريمة من ألوان الفتن والابتلاء التي تتجلى في قصص (نوح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى) ، عليهم السلام، وفي (عاد وثمود، وقارون، وفرعون، وهامان) تذكيرا بقضية الموت، التي نحن بصدد الحديث عنها، ثم بالبعث والجزاء - أي الشق الثاني من شقي العقيدة الصحيحة، الإيمان بالله واليوم الآخر، {اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ} (6) .
وكأني بهذه الآيات الثلاث، المصدرة بقول الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (7) وبأمثالها من الآيات التي تقرن (الموت المسلم به) بالبعث (المحتوم وقوعه) - تنبه القارئ الواعي، المتدبر الكيس، إلى أمرين: هما الإيمان بلقاء الله، والعمل الصالح استعدادا لجزاء الله العادل: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (8)
واقرأ ما شاء الله أن تقرأ عن هذا القانون الإلهي (قانون الموت والحياة) (قانون الابتلاء والجزاء) في سورة (هود، والملك) وغيرهما - قانون الحكم العدل: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (9) {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ} (10) .
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 35
(2) سورة العنكبوت الآية 57
(3) سورة العنكبوت الآية 2
(4) سورة العنكبوت الآية 3
(5) سورة العنكبوت الآية 10
(6) سورة العنكبوت الآية 36
(7) سورة آل عمران الآية 185
(8) سورة الكهف الآية 49
(9) سورة الملك الآية 2
(10) سورة هود الآية 7(8/259)
وخلاصة القول: أن قضية الموت هذه لا ينازع فيها أحد - أيا كان، فكل إنسان يؤمن بها - طوعا أو كرها - وكل حي خاضع لتنفيذها، وإمضائها، عند الأجل الذي سماه الله لها، واستأثر -سبحانه - بعلم زمانها ومكانها: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} (1) ، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (2) .
مسألة اتفق فيها المسلم والكافر، والمؤمن الرباني والزنديق الملحد، والشرقي والغربي - كما يقولون. . . وإن كنتم في شك من هذا - فهاتوا واحدا من العقلاء أي واحد يقول: (إنني لن أموت) .
الله أكبر. . . {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} (3) {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} (4) .
{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} (5) - إي والله {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} (6) هذه هي: قضية البعث، نوأم الموت وشقيقه، نعم، توءمه في قبضة القدرة، وشقيقه في دائرة الإمكان العقلي، ونظيره وقرينه في تيقن الوقوع الفعلي.
هذه القضية التي تعتبر أصلا من أصول دين الله الإسلام، والتي دعا كل نبي إلى الإيمان بها مع الإيمان بالله وتوحيده، {اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ} (7)
__________
(1) سورة لقمان الآية 34
(2) سورة النحل الآية 61
(3) سورة الأنعام الآية 61
(4) سورة الأنعام الآية 62
(5) سورة السجدة الآية 11
(6) سورة السجدة الآية 11
(7) سورة العنكبوت الآية 36(8/260)
والتي تقتضي المؤمن بها أن يسلك الصراط المستقيم في حياته، وأن يعتصم بحبل الله في تصرفاته، قصدا، وقولا وعملا بقلبه، ولسانه، وجوارحه، والتي تستلزم بالتالي أن يحيا المجتمع المؤمن بها حياة طيبة مباركة، لا ضرر فيها ولا ضرار، ولا عدوان فيها ولا افتراء، ولا بغي فيها ولا تفاحش، بل عدل وإنصاف، وإحسان وإتقان، وبذل وتعاون، كما أمر الله الذي {يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} (1) هذه القضية ذات الثمرة العاجلة بحياة طيبة، وذات الثمرة الآجلة الدائمة بأجر عظيم ورزق كريم - هي تذكرتنا - الآن بعقيدة من عقائد ديننا الحنيف {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} (3) وضبطا للحديث عنها سنتناول الأطراف الآتية:
(1) ما هو البعث وما حقيقته؟ (2) ما هي مكانة هذه العقيدة من دين الله الإسلام؟ (3) ما هو موقف الأنبياء السابقين وأممهم من هذه العقيدة؟ (4) دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإيمان بها، والعمل للقاء الله في يومها (5) فرق الناس وموقفهم حيال هذه العقيدة (6) مناقشة هذه الطوائف (7) الرد على الشبه التي أثاروها. (8) أثر هذه العقيدة في سلوك الإنسان (9) أثرها في (2) نظام المجتمع الذي يعتقدها، ويؤمن بمجيئها، وإليك الحديث عن كل ناحية من هذه النواحي:
__________
(1) سورة النحل الآية 90
(2) سورة الذاريات الآية 55
(3) سورة الروم الآية 56(8/261)
1 - (ما هو البعث؟ وما المراد منه في عرف العقيدة) ؟
البعث في لغة العرب: إثارة الشيء المستكن. ومعناه في اصطلاح العقائد والمراد به: (إحياء الله الناس مرة ثانية بعد موتهم، ليجزيهم في هذه الحياة الثانية على(8/261)
ما قدموه في حياتهم الأولى من خير وشر: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} (1) {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (2) ويعبر عنه بالقيامة، والحياة الآخرة، وغير ذلك مما سيأتي - إن شاء الله.
__________
(1) سورة الزلزلة الآية 7
(2) سورة الزلزلة الآية 8(8/262)
2 - (مكانة عقيدة البعث في الدين الإسلامي) :
عرفنا - فيما سبق - أن أساس هذا الدين القيم - هو الإيمان بالله واليوم الآخر - وبهذا الدين بعث الله رسله أجمعين ليبينوا للناس أصوله وعقائده التي لا تتغير ولا تتبدل، ولا ينالها النسخ - مهما طال عليها الزمان، تلك الأصول هي الإيمان بالله ولقائه، وبملائكته وكتبه ورسله، وقدره، أعني أركان الإيمان الستة التي بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث جبريل المشهور حينما سأله عن الإيمان فقال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر: خيره وشره (1) » . فالإيمان الصحيح المعتبر هو التصديق الجازم بهذه الأمور الستة كلها، ومن كفر بواحدة منها فليس من الإيمان في شيء.
والدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده هو هذا الإيمان، والعمل على مقتضاه - فهو عقيدة، وعمل بما تقتضيه هذه العقيدة، وترجمة عن هذه العقيدة بأعلى وأفضل وأصدق كلمة (كلمة التوحيد) .
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4777) ، صحيح مسلم الإيمان (10) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4991) ، سنن ابن ماجه المقدمة (64) ، مسند أحمد بن حنبل (2/426) .(8/262)
تلازم هذه العقائد الست وترابطها:
والإيمان بهذه العقائد الست يستتبع بعضها بعضا - بمعنى أن من آمن ببعضها وكفر ولو بواحدة منها - كان كافرا بالجميع - وكثيرا ما تطلق كلمة الإيمان، أو يذكر بعض متعلقاتها اكتفاء - ويكون المراد ذلك: لأن أصل الأصول كلها، وركن هذا الدين الركين، إنما هو الإيمان بالله وحده ربا خالقا رازقا، وإلها حقا(8/262)
معبودا لا شريك له - في ربوبيته، ولا يجوز أن يشرك معه أحد في عبادته.
والإيمان بالله على هذا الوجه يستلزم تصديقه في كل ما أخبر به في كتابه، وعلى لسان رسوله الذي أيده بالمعجزة الدالة على صدقه في كل ما بلغه عن ربه.
ومن بين ما أخبر به في كتابه، وعلى لسان رسوله، بل وعلى ألسنة رسله كلهم، وأمرهم أن يبلغوه للناس ليؤمنوا به (اليوم الآخر) أو (البعث) أو (الدار الآخرة) .
ويلاحظ: أنه - سبحانه وتعالى قد عبر عن هذا اليوم الآخر بعبارات كثيرة تشعر بما يقع فيه، أو يتصل به من أحداث، وجزاء، وبما يتصف به من صفات، وبما ينتسب إليه من إضافات.
فسماه (اليوم الآخر، ويوم البعث، والجزاء، والحشر، والنشر، والتناد، والقيامة، والساعة، والحساب، والفصل) .
وسماه (بالآزفة، والواقعة، والحاقة، والقارعة، والطامة، والصاخة، والغاشية) .
وسماه (الدار الآخرة، ودار القرار، ودار الخلود) .
وسماه (يوم الخروج، والخلود، والحسرة، والتغابن) .
وأمرنا أن نكون دائما على ذكر من هذا اليوم، وألا ننساه، وأن نذكره كل يوم، على الأقل سبع عشرة مرة بعنوان (يوم الدين) أي الجزاء. وبعبارة أدق: أمرنا - سبحانه وتعالى - أن نذكره في كل صلاة نتقرب بها إليه باسم من أسمائه الحسنى، وبصفة من صفاته العلا: (مالك يوم الدين) .
فمن كذب بهذا اليوم فهو مكذب لله ولرسله ولكتبه - وبهذا يكون كافرا - والعياذ بالله -.(8/263)
3 - (موقف الأنبياء السابقين وأممهم من عقيدة البعث)
كان كل رسول يبعث إلى أمته يطالبهم مبادرة أن يؤمنوا بالله واليوم الآخر، أي(8/263)
المعاد والجزاء، حسبما علمه وأمره أن يبلغ.
فهذا (آدم) عليه السلام - حينما أمره ربه هو ومن معه أن يهبطوا إلى الأرض {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} (1) ، {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (2) {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (3) .
{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (4) {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} (5) ، وفي سورة ثالثة سميت باسمه - عليه السلام: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا} (6) {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} (7) .
وهذا أبو الأنبياء (إبراهيم) - عليه السلام - يقول للذي حاجه وخاصمه في شأن ربه: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} (8) ويقول لأبيه وقومه في شأن من عبدوهم من دون الله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (9) {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} (10) {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} (11) {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (12) {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} (13) {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} (14) أي يوم الجزاء.
ثم هذا كليم الله، ونجيه (موسى) عليه السلام يقول الله له: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} (15) .
وفي عهد (موسى) عليه السلام - تقع أحداث مشهودة، تدل على البعث
__________
(1) سورة الأعراف الآية 25
(2) سورة طه الآية 123
(3) سورة طه الآية 124
(4) سورة الأعراف الآية 59
(5) سورة هود الآية 26
(6) سورة نوح الآية 17
(7) سورة نوح الآية 18
(8) سورة البقرة الآية 258
(9) سورة الشعراء الآية 77
(10) سورة الشعراء الآية 78
(11) سورة الشعراء الآية 79
(12) سورة الشعراء الآية 80
(13) سورة الشعراء الآية 81
(14) سورة الشعراء الآية 82
(15) سورة طه الآية 15(8/264)
دلالة محسوسة، فهاهم أولاء بنو إسرائيل طلبوا أن يروا الله جهرة، وأصروا على طلبهم هذا، قائلين: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} (1) ، فأخذتهم الصاعقة وماتوا، ثم أحياهم الله بعد موتهم، قال تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (2) .
وقصة البقرة، وما ترتب عليها من إحياء الله لذلك الميت - قصة معروفة مشهورة، ومسجلة في كبرى سور القرآن الكريم، لم يمسها أي طعن ولا مغمز، من أي عدو من أعداء الله تعالى وما أكثر أعداء الله، وأعداء دينه وما أحرصهم على غمز القرآن والطعن فيه - إن برقت لهم بارقة أمل في مطعن أو مغمز.
أما كلمة الله (عيسى) -عليه السلام: فكان من معجزاته {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} (3) ومن كلماته عليه السلام: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} (4) هؤلاء هم (أولو العزم) من الرسل - عليهم السلام - وغيرهم من أنبياء الله ورسله كان كل منهم يطلب إلى قومه أن يؤمنوا بالله واليوم الآخر.
أما أممهم: فمنهم من كان يستجيب للدعوة، ويؤمن - مثل مؤمن قوم موسى الذي كان يقول لقومه: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} (5) ، {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} (6) .
ومن الأمم: من كانت تجحد البعث وتنكره، ويقول بعضهم لبعض ساخرين
__________
(1) سورة البقرة الآية 55
(2) سورة البقرة الآية 56
(3) سورة آل عمران الآية 49
(4) سورة مريم الآية 33
(5) سورة غافر الآية 32
(6) سورة غافر الآية 39(8/265)
من رسولهم ومن دعوته: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} (1) {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} (2) {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (3) .
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 35
(2) سورة المؤمنون الآية 36
(3) سورة المؤمنون الآية 37(8/266)
(4- دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الإيمان باليوم الآخر)
وبهذه العقيدة نفسها - عقيدة الإيمان باليوم الآخر والبعث والجزاء جاء خاتم الرسل نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - {جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} (1) فأمره ربه أن يوجه نداءه للناس جميعا في عرض الدنيا وطول الزمان: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} (2) فبلغ - صلى الله عليه وسلم - الرسالة وأدى الأمانة، ودعا وجاهد في دعوته، ونصح ومحض نصحيته - وقدم للناس وحي ربه وكتابه الحق يقسم بأعظم الأقسام - {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} (3) {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} (4) ، {بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (5) ويوثق بأقوى الحجج والبراهين، أن اليوم الآخر آت لا ريب فيه، واقرأ ما شاء الله أن تقرأ من الحجج والبراهين، ومن الأقسام والأيمان - في سور (الحج، والمؤمنون، والصافات، ويس، والذاريات، والواقعة، والنازعات، والتكاثر) وغيرها من السور، حتى لا تكاد تمر بسورة من سور القرآن الكريم إلا وفيها الحديث عن البعث والجزاء، وتأكيد وقوعهما، والرد على من ينكرهما، أو يرتاب فيهما.
__________
(1) سورة الصافات الآية 37
(2) سورة الأعراف الآية 158
(3) سورة الذاريات الآية 5
(4) سورة الذاريات الآية 6
(5) سورة التغابن الآية 7(8/266)
(5- مواقف الناس حيال هذه العقيدة والدعوة إليها)
لما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى التوحيد في العقيدة والعبادة وإلى الإيمان(8/266)
بكلمات الله ولقائه انقسم الناس إلى فريقين: مصدق مؤمن، وجاحد منكر كافر، ومن هذا الفريق من هو شاك مرتاب، وهؤلاء (المرتابون الممترون) يمكن إسقاطهم من درجة الاعتبار اكتفاء بقول القائل:
قال المعلم والطبيب كلاهما ... لا تبعث الأجساد قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر ... أو صح قولي فالخسار عليكما
وأما المؤمنون الموقنون باليوم الآخر، فقد لقبهم ربهم في صدر سورة البقرة بالمتقين، وفي صدر سورة لقمان بالمحسنين - وسجل لهم الفوز كل الفوز في كل من السورتين {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) - كما ساق لهم الهداية والبشرى ولقبهم بالمؤمنين في سورة النمل {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (2) {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (3) . وإذا فلنقصر حديثنا على فريق المكذبين بيوم الدين - أي المكذبين باليوم الآخر:
المكذبون باليوم الآخر
هؤلاء الذين كذبوا بيوم الدين يمكننا بالاستقراء والاستقصاء أن نحصرهم في ثلاث طوائف:
__________
(1) سورة البقرة الآية 5
(2) سورة النمل الآية 2
(3) سورة النمل الآية 3(8/267)
الطائفة الأولى: طائفة أنكرت البعث والجزاء من أساسه، لأنهم أنكروا المبدأ الأول من أصول الإيمان وأركانه (أعني مبدأ الاعتراف بالإله وإفراده بالعبادة) ، وقالوا (ونعوذ بالله ونبرأ مما قالوا) : إن العالم بلا إله، ولقد بلغ انطماس البصيرة عند أحدهم بعد أن ارتاد من مجالي الكون ما ارتاد، وبعد أن تجلى له من آثار الخلاق العظيم ما تجلى أن يقول: (رأيت في رحلتي الفضائية كذا وكذا، ولكنني لم أر الله) !! يا سبحان الله!! {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} (1) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 210(8/267)
الطائفة الثانية: طائفة اعترفت بالله، ولكنها كفرت بجزائه ولقائه والبعث ليوم عظيم {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) - وظاهر أن كفرها بالبعث واليوم الآخر كفر بالله، لأن أركان الإيمان الستة متآخية متلازمة، فمن كفر ببعضها كان كافرا بها كلها {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (2) {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (3) ، {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (4) .
__________
(1) سورة المطففين الآية 6
(2) سورة النساء الآية 150
(3) سورة النساء الآية 151
(4) سورة البقرة الآية 85(8/268)
الطائفة الثالثة: صدقت بالله إلها حقا، قادرا عليما، وعدلا حكيما، واستدلوا على ذلك بعقولهم، وفطرتهم: فقالوا: إننا إذا تأملنا في أي جهاز من الأجهزة المنظمة كالمذياع (والساعة) مثلا - لا يمكن لعقولنا أن تتصور أن هذا الجهاز نشأ هكذا من غير صانع صنعه، وبنظرنا في هذا العالم نجده قد احتوى على نواميس وقوانين وصنعة في غاية الدقة والحكمة والإتقان، تنبئ بيقين عن صانع قادر حكيم عليم.
وصدقت هذه الطائفة بالبعث أيضا - كما صدقت بالإله - واستدلت كذلك على البعث بقولهم وبفطرتهم: فقالوا: إننا كثيرا ما نرى في هذه الدنيا - طاغيا باغيا ظالما عاتيا، يسفك الدماء، ويهتك الأعراض، ويسلب الأموال، ويعسف بالضعفاء الأبرياء، ثم يموت في أوج عظمته من غير أن ينال جزاءه.
وكثيرا ما نرى - أيضا - ضعيفا، مهيض الجناح، وديع النفس، دمث الخلق، صبورا على البلايا والشدائد، رضيا بالقضاء والقدر، وقد يعتدى عليه فلا(8/268)
يتسخط ولا يتضجر، ويؤذى فلا يتبرم ولا يجزع، ثم يستمر على ذلك حتى يوافيه أجله من غير أن يأخذ بحقه أو يؤخذ له - وإننا قد آمنا بأن لهذا العالم إلها حكيما، قادرا عليما - فمقتضى حكمته أن تكون هناك دار للفصل والعدل ينال فيها كل إنسان جزاءه الذي فاته في هذه الدار الدنيا.
ونظريتهم هذه قد جاء بها القرآن الكريم في أكثر من موضع، فقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (1) {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (2) ؟ {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} (3) {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (4) ؟ {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} (5) ؟ {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} (6) {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} (7) . {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} (8) . هذه الطائفة الثالثة لو أنها آمنت بالله وبالجزاء واستدلت على ذلك بعقلها وفطرتها - حفظت شيئا، وغاب عنها أشياء - فقد نسيت أو تناست أن أمر البعث واليوم الآخر من الأمور الغيبية، التي لا يمكن للعقل والفطرة - وحدهما - أن يعرفا تفاصيلها بيقين، بل لا بد أن يكون بجانبهما (هاد) يأخذ بيدهما وينير لهما السبيل - حتى لا يضل صاحبهما في متاهات وفي خيارات تنكبه الطريق.
وإن من رحمة هذا الإله الحق الحكم العدل - أن بعث ذلك الهادي المنير، وأنزل وحيه على رسله الذين اصطفاهم وأيدهم بالمعجزات، ليبصروا الناس بما يلزم أن
__________
(1) سورة الجاثية الآية 21
(2) سورة ص الآية 28
(3) سورة القلم الآية 35
(4) سورة القلم الآية 36
(5) سورة القيامة الآية 36
(6) سورة المؤمنون الآية 115
(7) سورة المؤمنون الآية 116
(8) سورة الحجر الآية 85(8/269)
يعرفوه عن هذا العالم (الغيب) الذي لا تدرك تفاصيله على الوجه الصحيح - بمجرد العقل والفطرة.
نسيت أو تناست هذه الطائفة ذلك، وتغاضت عن مصباح الوحي وهدي الرسل، فضلت في مفهوم (البعث واليوم الآخر) ، وقالوا: إنه بعث بالأرواح لا بالأجساد، وقالوا: إن الحكم العدل سيجزي الأرواح على الخير خيرا، وعلى السوء سوءا {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (1) - أما الأجساد فقد فنيت، فكيف تعود؟
وهنا كانت نكستهم، فوقعوا في حمأة الكفر بإنكارهم البعث الجسماني، وكأني بهم قد تحيزوا إلى الفئة التي قالت: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} (2) - ولنا - نقاش - مع هؤلاء الذين - أنكروا البعث الجسماني، والذين أنكروا البعث مطلقا، أو أنكروا الإله.
__________
(1) سورة الكهف الآية 49
(2) سورة ق الآية 3(8/270)
(6- مناقشات لهذه الطوائف)
الطائفة الأولى: أي التي كفرت بالله، وأنكرت البعث والجزاء: لن أسلك بهذه الطائفة مسلك الفلاسفة، ولن أخوض معهم في تلك المقدمات والأقيسة الطويلة، بل سأكتفي بأن أذكرهم بقانون من كلامهم، وأبني عليه سؤالا قصيرا أوجهه إليهم فإن أجابوا عليه انحل الإشكال {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} (1) وإن عجزوا عن الإجابة أحلتهم على موطن الإجابة الكافية الشافية، وإن عاندوا وكابروا - فلا فائدة من مناقشتهم ماداموا مصرين على عنادهم: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (2) .
أما قانونهم الذي يقررونه ويدرسونه في العلوم الكونية، ويؤمنون به كإيمانهم بأن السماء فوقنا والأرض تحتنا فهو قانون (القصور الذاتي) ، وخلاصته:
(أن كل ساكن يبقى على سكونه حتى يحركه محرك، وكل متحرك يمضي في حركته واتجاهه، فلا يقف عن حركته ولا يلوي عنها إلا بعامل يسكنه، أو يحوله عن اتجاهه) .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 25
(2) سورة البقرة الآية 6(8/270)
يعني: إن كل شيء يبقى على حالته، ولا يخرج عنها إلا بمخرج يخرجه عنها. هذا هو قانونكم، فاستمعوا لسؤالي:
عناصر الأرض ميتة (أوكسجين أدروجين) وهما (جماد) كما تقولون - ونحن معكم أيضا. فإذا نزل الماء الجماد المركب من عنصرين ميتين على الأرض الميتة - سرت فيها حياة - كما تقولون في (علم الأحياء) ونحن معكم، وقد سبق القرآن بتقرير ذلك أكثر من مرة {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (1) {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} (2) {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (3) .
فبالله خبروني: من الذي أخرج الماء الميت المركب من عناصر ميتة، والأرض الميتة - من موتها؟ ومن الذي بعث الحياة في هؤلاء العناصر الأموات؟؟ {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (4) .
وبعبارة أخصر وأوضح: (من الذي أخرج الحي من الميت) ؟؟؟
(إن أجبتم) بأنه القوي الباطن الذي لا تدركه الأبصار، القادر الظاهر البارئ لما نرى من مخلوقات وآثار، الذي وصف نفسه بقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (5) أكملنا لكم الآية الكريمة من سورة الروم: {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} (6) وهنا لزمكم الاعتراف بالخالق الباعث.
(وإن عجزتم عن الإجابة) أحلتكم على مواطن الإجابة مسطورة ومنشورة، ومرئية ومسموعة، لكي تنظروها بأعينكم في هذا الكون المملوء بالآيات والآثار والظواهر والأسرار، ولكي تقرءوها، وتسمعوها بآذانكم وتتدبروها وتعوها بقلوبكم وعقولكم - في كتاب ربكم.
__________
(1) سورة الروم الآية 24
(2) سورة الفرقان الآية 49
(3) سورة فاطر الآية 9
(4) سورة الحج الآية 5
(5) سورة الروم الآية 19
(6) سورة الروم الآية 19(8/271)
{انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (1) {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} (2) {وَفِي أَنْفُسِكُمْ} (3) واقرءوا بتدبر كل آية مختومة بقول الله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} (4) اقرءوا ذلك وأمثاله في سور (الحجر، والنحل، والروم، والنمل، وطه، وياسين، والنبأ، والنازعات، وعبس، والغاشية، والصافات، والطارق، والقيامة، والمرسلات. . .) .
(وإن نكلتم عن الإجابة) وأصررتم على العناد - فلا سبيل إلى إقناعكم أو هدايتكم {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ} (5) {لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (6) .
الطائفة الثانية: التي اعترفت بأن للعالم إلها، ولكنها أنكرت البعث وكفرت باليوم الآخر: موقفنا مع هؤلاء في غاية الوضوح:
أنتم صدقتم بأن للعالم إلها حقا - وهذا الإله الحق أخبر عن مجيء اليوم الآخر وعن البعث والجزاء، كما جاء في وحيه وعلى ألسنة رسله، فأنتم بين أمرين:
إما صدقتموه فيما أخبر به من البعث والجزاء. . . إلخ - فأنتم - إذا - مؤمنون بالله واليوم الآخر، فلنحمد الله ولتحمدوه {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} (7) .
وإما كذبتموه وأنكرتم ما أخبر به - فأنتم - إذا - مع الطائفة الأولى الكافرة بالله واليوم الآخر - فارجعوا إلى الحوار الذي دار بيننا وبينهم حتى أفحمهم وألجمهم، وألزمهم أن يعترفوا بالإله الحق.
الطائفة الثالثة: التي اعترفت بالإله الحق، القادر، الحكيم، العليم، وآمنت
__________
(1) سورة يونس الآية 101
(2) سورة الذاريات الآية 20
(3) سورة الذاريات الآية 21
(4) سورة الحجر الآية 75
(5) سورة الأعراف الآية 186
(6) سورة الشورى الآية 15
(7) سورة الأعراف الآية 43(8/272)
بالبعث والجزاء تحقيقا لعدالته وحكمته - ولكنها أخطأت في مفهوم البعث، فقالوا: إنه بعث روحي لا جسمي، وإن الله العدل الحكيم سيجزي الأرواح على الخير خيرا وعلى السوء سوءا - أما الأجساد - فقد بليت ولن تعود.
نسأل هذه الطائفة: لقد اعترفتم بالإله، وبعدله - وهذا حق {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (1) فما سبب إنكاركم للبعث الجسماني - مع أن الإله قد أخبر عنه ووعد به نصا صريحا لا يحتمل غير الحقيقة السافرة التي لا تجوز فيها ولا كناية، واقرءوا ذلك في مئات الآيات وعشرات السور من كتاب الله، وكلماته التامة صدقا وعدلا. ولولا خشية الإطالة لسبحت بكم سبحا طويلا في هذه الآيات البينات التي لا تحف بها أي قرينة تصرفها عن المعنى الحقيقي إلى مجاز أو كناية.
__________
(1) سورة الكهف الآية 49(8/273)
(7- الشبه التي أثارها منكرو اليوم الآخر) - والرد عليها
لقد أثار منكرو البعث الجسمي في سبيل هذه العقيدة شبها يمكن حصرها فيما يلي:
1 - قالوا: إن إعادة الشيء الذي انعدم وفنى مستحيلة، فكيف تقولون بها؟
2 - وقالوا: إن الإنسان إذا بلى تفتت أجزاؤه، وتحللت عناصره، وتناثرت ذراته، وضلت، وبخاصة إذا حرقت وذريت، وصارت واحدة منها إلى قاع بحر، وثانية إلى قمة جبل، وثالثة في أقصى الشرق، ورابعة في أقصى الغرب، وهكذا. . . فكيف تجمع وتعاد كما كانت؟؟
3 - وقالوا: الحياة لا بد لها من حرارة، وقد ذهبت حرارتها بالموت والبلى، فأنى لها هذه الحرارة وكيف تعود؟
4 - وقالوا: إن الذي خلق هذا الكون العجيب المليء بالإبداع والدقة قد بذل جهدا يضني، وطاقة تعيي تعالى الله عن ذلك - فكيف يقدر على إعادته، ومن أين له بهذه الطاقة وذلك الجهد؟؟
5 - وقالوا: إنه قد أفرغ الغاية في إبداع العالم - فما الداعي لتخريبه؟(8/273)
ألا يكون ذلك عبثا؟
6 - قالوا: إن منهجنا علمي تجريبي، لا نؤمن إلا بما تدركه حواسنا، ولا نصدق بشيء وراء الحس.
7 - وقالوا: إذا أكل إنسان إنسانا آخر وهضمه، وصار جسم المأكول في جسم الآكل، فكيف يعودان؟ أيعود الشخصان وقد صارا جثة واحدة؟ أم يعود واحد منهما فقط وأين الثاني؟
8 - وقالوا: إذا فرضنا (أن زيدا من الناس) مر بطورين: كفر وإيمان، وكان في أحدهما هزيل الجسم، وفي الطور الآخر سمينا فهل يعاد هزيلا فلا تنال الأجزاء التي كانت تسمنه جزاءها؟ أم يعاد سمينا فتنال هذه الأجزاء جزاء ما لم تكن تستحقه لأنها لم تكن موجودة؟ هذه هي الشبه التي أثاروها - ثمان - ولا شيء بعد ذلك، وقد تكفل القرآن بالرد عليها، وتفنيدها واحدة واحدة، ردا محكما لا يترك ثغرة لمرتاب، وبأسلوب هو غاية الإعجاز في الإتقان والإحكام، حتى لا تكون لفيلسوف حجة ولا شبه حجة، وهو أيضا غاية الإعجاز في اليسر والسلاسة والرحابة، حتى لا يعجز الإنسان العادي بفطرته عن فهم العقيدة، والإيمان بها إيمانا صحيحا جازما وافرا في قلبه، آخذا عليه أرجاء نفسه.
وذلك، لأن هذا الدين لم يجئ لطائفة دون أخرى - بل هو دين الفطرة، ورسالة الله للعالم كله بعث به خاتم رسله ليكون للعالمين نذيرا، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (1) .
الرد على هذه الشبه:
1 - في الشبهة الأولى تستبعدون البعث، وتقولون: إن إعادة المنعدم مستحيلة ونرد عليكم بأن الإعادة أسهل من البدء (في مقاييسنا نحن البشر) - أما أمام
__________
(1) سورة القمر الآية 17(8/274)
قدرة الله فالبدء والإعادة سواء، كلاهما على الله يسير واسمعوا لرد القرآن الكريم: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} (1) {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (2) {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} (3) {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} (4) ؟ فكيف يعجز - سبحانه وتعالى - عن إعادته؟ مع أنه قد كان شيئا {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ} (5) {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} (6) .
2 - قلتم: كيف تجمع العناصر والذرات، بعد أن ذهبت بددا، وضلت ضبطا وعددا؟ وصارت مجهولة المكان والجواب: أن جمعها، وإيجادها وإعادتها كما كانت لا تحتاج إلا لشيئين:
علم: تام محيط إحاطة كاملة بمقاديرها، وعددها، وأماكنها وكل ما يتصل بها.
وقدرة: كاملة تبرزها من العدم، أو تجمعها من الشتات، وترجعها كما كانت.
والعلم والقدرة من صفات الإله الحق الذي خلق هذا العالم المحسوس أمامكم مليئا بآثار القدرة، وأسرار العلم والحكمة، وأنتم أنفسكم تكشفون كل يوم جديدا، وفي كل شيء له آية، تدل على قدرته الكاملة وعلمه الشامل، وحكمته السامية واسمعوا لرد القرآن الكريم على هذه الشبهة، إذ يثبت صفة العلم، وصفة القدرة فيقول:
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} (7) {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} (8) إلخ السورة (سورة ق) .
__________
(1) سورة الروم الآية 27
(2) سورة الأعراف الآية 29
(3) سورة يس الآية 79
(4) سورة مريم الآية 67
(5) سورة الحج الآية 66
(6) سورة يونس الآية 34
(7) سورة ق الآية 4
(8) سورة ق الآية 6(8/275)
{وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (1) {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (2) {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} (3) {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (4) .
واقرءوا ما شاء الله أن تقرءوا من سور (يونس، والرعد، والحجر، والنحل، والمؤمنون، والنمل، والروم، ولقمان، والسجدة، وسبأ، وفاطر، وياسين، والصافات، وذوات "حم". .) وغيرها.
3 - في الشبهة الثالثة: قلتم: لا بد للحياة من حرارة وقد ذهبت الحرارة بالموت والفناء، فكيف تعود؟
والجواب: أيصعب على القادر العليم الذي أوجد الحرارة ثم أفقدها أن يوجدها في العودة؟ ثانيا: وها نحن أولاء أبناء البشر مع ضعفنا وعجزنا قد استطعنا بما كشفنا من قوانين ونواميس وضعها رب هذا الكون في الكون وعلمناها بما شاء من وسائل التعليم أن نعيد الحرارة بعد ذهابها بالضغط على زر كهربي أفيجوز بعد ذلك أن نتساءل هذا التساؤل الساذج القائل: من ذا الذي يستطيع أن يوجد الحرارة بعد ذهابها من الجسم بموته أو بتمزقه أو بفنائه؟ واسمعوا لرد القرآن الكريم على هذه الشبهة: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} (5)
__________
(1) سورة يس الآية 79
(2) سورة سبأ الآية 3
(3) سورة الحديد الآية 4
(4) سورة لقمان الآية 16
(5) سورة يس الآية 80(8/276)
{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} (1) {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} (2) {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} (3) .
4 - قلتم: إن خلق العالم أجهده وأعياه، فلا يستطيع أن يعيده بعدما أفناه.
وهذه شبهة تثير الضحك الساخر، ولا أجد لها ردا أبلغ ولا قطعا أحسم من حالتكم إلى النظرة في العالم وصنعته، والتأمل في القرآن وحجته: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} (4) ؟ {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (5) - إنما يعيا ذو القدرة المحدودة، الذي يبذل جهدا في العمل، ويحتاج لآلة أو طاقة، أما الإله القادر على كل شيء فهو كما قال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (6) {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} (7) .
5 - قلتم: إن حكمة الله وعظمته تجلت في إبداع هذا العالم، فما هو الداعي لتخريبه وإبداله بعالم آخر؟ ونقول لكم: إن حكمة الله وعظمته أكبر مما تجلى في هذا العالم الذي خلقه قابلا للفناء، ولو كانت حكمته محدودة بهذه الدنيا الفانية لكان خلقها كاللعب والعبث - وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
__________
(1) سورة الواقعة الآية 71
(2) سورة الواقعة الآية 72
(3) سورة الواقعة الآية 73
(4) سورة ق الآية 15
(5) سورة الأحقاف الآية 33
(6) سورة يس الآية 82
(7) سورة ق الآية 38(8/277)
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} (1) {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} (2) {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} (3) {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} (4) {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} (5) .
6 - قلتم: إن منهجكم علمي تجريبي، وإنكم لا تصدقون إلا بالحس والمشاهدة، ولا تعترفون بغيب وراء هذه المادة.
ونقول لكم:
أولا: هل شاهدتم الكهرباء؟ هل عرفتم حقيقة المغناطيسية؟ هل أبصرتم الروح التي بين جنبيكم؟ هل تصدقون بأن حولكم ملايين الأحياء الدقيقة التي لم تعرفوها إلا منذ عهد قريب، وبواسطة الميكروسكوب ونحوه عرفتم عن بعضها شيئا، وأن ما خفي منها أكثر، وأن ما جهلتم أضعاف ما علمتم؟ {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا} (6) ومع ذلك سنتنزل معكم ونسألكم:
ثانيا: ماذا تريدون (بالمحسوس) الذي لا تؤمنون إلا به؟ أتريدون محسوسا يرى بالعين، أو يسمع بالأذن، أو يشم بالأنف، أو يقبض عليه باليد؟؟؟
إن كثيرا من الأشياء موجودة، ولكنها لا رائحة لها، ولا مذاق لطعمها، ولا يمكن أن تمسك باليد وأنتم تعرفونها ولا تنكرونها وتستدلون على وجودها بآثارها، وما يصدر عنها من رائحة أو غير رائحة.
ثم إذا أردتم (وسائل إيضاح) ونماذج محسوسة مشهودة بالأبصار تقرب لحسكم عملية البعث، كما تقرب (وسيلة الإيضاح) المعلومات للتلميذ الصغير
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 16
(2) سورة الدخان الآية 39
(3) سورة آل عمران الآية 191
(4) سورة المؤمنون الآية 115
(5) سورة المؤمنون الآية 116
(6) سورة الإسراء الآية 85(8/278)
فإليكم تلك النماذج، أعرض منها سردا وأترككم لتفكروا بعقولكم التي تؤمنون بوجودها مع أنكم لا تشاهدونها ولا تعرفون إلا آثارها.
وإليكم: نماذج واقعة يحدثنا التاريخ الصادق عنها، وعن بعثها من مماتها: قصة أصحاب الكهف، وبقرة بني إسرائيل {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1) وقصة {كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} (2) وطيور إبراهيم عليه السلام {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} (3) .
7 - قلتم: إذا أكل شخص شخصا آخر فكيف يعودان؟
ورد عليكم علماء الكلام بأن لكل إنسان أجزاء أصلية، وأجزاء أخرى إضافية أو فضلات بالنسبة للأجزاء الأصلية، وأن الأجزاء الأصلية في أحد الجسدين تكون زوائد أو فضلات في الجسد الآخر فتعود في الجسد الذي هي أصلية فيه.
وهنا أحتفظ لنفسي برد آخر لهذه الشبهة وللشبهة الآتية الثامنة والرد عليها. .
8 - قلتم: كيف يبعث المؤمن الذي كفر، أو الكافر الذي آمن؟ إذا كان هزيل الجسم أو سمينه ثم تحول جسمه في إحدى الحالتين؟ ورد علماء الكلام بمثل ما قالوا في الرد على الشبهة السابعة السابقة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 73
(2) سورة البقرة الآية 259
(3) سورة البقرة الآية 260(8/279)
ولي هنا وقفتان: وقفة أسألكم فيها، ووقفة أحدثكم بها:
فأما السؤال: فعن إنسان ارتكب ما يوجب القصاص، ثم فر من العدالة لمدة طويلة، تحول في تلك المدة جسمه من غليظ جدا إلى هزيل جدا، أو بالعكس، ثم وقع في قبضة العدالة، فماذا ترون؟ أنعفيه من العقوبة أو نغلظها عليه أو نخففها عنه بحجة أن جسمه قد تغير عما كان عليه وقت أن ارتكب الجريمة، وأن أجزاء جسمه الحالية غير التي كانت عند مزاولته للجناية؟؟
أظنكم تتفقون معي في أن العدالة تقتضي أن يأخذ جزاءه مهما تغير جسمه، لأن ذاته لم تتغير، ولأن الزيادة والنقص أمور عارضة لم تغير من ذات الشخص.
هذه هو السؤال وجوابه.
أما الحديث الذي أسوقه لكم فمضمونه أن للحياة الآخرة قوانين ونواميس وخصائص، تتناسب معها، ومع صلاحيتها للبقاء الأبدي، وأن السنن التي تسير عليها حياتنا في هذه الدنيا لا تتحكم في حياتنا الآخرة والأبدية، لأنها نشأة أخرى، لا نعرف من تفاصيلها ولا من سننها ونواميسها وما تكون عليه، إلا ما علمناه ربنا بوحيه: كتاب كريم، أو سنة صحيحة، قال تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} (1) {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} (2) أي وما نحن بعاجزين أن نغير أحوالكم، ونخلقكم خلقا جديدا في حال وبنواميس وسنن ليست معروفة لكم الآن.
وإنا لنشاهد في حياتنا هذه ألوانا وصورا من الحياة يختلف بعضها عن بعض في خصائصها ومميزاتها، فحياة النبات ليست كحياة الحيوان، حياة الحيوانات كما ذكرنا سابقا متفاوتة في الرقي والانحطاط، بل إن الإنسان نفسه تختلف حياته في منامه عن حياته في يقظته، وإنه ليمر في رحلته بأطوار من الحياة لكل طور منها خصائص ومميزات تغاير خصائص الأطوار الأخرى ومميزاتها.
فحياته وهو جنين في بطن أمه، غير حياته وهو على ظهر الأرض، وهذه تغاير
__________
(1) سورة الواقعة الآية 60
(2) سورة الواقعة الآية 61(8/280)
حياته البرزخية في بطن الأرض، وكل هذه الحيوات تغاير الحياة الآخرة، وإليك عرضا موجزا جدا لهذه الأطوار من الحياة.
حياته وهو جنين: تحتاج لحيز لا يتعدى شبرا تقريبا، ولا تمتد أكثر من مدة الحمل (تسعة أشهر أو أربع سنوات هلالية) ويكفيه فيها من الغذاء غذاء ملوث ممزوج بالفضلات والدماء، ويستنشق من الهواء حبيسا لا يرى شمسا ولا قمرا. . ثم من يدري؟ لعله في حياته الضيقة هذه ينعم ببحبوحة رحيبة، لو كان مختارا لآثر البقاء فيها على الدنيا الفسيحة، ولعل في صراخه حينما يغادرها إلى دنيا الناس إشارة إلى أسفه على تلك الحياة التي نراها نحن حياة حبس وضيق.
فإن هو ترك هذا الطور من الحياة استقبل طورا ثانيا هو:
حياته على ظهر الأرض: وهي ذات خصائص ومميزات غير السابقة: فبدل المكان المحدود بنحو شبر سيجد أمامه آلاف الأميال في طول الدنيا وعرضها، وبدل الزمان المقدر ببضع سنوات على الأكثر قد يمتد عمره إلى عشرات السنين، وربما جاوز قرنا من الزمان، وبدل الغذاء المستقذر، والهواء الحبيس يطعم الماء العذب النمير، والغذاء الشهي النقي السخي، ويشم الهواء الصافي المستطاب، ويستمتع بالفراش الوثير، وبدفء الشمس، وضوء القمر، وغير ذلك من أنواع المتع التي تجعله يتشبث بهذه الحياة، حتى إنه لو كان مختارا لما رضي أن يفارقها. فإذا ما قدر له فراقها (ولا بد من ذلك) فإلى صورة ثالثة أو لون ثالث من ألوان الحياة، وذلك هو:
الحياة البرزخية: في بطن الأرض، وتلك حياة لا نعرف من خصائصها إلا نوعين:
نوع محسوس ندركه بأعيننا، وأمر مغيب يحدثنا عنه وحي الله بالقرآن أو السنة: أما المحسوس الذي نراه فمكان لا يتعدى مترين في نصف متر تقريبا وزمان قد يطول أو يقصر ينتهي عند قيام الساعة، ومتى تكون؟ علمها عند ربي، لا يجليها لوقتها إلا هو (ولا تأتيكم إلا بغتة) ثم لا غذاء، ولا هواء ولا أنيس، ولا(8/281)
جليس هذا هو الذي يظهر لحواسنا من فترة البرزخ.
وأما حديث الوحي عنها: فإما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار، (إما) حواصل طيور خضر تسبح في فراديس الجنة، ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا، {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (1) {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ} (2) .
(وإما) النار: {يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} (3) .
هذه صورة ثالثة من صور حياة الإنسان وكل هذه الأطوار صور للحياة الأولى في هذه الدنيا، أما الصورة الرابعة فهي الحياة الآخرة، ولها خصائص ونواميس غير ما للحياة الدنيا، لأن الله تعالى حكم ببقائها منحة منه وفضلا {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} (4) وجعل لها سننا ونواميس لا نعلمها نحن الآن، فمثلا لا ينال أهلها في الجنة منغصات ولا شيب، ولا مرض، ولا هرم. . .
كما لا يلحق أهل النار فيها موت يريحهم، ولا إيلاف يخفف من عذابهم، بل {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} (5) ولو كانت سنن الحياة الدنيا تسري عليها لانصهروا وماتوا.
ويكفي أن نعرف عن هذه الحياة الآخرة أنها آتية لا ريب فيها، وأن كل ما حدثنا به القرآن الكريم، والنبي الصادق الأمين عنها فلا بد منه.
أما تفاصيل نواميسها، وقوانين نظامها، فمن رحمة الله بنا أنه لم يكلفنا بذلك، لأنه سبحانه لا يكلف عباده إلا بما يطيقون {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (6) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 169
(2) سورة آل عمران الآية 170
(3) سورة غافر الآية 46
(4) سورة المائدة الآية 1
(5) سورة النساء الآية 56
(6) سورة البقرة الآية 286(8/282)
يكفي أن تتصور عن (نعيمها) ما قال الله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (1) .
ويكفي أن تتصور من (عقابها) - عافانا الله وإياكم {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} (2) {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} (3) {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} (4) .
كيف تقطع النار ثيابا؟ كيف تصهر الأمعاء والأحشاء بالحميم الذي يصب من فوق الرؤوس؟ وهل يبقى فيهم بعد انصهارهم ما يضرب بمقامع الحديد؟ كيف؟
إن الأمر لو كان على سنن الدنيا وقوانينها لأدى إلى موتهم، ولكن ذلك يحقق لهم طلبتهم من مالك خازن جحيمهم، والله لا يريد أن يخفف عنهم من عذابها ولا أن يقضي عليهم فيموتوا، ولذلك جعل لهذه الحياة الأبدية نظاما وسننا غير التي نعرفها في هذه الحياة الدنيا.
لعلك يا - أخي القارئ - تدرك من سؤالي هذا وحديثي هذا ما يرد الشبهتين الأخيرتين، السابعة والثامنة.
ولعلك بهذا تزداد إيمانا ورسوخا بأن الساعة آتية لا ريب فيها، ولعلك لا تخوض مع الخائضين بسؤال لا يقدم ولا يؤخر في هذا الأمر كما كان الكفار يخوضون {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} (5) ؟ {إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} (6) .
ولعلك بهذا اليقين الوافر في قلبك تتزود لهذا اليوم الآخر بعمل صالح وسلوك حسن، {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (7) .
__________
(1) سورة السجدة الآية 17
(2) سورة الحج الآية 19
(3) سورة الحج الآية 20
(4) سورة الحج الآية 21
(5) سورة الأنبياء الآية 38
(6) سورة الأحقاف الآية 23
(7) سورة البقرة الآية 197(8/283)
8 - قطاف الفرد للثمرة
إن الذي يؤمن بهذا اليوم الآخر، وبما يكون فيه من الجزاء والدين ليحيا حياة الآمن المطمئن، لثقته وجزمه بأنه لن يضيع ما وفق له من عمل صالح، وبأن هناك عدالة مطلقة تحفظ له حقوقه التي ضاعت منه في هذه الدنيا {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (1) - وكفى بهذه الطمأنينة، والرضا، ثمرة تجنى في هذه الدنيا، وما عند الله أبقى، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} (2) .
__________
(1) سورة التغابن الآية 11
(2) سورة آل عمران الآية 198(8/284)
9- ثمرة يقطفها المجتمع المؤمن باليوم الآخر
أما الثمرة التي يقطفها المجتمع الذي آمن بالله واليوم الآخر، وصدق إيمانه عمله الصالح، وسلوكه الحسن، واستعداده للقاء هذا اليوم، وتزوده بخير الزاد فثمرة طيبة يانعة وحياة كريمة مرضية مستطابة، مظللة بالأمن والاستقرار، والطمأنينة والرضا.
وقد تكلمت عن شيء من جني هذه الحياة، ووازنت بينها، وبين حياة المجتمع الكافر باليوم الآخر، في صدر حديثي هذا - فارجع إليه إن رغبت.
أما الثمرة التي يجنيها هذا المجتمع المؤمن في الدار الآخرة الباقية، فنعيم لا ينفد، وحياة لا تنقطع ولا تهدد، وصفاء لا يكدر ولا ينكد، ورؤية لا تماثلها ولا تدنو من جمالها وجلالها رؤية، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (1) {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (2) {لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (3) .
__________
(1) سورة يونس الآية 26
(2) سورة الحجر الآية 47
(3) سورة الحجر الآية 48(8/284)
{رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (1) .
وصل وسلم على عبدك ورسولك الذي علمنا الخير ودعانا إليه، وعلى آله وأصحابه، والحمد لله رب العالمين.
الغزالي خليل عيد
__________
(1) سورة آل عمران الآية 194(8/285)
أسئلة وأجوبة
مع سماحة الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
عن الغزو الفكري
إعداد \ التحرير
س1: ما هو تعريف الغزو الفكري في رأيكم؟
***
جـ: الغزو الفكري هو مصطلح حديث يعني مجموعة الجهود التي تقوم بها أمة من الأمم للاستيلاء على أمة أخرى أو التأثير عليها حتى تتجه وجهة معينة، وهو أخطر من الغزو العسكري لأن الغزو الفكري ينحو إلى السرية وسلوك المسارب الخفية في بادئ الأمر فلا تحس به الأمة المغزوة ولا تستعد لصده والوقوف في وجهه حتى تقع فريسة له وتكون نتيجته أن هذه الأمة تصبح مريضة الفكر والإحساس تحب ما يريده لها عدوها أن تحبه وتكره ما يريد منها أن تكرهه.
وهو داء عضال يفتك بالأمم ويذهب شخصيتها ويزيل معاني الأصالة والقوة فيها والأمة التي تبتلى به لا تحس بما أصابها ولا تدري عنه ولذلك يصبح علاجها أمرا صعبا وإفهامها سبيل الرشد شيئا عسيرا.
***(8/286)
س2: هل يتعرض العرب عامة والمملكة خاصة لهذا النوع من الغزو؟
***
جـ: نعم يتعرض المسلمون عامة ومنهم العرب لغزو فكري عظيم تداعت به عليهم أمم الكفر من الشرق والغرب ومن أشد ذلك وأخطره:
1 - الغزو النصراني الصليبي.
2 - الغزو اليهودي.
3 - الغزو الشيوعي الإلحادي.
أما الغزو النصراني الصليبي فهو اليوم قائم على أشده ومنذ أن انتصر صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين الغازين لبلاد المسلمين بالقوة والسلاح أدرك النصارى أن حربهم هذه وإن حققت انتصارات فهي وقتية لا تدوم ولذا فكروا في البديل الأفضل وتوصلوا بعد دراسات واجتماعات إلى ما هو أخطر من الحروب العسكرية وهو أن تقوم الأمم النصرانية فرادى وجماعات بالغزو الفكري لناشئة المسلمين لأن الاستيلاء على الفكر والقلب أمكن من الاستيلاء على الأرض فالمسلم الذي لم يلوث فكره لا يطيق أن يرى الكافر له الأمر والنهي في بلده ولهذا يعمل بكل قوته على إخراجه وإبعاده ولو دفع في سبيل ذلك حياته وأغلى ثمن لديه وهذا ما حصل بعد الانتصارات الكبيرة للجيوش الصليبية الغازية، وأما المسلم الذي تعرض لذلك الغزو الخبيث فصار مريض الفكر عديم الإحساس فإنه لا يرى خطرا في وجود النصارى أو غيرهم في أرضه بل قد يرى أن ذلك من علامات الخير ومما يعين على الرقي والحضارة، وقد استغنى النصارى بالغزو الفكري عن الغزو المادي لأنه أقوى وأثبت وأي حاجة لهم في بعث الجيوش وإنفاق الأموال مع وجود من يقوم بما يريدون من أبناء الإسلام عن قصد أو عن غير قصد وبثمن أو بلا ثمن ولذلك لا يلجئون إلى محاربة المسلمين علانية بالسلاح والقوة إلا في الحالات النادرة الضرورية التي تستدعي العجل كما حصل في غزو أوغندة أو باكستان أو عندما تدعو الحاجة إليها لتثبيت المنطلقات وإقامة الركائز وإيجاد المؤسسات(8/287)
التي تقوم بالحرب الفكرية الضروس كما حصل في مصر وسورية والعراق وغيرها قبل الجلاء.
أما الغزو اليهودي فهو كذلك لأن اليهود لا يألون جهدا في إفساد المسلمين في أخلاقهم وعقائدهم، ولليهود مطامع في بلاد المسلمين وغيرها، ولهم مخططات أدركوا بعضها ولا زالوا يعملون جاهدين لتحقيق ما تبقى، وهم وإن حاربوا المسلمين بالقوة والسلاح واستولوا على بعض أرضهم فإنهم كذلك يحاربونهم في أفكارهم ومعتقداتهم ولذلك ينشرون فيهم مبادئ ومذاهب ونحلا باطلة كالماسونية والقاديانية والبهائية والتيجانية وغيرها ويستعينون بالنصارى وغيرهم في تحقيق مآربهم وأغراضهم، أما الغزو الشيوعي الإلحادي فهو اليوم يسري في بلاد الإسلام سريان النار في الهشيم نتيجة للفراغ وضعف الإيمان في الأكثرية وغلبة الجهل وقلة التربية الصحيحة والسليمة، فقد استطاعت الأحزاب الشيوعية في روسيا والصين وغيرهما أن تتلقف كل حاقد موتور من ضعفاء الإيمان وتجعلهم ركائز في بلادهم ينشرون الإلحاد والفكر الشيوعي الخبيث وتعدهم وتمنيهم بأعلى المناصب والمراتب فإذا ما وقعوا تحت سيطرتها أحكمت أمرها فيهم وأدبت بعضهم ببعض وسفكت دماء من عارض أو توقف حتى أوجدت قطعانا من بني الإنسان حربا على أممهم وأهليهم وعذابا على إخوانهم وبني قومهم، فمزقوا بهم أمة الإسلام وجعلوهم جنودا للشيطان يعاونهم في ذلك النصارى واليهود بالتهيئة والتوطئة أحيانا وبالمدد والعون أحيانا أخرى، ذلك أنهم وإن اختلفوا فيما بينهم فإنهم جميعا يد واحدة على المسلمين يرون أن الإسلام هو عدوهم اللدود ولذا نراهم متعاونين متكاتفين بعضهم أولياء بعض ضد المسلمين فالله سبحانه المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل.
***(8/288)
س3: ما هي الوسائل التي يستخدمها الغرب لترويج أفكاره؟(8/288)
جـ: الوسائل التي يستخدمها الغرب لترويج أفكاره كثيرة منها:
1 - محاولة الاستيلاء على عقول أبناء المسلمين وترسيخ المفاهيم الغربية فيها لتعتقد أن الطريقة الفضلى هي طريقة الغرب في كل شيء سواء فيما يعتقده من الأديان والنحل أو ما يتكلم به من اللغات أو ما يتحلى به من الأخلاق أو ما هو عليه من عادات وطرائق.
2 - رعايته لطائفة كبيرة من أبناء المسلمين في كل بلد وعنايته بهم وتربيتهم حتى إذا ما تشربوا الأفكار الغربية وعادوا إلى بلادهم أحاطهم بهالة عظيمة من المدح والثناء حتى يتسلموا المناصب والقيادات في بلدانهم وبذلك يروجون الأفكار الغربية وينشئون المؤسسات التعليمية المسايرة للمنهج الغربي أو الخاضعة له.
3 - تنشيطه لتعليم اللغات الغربية في البلدان الإسلامية وجعلها تزاحم لغة المسلمين وخاصة اللغة العربية لغة القرآن الكريم التي أنزل الله بها كتابه والتي يتعبد بها المسلمون ربهم في الصلاة والحج والأذكار وغيرها، ومن ذلك تشجيع الدعوات الهدامة التي تحارب اللغة العربية وتحاول إضعاف التمسك بها في ديار الإسلام في الدعوة إلى العامية وقيام الدراسات الكثيرة التي يراد بها تطوير النحو وإفساده وتمجيد ما يسمونه بالأدب الشعبي والتراث القومي.
4 - إنشاء الجامعات الغربية والمدارس التبشيرية في بلاد المسلمين ودور الحضانة ورياض الأطفال والمستشفيات والمستوصفات وجعلها أوكارا لأغراضه السيئة وتشويق الدراسة فيها عند الطبقة العالية من أبناء المجتمع ومساعدتهم بعد ذلك على تسلم المراكز القيادية والوظائف الكبيرة حتى يكونوا عونا لأساتذتهم في تحقيق مآربهم في بلاد المسلمين.
5 - محاولة السيطرة على مناهج التعليم في بلاد المسلمين ورسم سياستها، إما بطريق مباشر كما حصل في بعض بلاد الإسلام حينما تولى دنلوب القسيس تلك المهمة فيها أو بطريق غير مباشر عندما يؤدي المهمة(8/289)
نفسها تلاميذ ناجحون درسوا في مدارس دنلوب وتخرجوا فيها فأصبح معظمهم معول هدم في بلاده وسلاحا فتاكا من أسلحة العدو يعمل جاهدا على توجيه التعليم توجيها علمانيا لا يرتكز على الإيمان بالله والتصديق برسوله وإنما يسير نحو الإلحاد ويدعو إلى الفساد.
6 - قيام طوائف كبيرة من النصارى واليهود بدراسة الإسلام واللغة العربية وتأليف الكتب وتولي كراسي التدريس في الجامعات حتى أحدث هؤلاء فتنة فكرية كبيرة بين المثقفين من أبناء الإسلام بالشبه التي يلقنونها لطلبتهم أو التي تمتلئ بها كتبهم وتروج في بلاد المسلمين حتى أصبح بعض تلك الكتب مراجع يرجع إليها بعض الكاتبين والباحثين في الأمور الفكرية أو التاريخية ولقد تخرج على يد هؤلاء المستشرقين من أبناء المسلمين رجال قاموا بنصيب كبير في أحداث الفتنة الكبرى وساعدهم على ذلك ما يحاطون به من الثناء والإعجاب وما يولونه من مناصب هامة في التعليم والتوجيه والقيادة فأكملوا ما بدأه أساتذتهم وحققوا ما عجزوا عنه لكونهم من أبناء المسلمين ومن جلدتهم ينتسبون إليهم ويتكلمون بلسانهم فالله المستعان.
7 - انطلاق الجيوش الجرارة من المبشرين الداعين إلى النصرانية بين المسلمين وقيامهم بعملهم ذلك على أسس مدروسة وبوسائل كبيرة عظيمة يجند لها مئات الآلاف من الرجال ولقد تعد لها أضخم الميزانيات وتسهل لها السبل وتذلل لها العقبات {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (1) وإذا كان هذا الجهد منصبا على الطبقة العامية غالبا فإن جهل الاستشراق موجه إلى المثقفين كما ذكرت آنفا وأنهم يتحملون مشاقا جساما في ذلك العمل في بلاد إفريقية وفي القرى النائية من أطراف البلاد الإسلامية في شرق آسيا وغيرها ثم هم بعد كل حين يجتمعون في مؤتمرات يراجعون حسابهم وينظرون في خططهم
__________
(1) سورة الصف الآية 8(8/290)
فيصححون ويعدلون ويبتكرون فلقد اجتمعوا في القاهرة سنة 1906م وفي أدنمبرج في سنة 1910م وفي لكنوا سنة 1911م وفي القدس عام 1935م وفي القدس كذلك في عام 1935م ولا زالوا يوالون الاجتماعات والمؤتمرات فسبحان من بيده ملكوت كل شيء وإليه يرجع الأمر كله.
8 - الدعوة إلى إفساد المجتمع المسلم وتزهيد المرأة في وظيفتها في الحياة وجعلها تتجاوز الحدود التي حد الله لها وجعل سعادتها في الوقوف عندها وذلك حينما يلقون بين المسلمين الدعوات بأساليب شتى وطرق متعددة إلى أن تختلط النساء بالرجال وإلى أن تشتغل النساء بأعمال الرجال، يقصدون من ذلك إفساد المجتمع المسلم والقضاء على الطهر والعفاف الذي يوجد فيه وإقامة قضايا وهمية ودعاوي باطلة في أن المرأة في المجتمع المسلم قد ظلمت وأن لها الحق في كذا وكذا ويريدون إخراجها من بيتها وإيصالها إلى حيث يريدون في حين أن حدود الله واضحة وأوامره صريحة وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلية بينة يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (1) ، ويقول سبحانه: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} (2) الآية. ويقول: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (3) ويقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (4) ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والدخول على النساء قال رجل من الأنصار يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت (5) » وقال: «لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما (6) » .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 59
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة الأحزاب الآية 53
(4) سورة الأحزاب الآية 33
(5) صحيح البخاري النكاح (5232) ، صحيح مسلم السلام (2172) ، سنن الترمذي الرضاع (1171) ، مسند أحمد بن حنبل (4/149) ، سنن الدارمي الاستئذان (2642) .
(6) سنن الترمذي الفتن (2165) ، مسند أحمد بن حنبل (1/18) .(8/291)
9 - إنشاء الكنائس والمعابد وتكثيرها في بلاد المسلمين وصرف الأموال الكثيرة عليها وتزيينها وجعلها بارزة واضحة في أحسن الأماكن وفي أكبر الميادين.
10 - تخصيص إذاعات موجهة تدعو إلى النصرانية وتشيد بأهدافها وتضلل بأفكارها أبناء المسلمين السذج الذين لم يفهموا الإسلام ولم تكن لهم تربية كافية عليه وخاصة في إفريقية حيث يصاحب هذا الإكثار من طبع الأناجيل وتوزيعها في الفنادق وغيرها وإرسال النشرات التبشيرية والدعوات الباطلة إلى الكثير من أبناء المسلمين.
هذه بعض الوسائل التي يسلكها أعداء الإسلام اليوم في سبيل غزو أفكار المسلمين وتنحية الأفكار السليمة الصالحة لتحل محلها أفكار أخرى غربية شرقية أو غربية، وهي كما نرى جهودا جبارة وأموالا طائلة وجنودا كثيرين، كل ذلك لإخراج المسلمين من الإسلام وإن لم يدخلوا في النصرانية أو اليهودية أو الماركسية إذ يعتقد القوم أن المشكلة الرئيسية في ذلك هي إخراجهم من الإسلام، وإذا تم التوصل إلى هذه المرحلة فما بعده سهل وميسور ولكننا مع هذا نقول إن الله سيخيب آمالهم ويبطل مكرهم ويضعف كيدهم لأنهم مفسدون وهو سبحانه لا يصلح عمل المفسدين. قال الله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (1) وقال سبحانه: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا} (2) {وَأَكِيدُ كَيْدًا} (3) {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} (4) وإن الأمر يحتاج من المسلمين وقفة عقل وتأمل ونظر في الطريق التي يجب أن يسلكوها والموقف المناسب الذي يجب أن يقفوه وأن يكون لهم من الوعي والإدراك ما يجعلهم قادرين على فهم مخططات أعدائهم وعاملين على إحباطها وإبطالها ولن يتم لهم ذلك إلا بالاستعصام بالله والاستمساك بهديه والرجوع إليه والإنابة له
__________
(1) سورة الأنفال الآية 30
(2) سورة الطارق الآية 15
(3) سورة الطارق الآية 16
(4) سورة الطارق الآية 17(8/292)
والاستعانة به، وتذكر هديه في كل شيء خاصة في علاقة المؤمنين بالكافرين، وتفهم معنى سورة الكافرون، وما ذكره سبحانه في قوله {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (1) وقوله: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (2) .
أسأل الله سبحانه أن يهيئ لهذه الأمة من أمرها رشدا وأن يعيذها من مكائد أعدائها ويرزقها الاستقامة في القول والعمل حتى تكون كما أراد الله لها من العزة والقوة والكرامة، إنه خير مسئول وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 120
(2) سورة البقرة الآية 217(8/293)
حديث شريف
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا (1) »
رواه البخاري ومسلم
فكرة الغلاف وأخذا من هذا الحديث النبوي الكريم استوحت المجلة فكرة الغلاف في ثلاثة أعداد، فمثلا غلاف العدد السادس جانبا من المسجد الحرام، والعدد السابع جانبا من المسجد النبوي، وفي هذا العدد نرى جانبا من المسجد الأقصى.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .(8/294)
بسم الله الرحمن الرحيم
{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (1)
(سورة الزمر الآية 22)
__________
(1) سورة الزمر الآية 22(9/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله الفالح
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(9/2)
مجلة البحوث الإسلامية
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا
العدد التاسع: ربيع الأول ربيع الثاني جمادى الأول جمادى الثاني 1404هـ(9/3)
المحتويات
الافتتاحية
عضل البنات سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
موضوع العدد:
بيان ما يسمى معجزة محمد الخالدة والمعجزة القرآنية إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 11
خطاب سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى أمين عام المجلس الإسلامي الأروبي 43
الفتاوى إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 47
بحث في الكتاب
مباحث في القرآن الكريم الدكتور / محمد تقي الدين الهلالي 77
بحث في السنة
السنة ومكانتها الدكتور / محمد بن عبد الله العجلان 97
بحث في العقيدة
تعقبات على كتابة بعض الناس في العقيدة والتوحيد الشيخ / عبد الله بن عبد الرحمن جبرين 127(9/4)
دراسات فقهية
الحدود في الإسلام الشيخ عبد الله عبد الغني خياط 187
حكم تناول الميتة الدكتور صالح بن فوزان الفوزان 203
حكم الشهادة فيما كان من حقوق العباد الدكتور عبد الله بن محمد الزين 221
الخمر في الشريعة الإسلامية الشيخ مساعد المعتق 233
مقالات إسلامية
صلاحية التشريع الإسلامي للبشر كافة الدكتور / محمد بن عبد الله العجلان 263
منع سفر البنات للخارج في سبيل الدراسة أو الانتساب للجامعات الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود 281
التبشير في منطقة الخليج والجزيرة العربية الدكتور / محمد بن سعد الشويعر 289
الجهاد في سبيل الله أسبابه وأهدافه الدكتور زاهر عواض الألمعي 303
موارد تقي الدين الفاسي في كتابه العقد الثمين الأستاذ معالي عبد الحميد حمودة 313
أسئلة وأجوبة إعداد التحرير 323
مؤتمرات إسلامية إعداد التحرير 329(9/5)
صفحة فارغة(9/6)
الافتتاحية
عضل البنات
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فإن الله تبارك وتعالى قد بعث رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين فجاء بالهدى ودين الحق ودعا الناس إلى مكارم الأخلاق ومعالي الأمور، ورغب في الخير والتعاطف والتراحم والصلة بين الأقارب والأرحام.
ومن الأمور التي حث عليها الإسلام ورغب فيها الزواج؛ فقد ورد الأمر بذلك في العديد من آيات الكتاب الكريم والأحاديث النبوية الشريفة فمن ذلك قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (1) وقال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (2) .
فذكر تعالى في الآية الأخيرة أن الفقر ليس عيبا يحول دون تزويج الصالح، ووعد في آخر الآية بالتوسعة على أولئك الفقراء وهذه بشرى عظيمة من الله وترغيبا لمن يحجم عن تزويج الفقيرة بسبب فقره؛ فبين تعالى أنه سيغنيهم من فضله فهو واسع الفضل عليم بأحوال عباده مطلع
__________
(1) سورة النساء الآية 3
(2) سورة النور الآية 32(9/7)
عليها، وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (1) ، وجاء في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تزوجوا الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة (2) » ، وقال: «حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة (3) » ، وقال منكرا على من أراد التشديد على نفسه وحرمانها من بعض متع الحياة ومنها الزواج «أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني (4) » .
وقد وصف الله رسله بأن لهم أزواجا وذرية فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} (5) كما وصف أولياءه الصالحين بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (6) ، فهم يسألون ربهم أن يهبهم ذلك، قال بعض السلف: ما أرى قرة عين للمؤمن مثل زوجة صالحة وولد صالح.
هذا وإذا كان الإسلام قد رغب في الزواج وحث عليه فإنه قد نهى عن الامتناع منه وحذر الأولياء من ظلم مولياتهم ومنعهن من التزوج أو الحجر عليهن فقال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (7) وذلك لما يترتب على منع المرأة من الزواج من المفاسد والمضار التي تعود عليهم وعلى المجتمع المسلم، كما أن منعها من الزواج يعتبر ظلما لها؛ حيث حرمها وليها ما أباحه الله لها وجعله من أسباب سعادتها العاجلة والآجلة ومن أسباب حصول العفة والذرية وتكثير الأمة الإسلامية، ولا شك أن ذلك المنع يورثها من الهموم والأسقام
__________
(1) سورة الروم الآية 21
(2) سنن النسائي النكاح (3227) ، سنن أبو داود النكاح (2050) .
(3) سنن النسائي عشرة النساء (3940) ، مسند أحمد بن حنبل (3/285) .
(4) صحيح البخاري النكاح (5063) ، صحيح مسلم النكاح (1401) ، سنن النسائي النكاح (3217) ، مسند أحمد بن حنبل (3/285) .
(5) سورة الرعد الآية 38
(6) سورة الفرقان الآية 74
(7) سورة البقرة الآية 232(9/8)
والأحزان ما الله به عليم؛ حيث ترى أمثالها قد تزوجن وولد لهن الولد ورزقهن الله الذرية وعشن عيشة هنيئة سعيدة وتحققت آمالهن في الحياة الكريمة والولد الصالح الذي يرجى بره وإحسانه ومنفعته لوالديه ودينه، وهي قد حرمت من ذلك كله بسبب عضلها من قبل وليها الظالم لها.
كما أن منع المرأة من الزواج فيه تقليل لنسل المسلمين ومصادمة لشرع الله الذي حث على الإكثار من النسل ليقوى به جانب المسلمين ويرهبوا عدوهم لما في الكثرة من القوة والغلبة والاستغناء عن الغير في كثير من مجالات الحياة.
فاتقوا الله أيها الأولياء فيمن ولاكم الله عليهن وجعل أمرهن إليكم، واعلموا أنكم ستحاسبون أمام حكم عدل فيما اقترفته أيديكم من الظلم لمولياتكم ومنعهن من الزواج الذي أباحه الله لعباده وجعله طريقا مشروعا للتناسل، تتكون فيه الأسر الصالحة وتربى فيه الأجيال المؤمنة بربها القائمة بأمر دينها النافعة لأوطانها.
واعلموا أن من الأمور التي تساعد على انتشار الزواج تيسيره والإقلال من مؤنته والقناعة في المهر وعدم المغالاة فيه إلى الحد الذي يرهق كاهل الصهر، ويدفعه إلى الاستدانة مما يجعله حبيس الهموم والأحزان بدلا من الراحة والاطمئنان اللذين ينشدهما في الزواج، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤنة (1) » ومما يشرع للمولى أن يختار لموليته الرجل الصالح التقي ولو لم يكن غنيا أو وجيها فإن في ذلك إحسانا إلى المرأة وعناية بمستقبلها وسلامة دينها، وأن الرجل الصالح ليصون دين المرأة ويمنعها مما يشينها ويساعدها على الاستقامة والصلاح مع ما في ذلك من طاعة للرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: «إذا أتاكم من ترضون دينه، وأمانته، فزوجوه، إن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير (2) » ومن كمال النصح لموليته أن يبحث لها هو بنفسه عمن يصلح زوجا لها فقد فعل مثل ذلك بعض السلف الصالح كما ثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه عرض على أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان رضي الله عنهما الزواج من ابنته حفصة بعد وفاة زوجها لعلمه رضي الله عنه بصلاحهما وتقواهما ومنزلتهما في الإسلام، ومعلوم أن سنته تتبع كما قال عليه الصلاة والسلام: «عليكم
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (6/82) .
(2) سنن الترمذي النكاح (1084) ، سنن ابن ماجه النكاح (1967) .(9/9)
بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ (1) » الحديث.
ولا يخفى شدة الحاجة إلى هذا الأمر في هذا العصر لكثرة البنات وعزوف الكثير من الشباب عن المبادرة إلى الزواج فاتقوا الله أيها الأولياء، وبادروا إلى الإحسان إلى بناتكم ومولياتكم، واعملوا ما تستطيعونه نحو تزويجهن بالرجال الصالحين واكتفوا باليسير من المهر وليحذر كل منكم من عضل بنته أو أخته أو منعها من التزوج بالرجل الصالح المرضي دينا وأمانة واتبعوا سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وهديه تفوزوا بالسعادة في الدنيا والآخرة، وفق الله الجميع للفقه في دينه والعمل بالشرع المطهر وأعاذنا وإياكم من الظلم والانحراف والزيغ والضلال بعد الهدى إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(9/10)
هيئة كبار العلماء
بيان ما يسمى
معجزة محمد الخالدة
والمعجزة القرآنية
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(9/11)
بيان ما يسمى معجزة محمد الخالدة
والمعجزة القرآنية
المعجزة القرآنية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . . وبعد ففي الدورة الاستثنائية الثالثة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض يوم السبت الموافق 1 \ 2 إلى يوم 7 منه 1399 هـ اطلع المجلس على المعاملة المتعلقة بما سماه الأستاذ رشاد خليفة المعجزة القرآنية وعلى ما جاء فيها من أن كتابة المصحف بالرسم الإملائي ينافيها، واقترح إعداد بحث في الموضوع، فأعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك ضمنته ما يأتي:
أولا: بيان ما يسمى معجزة محمد الخالدة، والمعجزة القرآنية المذهلة ومناقشتها.
ثانيا: هل ما يقال من أنها معجزة قرآنية صحيح أولا؟ وهل تمتنع كتابة المصحف حسب قواعد الإملاء، محافظة عليها أولا. . .؟
وفيما يلي تفصيل ذلك بحول الله وقوته:
تمهيد
لقد عني الدكتور رشاد خليفة بإثبات إعجاز القرآن وحفظه من طريق سوى الطرق التي عهدها المسلمون من قبل، واهتم بإثبات استمرار ذلك ما دامت الحياة(9/12)
الدنيا ليشاهد الناس جيلا بعد جيل كتاب الله معجزة خالدة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وآية بينة تدل على رسالته وصدقه فيما يوحى إليه من ربه سبحانه، وعلى بقاء ذلك محفوظا من التبديل، والتحريف، والزيادة والنقصان مدى الدهر، وتقوم به الحجة عليهم إلى جانب ما قامت به الحجة على من سبقهم من إخوانهم المسلمين الأولين من وجوه إعجاز القرآن وغيره، وهذا مما يدل - في ظاهره - على غيرته على دينه، وحرصه على مصلحة الأمة، فلفت نظر المسلمين إلى نواحي إعجاز أخرى لم يكن لهم ولا لمن سبقهم بها عهد ولا علم، فألقى محاضرة بين فيها ما اكتشفه من وجوه إعجاز القرآن وحفظه، ثم نشرت جريدة اليوم السعودية له مقالا في عددها رقم 2399 الصادر في 12 \ 10 \ 1398 زاد به الموضوع شرحا وإيضاحا ليزداد الذين آمنوا إيمانا إلى إيمانهم ويقينا إلى يقينهم بأن محمدا رسول الله حقا، وأن ما أوحي إليه إنما هو من عند الله، وأنه محفوظ من التغيير والتبديل والزيادة والنقص وأنه قد وصلنا كما نزل، ولتقوم به الحجة على الذين كفروا، تباعا أكثر فأكثر {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (1) ، فجزاه الله عن اجتهاده خير الجزاء، وهدانا وإياه إلى الطريق المستقيم.
وقد رأينا أن نثبت في إعداد هذا البحث نص محاضرته، وأن نشير إلى رقم جريدة اليوم وتاريخ صدروها لمن أراد أن يطلع على نص ما نشرت له، ثم نعلق على كل منهما بما يتيسر، ليعود القارئ بما وجده في التعليق إلى ما أثبت في أصل بيان الإعجاز من قريب، ومن بعد هذا ختمنا البحث بكلمة تحذيرية أعدها سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، عرف فيها المدعو الدكتور رشاد خليفة، وأورد فيها بعض ما عرف عنه من بدع وأباطيل وناقشها ورد عليها، وأوضح سماحته مكانة السنة المطهرة.
__________
(1) سورة المدثر الآية 31(9/13)
بسم الله الرحمن الرحيم
معجزة محمد الخالدة
تقديم الدكتور رشاد خليفة
1396 - 1976
1976 - 1396(9/14)
بسم الله الرحمن الرحيم. يعلمنا خالقنا جل وعلا في هذه الآية الكريمة من سورة الإسراء أن القرآن الكريم كتاب معجز لا يستطيع الإتيان بمثله إنس ولا جان. . . .، وفي الدقائق الستين القادمة فإنك سترى وتلمس أدلة مادية ملموسة على أن هذه الآية حقيقة واقعة. . . . في الدقائق الـ 60 القادمة سترى وتسمع وتلمس أدلة دامغة لا تقبل الشك أو الجدال على أن القرآن الكريم هو رسالة الله عز وجل إلى البشرية كافة. . . وأنه قد وصلنا سالما من أي تحريف أو تحوير أو زيادة أو نقصان. . . .
كما تعلمون جميعا فإن جميع الرسل الذين جاءوا برسالة الله سبحانه وتعالى جاءوا أيضا مؤيدين بمعجزات. . .، ظواهر غير طبيعية تثبت للناس أن هؤلاء الرسل قد بعثوا فعلا من قبل الخالق العظيم سبحانه وتعالى. . .، فسيدنا موسى عليه السلام عندما ذهب إلى فرعون أيده الله بمعجزات مثل تحول العصا إلى حية. . . .، كما أيد الله رسوله عيسى عليه السلام بمعجزات مثل إحياء الموتى وخلق الطير من الطين بإذن الله. . .
ولما كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين. . . فإنه من الطبيعي أن تكون معجزته هي خاتمة المعجزات. . .، وأن تكون معجزة خالدة مستمرة لكي يشهدها كل جيل من أجيال البشر منذ بعثته عليه السلام وحتى يوم القيامة. . . وهذه المحاضرة سوف تبرهن لنا أن هذه فعلا هي الحقيقة. . . . أن معجزة المصطفى صلى الله عليه وسلم فعلا معجزة أبدية مستمرة فأنتم ستشهدون الآن معجزة محمد الخالدة. . .، بما لا يدع مجالا للشك. . . وهذه حقيقة تختلف عن طبيعة المعجزات السابقة لجميع الرسل والأنبياء السابقين. . . فكما تعلمون معجزات الأنبياء السابقين كانت جميعها معجزات محدودة بالزمان والمكان. . .، فمثلا ليس بيننا من شهد سيدنا موسى وهو يلقي العصا فتتحول إلى حية. . .، ليس بيننا من شهد سيدنا عيسى يحيي الموتى. . .، لقد شهد هذه المعجزات فقط الناس الذين تواجدوا في مكان معين. . .
في زمان معين. . . أما المعجزة الختامية التي جاء بها خاتم النبيين. . .، فسترون الآن أنها معجزة مستمرة لا يحدها مكان أو زمان. . وكما يشهدها الآن جيلنا فقد(9/15)
شهدتها الأجيال السابقة وسوف تشهدها الأجيال القادمة حتى يوم القيامة. . . .
ما هي معجزة محمد؟ يخبرنا القرآن الكريم في سورة العنكبوت الآية 49 و 50 أن معجزة محمد هي القرآن ذاته. . .، وقد اتضح بالفعل أن القرآن الكريم معجزة دائمة مستمرة، واتضح أنه كلما اكتشف العلم حقائق جديدة عن عالمنا هذا فإننا نجد أن الاكتشافات الجديدة قديمة قدم القرآن الكريم، وهذا ما شهدته الأجيال السابقة. . . . .، فعلى سبيل المثال عندما اكتشف أن الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس وجد علماء القرآن أن هذه الحقيقة مذكورة في القرآن الكريم سورة النمل آية 88. . . وعندما اكتشف أن الشمس مصدر للضوء وأن القمر مجرد عاكس للضوء. . . اكتشفت الأجيال السابقة أن هذا الاكتشاف الجديد ليس جديدا بالمرة وأن القرآن قد بين هذه الحقيقة في سورة يونس الآية 5.
هذا الإعجاز العلمي الذي شهدته الأجيال السابقة في القرآن الكريم يستغرق الساعات الطوال لسرده كاملا. . . . ولكن الغرض من هذه المحاضرة هو دراسة نوع جديد من الإعجاز المادي الملموس الذي يشاء الله سبحانه وتعالى أن يشهده جيلنا نحن. . في هذا الزمن المادي. . . فنحن الآن وفي الدقائق القادمة سوف نشهد معجزة محمد بطريقة مادية ملموسة تماما كما شهد فرعون والسحرة وبنو إسرائيل معجزات موسى. . .، وكما شهد الحواريون معجزات عيسى. .، وهكذا سوف يتبين لنا استمرارية ودوام وخلود المعجزة الختامية لخاتم النبيين عليهم جميعا صلوات الله وسلامه. . .
إن مفتاح هذه المعجزة الختامية يوجد في الآية الأولى من القرآن الكريم: " بسم الله الرحمن الرحيم ". . . فإنك إذا عددت حروف هذه الآية لوجدتها 19. . . . هذه كما ترون حقيقة مادية ملموسة لا يستطيع أحد أن يجادلك فيها. . . .
وقد اكتشف أن كل كلمة في هذه الآية تتكرر في القرآن الكريم كله عددا من المرات، هو دائما من أضعاف الرقم 19. . .، فنحن نجد أن كلمة " اسم " تتكرر في المصحف الشريف بالضبط 19 مرة. . . وكلمة " الله " تتكرر 2698 مرة. . . 19 × 142. . .، وكلمة " الرحمة " تتكرر 57 مرة. . ثلاثة أضعاف(9/16)
الرقم 19، وكلمة " الرحيم " تتكرر في القرآن 114 مرة. . . ستة أضعاف الرقم 19. . .، وقبل أن نسأل أنفسنا " ما معنى هذه الظاهرة التي لا نجدها في أي كتاب آخر في أي مكان في العالم؟ " قبل أن نبحث هذا السؤال أود التنبيه أولا إلى أن الشيطان قد يتدخل في هذه اللحظة ويهمس في قلبك قائلا: " ما يدريك أن هذه الأرقام صحيحة؟ " ما يدريك أن هذا الشخص لم يضع هذه الأرقام من نفسه؟ ". . .، ولكي نطرد الشيطان من أول المحاضرة وبطريقة نهائية. . . أود أن أذكركم أن هذه الأرقام جميعا مسجلة في كتب كثيرة. . وقد سجلت حتى من قبل أن نولد. . . فقد قام كثير من الناس بعد كلمات وحروف القرآن الكريم خلال القرون الأربعة عشر الماضية. . . وسجلوا أرقامهم في كتب كثيرة. . . ومن أمثلة هذه الكتب، كتاب أحمله معي في كل مكان واسمه " المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم " من وضع محمد فؤاد عبد الباقي وتنشره دار الشعب بالقاهرة. .، هذا الكتاب يبين عدد كل كلمة من كلمات القرآن الكريم.
والآن دعني أكرر هذه الملاحظات. . . هذه الحقائق المادية الملموسة. . . .
الآية الأولى في القرآن الكريم " بسم الله الرحمن الرحيم " تتكون من 19 حرف هذه حقيقة مادية ملموسة لا تقبل الشك أو الجدال. . . ويحسن بي أن أتوقف هنا قليلا لدراسة الرقم 19. . فهذا رقم خاص يتميز بخاصيتين هامتين أولهما أن الرقم 19 يحتوي على البداية والنهاية، الرقم 1 الذي هو بداية النظام الحسابي. . . .، والرقم 9 الذي هو نهاية النظام الحسابي. . .، والخاصية الثانية هي أن الرقم 19 لا يقبل القسمة بينما نجد أن الرقم 18 قابل للقسمة على 2، 3، 6، 9. . . وبينما نجد الرقم 20 قابل للقسمة على 2، 4، 5، 10 نجد أن الرقم 19 لا يقبل القسمة في الآية الأولى من القرآن، حيث تتركب من 19 حرفا، وكل كلمة في هذه الآية تتكرر أضعاف الرقم 19. . . فكلمة " اسم " تتكرر في القرآن الكريم كله بالضبط 19. . . مرة.
وفي الوقت المناسب قبل انتهاء هذه المحاضرة سوف أشرح لماذا أستعمل كلمة " اسم " وليس " بسم ". . وسترون أن كلمة " بسم " لها جانب(9/17)
إعجازي خاص بها. . وكلمة " الله " تتكرر في المصحف الشريف كله 2698 مرة، 142 ضعف الرقم 19. . .، وكلمة " الرحمة " تتكرر 57 مرة. . . 3 أضعاف الرقم 19. . . وكلمة " الرحيم " تتكرر 114 مرة ستة أضعاف الرقم 19. . .، وكما ترون فإننا هنا نتحدث عن حقائق مادية لا تقبل الجدال. . .
الحقيقة المادية الأولى هي أن الآية القرآنية الأولى تتركب من 19 حرفا. . .، ولا يستطيع أحد أن يجادلك في صحة هذه الحقيقة. . . والحقيقة المادية الثانية هي أن كل كلمة من كلمات هذه الآية تتكرر في القرآن كله عددا من المرات هو دائما من مكررات الرقم 19. . .، ماذا تعني هذه الحقائق؟ هذه الملاحظات التي تتميز بأنها عادية واقعية وليست تفسيرا أو تخمينا أو اجتهادا. . . ماذا تعني هذه الملاحظات؟ إن هناك ثلاثة احتمالات فقط تشرح لنا معنى هذه الحقائق القرآنية.
الاحتمال الأول: - هو أن هذه الحقائق حدثت عن طريق الصدفة. . . عن طريق المصادفة البحتة. . .، ونستطيع بسهولة أن نرفض هذا الاحتمال. . .، لأن المصادفة تحدث مرة واحدة أو ربما مرتين. .، ولكنها تحدث ثلاث مرات. . . أو أربع مرات كما نرى هنا. . . فأنت إذا أمسكت بأي كتاب عادي. . . . وقمت بعد الحروف في جملته الأولى. . . فإن احتمال أن كلمة واحدة من كلمات هذه الجملة تتكرر في الكتاب كله عددا من المرات له علاقة بعدد حروف الجملة. . . هذا الاحتمال جائز. . . ممكن عن طريق الصدفة أن يحدث ذلك. . . أما أن تكون كلمتان اثنتان من كلمات هذه الجملة تتكرران في الكتاب كله عددا من المرات هو من مضاعفات عدد حروف الجملة. . . فهذا احتمال ضعيف جدا. . ونستطيع جميعا أن نتفق على أن احتمال تكرار ثلاث كلمات من كلمات الجملة الأولى في الكتاب كله بطريقة لها علاقة بعدد حروف الجملة. . . . هذا الاحتمال من قبيل المستحيل. . . عن طريق المصادفة. . . ونحن هنا نرى أن كل كلمة في الآية القرآنية الأولى عدد مكرراتها في القرآن كله له علاقة مباشرة بعدد حروف الآية. . . الرقم 19. . .(9/18)
الاحتمال الثاني: - هو أن سيدنا محمدا هو الذي صمم القرآن وكتبه بهذه الطريقة الحسابية الخاصة. . .، وهذا طبعا ما يعتقده غير المسلمين. .، إذ أنهم إذا علموا أو آمنوا بأن القرآن هو رسالة خالقهم إليهم جميعا لأصبحوا مسلمين. . .، وما يقوله هذا الاحتمال هو أن رجلا أميا لا يقرأ ولا يكتب ولا يعلم علوم الحساب المتقدم. . . هذا الرجل الأمي الذي عاش في القرن السابع الميلادي قال لنفسه في يوم من الأيام: " إنني سأكتب كتابا كبيرا تتركب الجملة الأولى فيه من 19 حرفا. . . .
وتتكرر كل كلمة من كلمات هذه الجملة في الكتاب كله عددا من المرات يكون من أضعاف الرقم 19. . . " ثم مضى هذا الرجل الأمي يكتب هذا الكتاب. . . متبعا هذا التصميم. . . على مدى 23 سنة. ويتبين لنا في الحال استحالة هذا الاحتمال وحماقته، ولو أصر المكابرون. . . والكفار المعاندون. . . على أن هذا الاحتمال ممكن. . . وأن محمدا هو كاتب القرآن. . . وأنه كتب القرآن بهذا التصميم الحسابي النادر الذي لم نره في أي كتاب آخر في التاريخ. . فإنه يمكننا سؤالهم: " إذا كان سيدنا محمد رجلا دجالا. .، وإذا كان هو الذي كتب القرآن الكريم بهذا التصميم. . . فلماذا لم يفتخر بين صحابته؟ . . لماذا لم يجن ثمار جهوده أو يخبر أبناء جيله عن هذا المجهود العبقري الجبار؟ إن هذه الحقائق جميعها لم تكن معروفة قبل شهر يونيه. . حزيران. . 1975 الموافق لجمادى الثانية عام 1395. . .
إن جيلنا هذا هو الذي أراد الله سبحانه وتعالى أن يطلعه على هذه الحقائق الإعجازية. . . كجزء من معجزة محمد الخالدة المستمرة. .
الاحتمال الوحيد: - الذي يتبقى من دراسة هذه الظواهر القرآنية الإعجازية. . هو أن الخالق القادر على كل شيء - الله سبحانه وتعالى - هو " كاتب القرآن الكريم "! وليست هذه هي الحقيقة الوحيدة التي تتبين لنا من دراسة هذه الملاحظات المادية الملموسة. . . حقيقة أن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون من قول البشر. . . وأنه حقا وصدقا رسالة الخالق عز وجل إلى الناس كافة. . . بل إن هناك حقيقة أخرى يجب أن نتذكرها وهي أن القرآن الكريم وصل إلينا سالما محفوظا من أي تحريف أو تحوير أو زيادة أو نقصان. . . فأنت عندما تقول(9/19)
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) كلمة الله هنا معدودة ومحسوبة ومصممة. . . إنها واحدة من ألـ 2698 كلمات " الله " الموجودة في القرآن الكريم. . وعندما تستمر قائلا {اللَّهُ الصَّمَدُ} (2) كلمة الله هنا أيضا محسوبة وموضوعة في مكانها بإحكام الخلاق العليم سبحانه وتعالى. . . إنها أيضا واحدة من 2698 لفظ الله. . . إذ إنه في خلال الأربعة عشر قرنا الماضية. . . لو حدث أي تلاعب في كلمة واحدة مثل اسم. . . أو الله. . . أو الرحمة. . أو الرحيم بزيادة أو نقصان أو تحريف. . . لأصبح عدد مكررات هذه الكلمات في القرآن الكريم لا يقبل القسمة على 19. . . وتختفي بذلك هذه الظواهر القرآنية الحسابية الإعجازية. . .
هل للرقم 19 أي ذكر أو دلالة خاصة في القرآن الكريم نفسه؟ أي نعم.
إننا نجد هذا الرقم في سورة المدثر آية رقم 30. . ونجد أن هذا الرقم قد ذكر بخصوص أولئك الذين يزعمون أن القرآن الكريم من قول البشر. . . (آيات من سورة المدثر) . هكذا نجد أن هذه الآيات الكريمة تقول بأن أي شخص يقرر أن القرآن من قول البشر، هذا الشخص سيعاقب. . . وسيكون عقابه تحت إشراف 19. . .
والتفسير القديم لهذا الرقم 19 هو أنهم حفظة جهنم. . .!! إلا أننا في ضوء المعلومات الجديدة التي نراها هنا لا بد من الوصول إلى تفسير جديد. . هذا التفسير الجديد لهذه الآية الكريمة. . الآية 30 من سورة المدثر هو أن أل 19 هي حروف البسملة. . . الآية الأولى في كتاب الله العظيم. . . ويؤيد هذا التفسير ما نكتشفه من مراجعة ترتيب نزول القرآن الكريم. . . . فنحن جميعا نعلم أن سيدنا جبريل عندما جاء بالوحي لأول مرة. . . فإنه أحضر لخاتم النبيين محمد عليه الصلاة والسلام. . . أحضر الآيات الأولى من سورة العلق. . . {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (3) وهذه السورة -على فكرة - هي رقم 19 من نهاية القرآن وتتركب من 19 آية وفي المرة الثانية أحضر الروح الأمين الآيات القليلة الأولى من سورة القلم. . {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (4) وفي الزيارة الثالثة. . . جاء الوحي بسورة المزمل. . . الآيات القليلة الأولى. . . وفي المرة الرابعة أحضر جبريل عليه السلام الآيات الأولى من سورة المدثر. . . حتى قوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (5) ؟ لقد جاء الوحي الأمين بالتسعة
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2) سورة الإخلاص الآية 2
(3) سورة العلق الآية 1
(4) سورة القلم الآية 1
(5) سورة المدثر الآية 30(9/20)
عشر حرفا " بسم الله الرحمن الرحيم ". . بإجماع العلماء. . . جاء سيدنا جبريل في المرة الخامسة بسورة الفاتحة. . . التي تبدأ بالتسعة عشر حرفا " بسم الله الرحمن الرحيم ". . وبإجماع العلماء كانت الفاتحة هي أول سورة كاملة يأتي بها سيدنا جبريل. . . بالإضافة إلى هذه الحقائق من ترتيب النزول التي تدل على أن الرقم 19 في سورة المدثر يرمز إلى التسعة عشر حرفا " بسم الله الرحمن الرحيم ". . . فإن الآية التالية لآية {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (1) تعلمنا أسباب اختيار الرقم 19 بكل وضوح. . إذ تقول الآية 31 من سورة المدثر: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إلاَّ} (2) تعني أن الأسباب التي من أجلها اخترنا الرقم 19 هي خمسة أسباب:
السبب الأول: {فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} (3) أي إزعاجا لهم. . ولا شك أن هذه الحقائق الإعجازية الكامنة في التسعة عشر حرفا " بسم الله الرحمن الرحيم " سوف تزعج الكفار أيما إزعاج.
السبب الثاني: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (4) فهناك المسيحيون الطيبون واليهود الطيبون كما يخبرنا القرآن الكريم في الآية 113 من سورة آل عمران وأهل الكتاب هؤلاء يرون أن القرآن الكريم كتاب عظيم لا غبار عليه. ولكنهم ليسوا متأكدين أنه كتاب من عند الله فهذه الحقائق الكامنة في التسعة عشر سوف تساعدهم. . . . {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (5) ليتأكدوا أن القرآن العظيم هو بالفعل رسالة الله إليهم. . . مصدقا لما بين يديهم ومهيمنا عليه. . . . . .
السبب الثالث: كما توضح الآية 31 من سورة المدثر: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} (6) فنحن نؤمن وقبل أن تتبين لنا هذه الحقائق الإعجازية أن القرآن هو رسالة الله عز وجل للناس كافة. . . ولكن إيماننا لا شك يزداد ويقوى بظهور هذه المعجزات العظيمة.
السبب الرابع: {وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} (7) بمحو أي آثار للشك أو الريبة فيما يتعلق بكون القرآن الكريم تنزيل من الرحمن الرحيم.
السبب الخامس: والأخير. . لكشف المنافقين والكافرين وإظهار حقيقتهم المتعصبة العمياء.
__________
(1) سورة المدثر الآية 30
(2) سورة المدثر الآية 31
(3) سورة الممتحنة الآية 5
(4) سورة المدثر الآية 31
(5) سورة المدثر الآية 31
(6) سورة المدثر الآية 31
(7) سورة المدثر الآية 31(9/21)
وأخيرا فإن الآية 31 من سورة المدثر تقول لنا في نهايتها: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلاَّ هُوَ} (1) إذن فالرقم 19 ليس عدد حراس جهنم. . . ويجدر بنا أن نتقبل تفسيرا جديدا لهذا الرقم في ضوء هذه الحقائق الجديدة التي تتكشف لنا في القرآن العظيم.
وبالرغم من أن هذه الحقائق الإعجازية تكفي لإثبات أن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون من قول البشر. . . فقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يكون الدليل المدعم لرسالته دامغا بما لا يدع إلا للمكابرين. . . إذ يتضح لنا أن هذه الحقائق ليست إلا جزءا ضئيلا من الإعجاز الحسابي المادي المرتبط بالآية القرآنية الأولى " بسم الله الرحمن الرحيم ". . .
فالقرآن الكريم يتميز بخاصية هامة لا نجدها في أي كتاب آخر. . . هذه الخاصية هي وجود الحروف الغامضة أو الحروف النورانية المعروفة أيضا باسم فواتح السور. . . . نجد أن بالضبط نصف الحروف الأبجدية. . . أربعة عشر حرفا في تركيب أربع عشرة فاتحة من فواتح السور هي: ق، ن، ص، طه، يس، حم، الم، الر، طسم، عسق، المر، المص، وكهيعص. . . وهذه الفواتح نجدها في 29 سورة. . .
14 حرف يتركب منهم 14 فاتحة تتواجد في بداية 29 سورة. . . فإذا جمعنا 14 + 14 + 29 نجد المجموعة 57 ثلاثة أضعاف الرقم 19 وسوف نجد الآن أن الرقم 19 هو القاسم المشترك الأعظم بين جميع فواتح السور بدون استثناء وهنا أجد الفرصة المناسبة للحديث عن كلمة " بسم " وكلمة " اسم " فنحن إذا نظرنا إلى الآية القرآنية الأولى " بسم الله الرحمن الرحيم " نجدها تتكون من حروف نورانية. . . وهي الحروف التي تشترك في تركيب فواتح السور. . . ما عدا الحرف " باء " فإنه ليس من الحروف النورانية كما أننا نعلم أن كلمة " بسم " هي عبارة عن حرف الجر " باء " زائد كلمة " اسم ". . . ولولا أن الحرفين " باء " و " ألف " قد دمجا في حرف واحد لأصبح عدد حروف الآية 20 ليس 19. . . ولاختل كل هذا النظام. . . ولما كان الحرف " ألف " هو الحرف الرسمي لكونه من الحروف النورانية. . رغم عدم كتابته. . . ولما كان حرف الباء ضروريا من
__________
(1) سورة المدثر الآية 31(9/22)
أجل المعنى كان من اللازم النظر إلى مكررات كلمة " اسم " حيث نجدها بالضبط 19 وأيضا كلمة " بسم " حيث نجد عدد مكرراتها في المصحف الشريف 3. . . ونجد أن حاصل ضرب 19 × 3 يساوي عدد الحروف النورانية مضافا إلى عدد الفواتح التي تدخل هذه الحروف في تركيبها مضافا إلى عدد السور ذات الفواتح 14 + 14 + 29 = 19 × 3 = 57 وهكذا نجد الربط الكامل التام بين " بسم الله الرحمن الرحيم " والحروف النورانية، فواتح السور. . .
فلننظر الآن إلى أحد هذه الفواتح. . . ولنبدأ بالحرف " ق ". . إننا نجد هذا الحرف كفاتحة في سورة ق وفي سورة الشورى. . . وإذا عددت مكررات الحرف ق في سورة (ق) لوجدتها 57 (19 × 3) . . . ثم إذا عددت مكررات الحرف ق في السورة الوحيدة الأخرى التي تحتوي على هذا الحرف كفاتحة وهي سورة الشورى. . . لوجدت أن هذه السورة رغم أنها أطول من سورة ق مرتين ونصف فإنها تحتوي على نفس العدد من الحرف ق 57 (19 × 3) . . .
وإذا جمعنا عدد مكررات الحرف ق في هاتين السورتين 57 = 57 فإن النتيجة تساوي عدد سور القرآن الكريم 114 (19 × 6) إذا كان الحرف ق يرمز إلى القرآن المجيد فإن هذه الظاهرة المادية الملموسة تقول لنا بوضوح إن أل 114 سورة هي القرآن. . . كل القرآن. . . ولا شيء غير القرآن، من الذي صمم القرآن بهذه الطريقة؟
من الذي يمكن أن تتوفر لديه القدرة على معرفة توزيع الحروف الأبجدية في القرآن الكريم ومعرفة أن هناك سورتين فقط تحتويان على هذا العدد المتساوي الذي يساوي مجموعه في السورتين بالضبط عدد سور القرآن؟ من الذي يمكنه أن يعرف ذلك حتى قبل اكتمال نزول القرآن؟ لا شك أن الإجابة واضحة. . . فالله وحده هو الذي علم ويعلم توزيع الحروف الأبجدية في رسالته وهو سبحانه الذي وضع هذه الحروف في أوائل بعض السور كرموز لهذه المعرفة التي لا يستطيعها أي مخلوق. . . وهو سبحانه الذي حفظ أسرار هذه الحروف لمدة أربعة عشر قرنا كمظهر من مظاهر استمرارية المعجزة القرآنية وخلودها. . . إذ يشاء الخالق عز وجل(9/23)
أن يكون جيلنا هو الجيل الذي يطلع على أسرار هذه الحروف. . . شاء سبحانه أن يكون هذا الزمان المادي هو الوقت الذي تنكشف فيه الدلائل المادية الملموسة الكامنة في هذه الحروف. . . .
ولكي ندرك مدى الإحكام في التوزيع الحسابي لحروف القرآن دعنا ندرس، آية قصيرة من آيات سورة (ق) - على سبيل المثال - وهي الآية رقم 13 {وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ} (1) هذه آية قصيرة نقرأها ونمر بها عادة مر الكرام، ولكنها تحتوي معجزة قرآنية بينة، فإخوان لوط هؤلاء مذكورون في القرآن الكريم 12 مرة. . .
في سورة الأعراف آية رقم 80. . . في سورة هود الآيات 70 و 74 و 89. . . في سورة الحج الآية رقم 43. . . في سورة الشعراء آية 160. . . في سورة النحل آية 54 و 56. . . في سورة العنكبوت الآية 28. . . في سورة ص آية رقم 13. . . في سورة ق الآية رقم 13. . . وفي سورة القمر آية رقم 33. . . . ونجد أن هؤلاء الناس الذين كذبوا لوطا يسمون في القرآن دائما " قوم لوط ". . . هذا هو الاستثناء الوحيد. . . نراهم يسمون قوم لوط. . . قوم لوط. . . قوم لوط. . . ما عدا في سورة ق فإنهم يسمون " إخوان لوط "
وتستطيعون طبعا أن تتخيلوا ما يحدث لعدد مكررات الحرف ق في سورة ق لو أن التعبير " قوم لوط " استعمل بدلا من " إخوان لوط ". . . طبعا سيزداد عدد الحرف ق ويصبح 58 بدلا من 57. . . والرقم 58 ليس من مكررات الرقم 19. . . لا يقبل القسمة على 19. . . كما أن هذا العدد 58 لن يساوي عدد الحرف ق في السورة الوحيدة الأخرى التي تفتتح بالحرف ق وهي سورة الشورى وبالإضافة إلى ذلك فإن مجموع الحرف ق في السورتين يصبح 115 وليس 114 عدد سور القرآن الكريم. . . وهكذا ترون بالدليل المادي الملموس أن تحريف كلمة واحدة يؤدي إلى اختلال واختفاء هذا النظام الحسابي المعجز الذي نراه في القرآن الكريم، والذي يكمن في الآية القرآنية الأولى " بسم الله الرحمن الرحيم " وفي الحروف النورانية فواتح السور. . . .
وترون بالدليل المادي الذي لا يقبل الشك أو الجدال أن أثناء ألـ 1400 سنة الماضية. . . لو حدث تحريف أو تحوير أو ضياع أو إضافة لكلمة واحدة. . . كلمة
__________
(1) سورة ق الآية 13(9/24)
واحدة تحتوي الحرف ق مثل " ق ". . " قال ". . . " يقول ". . . " قوم ". . . تحريف كلمة واحدة مثل هذه في سورة ق أو في سورة الشورى يؤدي إلى اختلال هذا الميزان الإلهي الحساس. . . .
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) صدق الله العظيم. . .
وهكذا ترون أن هناك حقيقتان واضحتان لا بد أن نذكرهما جيدا، وتظهران لنا من هذه الحقائق التي نلاحظها في القرآن:
أولا: أن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون من قول البشر.
ثانيا: أن القرآن الكريم قد حفظ بقدرة الله وضمانه من أي تحريف أو تحوير أو ضياع أو إضافة ليكون رسالة الخالق سبحانه وتعالى إلى الناس كافة.
أيها الإخوة والأخوات. . . هذه العلاقة الوثيقة المباشرة التي بين الحرف ق والرقم 19، عدد حروف " بسم الله الرحمن الرحيم " تجدونها شاملة لجميع الحروف النورانية. . . فواتح السور. . . بدون استثناء. . .
إذا ننتقل الآن إلى الحرف " ن " نجد أن هذا الحرف تفتح به سورة واحدة في القرآن الكريم سورة القلم {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (2) وإذا عددت مكررات الحرف ن في هذه السورة لوجدت العدد 133 = 19 × 7. . . . .
كذلك الحرف ص. . .، نحن نجد هذا الحرف كفاتحة في سورة الأعراف " المص " وفي سورة مريم " كهيعص " وفي سورة ص. . ونجد أن مجموع مكررات الحرف ص في هذه السور الثلاثة هو 152 = 19 × 8، وهنا يجدر بي أن أتوقف قليلا لأضرب مثالا آخر يوضح الإحكام العظيم في توزيع كل حرف من حروف القرآن الكريم. . . ففي سورة الأعراف. . . الآية رقم 69. . . نجد التعبير {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} (3) ونجد أن كلمة " بصطة " مكتوبة بالصاد ليس بالسين. . وكلنا نعرف أنه ليس في اللغة العربية كلها كلمة " بصط "
__________
(1) سورة الحجر الآية 9
(2) سورة القلم الآية 1
(3) سورة الأعراف الآية 69(9/25)
بالصاد. . . . كما أن المعروف أن كلمة " بصطة " بالصاد. . . في هذه الآية " توقيفية " ومعنى توقيفية هي أن سيدنا جبريل عليه السلام عندما جاء بهذه الآية. . قال للنبي صلى الله عليه وسلم " قل لكتاب الوحي يكتبوا هذه الكلمة بالصاد وليس بالسين ". . ومن الواضح الآن للجميع أهمية الحرف ص هنا. . إذ لو كتبت كلمة " بسطة " بالسين كما نعرفها لأصبح مجموع مكررات الحرف ص في السور الثلاث 151 وهذا الرقم ليس من مكررات الرقم 19. . . أي أنه بتغيير حرف واحد نجد أن هذا الإحكام الحسابي المعجز يختل ويختفي وتصبح هذه الحروف النورانية عديمة المعنى وعديمة الدلالة.
وعندما ننتقل إلى فواتح السور المركبة من أكثر من حرف نلاحظ حقيقة قرآنية غاية في الإعجاز. . . إذ أن هذه الحروف تتواجد في هذه السور - مكررات الرقم 19 - بل أيضا إذا عددت الحروف المتشابهة في السور ذات الفواتح المتشابهة فإنك تجد أن هذا العدد أيضا من مكررات الرقم 19. . أي سواء كان الجمع أفقيا داخل السورة الواحدة. . أو رأسيا شاملا لجميع السور التي تفتح بنفس الحرف. . فإنك المجموع في الحالتين من مكررات الرقم 19.
ولتوضيح هذه الظاهرة الإعجازية. . دعنا ننظر إلى الفاتحة " طه " نجد هذين الحرفين النورانيين في أول سورة طه، ونجد أن عدد مكررات الحرف ط + عدد مكررات الحرف هـ يساوي 342. . . 19 × 18. . . وأيضا إذا أضفت مجموع مكررات الحرف ط في جميع السور التي تبدأ بهذا الحرف وهي سور طه والشعراء والنمل والقصص. . . إلى مجموع مكررات الحرف هـ في السور التي تبدأ به وهي سورتي مريم وطه. . فإنك تجد هذا المجموع 589 = 19 × 31. . . .
ومثال أخير لهذا التشابك الإعجازي تجده في سورة يس. . . إذا عددت الحرف ي والحرف س في هذه السورة تجد المجموع ي + س يساوي 258. . . 19 × 15. . . وفي نفس الوقت إذا أضفت مكررات الحرف ي في سورتي مريم ويس إلى مكررات الحرف س في جميع سوره وهي الشعراء والقلم(9/26)
والقصص ويس والشورى. . . لوجدت المجموع 969. . . . 19 × 15. . . هذا الإحكام الذي يعجز عن الإتيان بمثله أي مخلوق نجده في جميع الحروف النورانية بدون استثناء {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (1) صدق الله العظيم. . .
وهكذا يشهد جيلنا. . كما شهدت الأجيال السابقة. . . وكما ستشهد الأجيال المستقبلة. . معجزة دائمة مستمرة في القرآن الكريم. . . معجزة محمد الخالدة.
__________
(1) سورة هود الآية 1(9/27)
مناقشة المحاضرة
اقتضت حكمة الله تعالى وعدله أن يرسل إلى عباده رسلا مبشرين ومنذرين ليخرج بهم الناس من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراط مستقيم، إنذارا إليهم وإقامة الحجة عليهم، قال الله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (1) ومضت سننه التي لا تتبدل في تأييد رسله بالآيات والمعجزات الباهرات، ليستيقن من أرسل إليهم بصدقة في دعوى الرسالة، ولا يختلج في قلوبهم منها ريبة وتقوم عليهم الحجة، ويلزمهم قبول ما يوحى إلى الرسل من أصول الدين وفروعه.
ولرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم كثير من المعجزات الحسية والروحية، إلا أن المعجزة الكبرى التي تحدى بها قومه هي القرآن ولا تزال الحجة به قائمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا بد أن تكون من وراء الأسباب العادية حتى لا تنالها قوى الخلق ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، وبذلك يكون بها الإيمان والاطمئنان وبها التكليف والإلزام.
ولقد تحدى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قومه بأمر يعرفون طريقه ولهم بجنسه عهد، بل نبغوا فيه، وبلغوا ذروته.
__________
(1) سورة النساء الآية 165(9/27)
أولا: تحداهم بفصاحة القرآن وبلاغته وعلوا أسلوبه وإحكامه ودقة تعبيره، ولدا تكلف بعض سفهاء الأحلام منهم أن يأتوا بسور خيل إليهم أنها على نمطه وشاكلته فأضحكوا على أنفسهم العقلاء، وأما ذوي العقل والرأي منهم فأسلموا أنفسهم إلى العجز وأيقنوا من قرارة نفوسهم أنه الحق وأنه من عند الله لا من كلام البشر ولكن أكثرهم يجهلون فأبوا إلا الكفر أنفة واستكبارا.
ثانيا: تحداهم بتشريعه الكامل الموافق لمقتضى العقل والفطرة، الهادي جميع البشر إلى سواء السبيل في جوانب الحياة كلها عقيدة وعبادة واقتصادا وسياسة وأدبا وأخلاقا مع بقائه كذلك صالحا لهداية العالم وإصلاحه في جميع جوانب الحياة إلى يوم القيامة.
ثالثا: تحداهم بما تضمنه القرآن من الأخبار الغيبية التفصيلية المسهبة، وبوقوف الرسول صلى الله عليه وسلم من إخوانه المرسلين السابقين موقف المصدق لهم المبين لتحريف أقوامهم لشرائعهم المعلن لخزاياهم وفضائحهم في خروجهم على أنبيائهم بيان الواثق بنفسه المؤمن بما أوحي إليه من ربه وهو أمي عاش في أمه أمية ومن أمته أهل الكتاب الذين فضحهم بسوء صنيعهم مع رسلهم وفي شرائعهم ومع ذلك لاذوا بالصمت ولم يردوا عليه ما اتهمهم أو فضحهم به تبرئة لأنفسهم ودفعا للنقيصة والعار عنها فكان ذلك إيذانا بأنه رسول الله الصادق الأمين وأن ما جاء به إنما هو وحي من رب العالمين.
هذه جوانب الإعجاز القرآني المعهودة التي عرفها الصحابة وسلفنا الصالح وهي التي عرفها الكفار وعجزوا عن أن يأتوا بمثل القرآن من جهتها.
الإعجاز الحسابي الذي هول أمره المحاضر وجعله حقيقة مادية ملموسة وهو لا يعدوا أن يكون أمرا مبناه التقدير والاعتبار في الأعداد، وذلك مما يختلف فيه الناس وكثير منه متكلف يلغي فيه صاحبه ما يختل معه حسابه ويعتبر فيه ما ينتظم به حسابه ليتم ما يريد من الخروج بظاهرة إعجاز جديدة وآية لم يعرفها الصحابة ولا(9/28)
العرب الأولون الذين تحداهم الله تعالى بالقرآن.
ولا ينكر منصف أن يكون في القرآن جوانب أخرى من الإعجاز، وإنما ينكر العاقل الرشيد أن يكون منها ما ذكره الأستاذ خليفة واعتبره إعجازا حسيا ملموسا من عدد بعض الحروف وبعض الكلمات من بعض سور القرآن وحسابها، وجعل محور حسابها عدد حروف البسملة أل 19 في نظره أو عدد كلماتها الأربع لما فيه من الفرض والتخمين، والخطأ الواضح، والتناقض البين والاعتماد على أمر تقديري يزيد وينقص باعتبارات، فيختلف باعتبار النطق عنه باعتبار الخط ويختلف عند اعتبار الخط بعد الحرف المشدد حرفين أو حرفا.
قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في حديثه عن تحزيب القرآن بالسور زمن النبي صلى الله عليه وسلم وتحزيبه بالتجزئة زمن عبد الملك بن مروان: " فإنه قد علم أن أول ما جزئ القرآن بالحروف تجزئة ثمانية، وعشرين، وثلاثين، وستين، هذه التي تكون رؤوس الأجزاء والأحزاب في أثناء السورة وأثناء القصة نحو ذلك كان في زمن الحجاج وما بعده، وروي أن الحجاج أمر بذلك، ومن العراق فشا ذلك، ولم يكن أهل المدينة يعرفون ذلك ".
وإذا كانت التجزئة بالحروف محدثة من عهد الحجاج بالعراق، فمعلوم أن الصحابة قبل ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده كان لهم تحزيب آخر، فإنهم كانوا يقدرون تارة الآيات فيقولون خمسون آية، ستون آية، وتارة بالسور، لكن تسبيعه بالآيات لم يروه أحد ولا ذكره أحد فتعين التحزيب بالسور، ثم قال: وهذا الذي كان عليه الصحابة هو الأحسن لوجوه - ثم ذكر الوجه الأول والثاني - وقال: الثالث: إن التجزئة المحدثة لا سبيل فيها إلى التسوية بين حروف الأجزاء وذلك لأن الحروف في النطق تخالف الحروف في الخط، في الزيادة والنقصان يزيد كل منهما على الآخر من وجه دون وجه، وتختلف الحروف من وجه، وبيان ذلك بأمور:
أحدها أن همزات الوصل ثابتة في الخط، وهي في اللفظ تثبت في القطع وتحذف في الوصل، فالعاد إن حسبها انتقض عليه بحال القارئ إذا وصل وهو(9/29)
الغالب فيها، وإن أسقطها انتقض عليه بحال القارئ القاطع وبالخط.(9/30)
ويتبين ما في محاضرة الأستاذ رشاد من الخطأ والتخمين والتناقض بالوجوه الآتية:
الوجه الأول: إن البسملة خمس كلمات لا أربع كما قال الأستاذ رشاد، إذ الباء فيها وهي كلمة ولم يعدها وهي في خط المصحف ومنطوق بها، وعد همزة الوصل في كلمة اسم وهي غير مخطوطة ولا ملفوظ بها، ليتم له ما يريد.
الوجه الثاني: إن العلماء اتفقوا على أن البسملة بعض آية من سورة النمل، ثم اختلفوا فيما بعد ذلك فقيل: إنها آية من كل سورة كتبت في أولها، وقيل: آية مستقلة كتبت عند أول كل سورة لا آية منها، وقيل: إنها آية من سورة الفاتحة فقط، وقيل: إنها ليست آية من القرآن وإنما كتبت عند أوائل السور للفصل بينهما.
ثم على تقدير أنها آية من القرآن لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة رضي الله عنهم أنها أول آية نزلت وحدها مستقلة، ولا أنها أول آية نزلت مع سورة الفاتحة ولا مع أول سورة العلق أو المدثر ولم يصح في ذلك حديث وكون شيء من الكلام آية من القرآن أو أول ما نزل منه ليس مما يحكم فيه العقل بل من الأمور التوقيفية التي لا مجال فيها للعقول.
وإذا لم يجتمع علماء الأمة على أن البسملة آية من القرآن، ولم يثبت نقلا أنها أول ما نزل من القرآن استقلالا أو مع غيرها منه، فكيف يجعل من هذا الاختلاف أصلا لإثبات ركن ركين في الدين وهو الرسالة ويعتبر مكرر كل حرف من حروف فواتح السور في سورته مضاعفا له ليجعل من ذلك دليلا على أن القرآن معجزة خالدة وأنه محفوظ إلى يوم القيامة لا يدخله تحريف ولا زيادة ولا نقصان.(9/30)
الوجه الثالث: خطؤه في قوله إن المراد بتسعة عشر في آية {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (1) هو الحروف 19 التي اشتملت عليها آية البسملة واعترف بأن هذا التفسير جديد، وأنه لا بد منه في ضوء المعلومات الجديدة وأيده بأن " بسم الله الرحمن الرحيم " نزلت مع سورة الفاتحة كاملة عقب آية {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (2) فدل ذلك على أن المراد بهذا الرقم حروف البسملة 19، وهذا الذي اعتبره تحقيقا هو إلى الخرص والتخمين أقرب منه إلى التحقيق، فإنه بناه على نزول البسملة مع الفاتحة بعد آية {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (3) وهذا يحتاج إلى إثبات بل لم يثبت في حديث صحيح أن البسملة نزلت مع الفاتحة ولا أن نزولها أو نزول إحداهما كان عقب آية {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (4) وعلى تقدير ثبوت هذا الترتيب لا يدل على ما زعمه في تفسيرها.
ثم زعم أن الآية التي بعدها اشتملت على أسباب اختيار هذا الرقم وفيما ذكر خرص وتخمين ينافي سياق الكلام (ثم هو تفسير لا يعرف في لغة العرب التي بها نزل القرآن) ، والصحيح أن المراد بتسعة عشر حفظة على النار من الملائكة كما هو بين من نص الآية التي بعدها وهي قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إلاَّ مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} (5) الآية وهو التفسير الذي قاله العلماء قديما وحديثا وهو الذي يجب المصير إليه دون سواه.
الوجه الرابع: ما وقع من الخطأ في عده بعض الكلمات في سور القرآن ومن الخطأ والتناقض في عده بعض الحروف في سوره أيضا، من
__________
(1) سورة المدثر الآية 30
(2) سورة المدثر الآية 30
(3) سورة المدثر الآية 30
(4) سورة المدثر الآية 30
(5) سورة المدثر الآية 31(9/31)
ذلك قوله الاعتماد في الحساب على عد الحروف اعتماد على أمر تقديري يزيد وينقص باعتبارات فيختلف باعتبار النطق عنه باعتبار الخط ويختلف عند اعتبار الخط بعد الحرف المشدد حرفين أو حرفا.
ثم قد يقع الخطأ في عد الكلمات أو الحروف ومن ذلك ما حصل في ص 14 من المحاضرة فإنه قال فيها:
أ - إن عدد مكررات (بسم) في المصحف الشريف 3 والواقع أنها أكثر، إذ هي في كل من سورة هود، والنمل، والحاقة، والعلق، مرة مرة وذكرت في سورة الواقعة مرتين، ثم نجد المحاضر بنى على تكرارها ثلاثا إعجازا قرآنيا عن طريق الحساب، فإذا ثبت خطؤه في العدد ثبت في الحكم بجعل ذلك معجزة فضلا عن كونها خالدة.
ب - ومن ذلك أنه اعتبر الألف من كلمة (بسم) وهي غير منطوقة ولا مكتوبة فيها حسب رسم المصحف ليتم له نظامه الحسابي الإعجازي وترك الباء وهي منطوق بها في البسملة ومكتوبة في رسم المصحف وغيره، ولم يعتبر الحرفين جميعا لئلا يختل العدد الذي يراد بناء النظام الحسابي الإعجازي عليه، وقد اعترف في نفس الموضع بهذا التحايل في اعتبار العدد والمعدود.
جـ- ومن ذلك أنه أخطأ وتناقض في قوله ص 16 " إخوان لوط، هؤلاء مذكورون في القرآن 12 مرة. . . إلى أن قال نجد أن هؤلاء الذين كذبوا لوطا يسمون في القرآن دائما قوم لوط ما عدا في سورة ق فإنهم يسمون إخوان لوط هذا هو الاستثناء الوحيد " اهـ والواقع أن كلمة لوط تذكر أحيانا وكلمة قوم لوط أو آل لوط أحيانا وأن لفظ لوط ذكر في القرآن أكثر من اثنتي عشر مرة، وليس شيء من هذه الكلمات بعينه ذكر في القرآن اثنتي عشر مرة، فكلامه في هذه الصفحة جامع بين التناقض والخطأ في العدد والمعدود.(9/32)
د- ومن ذلك أنه أخطأ في مكرر حرف نون في سورة القلم.
ومن ذلك أن مكرر حرف ص في كل من سورة الأعراف ومريم وص لا يقبل القسمة على 19 باعترافه، فاحتال باعتبار مجموع مكرر حرف ص في السور الثلاث مضاعفا لئلا تختل قاعدته، ولا يخفى ما في هذا من التكلف بل التلاعب في اعتبار مكرر الحرف في السورة مرة باستقلال وإهمال استقلاله واعتباره مع غيره مرة أخرى.
هـ- ومن ذلك قوله: " إن كلمة بصطة من قوله تعالى في سورة الأعراف: {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} (1) مكتوبة بالصاد لا بالسين وكلنا نعرف أنه ليس في اللغة العربية كلها كلمة بصط بالصاد كما أن المعروف أن كلمة بصطة بالصاد في هذه الآية توقيفية، ومعنى توقيفية هي أن سيدنا جبريل عليه السلام عندما جاء بهذه الآية قال للنبي صلى الله عليه وسلم قل لكتاب الوحي يكتبوا هذه الكلمة بالصاد وليس بالسين. .) أهـ، ثم رتب على ذلك معجزة حسابية ترجع إلى عدد حروف ص في سورة الأعراف.
وهذا الكلام خطأ من أوجه:
الأول: أن مادة بصط عربية كمادة بسط.
ففي القاموس المحيط البصط هو البسط في جميع معانيه.
الثاني: أن بصطة بالصاد قراءة سبعية قرأ بها نافع وابن كثير وخير فيها قالون بين الصاد والسين.
الثالث: كون كتابتها بالصاد توقيفية بالخبر الذي ذكر يحتاج إلى إثبات وأنى له ذلك، فبناء إعجاز حسابي قرآني على ذلك يبعث في النفس ريبة ويفتح ثغرة للملحدين وكل من يزعم أن القرآن من قول البشر لا وحي من عند الله، لبنائه على كذب واحتيال وتكلف وتخمين.
وومن ذلك استدلاله بعدم حدوث أي تلاعب في عدد كل من الكلمات الأربع - بسم - الله - الرحمن - الرحيم - في القرآن بزيادة أو نقصان
__________
(1) سورة الأعراف الآية 69(9/33)
أو تحريف، على أن القرآن وصل إلينا سالما محفوظا، ولا شك في أن القرآن وصل إلينا سالما محفوظا لكن الاستدلال على ذلك بما ذكره غير مسلم، إذ لا يلزم من سلامة هذه الكلمات الأربع من التحريف ومن الزيادة أو النقص في عددها عدم الزيادة أو النقص أو التحريف فيما سواها.
ثم على تقدير سلامة ما ذكره المحاضر من الأخطاء والتناقض لا يصح أن يعتبر أصلا في إثبات الرسالة وأن القرآن وحي من عند الله، لأنه ميسور يمكن الحساب أن يأتوا بسورة بل سور يتحرون فيها جوانب الحساب التي ذكرها المحاضر دون رعاية لجانب الفصاحة والتشريع وأنباء الغيب، كما يفعل من يذكر تاريخ ميلاد أو وفاة أو حادث في بيت من شعر أو نصف بيت ويتحرى فيه حروفا حسابها بالجمل يؤدي المطلوب، فهذا وأمثاله مما يدخل تحت الأسباب العادية ويقع في حدود طاقة البشر فلا يصح أن يكون معجزة لنبي يتحدى بها أمته بما أنزل الله عليه من القرآن.
ونختتم الحديث عن المحاضرة بأن المحاضر لم يكتف ببيان غرضه من محاضرته وهو إثبات إعجاز القرآن بطريقة رياضية حسابية جعل مفتاحها عدد حروف وكلمات - بسم الله الرحمن الرحيم -، بل زاد أمرين عد كلا منهما معجزة قرآنية، وافتتح بهما محاضرته فذكر:
أولا: أن قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} (1) دليل على دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس وجعل إثبات ذلك بالقرآن معجزة خالدة، وهذا خطأ بل تحريف للقرآن عن مواضعه، وتفسير له بغير ما قصد منه ودل عليه سياق الكلام، فإن الآية نزلت بيانا لأهوال يوم القيامة عند النفخ في الصور، بدليل قوله تعالى في الآية التي قبلها: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} (2) ثم قال بعدها:
__________
(1) سورة النمل الآية 88
(2) سورة النمل الآية 87(9/34)
{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} (1) ونظير ذلك قوله تعالى في سورة الواقعة: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا} (2) {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} (3) {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} (4) فتفسيرها بدوران الأرض لتكون معجزة مخالف لسياق الكلام، وخروج بها عن نظائرها من آيات القرآن في نفس الموضوع، بل مخالف لظاهر الآية نفسها، فإن الدوران لا يقابل الجمود بل الذي يقابل جمود الجبال وجعلها رواسي للأرض كونها هباء منبثا كالعهن المنفوش تطيرها الرياح فتمر مر الحساب بعد أن كانت أحجارا صلبة متماسكة مستقرة على الأرض أوتادا لها، فكيف يجعل الخطأ في بيان المراد من الآية معجزة يثبت بها أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله وأن القرآن تنزيل من رب العالمين؟ .
ثانيا: أن قوله تعالى في سورة يونس: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} (5) الآية وقوله تعالى في سورة الفرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} (6) دليل على أن نور القمر مستفاد من نور الشمس وذلك دليل على إعجاز القرآن وهذا استنباط باطل فإنه ليس في الآيتين دليل على ذلك ولا فهم العرب منهما هذه النظرية العلمية وهم أهل العربية وأعرف باللغة التي بها نزل القرآن، وإعجاز القرآن لا يحتاج في إثباته إلى أمثال ما ذكر المحاضر، وكون نور القمر مستفاد من نور الشمس لا يتوقف ثبوته على القرآن بل عرف من طريق آخر كحادث خسوف القمر المتكرر على مر الزمان، ومعرفة ذلك في متناول البشر لكونه متصلا بعلم التسيير وهو من علم الفلك فيعرفه من له دراية بعلم الفلك فكيف يجعل ذلك دليلا تثبت به الرسالة وإعجاز القرآن؟
__________
(1) سورة النمل الآية 88
(2) سورة الواقعة الآية 4
(3) سورة الواقعة الآية 5
(4) سورة الواقعة الآية 6
(5) سورة يونس الآية 5
(6) سورة الفرقان الآية 61(9/35)
مناقشة ما نشرت له جريدة " اليوم السعودية " في عددها رقم - 6399 - وتاريخ 12 \ 1 \ 1399
1 - الآية القرآنية الأولى {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (1) 19 حرفا ليست البسملة أول آية نزلت من القرآن، بل اختلف في أنها من القرآن إلا في سورة النمل، وليست 19 حرفا كما تقدم.
2 - كل كلمة في هذه الآية تتكرر في القرآن الكريم عددا من المرات، هو دائما من مكررات الرقم 19:
أ - كلمة اسم تتكرر في المصحف الشريف 19 مرة.
ب - كلمة الله تتكرر في المصحف 2698 مرة = 19 × 142.
جـ- كلمة الرحمن تتكرر في المصحف 57 مرة = 19 × 3.
د- كلمة الرحيم تتكرر في المصحف 114 مرة = 19 × 6.
ليس كل كلمة في البسملة ذكرت في القرآن 19 مرة، ولا مضاعفا للعدد 19، فإن من كلماتها (اسم والرحيم) تذكر كل منهما 19 مرة ولا مضاعف لهذا العدد.
3 - رغم غياب البسملة من سورة التوبة فإن القرآن الكريم يحتوي على 114 بسملة لأن سورة النمل فيها بسملتان.
4 - في كون البسملة من القرآن خلاف إلا في سورة النمل فهي منه، وما كان مختلفا فيه لا يبنى عليه إعجاز يثبت به ركن من أركان الإسلام.
5 - أول ما جاء به الوحي الأمين جبريل عليه السلام نزل به على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم كان 19 كلمة.
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 1(9/36)
ليس أول ما نزل 19 كلمة بل عشرين كلمة.
6 - الـ 19 كلمة من سورة العلق التي نزل بها جبريل عليه السلام من 76 حرف (19 × 4) طبقا للرسم العثماني الأصلي للقرآن الكريم.
ليست الكلمات التي نزلت من سورة العلق 19 حرفا ولا مضاعفا لها.
7 - سورة العلق أول ما نزل من القرآن، هي السورة رقم 19 من الخلف وليست سورة العلق أول ما نزل من القرآن، وإنما أول ما نزل منه خمس آيات من أولها فقط، ثم ترتيب السور مختلف فيه فقيل: توقيفي، وقيل: باجتهاد عثمان ووافقه عليه الصحابة رضي الله عنهم، وهناك مصاحف أخرى تختلف عن مصحف عثمان في الترتيب، وعلى كل حال فالمعروف عد السور من الفاتحة ثم البقرة. . . . وهكذا وليست سورة العلق 19 في الترتيب ولا مكررا له بهذا الاعتبار.
8 - في ترتيب نزول الوحي نزلت الآية القرآنية: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (1) مباشرة عقب الآية القرآنية: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (2) من سورة المدثر. . . والتي تعلمنا أن تسعة عشر فيها الإجابة الشافية على كل من يقول: {إِنْ هَذَا إلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} (3)
ترتيب النزول إنما يعرف بالنقل الصحيح لا بالعقل، ولم يثبت أن البسملة نزلت عقب نزول آية: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (4) وعليه لا يكون في ذلك رد على من يقول إن القرآن من قول البشر، وعلى تقدير صحة ذلك لا يدل على أن المراد بكلمة -تسعة عشر- حروف البسملة كما لا يعتبر ردا على من يقول إن هذا إلا قول البشر، ثم الاعتماد على هذا وأمثاله يفتح بابا للتهجم على القرآن والاستهتار به.
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 1
(2) سورة المدثر الآية 30
(3) سورة المدثر الآية 25
(4) سورة المدثر الآية 30(9/37)
9 - الحروف القرآنية " فواتح السور " (ق، ن، ص، يس، حم، الم. . . . إلخ) تتكرر في سورها دائما عددا من المرات هو من مكررات العدد 19 ويمكن لأي شخص أن يكتشف هذه الحقائق بنفسه.
فمثلا على الحرف ق، في سورة ق = 57 = 19 × 3
وعن الحرف ق، في سورة الشورى = 57 = 19 × 3
وعن الحرف ن، في سورة القلم = 133 = 19 × 7
وعدد الحرف ص، في سورة الثلاث ص، مريم، الأعراف أي المجموع في السور الثلاث 152 = 19 × 8
وهكذا الحال في جميع الفواتح بدون استثناء.
انتقض ما ذكره في سور مما مثل به كسورة القلم وكل من سورة ص ومريم والأعراف على حدة، ولهذا احتال بجمع الحرف ص في السور الثلاث ليوافق ما أراد.
مما تقدم من المناقشات يتبين أن ما ذكره الدكتور رشاد خليفة في محاضرته وسماه معجزة محمد الخالدة، وما نشرته له جريدة " اليوم السعودية " وسماه معجزة قرآنية مذهلة لا يصلح أن يكون معجزة تثبت بها الرسالة والصدق في دعوى النبوة لما فيه من الخطأ والتناقض، ولأنه على فرض سلامته من ذلك فهو في متناول القوى البشرية، لإمكان اكتسابه عن طريق الأسباب العادية، فيستطيع البشر أن يأتوا بمثله فرادى وجماعات، أما المعجزات فسمتها التي تتميز بها عن المخترعات عجز البشر -على أي حال كانوا- عن أن يأتوا بمثلها، لكونها من وراء الأسباب العادية.
وعلى هذا لا يصح أن يقال: إن كتابة القرآن حسب قواعد الإملاء ينافي معجزة القرآن الرياضية الحسابية، بل الذين يمنعون ذلك يبنون رأيهم على أسباب أخرى ذكرناها في بحث خاص بذلك.(9/38)
والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(9/39)
كلمة تحذيرية حول إنكار رشاد خليفة للسنة المطهرة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
فالداعي لكتابة هذه الكلمة أنه ظهر في مدينة توسان التابعة لولاية أريزونا بأمريكا شخص يدعى رشاد خليفة مصري الأصل أمريكي الجنسية يقوم بالدعوة على أساس بعيد عن الإسلام وينكر السنة وينتقص من منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم ويحرف كلام الله بما يناسب مذهبه الباطل.
والمذكور ليس له علم بأصول الشريعة الإسلامية إذ هو يحمل شهادة الدكتوراه في الهندسة الزراعية مما لا يؤهله للقيام بالدعوة إلى الله على وجه صحيح، وقد قام بالتغرير ببعض المسلمين الجدد والسذج من العامة باسم الإسلام في الوقت الذي يحارب فيه الإسلام بإنكاره السنة والتعاون مع المنكرين لها قولا وفعلا، فقد سجل في إذاعة ليبيا أثناء زيارته لها عام 1399 هـ أحاديث إذاعية، ولما سئل من قبل أحد أساتذة الجامعة الليبية قبيل صعوده للطائرة عن رأيه في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، أجاب باختصار نظرا لضيق الوقت قائلا: (الحديث من صنع إبليس) ومن أقواله التي توضح رفضه للسنة وتأويله القرآن الكريم رأيه ما يلي:
1 - قوله: إنه لا يجوز رجم الزاني أو الزانية سواء كانا محصنين أو غير محصنين؛ لأن ذلك لم يرد في القرآن.(9/39)
2 - تبجحه بصورة مستمرة بما يروى (ولا تكتبوا عني سوى القرآن) أنه لا يجوز كتابة الأحاديث.
3 - استدلاله على ما ذهب إليه من أنه لا حاجة للسنة ولا لتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن بقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (1) وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (2) .
4 - ادعاؤه أن الأخذ بالسنة وكتابتها وجمع الأحاديث في القرنين الثاني والثالث كان سببا في سقوط الدولة الإسلامية.
5 - عدم التصديق بالمعراج وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت بجديد في الصلاة؛ لأن العرب قد توارثوها بهذه الكيفية المعهودة عن جدهم إبراهيم عليه السلام.
6 - له تأويلات في كيفية كتابة الحروف المقطعة الواردة في أول السور، ويقول هذه ليست الكتابة الصحيحة لها ففي قوله تعالى: (الم) يجب أن تكتب هكذا (ألف لام ميم) وقوله تعالى (ن) يجب أن تكتب هكذا (نون) ، وغير ذلك من الآراء الباطلة التي يفرق بها كلمة المسلمين مع ما فيها من محادة لله ورسوله.
لذا فقد رأيت من الواجب توضيح أمره وكشف حقيقته للمسلمين لئلا يغتر أحد بكلامه أو ينخدع بآرائه وحتى يكون الجميع على معرفة بمكانة السنة المطهرة.
فلا يخفى على كل مسلم أن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم هي المصدر الثاني للتشريع وقد أجمع على ذلك سلف الأمة وعلماؤها، وقد حفظ الله سنة نبيه صلى الله عليه وسلم كما حفظ كتابه فقيض لها رجالا مخلصين وعلماء عاملين وهبوا نفوسهم وكرسوا حياتهم لخدمتها وتمحيصها وتدقيقها ونقلها بأمانة وإخلاص، كما نطق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تغيير لا في المعنى ولا في اللفظ، ولم يزل أهل العلم من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن
__________
(1) سورة الأنعام الآية 38
(2) سورة مريم الآية 64(9/40)
بعدهم يؤمنون بهذا الأصل العظيم، ويحتجون به ويعلمونه الأمة ويفسرون به كتاب الله، وقد ألفوا فيه المؤلفات الكثيرة وأوضحوا ذلك في كتب الأصول والفقه، وقد جاء في كتاب الله تعالى الأمر باتباع الرسول وطاعته حتى تقوم الساعة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو المفسر لكتاب الله والمبين لما أجمل فيه بأقواله وأفعاله وتقريره، ولولا السنة لم يعرف المسلمون عدد ركعات الصلوات وصفاتها وما يجب فيها ولم يعرفوا تفصيل أحكام الصيام والزكاة والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يعرفوا تفاصيل أحكام المعاملات والمحرمات وما أوجب الله فيها من حدود وعقوبات.
ومما ورد في ذلك من الآيات قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) وقوله تعالى في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} (2) وقوله جل ثناؤه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (3) وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (4) وقال عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (5) فهذه الآيات وغيرها جعلت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة لله ومتممة لها، وأناطت الهدى والرشاد والرحمة باتباع سنته وهديه صلى الله عليه وسلم، ولا يكون ذلك مع عدم العمل بها وإنكارها والقول بعدم صحتها.
وإن ما تفوه به رشاد خليفة من إنكار السنة والقول بعدم الحاجة
__________
(1) سورة آل عمران الآية 132
(2) سورة النساء الآية 59
(3) سورة النساء الآية 80
(4) سورة النور الآية 54
(5) سورة النور الآية 56(9/41)
إليها كفر وردة عن الإسلام؛ لأن من أنكر السنة فقد أنكر الكتاب، ومن أنكرهما أو أحدهما فهو كافر بالإجماع، ولا يجوز التعامل معه وأمثاله، بل يجب هجره والتحذير من فتنته وبيان كفره وضلاله في كل مناسبة حتى يتوب إلى الله من ذلك توبة معلنة في الصحف السيارة لقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (1) {إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2) وقد ذكر الإمام السيوطي رحمه الله كفر من جحد السنة في كتابه المسمى (مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة) فقال: (اعلموا -رحمكم الله- أن من أنكر أن كون حديث النبي صلى الله عليه وسلم قولا كان أو فعلا بشرطه المعروف في الأصول حجة كفر، وخرج عن دائرة الإسلام، وحشر مع اليهود والنصارى أو مع من شاء الله من فرق الكفرة) انتهى المقصود.
هذا ما أردت إيضاحه والتنبيه عليه من أمر هذا الرجل براءة للذمة ونصحا للأمة، وأسأل الله أن يهدينا وإياه صراطه المستقيم، وأن يعصمنا وجميع إخواننا المسلمين من الضلال بعد الهدى ومن الكفر بعد الإيمان، كما أسأله تعالى أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويكبت أعداء شرعه إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 159
(2) سورة البقرة الآية 160(9/42)
خطاب من سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
إلى أمين عام المجلس الإسلامي الأوربي
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة سعادة أمين عام المجلس الإسلامي الأوربي سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فحيث يوجد في مدينة (توسان) التابعة لولاية (أريزونا) مسجد يشرف عليه شخص يدعى (رشاد خليفة) مصري الأصل، أمريكي الجنسية، يقوم فيه بالدعوة الإسلامية على أساس بعيد عن الإسلام؛ لإنكاره السنة، واستنقاصه من منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك بما ثبت لدينا من التقارير بحقه من عدة جهات والتي ملخصها ما يلي:
1 - أن المذكور يقيم في مدينة (توسان) بولاية (أريزونا) إحدى الولايات المتحدة الأمريكية، ويحمل الدكتوراه في الهندسة الزراعية، مما لا يؤهله للقيام بالدعوة إلى الله على وجه صحيح، بل إن دعوته للإسلام يظهر منها المخادعة، والتغرير بالمسلمين الجدد، والسذج من العامة باسم الإسلام، في الوقت الذي هو يحارب الإسلام بإنكار السنة وتعاونه مع المنكرين لها قولا وفعلا أمثال (محمد علي اللاهوري) وغيره وقد قامت حوله ضجة علمية حول اكتشافه سر إعجاز القرآن حسب زعمه.(9/43)
2 - وفي زيارته لليبيا عام 1399 هـ سجل في إذاعتها أحاديث، ووجد من يستمع إليه حول رأيه في السنة المطهرة، بل إنه حينما سئل من قبل أحد أساتذة الجامعة، قبل صعوده للطائرة عن رأيه في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أجاب باختصار نظرا لضيق الوقت قائلا: (الحديث من صنع إبليس) . ومن مواقفه التي توضح رفضه للسنة، وتأويل القرآن الكريم حسب ما يراه:
أ - قوله أنه لا يجوز رجم الزاني أو الزانية، سواء كانا محصنين أو غير محصنين، لأن ذلك لم يرد في القرآن.
ب - تبجحه بصورة مستمرة بما يرويه (لا تكتبوا عني سوى القرآن) ، ليثبت أنه لا يجوز كتابة الأحاديث.
جـ- استدلاله على ما ذهب إليه من لا حاجة للسنة، ولا لتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن بقوله تعالى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (1) وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (2) .
د- ادعاؤه أن الأخذ بالسنة وكتابتها، وجمع الأحاديث في القرنين الثاني والثالث كان سببا في سقوط الدولة الإسلامية.
هـ- عدم التصديق بالمعراج، وأن رسول صلى الله عليه وسلم لم يأت بجديد في الصلاة، لأن العرب قد توارثوها بهذه الكيفية المعهودة عن جدهم إبراهيم.
وله تأويلات في كيفية كتابة الحروف المقطعة الواردة في أول السور، ويقول هذه ليست هي الكتابة الصحيحة لها، وفي قوله تعالى (الم) يجب أن تكتب هكذا (الف لام ميم) ، وقوله تعالى (ن) يجب أن تكتب هكذا (نون) وغير ذلك من الشطحات التي يفرق بها كلمة المسلمين، مع ما فيها من محادة لله ورسوله
__________
(1) سورة الأنعام الآية 38
(2) سورة مريم الآية 64(9/44)
لذا فقد رأينا من واجبنا توضيح أمره وكشف حقيقته، لوقف التعامل معه، والتنبه لمغالطاته، وبراءة للذمة، ونصحا لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، راجيا تعميم كتابنا هذا على منسوبيكم والجهات ذات العلاقة، أعانكم الله على كل خير، وجعلنا وإياكم من أنصار السنة والكتاب، ومن دعاة الخير على بصيرة، إنه جواد كريم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(9/45)
صفحة فارغة(9/46)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شئونهم الدينية والاجتماعية.(9/47)
فتوى رقم 1113
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على استفسار أحد السائلين وهو:
السؤال الأول: هل يجوز للمؤمن إشهار زواجه من الكتابية في الكنيسة وعلى يد قسيس بعد الزواج بها على سنة الله ورسوله في مكاتب الزواج الإنكليزية؟
* * *
الجواب: لا يجوز للمؤمن أن يشهر زواجه من مسلمة أو كتابية في الكنيسة ولا على يد قسيس ولو كان ذلك بعد الزواج بها على سنة الله ورسوله؛ لما في ذلك من مشابهة النصارى في شعار زواجهم، وتعظيم مشاعرهم ومعابدهم، واحترام علمائهم وعبادهم وتوقيرهم لقوله صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم (1) » أخرجه الإمام أحمد بإسناد حسن.
* * *
__________
(1) سنن أبو داود اللباس (4031) .(9/48)
السؤال الثاني: هل عقد الزواج الذي على يد المسجل الإنكليزي بحضور شاهد مسلم وشاهد من أهل دينها يعتبر عقدا شرعيا في نظر الإسلام؟
* * *
الجواب: أكثر أهل العلم على أن زواج المسلم بالمسلمة لا ينعقد ولا يصح إلا بولي وشاهدين عدلين؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل (1) » . رواه الدارقطني ولما روي عنه صلى الله عليه وسلم أيضا أنه قال: «البغايا اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بينة (2) » رواه الترمذي؛ ولأن عمر بن الخطاب أتي بنكاح لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة، فقال هذا نكاح السر، ولو كنت تقدمت فيه لرجمت، رواه مالك في الموطأ، ولقول ابن عباس: " لا نكاح إلا ببينة ". . . قال
__________
(1) سنن الترمذي النكاح (1101) ، سنن أبو داود النكاح (2085) ، سنن ابن ماجه النكاح (1881) ، مسند أحمد بن حنبل (4/418) ، سنن الدارمي النكاح (2182) .
(2) سنن الترمذي النكاح (1103) .(9/48)
الإمام الترمذي رحمه الله بعد أن أورد أحاديث كثيرة في اعتبار الولي والشهود في النكاح: " والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين وغيرهم، قالوا لا نكاح إلا بشهود. . . إلخ، ويؤيد ما ذكر من اعتبار الولي والشهود في النكاح أنه متفق مع مقاصد الشريعة لما فيه من حفظ الأعراض والأنساب، وسد ذريعة الزنا والفساد، ودفع ما يخشى من اختلاف الزوجية.
أما زواج المسلم بالكتابية فلا يصح أيضا إلا بشهادة مسلمين عدلين في أصح أقوال أهل العلم عند الشافعية وعلى العلم لعموم ما تقدم من الأحاديث والآثار، ولموافقته مع مقاصد الشريعة وقواعدها. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(9/49)
فتوى رقم 1136 وتاريخ 2 \ 1 \ 96 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على استفسار أحد السائلين وهو:
السؤال: ما حكم نزول المرأة في السوق بدون إذن من زوجها؟
* * *
الجواب: إذا أرادت المرأة الخروج من بيت زوجها فإنها تخبره بالجهة التي تريد الذهاب إليها، ويأذن لها في الخروج إلى ما لا يترتب عليه مفسدة فهو(9/49)
أدرى بمصالحها ولعموم قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (1) وقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (2) الآية وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 228
(2) سورة النساء الآية 34(9/50)
فتوى رقم 1270 وتاريخ 10 \ 5 \ 1396 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على استفسار أحد السائلين وهو:
السؤال: سمعت أن كثيرا من المتزوجين إذا كان غائبا عن زوجته أو يقصد أن يسافر عنها فإنه لا يواجهها عند سفره أو مجيئه فهل لهذا أصل في الشرع؟
الجواب: ما ذكرت من أن كثيرا من الأزواج لا يواجه زوجته ولا يوادعها(9/50)
عند سفره ولا يواجهها عند عودته من سفره، هذا لا أصل له في الشرع، والتزام هذه العادة واعتبارها دينا من البدع التي ينبغي تركها، غير أنه ينبغي للإنسان إذا عاد من سفره الطويل ألا يطرق أهله ليلا، ولا يفاجئ زوجته بدخول البيت على غرة لئلا يقع منها على ما يكره ويجد منها ما ينفره منها، بل يتمهل حتى تعلم بقدومه فتتأهب له وهذا من حسن العشرة وآداب الحياة الزوجية وهو أحرى لبقائها والمحافظة عليها وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يطرق الرجل أهله ليلا وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلا (1) » . وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخلت ليلا فلا تدخل على أهلك حتى تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة (2) » . فبين صلى الله عليه وسلم أن الحكمة في نهي من عاد من سفر طويل عن الدخول على زوجته البيت على غرة دون أن تتمكن من التأهب والتزين له، وألا يجد منها ما يكره أو تنفر منه نفسه، ولذلك لو كتب إلى أهله قبل عودته وحدد لهم موعد حضوره إليهم من سفره كان له أن يدخل عليهم في أي ساعة شاء عند وصوله، حيث لا يعتبر مفاجئا ولا داخلا على غرة. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5244) ، مسند أحمد بن حنبل (3/314) .
(2) صحيح البخاري النكاح (5246) ، صحيح مسلم الإمارة (715) ، مسند أحمد بن حنبل (3/314) ، سنن الدارمي النكاح (2216) .(9/51)
فتوى رقم 1294 وتاريخ 9 \ 6 \ 1396 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على استفسار أحد السائلين وهو:
السؤال: ما حكم جمع الرجل في عصمته أكثر من أربع زوجات مع(9/51)
الأدلة، لشدة الحاجة إلى معرفة ذلك؟
الجواب: يجوز للرجل أن يتزوج أكثر من زوجة إلى أربع زوجات إذا وثق من نفسه بالعدل بين زوجاته وأمن من الجور لكن يحرم عليه أن يجمع في عصمته أكثر من أربع زوجات والدليل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (1) .
فأذن تعالى لكل من يريد أن يتزوج أكثر من واحدة أن يتزوج إن شاء اثنتين وإن شاء ثلاثا وإن شاء أربعا إن لم يخف الجور ولم يأذن له سبحانه بأكثر من أربع، والأصل في الفروج التحريم، فلا يجوز إلا في حدود ما بين الله وأذن فيه، ولم يأذن في الجمع بين أكثر من أربع زوجات. فكان ما زاد على ذلك باقيا على أصل التحريم، وأما السنة فما رواه أبو داود وابن ماجه عن قيس بن الحارث قال: «أسلمت وعندي ثمان نسوة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: اختر منهن أربعا (2) » . وما رواه أحمد والترمذي، وابن ماجه عن عبد الله بن عمر قال.
«أسلم غيلان الثقفي وعنده عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعا (3) » . وقد أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم وصححاه. وقد أجمع الصحابة والأئمة الأربعة وسائر أهل السنة والجماعة قولا وعملا على أنه لا يجوز للرجل أن يجمع في عصمته أكثر من أربع زوجات إلا النبي صلى الله عليه وسلم، فمن رغب عن ذلك وجمع بين أكثر من أربع زوجات فقد خالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفارق أهل السنة والجماعة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) سورة النساء الآية 3
(2) سنن أبو داود الطلاق (2241) ، سنن ابن ماجه النكاح (1952) .
(3) سنن الترمذي النكاح (1128) ، سنن ابن ماجه النكاح (1953) ، مسند أحمد بن حنبل (2/83) ، موطأ مالك الطلاق (1243) .(9/52)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(9/53)
فتوى رقم 1325 وتاريخ 9 \ 7 \ 1396 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على استفسار أحد السائلين وهو:
السؤال الأول: إذا اشترط في عقد الزواج أن تكون عصمة الزوجة بيدها، متى شاءت أن تطلق زوجها طلقته، فهل هذا يوافق الشريعة الإسلامية؟
الجواب: هذه المسألة مما اختلف فيه الفقهاء، والراجح فيها عند الخصومة بين الزوجين التوجه إلى المحاكم الشرعية لا إلى دور الإفتاء، ومع ذلك فينبغي للمسلم ألا يشترط هذا الشرط في عقد الزواج، رعاية لما كان عليه السلف، وخروجا من الخلاف فيه بين الفقهاء، وبعدا عما يترتب عليه من المشاكل، ومن أراد من طلبة العلم الوقوف على أقوال الفقهاء في ذلك ليشبع نهمته فليرجع إلى مطولات كتب الفقه وكتب الخلاف ليعرف الآراء وأدلتها، ويقارن بينها ليعرف الأرجح فيها بدليه فيختاره. والله الموفق.
* * *(9/53)
السؤال الثاني: ما حكم عقد الزواج على امرأة ثيب حامل من الزنا في شهرها الثامن، هل يعتبر العقد باطلا أو فاسدا أو صحيحا؛ فإنه قد تنازع في(9/53)
ذلك عندنا عالمان: فأبطل أحدهما العقد وصححه الآخر إلا أنه حرم على من تزوجها الوطء حتى تضع الحمل؟
* * *
الجواب: إذا تزوج رجل امرأة حاملا من الزنا فنكاحه باطل، فيحرم عليه وطؤها؛ لعموم قوله تعالى: {وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} (1) . وقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (2) وعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره (3) » رواه أبو داود وصححه الترمذي وابن حبان، ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا توطأ حامل حتى تضع (4) » . رواه أبو داود وصححه الحاكم، وبذلك قال مالك وأحمد رضي الله عنهما. وقال الشافعي وأبو حنيفة في رواية عنه: يصح العقد غير أن أبا حنيفة حرم عليه وطأها حتى تضع الحمل؛ للأحاديث المتقدمة، وأباح الشافعي له وطأها، لأن ماء الزنا لا حرمة له، ولا يلحق الولد بالزاني، لقوله صلى الله عليه وسلم: «وللعاهر الحجر (5) » كما أنه لا يلحق بمن تزوجها، لأنها صارت فراشا له بعد الحمل. بهذا يتبين سبب الخلاف بين الشيخين وأن كلا منهما قال بالحكم الذي قال به من قلده، ولكن الصواب الأول؛ لعموم الآيتين والأحاديث الدالة على المنع.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 235
(2) سورة الطلاق الآية 4
(3) سنن أبو داود النكاح (2158) ، مسند أحمد بن حنبل (4/108) .
(4) سنن الترمذي السير (1564) .
(5) صحيح البخاري البيوع (2053) ، صحيح مسلم الرضاع (1457) ، سنن النسائي الطلاق (3484) ، سنن أبو داود الطلاق (2273) ، مسند أحمد بن حنبل (6/129) ، موطأ مالك الأقضية (1449) .(9/54)
فتوى رقم 1390 وتاريخ 20 \ 9 \ 1396 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على استفسار أحد السائلين وهو:
السؤال: بلغت بنت سن الزواج وليس لها ولي يزوجها ولا يوجد قاض في البلد، فهل يقوم الأمير مقام القاضي في تزويج هذه البنت؟
الجواب: أولى الناس بولاية المرأة في الزواج أبوها، ثم أبوه وإن علا، ثم ابنها، ثم ابنه وإن نزل، ثم أخوها لأبويها، ثم أخوها لأبيها، ثم الأقرب فالأقرب من العصبات على ترتيب الميراث، ثم السلطان وينوب عنه الحاكم الشرعي، أما الأمير وهو ما يسمى بالحاكم الإداري فإن نيابته عن ولي الأمر فيما هو من الأمور الإدارية، وفي تنفيذ أحكام القضاء، ومما ذكرنا يتضح أنه ليس للأمير ولاية على من لا ولي لها من النساء، وإنما ولايتها إلى القاضي في حال عدم وجود ولي لها من أهلها، وليس هناك بلد في بلادنا ليس لها قاض، فإما أن يكون القاضي في البلد نفسه، أو أن تكون البلد تابعة لغيرها في القضاء. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(9/55)
فتوى رقم 1398 وتاريخ 20 \ 11 \ 1396 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على استفسار أحد السائلين وهو:
السؤال: هل يجوز استعمال العادة السرية؟
* * *
الجواب: الصحيح من أقوال العلماء في الاستمناء باليد المعروف بالعادة السرية التحريم لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (1) {إلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (2) {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (3) فأثنى سبحانه على من حفظ فرجه فلم يقض وطره إلا مع زوجته أو أمته وحكم بأن من قضى وطره فيما وراء ذلك أيا كان فهو عاد متجاوز لما أحله الله له، ويدخل في عموم ذلك الاستمناء باليد (العادة السرية) ؛ ولأن في استعمال ذلك مضار كثيرة وله عواقب وخيمة منها إنهاك القوى وضعف الأعصاب وقد جاءت الشريعة الإسلامية بمنع ما يضر بالإنسان في دينه وبدنه وماله وعرضه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 5
(2) سورة المؤمنون الآية 6
(3) سورة المؤمنون الآية 7(9/56)
فتوى رقم 1458 وتاريخ 25 \ 1 \ 1397 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على استفسار أحد السائلين وهو:
السؤال: لي أخت من والدتي على أب ثان ولي أخت على أم ثانية تزوجهن رجل واحد وأنا الذي أتولى عليهن العقد فهل يجوز ذلك؟
* * *
الجواب: أما الجمع بينهن فصحيح لأن الأصل جواز ذلك ولم يرد ما يرفعه، وأما تولي عقد النكاح منك لهما فبالنسبة لأختك من أبيك يجوز أن تتولى العقد لها، إذا لم يوجد من هو أولى منك يعقد لها على من يريد الزواج بها، وأما أختك لأمك فلا يصح أن تتولى عقد النكاح لها إلا بولاية شرعية ممن يملك ذلك، من ولي لها إن وجد أو من حاكم شرعي إذا لم يوجد لها ولي شرعي من أقاربها، وبالله التوفيق.
وصلى الله وسلم على نبينا وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(9/57)
فتوى رقم 1476 وتاريخ 3 \ 2 \ 1397 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على استفسار أحد(9/57)
السائلين وهو:
السؤال: خطب رجل امرأة ولم يعقد عليها، ولغضب بينه وبين والدها قال: " هي محرمة علي مثل أمي وأختي "، ثم تراضى هو ووالدها، وعقد له عليها بمهر معين عن رضا واختيار فهل يلزمه شيء من أجل التحريم الذي حصل منه قبل العقد، وإن كان كفارة فما نوعها؟
* * *
الجواب: لا تأثير لهذا التحريم على عقد الزواج لوقوعه قبله ولا تلزمه به كفارة ظهار لحصوله قبل أن تكون هذه البنت المخطوبة زوجة لمن حرمها على نفسه وإنما تلزم به كفارة يمين لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (1) {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} (2) {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (3) الآية، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (5) فعلى من حصل منه ذلك التحريم أن يطعم عشرة مساكين من أوسط ما يطعم أهله يعطي كل مسكين من العشرة نصف صاع من بر أو تمر أو أرز أو نحو ذلك، أو يكسو عشرة مساكين أو يعتق رقبة، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام متتابعة، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة المائدة الآية 87
(2) سورة المائدة الآية 88
(3) سورة المائدة الآية 89
(4) سورة التحريم الآية 1
(5) سورة التحريم الآية 2(9/58)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(9/59)
فتوى رقم 1489 وتاريخ 4 \ 6 \ 1397 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على استفسار أحد السائلين وهو:
السؤال: أنه تزوج امرأة ولم يرزق منها أولادا وطلقها فتزوجت رجلا ثانيا ورزق منها ولدا وبعد أن فارقها أخذت رجلا ثالثا ورزقت منه أولادا ذكورا وإناثا ويقول: هل يجوز الزواج بيننا أم لا؟
* * *
الجواب: إن كنت تسأل عن حكم تزوجك المرأة التي سبق أن تزوجتها قبل الزوجين الأخيرين جاز لك ذلك ما دامت في غير عصمة رجل ولا عدة، وإن كنت ترغب في أن تتزوج إحدى بناتها من الرجل الأخير فلا يجوز لك ذلك؛ لأنهن ربائب لك. قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} (1) الآية إلى قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} (2) وقد تزوجت أمهن ودخلت بها فيحرم عليك الزواج ببناتها وإن لم
__________
(1) سورة النساء الآية 23
(2) سورة النساء الآية 23(9/59)
يكن في حجرك؛ لأن هذا القيد لبيان الغالب فلا مفهوم له معتبرا. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(9/60)
فتوى رقم 1545 وتاريخ 12 \ 5 \ 1397 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على استفسار أحد السائلين وهو:
السؤال: ما هو الجواب شرعا وحقا فيمن ترك زوجته سنة أو أكثر من ذلك، للعمل في تزويد عياله بما يكفيهم لمعيشتهم مع العلم أن هناك آخرين ليس غيابهم لذلك فقط بل يبنون به قصورا ويشترون حافلات وما أشبه ذلك من زينة الحياة الدنيا، ولا شك أن هذا الغياب الطويل مما يؤدي إلى الزنا إما من الرجل وإما من المرأة نسأل الله الهداية والتوفيق؟
* * *
الجواب: إذا تراضى الزوجان على الغيبة، طويلة كانت أم قصيرة - مع العفاف فلا حرج عليهما - وإن خاف أحدهما على نفسه من الغيبة - مع الحاجة إليها لكسب العيش - طلب من صاحبه حقه، بما يحقق الاجتماع، محافظة على العرض وتحقيقا للعفة وتحصين الفروج، فإن أبى رفع المحتاج أمره إلى القاضي ليحكم بينهما بما شرع الله، علما بأنه ليس بلازم أن يقع في الزنا من ليس معه(9/60)
زوجته أو من ليس معها زوجها ولو طالت المدة. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(9/61)
فتوى رقم 1584 وتاريخ 17 \ 6 \ 1397 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على استفسار أحد السائلين وهو:
السؤال: رجل تزوج امرأة بعد زوجها الأول ومعها بنت رضيع فهل يجوز لها أكل الحبوب لمدة سنة كاملة لمنع الحمل من الزوج الثاني دون موافقته علما بأنها تتمتع بصحة جيدة لا تعوق الحمل فهل يجوز أم لا. . .؟
* * *
الجواب: تحديد النسل محرم مطلقا لما جاء في الشريعة الغراء من النهي عن التبتل والتشديد في ذلك والترغيب في التزوج بالولود الودود، فيكون تناول حبوب منع الحمل محرما إلا في حالات فردية نادرة لا عموم لها، كما في الحالة التي تدعو الحامل إلى ولادة غير عادية، ويضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الولد، وفي حالة ما إذا كان على المرأة خطر من الحمل لمرض ونحوه، وهذا لا ينطبق على حالة المرأة المذكورة في السؤال، فلا يجوز لها التسبب في منع الحمل. وصلى الله على عبده ورسوله محمد.(9/61)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(9/62)
فتوى رقم 1618 وتاريخ 11 \ 7 \ 1397 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على استفسار أحد السائلين وهو:
السؤال: هل يجوز شرعا أن تكشف زوجة إنسان لإخوانه أو أولاد عمه؟ وهل يجوز أن ينام الولد مع أمه وأخته وهو بالغ رشده؟
الجواب:
أولا: إخوة الزوج وأبناء عمه ليسوا بمحارم لزوجته بمجرد كونهم إخوة له أو أبناء أعمامه، وبذلك لا يجوز لزوجته أن تكشف لهم ما لا تكشفه إلا لمحارمها؛ ولو كانوا صالحين موثوقا بهم؛ فإن الله سبحانه حصر إبداء المرأة لزينتها في أناس بينهم في قوله: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} (1) وليس إخوة الزوج ولا أبناء
__________
(1) سورة النور الآية 31(9/62)
أعمامه من هؤلاء بمجرد كونهم إخوته أو أبناء عمه، ولم يفرق الله في ذلك بين صالح وغيره احتياطا للأعراض وسدا لذرائع الشر والفساد، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الحمو فقال: «الحمو الموت (1) » والمراد بالحمو أخ الزوج ونحوه ممن ليسوا بمحارم للزوجة؛ فعلى المسلم أن يحافظ على دينه وأن يحتاط لعرضه.
ثانيا: لا يجوز للأولاد الذكور إذا بلغوا الحلم وكان سنهم عشر سنوات أن يناموا مع أمهاتهم أو أخواتهم في مضاجعهم أو في فرشهم؛ احتياطا للفروج، وبعدا عن إثارة الفتنة، وسدا لذريعة الشر، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتفريق بين الأولاد في المضاجع إذا بلغوا عشر سنين فقال: «مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع (2) » . وأمر الذين لم يبلغوا الحلم أن يستأذنوا عند دخول البيوت في الأوقات الثلاثة التي هي مظنة التكشف وظهور العورة، وأكد ذلك بتسميتها عورات فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ ثَلاَثَ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (3) ، وأمر الذين بلغوا الحلم أن يستأذنوا في كل الأوقات عند دخول البيوت فقال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ} (4) كل ذلك من أجل درء الفتنة والاحتياط للأعراض والقضاء على وسائل الشر.
أما من كان دون عشر سنوات فيجوز له أن ينام مع أمه أو أخته في مضجعها لحاجته إلى الرعاية، ولدفع الحرج مع أمن الفتنة، لكن يجوز عند أمن
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5232) ، صحيح مسلم السلام (2172) ، سنن الترمذي الرضاع (1171) ، مسند أحمد بن حنبل (4/149) ، سنن الدارمي الاستئذان (2642) .
(2) سنن أبو داود الصلاة (495) ، مسند أحمد بن حنبل (2/187) .
(3) سورة النور الآية 58
(4) سورة النور الآية 59(9/63)
الفتنة أن يناموا جميعا ولو كانوا بالغين في مكان واحد كل منهم في فراش يخصه. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(9/64)
فتوى رقم 1678 وتاريخ 13 \ 10 \ 1397 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على استفسار أحد السائلين وهو:
السؤال: ما حكم لبس الكعب العالي للمرأة، ووضع المناكير بأظافر المرأة وأيهما أفضل المناكير أم الخضاب، وما حكم وضع الحناء للمرأة أثناء الحيض؟
* * *
الجواب: لبس الكعب العالي لا يجوز؛ لأنه يعرض المرأة للسقوط والإنسان مأمور شرعا بتجنب الأخطار، بمثل عموم قول الله: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) وقوله: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (2) كما أنه يظهر قامة المرأة وعجيزتها بأكثر مما هي عليه، وفي هذا تدليس وإبداء لبعض الزينة التي نهيت عن
__________
(1) سورة البقرة الآية 195
(2) سورة النساء الآية 29(9/64)
إبدائها المرأة المؤمنة بقول الله سبحانه وتعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ} (1) . أما المناكير فلا تجوز لما فيها من منع وصول الماء في الوضوء والغسل إلى الأظافر، وقد شملتها الفتوى المشار إليها في الجواب الثاني. وأما الحناء للمرأة أثناء الحيض فلا نعلم مانعا منه كحال الطهر. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة النور الآية 31(9/65)
فتوى رقم 1685 وتاريخ 11 \ 11 \ 1397 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على استفسار أحد السائلين وهو:
السؤال: أنه طلق زوجته طلاق السنة ثم سلم ورقة الطلاق، ويريد مراجعتها، فهل المراجعة إجبارية على المرأة دون رضاها، أو تتوقف على رضاها، وهل هناك شروط للمراجعة أفتوني؟ .
الجواب: إن كان الواقع كما ذكر من طلاق المذكور زوجته طلاق السنة(9/65)
فله مراجعتها ما دامت في العدة؛ بشهادة عدلين سواء رضيت أم لم ترض إن لم يكن هذا الطلاق آخر ثلاث تطليقات أو على مرض؛ وإن كانت خرجت من عدتها، أو كان على مرض ولم يكن آخر ثلاث تطليقات، فله الرجوع إليها بعقد ومهر جديدين برضاها، وفي الحالتين يعتبر ما حصل منه طلقة واحدة، وإن كان هذا الطلاق آخر ثلاث تطليقات فلا تحل له إلا بعد أن يتزوجها زوج آخر زواجا شرعيا ويطأها؛ فإذا طلقها الثاني أو مات عنها حلت لمطلقها؛ بعد انتهاء عدتها، بعقد ومهر جديدين برضاها. وعدة الحامل وضع حملها، سوء كانت مطلقة أم متوفى عنها زوجها. وعدة غير الحامل المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا؛ أما إن كانت مطلقة فعدتها ثلاث حيض إن كانت ممن يحضن، وثلاثة أشهر إن كانت يائسة من الحيض أو صغيرة لم تحض. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(9/66)
فتوى رقم 1686 وتاريخ 28 \ 10 \ 1397 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على استفسار أحد السائلين وهو:
السؤال: تزوج رجل وامرأة ثم تزوجت برجل آخر فأنجبت له بنتا، ثم توفيت الأم وبقيت البنت، ولكن الرجل الأول الذي قد تزوج بأمها تزوج امرأة(9/66)
أخرى فأنجبت، له ولدا والولد خطب تلك البنت - بنت المرأة التي قد تزوجها والده - فما حكم الزواج منها؟
* * *
الجواب: يجوز أن يتزوج الولد المذكور بالبنت المذكورة وإن كان أبوه قد تزوج بأمها، لقول الله سبحانه بعد أن ذكر المحرمات في النكاح {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (1) وليست البنت المذكورة من المحرمات المنصوص عليها في الآية ولا في شيء من السنة. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة النساء الآية 24(9/67)
فتوى رقم 1920 وتاريخ 15 \ 5 \ 1398 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على استفسار أحد السائلين وهو:
السؤال: أحد أقاربي أريد أن أتزوج بنته على سنة الله ورسوله ويوجد له ولد أريد أن أزوجه أختي على سنة الله ورسوله هل ذلك يجوز أم لا مع العلم أن المهر لم يكن سواء والحق الخاص للفتاتين لم يكن سواء وهما راضيتان وليست إحداهما مكرهة على ذلك.(9/67)
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكرت من أن البنتين راضيتان وأنه سيدفع لكل منهما مهر فعلا دون أي تحايل وأنه لا يوجد بينكما أي شرط قولي أو عرفي يقتضي بأنه سيزوجك بنته على أن تزوج ابنه أختك فلا بأس بذلك لعدم ما يمنع منه شرعا. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(9/68)
فتوى رقم 1928 وتاريخ 18 \ 5 \ 1398 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على استفسار أحد السائلين وهو:
السؤال: أنا رجل أبلغ من العمر 48 عاما تعرضت لمرض ولم يوجد عندي أحد من أهلي ولي زميل في العمل وصديق مسلم وأنا بحاجة إلى المساعدة والرعاية فساعدني هذا الصديق ونقلني إلى بيته وزوجته مسلمة دينة قارئة القرآن قامت على خدمتي أثناء مرضي وعندما شفيت وعافاني الله سبحانه وتعالى وله الحمد دائما أحببت أن تكون زوجته أختا لي وأنا ليس لي أخوات مطلقا ووضعنا كتاب الله بأيدينا وتعاهدنا على كتاب الله بأن هذه الإنسانة أختي ومحرمة علي في جميع الحالات وحصل هذا بموافقة زوجها وأولادها وبناتها جميعا وبموافقة أسرتي جميعا والآن أعتبرها شقيقتي حقا هل يحق أن ألمس يدها، وهل يحق أن أكون لها محرما في الحج وأكثر عشيرتي وعشيرتها يعلمون هذا الأمر. أرجو الرد بما حكم الشرع الإسلامي؟(9/68)
الجواب: مهما أسدى إليك صديقك من معروف وقدمت لك امرأته من خدمات فليست زوجته محرما لك بذلك العمل وهي أجنبية منك، وإنما يكون المحرم عن طريق قرابة نسب أو بسبب رضاع أو مصاهرة في حدود مبينة في نصوص الشريعة، ولا يجوز لك أن تلمسها بيدك أو بأي عضو من أعضائك، ولا تصلح أن تكون محرما لها في سفر لحج أو غيره. ويحرم عليك أن تخلو بها ولو رضيت ورضي زوجها وعشيرتها. وشأنك معها شأنك مع أي أجنبية منك وإنما لها ولزوجها ولأقاربها عليك أن تشكرهم وتكافئهم على ما قدموه لك من المعروف بمعونة بدنية لهم في عمل أو بذل مال وحسن معاملة ونصح وإرشاد ونحو ذلك مما تحسنه وتقوى عليه وهم في حاجة إليه.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(9/69)
فتوى رقم 1930 وتاريخ 18 \ 5 \ 1398 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على استفسار أحد السائلين وهو:
السؤال: أنه تزوج امرأة وأنجبت منه أولادا، ثم طالبته والدته بطلاق زوجته دون سبب أو عيب في دينها، بل ذلك لحاجة شخصية، وحاولت أخته وبعض أهل الخير إقناعها فلم تقتنع إلا بطلاقها، وخرجت من البيت وسكنت مع إحدى بناتها، فوقع في حرج من خروجها لكن زوجته غالية عنده ولم يعرف عنها إلا الخير فماذا يصنع أفتوني؟(9/69)
* * *
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكر السائل من أن أحوال زوجته مستقيمة، وأنه يحبها، وغالية عنده، وأنها لم تسئ إلى أمه، وإنما كرهتها لحاجة شخصية، وأمسك زوجته وأبق على الحياة الزوجية معها، فلا يلزمه طلاقها طاعة لأمه، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما الطاعة في المعروف (1) » وعليه أن يبر أمه ويصلها بزيارتها والتلطف معها والإنفاق عليها ومواساتها بما تحتاجه وينشرح به صدرها ويرضيها بما يقوى عليه سوى طلاق زوجته؛ والله المستعان، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7145) ، صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/82) .(9/70)
فتوى رقم 2012 وتاريخ 8 \ 7 \ 1398 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على استفسار أحد السائلين وهو:
السؤال: رجل تزوج امرأة وأتت منه ببنات ثم طلقها وتزوجها آخر وأتت منه ببنات أيضا، فهل بنات الرجل الثاني يتحجبن من الأول؟ وفي حالة التحجب هل له أن يتزوج منهن؟
* * *
الجواب: إذا تزوج الرجل امرأة ودخل بها حرم عليه تحريما مؤبدا التزوج(9/70)
بإحدى بناتها أو بنات أولادها مهما نزلوا سواء كن من زوج سابق أو لاحق لقول الله سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (1) إلى قوله {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} (2) والربيبة هنا بنت الزوجة، ويعتبر محرما لبنات من تزوجها ودخل بها، ولا يحتجبن عنه. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة النساء الآية 23
(2) سورة النساء الآية 23(9/71)
فتوى رقم 2059 وتاريخ 12 \ 8 \ 1398 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على استفسار أحد السائلين وهو:
السؤال: توفي زوج بعد أن عقد نكاحه وقبل أن يدخل على زوجته الدخول الشرعي، فهل يجوز لأهل الزوج أن يسترجعوا المهر الذي دفعوه لأهل الزوجة؟
* * *
الجواب: إذا توفي الزوج قبل أن يدخل بزوجته وجب لها جميع المهر المسمى بمجرد وفاة زوجها؛ لأن المهر يتم استحقاق الزوجة له كله بموت الزوج.(9/71)
كما يتم بدخوله بها، سواء في ذلك ما دفع منه وما لم يدفع، وليس لوالد الزوج ولا لأمه استحقاق شيء من المهر، لا قليل، ولا كثير، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(9/72)
فتوى رقم 2071 وتاريخ 26 \ 8 \ 1398 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على استفسار أحد السائلين وهو:
السؤال: زنى رجل ببكر ويريد أن يتزوجها فهل يجوز له ذلك؟
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكر وجب على كل منهما أن يتوب إلى الله فيقلع عن هذه الجريمة، ويندم على ما حصل منه من فعل الفاحشة، ويعزم على ألا يعود إليها، ويكثر من الأعمال الصالحة، عسى الله أن يتوب عليه ويبدل سيئاته حسنات، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (1) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (2) {إلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (3) {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} (4)
__________
(1) سورة الفرقان الآية 68
(2) سورة الفرقان الآية 69
(3) سورة الفرقان الآية 70
(4) سورة الفرقان الآية 71(9/72)
وإذا أراد أن يتزوجها وجب عليه أن يستبرئها بحيضة قبل أن يعقد عليها النكاح، وإن تبين حملها لم يجز له العقد عليها إلا بعد أن تضع حملها، عملا بحديث «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسقي الإنسان ماءه زرع غيره (1) » . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن أبو داود النكاح (2158) ، سنن الدارمي السير (2477) .(9/73)
فتوى رقم 2214 وتاريخ 14 \ 11 \ 1395 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على استفسار أحد السائلين وهو:
السؤال: هل يجوز أن يزوج بنته خال أبيه، وهل يجوز أن يتزوج بنت عمه التي رضعت معه يوما أو بعضه؟
* * *
الجواب: بالنسبة للسؤال الأول فلا يجوز للسائل أن يزوج بنته خال أبيه؛ لأن خال أبيه خال له ولذريته ما تناسلوا وتعاقبوا وذلك لعموم قوله تعالى: {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} (1) . فالخال محرم لبنات الأخت مهما نزلت درجاتهم. وأما بالنسبة للسؤال الثاني فإذا بلغ الرضاع المذكور خمس رضعات فأكثر وكان في الحولين
__________
(1) سورة النساء الآية 23(9/73)
فهو رضاع ناشر للحرمة؛ فلا يجوز للسائل أن يتزوج بنت عمه التي رضعت معه أو مع أحد إخوانه، أما إن كان أقل من خمس رضعات أو كان بعد الحولين فلا أثر له. والرضعة المعتبرة شرعا أن يمتص الطفل اللبن من الثدي، فإذا تركه اعتبرت رضعة، فإذا عاد إليه صارت ثانية، وهكذا حتى يكمل خمسا. وبهذا يتضح أن المعتبر في الرضعة ما ذكر لا أن الرضعة يوم أو بعض يوم؛ إذ قد يكمل الطفل الرضاع المعتبر شرعا في أقل من ساعة وقد لا يتم له الرضاع الناشر للحرمة إلا في خمسة أيام فأكثر. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(9/74)
فتوى هامة
فتوى رقم 5730 وتاريخ 23 \ 6 \ 1493 هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على استفسار أحد السائلين وهو:
السؤال: وصلتني رسالة من شخص مجهول على عنواني وتجدونها رفق رسالتي - هذه - وكما ترون - هذه الرسالة تشتمل على أربع آيات كريمات من كتاب الله العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وذلك في المقدمة. وبعد ذلك شرع مرسلها ببيان ميزات عديدة وكبيرة لمن يقوم بطبعها وإرسالها تصل إلى حد الخيال وفي حدود أربعة أيام. وضرب عدة أمثلة من الخير حصلت لأناس طبقوا ذلك كما قام بضرب عدة أمثلة أخرى لمن يقوم(9/74)
بإهمالها من المصائب التي تحصل لمن لم يهتم بها.
صاحب الفضيلة إنني أعلم بأن القرآن الكريم يجب علينا المحافظة عليه والعمل به على كل الأحوال ولكن الذي أشغل بالي هو هذه الطريقة التي سردها مرسل الرسالة من الخير العظيم لمن يقوم بتوزيع الرسالة والشر الكبير لمن لا يهتم لها، وأنا أعلم بأن الخير والشر بيد الله ولا يصيبكم إلا ما كتب الله لكم. وإنني أتذكر قبل عدة سنوات قام بعض الناس بتداول رسالة مشابهة يزعمون أنها من الشيخ أحمد أحد بوابي مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقمتم بإيضاح الحقيقة في الصحف وبينتم حكمها؛ لذا أبعث لكم هذه الرسالة راجيا إيضاح ما ترونه نحوها وإفادتي جزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
* * *
الجواب: تحديد ما يترتب على كتابة آيات من القرآن أو قراءتها من الجزاء ثوابا أو عقابا عاجلا أو آجلا من الأمور التي اختص الله بعلمها؛ لأنها من الأسرار الغيبية التي استأثر الله بعلمها فلا يجوز لأحد أن يتكلم فيها إلا بتوقيف من الله وبيان منه بالوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يثبت في كتاب الله ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - في الآيات المذكورة - في السؤال - حث على كتابتها خاصة ولا على إرسالها وتداولها بخصوصها ولا بتحديد جزاء من كتبها وإرسالها إلى غيره بأجر وثواب أخروي ولا جزاء دنيوي من حفظ وغنى وتيسير أمر وكشف كربة، كما لم يرد وعيد فيها جزاء لمن لم يكتبها من موت أو فقر أو إصابة بحادث أو آفة أو نحو ذلك. فمن حدد جزاء لمن كتبها وأرسلها وحدد زمنا لذلك فقد تكلم رجما بالغيب وقال على الله بغير علم، وقد نهى الله سبحانه عن ذلك فقال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (1) وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (2)
__________
(1) سورة الإسراء الآية 36
(2) سورة الأعراف الآية 33(9/75)
وبذلك يعلم أن الدعوة إلى هذه النشرة وتحديد الثواب والعقاب عليها أمر منكر يستحق من فعله العقوبة من الله عز وجل كما يستحق العقوبة من ولاة الأمر منعا له من الإحداث في الدين ما لم يأذن به الله وردعا له ولغيره. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(9/76)
مباحث في القرآن الكريم
للدكتور
محمد تقي الدين الهلالي
اعلم - علمت خيرا ووقيت ضرا - أن مباحث القرآن وعلومه وفوائده وجواهره وأسراره لا تعد ولا تحصى وليست خاصة بزمان دون زمان، ففي كل زمان يظهر منها شيء كان خافيا من قبل كما قال الشاعر:
يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا
بل كما قال الله تعالى في آخر سورة فصلت: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (1)
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: أي سنظهر لهم دلالاتنا وحججنا على كون القرآن حقا منزلا من عند الله وعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدلائل خارجية في الآفاق من الفتوحات وظهور الإسلام على الأقاليم، وسائر الأديان.
قال مجاهد والحسن والسدي: ودلائل أنفسهم قالوا: وقعة بدر وفتح مكة، ونحو ذلك من الوقائع التي حلت بهم، نصر الله فيها محمدا - صلى الله عليه وسلم - وصحبه وخذل فيها الباطل وحزبه.
ويحتمل أن يكون المراد من ذلك، ما الإنسان مركب منه وفيه وعليه من المواد والأخلاط والهيئات العجيبة كما هو مبسوط في علم التشريح الدال على حكمة الصانع تبارك وتعالى، وكذلك ما هو مشغول عليه من الأخلاق المتباينة من حسن وقبح وغير ذلك وما هو متصرف فيه تحت الأقدار التي لا يقدر بحوله وقوته وحيله وحذره أن
__________
(1) سورة فصلت الآية 53(9/77)
يجوزها ولا يتعداها، كما أنشد ابن أبي الدنيا " في التفقه والاعتبار " عند شيخه أبي جعفر القرشي حيث قال، وأحسن المقال:
وإذا نظرت تريد معتبرا ... فانظر إليك ففيك معتبر
أنت الذي تمسي وتصبح في الدنيا ... وكل أموره عبر
أنت المصرف كان في صغر ... ثم استقل بشخصك الكبر
أنت الذي تنعاه خلقته ... ينعاه منها الشعر والبشر
أنت الذي تعطي وتسلب لا ... ينجيه من أن يسلب الحذر
أنت الذي لا شيء منه له ... وأحق منه بماله القدر
قال محمد تقي الدين الهلالي: أقتصر من ذلك على مثال واحد إذا تأملته حق التأمل ازددت يقينا بما ذكرته آنفا وذكره غيري من الباحثين من أن عجائب القرآن لا تنقضي قال تعالى في سورة الواقعة (71 - 74) : {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} (1) {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} (2) {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} (3) {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (4)
قال القانوجي في تفسيره: أفرأيتم النار التي تورون أي أخبروني عنها، ومعنى تورون تستخرجونها في القدح من الشجر الرطب، يقال: أوريت النار إذا قدحتها والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما على الآخر، ويسمون الأعلى الزند والأسفل الزندة شبهوهما بالفحل والطلوقة {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا} (5) التي تكون منها الزنود، وهي المرخ والعفار، تقول العرب في كل شجر نار واستنجد المرء والعفار، وزاد الجلال المحلي: الكلخ، نقل سليمان الجمل عن شيخه أنه قال: ولم نجده في القاموس ولا في المختار، غير أنه أخبره بعض أهل المغرب والشام بأنه موجود معروف عندهم شبيه بالقصب، تأخذ منه قطعتان، وتضرب إحداهما بالأخرى فتخرج النار.
وقوله: {أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} (6) لها بقدرتنا دونكم، ومعنى الإنشاء: الخلق، وعبر عنه بالإنشاء للدلالة على ما في ذلك من صنيع الصنعة وعجيب القدرة {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا} (7) أي النار التي في الدنيا تذكرة بنار جهنم الكبرى حيث علقنا بها أسباب المعاش وعممنا في الحاجة إليها البلوى، لتكون حاضرة للناس ينظرون إليها، ويذكرون ما أوعدوا به.
__________
(1) سورة الواقعة الآية 71
(2) سورة الواقعة الآية 72
(3) سورة الواقعة الآية 73
(4) سورة الواقعة الآية 74
(5) سورة الواقعة الآية 72
(6) سورة الواقعة الآية 72
(7) سورة الواقعة الآية 73(9/78)
قال مجاهد وقتادة: " تبصرة للناس في الظلام "، وقال عطاء: " موعظة ليتعظ بها المؤمن. . " وقال ابن عباس: " تذكرة للنار الكبرى "، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم، قالوا والله إن كانت لكافية يا رسول الله؟ قال: فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلها مثل حرها (1) » أخرجه البخاري ومسلم.
وقوله: {وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} (2) أي للمسافرين قاله ابن عباس، يعني منفعة للذين ينزلون بالقواء، وهي الأرض القفر، كالمسافرين وأهل البوادي النازلين في الأراضي المقفرة يقال: أرض القفاء بالمد والفصل أي مقفرة. ويقال: أقوى إذا سافر أي نزل القوى، وخصوا بالذكر، لأن منفعتهم بها أكثر من المقيمين فإنهم يوقدونها بالليل لتهرب السباع، ويهتدي الضال إلى غير ذلك من المنافع.
وقال مجاهد: المقوين المستمتعين بها من الناس أجمعين في الطبخ والخبز والاصطلاء والاستضاءة وتذكرنا جهنم، وقال ابن زيد: للجائعين في إصلاح طعامهم، يقال: أقويت منذ كذا وكذا، أي ما أكلت شيئا، وبات فلان للقوى أي جائعا.
وقال قطرب: القوى من الأضداد: يكون بمعنى الفقر، ويكون بمعنى الغنى يقال أقوى الرجل إذا لم يكن معه زاد وأقوى إذا قويت دوابة وكثر ماله. والمعنى جعلناها منا ومنفعة للأغنياء والفقراء لا غنى لأحد عنها، وقال المهدوي: الآية تصلح للجميع؛ لأن النار يحتاج إليها المسافر والمقيم والغني والفقير، وحكى الثعلبي عن أكثر المفسرين القول الأول وهو الظاهر، انتهى.
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3265) ، صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2843) ، سنن الترمذي صفة جهنم (2589) ، مسند أحمد بن حنبل (2/467) ، موطأ مالك الجامع (1872) ، سنن الدارمي الرقاق (2847) .
(2) سورة الواقعة الآية 73(9/79)
انتفاع المسافرين بالنار في هذا الزمان
قد رأيت في كلام أئمة التفسير أن المقوين هم المسافرون، وأن الله جعل لهم النار متاعا يستمتعون بها في أسفارهم، ورأيت ما ذكره المفسرون في استمتاعهم بها وقد ظهرت في هذا الزمان أنواع من الاستمتاع بالنار للمسافرين لم تكن تخطر بالبال فمنها القطر، جمع قطار، وهي سفن البر التي تسير ليلا ونهارا في جميع أنحاء المعمورة،(9/79)
منها السريع والمتوسط والبطيء، تحمل المسافرين وأمتعتهم - بالغة ما بلغت في الثقل - وتحمل البضائع من قطر إلى قطر ومن صقع إلى صقع وتحمل الأطعمة لكثير من القرى والمحطات التي لا تعيش إلا على ما تحمله القطر إليها.
هذا النوع من المتاع للمسافرين أولا، وللمقيمين ثانيا قوامه النار، فهي التي تسير القطار وتضيئها وتطبخ أطعمتها، وتدفئ أهلها، وهي على أنواع، غير ما تقدم.
فمنها التي تسير في سككها على وجه الأرض، ومنها التي تسير تحت الأرض في أنفاق طويلة مشتبكة، ينزل إليها عشرين درجة أو أكثر، وتكون في طبقات تحت الأرض، قطر في الطبقة المباشرة لوجه الأرض، وهناك طبقة تحتها تسير فيها قطر أخرى، وهناك طبقة ثالثة، كما يعلم ذلك من أقام في برلين وباريس ولندن وهناك نوع من القطر يسير على قضبان ممدودة على أعمدة في سماء المدينة كلها في ارتفاع يحاذي الطبقة الخامسة والسادسة من البيوت، حتى أن الإنسان إذا كان راكبا فيها يرى السيارات على وجه الأرض كأنها حشرات كما في مدينة برلين.
ومنها القطر التي ترفع المسافرين وأمتعتهم، والبضائع والأغذية إلى الفنادق المبنية على قمم الجبال المرتفعة العالية آلاف الأمتار كما في سويسرا والنمسا وغيرها، وهذه القطر تسير بالكهرباء، ولها أعمدة حديدية يلتصق بها القطار فيرتفع في الهواء فوق غابات جبلية يندر أن يصل إليها الناس بأقدامهم أو على الدواب ولا يشاهدون ما فيها من الوحوش والأشجار إلا إذا كانوا راكبين في تلك القطر وهي صاعدة بهم.
وسكان تلك الفنادق متوقفون في معيشتهم على تلك القطر، لا يصل إليهم من الأرض إلا ما حملت وهم يعيشون في تلك الفنادق عيشة راضية لا ينقصهم شيء مما يوجد في المدينة أسفل منهم ومحطات هذه القطر تعلو عن وجه الأرض بمقدار أربعمائة درجة منها ينبعث القطار صاعدا في الجو وله منظر عجيب.
ومنها البواخر الجواري في البحر كالأعلام، أي كالجبال وقد ذكرها الله سبحانه وتعالى في سورة الشورى في قوله جل من قائل (32 - 35) : {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} (1) {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (2) {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} (3) {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} (4)
__________
(1) سورة الشورى الآية 32
(2) سورة الشورى الآية 33
(3) سورة الشورى الآية 34
(4) سورة الشورى الآية 35(9/80)
قال القاسمي في تفسير هذه الآيات: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي} (1) أي السفن الجارية {فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} (2) أي الجبال {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} (3) أي فيبقين ثوابت على ظهر البحر {إِنَّ فِي ذَلِكَ} (4) أي في جري هذه الجواري في البحر في تسخير الله تعالى الرياح بجرها {لَآيَاتٍ} (5) أي لعبرة وعظة وحجة بينة على القدرة الأزلية {لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (6) أي لكل مؤمن وإنما آثر المذكورين تذكيرا بما ينبغي أن يكون المؤمن عليه من وفرة الصبر، وكثرة الشكر إذ لا يكمل الإيمان بدونهما، والإيمان نصفان، نصف صبر ونصف شكر. انتهى.
وفي الزمان السابق كانت السفن صغارا لا تشبه بالجبال إلا على ضرب من التجوز والتسامح، أما في زماننا هذا فقد صنعت سفن كالسفينة الإنكليزية المسماة " ماري كوين " أي الملكة مارية، وحمولتها ثمانون ألف طن وسمعت أن اليابانيين صنعوا سفينة من ناقلات الزيت حمولتها مائتا ألف طن فهذه السفن شبيهات بالجبال يستمتع المسافرون فيها بالنار أنواعا من المتاع، فالنار هي التي تحملهم وتسيرهم، وتجعل سفينتهم في الليل الحالك قطعة من النور وفيها مطاعمهم، ودور اللهو كالمسرح، ودور الصور المتحركة وآلات النقل للأثقال من الأرض إلى الباخرة ومن الباخرة إلى الأرض في المراسي وفي عرض البحر كل ذلك استمتاع بالنار، ومنها الطائرات بجميع أنواعها، فإنها تسير بالنار، والمسافرون فيها يستمتعون بسبب النار أنواعا من الاستمتاع، لولا وجود النار ما قدروا على شيء منها، ومنها الصواريخ والأقمار الصناعية والسفن الفضائية التي تخرق الغلاف الجوي للأرض كأنها السهام المنبعثة من القسي، أو الرصاص المنبعث من البنادق فتشق ذلك السقف المحفور، وتخرج إلى الفضاء الخالي، فتجول فيه دائرة حول الأرض أياما وليالي كثيرة، لأن يومها وليلتها لا يزيدان على ساعة ونصف ثم ترجع إلى الأرض التي منها خلقت وفيها صنعت بإذن العليم الحكيم.
وأما قوله تعالى في سورة الرحمن (33 - 35) : {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لاَ تَنْفُذُونَ إلاَّ بِسُلْطَانٍ} (7) {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (8) {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَان} (9)
__________
(1) سورة الشورى الآية 32
(2) سورة الشورى الآية 32
(3) سورة الشورى الآية 33
(4) سورة الشورى الآية 33
(5) سورة الشورى الآية 33
(6) سورة الشورى الآية 33
(7) سورة الرحمن الآية 33
(8) سورة الرحمن الآية 34
(9) سورة الرحمن الآية 35(9/81)
قال البيضاوي: إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السماوات والأرض، هاربين من الله، فارين من قضائه فانفذوا، فاخرجوا {لاَ تَنْفُذُونَ} (1) لا تقدرون على النفوذ {إلاَّ بِسُلْطَانٍ} (2) إلا بقوة وقهر وأنى لكم ذلك. أو إن قدرتم أن تنفذوا لتعلموا ما في السماوات والأرض فانفذوا لتعلموا، لكن لا تنفذون ولا تعلمون إلا ببينة نصبها الله تعالى فتعرجون بأفكاركم عليها {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (3) أي من التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة، أو مما نصب من المصاعد العقلية والمعارج النقلية، فتنفذون بها إلى ما فوق السماوات العلى {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ} (4) لهب من نار ونحاس ودخان قال:
تضيء كضوء سراج السليط ... لم يجعل الله فيه نحاسا
أو صفر مذاب يصب على رؤوسهم {فَلاَ تَنْتَصِرَانِ} (5) فلا تمتنعان {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (6) فإن التهديد لطف والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفار في عداد الآلاء. انتهى.
قوله " تضيء كضوء سراج السليط ": هو الزيت والنحاس. ولم يجئ في هذه الآيات تفسير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد اختلف المفسرون فيها، فلا حرج علينا أن نفسرها بما يوافق لغة العرب ووقائع علم البيئة، ففيها تحد للجن والإنس أنهم مكبلون بقدرة الله في هذه الأرض، لا يستطيعون أن يخرجوا من فضاء الله، وما لهم مهرب ولا محيص فإن الله ربط حياتهم وسلامتهم بهذا الغلاف الجوي لا يستطيعون اختراقه والخروج عنه إلا بقوة من الله ليمنحهم إياها متى شاء على القدر الذي يريده، أما الأرض فقد سخرها لهم وجعلها واسعة مذللة، وأذن لهم أن يمشوا في مناكبها، ويأكلوا من رزقه في جميع أرجائها، برها وبحرها، لا حرج عليهم، أما الخروج عنها فلا يمكنهم إلا بالقدر الذي يريده الله بما يشاء وبالسلطان الذي يمنحهم مع بقائهم مرتبطين بالأرض منها يتزودون، غذاء وهواء، وأخبارا، وإليها يرجعون اضطرارا.
فكل سفينة تسعى لاختراق هذا الجو المحيط بالأرض الذي هو جو الحياة المحفوظ من
__________
(1) سورة الرحمن الآية 33
(2) سورة الرحمن الآية 33
(3) سورة الرحمن الآية 34
(4) سورة الرحمن الآية 35
(5) سورة الرحمن الآية 35
(6) سورة الرحمن الآية 36(9/82)
الآفات السماوية من الشهب والنيازك والإشعاع القاتل، تعرض نفسها للاحتراق بالنار والنحاس، فإن شاء الله منحها سلطانا تتغلب به وتنتصر على الشواظ من النار والنحاس وإن لم يشأ احترقت وتلاشت، فسبحان العزيز العليم.
قال القاسمي في تفسير هذه الآية: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ} (1) أي لتوحيده {يَشْرَحْ} (2) أي يوسع {صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} (3) بتثقيله بنور الهداية، فيقبل نور الحق كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} (4) روى عبد الرزاق «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن هذه الآية كيف يشرح صدره؟ قال: نور يقذف فيه فينشرح له وينفسح. قالوا: فهل لذلك من أمارات يعرف بها؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت» . رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم. قال ابن كثير: وللحديث طرق مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضا، {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} (5) أي شديد الضيق فلا يتسع للاعتقادات الصائبة في الله، والأمور الأخروية. وقوله {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (6) أي يتكلف الصعود في جهة السماء، وطبعه يهبط إلى الأرض فشبه للمبالغة في ضيق صدره من يزاول أمرا غير ممكن؛ لأن صعود السماء مثل فيما يمتنع ويبعد من الاستطاعة، وتضيق عنه المقدرة. انتهى.
وليس مقصودي بهذه الإشارة أنه استوعب ما ظهر في الآفاق للعلماء والباحثين فقد ألف في ذلك الإمام السلفي خاتمة المحققين وسيف الله المسلط على المبتدعين السيد محمود شكري الألوسي البغدادي جزءا لطيفا سماه (ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئات الجديدة القويمة البرهان) ولم يتعرض رحمه الله للآيات التي ذكرتها من سورة الواقعة والرحمن، فأكتفي بهذا القدر الذي سقته على سبيل التنبيه.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 125
(2) سورة الأنعام الآية 125
(3) سورة الأنعام الآية 125
(4) سورة الحجرات الآية 7
(5) سورة الأنعام الآية 125
(6) سورة الأنعام الآية 125(9/83)
فضائل القرآن وشروطها
اعلم أن للقرآن حياة بلا موت، وغنى بلا فقر وعزا لا ذل معه، وسعادة لا(9/83)
يخالطها ولا يعقبها شقاء، وقوة أبدية، ونصرا سرمديا، وفضائله لا تعد ولا تحصى ولكن لإدراكها شروط لا تنال بدونها البتة، وهذه الشروط مبينة في الكتاب وفي بيانه وهو السنة، ولو أردت أن أستوعب ما وصل إليه علمي القاصر من هذه الفضائل المشروطة لطال الكلام حتى يبلغ مجلدات، لذلك أقتصر على ذكر شيء من ذلك وفي بعضه كفاية فمن آيات الكتاب العزيز.
1 - قوله تعالى في سورة النساء (174 - 175) : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} (1) {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (2)
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: يقول تعالى مخاطبا لجميع الناس، مخبرا بأنه قد جاء منه برهان عظيم، وهو الدليل القاطع للعذر والمحبة المزيلة للشبهة، ولهذا قال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} (3) أي ضياء واضحا على الحق، قال ابن جريج وغيره، وهو القرآن: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا} (4) أي جمعوا بين مقام العبادة والتوكل على الله في جميع أمورهم، قال ابن جريج: آمنوا بالله واعتصموا بالقرآن، رواه ابن جرير. وقوله تعالى: {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ} (5) أي يرحمهم فيدخلهم الجنة، ويزيدهم ثوابا ومضاعفة، ورفعا في درجاتهم من فضله عليهم، وإحسانه إليهم {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (6) أي طريقا واضحا قصدا قواما لا اعوجاج فيه ولا انحراف، وهذه صفة المؤمنين في الدنيا والآخرة فهم في الدنيا على منهاج الاستقامة وطريق السلامة في جميع الاعتقادات والعمليات، وفي الآخرة على صراط الله المستقيم المفضي إلى روضات الجنات. انتهى.
2 - قال تعالى في سورة المائدة (16) : {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (7)
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: يخبر تعالى عن نفسه الكريمة أنه قد أرسل رسوله بالهدى ودين الحق إلى جميع أهل الأرض عربهم وعجمهم، أميهم وكتابيهم، وأنه بعثه بالبينات والفرق بين الحق والباطل فقال تعالى:
__________
(1) سورة النساء الآية 174
(2) سورة النساء الآية 175
(3) سورة النساء الآية 174
(4) سورة النساء الآية 175
(5) سورة النساء الآية 175
(6) سورة النساء الآية 175
(7) سورة المائدة الآية 16(9/84)
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (1) أي: يبين ما بدلوه وحروفه وأولوه وافتروا على الله فيه ويسكت عن كثير مما غيروه ولا فائدة في بيانه. وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث ابن عباس قال: (من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب) {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} (2) فكان الرجم مما أخفوه، ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ثم أخبر تعالى عن القرآن العظيم الذي أنزله على رسوله الكريم فقال: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (3) {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} (4) أي طرق النجاة والسلامة ومناهج الاستقامة، {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (5) أي: ينجيهم من المهالك، ويوضح لهم أبين المسالك فيصرف عنهم المحظور، ويحصل لهم أحب الأمور وينفي عنهم الضلالة ويرشدهم إلى أقوم حالة. انتهى.
نفهم من آيتي النساء وآية المائدة أمورا:
الأول: أن القرآن نور وبرهان من الله تعالى، أما كونه نورا فإنه يخرج كل أمة آمنت به وعملت بمقتضاه واتخذته إماما وحكما من ظلمات الشقاء المادي والروحي إلى نور السعادة الكبرى، حتى تكون أسعد الأمم في حياتها من جميع الوجوه، ولا تكاد تساويها في ذلك أمة أخرى من الأمم المخالفة، وذلك بعينه هو ما حدث للعرب الذين استضاءوا بنور القرآن، ولكل أمة استضاءت به بعدهم.
وأما كونه برهانا، فإنه حجة من الله تعالى على خلقه جميعا، فأي جماعة استمسكت به ظهرت وانتصرت وفازت وعلت، وبذلك تتم الحجة على غيرها من الأمم التي سلكت غير مسلكها.
وقوله سبحانه: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (6) دليل عل أن الإيمان بالله، والاعتصام بالقرآن - كما قال ابن جريج - شرط في الاستضاءة بذلك النور والخروج من ظلمات الشقاء فمن اعتل إيمانه بالله ولم يعتصم بالقرآن ولم يعمل به ولا اتخذه إماما وحكما لا يستضيء بنوره، ولا يخرج من ظلمات شقائه، والرحمة هنا هي السعادة
__________
(1) سورة المائدة الآية 15
(2) سورة المائدة الآية 15
(3) سورة المائدة الآية 15
(4) سورة المائدة الآية 16
(5) سورة المائدة الآية 16
(6) سورة النساء الآية 175(9/85)
الدنيوية والأخروية جميعا، أي سعادة البدن والروح، العاجل والآجل، والفضل هو زيادة الإكرام والإنعام لمتبعي ذلك النور فوق ما يخطر ببالهم حتى يدهشوا ويتحيروا ويغبطوا. وقوله سبحانه: {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (1) أي يديم عليهم نعمته ويسلك بهم طريق السعادة، وهذا الصراط هو المعبر عنه في آية المائدة بـ {سُبُلَ السَّلَامِ} (2)
الثاني: في آية المائدة خطاب لأهل الكتاب وهم اليهود والنصارى، وحث لهم على الإيمان بخاتم النبيين رسول رب العالمين محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه يبين لهم كثيرا مما أخفوه في كتبهم لآية الرجم ويعفو عن الكثير مما تدعو الضرورة إلى بيانه فيتركه مستورا.
الثالث: أن الله سبحانه أخبرهم بأنه قد جاءهم منه نور وبرهان كما قد جاء غيرهم، وهذا النور والبرهان هو كتاب الله القرآن، فالعطف عطف تفسير كما في قول الشاعر:
ألا حبذا هند وأرض بها هند ... وهند أتى من دونها النأي والبعد
فالنأي هو البعد، وقال عنترة:
حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
فالإقواء هو الإقفار، وقال عدي بن زيد:
فقد دث الأديم ... وألفى قولها كذبا ومينا
والمين هو الكذب ومثله قوله تعالى في سورة البقرة (53) {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (3) فالفرقان هو الكتاب.
وأخبر سبحانه بأنه يهدي بذلك الكتاب المبين من اتبع رضوانه، و (من) من ألفاظ العموم تصدق على الفرد والجماعة، فكل من اتبع رضوان الله بأن عمل بما في كتابه واستضاء بنوره فاتخذه إماما وحكما، وتخلق بما فيه من الأخلاق يهديه الله سبل السلام، أي طرق السلامة في الدنيا والآخرة، فلا يسلك سبيلا إلا صحبته السلامة ويخرجهم أي المستضيئين بنور القرآن من الظلمات إلى النور، وظلمات الحياة كثيرة، والنور هو زوالها، ولذلك أفرد (بإذنه) أي بتوثيقه وإرادته، ويهديهم في جميع أعمالهم إلى صراط مستقيم، وهو الاعتدال في أعمالهم وأحكامهم بلا إفراط ولا تفريط لتمسكهم
__________
(1) سورة النساء الآية 175
(2) سورة المائدة الآية 16
(3) سورة البقرة الآية 53(9/86)
بالقرآن الذي هو الميزان، كما سيأتي في حديث الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب مرفوعا «ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم (1) » .
1 - وقال تعالى في سورة الأعراف (2 - 3) {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (2) {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (3)
قال الخازن: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} (4) يعني هذا الكتاب أنزله الله إليك يا محمد وهو القرآن {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} (5) يعني فلا يضق صدرك بالإبلاغ وتأدية ما أرسلت به إلى الناس، انتهى. {لِتُنْذِرَ بِهِ} (6) أي بالقرآن جميع الناس تخوفهم من عذاب الله في العاجل أو الآجل إذا أعرضوا عنه ولم يتبعوه {وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (7) أي لتذكر وتعظ به المؤمنين فإنهم المنتفعون بالموعظة والذكرى، ثم قال تعالى مخاطبا جميع الناس {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (8) وهو هذا القرآن {وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (9) من شياطين الإنس والجن، توالونهم على خلاف القرآن، والمؤمنون المنتفعون بالقرآن هم الموصوفون في أول السورة التي تلي هذه، وهي سورة الأنفال (2 - 4) {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (10) {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (11) {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (12)
عبر سبحانه وتعالى بـ (إنما) التي هي للحصر، وأكد هذا الحصر في آخر الآيات، {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (13) وقد تضمنت هذه الآيات خمس صفات لا يتم الإيمان بدونها، الأولى وجل القلب أي خوفه عند ذكر الله
الثانية زيادة الإيمان عند سماع آيات الله تتلى
الثالثة: التوكل على الله والاعتماد عليه وحده لا شريك له في جلب المنافع ودفع المضار، والثقة بوعده.
الرابعة: إقامة الصلاة، أي أداؤها قائمة كاملة تامة بالمحافظة على أوقاتها وطهارتها وجماعتها وأركانها وآدابها، والخشوع فيها، وكونها مطابقة لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقوله عليه السلام «صلوا كما رأيتموني أصلي (14) » رواه البخاري.
الخامسة: إنفاق المؤمن مما رزقه الله، زكاة وغيرها، والمتصفون بهذه الصفات
__________
(1) سنن الترمذي فضائل القرآن (2906) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3331) .
(2) سورة الأعراف الآية 2
(3) سورة الأعراف الآية 3
(4) سورة الأعراف الآية 2
(5) سورة الأعراف الآية 2
(6) سورة الأعراف الآية 2
(7) سورة الأعراف الآية 2
(8) سورة الأعراف الآية 3
(9) سورة الأعراف الآية 3
(10) سورة الأنفال الآية 2
(11) سورة الأنفال الآية 3
(12) سورة الأنفال الآية 4
(13) سورة الأنفال الآية 4
(14) صحيح البخاري الأذان (631) .(9/87)
يعلي الله درجاتهم في الدنيا والآخرة وينصرهم في الدنيا والآخرة ولهم رزق كريم في الدنيا والآخرة وهم المتبعون للقرآن السعداء به، واقتصر على هذا القدر من آيات كتاب الله العزيز، لأن المقام لا يتسع لأكثر منها - وفيها بيان كاف.(9/88)
الأحاديث النبوية في هذا المعنى
1 - عن النواس بن سمعان قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما (1) » رواه مسلم.
الظلة والغمامة: ما أظل الإنسان فوق رأسه كالسحاب ونحوه، والفرقان تثنية فرق بالكسر، وهو السرب من الطير، والشرق الضوء والنور، وتحاجان عن صاحبهما: أي تشفعان له، والشاهد في قوله وأهله الذين كانوا يعملون به في أن أهل القرآن حقا هم الذين يقرءونه ويعملون به، أما الذين يقرءونه ولا يعملون به فليسوا بأهله، ولا ينالون هذا الفصل.
عن الحارث الأعور قال: مررت بالمسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث فدخلت على علي فأخبرته فقال: أو قد فعلوها؟ قلت نعم، قال أما إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ألا إنها ستكون فتنة، قلت: ما المخرج يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أذله الله وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع به العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا من قال به صدق ومن عمل به أجر، ومن حكم به
__________
(1) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (805) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2883) ، مسند أحمد بن حنبل (4/183) .
(2) سنن الترمذي فضائل القرآن (2906) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3331) .
(3) سورة الجن الآية 1 (2) {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}(9/88)
عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم (1) » ، رواه الدارمي والترمذي وقال: هذا حديث في إسناده مجهول وفيه الحارث ثم قال:
ليس لهذا الحديث إسناد صحيح، ولكن معناه صحيح، ولذلك رواه المنذري في الترغيب والترهيب، والبغوي في المصابيح، وابن كثير في التفسير، والأحاديث التي كانوا يخوضون فيها وشغلتهم عن القرآن هي القصص والأخبار والحكايات التي لا طائل تحتها، والمساجد إنما بنيت للصلاة وذكر الله، وخير الكلام كلام الله، وبه ينبغي أن تعمر المساجد لا بالرأي والأباطيل، قال الشعبي رحمه الله: والله لقد بغض إلى أهل الرأي المسجد، حتى لهو أبغض إليهم من كناسة المسجد.
وقوله أوقد فعلوها إنكار عليهم، والضمير عائد على الفعلة الشنيعة، وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجيء الفتن بعد زمانه عليه الصلاة والسلام، ولا شك أن من تمسك بكتاب الله وسنة رسوله التي هي بيانه عصمه الله من الفتن في كل زمان ومكان، وفي زماننا هذا فتن عظيمة ولا مخرج منها للدول والشعوب وآحاد الناس إلا باتباع القرآن اتباعا حقيقيا، والعمل به وتحكيمه ورفع رايته، وقوله نبأ ما قبلكم أخبار الأمم السابقة وما أصابها من العذاب بإعراضها عن كتب الله ورسل الله، وخبر ما بعدكم من سوء عواقب الظالمين والفاسقين عن أمر الله، والمتعدين لحدود الله، وأشراط الساعة، فمن تمسك به هداه الله دائما سبل السلام كما تقدم في آية المائدة وحكم ما بينكم الأحكام الشرعية التي تحتاج إليها الأمة إلى يوم القيامة.
وقوله هو الفصل أي الفاصل بين الحق والباطل، وليس فيه شيء من الهزل، بل هو جد كله من تركه من جبار قصمه الله أي ترك القرآن من الجبارين القاهرين لخلق الله المتعالين عن حكم الله، قصمه الله، أي أهلكه ومن ابتغى الهدى أي طلب الحق والرشاد والعدل في غير القرآن أي مما يضاد القرآن ويناقضه أضله الله أي أخرجه عن سبل السلام وأوقعه في سبل الهلاك. وقوله وهو حبل الله المتين قال الحافظ ابن كثير عن أبي جعفر الطبري بسنده إلى أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء والأرض (2) » وروى ابن مردويه بسنده إلى عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن هذا القرآن هو حبل الله المتين وهو النور المبين وهو الشفاء النافع عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه (3) » ، وروي
__________
(1) سورة الجن الآية 2 (3) {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ}
(2) سنن الترمذي المناقب (3788) ، مسند أحمد بن حنبل (3/17) .
(3) سنن الترمذي فضائل القرآن (2906) ، مسند أحمد بن حنبل (1/91) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3331) .(9/89)
من حديث حذيفة وزيد بن أرقم نحو ذلك. انتهى.
فمن تمسك بالقرآن كما تمسك به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصالحون من بعدهم من جماعات وآحاد أوصله إلى السعادة الأبدية، ومن أعرض عنه، فإن له معيشة ضنكا، أي ضيقة نكدة في هذه الدنيا، ويحشره الله يوم القيامة أعمى لأنه كان في الدنيا أعمى لا يستضيء بنور القرآن، {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا} (1) فكل ما أصاب المنتمين إلى الإسلام في هذا الزمان هو بسبب إعراضهم عن القرآن، ومن شك فليجرب، وكيف يشك عاقل في ذلك، وهذا تاريخ المسلمين أمامنا، كأننا ننظر إليه بأعيننا مطابق لهذا الوعيد كل المطابقة، وقد اعترف بهذا الموافق والمخالف حتى الملحدون أعداء الدين اعترفوا بأن القرآن هو الذي نفخ في أتباعه روح الحياة، وبعثهم على اقتباس المدنيات وعلوم الحضارة كما قرره (جوزيف ماك كيب) ، ونقله عن كبار الفلاسفة الملحدين في كتابه (مدينة العرف في الأندلس) في أكثر من موضع، ويحتمل أن يكون الحبل بمعنى العهد في قوله تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} (2) من أعرض عن القرآن فقد نقض عهد الله، فالمعنيان متلازمان.
قوله لا تزيغ به الأهواء يعني أن من كان هواه تبعا للقرآن، يحيي ما أحيا القرآن، ويميت ما أمات القرآن، ويثبت ما أثبته القرآن، وينفي ما نفاه القرآن، ويرفع ما رفعه القرآن، ويخفض ما خفضه القرآن، ويدور معه كيفما دار، فهو سعيد موفق منصور مهتد؛ لأن القرآن هو الصراط المستقيم، فمن خرج عنه وقع في الزيغ والهلاك، ويشابه هذا المعنى حديث الأربعين، قال النووي: عن أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به (3) » حديث حسن صحيح، رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح.
ومصداقه في كتاب الله عز وجل، قال تعالى في سورة النساء (65) {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (4) فلا تصح دعوة الإيمان ولا تدرك ثمرته، وهي السعادة إلا برد كل نزاع إلى كتاب الله وسنة رسوله، والرضا بما يصدر عنهما من حكم مع التسليم والإذعان والمحبة.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 72
(2) سورة آل عمران الآية 103
(3) أخرجه الخطيب في تاريخه (4\491) ، والبغوي في شرح السنة (ح\104) ، والحسن بن سفيان كما في فتح الباري، وقال ابن حجر: رجاله ثقات، وقد صححه النووي في آخر الأربعين. انظر: فتح الباري (13\289) .
(4) سورة النساء الآية 65(9/90)
وقوله ولا تلتبس به الألسنة لأن الله يسر تلاوته وتدبره على العرب والعجم، ولذلك تجد المجودين والمتضلعين في علوم القرآن من الشعوب الأعجمية أكثر مما تجدهم من العرب.
فقد جرت مباراة في ماليزيا بالشرق الأقصى في تجويد القرآن وحسن تلاوته اشترك فيها أربعة عشر قطرا، رجالا ونساء، ففاز بالجائزة الأولى قراء ماليزيا وقارئاتها، وفاز بالجائزة الثانية قراء إندونيسيا وقارئاتها {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (1)
ولا يشبع منه العلماء لأن فوائده لا نهاية لها، فمن شبع منه فهو من الجاهلين، والأستاذ (محمد مارماديوك) الإنجليزي النسب - رحمه الله - في مقدمة تفسيره للقرآن بالإنجليزية كلام حسن في هذا المعنى، وليس تحت يدي الآن نسخة منه لكي أنقله، وكذلك الأستاذ الفرنسي (خير الدين زيني) في تفسيره للقرآن بالفرنسية رحمه الله.
ولا يخلق عن كثرة الرد أي لا يبلى مع كثيرة التلاوة وإعادتها ولا يمل ولا تنقضي عجائبه أي أودع الله في القرآن حكما وأسرارا لا نهاية لها فلا تزال تظهر للمفكرين والمتدبرين فيتعجبون منها، هو الذي سمعته الجن فأجلته وأكبرته، وبهرها حتى قالت {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} (2) {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} (3) إلى الخير والعدل والحق، وأهم ذلك توحيد الله، ولذلك قالوا {وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} (4) وسائر ما قالوه في سورة الجن يدل على شدة تأثير القرآن فيهم، وقوله من قال به أفتى بمقتضى ما فيه صدق أي أصاب الحق، ومن أفتى بخلافه كذب ومن عمل به نجا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، ومن لم يعمل به هلك هلاكا أبديا ومن حكم به عدل ومن حكم بخلافه تعدى وظلم ومن دعا إليه أي إلى تحكيمه والعمل به فقد هدي بصيغة المجهول والمعلوم، وهما متلازمان، لأنه الهادي إلى الصراط المستقيم مهدي.
__________
(1) سورة القمر الآية 17
(2) سورة الجن الآية 1
(3) سورة الجن الآية 2
(4) سورة الجن الآية 2(9/91)
تجويد القرآن
اعلم أن تجويد القرآن فرض على كل قارئ، وتعليمه فرض كفاية على أهل(9/91)
كل بلد، فإن تركوه وأهملوه أثموا جميعا، وقد نص العلماء على ذلك، وحرروه أتم التحرير، غير أن هذا المقال قد طال - لذلك أردت أن ألم به إلماما.
قال ابن الجزري في المجلد الأول من كتابه (النشر في القراءات العشر) ص210 ما نصه: التجويد مصدر من جود تجويدا، والاسم منه الجودة ضد الرداءة يقال: جود فلان في كذا إذا فعل ذلك جيدا، فهو عندهم عبارة عن الإتيان بالقراءة مجودة الألفاظ، بريئة من الرداءة في النطق، ومعناه انتهاء الغاية في التصحيح وبلوغ النهاية في التحسين.
ولا شك أن الأمة كما هم متعبدون بفهم معاني القرآن وإقامة حدوده، فهم كذلك متعبدون بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراءة، المتصلة بالحضرة النبوية الأفصحية العربية، التي لا تجوز مخالفتها ولا العدول عنها إلى غيرها.
والناس في ذلك بين محسن مأجور، ومسيء آثم أو معذور، فمن قدر على تصحيح كلام الله تعالى باللفظ الصحيح العربي الفصيح، وعدل إلى اللفظ الفاسد العجمي أو النبطي القبيح، استغناء بنفسه، واستبدادا برأيه وحدسه، واتكالا على ما ألف من حفظه، واستكبارا عن الرجوع إلى عالم يوقفه على صحيح لفظه فإنه مقصر بلا شك، وآثم بلا ريب، وغاش بلا مرية، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «الدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) » .
أما من كان لا يطاوعه لسانه، أو لا يجد من يهديه إلى الصواب، فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولهذا أجمع من نعلمه من العلماء على أنه لا تصح صلاة قارئ خلف أمي، وهو من لا يحسن القراءة، واختلفوا في صلاة من يبدل حرفا بغيره، سواء تجانسا أم تقاربا وأصح القولين عدم الصحة. ثم نقل عن الشيخ أبي عبد الله نصر بن علي بن محمد الشيرازي في كتابه الموضوع في وجوب القراءات في التجويد منه ما نصه: " فإن حسن الأداء فرض في القراءة، ويجب على القارئ أن يتلو القرآن حق تلاوته، صيانة للقرآن عن أن يجد اللحن والتغيير إليه سبيلا ".
ثم مضى إلى أن قال: " فالتجويد هو حلية التلاوة، وزينة القرآن وهو إعطاء
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4197) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .(9/92)
الحروف حقوقها وترتيبها في مراتبها، ورد الحرف إلى مخرجه وأصله، وإلحاقه بنظيره وتصحيح لفظه، وتلطيف النطق به على حال صيغته، وكمال هيئته، من غير إسراف ولا تعسف، ولا إفراط ولا تكلف، وإلى ذلك أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ قراءة ابن أم عبد (1) » يعني عبد الله بن مسعود " وكان قد أعطي حظا عظيما في قراءة القرآن وتحقيقه وترتيله كما أنزله الله تعالى.
وناهيك برجل أحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسمع القرآن منه، ولما قرأ أبكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
كما ثبت في الصحيحين، وروينا بسند صحيح عن أبي عثمان النهدي قال صلى بنا ابن مسعود المغرب بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2) ووالله لوددت أنه قرأ بسورة البقرة من حسن صوته وترتيله.
والأخذ بالتجويد حتم لازم ... من لم يجود القرآن آثم
لأن به الإله أنزل ... وهكذا منه إلينا وصلا
وهو أيضا حلية التلاوة ... وزينة الأداء والقراءة
فواجب عليهم محتم ... قبل الشروع أولا أن يعلموا
مخارج الحروف والصفات ... ليلفظوا بأفصح اللغات
وهذا الواجب مضيع في المغرب لا يقوم بأدائه إلا النادر من أهل العلم، مع أن المغرب أحق الناس بالعناية بإصلاح اللسان لاختلاطهم مع الأعاجم وإبدال كثير منهم بعض الحروف، كالجيم يبدلونها زايا، والتاء يبدلونها بحرف ألماني بين التاء والسين، والثاء ينطقون بها مثل ذلك، والذال يبدلونها دالا مهملة، والظاء يبدلونها ضادا، والشين يبدلونها سينا، وقد يبدل هؤلاء السين شينا، يرتكب ذلك حتى من ينسب إلى العلم منهم من غير نكير، وقد أشار إلى ذلك المحقق ابن عبد السلام الفاسي في كتابه الذي ألفه في القرآن وعلومه وآدابه في المجلد الأول قال: اللحن لحنان: جلي، وخفي، فالجلي: لحن الإعراب، والخفي: لحن ترك إعطاء الحرف حقه من تجويد لفظه، وذلك إما بالنسبة إلى مخارجها، بأنه لا تعطى حقها الواجب لها.
__________
(1) سنن ابن ماجه المقدمة (138) ، مسند أحمد بن حنبل (1/7) .
(2) سورة الإخلاص الآية 1(9/93)
وإما بالنسبة إلى صفاتها التي تحقق ذاتها وتفصلها عما يشاركها أو يقاربها، وإما بالنسبة إلى تبديلها بغيرها كجعل الظاء المعجمة مكان الضاد، وكجعل السين مكان الشين المعجمة، وكجعل الزاي مكان الجيم، وكجعل الغين المعجمة مكان الراء، وكجعل الهمزة مكان القاف، إلى غير ذلك مما يطول تتبعه مما نسمعه من ألسنة الناس. انتهى.
وقد سمعت بأذني قارئا يقرأ قوله تعالى: {إلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (1) بإبدال الشين سينا والجيم زايا والذالين دالين مهملتين، وهذا من اللحن الذي يغير المعنى، وقد نقل القاضي عياض في الشفاء الإجماع على أن من بدل حرفا في القرآن عمدا كفر.
ومن أسوا ما يرتكبه المغاربة من تبديل الحروف نطقهم بالتسهيل في قراءة ورش هاء خالصة فيقرءون الهمزة الثانية في (أئنك) و (أئذا) وما أشبه ذلك هاء وليس هذا معنى التسهيل، فالتسهيل تليين الهمزة الثانية حتى تكون بين الألف والهمزة، أو بين الواو والهمزة، أو بين الياء والهمزة، ويقابله التحقيق وهو النطق بهما همزتين خالصتين.
ولم ينعدم التجويد بالمرة في المغرب في أي زمن، ولكنه كما قلت سابقا نادر، وأكثر القراء على خلافه، ومما يدلنا على ذلك ما جاء في نصوص الشيخ التهامي بن الطيب السجلماسي ثم الغرفي في إنكار تبديل التاء بما تقدمت الإشارة إليه، وهذه الأبيات بعضها مختل الوزن فأنا أنقلها على علاتها، قال:
تحفظ رعاك الله في السر والجهر ... على مخرج التاء حين تتلو على غير
إلى الحنك اصعد حين إخراجك لها ... ولا تنحون نحو الثنايا تنل شكري
ولا تحدثن فيها صفيرا ورخوة ... فذلك فعل الجاهلية ذوي السكر
فبالسين والزاي الجهرا وصادها ... يخص صغير القوم كلهم قادر
كما خصصوا رخوا بجملة أحرف ... وليس لحرف التاء فيهن من ذكر
وقد كان علماء المغرب إلى عهد قريب جدا معنيين بتجويد كتاب الله أحسن عناية، قل ما يجاريهم في ذلك علماء قطر آخر من الأقطار الإسلامية، حتى أن الملك فؤاد ملك مصر لما أراد أن يطبع المصحف على الرسم العثماني، وكلف بذلك جماعة
__________
(1) سورة هود الآية 108(9/94)
من علماء مصر المحققين لم يجدوا من الكتب ما يعتمدون عليه مثل كتاب مورد الظمآن بشرح العالم المقرئ عبد الواحد بن عاشرة، ومن أشهر المنظومات التي عم نفعها، وقل في التحقيق والبلاغة نظيرها (الدرر اللوامع في أصل مقرأ الإمام نافع) لأبي الحسن علي بن الرباطي، المشهور بابن بري قال في المنظومة المذكورة:
القول في التحقيق والتسهيل ... للهمز والإسقاط والتبديل
والهمز في النطق به تكلف ... فسهلوه تارة وحذفوا
وأبدلوه حرف مد محضا ... ونقلوه للسكون رفضا
فنافع سهل أخرى الهمزتين ... بكلمة فهي بذاك بين بين
قال شارحه إبراهيم المارغني شيخ القراء بالجامع الأعظم بتونس المتوفى سنة 1349 هـ في شرحه لمنظومة ابن بري المسمى (النجوم الطوالع على الدرر اللوامع في أصل مقرأ الإمام نافع) ما نصه " التسهيل في اصطلاح القراء إذا أطلق اختص بالتسهيل بين بين، أي فالهمزة الثانية بسبب ذلك التسهيل لكونها بين بين، أي بينهما وبين الحرف المجانس لحركتها فتكون المفتوحة بين الهمزة والألف، والمضمومة بين الهمزة والواو، والمكسورة بين الهمزة والياء، هذا هو المأخوذ به عندنا في كيفية التسهيل بين بين. قال أبو شامة: وكان بعض أهل الأداء يقرب الهمزة المسهلة من مخرج الهاء، قال: وسمعت أنا منهم من ينطق بذلك، وليس بشيء لكن جوز الداني وجماعة إمدادها هاء خالصة في الأنواع الثلاثة، قال العلامة سيدي عبد الرحمن بن القاضي في بعض تكاليفه: جرى الأخذ عندنا بفاس والمغرب في المسهل بالهاء خالصة مطلقا وبه قال الداني. انتهى. وجوزه بعضهم في المفتوحة دون المضمومة والمكسورة، والأكثرون على المنع مطلقا، وعليه جرى عملنا بتونس. انتهى. "
قال محمد تقي الدين الهلالي: الصواب هو تسهيل الهمزة الثانية بين بين، كما قاله أبو الحسن ابن بري، وقرره شارحه، ولا حق للداني أن يتصرف في كتاب الله فيبدل حرفا بحرف، لأن القراءة سنة متبعة لا مجال فيها للاجتهاد، ولا تصح الرواية(9/95)
بإبدال أخرى الهمزتين هاء البتة.
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » وقد طال المقال حتى أنه لا يحتمل الزيادة، فنسأل الله أن ينفعنا ويرفعنا بالقرآن العظيم، وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأن يجعله لنا شافعا مشفعا، وآخر دعوانا أن الحمد رب العالمين.
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(9/96)
السنة
بقلم الدكتور محمد بن عبد الله العجلان
- من مواليد مدينة حريملاء، تخرج في كلية الشريعة بالرياض سنة 1382 - 1383 هـ ثم نال درجة الماجستير من الكلية، ثم نال درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة، دار العلوم، بعد أن قدم بحثه "الرأي في مذهب الإمام أحمد بن حنبل".
- عمل مدرسا بمعهد الرياض العلمي، مدرسا بكلية الشريعة، ويعمل الآن وكيلا لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
- مؤلفاته:
1 - ولاية المظالم، وهو بحث منشور في مجلة أضواء الشريعة العدد الثامن
2 - صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان
3 - أدلة الأحكام الشرعية في أصول الشاطبي، وهو موضوع رسالة الماجستير (مخطوط)
4 - الرأي في مذهب الإمام أحمد بن حنبل (مخطوط)
- حضر العديد من المؤتمرات في الداخل والخارج، وله مشاركات علمية وفكرية، عبر وسائل الإعلام.(9/97)
بسم الله الرحمن الرحيم
"مكانتها - وأشهر رجالها من الصحابة والتابعين وتابعيهم - تدوينها"
عند اللغويين: السنة: الطريق المسلوكة، والطريقة حسنة كانت أو سيئة ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة (1) » .
وعند المحدثين: ما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير (2) .
وعند الأصوليين: ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأفعال أو الأقوال التي ليست للإعجاز.
وزاد بعضهم: ألا يكون ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأفعال الجبلية.
أي أن يكون مقصودا مما صدر منه - صلى الله عليه وسلم - التشريع حتى يخرج ما صدر عنه بمقتضى الطبيعة البشرية كالقيام والقعود والمشي والنوم والأكل والشرب ونحو ذلك مما لم يكن التشريع مقصودا في أصل القيام به.
__________
(1) أخرجه مسلم. .
(2) الشوكاني: إرشاد الفحول ص 33 والتهاتوني: كشاف اصطلاحات الفنون ص 703.(9/98)
فإن وردت في هذا القسم توجيهات قصد منها التشريع فهي من مفهوم السنة، هذا وتطلق السنة على ما يقابل القرآن الكريم، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة (1) » .
كما تطلق تارة على ما يقابل الفرض، وتارة على ما يقابل البدعة، فيقال أهل السنة، وأهل البدعة.
وذكر الشاطبي (2) - رحمه الله - أن لفظ السنة يطلق أيضا على ما عمل عليه الصحابة رضوان الله عليهم سواء وجدنا في الكتاب أو السنة، أو لم نجده، بحيث يشمل ما كان سنة ثبتت عندهم ولم تنقل إلينا كسنة مروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - رواية صريحة، كما يشمل ما كان اجتهادا مجتمعا عليه منهم أو من خلفائهم.
فيدخل تحت هذا الإطلاق المصالح المرسلة - في عهدهم - والاستحسان كما فعلوا في جلد الشارب ثمانين وتضمين الصناع وجمع المصحف، وحمل الناس على القراءة بحرف واحد من الحروف السبعة وتدوين الدواوين. . .
وما أشبه ذلك مما عمل به الصحابة على سبيل الاجتهاد الذي لم يخالفه أحد منهم.
ويدل على هذا الإطلاق قوله - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين (3) » .
وفرضية السنة ثابتة بمقتضى القرآن الكريم، وطاعتها واجبة، وحجتها نافذة.
يقول الله تعالى:
1 - {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (4) .
__________
(1) رواه مسلم وأحمد وغيرهما.
(2) الموافقات: 4 \ 4.
(3) أخرجه أبو داود والترمذي.
(4) سورة آل عمران الآية 132(9/99)
2 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} (1) .
3 - {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (2) .
4 - {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) .
5 - {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} (4) .
6 - {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (5) .
7 - {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (6) .
8 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} (7) .
9 - {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (8) .
10 - {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (9) .
11 - {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} (10) .
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة النساء الآية 64
(3) سورة النساء الآية 65
(4) سورة النساء الآية 69
(5) سورة النساء الآية 80
(6) سورة الأنفال الآية 24
(7) سورة الأنفال الآية 20
(8) سورة النور الآية 54
(9) سورة النور الآية 63
(10) سورة الأحزاب الآية 21(9/100)
12 - {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (1) .
13 - {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (2) .
وفي الرسالة للشافعي - رحمه الله - تفاصيل في هذا الشأن (3) .
إذن فالسنة المطهرة هي مفتاح الكتاب، والنبراس الذي يهتدى به إلى كشف حقائقه، والوقوف على دقائقه.
ومنصب الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو التبليغ عن الله عز وجل والبيان لأوامره ونواهيه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (4) .
ومن ثم كانت السنة واجبة الاتباع، والمتمسك والعامل بها إنما يعمل بكتاب الله؛ قيل لمطرف بن عبد الله: لا تحدثونا إلا بالقرآن، فقال والله لا نبغي بالقرآن بدلا، ولكن نريد من هو أعلم منا بالقرآن.
وروى الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: كان الوحي ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحضره جبريل بالسنة التي تفسر ذلك (5) .
وقد أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - باتباع سنته في أحاديث كثيرة.
منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي (6) » .
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى (7) » .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 36
(2) سورة محمد الآية 33
(3) انظر: '' الرسالة '' ص 43، 46، 47، 49.
(4) سورة المائدة الآية 67
(5) تاريخ الفقه الإسلامي: محمد علي السايس.
(6) رواه الحاكم وابن عبد البر عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده انظر جامع بيان العلم: 2 \ 24.
(7) أخرجه البخاري والحاكم.(9/101)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الوداع: «إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم، ولكن رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم فاحذروا، إني تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا: كتاب الله وسنة نبيه (1) » .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - - بعد أن «وعظ أصحابه موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب - فقيل يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: عليكم بالسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهتدين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة (2) » .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه (3) » .
وقد أوجب الله على المسلمين اتباع الرسول فيما يأمر به والانتهاء عما ينهى عنه، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (4) وحذر من مخالفة أمره قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (5) {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (6) .
ولم يبح للمؤمنين مطلقا أن يخالفوا حكمه أو أوامره قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (7) .
بل جعل من لوازم الإيمان ألا يذهبوا حين يكونون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على
__________
(1) أخرجه الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) أخرجه الترمذي وأبو داود والإمام أحمد وابن ماجه.
(3) سنن أبو داود السنة (4604) .
(4) سورة الحشر الآية 7
(5) سورة النور الآية 63
(6) سورة آل عمران الآية 32
(7) سورة الأحزاب الآية 36(9/102)
أمر جامع دون أن يستأذنوا منه، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (1) الآية.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: " فإذا جعل الله من لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون مذهبا إذا كانوا معه إلا باستئذانه، فأولى أن يكون من لوازمه ألا يذهبوا إلى قول ولا مذهب علمي إلا بعد استئذانه، وإذنه يعرف بدلالة ما جاء به على أنه أذن فيه ".
أفبعد هذا يأتي من لا علاقة له بالعلم الشرعي لا من قريب ولا من بعيد فيدعو إلى طرح بعض أنواع السنة المطهرة؟!
أشهد لقد ضل ضلالا مبينا وعصى الله ورسوله وأهدر جهود علمائنا الذين ميزوا بين الصحيح والحسن والضعيف، والذين - كما يقول الدكتور مصطفى السباعي - رحمه الله: " لا يستطيع من يدرس موقف العلماء - منذ عصر الصحابة إلى أن تم تدوين السنة - من الوضع والوضاعين وجهودهم في سبيل السنة صحيحها من فاسدها، إلا أن يحكم بأن الجهد الذي بذلوه في ذلك لا مزيد عليه، وأن الطرق التي سلكوها هي أقوم الطرق العلمية للنقد والتمحيص، حتى لنستطيع أن نجزم بأن علماءنا - رحمهم الله - هم أول من وضعوا قواعد النقد العلمي الدقيق للأخبار والمرويات بين أمم الأرض كلها، وأن جهدهم في ذلك جهد تفاخر به الأجيال وتتيه به على الأمم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم " (2) .
وما قول هذا وأمثاله إلا مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يوشك رجل منكم متكئا على
__________
(1) سورة النور الآية 62
(2) السنة ومكانتها في التشريع ص90.(9/103)
أريكته يحدث بحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه: ألا وإن ما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل الذي حرم الله (1) » .
__________
(1) أخرجه أبو داود والترمذي.(9/104)
مهمة السنة
ومهمة السنة هي - بنص القرآن - تبيين مراد التنزيل: فهي تشرح ما قد يقع في فهمه من شبهة أو خلاف، وهي تفصل مجمله، وتقيد مطلقه وتخصص عامه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} (1) .
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (2) .
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (3) .
{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} (4) .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إنني أوتيت القرآن ومثله معه (5) » والمراد بقوله " ومثله معه " هو - فيما يقرر الشراح: الأحاديث والسنن.
والقرآن صريح في تقرير هذا كله، فهو يقول:
__________
(1) سورة المائدة الآية 15
(2) سورة إبراهيم الآية 4
(3) سورة النحل الآية 44
(4) سورة النحل الآية 64
(5) رواه أبوداود.(9/104)
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (2) .
والسنة وحي إلهي: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (3) {إِنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (4) . ولكنه غير متلو، وألفاظه هي من عند النبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (5) .
يقول الشافعي في تفسير كلمة الحكمة هنا: ". . . فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله. . . إلخ " (6) .
ومن أوجه أهمية السنة باعتبارها أصلا من أصول الشرع: أن الرد إلى الله والرسول هو أمر أمر به الله عباده: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} (7) .
والرد إلى الله هنا: معناه الرجوع إلى كتاب الله، والرد إلى الرسول: معناه الرجوع إليه شخصيا في حياته، والرجوع إلى سنته بعد وفاته.
والنزاع الذي يستوجب الرد: قد يكون بين الناس من مختلف الطبقات بعضهم وبعض، أو بينهم وبين أولياء أمورهم.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 157
(2) سورة الأعراف الآية 158
(3) سورة النجم الآية 3
(4) سورة النجم الآية 4
(5) سورة النساء الآية 113
(6) الرسالة ص 45 (ط. الحلبي 1969 م) .
(7) سورة النساء الآية 59(9/105)
هل تستقل السنة بالتشريع؟
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله " السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه (1) :
أحدها: أن تكون موافقة له من كل وجه، فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتضافرها.
وذلك مثل الأحاديث التي تفيد وجوب الصلاة والزكاة والحج والصوم من غير تعرض لشرائطها وأركانها.
الثاني: أن تكون بيانا لما أريد بالقرآن وتفسيرا له.
وذلك مثل الأحاديث التي فصلت أحكام الصلاة والصيام والزكاة والحج والبيوع والمعاملات التي وردت مجملة في القرآن، وهذا القسم هو أغلب ما في السنة وأكثرها ورودا (2) .
الثالث: أن تكون موجبة لحكم سكت القرآن عن إيجابه أو محرمة لما سكت عن تحريمه، كالأحاديث التي أثبتت حرمة الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وأحكام الشفعة.
ولا نزاع بين العلماء في القسمين الأولين.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله (3) : فلم أعلم من أهل العلم مخالفا في أن سنن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ثلاثة وجوه، فاجتمعوا منها على وجهين، والوجهان يجتمعان ويتفرعان:
أحدهما: ما أنزل الله فيه نص كتاب، فيبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما نص الكتاب.
__________
(1) أعلام الموقعين: 2 \ 288.
(2) السنة ومكانتها ص 380.
(3) الرسالة ص 91 - 92.(9/106)
والآخر: مما أنزل الله فيه جملة كتاب، فبين عن الله معنى ما أراد. وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما.
والوجه الثالث: ما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما ليس فيه نص كتاب.
فمنهم من قال: جعل الله له بما افترض من طاعته، وسبق في علمه، من توفيقه لرضاه أن يسن فيما ليس فيه نص كتاب.
ومنهم من قال: لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب.
والمراد بالخلاف في القسم الثالث ليس الخلاف في وجوده بل في مخرجه أهو على الاستقلال بالتشريع؟ أم بدخوله ضمن نصوص القرآن ولو بتأويل (1) .
فقد ذهب جمهور العلماء إلى أن السنة تستقل بتشريع الأحكام، وأنها كالقرآن الكريم في تحليل الحلال وتحريم الحرام، واستدلوا أولا بمثل قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (2) {إِنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (3) .
وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (4) وقوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (5) النساء من الآية 65 - والآية نزلت في قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للزبير بالسقي قبل الأنصاري من شراج الحرة، (6) وذلك ليس في كتاب الله، ثم جاء في عدم الرضا به من الوعيد والأمر بطاعة الله وطاعة الرسول " وسائر ما قرن فيه طاعة الرسول بطاعة الله فهو دال على أن طاعة الله ما أمر به ونهى عنه في كتابه، وطاعة الرسول ما أمر به ونهى عنه مما جاء به مما ليس في القرآن، إذ لو كان في القرآن لكان من طاعة الله " وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (7) النور 63، فقد اختص الرسول عليه الصلاة والسلام بشيء يطاع فيه، وذلك السنة التي لم تأت في القرآن (8) .
__________
(1) السنة ومكانتها ص 380 - 381.
(2) سورة النجم الآية 3
(3) سورة النجم الآية 4
(4) سورة الحشر الآية 7
(5) سورة النساء الآية 65
(6) الحديث أخرجه الستة: البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي والموطأ.
(7) سورة النور الآية 63
(8) راجع: الموافقات 4 \ 14 - 15.(9/107)
والثاني: الأحاديث الدالة على ذم ترك السنة واتباع الكتاب، إذ لو كان ما في السنة موجودا في الكتاب لما كانت السنة متروكة على حال، وذلك مثل حديث «ألا إني أوتيت القرآن، ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان متكئا على أريكته يحدث بحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه: ألا وإن ما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل الذي حرم الله (1) » .
والثالث: أن الاستقراء دل على أن في السنة أشياء لا تحصى كثرة لم ينص عليها في القرآن، كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وتحريم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، والعقل وفكاك الأسير. . . وغيرها كثير (2) .
رابعا: أنه لا مانع عقلا من ذلك ما دام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معصوما من الخطأ، ولله أن يأمر رسوله بتبليغ أحكامه إلى الناس من أي طريق، سواء كان بالكتاب أو بغيره وما دام جائزا عقلا، وقد وقع فعلا باتفاق الجميع فلماذا لا نقول به؟
خامسا: أن النصوص الواردة في القرآن الدالة على وجوب اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وطاعته فيما يأمر به وينهى عنه عامة لا تفرق بين السنة المبينة أو المؤكدة أو المستقلة (3) .
وذهب الإمام الشاطبي - رحمه الله - إلى أن السنة راجعة في معناها إلى الكتاب، فهي تفصيل مجمله، وبيان مشكله، وبسط مختصره.
وذلك لأنها بيان له، وهو الذي دل عليه قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (4) فلا تجد في السنة أمرا، إلا القرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية (5) .
__________
(1) أخرجه أبو داود والترمذي.
(2) انظر أدلة الأحكام الشرعية في أصول الشاطبي للباحث ص18.
(3) السنة ومكانتها ص 381.
(4) سورة النحل الآية 44
(5) الموافقات 4-12.(9/108)
وقد بين - رحمه الله - كيفية رجوع السنة إلى الكتاب، واستقصى مذاهب العلماء في ذلك في ستة طرق (1) .
كما أجاب عن ما أورده أصحاب الرأي الأول: بأن الاستقراء دل على أن في السنة أشياء لا تحصى كثرة لم ينص عليها في القرآن الكريم كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها وتحريم الحمر الأهلية. . . فقال: إن أصول هذه القضايا منصوص عليها في القرآن الكريم، لكن تفصيلها يحتاج إلى بيان جاءت به السنة، وذلك أنه يقع في الكتاب النص على طرفين واضحين، وتبقي بينهما أمور تحتاج إلى إلحاقها بأحد الطرفين لأن فيها شبها من كل منهما، فتأتي السنة بهذا الإلحاق، مع وجود أصل القضية في القرآن الكريم.
وأيضا فإن السنة قد تلحق فرعا بأصله الذي خفي إلحاقه به.
ومن ذلك أن الله تعالى أحل الطيبات وحرم الخبائث وبقي بين هذين الأصلين أشياء يمكن إلحاقها بأحدهما، فبين عليه الصلاة والسلام في ذلك ما اتضح به الأمر فنهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، ونهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية، وقال إنها ركس كما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكل الجلالة وألبانها، لما في لحمها ولبنها من أثر الجلة، فهذا كله راجع إلى معنى الإلحاق بأصل الخبائث - الواردة في القرآن - كما ألحق عليه الصلاة والسلام الضب والحبارى والأرنب وأشباهها بأصل الطيبات - الوارد أيضا في القرآن الكريم (2) .
ومن ذلك أيضا أن الله تعالى أحل من المشروبات ما ليس بمسكر كالماء واللبن والعسل، وحرم الخمر لما فيها من إزالة العقل، فوقع فيما بين الأصلين ما ليس بمسكر حقيقة ولكنه يوشك أن يسكر وهو نبيذ الدباء والمزفت والنقير وغيرها، فنهى عنها إلحاقا لها بالمسكرات تحقيقا، سدا للذريعة (3) .
__________
(1) انظر الموافقات 4 \ 24: 55، وانظر أدلة الأحكام الشرعية في أصول الشاطبي للباحث ص 68: 75.
(2) راجع: الموافقات 40 \ 33.
(3) الموافقات ص 33-34.(9/109)
ومن ذلك " أن الله تعالى حرم الجمع بين الأم وابنتها في النكاح وبين الأختين وجاء في القرآن {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (1) النساء 24، فجاء نهيه عليه الصلاة والسلام عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها من باب القياس، لأن المعنى الذي لأجله ذم الجمع بين أولئك موجود هنا " (2) .
ثمرة الخلاف:
يرى الدكتور مصطفى السباعي - رحمه الله - والدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي أن الخلاف لفظي لأن الفريقين متفقان على وجود أحكام جديدة في السنة لم ترد في القرآن الكريم نصا ولا صراحة (3) .
فأصحاب الرأي الأول يقولون: إن هذا هو الاستقلال في التشريع لأنه إثبات أحكام لم ترد في الكتاب.
وأصحاب الرأي الثاني - مع تسليمهم بعدم ورودها بنصها في القرآن الكريم - يرون أنها داخلة تحت نصوصه بوجه ما.
وقد ذم الشاطبي رحمه الله من دعا إلى ترك السنة أو شيء منها، ووصف أولئك بأنهم لا خلاق لهم وبأنهم انخلعوا عن الجماعة، وأولوا القرآن على غير ما أنزل (4) .
لأنه وإن وردت أصول كافة القضايا في القرآن الكريم، فإن في السنة بيانا لا غنى عنه من توضيح المجمل وتقييد المطلق وتخصيص العموم (5) .
وقد بين الإمام ابن القيم رحمه الله أن ما كان من السنة زائدا على القرآن فهو تشريع مبتدأ من النبي - صلى الله عليه وسلم -: تجب طاعته فيه، ولا تحل معصيته، امتثالا لما
__________
(1) سورة النساء الآية 24
(2) الموافقات ص 43، وانظر أدلة الأحكام الشرعية في أصول الشاطبي للباحث ص 20-21.
(3) السنة ومكانتها 385، أصول مذهب الإمام أحمد 220.
(4) الموافقات 4-17.
(5) الموافقات 20-21.(9/110)
أمر الله به من طاعة رسوله، ولو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يطاع في هذا القسم لم يكن لطاعته معنى وسقطت طاعته المختصة به.
وقال: كيف يمكن أحدا من أهل العلم أن لا يقبل حديثا زائدا على كتاب الله، فلا يقبل تحريم المرأة على عمتها، ولا على خالتها، ولا حديث التحريم بالرضاعة لكل ما يحرم من النسب، ولا حديث خيار الشرط، ولا أحاديث الشفعة ولا حديث الرهن في الحضر، ولا حديث ميراث الجدة، ولا حديث تخيير الأمة إذا عتقت تحت زوجها، ولا حديث منع الحائض من الصوم والصلاة، ولا حديث وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان، ولا أحاديث إحداد المتوفى عنها زوجها؟! . وبين رحمه الله أن الناس كلهم قد أخذوا بحديث «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم (1) » وهو زائد على القرآن، وأخذوا بحديث توريثه - صلى الله عليه وسلم - بنت الابن السدس مع البنت، وهو زائد على القرآن، وأخذوا بحديث استبراء المسبية بحيضة وهو زائد على ما في كتاب الله.
وقد أورد رحمه الله أمثلة كثيرة جدا وقال: إن أحكام السنة التي ليست في القرآن إن لم تكن أكثر منها لم تنقص عنها، فلو ساغ لنا رد كل سنة زائدة على نص القرآن لبطلت سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلها إلا سنة دل عليها القرآن، وهذا هو الحق الذي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه سيقع، ولا بد من وقوع خبره (2) .
__________
(1) صحيح البخاري الفرائض (6764) ، صحيح مسلم الفرائض (1614) ، سنن الترمذي الفرائض (2107) ، سنن أبو داود الفرائض (2909) ، سنن ابن ماجه الفرائض (2730) ، مسند أحمد بن حنبل (5/208) ، موطأ مالك الفرائض (1104) ، سنن الدارمي الفرائض (2998) .
(2) أعلام الموقعين: 2 \ 288 - 289 - 290.(9/111)
من علماء السنة من الصحابة والتابعين:
من أعلام الصحابة الذين عنوا كثيرا - في اجتهادهم الفقهي - بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) .
__________
(1) نذكرهم هنا بالترتيب الألف بائي لأسمائهم.(9/111)
1 - أبي بن كعب المتوفى غالبا سنة 31 هـ، وقد روي عنه في الصحيحين وغيرهما 164 حديثا.
2 - أنس بن مالك المتوفى بالبصرة سنة 93 هـ، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخادمه وأحد المكثرين من الرواية عنه، وروى عنه رجال الحديث 1286 حديثا.
3 - زيد بن ثابت المتوفى سنة 45 هـ، وكاتب الوحي، وأحد نجباء الأنصار وجامع القرآن على عهد الصديق وعهد ذي النورين، وله في كتب الحديث 92 حديثا، وروى عنه عبد الله بن عمر وأنس بن مالك، وسليمان بن يسار، وابنه خارجة بن زيد. وكان زيد رأسا بالمدينة في القضاء والفتوى والفرائض والقراءة.
4 - عبد الله بن عباس المتوفى بالطائف سنة 68 هـ، وقد عايش، منذ كان غلاما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعاين بالضرورة كثيرا من السنة، وقد روت الصحاح عنه 1660 حديثا.
5 - عبد الله بن عمر بن الخطاب المتوفى سنة 73 هـ، والذي كان شديد التمسك بالحديث والتعويل عليه في استنباط الأحكام، والذي كان شديد(9/112)
التحري لألفاظ النبي - صلى الله عليه وسلم - وروت عنه كتب الحديث 2630 حديثا.
6 - عبد الله بن مسعود المتوفى سنة 32 هـ، وقد كان من أكثر الصحابة ملازمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حله وترحاله وغزواته وله في كتب السنة 848 حديث.
7 - علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - المتوفى سنة 40 هـ، وصلته الوثيقة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - معلومة، وقد روت كتب السنة عنه 586 حديثا.
8 - عمران بن حصين المتوفى سنة 52 هـ، وهو أيضا من علماء الصحابة البارزين، وقد بعثة عمر إلى البصرة ليفقه أهلها، وولاه زياد قضاءها وله في كتب السنة 30 حديثا (1) .
__________
(1) انظر في ترجمته: الذهبي: تذكرة الحفاظ ج1 ص28 والخزرجي: خلاصة التذهيب ص295.(9/113)
السنة في مدينة الرسول
كانت المدينة المنورة عاصمة الإسلام آنئذ، وحتى عهد الخليفة عثمان المركز الأهم والأكبر للإشعاع العلمي الإسلامي، فقد كانت مهاجر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومستقر كبار صحابته من المهاجرين والأنصار، ومن لاذوا به وبهم وتخرجوا عليه وعليهم، وفيها اجتمع - صلى الله عليه وسلم - بهؤلاء جميعا في الحرب والسلم، والسراء والضراء، وفيها(9/113)
ومنها كانت أغلب السنة النبوية التي شهدها بل عاشها وشارك في أحداثها بعض هؤلاء السابقين الأولين.
وفي المدينة أيضا كانت جهود أمثال عبد الله بن عمر في تجميع السنة وروايتها وتفهمها، وكانت جهود أمثال زيد بن ثابت في خدمة القرآن والسنة والفتيا والفرائض والقضاء.
وفيها تلقى الصحابة من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، أو بواسطة خاصته الثقات الأدنين، فاستغنوا في كثير من الحالات بحصيلتهم السنية الوثيقة عن الاجتهاد بالرأي.
وفي المدينة، عاش فقهاؤها السبعة الذين كانوا إذا جاءتهم المسألة دخلوا جميعا، فنظروا فيها، ولا يقضي القاضي حتى يرفع إليهم القضية، فينظرون فيها، فيصدرون الحكم (1) .
وهؤلاء الفقهاء هم:
1 - سعيد بن المسيب (15 - 94 هـ) الموصوف بأنه سيد التابعين، وقد كان - مثل زملائه فقهاء الحجاز آنئذ - يستغني غالبا بحفظ الآثار الكثيرة في الحجاز عن استعمال الرأي الذي لم تكن تدعو إليه وقتئذ حاجة ماسة، وكانوا - في هذا - يقفون شيوخهم أمثال عبد الله بن عمر بن الخطاب، (2) على أن ابن المسيب - كما تذكر بعض تراجمه - كان أحفظ الناس لأحكام عمر بن الخطاب وأقضيته حتى سمي راوية عمر.
__________
(1) انظر الزركلي: الأعلام ج3 ص115 (حاشية على ترجمة سالم بن عبد الله بن عمر) . .
(2) السايس: نشأة الفقه الاجتهادي وأطواره ص 85 و 86.(9/114)
2 - عروة بن الزبير (22 - 93 هـ) وكان كما تقول تراجمه " ثقة، كثير الحديث، فقيها، عالما، ثبتا، مأمونا " (1) .
3 - والقاسم بن محمد بن أبي بكر (ت 107 هـ) المشهور بأنه كان ثقة عالما فقيها إماما كثير الحديث (2) .
4 - وخارجة بن زيد بن ثابت (29 - 99 هـ) الذي كان من الثقات، (3) ويورد بعضهم سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب في الفقهاء السبعة، وسالم من سادات التابعين وعلمائهم وثقاتهم، وهو مشهور بأنه كان يرفض الإفتاء بالرأي، فإذا سئل عن أمر لم يسمع فيه شيئا قال: لا أدري (4) .
5 - أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام (ت 94 هـ) ، وكان يلقب " راهب قريش ". قال الواقدي: كان ثقة فقيها عالما سخيا كثير الحديث وقيل: هو أحد أئمة المسلمين (5) .
6 - سليمان بن يسار (34 - 107 هـ) الذي وصفه ابن سعد بأنه ثقة عالم فقيه كثير الحديث (6) .
7 - عبيد الله بن عبد الله بن عتبة الهذلي (ت 98 هـ) ، وكان من الأعلام ثقة عالما فقيها كثير الحديث، وكما عبر أحد الفقهاء: " لا تشاء أن تفجر من عبيد الله بحرا، إلا فجرته "، وكما عبر الزهري: " لا تشاء أن تجد عند عبيد الله طريقة من علم لا تجدها عن غيره إلا وجدت " (7) .
__________
(1) انظر ترجمته في: الخزرجي: خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ص 265.
(2) انظر في ترجمته: خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ص 313.
(3) خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ص 99.
(4) خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ص 131.
(5) خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ص 444.
(6) خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ص 155.
(7) انظر: ابن القيم: أعلام الموقعين ج1 ص23، والذهبي: تذكرة الحفاظ ج1 ص 74.(9/115)
مكة والسنة
وعلى غرار المدينة المنورة كانت مكة المكرمة تخدم السنة وتحفظها، وهذا أمر طبيعي: ففي مكة بيت الله الحرام قبلة المسلمين، وفي مكة نشأ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيها أمضى أغلب أيامه، وفيها تلقى الرسالة وفيها بدأ الدعوة والجهاد.
وقد كان صلوات الله عليه وسلامه عين نائبا عنه في مكة هو معاذ بن جبل الذي كان من رواته اثنان من عظماء المحدثين: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر.
وكان عبد الله بن عباس - ومن ألقابه العلمية " ترجمان القرآن " - ممن ذهب إلى البصرة ينشر علوم الإسلام، ثم عاد إلى المدينة يحمل فيها أمانته التعليمية، ثم ينتهي إلى اتخاذ مكة مثابة علمية راسخة يعلم فيها التفسير والحديث والفقه.
وفي عهد تال لعهد الصحابة، أقامت في رحاب الكعبة فرق من التابعين وتابعيهم يشتغلون بالحديث والفقه، ومن أشهرهم:
مجاهد بن جبر (21 - 104 هـ) ، وكان شيخ القراء والمفسرين، أخذ التفسير عن ابن عباس (1) .
وعطاء بن أبي رباح (27 - 114 هـ) الثقة العالم الكثير الحديث (2) .
وفي اليمن:
طاوس بن كيسان (33 - 106 هـ) ، وكان إماما علما أدرك خمسين من الصحابة، وكان من أكابر التابعين تفقها في الدين، ورواية للحديث (3) .
__________
(1) انظر في ترجمته: الخزرجي: خلاصة التذهيب ص 369، والذهبي: ميزان الاعتدال ج3 ص9.
(2) انظر: الذهبي: ميزان الاعتدال ج2 ص197، والخزرجي: خلاصة التذهيب ص266.
(3) انظر الخزرجي: خلاصة التذهيب ص 181، وابن الجوزي: صفة الصفوة ج2 ص160.(9/116)
وفي اليمامة:
يحي بن أبي كثير (ت 129 هـ) ، وكان من ثقات أهل الحديث، ورجحه بعضهم على الزهري (1) .
وفي البصرة:
الحسن البصري (21 - 110 هـ) " أحد أئمة الهدى "، وأدرك خمسمائة من الصحابة (2) .
ومحمد بن سيرين (33 - 110 هـ) إمام وفقيه، وكان " ثقة مأمونا عاليا رفيعا فقيها إماما كثير العلم " (3) .
وفي الكوفة:
مسروق بن الأجدع (ت 63 هـ) ، وكان إماما قدوة، وكان شريح القاضي يستشيره في معضلات المسائل، وقال عنه ابن معين: ثقة لا يسأل عن مثله (4) .
وعلقمة بن قيس (ت 62 هـ) ، روى الحديث عن الصحابة، وكان فقيه العراق (5) .
وسعيد بن جبير (45 - 95 هـ) " الفقيه الثقة الإمام الحجة "، أخذ العلم عن ابن عباس وابن عمر (6) .
وإبراهيم النخعي (46 - 96 هـ) ، وكان من أكابر التابعين صلاحا وصدق رواية وحفظا للحديث، وكان إماما مجتهدا له مذهب (7) .
__________
(1) انظر: الخزرجي: خلاصة التذهيب ص427.
(2) انظر: خلاصة التذهيب ص77.
(3) انظر: خلاصة التذهيب ص340.
(4) انظر: خلاصة التذهيب ص 374، وابن حجر العسقلاني: الإصابة - الترجمة رقم 840.
(5) الخزرجي: خلاصة التذهيب ص 271، والخطيب البغدادي: تاريخ بغداد ج12 ص296.
(6) الخزرجي: خلاصة التذهيب ص 136.
(7) خلاصة التذهيب: ص23، وابن سعد: الطبقات الكبرى ج6 ص188 - 199.(9/117)
وفي الشام:
مكحول أبو عبد الله (ت 112 هـ) ، وكان من حفاظ الحديث، ومن أصحاب الرحلات إليه، وقيل: لم يكن أبصر منه بالفتيا في زمنه (1) .
تابعو التابعين في مكة والمدينة:
واستجد عهد تابعي التابعين فبقيت المدينة ومكة بصفة خاصة منارة للعلم الإسلامي، وخاصة الحديث النبوي.
ففي المدينة:
كان " ربيعة الرأي " (ت 136 هـ) ، وكان يقول بالرأي فيما لا يجد فيه حديثا أو أثرا، وفي الوقت نفسه كان محدثا، قال فيه ابن الماجشون: " ما رأيت أحدا أحفظ للسنة من ربيعة " ووثقه أحمد وابن سعد وابن حبان، وعلى ربيعة هذا تفقه مالك صاحب المذهب (2) .
وفي مكة:
اشتهر عمرو بن دينار الفقيه المفتي المحدث (ت 115، وقيل 126 هـ) ، وكان ثقة ثبتا كثير الحديث، قال شعبة عنه: ما رأيت أثبت في الحديث منه، وقال النسائي: ثقة ثبت، وقال مسعر: ثقة ثقة ثقة، وقال ابن المديني شيخ البخاري: له خمسمائة حديث (3) .
واشتهر عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج (ت 150 هـ) فقيه الحرم المكي، وإمام أهل الحجاز في عصره، قال الذهبي عنه: كان ثبتا، والإمام أحمد
__________
(1) الخزرجي: خلاصة التذهيب ص386، والذهبي: تذكرة الحفاظ ج1 ص101.
(2) الخزرجي: خلاصة التذهيب ص216، والذهبي: تذكرة الحفاظ ج1 ص148.
(3) انظر الخزرجي: خلاصة تذهيب التذهيب ص288.(9/118)
ابن حنبل يقول عنه: إذا قال: أخبرنا وسمعت حسبك به، وقد تلقى عنه الأوزاعي، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة وآخرون (1) .
ومن أشهر المحدثين من تابعي التابعين في مكة: سفيان بن عيينة (ت 198 هـ) الموصوف بأنه أحد أئمة الإسلام، والذي قال الزهري عنه: إن حديثه نحو سبعة آلاف، وقال عمرو بن دينار: ما لبث نوح في قومه، أي: 950 حديثا، وقال الشافعي: لولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز (2) .
وممن سكنوا مكة من المحدثين في ذلك العهد: الفضيل بن عياض (ت 187 هـ) ، وكان موصوفا بأنه أحد أئمة الهدي والسنة، وكان ثقة في الحديث، وأخذ عنه كثيرون منهم الشافعي.
__________
(1) انظر: الخزرجي: خلاصة تذهيب التذهيب ص244، والذهبي: ميزان الاعتدال ج2 ص150.
(2) الخزرجي: خلاصة التذهيب ص145 و 146، والذهبي: تذكرة الحفاظ ج6 ص242، وميزان الاعتدال ج1 ص397.(9/119)
تدوين السنة
في عهد الرسول - - صلى الله عليه وسلم - -.
رأينا كيف أن للسنة النبوية - باعتبارها أصلا من أصول الإسلام - مكانتها الكبرى التالية مباشرة لمكانة القرآن: فهي - كما أسلفنا القول - تبين القرآن، فمن أنكرها فقد أنكر - على الحقيقة - القرآن نفسه، ومن خالفها فقد خالفه.
وقد جرى على هذا - عقيدة وعملا، منذ فجر الإسلام - كبار الصحابة ثم كبار التابعين، ثم تابعوا تابعيهم إلى اليوم والغد وإلى يوم الدين (1) .
وقد حذرت السنة نفسها من الكذب فيها أو عدم التثبت في روايتها:
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن كذبا علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (2) » ، وقال: «من حدث بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين (3) » (روي على صيغة التثنية والجمع) .
ولكن الثابت عند أغلب علماء السنة أن الأحاديث النبوية لم تكتب على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك امتثالا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن، ومن كتب شيئا فليمحه (4) » وقد ذكر العلماء أن هذا النهي كان لمنع الناس من أن يلتبس على بعضهم الحديث النبوي بالقرآن الذي كان الوحي يتنزل به على الرسول تباعا، وأن النهي كان أيضا لمنع الناس من أن تشغلهم السنة عن الكتاب.
وقد ذكر ابن حجر العسقلاني وغيره سببين آخرين لتأخر تدوين السنة عن
__________
(1) انظر: محمد مصطفى الأعظمي: دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه ج1 ص12 - 20.
(2) صحيح البخاري الجنائز (1291) ، صحيح مسلم مقدمة (4) ، سنن الترمذي الجنائز (1000) ، مسند أحمد بن حنبل (4/252) .
(3) صحيح مسلم مقدمة (1) ، سنن الترمذي العلم (2662) ، سنن ابن ماجه المقدمة (41) .
(4) رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري.(9/120)
العهد النبوي هما: (الأول) : أن أكثر المسلمين وقتئذ لم يكونوا يعرفون الكتابة، (والثاني) : أن الذاكرة الخارقة التي كانوا يتمتعون بها أغنتهم عن التدوين الكتابي.
وقد ناقش الأسباب كلها - في موضوعية ودقة - الدكتور محمد مصطفى الأعظمي في رسالته: دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه (1) .
على أن هناك أحاديث كتبها - فعلا - بعض الناس على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وإذن منه:
في الصحيحين: «أن أبا شاه اليمني التمس من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب له شيئا سمعه من خطبته عام الفتح، فقال: اكتبوا لأبي شاه (2) » .
وفي سنن الترمذي: «كان رجل من الأنصار يجلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسمع منه الحديث، فيعجبه ولا يحفظه، فشكا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: استعن بيمينك، وأومأ بيده إلى الخط (3) » .
وفي صحيح البخاري: أن أبا هريرة كان يقول: " لم يكن أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر حديثا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو بن العاص، فإنه كان يكتب وأنا لا أكتب " (4) .
وفي سنن الدارمي (5) : روى يحيى بن أيوب عن أبي قبيل، عن عبد الله بن عمرو، قال: " كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكتب ما يقول ". قال الذهبي: هذا حديث حسن غريب رواه سعد بن عفير عنه.
__________
(1) ج1 ص73 وما بعدها.
(2) صحيح البخاري الديات (6880) ، صحيح مسلم الحج (1355) ، سنن أبو داود العلم (3649) ، مسند أحمد بن حنبل (2/238) .
(3) سنن الترمذي العلم (2666) .
(4) باب العلم 39.
(5) ج1 ص126.(9/121)
وقد كتب أيضا الشيخ محمد الحافظ التيجاني كتابة نافعة وكاملة في موضوع تدوين السنة وإبطال احتجاج من ادعى أن الحديث لم يكتب في عصر النبوة والصحابة (1) .
ولما لحق النبي - صلى الله عليه وسلم - بربه، وانقطع نزول القرآن، وكان المسلمون قد حفظوه في الصدور، ثم في السطور، وأصبح من المستحيل خلطه بحرف واحد أو حركة واحدة من عند غير الله، انتفى بالضرورة كل خوف من أن تلتبس أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنص القرآني فزاد عدد من يسجلون بالكتابة هذه الأحاديث:
روي عن سعيد بن جبير: أنه كان يجلس مع ابن عباس، فيسمع منه الحديث، فيكتبه في واسطة الرحل، فإذا نزل نسخه (2) .
وعن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال: " كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب يكتب كل ما يسمع، فلما احتيج إليه علمت أنه أعلم الناس (3) .
وعن هشام بن عروة، عن أبيه، أنه احترقت كتبه يوم الحرة، في خلافة يزيد، وكان يقول: " لو أن عندي كتبي بأهلي ومالي " (4) .
وصحيح أن الصحابة والتابعين كان بين بعضهم وبعض تفاوت في درجات العلم بالنسبة القولية والفعلية والتقريرية، وهو أمر طبيعي؛ لأن الصحابة لم يكونوا سواء في الصحبة والقرب من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولأن التابعين أيضا لم يكونوا متماثلين أو متعادلين، ولكن هذا الاختلاف لم يفض غالبا إلى خطأ أو اضطراب يستحق الذكر، سواء في المتون أو في الشروح، فهم جميعا لم يألوا جهدا في تعهد السنة حفظا بألفاظها ومعانيها، وتطبيقا بحروفها وبروحها، وإعلاما بإبلاغها لمن لم يشهدها أو لم يشهد من شهدها، وبنقلها للأخلاف وتعليمهم إياها.
__________
(1) انظر: كتابه: سنة الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ص29 - 71 ط، مجمع البحوث الإسلامية.
(2) أبو شهبة: الكتب الصحاح الستة ص20.
(3) أبو شهبة: الكتب الصحاح الستة ص20.
(4) أبو شهبة: الكتب الصحاح الستة ص20.(9/122)
هكذا حرص الصحابة والتابعون على السنة الحرص الذي ينبغي لها بوصفها أحد الشطرين الرئيسين والأصلين الأساسيين لشريعتهم ولميراثهم.
غير أنه جاء على المسلمين - في أعقاب عهد هؤلاء - حين من الدهر خافوا فيه على هذه السنة - وهي ما هي جوهر دين وارتفاع شأن - أن يضيع منها شيء إما لموت حفاظها وعلمائها - وإن الموت لواقع ماله من دافع - وإما لكيد الكفار والمنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام، ويبطنون خصومته ومناوأته، فكانوا يحاولون تمزيقه وتشويهه عن طريق تحريف الأحاديث وتبديلها أو اختلاقها أصلا، ونسبتها للرسول - صلى الله عليه وسلم -.
هناك عم الإحساس بشدة الحاجة إلى إجراء عام حاسم يمنع أسباب الضياع والفساد، ويتمثل هذا الإجراء في جمع السنة وتدوينها.
وقد تصدى لهذه المهمة التاريخية التي كان المسلمون يرقبونها خليفة المسلمين الراشد: عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -:
كتب عمر إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الفقيه التابعي الذي كان أميرا على المدينة والذي ولي قضاءها: أن انظر ما كان من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو سننه، أو حديث عمرة، أو نحو هذا فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء (1) فكتبه له (2) .
وكتب عمر نفسه إلى أبي بكر بن حزم نفسه أيضا أن افحص لي عن أسماء خدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرجال والنساء ومواليه، فكتب إليه (3) .
ويلخص ابن حجر العسقلاني ذلك الموقف فيقول: " قال العلماء: كره
__________
(1) ابن سعد: الطبقات الكبرى ج8 ص353.
(2) الرازي: الجرح والتعديل.
(3) ابن سعد: الطبقات الكبرى ج8 ص353.(9/123)
جماعة من الصحابة والتابعين كتابة الحديث، واستحبوا أن يؤخذ عنهم حفظا، لكن لما قصرت الهمم، وخشي الأئمة ضياع العلم دونه، وأول من دون الحديث: ابن شهاب الزهري، على رأس المائة، بأمر عمر بن عبد العزيز، ثم كثر التدوين، ثم كثر التصنيف، وحصل بذلك خير كثير، فلله الحمد " (1) .
وقد اختلفت مناهج جمع السنة وتدوينها:
فمن الجامعين - في أول عهد الجمع - من كان يخلط بالأحاديث النبوية أقوال الصحابة وفتاوي التابعين.
ومنهم من ألف المسانيد التي تجمع أحاديث كل صحابي على حدة بصرف النظر عن الموضوع، والمثل في هذه الطريقة: مسند الإمام أحمد.
ومنهم من أقاموا جمعهم على أساس الأبواب الفقهية، فيبدأ مثلا بذكر الأحاديث النبوية في موضوع الصلاة، ثم في موضوع الصوم، ثم في الحج، وهكذا.
ومن هؤلاء وأولئك من لم يختر مادة لجمعه سوى الأحاديث الصحاح، مثلما فعل الشيخان: البخاري ومسلم، ومنهم من أورد الأحاديث بمختلف مراتبها مكتفيا بذكر أسانيدها للقراء يرون فيها رأيهم.
والمهم أن الإخلاص في نقل السنة والتشدد في روايتها ودراستها متونا وأسانيد، والتزام شروطها وقواعدها كان ديدن هؤلاء الجامعين الدارسين، وكم منهم من ركب الظلام، وخاض القفار، وصبر على اللأواء، وحرارة القيظ وصبارة القر، من أجل التماس حديث، أو فحص حال محدث، أو تصحيح خبر، أو تمحيص مروية.
وقد دعاهم إلى هذه الرحلات الشاقة ما هو معلوم من أن الصحابة والتابعين، لما فتح الله عليهم الأمصار شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، ارتحلوا إليها وسكنوها، وقد كانوا - بالضرورة - يحملون أحاديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، مما يمكن أن لا يكون من محفوظات غيرهم، فقصد إليهم الحديثيون ليأخذوا عنهم.
__________
(1) فتح الباري ج1 ص208.(9/124)
وجاء تابعو التابعين فسلكوا - في جملتهم - نفس المسلك السني الذي سلكه الأسلاف، فتمسكوا - في جملتهم أيضا - بالسنة التي صحت عندهم، وكما يقول ابن القيم: " كانت النصوص أجل في صدورهم وأعظم في نفوسهم من أن يقدموا عليها قول أحد من الناس أو يعارضوها برأي وقياس " (1) وكانوا في إجماعهم على الأخذ بالسنة الصحيحة - كما قال أحد الأئمة وهو الشافعي - رضي الله عنه -: " إن من استبانت له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس (2) .
__________
(1) أعلام الموقعين ج1 ص7.
(2) إعلام الموقعين ج1 ص7.(9/125)
المجاميع الحديثية الأمهات.
كان من أشهر علماء الإسلام وأسبقهم إلى العناية بالحديث والإفادة منه: مالك بن أنس (93 - 179 هـ) صاحب المذهب المالكي والذي عاش ومات في المدينة، فقد جمع كتابه " الموطأ " ورتبه على حسب أبواب الفقه. وقد كان مالك - لتمسكه الشديد بالحديث النبوي - يتورع عن الإفتاء بالرأي: " قال القعنبي: دخلت على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه، فسلمت عليه، ثم جلست، فرأيته يبكي، فقلت له: يا أبا عبد الله! ما الذي يبكيك؟ فقال لي: يا ابن قعنب! ومالي لا أبكي؟ ومن أحق بالبكاء مني؟ والله لوددت أني ضربت بكل مسألة أفتيت فيها بالرأي سوطا -!! وقد كانت لي السعة فيما قد سبقت إليه، وليتني لم أفت بالرأي (1) .
وقد روى أصحابه أنه كان يكثر أن يقول: {إِنْ نَظُنُّ إلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} (2) .
وجاء من بعده بنحو قرن محمد بن إسماعيل البخاري، وقد طوف في
__________
(1) إعلام الموقعين ج1 ص81.
(2) سورة الجاثية الآية 32(9/125)
خراسان والعراق والحجاز ومصر والشام، يروي عن محدثيها، وعددهم نحو ألف شيخ. حتى اجتمع له بعد 16 عاما كتابه الشهير: " الجامع الصحيح " المعروف بصحيح البخاري والمشتمل على نحو 9 آلاف حديث، منها 3 آلاف مكررة، وقد اتسق للبخاري أيضا - بعد امتحان لما روى من حديث، وبعد نقد للرواة - كتابه: " الضعفاء في رجال الحديث " ومن معاصري البخاري والعاملين معه في الحقل الحديثي: مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (204 - 261 هـ) (1) وقد رحل إلى الحجاز ومصر والشام، والعراق، فاجتمع له في خمس عشرة سنة كتابه المعروف " صحيح مسلم " الشامل لاثنى عشر ألف حديث، والذي هو ثاني الصحيحين المعول عليهما عند أهل السنة.
والحق أن هذين الصحيحين، ومعهما باقي الكتب الستة المعول عليها في تحقيق السنة، وهي: سنن أبي داود (202 - 275 هـ) ، وسنن الترمذي (209 - 279 هـ) وسنن ابن ماجه (209 - 273 هـ) ، وسنن النسائي (215 - 303 هـ) ومعهما أيضا موطأ مالك - الآنف الذكر -، ومسند الإمام أحمد بن حنبل الذي يضم 30 ألف حديث، هذه كلها قدمت للفقهاء الحديثيين المادة الشرعية التي أفادوا منها في استنباط فقههم، واستغنوا بها عن اللجوء إلى الاجتهاد بالرأي.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
د. محمد بن عبد الله العجلان.
__________
(1) انظر ترجمة مسلم في: الذهبي: تذكرة الحفاظ ج2 ص150، والخطيب البغدادي: تاريخ بغداد ج13 ص 100.(9/126)
تعقبات على كتابة بعض الناس
في العقيدة والتوحيد.
بقلم الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين.
- من مواليد مدينة القويعية عام 1352 هـ، استظهر القرآن الكريم، ثم درس النحو ومبادئ علوم الدين في مدينته ثم انتقل إلى مدينة الرياض، وانتظم في معهد إمام الدعوة العلمي وتخرج منه، وأتم دراسته في الحلقات العلمية، على يد سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم - رحمهما الله تعالى - وعلى يد سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - وفقه الله - ومن ثم التحق بالمعهد العالي للقضاء، وحصل على درجة الماجستير عام 1390 هـ.
- عمل مدرسا بمعهد إمام الدعوة ثم مدرسا بكلية الشريعة بالرياض، حتى انتقل إلى رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، وعمل فيها عضو إفتاء وذلك منذ سنة 1402 هـ، ولا يزال.
- له رسالة بعنوان (أخبار الآحاد في الحديث النبوي) قدمها لنيل درجة الماجستير، وستطبع قريبا إن شاء الله، وله نبذة في التدخين مادته وحكمه، وله مشاركات في شرح كثير من المناهج الدراسية والتعليق عليها.(9/127)
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم وبارك على من لا نبي بعده محمد النبي الكريم وعلى آله وصحبه. وبعد.
فلقد قرأت النصيحة الصادرة من أحد علماء مصر، والتي بعث بها المرسل المسترشد محمود عبد الله راشد من الجمهورية العربية المصرية إلى مفتي مكة المكرمة، وبعد أن قرأت فيها عنوانها تفاءلت به، ولكن اتضح أنه قد أخطأ الحق في بعض المواضيع فيما يتعلق بالصفات وفيما يتعلق بالأعمال، فأحببت أن أعلق عليها بعض التنبيهات على ما ظهر لي أنه خطأ وأوضح الصواب في ذلك حسب ما وصل إليه علمي، وأستشهد على ذلك ببعض أقوال العلماء الصالحين المخلصين وأقدم ما يتعلق بالصفات مرتبا ذلك حسب أسطر الصفحات.
فأقول أولا:
في السطر الحادي عشر من الصفحة الأولى قال في إثبات بعض الصفات: يسمع بغير أصمخة وآذان ويرى بغير حدقة وأجفان، ويتكلم بغير شفة ولسان، إلخ
فأقول: إن طريقة سلف الأمة إثبات الصفات حسب ورودها، واعتقادها صفات حقيقية لها معان مفهومة، ونفي التشبيه عنها، وإبعاد كل ما يتوهم فيه التشبيه وما هو من خصائص المخلوقين، مع الاقتصار في النفي والإثبات على ما وردت به النصوص، فنحن نثبت صفة السمع والبصر والكلام مع إثبات الحقيقة ونفي التشبيه، فأما ذكر الأصمخة والأذن والأحداق والأجفان والشفة واللسان، فلا نتعرض لها بنفي ولا إثبات، وننكر على من أثبتها وعلى من نفاها، مع وصف الله تعالى بأنه الأحد الصمد، وقد فسر الصمد بأنه المصمت الذي لا جوف له أو بالسيد الذي كمل في سؤدده وكلاهما معروف في اللغة.
وأقول ثانيا: قال في السطر الحادي والعشرين من الصفحة الأولى ما نصه.
كتهمة الوهابية للذات العلية يعتقدون بأن الله جسم محدود مؤلف من أعضاء، يد محسوسة يبطش بها ورجل يمشي بها، يجلس ويقوم ويغدو ويروح وينزل ويرتفع فأصبحوا كإخوانهم النصارى في الناسوت واللاهوت، لعب إبليس(9/128)
بلحاهم حتى أرداهم وأخرجهم من دائرة الإسلام؛ لأن المجسمة ليسوا من الإسلام في شيء إلخ.
والجواب أن يقال: مراده بالوهابية أتباع أئمة الدعوة السلفية التي قام بها في نجد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - مجدد القرن الثاني عشر - وهو أتباعه - رحمهم الله - ليس لهم مذهب خاص بل هم في العقيدة على معتقد السلف الصالح والأئمة الأربعة ومن تبعهم بإحسان، وهم في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل إمام السنة والحديث، مع أنهم لا يعيبون من تبع مذهب إمام من الأئمة المعتبرين، وإذا تبين لهم الحق والصواب في غير مذهب إمامهم تبعوه مع من كان، وقد ذكرنا آنفا أننا متبعون للنص والدليل ندور معه حيث دار، ففيما ذكره هذا القائل عدة أخطاء:
الأول: تسميته لهم بالوهابية بعد أن عرفت أنهم لم يختصوا بشيء ولم يبتدعوا جديدا وأن كل ما قالوه: أنهم متبعون للنصوص وللسلف الصالح؛ ولأن القائم بالدعوة ليس هو عبد الوهاب وإنما هو ابنه الشيخ محمد، فهم المحمديون أصلا وفرعا، ولأن الوهاب اسم من أسماء الله تعالى فهو الذي وهبهم الهداية والعلم والعمل.
الثاني: رميه لهم بالتجسيم، فهم لم يقولوا بذلك أبدا، ولم يستعملوا هذه اللفظة إثباتا ولا نفيا، فمن قال إن الله جسم فهو مبتدع، وكذا من نفى الجسم فهو مبتدع أيضا، حيث إن هذه اللفظة لم ترد في النصوص ولم يستعملها السلف والأئمة، ولو كان خيرا لسبقونا إليه، مع أنا نثبت الصفات الواردة ونعتقد حقيقتها وننفي عنها التشبيه والتمثيل، ولا يلزم أن نكون مجسمة إذا قلنا: بأن الله فوق عباده على عرشه بائن من خلقه، أو قلنا إن له يدا ووجها وعينا كما يشاء، أو قلنا إنه ينزل ويجيء لفصل القضاء كما يشاء، فإن هذه الصفات ونحوها قد وردت بها النصوص، فنحن نعتقد حقيقتها ولا نمثلها بخصائص المخلوق ولا نثبت لها كيفية أو مثالا، فكما لم ندرك كنه الذات وماهيتها، فكذا نقول في هذه الصفات فإنا نثبتها إثبات(9/129)
وجود لا إثبات تكييف وتحديد، كما قال ذلك أكابر الأئمة فكيف يلزم من ذلك أن نكون مجسمة؟! .
وهكذا قوله: " محدود ". نفضل ترك الخوض في الحد مع أنه من المسائل التي أثبتها بعض السلف ونفاها البعض، ولكن الأفضل التوقف حيث إن البحث في ذلك مبتدع وإن اللفظ لم يرد في الأدلة ومع ذلك فعذر من أثبت الحد ومن نفاه أن لكل منهما مقصدا ظاهره الصحة. وبالجملة فلا اختصاص لنا بهذا دون غيرنا ولكن هذا الكاتب مزجي البضاعة في عقيدة السلف وأقوالهم، وكان الأولى أن يوجه طعنه ولومه على علماء السلف وأئمتهم، فإن هذه الأقوال والمذاهب المأثورة عنهم مدونة في مؤلفاتهم الموجودة المشهورة.
الثالث: قوله عن الوهابية إنهم يصفون الرب تعالى بأنه مؤلف من أعضاء. يد محسوسة يبطش بها ورجل يمشي بها إلخ.
والجواب: أن هذا من جنس ما قبله قول عليهم بلا علم، فإن التأليف جمع المتفرق، أو تركيبه من أدوات مختلفة وهذه اللفظة محدثة في العقيدة لا نقول بها ولا نستعملها في عقائدنا ولم ترد في النصوص حيث إن لازمها قول باطل كما ذكرنا، فأما إثبات اليد والرجل حيث وردت فإنا نقتصر على ذلك فقد تكاثرت الأدلة على إثبات اليد بما لا يدع مجالا في أنها يد حقيقية، لكنا نقول: إنها لا تشبه خصائص المخلوق وإن الله يقبض بها السماوات والأرض كما أخبر عن ذلك، وأما الرجل فقد ورد في السنة أن الله يضع رجله أو قدمه على النار، وورد في القرآن ذكر الساق ووضح في الحديث، فإذا أثبتنا ذلك لم يلزم أن نكون مجسمة، ولم يلزم أنا نقول: إن الله تعالى مؤلف من أعضاء، بل نقول: إن ذاته حقيقية وصفاته حقيقية كما يليق به، كما أنا لا نقول: بالبطش والمشي الذي رمانا به، بل نقتصر على الوارد في الكتاب والسنة.
الرابع: زعمه أنهم يصفون الله بأنه يقوم ويجلس ويغدو ويروح وينزل ويرتفع. . . إلخ.
الجواب: إن هذا قول لا حقيقة له ولا عمدة له في هذا النقل، فهذه(9/130)
مؤلفاتهم وعقائدهم مطبوعة شهيرة ولا يوجد فيها هذه الألفاظ، فإنهم ينفون الصفات التي لم ترد في الوحيين ويتقيدون بالأدلة، ولكن أعداءهم يلزمونهم بلوازم باطلة، فإذا أثبتوا الاستواء كما يليق بالله أو فسروه بالعلو والارتفاع - كما قاله السلف وأهل اللغة - لم يلزم أنهم قائلون بالجلوس والقيام، فقد تكاثرت الأدلة على إثبات العلو الحقيقي بكل معانيه، وعلى إثبات العرش وأن الله تعالى مستو عليه كما يشاء، فليس لنا إنكار ذلك أو تسليط التأويلات التي هي تحريف للكلم عن مواضعه على تلك الأدلة واضحة الدلالة، فمتى ألزمنا أعداؤنا بلوازم باطلة زاعمين أنها تلزم من قال بموجب تلك النصوص لم نلتفت إلى تلك الإلزامات وأوضحنا خطأهم في هذا الإلزام. فأما إثبات النزول والمجيء فليس لنا إنكاره وقد صرحت به النصوص وتواردت على إثباته الأدلة التي لا تحتمل التأويل، ومع ذلك نتوقف عن الكيفية ونكلها إلى الله ولا نقول إنه إذا نزل يخلو منه العرش أو تحصره السماوات. . . إلخ، بل نقول إن الرسول الناصح لأمته - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر بهذا النزول وأن الله تعالى قد أخبر بالمجيء يوم القيامة فنحن نثبت ذلك كما ورد ولا نضيف إليه شيئا من عند أنفسنا فما ألزمونا به غير لازم.
الخامس: قوله: فأصبحوا كإخوانهم النصارى في الناسوت واللاهوت. . . إلخ.
فنقول: هذا تشبيه باطل وبعيد عن الصواب فما وجه الشبه؟! فإن النصارى زعموا أن اللاهوت وهو الإله اتحد بالناسوت وهو الإنسان أو عيسى، وقالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، وقالت النصارى المسيح ابن الله، وذلك هو عين الكفر والضلال، فأما أتباع السلف والأئمة فما قالوا شيئا من قبل أنفسهم وإنما وصفوا الله تعالى بما وصف به نفسه أو وصفه به أعلم الخلق بربه وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أثبتوا لله الصفات الواردة واعتقدوها حقيقة لتواتر النصوص بها، ثم نفوا عنها كل أنواع التشبيه وخصائص المخلوقين واعتقدوا أنها تليق بالله كما يشاء، لم يلزم أن يكونوا كالنصارى في قولهم باللاهوت والناسوت، وبكل حال فإن هذا الكاتب عليه أن يوجه عيبه ولومه إلى الأئمة المتبعين كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق ونحوهم، فهل يتجرأ أن يقول عليهم إنهم وهابية وإنهم إخوان النصارى؟(9/131)
هذا ما لا يستطيعه لما لهم عند جمهور الأمة من المكانة الراقية فلو رماهم بذلك لأنكر عليه الخاص والعام وسددت إليه سهام الملام.
السادس: قوله: لعب إبليس بلحاهم حتى أرداهم وأخرجهم عن دائرة الإسلام. . . إلخ
فنقول: هذا تهور وجرأة على الله وعلى المسلمين وأهل الدين واستهزاء وتمسخر بشعائر الإسلام وتكفير لأهل العقيدة السليمة وإخراج لهم عن دائرة الإسلام، وتلك مصيبة عظمى لو يعلم أثرها هذا الكاتب لم يتجرأ على ذلك. فإنه:
أولا: زعم أنهم قد أطاعوا الشيطان مطلقا وأنه هو الذي أوقعهم في هذا الاعتقاد السلفي الذي قد سار عليه جمهور سلف الأمة وأهل القرون المفضلة، فإذا كان إبليس قد لعب بهم فقد لعب أيضا بأولئك الأئمة والقادة الأجلاء.
ثانيا إخراجه لهم من الإسلام وهي إحدى الكبر فبأي خصلة أخرجهم من الدين أما كانوا يدينون لله بالتوحيد ويعملون بمعنى الشهادتين ويحافظون على إقامة أركان الإسلام ويبتعدون عن كل المحرمات ويحذرون منها ويحرصون على إخلاص دينهم لربهم وحده فلا يجعلون منه شيئا لغيره كائنا من كان، فمن كفرهم فقد أنكر حقيقة التوحيد وأباح الكفر والشرك فهو أولى بما قال وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «ومن دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه (1) » أي رجع إليه تكفيره، وفي حديث آخر «أن رجلا ممن قبلنا قال: والله لا يغفر الله لفلان: فقال الله تعالى: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان إني قد غفرت له وأحبطت عملك (2) » فهل ينتبه هذا الكاتب ويرتدع عن مثل هذا التهور والتسرع في التفكير.
السابع: قوله: لأن المجسمة المشبهة ليسوا من الإسلام في شيء. . . . إلخ.
فنقول: ونحن نبرأ إلى الله أن نصفه بالتشبيه أو التمثيل بشيء من
__________
(1) رواه مسلم 2 \ 49 عن أبي ذر رضي الله عنه.
(2) رواه مسلم 16 \ 174 عن جندب رضي الله عنه.(9/132)
المخلوقات، ولقد أوضحنا أن أئمة الدعوة بريئون من وصمة التشبيه أو التمثيل الذي يرميهم به أعداؤهم قديما وحديثا، وأنه لا يلزم من إثباتهم صفة الاستواء والنزول والمجيء وسائر الصفات الذاتية والفعلية أن يكونوا مشبهة، فإنهم تابعون للنصوص الصريحة في الإثبات ومصرحون بنفي مشابهة المخلوقات كما يثبت غيرهم الصفات العقلية. وينفون عنها التشبيه، وكما يثبت الباقون الذات الحقيقية ويتوقفون عن معرفة ماهيتها وكنه حقيقتها، وقد يكون النافون أولى بالتشبيه؛ لأنه لم يتبادر إلى أذهانهم سوى دلالة النصوص على التشبيه ولم يفهموا منها إلا هذا المعنى الباطل، فاعتقدوا أن ظاهر النصوص غير مراد؛ لأنه بزعمهم يدل على مماثلة الله للمخلوقات، تعالى الله وتقدس.
وأقول ثالثا: قال في السطر الثاني من الصفحة الثانية:
أما الآيات المتشابهات فلا بد فيها من التأويل خوف التجسيم والتشبيه. . إلخ.
والجواب: أن هذا قول خاطئ مخالف لقول الراسخين في العلم الذين يقولون في المتشابه: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (1) فقد ذم الله الزائغين الذين {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (2) إن هذا الكاتب اعتقد أن آيات الصفات فقط هي القسم المتشابه وحده، وهو قول خاطئ من حيث العموم فإنها محكمة جلية ظاهرة المعاني مفهومة الدلالة، فسرها السلف والأئمة وأوضحوا معاني ما اشتملت عليه، ولم يفوضوا لفظها كما يزعم أهل الكلام ولم يحرفوا معانيها كما يدعي هذا الكاتب ونحوه أن تأويلها لازم خوف التجسيم. . إلخ. فأما قوله لأن القرينة تصرف اللفظ عن ظاهره. . إلخ. نقول ليس ثم قرينة يحتاج معها إلى تحريف الكلم عن مواضعه فمتى قلنا {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (3) واعتقدنا أن الألفاظ دالة على معاني صحيحة مفهومة للمخاطبين وأنها دالة على صفات تناسب الموصوف وتباين صفات المحدثات ونحو ذلك لم نحتج إلى صرف اللفظ
__________
(1) سورة آل عمران الآية 7
(2) سورة آل عمران الآية 7
(3) سورة آل عمران الآية 7(9/133)
عن ظاهره، حيث يتكلف في هذا الصرف وحيث يكون المعنى المصروف إليه بعيدا عن السياق وعن المفهوم المتبادر للسامعين، فإن المخاطبين به عند نزوله لم يحرفوا معانيه، ولم يفهموا منه شيئا من خصائص المخلوق بل أثبتوا كل الصفات الواردة واعتقدوها لائقة بالموصوف، فلما جاء من بعدهم وفشت فيهم المذاهب الكلامية توسعوا في البحث فاعتقدوا أن ظاهر النصوص يقتضي التجسيم والتشبيه فسلطوا عليها أنواع التأويل كأضراب هذا الكاتب هداهم الله.
فأما قوله: فمن كان هذا شأنه لا بداية ولا نهاية، كيف تعتقد أنه جسم محدود مؤلف من أعضاء يتحرك وينتقل من مكان إلى مكان آخر ويترك وراءه فراغا؟
هذا عليه فيه ملاحظات منها قوله: لا بداية ولا نهاية، قال ذلك بعد الآية الكريمة: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} (1) وهو تفسير مبتدع فإن هذه الأسماء قد بين معانيها النبي - صلى الله عليه وسلم - ووضحها بقوله في دعاء الاستفتاح: «أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء (2) » .
ومنها قوله: كيف نعتقد أنه جسم محدود. والجواب: أنه لا يلزم من إثبات الصفات على ما يليق بها القول بأنه جسم محدود، ثم قد سبق الرد على قوله جسم محدود مؤلف من أعضاء، وبينا أن هذه ألفاظ بدعية لا يجوز الخوض فيها إثباتا ولا نفيا. . إلخ. ومنها قوله: يتحرك وينتقل من مكان. . . إلخ فنقول إنهم بالقول بذلك أئمة الدعوة السلفية وهو كقوله آنفا: يجلس ويقوم ويغدو ويروح وينزل ويرتفع وقد ذكرنا الجواب عنه آنفا وأوضحنا أنه لا يلزم من إثبات المجيء والنزول الذي وردت به الأدلة أن نقول بالحركة والانتقال المحسوس الذي هو من خواص المحدثات والمركبات، بل مجيء الله ونزوله هو كما يليق به وهو حق حقيقي ليس بمجاز ولا يصح نفيه بعد ثبوته في النصوص التي دلالتها قطعية.
__________
(1) سورة الحديد الآية 3
(2) رواه مسلم 17 \ 35 عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وكذا رواه أحمد وأهل السنن.(9/134)
ثم إن هذا الكاتب ذكر مثالا لتأويل بعض الآيات المتشابهة كما زعم وهي قوله {وَجَاءَ رَبُّكَ} (1) فأقحم فيها لفظ: أمر، فقال: وجاء أمر ربك والملك. . . إلخ وهذا تفسير الجهمية ومن تبعهم ولا عبرة بكثرة من قاله من المتقدمين، والمتأخرين، فإننا متبعون للأدلة، فقد ذكر الله الإتيان وأضافه إلى ذاته، وفرق بين إتيانه وإتيان بعض آياته، فقال عز وجل {هَلْ يَنْظُرُونَ إلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} (2) وقال تعالى {هَلْ يَنْظُرُونَ إلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} (3) إلخ. ومتى قلنا إن الله يجيء كما يشاء إتيانا يليق به لم يلزم القول بالحركة الموهومة، مع أن تأويله بالأمر لم ينقل عن أحد من السلف وهم الأسوة وبهم القدوة.
ثم ذكر مثالا ثانيا للتأويل الذي التزم سلوكه خوفا من التشبيه فقال في السطر الثامن من الصفحة الثانية (النزول) معناه الهبوط من أعلى إلى أسفل ثم الرجوع ثانيا إلى مكانه وهذا أيضا مستحيل، إذا لا بد من التأويل، نزول من وإفضال وقبول توبة، بمعنى التنزل، لا كنزول الأجسام والصور. . . إلخ.
والجواب أن يقال: وردت أحاديث كثيرة صحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن الله تعالى ينزل كل ليلة، وذكرت بلفظ النزول وبلفظ الهبوط، والذين نقلوها هم نقلة أحكام الشريعة ولم ينكرها أحد من السلف، ولم يقولوا إن المراد نزول فضله أو منه أو قبوله التوبة. إلخ. كما أنهم لم يكيفوا ذلك ولم يشبهوه بنزول الأجسام واعتبروه مثل المجيء والإتيان الذي أثبته الله لنفسه، ولم يلزم من إثباته ما هو مستحيل بل الجميع نص على حقيقته، وهو من خصائص المتصف به لأنه تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (4) في ذاته ولا في صفاته.
ثم ذكر مثالا ثالثا لصرف اللفظ عن ظاهره فقال في السطر العاشر في
__________
(1) سورة الفجر الآية 22
(2) سورة الأنعام الآية 158
(3) سورة البقرة الآية 210
(4) سورة الشورى الآية 11(9/135)
الصفحة الثانية: وهذا كحديث «الحجر الأسود يمين الله في الأرض (1) » لما كانت اليد هي موضع التقبيل والتبجيل والاعتراف بالفضل والجميل كان الحجر بمنزلة اليد لا عينها.
فنقول أولا: إن هذا لم يثبت حديثا مرفوعا، وإنما هو من قول ابن عباس في الحكمة من استلام الحجر وتقبيله. وثانيا: إن ابن عباس قد بين في تمام كلامه ما يبعد الوهم فقال: فمن صافحه أو قبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه، فقد بين أن الحجر ليس هو عين يمين الله تعالى، فإن المشبه غير المشبه به، فقد بين أن مستلمه ليس مصافحا لله وأنه ليس هو عين الله فليس في هذا إيهام، ولا يحتاج إلى تأويل، حيث إن السياق لا يدل على التشبيه، ثم ذكر جملة من الآيات وصرفها عن ظاهرها متبعا في ذلك تأويلات الجهمية وأتباعهم؛ ففي السطر الثاني عشر قال {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (2) هذه إشارة إلى علو المكانة لا المكان.
والجواب: أن هذا تأويل المعتزلة ونحوهم حيث ينكرون صفة العلو الذاتي لله تعالى، أما أهل السنة فيقولون: إن الله تعالى في السماء كما يشاء. وكما في هذه الآية والتي بعدها، وكما وردت به السنة في جملة أحاديث ولا يقولون: إن السماء تحويه أو تحصره تعالى عن ذلك علوا كبيرا. بل يقولون إن المراد بالسماء جهة العلو، فإن كل ما علا فهو سماء أو أن المراد: من على السماء كقوله {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} (3) أي عليها. وأدلة العلو متواترة متنوعة الدلالة، صريحة لمن تأملها ولا يلزم منها محذور كما تقول الجهمية ومن تبعهم.
ثم قال في نفس السطر {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} (4) أي ذاته {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (5) أي عنايتي ورعايتي لك.
فنقول هذا تأويل خاطئ، حيث أنكر ما أثبته الله لنفسه من صفة الوجه
__________
(1) لم أجده هكذا في الأمهات.
(2) سورة الملك الآية 16
(3) سورة التوبة الآية 2
(4) سورة الرحمن الآية 27
(5) سورة طه الآية 39(9/136)
والعين، وقد وردت أدلة متنوعة في الكتاب والسنة بذلك ومن طلبها وجدها في كتب الحديث والعقائد، ولم يزل السلف يأثرونها ويروونها من غير تكبر، ولم يقولوا إنها تشبه خصائص المخلوق؛ بل إنها صفة للرب تعالى كسائر صفاته نؤمن بها ولا نكيفها حيث لم يخالفها عقل سليم ولا نقل صحيح، بل النقول المتكاثرة المتواردة على حكم واحد يتعذر تأويلها.
ثم قال في السطر الذي يليه {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (1) أي بقدرته {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (2) «ويد الله مع الجماعة (3) » أي يؤيدهم بنصره. . . الخ.
وهذا تأويل باطل من جنس ما قبله، فقد تكرر ذكر اليد واليدين للرب تعالى في العديد من الآيات والأحاديث والتصريح بذكر اليمين، ونحو ذلك من العبارات الصريحة، فإن تأويلها بالقدرة بعيد عن الصواب، وقد ذكرها الله في قوله لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (4) بلفظ المثنى، ولو كان المراد القدرة لما حسن ذكر التثنية، ولقال إبليس: وأنا خلقتني يا رب بقدرتك. ثم إنه ادعى الإجماع على تأويل اليد بالقدرة والتأييد والنصر والرعاية والحماية والعناية، وليس كذلك فإجماع الصحابة والتابعين سابق لهؤلاء على أن يد الله صفة من صفاته، وتبعهم على ذلك سلف الأمة والأئمة الأربعة ونصره ابن جرير في تفسير قول الله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (5) فأين الإجماع على ما قال، ومن الذي حكاه كما قال هذا الكاتب؟! ثم إنه أورد بيت شعر اعتمده فيما قال، ونص البيت:
وكل نص أوهم التشبيها ... أوله أو فوض ورم تنزيها
__________
(1) سورة الزمر الآية 67
(2) سورة الفتح الآية 10
(3) من حديث رواه الترمذي والنسائي.
(4) سورة ص الآية 75
(5) سورة المائدة الآية 64(9/137)
وهذا البيت مذكور في منظومة لبعض الأشاعرة ونحن نقول:
أولا: إن صاحب النظم لا ينبغي اتخاذه عمدة فإنه إنما بني كلامه على معتقده الذي اعتنقه عن مشائخه الذين تلقى عنهم هذه العقيدة السيئة.
ثانيا: لا يظن أن نصوص الشرع من الكتاب والسنة توهم التشبيه أبدا، فإن السلف والأئمة لم يكونوا يفهمون أو يتوهمون أن النصوص توهم التمثيل بصفات المخلوقين، أو ما هو من خصائصهم، فالله تعالى أعلى وأجل من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر أو ضلال.
ثالثا: إلزامه بالتأويل والتفويض ويعتقد أن السلف يفوضون النصوص أي يسكتون عن المراد بها مع الاعتقاد أنها لا تدل على صفات حقيقية في نفس الأمر، فألزم إما بالتأويل وهو في الحقيقة تحريف للكلم عن مواضعه لكن ينفي دلالته على الصفات في نفس الأمر، وإما بالتفويض الذي هو السكوت المراد مع روح التنزيه وهو اعتقاد أنها لا تفيد صفات لله في نفس الأمر. وكلا الأمرين خطأ، وإنما الصواب ترك التأويل وإثبات حقيقة الصفات التي أفادتها تلك النصوص، مع تفويض العلم بالكيفيات والماهيات، ومع اعتقاد أنها لا يفهم منها تشبيه الرب أو شيء من صفاته بالمخلوقين فلا تشبيه ولا تعطيل.
ثم قال في السطر الخامس عشر من الصفحة الثانية:
فمن هذا شأنه لا بداية ولا نهاية كيف يجلس ويستقر على مخلوق ضعيف تحمله الملائكة، وتحفه من كل جانب ملائكة، هذا مستحيل. . . الخ
فيقال: تكرر قوله: لا بداية ولا نهاية وذكرنا أن الصواب التفسير النبوي الأول والآخر فأما قوله: كيف يجلس. . . الخ. فالجواب أن الله تعالى وصف نفسه بأنه على العرش استوى في سبعة مواضع من القرآن، وفسر العلماء الاستواء بما يدل على العلو والارتفاع والاستقرار والتزموا نفي العلم بالكيفية وتفويضها إلى الله، ولا أذكر في كتب السلف التفسير بالجلوس، فنسبته إلى أهل السنة أو أئمة الدعوة كذب عليهم، بل منهم من فوض وقال (استوى) استواء يليق بالله تعالى، ومنهم من قال: علا وارتفع كما يشاء مع عدم العلم بالكيفية، وليس في ذلك محذور والحمد(9/138)
لله، وقد أنكروا على من توسع في الخوض في ذلك بذكر أنه أكبر من العرش أو مثله أو دونه، وكذا بذكر المماسة وكون الرب محمولا على العرش كحمل الراكب على المركوب ونحو ذلك، فلا نقول بهذه التقديرات ولا نخوض في هذه الأبحاث لعدم النقل فيها ولما فيها من التدخل فيما لا يعني.
ثم قال بعد سطرين:
و (استوى) لغة معناها: استقر. فالاستقرار هنا بصفة الرحمة على العرش وما قواه. . . أما من اعتقد بأنه جلس واستقر على العرش فقد أشرك، لأنه توهمه جسما محدودا محمولا على عرشه. . الخ. والجواب قد تقدم أن السلف فسروا الاستواء بالاستقرار والعلو والارتفاع والصعود، ولم يقولوا ما قاله هذا الكاتب من أنه الاستقرار بصفة الرحمة على العرش فإنه بعيد. بل قالوا: استقر كما يشاء لا كاستواء المخلوق ولم يعتقدوا أنه جلس أو استقر على العرش كاستقرار المخلوق، ولم يقولوا إنه محتاج إلى العرش أو غيره، ولا توهموا ربهم جسما محدودا محتاجا إلى خلقه، فكل هذا تقول عليهم بلا علم، فإن كان يقصد أئمة الدعوة فليوقفنا على موضع من كتبهم فيه ما ذكر، وإلا فليسند القول إلى قائله، والذي يقول بتلك الأقاويل الكفرية يصدق عليه أنه حمار كما وصفه به الكاتب.(9/139)
في دعاء المخلوقين والتوسل بالأشخاص
قال الكاتب في الصفحة الثالثة في السطر السابع:
(النداء) لغة معناه الدعاء وهو لا يتقيد بالعبادة إلا إذا كان لله عز وجل، أما النداء لغير الله فيرجع إلى عقيدة الداعي، إن كان يعتقد فيمن يناديه أنه يضر وينفع ويعطي ويمنع من غير إذن الله فقد أشرك. . . الخ
والجواب: لقد خبط هذا الكاتب وخلط وأخطأ في الكثير مما قاله أو تعمد فأنبه على أهم أخطائه فيما يأتي:
أولا: ذكر أن الدعاء لا يتقيد بالعبادة إلا إذا كان لله عز وجل، أما النداء(9/139)
لغير الله فيرجع إلى عقيدة الداعي. . . الخ. وهذا قول باطل بعيد عن الصواب، صدر عن جهل بحقيقة الدعاء وبحقيقة العبادة وبالأدلة الواردة على ذلك، وأنا أشير إلى شيء من ذلك فأقول: أما الدعاء فهو لغة النداء، ويطلق شرعا على دعاء العبادة ودعاء المسألة، وهما متلازمان فدعاء العبادة هو فعل كل الطاعات وأداء جميع القربات امتثالا لأمر الله وتقربا إليه، وهو متضمن دعاء المسألة، فإن المصلي داع بلسان الحال فكأنه يقول: إنما أصلي طلبا برضا الله وجزيل ثوابه، وهكذا في جميع الأعمال الصالحة لسان حال من يفعلها يقول: أريد من فعلها مغفرة الله وجنته فهو سائل في نفس الأمر، أما دعاء المسألة فهو السؤال والطلب كسؤال الجنة والتعوذ من سخط الله ومن النار ونحو ذلك، وهو ولا بد مستلزم لدعاء العبادة، فإن حقيقة العبادة الذل والخضوع والتواضع والإذعان، فالذي يدعو ربه يسأله حال تذلل وخشوع وإنابة وإخبات، فالسؤال دعاء والذل عبادة، وهكذا المصلى والصائم والمتصدق والذاكر والقارئ والطائف والعاكف والراكع والساجد. فإن كلا من هؤلاء حال فعله يكون راغبا في فضل الله طالبا لمنه وعطائه، ويكون مع ذلك متذللا ومذعنا منقادا لأمر الله خاضعا مخبتا له وذلك هو حقيقة العبادة، ومتى كان كذلك ورأينا من يسأل ربه من فضله ويمد إليه يد الافتقار ويلهج بالدعاء مستمطرا من فضل ربه، فإنا نسميه داعيا سائلا لله، فإذا كان مع ذلك قد أهطع وأقنع وخشع وتذلل وتواضع حال سؤاله فهو لذلك عابد لربه ظاهرا نحكم بذلك حسب ما رأينا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «الدعاء هو العبادة (1) » ثم قرأ قول الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} (2) الآية، ووجه الدلالة من الآية أنه تعالى أمر بدعائه، وذم المستكبرين عن عبادته، والقرينة تدل على أن المراد يستكبرون عن دعائي، وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ} (3) فجعل دعاءهم عبادة، وقال عن الخليل عليه السلام
__________
(1) رواه الترمذي في تفسير سورة غافر عن النعمان رضي الله عنه.
(2) سورة غافر الآية 60
(3) سورة غافر الآية 66(9/140)
{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (1) ثم قال {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (2) فعبر بالعبادة عن الدعاء، وبعد أن عرفت حقيقة الدعاء وحقيقة العبادة وتلازمهما فإن الأدلة واضحة على أن الدعاء حق الله لا يصرف منه شيء لغير الله قال تعالى {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (3) وقال {وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ} (4) وقال {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (5) ونحوها من الآيات.
فقول هذا الكاتب: أما النداء لغير الله فيرجع إلى عقيدة الداعي، إن كان يعتقد فيمن يناديه أنه يضر وينفع ويعطي ويمنع من غير إذن الله فقد أشرك.
نقول: إن دعاء غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك مطلقا سواء كان المدعو ملكا أو نبيا أو وليا أو جنيا أو صالحا أو شريفا أو سيدا أو شجرا أو قبرا أو غير ذلك، فأما إن دعا إنسانا حيا حاضرا قادرا وطلب منه ما يقدر عليه كقوله: يا فلان اسقني أو أطعمني أو احملني أو احمل رحلي ونحو ذلك فهذا جائز وهو من الأفعال المحسوسة التي لا يزال الناس يفعلونها ويعين بعضهم بعضا على فعلها وكذا إن قال: يا فلان ادع الله لي بالمغفرة والجنة أو أشركني في صدقاتك أو وقفك أو دعواتك ونحوها فإن دعاء المسلم لأخيه يظهر الغيب مما يثيبه الله عليه، وهذا بخلاف ما إذا قال: اغفر ذنبي وأدخلني الجنة أو خذ بيدي عن النار ونحو ذلك فإن هذا لا يجوز فعله مع الحي فضلا عن الميت لأنه مما لا يقدر عليه إلا الله، فلا يطلب إلا منه تعالى.
فنحن نستدل بفعل الإنسان على عقيدته، فمتى رأينا شخصا وقف عند قبر إنسان معظم في نفسه وخضع برأسه وتذلل وأهطع وأقنع وخشع وخفض صوته وسكنت جوارحه وأحضر قلبه ولبه أعظم مما يفعل في الصلاة بين يدي ربه عز وجل، وهتف باسم ذلك المقبور، وناداه نداء من وثق منه بالعطاء، وعلق عليه الرجاء
__________
(1) سورة مريم الآية 48
(2) سورة مريم الآية 49
(3) سورة الجن الآية 18
(4) سورة يونس الآية 106
(5) سورة الأحقاف الآية 5(9/141)
ونحو ذلك فإننا لا نشك أنه والحالة هذه يعتقد أنه يعطيه سؤله ويدفع عنه السوء، وأنه يستطيع التصرف في أمر الله، ففعله هذا دليل سوء معتقده، فلا حاجة لنا أن نسأله: هل أنت تعتقد أنه يضر وينفع من غير إذن الله. فالله تعالى ما كلفنا أن ننقب عن قلوب الناس، وإنما نأخذهم بموجب أفعالهم وأقوالهم الظاهرة، وهذا الشخص قد خالف قول الله تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (1) وقد رأينا خشوعه وتذلله أمام هذا المخلوق الميت وذلك هو عين العبادة كما عرفنا، فنحكم عليه بموجب فعله وقوله بأنه قد أشرك بالله وتأله سواه، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب وتعظمه وتحبه وترجوه وتخافه وتعامله بما لا يصلح إلا لله، ولو لم يسمه الفاعل إلها، ولو لم يسم فعله تألها وتعبدا، فإن العبرة بالحقائق وما في نفس الأمر بخلاف الأسماء، فأهل هذا الزمان لما جهلوا حقيقة العبادة والتأله والدعاء ونحوه الذي هو من حق الله ولم يعرفوا معانيها وأصل وضعها صرفوها لغير الله وسموا ذلك توسلا واستشفاعا وتبركا واحتراما وهو عين عبادة ذلك المخلوق وعين الشرك الذي توعد الله عليه بالنار وحرمان الجنة.
__________
(1) سورة يونس الآية 106(9/142)
ثم قال الكاتب في الصفحة الثالثة في أول السطر التاسع:
أما من اعتقد فيمن يناديه بأنه من أهل العطاء وما ملك إلا بتمليك الله ولا يتصرف إلا بإذن الله فهو موحد. . الخ.
فنقول: لا حاجة لنا في التنقيب عن معتقده الذي يقوم بقلبه فإنه أمر خفي، وقد يقول بلسانه ما ليس في قلبه فنحن نأخذ بالظاهر فإن أفعاله تعبر عن ما في ضميره، ولو حاول تغييره لم يستطع، ثم نقول أيضا كيف يصلح اعتقاد أن المخلوق من أهل العطاء أي أنه يملك أن يعطي من يشاء مغفرة ورزقا ومالا وولدا وصحة وغنى. . . الخ؟ فإن الذي يملك ذلك هو الله وحده كما وصفه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: «اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت (1) » وقد أخبر الله عن كل ما يدعى
__________
(1) رواه البخاري رقم 844 وغيره عن المغيرة رضي الله عنه.(9/142)
من دونه بأنهم {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (1) وإن أراد الكاتب أنه من أهل العطاء أي الذين أعطاهم الله نوعا من التصرف والملكية فهذا لا دليل عليه، وإنما خصائص الأنبياء نزول الوحي عليهم وتكليفهم بالتبليغ عن الله ما نزل إليهم ولم يعطهم شيئا من حقه الذي هو الدعاء والعبادة والتأله، ولا ملكهم رزق العباد وهبة الأولاد وشفاء الأسقام البدنية وغفران الذنوب ونحوها، وعلى هذا فمن اعتقد في نبي أو ملك أو ولي أو أي مخلوق أنه مفوض من الله في إهلاك من شاء أو إعطاء من أراد أو إدخاله جنة أو نارا فقد صادم النصوص وأشرك المخلوق في حق الخالق فإنه الله تعالى قال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهو أشرف خلقه وأفضلهم {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (2) فإذا كان سيد الخلق وخاتم الرسل لا يقدر على هداية عمه أو أقاربه فكيف يهدي أبعد الخلق وأشقاهم إذا دعوه مع الله وصرفوا له ما لا يستحقه إلا الله، ولقد أمره الله تعالى أن يعترف بعدم ملكيته لشيء من ذلك لأنه حق الله وحده قال الله تعالى: {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا} (3) والرشد الهداية القلبية وإيصال الإيمان إلى القلوب، بخلاف البلاغ والبيان فإن وظيفته ورسالته كما قال تعالى {إِنْ عَلَيْكَ إلاَّ الْبَلَاغُ} (4) وقد أخبر بأنه يهدي إلى الحق أي يدل عليه كما قال عز وجل: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (5) والمراد هداية البيان والدلالة والإرشاد، فأثبت هداية البيان ونفى هداية التوفيق والإلهام وقبول الإسلام، فمع هذه النصوص الصريحة كيف يقال إن المخلوق يملك بتمليك الله الهداية والإضلال والإعطاء والمنع والإحياء والإماتة، أو يتصرف بإذن الله في الكون فيرسل الرياح ويثير السحب وينزل المطر وينبت النبات ويخلق ويرزق كل هذا جرأة على الله، وإنما جعل الله من معجزات عيسى ابن مريم عليه السلام شيئا من ذلك بإذن الله ثم انقطع برفعه
__________
(1) سورة فاطر الآية 13
(2) سورة القصص الآية 56
(3) سورة الجن الآية 21
(4) سورة الشورى الآية 48
(5) سورة الشورى الآية 52(9/143)
إلى السماء، ولم يذكر الله تعالى أن أحدا من الأموات أو الغائبين يهدي من أحب أو يرزق من يشاء بإذن الله، بل قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (1) فهل يقال بعد هذا إنه هو أو من دونه بعد موته يملك بتمليك الله النفع والضر والإعطاء والمنع وأنه بناء على ذلك يطلب منه كما يطلب من الله فيدعى ويرجى وتعلق عليه الآمال ويخشع له العبد ويتواضع ويقف أمام قبره خاضعا ذليلا وخائفا راجيا، فإن هذا كله لازم قول هذا الكاتب حيث أباح نداءه وجعله مالكا متصرفا فيما هو من خصائص الرب تعالى، وقد صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال لعشيرته الأقربين: «أنقذوا أنفسكم من النار لا أغني عنكم من الله شيئا (2) » وقال لعمه العباس «لا أغني عنك من الله شيئا (3) » .
وهكذا قال لعمته ولابنته فاطمة الزهراء، وأمرهم بأن يعملوا عملا صالحا لوجه الله ينقذون به أنفسهم من النار ولا يعتمدون على قرابتهم منه أو شرفه عند الله، بل قال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: «ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه (4) » وكل هذا حث للمسلم أن يعمل لله عملا خالصا لوجهه يكون سببا لنجاته يوم القيامة، فلا يعتمد على نسب ولا حسب ولا يرغب إلى أي مخلوق يدعوه أو يرجوه أو يخافه أو يعظمه كتعظيم الله تعالى، أو يعقد عليه أمله أو يعتقد أنه يملك من أمر الله شيئا مع قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِِ شَيْءٌ} (5) وقوله {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} (6) فهل ذكر الله تعالى أنه قد ملك أحدا من خلقه شيئا من حقه؟ أو فوض إليه التصرف في عباده، بأن يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ويهدي
__________
(1) سورة الأعراف الآية 188
(2) صحيح البخاري الوصايا (2753) ، صحيح مسلم الإيمان (204) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3185) ، سنن النسائي الوصايا (3644) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) ، سنن الدارمي الرقاق (2732) .
(3) رواه البخاري برقم 2753 عن أبي هريرة.
(4) من حديث أبي هريرة الطويل عند مسلم.
(5) سورة آل عمران الآية 128
(6) سورة آل عمران الآية 154(9/144)
من يشاء ويضل من يشاء، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ولقد قال تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (1) {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} (2) وقال عز وجل: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ} (3) أي لا أحد يتولى أمرهم ولا أحد يقدر على هدايتهم ولو توسلوا بالأنبياء والأولياء والملائكة والصالحين والأصفياء، والقصد من ذلك أن يقبل العباد بقلوبهم على ربهم ويصدقوا الرغبة إليه، ويدعوه مخلصين له الدين وينصرفوا بقلوبهم وأعمالهم عن كل مخلوق تحقيقا لوصف العبودية التي هي غاية الذل مع غاية الحب، فهو سبحانه قريب مجيب كما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (4) ، فهو أعلم بعباده وهو المطلع على الضمائر والنيات، ويعلم ما تكنه الصدور وما توسوس به النفوس، ويعلم السر وأخفى، فكيف مع ذلك يعدل عنه العباد، وكيف يحتاج إلى من يعرفه بخلقه، وكيف يكون المخلوق أعلم من الرب الخالق تعالى بما في قلب الداعي، فالصدور عن الخالق إلى أحد من المخلوقين فيه غاية التنقص للرب عز وجل وسوء الظن به أنه لا يعلم بعباده حتى ينبهه غيره من المخلوقين، تعالى الله علوا كبيرا.
__________
(1) سورة الزمر الآية 36
(2) سورة الزمر الآية 37
(3) سورة الإسراء الآية 97
(4) سورة البقرة الآية 186(9/145)
ثم قال الكاتب في السطر الثالث عشر من الصفحة الثالثة:
ومن أسف أن الوهابية قالوا: تمجيد الرسول بما يخرجه عن طبيعته البشرية باطل وزور وحكموا بكفر من وصفه بأنه نور، وغاب عن هؤلاء الحمير بأن الله وصفه بالسراج المنير. . . الخ.
جوابه أن يقال: مراده بالوهابية الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومن انتفع بدعوته السلفية رحمهم الله، وقد علم أنه رحمه الله لم يأت بجديد، وإنما جدد للناس ما اندرس من معالم التوحيد الذي هو حق الله على العبيد حيث خرج في(9/145)
مجتمع قد غلب عليه الشرك ووسائله كعبادة الأموات وعمارة ما يسمى بالمشاهد برفع قبور الصالحين والأولياء وبناء القباب عليها وتحري الصلاة عندها، وبالعكوف حولها وبالذبح لها تعظيما واحتراما، وبإيقاد السرج عليها طوال الليل وبالنذور والهدايا إلى تلك الضرائح وتعليق الرجاء عليها والهتاف بأسماء الأموات وندائهم ودعائهم مع الله، كقبر شمسان وتاج ويوسف وزيد بن الخطاب ونحوهم، فبين لأهل زمانه أن حقهم علينا محبتهم واتباعهم والعمل مثل أعمالهم، فأما الدعاء والرجاء والذبح والنذر فهو خالص حق الله، وأورد لهم النصوص الصريحة في مصادمة ما فعلوه للتوحيد كقوله صلى الله عليه وسلم «لعن الله من ذبح لغير الله (1) » مع قوله تعالى {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (2) أي خصه وحده بالصلاة والنحر، فمتى صلى أحد أو نحر لغير الله فقد أشركه في حق الله، وبين لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ القبور مساجد فقال قبل أن يموت بخمس: «ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك (3) » وقال وهو في سياق الموت «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (4) » يحذر ما صنعوا، وقال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج (5) » ودعا ربه فقال «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (6) » والمعنى أن الأولين أشركوا حيث تحروا الصلاة عند قبور الأولياء والأنبياء، فكل موضع قصدت الصلاة فيه فهو مسجد ولو لم يبن مسجدا له منبر موجه إلى القبلة، فإن المسجد ما يتخذ للركوع والسجود فيه.
فأهل ذلك الزمان قد غلب عليهم قصد قبور الأولياء والصالحين للصلاة عندها لاعتقاد أن للصلاة هناك مزية، وأنها أفضل من الصلاة في المساجد ومع
__________
(1) من حديث علي عند مسلم 13 \ 141 وغيره.
(2) سورة الكوثر الآية 2
(3) بعض من حديث جندب عند مسلم 5 \ 13.
(4) عن عائشة عند مسلم 5 \ 12.
(5) رواه أبو داود 3236 عن ابن عباس.
(6) رواه أحمد 2 \ 246 عن أبي هريرة رضي الله عنه.(9/146)
جماعة المسلمين، أو أن ذلك الولي يشفع في هذه الصلاة لتقبل أو يضاعف ثوابها ونحو ذلك من الاعتقادات الفاسدة، ولا شك أن هذا تعظيم للمخلوق ورفع لمنزلته إلى درجة لا يستحقها إلا الله، فأما الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فإننا نمجده ونحبه ونقدم محبته على الأنفس والأموال فإن ذلك شرط لصحة الإيمان، لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين (1) » ولكن لا نخرجه بهذه المحبة عن طبيعة البشر فنجعله ربا أو إلها أو خالقا أو رازقا، وإنما ميزته الرسالة حيث فضله الله على جميع البشر وأنزل عليه الوحي وكلفه بحمل الرسالة وتبليغها إلى جميع الناس، مع أنه لا يزال متصفا بالبشرية وبالعبودية، قال الله تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (2) بل إن الرسل كلهم لم يخرجوا عن وصف البشرية كما حكى الله عن الرسل قولهم لأممهم: {إِنْ نَحْنُ إلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (3) ولما تعنت بعض المشركين وطلبوا منه بعض الآيات التي لا يقدر عليها إلا الله قال الله تعالى له: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إلاَّ بَشَرًا رَسُولًا} (4) فهل من دليل يفيد أن الرسل خرجوا عن طبيعة البشرية فصاروا يعلمون الغيب ويملكون التصرف في الكون، ويشاركون الرب في الإعطاء والمنع والضر والنفع ونحو ذلك، أليس قد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ} (5) بل أمره الله تعالى أن ينفي عن نفسه هذه الأمور حيث قال تعالى: {قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} (6) بل قد وصفه الله تعالى بالعبودية التي هي تمام التذلل والخضوع للرب عز وجل فقال تعالى في مقام التحدي:
__________
(1) رواه مسلم 2 \ 15 وغيره عن أنس رضي الله عنه.
(2) سورة الكهف الآية 110
(3) سورة إبراهيم الآية 11
(4) سورة الإسراء الآية 93
(5) سورة الأحقاف الآية 9
(6) سورة الأنعام الآية 50(9/147)
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} (1) وقال تعالى في مقام الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} (2) وقال تعالى في مقام الدعوة {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} (3) وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} (4) وقال {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} (5) فذكر تعالى أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم ومميزاته أن أنزل عليه هذا الكتاب الذي أعجز الناس أن يعارضوه، ومن خصائصه أن أسرى ببدنه وروحه إلى المسجد الأقصى ثم عرج به إلى السماء إلى حيث شاء الله، ومن فضائله أن كلفه ربه بالدعوة إلى الله، وكل هذه المميزات لم تخرجه عن وصف العبودية لله بكل معانيها من كونه مملوكا للرب، ومن كونه ذليلا متواضعا وخاضعا له مطيعا، وهذا وصف فضل وشرف اتصف به المصطفون من عباد الله ولم يتكبروا عنه قال تعالى {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلاَ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} (6) فنحن نقول لا يصح في تمجيد الرسول صلى الله عليه وسلم اعتقاد أنه خرج عن كل وصف البشرية إلى وصف الملكية أو إلى وصف الربوبية أو الألوهية ولا واسطة بينهما.
__________
(1) سورة البقرة الآية 23
(2) سورة الإسراء الآية 1
(3) سورة الجن الآية 19
(4) سورة الكهف الآية 1
(5) سورة الفرقان الآية 1
(6) سورة النساء الآية 172(9/148)
فأما قوله: وحكموا بكفر من وصفه بأنه نور، وغاب عن هؤلاء الحمير بأن الله قد وصفه بالسراج المنير بصيغة المبالغة، بمعنى أن الله عز وجل يمد بواسطته كل من أراد هدايته بالأنوار والأسرار. . . الخ.
جوابه أن يقال: متى حكمنا بكفر من وصفه بأنه نور؟ أين نصوص علماء الدعوة في ذلك؟ هذا من الكذب الصريح والبهتان المبين، بل هم متبعون لما وصفه الله به من ذلك كما في قوله تعالى {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (1)
__________
(1) سورة المائدة الآية 15(9/148)
قال أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية من سورة المائدة يعني بالنور محمدا صلى الله عليه وسلم الذي أنار الله به الحق وأظهر به الإسلام ومحق به الشرك، فهو نور لمن استنار به يبين الحق، ومن إنارته الحق تبيينه لليهود كثيرا مما كانوا يخفون من الكتاب (1) لكن لا يلزم من هذا الوصف أن يصرف له شيء من حق الله، فلا يدعى مع الله ولا يعظم كتعظيم الله ولا يوصف بشيء من خصائص الله، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مرين، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله (2) » ولما «قال له رجل: ما شاء الله وشئت. قال: أجعلتني لله ندا، قل ما شاء الله وحده (3) » وقال «ولا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا ما شاء الله ثم محمد (4) » وذلك لأن الواو تقتضي المساواة بين المشيئتين مع أن مشيئة المخلوق لا تحصل إلا بعد مشيئة الله كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (5) ثم إنه صلى الله عليه وسلم هو أفضل الخلق وسيد ولد آدم، ومع ذلك لما «قال له وفد بني عامر: أنت سيدنا قال: السيد الله قالوا: وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا. قال: قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله - وفي لفظ - عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزل الله (6) » فهكذا كان يؤدب أمته سيما ضعفاء الإيمان أو حدثاء الإسلام، مخافة أن يقعوا في الغلو الذي يحبط الأعمال، فنحن نعتقد أنه صلى الله عليه وسلم هو النور والسراج المنير، وهو أفضل الرسل وخاتم الأنبياء وسيد الخلق، والشفيع المشفع في يوم القيامة وهو صاحب لواء الحمد وله المقام المحمود والحوض المورود، ولكن حقه على أمته أن يؤمنوا ويصدقوا بأنه مرسل من ربه وأنه قد أنزل عليه الوحي، وهو هذا القرآن الكريم والسنة المطهرة، وقد
__________
(1) تفسير الطبري 10 \ 143.
(2) رواه البخاري 2445 عن عمر رضي الله عنه.
(3) رواه أحمد 4 \ 214 عن ابن عباس رضي الله عنه.
(4) رواه أحمد 5 \ 72 عن الطفيل أخي عائشة لأمها.
(5) سورة الإنسان الآية 30
(6) رواه أحمد 4 \ 24 عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه.(9/149)
أمر الله تعالى بالإيمان به ورتب عليه الثواب قال الله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} (1) وقال عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} (2) وقال تعالى {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} (3) فالإيمان به يقتضي تصديقه واعتقاد رسالته وصحة ما جاء به عن ربه وصدقه في كل ما بلغه عن الله تعالى، مما يستلزم طاعته والسير على نهجه واتباعه في ما جاء به وما فعله على وجه التقرب والسنية، وقد علق الله على اتباعه الاهتداء ومحبة الله وغفران الذنوب حيث قال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (4) وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (5) وهذه هي آية المحبة، فإن أدعياء محبة النبي صلى الله عليه وسلم كثير، فمن كان صادق المحبة فإنه يحرص على اتباع هدي محمد صلى الله عليه وسلم ويطبق تعاليمه ويتخذه أسوة وقدوة حسنة، ويحرص كل الحرص على امتثال كل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من الإرشادات والتعاليم، فيمتثل الأوامر ويبعد عن النواهي والزواجر، ويقلده عليه الصلاة والسلام في أفعاله وسننه غير مبال بمن خالفه من أهل زمانه، ويصبر على ما يوجه إليه من المقت واللوم والعذل والتنقص والرمي بالتشدد والتزمت أو الغلو في الدين أو نحو ذلك، كما يحصل من أغلب الناس مع القائمين بخصال الفطرة والمتنزهين عن الشبهات من معاملات ربوية أو مشاهدة أفلام أو صور خليعة أو أغاني فاتنة، مع تصريح أولئك المستهترين بمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم والتصديق برسالته، وكأنهم يعتقدون أن صدق محبته إنما يتمثل في الإطراء ومدحه بما لا يستحقه إلا الله وإشراكه مع ربه في الملك، أو إعمال المطي إلى قبره ثم الهتاف ورفع الصوت بدعائه وطلبه الحاجات التي لا يقدر عليها إلا الله، وقد يتعلقون بحكايات مكذوبة أو أحاديث لا
__________
(1) سورة التغابن الآية 8
(2) سورة الحديد الآية 28
(3) سورة الأعراف الآية 158
(4) سورة الأعراف الآية 158
(5) سورة آل عمران الآية 31(9/150)
أصل لها كقولهم إن الله قال له: لولاك ما خلقت الكون، أو ما خلقت الأفلاك، وكقولهم: إن الله قال لآدم: لولا محمد ما خلقتك، ونحوها من الأكاذيب التي بنوا عليها وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه يعلم ما في اللوح المحفوظ وكل ما في الكون، وأنه يملك الدنيا والآخرة فيعطي ويمنع ويسعد ويشقي ويهدي ويضل، وهم مع هذا يخالفون سنته الثابتة كما في حلق اللحى وإطالة الشوارب وشرب الخمر وإسبال اللباس وتعظيم العصاة وموالاة الكفار، ونحو ذلك مما هو عين المحادة والمخالفة لسنته صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك من تسويل الشيطان حيث دعاهم إلى الغلو فيه من بعض الجهات وإلى مخالفة سنته من جهات أخرى، فهذه إشارة إلى بعض أعمال هؤلاء الأقوام الذين سمى ممثلهم علماء الإسلام وأهل التوحيد بالوهابية وجعلهم بمنزلة الحمير، وكأنه بهذا الوصف يشير إلى مثل اليهود الذي ذكره الله بقوله: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} (1) لكن هذا المثل ينطبق على هذا الكاتب وأضرابه الذين يقرءون القرآن وتمر بهم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وفيها النهي عن دعاء غير الله كقوله: {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (2) وكقوله: {وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ} (3) وقوله {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ} (4) ثم يخالفونها صريحا فهم أقرب إلى الشبه بالحمار الذي يحمل أسفارا والله المستعان.
__________
(1) سورة الجمعة الآية 5
(2) سورة الجن الآية 18
(3) سورة يونس الآية 106
(4) سورة يونس الآية 107(9/151)
ثم قال الكاتب في السطر السادس عشر:
فمن اعتقد أن مدد الرسول انقطع لانتقاله إلى الرفيق الأعلى فقد أساء الأدب مع الرسول ويخشى عليه الموت على الكفر والعياذ بالله تعالى.
جوابه: أن يناقش عن مدد الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته، فإن أراد بمدده دلالته على الخير وإرشاده للأمة وإيضاحه للحق والهدى وتبليغه لما أرسل به وبيانه لعلوم الشريعة أكمل بيان، فهذا لم ينقطع بموته، فإن الأمة لا تزال تستضيء(9/151)
بأنوار هدايته وتسير على النهج الذي رسمه لها وتستمد من سنته ما يوضح لها طرق الهدى، فمن صد عن سنته وأعرض عنها فهو أضل من حمار أهله، أما إن أراد بمدد الرسول صلى الله عليه وسلم فوائد اتباعه وآثار الاقتداء بسنته وبركات العمل بشريعته فهذا أيضا لم ينقطع بموته، فنحن نعتقد أن من سار على نهجه واقتفى طريقه حصلت له البركات وأمده الله بفضله وعطائه وانتفع في هذه الحياة بنتائج هذا الاتباع كسائر الأعمال الصالحة، فإن العمل الصالح سبب في كثرة الخير وحلول البركة وسعة الرزق وطيب الحياة ورغد العيش، والنصر على الأعداء وحصول العلم والفهم والفتح من الله والإلهام والتوفيق لعمل الصالحات والحفظ عن المنكرات، لكن لا يضاف المدد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلا حيث إنه ببركة اتباعه، وإلا فالله هو الذي يمد العاملين، ويعطيهم ويتفضل عليهم، لأنه تعالى مالك الملك وبيده النفع والضر والعطاء والمنع والخفض والرفع، فإن أراد هذا الكاتب بمدد الرسول صلى الله عليه وسلم إعطاءه لمن سأله ونصره لمن استنصر به وإجابته لمن دعاه ونحو ذلك فمثل هذا لا يملكه الرسول صلى الله عليه وسلم لا في حياته ولا بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، بل هو إلى الله تعالى كما قدمنا بعض الأدلة على ذلك كقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا} (1) {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} (2) وقوله {قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ} (3) وقوله صلى الله عليه وسلم لأقاربه «أنقذوا أنفسكم من النار لا أغني عنكم من الله شيئا (4) » وقوله في حديث الغلول: «لا أغني عنك من الله شيئا قد أبلغتك (5) » فإذا كان لا يملك جنس هذا المدد في حياته فهكذا لا يملكه بعد مماته، بل لا يملكه أحد من خلق الله لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلا عن غيرهما، فمن اعتقد أنه صلى الله عليه وسلم يمد من سأله ويعطي من طلبه وينفع من دعاه مع الله فقد جعله لله ندا وصرف له خالص حق الله، وهذا النوع من الإمداد هو مراد هذا الكاتب وأضرابه وغاب عنهم أن الصحابة ومن
__________
(1) سورة الجن الآية 21
(2) سورة الجن الآية 22
(3) سورة الأنعام الآية 50
(4) رواه البخاري 4771 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) رواه البخاري رقم 3073 وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه.(9/152)
بعدهم من أئمة المسلمين لم يعتقدوا هذا الاعتقاد ولم يفعلوا معه ما يدل عليه، فلو كانوا يعتقدون فيه هذا النوع لتهافتوا إلى قبره يطلبون منه المدد والإعطاء، فكم نزلت بهم من مصيبة وكم وقعت من فتنة كوقعة الحرة ونحوها، وكم سلط عليهم الأعداء ولم يحفظ أنهم جاءوا إلى القبر مستنصرين ولا فزعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قائلين المدد يا رسول الله، ولو كان هذا اعتقادهم لتوافدوا إلى قبره أفواجا وأقبلوا إليه من كل حدب وصوب زرافات ووحدانا، فلما لم يفعلوا عرف أن هذا الاعتقاد إنما هو من بدع المتأخرين حيث أوقعهم الشيطان في ذلك الاعتقاد السيئ ونتائجه الشركية وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ولقد كان الصحابة رضي الله عنهم يطلبون منه الدعاء في حياته بالغيث وإنزال المطر ورفع العذاب وبالمغفرة والجنة وبسعة الرزق وطيب الحياة، فيدعوا الله لهم ويجيب الله دعوته لكرامته عليه ولفضله وشرفه وليكون ذلك من جملة معجزاته، فأما بعد موته فلم يطلبوا منه شيئا من ذلك أبدا، بل لما قحطوا عام الرمادة توسلوا بعمه العباس رضي الله عنه (1) لشرفه وكبر سنه وقرابته من النبي صلى الله عليه وسلم فطلبوا من الله أن يجيب دعوته لهم لأنه حي موجود بينهم، ولم يتوسلوا بالنبي لله لأنهم عرفوا عدم جواز ذلك ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
__________
(1) رواه البخاري رقم 101 عن أنس رضي الله عنه.(9/153)
ثم قال هذا الكاتب في السطر السابع عشر:
(التوسل) كلمة التوحيد لا تتم إلا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكيف يتهم بالشرك من توسل به إلى الله، لك أيها المسلم العاقل أن تتوسل إلى الله بكل ما يحبه الله إن الله يحب المتقين ذاتا وصفات. . . الخ.
والجواب: نقول نعم لا تتم شهادة أن لا إله إلا الله إلا بشهادة أن محمدا رسول الله ذلك لأنه الذي دل على التوحيد ودعا إليه ولأن الله تعالى نوه برسالته كما في قوله تعالى {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} (1) وقوله {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (2) وقد فسرت هذه البشهادة بأنها طاعته فيما أمر
__________
(1) سورة الفتح الآية 29
(2) سورة الأعراف الآية 158(9/153)
وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع. وفسرت الشهادة له بالعبودية والرسالة بأنه عبد لا يعبد، ورسول لا يكذب بل يطاع ويتبع، فليس معنى هذه الشهادة أو من مستلزماتها التوسل بذاته وسؤال الله بجاهه ونحو ذلك. فأما قوله: فكيف يتهم بالشرك من توسل به إلى الله. فنقول: إن أراد من توسل بطاعته واتباعه، فلا بأس بذلك كأن يقول: اللهم أني أسألك وأتوسل إليك بإيماني وتصديقي واتباعي لرسولك وطاعتي له أن تغفر لي ونحو ذلك، كما يجوز التوسل بسائر الأعمال الصالحة كقصة أصحاب الغار الذين توصل أحدهم ببره لابويه، والثاني بعفته عن الحرام، والثالث بأمانته وأدائه حق الغير مع غلته. (1) ، فيجوز أن نتوسل إلى الله بالصلوات والأذكار والصدقة والجهاد ونحوها من أعمال العبد التي يرحمه الله بسببها ويقبل دعاءه وهكذا إن أراد التوسل بمحبته واحترامه وتوقيره والصلاة والسلام عليه وتعظيم سنته وشرعه وما جاء به فهذا من التوسل المشروع، فيقول: يا رب أسألك وأتوسل إليك بمحبتي لك ولنبيك وباحترامي له ولسنته أن تهب لي من فضلك وترزقني حلالا وتبارك لي فيما أعطيتني، ونحو ذلك.
وهكذا إن أراد التوسل بدعائه وشفاعته فلا بأس بذلك، ولكن يطلب ذلك كله من الله ويوجه إليه سؤاله، فيقول اللهم اجعلني ممن تناله شفاعة نبيك يوم القيامة، أو اللهم وفقني للعمل الصالح الذي أنال به شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم أو اجعلني من المؤمنين الذين يدخلون في دعائه واستغفاره صلى الله عليه وسلم، وكل هذا ونحوه جائز إن شاء الله ولا يخالف فيه أحد من أئمة الدعوة أو غيرهم من أهل السنة، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستغفر للمؤمنين كما في قوله تعالى {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (2) فأنت تدعو الله أن يجعلك من المؤمنين الذين يعمهم هذا الاستغفار.
__________
(1) رواه البخاري رقم 3465 عن ابن عمر رضي الله عنه.
(2) سورة محمد الآية 19(9/154)
أما إن أراد هذا الكاتب السؤال بذاته أو الإقسام بذاته على الله، أو السؤال بحقه أو بجاهه فهذا لا يجوز، فلم يرد ذلك عن الصحابة ولا عن أحد من أئمة الدين أو علماء المسلمين المقتدى بهم، ولا نقل أن أحدا منهم قال: اللهم إني أسألك بحق نبيك أو أنبيائك أو بجاه أو حرمة فلان، أو أتوسل إليك بنبيك ونحو هذا ولم يفعلوه في الاستسقاء ولا في غيره، لا في حياته ولا بعد مماته لا عند قبره ولا عند قبر غيره، ولم يرد هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم، وإنما ينقله المتأخرون الذين وقعوا في الغلو والشرك وينقلون في ذلك أحاديث ضعيفة أو موضوعة لا تقوم بها حجة، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 1 \ 202 عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم صرحوا بالنهي عن ذلك، وقالوا لا يسئل بمخلوق ولا يقول أحد: أسألك بحق أنبيائك. ثم نقل عن أبي حنيفة قال: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك، وقال أبو يوسف: معقد العز من عرشه هو الله فلا أكره هذا، وأكره أن يقول: بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام.
قال القدوري: المسألة بحقه لا تجوز، لأنه لا حق للخلق على الخالق فلا تجوز وفاقا ا. هـ.
ومعنى قوله: لا حق للمخلوق على الخالق، أي لا يجب على الله حق لخلقه، بل هو سبحانه المتفضل على عباده وهو الذي وفقهم للهداية والأعمال الصالحة، وامتن على من شاء منهم بالفضيلة والكرامة والنبوة والولاية، فليس لأحد عليه حق واجب نظير ما يجب للمخلوق على المخلوق من الحق الذي يطالب به ويلزم من عليه الحق بأدائه، فأما ما ورد من الأحاديث في حق العباد على الله كقوله صلى الله عليه وسلم: «حق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا (1) » . فهو حق تفضل وتكرم ووعد وعدهم به وهو لا يخلف الميعاد.
__________
(1) رواه مسلم 1 \ 232 وغيره عن معاذ رضي الله عنه.(9/155)
فأما قول الكاتب: أيها المسلم العاقل أن تتوسل إلى الله بكل ما يحبه.
جوابه: ما تقدم من أن التوسل الجائز هو التقرب إلى الله بكل الأعمال الصالحة التي يحبها، فمتى عمل المسلم الحسنات وتقرب إلى الله بالقربات التي(9/155)
يحبها كان ذلك أعظم التوسل، وهو معنى قوله تعالى {اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} (1) أي تقربوا إليه بالأعمال التي يحبها وتكون موصلة لكم إلى مرضاته، فأما التوسل بالذوات والأشخاص وسؤال الله بحقهم فإن ذلك لا يجوز ولم يفعله السلف الصالح ولو كان خيرا لسبقونا إليه.
أما قول هذا الكاتب: إن الله يحب المتقين ذاتا وصفات أحياء وأمواتا، ويحب من أحبهم، ويحب من اقتدى بهم، ويحب من توسل بهم إليه.
فالجواب: صحيح أن الله تعالى يحب المتقين ويحب من أحبهم واقتدى بهم، ولكن محبتهم تستلزم محبة أعمالهم، فمن أحبهم صادقا تتبع أفعالهم فطبقها وعمل مثل أعمالهم، فإن كنت تحب المتقين فاتق الله حق تقاته حتى يحبك الله كما أحبهم، وإذا كنت تحب المتقين فقلدهم في أفعالهم، فإن من أحب الرسول صلى الله عليه وسلم استن بسنته وعمل بالشرع الذي بلغه، ومن أحب الصالحين أصلح أعماله واقتفى آثار عباد الله الصالحين فهذه علامات المحبة قال الله تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (2) فمن أحب المتقين وانهمك في الذنوب وأشرك بالله واقترف المعاصي وخالف سيماء أهل التقوى فدعواه كاذبة خاطئة، فأما التوسل بحبهم إلى الله فجائز فإن حب أولياء الله وأهل الخير والصلاح من أعمال البر التي يثيب الله عليها.
فإذا قلت: أسألك يا رب وأتوسل إليك بحبك وحب أوليائك وأهل التقوى والصلاح من عبادك أن تهب لي من فضلك وجودك ونحو ذلك فلا بأس بذلك، كالتوسل بسائر الأعمال القلبية، فأما التوسل بذواتهم وأشخاصهم أو بحقهم وجاههم فقد عرفت أنه منكر من القول وزور، وأنه من وسائل تعظيمهم ورفع ذواتهم إلى ما لا يستحقه إلا الله فيكون شركا أو من وسائل الشرك، والله {لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} (3) بل قد توعد على الشرك بأعظم الوعيد فكيف يحب أهله أو يثيبهم ولكن أكثرهم يجهلون.
__________
(1) سورة المائدة الآية 35
(2) سورة آل عمران الآية 31
(3) سورة النساء الآية 116(9/156)
ثم قال الكاتب في السطر الحادي والعشرين من الصفحة الثالثة:
قال صلى الله عليه وسلم: «توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم» .
أقول: هكذا أهل الجهالة والضلالة يتعلقون بما هو أوهى من بيت العنكبوت، فنحن نطالبهم بإثبات هذا المقال كحديث مرفوع، حتى يتم الاستدلال به، فإنه حديث لا أصل له أبدا، قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى 1 \ 319 وروى بعض الجهال عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم» . وهذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث، مع أن جاهه عند الله تعالى أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين. فإذا كان موسى وعيسى وجيهين عند الله عز وجل فكيف بسيد ولد آدم صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، وصاحب الكوثر والحوض المورود. وهو صاحب الشفاعة يوم القيامة. . . وهو صاحب اللواء، آدم ومن دونه تحت لوائه. . ولكن جاه المخلوق عند الخالق تعالى ليس كجاه المخلوق عند المخلوق، فإنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه. . . والمخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه فهو شريك له في حصول المطلوب، والله تعالى لا شريك له. . . الخ.
وقال أيضا في الفتاوى 1 \ 346: وقد تقدم أن ما يذكره بعض العامة من قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان لكم حاجة فاسألوا الله بجاهي» . حديث باطل لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو في شيء من كتب الحديث، وإنما المشروع الصلاة عليه في كل دعاء. ولهذا كما ذكر العلماء الدعاء في الاستسقاء، وغيره ذكروا الصلاة عليه، ولم يذكروا فيما شرع للمسلمين في هذه الحال التوسل به، إلى آخر كلامه رحمه الله.(9/157)
ثم قال الكاتب: فيا أخا الإنصاف ما دام المتوسل موحدا، والمتوسل به يحبه الله والمسئول والمقصود بالطلب الله جل جلاله فلا شرك ولا وثنية.
والجواب أن يقال: إذا كان المتوسل به هو ما يحبه الله من الحسنات والأعمال الصالحة وحب أهل الخير واتباعهم، فالمتوسل والحال هذه موحد فلا(9/157)
شرك ولا وثنية، أما إن كان المتوسل به هو ذوات المخلوقين وأشخاصهم فهذا بدعة ووسيلة إلى تعظيمهم وإعطائهم ما لا يستحقه إلا الله فهو بدعة أو وسيلة إلى الشرك، والوسائل لها أحكام المقاصد، فهو وإن لم يكن شركا صريحا لكنه ذريعة إليه، وقد جاءت الشريعة بسد الذرائع وقطع الأسباب التي توقع في الشرك، فإن البناء على القبور وتجصيصها وإسراجها والصلاة عندها إنما منع منه لكونه ذريعة ووسيلة إلى الغلو في أهلها، ومن ثم دعاؤهم وعبادتهم من دون الله، فهكذا سؤال الله بجاه الأولياء والأنبياء أو بحقهم أو الاستشفاع بهم أو الإقسام على الله بهم، ونحو ذلك هو من هذا النوع، ولو كان الداعي في الحقيقة إنما دعا الله وسأله فإنه بتوسله قد ابتدع وتوسل إلى الله بحق مخلوق مع أنه لا حق للمخلوق على الخالق إلا ما تكرم به وتفضل به على عباده من الوفاء بوعده فهو لا يخلف الميعاد.
ثم قال الكاتب في السطر الرابع والعشرين من الصفحة الثالثة:
ومن أسف أن الوهابية قالوا: إن التوسل برسول الله شرك.
وجوابه: يعرف مما سبق وهو الإنكار لهذا المقال، فإن التوسل بمحبته وطاعته والتأسي به جائز لأن هذه الأشياء من أفضل القربات، فلك أن تقول: اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بمحبتي لك ولرسلك وطاعتي لك ولرسولك أن تعطيني وتهب لي ونحو ذلك، فأما التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم في حضوره أو مغيبه أو بعد موته، مثل الإقسام بذاته أو بغيره من الأنبياء، أو السؤال بنفس ذواتهم لا بدعائهم، فهذا لا نقول إنه شرك لكنه بدعة ووسيلة إلى الشرك، ولم يفعله الصحابة ولا السلف الصالح، فإن عمر رضي الله عنه توسل بالعباس لما أجدبوا وقصد بذلك دعاءه لكبر سنه وفضله، وكذا معاوية ومن معه توسلوا بيزيد بن الأسود الجرشي لصلاحه وتقاه ولم يتوسلوا بنبي الله لا عند قبره ولا غير قبره، وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره فيتوسلوا به بأن يقولوا نسألك أو نتوسل إليك بنبيك أو بجاه نبيك ونحوه كما هو الواقع من هذا الكاتب وأضرابه، وبالجملة فنحن لا نقول إن التوسل بالأنبياء شرك، ولكنه بدعة ووسيلة إلى الشرك فننهى عنه.
ثم قال الكاتب: وما أنكروه وحاربوه ثابت في كتابهم (الورد المصفى(9/158)
المختار) ثم ذكر الدعاء المشهور: اللهم إني أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض وبكل حق هو لك وبحق السائلين عليك. . . الخ.
جوابه: إن هذا الدعاء لا بأس به ولا دلالة على السؤال بذوات الأنبياء والأولياء حيث لم يقل أسألك بحق الأنبياء والصالحين أو بجاههم ومنزلتهم، وإنما سأل بحق السائلين، والمراد ما جعله حقا على نفسه لكل من سأله ودعاه بقوله:
{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (1) فكل من سأل الله فله حق الإجابة مع أنه حق تفضل وامتنان وكرم وليس حق وجوب كما اعترف بذلك هذا الكاتب واستدل بقوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) وكقوله: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} (3) وكحديث معاذ: «حق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا (4) » فحق السائلين عليه أن يجيبهم كما وعدهم، وهو حق أوجبه على نفسه، فسؤال الله تعالى بهذا الحق سؤال له بأفعاله لا بذوات السائلين، وإنما هو كقوله في الدعاء الآخر «أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك (5) » ، فالاستعاذة بمعافاته التي هي فعله كالسؤال بحق السائلين الذي هو إثابتهم وهو من فعله تعالى.
ثم قال الكاتب في السطر الثاني من الصفحة الأخيرة
فمن اتخذ إمامه النجدي ابن عبد الوهاب كانت آخرته هباب؛ لأنه استحل دماء المسلمين وأموالهم بشبه واهية لا تبرر موقفه من الله، قام بحروب دامية ذهب ضحيتها أرواح طاهرة. . الخ.
أقول: لقد أخطأ هذا الكاتب، فالشيخ محمد - رحمه الله - هو إمام وقدوة في تجديد التوحيد وعلم يهتدى به في هذا الباب فتح الله على قلبه ونور بصيرته فتفطن لما فيه الناس - في زمانه - من الانهماك في الشرور والتقرب إلى أرباب
__________
(1) سورة غافر الآية 60
(2) سورة الروم الآية 47
(3) سورة التوبة الآية 111
(4) رواه مسلم 1 \ 232 عن معاذ رضي الله عنه.
(5) رواه مسلم 4 \ 203 وغيره عن عائشة رضي الله عنها.(9/159)
القبور، فدعاهم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده وحذرهم من كل ما ينافي التوحيد أو ينافي كماله أو يقدم فيه أو يوقع في الشرك أو يجر إليه، فهدى الله على يديه من أراد بهم خيرا وعاقبة حسنة فأما من أصر وعاند واستمر على ذلك الشرك المنافي لدين الرسل فإنه أمر بقتاله بعد إقامة الحجة عليه وبعد إيضاح الدليل، لأنه حين بقي على ذلك الشرك المبطل للعبادات والموجب للخلود في النار حل بذلك دمه وما له كسائر المشركين.
وقد بين - رحمه الله - في مؤلفاته أن ما وقع فيه أهل زمانه هو عين شرك الأولين يخلصون في الشدة فيدعون الله وحده وينسون ما يشركون، أما مشركو زمن الشيخ رحمه الله فشركهم دائم في الرخاء والشدة، ولهم من الواقع والحكايات في ذلك الشيء الكثير من أن الشيخ - رحمه الله - ما أتى بشيء من قبل نفسه بل جدد للناس ما اندرس من أعلام الدين، فأخرجه الله في وقت قد اشتدت فيه غربة الإسلام واستحكمت فيه ظلمات الجهالة والهدى فبين للناس ما خلقوا له وأمروا به، فأطاعه واتبعه من وفقهم الله وأراد بهم خيرا وأيده الله بأمراء هذه الدولة الميمونة وهم آل سعود - رحمهم الله - فقاموا بنصرة التوحيد وجاهدوا في الله حق جهاده، وقمع الله بهم كل مشرك ومعاند حتى ظهر الحق وتجلى وشهد بأحقيته القاصي والداني، وألفت في سيرة هذا الإمام المؤلفات وكتب عنه علماء من أقاصي البلاد وهم لم يروه ولم يعاصروه، وإنما نقلت إليهم أخباره ومؤلفاته فبنوا عليها أنه صالح مصلح، وأن كل ما رمي به من التكفير ونحوه لا أصل له، بل هو مما ولده عليه أعداؤه الذين شرقوا بالحق وصعب عليهم الانفطام عن تلك المألوفات، أو خافوا باتباعه حرمانهم من المناصب أو المصالح الدنيوية أمثال أحمد بن زين دحلان وعلوي الحداد وداود بن جرجيس ويوسف النبهاني وجميل صدقي الزهاوي ونحوهم.
وقد رد عليهم أئمة الدعوة ومن وافقهم، وأوضحوا في الردود أن غالب ما سطروه كذب وبهتان عظيم، فهذا الكاتب ونحوه قد راجت عنده مؤلفات أولئك المضللين ولم يقرأ الردود عليها، وإلا لعرف وهاء تلك الحكايات التي تنسب إلى هذا الإمام، وعرف أحقية ما ادعي عليه، وعرف أن أتباعه هم أهل النجاة إن شاء الله(9/160)
أينما كانوا، فهم أهل الحياة الطيبة في الدنيا وأهل السعادة والفوز في الآخرة بفضل الله ورحمته، وعرف أنه لم يستحل دماء المسلمين ولم يكفر الناس كما يذكر عنه خصومه، وإنما كفر المشركين الذين قد صرفوا جل عبادتهم لغير الله، وقد أيد ما قاله بالأدلة الواضحة والبراهين الساطعة من الآيات والأحاديث التي تنص على ضلال من يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وتنص على أن أولئك المدعوين لا يسمعون دعاءهم ولو سمعوا ما استجابوا لداعيهم ويوم القيامة يكفرون بشرك من أشركهم مع الله (1) فكيف تكون تلك النصوص - التي سبق ذكر بعضها - شبها واهية لا تبرر موقفه من الله، وأي دليل أوضح من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي أثبتها الشيخ رحمه الله في كتاب التوحيد الذي قد طبع وانتشر، وقرأه القاصي والداني والمحب والمبغض والعدو والصديق، ولم يقل أن أحدا رد عليه أو تعقبه، أو قال إن تلك النصوص التي ضمنها هذا الكتاب وغيره شبهات واهية كما يستلزمه قول هذا الكاتب، ثم إنه كما سبق ما أذن في القتال إلا بعد أن أقام الحجة وأزال المعذرة ودحض الشبه التي تشبث بها من تعلق على المخلوقين والأولياء، فالذين قتلوا في الحروب التي وقعت بينه وبين خصومه: إما شهداء قتلوا في سبيل الله والذب عن توحيده ونصر دينه، وإما أشقياء يقاتلون في سبيل الطاغوت ويناضلون عن الشرك، فأرواحهم دنسة ملطخة بالكفر والنفاق والشرك والشقاق، ففي قتلهم إراحة للمسلمين وتمكين لهذا الدين.
__________
(1) مأخوذة من نص الآية الكريمة في سورة فاطر، آية 14.(9/161)
ثم قال هذا الكاتب في السطر الرابع في الصفحة الرابعة:
وغاب عن هذا المجرم قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (1) وقال عليه الصلاة والسلام: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار (2) »
__________
(1) سورة البقرة الآية 256
(2) رواه البخاري برقم 31 عن أبي بكرة رضي الله عنه.(9/161)
وقال: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر (1) » وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} (2) الآية. . الخ.
جوابه أن يقال أنت أيها القائل أولى بوصف الإجرام، حيث بالغت في نفي بعض صفات الله الكمالية التي أثبتها لنفسه، وحيث أجزت للناس دعاء غير الله والتوسل بذوات المخلوقين الذي هو وسيلة إلى الإشراك بالله، وحيث روجت تلك الأكاذيب على أهل الجهل وضعفاء البصائر لتوقعهم في الضلال، وحيث ظلمت أهل العلم والدين ورميتهم بما هم بريئون منه من الإجرام والزندقة والتشبيه فأنت أولى بهذه الأوصاف، وقد ذكرنا سابقا قول النبي صلى الله عليه وسلم «من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه (3) »
أي رجع عليه تكفيره أو رميه للأبرياء بالإجرام والزندقة، فأما الآية الكريمة فقد نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعرف معناها ولم يتوقف عن الغزو والقتال للكفار وبعث السرايا والجيوش لقتال المشركين وتوصيتهم بالدعوة ثم القتال، كما في حديث بريدة من قوله: «فإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال فأيتهن ما أجابوك لها فاقبل منهم وكف عنهم (4) » . فذكر الإسلام ثم الجزية ثم قال: «فإن هم أبوا فاستعن بالله قاتلهم (5) » وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} (6) وقال تعالى: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} (7) فالقتال إلى أن يحصل الإسلام هو إكراه على الدين، فعلى هذا فالآية منسوخة بآيات القتال العام للمشركين، أو خاصة بأهل الكتاب الذين يبقون على دينهم مع بذل الجزية ولا يكرهون على الدين، أو خاصة بمن نزلت فيه من أولاد الأنصار الذين تهودوا أو تنصروا فمنع الله أولياءهم من إكراههم على الدخول
__________
(1) رواه مسلم 2 \ 44 عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(2) سورة النساء الآية 93
(3) رواه مسلم 2 \ 49 عن أبي ذر رضي الله عنه.
(4) صحيح مسلم الجهاد والسير (1731) ، سنن الترمذي السير (1617) ، سنن أبو داود الجهاد (2612) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2858) ، مسند أحمد بن حنبل (5/358) .
(5) رواه مسلم 12 \ 37 عن بريدة رضي الله عنه.
(6) سورة التوبة الآية 123
(7) سورة الفتح الآية 16(9/162)
في الإسلام، وعلى كل حال فمتى أصر الكافرون أو المشركون على كفرهم وعاندوا فإنه فرض على المسلمين وولاة أمورهم قتالهم حتى يسلموا ويوحدوا لله تعالى، ومتى ارتدوا وخرجوا عن الإسلام أو فعلوا ما يناقضه وجب إقامة الحد عليهم ولو بالقتل لحديث «من بدل دينه فاقتلوه (1) » وقد شرع الله الجهاد في سبيله وعمل به المسلمون في كل زمان ومكان، فقاتلوا أصناف الكفار، حتى توسعت رقعة الإسلام ودخل الناس في دين الله عن طوع واختيار أو عن إلجاء وإكراه، وعلى ذلك حمل قوله صلى الله عليه وسلم: «عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل (2) » .
فأما حديث: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما (3) » الحديث، وحديث: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر (4) » وآية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا} (5) فقد قيدت بالمسلم والمؤمن الذي أسلم لله وحده، وآمن به ربا وإلها وعمل بحقيقة الإلهية، فوحد الله وأخلص له الدين واستسلم لله بالتوحيد، وانقاد له بالطاعة وتبرأ من الشرك ومن المشركين أينما كانوا، ونابذهم وأظهر لهم البغض والعداوة، فهذا هو الذي سبابه فسوق وقتاله كفر، ومن قتله متعمدا فجزاؤه جهنم، وهؤلاء لم يقاتلهم الشيخ محمد رحمه الله بل صادقهم ووافقهم ونصح لهم وأحبهم وصافاهم لأنهم إخوته في الدين، وإنما قاتل من أشرك بالله الشرك المحبط للأعمال بدعاء الأموات والاستنجاد بهم والهتاف بأسمائهم والحلف بهم، وتعظيمهم بما لا يستحقه إلا الله، فهم قد أبطلوا توحيدهم ونقضوا إيمانهم وأخلوا بوصف الإسلام، فقاتلهم ليرجعوا إلى دينهم وينيبوا إلى ربهم، فله عليهم المنة والفضل، حيث بين لهم الحق وردهم إليه فأجره على الله.
__________
(1) رواه البخاري 3017 وغيره عن ابن عباس رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري برقم 3010 وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) صحيح البخاري الإيمان (31) ، صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2888) ، سنن النسائي تحريم الدم (4122) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4268) ، سنن ابن ماجه الفتن (3965) ، مسند أحمد بن حنبل (5/51) .
(4) صحيح البخاري الإيمان (48) ، صحيح مسلم الإيمان (64) ، سنن الترمذي البر والصلة (1983) ، سنن النسائي تحريم الدم (4108) ، سنن ابن ماجه المقدمة (69) ، مسند أحمد بن حنبل (1/385) .
(5) سورة النساء الآية 93(9/163)
ثم قال هذا الكاتب في السطر السابع من الصفحة الأخيرة:
وهو يعلم يقينا بأن الأمة وافقت بالإجماع على أن التوسل وارد وثابت بالكتاب والسنة، ومضى على ذلك أكثر من ألف ومئتي سنة حتى ظهر ذلك الزنديق النجدي فحكم بكفر المتوسلين. . . الخ.(9/163)
جوابه: أن نقول أنت مطالب بإثبات هذا الإجماع أو ذكر من حكاه من الأولين والآخرين، وبيان دلالة النصوص من الكتاب والسنة كما تزعم، وقد قدمنا أمثلة للتوسل الوارد الجائز عند الأمة، وهو التوسل بالأعمال الصالحة كقصة أصحاب الغار، وأنه دعاء لله وحده ليس فيه تعظيم لمخلوق، ونقلنا عن الفتاوى 1 \ 202 ما ذكره عن أبي حنيفة وأبي يوسف والقدوري حيث منعوا المسألة بحق فلان أو الأنبياء والرسل لأنه لا حق للخلق على الخالق. . . . الخ.
أما النصوص فلا دلالة فيها على مراد المشركين من السؤال بالحق والجاه، وقد تقدم رد دلالة قوله: (بحق السائلين عليك) وأما الشبهات التي يتشبث بها أولئك المشركون فقد ناقشها علماء الدعوة وأوضحوا أنه لا دلالة فيها على دعاء الأموات والتوجه والتوسل بهم في الدعاء لضعف تلك الآثار أو لبعدها عن وجه الاستدلال ولمصادمتها للنصوص الواضحة الجلية التي تضمنها كتاب التوحيد وشروحه.
أما قول هذا الكاتب حتى ظهر ذلك الزنديق النجدي فحكم بكفر المتوسلين. . . الخ. فنقول: هل شققت عن قلبه حتى اطلعت على نفاقه وزندقته، أما تخشى أن يرجع إليك ذلك الإثم والظلم الكبير، فالشيخ رحمه الله هو الصالح المصلح الناصح للأمة المخلص لها، الودود الشفيق على عباد الله، حيث ألفى أهل زمانه قد غرقوا في الكفر والشرك وصرفوا حق الله من العبادة والتعظيم لغيره من المخلوقات، وأوقعهم الجهل بالشرك وحقيقته والجهل باسم الإله ومعنى العبادة وأنواع التعظيم في أن أشركوا بالله عن قصد أو عن غير قصد، فلما تبين لهم الحق رجعوا إليه وترحموا على ذلك الشيخ الذي هداهم الله على يديه، فأما من عرف وعاند فإنما حمله على ذلك إما الحسد والبغي والتكبر عن الاتباع للحق مع من هو دونه في نظره، وإما البخل بالجاه والمنصب والمصلحة الدنيوية خوف أن تنقطع عنه تلك المصالح متى تابع الحق واعترف به، وإلا فإن الأدلة التي أدلى بها الشيخ في كتاب التوحيد دلالتها أوضح من الشمس في رابعة النهار، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. أما قوله: فحكم بكفر المتوسلين. فجوابه كما تقدم أنه لم يحكم بكفرهم(9/164)
وإنما ذكر أنه بدعة ووسيلة إلى الشرك والوسائل لها أحكام المقاصد.
ثم قال: وغاب عن هذا المجرم بأن الأمة فيها آلاف من العلماء العالمين والأولياء الكاملين الذين اتقوا الله فعلمهم الله لا يساوي هذا الجهول تراب نعالهم.
وجوابه: إن وصفك له بالإجرام والجهالة من جملة ما أقذعت به من السب، وأنت تعلم أن سباب المسلم فسوق، فأنت أولى بوصف الإجرام وأنت الجهول حقا جهلا مركبا، ثم نقول أين أولئك العاملون والأولياء الكاملون لعلهم في زعم هذا الكاتب أمثال دحلان والنبهاني وبا بصيل ونحوهم ممن عميت بصائرهم عن نور الحق، وقد رد عليهم أئمة الدعوة ومن هو على مسلكهم وأوضحوا أخطاءهم وكذبهم وتهافتهم، ولكن هذا الكاتب ممن راجت عليه تلك الكتابات المشحونة بالكذب والبهتان، وعظم أولئك الأغبياء أو المعاندين وانخدع بما سطروه أو تفوهوا به عن هذا الإمام من أنه مجرم وجاهل وزنديق وظالم، وأنه يكفر المسلمين ويقتل الأبرياء ويبغض الرسول ويكفر من توسل به. . . الخ. ولو رجع إلى مؤلفات الشيخ رحمه الله وكتابات تلاميذه وأتباعه لوجد فيها الحق والصواب، وعرف أنه ما ابتدع شيئا من قبل نفسه، وإنما نبه أهل زمانه على ما أخطئوا فيه من مسمى العبادة والإلهية والتوحيد، فالذين وافقوه وشهدوا بصحة ما جاء به وموافقته للصواب هم أكثر وأفقه وأعلم من أولئك المخالفين المعاندين، أفلا تتذكرون.(9/165)
ثم قال الكاتب: الوهابية هم شر البرية، نظروا إلى حضرة الرسول نظرة احتقار كنظرة إبليس لآدم عليه السلام، حيث إنهم جردوه من كل مزاياه التي خصه الله بها من محبة ومنزلة وكرامة ووجاهة، وقالوا إن المتوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم كالمستشفع بالصنم سواء بسواء لا فرق عندهم بين سيد البشر والحجر. . . الخ.
جوابه أن نقول: سبحانك هذا بهتان عظيم فأئمة الدعوة السلفية هم أولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم ينظرون إليه نظرة إكبار واحترام، فلا يصح عندهم الإيمان إلا بالشهادة بالرسالة والنبوة، ويرون بطلان الصلاة بدون هذه الشهادة،(9/165)
ويعلنونها في الأذان وفي الخطب وفي الجمع والأعياد وفي مؤلفاتهم، ويرون أن محبته على النفس والأهل والمال والولد والناس أجمعين، وأن من آثار محبته حب سنته واتباعه والتأسي به، وأنه الواسطة بين الأمة وبين الله، فإنه الذي دعا إلى توحيد الله وعبادته وهدى الله الأمة على يديه، وأوجب الله على الأمة طاعته وقرنها بطاعة الله في أكثر من أربعين موضعا وأمرنا باتباعه، وعلق عليه الاهتداء ومحبة الله ومغفرته، فهو أمينة على وحيه وخيرته من خلقه وسفيره بينه وبين عباده، أمر الله الأمة أن يتقبلوا كل ما بلغه عن ربهم ويقنعوا بحكمه ويرضوا ويسلموا له تسليما، وأمرهم باحترامه في حياته بقوله: {لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} (1) ومدح الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله، ونهاهم عن دعائه باسمه العلم بقوله: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} (2) وأمر بتوقيره بقوله: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} (3) فأئمة الدعوة الذين سماهم هذا الكاتب وهابية يعترفون للرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الحقوق وهذه الأوصاف ونحوها، ولكنهم لا يعطونه شيئا من حق الله، كالدعاء والخوف والرجاء والتوكل والاستعانة والإنابة والتعظيم، والركوع والسجود ونحوها، فكلها حقوق لله تعالى لا يصلح صرفها لغيره لا لملك مقرب ولا نبي مرسل، وأحب أن أنقل هنا أبياتا في تفصيل حق الله وحق رسوله صلى الله عليه وسلم من نونية ابن القيم، قال رحمه الله تعالى:
لله حق لا يكون لغيره ... ولعبده حق هما حقان
لا تجعلوا الحقين حقا واحدا ... من غير تمييز ولا فرقان
فالحج للرحمن دون رسوله ... وكذا الصلاة وذبح ذي القربان
وكذا السجود ونذرنا ويميننا ... وكذا عتاب العبد من عصيان
وكذا التوكل والإنابة والتقى ... وكذا الرجاء وخشية الرحمن
__________
(1) سورة الحجرات الآية 2
(2) سورة النور الآية 63
(3) سورة الفتح الآية 9(9/166)
وكذا العبادة واستعانتنا به ... إياك نعبد ذاك توحيدان
وكذلك التسبيح والتكبير والت ... هليل حق إلهنا الديان
لكنما التعزير والتوقير حق ... للرسول بمقتضى القرآن
والحب والإيمان والتصديق لا ... يختص بل حقان مشتركان
هذي تفاصيل الحقوق ثلاثة ... لا تجهلوها يا أولي العدوان
حق الإله عبادة بالأمر لا ... بهوى النفوس فذاك للشيطان
ورسوله فهو المطاع وقوله ال ... مقبول إذ هو صاحب البرهان
وهو المقدم في محبتنا على ال ... أهلين والأزواج والولدان
وانظر شرح هذه الأبيات في شرح قصيدة الإمام ابن القيم 2 \ 348 للشيخ أحمد بن عيسى رحمه الله فأئمة الدعوة الذين اقتدوا بالسلف الصالح والأئمة يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل قلوبهم ويعتقدون أن له عند الله الكرامة والرفعة والمنزلة العالية والوجاهة والقرب من الله، ولكن مع هذه الخصائص لا يصح أن يصرف له شيء من حق الله تعالى، ولا يتوسل بذاته ولا بذات غيره من الخلق وإنما يتوسل بمحبته واتباعه وتصديقه.
ولقد كذب هذا الكاتب في أنهم جعلوا المتوسل به كالمتوسل بالصنم، وأنه لا فرق عندهم بين سيد البشر والحجر. نعوذ بالله من البهت والزور والفجور، وهكذا زعمه أنهم نظروا إليه نظرة احتقار كنظرة إبليس لآدم، فكيف احتقروه وهم يشهدون له بالرسالة ووجوب الطاعة ويرون أن الطرق مسدودة إلا من طريقه، وأن من قدم حكم غيره على حكمه فقد ضل سواء السبيل، فأين الاحتقار الذي زعمه هذا الكاتب؟ فليس من لازم محبته ووجاهته دعاؤه مع الله أو الاستغاثة به دون الله، فالله تعالى يقول: {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (1) والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله (2) » رواه أحمد والترمذي عن ابن عباس (3) فهذا الكاتب وأمثاله عندهم أن من تمام محبته واعتقاد وجاهته أن يعظم
__________
(1) سورة الجن الآية 18
(2) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2516) ، مسند أحمد بن حنبل (1/308) .
(3) كما في المسند 1 \ 293.(9/167)
كتعظيم الله، فيحلف به دون الله مع قوله صلى الله عليه وسلم: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (1) » أو يصرف له شيء من حق الله، أو يعتقد في ذاته الشريفة أنه يملك الضر والنفع، أو يعلم الغيب أو نحو ذلك، فليس هذا من لوازم الإيمان برسالته، ولا من علامات محبته، وإنما هو من الغلو الذي نهى عنه بقوله صلى الله عليه وسلم «وإياكم والغلو في الدين (2) » وبقوله «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله (3) » .
__________
(1) رواه أحمد 1 \ 47 وغيره عن عمر رضي الله عنه.
(2) رواه أحمد 1 \ 5215 وغيره عن عباس رضي الله عنه.
(3) رواه البخاري برقم 3445 عن عمر رضي الله عنه.(9/168)
ثم قال الكاتب: وليس لديهم أي دليل يدل على صدق دعواهم، غير أنهم لما أنزلوه هذه المنزلة الحقيرة، تشبهوا باليهود في تحريف كلام الله، كل آية أنزلها الله في حق عباد الأصنام والمشركين طبقوها على المسلمين الموحدين، وأنكروا كل حديث صحيح وافقت عليه الحفاظ، وأجمعت على صحته الأمة، وهذا الموقف المعاند احتقار لشأن الرسول. . الخ.
جوابه: أن نقول إن هذا الكاتب وأضرابه لا يفهمون دلالة الآيات والأحاديث لما تكبروا عن الحق وقبوله وأشربوا الكفر ومحبة الشرك عقوبة عاجلة قال الله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} (1) فلو كانوا يفقهون ويعقلون لكفاهم بعض تلك الأدلة المتقدم بعضها {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ} (2) والأدلة على ما دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أكثر من أن تحصر كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} (3) {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا} (4) وقوله تعالى:
__________
(1) سورة الأعراف الآية 146
(2) سورة يونس الآية 101
(3) سورة الجن الآية 20
(4) سورة الجن الآية 21(9/168)
{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (1) وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} (2) الآية وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (3) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} (4) وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} (5) {وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (6) ونحو ذلك كثير فهل يقال: إن هذه الآيات بطل معناها وأنها مقصورة على مشركي العرب قبل الإسلام وهل يقال: إن الأنبياء والأولياء يستجيبون لمن دعاهم ويملكون التصرف في الكون، والضر والنفع والعطاء والمنع، ويعلمون الغيب ويشفعون بدون إذن الله ويملكون الشفاعة مع قوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} (7) هذا والأدلة على وجوب التوحيد والإخلاص والنهي عن الشرك ووسائله كثيرة كما في كتاب التوحيد، وشرحه فتح المجيد، وسائر مؤلفات أهل العلم والإخلاص، ودلالتها واضحة ولم يقل أحد من الشراح ولا الرواة أنها خاصة بعباد الأصنام في الجاهلية قبل هذا الكاتب وأضرابه.
فأما قوله وأنكروا كل حديث صحيح. . الخ. جوابه أن الأحاديث المزعومة هي أمثال الحديث الموضوع السابق بلفظ: «إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي» الخ.
وقد عرفت أنه كذب لا أصل له وتقدم حديث: «اللهم أسألك بحق السائلين عليك (8) » وعرفت أن السائلين هم الذين يدعون الله وحقهم عليه أن يجيبهم وهو حق تفضل وتكرم، فنحن نقول لهذا الكاتب: أين تلك الأحاديث التي وافقت عليها الحفاظ، وأجمعت على صحتها الأمة هل هناك حديث في الصحيحين أو في أحدهما
__________
(1) سورة الجن الآية 18
(2) سورة الأحقاف الآية 5
(3) سورة فاطر الآية 13
(4) سورة فاطر الآية 14
(5) سورة سبأ الآية 22
(6) سورة سبأ الآية 23
(7) سورة الزمر الآية 44
(8) سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (778) ، مسند أحمد بن حنبل (3/21) .(9/169)
أو في كتب السنة صحيح تلقته الأمة بالقبول يتضمن أن ندعو الرسول صلى الله عليه وسلم ونسأله حوائجنا أو نحلف به دون الله أو فيه أنه أو غيره من الأنبياء والأولياء يعلمون الغيب، أو يتصرفون في الكون أو يملكون الشفاعة بدون إذن الله ونحو ذلك؟ وأكثر ما يتشبث هؤلاء بحديث الأعمى الذي رد الله عليه بصره بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينقل أن أحدا من المكفوفين استعمله بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما فيه دعاء لله أن يتقبل دعاء نبيه وشفاعته في رد بصره، وهكذا حديث توسل الصحابة بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم يتعلق به هؤلاء، ونحن لا ننكر أن نتوسل بالأحياء الصالحين أن يدعوا ربهم ويؤمن الناس على دعائهم، فأما التوسل بالأموات من أنبياء أو غيرهم فلم ينقل عن الصحابة ولا غيرهم، فبهذا العرض الوجيز يتضح مبالغة هذا الكاتب في أن أئمة الدعوة قد أنكروا كل حديث صحيح يعنى في التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم أو طلبه الشفاعة بعد موته أو في وصفه بالملك والتصرف مع الله، فليس هناك أحاديث صحيحة في هذا الموضوع، ولو صحت وثبتت لكان لها وجه تحمل عليه لئلا تخالف أدلة الشريعة والله أعلم.(9/170)
الصوفية
تعرض هذا الكاتب للمدح والإطراء في حق الصوفية، وكأنه أراد بذلك الرد على أئمة الدعوة في إنكارهم على أهل الطرق والأحوال، أو اعتقد أنهم ينكرون على الصوفية ويمقتونهم، أو أراد بالثناء عليهم أن فيهم الأولياء والأصفياء الذين وصلوا إلى حضرة القدس واتصلوا بالملأ الأعلى، فاستحقوا لذلك أن نتوسل بهم وندعوهم من دون الله كما يفعل المشركون مع الجيلاني والبدوي ونحوهما ونحن نقول: إن الصوفية أصلا هم الزهاد في الدنيا والمشتغلون بالعبادة، وكانوا في الزمن الأول يرتدون الصوف الخشن من باب التقشف فعرفوا بهذا الاسم، كإبراهيم بن أدهم وبشر الحافي وإبراهيم الخواص، والجنيد بن محمد ونحوهم، وكان أولئك يعبدون الله على علم وبصيرة فيحافظون على الجماعات ويبتعدون عن المحرمات ويسارعون في(9/170)
الخيرات ولم يكن عندهم شيء من البدع ولا الخرافات، ثم جاء بعدهم من تسمى باسم الصوفية وانتحل مذهبا خاصا، وأصبح الصوفية أهل نحلة وطريقة مستقلة، وابتعدوا عن العلم والعلماء واعتمدوا على الأذواق والمواجيد، فدخلت عليهم بدع وخرافات في المعتقد وفي العمل، كالسماع والرقص والتواجد وصحبة الأحداث والزهد في المباحات وتأليم النفس ونحو ذلك، وقد ناقشها ورد عليها فيها الشيخ ابن الجوزي في كتابه (تلبيس إبليس) وغيره، ثم جاء بعدهم من تسمى بالتصوف أيضا وغلا حتى تدخل في الربوبية، واعتقد أن الوجود واحد بالعين، وأنكر الفرق بين الخلق والخالق، وهم المسمون بالاتحاديين الحلوليين وأهل وحدة الوجود، وقولهم من أشنع الأقوال، وكفرهم أوضح من كفر اليهود والنصارى، فمنهم من أفصح عن ما يكنه وأعلن معتقده كالحلاج فحكم بكفره أهل زمانه وأفتوا بقتله فقتل، ومنهم من يتستر ويخفي معتقده ولكنه يظهر للمتمعن والمتفطن في كلامه، أمثال ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض ونحوهم، وهذا المعتقد الكفري قد تمكن وفشا القول به زمن شيخ الإسلام ابن تيمية، فرد على أهله ضمن رسائل مطبوعة في المجلد الثاني من مجموع فتاوى شيخ الإسلام، وله رسائل كثيرة في حقيقة التصوف والسلوك في المجلدين العاشر والحادي عشر، ومن هذا التقديم الموجز يعرف أنه لا يجوز إطلاق الذم ولا المدح للصوفية، بل يعطى كل منهم حكمه، أما الصوفية في هذا الزمان ومنهم من يعرفون بالتيجانية وغيرهم فإنهم قد انتحلوا طرقا وصارت لهم مقامات وخواص تصادم الأدلة حيث يعتقدون في أوليائهم الأقدمية على الرسل الكرام، ويزعمون أن الولي يأخذ عن الله بلا واسطة، ويرجعون إلى أقوال مقدميهم، ويحكمونهم في الأنفس والأزواج والأموال، ويعتقدون فيهم العصمة وملكية التصرف ونحو ذلك من الاعتقادات السيئة، فما داموا كذلك فهم مجانبون للصواب ومحادون لله ورسوله فلا نعرف لهم فضلا ولا كرامة.
قال الكاتب: الصوفية هم صفوة الله من خلقه، وقدوتهم أهل الصفة الذين مدحهم الله وأثنى عليهم في محكم كتابه لأنهم عبدوه محبة فيه وشوقا(9/171)
لرؤيته وإمام الجميع المصطفى صلى الله عليه وسلم بتوجيه من الله عز وجل كان في غار حراء فوجد في الخلوة الجلوة. . الخ.
جوابه أن يقال: يعتقد هذا الكاتب وأمثاله أن اشتقاق اسم الصوفية من الصفاء أي صفاء القلوب، أو من الصفوة أي أنهم صفوة خلق الله أي خيرتهم وأفضلهم، وهذا خطأ فإن الصوفية إنما وجدوا في أثناء القرن الثاني واشتهروا بالزهد والتقشف ولبسوا الصوف المنسوج من صوف الضأن لخشونته، قال الشيخ تقي الدين في الفتاوى 11 \ 28: وكذلك في المائة الثانية صاروا يعبرون عن ذلك بلفظ الصوفي، لأن لبس الصوف يكثر في الزهاد، ومن قال: إن الصوفي نسبة إلى الصفة أو إلى الصفا فهي أقوال ضعيفة. . . الخ. وقال أيضا ج11 ص195: واسم الصوفية هو نسبة إلى لباس الصوف، هذا هو الصحيح. وقد قيل إنه نسبة إلى صفوة الفقهاء، وقيل إلى أهل الصفة، وقيل إلى الصفا، وقيل إلى الصفوة، وقيل إلى الصف المقدم بين يدي الله تعالى، وهذه أقوال ضعيفة، فإنه لو كان كذلك لقيل صفي أو صفائي أو صفوي ولم يقل صوفي اهـ.
وهذا الكاتب جعل الصوفية هم صفوة الله من خلقه، فأما أن يقصد سبب التسمية أو يقصد الميزة والفضيلة، فقد عرفت أن اشتقاق التسمية من الصوف لا من الصفوة، وعرفت مما قدمناه أن الصوفية الأقدمين كانوا من صفوة عباد الله في ذلك الزمان، لكن ليسوا أفضل من أنبياء الله ورسله، ولا من الصحابة والسابقين الأولين، فإطلاق الكاتب بأنهم صفوة الله من خلقه خطأ؛ فإنه يلزم منه تفضيلهم على ملائكة الله ورسله وعلى أكابر الصحابة والخلفاء الراشدين والسابقين إلى الإسلام، وعلى أئمة المسلمين وعلمائهم الذين لم يلبسوا الصوف ولم ينتسبوا إلى الصوفية، ولا شك أن مراد الكاتب بهم صوفية هذا الزمان ومن سبقهم من أئمتهم كابن عربي وابن سبعين والحلاج ونحوهم ممن انتحلوا مذهب الاتحاد الذي هو كفر صريح وخروج عن عقيدة الأنبياء وأتباعهم، فهؤلاء ليسوا من الإسلام في شيء فضلا عن أن يكونوا صفوة الله من خلقه، فأما جعله أهل الصفة هم قدوتهم فهو أيضا خطأ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 11 \ 38: أما الصفة(9/172)
التي ينسب إليها أهل الصفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانت في مؤخر المسجد النبوي في شمالي المسجد بالمدينة النبوية، كان يأوي إليها من فقراء المسلمين من ليس له أهل ولا مكان يأوي إليه حيث يكثر المهاجرون إلى المدينة من الفقراء والأغنياء والآهلين والعزاب، فكان من لم يتيسر له مكان يأوي إليه يأوي إلى تلك الصفة التي في المسجد، ولم يكن جميع أهل الصفة يجتمعون في وقت واحد، بل منهم من يتأهل أو ينتقل إلى مكان آخر يتيسر له، ويجيء ناس بعد ناس فكانوا تارة يقلون وتارة يكثرون، فتارة يكونون عشرة أو أقل، وتارة يكونون عشرين وثلاثين وأكثر، وتارة يكونون ستين وسبعين. . . الخ. فعلم من هذا أن أهل الصفة هم فقراء المهاجرين. ولكن ليسوا قدوة لأهل التصوف ولا لغيرهم، وليسوا أفضل من أكابر الصحابة من المهاجرين الذين لم يأووا إلى تلك الصفة ومن الأنصار الذين هم أهل المدينة، والله تعالى مدح الصحابة والسابقين الأولين عموما ولم يخص أهل الصفة بمدح ولا ثناء يتميزون به عن غيرهم، ولا شك أن جميع الصحابة عبدوا الله محبة له وشوقا لرؤيته وطلبا لثوابه. وأهل الصفة من جملتهم فلا مبرر لتخصيص أهل الصفة بأنهم عبدوه محبة فيه وشوقا لرؤيته ما دام هذا الوصف يدخل فيه معهم غيرهم.
فأما قول هذا الكاتب: وإمام الجميع المعصوم صلى الله عليه وسلم بتوجيه من الله عز وجل، كان في غار حراء فوجد في الخلوة الجلوة الخ. فنقول: صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم إمام جميع أمة الإجابة الذين صدقوه وشهدوا له بالرسالة، ولكنه لم يشرع لأمته هذه الشطحات، ولا نقلت عنه تلك المواجيد والأذواق المزعومة، فأما خلوته في غار حراء فذلك تمهيد من الله لنزول الوحي عليه، ففي تلك الخلوة تصفية لسريرته وتفريغ لقلبه عن الشواغل وإبعاد عن المجتمع المليء بالشرك والمعاصي والمخالفات. لكنه بعد أن نزل عليه الوحي لم يرجع إلى غار حراء وما حفظ أنه بعد النبوة صعد ذلك الجبل ولا حاول الخلوة والتفرد ولا انقطع عن الناس، بل لم يزل مع الناس ثلاث عشرة سنة بمكة يدعو إلى توحيد الله ويخالط الناس ويجالسهم، ويعاشر أهله ويعلم أتباعه ما أوحي إليه ويبلغ الناس رسالة ربه، وهكذا بعد أن هاجر إلى المدينة استمر في الدعوة والتعليم، وكان يجلس مجالس عامة يقرأ فيها القرآن ويبين معانيه ويتلقى(9/173)
عنه أصحابه علم الشريعة، وتفاصيلها مع ما يقوم به من غزوات بنفسه، وبعث جيوش أو سرايا ودعاة إلى الله وجباة وبعث رسل وكتب لشرح تفاصيل الإسلام، وكل هذه الأعمال ونحوها تنافي أعمال الصوفية التي معظمها يدور على الخلوة والابتعاد عن مجتمع الناس، وعلى ترك الشهوات المباحة من النكاح وتناول الطيبات وإعطاء النفس حظها من المباح الذي يتقوى به على عبادة الله، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل اللحم وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني (1) » فأين في سنته فعل الخلوة أو مدح الانقطاع عن الناس، أو التواجد والطرب عن السماع أو نحو ذلك، بل إنه قد نهى عن السماع الذي يستعمله الصوفية وذم أهله، فأما ما يرويه الصوفية من تواجده وطربه في بعض المناسبات فكله كذب لا أصل له والله الموفق.
__________
(1) رواه مسلم 9 \ 175 عن أنس.(9/174)
ثم قال هذا الكاتب: من ذاق حلاوة أنسه رأى من لطفه العجائب، وتمتع بلذيذ الخطاب بعد رفع الحجاب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} (1) لفظ (أيها) بالذات في لغة العرب لا يقال إلا عند المواجهة، والشاهد لا يكون عن غيبة، بل لا بد من حضور، قال صلى الله عليه وسلم: «وجعلت قرة عيني في الصلاة (2) » (3) .
جوابه أن نقول: يعتقد الصوفية أن حلاوة الأنس بالله تعالى لا تحصل إلا بالخلوة الطويلة والانفراد ويسمون تلك الخلوة جمعية القلب، فإن أحدهم ينفرد في زاوية من مكان مظلم ويبدأ في التفكير ويطيل النظر ويتناسى الخلق كلهم ويجمع همه على ربه، فربما ترك عدة صلوات متوالية تمر به حالة انفراده مخافة تفرق همومه وفساد جمعيته. وفي النهاية يزعم أنه يحصل له تلك الخلوة مكاشفات واطلاع على الملأ الأعلى وعلى أمور غيبية وخفية، ويسمي ذلك لذة الأنس أو حلاوة المناجاة ويزعم أنه يتمتع بلذيذ الخطاب ويرفع له الحجاب عن ربه فيطلع بقلبه على ما
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 45
(2) سنن النسائي عشرة النساء (3940) ، مسند أحمد بن حنبل (3/285) .
(3) في المسند 3 \ 128 عن أنس.(9/174)
أخفي عن غيره، ويسمي الذين لم يصلوا إلى درجته ومنزلته محجوبين مبعدين عن القرب الذاتي إلى ربهم، وقد يصل أحدهم إلى غاية قصوى تسمى عندهم بالفناء بحيث يفنى أحدهم بموجوده عن وجوده وبمشهوده عن شهوده، بحيث يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل، وقد تجرهم هذه الأحوال إلى عقيدة سيئة هي اتحاد الخالق بالمخلوق عقيدة أهل الحلول، وقد يزعم بعضهم أن مشائخهم وأكابرهم يصلون إلى درجة تسقط عنهم التكاليف وتباح لهم المحرمات ونحو ذلك من الخرافات التي يمدحهم لأجلها هذا الكاتب وأضرابه، ونحن نقول: إن حلاوة الأنس بالله لا تحصل إلا بالاشتغال بذكره ودوام عبادته، والبعد عن القواطع والشواغل التي تقسي القلب وتحول بينه وبين التفكر في آلائه والتذكر لنعمائه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن للإيمان حلاوة وطعما كما في قوله: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار (1) » وقال صلى الله عليه وسلم: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ونبيا (2) » وهكذا أخبر بأن العبادة بها تقر عينه ويرتاح بدنه، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «وجعلت قرة عيني في الصلاة (3) » ، وقوله: «أرحنا يا بلال بالصلاة (4) » فهذا ونحوه يفيد أنه عليه الصلاة والسلام يجد في الصلاة لذة قلبه وسروره وابتهاجه وغاية فرحه وراحة بدنه. حيث إنه في الصلاة ينقطع عن الغير ويقبل بقلبه على ربه ويلتذ بذكره ومناجاته، ويتقلب من حال إلى حال يجد في كل منها الأنس بالعبادة، وكذا يتنقل من ذكر إلى دعاء إلى تلاوة، وفي الجميع قوة للقلب والبدن. فبهذه الأوصاف تكون الصلاة مفيدة ومؤثرة على العبد وناهية عن الفحشاء والمنكر، فالرسول صلى الله عليه وسلم إنما يلتذ بالعبادة بأي وصف كانت، ولم يكن يؤثر الخلوة والانفراد، وليس في كون الصلاة قرة عينه ما يدل على أحوال الصوفية وأذواقهم ومواجيدهم ولو من بعيد،
__________
(1) رواه مسلم 2 \ 13 عن أنس رضي الله عنه.
(2) رواه مسلم 2 \ 2 عن العباس رضي الله عنه.
(3) رواه أحمد م 3 \ 128 وغيره عن أنس رضي الله عنه.
(4) رواه أحمد 5 \ 365 وغيره.(9/175)
فنحن نقول: ما نوع الأنس الذي يذوقون حلاوته ثم يرون من لطفه العجائب. فإن كان الأنس بالذكر والصلاة والدعاء والتلاوة والتنقل في العبادة فليس من شرط ذوقه الانفراد والعزلة والبعد عن الناس وترك الجمع والأعياد والجماعات، بل إن حلاوة العبادات يحس بها كل من أحضر قلبه حال أدائها وأعرض عن كل ما يشغل القلب عن الإقبال على التدبر من أوهام ووساوس وحديث نفس، فتفريغ القلب من ذلك سهل ويسير على من يسره الله عليه، فهؤلاء هم الذين يوليهم الله عنايته ويلطف بهم ويكون من آثار لطفه أن يحميهم ويحفظهم عن القواطع والعوائق ويعصمهم من كبائر الإثم والفواحش، ويحميهم أيضا من الشهوات والملذات التي تعوق سيرهم إلى ربهم، ويكون من آثار لطفه توفيقهم وتسديدهم في الأقوال والأعمال والإقبال بقلوبهم على الطاعات والاستكثار من الصالحات، وهذه سيرة الصحابة رضي الله عنهم ومن سار على نهجهم الذين عمروا أوقاتهم بالتعلم والتفهم والعمل والتطبيق، وهم مع ذلك لم ينقطعوا عن الشهوات المباحة أسوة بنبيهم الذي قال: «لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل اللحم وأتزوج النساء، فمن يرغب عن سنتي فليس مني (1) » فأما قول الكاتب: تمتع بلذيذ الخطاب بعد رفع الحجاب، فنقول: إن أراد التمتع والتلذذ بتدبر القرآن وتعلقه بحيث يعده خطابا من ربه إليه فهذا حق وصواب، فإن الله تعالى أمر بذلك كما في قوله: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} (2) وقوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} (3) لكن ليس من شرط هذا التمتع خلوة أو انفراد، بل يحصل التلذذ بتدبره في الصلاة وبين الناس فأما إن أراد التمتع بلذيذ خطاب ربه وسماع كلامه منه إليه وأن أهل الأحوال تتصل قلوبهم بالملأ الأعلى ويناجون الله ويكلمهم ويكلمونه ونحو ذلك فكل ما يقولون في هذا الباب هوس ووحي شيطان، فإن الله تعالى خص أنبياءه بوحيه وخص موسى بالتكليم كما قال تعالى:
__________
(1) رواه مسلم 9 \ 175 وغيره عن أنس رضي الله عنه.
(2) سورة ص الآية 29
(3) سورة المؤمنون الآية 68(9/176)
{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (1) وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (2) وهذا الكاتب قد ذكر أن الصوفية ترفع عنهم الحجب والأستار ويناجون ربهم ويتلذذون بكلامه، ومعنى هذا أنهم فاقوا كثيرا من الأنبياء والرسل الذين هم الواسطة بين الله وبين العباد، فإن الرسل إنما يوحي الله إليهم وحيا، أو يرسل إليهم رسولا ملكيا، أو يكلمهم من وراء حجاب كما في نص هذه الآية، أما الصوفية في زعم هذا الكاتب فإنها ترفع لهم الحجب وتخترق قلوبهم الأستار، وتتصل بالملأ الأعلى، وتسمع خطاب الرب تعالى مباشرة، وتتمتع بلذيذ ذلك الخطاب، فهل بعد هذا الغلو والرفع لمقامهم من زيادة، سبحان ربنا الأعلى! ، فأما استدلاله بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} (3) وقوله: لفظ " أيها " بالذات في لغة العرب لا يقال إلا عند المواجهة، والشاهد لا يكون عن غيبة، بل لا بد من حضور. فالمتبادر أنه يقصد أحد أمرين:
أحدهما: أن الله خاطبه وهو حاضر شاهد عنده بأن كشف له الستار وقربه من حضرة القدس وخاطبه كفاحا بلا واسطة ملك ولا غيره. وهذا ليس على إطلاقه، فإن الآيات التي فيها نداء النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن كثيرة، ومعلوم أنها نزلت كغيرها بواسطة الملك وحيا من الله إليه كما في قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} (4) {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (5) .
الثاني: أن يقصد أننا متى قرأنا هذه الآية فإنا نخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم كأنا نراه مواجهة ومقابلة، وأنه شاهد عندنا حاضر ليس بغائب، فيفيد ذلك أنه حي لم يمت، وأنه يسمع كل من خاطبه بهذه الآية أو غيرها، وأنه شاهد مع كل أحد في كل مكان متى ناداه وخاطبه سمعه وأجابه، وأن هذا الوصف يعم كل ولي وصالح من أكابر الصوفية ونحوهم، وهذا لا يصح، فلفظ " أيها " ليس خاصا كما قال هذا بالمواجهة، بل إن الله خاطب نبيه بهذه الآيات الكثيرة
__________
(1) سورة النساء الآية 164
(2) سورة الشورى الآية 51
(3) سورة الأحزاب الآية 45
(4) سورة الشعراء الآية 193
(5) سورة الشعراء الآية 194(9/177)
آمرا له بما أرسله به وما كلفه به من البشارة والنذارة والتبليغ والبيان، وكل ذلك أنزله بواسطة ملك الوحي فالخطاب بواسطة يناسب فيه لفظ " أيها "، فلا تدل على استلزام مواجهة ومقابلة، أما لفظ الشاهد فالمراد الشهادة على الأمة بأنهم قد بلغوا ودعوا وقامت عليهم الحجة كما في قوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (1) وقوله: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} (2) قيل شاهدا على أنه قد بلغكم ما أنزل إليه وبينه لكم، وقيل شاهدا على أصحابه بحسن أعمالهم وصلاحهم واستقامتهم فما يوهمه كلام الكاتب لا صحة له.
__________
(1) سورة البقرة الآية 143
(2) سورة الحج الآية 78(9/178)
ثم قال الكاتب: (الصوفي) هو من عرف أن التوجه إلى الله والانقطاع إليه مما ينيل القصد ويهيئ النفس للملكية. . الخ.
أقول: قد ذكرنا أول الكلام تعريف الصوفية في أول الأمر، ثم ما آل إليه أمرهم وما دخل عليهم من البدع، ثم من الطرق التي أوقعت الكثير منهم في الخروج عن الإسلام كالحلول والاتحاد، فأما التوجه إلى الله والانقطاع إليه فهو صفة شريفة علية متى قصد منها الإقبال على العبادات والتفرغ لها والإعراض عن كل ما يشغل عن الطاعة ويعوق عن مواصلة السير إلى الله. وهذه طريقة أهل الزهد والعلم والعبادة من الصوفية السلفيين ومن غير الصوفية، ولم يزل في المسلمين قديما وحديثا خلق كثير وجمع غفير يشتغلون جل وقتهم بالعبادة القلبية الروحية، ويتوجهون إلى ربهم بقلوبهم، ويعلقون عليه آمالهم، وينقطعون إليه وحده، ويعرضون عما سواه، ولا ينافي ذلك إعطاء النفوس حظها من راحة ولذة مباحة من مأكل ومشرب ومنكح وملبس، وكذا الاشتغال بالكسب الحلال وجمع المال الذي تمس إليه الحاجة من وجوهه الجائزة كما أمر الله بذلك في قوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (1) وكما في قوله تعالى:
__________
(1) سورة الجمعة الآية 10(9/178)
{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (1) وإذا كان الأنبياء والرسل يلتمسون الرزق ويطلبون المال من وجوهه كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} (2) فكيف بأتباعهم ومن هو دونهم، فإن أراد الكاتب بالانقطاع إلى الله ترك الدنيا وما فيها والزهد في المباحات والرهبنة وترك كل الملذات ومشتبهات النفس التي تتقوى بها على الطاعات، فهذا الوصف والقصد غير صحيح، بل هو خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الرسل وأتباعهم، فأما قول الكاتب: ويهيئ النفس للملكية فهو خطأ من القول، فإن أراد بالملكية الصعود بالنفس إلى مقام الملائكة واتصافها بالروحية والنورانية والاتصال بالملأ الأعلى ونحو ذلك فلا يصح، فإن نفس الإنسان لا تصل إلى صفات الملائكة التي من خصائصها العلو والخفة والنور والمكاشفات والاستغناء عن الدنيا والانكفاف عن الشهوات ونحوها، فإن الله ركب في طباع البشر من الشهوة والالتذاذ بالمطعم والمشرب والميل إلى ذلك والتألم بفقده ما لم يكن من صفات الملائكة، أما إن أراد بالملكية التملك وأن النفس تتهيأ لأن تملك شيئا من أمر الكون لو تدبره أو تتصرف فيه تصرف المالك فهذا أيضا لا يصح، فالنفس البشرية وسائر النفوس المخلوقة ليس لها من الأمر شيء، ولا تقدر على التصرف المستقل ولا الملكية التامة النافذة، بل إن المخلوق نفسه مملوك لربه، ولو ملك الدنيا بأسرها فملكه مؤقت وناقص، وهو وما بيده ملك لربه، فكيف يقال: إن انقطاع الصوفي ينيله القصد ويهيئ نفسه للملكية.
__________
(1) سورة المزمل الآية 20
(2) سورة الفرقان الآية 20(9/179)
ثم قال هذا الكاتب: فاتخذ الذكر زادا لروحه والفكر في آياته القرآنية والكونية شرابا لروحه. . الخ.
فأقول: هذا القول حق، فذكر الله دائما هو قوت القلوب وزاد الأرواح، ولكن ليس معناه أنه يغني عن الزاد الحقيقي للبدن، وإنما الذكر والفكر يقوي الروح ويزيدها نشاطا وثباتا واستمرارا في العبادة وحبا ورغبة في مواصلة العمل.(9/179)
ثم قال الكاتب: حتى أشرقت على قلبه شمس المعارف الربانية، فأصبح القلب ينبوعا من ينابيع الأنوار والأسرار والحكم الربانية. . الخ.
نقول هذا غير صحيح، فإن ذلك يستلزم تفوقه على الرسل والملائكة واستغناءه عن الشريعة وعلومها، فإن الينبوع هو الماء النابع من الأرض، فمعنى ذلك أن شمس المعارف الربانية والعلوم الدينية قد أشرقت على قلوب الصوفية وسطعت فيها فاستنارت بها، فأصبح ينبوعا للأنوار والأسرار، يعني معدنا تنبع منه الأنوار الإلهية، وتنفجر منه عيون الحكمة، وتتوارد عليه الأسرار والحكم الربانية فتغنيه عن العلوم الشرعية، ونحن لا ننكر أن الله تعالى قد يفتح على بعض العباد أفهاما وحكما وأسرارا في كتابه أو شرعه كما في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} (1) حيث جعل التقوى سببا للتعليم، فالله تعالى قد يرزق بعض عباده الأتقياء والصالحين علوما وأفهاما وأسرارا في كتابه أو في شرعه، ولكنها مستنبطة من القرآن والحديث ومن الحكم العامة التي لأجلها شرعت الشرائع وتنوعت الأوامر والأحكام، ولا تصل إلى الوصف الذي يذكره الكاتب من إشراق شمس المعارف. الخ. فإنه مع ما فيه من المبالغة والإطراء غير صحيح؛ فإن القلب البشري لا يتصور أن يصبح ينبوعا من ينابيع الأسرار والأنوار والحكم الربانية، وذلك لقصر الإنسان عن هذا الوصف مهما فتح عليه من العلوم والمعارف، مع أن هذا الوصف ليس خاصا بالمتصوفة، بل هناك علماء الأمة وعبادها الذين قاموا بحقوق ربهم ووقفوا عند حدوده وعبدوه حق عبادته قد فتح الله على قلوبهم من الفهم والإدراك والحفظ والاستنباط الشيء الكثير كما حصل للأئمة الأربعة وللمحدثين والفقهاء من صدر هذه الأمة، وهم مع ذلك لم ينقطعوا عن الشهوات والملذات، ولم يدخلوا في عداد الصوفية ولا توغلوا في إشاراتهم ورموزهم، بل هم متقيدون بنصوص الشريعة وبتعاليم ربهم ومتبعون لسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وذلك هو الفضل العظيم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 282(9/180)
ثم قال الكاتب: ومن قال كذلك، وصارت أحواله كلها بالله ولله، أمرنا باتباعه.
جوابه أن يقال: كيف تكون أحوال الصوفي كلها بالله ولله، مع أنه بشر يخطئ ويصيب ويرتكب الذنوب وهو محل النقص والتقصير في أداء حقوق ربه وفي شكر نعمه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} (1) وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ومع ذلك فقد علمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول في صلاته: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت (2) » الخ.
فإذا كان صديق الأمة رضي الله عنه يعترف بأنه قد ظلم نفسه ظلما كثيرا فكيف يكون المتصوف معصوما وأحواله كلها بالله ولله، ونحن لا ننكر أن الله تعالى قد يوفق بعض أحبابه لتكون حركاته بالله، كما في الحديث القدسي عند البخاري عن أبي هريرة وفيه: «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به (3) » فإن معنى ذلك تسديده في أقواله وأفعاله، ولكنا لا نستطيع الجزم لشخص بعينه بأن أحواله كلها بالله ولله كما ذكر هذا الكاتب، فأما قوله: أمرنا باتباعه فغير صحيح، فإن أغلب الصوفية سيما المتأخرين لهم شطحات خاطئة لا يجوز شرعا اتباعهم فيها فقد ظهر بعدهم فيها عن الصواب لهم أيضا طرق وأحوال مبتدعة كالسماع والرقص والخلوة الطويلة والبعد عن العلم والعلماء والاستغناء عن الوحي بالأوهام وحديث النفس الذي يخيل أنه وحي إلهام، فكيف يسوغ اتباعهم في هذه البدع ونحوها وبأي نص أمرنا بذلك، مع العلم بأن الاتباع إنما يجب للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه المبلغ عن الله، وقد ورد الأمر بذلك كما في قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (4) وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (5) وأن يطاع ويتبع المخلوق متى وافق أمر الله ورسوله، فيكون اتباعه
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 34
(2) رواه البخاري برقم 834 عنه رضي الله عنه.
(3) في البخاري برقم 6502.
(4) سورة الأعراف الآية 158
(5) سورة آل عمران الآية 31(9/181)
خاصا بما بلغه مما تحمله عن الله ورسوله، فالطواعية والاتباع في الحقيقة لله ورسوله، فمتى خالف المخلوق - مهما كانت مرتبته - صريح الكتاب والسنة وجب طرح قوله والرجوع إلى شرع الله، كما في قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (1) .
ثم قال الكاتب: قال الإمام الأكبر محيي الدين ابن عربي رضي الله عنه: من لم يأخذ الطريق عن الرجال فهو ينقل من محال إلى محال.
نقول: لا عبرة بالقائل ولا بما قال، فإن ابن عربي هذا مشهور بأنه اتحادي يقول باتحاد الخالق والمخلوق، وهو أعظم الكفر وأشنعه، وقد صرح بذلك في كتابيه (فصوص الحكم) و (الفتوحات المكية) وغيرهما من مخالفة الرسل صريحا ومدح الكفار والمشركين، وتصويب ما هم عليه، وقد نقل عنه شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 11 \ 240 تعقبه للجنيد بن محمد رحمه الله في قوله: التوحيد إفراد الحدوث عن القدم، فأنكر عليه ابن عربي وقال في مخاطبته الخيالية الشيطانية: يا جنيد وهل يميز بين المحدث والقديم إلا من يكون غيرهما. كذا قال لأن عقيدته أن وجود المحدث هو عين وجود القديم كما قال في فصوصه: ومن أسمائه الحسنى العلي على من؟ وما ثم إلا هو، وعن ماذا؟ وما هو إلا هو. فعلوه لنفسه وهو عين الموجودات، فالمسمى محدثات هي العلية لذاته وليست إلا هو إلى أن قال: هو عين ما بطن وهو عين ما ظهر، وما ثم من يراه غيره، وما ثم من ينطق عنه سواه، وهو المسمى أبو سعيد الخراز وغير ذلك من الأسماء المحدثات، ثم ذكر أن التلمساني لما قرئ عليه الفصوص فقيل له: القرآن يخالف فصوصكم فقال: القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا.
فقيل له: فإذا كان الوجود واحدا فلم كانت الزوجة حلالا والأخت حراما؟ فقال: الكل عندنا حلال ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرام عليكم.
ونقل شيخ الإسلام في المجموع 2 \ 121 عن صاحب الفصوص وهو ابن عربي المذكور قوله: إن آدم عليه السلام إنما سمى إنسانا لأنه للحق تعالى بمنزلة إنسان العين من العين، وهذا يقتضي أن آدم جزء من الحق تعالى وتقدس، وبعضا منه، وأنه أفضل
__________
(1) سورة النساء الآية 59(9/182)
أجزائه وأبعاضه، وهكذا قال في الفصوص: إن الحق المنزه هو الحق المشبه، فالأمر الخالق المخلوق والأمر المخلوق الخالق كل ذلك من عين واحدة، لا بل هو العين الواحدة وهو العيون الكثيرة. الخ. وفي كلامه من أمثال هذا الكفر الصريح ما لا يحد ولا يوصف، وقد تعقبه شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 2 \ 204 - 284 وغيره فكيف يوصف مع ذلك بأنه الإمام الأكبر وبأنه يحي الدين، وقد انخدع بكلامه الجم الغفير واعتقدوا أنه آجر الأولياء وأرقاهم منزلة وأرفعهم قدرا، وإنما تفطن له وعرف ما في كلامه من الكفر والضلال أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية الذي تحقق عقيدته وعرف مواضع أخطائه أو تصريحاته في مؤلفاته وناقشه في كل ذلك وبين تناقضه وتهافته في كلامه، وذلك في مواضع كثيرة من مجموع الفتاوى وغيره، فأما قوله: من لم يأخذ الطريق من الرجال. الخ. فمراده بالطريق مسلك الصوفية وهو العبادات القلبية أو الأسرار الرمزية كنوع من اللباس أو إشارات بينهم يتناقلونها ويتلقاها الصغير عن الكبير بأسانيد كأسانيد الأحاديث والمؤلفات، فيقول أحدهم أخذت الطريق عن فلان وأخذها هو عن فلان، حتى تتصل بأكابرهم كالجيلاني أو الحلاج ونحوهما، ولا يكتفون بما عليه المسلمون من تلقي الشريعة من الكتاب الكريم والسنة المطهرة، فالطريق عندهم مسلك مغاير لمسلك الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته وأئمة المسلمين، وقد اشتهروا بتسميتهم أهل الطرق أو الطرقية، ولا أستحضر شيئا عن تفاصيل طرقهم ورموزهم، ولكني أعتقد أنها خيالية لا يصح الركون إليها لكونهم يؤثرونها على الشرع ويستغنون بالعمل بها عما عليه أهل الإسلام، وقد أورد ابن القيم في إغاثة اللهفان قصيدة لامية لبعض العلماء في ذمهم وبيان شيء من أحوالهم ومنها قول ذلك الناظم رحمه الله:
إن قلت قال الله قال رسوله ... همزوك همز المنكر المتغالي
أو قلت قال صحابه من بعده ... فالكل عندهم كشبه خيال
ويقول قلبي قال لي عن سره ... عن سر سرى عن صف أحوالي
عن حضرتي عن فركتي عن خلوتي ... عن شاهدي عن واردي عن حالي(9/183)
عن صفو وقتي عن حقيقة مشهدي ... عن سر ذاتي عن صفات فعالي
دعوى إذا حققتها ألفيتها ... ألقاب زور لفقت بمحالي
فهذه حقائق الطرق التي يتبجحون بها هم ومريدوهم أمثال هذا الكاتب الذي انتحل هذه المناهج المبتدعة، وتحامل على أهل التوحيد، ورغب في وسائل الشرك في مذكرته هذه ثم قال:
فالواجب عليك وعلى أمثالك من كبار العلماء نشر هذه المذكرة لمن أراد النجاة في الآخرة عن طريق الإذاعة والمجلات الإسلامية رحمة بالمسلمين وخوفا من عذاب الله، لأن كاتم العلم ملعون، نسأله حسن الختام بجاه طه عليه السلام. الخ.
جوابه أن نقول: الواجب والحرام إنما يؤخذ من الأدلة الشرعية، فنحن نقول: إن هذه المذكرة يحرم نشرها، ويجب إتلافها على من رآها، وذلك لما تحتوي عليه من الملاحظات التي ناقشنا بعضها فيما سبق مما يتعلق بالأسماء والصفات، وما يتعلق بالتوسل والاستشفاع، وما فيها من ذم أهل التوحيد ورميهم بما هم منه براء، وكذا الغلو في مدح الصوفية المنحرفة والغالية، فعلى كبار العلماء التحذير لمن أراد النجاة عن الاغترار بمثل هذه البدع، ونشر السنة والعقيدة السلفية، وأدلة التوحيد والإخلاص والنهي عن كتمان ذلك وعدم إيضاحه لمن يخاف وقوعه في أسباب الردى، فمن كتم ذلك فهو كاتم للعلم وقد توعده الله تعالى: بقوله {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (1) .
فأما توسل هذا الكاتب بجاه طه عليه السلام، فهو من البدع التي قد توقع في الشرك المحبط للأعمال، وقد تقدم أنه استدل بحديث: «إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي» الخ. وأنه كذب لا أصل له، وبيان أن نبينا صلى الله عليه وسلم له جاه عند الله ولكن لم يرد التوسل بجاهه، فليس جاه المخلوق عند الخالق كجاه المخلوق عند المخلوق، فإنه
__________
(1) سورة البقرة الآية 159(9/184)
تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وبمراجعة ما تقدم يتضح وجه النهي عن السؤال بجاه المخلوق أو التوسل به وأنه من وسائل تعظيم المخلوق ووصفه بما لا يستحقه إلا الله، وهذا آخر ما أردت تعليقه على هذه المذكرة نصحا للمسلمين وبيانا لما قد يلتبس من كلامه على الجهلة ونحوهم مع أن أهل العقيدة والتوحيد لا يخفى عليهم ما تحتوي عليه تلك المذكرة من التهافت والتناقض ونصر الباطل وإنكار حقيقة التوحيد والله المستعان وعليه التكلان. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين(9/185)
صفحة فارغة(9/186)
الحدود في الإسلام
بقلم فضيلة الشيخ عبد الله عبد الغنى خياط
عضو هيئة كبار العلماء
- من مواليد مكة المكرمة، تلقى علومه الأولية في مدينة الخياط بمكة المكرمة، ودرس المنهج الثانوي في المدرسة الراقية، تخرج في المعهد السعودي بمكة المكرمة ودرس على المشايخ في المسجد الحرام وغيره.
- عمل مديرا للمدرسة الفيصلية بمكة المكرمة، فمديرا لمدرسة الأمراء أنجال الملك عبد العزيز، فمستشارا لوزارة المعارف بمكة، ثم مشرفا على إدارة التعليم ومديرا لكلية الشريعة بمكة المكرمة.
- يعمل عضوا في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخطيبا في المسجد الحرام، وعضوا في هيئة كبار العلماء وعضوا في اللجنة الثقافية برابطة العالم الإسلامي.
- من مؤلفاته: اعتقاد السلف - دليل المسلم - ما يجب أن يعرفه المسلم عن دينه - الخطب في المسجد الحرام - الرواد الثلاثة - صحائف مطوية - حكم وأحكام من السيرة النبوية - تأملات في دروب الحق والباطل.(9/187)
الحصن المنيع والدرع الواقي والسياج الذي يحفظ المجتمع الإسلامي من الانهيار هو الحدود.
شرعت الحدود في الإسلام لتبقى إلى الأبد حافظة للتوازن بين المجموع، زائدة عن التحديات والتعديات الآثمة والنزوات الطائشة والفلتات التي تصدر عن المعتدين.
رتب الإسلام الحدود عقوبات زاجرة تجابه بعض المعاصي الموبقة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطط لأسس الإصلاح في المجتمع الإسلامي في حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها» رواه الدارقطني وغيره. وإن لطغيان النفس إذ تنجرف مع تيار الهوى فظائع وجرائم، ولا يحد من سطوتها أو يكسر من حدتها أو يقلل من خطرها إلا إقامة الحدود المقدرة بنسبة ما تحدثه المعصية من خطر وضرر وما ينجم عنها من فساد وخراب، ولقد حفز الله سبحانه لإقامتها والأخذ بها على كل معصية بقوله تعالى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (1) .
و (حياة) كلمة شاملة: حياة في الأنفس بحيث ترتدع عن سفك الدم الحرام، وحياة في الأموال تمنع من السطو على حق الغير لئلا يؤخذ عنوة، وحياة في الأعراض تحول دون الجرأة على انتهاك العرض الحرام كما جاء في الحديث «إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم (2) » الحديث. رواه مسلم، أي لا تنتهكوا السياج المنيع الذي وضع عليها، وقد توسعنا في تفسير مدلول لفظة (حياة) لأن معناها في الواقع لا يقتصر على الدم، فلكل من الدم والمال والعرض عقوبة يستوجبها من يجرؤ على الاستهتار والإقدام على انتهاك حرمتها.
أما تفسير الآية الكريمة {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (3) فقد جاء عن أبي العالية قوله: جعل الله القصاص حياة، فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يقتل. وكذلك روي عن مجاهد وسعيد بن جبير والحسن والربيع بن أنس وغيرهم. وفي
__________
(1) سورة البقرة الآية 179
(2) صحيح البخاري الأضاحي (5550) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، مسند أحمد بن حنبل (5/49) ، سنن الدارمي المناسك (1916) .
(3) سورة البقرة الآية 179(9/188)
كتاب صفوة التفاسير مزيد من البسط من حيث البلاغة في التعبير يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (1) بلاغته أعلى درجات البلاغة. ونقل عن العرب في هذا المعنى قولهم: " القتل أنفى للقتل "، ولكن لورود الحكمة في القرآن فضل من ناحية حسن البيان، وإذا شئت أن تزداد خبرة بفضل بلاغة القرآن وسمو مرتبته على مرتبة ما نطق به بلغاء البشر فانظر إلى العبارتين فإنك تجد من نفحات الإعجاز ما ينبهك لأن تشهد الفرق بين كلام الخالق وكلام المخلوق.
أما الحكمة القرآنية فقد جعلت سبب الحياة القصاص وهو القتل عقوبة على وجه التماثل، والمثل العربي جعل سبب الحياة القتل، ومن القتل ما يكون ظلما فيكون سببا للفناء. وتصحيح العبارة أن يقال: القتل قصاصا أنفى للقتل ظلما. والآية جاءت خالية من التكرار اللفظي، والمثل كرر فيه لفظ القتل فمسه بهذا التكرار من الثقل ما سلمت منه الآية.
ومن الفروق الدقيقة بينهما أن الآية جعلت القصاص سببا للحياة، والمثل جعل القتل سببا لنفي القتل، وهو لا يستلزم الحياة، وقد عد العلماء عشرين وجها من وجوه التفرقة بين الآية القرآنية واللفظة العربية.
__________
(1) سورة البقرة الآية 179(9/189)
بعد هذا نرجع إلى موضوع المقال (الحدود في الإسلام) ونعني بذلك العقوبات المقدرة بقدر الحجم الذي ارتكبه الجاني المتسلط على العباد؛ بإدخال الرعب في قلوبهم والاضطراب في شئونهم، وإن نعمة الأمن من الخوف من أجل النعم التي من الله بها على العباد، كما قال تعالى {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} (1) {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (2) وقال تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (3) وضمان استمرار هذا الأمن في المجتمع إقامة الحدود وأخذ الجاني بجريرة عمله، عندئذ يستتب الأمن وتزول المخاوف.
ولم يترك الإسلام تقدير العقوبات للناس حسب أمزجتهم، كما أنه لم يجعلها خاصة بأناس تقام عليهم دون آخرين، لأن مقتضى عدل الإسلام تقدير العقوبة بنسبة
__________
(1) سورة قريش الآية 3
(2) سورة قريش الآية 4
(3) سورة العنكبوت الآية 67(9/189)
الجرم وجعل الناس فيها سواسية، تنزل بالأمير والمأمور وصاحب المقام المرموق أو من كان من الدهماء، كما جاء في الحديث «والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها (1) » .
فعقوبة الحرمان من حق الحياة قدرت بالاقتصاص من نفس الجاني، كما قال تعالى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (2) وكما جاء في الحديث «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة (3) » رواه البخاري ومسلم. والمراد (بالثيب الزاني) من تزوج ووطأ في نكاح صحيح ثم زنا بعد ذلك فإنه يرجم، وإن لم يكن متزوجا في حالة الزنى لاتصافه بالإحصان.
والمراد بـ (النفس بالنفس) أي من قتل عمدا قتل قصاصا؛ بشرط التكافؤ فلا يقتل المسلم بالكافر ولا الحر بالعبد. وسيأتي تفسير ذلك. والتارك لدينه المفارق للجماعة وهو المرتد. وقال بعض المعلقين على الحديث - ورجح الحافظ في الفتح تبعا لغيره: أن ترك الجماعة صفة كاشفة أو مؤكدة لا مقيدة، ونقل عن ابن دقيق العيد أن المراد بها مخالفة الإجماع، وقد قال النووي في كلامه على هذا الحديث من شرح صحيح مسلم: وأما قوله صلى الله عليه وسلم «والتارك لدينه المفارق للجماعة (4) » فهو عام في كل مرتد عن الإسلام بأي ردة كانت، فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام، ففي هذه الصور الواردة في الحديث يكون القصاص بالقتل جزاء وفاقا؛ ذلك أن الزاني قد اجترأ على تلويث عرض أخيه المسلم وهدم نسبه، وأفسد عليه زوجه وقد لا يصلح أمرها بعد هذا الإفساد مع زوجها.
ومن قتل نفسا عمدا فقد حرمها حق الحياة واجترأ على هتك السياج المنيع الذي وضعه رب العزة تأمينا للناس من مخاوف السطو على أرواحهم.
وأما التارك لدينه المفارق للجماعة فلأنه اختار الضلالة بعد الهدى والعمى بعد البصيرة، وارتد على عقبه وكان قدوة سيئة في مجتمعه، فكان القصاص منه بالقتل درءا لمفسدته.
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3475) ، صحيح مسلم الحدود (1688) ، سنن الترمذي الحدود (1430) ، سنن النسائي قطع السارق (4898) ، سنن أبو داود الحدود (4373) ، سنن ابن ماجه الحدود (2547) ، مسند أحمد بن حنبل (6/162) ، سنن الدارمي الحدود (2302) .
(2) سورة المائدة الآية 45
(3) صحيح البخاري الديات (6878) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1676) ، سنن الترمذي الديات (1402) ، سنن النسائي تحريم الدم (4016) ، سنن أبو داود الحدود (4352) ، سنن ابن ماجه الحدود (2534) ، مسند أحمد بن حنبل (6/181) ، سنن الدارمي الحدود (2298) .
(4) صحيح البخاري الديات (6878) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1676) ، سنن الترمذي الديات (1402) ، سنن النسائي تحريم الدم (4016) ، سنن أبو داود الحدود (4352) ، سنن ابن ماجه الحدود (2534) ، مسند أحمد بن حنبل (1/444) ، سنن الدارمي الحدود (2298) .(9/190)
ثم هناك أمل للقاتل المتعمد في جريمته يدرأ عنه القصاص وهو عفو ولي الدم أو أخذه الدية، ونص العلماء على أن الولي بالخيار إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية، رضي القاتل أو لم يرض، وهذا رأي الشافعي وأحمد ومالك في رواية أشهب رحمهم الله، وقال مالك في رواية ابن القاسم عنه: ليس للولي إلا أن يقتص أو يعفو من غير دية إلا أن يرضى بإعطاء الدية القاتل. وعند الحنفية للولي القصاص أو الصلح على مال أو العفو. وأولياء الدم الذين لهم حق القصاص أو حق إسقاطه بالعفو هم العصبة عند مالك، وعند غيره كل من يرث، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) فأوضحت الآية الكريمة التماثل في القصاص بقتل الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى، ونقل ابن كثير رحمه الله في تفسيره هذه الآية رأي الجمهور وأنه قال: لا يقتل الحر بالعبد لأن العبد سلعة لو قتل لم يجب فيه، دية وإنما تجب فيه قيمته، ولأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق الأولى، ثم قال ابن كثير: وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالكافر لما ثبت في البخاري عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقتل مسلم بكافر (3) » ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا، وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل بعموم آية المائدة، ثم قال - أي ابن كثير في مسألة قتل الرجل بالمرأة -: قال الحسن وعطاء: لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية، وخالفهم الجمهور لآية المائدة، ولقوله عليه السلام: «المسلمون تتكافأ دماؤهم (4) » . وقال الليث: إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة، ثم قال - أي ابن كثير رحمه الله: ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد، قال عمر في غلام قتله سبعة فقتلهم: (لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم) ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة. وذلك كالإجماع. وحكى عن
__________
(1) سورة البقرة الآية 178
(2) سورة البقرة الآية 179
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (3047) ، سنن النسائي القسامة (4744) ، سنن ابن ماجه الديات (2658) ، مسند أحمد بن حنبل (1/79) ، سنن الدارمي الديات (2356) .
(4) سنن أبو داود الجهاد (2751) ، سنن ابن ماجه الديات (2685) ، مسند أحمد بن حنبل (2/215) .(9/191)
الإمام أحمد رحمه الله رواية أن الجماعة لا يقتلون بالواحد، ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة، وحكاه ابن المنذر عن معاذ وابن الزبير إلى آخره، ثم روي عن ابن المنذر قال: وهذا أصح ولا حجة لمن أباح قتل الجماعة، إلى آخر ما ذكره ابن كثير رحمه الله في هذه المسألة.(9/192)
ننتقل بعد هذا إلى عقوبة أخرى قررها الشرع على كبيرة من كبائر الذنوب هي السرقة، وحدها القطع - أي قطع اليد كما قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) .
ومجمل تفسير الآية أن الله سبحانه أمر بقطع يد السارق رجلا كان أو امرأة؛ مجازاة لهما على فعلهما المنكر وعقوبة رادعة زاجرة، والله سبحانه حكيم في شرعه، فلا يأمر إلا بما فيه مصلحة لعباده بما في ذلك قطع يد السارق.
وفي قوله تعالى {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} (2) أي تاب ورجع عن السرقة فإن الله سبحانه يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة، وهذه المسألة خلافية بين العلماء أكثرهم على أن توبة السارق المشار إليها في الآية لا تسقط عنه الحد في الدنيا وإنما تسقط عنه العذاب في الآخرة، ورأى بعض العلماء إسقاط الحدود بالتوبة في السرقة وغيرها، إذا جاء من استحق إقامة الحد تائبا بنفسه من غير أن يطلب، وسلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مسلكا وسطا بين هذين القولين فقال: إن الإمام مخير إذا جاء تائبا بين أن يتركه كما قال الرسول صلوات الله عليه لصاحب الحد الذي اعترف به: «اذهب فقد غفر الله لك (3) » ، وبين أن يقيمه كما أقامه على ماعز والغامدية وقد اعترفا بالزنى لما اختارا إقامته وأبيا إلا التطهير.
__________
(1) سورة المائدة الآية 38
(2) سورة المائدة الآية 39
(3) سنن الترمذي الحدود (1454) ، مسند أحمد بن حنبل (6/399) .(9/192)
ولاستيفاء القصاص وإقامة الحد على السارق شروط وقيود أوردها الفقهاء رحمة الله عليهم وهي كالآتي:
1 - أن يكون المسروق مالا محترما، فلا تقطع بسرقة آلة لهو مثلا ولا بسرقة محرم كالخمر.
2 - أن يكون المسروق نصابا، والنصاب ثلاثة دراهم أو ربع دينار فلا يقطع فيما دون ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدا (1) » رواه أحمد ومسلم وغيرهما، وكان ربع دينار يومئذ ثلاثة دراهم، والدينار اثنا عشر درهما، رواه أحمد.
3 - أن يكون المسروق من حرز فإن سرق مالا من غير حرز فلا قطع على السارق، والحرز يختلف باختلاف الأموال والبلدان وغير ذلك كما هو مبسوط في هذا الباب.
4 - أن تنتفي الشبهة عن السارق لحديث «ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم (2) »
5 - ثبوت السرقة شرعا أي بشهادة شاهدين عدلين أو إقرار السارق مرتين بالسرقة يصفها في كل مرة.
6 - مطالبة المسروق منه للسارق بما سرق، وفي رواية عن الإمام أحمد رحمه الله: لا تشترط المطالبة، كما هو مذهب الإمام مالك رحمه الله.
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6790) ، صحيح مسلم الحدود (1684) ، سنن الترمذي الحدود (1445) ، سنن النسائي قطع السارق (4921) ، سنن أبو داود الحدود (4384) ، سنن ابن ماجه الحدود (2585) ، مسند أحمد بن حنبل (6/104) ، موطأ مالك الحدود (1576) ، سنن الدارمي الحدود (2300) .
(2) سنن الترمذي الحدود (1424) .(9/193)
ننتقل بعد ذلك إلى عقوبة الزاني وهي الحد الذي شرعه الإسلام للردع عن هذه المعصية، ويختلف الحد باختلاف الوضع، فتارة يكون مائة جلدة إذا كان الزاني بكرا لم يتزوج كما قال تعالى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (1) مع التغريب عاما كما قرره جمهور العلماء؛ إلا أبا حنيفة فإن التغريب عنده يرجع إلى رأي الإمام، وحجة الجمهور في الجلد مع التغريب ما ثبت في الصحيحين «في الأعرابيين اللذين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما يا رسول الله: إن ابني هذا كان عسيفا - أي: أجيرا - على هذا فزنى بامرأته فافتديت ابني بمائة شاة ووليدة
__________
(1) سورة النور الآية 2(9/193)
فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني مائة جلدة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى: الوليدة والغنم ردا عليك، وعلى ابنك مائة جلدة وتغريب عام، واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها (1) » أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة وغيره.
وتارة يكون الحد بالرجم، وذلك إذا كان المعترف بالزنى محصنا، لما روى الإمام مالك عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد؛ أيها الناس إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: (لا نجد آية الرجم في كتاب الله فيقضوا بترك فريضة قد أنزلها الله، فالرجم حق في كتاب الله، حق على كل من زنى إذا أحصن، من الرجال ومن النساء - إذا قامت البينة أو الحبل والاعتراف (2) » . أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك مطولا. وفي رواية عنه «ولولا أن يقول قائل أو يتكلم متكلم: إن عمر زاد في كتاب الله ما ليس منه لأثبتها كما نزلت (3) » أخرجه الإمام أحمد والنسائي.
ثم علق ابن كثير رحمه الله على ذلك بعد أن أورد جملة أحاديث قائلا: " وهذه طرق متعددة متعاضدة على أن آية الرجم كانت مكتوبة فنسخت تلاوتها وبقي حكمها معمولا به والله أعلم ". ثم عرض ابن كثير رحمه الله لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم ماعز والغامدية، وقال - ردا على من ذهب إلى جمع الجلد إلى الرجم في حق الزاني المحصن -: لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلدهم قبل الرجم، وهذا مذهب جمهور العلماء، وإليه ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله، وذهب الإمام أحمد إلى أنه يجب أن يجمع على الزاني المحصن بين الجلد للآية والرجم للسنة؛ لما روى الإمام أحمد وأهل السنن عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم (4) » قلت: ويمكن الجمع بين الحديثين بمعرفة تاريخ المتقدم
__________
(1) صحيح البخاري الشروط (2725) ، صحيح مسلم الحدود (1698) ، سنن الترمذي الحدود (1433) ، سنن النسائي آداب القضاة (5411) ، سنن أبو داود الحدود (4445) ، سنن ابن ماجه الحدود (2549) ، مسند أحمد بن حنبل (4/115) ، موطأ مالك الحدود (1556) ، سنن الدارمي الحدود (2317) .
(2) صحيح البخاري الحدود (6830) ، صحيح مسلم الحدود (1691) ، سنن الترمذي الحدود (1432) ، سنن أبو داود الحدود (4418) ، سنن ابن ماجه الحدود (2553) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، سنن الدارمي الحدود (2322) .
(3) سنن أبو داود الحدود (4418) ، مسند أحمد بن حنبل (1/29) ، موطأ مالك الحدود (1560) .
(4) صحيح مسلم الحدود (1690) ، سنن الترمذي الحدود (1434) ، سنن أبو داود الحدود (4415) ، سنن ابن ماجه الحدود (2550) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) ، سنن الدارمي الحدود (2327) .(9/194)
والمتأخر منهما فيكون الحكم عليه أولا ثم المتأخر ويعتبر المتقدم منسوخا.(9/195)
ننتقل بعد ذلك إلى حد القذف ولم يختلف أهل العلم في تحديده كما نصت الآية الكريمة وهو ثمانون جلدة إذا قذف الرجل المحصنة العفيفة، وكذلك إذا قذف رجلا أيضا فإنه يجلد كذلك، إلا أن يأتي القاذف ببينة على صحة القذف، أي يأتي بأربعة شهداء يشهدون على صحة قوله كما قال تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (1) وجاء مع الأمر بجلد القاذف أمران نصت عليهما الآية وهي قوله تعالى {وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2) .
الأمر الأول أن ترد شهادته فلا تقبل. الثاني: أن يكون مشهورا بالفسق ليس بعدل ثم قال تعالى {إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) وللعلماء رحمهم الله في قبول توبة القاذف قولان بحسب الاستثناء في الآية.
الأول: ما ذهب إليه الإمام مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله: أنه إذا تاب قبلت شهادته وارتفع عنه حكم الفسق، وذهب الإمام أحمد وأبو حنيفة رحمهما الله إلى أن الاستثناء إنما يعود إلى الجملة الأخيرة من الآية فيرتفع الفسق بالتوبة ويبقى مردود الشهادة أبدا.
ولعل الرأي الأول متجه لأن التوبة تجب ما قبلها، ولا ذنب أعظم من الشرك، وقد توعد الله عليه بالحرمان من دخول الجنة وجعل مأواه النار إذا مات عليه؛ ومع ذلك تقبل توبة المشرك إذا صدق فيها وأخلص، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (4) ويدخل في هذا الإطار كل ذنب تاب منه العبد وأناب ولم يعاود
__________
(1) سورة النور الآية 4
(2) سورة النور الآية 4
(3) سورة النور الآية 5
(4) سورة الزمر الآية 53(9/195)
الكرة فيه أو يقم على الإصرار عليه حتى بعد التوبة.(9/196)
ننتقل بعد ذلك إلى حد المحاربة وقطع الطريق فالمحاربة هي المضادة والمخالفة وهي صادقة على الكفر وقطع الطريق وإخافة السبيل، وكذا الإفساد في الأرض، واختلفت وجهة نظر العلماء رحمهم الله في الحد المقدر على المحاربين وقطاع الطريق، والأصل فيها قول الله سبحانه {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} (1) الآية. وتفسيرها: إنما جزاء الذين يحاربون شريعة الله ودينه وأولياءه ويحاربون رسوله ويفسدون في الأرض بالمعاصي وسفك الدماء أن تقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى، أو يطردوا ويبعدوا من بلد إلى آخر، ذلك الجزاء المذكور ذل لهم وفضيحة في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار. وقد اختلف في سبب نزول هذه الآية أهي في المشركين أم في قوم من أهل الكتاب أم في الحرورية؟ ورجح ابن كثير رحمه الله أنها عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات، وذكر حديثا رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك «أن نفرا من عكل ثمانية قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام فاستوخموا المدينة وسقمت أجسادهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبوا من أبوالها وألبانها) فقالوا: بلى، فخرجوا يشربون من أبوالها وألبانها فصحوا ثم قتلوا الراعي وطردوا الإبل، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهم فأدركوا فجيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمرت أعينهم ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا (2) » هذا لفظ مسلم. وفي لفظ «فألقوا في الحرة فجعلوا يستسقون فلا يسقون (3) » . وعند البخاري قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله، وتعددت الروايات في هذا الباب واحتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء في ذهابهم إلى أن حكم المحاربة في الأمصار وغيرها على حد سواء؛ لقوله تعالى {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} (4) وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل رحمهم الله.
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) صحيح البخاري الديات (6899) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن النسائي الطهارة (305) ، سنن أبو داود الحدود (4364) ، مسند أحمد بن حنبل (3/163) .
(3) صحيح البخاري الوضوء (233) .
(4) سورة المائدة الآية 33(9/196)
أما وضع توقيع العقوبة فاختلف فيه أيضا؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن (أو) في الآية للتخيير، أي الإمام مخير في إيقاع هذه العقوبة على من شهر السلاح في فئة المسلمين وأخاف السبيل وظفر به وقدر عليه.
أما الجمهور فنزلوا العقوبة بحسب الأحوال، قال الشافعي رحمه الله - عن ابن عباس رضي الله عنهما في قطاع الطريق -: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض، وكذلك قال غيره من السلف، وفي الصلب خلاف للأئمة رحمهم الله:
أ- هل يصلب حيا ويترك حتى يموت يمنع من الطعام والشراب
ب- يقتل برمح أو نحوه
جـ- يقتل أولا ثم يصلب؛ تنكيلا لغيره من المفسدين
وفي ذلك خلاف يمنع من الترجيح.
أما النفي من الأرض الوارد في الآية الكريمة ففيه الخلاف أيضا:
1 - يصلب حتى يقدر عليه فيقام عليه الحد أو يهرب من دار الإسلام، رواه ابن جرير عن ابن عباس.
2 - ينفى من بلد إلى بلد آخر.
3 - يخرجه السلطان أو نائبه من عمالته بالكلية.
4 - ينفى من جند إلى جند ولا يخرج من دار الإسلام.
5 - المراد بالنفي السجن، وهو قول أبي حنيفة، واختاره ابن جرير.
6 - ينفى من بلد إلى بلد آخر فيسجن.
فتحصل مما تقدم أن حد المحاربة كما يلي:
أ- القتل
ب- الصلب(9/197)
جـ- تقطع الأيدي والأرجل من خلاف
د- النفي على التفصيل المذكور الموضح في الآية(9/198)
ثم هناك حد المسكر في أي لون من ألوانه، فالخمر ما خامر العقل واختلط به سواء كان من عصير العنب أو غيره كالحشيش والأفيون والكوكايين وغيرهما مما لا أعرف له حصرا.
فحده ثمانون جلدة؛ لأن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه استشار الصحابة في حد الخمر، فقال عبد الرحمن بن عوف: اجعله كأخف الحدود ثمانين، وكتب إلى خالد بن الوليد عامله على الشام وإلى أبي عبيدة، رواه الدارقطني وغيره.
هذا ولقد هداني البحث إلى مطالعة كلمة كتبها صاحب كتاب (جريمة الرشوة في الشريعة الإسلامية) الأستاذ عبد الله بن عبد المحسن المنصور الطريقي في رده على من يوجه النقد لعقوبة الجلد فقال:
قد يقال إن هذه العقوبة تنافي الآدمية وتهدر الإنسانية وتتعارض مع تقدم المدنية إلى غير ذلك من الأقوال.
والجواب: أن عقوبة الجلد تمتاز بأنها موجهة إلى حساسية الجاني المادية، وأن الخوف من ألم الجلد هو أول ما يخافه المجرمون، فيجب الاستفادة من ذلك بإرهابهم، وأما إنقاص الاحترام الإنساني ففكرة لا محل لها في العقاب، ولا يصح أن يحتج بها لمن لا يوفر الاحترام لنفسه، وزيادة على ذلك فإن الأساس في هذه العقوبة أنها لا تكون للإتلاف، وإنما تكون بالقدر اللازم للردع والزجر تبعا لاختلاف الجرائم والأشخاص والأحوال، وإذا كان مستساغا أن يكون الإعدام نفسه جزاء لبعض الجرائم تعترف به غالبية الدول وهو لا يهدر آدمية الشخص فقط، بل يهدر حياته ويستأصله من المجتمع جزاء ما اكتسب من جرم. فإذا كان الأمر كذلك فأي كلام يقال في عقوبة الجلد يمكن أن يوجه أكثر منه لعقوبة الإعدام.(9/198)
خاتمة البحث
نربط ختام البحث بما سبق أن ذكرناه في صدره وهو أن هذه الحدود هي(9/198)
الحصن المنيع الذي يمنع من تحدثه نفسه بانتهاكه السياج الذي يقي المجموعة الإسلامية من السطو والجرأة على حرمان المسلم من حق الحياة أو الاستهتار بقتله أو حرمانه من حقه المشروع كسرقة ماله أو السطو على عرضه، ونعني بالعرض إفساد الزوجة على زوجها أو إحدى المحارم بالاتصال بها جنسيا، أو بالمحاربة والإفساد في الأرض.
وتعتبر إقامتها والأخذ بها شريعة مفروضة شرعها الإسلام لا يصح الإخلال بها أو التهاون في إقامتها أو التسامح وعدم العدل في إنزالها بالناس على حد سواء، بحيث تنزل بالأمير والصعلوك والرجل والأنثى والحر والعبد والشريف الحسيب ومن كان من الدهماء، وفي الإعراض عن إقامتها فساد في الأرض وجناية على المجتمع وسلب للأمن الذي هو من قوام الحضارة الإنسانية.
وأبرز الأدلة على سعادة المجتمع الذي يأخذ بها ويقيمها ويتعارف على مراعاة العدل في إقامتها أبرز الأدلة أن الأمة الإسلامية في عصورها المتألقة وقرونها المفضلة عاشت دهرها آمنة في سربها سعيدة بتماسكها وتضامنها وأخذها على يد الظالم منها، ونبذها لكل ما يناهز شريعتها أو يفسد الأخلاق فيها أو يكون أسوة سيئة في مجتمعها، شعارها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما شفع حبه أسامة بن زيد رضي الله عنه في المخزومية التي قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدها لسرقتها: «أتشفع في حد من حدود الله؟ والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها (1) » .
أما لو انعكس الوضع وقامت للمجاملات والمحسوبيات والصداقات أو أية صلة من الصلات - قام لها - منار بين المسلمين، وأخذت ذلك بعين الاعتبار لانهار البنيان واهتزت الروابط وضعفت الغيرة على الإسلام؛ حتى لو انتقص من أطرافه أو نال منه خصومه لما سمعت نأمة ولا رأيت انتفاضة، وذلك مع الأسف واقع المسلمين وأكثرهم في الحاضر، وما ذاك إلا لتخلي المسلمين عن مقومات دينهم والوسيلة الوحيدة لعزتهم والمكانة اللائقة بهم، كأمة من حقها أن تسود الدنيا كما ساد سلفها، وأن تحمل مشعل الهداية إلى العالم كما حمله الأولون من خيارها، ومن البدهي إذن أن لا يعير المسلمون في أعقاب الزمن حملات أعداء الإسلام المسعورة - أعداء
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3475) ، صحيح مسلم الحدود (1688) ، سنن الترمذي الحدود (1430) ، سنن النسائي قطع السارق (4902) ، سنن أبو داود الحدود (4373) ، سنن ابن ماجه الحدود (2547) ، مسند أحمد بن حنبل (6/162) ، سنن الدارمي الحدود (2302) .(9/199)
الإسلام الذين يرمونه بالرجعية، ويتهمونه بالتخلف عن ركب الحضارة، ويصمونه بكل عيب، ويعزون تأخر المسلمين وتخلفهم عن الغرب وتقاعسهم عن الأخذ بأسباب النهوض هو تطبيق تعاليم الإسلام؛ بما في ذلك إقامة الحدود التي يعتبرها همجية وحشية من بقايا القرون الوسطى.
أقول لا يعر المسلمون في أعقاب الزمن ذلك وأكثر منه اهتمامهم، ولا ينقموا على الوسائل التي يتخذها أعداء الإسلام للكيد له، وشباك المستشرقين والمبشرين التي ينصبونها لردة المسلمين عن دينهم وإبعادهم عن ركائزه وفضائله ومقوماته، ولكن الله سبحانه وعد - ووعده الحق - بأنه لن يترك المسلمين الأوفياء لدينهم المخلصين في الأخذ به وإشاعته واتساع أبعاده، أقول لن يترك الله المسلمين تغشاهم موجات الضلال والانحلال دون أن يحقق لهم وعده بالنصر ويأخذ بأيديهم عن أن ينزلقوا إلى متاهات الباطل، أو ينخذلوا في جهادهم، أو تكون عليهم الدبرة في مصاولتهم لعدوهم، فوعد الله لن يتخلف وقد قال سبحانه {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) وقال تعالى {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) وفي الحديث «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة (3) » وصلى الله وسلم وبارك على صفوة خلقه وعلى آله وصحبه ومن سار على دربهم وانتهج وسلك سبيلهم إلى يوم الدين.
الشيخ
عبد الله عبد الغني خياط
مراجع البحث
1 - تفسير ابن كثير الجزء الأول
2 - صفوة التفاسير، المجلد الأول
3 - تفسير البيضاوي
4 - بداية المجتهد
5 - نيل الأوطار، الجزء السابع
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة الروم الآية 47
(3) صحيح مسلم الإمارة (1920) ، سنن الترمذي الفتن (2229) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4252) ، سنن ابن ماجه الفتن (3952) ، مسند أحمد بن حنبل (5/279) .(9/200)
6 - شرح النووي على الأربعين
7 - حاشية السيد رشيد على شرح النووي
8 - دليل الفالحين
9 - فقه الإسلام تأليف حسن أحمد الخطيب
10 - الروض المربع الجزء الثاني
11 - جريمة الرشوة في الشريعة الإسلامية
المصادر والمراجع
- ابن حنبل، أحمد الشيباني - المسند - القاهرة - المطبعة الميمنية.
- ابن رشد، أبو الوليد محمد - بداية المجتهد ونهاية المقتصد - القاهرة - مكتبة الكليات الأزهرية 1389 هـ.
- ابن علان المكي، محمد الصيقي الشافعي - دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين - الطبعة الأولى - القاهرة - مطبعة الأنوار 1347 هـ - 1928 م.
- ابن كثير - أبو الفداء إسماعيل القرشي الشافعي - تفسير القرآن العظيم - القاهرة - مطبعة المنار (بهامشه تفسير البغوي) .
- البخاري - محمد بن إسماعيل - الجامع الصحيح المسند المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه - القاهرة - شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده 1378 هـ.
- البهوتي، منصور بن يونس - الروض المربع شرح زاد المستنقع - القاهرة - المطبعة السلفية 1349 (ومعه حاشية للشيخ عبد الله أبو بطين) .
- البيضاوي.
- الخطيب، حسن أحمد - فقه الإسلام - القاهرة - مطبعة سيد علي حافظ 1371 هـ 1952 م.
- الشوكاني، محمد بن علي - نيل الأوطار بشرح منتقى الأخبار - القاهرة.
- العسقلاني، أحمد بن علي بن حجر - فتح الباري بشرح صحيح البخاري -(9/201)
القاهرة - المطبعة السلفية.
- عودة، عبد القادر - التشريع الجنائي في الإسلام.
- النسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب - المجتبى - مراجعة: حسن محمد المسعودي - الطبعة الأولى - مصر - المطبعة المصرية بالأزهر 1342 هـ.
- النووي، أبو زكريا يحيى بن شرف - الأربعون النووية وشرحها - الطبعة الثانية - القاهرة - مطبعة المنار 1342 هـ (ضمن مجموعة الحديث النجدية) .
- النيسابوري، مسلم بن الحجاج - المسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل عن رسول صلى الله عليه وسلم - تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي - بيروت - دار إحياء التراث العربي.(9/202)
حكم تناول الميتة
بقلم الدكتور صالح بن فوزان الفوزان
الحمد لله رب العالمين، جعل في الحلال غنية عن الحرام، وحرم الخبائث لما في تناولها من الضرر البالغ على الأخلاق والأجسام، وصلى الله على نبينا محمد، القائل: «إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام (1) » وبعد: فهذا بحث مختصر يتناول جانبا مما حرم الله التغذي به؛ لما فيه من الأضرار والمفاسد ألا وهو الميتة، وهذا البحث يشتمل على مسائل:
المسألة الأولى: في تعريف الميتة وبيان الحكمة في تحريمها والرد على من استباحها من المشركين وغيرهم.
المسألة الثانية: في بيان ما يستثنى من الميتة مما يجوز أكله منها مع الاستدلال.
المسألة الثالثة: في بيان حكم ما ذكي بعد قيام سبب الموت به من المنخنقة والموقوذة إلخ مع الاستدلال والترجيح.
المسألة الرابعة: في بيان حكم أكل ما أهل به لغير الله.
المسألة الأولى: في تعريف الميتة وبيان الحكمة في تحريمها والرد على من استباحها من المشركين وغيرهم:
تعريف الميتة: هي ما فارقته الروح بغير ذكاة شرعية بأن يموت حتف أنفه
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .(9/203)
من غير سبب لآدمي فيه وقد يكون ميتة لسبب فعل آدمي إذا لم يكن فعله فيه على وجه الذكاة المبيحة (1) وقد حرم الله الميتة في آيات كثيرة من كتابه منها قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} (2) وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} (3) وقوله تعالى: {لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} (4) الآية وقد أجمع العلماء على تحريم الميتة في حال الاختيار (5) .
والحكمة من تحريمها: أنها تكون في الغالب ضارة؛ لأنها لا بد أن تكون ماتت بمرض أو ضعف أو نسمة خفية مما يسمى الآن بالميكروب. . . يولد فيها سموما، وقد يعيش ميكروب المرض في جثة الميت زمنا؛ ولأنها مما تعافها الطباع السليمة وتستقذره وتعده خبثا (6) - وكذلك ما فيها من احتباس الدم والرطوبات التي لا تزول منها إلا بالذكاة الشرعية - فإن قيل: هذا الفرض يتحقق في ذبح الكافر غير الكتابي ونحوه ممن ليس من أهل الذكاة وفي ذبيحة تارك التسمية فلماذا حرمت ذبيحة كل من هؤلاء واعتبرت ميتة؟
فالجواب:
إن العلة لم تنحصر في احتقان الدم بل هناك علل أخرى لتحريم الميتة، ولا يلزم من انتفاء بعضها انتفاء الحكم الأخرى، بل يخلفه علة أخرى - " فإن الله سبحانه حرم علينا الخبائث، والخبث الموجب للتحريم قد يظهر لنا وقد يخفى، فما كان ظاهرا لم ينصب عليه الشارع علامة غير وصفه، وما كان خفيا نصب عليه علامة تدل على خبثه، فاحتقان الدم في الميتة سبب ظاهر، وأما ذبيحة المجوسي والمرتد وتارك التسمية ومن أهل بذبيحة لغير الله فإن ذبح هؤلاء أكسب المذبوح خبثا أوجب تحريمه، ولا
__________
(1) تهذيب الأسماء واللغات للنووي ص146 ج2 من القسم الثاني وأحكام القرآن.
(2) سورة البقرة الآية 173
(3) سورة المائدة الآية 3
(4) سورة الأنعام الآية 145
(5) المغني مع الشرح الكبير ص72 ج11.
(6) تفسير المنار ص 134 ج6.(9/204)
ينكر أن يكون ذكر اسم الأوثان والكواكب والجن على الذبيحة يكسبها خبثا وذكر اسم الله وحده يكسبها طيبا إلا من قل نصيبه من حقائق العلم والإيمان وذوق الشريعة، وقد جعل الله سبحانه ما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح فسقا وهو الخبيث، ولا ريب أن ذكر اسم الله على الذبيحة يطيبها ويطرد الشيطان عن الذابح والمذبوح، فإذا أخل بذكر اسمه لابس الشيطان الذابح والمذبوح فأثر ذلك خبثا في الحيوان " (1) .
الرد على من استباح الميتة من المشركين وغيرهم.
ذكر الله سبحانه في القرآن الكريم عن المشركين أنهم يستبيحون الميتة ويجادلون المؤمنين في ذلك. وحذر المؤمنين عن طاعتهم في استباحة هذا المحرم واعتبر الطاعة لهم في ذلك شركا فقال سبحانه: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} (2) {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} (3) {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} (4) {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (5) .
"إنه يأمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه وذكر الله يقرر الوجهة ويحدد الاتجاه ويعلن إيمان الناس بطاعة هذا الأمر الصادر إليهم من الله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} (6) ثم يسألهم: وما لهم يمتنعون من الأكل مما ذكر اسم الله عليه وقد جعله الله لهم حلالا، وقد بين لهم الحرام الذي لا يأكلونه إلا اضطرارا فانتهى بهذا البيان كل قول في حله وحرمته وفي الأكل منه أو تركه: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (7) ولما كانت هذه النصوص تواجه قضية حاضرة إذ ذاك في البيئة حيث
__________
(1) أعلام الموقعين لابن القيم ص 103 - 104 ج2 ببعض تصرف.
(2) سورة الأنعام الآية 118
(3) سورة الأنعام الآية 119
(4) سورة الأنعام الآية 120
(5) سورة الأنعام الآية 121
(6) سورة الأنعام الآية 118
(7) سورة الأنعام الآية 119(9/205)
كان المشركون يمتنعون من ذبائح أحلها الله، ويحلون ذبائح حرمها الله، ويزعمون أن هذا هو شرع الله اقتضى الحال أن يفصل في أمر هؤلاء المشترعين المفترين على الله فيقرر أنهم إنما يشرعون بأهوائهم ويضلون الناس بما يشرعونه لهم من عند أنفسهم ويعتدون على ألوهية الله وحاكميته بمزاولتهم لخصائص الألوهية وهم عبيد {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} (1) ويأمرهم بأن يتركوا الإثم كله ظاهره وخفيه - ومنه الذي يزاولونه من إضلال الناس بالهوى وبغير علم، وحملهم على شرائع ليست من عند الله افتراء على الله أنها شريعة، ويحذرهم مغبة هذا الإثم الذي يقترفونه: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} (2) ثم ينهى عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح التي كانوا يذكرون عليها أسماء آلهتهم، أو ينحرونها للميسر ويستقسمونها بالأزلام، أو من الميتة التي كانوا يجادلون المسلمين في تحريمها - يزعمون أن الله ذبحها - فكيف يأكل المسلمون مما ذبحوا بأيديهم ولا يأكلون مما ذبح الله، وهو تصور من تصورات الجاهلية التي لا حد لسخفها وتهافتها في جميع الجاهليات. وهذا ما كانت الشياطين من الإنس والجن توسوس به إلى أوليائها ليجادلوا المسلمين فيه من أمر هذه الذبائح مما تشير إليه الآيات: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (3) .
فالمشركون (يضلون بأهوائهم) فيقولون ما ذبح الله بسكينه (يعنون الميتة) خير مما ذبحتم بسكاكينكم (يعنون المذكاة) وفي ضمن ذلك أنهم يحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله، وهذا قلب للحقائق، فهم يقولون هذا (بغير علم) أي بغير علم يعلمونه في أمر الذبح؛ إذ من الحكمة فيه كما سبق: إخراج ما حرم الله علينا من الدم بخلاف الميتة، ولذلك شرع الله الذكاة في محل مخصوص ليكون الذبح فيه سببا لجذب كل دم في الحيوان بخلاف غيره من الأعضاء.
واستمرارا مع تشريعهم في إباحة الميتة كانوا يستبيحون ميتة الأجنة في بطون
__________
(1) سورة الأنعام الآية 119
(2) سورة الأنعام الآية 120
(3) سورة الأنعام الآية 121(9/206)
الأنعام ويشركون في أكلها النساء والرجال كما حكاه الله عنهم بقوله: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} (1) .
فتحريم الميتة هو حكم الله المبني على العلم والحكمة. وإباحتها هي حكم الجاهلية المبني على الهوى والجهل {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2) وطاعة الله في تحريمها توحيد، وطاعة أهل الجاهلية في إباحتها شرك {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (3) لأن التحليل والتحريم حق لله سبحانه لا يشاركه فيه أحد {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} (4) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 139
(2) سورة المائدة الآية 50
(3) سورة الأنعام الآية 121
(4) سورة الرعد الآية 41(9/207)
المسألة الثانية: في بيان ما يستثنى من الميتة مما يجوز أكله منها مع الاستدلال
يستثنى من الميتة نوعان يباح أكلهما:
النوع الأول: ميتة البحر لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} (1) فالمراد بطعامه ما مات فيه من حيوانه الذي لا يعيش إلا فيه، فتكون هذه الآية مخصصة لعموم قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} (2) وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (3) ولقوله في حديث ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم: «أحلت لنا ميتتان ودمان: فأما الميتتان فالحوت والجراد (4) » الحديث (5) . وحديث أبي هريرة رضي
__________
(1) سورة المائدة الآية 96
(2) سورة البقرة الآية 173
(3) سورة المائدة الآية 3
(4) سنن ابن ماجه الأطعمة (3314) ، مسند أحمد بن حنبل (2/97) .
(5) رواه أحمد وابن ماجه والدارقطني والأصح أنه موقوف \ المنتقى ونيل الأوطار ص 152 - 153 ج8.(9/207)
الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في البحر: هو الطهور ماؤه الحل ميتته (1) » وهو حديث صحيح (2) وكذلك حديث جابر في «قصة العنبر الذي ألقاه البحر فأكل منه الصحابة نصف شهر وذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: كلوا رزقا أخرجه الله عز وجل لكم (3) » فهذه الأحاديث أيضا تخصص الآيات العامة في تحريم الميتة.
النوع الثاني: الجراد (4) " بفتح الجيم وتخفيف الراء معروف، والواحدة جرادة، والذكر والأنثى سواء كالحمامة. ويقال: إنه مشتق من الجرد؛ لأنه لا ينزل على شيء إلا جرده، وخلقة الجراد عجيبة فيها عشرة أنواع من خلقة الحيوانات ذكر بعضها في هذين البيتين:
لها فخذا بكر وساقا نعامة ... وقادمتا نسر وجؤجؤ ضيغم
حبتها أفاعي الرمل بطنا وأنعمت ... عليها جياد الخيل بالرأس والفم
واختلف في أصله فقيل: إنه نثرة حوت فلذلك كان أكله بغير ذكاة، وفي ذلك حديث أنس: «أن الجراد نثرة حوت من البحر (5) » وحديث أبي هريرة: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حج أو عمرة فاستقبلنا رجل جراد فجعلنا نضرب بنعالنا وأسواطنا فقال: كلوه فإنه من صيد البحر (6) » والحديثان لو صحا لكان فيهما حجة لمن قال: لا جزاء فيه إذا قتله المحرم، وجمهور العلماء على خلافه. . . وإذا ثبت فيه الجزاء دل على أنه بري (7) .
__________
(1) رواه الأربعة وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما \ تفسير ابن كثير ص7 ج2.
(2) النووي في المجموع ص31 ج9.
(3) متفق عليه \ المنتقى مع شرحه ص 152 ج8.
(4) ما بين القوسين من فتح الباري ص 620 - 621 ج9 ببعض تصرف.
(5) ضعيف، أخرجه ابن ماجه \ فتح الباري ص 621 ج9.
(6) أخرجه أبو داود، وفي إسناده ميمون بن جابان، ولا يحتج بحديثه \ مختصر المنذري للسفن ص 365 ج2.
(7) فتح الباري.(9/208)
أما حكم أكله فقد أجمع (1) العلماء على جواز أكله في الجملة بدليل الحديث السابق قريبا: «أحلت لنا ميتتان ودمان: أما الميتتان فالحوت والجراد (2) » وحديث عبد الله بن أبي أوفى (3) قال: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل معه الجراد (4) » لكن قال الجمهور: يحل؛ سواء مات باصطياد أو بذكاة أو مات حتف أنفه. وقال مالك (5) - في المشهور عنه - وأحمد في رواية (6) : لا يحل إلا إذا مات بسبب بأن يقطع بعضه أو يسلق أو يلقى في النار حيا. فإن مات حتف أنفه لم يحل.
احتج الجمهور بالحديث السابق: «أحلت لنا ميتتان (7) » وقد يعترض عليه بأن رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضعيف والصحيح أنه من قول ابن عمر (8) فلا يصح الاستدلال به على حل ميتة الجراد، ويجاب عن ذلك: بأن الرواية الموقوفة على ابن عمر والتي صححها بعض الحفاظ (9) تكفي في الدلالة على المطلوب؛ لأنها في حكم المرفوع؛ لأن قول الصحابي أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا أو أحل لنا كذا أو حرم علينا كذا كله في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو بمنزلة قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو أحل لنا كذا أو حرم علينا كذا، وهي قاعدة معروفة.
واحتج مالك بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (10) فإنه يدخل في عمومه ميتة الجراد فتكون محرمة - والراجح: ما ذهب إليه الجمهور - ويجاب عما استدل به مالك من عموم الآيات بأنها عامة مخصوصة بالحديث المذكور والله أعلم.
__________
(1) فتح الباري، وشرح النووي على صحيح مسلم ص103 ج13، والمغني مع الشرح ص41 ج11.
(2) سنن ابن ماجه الأطعمة (3314) ، مسند أحمد بن حنبل (2/97) .
(3) هو الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما، شهد بيعة الرضوان وما بعدها، وتوفي بالكوفة سنة 86 هـ.
(4) رواه الجماعة إلا ابن ماجه \ المنتقى مع شرحه ص152 ج8.
(5) بداية المجتهد ص 325 ج1.
(6) المغني مع الشرح ص41 ج11.
(7) سنن ابن ماجه الأطعمة (3314) ، مسند أحمد بن حنبل (2/97) .
(8) انظر نيل الأوطار ص153 ج8.
(9) انظر نيل الأوطار ص153 ج8، والمجموع للنووي ص24 ج9.
(10) سورة المائدة الآية 3(9/209)
المسألة الثالثة: في بيان حكم ما ذكي بعد قيام سبب الموت من المنخنقة والموقوذة إلخ مع الاستدلال والترجيح.
الأصل الذي يرجع إليه في أحكام هذه المسألة قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} (1) فقد بين جل شأنه في هذه الآية الحكم في كثير من الأنواع، ومنها المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع. والحديث عن هذه الخمسة يشمل بيان المراد بكل منها، ومناسبة ذكرها بعد ما قبلها من المحرمات، وبيان خلاف العلماء في نوع الاستثناء الوارد في الآية الكريمة، ثم بيان الخلاف بين الفقهاء في ضابط الحياة التي تعمل معها التذكية في هذه المذكورات مع الاستدلال والترجيح:
أولا بيانها: المنخنقة: هي التي تموت خنقا - والخنق: حبس النفس سواء فعل ذلك بها آدمي أو اتفق لها ذلك في حبل أو بين عودين أو غير ذلك. وقد ذكر أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة وغيرها فإذا ماتت أكلوها.
والموقوذة: الوقذ شدة الضرب - والمراد بالموقوذة هنا: التي ترمى أو تضرب بحجر أو عصا أو غير ذلك حتى تموت من غير تذكية - قيل: كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك بالحيوان ويأكلونه.
والمتردية: الردى: الهلاك. والمراد بالمتردية هنا التي تتردى من العلو إلى السفل فتموت - سواء تردت بنفسها أم رداها غيرها - وكانت الجاهلية تأكل المتردي من الأنعام.
والنطيحة: فعيلة بمعنى مفعولة وهي الشاة ينطحها غيرها فتموت بذلك.
وما أكل السبع: ما افترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان كالأسد والنمر والذئب. وفي الكلام إضمار - أي ما أكل منه السبع - لأن ما أكله السبع فقد فني.
__________
(1) سورة المائدة الآية 3(9/210)
وكانت الجاهلية لا تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع ونحوه دون سبب يعرف، فأما هذه الأسباب فكانت عندها كالذكاة (1) التي ذكرها الله تعالى في الآية واحتجوا بأمرين:
الأول: أنه قد ذكر في الآية أشياء لا ذكاة لها وهي الميتة والخنزير " قالوا وإنما معنى الآية: حرمت عليكم الميتة والدم وسائر ما سمينا مع ذلك، لكن ما ذكيتم مما أحله الله لكم بالتذكية فإنه لكم حلال " (2) فتكون (إلا) بمعنى (لكن) " أي حرمت عليكم هذه الأشياء لكن ما ذكيتم فهو الذي يحل ولا يحرم " (3) .
الثاني: " أن التحريم لم يتعلق بأعيان هذه الأصناف وهي حية وإنما تعلق بها بعد الموت وإذا كان كذلك فالاستثناء منقطع وذلك أن معنى قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (4) إنما هو لحم الميتة وكذلك لحم الموقوذة والمتردية والنطيحة وسائرها. أي لحم الميتة بهذه الأسباب. . . فلما علم أن المقصود لم يكن تعليق التحريم بأعيان هذه وهي حية وإنما علق بها بعد الموت؛ لأن لحم الحيوان محرم في حال الحياة بدليل اشتراط الذكاة فيها، وبدليل قوله عليه الصلاة والسلام: «ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت (5) » وجب أن يكون قوله: {إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (6) استثناء منقطعا " (7) ويكون المراد بالمنخنقة وما ذكر معها على هذا ما مات بالإصابة أو بلغ حالة يغلب على الظن أنه لا يعيش معها. فلا يعمل فيها الاستثناء. ويكون فائدة ذكر هذه الأشياء بعد الميتة الرد على أهل الجاهلية الذين لا يعدون الميتة من الحيوان إلا ما مات من علة عارضة به غير الانخناق والتردي والانتطاح وفرس السبع، فأعلمهم الله أن حكم ذلك حكم ما مات من العلل العارضة (8) .
__________
(1) نقلت تفسير هذه المذكورات وما يتعلق به من تفسير القرطبي ص48 - 49 ج6 باختصار وتصرف.
(2) تفسير ابن جرير ص505 ج9.
(3) فتح القدير للشوكاني ص9 ج2.
(4) سورة المائدة الآية 3
(5) أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه واللفظ له \ بلوغ المرام من أدلة الأحكام ص4.
(6) سورة المائدة الآية 3
(7) تفسير ابن جرير ص505 ج9.
(8) تفسير ابن جرير ص507 ج9.(9/211)
الترجيح: والراجح أن الاستثناء متصل كما قال الجمهور:
" لأن حق الاستثناء أن يكون مصروفا إلى ما تقدم من الكلام ولا يجعل منقطعا إلا بدليل يجب التسليم به " (1) ولا دليل فيبقى على الأصل.
رابعا: بيان الخلاف في ضابط الحياة التي تعمل معها التذكية في المذكورات وفي ذلك أقوال:
القول الأول: أنه إذا ذكاها وفيها حياة ولو قلت فهي حلال وهذا قول أبي حنيفة (2) ورواية عن أحمد (3) لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (4) إلى قوله تعالى: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (5) فاستثنى سبحانه وتعالى المذكى من جملة المحرمات، والاستثناء من التحريم إباحة، وهذه مذكاة لوجود فري الأوداج مع قيام الحياة فدخلت تحت النص (6) وهذا القول عليه الفتوى عند الحنفية (7) فيكفي وجود مطلق الحياة.
القول الثاني: لا يحل شيء من هذه المذكورات إلا إذا أدرك وفيه الحياة مستقرة فذكي وهو قول الحنابلة (8) والشافعية (9) ووجه هذا القول: أنه إذا لم يكن فيه حياة مستقرة كانت في حكم الميتة تلحقها بالذكاة لكن اختلفوا فيما تعرف به الحياة المستقرة. فعند الشافعية أنها تعرف بعلامات وقرائن لا تضبطها العبارة، منها الحركة الشديدة بعد قطع المريء والحلقوم وانفجار الدم وتدفقه (10) وعند الحنابلة: تعرف بالحركة، فإن كانت تزيد حركة المذبوح حلت، وإن صارت حركتها كحركة
__________
(1) تفسير القرطبي ص50 ج6.
(2) بدائع الصنائع ص50 ج5.
(3) حاشية المقنع ص 539 - 549 ج3.
(4) سورة المائدة الآية 3
(5) سورة المائدة الآية 3
(6) البدائع.
(7) حاشية ابن عابدين ص 303 ج5.
(8) المقنع بحاشيته ص 539 ج3.
(9) المجموع للنووي ص89 ج9.
(10) المجموع للنووي ص89 ج9.(9/212)
المذبوح لم تحل (1) وبعض الحنابلة يقرر ذلك بالزمن فيقول: إن كانت تعيش معظم اليوم حلت بالذكاة، ورد ذلك صاحب المغني ثم قال: والصحيح أنها إذا كانت تعيش زمنا يكون الموت بالذبح أسرع منه (أي من الموت بالإصابة) حلت.
القول الثالث: أن ما يغلب على الظن أنه يموت بالإصابة لا يحل بالذكاة وهذا قول مالك (2) ورواية عن أحمد (3) وذلك بأن تكون منفوذة بعض المقاتل كمقطوعة النخاع والتي انتثر دماغها أو بانت حشوتها أو فري ودجها. ووجه هذا القول: أنها إذا كانت كذلك صارت ميتة حكما فلا تعمل فيها ذكاة (4) .
وملخص هذه الأقوال: القول الأول يكتفى بمجرد وجود حياة في الحيوان المصاب بحيث يمكن تذكيته قبل أن يموت، والقول الثاني يقول: لا بد من حياة أكثر من ذلك بحيث تكون حياة مستقرة تتحدد زمنا أوسع وتعرف بالأمارات كالحركة القوية ونحوها على ما مر. والقول الثالث يقول لا بد من حياة مستمرة بحيث لو ترك الحيوان لعاش، فإن كانت الإصابة قاتلة لم تعمل فيه الذكاة.
الترجيح - والراجح من هذه الأقوال هو القول الأول؛ لأنه هو الذي يتمشى مع ظاهر الآية: {إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (5) فإذا أدرك وفيه حياة فذكي فقد تناوله عموم الآية.
ومما يدل على هذا أيضا واقعة حصلت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم «هي أن جارية لكعب بن مالك رضي الله عنه (7) » فقوله: (فأدركها فذكتها) يدل على أنها بادرتها بالذكاة حين خافت موتها في ساعتها، واشتراط الحياة المستقرة أو اشتراط أن لا تكون الإصابة قاتلة يخالف ظاهر النصوص. وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن
__________
(1) المقنع بحاشيته ص 539 ج3.
(2) الشرح الكبير للدردير ص 113 ج2.
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ص 237 ج35.
(4) الشرح الصغير ص 176 ج2.
(5) سورة المائدة الآية 3
(6) رواه البخاري في صحيحه ص 632 ج9 من فتح الباري.
(7) (6) كانت ترعى غنما بسلع فأصيبت شاة منها فأدركتها فذبحتها بحجر، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال كلوها(9/213)
تيمية رحمه الله في جواب عن سؤال ورد إليه في هذا الموضوع رأينا أن نسوقه بتمامه لفائدته العظيمة.
قال رحمه الله: " الحمد لله رب العالمين - قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (1) وقوله تعالى: {إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (2) عائد إلى ما تقدم من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع عند عامة العلماء كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهم، فما أصابه قبل أن يموت أبيح. لكن تنازع العلماء فيما يذكى من ذلك. فمنهم من قال: ما تيقن موته لا يذكى كقول مالك ورواية عن أحمد. ومنهم من يقول: ما يعيش معظم اليوم ذكي، ومنهم من يقول: ما كانت فيه حياة مستقرة ذكي كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد. ثم من هؤلاء من يقول: الحياة المستقرة ما يزيد على حركة المذبوح. ومنهم من يقول: ما يمكن أن يزيد على حياة المذبوح.
والصحيح: أنه إذا كان حيا فذكي حل أكله ولا يعتبر في ذلك حركة مذبوح. فإن حركات المذبوح لا تنضبط، بل فيها ما يطول زمانه وتعظم حركته. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا (3) » فمتى جرى الدم الذي يجري من المذبوح. . . . حل أكله. والناس يفرقون بين دم ما كان حيا ودم ما كان ميتا. فإن الميت يجمد دمه ويسود؛ ولهذا حرم الله الميتة لاحتقان الرطوبات فيها. فإذا جرى منها الدم الذي يخرج من المذبوح الذي ذبح وهو حي حل أكله وإن تيقن أنه يموت (أي بالإصابة) . . .
فعمر بن الخطاب رضي الله عنه تيقن أنه يموت وكان حيا وجازت وصيته وصلاته وعهوده. وقد أفتى غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم بأنها إذا مصعت بذنبها أو طرفت بعينها أو ركضت برجلها بعد الذبح حلت، ولم يشرطوا أن تكون حركتها قبل ذلك أكثر من حركة المذبوح. وهذا قاله الصحابة؛ لأن الحركة دليل الحياة
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة المائدة الآية 3
(3) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5498) ، سنن النسائي الضحايا (4404) ، مسند أحمد بن حنبل (3/463) .(9/214)
والدليل ينعكس فلا يلزم -إذا لم يوجد هذا منها- أن تكون ميتة، بل قد تكون حية وإن لم يوجد منها مثل ذلك. والإنسان قد يكون نائما فيذبح وهو نائم ولا يضطرب، وكذلك المغمى عليه يذبح ولا يضطرب، وكذلك الدابة قد تكون حية فتذبح ولا تضطرب لضعفها عن الحركة وإن كانت حية، ولكن خروج الدم الذي لا يخرج إلا من مذبوح وليس هو دم الميت دليل على الحياة والله أعلم " (1) انتهى. وقد حذفنا منه بعض الكلمات لغموضها. وهو جواب كما ترى مدعما بالأدلة، وفتاوى الصحابة وشواهد الواقع مما يؤيد ما اختاره في ذكاة المنخنقة وما ذكر معها، ولا يسع الباحث المنصف إلا أن يعترف بما جاء فيه من التحقيق والله أعلم.
__________
(1) مجموع الفتاوى ص236 ج35 وانظر الاختيارات له ص363.(9/215)
المسألة الرابعة في حكم أكل ما أهل به لغير الله: قال الله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (1) الآية الكريمة تحرم الأكل مما أهل به لغير الله وتجعله في صف الميتة والدم ولحم الخنزير، وفي آية أخرى تصفه بأنه (فسق) {لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (2) وما أهل لغير الله به هو ما ذبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب والأنداد والأزلام ونحو ذلك مما كانت الجاهلية ينحرون له (3) والمنع منه لأجل حماية التوحيد؛ لأنه من أعمال الوثنية، فكل من أهل لغير الله ذبيحة فإنه يتقرب إلى من أهل باسمه، وذلك من الإشراك بالله بصرف العبادة لغيره، وقد ذكر الفقهاء أن كل ما ذكر عليه اسم غير الله ولو مع اسم الله فهو محرم. . . إذ لا يجوز أن يذكر عند الذبح غير اسم المنعم بالبهيمة المبيح لها، فهي تذبح وتؤكل باسمه لا
__________
(1) سورة البقرة الآية 173
(2) سورة الأنعام الآية 145
(3) تفسير ابن كثير ص 205 ج1.(9/215)
يشاركه في ذلك سواه ولا يتقرب بها إلى من عداه ممن لم يخلق ولم ينعم ولم يبح ذلك (1) .
والحكمة في تحريم هذا النوع: أن ما ذبح على هذه الصفة قد اكتسب خبثا أوجب تحريمه فهو ملحق بالنجاسة المادية والقذارة الحقيقية (2) .
أنواع ما أهل به لغير الله:
ما أهل به لغير الله على نوعين: النوع الأول: ما ذبحه كتابي وسمى عليه غير اسم الله كالمسيح والزهرة وغيرهما فللعلماء في حكم هذه الذبيحة ثلاثة أقوال.
القول الأول: التحريم وهو قول الشافعية (3) والحنفية (4) وأصح الروايتين عن أحمد (5) لأن القرآن الكريم قد صرح بتحريم ما أهل به لغير الله، وهذا عام في ذبيحة الوثني والكتابي إذا أهل بها لغير الله.
القول الثاني: الإباحة وهو قول جماعة من السلف ورواية عن أحمد (6) لأن هذا من طعامهم، وقد أباح الله لنا طعامهم من غير تخصيص، وقد علم سبحانه أنهم يسمون غير اسمه (7) .
القول الثالث -وهو قول المالكية -: أن ذبح أهل الكتاب إذا قصدوا به التقرب لآلهتهم بأن ذبحوه لآلهتهم قربانا وتركوه لا ينتفعون به فإنه لا يحل لنا أكله؛ إذ ليس من طعامهم لأنهم لا ينتفعون به. وأما ما ذبحوه لأنفسهم بقصد أكلهم منه ولو في أعيادهم لكن سموا عليه اسم آلهتهم مثلا تبركا فهذا يؤكل بكره؛ لأنه تناوله عموم: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (8)
الترجيح: والذي يترجح هو القول الأول وهو التحريم مطلقا لعموم قوله
__________
(1) تفسير المنار ص98 ج2.
(2) ظلال القرآن، سيد قطب ص157 ج1.
(3) المجموع (9 \ 78.
(4) بدائع الصنائع (9 \ 46) .
(5) أحكام أهل الذمة (1 \ 249) .
(6) أحكام أهل الذمة (1 \ 249 - 250) .
(7) أحكام أهل الذمة (6) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2 \ 101) .
(8) سورة المائدة الآية 5(9/216)
تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (1) وهذا مما أهل به لغير الله.
وإباحة ذبائح أهل الكتاب وإن كانت مطلقة لكنها مقيدة بما لم يهلوا به لغير الله، فلا يجوز تعطيل القيد وإلغاؤه. بل يحمل المطلق على المقيد. وإن ادعى المخالفون العكس فقالوا: آية {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (2) هي المطلقة وآية: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (3) مقيدة فيحمل المطلق على المقيد، فتقيد ذبيحة الكتابي عموم ما أهل به لغير الله.
قلنا: بل الصواب العكس فقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (4) مطلق فيما أهل به لغير الله. وما أهل به لله قيد منه ما أهل به لغير الله وبقي ما عداه. وهذا أولى لوجوه:
أحدها: أنه نص سبحانه على تحريم ما لم يذكر عليه اسمه ونهى عن أكله وأخبر أنه فسق. وهذا تنبيه على أن ما ذكر عليه اسم غيره أشد تحريما وأولى بأن يكون فسقا.
الثاني: أن قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (5) قد خص فيه ما يستحلونه من الميتة والدم ولحم الخنزير فلأن يخص منه ما يستحلونه مما أهل به لغير الله من باب أولى.
الثالث: أن الأصل في الذبائح التحريم إلا ما أباحه الله ورسوله، فلو قدر تعارض دليلي الحظر والإباحة لكان العمل بدليل الحظر أولى لثلاثة أوجه: أحدها: تأيده بالأصل الحاضر، الثاني: أنه أحوط، الثالث: أن الدليلين إذا تعارضا رجع إلى الأصل، والأصل هنا هو التحريم.
ما أهل به لغير الله فهو حرام مطلقا:
"حرم سبحانه ما ذبح لغير الله وما سمي عليه غير اسم الله وإن قصد به اللحم لا القربان، فقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من ذبح لغير الله ونهى عن ذبائح الجن وكانوا
__________
(1) سورة البقرة الآية 173
(2) سورة البقرة الآية 173
(3) سورة المائدة الآية 5
(4) سورة المائدة الآية 5
(5) سورة المائدة الآية 5(9/217)
يذبحون للجن، بل حرم الله ما لم يذكر عليه اسمه مطلقا كما دل على ذلك الكتاب والسنة في غير موضع وقد قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (1) أي انحر لربك وحده كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) وقد قال إبراهيم وإسماعيل إذ يرفعان القواعد من البيت: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (3) {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} (4) فالمناسك هنا مشاعر الحج كلها كما قال تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} (5) وقال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (6) وقال: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (7) وقال: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (8) فالمقصود تقوى القلوب لله وهي عبادتها له وحده دون سواه بغاية العبودية له، والعبودية فيها غاية المحبة وغاية الذل والإخلاص، وهذه ملة إبراهيم الخليل " (9) " وكان المشركون يذبحون للقبور ويقربون لها القرابين، وكانوا في الجاهلية إذا مات لهم عظيم ذبحوا عند قبره الخيل والإبل وغير ذلك تعظيما للميت، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كله، ولو نذر أن يذبح لغير الله لم يكن له أن يوفي به، ولو شرطه واقف لكان شرطا فاسدا" وقد عادت الجاهلية في أقبح صورها في بلاد كثيرة وصار الذبح لغير الله فيها أمرا مألوفا.
النوع الثاني: ما ذبحه غير كتابي من الوثنيين والمجوسيين والقبوريين وغيرهم لأصنامهم وأضرحتهم التي يتقربون إليها بذبح القرابين وأنواع النذور مما يعج به اليوم كثير من البلاد التي كانت فيما سبق إسلامية، والآن ظهرت فيها أعلام الشرك وصار
__________
(1) سورة الكوثر الآية 2
(2) سورة الأنعام الآية 162
(3) سورة البقرة الآية 127
(4) سورة البقرة الآية 128
(5) سورة الحج الآية 67
(6) سورة الحج الآية 34
(7) سورة الحج الآية 37
(8) سورة الحج الآية 32
(9) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ص 484 - 486 ج17.(9/218)
كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام من أهلها يتسابقون في الذبح لغير الله عند أضرحة الأولياء، مع أن نصوص الإسلام صريحة في منع الذبح لغير الله واعتباره شركا أكبر يخرج عن الملة وصريحة في منع ذكر اسم غير الله على الذبائح، وصريحة في تحريم ما ذبح على هذه النصب وجعله في عداد الميتة".
والمقصود هنا بيان أكل هذا النوع من الذبائح؛ لأنه تعبد به لغير الله، فالأكل منه مشاركة لأهله فيه ومشايعة لهم عليه وهو مما يجب إنكاره ولا يجوز إقراره ولا يكفي ترك أكله، بل لا بد من مقاومته وتطهير البلاد منه حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله وحده، وفق الله المسلمين للقيام بذلك كما قام به نبيهم وسلفهم الصالح، (ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها) وهو توحيد الله سبحانه والجهاد في سبيله والدعوة إليه قولا وعملا. نسأل الله أن يحقق ذلك إنه سميع مجيب وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.
الدكتور صالح بن فوزان الفوزان(9/219)
صفحة فارغة(9/220)
حكم الشهادة فيما كان من حقوق العباد
بقلم الدكتور عبد الله بن محمد الزبن
اشترط بعض الفقهاء لوجوب الشهادة على الشاهد شروطا عددوها، وهي:
الأول: طلب المدعي الشهادة فيما كان من حقوق العباد حقيقة أو حكما، وإنما قال أو حكما ليدخل من عنده شهادة لا يعلم بها صاحب الحق وخاف الشاهد فوت الحق، فإنه يجب عليه أن يشهد بلا طلب، لكون صاحب الحق طالبا لأدائه حكما.
الثاني: أن يعلم الشاهد أو يغلب على ظنه أن القاضي يقبل شهادته، فإن علم أو ترجح عنده أنه لا يقبلها فلا يلزمه الأداء، ولو شك في قبول شهادته من عدمه فالأحوط أنه يؤديها لإحياء حق العبد عند قبول شهادته.
الثالث: أن يتعين عليه الأداء، فإن لم يتعين بأن كان المتحملون جماعة فأدى غيره ممن تقبل شهادته فقبلت لم يأثم لعدم لحوق ضرر بالمدعي من تأخره عن شهادته، بخلاف ما إذا أدى غيره ولم تقبل، فإن من لم يؤد ممن تقبل شهادته يأثم بامتناعه، وهذا إذا لم تكن شهادته أسرع قبولا من غيره، فإن كانت أسرع وجب عليه الأداء، وإن كان هناك من تقبل شهادته.(9/221)
الرابع: ألا يخبر عدلان ببطلان المشهود به، فلو شهد عند الحاكم عدلان أن المدعي قبض دينه، أو أن الزوج طلق زوجته ثلاثا، أو أن المشتري أعتق العبد، أو أن الولي عفا عن القاتل لا يسعه أن يشهد بالدين والنكاح والبيع والقتل، وإن لم يكن المخبرون عدولا فالخيار للشهود إن شاءوا شهدوا بالدين وأخبروا القاضي بخبر غير العدول، وإن شاءوا امتنعوا عن الشهادة، وإن كان المخبر واحدا - عدلا أو فاسقا - لا يسعه ترك الشهادة.
الخامس: أن يكون القاضي الذي طلب الشاهد للأداء عنده عدلا، فلو كان غير عدل فإن للشاهد أن يمتنع عن الأداء حتى يشهد عند قاض عدل، لأنه ربما لا يقبل شهادته ويجرحه، وفي هذا ضرر أدبي للشاهد، وعلى هذا لو غلب على ظنه أنه يقبله - لشهرته مثلا - ينبغي أن يتعين عليه الأداء إحياء للحق.
السادس: ألا يقف الشاهد على أن المقر أقر خوفا إن كان يشهد على إقرار، فإن علم بذلك لا يشهد، فإن قال المقر: أقررت خوفا وكان المقرر له سلطانا فإن كان في يد عون من أعوان السلطان ولم يعلم الشاهد بخوفه شهد عند القاضي وأخبره أنه كان في يد عون من أعوان السلطان. وكذلك إذا خاف الشاهد على نفسه من سلطان جائر أو غيره وسعه الامتناع.
السابع: أن يكون موضع الشاهد قريبا من موضع القاضي، فإن كان بعيدا بحيث لا يمكنه أن يغدو إلى القاضي لأداء الشهادة ويرجع إلى أهله في يومه ذلك قالوا: لا يأثم، لأنه يلحقه الضرر بذلك، وقد قال الله تعالى: {وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} (1) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 282(9/222)
ولقوله صلى الله عليه وسلم: «أكرموا الشهود فإن الله تعالى يستخرج بهم الحقوق ويدفع بهم الظلم (1) » .
وإذا كان بين مكان الشاهد ومحل الحكم مسافة تحتاج إلى الركوب وأركبه المشهود له دابة عنده فإن هذا يمنع قبول شهادة الشاهد إذا لم يكن هناك عذر، إما إذا كان هناك عذر كأن لا يقدر الشاهد على المشي إلى موطن الحكم، ولا يستطيع كراء دابة يركبها لفقره فإنه لا يمنع من قبول شهادته هذا الركوب.
أما إذا أكل الشاهد من طعام المشهود له فينظر إن كان الطعام مهيأ لأجله لم تقبل شهادته، وإن كان غير مهيأ له تقبل.
وروي عن محمد بن الحسن أنها لا تقبل في الحالتين. وعن أبي يوسف أنها تقبل فيهما للعادة الجارية به. وبقول أبي يوسف يفتى في مذهب الحنفية.
وعلى كل حال يترتب على هذا الشرط أنه إذا كان المكان بعيدا بحيث لا يستطيع الشاهد أن يعود إلى منزله في يوم شهادته بعد أن يؤديها لم تجب عليه مهما كبر الحق المشهود به، ولو بلغ الآلاف المؤلفة من دنانير الذهب، وفي هذا صعوبة كبيرة على صاحب الحق وضرر عظيم لا يساويه ضرر مبيت الشاهد ليلة بعيدا عن منزله، ويترتب عليه أيضا أن الشاهد متى كان قادرا على دفع أجرة الكراء وجب عليه أن يدفعها من ماله الخاص، وفي هذا إضرار بالشهود، وإلجاء لهم على ألا يشهدوا على الحقوق مهما عظمت تخلصا من الغرامات التي تلحقهم من جرائها،
__________
(1) رواه الخطيب في التاريخ، وابن عساكر، والبانياسي في جزئه عن ابن عباس، وقد أخرجه الدكتور محمد الزحيلي عند تحقيق كتاب: أدب القضاء لابن أبي الدم، وقال بأنه حديث ضعيف، ونسب إلى الذهبي القول بأنه منكر، انظر: مختصر شرح الجامع الصغير للمناوي ج1 ص92، أدب القضاء لابن أبي الدم ص98، كنز العمال ج7 ص12.(9/223)
فوجب منعا لما يصيب المشهود له والشاهد من الضرر أن يفكر في هذه المسألة كل التفكير حتى يتوصل إلى حل مانع من تلك الأضرار.
أقول: والحل الذي يمكن اتباعه في هذه المسألة في نظري هو أحد ثلاثة أمور:
الأول: أن يتكفل المشهود له بدفع نفقات الشاهد من أجرة ذهاب وإياب ونفقة طعام ومبيت. ووجهة النظر في هذا أنه صاحب المصلحة في هذه الشهادة، ولا يعتبر ذلك تهمة بالنسبة للشاهد؛ لأن هذا يدخل في باب إكرام الشهود الذي ورد به النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «أكرموا الشهود فإن الله تعالى يستخرج بهم الحقوق ويدفع بهم الظلم (1) » .
الثاني: أن يكلف الشاهد بالمبيت لأجل أداء الشهادة ويحكم القاضي بنفقاته على المحكوم عليه. ووجهة النظر في هذا أن المحكوم عليه ظهر أنه مبطل في دعواه أو مماطل في أداء الحق وكل منهما ظلم والظالم يتحمل تبعات ظلمه.
الثالث: أن يذهب الشاهد إلى أقرب قاض له ويطلب منه إثبات شهادته ويرسل بهذه الشهادة إلى قاضي البلدة التي بها المشهود له. وهذا جائز كما نص عليه الفقهاء في باب كتاب القاضي إلى القاضي. وبأحد هذه الحلول تؤدى الشهادة ولا يحصل ضرر كبير على أي من الشاهد والمشهود له.
__________
(1) سبق تخريجه والإشارة إلى تخريج الدكتور محمد الزحيلي له وقوله بأنه ضعيف إلا أنه استدرك وقال: لكن معناه صحيح. هذا وقد ذكر في مختصر شرح الجامع الصغير عند بيانه لمعاني الكلمات معنى إكرام الشهود بأنه يكون بملاطفتهم وإلانة القول لهم، انظر: مختصر شرح الجامع الصغير للمناوي ج1 ص92، أدب القضاء لابن أبي الدم ص98، كنز العمال ج7 ص12.(9/224)
الثامن: زاد الشيخ أحمد إبراهيم في طرق الإثبات الشرعية: أن يكون الشاهد متذكرا لها على وجهها تماما، فإن فاته شيء مما رأى أو اختلط عليه الأمر فلا يجب عليه أداء الشهادة، فإن أجبر على الأداء فعليه أن يقول ما يعرفه يقينا فقط ويمتنع عن غيره أو يسوقه مساق التردد إذا كان الأمر قد اشتبه عليه ولا سيما لطول الزمن (1) .
هذه جملة ما اشترط بعض الفقهاء لوجوب أداء الشهادة على الشاهد، ولكن إذا اجتمعت جميع هذه الشروط في الشاهد وأخرت الشهادة لغير عذر ظاهر ثم شهد فما الحكم؟
قيل: لا تقبل لتمكن الشبهة، وقيل: الأوجه القبول، ويحمل على العذر من نسيان ثم تذكر. ورجح القول بعدم قبولها لفساد الزمان (2) .
__________
(1) طرق الإثبات الشرعية لأحمد إبراهيم ص 132.
(2) الأصول القضائية لعلي قراعة ص 149.(9/225)
حكم الشهادة فيما كان من حقوق الله:
مما سبق عرفنا حكم الشهادة فيما يتعلق بحقوق الآدميين، وهي ما لهم إسقاطها، أما ما يتعلق بحقوق الله عز وجل، وهي ما ليس للمكلف إسقاطها فإنها تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ما لا يستدام فيه التحريم كالزنا، وشرب الخمر (1) .
__________
(1) مواهب الجليل ج6 ص163، المنتقى شرح الموطأ ج5 ص188، الخرشي على مختصر خليل ج7 ص 187.(9/225)
فمن كانت عنده شهادة في حد الله تعالى فالمحتسب مخير بين أمرين:
الأمر الأول: الستر على الجاني أو الجناة، وهو شيء فضيل، ومحبوب عند الله وعند المؤمنين من عباده.
وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم عليه في عدة مواضع منها:
1 - ما روى مسلم بسنده عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله بها كربة من كرب يوم القيامة. ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة (1) » . وفي رواية لأبي هريرة: «لا يستر عبد عبدا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة (2) » .
يدل هذا الحديث الشريف على فضل إعانة المسلم وتفريج الكرب عنه وستر زلاته، وقيل إن الستر المندوب إليه هنا يراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس معروفا بالأذى والفساد، فأما المعروف بذلك فيستحب عدم الستر عليه، بل ترفع قضيته إلى ولي الأمر إن لم يخف من ذلك مفسدة، لأن الستر على هذا يطمعه في الإيذاء والفساد وانتهاك الحرمات وجسارة غيره على مثل فعله، هذا في ستر معصية وقعت وانقضت.
أما أن يراه على معصية وهو متلبس بها فإنه تجب عليه المبادرة بإنكارها ومنعه منها، متى كان قادرا على ذلك، ولا يحل تأخيرها، فإن عجز رفعها إلى ولي الأمر، إذا لم تترتب على ذلك مفسدة.
وأما جرح الرواة والشهود والأمناء على الصدقات والأوقاف والأيتام ونحوهم فيجب جرحهم عند الحاجة، ولا يحل الستر عليهم إذا رأى منهم ما يقدح في أهليتهم، وليس هذا من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة الواجبة، وهذا مجمع عليه.
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) ، مسند أحمد بن حنبل (2/68) .
(2) صحيح مسلم ج4 ص 1996، 2002، صحيح مسلم بشرح النووي ج16 ص 134، 135، 143.(9/226)
قال العلماء في القسم الأول الذي يستر فيه: " هذا الستر مندوب فلو رفعه إلى السلطان ونحوه لم يأثم بإجماع ولكن هذا خلاف الأولى، وقد يكون في بعض صوره ما هو مكروه ".
قال في مواهب الجليل: " وأما في أصحاب الحديث وحملة العلم المقلدين فيجب على من عرف أحوالهم السيئة ممن يقلد في ذلك ويلتفت إلى قوله أن يكشف أحوالهم لئلا يغتر بهم الناس ويقلد في دين الله من لا يجب تقليده، وعلى هذا اجتمع رأي الأئمة قديما وحديثا ".
وليس الستر هاهنا بمرغب فيه ولا مباح، وليس في الحديث ما يدل على الإثم في كشفه ورفعه إلى السلطان، وإنما فيه الترغيب على ستره، ولا خلاف أن رفعه للسلطان وكشفه لمعصية الله مباح له في هذه الحالة غير مكروه ولا ممنوع متى كانت نيته من أجل حصول عصيان المكشوف لله دون قصد كشف ستره للانتقام منه، لكنه لو قصد التشفي والانتقام فإنه يحرم منه ذلك لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) .
2 - وقوله صلى الله عليه وسلم: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة. ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (2) » .
يدل هذا الحديث على فضل الستر على المسلمين وقد سبق إيضاح ذلك عند الكلام على الحديث السابق.
__________
(1) سورة النور الآية 19
(2) أخرجه مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه، انظر: صحيح مسلم ج4 ص2074 صحيح مسلم بشرح النووي ج17 ص21.(9/227)
3 - وما روى عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة (1) » .
يدل هذا الحديث أن ستر العورات أمر جليل، وأن من رأى عورة وسترها فإن ثوابه من الله جزيل. وفي هذا حث كبير على ستر العورات.
4 - وما أخرج أبو داود بسنده عن يزيد بن نعيم بن هزال الأسلمي عن أبيه «أن ماعزا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر عنده أربع مرات، فأمر برجمه، وقال لهزال: لو سترته بثوبك كان خيرا لك (2) » .
يدل هذا الحديث على اتجاه الشارع إلى دفع العقوبات قدر الاستطاعة وحبه للستر على المسلمين، لأنه صلى الله عليه وسلم - وهو لا ينطق عن الهوى - حاول إرجاع ماعز عن إقراره، ولقنه ألفاظا تدل على صرف عبارة ماعز عن الجريمة التي يستحق العقاب عليها، فلو ذكر ماعز عبارة القبلة والغمز لسقط عنه الحد لعدم ثبوته بذلك، ولأن هزالا هو الذي أشار على ماعز أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويقر عنده ولم يكن شاهدا، لأن ماعزا إنما حد بإقراره، ومباشرة الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا التلقين بنفسه يدل على العطف
__________
(1) رواه أبو داود بسنده عن عقبة بن عامر وسكت عنه، انظر: سنن أبي داود ج4 ص273.
(2) انظر: سنن أبي داود ج4 ص134 واللفظ له، نصب الراية ج4 ص74، الموطأ ج2 ص821 ط دار إحياء الكتب العربية لعيسى الحلبي وشركاه، المستدرك ج4 ص363، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، جامع الأصول لأحاديث الرسول ج3 ص605. الدراية في تخريج أحاديث الهداية ج2 ص170.(9/228)
والرحمة بالجاني ليترك أمره لله ليستغفر الله ويتوب إليه فيغفر له ويتوب عليه إن شاء، إنه هو التواب الرحيم (1) .
هذا وقد تكلم الإمام كمال الدين بن الهمام في كتابه: شرح فتح القدير على الهداية عن هذا الحديث وغيره مما ورد في فضل الستر على المسلم وأفاض في ذلك ومما قال: " وتلقين ما يحصل به الدرء من رسول الله صلى الله عليه وسلم دلالة ظاهرة على قصده إلى الستر، والستر يحصل بالكتمان، فكان كتمان الشهادة بالحدود مخصوصا من عموم تحريم الكتمان " (2) .
وصفوة القول في هذا أن الستر أفضل من الشهادة على الحدود للحديث السابق: «من ستر على مسلم ستر الله عليه في الدنيا والآخرة (3) » لكن إذا كان المشهود عليه متهتكا لا يبالي، فإن الشهادة عليه أفضل (4) .
5 - ما روي عن مالك عن زيد بن أسلم «أن رجلا اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط فأتي بسوط مكسور، فقال: " فوق هذا " فأتي بسوط جيد، لم تقطع ثمرته، فقال: " دون هذا " فأتى بسوط قد ركب به ولان، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد، ثم قال: يا أيها الناس، قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله، فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الله (5) » .
__________
(1) انظر: نصب الراية ج4 ص76، نيل الأوطار مع المنتقي ج7 ص108، شرح فتح القدير على الهداية ج7 ص368.
(2) شرح فتح القدير على الهداية ج7 ص368، بشيء قليل من التصرف.
(3) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي البر والصلة (1930) ، سنن أبو داود الأدب (4946) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/500) .
(4) طرق الإثبات الشرعية لأحمد إبراهيم ص185.
(5) الموطأ ج2 ص825.(9/229)
يدل هذا الحديث على كراهية إظهار الإنسان للناس ما ستره أفضل مما يحصل منه من مستقبح من قول أو فعل كالزنا وشرب الخمر والقذف، وأن الستر واجب على المسلم في خاصة نفسه إذا اقترف فاحشة، وكما يجب عليه ذلك في حق نفسه فإنه يجب عليه في حق غيره (1) .
وقد أورد ابن القيم في كتابه: إعلام الموقعين عند كلامه عن اكتفاء الشارع بشاهدين في القتل دون الزنا، فقال: " وأما اكتفاؤه في القتل بشاهدين دون الزنا ففي غاية الحكمة والمصلحة، فإن الشارع احتاط للقصاص والدماء واحتاط لحد الزنى، فلو لم يقبل في القتل إلا أربعة لضاعت الدماء وتواثب العادون وتجرئوا على القتل، وأما الزنا فإنه بالغ في ستره كما قدر الله ستره، فاجتمع على ستره شرع الله وقدره، فلم يقبل فيه إلا أربعة يصفون الفعل وصف مشاهدة ينتفي معها الاحتمال، وكذلك في الإقرار، لم يكتف بأقل من أربع مرات حرصا على ستر ما قدر الله ستره، وكره إظهاره، والتكلم به، وتوعد من يحب إشاعته في المؤمنين بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة " (2) .
الأمر الثاني: أداء الشهادة حسبة لإقامة حد الله تعالى لما في ذلك من إزالة للفساد وتقليل له وهذا حسن، لما فيه من صيانة للمجتمع عن الرذائل التي قد تهبط به إلى درجة الانحطاط. والستر إنما يكون في غير المشتهرين، وأما المتكشفون المشتهرون الذين ستروا غير مرة ولم يجد ذلك فيهم فإن كشف أمرهم وقمع شرهم واجب، لأن كثرة الستر عليهم من المهاودة على معاصي الله ومصانعة أهلها، ولأنه لا إثم في كشف الستر ورفعه إلى الحاكم طالما أنه قصد بذلك إقامة حد الله لا للتشفي والانتقام، وهذا لا يعارض قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) سورة النور آية 19، لأن ظاهرها أنهم يحبون ذلك لأجل إيمانهم وذلك صفة الستر آية النهي عن كتمان الشهادة، لأنها في حقوق العباد
__________
(1) الموطأ ج2 ص825، مواهب الجليل ج6 ص166.
(2) إعلام الموقعين ص84.
(3) سورة النور الآية 19(9/230)
بدليل قوله تعالى: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (1) سورة البقرة آية 282، إذ الحدود لا مدعي فيها.
ورد قول من قال: إنها في الديون بأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب (2) .
هذا وبالرغم أن ما سبق فيه الكفاية إلا أنني أزيد عليه بما يتراءى لي مناسبته فأقول:
إن الذين يرتكبون الفواحش تجد هوى في نفوسهم، ومتى علموا بأنه سيتم الستر عليهم ولن يحصل لهم عقاب من جراء هذا الستر فإن منهم من يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ويسعى في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين، وما هذا من هؤلاء إلا رغبة في كثرة أمثالهم وعموم البلوى بهم ما يضمن لهم الاستمرار في غيهم، وقد قال الله تعالى في أمة محمد صلى الله عليه وسلم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (3) وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (4) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (5) » .
والستر على المعاصي ليس أمرا بالمعروف ولا نهيا عن المنكر بل يجعله يستمر في عمله ويعزم على ألا يتوب لا قدر الله.
وإذا كان الأمر بالشيء نهيا عن ضده فإننا قد أمرنا بالأمر بالمعروف ولذا فإننا منهيون عن السكوت عن الأمر، وإذا كان الأمر بالمعروف درجات بالنسبة لغير القادر فإنه يجب على القادر الراغب في الستر على العاصي أن ينصحه فيما بينهما بادئ
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) انظر: البحر الرائق ج7 ص59، تكملة رد المحتار ج7 ص70، مواهب الجليل ج6 ص163، مطالب أولي النهي ج6 ص594.
(3) سورة آل عمران الآية 110
(4) سورة آل عمران الآية 104
(5) انظر: سنن ابن ماجه ج2 ص1330، صحيح مسلم ج1 ص69، سنن الترمذي ج4 ص470، سنن أبي داود ج4 ص123، سنن النسائي ج8 ص111، 112، ص18 من هذه الرسالة.(9/231)
الأمر ويشعره بأنه ما لم يتب فإنه سوف يفضح أمره ليكون بذلك نذير خير وساتر شر، لا أن يستره فحسب، ليعرف العصاة أن العيون ترقبهم، وأن العقاب يترقبهم، وأن القلوب تؤنبهم، وأن المجتمع لن يتركهم، فمتى عادوا فسيحاسبهم، لأن المجرم في المجتمع بمثابة العضو المريض في الجسم فما لم يبادر لعلاجه بالنصح المقرون بالإنذار والذي هو بمثابة علاج الإسعاف الأولي فإنه قد يستشري المرض ومن ثم يخشى منه الانتقال لبقية أعضاء وأجزاء الجسم مما يتطلب بتر هذا العضو عند عدم جدوى علاجه قبل فوات الأوان وما خسر من أعان، ولا ربح من استهان واستكان.
القسم الثاني: ما يستدام فيه التحريم من حقوق الله تعالى من عتق، وطلاق، وخلع، وإيلاء، وظهار، ومصاهرة، ووقف ورضاع، وهذه يتعين على الشاهد المبادرة لأداء الشهادة عليها دون طلب من أحد وذلك لحماية حقوق الله تعالى ولمنع انتهاك حرماته، لأن حق الله تعالى يجب القيام بإثباته على كل مسلم، والشاهد من جملة من يجب عليهم ذلك فكان قائما بالخصومة من جهة الوجوب، وشاهدا من جهة تحمل ذلك فلم يحتج إلى خصم آخر. ويرى بعض الفقهاء أن القائم بالخصومة هو القاضي. ويشترط أن يكون المشهود عليه حاضرا في الإيلاء والظهار والمصاهرة.
د. عبد الله بن محمد الزبن(9/232)
الخمر في الشريعة الإسلامية
بقلم الشيخ مساعد المعتق
- من مواليد مدينة الزلفى عام 1369 هـ، تخرج من كلية الشريعة بالرياض، ثم نال درجة الماجستير من المعهد العالي للقضاء، وهو في المراحل الأخيرة من تحقيق كتاب المغني للخبازي بشرح منصور بن أحمد القاءاني، حيث تقدم بذلك للحصول على درجة الدكتوراه من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
- له مشاركات في الصحافة والإذاعة في مجال التوجيه الاجتماعي والديني.(9/233)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من هو بالمؤمنين رءوف رحيم، والمبعوث برسالة الرحمة لسائر الخلق أجمعين، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (1) وبعد:
فإن الرحمة سمة بارزة من سمات التشريع الإسلامي الخالد، فما من حكم تشريعي، من تحليل أو تحريم، ترغيب أو ترهيب، ثواب أو عقاب إلا وفيه مصلحتنا دينيا ودنيويا، في معاشنا ومعادنا، وفيه يسر لا عسر {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (2) وفيه رفع للحرج ودفع للمشقة {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (3) .
وما ذاك كله إلا لأن التشريع الإسلامي سماوي لا وضعي، إلهي لا بشري فليس فيه سمات التشريعات الوضعية، من تفاوت واختلاف وتناقض، فها هي تشريعات البشر وقوانينه مختلفة ومتفاوتة تبعا للعقول المقننة لها والتي تخضع في تقنينها لمقتضيات البيئة أحيانا والتأثر بالظروف أحيانا أخرى وتتناقض في كثير من الأحيان، فما هو مباح اليوم كان محظورا بالأمس، وما هو محظور اليوم قد يكون مباحا غدا أو بعد غد.
أما التشريع الإسلامي السماوي ففيه سمة الثبات فلا يعتوره ما يعتور قوانين البشر، لأن أحكامه قد روعي فيها مصالح الخلق منذ خلق الله الخلق {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (4) .
فما من تشريع يشرع إلا وتجد الأمم تقول به الغد، وإن لم يكن فبعد الغد ولو إلى أمد، وتحريم الخمر خير شاهد على ما نقول.
نعم، إن تشريع الله في الخمر قد تراءت لسائر الخلق (حكمة تحريمه) لقد لمسوه لمس اليد فنادت الأمم بحظره ومنعه، ثم أباحته ليس لاقتناع عقلي بل في غيبة عقلية
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 107
(2) سورة البقرة الآية 185
(3) سورة الحج الآية 78
(4) سورة الملك الآية 14(9/234)
وهي وإن أباحته إلا أنها في صحوها ورشدها تقول بأضراره وخبائثه، إنه واقع يصرخ في وجوههم أن حكمة الله بالغة ونور الله ساطع، والله متم نوره.
ولكم يلمس البشر معالم الرحمة ومصالح العباد في التشريعات الإلهية وأخص بالذكر موضوع الخمر.
ومن أحسن ما سمعته أن في تحريم الخمر والعقاب عليه رحمتين، فحكم التحريم فيه رحمة، فإن ابتعد الشارب عن شربها فقد رحم عقله بل نفسه، لأن العقل ميزان الاتزان عند الإنسان، فإذا فقد وغشى عليه بغشاوة فقد أوقع الشارب نفسه في مواقع الهاوية، (فالرحمة في التحريم واضحة، والمصلحة في التحريم ظاهرة جلية) .
أما الرحمة الثانية فيه ظاهرة للعيان إنها رحمة في العقاب حين يكون العقاب رادعا فيمنع استهتار الشارب وضرره على المجتمع بأسره، فإن الأضرار الواقعة والمتوقعة إذا ما نال صاحبها الجزاء انزجر وعند ذلك يكف أذاه ويؤخذ على يديه قبل أن يهلك ويهلك.
بعد كل هذا نستطيع أن نقول إن المصالح المتوخاة من تحريم الشرب عظيمة، والمصالح المتوخاة من العقاب الزاجر عميمة، والرحمة في هذا وذاك حاصلة.
أسأله تعالى أن يهدينا لأقوم سبيل وأن يلهمنا السداد والصواب في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
بعد كل ما ذكر لا يفوتني أن أنوه إلى أنني قد فكرت أن أقدم بحثا في مواضيع أخرى، ولكنني عدلت عن كل ذلك لأتطرق بهذا البحث إلى موضوع خطير جدا نظرا لابتلاء الناس به في زمننا الحاضر، وخير الموضوعات ما عالج داء وقدم له دواء وخيرها ما ربط بالواقع، وأعتقد أن هذا الموضوع من هذا القبيل والذي يحتاج إلى عناية ورعاية ليستخرج لنا من أقوال الأقدمين مادة علمية تعالج مشكلة استفحل أمرها في عصرنا الحاضر، نعم إنها قضية تهم الشباب المعاصر الذي تفتحت أعينه على عالم متهور في طعامه وشرابه فتناول ما حل له وما حرم عليه دون تمييز بين النافع والضار.
إنني سمعت الكثير، وكنت سأدون الكثير كذلك حول هذه القضية ولكن(9/235)
ذلك يحتاج إلى مزيد من الوقت وهو ما لم يتح لي نظرا لانشغالي بالقضاء ومشكلاته التي لا تكاد تنتهي.
ومهما يكن من أمر فإنني بذلت جهدي، فإن أصبت الحق فمن الله تعالى فله الشكر والحمد أولا وأخيرا وهذا مبتغاي، وإن أخطأت فإنني أستغفر الله ولي في واسع رحمته الرجاء.(9/236)
تعريف الخمر
الخمر لغة:
الخاء والميم والراء أصل واحد يدل على التغطية والمخالطة في ستر، فالخمر مأخوذ من خمر إذا ستر، ومنه خمار المرأة وكل شيء غطى شيئا فقد خمره، ومنه الحديث أنه عليه الصلاة والسلام أتي بإناء من لبن فقال «هلا خمرته ولو بعود تعرضه عليه (1) » والخمر بالتحريك كل ما سترك من شجر أو بناء أو غيره يقال توارى العبد عني في خمر الوادي وخمره. ومنه قولهم دخل فلان في خمار الناس: أي فيما يواريه ويستره منهم. وقال العجاج يصف جيشا:
في لامع العقان لا يمشي الخمر ... بوجه الأرض ويشتاق الشجر
ويقال خمر فلان شهادته، وأخمرها: أي كتمها، فالخامر هو الذي يكتم شهادته.
سبقت الإشارة إلى أن لفظ الخمر منقول من مصدر خمر الشيء. . . وقد اختلف أهل اللغة في وجه هذا النقل:
فنقل عن ابن الأعرابي أنه قال سميت الخمر خمرا، لأنها تركت حتى اختمرت واختمارها تغير ريحها كما يقال خمرت العجين فتخمر بأن تتركه فلا تستعمله حتى يجود.
وخمر الرأي: أي تركه حتى يتبين فيه الوجه.
وعلى هذا تكون مصدرا أريد به اسم المفعول.
وقال أبو بكر الأنباري سميت الخمر خمرا لأنها تخامر العقل. من المخامرة وهي
__________
(1) صحيح البخاري الأشربة (5624) ، صحيح مسلم الأشربة (2012) ، سنن الترمذي الأطعمة (1812) ، سنن أبو داود الأشربة (3731) ، مسند أحمد بن حنبل (3/319) ، موطأ مالك الجامع (1727) .(9/236)
المخالطة، ومنه قولهم خامره داء إذا خالط جوفه، وأنشد كثير عزة:
هنيئا مريئا غير داء مخامر
: أي مخالط
وقيل لأنها خامرت العقل، أي لابسته فكتمته: (أي غطته) وكل مكموم مخمور. قال الراغب في مفردات القرآن سمي الخمر لكونه خامرا للعقل أي ساترا ومنه الحديث «خمروا آنيتكم (1) » ومنه خمار المرأة لأنه يغطي رأسها. وهذا القول أخص من الذي قبله لأنه لا يلزم من المخالطة التغطية. وتكون على هذا القول والذي قبله مصدرا أريد به اسم الفاعل.
وقيل لأنها خمرت بالظروف وغطيت حتى وصلت لدرجة الغليان. ومنه حديث المختار بن فلفل: قلت لأنس: الخمر من العنب أو من غيرها؟ قال ما خمرت من ذلك فهو الخمر وتكون على هذا مصدرا أريد به اسم المفعول.
ولا مانع من صحة هذه الأقوال كلها لثبوتها عن أهل اللغة وأهل المعرفة باللسان ولاشتمال الخمر على الصفات المذكورة، ولذا قال ابن عبد البر: لأوجه كلها موجودة في الخمر لأنها تركت حتى أدركت وسكنت، فإذا شربت خالطت العقل حتى تغلب عليه وتغطيه.
وللخمر أسماء كثيرة ذكر منها ابن سيده في المخصص ما يزيد على عشرين اسما وأشهرها الصهباء والشمول والخندريس والراح والرحيق وغير ذلك. . .
أجمع أهل اللغة على أن الخمر يطلق على النيء من ماء العنب المشتد إطلاقا حقيقيا، واختلفوا في إطلاقه على غيره بالنسبة لكون الإطلاق من قبيل الحقيقة أو المجاز؟ .
فذهب الكثير منهم إلى أن كل شيء يستر العقل ويغطيه من الأشربة المسكرة يسمى خمرا حقيقة، سواء أكان متخذا من ثمرات النخيل والأعناب أو من غيرها، وسواء كان نيئا أو مطبوخا لأنها سميت بذلك لمخامرتها للعقل وسترها له، وممن قال بذلك من أئمة اللغة الجوهري وأبو نصر القشيري والدينوري وصاحب القاموس، - قال في القاموس تحت مادة الخمر: الخمر ما أسكر من عصير العنب وعاتم كالخمرة وقد يذكر والعموم أصح لأنها حرمت وما بالمدينة خمر عنب، وما كان شرابهم إلا البر والتمر.
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3280) ، سنن الترمذي الأطعمة (1812) ، سنن أبو داود الأشربة (3731) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3410) ، مسند أحمد بن حنبل (3/395) ، موطأ مالك الجامع (1727) .(9/237)
وقال أبو البقاء في كلياته " كل شراب مغط للعقل سواء كان عصيرا أو نقيعا مطبوخا كان أو نيئا فهو خمر ".
ومما يدل على العموم لغة الاشتقاق، فإن أرباب الاشتقاق من أهل اللغة قالوا: إن مادة الخمر في الأصل موضوعة للتغطية والمخالطة في ستر.
سمي الخمار خمارا لأنه يغطي رأس المرأة - والخمر بالتحريك كل ما سترك من شجر أو بناء أو غيره.
ويقال: توارى الصيد عني في خمر الوادي وخمره، ومنه قولهم: دخل فلان في خمار الناس أي: فيما يواريه ويستره منهم. والخامر هو الذي يكتم شهادته، فهذه الاشتقاقات دالة على أن الخمر ما يكون ساترا للعقل كما سميت مسكرا لأنها تسكر العقل أي تحجزه فهذه الاشتقاقات وحدها من أقوى الأدلة على العموم.
ولا يقال هذا في إثبات اللغة بالقياس. وهو غير جائز؛ لأننا نقول: ليس هذا إثباتا للغة بالقياس بل هو تعيين المسمى بواسطة هذه الاشتقاقات كما أن الحنفية يقولون: إن مسمى النكاح هو الوطء وأثبتوه بالاشتقاق ومسمى الصوم هو الإمساك وأثبتوه بالاشتقاق.
ذهب فريق آخر من أهل اللغة إلى أن إطلاق اسم الخمر على النيء من ماء العنب إذا اشتد وصار مسكرا إطلاق حقيقي، وإطلاقه على غيره من سائر الأنبذة من قبيل المجاز.
قال في لسان العرب: الخمر ما أسكر من عصير العنب لأنها خامرت العقل، والتخمير التغطية، يقال خمر وجهه وخمر إناءك والمخامرة المخالطة، وقال أبو حنيفة الدينوري: قد يكون الخمر من الحبوب فجعل الخمر من الحبوب، قال ابن سيدة وأظنه تسمحا لأن حقيقة الخمر إنما هي للعنب دون سائر الأشياء، وفي المعرب: الخمر: النيء من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد. كما احتجوا بقول أبي الأسود الدؤلي وهو حجة في اللغة:
دع الخمر تشربها الغواة فإنني ... رأيت أخاها مغنيا بمكانها
فإن لا تكنه أو يكنها فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها(9/238)
فجعل غيرها من الأشربة أخا لها بقوله: رأيت أخاها مغنيا لمكانها، ومعلوم أنه لو كان يسمى خمرا لما سماه أخا لها ثم آكده بقوله فإن لا تكنه أو يكنها فإنه أخوها فأخبر أنها ليست هو.
وباستعراض ما سلف ذكره من نقول عن أهل اللغة يظهر لنا منها أن الأرجح في مسمى الخمر العموم لغة كما صرح بذلك صاحب القاموس بقوله والعموم أصح.
وفي تاج العروس عند قول صاحب القاموس (والعموم أصح) على ما هو عند الجمهور لأنها أي الخمر حرمت وما بالمدينة المشرفة التي نزل التحريم فيها خمر العنب، بل وما كان شرابهم إلا من البر والتمر والبلح والرطب كما في الأحاديث الصحاح التي أخرجها البخاري وغيره كحديث ابن عمر: حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء - وحديث أنس: وما شرابهم يومئذ إلا البر والتمر - أي ونزل تحريم الخمر التي كانت موجودة من هذه الأشياء لا من خمر العنب خاصة، وقد غلط ابن سيدة في اقتصاره على قول صاحب العين - الخمر عصير العنب إذا أسكر. ولعل سبب ذلك أن خمرة العنب كانت كثيرة في زمن تدوين اللغة فظن بعضهم أن الإطلاق ينصرف إليها، لكثرتها وجودتها.(9/239)
الخمر عند الفقهاء
اختلف الفقهاء في تحديدهم للخمر لاختلاف أهل اللغة في حقيقتها:
فذهب الجمهور منهم إلى ما ذهب إليه الأكثر من أهل اللغة من القول بالعموم وهو أن الخمر كل شيء يستر العقل ويغطيه من الأشربة المسكرة، وذهب الحنفية إلى ما ذهب إليه الأقل من أهل اللغة من القول بالخصوص، وهو أن الخمر هو النيء من ماء العنب إذا اشتد وصار مسكرا.
واستدل كل فريق على ما ادعاه بأدلة أخرى غير ما تقدم تؤيد ما ذهب إليه.
الأدلة:
استدل الجمهور بالسنة:
(1) ما رواه الجماعة إلا البخاري عن يزيد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال(9/239)
رسول الله صلى الله عليه وسلم «الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة (1) » .
وجه الدلالة: أنه عليه الصلاة والسلام أخبر أن الشراب المسكر المتخذ من ثمرات النخيل والأعناب يسمى خمرا وليست الخمر خاصة النيء من عصير العنب.
(2) ما أخرجه أحمد في مسنده عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من الحنطة خمر، ومن الشعير خمر، ومن التمر خمر، ومن الزبيب خمر، ومن العسل خمر (2) » .
(3) ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن من الحنطة خمرا، ومن الشعير خمرا، ومن الزبيب خمرا، ومن العسل خمرا (3) » .
وجه الدلالة: واضح من الحديثين حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أطلق على المتخذ من الأطعمة ومن التمر والشعير والزبيب والعسل اسم الخمر، والرسول أفصح العرب، وهو المبلغ عن ربه فصح أن الشراب المتخذ مما ذكر خمر وليست خاصة بما يتخذ من ثمرات النخيل والأعناب.
(4) ما روي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل مسكر خمر وكل خمر حرام (4) » .
وجه الدلالة: أن النبي عليه الصلاة والسلام بين أن كل شراب مسكر يسمى خمرا. ولو سماه أحد من أهل اللغة خمرا لكان مستدلا بقوله على إثبات هذا الاسم، فإذا سماه صاحب الشرع عليه الصلاة والسلام وهو أفصح العرب خمرا فهو أولى.
واستدلوا من الأثر: بما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنه قال: خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أيها الناس إنه قد نزل تحريم الخمر وهي خمسة أشياء: من العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل، والخمر ما خامر العقل) .
وجه الدلالة: أن عمر رضي الله عنه من أهل اللغة، وقد فهم أن لفظ الخمر يطلق للمتخذ من العنب كما يطلق اسما على المتخذ من غيره مما ذكره في خطبته
__________
(1) صحيح مسلم الأشربة (1985) ، سنن الترمذي الأشربة (1875) ، سنن النسائي الأشربة (5572) ، سنن أبو داود الأشربة (3678) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3378) ، مسند أحمد بن حنبل (2/526) ، سنن الدارمي الأشربة (2096) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/118) .
(3) سنن الترمذي الأشربة (1872) ، سنن أبو داود الأشربة (3676) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3379) .
(4) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) .(9/240)
المذكورة وقد أعلن فهمه هذا بحضرة كبار الصحابة وغيرهم ولم يعترض عليه منهم أحد، فأراد رضي الله عنه التنبيه على أن المراد بالخمر في هذه الآية ليس خاصا بالمتخذ من العنب، بل يتناول المتخذ من غيره وهو حجة في اللغة، ثم بين أن الخمر ليس مقصورا على الأصناف التي ذكرها، بل يشمل كل شراب مسكر من أي مادة اتخذ ولذلك قال: والخمر ما خامر العقل.
كما استدلوا بما رواه أحمد والبخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس قال: " كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح وأبي بن كعب وسهيل بن بيضاء ونفرا من أصحابه عند أبي طلحة حتى كاد الشراب يأخذ منهم، فأتى آت من المسلمين فقال: أما شعرتم أن الخمر قد حرمت؟ فقالوا: حتى ننظر ونسأل فقالوا يا أنس اسكب ما بقي في إنائك، فوالله ما عادوا فيها وما هي إلا التمر والبر وهي خمرهم يومئذ ".
وما رواه البخاري عنه أيضا قال: إني لأسقي أبا طلحة وأبا دجانة وسهيل بن بيضاء خليط بر وتمر إذ حرمت الخمر فقذفتها وأنا ساقيهم وأصغرهم وإنا نعدها يومئذ خمرا.
وجه الدلالة: أن الصحابة رضي الله عنهم بينوا أن غالب خمرهم حين تحريم الخمر كان من غير عصير العنب المسكر وبمجرد نزول آية تحريم الخمر فهموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم كل مسكر، وامتنعوا عن شرب الأشربة الموجودة عندهم وألقوها، ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب وبين ما يتخذ من غيره، بل سووا بينها فدل تصرفهم هذا على أن الخمر اسم جنس عام لكل شراب مسكر، وإلا لتوقفوا واستفصلوا عن الحكم لما كان قد تقرر عندهم من النهي عن إضاعة المال، فلما لم يفعلوا ذلك بل بادروا إلى إتلاف الجميع وتبادر إلى أذهانهم فهم العموم بدون قرينة كان ذلك دليلا واضحا على العموم، لأن المتبادر أمارة الحقيقة، قال صاحب الفتح عند قوله: وإنا نعدها يومئذ الخمر، وهو أقوى الحجج على أن الخمر اسم جنس لكل ما يسكر سواء كان من العنب أو من نقيع الزبيب أو التمر أو العسل أو غيرها.
قال القرطبي: بعد أن ذكر حديث أنس المتقدم، هذا الحديث في نزول الآية فيه دليل واضح على أن نبيذ التمر إذا أسكر خمر، وهو نص لا يجوز الاعتراض عليه؛ لأن(9/241)
الصحابة هم أهل اللسان وقد عقلوا أن شرابهم ذلك خمر إذ لم يكن لهم شراب ذلك الوقت بالمدينة غيره. وقد قال الحكمي:
لنا خمر وليست خمر كرم ... ولكن من نتاج الباسقات
كرام في السماء ذهبن طولا ... وفات ثمارها أيدي الجناة
ومن الدليل الواضح على ذلك ما رواه النسائي، أخبرنا القاسم ابن زكريا، أخبرنا عبيد الله عن شيبان، عن الأعمى، عن محارب بن دثار، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الزبيب والتمر هو الخمر (1) » . وثبت بالنقل الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه - وحسبك به عالما باللسان والشرع - خطب على منبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " أيها الناس ألا إنه قد نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي خمسة: العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل ".
وإذا ثبت هذا بطل مذهب أبي حنيفة والكوفيين القائلين بأن الخمر لا تكون إلا من العنب، وما كان غيره لا يسمى خمرا، ولا يتناوله اسم الخمر، وإنما يسمى نبيذا. اهـ.
أدلة الحنفية على مذهبهم:
استدلوا على ما ذهبوا إليه بالقرآن والأثر وإجماع أهل اللغة والمعقول، أما القرآن فاستدلوا بقوله تعالى: {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} (2) قالوا: فدل على أن الخمر هو ما يعصر لا ما ينبذ.
أما استدلالهم من الأثر فقد استدلوا بما أخرجه عبد الرزاق بسند جيد عن ابن عمر قال: " أما الخمر فحرام لا سبيل إليها، وأما ما عداها من الأشربة فكل مسكر حرام " وبما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر أنه قال: " لقد حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء ".
__________
(1) صحيح البخاري الأشربة (5601) ، صحيح مسلم الأشربة (1986) ، سنن الترمذي الأشربة (1876) ، سنن النسائي الأشربة (5546) ، سنن أبو داود الأشربة (3703) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3395) ، مسند أحمد بن حنبل (3/363) .
(2) سورة يوسف الآية 36(9/242)
وجه الدلالة:
أن ابن عمر رضي الله عنه أخبر أن الخمر حين حرمت لم يكن بالمدينة منها شيء مع ثبوت وجود غيرها بالمدينة من أنبذة التمر. لما ثبت من قول أنس - وما شرابهم يومئذ أي يوم حرمت إلا الفضيخ والبر والتمر، فنفى عن الأنبذة اسم الخمر فدل على أنها لا تسمى خمرا.
أما إجماع أهل اللغة فذكره صاحب الهداية حيث قال: ولنا إطباق أهل اللغة على تخصيص الخمر بالعنب ولهذا اشتهر استعمالها فيه.
أما استدلالهم بالمعقول فمن وجهين:
1 - قالوا إن حرمة النيء من ماء العنب قطعية لكونها محل إجماع العلماء، وحرمة شرب ما عدا المتخذ من ماء العنب ظنية فلا يسمى ما حرمته ظنية باسم ما حرمته قطعية.
2 - وقالوا: إنما سمي ما عدا المتخذ من عصير العنب خمرا لتخمره وصيرورته مرا كالخمر لا لمخامرته العقل، فتسميته خمرا من باب المجاز.(9/243)
المناقشة: ناقش الجمهور أدلة الحنفية بما يلي:
أجاب الجمهور عن استدلالهم بقوله تعالى: {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} (1) بأنه لا دليل في هذه الآية على الحصر، وإنما جاءت إخبارا عن قضية رؤيا حصل فيها العصر، ولا يلزم من سياقها أن الخمر لا يكون إلا من عصير العنب، يؤيد ذلك ما ورد في الأحاديث الصحيحة، فقد روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مسكر خمر وكل مسكر حرام (2) » . وما قدمناه عن عمر بن الخطاب في بيان معنى الخمر وإقرار الصحابة له، وأما استدلالهم عن الأثر بما أخرجه عبد الرزاق عن ابن عمر أنه قال " أما الخمر فحرام لا سبيل إليها، وأما ما عداها من الأشربة فكل مسكر حرام " فأجيب عنه بأنه ثبت عن ابن عمر أنه قال: " كل مسكر خمر " فلا يلزم من تسمية المتخذ من العنب خمرا انحصار الخمرية فيه.
__________
(1) سورة يوسف الآية 36
(2) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) .(9/243)
وأجيب عن استدلالهم بما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر أنه قال: " حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء " بأنه لا يدل على مدعاهم لما يلي:
1 - يجوز أن ابن عمر أراد تثبيت أن الخمر يطلق على ما لا يتخذ من العنب، وأنه اسم يعم كل شراب مسكر، لأن نزول آية التحريم صادف اتخاذ الخمر من غير عصير العنب، ومع ذلك فهم الصحابة من الأمر باجتنابها تحريم كل ما يسكر، ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب ومن غيره، وبادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب، ولولا وضع الاسم للعموم لغة لما فعلوا ذلك، ولتوقفوا عن الإراقة حتى يستفصلوا، ومنه يظهر أن دلالته على العموم أظهر منها على الخصوص.
2 - أن إطلاق ابن عمر على النيء من ماء العنب خمرا لا تمنع من تسمية غيره خمرا من سائر الأنبذة المسكرة بدليل الآثار المروية عن أنس ومنها ما رواه البخاري عنه قال: إني لأسقي أبا طلحة وأبا دجانة وسهيل بن بيضاء خليط بر وتمر. . . إلخ. وبدليل خطبة عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ملإ من كبار الصحابة وغيرهم حيث قال " إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة أشياء: العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل، والخمر ما خامر العقل " ولم يعلم له مخالف من الصحابة وهم أهل اللسان، وبلغتهم نزل القرآن فكان كالإجماع فهم على العموم، قال ابن الجوزي في التحقيق: وقول ابن عمر حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء يعني به ماء العنب فإنه مشهور باسم الخمر، ولا يمنع هذا أن يسمى غيره خمرا.
3 - يجوز أن ابن عمر أراد بقوله - وما بالمدينة منها شيء - أي وما بالمدينة من بعض أنواعها شيء، ولم يرد أن غيرها لا تسمى خمرا بدليل حديثه الآخر " نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة خمسة أشربة كلها تدعى الخمر وما فيها خمر العنب " وما رواه الإمام أحمد عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «من الحنطة ومن الشعير خمر، ومن التمر خمر ومن الزبيب خمر ومن العسل خمر (1) » وما رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم «كل مسكر خمر (2) » وعليه فقد أصبحت نسبة التفرقة إلى ابن عمر غير قائمة.
أما الإجماع اللغوي فالصواب خلاف ما ذكروه، فإن المعروف الثابت عند أهل
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/118) .
(2) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) .(9/244)
اللغة هو أن الخمر تطلق على كل مسكر، وقد سبق ذكر بعض النقول عن أشهر أئمة اللغة الدالة على عدم صحة ما ادعوه، وأما اشتهار الخمر فيما اتخذ من العنب فلا يلزم منه أن غيره لا يسمى خمرا، قال الخطابي: " زعم قوم أن العرب لا تعرف الخمر إلا من العنب، فيقال لهم: إن الصحابة الذين سموا غير المتخذ من العنب خمرا عرب فصحاء، فلو لم يكن هذا الاسم صحيحا لما أطلقوه ".
وأما قولهم إن تحريم الخمر قطعي، وتحريم ما عدا المتخذ من العنب ظني، فأجيب عنه بأنه ثبت أن غير المتخذ من العنب من المسكرات خمر في اللغة وفي الشرع، وما دام ثبت ذلك فتحريم كل مسكر إذا قطعي.
وإذا سلمنا أن تحريم ما عدا المتخذ من العنب ظني فلا يقوم على إثبات التفرقة لما تقرر من أن اختلاف مشتركين في الحكم لا يلزم منه افتراقهما في التسمية كالزنا مثلا فإنه يصدق على من وطئ أجنبية وعلى من وطئ امرأة جاره والثاني أغلظ من الأول وعلى من وطئ محرما له وهو أغلظ، واسم الزنا مع ذلك شامل للثلاثة، وأيضا الأحكام الفرعية لا يشترط فيها الأدلة القطعية، فلا يلزم من القطع بتحريم المتخذ من العنب وعدم القطع بتحريم المتخذ من غيره أن لا يكون حراما، بل يحكم بتحريمه إذا ثبت بطريق ظني وكذا تسميته خمرا.
على أننا لو مشينا على هذه القاعدة التي ذكرها صاحب الهداية لأبطلنا كثيرا من أحكام الشريعة؛ حيث إن كثيرا من الواجبات والمحرمات ثبت بطريق ظني.
وأما قولهم إنما سمي خمرا لتخمره لا لمخامرة العقل فيعارضه ثبوت النقل عن أعلم الناس بلسان العرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قال: " والخمر ما خامر العقل " فكيف يستجيز صاحب الهداية أن يقول: " لا لمخامرة العقل مع قول عمر رضي الله عنه بمحضر الصحابة: الخمر ما خامر العقل " ويحمل قول عمر على المجاز على ما ادعاه من اتفاق اللغة، وقد سبقت الإشارة إلى أن دعوى اتفاق أهل اللغة دعوى مردودة.(9/245)
مناقشة الجمهور:
أولا: ناقش الحنفية الجمهور في استدلالهم بحديث النعمان بن بشير وعبد الله بن(9/245)
عمر أن الخمر تطلق حقيقة على النيء من ماء العنب وغيره من الأشربة المسكرة بأن كل واحد له اسم مثل المثلث - الباذق - والمنصف - ونحوها، وإطلاق الخمر عليها عند إسكارها من باب المجاز وعليه تحمل الأحاديث، وأجاب الجمهور بأن الأصل المتبادر إلى الفهم فيها الحقيقة، ولا يعدل عنها إلا لقرينة صارفة ولا قرينة قائمة هنا. والقول بأن القرينة تخصيص الخمر بالنيء المسكر من عصير العنب لغة قول مردود؛ حيث إن النقل عن أهل اللغة قد اختلف كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فلم يصلح ما ذكر قرينة لصرف اللفظ عن المتبادر منه عند الإطلاق، والمتبادر أمارة الحقيقة، ولذلك لما نزل تحريم الخمر فهم الصحابة من الأمر باجتنابها تحريم كل مسكر، ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب وبين ما يتخذ من غيره، بل سووا بينهما وحرموا كل ما يسكر نوعه، ولم يتوقفوا، ولم يستفصلوا، ولم يشكل عليهم شيء من ذلك، بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب وهم أهل اللسان وبلغتهم نزل القرآن، قال في فتح الباري: " أما دعوى بعضهم أن الخمر حقيقة في ماء العنب مجاز في غيره فإن سلم في اللغة لزم من قال به جواز استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه؛ لأن الصحابة لما بلغهم تحريم الخمر أراقوا كل ما كان يطلق عليه لفظ الخمر حقيقة ومجازا. وإذا لم يجوزوا ذلك صح أن الكل خمر حقيقة، ولا انفكاك عن ذلك وعلى تقدير إرخاء العنان والتسليم أن الخمر حقيقة من ماء العنب خاصة فإنما ذلك من حيث الحقيقة اللغوية، فأما من حيث الحقيقة الشرعية فالكل خمر حقيقة لحديث «كل مسكر خمر (1) » فكل ما اشتد كان خمرا، وكل خمر يحرم قليله وكثيره، وهذا يخالف قولهم.
ثانيا: ناقش الحنفية الجمهور في حديث «كل مسكر خمر (2) » بأنه لا يدل على العموم لعدم صحته، حيث طعن فيه يحيى بن معين، قال صاحب المبسوط ما رواه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال «كل مسكر خمر (3) » لا يكاد يصح، فقد قال يحيى بن معين: ثلاث لا يصح فيهن حديث عن رسول الله وذكر في جملتها كل مسكر خمر.
__________
(1) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) .
(2) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) .
(3) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) .(9/246)
وأجاب الجمهور: بعدم التسليم بطعن يحيى في الحديث كما ذكر الزيلعي في نصب الراية، ولنسمع ما قاله الزيلعي على قول صاحب الهداية وهذا الحديث طعن فيه يحيى بن معين حيث قال: وهذا الكلام لم أجده في شيء من كتب الحديث. وقال في فتح القدير بعد أن أورد الحديث " وأما ما يقال من أن ابن معين طعن في هذا الحديث فلم يوجد في شيء من كتب الحديث. وأجاب الجمهور أيضا: بأننا لو سلمنا طعن يحيى بن معين فيه لكان طعنه لا يؤثر فيه بعد أن رواه الثقة ".
ثالثا: ناقش الحنفية الجمهور فقالوا إن قوله عليه الصلاة والسلام «كل مسكر خمر (1) » لا يفيد المدعي به، فإن غاية ما يفيده أنها مثل الخمر في الحكم ويكون محمولا على التشبيه بحذف أداته - أي كل مسكر كالخمر، كقولنا زيد أسد أي كالأسد ومثله كثير في الاستعمالات اللغوية والعرفية، تقول السلطان فلان إذا كان فلان نافذ الكلمة عند السلطان ويعمل بكلامه.
وأجاب الجمهور عن ذلك بأن الأصل عدم التقدير، ولا يلجأ إليه إلا إذا دعت الحاجة. فإن قيل الحاجة قائمة إلى التقدير لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لبيان الأسماء، قلنا بيان الأسماء من مقدمات الأحكام لمن لا يعلمها ولا سيما ليقطع تعلق القصد بها.
وناقش الحنفية الجمهور في استدلالهم بقول عمر إن إطلاق اسم الخمر على الأشربة المسكرة المتخذة من غير عصير العنب من قبيل مجاز التشبيه.
وأجاب الجمهور بأن الأصل المتبادر إلى الفهم منها الحقيقة، ولا يعدل عنها إلا لقرينة صارفة، ولا قرينة قائمة، ولأن تلك العبارات تأبى أن تكون تشبيها كقول عمر في خطبته " ونزل تحريم الخمر وهي من خمسة: العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل ". فهل يمكن أن يقال نزل تحريم خمرة العنب وهي من خمسة أشياء. . . إلخ؟ أم يمكن أن يقال: نزل تحريم ما يشبه الخمر في الإسكار وهو من خمسة أشياء العنب والتمر؟ لأن هذا لا يقوله أحد يفهم العربية، وإن كان يجيز الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو ما لا يجيزه الحنفية.
__________
(1) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) .(9/247)
رابعا: قال الطحاوي من الحنفية إن الأحاديث التي استدل بها الجمهور - سالفة الذكر - متعارضة، ووجه التعارض عنده أن حديث أبي هريرة نص على أن الخمر تتخذ من شيئين فقط بينما نص حديث عمر ومن خالفه على أنها تتخذ من غيرهما، وكذلك حديث ابن عمر لقد حرمت الخمرة وما بالمدينة منها شيء مع حديث أنس حيث ورد في بعض ألفاظه أن الخمر حرمت وشرابهم الفضيخ، وفي لفظ له " وإنا نعدهم يومئذ خمرا " وإليك ما قاله الطحاوي: " وقلما اختلف الصحابة في ذلك ووجدنا اتفاق الأئمة على أن عصير العنب إذا اشتد وغلا وقذف بالزبد فهو خمر وإن مستحلة كافر دل على أنهم لم يعملوا بحديث أبي هريرة، إذ لو عملوا به لكفروا مستحل نبيذ الخمر، فثبت أنه لم يدخل في الخمر غير المتخذ من عصير العنب ".
وأجاب الجمهور: بأنه لا تعارض بين الأحاديث والآثار التي استدلوا بها وأن الجمع بينها ممكن، وذلك بحمل حديث أبي هريرة على الغالب، وخص ما يتخذ من العنب والتمر بالذكر لأن أكثر الخمر منهما، ولأن أغلى الخمر وأنفسه عند أهله ما صنع منهما، وهذا نحو قولهم: المال الإبل، أي أكثره وأنفسه، والحج عرفة، ونحو ذلك، وليس فيه نفي الخمرية عن ما سوى المتخذ منهما، بدليل الأحاديث الصحيحة الدالة على اتخاذ الخمر من غيرها، كحديث ابن عمر عند أحمد، وحديث النعمان بن بشير، وغاية ما هناك أن مفهوم الخمر المدلول عليه باللام معارض بالمنطوقات وهي أرجح بلا خلاف.
ويحمل حديث ابن عمر عند البخاري وحديث النعمان بن بشير ومن وافقهما على إرادة استيعاب ذكر ما عهد حينئذ أنه يتخذ من الخمر.
أما قول ابن عمر: ما بالمدينة منها شيء فيحمل على إرادة تثبيت أن الخمر يطلق على ما لا يتخذ من غير العنب. أو يحمل على إرادة المبالغة، فأطلق نفي وجود ما بالمدينة وإن كانت موجودة بقلة، فإن تلك القلة بالنسبة لكثرة المتخذ مما عداها كالعدم.
ولا يلزم من كونهم لم يكفروا مستحل النبيذ أن يمنعوا تسميته خمرا فقد يشترك الشيئان في التسمية ويفترقان في بعض الأوصاف مع أنه هو يوافق على أن حكم المسكر من نبيذ التمر حكم قليل العنب في التحريم.(9/248)
ومما تقدم يظهر أنه لا يوجد تعارض بين الأحاديث والآثار، وهذا أولى من حمل بعضها على الحقيقة وبعضها على مجاز التشبيه بدون دليل كما في فتح القدير، حيث إن بعض تلك الآثار ما يأتي أن يكون تشبيها كقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خطبته " نزل تحريم الخمر وهو من خمسة: العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل " فهل يمكن أن تعني نزل تحريم ما يشبه الخمر وهي من خمسة العنب والتمر والشعير. . . إلخ. اللهم إلا أن يكون من قبيل الجمع بين الحقيقة والمجاز، وهو ما لا يجيزه الحنفية.
كما أورد بعضهم على هذه الأحاديث والآثار بأنه يحتمل أن ما فيها بيان للاسم الشرعي لا اللغوي. وهذا التعقيب ضعيف ولا يغني عن الحنفية شيئا؛ لأنهم لا يقولون إن المسكر من غير عصير العنب داخل في عموم الآية شرعا.
والأحاديث الصحيحة في تحريم قليل ما يسكر كثيرة من أي مادة اتخذ، ووجه ضعفه أن لفظ الخمر ليس اسما لعمل شرعي لم يكن معروفا قبل الشرع. فلما جاء به الشرع أطلق عليه كلمة من اللغة تتناوله بطريق المجاز اللغوي، بل هو اسم لنوع من الشراب يمتاز عن سائر الأشربة بالإسكار، وهذه التسمية معروفة عند العرب قبل نزول ما نزل من آيات تحريم الخمر، وقد نزلت آية البقرة جوابا عن سؤال سألوه عن الخمر ولم يقل أحد من مفسري السلف ولا الخلف ولا خطر على بال أحد أنهم سألوه عليه الصلاة والسلام عن خمر عصير العنب خاصة وأنها هي المقصودة بالجواب بأن فيها إثما كبيرا ومنافع للناس، وأن غيرها ألحق بها في التحريم بطريق القياس أو بتفسير النبي والصحابة للخمر الشرعية، وقد ذكر المفسرون في أسباب النزول أنه لم يشق عليهم تحريم شيء كما شق عليهم تحريم الخمر، وأن بعضهم كان يود لو يجد مخرجا من تحريمها بآية المائدة كما وجد المخرج من آية البقرة الدالة على تحريم الخمر بتسميتها إثما مع تصريح القرآن قبل ذلك بتحريم الإثم، ولأجله تركها بعضهم وتنصل منه آخرون بتخصيص الإثم بما كان ضررا محضا لا منفعة فيه، والنص قد أثبت أن في الخمر منافع وقد أهرقوا ما كان عندهم من الخمر عند الجزم بالنهي عنها، وقلما كان يوجد عندهم من خمر العنب شيء، فلو كان مسمى الخمر في لغتهم ما كان مسكرا من عصير العنب لما بادروا إلى إهراق ما كان عندهم.(9/249)
الراجح من القولين:
وباستعراض أدلة الفريقين ومناقشتها يظهر أن الأرجح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، وهو يتفق مع ما ذهب إليه جهابذة اللغة من القول بالعموم لغة، وقد صرح بذلك صاحب القاموس بقوله: والعموم أصح، ولذلك عندما حرم الله الخمر فهم الصحابة وهم أهل اللسان أن كل شيء يسمى خمرا يدخل في النهي فأراقوا المتخذ من التمر والرطب ولم يخصوا ذلك بالمتخذ من العنب، وعلى فرض أن الإطلاقين في اللغة على سواء أو أن الأرجح الخصوص فالجميع خمر شرعا، والحقيقة الشرعية مقدمة على الحقيقة اللغوية عند الاختلاف.(9/250)
حكم شرب الخمر ودليله
لقد ثبت تحريم الخمر في الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب. . . فقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (2) .
وجه الدلالة. . أن القرآن أطلق على الخمر لفظ الرجس، والرجس في اللغة هو الشيء القذر، وفي الشرع هو الشيء المحرم، ونهى جل وعلا بهذا النص عن الاقتراب منها، وأتبع النص المفيد وجوب ترك الخمر بذكر أوصافا تشعر العاقل بأن الخمر شيء قبيح يجب الابتعاد عنه فهي تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وتوقع البغضاء والعداوة بين الناس وهذه محرمة، فما أدى إليها يكون محرما؛ لأن مقدمة الحرام حرام.
وقد أسهب المفسرون في بيان الأوجه الدالة على التحريم من الآيتين نذكر منها ما يلي:
1 - أن الله جعلها رجسا من عمل الشيطان، وكلمة الرجس تدل على منتهى القبح
__________
(1) سورة المائدة الآية 90
(2) سورة المائدة الآية 91(9/250)
والخبث ولذلك أطلقت على الأوثان فهي أسوأ مفهوما من كلمة الخبث، وقد علم من عدة آيات أن الله أحل الطيبات وحرم الخبائث، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام «الخمر أم الخبائث (1) » . رواه الطبراني في الأوسط من حديث عبد الله بن عمر.
2 - أنه صدر الجملة بإنما الدالة على الحصر للمبالغة في ذمها، كأنه قال: ليست الخمر وليس الميسر إلا رجسا فلا خير فيها البتة.
3 - أنه قرنها بالأنصاب والأزلام التي هي من أعمال الوثنية وخرافات الشرك، وقد أورد المفسرون هنا حديث «شارب الخمر كعابد وثن (2) » .
4 - أنه جعلها من عمل الشيطان لما ينشأ عنها من الشرور والطغيان، وهل يكون عمل الشيطان إلا موجبا لسخط الرحمن.
5 - أنه جعل الأمر بتركها من مادة الاجتناب، وهو أبلغ من الترك لأنه يفيد الأمر بالترك مع البعد عن المتروك بأن يكون التارك في جانب بعيد عن جانب المتروك، ولذلك نرى القرآن لم يعبر بالاجتناب إلا عن ترك الشرك والطاغوت الذي يشمل الشرك والأوثان وسائر مصادر الطغيان وترك الكبائر عامة وقول الزور الذي هو من أكبرها قال تعالى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (3) .
6 - أنه جعل اجتنابها مصدرا للفلاح ومرجاة له، فدل ذلك على أن ارتكابها من الخسران والخيبة في الدنيا والآخرة.
7 - أنه أمر بتركها بصيغة الاستفهام المقرون بفاء السببية.
8 - أنه جعلهما مثارا للعداوة والبغضاء وهما شر المفاسد الدنيوية المتعدية إلى أنواع من المعاصي في الأقوال والأعراض والأنفس. ولذلك سميت الخمرة بأم الخبائث وأم الفواحش.
9 - أنه جعلهما صادين عن ذكر الله وعن الصلاة وهما روح الدين وعماده وزاد المؤمن وعتاده.
__________
(1) سنن النسائي الأشربة (5666) .
(2) سنن ابن ماجه الأشربة (3375) .
(3) سورة الحج الآية 30(9/251)
أما الأدلة على تحريمها من السنة فقد وردت الأحاديث الكثيرة التي تبلغ بمجموعها رتبة التواتر الذي يفيد اليقين. منها:
(1) حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل مسكر خمر وكل خمر حرام (1) » .
(2) ما روي عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها ومبتاعها وبائعها وعاصرها وحاملها والمحولة إليه (2) » .
(3) ما روي عن ابن عباس قال: «أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما علمت أن الله حرمها فقال: لا، فساره رجل إلى جنبه فقال: بم ساررته؟ فقال: أمرته أن يبيعها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الذي حرم شربها حرم بيعها، ففتح الرجل المزادتين حتى ذهب ما فيهما (3) » .
(4) ما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا أيها الناس إن الله يبغض الخمر، ولعل الله سينزل فيها أمرا، فمن كان عنده منها شيء فليبعه ولينتفع به، قال فما لبثنا إلا يسيرا حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله حرام الخمر فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشرب ولا بيع، قال فاستقبل الناس بما كان عندهم منها طرف المدينة فسفكوها (4) » .
(5) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال «يا رسول الله إنا بأرض يصنع فيها شراب من العسل يقال له البتع، وشراب من الشعير يقال له المزر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل مسكر حرام (5) » رواه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي.
(6) ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام (6) » .
وجه الدلالة: أن هذه الأحاديث تعلن بصراحة لا لبس فيها أن الخمر محرمة من أي نوع اتخذت، من عنب أو تمر أو شعير أو غيره، فحرمت شربها واستعمالها وعصرها وشتى أنواع التصرف بها، وإنها كبيرة من الكبائر المهلكة؛ لأن الكبيرة ما فيه حد أو وعيد شديد، وقد اجتمعت كل هذه الأمور في الخمر.
__________
(1) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) .
(2) سنن أبو داود الأشربة (3674) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3380) ، مسند أحمد بن حنبل (2/97) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1579) ، سنن النسائي البيوع (4664) ، مسند أحمد بن حنبل (1/324) ، موطأ مالك الأشربة (1598) .
(4) صحيح مسلم المساقاة (1578) .
(5) صحيح البخاري الأدب (6124) ، صحيح مسلم الأشربة (1733) ، سنن أبو داود الأشربة (3684) ، مسند أحمد بن حنبل (4/417) ، سنن الدارمي الأشربة (2098) .
(6) سنن الترمذي الأشربة (1865) ، سنن أبو داود الأشربة (3681) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3393) ، مسند أحمد بن حنبل (3/343) .(9/252)
أما الإجماع: فقد أجمعت الأمة على تحريم الخمر، ولا خلاف في هذا لأحد من ذوي الفهم في النصوص والأحكام، وقد نقله غير واحد من أئمة الإسلام، قال في المغني والشرح الكبير: وأجمعت الأمة على تحريمها، وإنما حكي عن قدامة بن مظعون وعمرو بن معد يكرب وأبي جندل بن سهل أنهم قالوا عنها حلال لقول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} (1) . الآية فقد بين لهم علماء الصحابة معنى هذه الآية وتحريم الخمر، وأقاموا عليهم الحد لشربهم إياها فرجعوا إلى ذلك فانعقد الإجماع، فمن استحلها الآن فقد كذب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد علم ضرورة من جهة النقل تحريمه فيكفر بذلك ويستتاب فإن تاب وإلا قتل. روى الجوزجاني بإسناده عن ابن عباس أن قدامة بن مظعون شرب الخمر فقال له عمر: ما حملك على ذلك؟ فقال: إن الله عز وجل يقول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} (2) الآية وإني من المهاجرين الأولين من أهل بدر وأحد، فقال عمر للقوم: أجيبوا الرجل، فسكتوا عنه، فقال لابن عباس أجب فقال: " إنما أنزلها الله عذرا " للماضين لمن شربها قبل أن تحرم وأنزل {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} (3) حجة على الناس، ثم سأل عمر عن الحد فيها، فقال علي بن أبي طالب " إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فاجلدوه ثمانين جلدة " فجلده عمر ثمانين.
وإذا ثبت هذا فالمجمع على تحريمه عصير العنب إذا اشتد وقذف بالزبد وما عداه من الأشربة المسكرة فهو محرم وفيه اختلاف نذكره إن شاء الله.
__________
(1) سورة المائدة الآية 93
(2) سورة المائدة الآية 93
(3) سورة المائدة الآية 90(9/253)
شبهات على تحريم الخمر وتفنيدها
الشبهة الأولى:
ذهب بعض الفساق الجاهلين بالشريعة الإسلامية إلى أنه لم يأت نص صريح في تحريم الخمر، وأن آيات المائدة لا تدل على تحريم الخمر؛ لأنه تعالى قال(9/253)
- فاجتنبوه - ولم يقل حرمته فاتركوه - وقال: فهل أنتم منتهون، ولم يقل فانتهوا.
والجواب على هذه الشبهة سبق في بيان وجه دلالة آيتي المائدة على التحريم ما يدحض هذه الشبهة بالدلائل القاطعة والبراهين الساطعة التي لا تدع سبيلا للشك في تحريمها.
والشبهة الثانية:
قال الإمام الرازي: زعم بعض الجهال أنه تعالى لما بين في الخمر أنها محرمة عندما تكون موقعة في العداوة والبغضاء وصادة عن ذكر الله وعن الصلاة بين بقوله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا} (1) الآية. أنه لا جناح على من طعمها إذا لم يحصل معه شيء من تلك المفاسد، بل حصل معه أنواع المصالح من الطاعة والتقوى والإحسان إلى الخلق، قالوا: ولا يمكن حمله على أحوال من شرب الخمر قبل نزول آية التحريم؛ لأنه لو كان المراد ذلك لقال: وما كان جناح على الذين طعموا كما ذكر مثل ذلك في آية تحويل القبلة {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (2) . . . ولكنه لم يقل ذلك بل قال: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} (3) إلى قوله: {إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} (4) ولا شك أن "إذا" للمستقبل لا للماضي.
والجواب أن هذا القول مردود بإجماع الأمة الإسلامية بما فيها من المذاهب المتعددة على تحريم الخمر قليلها وكثيرها.
ثم هل في المعقول أن يحرم الله الخمر ذلك التحريم الشديد، ورسول الله يلعن ساقيها وشاربها ويحرم بيعها وشراءها ويحكم بنفي الإيمان عن شاربها، ثم يقول القائلون: لا بأس بشربها لمن آمن وعمل صالحا، ولو كان القليل مباحا لوجد من الصحابة الذين كانوا منهمكين بشربها قبل تحريمها من يعود لشربها؛ لأنه واثق من إيمانه وعمله الصالح ولاشتهر في الدين الإسلامي أن تحريمها مقيد بذلك، ولو كان كذلك لما أمر رسول الله بإقامة الحد على شاربها، ولهذا لما شربها قدامة بن مظعون في خلافة عمر متأولا الآية
__________
(1) سورة المائدة الآية 93
(2) سورة البقرة الآية 143
(3) سورة المائدة الآية 93
(4) سورة المائدة الآية 93(9/254)
السالفة بين له عمر خطأه وجلده، وقد ذكر المفسرون أن سبب نزول آية {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (1) أن بعض الصحابة استشكلوا عند نزول هذا التشديد في الخمر والميسر حال من مات من المؤمنين الذين كانوا يشربون الخمر ويلعبون الميسر ولا سيما من حضر منهم غزوتي بدر وأحد كحمزة بن عبد المطلب، وأن في هذه الآية جوابا لهم. فنرى من هذا أن الآية نزلت في قوم شربوها قبل التحريم لا فيما بعد التحريم، وكل ما في الآية أن الشاربين للخمرة قبل تحريمها غير مؤاخذين إذا كانوا مؤمنين بما أمر الله متقين ما حرم الله ومحسنين في أعمالهم، وقولهم إن كلمة إذا للمستقبل لا للماضي فلا اعتراض عليه إلا أنه لا يفيدهم، لما روى أبو بكر الأصم أنه لما نزل تحريم الخمر قال أبو بكر الصديق: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا وفعلوا القمار وكيف بالغائبين عنا في البلدان لا يقرءون أن الله حرم الخمر وهم يطعمونها؟ فأنزل الله هذه الآية، وعلى هذا التقدير فالحل قد ثبت في الزمان المستقبل عن وقت نزول هذه الآية، لكن في حق الغائبين الذين لم يبلغهم هذا النص.
الشبهة الثالثة:
قول بعضهم: إن دين الله في حقيقته وجوهره الحكمة منه واحدة، ولا خلاف فيه بين الرسل المبلغين له، وإذا كانت الخمرة مضرة بالصحة والعقل والمال ضررا بينا حتى كان سببا للقطع بتحريمها كما تقولون؛ إذا كان الواجب أن تأتي الشرائع السالفة بتحريمها؛ لأن مثل هذا لا يختلف باختلاف الزمان والمكان والشعوب والأجيال حتى يقال: لم تحرم على تلك الأمم وحرمت علينا لذلك الاختلاف المذكور. والحال أن المنقول عن أهل الكتاب أنها لم تكن محرمة عليهم وأن الأنبياء أنفسهم كانوا يشربونها.
والجواب عن هذه الشبهة من وجهتين:
أولا: أن نقل أهل الكتاب ليس حجة عندنا، ولم يثبت عندنا في كتاب ولا سنة ما ذكروه. وإذا كان قد وجد في المسلمين من زعم أن شرب ما دون القدر المسكر من الخمور كلها حلال إلا ما اتخذ من عصير العنب وهو أقلها ضررا
__________
(1) سورة المائدة الآية 93(9/255)
وشرا مع نقل القرآن بالتواتر وحفظ السنة وسيرة أهل الصدر الأول بضبط وإتقان لم يتفق مثله لأمة من الأمم في نقل دينها أو تاريخها وهما صريحان في تحريم كل مسكر وفي تسميته خمرا، فهل يبعد أن يدعي أهل الكتاب مثل هذه الدعوى وينسبونها إلى أنبيائهم وهم لا يقولون بعصمتهم. لا يبعد عنهم ذلك فقد نسبوا إلى لوط ليس شرب الخمر فحسب بل الزنى بابنتيه لعنهم الله.
ثانيا: أننا إذا سلمنا بما نقلوه في العهدين القديم والجديد من الأخبار الدالة على حل الخمر وعدم التشديد إلا في السكر نقول:
(1) إن هذا التحريم من إكمال الدين بالإسلام وقد مهد الأنبياء له من قبل بتقبيح السكر وذمه ولم يشددوا في سد ذريعته بالنهي عن التعليل من الخمر كما كان من افتتان البشر بشربها ومنافعهم منها كما فعل الإسلام في أول عهده.
(2) أن الله تعالى ما حرم الخمر البتة فيما أكمل به الإسلام إلا وهو يعلم أن البشر سيدخلون في طور جديد تتضاعف فيه مفاسد السكر، وأن مصلحتهم وخيرهم أن يتسلح المؤمنون بأقوى السلاح الأدبي لاتقاء شرور ما يستحدث من أنواع الخمور الشديدة الفتك بالأجساد والأرواح التي لم يكن يوجد منها شيء في عصور أولئك الأنبياء عليهم السلام، وما ذاك إلا لسد ذريعة هذه المفسدة بتحريم قليل الخمر وكثيرها.(9/256)
التدرج التشريعي في تحريم الخمر وحكمه في ذلك
لقد انتهج الإسلام خطة حكيمة في معالجة الأمراض الاجتماعية عندما سلك بالناس التدرج في تشريع الأحكام، وهو لطف من الله سبحانه وتعالى وكرامة لعباده؛ حيث لم يوجب عليهم الشرائع دفعة واحدة، ولكن أوجبها عليهم مرة بعد مرة، فقد فرض سبحانه الصلاة على العباد قبيل الهجرة بسنة ونصف تقريبا، ثم فرض عليهم الزكاة والصوم في السنة الثانية من الهجرة، وكذلك الخمر سلك الشارع في تحريمها مسلكا فقد كان المسلمون يشربونها في أول الإسلام وهو لهم حلال مدة إقامته عليه الصلاة(9/256)
والسلام بمكة، فلما هاجر إلى المدينة بدأ الحق سبحانه بالتنفير منها عن طريق المقارنة بين شيئين: شيء فيها نفع ضئيل وشيء فيه ضرر جسيم. وقد أدرك بعض الصحابة شيئا من ضررها، فكانوا يتوقعون تحريمها، فكانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فنزل سبحانه {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} (1) فتركها قوم لقوله: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} (2) وشربها قوم لقوله {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (3) ثم إن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما ودعا إليه ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمهم وسقاهم الخمر وحضرت صلاة المغرب فقدموا أحدهم ليصلي بهم فقرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (4) أعبد ما تعبدون. بحذف لا، فكانت هذه الحادثة تمهيدا لتحريمها عليهم أوقات الصلاة ونزل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (5) فحرم الله السكر تحريما جزئيا في أوقات الصلاة، فلم يبق للمصر على شربها إلا الاغتباق بعد صلاة العشاء وضرره قليل، وكذا الصبوح من بعد صلاة الفجر لمن لا عمل له ولا يخشى أن يمتد سكره إلى وقت الظهر، ثم تركهم - جلت حكمته - على هذه الحال زمنا قوي فيه الدين ورسخ اليقين وكثرت الوقائع التي ظهر بها إثم الخمر، منها ما روي أن عتبان بن مالك صنع طعاما ودعا إليه رجالا من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعير، فأكلوا وشربوا الخمر حتى أخذت منهم، فافتخروا عند ذلك وتناشدوا الأشعار، فأنشد بعضهم قصيدة فيها فخر قومه وهجاء الأنصار، فأخذ رجل من الأنصار لحي بعير فضرب به رأس سعد فشجه فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه الأنصاري، فأنزل الله قوله سبحانه {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} (6) إلى قوله {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (7) فقال عمر: انتهينا ربنا انتهينا، فطلب الكثيرون من الصحابة تحريمها، فأجابهم الله وحرمها تحريما كليا في جميع الأوقات.
__________
(1) سورة البقرة الآية 219
(2) سورة البقرة الآية 219
(3) سورة البقرة الآية 219
(4) سورة الكافرون الآية 1
(5) سورة النساء الآية 43
(6) سورة المائدة الآية 90
(7) سورة المائدة الآية 91(9/257)
وفي تحريم الخمر بهذا الترتيب حكمة بليغة، وذلك أن القوم ألفوا شرب الخمر وأصبحت جزءا من حياتهم، فلو حرمت عليهم دفعة واحدة لشق ذلك على نفوسهم، فإنه من الصعب جدا أن يتركوا شرابا طالما عاقروه وشبوا عليه وشابوا، فلو أمروا بترك الخمر أول مرة لكان ذلك صادا للكثير من المدمنين عليها عن الإسلام، بل عن النظر الصحيح المؤدي إلى الاهتداء به، ولذلك روي أن الأعشى لما توجه إلى المدينة ليسلم لقيه بعض المشركين في الطريق فقالوا له: أين تذهب؟ فأخبرهم بأنه يريد محمدا صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لا تصل إليه فإنه يأمرك بالصلاة، فقال: إن خدمة الرب واجبة. فقالوا: إنه يأمرك بإعطاء المال إلى الفقراء، فقال: اصطناع المعروف واجب، فقيل له: إنه ينهى عن الزنا، فقال: هو فحش وقبيح في العقل وقد صرت شيخا فلا أحتاج إليه، فقيل له: إنه ينهي عن شرب الخمر، فقال: أما هذا فإني لا أصبر عليه فرجع وقال: أشرب الخمر سنة ثم أرجع إليه. فلم يصل إلى منزله حتى سقط عن البعير فانكسرت عنقه فمات.(9/258)
الوقت الذي حرمت فيه الخمر
اختلف في بيان الوقت الذي حرمت فيه الخمر، فقال الدمياطي في سيرته بأنه كان عام الحديبية، والحديبية كانت سنة ست من الهجرة. وذكر ابن إسحاق أنه كان في وقعة بني النضير وهي بعد أحد، وذلك سنة أربع على الراجح.
قال صاحب الفتح وفيه نظر، لأن أنسا كان الساقي يوم حرمت، وأنه لما سمع المنادي بتحريمها بادر بإراقتها، فلو كان ذلك سنة أربع لكان يصغر عن ذلك، وأضاف قائلا: والذي يظهر أن تحريمها كان عام الفتح سنة ثمان، لما روى أحمد من طريق عبد الرحمن بن وعلة قال: سألت ابن عباس عن بيع الخمر فقال: «كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيف أو دوس؟ فلقيه يوم الفتح بروية يهديها إليه، فقال: يا فلان أما علمت أن الله حرمها؟ فأقبل الرجل على غلامه فقال: اذهب فبعها، فقال إن الذي حرم شربها حرم بيعها (1) » .
ولا مانع من صحة الأقوال المذكورة كلها حيث يمكن الجمع بينها، وذلك بأن يحمل ما ذكره الدمياطي على تحريم المسكر في الأوقات القريبة من القيام إلى الصلاة
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1579) ، سنن النسائي البيوع (4664) ، مسند أحمد بن حنبل (1/230) ، موطأ مالك الأشربة (1598) ، سنن الدارمي البيوع (2571) .(9/258)
بآية النساء، وما ذكره ابن إسحاق يحمل على الذم والتنفير من شربها، ويحمل ما أيده صاحب الفتح على التحريم القطعي في جميع الأوقات وكان ذلك عام الفتح.
في تعليل حرمة الخمر
اختلف الفقهاء في تعليل حرمة الخمر بالإسكار:
فقال الحنفية: إن الخمر محرمة لعينها، بمعنى أنه يحرم قليلها وكثيرها لا بسبب الإسكار بل أن عينها حرمة، وإلا لو كان علة التحريم هو الإسكار لم يثبت التحريم حتى يثبت العلة وهي الإسكار أو مظنته من الكثير. وعلة التحريم في الخمر أنه ماء رقيق ملذ مطرب يدعو قليله إلى كثيره، وذهب الجمهور إلى أن حرمة الخمر معللة بالإسكار.
الأدلة: استدلال الجمهور بالقرآن والسنة والمعقول. أما الكتاب فقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (2) وجه الدلالة: أنه سبحانه وتعالى بين أن الخمر توقع في العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ولا شك أن هذه الأفعال معلقة بالسكر، فعلى هذا تكون الآية الكريمة نصا في أن حرمة الخمر معللة بالإسكار.
واستدلوا من السنة بما يلي:
(1) ما رواه جابر «أن رجلا قدم من جيشان فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له - المرز - فقال النبي (أو مسكر هو) ؟ قالوا نعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل مسكر حرام (3) » .
(2) ما رواه ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام (4) »
(3) ما روته عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن البتع وهو نبيذ
__________
(1) سورة المائدة الآية 90
(2) سورة المائدة الآية 91
(3) صحيح مسلم الأشربة (2002) ، سنن النسائي الأشربة (5709) ، مسند أحمد بن حنبل (3/361) .
(4) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) .(9/259)
العسل وكان أهل اليمن يشربونه فقال: كل شراب أسكر فهو حرام (1) »
(4) وما روته عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام (2) » .
وجه الدلالة: تظهر بوضوح في تلك النصوص الصريحة؛ حيث علق عليه الصلاة والسلام التحريم على وجود الإسكار، فدل ذلك على أن العلة هي الإسكار في تلك الأشربة، والخمر شراب من الأشربة المحرمة فكانت حرمتها معللة به.
ورد على الجمهور في الأحاديث السالفة بأنه علق التحريم فيها على الإسكار في الأنبذة وهي تخالف الخمر.
وأجاب الجمهور بأن الجميع خمر كما سبق تحقيق ذلك.
أما استدلالهم بالمعقول فأورده الإمام النووي حيث قال: " إذا شرب الشخص سلافة العنب عند اعتصارها وهي حلوة لم تسكر فهي حلال بالإجماع، وإن اشتدت وأسكرت حرمت بالإجماع، فإن تخللت من غير تخليل آدمي حلت، فنظرنا إلى مستبدل هذه الأحكام وتجددها عند تجدد الصفات وتبدلها، فأشعرنا ذلك بارتباط هذه الأحكام بهذه الصفة، وقام ذلك مقام التصريح بالنطق فوجب جعل الجميع سواء في الحكم وأن الإسكار هو علة التحريم ".
وقال المارزي: " أجمعوا على أن عصير العنب قبل أن يشتد حلال على أنه إذا اشتد وغلا وقذف بالزبد حرم قليله وكثيره، ثم لو حصل له تخلل بنفسه حل بالإجماع أيضا، فوقع التطرف بتبدل هذه الأحكام عند هذه المتخذات ".
فأشعر ذلك بارتباط بعضها ببعض ودل على أن علة التحريم الإسكار، فاقتضى ذلك أن كل شراب وجد فيه الإسكار حرم تناول قليله وكثيره.
واستدل الحنفية بالسنة
ذلك بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بين الصفا والمروة أسبوعا ثم استند إلى حائط من حيطان مكة فقال هل من شربة؟ فأتي بقعب من نبيذ فذاقه فقطب ورده، فقام إليه رجل من أهل حاطب فقال يا رسول الله هذا شراب أهل مكة. قال فصب
__________
(1) صحيح البخاري الأشربة (5586) ، صحيح مسلم الأشربة (2001) ، سنن الترمذي الأشربة (1863) ، سنن النسائي الأشربة (5594) ، سنن أبو داود الأشربة (3682) ، مسند أحمد بن حنبل (6/97) ، موطأ مالك الأشربة (1595) ، سنن الدارمي الأشربة (2097) .
(2) صحيح البخاري المغازي (4343) ، صحيح مسلم الأشربة (1733) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3391) ، مسند أحمد بن حنبل (4/417) ، سنن الدارمي الأشربة (2098) .(9/260)
عليه الماء ثم شرب ثم قال: «حرمت الخمر بعينها والسكر من كل شراب (1) »
وجه الدلالة: واضح من الحديث حيث بين عليه الصلاة والسلام أن الخمر محرمة لعينها لا لإسكارها على خلاف غيرها من الأشربة المسكرة، فإنه لا يحرم منها إلا القدر المسكر، وعليه فتكون حرمة الخمر غير معللة بالإسكار بدليل إجماع العلماء على تحريم القليل منها مع أنه غير مسكر.
ورد عليهم الجمهور: بأن الحديث الذي استدلوا به لا يقوم على مدعاهم لضعفه، حيث إن في سنده محمد بن الفرات، وقد نقل عن يحيى بن معين أنه قال عنه بأنه ليس بشيء، ونقل عن البخاري أنه قال: منكر الحديث، وقال العقيلي: لا يتابع عليه، ومنه يظهر أنه لا يقوى على معارضة الأحاديث الصحيحة المتقدمة في تعليل حرمة الخمر بالإسكار. وعلى فرض أن الحديث خال من الضعف وأنه غير معارض بالأحاديث الصحيحة فلا يدل أيضا على نفي تعليل تحريمها بالإسكار بحسب الشأن وهو ما تشهد له الآية الكريمة؛ حيث علل سبحانه حرمتها بإيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، والقليل لا يحدث معه شيء مما تحدثت عنه الآية ومع ذلك فإنه سبحانه سوى بين القليل والكثير في التعليل، وعليه فيترجح مذهب الجمهور لسلامة أدلتهم وقوتها.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الشيخ مساعد المعتق
__________
(1) سنن النسائي الأشربة (5684) .(9/261)
صفحة فارغة(9/262)
صلاحية التشريع الإسلامي للبشر كافة
بقلم الدكتور عبد الله بن محمد العجلان
- من مواليد مدينة البرة عام 1355 هـ، تخرج من كلية الشريعة بالرياض، ثم حصل على درجة الماجستير من المعهد العالي للقضاء، ومن ثم نال درجة الدكتوراه عام 1395 هـ في أصول الفقه من جامعة الأزهر.
- عمل مديرا لتعليم البنات، ثم أمينا عاما لكليات البنات، ويعمل وكيلا للرئيس العام لتعليم البنات لشئون الكليات.
- له مشاركات في مجال المحاضرات والندوات والأحاديث الإذاعية والتليفزيونية.(9/263)
الإنسان اجتماعي بفطرته
الحمد لله رب العالمين وبعد:
فإن الإنسان - وهو من أكرم المخلوقات على الله - يأتي للحياة لغاية محددة وهدف معلوم، وله رسالة واضحة، وهو يولد بين أبوين في ظل أسرة ومحيط جماعة، وهو مفطور على حب الاجتماع والعيش مع لداته وأترابه وأقربائه وجيرانه، وهو في هذا الاجتماع له حاجات ومطالب، وعليه واجبات وله حقوق، وتتطلب الحياة في أخذها وعطائها تفاعل الأفراد مع المجتمع، وقيام أواصر المحبة والأخوة، ومد جسور التعامل على كل المستويات. وتنمو هذه المعاني مع امتداد حياة الإنسان، وتتوثق الصلات أو تسوء حسب ظروف العيش ومستوى التعامل، ولهذا يقول علماء الاجتماع: إن الإنسان اجتماعي بطبعه، أي أنه مفطور على العيش في ظل جماعة وفي كنف أمة لا يستغنى عن غيره، والآخرون في حاجة إليه، ولا تتصور حياة سوية مستقيمة ومستقرة إلا على هذا النحو وفي ذلك الإطار، والإنسان في اجتماعه مع غيره وتعامله في حياته فتنشأ له صلات وعلاقات قد تسودها محبة الإخاء والتعاون، وقد يتعورها الخلل والاختلاف والتخاصم، وتختلف روابط الأفراد في المجتمعات في كل فترة، قوة وضعفا ووئاما أو اختلافا وتعاونا أو تصادما تبعا للثقافة التي ينتمي إليها الفرد وتلتقي عليها الجماعة ومدى سلطان هذه الثقافة على النفوس، والاختلاف والتخاصم والنزاع تكاد تكون من لوازم الاجتماع، ولكن التفاوت إنما يكون في درجة الاختلاف.(9/264)
حاجة الإنسان إلى ما ينظم حياته
وما دام أن من لوازم الاجتماع تآلف الأفراد تارة واختلاف بعضهم على بعض تارة أخرى؛ فإن الجماعة محتاجة إلى قواعد تنظم حياتها، وترجع إليها عند الاختلاف، وتحكمها فيما يشجر بينها. وقد عرفت البشرية عبر تاريخها الطويل وفي(9/264)
مختلف مراحل تطور المجتمعات ألوانا من هذه القواعد المنظمة للحياة التي تكون على شكل عادات أو تقاليد أو أعراف ومواصفات، وقد تكون زعامة قاهرة تأمر وتطاع أو هيئات، أو جماعات أو تنظيمات شعبية، أو دساتير تصدرها فئة أو جماعة أو حكومة، إلى غير ذلك من ألوان القواعد والنظم التي يصدر فيها البشر عن اجتهاد يتلاءم مع حاجات المجتمع، في فترة زمنية معينة وفي ظروف خاصة، وتنفيذ هذه القواعد وتنظيم القوانين من فترة إلى أخرى، ولكنها في كل ذلك تصدر عن نشاط عقلي بشري يعتوره القصور والضعف والجهل والهوى، وتؤثر فيه المطالب والحاجات والمصالح للفئة الغالبة على الأفراد والهيئات المغلوبة، ولذلك فإن هذه القواعد والنظم تأتي صورة عن الإنسان في قصوره وعجزه وجهله وأهوائه وتأثراته، وبالتالي فهو لا يحقق العدل ولا الأمن والاطمئنان للإنسان في الحياة، وقد تجرعت الإنسانية في كثير من فترات تاريخها مرارة هذا الظلم وجور البشر.
وكانت الرسالات السماوية ضرورة اجتماعية، تتوق إليها البشرية في مختلف العصور، إذ هي رحمة الله بخلقه، ومعالم الطريق المستقيم إليه، وعدله الذي تتنسم البشرية في ظلها عبير الحرية، وتتفيأ ظلال الأمن والعدل والسلام، ولذا جرت سنة الله في خلقه أن يبعث في كل أمة رسولا يدعوهم إلى توحيده وطاعته ومخافته في التعامل مع خلقه ويقيم لهم شريعة عادلة كما قال تعالى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) والطاغوت هو كل ما تجاوز به العبد حده في عقيدته مع ربه أو جوره في حكمه أو ظلمه للخلق، والله هو خالق الخلق ومدبر الأمر ومربي البشر بألوان النعم وصنوف الفضل، تأبى حكمته أن يخلق خلقا دون أن يهيئ له ما تتطلبه حياته الآمنة المستقرة ويوائم فطرته السليمة ويصلح شأنه ويحقق سعادته وأمنه، والإنسان محتاج إلى هداية الله ورعايته وتعريفه بربه وبنفسه، والغاية من وجوده وعلاقته بالكون والإنسان والحياة، وتحديد مركزه في الوجود ودوره في الاجتماع، وما يجوز له فعله وما لا يجوز، وبالتالي فهو مربوب موجه مأمور
__________
(1) سورة النحل الآية 36(9/265)
منهي، مأمور بما ينفعه ويصلح شأنه ويسعده في الحياة وفى الآخرة، ومنهي عن كل ما يضر به في دينه أو دنياه على السواء، وكل ذلك من خالقه ومربيه الرحيم بخلقه اللطيف بعباده العالم بما يصلح حياتهم وآخرتهم.
وما رسالات الأنبياء في مختلف العصور إلا مظهر من مظاهر الرحمة الربانية بالخلق والعناية بالعباد، فكلما انحرفت البشرية في مسيرتها عن جادة الحق ومنهج الصواب وشارفت على الهلاك بعث الله لها نبيا من أنبيائه ليردهم به إليه ويهديهم إلى الصراط المستقيم.(9/266)
رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وشريعته الجامعة
وقد ختمت رسالات الأنبياء عليهم السلام برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - التي أنزلها الله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وحيا يتلى على الناس، وبيانا يذاع في الخلق، ومنهجا في الحياة يمدها بكل ما تحتاج إليه في نواحي الحياة المختلفة، لتقوم حياتها على الاستقامة، ومسيرتها على الرشد، وعقيدتها على الحق، وتنظم علاقة الفرد بربه في عقيدته وعبادته وعلاقته بأفراد أسرته وحدود واجباته وحقوقه على إخوانه وعلاقته بالآخرين أفرادا وجماعات، وقد جاءت أحكام هذا الدين وقواعده عامة شاملة لكل مناحي الحياة، ومنظمة لكل العلاقات بأسلوب عظيم وبلاغة عجيبة وتنظيم محكم ورسالة باقية، تمد الحياة بكل ما تحتاجه في كل عصر ومصر، متخطية حدود الزمان والمكان والأجيال، فهي دين الله الخالد ورسالته الباقية، التي نسخ الله بها جميع الأديان وختم بها كل الرسالات والنبوات، فلا دين بعد هذا الدين، ولا نبي بعد نبي هذه الأمة، وهي من صنع الله واختياره لخلقه، وهو العالم بحالهم ومستقبل حياتهم ومآلهم وهو الرءوف الرحيم بهم، وقد واجهت هذه الرسالة الإلهية في أول أمرها من بعض العرب إعراضا وجفوة ومعارضة وشدة، ولكنها لم تلبث طويلا حتى أظهرها الله في العرب ونصر الله بها رسوله وأعز بها جنده، ورفع الله بها شأن العرب، وأنقذ بها كل أجناس البشر واستفاء الناس ظلها،(9/266)
وسعدوا بالحياة الحرة الكريمة في كنفها، فجعل الله لهم بها عز الدنيا وسعادة الآخرة، فقامت عليها دولة فريدة في التاريخ، وأمة عزيزة الجانب رحيمة في التعامل رشيدة في المنهج، تستضيء بنور الله وتسير على هديه وتطلب مرضاته، فأعطاها الله عز الدنيا وسعادة الآخرة وذكرا حسنا في الآخرين، وامتدت حدود هذه الدولة الراشدة حتى شملت ثلاثة أرباع المعمورة، وتفيأ الناس ظلالها أمنا ورخاء وسعادة ورفاهية ونظافة في الظاهر والباطن.
ولم تقصر هذه الشريعة في إقامة الحياة في كل جانب من جوانبها ومرفق من مرافق هذه الدولة الممتدة على معظم أجزاء الأرض على العدل والاستقامة والتراحم وتنظيمها لشئون هذا المجتمع الممتد على مقتضى أصول هذه الشريعة وقواعدها، وتحديد حقوق الأفراد وواجباتهم فيها، ولم تضق نصوص هذه الشريعة عن الوفاء بمتطلبات هذا المجتمع الكبير الذي تكون من أجناس متعددة وكان على ثقافات مختلفة في أي شأن من شئون الحياة، بل إن هذه الشرعة قد نظمت كل جوانب الحياة بما يحقق الرخاء والعدل والسعادة لكل فرد في المجتمع، ونظمت العلاقات بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ، وكانت أوربا وغيرها يعيشون في ظلال دامس وجهل مطبق وتخلف مريع.
ثم إن هذه الدول الإسلامية قامت ما شاء الله لها أن تقوم، وأمن الناس في ظلها وسعدوا بالحياة فيها، حتى دب الوهن إلى القائمين عليها شيئا فشيئا، وبدأ التفلت من أحكام هذا الدين والخروج على نصوصه خطوة خطوة، حتى وصل الأمر إلى غربة هذا الدين بين أهله، وتقلص ظل خلافته وهجران منهجه، وتم عزله عن الحياة في معظم ديار الإسلام إلا في مجالات محددة في نطاق الأحوال الشخصية وروابط الأسرة وبعض المعاملات، ولكن الأمة الإسلامية في مختلف أطوار حياتها ظلت تحن إلى هذا الدين وتتطلع إلى عودته إلى قيادة الحياة وإعادة تنظيم الحياة، في ظل نظامه وفق نصوصه واستعادة مكانتها الريادية في العلم، ولكن الطريق طويل والعقبات كثيرة والمثبطات متعددة، ولن يخلى بين هذه الأمة ودينها إلا بعد جهاد صادق وتضحيات كبيرة وعمل دائب مخلص، لكن على الرغم من هذا كله فإن المستقبل(9/267)
حاصل لهذا الدين - كما قاله أكثر من مفكر إسلامي - والدلائل على ذلك قائمة من طبيعة هذا الدين وحاجة الإنسان إليه، وبموحيات انهيار الحضارة الغربية المعاصرة بما تحمله من أمراض كثيرة وعلل مميتة.
ولكن العودة إلى هذا الدين لن تكون إلا نتيجة عمل مخلص دائم وجهاد منظم وتضحيات عزيزة قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (1) الآية.
__________
(1) سورة النور الآية 55(9/268)
مفهوم الشريعة
الشريعة في أصل الوضع اللغوي مورد الماء العذب الظاهر المبين، وتطلق على الطريقة الواضحة المستقيمة والمنهاج البين، وقد غلب اسم الشريعة على ما أنزله الله على لسان أنبيائه من الوحي والنهي باللفظ والمعنى معا أو باللفظ فقط من الأحكام وسميت هذه الأحكام شريعة لاستقامتها وتشبهها بمورد الماء العذب؛ لأن بهذه النصوص والأحكام المأخوذة منها حياة النفوس وغذاء العقول، كما أن في مورد الماء حياة الأبدان.
وظلت هذه الكلمة - فيما أعلم - علما في الشرع على هذا المعنى، لم يدخله التخصيص أو النقل إلا ما يسمع في بعض الأزمنة المتأخرة، من إطلاق الشريعة على الأحكام التكليفية، وهي ما اصطلح عليها في الأزمنة المتأخرة (بالفقه) وهو العلم بالأحكام الشرعية والعملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية.
ومعلوم أن الشرع أعم من العمليات؛ إذ يشمل العقائد والوجدانيات ومكارم الأخلاق إلى جانب العمليات.(9/268)
خصائص الشريعة الإسلامية الخالدة
وهذه الشريعة السمحة المعطاء لها خصائص وسمات تميزها عن بقية النظم والقواعد التي يحتكم إليها البشر؛ في ظل فترات الرسل وغياب هدى الله عن ساحات العمل وشرود الناس عن المنهج الحق من مختلف النظم الوضعية والمحرفة مما ينسب إلى ديانات حقة، وهذه الخصائص كثيرة ومتعددة بحيث يصعب على الكاتب الإحاطة بها والإلمام بجلها، ولكن الإشارة إلى أهم هذه الخصائص وبعض سماتها ممكن، ويعين على فهم مرادنا في هذا البحث فنقول:
إن من أهم الخصائص التي تميزت بها الشريعة الإسلامية الغراء - مما يجعلها خالدة وصالحة لكل عصر وكل زمان ومكان - ما يلي:
1 - أنها شريعة الله:
إذا كانت الأنظمة والقوانين التي عرفها البشر في صورة عادات وتقاليد وأعراف، أو في ظل سيادة زعامة العشيرة ورئيس القبيلة، أو في حماية ملك مطاع أو سلطان قاهر أو قوانين تصدرها هيئات مخولة أو صفوة من القانونيين أو غيرهم مما يفرزه نظام أو قانون وضعي من صنع الإنسان ووضع البشر، فإن هذه القوانين مهما حاول أربابها تجويدها وتحقيق العدل بها بين الناس وإقامة الحياة بها على اعتدال لا تحقق ذلك، وإنما تأتى عاكسة لقصور البشر ولنقص الإنسان وتأثره بمختلف المؤثرات كما تصور جهله ونزعاته وأهواءه، وبالتالي لا يكون لها في نفوس الناس من التقدير والاحترام إلا بمقدار اتقاء السلطة وعدم الوقوع تحت طائلة الجزاء الدنيوي. أما شريعة الله فإن منزلها هو خالق البشر ومالك أمرهم، وهو المتصف بصفات الجلال والكمال المبرئ من كل عيب أو نقص أو جهل أو هوى، وهو العالم بما يصلح أمر هذا البشر ويحقق لهم الأمن والطمأنينة والسعادة وقد خلقهم سبحانه لغاية وحملهم في الأرض رسالة وكرمهم بذلك على كثير من خلقه، وهو(9/269)
اللطيف في أمره الحكيم في حكمه، القادر على خلقه، العليم في تدبيره، الرحيم بعباده، وهو مالك الدنيا والآخرة، ولا يفوته أحد من خلقه، ولا يغيب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ولهذا فإن شريعة الله توصف بالكمال والشمول والرحمة والعدل على أتم صورة والخلق مطالبون بالأخذ بهذه الشريعة كجزء من العقيدة وشرط للإيمان، وبها يتحقق لهم الخير في الدنيا والسعادة في الآخرة والأمن يوم الفزع الأكبر، وهي في ذات الوقت ذات سلطان على النفوس وهيبة في القلوب واحترام في الحياة، لا يماثلها قانون أو نظام ولا يشابهها في ذلك شيء من جهود البشر.
ثم إن الإيمان بهذه الشريعة وتحكيمها في أمور الحياة وما يحصل من شجار في المجتمع والرضاء والتسليم بحكم هذه الشريعة شرط من شروط الإيمان ومقتضيات الطاعة، قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) وليس هذا لأي نظام وضعي في الوجود.
وترك هذه الشريعة مع القدرة باب من أبواب الكفر ومدخل من مداخل الشيطان، والاحتكام إلى غير شرع الله مزلة عظيمة وجريمة كبيرة، إذ هي تفضيل لحكم الجاهلية على حكم الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2) كما أنها محادة لله ولرسوله ومنازعة له في ملكه وأخص خصائص الألوهية، ولكن الله لطيف بعباده حليم على خلقه يمهل للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (3) .
__________
(1) سورة النساء الآية 65
(2) سورة المائدة الآية 50
(3) سورة إبراهيم الآية 42(9/270)
2 - عمومية الرسالة والشريعة لكل أجناس البشر:
كانت الرسالات السابقة لرسالة محمد - صلى الله عليه وسلم رسالات خاصة لأقوام بعينهم وجماعات محددة، ولهذا فإن القرآن حين يتحدث عن قصص الأنبياء والرسل عليهم السلام يقول {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} (1) {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} (2) {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} (3) {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} (4) وهكذا فكل نبي يبعث إلى قومه وطائفة من الناس وتكون مهمته محصورة في هداية هؤلاء القوم وردهم إلى جادة الحق. وكانت رسالاتهم محددة بحدود الزمان والمكان والقوم.
أما رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنها جاءت من عند الله عامة لكل أجناس البشر بل للجن والإنس، لا يختص بها قوم ولا جماعة ولا هي محدودة بظروف المكان أو الزمان أو البشر، بل هي دين الله الباقي الخالد حتى يرث الله الأرض ومن عليها، قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (5) وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (6) .
وهي وإن اختص الله بها العرب فجعلها في نبي منهم، واختار لسانهم ترجمانا لهذه الرسالة فإنه شرف لهذه الجماعة البشرية؛ والله أعلم حيث يجعل رسالته، وهو شرف مرتبط بالقيام بهذا الدين، ولكنها جاءت عامة للعرب والعجم على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وعاداتهم وثقافاتهم، ثم إنها جاءت رسالة خاتمة لجميع الرسالات، ناسخة لكل الشرائع، باقية لا يلحقها نسخ ولا تغيير ولا تبديل، ولهذا كله يستلزم أن تكون نصوص الشريعة وما يؤخذ منها من أحكام وقواعد
__________
(1) سورة الأعراف الآية 59
(2) سورة الأعراف الآية 65
(3) سورة الأعراف الآية 73
(4) سورة الأعراف الآية 85
(5) سورة الأعراف الآية 158
(6) سورة سبأ الآية 28(9/271)
وأصول على نحو يحقق مصالح الناس في كل عصر ومكان، ويفي بحاجاتهم ولا يضيق بها ولا يتخلف عن أي مستوى عال يبلغه المجتمع، وهذا هو واقع الشريعة الإسلامية التي جاءت من الله، جعلها عامة في المكان والزمان وخاتمة لكل الرسالات والنبوات من خلال مصادرها وطبيعة مبادئها وأحكامها وقواعد التعامل فيها، قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (1) وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) ويقول سبحانه {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (3) ويقول تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (4) .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 40
(2) سورة آل عمران الآية 85
(3) سورة الأنعام الآية 38
(4) سورة النحل الآية 44(9/272)
3 - شمولية الشريعة الإسلامية:
إن ختم الرسالات بهذه الرسالة ونسخ رسالات الأنبياء من قبله بها يستلزم أن تكون هذه الشريعة وافية بمتطلبات الحياة كلها. ومن لم يؤمن بهذه الحقيقة فإنه يلزم من كلامه أن هذا الدين جاء بالضيق والحرج والجور وهو ما لا يقول به مسلم، ومضاد لقول الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} (1) .
وكما جاءت الشريعة الإسلامية عامة لكل البشر على اختلاف أجناسهم، لا فضل فيها لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، فإنها كذلك رسالة شاملة لكل جوانب الحياة ومناحي الاجتماع لم تترك شاردة ولا واردة إلا ذكرت فيها خبرا أو شملتها حكما أو كانت مندرجة تحت أصل أو قاعدة.
فقد تناولت تحديد الغاية من خلق الإنسان ووظيفته في الحياة ومركزه في
__________
(1) سورة الحج الآية 78(9/272)
هذا الكون، ونظمت علاقته بربه وصلته بإخوانه والمجتمع الذي يعيش فيه، وحددت الحقوق والواجبات، ووضعت أصولا لفض المنازعات وإيصال كل ذي حق حقه، وإقامة العدل بين الناس في كل جانب من جوانب نشاطاتهم وأعمالهم.
فهي منهج حياة كامل جمع بين الدنيا والدين، وبين العمل والعبادة وبين الظاهر والباطن. . . فضمن بذلك للإنسان خيري الدنيا والآخرة.
وقد قسم علماء الشريعة الدين في جملته إلى أربعة أقسام هي:
1 - أصول الدين.
2 - ما علم من الدين بالضرورة.
3 - الأحكام المتعلقة بالأخلاق وقواعد السلوك.
4 - الأحكام الشرعية العملية المكتسبة من الأدلة التفصيلية.
وهو ما يعرف في اصطلاح المتأخرين (بالفقه) وهو باب واسع يتناول معظم نشاطات البشر وهو ينقسم إلى:
1 - العبادات التي تنظم العلاقة مع الله وتوثق به الصلة سبحانه.
2 - المعاملات: وهذا الأخير يندرج تحته كثير من الأحكام والمعاملات مثل:
أ - الأحكام المتعلقة بتنظيم الأسرة بما يشمله من نكاح وطلاق وحقوق.
ب - أحكام المعاملات كالبيع والشراء والبيوع الجائزة والمحرمة والأمور التجارية عامة من شركات ومبادلات.
جـ- أحكام المرافعات والقضاء وفض المنازعات بين الناس وإقامة العدل في ظل الدولة الإسلامية.
د- تنظيم علاقة الدولة الإسلامية بالدول الأخرى في أيام السلم والحرب. . . إلخ
هـ- الحدود والعقوبات كحد الردة والزنا وشرب الخمر والقذف وغيرها من الحدود الشرعية.(9/273)
فهذه الشمولية التي اتصفت بها الشريعة الإسلامية حتى تجاوزت الأمور الظاهرة إلى النيات المضمرة والمقاصد الخفية وإصلاح الإنسان من داخله وكبح جماح الغرائز البهيمية فيه ومحاسبة الإنسان على عمله الظاهر ونيته المضمرة وإقامة وازع من النفس عليها، قال - صلى الله عليه وسلم - «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (1) » وقال العلماء: إن هذا الحديث نصف العلم؛ لأنه يعالج الجانب الخفي في النفس المستكن في الضمير، وبقية الأحكام تعالج الأعمال الظاهرة.
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .(9/274)
د- صلاحية الشريعة للناس في كل زمان ومكان: -
مصادر الشريعة الإسلامية هي القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وما يتفرع عنهما من مصادر وأصول مرتبطة بهما، وهي محددة في كتب الأصول والكتاب والسنة بما تضمناه من نصوص وأحكام، جاءت على قدر كبير من الدقة والأحكام الموروثة والمبادئ العامة والقواعد المقررة، مما يجعل هذه الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، تتسع لكل تطور وتتطور الحياة في ظلها بلا أي توقف أو وقوع حرج أو ضيق، بل إنها تحفظ للإنسان توازنه في بنائه وتكوينه وتلبية مطالب حياته في شكل متكامل واضح ومرن.
وأمور الناس في الحياة: إما ثابتة مستقرة لا يتطرق إليها التحول أو التغيير باختلاف الزمان أو المكان، وإما أمور قابلة للتغير والتبدل والانعطاف، وتختلف النظرة إليها من وقت لآخر، وتختلف فيها الأفهام، وهذا يحتاج إلى ضبط وتقييد يتسع لكل المتغيرات والظروف، ويحفظ فيها الحق وحسن الأداء تحت كل الظروف والمتغيرات.
وتبعا لهذه الأمور الموجودة في الحياة جاءت نصوص الشريعة على ضربين متمايزين ينتهيان إلى مصب واحد وهو جلب المصالح للعباد ودفع الضرر عنهم في كل زمان ومكان.
أما الضرب الأول من النصوص فإنها جاءت أحكامها نصية لا مجال للاجتهاد فيها، وقد شملت أقساما من أحكام الدين وأصول التعامل لأن هذه(9/274)
الأحكام لا تتغير ولا تتبدل مع اختلاف الزمان أو المكان، وهذا واضح في مجال العقيدة في الله وتوحيده وإخلاص العمل له، لأن الإنسان يحتاج إلى هذه العقيدة كحاجته إلى الطعام والشراب والنكاح وقد فطر على ذلك، والألوهية ومقتضياتها لا تتغير ولا تتبدل لا باختلاف الزمان ولا المكان.
وكذلك جاءت أحكام الشريعة في قواعد الأخلاق ومحاسن العادات والآداب على اختلافها إذ هي أمور تظل مطلوبة ومحمودة في كل الظروف والأحوال.
كما أن لبعض المعاملات التي تتصل بعلاقات الأفراد في محيط الأسرة وأحكام النكاح والطلاق والحضانة وغيرها صيغة استقرار، كلها جاءت أحكامها تفصيلية لأنها لا يختلف الحكم فيها باختلاف الزمان أو المكان.
والميراث هو الآخر قد تولى الله بيانه بنفسه سبحانه، فأعطى كل ذي حق حقه بلا وكس ولا شطط، ولم يترك فيه مجالا لمجتهد إلا في مسائل فرعية بسيطة نادرة الوجود، بل جاءت النصوص في هذه الأحكام كلها نصية من كتاب الله.
وكذا تحريم بعض المعاملات كالربا وبيع ما لا يجوز بيعه ومنع الضرر والجهالة في المعاملات.
كما شملت العقوبات كلها مثل:
1 - عقوبة الردة عن الإسلام.
2 - عقوبة الزنا.
3 - عقوبة السرقة.
4 - عقوبة القصاص في النفس وما دونها.
5 - عقوبة القذف.
6 - عقوبة قطع الطريق.
7 - عقوبة شرب الخمر.(9/275)
أما الضرب الثاني من الأحكام الشرعية فقد جاءت على شكل قواعد وأصول ومبادئ عامة فيها مجال لاجتهاد المجتهدين، وفي ذلك غاية التكريم للعقل الذي ميز الله به الإنسان ودعا إلى استخدامه في إطار العقيدة السليمة والقيم الإسلامية الأصيلة التي لا تتبدل ولا تتغير بتغير الزمان والمكان.
ولكي يكون الاجتهاد أصيلا، لا تعبث به الأهواء والغايات، فإنه ينبغي ألا يتعرض له ويمارسه إلا القادرون عليه، وهم أولئك الذين توفرت فيهم شروط الأهلية لمثل هذا العمل، وهي أحكام تتعلق بقضايا تختلف تطبيقاتها من وقت لآخر ومن جيل إلى جيل، ويحتاج البشر إلى التفكير في الوصول إلى ما يلائم حياتهم في كل زمان ومكان وهذه المبادئ العامة مثل:
أ - الشورى في الحكم: فقد قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (1) وقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِِ} (2) وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في منزله في غزوة بدر وسؤاله لأصحابه وقول الحباب بن المنذر لما نزل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ببدر: أهذا منزل أنزلك الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل هي المشورة والحرب والمكيدة، فأشار الحباب بن المنذر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمنزل، فرحل ونزل على رأي أصحابه في بدر وكذا الحال في أسرى بدر فإنه - صلى الله عليه وسلم - استشار أصحابه فيهم كما استشار أصحابه في كثير من أمور الحرب والسلم مثل غزوة الأحزاب وغيرها فكان مبدأ الشورى إسلاميا يلزم الأخذ به للنصوص الشرعية فيه وعمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - به مع أصحابه ولكن الناس يجتهدون في الطريقة التي تتحقق بها طريقة الشورى وصيغتها وأساليبها وتنظيماتها.
__________
(1) سورة الشورى الآية 38
(2) سورة آل عمران الآية 159(9/276)
ب - العدالة: التي قررها الإسلام في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (1) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (2) فهذا المبدأ مبدأ شرعي عظيم به تتحقق مصالح الخلق وتنتظم الحياة، وتنفيذ هذا المبدأ واجب ولكن طرائق تنظيمات الجهات التي تقوم على تحقيق العدل قد تختلف من زمان إلى آخر ومن مكان إلى غيره وفي ذلك متسع، وعلى المجتهدين أن يبذلوا ما في وسعهم للوصول إلى تحقيق العدل بين الناس وفق شريعة الله وعلى هديه.
جـ- المساواة: وهي مبدأ من المبادئ الإسلامية التي قررها الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة وكانت حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أصدق تطبيق لهذا المبدأ العظيم، فإن الحاكم هو الله في كل شأن من شئون الحياة، والخلق كله أمام حكم الله سواء، لا فرق بين كبير وصغير ولا بين رئيس ومرءوس، ولا بين قريب أو بعيد، فالكل أمام الشريعة سواء، الحكم في كل شأن من شئونهم لله وحده، والعلماء ورثة الأنبياء وهم أولى الناس بالخشية من الله وإنفاذ حكمه على الوجه الذي يرضيه ومجالات هذه المساواة وطريقة تحقيقها، وإن اختلف الناس فيها فإنه مبدأ صالح لكل زمان ومكان ويتسع لكل تطور وتقدم ويواجه به كل الظروف وتحقيقه هدف من أهداف الشريعة.
__________
(1) سورة النساء الآية 135
(2) سورة المائدة الآية 8(9/277)
وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (1) وقال - صلى الله عليه وسلم «كلكم لآدم وآدم من تراب لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى (2) »
د- منع الضرر: في جميع أشكاله وصوره عن الناس، وهذا الضرر يتصور وجوده في كل باب من أبواب المعاملات والتعامل بين الناس، وهي قاعدة عظيمة النفع وكبيرة الفائدة، فلا يجوز للإنسان أن يلحق الضرر بنفسه ولا بغيره، كما لا يجوز أن يقابل الضرر بفعل ما يضر بغيره، وقد جاء منع الضرر في أبواب متعددة من الدين؛ فجاء في باب الرضاعة كقوله تعالى: {لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ} (3) وجاء قوله تعالى بعد ذكر الأنصباء في المواريث {غَيْرَ مُضَارٍّ} (4) وقال - صلى الله عليه وسلم - «لا ضرر ولا ضرار (5) » وقد رتب الفقهاء على هذه القاعدة مسائل متعددة وأحكاما كثيرة.
وهذه الأحكام الأربعة الآنفة الذكر إن هي إلا أمثلة موجزة للأحكام الشرعية التي جاءت على شكل قواعد ومبادئ عامة، أوردناها للدلالة على نوع الأحكام العامة كما أوردنا مثلها من الأحكام الخاصة، ولا أعتقد أن منصفا يعرف الشريعة الإسلامية ومراميها وأحكامها ثم يبيح لنفسه أن يقول بعدم صلاحيتها لكل زمان ومكان، أو أن يصيخ لسماع أقوال المستشرقين الحاقدين الذين يريدون عزل هذا الدين عن الحياة وفصل هذه الأمة عن تاريخها وعقيدتها ومعقد عزها ومصدر أمنها وسعادتها.
وما آلت إلى ما آلت في الأجيال المتأخرة إلا بسبب تساهلهم في حمل أعباء هذه الرسالة وتقاعسهم عن القيام بالواجب تجاهها، ولذا فقد حل بها
__________
(1) سورة الحجرات الآية 13
(2) مسند أحمد بن حنبل (5/411) .
(3) سورة البقرة الآية 233
(4) سورة النساء الآية 12
(5) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .(9/278)
من الضعف والهوان ما ندعو الله أن يرفعه.
ولا شك أن المستقبل لهذا الدين، ولكن متى عمل أتباعه على نصرة دين الله وعملوا على إحياء هذا الميراث وتجلية هذه العقيدة، وقدموا لها كل جهد ونفس وطاقة.
وصدق الله إذ يقول: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (1) .
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
دكتور: عبد الله بن محمد العجلان
__________
(1) سورة النور الآية 55(9/279)
صفحة فارغة(9/280)
منع سفر البنات للخارج في سبيل الدراسة
أو الانتساب للجامعات
بقلم الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية والشئون الدينية بقطر
قد يبدو للبعض للنظرة الأولى أن سفر البنات للدراسة في الخارج مشكلة تعاني منها بعض البلاد الإسلامية - وخاصة دول الخليج دون البعض الآخر، والواقع المشاهد أن الأقطار الإسلامية كلها تعاني من الأضرار والويلات التي تجرها سفر البنات للدراسة مما يقضي بضرورة معالجة هذه المشكلة ووضع حد لها حماية لمجتمع من المسلمين من الفساد وتردي الأخلاق.
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد: فإن بقاء الأمم واستدامة سعادتهم هو باستقامة أخلاقهم، فإذا ذهبت أخلاقهم ذهبوا، وليعتبر المعتبر بالبلدان التي قوضت منها خيام الإسلام وترك أهلها فرائض الصلاة والزكاة والصيام واستباحوا الجهر بمنكرات الفسوق والعصيان، كيف حال أهلها وما دخل عليهم من النقص والجهل والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال حتى صاروا بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات، لا يعرفون صياما ولا صلاة، ولا يعرفون معروفا، ولا ينكرون منكرا، ولا يمتنعون من قبيح ولا يهتدون إلى حق، قد ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ففشا من بينهم الفوضى والشقاق، وقامت الفتن على قدم وساق، يقتل بعضهم بعضا ويسبي بعضهم أموال بعض بحجة الاشتراكية(9/281)
المبتدعة التي ما أنزل الله بها من سلطان، هذا وإن الجرائم الصغائر تقود إلى الكبائر، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تحذيرا عن محقرات الذنوب، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العين تزنى وزناها النظر، والقلب يتمنى ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه (1) » يقول الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (2) فوقاية النفس من النار تحصل بأداء ما افترض الله وترك ما حرم الله، كما أن وقاية الأهل من النار تحصل بأمرهم بالخير ونهيهم عن الشر، تحصل بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فما نحل رجل أهله وأولاده أفضل من أن ينحلهم أدبا حسنا يهذبهم على الصلاح والصلاة والتقاة، ويردعهم عن السفاه والفساد والردى، وكلكم راع ومسئول عن رعيته فالرجل راع على أهله وأولاده وبناته ومسئول عن رعيته والمرأة راعية على أهل بيتها وعلى أولادها وبناتها ومسئولة عن رعيتها، فمتى كان الرجل راعيا على أهل بيته وعلى أولاده فمن واجب رعيته أن يرعاهم بالعدل والإصلاح والدعوة إلى الخير، وأن يأخذ بأيدي أولاده إلى الصلاة في المسجد معه حتى يتربوا على محبة الصلاة في الجماعة، فإن من شب على شيء شاب على حبه، ولأنه بأخذ يد الولد إليها ومجاهدته عليها يعود حبها ملكة راسخة في قلبه تحببه إلى ربه وتقربه من خلقه وتصلح له أمر دنياه وآخرته، كما إن المرأة راعية في بيت زوجها أن تأمر أولادها وبناتها بالوضوء والصلاة في وقتها وتعلمهم سائر وسائل الطاعة، وأن تجنبهن من عوامل التكشف والخلاعة.
وقد كنت عملت رسالة عنوانها: الطلاب المبتعثون إلى الخارج، ودعوت الناس فيها إلى أن يكون تعلم بناتهم في بلدانهم؛ لأن تعلم بناتهم في بلدانهم أنجى لهن من وقوعهن في الشبهات والفتن التي تزيغهن عن معتقدهن الصحيح، ثم تقودهن إلى الإلحاد والتعطيل والزيغ عن سواء السبيل، إذ ليس في الخارج علوم يقتبسونها أو يلتمسونها مما هو معدوم في بلدهن، وإن الوقاية خير من العلاج، والدفع أيسر من الرفع
__________
(1) صحيح البخاري القدر (6612) ، صحيح مسلم القدر (2657) ، سنن أبو داود النكاح (2152) ، مسند أحمد بن حنبل (2/343) .
(2) سورة التحريم الآية 6(9/282)
فإن العلماء الموجودين في البلدان العربية والذين عرفنا بعضهم معرفة حقيقية هم أعلى وأجل بأكثر من علماء الخارج.(9/283)
سفر البنات العذارى إلى البلدان الخارجية
للانتساب بزعمهم
أما سفر البنات إلى الخارج لطلب الانتساب فإن هذا أكبر نكرا وأعظم خطرا وأشد ضررا فيما يتعلق بدينهن وأخلاقهن، والوقاية خير من العلاج، وكل الأشياء مربوطة بوسائلها وأسبابها إذ الوسائل كالمقاصد، وإن قلنا: إن العلم مطلوب في حق الرجال والنساء فإن هذا صحيح، فإن الله يقول {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} (1) وليس من باب العلم أن تقصد المرأة المسلمة أستاذا مربيا ليس لديه نصيب من علم الدين والأحكام وأمور الحلال والحرام، إذ هو كالطبيب الذي داؤه من دوائه وعلته من حميته، فإن عادم العلم لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه، فإن هذا الانتساب الذي يطلبنه لا يزيدهن علما أبدا، بل ترجع إحداهن كما ذهبت، لكن الفتاة تكتسب به نوعا من الكبر في نفسها وارتفاعا في رتبتها مما يصيب القواعد بشيء من الانكسار والذل، وقد يكون من المخلفات من هن أعلى درجات في العلم والعقل من المسافرات للانتساب، والجريمة جريمة فتح الباب للفتاة والسماح لها بالسفر.
قد ينبو فهم بعض الناس عن صحة ما أقول، ونصيحتي للجمهور ألا يرمي ببناته وأفلاذ كبده في البلدان الغربية التماسا للانتساب، نظرا إلى رجاء ما يحصل من رفع رتبتها ومرتبها ولا يبالي بما ذهب من دينها وأخلاقها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد حرم هذا السفر قطعا كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر يوما وليلة إلا مع ذي محرم (2) » رواه البخاري ومسلم، والحلال هو ما أحله الله ورسوله، والحرام هو ما حرمه الله ورسوله، وإن الجولة العظيمة القائمة بإنشاء المدارس والمعاهد والكليات والجامعات لن تعجز عن حجز مكان من مدرسة البنات أو من إحدى الكليات تعينه للانتساب للبنات مع العلم أن باب العلم مفتوح لهن
__________
(1) سورة البقرة الآية 189
(2) صحيح البخاري الجمعة (1088) ، صحيح مسلم الحج (1339) ، سنن الترمذي الرضاع (1170) ، سنن أبو داود المناسك (1723) ، سنن ابن ماجه المناسك (2899) ، مسند أحمد بن حنبل (2/437) ، موطأ مالك الجامع (1833) .(9/283)
في جميع الكتب والمؤلفات {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (1) .
لكن يوجد من يعتذر لسفر هؤلاء بدعوى - أنه معهن رقيب، أو رقباء من الرجال يكفلوهن من الشذوذ والانفراد، وهذا الرقيب لا يغني عنها شيئا، فإنهن متى وصلن إلى دار الغربة انتشرن فيها وانتثرن، فواحدة تذهب للسوق لحاجتها، وواحدة تذهب إلى صديقتها، وأخرى إلى صديقتها، وأخرى هي أخطرهن حين تذهب إلى بيت الأستاذ لشهادة الانتساب حينما يغلق عليهما الباب ويحضرهما الشيطان، فما خلا رجل بامرأة إلا والشيطان ثالثهما.
أما الاصطلاح الذي وضعوه للجامعات بأن يقبلوا من يزيد محصولها على خمسين ويسعون سعيهم في سفرها للانتساب بدل ما يردون أكثر البنات والذي ينقص حظهن عن الخمسين بدعوى أن هذا هو النظام، وأن العدل والإنصاف كون النظام، مثل هذا يدخل فيه التسهيل والتيسير والتعديل والتبديل، فمن واجب هؤلاء المتخلفات أن يفرض لهن مكان في إحدى الكليات والمدارس ينتسبن فيه، أي بعد الاختبار وأن يغلق دونهم الباب. بحيث تبقى أسيرة وحصيرة في بيت أهلها إذ هذا مما ينفيه العدل، والقادرون على إنشاء الجامعات والكليات والمعاهد وسائر المدارس هم الذين يقدرون على تخصيص محل في بلدهم والاصطلاح العائل والمائل هو القابل للتبديل والتعديل.
لأننا وإن قلنا: إن النساء في حاجة إلى العلم والأدب والإصلاح وتعلم سائر العلوم والفنون كالرجال فهذا صحيح والعلم النافع مطلوب ومرغوب فيه في حق الرجال والنساء، غير أن هذا العلم من الممكن تحصيله لها في بلدها بمراجعة الكتب والفنون وسائر المؤلفات، وبسؤال العلماء عن المشكلات، فإن هذا هو طريقة حصول العلم للرجال والنساء.
فالراسخون في العلم والمتوسعون فيه إنما توصلوا إلى ما تحصلوا عليه بهذه الطريقة، فلماذا تترك المرأة هذا ثم تحرص ويحرص أهلها على سفرها وحدها الذي حرمه
__________
(1) سورة المجادلة الآية 11(9/284)
الشارع بقوله: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر يوما وليلة إلا مع ذي محرم (1) » رواه البخاري، خصوصا مثل السفر البعيد الذي تتعرض فيه إلى الأخطار والأضرار، ثم إلى فتنتها والافتتان بها الناشئ عن وحدتها والخلوة بها، وعن اختلاطها بالرجال في الملاهي والمجتمعات وسائر الأحوال والأوقات تقليدا بما يسمونه تحرير المرأة عن رق أهلها وزوجها، وهن ناقصات عقل ودين والمشبهة عقولهن بالقوارير في تكسرهن وميولهن، وليس من شأنها أن تطلب علما يوصلها إلى سطح القمر بحيث لا تجده إلا في الخارج، وما عداه فإنه موجود في بلدها بدون سفر.
لهذا يحرم على حكام المسلمين تمكين النساء من السفر إلى الخارج، كما يحرم إعانتهم في سبيل هذا السفر لاعتبار أنه سفر معصية بلا شك - وبالله قل لي ماذا ينفع العائلة الحسيبة المسلمة من سفر ابنتهم إلى المدارس النصرانية تتربى بأخلاقهم ومساوئ آدابهم وعوائدهم؟ إن أكبر ما تستفيده هي اللغة الأجنبية التي لا يمكن أن تخاطب بها أمها ولا أباها ولا أخواتها، وإذا رجعت من سفرها إلى أهلها رجعت إلى أهلها بغير الأخلاق والآداب التي يعرفونها عنها، فترى أهلها كأنهم عالم غير العالم الذي نشأت فيه، وتحمل في نفسها الكبر والازدراء لأهلها فتعيب عليهم كل ما يزاولونه من معيشتهم وأخلاقهم وآدابهم وعوائدهم، ثم تقع العداوة والتنافر بينها وبينهم في كل شيء، وغايتها أنها تبغض أهلها وأقاربها ويبغضونها. وحتى الأزواج الأكفاء تعزف نفوسهم عن خطبتها والرغبة فيها لعلمهم بأنها متبرجة ومتفرنجة لا تخضع لطاعة الزوج وتكلفه شيئا من المشاق في السفر بها دائما إلى البلدان الأجنبية، ومتى تقلدت عمل الوظيفة فإنها أبعد لها عن الزوج وعن تدبير شئون بيته وعياله، أفلا يكون سفرها للتعلم على هذه الحالة شقاء وضلالة وقطعا لأواصر الزوجية والعيال، وما تستفيده من مرتباتها فإنها ستكون أبعد بها عن أهلها ويتضخم به خبالها وعدم اعتدالها.
وباعتبار أننا مسلمون على الحقيقة فإنه يجب علينا امتثال مأمورات دين الإسلام واجتناب منهياته، فقد «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسافر المرأة يوما وليلة إلا مع ذي محرم (2) » ، ونهى أن يخلو الرجل بالمرأة وقال: «ما خلا رجل بامرأة إلا والشيطان
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1088) ، صحيح مسلم الحج (1339) ، سنن الترمذي الرضاع (1170) ، سنن أبو داود المناسك (1723) ، سنن ابن ماجه المناسك (2899) ، مسند أحمد بن حنبل (2/437) ، موطأ مالك الجامع (1833) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (1088) ، صحيح مسلم الحج (1339) ، سنن الترمذي الرضاع (1170) ، سنن أبو داود المناسك (1723) ، سنن ابن ماجه المناسك (2899) ، مسند أحمد بن حنبل (2/437) ، موطأ مالك الجامع (1833) .(9/285)
ثالثهما (1) » ونهى القرآن عن إبداء زينتهن للرجال، وهذا كله حاصل متيسر منها في سفرها، فإنها تتزيا بزي نساء أهل تلك البلاد من التكشف وإبداء مفاتن جسمها غير مبالية بالحياء والستر، وإنما نهى رسول الله عن هذه الأشياء لكونها كالمقدمات لما بعدهما كما في البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «العين تزنى وزناها النظر والقلب يتمنى ويشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه (2) » فلا ينهى الشارع عن شيء إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة، فأقل شيء تستبيح في سفرها هو النظر إلى الرجال الأغنياء ونظرهم إليها، وما من نظرة إلا للشيطان فيها مطمع، فهي في مبدئها نظرة، ثم تكون خطرة، ثم خطوة ثم خطيئة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتبع النظرة نظرة فإن الأولى لك والأخرى ليست لك (3) » وقد قيل: " كم نظرة أثارت فتنة وأورثت حسرة ".
إن الرجال الناظرين إلى النساء ... مثل السباع تطوف باللحمان
إن لم تصن تلك اللحوم أسودها ... أكلت بلا عوض ولا أثمان
فلا أدري ما حجة هذا الرجل الذي جعله الله راعيا على أهل بيته متى سئل عن سفر ابنته لبلدان أوربا، وهل يصدق عليه أنه قام بواجب رعايته في أمانة تربية ابنته، فحاط بحفظها وصيانتها حسب استطاعته، وفاء بصدق أمانته وحسن رعايته، أم ضيع ما استؤمن عليه وفرط في رعايته وقذف بابنته في هاوية الفتنة والافتتان بها وتركها تتصرف كيف شاءت بدون مراقب ولا وازع.
ومن ذا يثني الأصاغر عن مراد ... وقد جلس الأكابر في الزوايا
إنه لا ينبغي لنا أن نحسن الظن بهؤلاء البنات في سفرهن إلى الخارج والحالة هذه، بل يجب أن نحسن العمل برعاية حمايتهن عن مراتع الفتن، فإن من وقع في الشبهات وقع في الحرام.
وحسن ظنك بالأيام معجزة ... فظن شرا وكن منها على حذر
وكذا يقال في الأئمة الذين جعلهم الله رعاة عل عباده بأنه يجب عليهم أن يغرسوا في نفوس رعاياهم التخلق بمحبة الفرائض والفضائل وحمايتهم عن منكرات الأخلاق والرذائل باستعمال الأسباب والوسائل " فإن الوقاية خير من العلاج
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5232) ، صحيح مسلم السلام (2172) ، سنن الترمذي الرضاع (1171) ، مسند أحمد بن حنبل (4/149) ، سنن الدارمي الاستئذان (2642) .
(2) صحيح البخاري القدر (6612) ، صحيح مسلم القدر (2657) ، سنن أبو داود النكاح (2152) ، مسند أحمد بن حنبل (2/343) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (1/159) ، سنن الدارمي الرقاق (2709) .(9/286)
والدفع أيسر من الرفع " أولم يكن الأوفق والأليق لهذه البنت ولأهلها أن تتعلم سائر العلوم عند أهلها وفي مدارس بلدها لتستعين بالبيئة والمجتمع على تهذيبها وصيانتها وحسن تربيتها وحسن الظن بها، وحتى تكون في بيت أهلها وزوجها صالحة مصلحة تعاملهم وتعاشرهم بالحفاء والوفاء بدون نفرة ولا جفاء، وحتى تكون مثلا صالحا لأخواتها وأهل بيتها وكاليد الكريمة لزوجها في إدارة شئون بيتها وعيالها فتعيش سيدة بيت وسعيدة عشيرة، ولا يوفق لهذا إلا خيار النساء عقلا وأدبا ودينا.
إن تحويل النساء المسلمات عن أخلاقهن الإسلامية يقع بتأثير أخلاق أرواح أجنبية غايتها تحويل المسلمات عن دينهن وجميل أخلاقهن إلى اتباع الأوربيات وتقليدهن في عاداتهن، وكل ما ذكرنا من خطورته على العفاف والدين فإنه من البراهين التي لا مجال للجدل في صحتها.
إن النصارى لا يعدون الزنا جريمة، وإن الاختلاط بين الطلاب من الشباب والشابات واحتكاك بعضهم ببعض جنبا إلى جنب وجريان الحديث والمزاج من بينهم، ثم المصاحبة والخلوة كما تستدعيه المجالسة والمآنسة فإن هذا العمل ضار في ذاته ومؤد إلى الفاحشة الكبرى في غايته وسوء عاقبته، لأنه يعد من أقوى الأسباب والوسائل لإفساد البنات المصونات وتمكن الفساق من إغوائهن، فهل أنتم منتهون.
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (1) فهذه نصيحتي لكم والله خليفتي عليكم واستودع الله دينكم وأمانتكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رئيس المحاكم الشرعية والشئون الدينية بقطر
عبد الله بن زيد آل محمود
__________
(1) سورة المائدة الآية 92(9/287)
صفحة فارغة(9/288)
التبشير في منطقة الخليج والجزيرة العربية
بقلم رئيس التحرير الدكتور محمد بن سعد الشويعر
- تخرج في كلية اللغة العربية عام 1379 - 1380 هـ، ثم حصل على درجة الماجستير في اللغة العربية، وكان موضوع البحث: شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم ودفاعهم عن الدعوة، ومن ثم نال درجة الدكتوراه في اللغة العربية بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف الأولى من كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر.
- عمل مدرسا في وزارة المعارف، ثم موظفا في رئاسة تعليم البنات، ثم مديرا عاما لتعليم البنات المتوسط، يعمل رئيسا لتحرير مجلة البحوث الإسلامية منذ عام 1402 هـ.
- له عدة مؤلفات طبع منها خمسة.
- حضر العديد من المؤتمرات التربوية الإسلامية في الداخل والخارج.
- له مشاركات في الصحف والمجلات المحلية والخارجية وله أحاديث وندوات إذاعية وتليفزيونية.(9/289)
الحمد لله الذي أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بأذنه وسراجا منيرا وهو القائل له في محكم التنزيل: {فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (1) والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وقدوة للسالكين وحجة على العباد أجمعين وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فقد وصلت إلينا معلومات عن التبشير في منطقة الخليج العربي، تستهدف غزو الإسلام في عقر داره، يحسن بالمسلمين توجيه الأنظار نحوها، والاهتمام بها لتحريك الهمة الإسلامية في الوقوف ضد ذلك الغزو الموجه.
وقبل أن ندخل في هذا الموضوع، رأيت من المناسب لفت نظر المسلمين في كل مكان إلى أن التسمية الحقيقية يجب أن تكون التنصير، فالله جل وعلا قد سمى أهل هذه الملة في كتابه الكريم (نصارى) وإن رغبتهم في جذب الناس إلى معتقداتهم، دعتهم إلى أن يسموا دعوتهم إلى ذلك بالتبشير للتشويق إلى نحلتهم، وإن تغيير الاسم لا يغير المسمى، إذ من المعلوم أن التبشير في الغالب لا يكون إلا في الخير كما قال الله تعالى في حق نبيه {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} (2) .
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (3) .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنزلت علي: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (4) قال: بشيرا بالجنة، ونذيرا من النار» .
وقال الطبري في تفسيره هذه الآية: إنا أرسلناك يا محمد بالإسلام الذي لا أقبل من أحد غيره من الأديان وهو الحق، مبشرا من اتبعك فأطاعك، وقبل منك ما دعوته إليه من الحق بالنصر في الدنيا والظفر بالثواب في الآخرة والنعيم المقيم فيها،
__________
(1) سورة الفرقان الآية 52
(2) سورة البقرة الآية 119
(3) سورة الإسراء الآية 105
(4) سورة البقرة الآية 119(9/290)
ومنذرا من عصاك مخالفا ورد عليك ما دعوته إليه من الحق بالخزي في الدنيا والذل فيها والعذاب المهين في الآخرة (1) . فالواجب أن تكون جهود المؤمن مصبوبة فيما يرضي الله ويقرب لدينه، ويعرف العباد بحقه - سبحانه وتعالى - عليهم ويبشرهم بما لهم في ذلك من الأجر العظيم.
والقرآن الكريم وهو المصدر التشريعي الأول الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يدل على تسمية التبشير والمبشرين للدعوة لدين النصارى من باب وضع الشيء في غير محله وهو من الظلم والتلبيس، واتباع الهوى، وقد قال الله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} (2) .
__________
(1) جامع البيان 1: 557.
(2) سورة المؤمنون الآية 71(9/291)
وقضية الصراع بين النصرانية والإسلام وبين اليهودية والإسلام هي قضية الصراع بين الحق والباطل منذ أشرقت أنوار الحق، وجاء نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم بالدعوة الصافية النقية، من عند الله لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
فهم يريدون صد المسلمين عن دينهم إن استطاعوا، ويريدون مباعدة الناس عن الاتجاه نحو الإسلام، ويريدون جذب المسلمين أيضا إلى ديانتهم الباطلة ليتساووا في الضلال، وليسيروا سويا في طريق الابتعاد عن منهج الله لتكون لهم الغلبة بالقوة المادية والقدرات المختلفة. يخبر الله جل وعلا عن هذه الصفة في هؤلاء وعن عداوتهم للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ويوجه الله نبيه إلى طريق الهداية الذي يجب أن يسير فيه، بقوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (1) .
والذي يقرأ تاريخ الحروب الصليبية، وما دار خلالها من معارك استمرت طويلا في ديار الشام وفي الأندلس يرى نماذج شديدة من عداوتهم للإسلام
__________
(1) سورة البقرة الآية 120(9/291)
والمسلمين، ونقمتهم إذا قدروا، كما يرى سماحة القادة المسلمين، أمثال صلاح الدين الأيوبي الذي فتح القدس، ومحمد الفاتح العثماني الذي فتح القسطنطينية، في العفو عنهم عندما يتغلب الجيش الإسلامي.
ومفكروهم يعرفون حقيقة الإسلام ومنزلته من نفوس المسلمين، فهذا " وليم جيغورد بالكراف " وهو من مخططي التبشير يقول - كما نقل عنه مؤلف كتاب الغارة على الإسلام -: متى توارى القرآن ومدينة مكة عن العرب، فإنه يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في سبيل الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه.
وقد أدرك هذه الفكرة القسيس " يانغ " صاحب التقرير عن التنصير في جزيرة العرب فجعلها نصب عينيه في كل الأعمال. (1) .
لقد حاولوا بطرق شتى الدخول إلى جزيرة العرب والوصول إلى الأماكن المقدسة عند المسلمين ولكن بحمد الله، فإن محاولاتهم لم تحقق لهم نتيجة مرضية، ذلك أن الله جلت قدرته قد حفظ دينه، وحفظ الديار التي تضم أماكن العبادة لدى المسلمين، بفضل منه ومنة، وهيأ في كل عصر ومكان من يدفع تلك المحاولات بالسلاح أو اللسان.
وهذا يدعو المسلمين إلى أن يحفظوا دين الله ويحافظوا على شعائره، فالله يدافع عنهم شرور الأعداء ما داموا مرتبطين به، متمسكين بدينه، وعلى هدي رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
وإذا رجعنا إلى التاريخ فإننا نرى عام (577 هـ) أول نموذج لدخول جيوش النصارى للجزيرة العربية، فقد ذكر ابن الأثير في الكامل أن: " رينالد شاتيون " الفرنسي الأصل، وأحد قادة الصليبيين في الشام والمعروف عندهم باسم: " أرناط " وهو أمير الكرك، قد غدر بالمسلمين وبما أخذوا عليه من عهود ومواثيق، فجاء بقوة يقودها بنفسه لاعتراض الحجاج، وقد هاجم قافلة في تيماء،
__________
(1) انظر كتاب الغارة ص 92 - 94.(9/292)
شمال المدينة المنورة، واستولى على كل ما تحمل من السلع التجارية، فأرسل إليه صلاح الدين الأيوبي قوة من مصر صدته.
وقد حلف صلاح الدين أن يقتله بيده إن أمكنه الله منه، لكثرة غدره وبغضه للإسلام والمسلمين، فأمكنه الله منه بعد انتصاره في موقعة حطين وقتله في عام 582 هـ (1) .
ثم في عام 948 هـ كانت محاولة أخرى إذ وصلت طائفة من الإفرنج إلى جدة، ونزلوا ميناء أبي الدوائر في خمس وثمانين برشة " سفينة " وقد قاتلهم المسلمون وأمير الحج في ذلك الوقت، فانقلبوا خائبين (2) .
وقد تبعت ذلك محاولات بطرق شتى، في رغبتهم للنفاذ إلى عقر دار المسلمين، فمنذ ثلاثة قرون ركزوا جهودهم بعد أن ظهرت في الجزيرة العربية دعوة إسلامية صحيحة، خالية من الدخائل والمشوبات، تلك هي دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله التي قامت على إخلاص التوحيد لله. ففي رحلة سادلير الإنجليزي، الذي وصل إلى الدرعية عن طريق الأحساء فالقطيف فالرياض، ثم لحق بإبراهيم باشا في آبار علي، ليهنئه بهذا الفوز، نيابة عن الحكومة البريطانية، وحكومة الهند الشرقية، وهو الذي يعتبر من أبرز قادتها، وهذا دليل على خوفهم من الدعوة الصحيحة المخلصة لله، باعتبارها أهم عامل ضد دعوتهم لصرف المسلمين عن دينهم.
كما وقد جاء في مقدمة كتاب (منحة القريب المجيب، في الرد على عباد الصليب، تأليف) الشيخ عبد العزيز ابن الشيخ حمد بن معمر المتوفى عام 1244 هـ، أن الإفرنج عندما مدوا أصابعهم في بلاد العرب ومنها البحرين، كان الأمر موضع خلاف بين الإنجليز والفرنسيين والدولة العثمانية والعجم، كل واحدة تريد بسط نفوذها عليها، وأرسلت كل منها مندوبا من قبلها، فكان مندوب الإنجليز قسيسا اختارته إنكلترا ليكون أبلغ إلى مقصودها بدهائه وعظيم مكره، وليعمل على
__________
(1) انظر الكامل أحداث هاتين السنتين.
(2) راجع مخطوط تحفة المشتاق في أخبار الحجاز ونجد والعراق لابن بسام ورقة 24 الوجهين.(9/293)
بث الدعاية المسيحية، وينشر في تلك البلاد الشبهات والشكوك النصرانية، ليفتن الناس في دينهم إن استطاع، فألف ذلك القسيس كتابا أورد فيه شبهات نصرانية، يزعم فيها تصحيح الملة المسيحية الباطلة الخاسرة، ودفعه إلى أمير البحرين وشيخها، وجاءت في هذا الكتاب شكوك وشبهات كثيرة ظنها ذلك القسيس تروج على أهل تلك الديار لزعمه أنهم جهلة بالدين ولا يحيطون من الإسلام بما يكشف أباطيل هذا القسيس (1) .
حتى قيض الله شابا رد عليه هو الشيخ عبد العزيز بن معمر بكتابه الذي بلغت صفحاته ثلاثين وثلاثمائة صحيفة (330) من القطع الكبيرة، وقد طبع لأول مرة بالقاهرة عام 1358 هـ.
ثم اهتم القسيس (زويمر) في كتابه الذي يذكر فيه لطلابه الأقاليم الخالية من المبشرين، وقد جاء فيه أن جزيرة العرب، التي هي مهد الإسلام لم تزل نذير خطر للمسيحية (2) .
وقد أشار في القسم الأخير من هذا الكتاب إلى المزايا والسجايا العقلية التي يجب على المبشرين أن يتذرعوا بها، وفي النهاية أفاض في شرح الوسائل للاحتكاك بالشعوب غير المسيحية وكيفية جلبها إلى حظيرة المسيح، وناقش طويلا الخطط التي يجدر اتباعها، واستنهض همة المبشرين بخطاب وجيز اختتم به كتابه، الذي سماه " مجد المحال " (3) .
وقد نتج عن ذلك وجود جهود مكثفة وموجهة في محاولة لتنصير المسلمين في كل مكان، وتعتبر أول بعثة تبشيرية دخلت البحرين عام (1890م) عن طريق صموئيل زويمر، وعن طريقه أيضا ومع زميل له في هذا الوقت دخل التبشير إلى عمان.
وفي الكويت كان أول نشاط للتبشير عام (1920م) عن طريق الكنيسة
__________
(1) انظر هذا الكتاب ص 605.
(2) انظر كتاب الغارة على الإسلام ص247.
(3) انظر كتاب الغارة على الإسلام ص252.(9/294)
الإصلاحية في مستشفى هناك، ويقال إن في الكويت مجلسا لاتحاد الكنائس.
ومنذ ذلك الوقت جد هؤلاء في إيجاد الكنائس في منطقة الخليج العربي، كما جاء في تقرير لمجلة المجتمع الكويتية عن التبشير والكنائس في المنطقة.
وإلى جانب هذه الجهود التي تبذل مع قلة النصارى الموجودين في المنطقة على مساحة واسعة جدا تمتد من الكويت شمالا حتى عدن في الجنوب الغربي، حيث لا يتجاوز العدد مائة وخمسين فردا (150) فإن في المنطقة كما يقال 54 بعثة منها على سبيل المثال:
- جمعية الكنيسة - MS - تأسست عام 1979 م منها خمس كنائس موزعة في عدة أماكن من المنطقة، وكانت ميزانيتها في عام 1979 تزيد على مليوني جنيه إسترليني.
- الكنيسة الإصلاحية - RCA - وهي بروتستانتية لها إحدى وعشرون بعثة في المنطقة وتبلغ ميزانيتها في السنة خمسة ملايين دولار.
- بعثة الإنجيل المتحدة، ولها مركز في إحدى الدول في الخليج، وتبلغ ميزانيتها في السنة تسعة ملايين دولار، ولها خمس عشرة بعثة.
وعن بعض ما وصلت إليه هذه الأعمال من جهود يحسن بنا أن نعرف ماذا يقولون عن النتائج والمخططات في المنطقة:
- فقد نشرت مجلة تشرش هيرالد في عددها الصادر يوم 21 \ 9 \ 1979 م مقالا للأب " جون بيوتن " يتحدث فيه عن الأنباء السارة من منطقة الخليج حيث يقول: إن المدرسة التبشيرية هناك والمستشفى - وقد سمى البلد - يزدهران تحت الإدارة المحلية، وخاصة أنها تمون من ذات المنطقة فهذه الإرساليات قد توقفت عن الاعتماد على الكنيسة العالمية لدعمهم، نتيجة لذلك.
- وفي مدينة أنديانابولس في أميركا يقول رئيس البعثة التنصيرية لشمال أفريقيا في مؤتمرها المنعقد هناك في سبتمبر من عام 1982 م: إن البعثة تدرس سنويا التقارير المقدمة من الحكومات المسلمة عن العاملين فيها، حول فرص العمل، وترسل البعثة هذه المعلومات المتعلقة بفرص العمل إلى كنائسها في العالم(9/295)
الغربي، حيث تبحث بدورها عمن عنده المؤهلات المطلوبة والاستعداد لخدمة الكنيسة، وتوعز الكنائس إلى من اختارتهم بالاتصال مباشرة بالحكومات أو المؤسسات الموفرة للعمل.
يقول فرانسيس ستريل في كتابه: " لم تضع الجهود 1981م ": يجب أن يرتكز التنصير تركيزا كبيرا على بناء الكنائس على أكتاف المتنصرين الجدد، وعلى العناية بالأقليات المسيحية ومساعدتهم على تركيز نفوذهم، ذلك أنهم أصحاب البلاد وهم الضمان لاستمرارية انتشار النصرانية، وأورد مثالا بما يجري في نيجيريا التي تعتبر أكبر الدول المسلمة في إفريقيا وأكثرها ثقلا.
وقد ذكر إبراهيم القصير في كتابه (المخططات التنصيرية بين المسلمين) ، الذي طبعته اللجنة الثقافية برابطة الشباب المسلم العربي بأميركا عام 1403 هـ هذه النماذج وغيرها (1) .
وما دمنا قد عرفنا جهودهم وأعمالهم المكثفة، وما تنشره مجلة إرساليات التبشير البروتستاني في سويسرا في أحد أعدادها، بأن ما ينفق على التبشير في العالم الإسلامي بلغ في أحد الأعوام مائة وخمسة وثلاثين مليون دولار.
فإن المسلمين في كل مكان بصفة عامة، وفي منطقة الخليج العربي والجزيرة العربية بصفة خاصة، مدعوون إلى عمل جهد معاكس، أداء للأمانة نحو دينهم الذي أمروا بالمحافظة عليه، والدفاع عنه والتمسك بشعائره، وهذا باب من أبواب الدعوة التي تعتبر أكبر المهمات، وأنبل المقاصد، فالدعوة إلى الله، وإلى دينه هي مهمة الرسل، وهي السلاح الذي يقف في وجه أعداء الإسلام.
وهذه الدعوة التي يجب أن تتمكن في نفوس المسلمين عموما، هي الحارس الأمين للفرد والجماعة بعد توفيق الله.
فقد أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم في توجيهه لأمته، بأن كل فرد منهم، على ثغر من ثغور الإسلام فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبله.
__________
(1) انظر هذا الكتاب ص 25 - 29.(9/296)
هذا في الأمانة الفردية التي يجب أن يستشعرها كل مسلم، أما أمانة الدعوة الجماعية لأمة الإسلام في منطقة الخليج، للوقوف أمام هذا الهجوم النصراني الموجه، فيمكن معالجته من الوجوه التالية:
أولا: الحذر من الأيدي العاملة الموجهة، سواء على مستوى البيوت والأفراد من سائقين وخادمات، أو على المستويات الأكبر حجما والأكثر عددا في الشركات والمؤسسات والدوائر الحكومية، وهذا الحذر يراعى من أمور:
أ - الإقلال بقدر المستطاع منهم، وقصر ذلك على الحاجة الضرورية.
ب - وإذا كانت الحاجة تدعو، فإعانة المسلمين في العالم بإتاحة الفرصة لهم دون غيرهم أولى وأحق لأن في تشغيل المسلم والمسلمة أجرا عظيما من ناحية توجيه المصلحة المالية لهو لرفع مستواهم ومستوى أسرهم، ومن جهة أخرى لكي يتفقهوا في دينهم، ويعرفوا أمور عباداتهم، واللغة العربية، حيث لم يهيأ لهم ذلك في بلادهم.
يقول صلى الله عليه وسلم في وصيته لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (1) » .
ثانيا: مما لا شك فيه أن النصرانية تعيش في بلبلة فكرية، وقلق وجداني، فرجال الكنيسة أنفسهم لا يجدون إجابات عن أسئلة توجه إليهم فيما يتعلق بتعدد الآلهة: الأب والابن وروح القدس، ذلك الافتراء الذي فضحه القرآن، يقول الله جل وعلا: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (2) {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) .
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4210) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .
(2) سورة المائدة الآية 72
(3) سورة المائدة الآية 73(9/297)
وبالتفهم العلمي لنظرة الإسلام إلى عيسى وأمه عليهما السلام، وما جاء في سورة مريم عن قصة حمله وولادته، كما جاء في سورة آل عمران يدعو إلى إعداد كتب صغيرة، ونشرات بلغات متعددة، ومناقشتهم في حوار فكري هادئ وبالتي هي أحسن، كما أخبر الله جلت قدرته بقوله {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (1) .
لأن شرح هذه الأمور لهم فيه تأثير وجذب لمن يريد الله هدايته للإسلام بعد توضيحه له.
ثالثا: عدم السماح لهم ببناء كنائس في ديار المسلمين، لأنها ركائز شر ومواطئ أقدام لجهود المبشرين فكريا وثقافيا، ولا حجة لهم بأن القادمين للعمل يحتاجون لأداء طقوسهم الدينية، فمن المعروف أن الوافد لا يخرج عن أنظمة البلد الذي جاء للعمل فيه، كما أن هؤلاء من أقل المرتادين للكنائس في بلادهم، وإن من البدائل: استقدام الأيدي العاملة المسلمة، وعدم الاستسلام للدول التي تحتضن التنصير في مجال الأيدي العاملة، وعدم السماح لما يبثونه من أفكار بعدم قدرة المسلمين على العمل.
رابعا: التركيز في وسائل الإعلام والمدارس على دعوة الوافدين وأولادهم إلى الإسلام، وهذا الجهد يحسن أن يوجه من الحكومات والشعوب معا، فهي مسئولية عظيمة تخلى عنها بنو إسرائيل بعد أن أخذ الله الميثاق عليهم، وعصوا ربهم، فخالف الله بين قلوبهم، وحل بهم عقاب خالقهم {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ} (2)
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 46
(2) سورة آل عمران الآية 187(9/298)
{تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (1) .
خامسا: عدم السماح لهم بفتح مدارس خاصة، يهدفون من ورائها إلى إدخال تعاليم الكنيسة في أذهان الصغار من أولاد المسلمين، بل إن الواجب يقتضي إغلاق ما فتح - إن كان هناك شيء من ذلك - والسماح لأولادهم - مع المراقبة - بالدراسة في المدارس الإسلامية لجذبهم للإسلام، ومتى رؤي وجود رأي مناقض للإسلام فكريا أو عقائديا، فيقضى على السبب والمسبب.
سادسا: الاهتمام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن بني إسرائيل لم تلعن على ألسنة أنبيائهم إلا بتقصيرهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ كان الواحد منهم لا يمتنع من مجالسة ومؤانسة من كان على المعصية الذي نهاه عنها بالأمس، فلم يرتدع في يومه، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (2) {كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (3) .
سابعا: الاهتمام بكل من أسلم حديثا، تعليما ورعاية وتوجيها وإيجاد فرص عمل له، وقد أحسن صنعا سمو رئيس دولة الإمارات العربية " الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان " عندما أمر بإنشاء دار لإيواء المسلمين حديثا، وتعني هذه الدار بتعليم وتثقيف هؤلاء وتعريفهم بأمور دينهم إضافة إلى المكافآت النقدية والمأكل، فيعودون إلى ديارهم وقد شعروا بأخوة الإسلام، وحسب قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (4) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 187
(2) سورة المائدة الآية 78
(3) سورة المائدة الآية 79
(4) سورة الحجرات الآية 10(9/299)
وبتوجيههم وتعليمهم والاهتمام بهم سنجد إن شاء الله خير دعاة للإسلام، ونشره بعد عودتهم لديارهم.
ثامنا: إنشاء صناديق تجبى فيها الأموال من الراغبين في الخير، والدعوة إلى الحق، لينفق منها في سبيل الدعوة، وطبع الكتب المفيدة فكريا وعقائديا. . . لإعطائها للمسلم الجديد، أو لمن يرغب في اعتناق الإسلام، والإنفاق منها على المحتاجين من المسلمين الوافدين، وللتعرف على أحوال إخوانهم. فهذا كله من الإنفاق في سبيل الله الذي أمر الفرد المسلم به.
تاسعا: يجب أن يكون شعور كل مسلم بأنه هو المستهدف ذكرا كان أو أنثى والتركيز على تفهيم المسلمين معاني القرآن الكريم، في المدارس والكليات عند الكبار والصغار، في المساجد والبيوت، وفي الأسواق والمصانع، وفي كل مجال من مجالات العمل، أخذا من قول الله تعالى في مخاطبته لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) .
عاشرا: إن النصرانية الحديثة تركز على شيئين مهمين في منطقة الخليج العربي هما:
أ- إخراج المرأة المسلمة عن فطرتها الأساسية التي فطرها الله عليها والاهتمام بمزاحمتها للرجال في أعمالهم، ومخالطتهم في نواديهم، لكي تخرج متبرجة منزوعة الحياء، وإذا كان لا بد من عمل المرأة فيجب أن يكون في مجالات تختص بالمرأة وفي جو محتشم لا تختلط فيه مع الرجال، لأن الله نهى المرأة المسلمة عن التبرج الذي يربطها بالجاهلية الأولى لقوله عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (2) .
__________
(1) سورة ص الآية 29
(2) سورة الأحزاب الآية 33(9/300)
ب- إيجاد جيل غير ملتزم بالإسلام، ضعيف الثقافة والخلفية الفكرية، لكي يسهل جذبهم لكل أمر مستحدث، ولكي يقفوا ضد الإسلام من داخله، ويسمحوا للجهود النصرانية والمخططات التبشيرية بالتغلغل في ديار المسلمين، وإفساح المجال لها للعمل بحرية وبلا قيود.
ولذا يحسن الانتباه لهذه الأمور، وتذكير الناس بما يجب أن يعملوه حيال أنفسهم وبيوتهم، ومن تحت أيديهم.
نسأل الله الكريم أن يوفق قادة المسلمين وعلماءهم، وجميع ولاة الأمر فيهم للعمل بكتابه ولنصرة سنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يأخذ بأيديهم ويثبتهم على الدين، ويجيرهم من مظلات الفتن، إنه ولي ذلك والقادر عليه. . . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور: محمد بن سعد الشويعر(9/301)
صفحة فارغة(9/302)
الجهاد في سبيل الله أسبابه وأهدافه
بقلم الدكتور زاهر عواض الألمعي
د. زاهر عواض الألمعي
* ولد بمنطقة رجال ألمع بالمملكة العربية السعودية عام 1354 هـ
* حصل على شهادة كلية الشريعة بالرياض عام 1386 هـ
* حصل على ماجستير التفسير وعلوم القرآن 1389 هـ
* حصل على الدكتوراه في التفسير وعلوم القرآن - جامعة الأزهر 1393 هـ.
* عمل عميدا لشئون المكتبات بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
* صدرت له الألمعيات (شعر) - مع المفسرين والمستشرقين في زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب - مناهج الجدل في القرآن الكريم - تحقيق كتاب استخراج الجدال من القرآن لابن رجب الحنبلي - على درب
* رحلة الثلاثين عاما، سيرة ذاتية(9/303)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد: الجهاد: من أصول الأديان، ولا يستقيم أمر المسلمين إلا به، وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة عندما قال: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد (1) » .
والجهاد من المجاهدة، وهي بذل الجهد واستنفاذ الطاقة في سبيل حصول المقصود.
وحقيقة الجهاد في سبيل الله هي العمل على إعلاء كلمة الله في الأرض بكافة الوسائل المادية والمعنوية، وإقامة موازين العدل والأمن في المجتمعات البشرية.
لأن الأصل أن تحكم الأرض بشريعة الله، فإن دين الإسلام دين عالمي، وقد جاءت الرسالة المحمدية خاتمة للرسالات السابقة مشتملة عليها ومتممة لمكارم الأخلاق ومحاسن الفعال.
والصراع بين الحق والباطل لا ينتهي، ولا بد من مقاومة الشر والطغيان في مختلف العصور.
والجهاد مشروع حتى في الأمم السابقة، كما قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (2) .
وحكم الجهاد الذي هو بمعنى الغزو والقتال في سبيل الله: أنه فرض كفاية، بمعنى أنه إذا قام به من المسلمين من يكفي سقط الإثم عن الباقين وإلا أثموا جميعا، ويتعين في مواضع ثلاثة كما نص على ذلك بعض فقهاء الإسلام (3) :
1 - إذا التقى الزحفان وتقابل الجيشان حرم على من حضر المعركة الانصراف وتعين عليه القتال لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} (4)
__________
(1) رواه الترمذي وقال حسن صحيح.
(2) سورة آل عمران الآية 146
(3) انظر المغني لابن قدامة ج9 ص179 وغيره من مصادر الفقه الإسلامي.
(4) سورة الأنفال الآية 45(9/304)
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} (1) {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} (2) .
2 - إذا هاجم العدو بلاد المسلمين وجب عليهم الدفاع عنها.
3 - إذا دعا إمام المسلمين إلى النفير العام. . . وجبت عليهم الإجابة لداعي الجهاد كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ} (3) {إلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (4) وقال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (5) .
أما أسباب الجهاد: فهي كثيرة ولكن مردها إلى ما يلي: 1- العدوان على المسلمين، وقد شرع الله القتال لرد العدوان، قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (6) ، وقال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (7) .
2 - رفع الظلم والاضطهاد عن المسلمين، وقد أذن الله لهم بالدفاع عن أنفسهم قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (8) .
3 - ضرورة إبلاغ دعوة الإسلام إلى الناس كافة لأنها دعوة عالمية ورسالة
__________
(1) سورة الأنفال الآية 15
(2) سورة الأنفال الآية 16
(3) سورة التوبة الآية 38
(4) سورة التوبة الآية 39
(5) سورة التوبة الآية 41
(6) سورة البقرة الآية 190
(7) سورة البقرة الآية 194
(8) سورة الحج الآية 39(9/305)
ختامية {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (1) ، وليس للرسول صلى الله عليه وسلم خيار في إبلاغ رسالة الله. فلقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (2) ، حتى قيل إن هذه الآية من أشد الآيات التي نزلت على رسول صلى الله عليه وسلم.
وأمام هذه التكاليف بإبلاغ رسالة الله لا بد للدعوة من خصوم يقفون في طريقها ويمنعون وصولها إلى الناس عندئذ لا بد من تحطيم مراكز القوى التي تصد عن سبيل الله. . . {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} (3) .
__________
(1) سورة سبأ الآية 28
(2) سورة المائدة الآية 67
(3) سورة البقرة الآية 193(9/306)
أما أهداف الجهاد في سبيل الله: فهي إعلاء كلمة الله في الأرض، وإقامة الحق والعدل بين الناس وجعل الحاكمية لله وحده، فلا يهتدى إلا بهدي الله ولا يحكم إلا بشريعته. . . ولهذا لا يكاد يذكر القتال أو الجهاد إلا مقرونا بسبيل الله تفريقا بينه وبين القتال من أجل الثارات والأطماع الدنيوية وحب السيطرة والاستعباد، فالإسلام لا يريد من القتال إبادة الحرث والنسل ونشر الخراب والدمار. . . بل إن من أهداف الإسلام إسعاد البشرية وهدايتها، ونشر الأمن والرخاء فوق ربوعها، وهو لا يلجأ للقتال إلا عند الضرورة.
أما مشروعية الجهاد: فكانت بعد الهجرة، فإنه لم يختلف العلماء في أن القتال قبل الهجرة كان محظورا على المسلمين كقوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} (1) وقوله {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) فلما استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وصارت له شوكة. . . أنزل الله تعالى قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} (3) فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه،
__________
(1) سورة المائدة الآية 13
(2) سورة المؤمنون الآية 96
(3) سورة البقرة الآية 190(9/306)
وروى جماعة من الصحابة منهم أبو بكر الصديق وابن عباس أن أول آية نزلت في القتال هي قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (1) .
وقد أيد هذا أبو بكر بن العربي في كتابه أحكام القرآن، وذكر أن القتال كان إذنا ثم أصبح فرضا بعد ذلك (2) .
والجهاد في سبيل الله: يكون بالنفس وبالمال وباللسان، وقد أعظم الله الثمن للمجاهدين بالأنفس والأموال فقال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3) .
وروى أبو داود والإمام أحمد والنسائي وابن حبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم (4) » .
والذين جادوا بأنفسهم في سبيل الله بشرهم الله بالحياة الطيبة وأنهم عند ربهم يرزقون فقال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (5) {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (6) .
والمال عنصر هام للمجاهدين في سبيل الله، وقد ضرب لنا سلفنا الصالح النماذج الخيرة في مجال التبرع بالمال للجهاد وإعداد العدة، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للتبرع للجهاد في غزوة تبوك عندما واجهت المسلمين شدة من قلة الأموال والموارد، وكان لا بد من إعداد العدة وتجهيز الجيش بما
__________
(1) سورة الحج الآية 39
(2) انظر أحكام القرآن لابن العربي ج1 ص102 وتفسير القرطبي ج2 ص347.
(3) سورة التوبة الآية 111
(4) سنن النسائي الجهاد (3096) ، سنن أبو داود الجهاد (2504) ، مسند أحمد بن حنبل (3/153) ، سنن الدارمي الجهاد (2431) .
(5) سورة آل عمران الآية 169
(6) سورة آل عمران الآية 170(9/307)
يتناسب مع أهمية تلك الغزوة، فتسابق الناس للتبرع فأراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذه المرة أن ينافس أبا بكر الصديق فينفق من ماله أكثر منه، فقسم عمر بن الخطاب ماله شطرين، وجاء بشطر وترك لأهله شطرا، وجاء أبو بكر بماله كله فوضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «" ما تركت لأهلك يا أبا بكر " قال: تركت لهم الله ورسوله، وقال: " ما تركت لأهلك يا عمر " فقال تركت لهم شطر مالي وجئت بشطر. . . فلما بلغ عمر ما صنعه أبو بكر رضي الله عنه قال: " ما استبقنا إلى الخير قط إلا سبقني إليه (1) » . . . أما عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وأرضاه فقد قام بتجهيز الجيش وكان يسمى جيش العسرة، وتحمل رضي الله عنه معظم النفقات في تلك الغزوة حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «" ما يضر عثمان ما فعل بعد هذا (2) » .
__________
(1) سنن الترمذي المناقب (3675) ، سنن أبو داود الزكاة (1678) ، سنن الدارمي الزكاة (1660) .
(2) سنن الترمذي المناقب (3700) ، مسند أحمد بن حنبل (4/75) .(9/308)
وهناك أمور لا بد منها عند إرادة الجهاد في سبيل منها:
1 - إعداد العدة، والقرآن الكريم صريح في دعوته لهذا إذ يقول تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (1) .
وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم القوة بالرمي كما في صحيح مسلم، والتنكير هنا يفيد العموم لجميع القوى المادية والروحية كالإيمان والصبر والثبات، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «" إن الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة. . . صانعه يحتسب في صنعته الخير، ومنبله، والرامي به (2) » . . . رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه. . . إلخ.
2 - الثبات، وطاعة القائد وترك النزاع والخلاف مهما كانت النتائج، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (4) .
3 - حفظ السر: فإن كشف أسرار الجيش جريمة كبرى، وهو من
__________
(1) سورة الأنفال الآية 60
(2) سنن الترمذي فضائل الجهاد (1637) .
(3) سورة الأنفال الآية 45
(4) سورة الأنفال الآية 46(9/308)
أسباب الهزيمة، وقد نهى الله المسلمين عن ذلك لما فيه من موالاة الأعداء والتجسس على المسلمين، ويظهر ذلك من قصة حاطب بن أبي بلتعة عندما بعث بكتاب إلى قريش يخبرهم فيه بخروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة وقد أشار القرآن إلى ذلك في أول سورة الممتحنة فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} (1) إلى قوله {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (2) .
ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يغزو جهة ورى بغيرها ثم انطلق إلى الجهة التي يريدها، وقصة النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر الكبرى مع «الأعرابي عندما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن خبر قريش ومحمد وأصحابه وما بلغه عنهم فقال الأعرابي: لا أخبركما حتى تخبراني من أنتما فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخبرتنا أخبرناك، قال: أوذاك بذاك؟ قال نعم، فأخبرهما بخبر قريش ومحمد وأصحابه، فلما فرغ من خبره قال ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء. ثم انصرف عنه» .
4 - اختيار المكان المناسب: وهو ما يعرف في النظم الحديثة بالاستراتيجية العسكرية وقد تحدث التاريخ عن موقف الحباب بن المنذر في غزوة بدر الكبرى، وقد نزل النبي صلى الله عليه وسلم بمكان «فقال يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يا رسول الله إن هذا المكان ليس لنا بمنزل، وأشار عليه بأرض تصلح للحرب. . . فقال صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي. . . ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من الناس (3) » .
5 - دعوة الكفار للإسلام قبل الحرب، وعدم الغدرة والمثلة وقتل النساء والصبيان.
فقد «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر على الجيش أو السرية أميرا أوصاه في خاصته بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا ثم قال له " اغزوا باسم الله في سبيل
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 1
(2) سورة الممتحنة الآية 1
(3) السيرة النبوية لابن كثير ج2 ص402.(9/309)
الله قاتلوا من كفر بالله ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا (1) » . . .
وفي وصية أبي بكر لجنده. . . " ستجدون قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له ولا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما " (2) .
6 - ما يعرف في الحروب الحديثة بالحرب النفسية: وهذا من أخطر الأسلحة التي يمكن أن يستخدمها كل فريق ضد الآخر، والقرآن الكريم أشار إلى أن إعداد العدة المادية والمعنوية فيه إرهاب للأعداء وتمكين للرعب في قلوبهم، وهو هدف من أهداف إزهاق الباطل وإذلاله قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} (3) الآية.
وقد نصر النبي صلى الله عليه وسلم بالرعب على عدوه، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم وغيره (4) . وقصة أبي دجانة سماك بن خرشة رضي الله عنه مشهورة حيث كان يختال في مشيته أمام المشركين ويتبختر وفي يده السيف الذي أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم «فقال صلى الله عليه وسلم حين رأى أبا دجانة يتبختر: إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن (5) » .
وفي عمرة القضاء في السنة السابعة «قالت قريش: إنه سيقدم عليكم محمد وأصحابه وقد أنهكتهم حمى يثرب فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم مقالة المشركين حسر عن كتفه وعن عضده الأيمن مضطبعا بردائه، ورمل في الأشواط الثلاثة الأولى قال لأصحابه " رحم الله امرءا أراهم اليوم من نفسه قوة (6) » (7) . والمواقف والخطط التي ترعب
__________
(1) رواه مسلم.
(2) انظر أحكام القرآن لابن العربي ج1 ص104، 105.
(3) سورة الأنفال الآية 60
(4) صحيح مسلم ج1 ص 372.
(5) السيرة النبوية لابن كثير ج3 ص30.
(6) صحيح البخاري الحج (1602) ، صحيح مسلم الحج (1266) ، سنن الترمذي الحج (863) ، سنن النسائي مناسك الحج (2945) ، سنن أبو داود المناسك (1886) ، سنن ابن ماجه المناسك (2953) ، مسند أحمد بن حنبل (1/290) .
(7) السيرة النبوية لابن كثير ج3 ص430.(9/310)
الأعداء كثيرة جدا، وقصة خالد بن الوليد رضي الله عنه في غزوة مؤتة في منتهى الروعة والدهاء، ولو ذهبنا نستشهد بتلك المواقف الجهادية المثالية في تاريخ المسلمين لخرجنا عن حد الإيجاز.(9/311)
ويمكن أن نضرب أمثلة رائعة من سلفنا الصالح في الثبات على المبادئ واستعلائهم بالإيمان على أعداء الإسلام ومن هذه المواقف البطولية ما يلي:
1 - موقف سعد بن معاذ وسعد بن عبادة مع المشركين في غزوة الأحزاب؛ فقد ذكرت الروايات «أن المشركين حاصروا المدينة المنورة قرابة شهر وخشي النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه اشتداد البلاء فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف المري وهما قائدا غطفان وأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه. . . ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك بعث إلى السعدين فذكر لهما ذلك واستشارهما فيه، فقالا: يا رسول الله أمرا تحبه فنصنعه أم شيئا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم شيئا تصنعه لنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما. فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. . . فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أنت وذاك. . . (1) » وقد سر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الشجاعة النادرة، واطلع الله على صدق العزيمة عند المسلمين فهزم الله الأحزاب، وسلط عليهم ريحا قلعت أطنابهم وكفأت قدورهم، وسفت التراب في وجوههم، وكفى الله المؤمنين القتال. . .
2 - موقف أبي بكر الصديق من المرتدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد وقف
__________
(1) انظر السيرة النبوية لابن كثير ج3 ص202.(9/311)
وقفة خالدة، نصر الله به دينه واعتز بموقفه الإسلام والمسلمون. . . لقد وقف قائلا: " من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت " وأنفذ جيش أسامة بن زيد الذي كان معسكرا خارج المدينة رغم اقتراح بعض الصحابة بإبقاء هذا الجيش للدفاع عن المدينة، قال أبو بكر في صرامة وعزيمة ماضية: " والله لو جرت كلاب المدينة بأرجل أمهات المؤمنين ما حللت راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم " وقاتل أبو بكر أهل الردة ومانعي الزكاة والمتنبئين الكذابين وفي مقدمتهم مسيلمة الكذاب.
فاستقر الأمر وعاد الأمن إلى أنحاء الجزيرة العربية وبدأ بإعداد الجيوش الإسلامية لفتح بلاد فارس والروم ولكن عاجلته المنية قبل إتمام ذلك، ولكن تم معظم ذلك في عهد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أيدي قادة المسلمين العظماء كسعد بن أبي وقاص والمثنى بن حارثة وخالد بن الوليد وأبي عبيدة عامر بن الجراح وعمرو بن العاص وغيرهم من القادة الذين خلدهم التاريخ، وبعد فإن الجهاد في سبيل الله مطلب أساسي، ولا تقوم للمسلمين قائمة إلا به.
فما أفلحت في موكب المجد أمة ... إذا لم يكن درب الجهاد لها دربا
الدكتور زاهر عواض الألمعي(9/312)
موارد تقي الدين الفاسي في كتابه
العقد الثمين
بقلم الأستاذ معالي عبد الحميد حمودة
- من مواليد سنة 1947 م، جمهورية مصر العربية.
- عضو جمعية الأدباء بالقاهرة، وعضو الأندية الثقافية والأدبية بجدة ومكة المكرمة والمدينة المنورة، وعضو لجنة التأليف والنشر بجمعية دعاة الإسلام بالإسكندرية.
- يمارس كتابة البحوث والمقالات في صحافة المملكة العربية السعودية وفي المجلات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي.(9/313)
نبذة عن تقي الدين الفاسي.
هو محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن علي بن عبد الرحمن الفاسي المكي الحسني المالكي المعروف بالتقي الفاسي تقي الدين أبو عبد الله أبو طالب قاضي مكة شيخ الحرم.
محدث ومؤرخ ولد بمكة المكرمة شرفها الله تعالى في ربيع الأول سنة 775 هجرية ونشأ بها وبالمدينة ودخل اليمن والشام ومصر مرارا وولي قضاء المالكية وكف بصره وتوفي - رحمه الله - بمكة في شوال 832 هجرية.
من تصانيفه:
- شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام
- العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين
- مختصر حياة الحيوان لكمال الدين الدميري
- ذيل سير النبلاء
- ذيل على التقييد لمعرفة رواة السند والأسانيد لابن نقطة.(9/314)
موارد التقي الفاسي في العقد الثمين
مقدمة:
يعد كتاب (العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين) الكتاب الوافي الجامع الشامل لتراجم أعيان مكة المكرمة وغيرها ممن سكنها أو مات بها وولاتها وقضاتها وخطبائها وأئمتها ومؤذنيها من أهلها وغيرهم، وتراجم من وسع المسجد الحرام أو عمره أو عمر شيئا منه وغير ذلك.
وإذا كان مؤلف كتاب العقد الثمين هدفه الأول إيراد ذكر تراجم مكة المعظمة فإن الكتاب لم يكن قاصرا على تراجم الأعيان مثلما ذهب القاضي ابن خلكان في كتابه النفيس (وفيات الأعيان) ولكن تقي الدين الفاسي فوق أنه قصد في تأليفه لكتابه الترجمة لأعيان مكة إلا أنه بجانب ذلك جمع بين التراجم الذاتية للأعيان وبين التاريخ العلمي الرصين لمكة المكرمة وأسمائها وفضلها وشيء من أخبار الكعبة(9/314)
المشرفة وفضائلها، ثم أشياء عن المسجد الحرام وزمزم وبعض المدارس والسقايات والبرك - جمع بركة - والآبار والعيون إلخ.
ففي هذا المقام إذن كان التأصيل التاريخي لمكة المكرمة بكل ما بها من أماكن تاريخية وجغرافية يؤكد براعة صاحب العقد الثمين.
ونحن نعلم أن ثمة رابطة بين علم التاريخ وعلم الجغرافيا ولكن الجمع بينهما - في تأصيل علمي - لا يقوم به إلا متمكن باحث جوال عارف عالم، وقد اجتمعت هذه الصفات في مؤلف كتاب العقد الثمين، فإذا ما ضم إلى علمي التاريخ والجغرافيا: التراجم لعرفنا مدى الجهد البارع المضني الذي بذله المؤلف ليخرج كتابه بهذه الصفة، فهو كتاب تاريخ، وهو كتاب جغرافيا، وهو كتاب طبقات، وهو كتاب تراجم، ولا نبالغ عندما نقول أن كتاب العقد الثمين يعد بمثابة " دائرة معارف " متكاملة عن مكة المكرمة زادها الله تشريفا وتعظيما.
ولأن التاريخ دورة مستمرة لا تنفصل - حتى لو انفصلت العصور التاريخية للحياة - ولا ينتهي التاريخ إلا إذا انتهت الحياة نفسها، ومن ثم فإن الكتاب فوق أنه جمع - كما قلنا - بين التاريخ والجغرافيا إلا أنه أورد في كتابه المزيد من علوم الدين الحنيف، خاصة وأن موضوع الكتاب هو مكة العاصمة الروحية للمسلمين والمسلمات في مشارق الأرض ومغاربها، ولأن مكة هي قلب الحياة البشرية وما يرتبط بمكة إنما هو يرتبط بحياة المسلم في كل زمان ومكان.
ومن الإنصاف أن نقول إن المنهج العلمي للتقي الفاسي - رحمه الله وجزاه خيرا - أنه جمع علم التاريخ لمكة كمدينة وربط معها جغرافيتها ثم علم التراجم الذاتية لأعيانها وتم هذا كله في رابطة لا تنفصم عراها مع كافة علوم الدين الحنيف من فقه وشريعة وغير ذلك.
والكتاب إذا يعد موسوعة كبرى علمية تاريخية لمكة المكرمة من ناحية التاريخ والجغرافيا والتراجم والفقه والشريعة.
والمؤلف - رحمه الله - استكمل بمؤلفه هذا ما بدأه عمدة مؤرخي البلد الحرام أبو الوليد الأزرقي (المتوفى نحو سنة 250 هجرية) صاحب كتاب (أخبار مكة)(9/315)
وأبو عبد الله الفاكهي (المتوفى نحو سنة 280 هجرية) صاحب كتاب (تاريخ مكة) ومن تبعهما من المؤرخين في هذا الموضوع حتى عصر التقي الفاسي (المتوفى سنة 832 هجرية) فجاء العقد الثمين جامعا لمؤلفات السابقين مضافا إليه ما شاهده المؤلف مسجلا على الرخام والأحجار والأخشاب بالإضافة إلى ما تلقاه من الأخبار عن الثقات وما قام به من زيادات وتآليف وإضافات مما لم يذكره المؤرخون السابقون الذين توفوا قبله بنحو خمسمائة عام.(9/316)
الموارد العلمية للكتاب
وعن الموارد التي استقى منها التقي الفاسي مواد كتابه (العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين) فهي شاملة متنوعة جديرة بإلقاء نظرة تأمل عليها كي يتبين لنا مدى الجهد العلمي الذي بذله المؤلف حتى ترك لنا كتابه النفيس فشملت هذه الموارد كتبا في السيرة. . . والتاريخ الإسلامي والتراجم. . والطبقات. . والمعاجم. . والرحلات. . . هذه الموارد العلمية لعمالقة وجهابذة هذا الفن جعلت الكتاب عملاقا في موارده وفي تأليفه.
وكي نتبين منتهى الدقة العلمية لتلك الموارد فإن التقي الفاسي تلقاها كلها عن طريق السماع والمشافهة والإجازة والقراءة بالإضافة إلى القيمة العلمية لبعض هذه الموارد حيث إن السند فيها متصل.
ومن هذه الموارد في السيرة النبوية كتاب (السيرة) لمحمد بن إسحاق تهذيب ابن هشام وروايته عن زياد عنه. ومن تلك الموارد كتاب (الروض الأنف) لأبي القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد المعروف بالسهيلي.
ومن تلك الموارد كتاب (النسب) للزبير بن بكار قاضي مكة.
ومن تلك الموارد كتاب (أخبار مكة) لأبي عبد الله محمد بن إسحاق بن العباس المكي المعروف بالفاكهي، وقد وصفه تقي الدين المكي بأنه (ما أكثر فوائده (1) وأيضا من الموارد التي اعتمد عليها التقي الفاسي كتاب (أخبار مكة) لأبي
__________
(1) العقد الثمين للتقي الفاسي ج 1 \ 19.(9/316)
الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي المكي.
ونحن إذا استعرضنا تلك الموارد وجدنا أن التقي الفاسي لم يقع إلا على ما هو نفيس وأصيل فمن موارده (الاستيعاب في معرفة الأصحاب) لأبي عمر يوسف بن عبد البر النمري وكتاب (تهذيب الكمال) للحافظ المعتمد أبي الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي وأيضا (مختصر تهذيب الكمال) للحافظ الناقد أبي الفضائل أحمد بن علي بن حجر الشافعي.
أما الحافظ شمس الدين الذهبي فقد كان لمؤلفاته مكانة كبيرة وهامة عند التقي الفاسي فقد طالع منها - التقي الفاسي - مؤلفات ومصنفات جليلة مثل (ميزان الاعتدال) و (مختصر تاريخ دمشق) و (مختصر تهذيب الكمال) و (طبقات الحفاظ) و (طبقات القراء) و (تاريخ الإسلام) و (العبر) و (ذيل سير النبلاء) وغير ذلك من تأليف المؤرخ العملاق شمس الدين الذهبي.
أما الإمام النووي - صاحب كتاب رياض الصالحين - فقد أسقى تقي الدين بعض موارده من كتاب (تهذيب الأسماء واللغات) ومن الموارد أيضا السفر الجليل كتاب (تاريخ بغداد) للخطيب البغدادي واستكمل التقي الفاسي الإتمام التاريخي لتاريخ بغداد والممثل في " الذيول " فقرأ (ذيل تاريخ بغداد) لأبي سعد بن السمعاني و (ذيل تاريخ بغداد) للحافظ أبي عبد الله محمد بن سعد بن الدبيثي و (ذيل تاريخ بغداد) للقطيعي، و (ذيل تاريخ بغداد) للحافظ محب الدين محمد بن محمود بن النجار و (ذيل تاريخ بغداد) للحافظ تقي الدين بن رافع.
ومن المصادر التاريخية كتاب (تاريخ أربيل) لابن المستوفى وكذلك (تاريخ مصر) للحافظ قطب الدين الحلبي وكذلك بعض (تاريخ دمشق) لأبي القاسم ابن عساكر ولم يغفل التقي الفاسي أن يطلع على عمدة التاريخ (الكامل في التاريخ) لابن الأثير وكذلك كتابه (اللباب في الأنساب) وكتابه (أسد الغابة في معرفة الصحابة) .
ومن المصادر التاريخية أيضا كتاب (مرآة الزمان في وفيات الفضلاء والأعيان)(9/317)
لأبي المظفر يوسف بن قزعلي سبط الحافظ ابن الجوزي وكذا (ذيل مرآة الزمان) للإمام قطب الدين موسى بن محمد بن أحمد اليونيني.
ومن الموارد أيضا كتاب (الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية) وذيلها للعلامة شهاب الدين أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي الدمشقي. ومن الموارد الدقيقة الهامة كتاب (وفيات الأعيان وأنباء الزمان مما ثبت بالنقل والسمع وأثبته العيان) للقاضي ابن خلكان - وما أدراك ما ابن خلكان - وكذا تاريخ البرزالي المسمى (المكتفي) الذي ذيل به على تاريخ أبي شامة ومعجمه.
ومن الموارد أيضا (أعوان النصر وأعيان العصر) للإمام صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي ومن الموارد أيضا (تاريخ الصلاح محمد بن شاكر الكتبي ومن الموارد التاريخية النفيسة التي استقى منها التقي الفاسي، كتاب (البداية والنهاية) للحافظ الكبير ابن كثير الدمشقي وأيضا تاريخ الأمير بيبرس الدوادار الناصري وتاريخ النويري وتاريخ الملك المؤيد صاحب حماة (المختصر في أخبار البشر) وتاريخ الحافظ أبي زرعة.
ومن المعاجم معجم السفر للحافظ السلفي. . . ومعجم الحافظ عز الدين بن الحاجب الأميني ومعجم الحافظ العلامة زكي الدين المنذري والتكملة له. . . ومعجم الحافظ ابن مسدي. . . ومعجم الإمام علاء الدين علي بن إبراهيم بن داود بن العطار. . . ووفيات الحافظ العراقي التي ذيل بها على (العبر) للمؤرخ الفذ شمس الدين الذهبي. . . ووفيات مفتي الشام ابن الحسباني ووفيات الشيخ الشهير محيي الدين عبد القادر الحنفي وأيضا كتابه النفيس (طبقات الحنفية) ، و (طبقات الحنفية) أيضا لمجد الدين الشيرازي. . . ووفيات ابن نافع. . . ووفيات الأكفاني ووفيات ابن المفضل المقدسي. . . وتاريخ ناصر الدين بن الفرات. . . وتاريخ الصارم إبراهيم المعروف بابن دقماق ورحلة ابن جبير. . . وغير ذلك من المؤلفات النفيسة والموارد الجليلة.
وبعد: -
فتلك كانت كلمة موجزة عن موارد التقي الفاسي مؤرخ مكة المكرمة هذا المؤرخ الذي أتاح الله - عز وجل - له أن يستقي من تلك العلوم النافعة والدروس(9/318)
المفيدة كل ما من شأنه أن جعل كتابه (العقد الثمين في أخبار البلد الأمين) أثرا علميا كبيرا يرتفع شاهقا ليدل على أصالة هذا المؤلف الذي بذل جهدا كبيرا وضخما فجاء سفر العقد الثمين مواكبا لذلك الجهد مؤكدا أنه كما قال تعالى: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (1)
معالي عبد الحميد حمودة
__________
(1) سورة الكهف الآية 30(9/319)
المصادر
1 - العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين (8 مجلدات) - التقي الفاسي تحقيق(9/320)
محمد الطيب حامد الفقي - مطبعة السنة المحمدية - القاهرة (1378 هجرية) .
2 - البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع - محمد بن علي الشوكاني - مطبعة السعادة - القاهرة ط أولى 1348 هجرية.
3 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون - مصطفى بن عبد الله الشهير بحاجي خليفة - طبعة مصورة بالأوفست - مكتبة المثنى.
4 - إيضاح المكنون - إسماعيل باشا البغدادي - طبعة مصورة بالأوفست - مكتبة المثنى ببغداد.
5 - معجم المؤلفين - عمر رضا كحالة - مكتبة المثنى ودار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان.
6 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب - ابن العماد الحنبلي - طبعة المكتب التجاري - بيروت - لبنان.
7 - الأعلام - خير الدين الزركلي - طبعة دار العلم للملايين (8 مجلدات) - بيروت - لبنان.(9/321)
صفحة فارغة(9/322)
أسئلة وأجوبة
مع سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
إعداد \ التحرير
س1 هل الوهابية ينكرون شفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام؟ جـ لا يخفى على كل عاقل درس سيرة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه أنهم براء من هذا القول، لأن الإمام رحمه الله قد أثبت في مؤلفاته لا سيما في كتابيه (التوحيد، وكشف الشبهات) شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته يوم القيامة ومن هنا يعلم أن الشيخ - رحمة الله عليه - وأتباعه لا ينكرون شفاعته عليه الصلاة والسلام وشفاعة غيره من الأنبياء والملائكة والمؤمنين، بل يثبتونها كما أثبتها الله ورسوله ودرج على ذلك سلفنا الصالح عملا بالأدلة من الكتاب والسنة، وبهذا يتضح لكم أن ما نقل عن الشيخ وأتباعه من إنكار شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم من أبطل الباطل ومن الصد عن سبيل الله والكذب على الدعاة إليه، وإنما أنكر الشيخ رحمه الله وأتباعه طلبها من الأموات ونحوهم، فنسأل الله لنا ولكم العافية والسلامة من كل ما يغضبه.
والله الموفق.(9/323)
س2 هل ما أشيع من أن أتباع الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله(9/323)
حينما استولوا على الجزيرة العربية ووصلوا إلى المدينة المنورة ربطوا خيولهم في الروضة الشريفة الواقعة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم؟
جـ ليس لهذا المقال أصل من الصحة، بل هو من الكذب والصد عن الحق، وإنما المعروف عنهم لما استولوا على المدينة المنورة نشر الدعوة السلفية وبيان حقيقة التوحيد الذي بعث الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وسائر المرسلين، وإنكار ما كان عليه الكثير من الناس من الشرك الأكبر كالاستغاثة بالرسول عليه الصلاة والسلام وطلبه المدد، والاستغاثة بمن في البقيع من الصحابة وأهل البيت وغيرهم من الصالحين، وكالاستغاثة بعم النبي صلى الله عليه وسلم حمزة رضي الله عنه وغيره من الشهداء بأحد، هذا هو المعروف عنهم مع تعليم الناس حقيقة الإسلام وإنكار البدع والخرافات التي سادت في الحجاز وغيره في ذلك الوقت، ومن زعم عنهم خلاف ذلك من الاستهانة بالقبر الشريف أو بالروضة، أو قال عنهم إنهم ينتقصون النبي صلى الله عليه وسلم أو أحدا من الصحابة رضي الله عنهم أو غيرهم من الصالحين فقد كذب وافترى وقال خلاف الواقع وخلاف الحق، وكتب التاريخ موجودة تشهد لهم بما ذكرنا وتبين كذب المفترين.
رزقني الله وإياكم الفقه في دينه والثبات عليه حتى نلقاه سبحانه، وجنبنا وإياكم طرق الزلل إنه ولي ذلك والقادر عليه. ونسأل الله عز وجل أن يغفر لهم ولسائر علماء المسلمين ودعاة الهدى، وأن يجعلنا وإياكم من أتباعهم بإحسان، وأن يرينا جميعا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله الموفق.(9/324)
س3 يقولون إن تعدد القراءات في القرآن معناه اختلاف في القرآن حيث يؤدي(9/324)
إلى معان ثانية مثل آية الإسراء {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} (1) عند يلقاه منشورا؟
جـ ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن نزل من عند الله على سبعة أحرف أي لغات من لغات العرب ولهجاتها تيسيرا لتلاوتها عليهم، ورحمة من الله بهم ونقل ذلك نقلا متواترا، وصدق ذلك واقع القرآن وما وجد فيه من القراءات، فهي كلها تنزيل من حكيم حميد.
ليس تعددها من تحريف أو تبديل، ولا لبس في معانيها، ولا تناقض في مقاصدها، ولا اضطراب بل بعضها يصدق بعضا ويبين مغزاه، وقد تتنوع معاني بعض القراءات فيفيد كل منها حكما يحقق مقصدا من مقاصد الشرع ومصلحة من مصالح العباد، مع اتساق معانيها وائتلاف مراسيها وانتظامها في وحدة تشريع محكمة كاملة لا تعارض بينها ولا تضارب فيها.
فمن ذلك ما ورد من القراءات في الآية التي ذكرها السائل وهي قوله تعالى {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} (2) فقد قرئ (ونخرج) بضم النون وكسر الراء وقرئ (يلقاه) بفتح الياء والقاف مخففة، والمعنى ونحن نخرج للإنسان يوم القيامة كتابا هو صحيفة عمله، يصل إليه حال كونه مفتوحا فيأخذه بيمينه إن كان سعيدا أو بشماله إن كان شقيا، وقرئ (يلقاه منشورا) بضم الياء وتشديد القاف. والمعنى ونحن نخرج للإنسان يوم القيامة كتابا - هو صحيفة عمله - يعطى الإنسان ذلك الكتاب حال كونه مفتوحا فمعنى كل من القراءتين يتفق في النهاية مع الآخر، فإن من يلقى إليه الكتاب فقد وصل إليه ومن وصل إليه الكتاب فقد ألقي إليه.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 13
(2) سورة الإسراء الآية 13(9/325)
ومن ذلك قوله تعالى {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (1) قرئ (يكذبون) بفتح الياء وسكون الكاف وكسر الذال بمعنى يخبرون بالأخبار الكاذبة عن الله والمؤمنين، وقرئ (يكذبون) بضم الياء وفتح الكاف وتشديد الذال المكسورة بمعنى يكذبون الرسل فيما جاءوا به من عند الله من الوحي، فمعنى كل من القراءتين لا يعارض الآخر ولا يناقضه بل كل منهما ذكر وصفا من أوصاف المنافقين، وصفتهم الأولى بالكذب في الخبر عن الله ورسله وعن الناس، ووصفتهم الثانية بتكذيبهم رسل الله فيما أوحى إليهم من التشريع، وكل حق فإن المنافقين جمعوا بين الكذب والتكذيب.
ومن ذلك يتبين أن تعدد القراءات كان بوحي من الله لحكمة، لا عن تحريف وتبديل، وأنه لا يترتب عليه أمور شائنة ولا تناقض أو اضطراب، بل معانيها ومقاصدها متفقة.
والله الموفق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 10(9/326)
س4 إذا تخاصمت قبيلتان أو شخصان، وحكم شيخ القبيلة على المدعى عليه بعقائر من الإبل أو الغنم تعقر وتذبح عند من له الحق، فما حكم هذه العقائر؟
جـ الذي يظهر لنا من الشرع المطهر أن هذه العقائر لا تجوز لوجوه، أولها: أن هذا من سنة الجاهلية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا عقر في الإسلام (1) » والثاني أن هذا العمل يقصد منه تعظيم صاحب الحق، والتقرب إليه بالعقيرة، وهذا من جنس ما يفعله المشركون من الذبح لغير الله، ومن جنس ما يفعله بعض الناس من الذبح عند قدوم بعض العظماء، وقد قال جماعة من العلماء: إن
__________
(1) سنن أبو داود الجنائز (3222) ، مسند أحمد بن حنبل (3/197) .(9/326)
هذا يعتبر لغير الله، وذلك لا يجوز، بل هو في الجملة من الشرك، كما قال الله سبحانه {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2) والنسك هو الذبح، قرنه الله بالصلاة لعظم شأنه فدل ذلك على أن الذبح يجب أن يكون لله وحده، كما أن الصلاة لله وحده، وقال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (3) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (4) وقال النبي صلى الله عليه وسلم «لعن الله من ذبح لغير الله (5) » ، الوجه الثالث: إن هذا العمل من حكم الجاهلية، وقد قال الله سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (6) وفيه مشابهة لأعمال عباد الأموات، والأشجار، والأحجار، كما تقدم فالواجب تركه، وفيما شرع الله من الأحكام، ووجوه الإصلاح ما يغني ويكفي عن هذا الحكم.
والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163
(3) سورة الكوثر الآية 1
(4) سورة الكوثر الآية 2
(5) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .
(6) سورة المائدة الآية 50(9/327)
س5 هل يجوز لإنسان تصوير نفسه وإرسال الصورة إلى أهله في أوقات عيد ونحوها؟
جـ قد تكاثرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عن التصوير ولعن المصورين ووعيدهم بأنواع الوعيد، فلا يجوز للمسلم أن يصور نفسه ولا أن يصور غيره من ذوات الأرواح إلا عند الضرورة كالجواز وحفيظة النفوس ونحو(9/327)
ذلك، نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين وأن يوفق ولاة الأمر للتمسك بشريعته والحذر مما خالفها إنه خير مسئول.
والله الموفق.(9/328)
س6 هل للبوذية كتاب؟
جـ لا نعلم لهم كتابا سماويا بل حكمهم حكم عبدة الأوثان فإن دخل أحد منهم في دين اليهودية أو النصرانية أو المجوس فله حكم الدين الذي ينتقل إليه.
والله الموفق.(9/328)
مؤتمرات إسلامية
(1)
المؤتمر العالمي الإسلامي الثاني لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة
في الفترة من 28 إلى 30 ربيع الأول 1404 هـ
في إطار الجهود التي تبذلها المملكة العربية السعودية في خدمة الإسلام وتعزيز نشر الدعوة الإسلامية استضافت الجامعة الإسلامية (المؤتمر العالمي الثاني لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة) وترأس جلسات المؤتمر سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، وبذل سماحته جهودا مشكورة في إنجاح هذا المؤتمر وتحقيق أهدافه بعد عون الله وتوفيقه.
وبعد دراسة البحوث المقدمة إلى المؤتمر، وبعد النظر في واقع المسلمين وما يجب أن يكونوا عليه، خرج المؤتمر بتوصيات هامة في مجال الحكم والتعليم والتربية والإعلام والاقتصاد وفي مجال الدعوة الإسلامية في واقعها ومستقبلها، ودعا المؤتمر إلى ضرورة توحيد الجهود بين الهيئات الإسلامية مما يحقق تقدما في نتائج الدعوة.
كما دعى المؤتمر إلى قيام هيئة خيرية إسلامية عالمية تهدف إلى حماية المسلمين من الهجمات التنصيرية والإلحادية، وأوصى المؤتمر بإنشاء (مجلس عالمي للدعوة والدعاة) يعني بالشئون الإسلامية والدعاة في العالم.
(2)
الدورة التاسعة للمجلس الأعلى العالمي للمساجد
تلبية للدعوة التي وجهتها رابطة العالم الإسلامي، عقد المجلس الأعلى العالمي للمساجد دورته التاسعة، بجوار بيت الله الحرام، في الفترة من غرة ربيع الثاني عام(9/329)
1404 هـ وحتى الثامن منه، وترأس جلسات الدورة، سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
وخرج المجتمعون بتوصيات هامة، ودرسوا العديد من القضايا الإسلامية وأوضاع الأقليات الإسلامية، ومن أبرز القضايا المدرجة على جدول أعماله:
أهمية تطبيق الشريعة الإسلامية - العناية بالمساجد والأوقاف الإسلامية - الدورات التدريبية للأئمة والدعاة وأهمية الرفع من مستواها - ضرورة دعم البنوك الإسلامية - المسلمون في لبنان - المسلمون في فطاني - المسلمون في كشمير - المسلمون في الصومال الغربي.
(3)
الدورة السابعة للمجمع الفقهي الإسلامي
عقد المجمع الفقهي الإسلامي دورته السابعة في مكة المكرمة في الفترة من 11 إلى 19 من شهر ربيع الثاني من عام 1404 هـ وترأس جلسات الدورة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
وناقش المجلس المسائل المدرجة على جدول أعماله، واتخذ حيالها التوصيات المناسبة، ومن بين هذه المسائل:
الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية - الطب الإسلامي والتخلص من الكحول - تبني أطفال المسلمين المشردين - برمجة القرآن الكريم بالكمبيوتر - الاجتهاد في الشريعة الإسلامية - الصور المرسومة في قصص الأطفال والرسوم المتحركة.(9/330)
حديث شريف
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له (1) »
رواه مسلم
__________
(1) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، سنن ابن ماجه المقدمة (242) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .(9/332)
بسم الله الرحمن الرحيم
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ} (1)
صدق الله العظيم
(سورة لقمان الآية 20)
__________
(1) سورة لقمان الآية 20(10/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(10/2)
مجلة البحوث الإسلامية
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(10/3)
المحتويات
الافتتاحية:
التحذير من السفر إلى بلاد الكفر وخطره على العقيدة والأخلاق سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
موضوع العدد:
حكم كتابة المصحف بالأحرف اللاتينية إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 11
الفتاوى:
الفتاوى إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 61
دراسات فقهية:
الفرق بين البيع والربا في الشريعة الإسلامية الدكتور صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان 86
العقد شريعة المتعاقدين الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود 145
القسامة الشيخ غنيم بن مبارك بن غنيم 157
تعليل الأحكام الشرعية واختلاف العلماء فيه الدكتور طه جابر فياض العلواني 167(10/4)
دراسات تاريخية:
معركة شقحب أو معركة مرج الصفر الدكتور محمد بن لطفي الصباخ 213
عبد الرحمن بن عوف الزهري اللواء الركن محمود شيت خطاب 235
مقالات إسلامية:
تنبيهات هامة على ما كتبه الشيخ محمد بن علي الصابوني في صفات الله عز وجل. . سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 279
مساوئ الزواج من أجنبيات الدكتور محمد بن أحمد الصالح 305
مدى إمكانية ترجمة القرآن الدكتور محمد فاروق النبهان 327
تعقيب الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد 335(10/5)
صفحة فارغة(10/6)
التحذير من السفر إلى بلاد الكفر
وخطره على العقيدة والأخلاق
لسماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين أما بعد:
فقد أنعم الله على هذه الأمة بنعم كثيرة وخصها بمزايا فريدة وجعلها خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله. وأعظم هذه النعم نعمة الإسلام، الذي ارتضاه الله لعباده شريعة ومنهج حياة وأتم به على عباده النعمة وأكمل لهم به الدين قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رحِيمٌ} (1) ولكن أعداء الإسلام قد حسدوا المسلمين على هذه النعمة الكبرى فامتلأت قلوبهم حقدا وغيظا وفاضت نفوسهم بالعداوة والبغضاء لهذا الدين وأهله، وودوا لو يسلبون المسلمين هذه النعمة أو يخرجونهم منها، كما قال تعالى في وصف ما تختلج به نفوسهم {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} (2) وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (3) وقال عز
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة النساء الآية 89
(3) سورة آل عمران الآية 118(10/7)
{إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} (1) وقال جل وعلا {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (2) .
والآيات الدالة على عداوة الكفار للمسلمين كثيرة. والمقصود أنهم لا يألون جهدا، ولا يتركون سبيلا للوصول إلى أغراضهم وتحقيق أهدافهم في النيل من المسلمين إلا سلكوه، ولهم في ذلك أساليب عديدة ووسائل خفية وظاهرة.
فمن ذلك ما ظهر- في هذه الأيام - من بعض مؤسسات السفر والسياحة بتوزيع نشرات دعائية تتضمن دعوة أبناء هذا البلد لقضاء العطلة الصيفية في ربوع أوروبا وأمريكا بحجة تعلم اللغة الإنجليزية، ووضعت لذلك برنامجا شاملا لجميع وقت المسافر، وهذا البرنامج يشتمل على فقرات عديدة منها ما يلي:
أ- اختيار عائلة إنجليزية كافرة لإقامة الطالب لديها مع ما في ذلك من المحاذير الكثيرة.
ب- حفلات موسيقية ومسارح وعروض مسرحية في المدينة التي يقيم فيها.
ج- زيارة أماكن الرقص والترفيه.
د- ممارسة رقصة الديسكو مع فتيات إنجليزيات ومسابقات في الرقص.
هـ - جاء في ذكر الملاهي الموجودة في إحدى المدن الإنجليزية ما يأتي (أندية ليلية، مراقص ديسكو، حفلات موسيقى الجاز والروك، الموسيقى الحديثة، مسارح ودور سينما وحانات إنجليزية تقليدية) .
وتهدف هذه النشرات إلى تحقيق عدد من الأغراض الخطيرة منها ما يلي:
1 - العمل على انحراف شباب المسلمين وإضلالهم.
2 - إفساد الأخلاق والوقوع في الرذيلة عن طريق تهيئة أسباب الفساد وجعلها في متناول اليد.
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 2
(2) سورة البقرة الآية 217(10/8)
3 - تشكيك المسلم في عقيدته
4 - تنمية روح الإعجاب والانبهار بحضارة الغرب.
5 - تخلقه بكثير من تقاليد الغرب وعاداته السيئة.
6 - التعود على عدم الاكتراث بالدين وعدم الالتفات لآدابه وأوامره.
7 - تجنيد الشباب المسلم ليكونوا من دعاة التغريب في بلادهم بعد عودتهم من هذه الرحلة وتشبعهم بأفكار الغرب وعاداته وطرق معيشته.
إلى غير ذلك من الأغراض والمقاصد الخطيرة التي يعمل أعداء الإسلام لتحقيقها بكل ما أوتوا من قوة وبشتى الطرق والأساليب الظاهرة والخفية، وقد يتسترون ويعملون بأسماء عربية ومؤسسات وطنية إمعانا في الكيد وإبعادا للشبهة وتضليلا للمسلمين عما يرومونه من أغراض في بلاد الإسلام.
لذلك فإني أحذر إخواني المسلمين في هذا البلد خاصة وفي جميع بلاد المسلمين عامة من الانخداع بمثل هذه النشرات والتأثر بها، وأدعوهم إلى أخذ الحيطة والحذر وعدم الاستجابة لشيء منها، فإنها سم زعاف ومخططات من أعداء الإسلام تفضي إلى إخراج المسلمين من دينهم وتشكيكهم في عقيدتهم وبث الفتن بينهم، كما ذكر الله عنهم في محكم التنزيل قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (1) ( [الآية كما أنصح أولياء أمور الطلبة خاصة بالمحافظة على أبنائهم وعدم الاستجابة لطلبهم السفر إلى الخارج، لما في ذلك من الأضرار والمفاسد على دينهم وأخلاقهم وبلادهم كما أسلفنا. وإرشادهم إلى أماكن النزهة والاصطياف في بلادنا وهي كثيرة بحمد الله والاستغناء بها عن غيرها، فيتحقق بذلك المطلوب وتحصل السلامة لشبابنا من الأخطار والمتاعب والعواقب الوخيمة والصعوبات التي يتعرضون لها في البلاد الأجنبية.
هذا وأسأل الله جل وعلا أن يحمي بلادنا وسائر بلاد المسلمين وأبناءهم من كل سوء ومكروه وأن يجنبهم مكائد الأعداء ومكرهم وأن يرد كيدهم في نحورهم، كما أسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمرنا لكل ما فيه القضاء على هذه الدعايات الضارة والنشرات
__________
(1) سورة البقرة الآية 120(10/9)
الخطيرة وأن يوفقهم لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(10/10)
كتابة المصحف
باللاتينية
إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد. . .
فقد اطلع مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الاستثنائية الثالثة المنعقدة بمدينة الرياض في المدة من شهر صفر إلى السابع منه عام 1399هـ على مصحف مكتوب بالأحرف اللاتينية، أرسله الملحق الديني بسفارة المملكة العربية السعودية بجاكرتا الشيخ إبراهيم يوسف خان، وذكر أنه من كتابة المدعو بحر العلوم وطباعة مطبعة سومطرة للطباعة والنشر في مدينة تابعة لمحافظة جاوا الغربية، وأن جماعة من المغرضين قاموا بدعاية له والترغيب في اقتنائه فانتشر هناك في بلاد إندونيسيا، وفي نفس الدورة اقترح المجلس إعداد بحث في حكم كتابة المصحف بالأحرف اللاتينية، على أن يشترك مع لجنة الإعداد من يجيد بعض اللغات التي تكتب بالحروف اللاتينية ليكون معينا لها في تحقيق الغرض المقصود.
وبناء على ذلك أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الموضوع مع إشراك بعض من يجيد اللغة الإنجليزية والإندونيسية لترجمة بعض الكلمات أو الجمل، وللمساعدة في فهم المصطلحات التي كتبت
مقدمة لكتابة القرآن بالأحرف اللاتينية. ويشتمل البحث على ما يأتي:
مقدمة في تصوير الموضوع.
مبررات كتابة القرآن بالأحرف اللاتينية في زعم من فعل ذلك ومناقشتها.
الموانع من كتابته بالأحرف اللاتينية مع بيان ما في ذلك من الخطر.
خلاصة البحث.(10/11)
أولا: مقدمة في تكييف الموضوع وتصويره
تمهيد:
لما كان الحكم على كتابة المصحف بالحروف اللاتينية بالجواز أو المنع قد يتوقف على معرفة كيفية كتابته بها بدلا من الحروف العربية، وعلى معرفة رسم ما يتبع ذلك من شكل ومد وتنوين وغنة ونحو ذلك كان لزاما علينا أن نثبت أولا. . التعليمات التي وضعت لتراعى في كتابته وقراءته بالحروف اللاتينية، وأن نثبت صورة للحروف والرموز التي تستعمل في الكتابة وتراعى في القراءة وأن نذكر البديل من الحروف اللاتينية عن الحروف العربية التي ليس لها بديل مقابل في الحروف اللاتينية، وأن نذكر ثانيا أمثلة لبعض الفروق في كتابة الحروف والكلمات في النسخة الهندية التي نشرها محمد عبد الحليم الياسي، والنسخة الأندونيسية الأولى التي نشرها بحر العلوم والنسخة الثانية له، ليتبين مدى ما في ذلك من تسهيل قراءة القرآن على كثير من الأعاجم أو صعوبتها، وليتبين أيضا مدى ما في ذلك من الخطر في كتابة القرآن بالحروف اللاتينية، وبذلك يمكن ذكر دواعي الجواز ودواعي المنع، وترجيح ما يقتضي النظر ترجيحه، ولنبدأ بعرض ما ذكر فيما يأتي:(10/12)
تعليمات وإرشادات النسخ:
إرشادات النسخة الإندونيسية التي نشرها بحر العلوم والحروف والرموز التي اعتمدها فيها
كيفية قراءة القرآن الكريم بالحروف اللاتينية
يكون ابتداء تعلم قراءة القرآن الكريم بالحروف العربية غالبا من جزء (عم) والأكثر بالنسبة للأطفال يحتاج تعلمه إلى ثلاث أو أربع سنوات، وللحصول على قراءة أجود يحتاج الأطفال أحيانا إلى وقت أطول من ذلك.
ونجد كثيرا في الكلمات العربية حروفا مكتوبة في الخط ولا تنطق باللسان عند(10/12)
القراءة، وعند كتابة تلك الكلمات بالحروف اللاتينية نتخذ رموزا خاصة لها.
انظر الرموز:
1 - رموز الحروف الهجائية.
2 - رموز العلامات.
3 - رموز الوقف.
4 - رموز الشدة (التشديد) .
ورموز العلامات هذه نعتبرها دراسة تكميلية لا نحتاج إلى قراءتها.
ويمكن لك تعلم قراءة القرآن الكريم بالحروف اللاتينية في أقصر وقت، إذا كان اهتمامك له اهتماما جديا وصل إلى درجة الحب والشغف.
والطريق الوحيد الذي لا مثيل له لمثل هذا التعلم هو طريق الاستماع. بمعنى أنك تستمع لقراءة أستاذك الذي يجيد قراءة القرآن الكريم. وتنظر في نفس الوقت إلى مصحفك اللاتيني (المكتوب بالحروف اللاتينية) وكذلك بالعكس. تقرأ القرآن الكريم عن طريق مصحفك اللاتيني، والأستاذ يستمع لقراءتك وينظر إلى مصحفه العربي.
وبذلك تجد كيفية تعلم قراءة القرآن الكريم الجيدة، وطريقته الموصلة المنتجة والله نسأل أن يكون هذا المصحف نافعا لك.
وشكرا، المؤلف(10/13)
علامات التشديد:
توجد علامة التشديد في كل حرف مضعف مثال ال ل، د د، ت ت، ص ص. وغيرها لزيادة الوضوح، ووضعنا علامة فاصلة (-) .
مثال ذلك: ل ل، ت ت، ص ص وغيرها.
والأخرى التي توجد من فو
قها خط (-) لا تقرأ مثال ذلك: بسم الله الرحمن الرحيم
يوجد في البسملة 34 حرفا مع عدد الحركات. وكتب باللاتينية على نفس الأحرف أيضا يعني 34 حرفا.(10/19)
الاختلاف بين النسخ في كتابة الحروف والكلمات:
أ- اختلف اصطلاح من كتبوا القرآن بالحروف اللاتينية في البديل من الحروف اللاتينية عن الحروف العربية التي لا يوجد لها مقابل في اللاتينية، يتبين ذلك بالمقارنة فيما يأتي بين ما اقترح من الحروف اللاتينية مقابلا الحروف العربية في كتابة القرآن بالحروف اللاتينية لعدم وجود مثيل لها في اللاتينية.
ب- اختلف اصطلاح من كتبوا القرآن بالحروف اللاتينية في رسم الكلمات وتأليفها من الحروف عند البدء وعند وجود غنة أو إخفاء أو إقلاب أو مد ونحو ذلك وفي حذف (أل) القمرية والشمسية وإثباتهما وفي الكلمة الأخيرة من الآية، إذا كانت منونة، يتبين ذلك بالتطبيق والمقارنة بين النسخ في كتابة السور السبع الأخيرة من القرآن بالحروف اللاتينية.(10/35)
3 - أضف إلى ما تقدم اقتراحا آخر في كتابة القرآن بالحروف اللاتينية، فإن الكاتب في محاولته لضبط القراءة وتسهيل النطق بالكلمات قد جزأ بعض الكلمات العربية إلى مقطعين بينها خط أفقي كالفتحة، وجعل حروف المقطع الأول مع حروف الكلمة السابقة أو بعضها وحروف المقطع الثاني مع الكلمة اللاحقة أو بعضها، مثال ذلك ما اقترحه في كتابة قوله تعالى {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} (1) (الآية (الآية 50 من سورة الأنعام) فإنه كتبها بالحروف اللاتينية على النحو الآتي:
50- qul-laaa، aquulu lakum 'indii khazaaa-'inul-laahi wa laaa a- lamul-gayba wa laaa aquulu innii malak.'In'attabi-'u 'Illaa maa youhaa 'ilayy. Qul hal yasts-wil-'a'-maa wal-basiir? 'afalaa tatafak-karuun? (section 6) .
وفيما سبق من صور كتابة السور السبع بالحروف اللاتينية كثير من الأمثلة لذلك.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 50(10/46)
ثانيا: مبررات كتابة القرآن بالأحرف اللاتينية في نظر من فعل ذلك ومناقشتها:
1 - أن القرآن هو الأصل الذي يرجع المسلمون إليه في عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم، وقد حث الله تعالى على تلاوته وتدبر آياته واستنباط الأحكام منه، وأمر بتحكيمه في جميع الشئون والأحوال وبينت السنة النبوية فضائله، وحثت على تعلمه وتعليمه والتعبد بتلاوته والعمل بما فيه من أحكام، وقد عرف العرب ومن خالطهم وعاش بين أظهرهم الحروف العربية وما يتألف منها من كلمات، ومرنوا على قراءتها فسهل عليهم أن يقرءوا بها القرآن ويتعبدوا بتلاوته ويتدبروا آياته ويتعرفوا أحكامه ليعملوا بها.
أما من لغتهم غير عربية وكتابتهم وقراءتهم وتعلمهم بغير الحروف العربية وما يتألف منها من الكلام فيشق عليهم قراءة القرآن بالحروف العربية؛ فلكي تسهل عليهم قراءة القرآن، وتتضح أمامهم أبواب فهمه وتدبر آياته ومعرفة أحكامه يرخص لهم في كتابة القرآن بالحروف التي عهدوا الكتابة بها في بلادهم كاللاتينية إن لم يكن ذلك واجبا لكونه وسيلة إلى واجب، فإن التيسير من مقاصد الشريعة وقد جاءت به نصوص الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1) (وقال:
__________
(1) سورة الحج الآية 78(10/46)
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1) (وقال {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (2) (وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا (3) » رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي، وثبت عنه أنه قال: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا (4) » . . . .) رواه البخاري والنسائي، ولا شك أن كتابة القرآن بحروف اللغة التي يتكلم بها الأعاجم فيه تيسير لتلاوة القرآن عليهم ورفع للحرج عنهم وتعميم للبلاغ وإقامة الحجة عليهم.
وليس ذلك بدعا، بل هو مناسب لمقاصد الشريعة وله نظائر، فقد جمع أبو بكر الصديق رضي الله عنه القرآن خشية ضياعه بموت القراء، وجمع عثمان رضي الله عنه الناس على حرف واحد من الحروف السبعة التي بها نزل القرآن، منعا للاختلاف، ونقط المصحف وشكل في عهد بني أمية حينما أسلم كثير من الأعاجم واختلطوا بمسلمي العرب فاستعجم كثير من ألسنة أبناء العرب وخيف عليهم اللحن في التلاوة، فمحافظة على القرآن وعليهم من اللحن فيه نقط القرآن وشكل، ولم يكن ذلك منكرا بل انتهى الأمر فيه إلى الإجماع، لما فيه من تحقيق مقاصد الشريعة والعمل بمقتضاها، فليس ببعيد في حكمة المشرع أن يرخص لغير العرب في كتابة القرآن بحروف لغتهم وكلماتها رحمة بهم.
إن القرآن لم ينزل مكتوبا بالعربية أو بغيرها حتى نلتزم الحروف التي نزل مكتوبا بها، وإنما نزل وحيا متلوا، فأملاه النبي صلى الله عليه وسلم على كتبته وكان أميا، فكتبوه بما كان معهودا لديهم من الحروف، ولم يكن هناك نص من الكتاب أو السنة يلزمهم بذلك، إنما هو واقع لغتهم الذي التزموا من أجله كتابة القرآن بحروف لسانهم مع اختلاف منهم في رسم بعض الحروف وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز أن يكتب المصحف بحروف غير عربية كاللاتينية، لوجود الداعي إلى ذلك مع عدم الضرر.
ونوقش ذلك بأمور:
الأول: أن تعلم الإنسان للغة غير لغته نطقا وقراءة وكتابة أمر عادي معهود عند الناس قد درجوا عليه قديما وحديثا؛ إشباعا لغريزة حب الاستطلاع ونهمة العلم، ورغبة
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) سورة النساء الآية 28
(3) صحيح البخاري العلم (69) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1734) ، مسند أحمد بن حنبل (3/209) .
(4) صحيح البخاري الإيمان (39) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5034) .(10/47)
في نيل الشهادات، وحرصا على تبادل المنافع وتعرف الصناعات إلى غير هذا من الدواعي التي تحفز الناس إلى تعلم غير لغتهم، فلا حرج على الأعاجم في أن يتعلموا اللغة العربية كتابة وقراءة، فإن ذلك في متناول الأيدي ومستوى الطاقة البشرية بل يجب على المسلمين أن يتعلموها ليقرءوا بها القرآن ويطلعوا على السنة النبوية ويأخذوا منها أحكام الإسلام، بل هذا أحق من تعلم الإنسان غير لغته لنيل شهادة أو تعلم طب أو صناعة أو ما شابه ذلك من الأغراض الدنيوية، ومن رجع إلى ماضي المسلمين وجد من أسلم من الأعاجم قد تعلموا اللغة العربية وأسهموا كثيرا في خدمة العلوم الدينية والعربية وألفوا فيها كثيرا باللغة العربية، فألفوا في تفسير القرآن وتدوين الحديث وشرحه، بل في علم البلاغة والنحو والصرف ومعاجم اللغة وفقهها.
الثاني: أن الحاجة إلى كتابة القرآن بالحروف اللاتينية ونحوها إذا ارتفعت، أمكن الأعاجم تعلم اللغة العربية وانتفى الحرج عنهم والمشقة بذلك فلا تكون كتابة القرآن بالحروف اللاتينية ونحوها من جنس جمع أبي بكر رضي الله عنه القرآن، ولا جمع عثمان رضي الله عنه المسلمين على القراءة بحرف واحد من الحروف السبعة التي بها نزل القرآن. فإن الحاجة إلى كتابته بغير اللغة العربية وذلك في متناول البشر، بخلاف ما قام به أبو بكر وعثمان رضي الله عنهما فإن الضرورة التي ألجأت كلا منهما إلى ما قام به لحفظ القرآن ومنع الاختلاف فيه لا تذهب إلا بما فعلاه، وكذا القول في نقط القرآن وشكله، فلم يكن هناك مناص من الجمع والنقط والشكل، لعدم وجود البديل عن ذلك.
الثالث: أنه كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من يعرف غير اللسان العربي ويعرف الكتابة بغير اللغة العربية، والرسالة عامة للبشر عربهم وعجمهم، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحدا منهم أن يكتب الوحي حين ينزل بلغة غير العربية ليسهل على من أسلم ومن سيسلم من الأعاجم قراءته ولا اتخذ كاتبا للوحي منهم، بل اتخذ من الكتاب من يكتبه باللغة العربية التي بها نزل، وسار الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه على هذا النهج القويم فاختار من يكتبه باللغة العربية بل بلغة قريش ووافقه على ذلك الصحابة رضي الله عنهم فكانت كتابته باللغة العربية سنة متبعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي (1) » . .) .
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(10/48)
الرابع: أن الذين كتبوا القرآن بالحروف اللاتينية أحسوا بأن الذين يعرفون الحروف اللاتينية واعتادوا القراءة بها يشق عليهم أن يقرءوا القرآن بها، لوجود حروف في اللغة العربية ليس لها نظير في اللاتينية، فاضطروا أن يضعوا لها مقابلا، واضطروا لذلك أن يضعوا تعليمات تتكون من عشر صفحات جعلوها مقدمة لما كتبوه من القرآن بالحروف اللاتينية؛ لتسهل قراءته بها على من يعرف تلك الحروف وتعود القراءة بها، وهذه التعليمات يحتاج تعلمها والمران عليها إلى مدة وجهد إن لم يزد ذلك على تعلم الحروف العربية والقراءة بها فهو لا ينقص عنه، وعلى ذلك تكون كتابة القرآن بالعربية أرجح وأسلم، لكونها اللغة التي بها نزل، ولبعدها عن مظان التحريف والتبديل.
الخامس: أن التجزئة في كتابة كلمات الآية، وضم جزء من حروفها إلى ما سبق وآخر إلى ما لحق تشبه تقطيع كلمات البيت من الشعر حسب الأوزان المعروفة عند علماء العروض ليعرف البحر الذي هو منه، ويتبع ذلك صفة نطق للقارئ.
وتشبه أيضا النوتة الموسيقية التي يراعى فيها مطابقة الصوت للمقطع والسلم الموسيقي وهذا من البدع التي تسيء إلى القرآن الكريم.
السادس: أن كاتب القرآن بالحروف اللاتينية لم يلتزم ما تعهد به في تعليماته في كيفية الرسم الكتابي.
فمثلا نجده أحيانا يثبت الحرف اللاتيني الذي جعله عوضا عن الحركة في الكتابة العربية، وأحيانا يتركه. ونجده أحيانا يثبت خطا أفقيا بين حرفي المضعف وأحيانا يتركه، من ذلك ما وقع منه في كتابة سورة الناس بالحروف اللاتينية في النسخة الهندية والنسخة الإندونيسية الثانية إلى غير ذلك مما ينذر بالخطر، ويفضي إلى التلاعب بالقرآن الكريم، وتحريفه والإلحاد فيه، ويفتح بابا لأهل الزيغ والزندقة والكفر يدخلون منه للطعن في كتاب الله، ويشبهون على المسلمين، ويصيب القرآن بما أصيبت به التوراة والإنجيل من قبل من التغيير والتبديل، وتحريف الكلم عن مواضعه.(10/49)
ثالثا: بيان الموانع التي تمنع شرعا كتابة المصحف بحروف لاتينية ونحوها وبيان ما فيها من الخطر:(10/49)
أ- ثبت أن كتابة المصحف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي جمعه في عهد أبي بكر، وجمعه في عهد عثمان رضي الله عنهما كانت بالحروف العربية، بل قصد عثمان رضي الله عنه رسما معينا أمر بكتابته به عند اختلاف كتبة المصحف من الأنصار والقرشيين في رسم الحروف، ووافقه على ذلك الصحابة رضي الله عنهم، وأجمع عليه التابعون ومن بعدهم إلى عصرنا، رغم وجود لغات وحروف غير عربية ووجود كتبة مسلمين من غير العرب ووجود من يحتاج إلى تسهيل القراءة في المصحف بحروف غير عربية، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي (1) » فكانت المحافظة على كتابة المصحف بالحروف العربية واجبة عملا بما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، وسائر الصحابة رضي الله عنهم والقرون المشهود لها بالخير وعملا بإجماع الأمة.
ب- أن الحروف اللاتينية نوع من الحروف المصطلح على الكتابة بها عند أهلها، فهي قابلة للتغيير والتبديل بحروف لغة أخرى بل حروف لغات أخرى مرة بعد مرة، فإذا فتح هذا الباب تسهيلا للقراءة فقد يفضي ذلك إلى التغيير كلما تغيرت اللغة، واختلف الاصطلاح في الكتابة لنفس العلة، وقد يؤدي ذلك إلى تحريف القرآن بتبتديل بعض الحروف من بعض والزيادة عليها والنقص منها، ويخشى أن تختلف القراءة تبعا لذلك ويقع فيها الخلط على مر الأيام والسنين، ويجد عدو الإسلام مدخلا للطعن في القرآن بالاختلاف والاضطراب بين نسخه، وهذا من جنس البلاء الذي أصيبت به الكتب الإلهية الأولى حينما عبثت بها الأيدي والأفكار، وقد جاءت شريعة الإسلام بسد ذرائع الشر والقضاء عليها محافظة على الدين، ومنعا للشر والفساد.
ج - يخشى إذا رخص في ذلك أو أقر أن يصير كتاب الله - القرآن- ألعوبة بأيدي الناس، كلما عن لإنسان فكرة في كتابة القرآن اقترح تطبيقها فيه، فيقترح بعضهم كتابته بالعبرية وآخرون كتابته بالسريانية وهكذا مستندين في ذلك إلى ما استند إليه من كتبه بالحروف اللاتينية من التيسير ورفع الحرج والتوسع في الاطلاع والبلاغ وإقامة الحجة وفي هذا ما فيه من الخطر العظيم. وقد نصح مالك بن أنس الرشيد أو جده المنصور ألا يهدم بناء الكعبة الذي أقامه عبد الملك بن مروان ليعيدها إلى بنائها الذي بناه عبد الله بن الزبير رضي الله عنه على قواعد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، خشية أن تصير الكعبة
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(10/50)
ألعوبة بأيدي الولاة.
قال تقي الدين الفاسي في كتابه شفاء الغرام: [ويروى أن الخليفة الرشيد أو جده المنصور أراد أن يغير ما صنعه الحجاج بالكعبة وأن يردها إلى ما صنعه ابن الزبير فنهاه عن ذلك الإمام مالك بن أنس رحمه الله، وقال له: نشدتك الله لا تجعل بيت الله ملعبة للملوك لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره فتذهب هيبته من قلوب الناس. انتهى بالمعنى، ثم قال: وكأنه في ذلك لحظ أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح وهي قاعدة مشهورة معتمدة] . . اه. ولبعض العلماء كلام في بيان حكم كتابة القرآن بغير العربية نثبته فيما يلي:
ذكر جلال الدين السيوطي في (الإتقان) مسألة كتابة القرآن بغير العربية ونقل فيها عن الزركشي احتمال الجواز، وترجيح المنع من كتابة القرآن بغير الحروف العربية، قال: قال الزركشي: هل تجوز كتابته بقلم غير عربي؟ هذا مما لم أر فيه كلاما لأحد من العلماء: ويحتمل الجواز، لأنه قد يحسنه من يقرؤه بالعربية، والأقرب المنع كما تحرم قراءته بغير لسان العرب، ولقولهم القلم أحد اللسانين، والعرب لا تعرف قلما غير العربي وقد قال تعالى {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (1) - اه، ولم يعلق السيوطي على ذلك فكأنه رده.
وقد ذكر الشيخ محمد رشيد رضا في مجلة المنار أن بعض المسلمين في الترنسفال كتب إلى جريدة في مصر ثلاثة أسئلة لعرضها على بعض علماء الأزهر فعرضتها على الشيخ محمد بخيت فأجاب عنها ونشرت الجريدة أجوبتها. أحد الأسئلة عن التزوج بأخت الرضيعة وجوابه معروف وهو أنه لا يحرم على الرجل إلا من رضعت هي وإياه من امرأة، وأما أخت الرضيعة فلا تحرم. والسؤال الثاني يتعلق بالاقتداء بالمخالف وبينا الراجح فيه عندنا في آخر الجزء الماضي وأن في المسألة قولين مصححين ولكن الشيخ ذكر أن الأصح خلاف ما رجحناه وهو المذكور في كتب الفقه وهم أسرى تلك الكتب.
وأما السؤال المهم فهو ما جعلناه عنوانا لهذه النبذة (أي كتابة القرآن بالحروف
__________
(1) سورة الشعراء الآية 195(10/51)
الإنكليزية) وقد أجاب عنه الشيخ بجواب ننقله عن تلك الجريدة مع السؤال ثم نبين رأينا فيه وهو:
(سؤال - ما قولكم- علماء الإسلام ومصابيح الظلام- أدام الله وجودكم- هل يجوز كتابة القرآن الكريم بالحروف الإنكليزية والفرنسية مع أن الحروف الإنكليزية ناقصة عن الحروف العربية ومعلوم أن القرآن الكريم أنزل على لسان قريش فالإنكليزي مثلا إذا أراد أن يكتب مصر بالإنكليزية تقرأ (مسر) أو أحمد تكتب (أهمد) ويكتب (شيك) بمعنى شيخ، لا سيما وإخواننا المسلمون في مصر يعرفون اللغة الإنكليزية وغيرها، وبعض المسلمين في جنوبي أفريقية في جدال عنيف منهم من يجوز ومنهم من يقول غير جائز.
أفيدونا ولكم الأجر والثواب من الله تعالى؟
(جواب - اعلم أن القرآن هو النظم أي اللفظ الدال لأنه الموصوف بالإنزال والإعجاز وغير ذلك من الأوصاف التي لا تكون إلا للفظ. وأما المعنى وحده فليس بقرآن حقيقة. وقيل إن القرآن حقيقة هو المعنى ويطلق على اللفظ مجازا. والحق هو الأول وعليه فلا يجوز قراءة القرآن بغير العربية لقادر عليها وتجوز القراءة والكتابة بغير العربية للعاجز عنها بشرط أن لا يختل اللفظ ولا المعنى. فقد كان تاج المحدثين الحسن البصري يقرأ القرآن في الصلاة بالفارسية لعدم انطلاق لسانه باللغة العربية. وفي النهاية والدراية أن أهل فارس كتبوا إلى سلمان الفارسي بأن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية فكتب فكانوا يقرأون ما كتب في الصلاة حتى لانت ألسنتهم وقد عرض ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه. وفي النفحة القدسية في (أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية) ما يؤخذ منه حرمة كتابة القرآن بالفارسية إلا أن يكتب بالعربية ويكتب تفسير كل حرف وترجمته ويحرم مسه لغير الطاهر اتفاقا. وفي كتب المالكية أن ما كتب بغير العربية ليس بقرآن بل يعتبر تفسيرا له. وفي الإتقان للسيوطي عن الزركشي أنه لم ير كلاما لعلماء مذهبه في كتابة القرآن بالقلم الأعجمي وأنه يحتمل الجواز لأنه قد يحسنه من يقرؤه بالعربية والأقرب المنع كما تحرم قراءته بغير العربية، ولقولهم القلم أحد اللسانين والعرب لا تعرف قلما غير العربي وقد قال تعالى {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (1) (
__________
(1) سورة الشعراء الآية 195(10/52)
فتلخص من ذلك أن المنصوص عند الحنفية جواز القراءة والكتابة بغير العربية للعاجز عنها بالشروط المار ذكرها، وأن الأحوط أن يكتبه بالعربية ثم يكتب تفسير كل حرف وترجمته بغيرها كالإنكليزية) اه.
(المنار) : عندنا مسألتان إحداهما ترجمة القرآن إلى لغة أعجمية أي التعبير عن معانيه بألفاظ أعجمية يفهمها الأعجمي دون العربي وهذه هي التي سألنا عنها الفاصل الروسي ونشرنا السؤال والجواب في هذا الجزء. والثانية كتابة القرآن العربي بحروف غير عربية وهذه هي التي يسأل عنها السائل الترنفالي، وقد رأى القراء أن جواب المجيب عنها مضطرب والنقول التي نقلها مضطربة لذلك رأينا أن ننقله ونحرر القول في المسألة تحريرا.
المقصود من الكتابة أداء الكلام بالقراءة فإذا كانت الحروف الأعجمية التي يراد كتابة القرآن بها لا تغني غناء الحروف العربية لنقصها كحروف اللغة الإنكليزية فلا شك أنه يمتنع كتابة القرآن بها، لما فيها من تحريف كلمه، ومن رضي بتغيير كلام القرآن اختيارا فهو كافر. وإذا كان الأعجمي الداخل في الإسلام لا يستقيم لسانه بلفظ محمد فينطق بها (مهمد) وبلفظ خاتم النبيين فيقول (كاتم النبيين) فالواجب أن يجتهد بتمرين لسانه حتى يستقيم، وإذا كتبنا له أمثال هذه الكلمات بحروف لغته فقرأها كما ذكر فلن يستقيم لسانه أبد الدهر، ولو أجاز المسلمون هذا للرومان والفرس والقبط والبربر والإفرنج وغيرهم من الشعوب التي دخلت في الإسلام لعلة العجز لكان لنا اليوم أنواع من القرآن كثيرة، ولكان كل شعب من المسلمين لا يفهم قرآن الشعب الآخر.
وإذا كانت الحروف الأعجمية التي يراد كتابة القرآن بها مما تتأدى بها القراءة على وجهها من غير تحريف ولا تبديل كحروف اللغة الفارسية مثلا، ففي المسألة تفصيل والذي نقطع به بأن الكتابة بخطها لا تكون إخلالا بأصل الدين ولا تلاعبا به، وإن هو خالف الخط العربي فالفرق بين الخط العربي المعروف والخط الكوفي أبعد من الفرق بين الخطين العربي والفارسي ونرى علماء المذاهب متفقين على هذه الخطوط كلها ولكنهم يعتقدونها عربية. وإذا قيل إنها مختلفة اختلافا لا يكفي لمتعلم أحدها أن يقرأ الآخر كالكوفي والفارسي: نقول قصارى ما يدل عليه ذلك أن كل خط جائز بشرطه ولكن عندنا ما يدل على أنه ينبغي الاتفاق على خط واحد، فهم المسلمون هذا من روح الإسلام، فكانوا متحدين في كل عصر على كتابة القرآن بخط واحد يتبع فيه رسم(10/53)
المصحف الإمام لا يتعدى إلا إلى زيادة في التحسين والإتقان. ذلك من آيات حفظ الله له وهو عندي واجب، فإن القرآن هو الصلة العامة بين المسلمين، والعروة الوثقى التي يستمسك بها جميع المؤمنين، ومن التفريط فيه أن يفد المسلم القارئ على مصر قادما من الصين فلا يستطيع قراءة مصاحفها وكذا يقال في سائر الشعوب. وتصريح كثير من الأئمة بأن خط المصحف توقيفي وأنه لا يجوز التصرف فيه يؤيد ما ذهبنا إليه.
ولقائل أن يقول: إن في هذا الرأي تضييقا على نشر القرآن. وتوسيع دائرة الدعوة إلى الإسلام، وإننا نرى النصارى قد ترجموا أناجيلهم إلى كل لغة، وكتبوها بكل قلم، حتى إنهم ترجموا بعضها بلغة البرابرة. فما بال المسلمين يضيقون، وغيرهم يتوسعون، ولنا أن نقول في الجواب: إننا جوزنا ترجمة القرآن لأجل الدعوة عند الحاجة إلى ذلك ولا شك أن الترجمة تكتب باللغة التي هي بها. ولكن المسلم الذي يقرأ القرآن بالعربية لا يحتاج إلى كتابته بحروف أعجمية إلا في حالة واحدة وهي تسهيل تعليم العربية على أهل اللسان الأعجمي الذي يدخلون في الإسلام وهم قارئون كاتبون بحروف ليست من جنس الحروف العربية.
وإذا وجد للإسلام دعاة يعملون بجد ونظام كالدعاة من النصارى فلهم أن يعملوا بقواعد الضرورات ككونها تبيح المحظورات وكونها تقدر بقدرها فإذا رأوا أنه لا ذريعة إلى نشر القرآن واللغة العربية إلا بكتابة الكلام العربي بحروف لغة القوم الذين يدعونهم إلى الإسلام ويدخلونهم فيه فليكتبوه ما داموا في حاجة إليه، ثم ليجتهدوا في تعليم من يحسن إسلامهم الخط العربي بعد ذلك ليقووا رابطتهم بسائر المسلمين.
وكما يعتبر هذا القائل بترجمة القوم لكتهبم فليعتبر بحرص الأمم الحية منهم على لغاتهم وخطوطهم. فاللغة الإنكليزية أكثر اللغات شذوذا في كلمها وخطها ونرى أهلها يحاولون أن يجعلوها لغة جميع العالمين وهم يبذلون في ذلك العناية العظيمة والأموال الكثيرة فمالنا لا نعتبر بهذا؟
وفي جواب الشيخ بخيت مباحث ليس من غرضنا التوسع فيها، ونكتفي بأن نقول إن ما يصح أن ينظر فيه من نقوله هو ما ذكره عن السلف، فأثر سلمان إن أريد به أنه كتب لهم ترجمة الفاتحة بلغة الفرس فكيف يكون ذلك وسيلة للين ألسنتهم، وهم لم يقرءوا إلا(10/54)
بلغتهم. وإن أريد به أن كتبها بالخط الفارسي فالخط الفارسي قريب من العربي ولا دخل له أيضا بلين الألسنة. والصواب أن الأثر غير صحيح، وأما الحسن البصري الذي ذكره فما هو الحسن التابعي المشهور وكأنه أحد الفرس الحنفية ولا حجة في قوله فكيف يحتج بعمله. على أن فيه ما في الذي قبله وهو أن القراءة بالفارسية لا يلين بها اللسان للعربية، إلا أن يقال كان يقرأ الترجمة حتى تمرن لسانه على العربية باستعمالها وممارسة الكلام فيها. انتهى كلام الشيخ محمد رشيد.(10/55)
رابعا: الخلاصة:
1 - ذكر ناشروا نسخ المصاحف التي كتبوها بالحروف اللاتينية مقدمات بينوا فيها الحروف اللاتينية ورمزوا لما يتبعها من شكل ومد وغنة ووقف ووصل، وذكروا معها توجيهات لكيفية استعمالها كتابة وقراءة تسهيلا- في نظرهم- على من يريد كتابة القرآن وقراءته على هذه الطريقة، ومحافظة على القرآن من دخول أي تغيير عليه.
2 - يتبين بالمقارنة بين النسخة الهندية والنسخة الإندونيسية الأولى والثانية أن بينهما اختلافا فيما يأتي:
أ) في الحروف اللاتينية التي اقترحت لتكون بديلا عن الحروف العربية التي ليس لها مقابل في اللاتينية.
ب) في حذف (ال) القمرية و (ال) الشمسية من النسخة الهندية وإثباتهما في الإندونيسية، وحذف الحرفين اللذين جعلا علامة على التنوين مطلقا من آخر الكلمة الأخيرة من كل آية من النسخة الهندية والإندونيسية الثانية وإثباتهما في النسخة الإندونيسية الأولى، وحذف بديل النون والتنوين في بعض أنواع الإدغام من النسخة الهندية والإندونيسية الثانية وإثباتهما في الإندونيسية الأولى إلى غير ذلك من الحذف في بعضها والإثبات في الآخر.
ج) في رسم الكلمة بتجزئتها إلى مقطعين وعدم تجزئتها، والفصل بين حرفين المضعف بخط كالفتحة وعدم الفصل. . . إلخ.(10/55)
وكل ذلك يتبين بمراجعة السور السبع في النسخ الثلاث المكتوبة بالحروف اللاتينية والمقارنة بينهما.
3 - لكتابة القرآن بالحروف اللاتينية مبررات:
أ) منها تسهيل كتابته وقراءته على كثير من الأعاجم، وتيسير طريق البلاغ والدعوة إلى الإسلام وإقامة الحجج وتعميم ذلك في السواد الأعظم من غير العرب، ولا شك أن هذا من مقاصد الشريعة، ونظيره جمع أبي بكر رضي الله عنه القرآن، خشية ضياعه بموت القراء وجمع عثمان رضي الله عنه القرآن على قراءة واحدة من السبع التي بها نزل القرآن، خشية الاختلاف، ونقط القرآن وشكله في عهد بني أمية؛ تسهيلا لقراءته على من استعجمت ألسنتهم من أبناء العرب وصيانة لهم من اللحن في التلاوة، وكل ذلك ليس بمنكر، بل فيه تحقيق مقاصد الشريعة، تسهيلا ودعوة وبلاغا وحفظا للقرآن وصيانة له، فليرخص في كتابته بالحروف اللاتينية لمثل ذلك.
ب) ومنها أن القرآن لم ينزل مكتوبا بل نزل وحيا متلوا، فكتبه الصحابة بما كان معهودا لديهم من الحروف، وليس هنا نص من الكتاب أو السنة يلزم الأمة بذلك، فلم لا تجوز كتابة المصحف بحروف لاتينية مثلا لوجود الداعي إلى ذلك مع عدم الضرر.
ونوقش ذلك بأمور:
أ) منها أن تعلم الأعاجم اللغة العربية سهل لا حرج فيه ولا خطر، فإنه عهد أن كثيرا من الناس يتعلمون غير لغتهم حبا للاستطلاع ووسيلة لدراسة بعض العلوم، وحرصا على تبادل المنافع، وأن كثيرا من الأعاجم الذين أسلموا تعلموا اللغة العربية وخدموا الإسلام، بل تحولت دول عن لغتها إلى اللغة العربية. بخلاف ما ذكر من جمع القرآن ونقطه وشكله، فإن المصلحة لا تتحقق إلا بذلك، ولا يدفع الخطر المتوقع إلا به، وعلى هذا لا اعتبار بما ادعى أنه نظائر، ولا للاستشهاد به للترخيص في كتابة القرآن بحروف غير عربية، لوجود الفارق.
ب) كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من يعرف غير العربية والوحي ينزل، ولم يتخذ منهم من يكتب القرآن بغير العربية من الفارسية والحبشية والسريانية ونحوها، تيسيرا على الأمة وإعانة على تعميم البلاغ وإقامة الحجة مع علمه بعموم الرسالة وعلم الله تعالى(10/56)
بأحوال الأمم واختلاف لغاتها، فإعراضه صلى الله عليه وسلم عما سمي دواعي ومبررات لكتابة القرآن بالحروف اللاتينية، وتقرير الله له على ذلك فيه إلغاء لتلك المبررات وإهدار لها فلا يصح بناء الترخيص عليها.
ج) أن الذين كتبوا المصحف بالحروف اللاتينية أحسوا بأن مجرد كتابته بها لا يحقق التسهيل لوجود حروف عربية ليس لها مقابل من الحروف اللاتينية فاضطروا أن يقترحوا لها مقابلا، واضطروا أن يقارنوا بين الحروف العربية وتوابعها من الشكل والمد ونحوها وبين الحروف اللاتينية والرموز التي وضعت للتوابع، واضطروا أن يضعوا إرشادات قد وصلت في بعض النسخ أربعة عشر صفحة، وهذا يحتاج تعليمه والمران عليه كتابة وقراءة إلى جهد، إن لم يزد على العربية كتابة وقراءة فهو لا ينقص عنه، وإذن فكتابة القرآن بالعربية أرجح وأسلم لكونها اللغة التي بها نزل، ولبعدها عن مظان التحريف والتبديل.
د) أن التجزئة في كتابة كلمات الآية، وضم جزء من حروفها إلى ما سبق وآخر إلى ما لحق تشبه تقطيع كلمات البيت من الشعر حسب الأوزان المعروفة عند علماء العروض ليعرف البحر الذي هو منه، ويتبع ذلك صفة نطق القارئ.
وتشبه أيضا النوتة الموسيقية التي يراعى فيها مطابقة الصوت للمقطع والسلم الموسيقي وهذا من البدع التي تسيء إلى القرآن الكريم.
هـ) أن كاتب القرآن بالحروف اللاتينية لم يلتزم ما تعهد به في تعليماته في كيفية الرسم الكتابي.
فمثلا نجده أحيانا يثبت الحرف اللاتيني الذي جعله عوضا عن الحركة في الكتابة العربية، وأحيانا يتركه. ونجده أحيانا يثبت خطا أفقيا بين حرفي المضعف وأحيانا يتركه، من ذلك ما وقع منه في كتابته سورة الناس بالحروف اللاتينية في النسخة الهندية والنسخة الإندونيسية الثانية إلى غير ذلك مما ينذر بخطر، ويفضي إلى التلاعب بالقرآن الكريم، وتحريفه والإلحاد فيه، ويفتح بابا لأهل الزيغ والزندقة والكفر يدخلون منه للطعن في كتاب الله، ويشبهون على المسلمين، ويصيب القرآن بما أصيبت به التوراة والإنجيل من قبل التغيير والتبديل، وتحريف الكلام عن مواضعه.(10/57)
هناك أمور تقتضي كتابة القرآن بالحروف العربية خاصة منها: أ) أنه كتب حين نزوله وفي جمع أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما إياه بالحروف العربية، ووافق على ذلك سائر الصحابة رضي الله عنهم، وأجمع عليه التابعون ومن بعدهم إلى عصرنا، رغم وجود الأعاجم، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي (1) » . . .) الحديث. فوجبت المحافظة على ذلك عملا بما كان في عهده صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم وعملا بإجماع الأمة.
ب) أن حروف اللغات من الأمور المصطلح عليها فهي قابلة للتغيير عدة مرات بحروف أخرى، فيخشى إذا فتح هذا الباب أن يفضي إلى التغيير كلما اختلف الاصطلاح، ويخشى أن تختلف القراءة تبعا لذلك، ويحصل الخلط على مر الأيام، ويجد عدو الإسلام مدخلا للطعن في القرآن بالاختلاف والاضطراب، كما حصل بالنسبة للكتب السابقة، فوجب أن يمنع ذلك محافظة على أصل الإسلام، وسدا لذريعة الشر والفساد.
ج) يخشى إذا رخص في ذلك أو أقر أن يصير القرآن ألعوبة بأيدي الناس، فيقترح كل أن يكتب بلغته وبما يجد من اللغات، ولا شك أن ذلك مثار اختلاف وضياع، فيجب أن يصان كتاب الله عن ذلك، صيانة للإسلام، وقد تنبه علماء الإسلام لذلك فحرموا كتابته بغير العربية، حفظا للقرآن وصيانة له من العبث والاضطراب.
وليس فيما ذكر استقصاء لمكامن الشر، ومثار الخطر، وإنما هي نماذج مما وقع من الاختلاف والخلط وتمثيل لما يخشى منه وقوع البلاء.
هذا ولم تتعرض اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء لما جاء في مقدمة النسخة الهندية من الكذب في الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفضيل حبر العالم على دم الشهيد، ومن الغلو في الثناء على محمد عبد الحليم الياسي بجعل ما اقترحه ونشره من كتابة القرآن بالحروف اللاتينية مما يتحدى به كما يتحدى بالقرآن، كما لم تتعرض اللجنة لما قد يكون من أخطاء في ترجمة معاني القرآن المطبوعة مع الترجمة الصوتية في النسخة الهندية والنسخة الإندونيسية الثانية، فإن ذلك ليس من موضوع بحثها الذي كلفت به، ثم إن ترجمة معاني القرآن موضوع مستقل يحتاج إلى بحث خاص في حكمه وفي طريق تطبيقه
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(10/58)
وفيما وقع منه، وقد خاض العلماء فيه من قبل، ونرجو أن يوفقهم الله تعالى لإكمال ما بدءوه. والله المستعان.
وأخيرا فالبحث في هذا الموضوع للكشف عن جوانبه وإيضاح الحق فيه وإن كان مهما فأهم منه اللقاء بمن نشروا نسخا من الترجمة الصوتية للقرآن، ومن أثنوا عليها من العلماء والبحث معهم في الموضوع، وأهم من الأمرين قيام الحكام في الدول الإسلامية بواجبهم نحو حفظ كتاب الله بعد ظهور الحق.
والله الموفق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
أعضاء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس ... نائب رئيس اللجنة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد الرزاق عفيفي
عضو ... عضو
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان(10/59)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شؤونهم الدينية والاجتماعية(10/61)
فتوى رقم 120 في 22 \ 1 \ 1392هـ الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: أوصى أب أولاده بتحويل جثته بعد موته من بلده إلى المدينة المنورة ليدفن في بقيع الغرقد، فما حكم نقل الجثة من بلد إلى آخر لتدفن فيه؟
الجواب: كانت السنة العملية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد أصحابه أن يدفن الموتى في مقابر البلد الذي ماتوا فيه، وأن يدفن الشهداء حيث ماتوا، ولم يثبت في حديث ولا أثر صحيح أن أحدا من الصحابة نقل إلى غير مقابر البلد الذي مات فيه أو في ضاحيته أو مكان قريب منه.
ومن أجل هذا قال جمهور الفقهاء لا يجوز أن ينقل الميت قبل دفنه إلى غير البلد الذي مات فيه إلا لغرض صحيح مثل أن يخشى من دفنه حيث مات من الاعتداء على قبره، أو انتهاك حرمته لخصومة أو استهتار وعدم مبالاة، فيجب نقله إلى حيث يؤمن عليه، ومثل أن ينقل إلى بلده تطييبا لخاطر أهله وليتمكنوا من زيارته فيجوز، أو ينقل من بلده إلى بلد أفضل رجاء البركة، وإلى جانب هذه الدواعي وأمثالها اشترطوا أن لا يخشى عليه التغير من التأخير، وأن لا تنتهك حرمته، فإن لم يكن هناك داع أو لم توجد الشروط لم يجز نقله.
إلا أن الإذن في النقل إلى بلد أفضل رجاء البركة مع ما فيه من شائبة قد تكون سيئة تفتح بابا ربما يصعب سده فيما بعد، حيث يتتابع الناس في ذلك ويكثر منهم طلب الإذن لنفس الغرض. فترى اللجنة أن يدفن كل ميت في مقابر البلد الذي مات فيه وأن لا ينقلوا إلا لغرض صحيح عملا بالسنة، واتباعا لما كان عليه سلف الأمة، وسدا للذريعة، وتحقيقا لما حث عليه الشرع من التعجيل بالدفن وصيانة للميت من(10/62)
إجراءات تتخذ في جثته لحفظها من التغيير، وتحاشيا من الإسراف بإنفاق أموال طائلة من غير ضرورة ولا حاجة شرعية تدعو إلى إنفاقها مع مراعاة حقوق الورثة وتغذية المصارف الشرعية وأعمال البر التي ينبغي أن ينفق فيها هذا المال وأمثاله، وعلى هذا حصل التوقيع.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
أعضاء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(10/63)
فتوى رقم 50 في 17 \ 3 \ 1392هـ الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: هل يجوز هدم مسجد قديم قائم ليبنى محله مكتبة عامة، وإذا كان ممكنا فهل يجوز أخذ العوض عن مكان المسجد أم أن الخيار متروك للقائمين على المسجد ليقبلوا مسجدا جديدا في مكان آخر؟
الجواب: لا يجوز هدم مسجد قائم، ولو كان قديما، لمجرد أن يبنى مكانه مكتبة عامة، بل لا يجوز بناء مكتبة عامة مكانه لو كان منهدما.
وإنما الواجب ترميمه إن كان قديما وبناء مسجد مكانه إن كان منهدما ولو ببيع بعضه لإصلاح باقيه، لأن الأصل في الوقف ألا يباع ولا يوهب ولا يورث لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب لما رغب التصدق بماله في خيبر: «تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث ولكن تنفق ثمرته (1) » فكان هذا بيانا عاما في كل وقف. واستثنى العلماء من ذلك ما
__________
(1) صحيح البخاري الوصايا (2764) ، صحيح مسلم الوصية (1633) ، سنن الترمذي الأحكام (1375) ، سنن النسائي الأحباس (3604) ، سنن أبو داود الوصايا (2878) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2396) ، مسند أحمد بن حنبل (2/125) .(10/63)
إذا تعطلت منافعه أو كان نقله إلى مكان آخر أرغب فيه وأكثر انتفاعا به وأصلح له. فيجوز بيعه أو مبادلته بمكان آخر، وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما بلغه أنه قد نقب بيت المال بالكوفة [انقل المسجد الذي بالثمارين واجعل بيت المال في قبلة المسجد فإنه لن يزال في المسجد فيصلى] وكان هذا بمشهد من الصحابة، ولم يظهر خلافه فكان إجماعا، ولأن في ذلك إبقاء للوقف بمعناه عند تعذر إبقائه بصورته. . على أن يكون البيع أو الإبدال- في حال الجواز - على يد الحاكم الشرعي أو نائبه احتياطا للوقف ومحافظة عليه من التلاعب فيه.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(10/64)
فتوى رقم 549 في 22 \ 1 \ 1393هـ الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: توفي لي طفل عمره ستة أشهر، وذهبت به إلى المقبرة ودفنته فيها دون أن أصلي عليه سهوا مني، علما بأني لا أعرف جهة القبر الذي دفنت فيه الطفل، فهل هناك صدقة تجزئ عن الصلاة عليه أو أي عمل آخر يجزئ عن الصلاة عليه؟
الجواب: ليس هناك عمل آخر يجزئ عن صلاة الجنازة على الميت طفلا أو كبيرا، لا الصدقة ولا غيرها من أفعال البر، وعليك أن تذهب إلى المقبرة التي دفنته في قبر منها،(10/64)
وتجعل المقبرة بينك وبين القبلة وتصلي صلاة الجنازة على هذا الطفل متطهرا مستكملا لباقي شروط الصلاة، ويكفيك ذلك حيث إنك لا تعرف قبر الطفل بعينه. قال الله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (1) وقال {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه (3) » والله الموفق
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(2) سورة التغابن الآية 16
(3) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الحج (1337) ، سنن الترمذي العلم (2679) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .(10/65)
السؤال الثاني: إذا مات ميت قبل منتصف الليل أو بعد منتصف الليل، فهل يجوز دفنه ليلا، أو لا يجوز دفنه إلا بعد طلوع الفجر؟
الجواب: يجوز دفن الميت ليلا، لما روى ابن عباس - رضي الله عنهما قال: «مات إنسان كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فمات بالليل فدفنوه ليلا، فلما أصبح أخبروه، فقال: ما منعكم أن تعلموني، قالوا كان الليل، وكانت ظلمة، فكرهنا أن نشق عليك، فأتى قبره فصلى عليه (1) » ، رواه البخاري ومسلم، فلم ينكر دفنه ليلا، وإنما أنكر على أصحابه أنهم لم يعلموه به إلا صباحا، فلما اعتذروا إليه قبل عذرهم، وروى أبو داود عن جابر قال: رأى ناس نارا في المقبرة فأتوها، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المقبرة يقول: «ناولوني صاحبكم، وإذا هو الذي كان يرفع صوته بالذكر (2) » . وكان ذلك ليلا كما يدل عليه قول جابر رأى ناس نارا في المقبرة إلخ.
ودفن النبي صلى الله عليه وسلم ليلا.
وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي من آخر الليل، ليلة الأربعاء.
والمساحي هي الآلات التي يجرف بها التراب، ودفن أبو بكر وعثمان وعائشة وابن مسعود ليلا وما روي مما يدل على كراهة الدفن ليلا فمحمول على ما إذا كان التعجيل بدفنه ليلا لكونه ليس من ذوي الشأن فلم يبقوه إلى الصباح ليحضر عليه الناس أو
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1247) ، صحيح مسلم الجنائز (954) ، سنن الترمذي الجنائز (1037) ، سنن النسائي الجنائز (2023) ، سنن أبو داود الجنائز (3196) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1530) ، مسند أحمد بن حنبل (1/338) .
(2) سنن أبو داود الجنائز (3164) .(10/65)
لكونهم لما أساءوا كفنه عجلوا بدفنه فزجرهم لذلك، أو محمول على بيان الأفضل ليصلي عليه كثير من المسلمين ولأنه أسهل على من يشيع جنازته وأمكن لإحسان دفنه، واتباع السنة في كيفية لحده وهذا إذا لم توجد ضرورة إلى تعجيل دفنه، والأوجب التعجيل بدفنه ولو ليلا.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(10/66)
فتوى رقم 74 في 22 \ 4 \ 1392هـ الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: اعتاد أهل بلادنا الجلوس للتعزية عند وفاة شخص منهم أسبوعا أو أكثر وغلوا في ذلك فأنفقوا كثيرا من الأموال في الذبائح وغيرها وتكلف المعزون فجاءوا وافدين من مسافات بعيدة ومن تخلف عن التعزية خاضوا فيه ونسبوه إلى البخل وترك ما يظنونه واجبا في ذلك؟
الجواب: التعزية مشروعة، وفيها تعاون على الصبر على المصيبة ولكن الجلوس للتعزية على الصفة المذكورة واتخاذ ذلك عادة، لم يكن من عمل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن من عمل أصحابه، فما اعتاده الناس من الجلوس للتعزية حتى ظنوه شيئا وأنفقوا فيه الأموال الطائلة، وقد تكون التركة ليتامى، وعطلوا فيه مصالحهم ولاموا فيه من لم يشاركهم ويفد إليهم كما يلومون من ترك شعيرة إسلامية.(10/66)
هذا من البدع المحدثة التي ذمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في عموم قوله: «من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » وفي الحديث «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة (2) » فأمر باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده وهم لم يكونوا يفعلون ذلك وحذر من الابتداع والإحداث في الدين وبين أنه ضلال، فعلى المسلمين أن يتعاونوا على إنكار هذه العادات السيئة والقضاء عليها اتباعا للسنة وحفظا للأموال والأوقات وبعدا عن مثار الأحزان والتباهي بكثرة الذبائح ووفود المعزين وطول الجلسات. وليسعهم ما وسع الصحابة والسلف الصالح من تعزية أهل البيت وتسليته والصدقة عنه والدعاء له بالمغفرة والرحمة. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(10/67)
فتوى رقم 345 في 25 \ 11 \ 1392هـ الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: يوجد في قريتي مقبرة تتخللها بعض أشجار الرمث، ويوجد تحت هذه الأشجار جحور جرذان، فإذا أتت الأمطار دخلت إلى القبور عن طريقها ثم جاءت الثعالب فوسعتها وأخرجت بعض عظام الموتى، فهل يجوز قطع هذه الأشجار لسد فتحات القبور؟(10/67)
الجواب: إذا كان الأمر كما ذكره السائل في سؤاله من تصوير حال هذه الأشجار وما تحتها من بيوت الجرذان وتسلط الثعالب عليها بالعبث، فلا يظهر بأس من قطع الأشجار وسد فوهات بيوت الجرذان صيانة للقبور من الأمطار ومن عبث الثعالب وغيرها بعظام الموتى، وبالله التوفيق
وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(10/68)
فتوى رقم 335 في 11 \ 1 \ 1393هـ الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: هل يجوز دفن غير المسلمين في مقابر المسلمين؟ أم ترحل جثثهم إلى بلادهم لتدفن فيها؟
الجواب: لا يجوز أن يدفن غير المسلم مع المسلمين في مقابرهم، بل يدفن بعيدا عنهم لأنهم يتأذون بمجاورته إياهم، وهذا ما نص عليه العلماء رحمهم الله في كتبهم بل لقد ذكروا مسألة يتضح منها موقفهم رحمهم الله من موتى غير المسلمين وتعين إبعادهم عن مقابر المسلمين، فقد جاء في المقنع، [وإن ماتت ذمية حامل من مسلم دفنت وحدها ويجعل ظهرها إلى القبلة] ، وقال في حاشيته تعليلا لذلك لأنها كافرة فلا تدفن في مقبرة المسلمين وولدها محكوم بإسلامه فلا يدفن بين الكفار.
ونظرا إلى أن بلادنا- حماها الله ومكن لولاتها- ليس فيها مستوطنون بجنسية(10/68)
حكومتها غير مسلمين فإن من مصلحتها وتقليل مشاكلها مع غير المسلمين عدم تخصيص مقبرة لهم فيها، فمن مات منهم وطلب أولياؤه نقل جثته إلى بلاده فتحسن إجابتهم لذلك، ومن كان أولياؤه عاجزين عن نقل جثته فأمر دفنه راجع لنظر ولي الأمر- حفظه الله - وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(10/69)
فتوى رقم 364 في 22 \ 11 \ 1393هـ الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: يوجد عندي قطعة أرض زراعية، وفي طرفها من الشرق قطعة أرض حرم لمزرعتي، يحد الحرم من الغرب مزرعتي، ومن الشرق سبيل، ومن الجنوب والشمال ملك لغيري، وقد أردت إصلاحها، وعندما حضرت أساس البناء وجدت بها بعض القبور البائدة، وليس يوجد بها إلا بقايا من العظام، ولحاجتي لهذه الأرض أرجو الاطلاع وإفتائي في ذلك؟
وبعد دراسة اللجنة للسؤال أجابت بما يلي:
الجواب: تبين من كلامك أن الأرض التي سألت عنها مقبرة، وأن مزرعتك تحدها من الغرب، وليست من مزرعتك، وحيث وجدت بها عند حفرها قبورا بائدة، وفي القبور عظام باعترافك فليسك ملكا لك ولا حرما لمزرعتك بل هي وقف على من دفن بها(10/69)
ولا يحل لك ولا لغيرك تملكها أو الانتفاع بأرضها في سكنى أو زراعة أو بناء أو نصب خيام أو نحو ذلك وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(10/70)
فتوى رقم 1520 في 19 \ 3 \ 1397هـ الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: رجل وعد بمنح قطعة أرض ليقام عليها مدرسة، غير أن تنفيذ ذلك مشروط بجواز رجوعه عن وعد سابق بمنحها ليبنى عليها مسجد عيد، فهل يختار منحها لمسجد العيد وفاء بالوعد السابق أو منحها لوزارة المعارف لتقيم عليها مدرسة علما بأن هناك مسجدا لصلاة العيد في المنطقة؟
الجواب: إن كان الرجل منح قطعة الأرض بالفعل ليقام عليها مسجد عيد فهي لمسجد العيد، وليس له أن يرجع في منحته، وإن كان الذي حصل منه مجرد وعد بمنح قطعة الأرض ليقام عليها المسجد فخير له أن ينفذ ما وعد به وفاء بالوعد. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(10/70)
فتوى رقم 501 في 28 \ 6 \ 1393هـ الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: ما هو الثواب والأجر الذي يعود على الميت من الصدقة عنه؟ فمثلا: هل الصدقة عن الميت تزيد في أعماله الحسنة؟
الجواب: الصدقة عن الميت من الأمور المشروعة، وسواء كانت هذه الصدقة مالا أو دعاء، فقد روى مسلم في الصحيح، والبخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (1) » فهذا الحديث يدل بعمومه على أن ثواب الصدقة يصل إلى الميت، ولم يفصل النبي صلى الله عليه وسلم بين ما إذا كانت بوصية منه أو بدون وصية فيكون الحديث عاما في الحالتين، وذكر الولد فقط في الدعاء للميت لا مفهوم له بدليل الأحاديث الكثيرة الثابتة في مشروعية الدعاء للأموات كما في الصلاة عليهم، وعند زيارة القبور، فلا فرق أن تكون من قريب، أو بعيد عن الميت. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .(10/71)
فتوى رقم 549 في 25 \ 9 \ 1393هـ الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: يوجد قبر في ناحية من أرضي، وصاحب هذا القبر مجهول، ووقف معي على هذا القبر قاضي البلدة ومعه ثلاثة من المسنين، فتبين، أن القبر في الركن الجنوبي الشرقي من أرضي وأنه قديم جدا، والناحية التي يقع فيها القبر لا يعلم أنها كانت مقبرة، والأرض الواقعة جنوبا من أرضي كانت مقبرة، ولم يتوقف الدفن فيها إلا بعد أن كثرت السيارات، وصارت تطرق ما حولها؟
الجواب: ما دام الأمر كما ذكر من أن القبر قديم لا يعرف صاحبه ولا يعرف أحد من المسنين الذين وقفوا مع القاضي الوقت الذي قبر فيه صاحبه وأن بجوار القبر من الجهة الجنوبية مقبرة ما توقف القبر فيها إلا بعد انتشار السيارات، فينبغي تسوير أرض هذا القبر وإخراجه عن محيط الأرض التي يملكها المستفتي - على حد قوله-، وذلك لأن الأصل في الأرض أنها موات، والقبر فيها مبني على ذلك الأصل لا سيما أن بجواره مقبرة عامة حسبما ذكر، وأما المقبرة التي هي جنوب الأرض التي فيها القبر فإن لم تكن محاطة بسور فيتعين على فضيلة القاضي أن يحددها ويرفع أمر تسويرها إلى الجهة المختصة بذلك، وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(10/72)
فتوى رقم 569 في 19 \ 10 \ 1393هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: شارع يراد افتتاحه بمدينة الجبيل ويتعرض لمقبرة ليقتطع جزءا منها، فهل يجوز أخذ شيء من المقبرة لمصلحة الشارع أم لا؟
الجواب: لا يخفى أن للأموات حرمة كحرمة الأحياء، وأن قبور الأموات هي مساكنهم، وأنه يتعين على ولاة الأمور العناية بالمقابر من حيث صيانتها وحفظها عن الامتهان والتعرض لها بما لا يتفق مع حرمة ساكنيها، واقتطاع شيء منها يتعارض مع ما لها من حرمة ورعاية، وعليه فلا يجوز أخذ شيء منها إلا لمبرر شرعي.
وما ذكر من أن التخطيط لبلدية تلك المدينة يقتضي استقامة الشارع بأخذ شيء من المقبرة لا يعتبر مبررا شرعيا لذلك، لأمور: أحدها: ما في ذلك من انتهاك لحرمة الأموات والاعتداء على مساكنهم، والثاني: أن البلد المذكور ليس فيها من حركة مرور السيارات والمشاة ما يمكن أن تثار به دعوى الاضطرار إلى ذلك، الثالث: أن الشارع المراد افتتاحه حسبما جاء في الخارطة يبلغ عرضه ثلاثين مترا ونصف، وهذا العرض يمكن اختصاره إلى مقدار يفي بالاحتياج، ويبقى للمقبرة كرامة أهلها الأموات. . وعليه فإن اللجنة تقرر عدم جواز أخذ شيء من المقبرة لاستقامة الشارع الواقع عنها جنوبا؛ لما ظهر لها من أسباب عدم جواز ذلك، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(10/73)
فتوى رقم 1043 في 9 \ 6 \ 1395هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: أملك قطعة أرض ويوجد بها من الناحية الشمالية الغربية قبر لا يعرف صاحبه، ويظهر أن له سنين طويلة فماذا أعمل به؟
الجواب: نظرا إلى ما ذكره السائل من أن القبر قديم ولا يعرف صاحبه، فالأصل في ذلك أن صاحب القبر مختص بمكان قبره، فلا يجوز التعرض له إلا بما يحفظه ويصون كرامته، وذلك بتمييزه عن قطعة الأرض وتسويره ثم استعمال الأرض بعد ذلك فيما يسوغ استعماله شرعا، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(10/74)
فتوى رقم 1410 في 15 \ 11 \ 1396هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: توفي والدي - رحمه الله - ووجدت بين أوراقه وصية تنص على أنه وقف(10/74)
أثلة على بنت له توفيت وسنها لا يتجاوز ثلاث عشرة سنة، فهل يصح الوقف على من لم يبلغ؟ وإذا صح فهل يجوز تمييزها من بين إخوتها الموجودين حال التوقيف؟ وإذا أجزتم صحة الوقف فهل يضم إلى ثلث والدي أم يجعل مستقلا؟
الجواب: بالاطلاع على الوصية وجد فيها أن ما ذكره المستفتي من وقف الأثلة من والده على ابنته المذكورة صحيح، وبعد دراسة اللجنة للسؤال والوصية لم يتبين لها ما يوجب إبطالها، وهذه الأثلة تكون مستقلة ولا تضم إلى ثلث والدها كما ذكره السائل، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(10/75)
فتوى رقم 1354 في 16 \ 4 \ 1397هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: مرض والدي وكتب ثلث ماله وقفا وجعله بيدي خوفا من الوفاة بسبب هذا المرض، ولكن الله قدر له الحياة بعد أن شفي من المرض، واعتقدت بأن الوصية قد بطلت، وبعد أربع سنوات توفي والدي- رحمه الله- وطفقنا نبحث عن الوصية ولم نعثر عليها وأهملنا موضوعها، وقمنا بتوزيع التركة على الورثة وانتهى المال.
وبعد حين عثرنا على ورقة الوصية، ونحن الآن في حيرة من الأمر، فالمال قد وزع ولا ندري ماذا نصنع ونخشى الإثم؟(10/75)
الجواب: يسترد من الورثة من النقود التي استلموها بما يساوي ثلث أصل النقود، فيؤخذ من كل واحد ثلث حصته ومجموع المتحصل هو ثلث مال الميت، ويكون بيد وكيله الشرعي، ينفذ على وفق وصيته الشرعية إذا كانت ثابتة بالبينة الشرعية أو بإقرار الورثة، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(10/76)
فتوى رقم 1528 في 16 \ 4 \ 1397هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: هل يجب في حق السقط المتبين أنه ذكر أو أنثى عقيقة؟ وكذا المولود إذا ولد ثم مات بعد أيام ولم يعق عنه في حياته فهل يعق عنه بعد موته أو لا؟ وإذا مضى على المولود شهر أو شهران أو نصف سنة أو سنة أو أكثر ولم يعق عنه هل يعق عنه أو لا؟ الجواب: جمهور الفقهاء على أن العقيقة سنة، لما رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن عن سلمان بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى (1) » ، وما رواه الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى (2) » رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي، وما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل، عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة (3) » . رواه أحمد وأبو داود والنسائي بإسناد حسن.
__________
(1) صحيح البخاري العقيقة (5471) ، سنن الترمذي الأضاحي (1515) ، سنن النسائي العقيقة (4214) ، سنن أبو داود الضحايا (2839) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3164) ، مسند أحمد بن حنبل (4/17) ، سنن الدارمي الأضاحي (1967) .
(2) سنن الترمذي الأضاحي (1522) ، سنن النسائي العقيقة (4220) ، سنن أبو داود الضحايا (2837) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3165) ، مسند أحمد بن حنبل (5/8) ، سنن الدارمي الأضاحي (1969) .
(3) سنن النسائي العقيقة (4212) ، سنن أبو داود الضحايا (2842) ، مسند أحمد بن حنبل (2/183) .(10/76)
ولا عقيقة عن السقط ولو تبين أنه ذكر أو أنثى إذا سقط قبل نفخ الروح فيه؛ لأنه لا يسمى غلاما ولا مولودا.
وتذبح العقيقة في اليوم السابع من الولادة، وإذا ولد الجنين حيا ومات قبل اليوم السابع؛ فيسن أن يعق عنه في اليوم السابع، وإذا مضى اليوم السابع ولم يعق فرأي بعض الفقهاء أنه لا يسن أن يعق عنه بعده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقتها باليوم السابع، وذهب الحنابلة وجماعة من الفقهاء إلى أنه يسن أن يعق عنه ولو بعد شهر أو سنة أو أكثر من ولادته؛ لما أخرجه البيهقي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «عق عن نفسه بعد البعثة» ، وهو أحوط.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(10/77)
فتوى رقم 1448 في 25 \ 1 \ 1397هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: شخص بنى جامعا باليمن، وأوصى أسرته أن يكون قبره في الجامع، ثم توفي ودفن بالجامع أمام القبلة، وبين القبر والجامع مسافة متر واحد. . . أرجو إرشادنا عن ذلك؟
الجواب: يجب أن ينبش هذا القبر ويجعل في مكان بعيد عن المسجد في مقبرة البلد؛ لأن جعل القبر في المسجد ذريعة إلى الشرك، وإذا كان في القبلة، كان أشد في التحريم وأقرب إلى الشرك بالله؛ وذلك بعبادة صاحب القبر، والأصل في ذلك ما رواه(10/77)
الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » . وأخرج مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها أو عليها (2) » .
وروى مسلم أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك (3) » ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (437) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (530) ، سنن النسائي الجنائز (2047) ، سنن أبو داود الجنائز (3227) ، مسند أحمد بن حنبل (2/246) .
(2) صحيح مسلم الجنائز (972) ، سنن الترمذي الجنائز (1050) ، سنن النسائي القبلة (760) ، سنن أبو داود الجنائز (3229) ، مسند أحمد بن حنبل (4/135) .
(3) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .(10/78)
فتوى رقم 1581 في 17 \ 6 \ 1397هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: رجل له ثمانية أولاد، ستة منهم طائعون لله ولوالدهم، واثنان عاصيان لله لا يصومان ولا يصليان، وعاقان لوالديهما، ومن أجل هذا كتب في وصيته أنهما لا يرثان مما خلفه إلا أن يتوبا قبل وفاته عنهم.
فأرجو الإفادة عن صحة هذه الوصية؟
الجواب: لا تجوز هذه الوصية لمخالفتها لمقتضى الشرع والعدل الذي أمر الله به- خاصة بين الأولاد- لما روى أحمد وأبو داود - رحمهما الله - عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث (1) » ، ولما روى
__________
(1) سنن الترمذي الوصايا (2120) ، سنن أبو داود البيوع (3565) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2713) .(10/78)
البخاري ومسلم - رحمهما الله - عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه أن أباه أتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي، فقال عليه الصلاة والسلام: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا، قال: فأرجعه (1) » . ولفظ مسلم: «فقال: اتقوا واعدلوا في أولادكم (2) » ، فرجع أبي في تلك الصدقة.
فإن ثبت ثبوتا شرعيا ما يوجب كفرهما كترك الصلاة حال وفاة الأب؛ فإنه لا إرث لهما وإن لم يوص بذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم (3) » متفق على صحته. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2586) ، صحيح مسلم الهبات (1623) ، سنن الترمذي الأحكام (1367) ، سنن النسائي النحل (3675) ، سنن أبو داود البيوع (3542) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2376) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، موطأ مالك الأقضية (1473) .
(2) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587) ، صحيح مسلم الهبات (1623) .
(3) صحيح البخاري الفرائض (6764) ، صحيح مسلم الفرائض (1614) ، سنن الترمذي الفرائض (2107) ، سنن أبو داود الفرائض (2909) ، سنن ابن ماجه الفرائض (2730) ، مسند أحمد بن حنبل (5/208) ، موطأ مالك الفرائض (1104) ، سنن الدارمي الفرائض (2998) .(10/79)
فتوى رقم 1644 في 10 \ 8 \ 1397هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: جادلت بعض الذين يفتون بإباحة الصلاة في المقبرة وفي المسجد الذي فيه قبر أو قبور، فدحضت شبههم بالأحاديث الصحيحة الصريحة غير أنهم قالوا: أين كانت عائشة رضي الله عنها تصلي بعد أن دفن في بيتها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل كان قبره في داخل بيتها أم خارجه؟
وقالوا أيضا: كيف وقد صلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المسجد الحرام وقد دفنت فيه هاجر زوجة إبراهيم عليه السلام وبعض الأنبياء؟ فهل صحيح ما ذكروا من صلاة عائشة في بيتها وقد قبر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، ووجود قبر هاجر وبعض الأنبياء في المسجد الحرام؟(10/79)
الجواب: ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » ، قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا.
وفي رواية: ولكن خشي أن يتخذ مسجدا، وفي رواية للبخاري: غير أني أخشى أن يتخذ مسجدا، وفي صحيح مسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس: «أن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (2) » ، وفي صحيح مسلم أيضا أنه قال: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها (3) » ، فلعن اليهود والنصارى لكونهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ونهى صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد وعن الصلاة إليها.
وبهذا يعلم أن المساجد المبنية على القبور لا تجوز الصلاة فيها وبناؤها محرم.
وأما ما جاء في السؤال من قول السائل أين كانت عائشة رضي الله عنها تصلي بعد أن دفن في بيتها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل قبره في داخل بيتها أم خارجه؟
فالجواب: أن عائشة رضي الله عنها ممن روى الأحاديث الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في النهي عن اتخاذ القبور مساجد، وهذا من حكمة الله جل وعلا، وبهذا يعلم أنها ما كانت تصلي في الحجرة التي فيها القبور؛ لأنها لو كانت تصلي فيها لكانت مخالفة للأحاديث التي روتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا لا يليق بها.
وأما كون هاجر مدفونة بالمسجد الحرام أو غيرها من الأنبياء فلا نعلم دليلا يدل على ذلك، وأما من زعم ذلك من المؤرخين فلا يعتمد على ذلك لعدم الدليل على صحته.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... رئيس اللجنة
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .
(3) صحيح مسلم الجنائز (972) ، سنن الترمذي الجنائز (1050) ، سنن النسائي القبلة (760) ، سنن أبو داود الجنائز (3229) ، مسند أحمد بن حنبل (4/135) .(10/80)
فتوى رقم 1921 في 15 \ 5 \ 1398هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: يوجد عندنا مسجد واسع جدا، يعد أكبر مسجد في البلد باستثناء الجوامع، وجماعته قليلون وفي جواره من الجنوب بيت موقف على إمام المسجد، والبيت المذكور ضيق جدا لا يصلح للسكنى في وضعه الحالي ولا للإيجار، وأكثر الوقت يبقى مغلقا لعدم رغبة المستأجرين فيه بسبب ضيقه وعدم صلاحيته، ويمكن أخذ جزء يسير من جنوبي المسجد وإلحاقه به لكي يرغب فيه دون أن يلحقه ضرر، بل أن سعة المسجد والحالة هذه تعرضه للأوساخ، مع العلم أن الموقف للمسجد والبيت واحد، وهو بلا شك يقصد من إيقاف البيت على الإمام سد حاجته وإراحته من التردد.
فماذا ترون؟ أفتونا مأجورين.
الجواب: لا يجوز أن يؤخذ من المسجد شيء من مساحته ويضاف إلى البيت المذكور؛ لأن الأصل في الأوقاف أن تبقى على ما كانت عليه، فلا يتصرف في رقبة وقف بتحويلها من فاضل إلى مفضول، وإذا كان البيت لا يصلح للسكنى فيمكن مراجعة المحكمة للنظر في الموضوع وإجراء ما يقتضيه الوجه الشرعي حسب المتبع لديهم، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... الرئيس ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(10/81)
فتوى رقم 259 في 19 \ 9 \ 1392هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفسار المرسل من أحد السائلين وهو:
السؤال: تولى والدي سبالة أثلة على رحى، ولما بطل استعمال الرحى وضعت في مجرشة، ثم بطل استعمالها أيضا، وقد بقي من ثمن قطع الأثلة أربعمائة ريال بعد إصلاح الرحى وبيتها والمجرشة، ثم توفي والدي فماذا أصنع بالمال المتبقي؟
الجواب: يجعل المتبقي من قطعتها في مرفق من المرافق العامة التي يحتاج إليها الناس، وليس لها من ينشئها أو ينفق عليها مثل أواني الماء عند أبواب المساجد أو في الطريق العامة أو الإسهام بها في إنشاء بئر ارتوازي أو إصلاحه لينتفع الناس بمائه أو ترميم مسجد أو شراء فرش له إذا لم يكن هناك من يتولى ذلك، أو كان ولم يمكن استخلاصه، فإن لم يتيسر صرف الباقي أو ما يجد بعد ذلك من الغلة في مرفق عام لا قائم عليه، أو تصدق به على الفقراء، لكن ينبغي أن يرفع أمر السبالة إلى فضيلة قاضي البلد ليعين ناظرا أمينا عارفا بمثل هذه الأمور على السبالة ليتولاها حفظا وصرفا، والله الموفق، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(10/82)
حكم إخراج زكاة الفطر نقودا
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
فقد سألني كثير من الإخوان عن حكم إخراج زكاة الفطر نقودا، والجواب:
لا يخفى على أي مسلم أن أهم أركان دين الإسلام الحنيف شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ومقتضى شهادة أن لا إله إلا الله أن لا يعبد إلا الله وحده، ومقتضى شهادة أن محمدا رسول الله أن لا يعبد الله سبحانه إلا بما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزكاة الفطر عبادة بإجماع المسلمين، والعبادات الأصل فيها التوقيف، فلا يجوز لأحد أن يتعبد بأي عبادة إلا بما أخذ عن المشرع الحكيم عليه صلوات الله وسلامه، الذي قال عنه ربه تبارك وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (1) {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (2) (3) ، وقال هو في ذلك: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (4) » ، «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (5) » ، وقد شرع هو صلوات الله وسلامه عليه زكاة الفطر بما ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة: صاعا من طعام، أو صاعا من تمر، أو صاعا من شعير، أو صاعا من زبيب، أو صاعا من أقط، فقد روى البخاري ومسلم - رحمهما الله - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة (6) » ، ورويا عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: «كنا نعطيها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب (7) » . وفي رواية: «أو صاعا من أقط (8) » ، فهذه سنة محمد صلى الله عليه وسلم في زكاة الفطر، ومعلوم أنه في وقت هذا التشريع وهذا الإخراج كان يوجد بيد المسلمين - وخاصة مجتمع المدينة - الدينار والدرهم اللذان هما العملة السائدة آنذاك، ولم يذكرهما صلوات الله وسلامه عليه في زكاة الفطر، فلو كان
__________
(1) سورة النجم الآية 3
(2) سورة النجم الآية 4
(3) الآيتان (2، 3) من سورة النجم.
(4) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(5) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(6) صحيح البخاري الزكاة (1503) ، صحيح مسلم الزكاة (984) ، سنن الترمذي الزكاة (675) ، سنن النسائي الزكاة (2504) ، سنن أبو داود الزكاة (1611) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1826) ، مسند أحمد بن حنبل (2/102) ، موطأ مالك الزكاة (627) ، سنن الدارمي الزكاة (1661) .
(7) صحيح البخاري الزكاة (1508) ، صحيح مسلم الزكاة (985) ، سنن الترمذي الزكاة (673) ، سنن النسائي الزكاة (2513) ، سنن أبو داود الزكاة (1616) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1829) ، مسند أحمد بن حنبل (3/98) ، موطأ مالك الزكاة (628) ، سنن الدارمي الزكاة (1664) .
(8) صحيح البخاري الزكاة (1506) ، صحيح مسلم الزكاة (985) ، سنن الترمذي الزكاة (673) ، سنن النسائي الزكاة (2513) ، سنن أبو داود الزكاة (1616) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1829) ، مسند أحمد بن حنبل (3/98) ، موطأ مالك الزكاة (628) ، سنن الدارمي الزكاة (1664) .(10/83)
شيء يجزئ في زكاة الفطر منهما لأبانه صلوات الله وسلامه عليه، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ولو دفع ذلك لفعله أصحابه رضي الله عنهم.
وما ورد في زكاة السائمة من الجبران المعروف مشروط بعدم وجود ما يجب إخراجه وخاص بما ورد فيه، كما سبق الأصل في العبادات التوقيف، ولا نعلم أن أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أخرج النقود في زكاة الفطر، وهم أعلم الناس بسنته صلى الله عليه وسلم وأحرص الناس على العمل بها، ولو وقع منهم شيء من ذلك لنقل كما نقل غيره من أقوالهم وأفعالهم المتعلقة بالأمور الشرعية، وقد قال الله سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (1) الآية، وقال عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2) ، ومما ذكرنا يتضح لصاحب الحق أن إخراج النقود في زكاة الفطر لا يجوز ولا يجزئ عمن أخرجه؛ لكونه مخالفا لما ذكر من الأدلة الشرعية، وأسأل الله أن يوفقنا وسائر المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه والحذر من كل ما يخالف شرعه إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. .
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 21
(2) سورة التوبة الآية 100(10/84)
دراسات فقهية(10/85)
الفرق بين البيع والربا في الشريعة الإسلامية
خلاف ما عليه أهل الجاهلية
بقلم الدكتور صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان (1) .
الحمد لله رب العالمين، شرع لعباده وأباح لهم من المكاسب والمنافع ما تقوم به مصالحهم، وتبنى عليه مجتمعاتهم، وتنمو به اقتصادياتهم، مما يتوفر به لهم الخير عاجلا وآجلا. وحرم عليهم المكاسب الخبيثة والمعاملات المحرمة التي تفسد أخلاق الفرد وتهدم بناء المجتمع وتلوث الاقتصاد.
ومما أباحه الله من المكاسب وفي طليعة ذلك البيع - ومما حرمه الله من المكاسب بل هو في طليعة المحرمات الربا، وقد آثرت أن أكتب عن هذين النوعين من المعاملات متوخيا النقاط التالية: تعريف البيع، حكمه، الحكمة في مشروعيته، تعريف الربا، حكمه، المقارنة بينه وبين الصدقة، الحكمة في تحريمه، أنواعه، بيان الأشياء التي يدخلها، الوسائل المفضية إليه، ماذا يفعل من تاب منه.
ويلاحظ أنني ركزت على الربا أكثر وذلك لعظيم ضرره وبالغ خطره، وكثرة الوقوع فيه، خصوصا في عصرنا هذا الذي طغت فيه المادة، واستولى الطمع والجشع والشح على قلوب كثير من الناس مما يوجب على العلماء عموما وعلى الباحثين خصوصا أن يوجهوا عنايتهم، ويسخروا أقلامهم ويضمنوا
__________
(1) ورد لكاتب البحث ترجمة في العدد السابع من المجلة، صفحة - 238-(10/86)
كلماتهم ومحاضراتهم تشخيص هذا الداء العضال، والتحذير منه {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (1) ولتبرأ الذمة وتقوم الحجة عملا بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} (2) .
هذا ونسأل الله عز وجل أن يوفق المسلمين للعمل بكتابه واتباع سنة رسوله والاكتفاء بالحلال عن الحرام، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 42
(2) سورة آل عمران الآية 187(10/87)
تعريف البيع لغة وشرعا:
البيع لغة: مصدر بعت، يقال: باع يبيع بمعنى ملك وبمعنى اشترى. وكذلك شرى يكون للمعنيين. واشتقاقه من الباع لأن كل واحد من المتعاقدين يمد باعه للأخذ والإعطاء، ويقال للبائع والمشتري بيعان - بتشديد الياء- وأباع الشيء: عرضه للبيع (1) .
وشرعا: البيع: مبادلة المال بالمال تمليكا (2) وتملكا، وعرفه بعضهم بأنه: مبادلة مال ولو في الذمة، أو منفعة مباحة بمثل أحدهما على التأبيد (3) ، والتعريفان متقاربان ويتضمنان ما يلي:
1 - أن البيع يكون من طرفين تحصل بينهما المبادلة.
2 - أن يقع هذا التبادل على مال أو ما في حكمه وهو المنفعة من الجانبين.
3 - أن ما ليس بمال أو ما في حكمه لا يصح بيعه.
4 - أن هذه المبادلة يستمر حكمها بأن يملك كل من الطرفين ما آل إليه بموجب البيع ملكا مؤبدا.
__________
(1) مختار الصحاح ص281، والمطلع على أبواب المقنع 226، وانظر القاموس (3 \ 8) .
(2) المغني (3 \ 560) .
(3) الروض الندي شرح كافي المبتدي (203) .(10/87)
حكم البيع:
البيع جائز بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (1) ، وفي السنة ما رواه البخاري (2) عن ابن عباس قال: (كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فلما كان الإسلام تأثموا فيه فأنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} (3) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا (4) » .
وأجمع المسلمون على جواز البيع في الجملة (5) ما لم يشغل عن واجب، فإن شغل عن أداء واجب فإنه لا يجوز إلى أن يؤدى ذلك الواجب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ للِصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (6) {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (7) ، وكذا إذا ترتب على البيع الإعانة على معصية أو أدى إلى محرم فإنه لا يجوز ولا يصح كبيع العصير ممن يتخذه خمرا، وبيع السلاح في الفتنة بين المسلمين، وكل بيع أعان على معصية، فإن الوسائل لها حكم الغايات، وقد قال الله تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (8) ، قال المجد ابن تيمية رحمه الله في المنتقى (9) : باب تحريم بيع العصير ممن يتخذه خمرا، وكل بيع أعان على معصية، وساق الحديث عن أنس رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه، وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له (10) » .
وحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: لعنت الخمرة على عشرة وجوه: لعنت الخمرة بعينها وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها، ووجه الاستدلال من هذين الحديثين أن اللعن فيهما شمل شارب الخمر ومن
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) البخاري (1770، 2050) في الحج والبيوع والتفسير.
(3) سورة البقرة الآية 198
(4) متفق عليه.
(5) المغني (3 \ 560) .
(6) سورة الجمعة الآية 9
(7) سورة الجمعة الآية 10
(8) سورة المائدة الآية 2
(9) المنتقى (5 \ 163) مع نيل الأوطار.
(10) سنن الترمذي البيوع (1295) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3381) .(10/88)
أعانه على ذلك من بقية العشرة، قال الشوكاني: وفي الباب عن أبي هريرة عند أبي داود، وعن ابن عباس عند ابن حبان، وعن ابن مسعود عند الحاكم، وعن بريدة عند الطبراني في الأوسط من طريق محمد بن أحمد بن أبي خيثمة بلفظ: «من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه من يهودي أو ممن يتخذه خمرا فقد تقحم النار على بصيرة» حسنه الحافظ في بلوغ المرام (1) . وأخرجه البيهقي بزيادة: أو ممن يعلم أن يتخذه خمرا) ، ثم قال الشوكاني: والذي يدل على مراد المصنف (يعني صاحب المنتقى) حديث بريدة الذي ذكرناه لترتيب الوعيد الشديد على من باع العنب إلى من يتخذه خمرا ولكن قوله: (حبس) وقوله: (أو ممن يعلم أن يتخذه خمرا) يدلان على اعتبار القصد والتعمد للبيع إلى من يتخذه خمرا، ولا خلاف في التحريم مع ذلك. وأما مع عدمه فذهب جماعة من أهل العلم إلى جوازه مع الكراهة ما لم يعلم أنه يتخذه لذلك، (ولكن الظاهر أن البيع من اليهودي أو النصراني لا يجوز لأنه مظنة لجعل العنب خمرا) انتهى (2) .
ومن البيع الممنوع لإفضائه إلى محرم بيع العبد المسلم لكافر؛ لأنه عقد يثبت الملك على المسلم للكافر فلم يصح (3) ومن ذلك أيضا البيع الذي يفضي إلى التفريق بين ذوي المحارم (4) لحديث أبي أيوب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة (5) » ، «وعن علي رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين أخوين فبعتهما وفرقت بينهما فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: أدركهما فارتجعهما ولا تبعهما إلا جميعا (6) » .
__________
(1) بلوغ المرام مع حاشية الدهلوي 2 \ 27.
(2) انظر المنتقى مع شرحه نيل الأوطار 5 \ 163-164.
(3) المغني 4 \ 292.
(4) المغني 4 \ 292.
(5) رواه الترمذي.
(6) رواه الترمذي.(10/89)
الحكمة في مشروعية البيع:
الحكمة تقتضي جواز البيع؛ لأن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه وصاحبه لا يبذله بغير عوض، ففي شرع البيع وتجويزه طريق إلى وصول كل واحد منهما إلى غرضه(10/89)
ودفع حاجته، ومن الحكمة في ذلك اتساع أمور المعاش وبقاء العالم؛ لأن فيه إطفاء نار المنازعات والنهب والسرقة والخيانات والحيل؛ لأن المحتاج يميل إلى ما في يد غيره فبغير المعاملة يؤول الأمر إلى التقاتل والتنازع وبذلك فناء العالم واختلال نظام المعاش وغير ذلك (1) .
__________
(1) حاشية على نيل الأوطار 5 \ 151.(10/90)
المقارنة بين البيع والربا:
سوى الكفار بين البيع والربا فقالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (1) أي إنما الزيادة عند حلول الأجل التي هي ربا النسيئة كمثل أصل الثمن في أول العقد (2) ، وهي محاولة فاشلة لأن هناك فروقا عظيمة مؤثرة بين البيع والربا منها:
أولا: أن البيع قد أحله الله والربا قد حرمه الله، وعلى العباد أن يتلقوا ذلك بالقبول من غير اعتراض.
ثانيا: أن الاتجار بالبيع والشراء قابل للربح والخسارة والمهارة الشخصية والجهد الشخصي، أما الاتجار بالربا فهو محدد الربح في كل حالة (3) لا يبذل فيه جهد ولا تستخدم فيه مهارة فهو ركود وهبوط وكسل.
ثالثا: أن البيع فيه معاوضة ونفع للطرفين، والربا إنما يحصل فيه النفع لطرف واحد، قال في تفسير المنار (4) : وقد جعل أكثر المفسرين هذا الجواب يعني قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (5) من قبيل إبطال القياس بالنص أي أنكم تقيسون في الدين والله تعالى لا يجيز هذا القياس. ولكن المعهود في القرآن مقارعة الحجة بالحجة، وقد كان الناس في زمن التنزيل يفهمون معنى الحجة في رد القرآن لذلك القول؛ إذ لم يكن عندهم من الاصطلاحات الفقهية المسلمة ما هو أصل عندهم في المسائل لا يفهمون
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) تفسير القرطبي 3 \ 356.
(3) في ظلال القرآن 1 \ 327.
(4) 3 \ 108- 109.
(5) سورة البقرة الآية 275(10/90)
الآيات إلا به، ولا ينظرون إليها إلا لتحويلها إليه، والمعنى الصحيح أن زعمهم مساواة الربا للبيع في مصلحة التعامل بين الناس إنما يصح إذا أبيح للناس أن يكونوا في تعاملهم كالذئاب، كل واحد ينتظر الفرصة التي تمكنه من افتراس الآخر وأكله، ولكن هاهنا إله رحيم يضع لعباده من الأحكام ما يربيهم على التراحم والتعاطف، وأن يكون كل منهم عونا للآخر لا سيما عند شدة الحاجة إليه، ولذلك حرم عليهم الربا الذي هو استغلال ضرورة إخوانهم، وأحل البيع الذي لا يختص الربح فيه بأكل الغني الواجد مال الفقير الفاقد، فهذا وجه للتباين بين الربا والبيع يقتضي فساد القياس.
وهناك وجه آخر وهو أن الله تعالى جعل طريق تعامل الناس في معايشهم أن يكون استفادة كل واحد من الآخر بعمل، ولم يجعل لأحد منهم حقا على آخر بغير عمل؛ لأنه باطل لا مقابل له، وبهذه السنة أحل البيع لأن فيه عوضا يقابل عوضا، وحرم الربا لأنه زيادة لا مقابل لها. والمعنى أن قياسكم فاسد لأن في البيع من الفائدة ما يقتضي حله، وفي الربا من المفسدة ما يقتضي تحريمه، ذلك أن البيع يلاحظ فيه دائما انتفاع المشتري بالسلعة انتفاعا حقيقيا؛ لأن من يشتري قمحا مثلا فإنما يشتريه ليأكله أو ليبذره أو ليبيعه وهو في كل ذلك ينتفع به انتفاعا حقيقيا، وأما الربا وهو عبارة عن إعطاء الدراهم والمثليات وأخذها مضاعفة في وقت آخر فما يؤخذ منه زيادة عن رأس المال لا مقابل لها من عين ولا عمل.
وثم وجه آخر لتحريم الربا من دون البيع وهو أن النقدين إنما وضعا ليكونا ميزانا لتقدير قيم الأشياء التي ينتفع بها الناس في معايشهم، فإذا تحول هذا وصار النقد مقصودا بالاستغلال، فإن هذا يؤدي إلى انتزاع الثروة من أيدي أكثر الناس وحصرها في أيدي الذين يجعلون أعمالهم قاصرة على استغلال المال بالمال، فينمو المال ويربو عندهم ويخزن في الصناديق والبيوت المالية المعروفة في البنوك، ويبخس العاملون قيم أعمالهم لأن الربح يكون معظمه من المال نفسه وبذلك يهلك الفقراء، انتهى.
وفيه مقارنة جيدة بين منافع البيع ومضار الربا لكن لا نوافقه على رد الوجه الأول وهو أن قولهم: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (1) من قبيل استعمال القياس في مقابلة النص، وذلك باطل مردود؛ لأن هذه قاعدة مسلمة والتعليل بها هو ظاهر الآية الكريمة، ولا
__________
(1) سورة البقرة الآية 275(10/91)
يمنع ذلك أن يكون هناك فوارق تمنع هذا القياس منها ما أدلي به في هذه المقارنة - والله أعلم - والله سبحانه وتعالى أحل البيع وأحل التجارة وحرم الربا، فالمبتاع يبتاع ما يستنفع به كطعام ولباس ومسكن ومركب وغير ذلك، والتاجر يشتري ما يريد أن يبيعه ليربح فيه، وأما آخذ الربا فإنما مقصوده أن يأخذ دراهم بدراهم إلى أجل فيلزم الآخر أكثر مما أخذ بلا فائدة حصلت له لم يبع ولم يتجر.(10/92)
تعريف الربا:
الربا لغة: الزيادة، قال في القاموس (1) : ربا ربوا كعلو ورباء زاد ونما، وقال صاحب المصباح المنير (2) : الربا الفضل والزيادة - وهو مقصور على الأشهر. . وربا الشيء يربو إذا زاد. وأربى الرجل بالألف دخل في الربا. وأربى على الخمسين زاد عليها. وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات (3) : الربا مقصور وأصله الزيادة. . . ويقال ربا الشيء إذا زاد، ويقال الربا والرماء - وفي فتح الباري (4) : وأصل الربا: الزيادة إما في نفس الشيء كقوله تعالى: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} (5) ، وإما في مقابله كدرهم بدرهمين، فقيل هو حقيقة فيهما، وقيل: حقيقة في الأول، مجاز في الثاني.
والربا شرعا: قد اختلفت عبارات الفقهاء في تعريفه مع تقارب المعنى فقال بعضهم (6) : هو عقد على عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد أو مع تأخير في البدلين أو أحدهما، وهذا تعريف له بنوعيه: الفضل والنسيئة.
وقيل: هو زيادة في شيء مخصوص (7) ، وهذا تعريف قاصر على أحد نوعيه والمفروض في التعريف أن يكون جامعا. وفصل صاحب بدائع الصنائع (8) فعرف كل نوع على حدة، فقال: الربا في عرف الشرع نوعان: ربا الفضل وربا النسيئة، أما ربا الفضل فهو
__________
(1) ص332 ج 4 ط السعادة بمصر 1332هـ.
(2) ص233 ج 1 ط مصطفى البابي الحلبي بمصر 1369هـ.
(3) ص117 ج 3 ط إدارة الطباعة المنيرية.
(4) ص313 ج 4 ط المطبعة السلفية.
(5) سورة الحج الآية 5
(6) مغني المحتاج ص21 ج 2 ط مطبعة مصطفى الحلبي 1377هـ.
(7) المبدع في شرح المقنع ص127 ج 4 ط المكتب الإسلامي.
(8) ص183 ج 5 ط الأولى 1328هـ.(10/92)
زيادة عين مال شرطت في عقد البيع على المعيار الشرعي، وأما ربا النسيئة فهو فضل الحلول على الأجل، وفضل العين على الدين في المكيلين أو الموزونين عند اختلاف الجنس أو في غير المكيلين أو الموزونين عند اتحاد الجنس عندنا (أي عند الأحناف) .
وهذه التعاريف كما قلنا وإن كانت مختلفة الألفاظ فهي متفقة في المعنى وبعضها مجمل وبعضها مفصل، والمناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي واضحة إلا أن المعنى الشرعي أخص من المعنى اللغوي، إذ المعنى اللغوي يشمل الزيادة في كل شيء وأما المعنى الشرعي فهو يعني الزيادة في أشياء معينة، وقد يطلق الربا شرعا ويراد به كل بيع محرم (1)
__________
(1) نيل الأوطار، ص200 ج 5 ط الحلبي 1371هـ، فتح الباري ص313 ج 4.(10/93)
تحريم الربا:
لا خلاف بين المسلمين في تحريم الربا وإن اختلفوا في تفاصيله (1) وضابطه، قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) والأحاديث في تحريمه كثيرة مشهورة. وقد توعد الله آكل الربا بضروب من الوعيد مما يدل على عظم إثمه وفحش ضرره، فقد تنوع الوعيد عليه في النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وقد أوجزها السيد محمد رشيد رضا - رحمه الله - فيما يلي (3) :
1 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (4) أي لا يقومون من قبورهم للبعث إلا كقيام المجنون.
2 - قوله تعالى: ومن عاد إلى أكل الربا بعد تحريمه: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (5) ، وهذا من نصوص الوعيد أو هو محمول على من استحله لأن استحلاله كفر.
__________
(1) نيل الأوطار، ص200 ج 5، وانظر شرح النووي على صحيح مسلم ص9.
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) الربا والمعاملات في الإسلام ص75، 76.
(4) سورة البقرة الآية 275
(5) سورة البقرة الآية 275(10/93)
3 - قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} (1) أي يمحق بركته.
4 - قوله بعد ذلك: {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (2) فحرمانه من محبة الله يستلزم بغضه ومقته له.
5 - تسميته كفارا أي مبالغا في كفر النعمة بقسوته على العاجز عن القضاء واستغلاله لما يعرض له من الضرورة بدلا من إنظاره وتأخير دينه إلى الميسرة وإسعافه بالصدقة أو كفار الكفر المخرج من الملة إن استحله.
6 - تسميته أثيما وهي صيغة مبالغة من الإثم، وهو كل ما فيه ضرر في النفس أو المال أو غيرهما.
7 - إعلامه بحرب من الله ورسوله؛ لأنه عدو لهما إن لم يترك ما بقي من الربا.
8 - وصفه بالظلم في قوله: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (3) .
9 - عد النبي صلى الله عليه وسلم إياه من أهل الموبقات وهي أكبر الكبائر كما في الصحيحين (4) .
10 - ورود عدة أحاديث صحيحة في لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه.
11 - ورود أحاديث كثيرة في الوعيد الشديد عليه، منها: أن «درهما من ربا أشد من ثلاث وثلاثين زنية في الإسلام (5) » ، وفي بعضها ست وثلاثين زنية، وفي بعضها بضع وثلاثين وفي بعضها «الربا اثنان وسبعون بابا أدناها مثل إتيان الرجل أمه (6) » .
__________
(1) سورة البقرة الآية 276
(2) سورة البقرة الآية 276
(3) سورة البقرة الآية 279
(4) صحيح البخاري 5 \ 294، وصحيح مسلم الحديث 89.
(5) مسند أحمد بن حنبل (5/225) .
(6) سنن ابن ماجه التجارات (2274) .(10/94)
مقارنة بين الربا والميسر
تحريم الربا أشد من تحريم الميسر الذي هو القمار؛ لأن المرابي قد أخذ فضلا محققا من محتاج، والمقامر قد يحصل له فضل وقد لا يحصل له، فالربا ظلم محقق لأن فيه تسلط الغني على الفقير بخلاف القمار فإنه قد يأخذ فيه الفقير من الغني وقد يكون المتقامران متساويين(10/94)
في الغنى والفقر، فهو وإن كان أكلا للمال بالباطل وهو محرم فليس فيه من ظلم المحتاج وضرره ما في الربا، ومعلوم أن ظلم المحتاج أعظم من ظلم غير المحتاج (1) .
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ص341 -347.(10/95)
متى حرم الربا:
قد كان تحريم الربا قديما وقد ذكر الله تحريمه على اليهود حيث يقول سبحانه: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} (1) {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} (2) .
إلا أن العلامة القرطبي (3) يرى أن المراد بالربا المذكور في حق اليهود عموم الكسب المحرم ولم يرد به خصوص الربا الذي حكم بتحريمه علينا، وإنما أراد المال الحرام كما قال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (4) يعني به المال الحرام من الرشا وما استحلوه من أموال الأميين حيث قالوا: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} (5) وعلى هذا فيدخل فيه النهي عن كل مال حرام بأي وجه اكتسب، وكان الربا معروفا في الجاهلية عند العرب، وقد ذكره الله تعالى في " سورة الروم " وهي مكية نزلت قبل الهجرة ببضع سنين مقرونا بذمة ومدح الزكاة وذلك قبل فرض الزكاة كما في قوله تع الى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} (6) ، وقد جاء في السور المكية بيان أصول الواجبات والمحرمات بوجه إجمالي كما في هذه الآية، ثم قال تعالى في سورة آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (7) ثم نزلت آيات " سورة البقرة " المشتملة على الوعيد الشديد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقليل (8) ويستمر تحريمه إلى يوم القيامة.
__________
(1) سورة النساء الآية 160
(2) سورة النساء الآية 161
(3) تفسير القرطبي ص348 ج 3.
(4) سورة المائدة الآية 42
(5) سورة آل عمران الآية 75
(6) سورة الروم الآية 39
(7) سورة آل عمران الآية 130
(8) الربا والمعاملات في الإسلام ص57 - 58 بتصرف.(10/95)
هذا تاريخ الربا عبر التاريخ وكابوسه الثقيل على الأمم وموقف الشرائع السماوية منه ومحاربته لإنقاذ البشرية من ويلاته، ولكن يأبى الذين استحوذ عليهم الشيطان واستولى عليهم الشح إلا عتوا ونفورا ليستمروا على التحكم بأموال الناس بغير حق.(10/96)
3- المقارنة بين الربا والصدقة:
قد جعل الله سبحانه الربا ضد الصدقة فالمرابي ضد المتصدق، قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (1) ، وقال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} (2) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (4) ، ثم ذكر الجنة التي أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء (5) .
فالمتصدق ضد المرابي؛ لأن المتصدق يحسن إلى الناس والمرابي يظلم الناس، ولهذا قال سبحانه: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (6) {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (7) الآيات.
وهكذا تساق آيات الربا بعد آيات الصدقة في القرآن لما بين المتصدقين والمرابين من التضاد، ليتفكر المسلم في صفات الفريقين وجزاء كل منهما، وليقارن بين آثارهما على المجتمع، فالمتصدق يعطي المال بغير عوض يقابله، والمرابي يأخذ المال بغير عوض يقابله، المتصدق يوسع على المحتاجين ويفرج كرب المكروبين، والمرابي يضيق على المحتاجين وينتهز فرصة عوزهم ليثقلهم بالديون فيزيدون كربة إلى كربتهم، المتصدق قد وقاه الله شح نفسه فانتصر عليها، والمرابي قد تملكه الجشع وأهلكه الشح كما أهلك من قبله فاستحل محارم الله بأدنى الحيل.
__________
(1) سورة البقرة الآية 276
(2) سورة الروم الآية 39
(3) سورة آل عمران الآية 130
(4) سورة آل عمران الآية 131
(5) الربا والمعاملات في الإسلام.
(6) سورة البقرة الآية 274
(7) سورة البقرة الآية 275(10/96)
4 - الحكمة في تحريم الربا:
يلخص العلامة ابن حجر الهيتمي في كتاب الزواجر (1) تلك الحكمة في النقاط التالية:
1 - انتهاك حرمة مال المسلم بأخذ الزائد من غير عوض.
2 - الإضرار بالفقير لأن الغالب غنى المقرض وفقر المستقرض فلو مكن الغني من أخذ أكثر من المثل أضر بالفقير.
3 - انقطاع المعروف والإحسان الذي في القرض؛ إذ لو حل درهم بدرهمين ما سمح أحد بإعطاء درهم بمثله.
4 - تعطل المكاسب والتجارات والحرف والصناعات التي لا تنتظم مصالح العالم إلا بها؛ إذ من يحصل درهمين بدرهم كيف يتجشم مشقة كسب أو تجارة.
إن الله سبحانه وتعالى يشرع لعباده ما يربيهم على التراحم والتعاطف، وأن يكون كل منهم عونا للآخر لا سيما عند شدة الحاجة إليه، ولذلك حرم عليهم الربا الذي هو استغلال ضرورة إخوانهم وأحل البيع الذي لا يختص الربح فيه بأكل الغني الواجد مال الفقير الفاقد، كما أن الله تعالى جعل طريق تعامل الناس في معايشهم قائما على أن يكون استفادة كل واحد من الآخر في مقابل عمل يقوم به نحوه أو عين يدفعها إليه، والربا خال عن ذلك؛ لأنه عبارة عن إعطاء المال مضاعفا من طرف لآخر بدون مقابلة من عين ولا عمل.
إن إباحة الربا مفسدة من أكبر المفاسد للأخلاق وشئون الاجتماع تزيد أطماع الناس وتجعلهم ماديين لا هم لهم إلا الاستكثار من الأموال من غير أن يستفيد منها مجتمعهم (2) .
ففي الغالب لا يخضع للزيادة الربوية إلا معدم محتاج إذا رأى أن الدائن يؤخر مطالبته ويصبر عليه بزيادة يبذلها تكلف بذل هذه الزيادة ليفتدي بها من أسر المطالبة
__________
(1) ص180 ج 1.
(2) تفسير المنار ص108 - 112 ج 3.(10/97)
والحبس ويدافع من وقت إلى وقت، فيشتد ضرره وتعظم مصيبته ويعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوده فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له، ويزيد مال المرابي من غير نفع يحصل منه لأخيه، فيأكل مال أخيه بالباطل، ويحصل أخوه على غاية الضرر، فمن رحمة أرحم الراحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرم الربا ولعن آكله وموكله وكاتبه وشاهديه، وأذن من لم يدعه بحربه وحرب رسوله، ولم يجئ مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره، ولهذا كان من أكبر الكبائر (1) .
__________
(1) من إعلام الموقعين لابن القيم ص135 ج 2.(10/98)
5 - أنواع الربا:
الربا نوعان: ربا نسيئة وربا فضل.
فالنوع الأول ربا النسيئة - من النساء بالمد وهو التأخير - هو نوعان:
أحدهما: قلب الدين على المعسر، وهذا هو أصل الربا في الجاهلية:
أن الرجل يكون له على الرجل المال المؤجل، فإذا حل الأجل قال له: أتقضي أم تربي، فإن وفاه وإلا زاد هذا في الأجل وزاد هذا في المال فيتضاعف المال والأصل واحد. وهذا الربا حرام بإجماع المسلمين (1) ، قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (2) من آية (280) من سورة البقرة، فإذا حل الدين وكان الغريم معسرا لم يجز بإجماع المسلمين أن يقلب الدين عليه بل يجب إنظاره.
وإن كان موسرا كان عليه الوفاء فلا حاجة إلى القلب لا مع يساره ولا مع إعساره (3) لكن الكفار يعارضون حكم الله في ذلك ويقولون: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (4) أي سواء زدنا في أول البيع أو عند محل المال، فكذبهم الله في قيلهم فقال سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (5) يعني جل ثناؤه وأحل الله الأرباح في التجارة والشراء والبيع، (وحرم الربا) يعني الزيادة التي يزاد رب المال بسبب زيادته غريمه في الأجل وتأخيره دينه عليه، يقول عز وجل: فليست الزيادتان اللتان إحداهما من وجه البيع إلى أجل، والأخرى من وجه تأخير المال إذا حل أجله، والزيادة في الأجل سواء فليست الزيادة
__________
(1) أضواء البيان ص230 ج 1.
(2) سورة البقرة الآية 280
(3) مجموع الفتاوى ص418 ج 29.
(4) سورة البقرة الآية 275
(5) سورة البقرة الآية 275(10/98)
من وجه البيع نظير الزيادة من وجه الربا لأني أحللت البيع وحرمت الربا، والأمر أمري والخلق خلقي أقضي فيهم ما أشاء وأستعبدهم بما أريد، ليس لأحد أن يعترض في حكمي، ولا أن يخالف أمري، وإنما عليهم طاعتي والتسليم لحكمي (1) .
وأيضا لو كانت الزيادتان سواء لما اختلف حكمهما عند أحكم الحاكمين.
فالزيادة التي تؤخذ في معاوضة صحيحة خالية من أكل أموال الناس بالباطل هي زيادة حلال، والزيادة التي تؤخذ لأجل التأخير في الأجل إذا حل زيادة محرمة لأنها لا معاوضة فيها ولا مقابل لها فهي ظلم (2) . وأيضا المعسر الذي لا يستطيع الوفاء عند حلول الأجل يجب إنظاره إلى ميسرة لا مضاعفة الدين عليه وإثقال كاهله بالغرامة فيزداد حملا على حمله.
__________
(1) تفسير ابن جرير ص12 - 13 ج 6 ببعض زيادات توضيحية.
(2) انظر تفسير المنار ص96 ج 3.(10/99)
مسألة: (ضع وتعجل) :
ويتعلق بهذه المسألة مسألة: (ضع وتعجل) ، وهي أن يصالح عن الدين المؤجل ببعضه حالا - وهي عكس قلب الدين - لأن معناه: زد وأجل، وقد أجمع المسلمون على تحريمه كما سبق، وأما هذه المسألة (ضع وتعجل) فقد اختلف العلماء فيها على أقوال:
القول الأول:
تحريم ذلك وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي والمشهور عن أحمد، ووجه ذلك:
أنه شبيه بالزيادة مع الإنظار المجمع على تحريمها؛ لأنه جعل للزمان مقدارا من الثمن بدلا منه في الموضعين جميعا، فهو في الصورتين جعل للزمان ثمنا لزيادته ونقصه؛ هذا(10/99)
معنى ما علل به ابن رشد في بداية المجتهد. وعلل صاحب فتح القدير من الحنفية ذلك بقوله: لأن المعجل خير من المؤجل وهو غير مستحق بالعقد، فيكون بإزاء ما حطه عنه وذلك اعتياض عن الأجل وهو حرام. اهـ.
وهو بمعنى التعليل الذي قبله، وعلل صاحب مغني المحتاج من الشافعية لذلك بقوله: (لأن صفة الحلول لا يصح إلحاقها. . فإن لم يحصل الحلول لا يصح الترك) يعني أن صحة ترك البعض تنبني على صحة التعجيل، والتعجيل غير صحيح فالترك غير صحيح، وعلل ذلك صاحب المبدع من الحنابلة بقوله: (لأنه يبذل القدر الذي يحطه عوضا عن تعجيل ما في ذمته وبيع الحلول والتأجيل لا يجوز) ، وهذا التعليل بمعنى ما علل به صاحب فتح القدير من الحنفية حيث يقول: (وذلك اعتياض عن الأجل وهو حرام) ، وهما يتفقان مع قول ابن رشد: (لأنه جعل للزمان مقدارا من الثمن) فاتفقت كلمتهم على أن بيع الأجل لا يجوز وهو الذي من أجله منعوا مسألة: (ضع وتعجل) :
قال ابن القيم في إغاثة اللهفان: (1) . واحتج المانعون بالأثر والمعنى؛ أما الآثار ففي سنن البيهقي «عن المقداد بن الأسود قال: (أسلفت رجلا مائة دينار فقلت له: عجل تسعين دينارا وأحط عشرة دنانير) .
فقال: نعم، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أكلت ربا مقداد وأطعمته» وفي سنده ضعف. وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قد سئل عن الرجل يكون له الدين على رجل إلى أجل فيضع عنه صاحبه ويعجل له الآخر، فكره ذلك ابن عمر ونهى عنه، وصح عن أبي المنهال أنه سأل ابن عمر رضي الله عنهما فقال لرجل: علي دين، فقال لي: عجل لي لأضع عنك، قال: فنهاني عنه. وقال: نهى أمير المؤمنين - يعني عمر - أن يبيع العين بالدين. وقال أبو صالح مولى السفاح واسمه عبيد: بعت برا من أهل السوق إلى أجل ثم أردت الخروج إلى الكوفة فعرضوا علي أن أضع عنهم وينقدوني
__________
(1) ص12 ج 2.(10/100)
فسألت عن ذلك زيد بن ثابت فقال: (لا آمرك أن تأكل هذا ولا توكله) رواه مالك في الموطأ.
وأما المعنى فإنه إذا تعجل البعض وأسقط الباقي فقد باع الأجل بالقدر الذي أسقط وذلك عين الربا، كما لو باع الأجل بالقدر الذي يزيده إذا حل عليه الدين، فقال: زدني في الدين وأزيدك في المدة، فأي فرق بين أن تقول حط من الأجل وأحط من الدين، أو تقول: زد في الأجل وأزيد في الدين. . . قالوا: فنقص الأجل في مقابلة نقص العوض كزيادته في مقابلة زيادته، فكما أن هذا ربا فكذلك الآخر.
القول الثاني:
جواز الوضع والتعجل وهو رواية عن أحمد (1) ، ونسب ابن رشد (2) وابن القيم القول بجوازه إلى ابن عباس وزفر من الحنفية، والقول بالجواز هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال في الاختيارات (3) : (ويصح الصلح عن المؤجل ببعضه حالا، وهو رواية عن أحمد وحكي قولا للشافعي) ، واختار هذا القول أيضا ابن القيم وقال (4) : (لأن هذا عكس الربا فإن الربا يتضمن الزيادة في أحد العوضين في مقابلة الأجل، وهذا يتضمن براءة ذمته من بعض العوض في مقابلة سقوط الأجل فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل فانتفع به كل واحد منهما، ولم يكن هنا ربا لا حقيقة ولا لغة ولا عرفا، فإن الربا الزيادة، وهي منتفية هاهنا، والذين حرموا ذلك قاسوه على الربا ولا يخفى الفرق الواضح بين قوله: (إما أن تربي وإما أن تقضي) ، وبين قوله: (عجل لي وأهب لك مائة) فأين أحدهما من الآخر فلا نص في تحريم ذلك ولا إجماع ولا قياس صحيح. اهـ.
قال ابن رشد وقال (5) 55: وعمدة من أجازه ما روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بإخراج بني النضير جاء ناس منهم فقالوا: يا نبي الله إنك أمرت بإخراجنا ولنا على الناس
__________
(1) المبدع ص280 ج 4.
(2) بداية المجتهد ص142 ج 2.
(3) الاختيارات ص134.
(4) الإعلام ص371 ج 3 ط محيي الدين عبد الحميد.
(5) الإعلام ص371 ج 3 ط محيي الدين عبد الحميد.(10/101)
ديون لم تحل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضعوا وتعجلوا.
القول الثالث:
يجوز ذلك في دين الكتابة ولا يجوز في غيره؛ لأن ذلك يتضمن تعجيل العتق المحبوب إلى الله، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم، ولا ربا بين العبد وبين سيده، فالمكاتب وكسبه للسيد فكأنه أخذ بعض كسبه وترك بعضه (1) .
والراجح:
هو القول الثاني وهو جواز ذلك مطلقا؛ لأنه ليس مع من منعه دليل صحيح، والأصل في المعاملات الصحة والجواز ما لم يدل دليل على التحريم، وقياسهم منع ذلك على منع زيادة الدين وتمديد أجله قياس مع الفارق؛ لأن منع الزيادة في مقابلة التمديد ملاحظ فيه منع إثقال كاهل المدين من غير استفادة تحصل له، بخلاف هذه المسألة فإن فيها تخفيفا عنه، فإن قيل: والمدين يحصل له في المسألة الأولى فائدة التمديد في الأجل.
فالجواب: أن التمديد في الأجل في هذه المسألة إن كان المدين معسرا فهو واجب على الدائن بدون مقابل، وإن كان المدين موسرا وجب عليه أداء الحق عند حلوله، ويبدي العلامة ابن القيم رأيا آخر في مسألة: (ضع وتعجل) فيقول (2) : (ولو ذهب ذاهب إلى التفصيل في المسألة وقال: لا يجوز في دين القرض إذا قلنا بلزوم تأجيله ويجوز في ثمن المبيع والأجرة وعوض الخلع والصداق لكان له وجه، فإنه في القرض يجب رد المثل، فإذا عجل له وأسقط باقيه خرج عن موجب العقد، وكان قد أقرضه مائة فوفاه تسعين بلا منفعة حصلت للمقرض، بل اختص المقترض بالمنفعة فهو كالمربي سواء في اختصاصه بالمنفعة دون الآخر. وأما في البيع والإجارة فإنهما يملكان فسخ العقد وجعل العوض حالا أنقص مما كان، وهذا هو حقيقة الوضع والتعجيل لكن تحيلا عليه، والعبرة في العقود
__________
(1) إعلام الموقعين ص371 ج 3.
(2) إغاثة اللهفان ص14 ج 2.(10/102)
بمقاصدها لا بصورها، فإن كان الوضع والتعجيل مفسدة فالاحتيال عليه لا يزيل مفسدته، وإن لم يكن مفسدة لم يحتج إلى الاحتيال عليه.
الثاني: من نوعي ربا النسيئة: ما كان في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل مع تأخير قبضهما أو قبض أحدهما - ويسميه بعضهم: ربا اليد (1) - كبيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح، وكذا بيع جنس بآخر من هذه الأجناس مؤجلا، وما شاركها في العلة يجري مجراها في هذا الحكم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد (2) » في أحاديث كثيرة جاءت بمعناه (3) فقوله صلى الله عليه وسلم: (يدا بيد) يعني الحلول والتقابض قبل التفرق في بيع هذه الأشياء بعضها ببعض، ويقاس عليها ما شاركها في العلة - كما يأتي بيانه إن شاء الله.
__________
(1) انظر مغني المحتاج ص21 ج 2، والروض المربع ص117 ج 2 بحاشية العنقري.
(2) رواه أحمد والبخاري، المنتقى مع شرحه نيل الأوطار ص203 ج 5.
(3) رواه أحمد والبخاري، المنتقى مع شرحه نيل الأوطار ص203 ج 5.(10/103)
النوع الثاني من أنواع الربا:
ربا الفضل وهو الزيادة، وقد نص الشارع على تحريمه في ستة أعيان هي: الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح، واتفق الناس على تحريم التفاضل فيها مع اتحاد الجنس (1) ، فقد حكى غير واحد الإجماع على تحريمه بين الستة المذكورة إذا بيع بعضها ببعض (2) ، فإن قيل: كيف تصح حكاية الإجماع مع أنه ثبت في الصحيح عن ابن عباس عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ربا إلا في النسيئة (3) » فمقتضاه جواز ربا الفضل، وقد روي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما القول بجوازه (4) ، قيل عن ذلك عدة أجوبة:
__________
(1) انظر إعلام الموقعين ص136 ج 2.
(2) بمعناه من أضواء البيان للشنقيطي ص230 ج 1.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي ص25 ج 11.
(4) انظر نيل الأوطار ص 203 ج 5.(10/103)
الجواب الأول:
أن حديث أسامة منسوخ بالأحاديث التي تدل على تحريم ربا الفضل، ومما يدل على نسخه بها الإجماع على ترك العمل به (1) ، قال الشوكاني: لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال.
الجواب الثاني:
أنه محمول على ما إذا اختلف الجنسان، فإنه في هذه الحالة يجوز التفاضل ويحرم النسأ بدليل الروايات الصحيحة المصرحة بأن ذلك هو محل جواز التفاضل، وأنه في الجنس الواحد ممنوع (2) فيكون حديث أسامة عاما في الجواز فيما إذا اتحد الجنس أو اختلف، والأحاديث الأخرى خاصة بالمنع مع اتحاد الجنس، والخاص مقدم على العام كما هو مقتضى القواعد.
الجواب الثالث:
أنه حديث مجمل والأحاديث التي تمنع ربا الفضل مبينة، فيجب العمل بالمبين وتنزيل المجمل عليه (3) .
الجواب الرابع:
أنه رواية صحابي واحد، وروايات منع ربا الفضل عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رووها صريحة عنه صلى الله عليه وسلم ناطقة بمنع ربا الفضل، ورواية الجماعة من العدول أقوى وأثبت وأبعد عن الخطأ من رواية الواحد (4) .
__________
(1) النووي في شرح صحيح مسلم ص25 ج 11.
(2) أضواء البيان ص231 ج 1.
(3) النووي في شرح مسلم.
(4) أضواء البيان ص236 ج 1.(10/104)
الجواب الخامس:
أن المعنى في قوله: لا ربا إلا في النسيئة، أي الربا الأغلظ الشديد التحريم المتوعد عليه بالعقاب الشديد كما تقول العرب: لا عالم في البلد إلا زيد مع أن فيها علماء غيره، وإنما القصد نفي الأكمل لا نفي الأصل (1) .
الجواب السادس:
أن إباحة ربا الفضل في حديث أسامة المذكور إنما هي بدلالة المفهوم، وتحريمه بالأحاديث الأخرى بدلالة المنطوق، ولا شك أن دلالة المنطوق مقدمة على دلالة المفهوم (2) .
هذا ما أجيب به عن حديث أسامة، وكل جواب منها يكفي بمفرده لرد الاستدلال به بحمد الله، ولكن كلما تكاثرت الأجوبة كان أقوى في الرد وأقطع لحجة الخصم.
وأما الإجابة عما روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا بجواز ربا الفضل فهي أن يقال: إنما قالا ذلك باجتهادهما ثم لما بلغهما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في منعه رجعا عن رأيهما، فلم يبق أي شبهة في تحريم ربا الفضل، وصحت حكاية الإجماع على تحريمه كما سبق.
جودة أحد الجنسين الربويين على الآخر
__________
(1) نيل الأوطار ص203 ج 5.
(2) بمعناه من نيل الأوطار ص203 ج 5.(10/105)
هل جودة أحد الجنسين الربويين تبرر الزيادة من الجنس الرديء؟
لا تكون جودة أحد الجنسين مبررة للزيادة إذا بيع أحدهما بالآخر، والأصل في هذا حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ ، قال: لا والله يا رسول(10/105)
الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعل - بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا (1) » .
والجنيب قيل هو الطيب، وقيل هو الذي أخرج من حشفه ورديئه، وقيل هو الذي لم يختلط بغيره (2) ، وعلى كل التفاسير فالمراد به الجيد من التمر، والجمع تمر رديء أو هو الخليط من أنواع مختلفة (3) .
قال الشوكاني في نيل الأوطار (4) : والحديث يدل على أنه لا يجوز بيع رديء الجنس بجيده متفاضلا، وهذا أمر مجمع عليه لا خلاف بين أهل العلم فيه، انتهى، وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى الطريقة السليمة البعيدة عن الربا التي يسلكها من أراد أن يستبدل التمر الجيد بالتمر الرديء، وذلك بأن يبيع التمر الرديء بدراهم ويشتري بالدراهم تمرا جيدا، وهذه الطريقة تتبع في كل ربوي يراد استبداله بربوي أحسن منه؛ لأن الجودة في أحد الجنسين لا تبرر الزيادة إذا بيع أحدهما بالآخر والله أعلم.
إذا باع ربويا بثمن مؤجل فهل يجوز له أن يعتاض عن ذلك الثمن ربويا آخر؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (5) : (هذه فيها نزاع بين العلماء فمذهب الفقهاء السبعة ومالك وأحمد في المنصوص عليه (6) أن ذلك لا يجوز، فمن باع مالا ربويا كالحنطة والشعير وغيرهما إلى أجل لم يجز أن يعتاض عن ثمنه بحنطة أو شعير أو غير ذلك مما لا يباع به نسيئة؛ لأن الثمن لم يقبض فكأنه قد باع حنطة أو شعيرا بحنطة أو شعير إلى أجل متفاضلا) .
وهذا لا يجوز باتفاق المسلمين، وقال أبو حنيفة والشافعي: (هذا يجوز وهو اختيار أبي محمد المقدسي من أصحاب أحمد؛ لأن البائع إنما يستحق الثمن في ذمة المشتري وبه اشترى فأشبه ما لو قبضه ثم اشترى من غيره) ، وقد علل الشيخ المنع بأن الثمن لم يقبض
__________
(1) رواه البخاري \ فتح الباري 4 \ 399 - 1400، ومسلم مع شرح النووي 11 \ 24.
(2) فتح الباري 4 \ 400.
(3) شرح النووي على صحيح مسلم 11 \ 21.
(4) نيل الأوطار 5 \ 207.
(5) مجموع الفتاوى 29 \ 448-449.
(6) انظر كشاف القناع على متن الإقناع 3 \ 150.(10/106)
فكأنه قد باع الربوي بالربوي إلى أجل متفاضلا، وهذه الصورة لا تجوز بالإجماع فكذا ما شابهها وهي مسألتنا، وعلل صاحب الكشاف المنع بأنه ذريعة إلى بيع الربوي بالربوي نسيئة، ويكون الثمن المعوض عنه بينهما كالمعدوم لأنه لا أثر له (1) ، والشيخ تقي الدين حكى الخلاف ولم يرجح، ولكن مما لا شك فيه أن الخروج من الخلاف والاحتياط أمر مطلوب ومرغب فيه، والله أعلم.
__________
(1) الكشاف 3 \ 150.(10/107)
ربا القرض:
المشهور أن الربا ينقسم إلى قسمين: ربا نسيئة وربا فضل، وبعضهم (1) يزيد قسما ثالثا هو ربا القرض المشروط فيه جر نفع، قال ابن حجر المكي في الزواجر عن اقتراف الكبائر (1 \ 180) : لكنه في الحقيقة يرجع إلى ربا الفضل؛ لأنه الذي فيه شرط يجر نفعا للمقرض، فكأنه أقرضه هذا الشيء بمثله مع زيادة ذلك النفع الذي عاد إليه. انتهى. ولعل وجهة من عده قسما مستقلا هي أن القرض عقد مستقل وله أحكام خاصة به.
__________
(1) انظر مغني المحتاج (2 \ 21) .(10/107)
وصفة ربا القرض:
أن يقرضه شيئا ويشترط عليه أن يرد أفضل منه، أو شرط عليه نفعا ما نحو أن يسكنه داره، وهو حرام إجماعا لأنه عقد إرفاق وقربة فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه، والدليل على تحريم ذلك:
1 - عموم نصوص الكتاب والسنة الواردة في النهي عن الربا وهذا منه.
2 - الحديث الوارد بخصوص المنع منه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه أو حمله على دابة فلا يركبها ولا يقبلها إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك (1) » ، وما ورد بمعناه من الآثار التي تقويه عن جماعة من الصحابة (2) .
__________
(1) رواه ابن ماجه في سننه في باب القرض.
(2) انظر الروضة الندية للشيخ محمد بن إبراهيم.(10/107)
ما جاء عن أعيان الصحابة في تحريمه، وهم: عمر وابنه عبد الله وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن سلام وأبي بن كعب وابن عباس وفضالة بن عبيد رضي الله عنهم (1) .
3 - الإجماع وقد حكاه غير واحد (2) من العلماء.
فإذا كان النفع الذي يبذله المقترض للمقرض غير مشترط، فلا بأس به بدليل «أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكرا ورد خيرا منه، وقال: خيركم أحسنكم قضاء (3) » إلا أن الإمام مالكا كره أن يزيده في العدد، لا إن أعطاه أجود عينا وأرفع صفة، وأما أن يزيده في الكيل أو الوزن أو العدد فلا (4) .
وتعقب ذلك الإمام الشوكاني (5) فقال: ويرد عليهم (يعني المالكية) «حديث جابر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي عليه دين فقضاني وزادني (6) » فإنه صرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم زاده والظاهر أن الزيادة كانت في العدد، وقد ثبت في رواية البخاري أن الزيادة كانت قيراطا.
وهذا التفصيل في حكم النفع الذي يجره القرض من زيادة أو غيرها إذا بذل هذا النفع عند القضاء، أما إذا بذل قبل القضاء بأن أهدى إليه هدية فلا يحل له قبولها مطلقا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (7) : فنهى النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه المقرض عن قبول هدية المقترض قبل الوفاء؛ لأن المقصود بالهدية أن يؤخر الاقتضاء وإن كان لم يشترط ذلك ولم يتكلم به فيصير بمنزلة أن يأخذ الألف بهدية ناجزة وألف مؤخرة وهذا ربا، ولهذا جاز أن يزيد عند الوفاء ويهدي له بعد ذلك لزوال معنى الربا، ومن لم ينظر إلى المقاصد في العقود أجاز مثل ذلك وخالف بذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر بين.
__________
(1) الروضة الندية ص10 - 16.
(2) الروضة الندية ص10 - 16.
(3) متفق عليه من حديث أبي رافع.
(4) الكافي لابن عبد البر ص727 - 728.
(5) نيل الأوطار ص245 - 246 ج 2.
(6) متفق عليه.
(7) الجزء الثالث من مجموع الفتاوى الكبرى ص244.(10/108)
وقال ابن القيم (1) : فنهى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المقرض عن قبول هدية المقترض قبل الوفاء، فإن المقصود بالهدية أن يؤخر الاقتضاء وإن كان لم يشترط ذلك سدا لذريعة الربا.
ويفصل العلامة الشوكاني في ذلك فيقول: (2) والحاصل أن الهدية والعارية ونحوها إذا كانت لأجل التنفيس في أجل الدين أو لأجل رشوة صاحب الدين أو لأجل أن يكون لصاحب الدين منفعة في مقابل دينه فذلك محرم لأنه نوع من الربا أو رشوة، وإن كان ذلك لأجل عادة جارية بين المقرض والمستقرض قبل التداين فلا بأس، وإن لم يكن ذلك لغرض أصلا فالظاهر المنع لإطلاق النهي عن ذلك. اهـ.
وهذا التفصيل يشهد له ما جاء في الحديث السابق من قوله صلى الله عليه وسلم: إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك.
والحاصل أن النفع المبذول من المقترض للمقرض فيه التفصيل التالي:
1 - إن كان ذلك باشتراط فهو حرام مطلقا قبل الوفاء وبعده.
2 - إن كان بغير اشتراط جاز بعد الوفاء ولم يجز قبله إلا أن يكون الباعث عليه عادة جارية بينهما لا من أجل القرض، والله أعلم.
ويتعلق بمبحث ربا القرض مسألتان نص عليهما الفقهاء رحمهم الله:
1 - المسألة الأولى:
إذا أقرضه مبلغا ثم اشترى المقترض من المقرض شيئا واشترط الخيار حيلة على الانتفاع بالقرض ليأخذ غلة المبيع ونفعه ثم يرد المقترض القرض ويرد المقرض المبيع بالخيار، فهذا البيع والشرط باطل لأنه من الحيل، قال في الإقناع وشرحه (3) : (وإن شرطه) أي الخيار بائع (حيلة، ليربح فيما أقرضه حرم نصا) لأنه يتوصل به إلى قرض يجر نفعا (ولم يصح البيع لئلا يتخذ ذريعة للربا) ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه
__________
(1) ص184 ج 3 من إعلام الموقعين.
(2) نيل الأوطار ص246 ج 5.
(3) ج 3 ص163، وانظر المغني 3 \ 592 - 593.(10/109)
الله - (1) لما سئل عن ذلك: (إذا كان المقصود أن يأخذ أحدهما من الآخر دراهم وينتفع المعطي بعقار الآخر مدة مقام الدراهم في ذمته، فإذا أعاد الدراهم إليه أعاد إليه العقار فهذا حرام بلا ريب) ، وهذا دراهم بدراهم مثلها، ومنفعة الدار وهو الربا البين.
وقد اتفق العلماء على أن المقرض متى اشترط زيادة على قرضه كان ذلك حراما، وكذلك إذا تواطأ على ذلك في أصح قولي العلماء، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك (2) » ، حرم النبي صلى الله عليه وسلم الجمع بين السلف والبيع لأنه إذا أقرضه وباعه حاباه في البيع لأجل القرض، وكذلك إذا آجره وباعه وما يظهرونه من بيع الأمانة الذي يتفقون فيه على أنه إذا جاءه بالثمن أعاد إليه المبيع هو باطل باتفاق الأئمة سواء شرطه في العقد أو تواطأ عليه قبل العقد على أصح قولي العلماء، والواجب في مثل هذا أن يعاد العقار إلى ربه والمال إلى ربه ويعزر كل من الشخصين إن كانا علما بالتحريم. والقرض الذي يجر منفعة قد ثبت النهي عنه عن غير واحد من الصحابة الذين ذكرهم السائل وغيرهم كعبد الله بن سلام وأنس بن مالك وروي ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.
فشرط المنفعة في مقابلة القرض أو التواطؤ عليها من غير اشتراط ظاهر حرام، وكذلك الاحتيال على حصول هذه المنفعة كما في هذه المسألة وغيرها من الحيل حرام، والله أعلم.
المسألة الثانية:
مسألة السفتجة: يتعلق بمبحث النفع الذي يجره القرض أيضا مسألة السفتجة المشهورة عند الفقهاء.
السفتجة بالسين المهملة والتاء وإسكان الفاء بينهما وبالجيم: كتاب يكتبه المستقرض للمقرض إلى نائبه ببلد آخر ليعطيه ما أقرضه، وهي لفظة أعجمية (3) ، قال في المغني (4) : وإن شرط أن يعطيه إياه (يعني القرض) في بلد آخر وكان لحمله مؤنة لم يجز؛ لأنه زيادة، وإن لم يكن لحمله مؤنة جاز، وحكاه ابن المنذر عن علي وابن عباس والحسن بن علي
__________
(1) مجموع الفتاوى 29 \ 333 -334.
(2) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .
(3) تهذيب الأسماء واللغات 2 \ 149.
(4) ج 4 ص354 -355.(10/110)
وابن الزبير وابن سيرين وعبد الرحمن بن الأسود وأيوب السختياني والثوري وأحمد وإسحاق وكرهه الحسن البصري وميمون بن أبي شبيب وعبدة بن أبي لبابة. . ومالك والأوزاعي والشافعي؛ لأنه قد يكون في ذلك زيادة، وقد نص أحمد على أن من شرط أن يكتب له بها سفتجة لم يجز، ومعناه اشتراط القضاء في بلد آخر. وروي عنه جوازها لكونها مصلحة لهما جميعا إلى أن قال: والصحيح جوازه لأنه مصلحة لهما من غير ضرر بواحد منها، والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها بل بمشروعيتها، ولأن هذا ليس بمنصوص على تحريمه ولا في معنى المنصوص. اهـ.
وقال الشيخ تقي الدين (1) : إذا أقرضه دراهم ليستوفيها منه في بلد آخر مثل أن يكون المقرض غرضه حمل الدراهم إلى بلد آخر، والمقترض في ذلك البلد وهو محتاج إلى دراهم في بلد المقرض فيقترض منه ويكتب له (سفتجة) أي ورقة إلى بلد المقترض فهذا يصح في أحد قولي العلماء، [وقيل: نهي عنه لأنه قرض جر منفعة، والقرض إذا جر منفعة كان ربا، والصحيح الجواز] لأن المقترض رأى النفع بأمن خطر الطريق في نقل دراهمه إلى ذلك البلد، وقد انتفع المقترض أيضا بالوفاء في ذلك البلد وأمن خطر الطريق فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض، والشارع لا ينهى عما ينفعهم ويصلحهم وإنما ينهى عما يضرهم. اهـ.
وبناء على ما اختاره هذان الإمامان من مذهب من يرى جواز هذه المعاملة يتضح أن التحويل عن طريق المصارف والبنوك من بلد إلى بلد عملية جائزة إذا خلت من أخذ المصرف أو البنك زيادة من العميل (2) ، أما إذا أخذها فالمسألة موضع إشكال وتحتاج إلى دراسة متعمقة، والله أعلم.
__________
(1) مجموع الفتاوى 29 \ 530 - 531.
(2) وهو ما يسمونه العمولة، ويقولون: إنه بدل أتعاب وليس زيادة.(10/111)
القرض بالفائدة:
علمنا مما سبق تحريم الفائدة المشترطة في القرض من الكتاب والسنة والإجماع، وأن ذلك يتناول أي فائدة يشترطها المقرض على المقترض، فإن مقصود القرض إرفاق(10/111)
المقترض ونفعه ليس مقصوده المعاوضة والربح، ولهذا شبه بالعارية حتى سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم منيحة ورق، فكأنه أعاره الدراهم ثم استرجعها منه لكن لم يمكن استرجاع العين فاسترجع المثل، فهو بمنزلة من تبرع لغيره بمنفعة ماله ثم استعاد العين (1) ، فعلى هذا يكون القرض بالفائدة الذي تنتهجه البنوك في العصر الحاضر هو الربا الصريح الذي حرمه الله ورسوله وترتب عليه الوعيد الشديد في الدنيا والآخرة، حيث تقوم تلك البنوك بعقد صفقات القروض بينها وبين ذوي الحاجات وأرباب التجارات وأصحاب المصانع والحرف المختلفة فتدفع لهؤلاء مبالغ من المال نظير فائدة محددة بنسبة مئوية وتزداد هذه النسبة في حالة التأخر عن السداد في الموعد المحدد فيجتمع بذلك ربا الفضل وربا النسيئة (2) ، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) .
__________
(1) مجموع الفتاوى الكبرى ص 146 -147 ج 3.
(2) بمعناه من المعاملات المصرفية وموقف الإسلام منها للشيخ سعود بن دريب ص51 -52.
(3) سورة النور الآية 63(10/112)
مقارنة بين ربا النسيئة وربا الفضل:
1 - ربا النسيئة ربا جلي وربا الفضل ربا خفي، وربا النسيئة هو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، فكان الدائن يؤخر الدين عن المدين ويزيده عليه، وكلما أخر زاد الدين حتى تصير المائة آلافا مؤلفة.
2 - ربا النسيئة حرم قصدا لما فيه من الضرر العظيم، وهو إثقال كاهل المدين من غير فائدة تحصل له، وربا الفضل حرم لأنه وسيلة لربا النسيئة كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإني أخاف عليكم الرما (1) » ، والرما هو الربا فمنعهم من ربا الفضل لما يخافه عليهم من ربا النسيئة، وذلك إذا باعوا درهما بدرهمين، ولا يفعل هذا إلا للتفاوت بين النوعين إما في الجودة أو غيرها، فإنهم يتدرجون من الربح المعجل إلى الربح المؤخر وهو ربا النسيئة (2) .
__________
(1) إعلام الموقعين ص136 ج 2.
(2) إعلام الموقعين ص136ج 2.(10/112)
3 - ربا النسيئة مجمع على تحريمه إجماعا قطعيا، وربا الفضل وقع فيه خلاف ضعيف كما سبق.
4 - ربا النسيئة لم يبح منه شيء، وربا الفضل أبيح منه ما دعت الحاجة إليه، كذا يقول ابن القيم - رحمه الله - في إعلام الموقعين (1) ، قال: لأن ما حرم سدا للذريعة أخف مما حرم تحريم المقاصد، وذكر من ذلك مسألتين:
المسألة الأولى: العرايا فإنها مستثناة من منع تحريم الرطب بالتمر الذي جاء النهي عنه في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن اشتراء التمر بالرطب فقال لمن حوله: أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، فنهى عن ذلك (2) » ، فقد خصص من هذا الحديث بيع العرايا - وهي جمع عرية - فعيلة بمعنى مفعولة. وهي في اللغة: كل شيء أفرد من جملة، قال أبو عبيد: من عراه يعروه إذا قصده، ويحتمل أن يكون فعيلة بمعنى فاعلة من عري يعرى إذا خلع ثيابه، كأنها عريت من جملة التحريم - أي خرجت - وقال ابن عقيل هي في الشرع: بيع رطب في رءوس نخله بتمر كيلا - وهذا على الصحيح من مذهب الحنابلة: أن العرية مختصة بالرطب والتمر (3) - والدليل على تخصيص العرايا من حديث النهي عن بيع الرطب بالتمر هو حديث رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة - بيع الثمر بالتمر - إلا أصحاب العرايا فإنه قد أذن لهم (4) » ، وعن زيد بن ثابت: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا أن تباع بخرصها كيلا (5) » ، رواه أحمد والبخاري.
وفي لفظ: «رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا (6) » - متفق عليه (7) - قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما العرايا فإن النبي صلى الله عليه وسلم استثناها مما نهى عنه من المزابنة أن يشتري الرطب في الشجر بخرصه من التمر (8) ، ويشترط لإباحة
__________
(1) إعلام الموقعين ص140 ج 2.
(2) رواه الخمسة وصححه الترمذي \ نيل الأوطار 5 \ 211.
(3) المطلع على أبواب المقنع ص241.
(4) رواه أحمد والبخاري والترمذي نيل الأوطار 5 \ 212.
(5) صحيح البخاري البيوع (2188) ، صحيح مسلم البيوع (1539) ، سنن الترمذي البيوع (1300) ، سنن النسائي البيوع (4539) ، سنن أبو داود البيوع (3362) ، سنن ابن ماجه التجارات (2269) ، مسند أحمد بن حنبل (5/182) ، موطأ مالك البيوع (1307) ، سنن الدارمي البيوع (2558) .
(6) صحيح البخاري البيوع (2191) ، صحيح مسلم البيوع (1540) ، سنن الترمذي البيوع (1303) ، سنن النسائي البيوع (4543) ، سنن أبو داود البيوع (3363) .
(7) نيل الأوطار 5 \ 212.
(8) مجموع الفتاوى 29 \ 427.(10/113)
بيع العرايا خمسة شروط هي:
1 - أن يبيعها خرصا بمثل ما تؤول إليه إذا جفت كيلا لا جزافا؛ لأن الأصل اعتبار الكيل من الجانبين فسقط في أحدهما وأقيم الخرص مقامه للحاجة، فيبقى الآخر على مقتضى الأصل.
2 - أن يكون مقدار العرية فيما دون خمسة أوسق لقول أبي هريرة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا أن تباع بخرصها فيما دون خمسة أو خمسة أوسق (1) » .
شك داود بن الحصين (2) أحد رواته فلا يجوز في الخمسة لوقوع الشك فيها.
والوسق: ستون صاعا بالصاع النبوي.
3 - أن يكون المشتري محتاجا إلى الرطب لما ذكره الشافعي في اختلاف الحديث عن محمود بن لبيد قال: قلت لزيد بن ثابت: ما عراياكم هذه؟ قال: فلان وأصحابه شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرطب يحضر وليس عندهم ذهب ولا فضة يشترون بها منه، وعندهم فضل تمر من قوت سنتهم فرخص لهم أن يشتروا العرايا بخرصها من التمر يأكلونها رطبا، قال الشافعي: وحديث سفيان يدل لهذا فإن قوله: (يأكلونها رطبا) يشعر بأن مشتري العرية يشتريها ليأكلها، وأنه ليس له رطب يأكله غيرها (3) .
4 - أن يكون مشتري العرية لا ثمن معه كما في حديث محمود بن لبيد المذكور.
5 - حصول التقابض (4) بين البائع والمشتري، فالمشتري يقبض الرطب على النخلة بالتخلية، والبائع يقبض التمر بكيله وتسلمه من المشتري.
المسألة الثانية: مسألة بيع الحلي المصاغ بذهب زائد على وزنه، قال الشيخ تقي الدين في الاختيارات الفقهية (5) : [ويجوز بيع المصوغ من الذهب والفضة بجنسه من غير
__________
(1) متفق عليه.
(2) فتح الباري 4 \ 388.
(3) فتح الباري 4 \ 392 - 393.
(4) انظر هذه الشروط في حاشية العنقري على شرح الزاد 2 \ 113، وكشاف القناع 3 \ 211.
(5) ص127.(10/114)
اشتراط التماثل، ويجعل الزائد في مقابلة الصنعة سواء كان البيع حالا أو مؤجلا ما لم يقصد كونها ثمنا] ، ومعنى قوله: [ما لم يقصد كونها ثمنا] أي لم يقصد الثمنية في الحلي وإنما قصد كونه حليا يلبس كالثياب.
وقد أفاض العلامة ابن القيم في هذا الموضوع حيث قال (1) : " وأما إن كانت الصياغة مباحة كخاتم الفضة وحلية النساء وما أبيح من حلية السلاح وغيرها فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها فإنه سفه وإضاعة للصنعة "، والشارع أحكم من أن يلزم الأمة بذلك فالشريعة لا تأتي به ولا تأتي بالمنع من بيع ذلك وشرائه لحاجة الناس إليه، فلم يبق إلا أن يقال: لا يجوز بيعها بجنسها ألبتة بل يبيعها بجنس آخر وفي هذا من الحرج والعسر والمشقة ما تنفيه الشريعة، فإن أكثر الناس ليس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون إليه من ذلك، والبائع لا يسمح ببيعه ببر وشعير وثياب، وتكليف الاستصناع لكل من احتاج إليه إما متعذر أو متعسر، والحيل باطلة في الشرع، وقد جوز الشارع بيع الرطب بالتمر لشهوة الرطب، وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو الحاجة إلى بيعه وشرائه، فلم يبق إلا جواز بيعه كما تباع السلع، فلو لم يجز بيعه بالدراهم فسدت مصالح الناس.
والنصوص الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيها ما هو صريح في المنع، وغايتها أن تكون عامة أو مطلقة ولا ينكر تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي، إلى أن قال: " يوضحه أن الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع لا من جنس الأثمان، ولهذا لم تجب فيها الزكاة فلا يجري الربا بينها وبين الأثمان، كما لا يجري بين الأثمان وبين سائر السلع وإن كانت من غير جنسها، فإن هذه بالصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان وأعدت للتجارة فلا محذور في بيعها بجنسها، ولا يدخلها (إما أن تقضي وإما أن تربي) إلا كما يدخل في سائر السلع إذا بيعت بالثمن المؤجل "، ومضى العلامة ابن القيم يبرر هذا الرأي حتى استغرق قرابة ست صفحات.
هذا حاصل رأي الشيخ تقي الدين وتلميذه ابن القيم في بيع الحلي من الذهب أو الفضة بجنسه مع زيادة -والمذهب أن ذلك لا يجوز - قال في الإقناع وشرحه (2) : فلا
__________
(1) إعلام الموقعين 2 \ 140 - 141.
(2) كشاف القناع عن متن الإقناع 3 \ 206.(10/115)
يجوز بيع مصنوع من الموزونات لم تخرجه الصناعة عن الوزن بجنسه إلا بمثله وزنا سواء ماثله في الصناعة أو لا؛ لعموم الحديث، وجوز الشيخ بيع مصنوع مباح الاستعمال كخاتم ونحوه بيع بجنسه بقيمته حالا جعلا للزائد عن وزن الخاتم في مقابلة الصنعة فهو كالأجرة، وكذا جوزه (أي بيع خاتم بجنسه بقيمته نساء) ما لم يقصد كونها ثمنا فإن قصد ذلك لم يجز النسأ. اهـ.(10/116)
6 - الأشياء التي يجري فيها الربا:
هناك أشياء مجمع (1) على جريان الربا فيها وهي الأصناف الستة: الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح، وما عدا هذه الأصناف فقد اختلف في جريان الربا فيه، ومنشأ هذا الخلاف يرجع إلى أنه هل يقاس على هذه الأصناف غيرها مما شاركها في العلة أو لا؟ أو بعبارة أخرى: هل تحريم الربا في هذه الأشياء لمعنى فيها فيقاس عليها غيرها مما شاركها في هذا المعنى أو لأعيانها، وإذا كان لمعنى فيها فهل عرف ذلك المعنى.
أولا - إليك أقوالهم في ذلك:
القول الأول: أن تحريم الربا محصور في هذه الأشياء الستة لا يتجاوزها إلى غيرها، ويروى هذا القول عن قتادة وهو قول أهل الظاهر (2) وقال به أيضا طاوس وعثمان البتي وأبو سليمان (3) ، قال ابن حزم بعد (4) أن ساق بعض الأدلة على تحريم الربا والوعيد عليه: فإذا أحل الله البيع وحرم الربا فواجب طلب معرفته ليتجنب، وقال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (5) فصح أن ما فصل لنا بيانه على لسان رسوله عليه السلام من الربا أو من الحرام فهو ربا وحرام، وما لم يفصل لنا تحريمه فهو حلال؛ لأنه لو جاز أن يكون في الشريعة شيء حرمه الله تعالى ثم لم يفصله لنا ولا بينه رسوله عليه السلام لكان تعالى كاذبا في قوله: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} (6) وهذا كفر صريح ممن قال به، ولكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصيا لربه تعالى؛ إذ أمره بالبيان فلم يبين فهذا كفر متيقن ممن أجازه. اهـ
__________
(1) المبدع ص128 ج 4، إعلام الموقعين ص136ج 2.
(2) المبدع ص128 ج 4، إعلام الموقعين ص136ج 2.
(3) المحلى ج 9 ص504.
(4) المحلى ج 9 ص504.
(5) سورة الأنعام الآية 119
(6) سورة الأنعام الآية 119(10/116)
وهو كلام فيه قسوة وشدة كما هي عادة ابن حزم رحمه الله.
وممن اختار هذا القول الإمام الصنعاني حيث يقول في سبل السلام شرح بلوغ المرام (1) ما نصه: " ولكن لما لم يجدوا - أي الجمهور - علة منصوصة اختلفوا فيها اختلافا كثيرا يقوي للناظر العارف أن الحق ما ذهبت إليه الظاهرية من أنه لا يجري الربا إلا في الستة المنصوص عليها، وقد أفردنا الكلام على ذلك في رسالة مستقلة سميتها: (القول المجتبى) . اهـ، واختاره من الحنابلة ابن عقيل (2) في آخر مصنفاته مع قوله بالقياس، قال: لأن علل القياسيين في مسألة الربا علل ضعيفة، وإذا لم تظهر فيه علة امتنع القياس
القول الثاني: وهو قول جمهور العلماء أن الربا يتجاوز هذه الأصناف الستة إلى غيرها مما شاركها في العلة، قال الشوكاني في الدراري البهية (3) : (ومما يدل على أن الربا يثبت في غير هذه الأجناس حديث ابن عمر في الصحيحين قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة أن يبيع الرجل ثمر حائطه إن كان نخلا بثمر كيلا، وإن كان كرما أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كله (4) » ، وفي لفظ لمسلم: عن كل ثمر يخرصه، فإن هذا الحديث يدل على ثبوت الربا في الكرم والزبيب، ورواية مسلم تدل على أعم من ذلك، ومما يدل على الإلحاق ما أخرجه مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان» ، وأخرجه أيضا الشافعي، وأبو داود في المراسيل، ووصله الدارقطني في الغرائب عن مالك عن الزهري عن سهل بن سعد، وحكم بضعفه وصوب الرواية المرسلة، وتبعه ابن عبد البر، وله شاهد من حديث ابن عمر عند البزار إلى أن قال: وله شاهد أقوى منه في رواية الحسن عن سمرة عند الحاكم والبيهقي وابن خزيمة، ومما يؤيد ذلك حديث رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة عند الترمذي في رخصة العرايا وفيه: عن بيع العنب بالزبيب وعن كل ثمر يخرصه.
ولما اتفقوا على أنه يلحق بالأصناف المنصوصة ما شاركها في العلة ولم تكن تلك العلة منصوصة اختلفوا فيها على الأقوال التالية:
__________
(1) صفحة 8 ج 3 ط الاستقامة عام 1369هـ.
(2) المبدع ص128 ج 4، وإعلام الموقعين ص136 ج 2.
(3) ص105.
(4) صحيح البخاري البيوع (2205) ، صحيح مسلم البيوع (1542) ، سنن النسائي البيوع (4549) ، سنن ابن ماجه التجارات (2265) .(10/117)
1 - علة الربا في النقدين:
اختلفوا في ذلك على قولين:
القول الأول: أن العلة فيهما الوزن، وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه (1) ومذهب أبي حنيفة (2) فعلى هذا القول يجري الربا في كل موزون مطعوما كان أو غيره لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن (3) » ، وعلى هذا لا يجري الربا في النقود الورقية المستعملة اليوم ولا في الفلوس من غير ذهب أو فضة لأنها غير موزونة.
القول الثاني: أن العلة فيهما الثمنية وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في الرواية الثانية (4) ، قال العلامة ابن القيم الثانية (5) . وهذا هو الصحيح بل الصواب، وعلل لذلك بأمرين:
الأمر الأول: أنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد وغيرهما من الموزونات، فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا؛ فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النسأ، والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها.
الأمر الثاني: أن التعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض بخلاف التعليل بالثمنية، فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي يعرف به تقويم الأعمال. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: والأظهر أن العلة في ذلك هي الثمنية لا الوزن (6) ، وبناء على هذا القول فإنه يجري الربا في الأوراق النقدية المتعامل بها في هذا العصر، وقد جاء في قرار هيئة كبار العلماء حول هذا الموضوع ما نصه: (7) وحيث إن القول باعتبار
__________
(1) إعلام الموقعين لابن القيم ص137 ج 2، والمبدع ص128 ج 4.
(2) بدائع الصنائع ص183 ج 5.
(3) أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي.
(4) انظر مغني المحتاج ص25 ج 2، وبداية المجتهد ص129 ج 2، وإعلام الموقعين ص137 ج 2.
(5) انظر مغني المحتاج ص25 ج 2، وبداية المجتهد ص129 ج 2، وإعلام الموقعين ص137 ج 2.
(6) مجموع الفتاوى ص471 ج 29.
(7) مجلة البحوث الإسلامية، المجلد الأول، رجب، شعبان، رمضان 1395هـ.(10/118)
مطلق الثمنية علة في جريان الربا في النقدين هو الأظهر دليلا والأقرب إلى مقاصد الشريعة، وهو إحدى الروايات عن الأئمة: مالك وأبي حنيفة وأحمد، قال أبو بكر: روى ذلك عن أحمد جماعة كما هو اختيار بعض المحققين من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما، وحيث إن الثمنية متحققة بوضوح في الأوراق النقدية لذلك كله فإن هيئة كبار العلماء تقرر بأكثريتها: أن الورق النقدي يعتبر نقدا قائما بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرها من الأثمان، وأنه أجناس تتعدد بتعدد جهات الإصدار، بمعنى أن الورق النقدي السعودي جنس، وأن الورق الأمريكي جنس، وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته وأنه يترتب على ذلك الأحكام الشرعية الآتية:
أولا: جريان الربا بنوعيه فيها كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة وفي غيرها من الأثمان كالفلوس وهذا يقتضي ما يلي:
أ- لا يجوز بيع بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى من ذهب أو فضة أو غيرهما نسيئة مطلقا، فلا يجوز مثلا بيع الدولار الأمريكي بخمسة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر نسيئة.
ب- لا يجوز بيع الجنس الواحد منه بعضه ببعض متفاضلا سواء كان ذلك نسيئة أو يدا بيد، فلا يجوز مثلا بيع عشرة أريلة سعودية ورق بأحد عشر ريالا سعوديا ورقا.
ج - يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقا إذا كان ذلك يدا بيد، فيجوز بيع الليرة السورية أو اللبنانية بريال سعودي ورقا كان أو فضة أو أقل من ذلك أو أكثر، وبيع الدولار الأمريكي بثلاثة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر إذا كان ذلك يدا بيد، ومثل ذلك في الجواز بيع الريال السعودي الفضة بثلاثة أريلة سعودية ورق أو أقل أو أكثر يدا بيد؛ لأن ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه، ولا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة.
ثانيا: وجوب زكاتها إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة، أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المعدة للتجارة إذا كانت مملوكة لأهل وجوبها.(10/119)
ثالثا: جواز جعلها رأس مال في السلم والشركات. اهـ، هذا ما قررته الهيئة وهو قرار يتسم بالوضوح وسلامة المبنى، حيث بني على القول الراجح باعتبار العلة في النقدين الثمنية فيتعدى ذلك إلى كل ما جعل أثمانا، لكن لم يتضح لي وجه اعتبار النقود الورقية إذا اختلفت جهات إصدارها أجناسا مختلفة يجوز فيها التفاضل، والقرار لم يوضح وجه ذلك، ولئن كان اختلاف الجنس واضحا بين نقود الذهب والفضة ونقود الورق لاختلاف مادة كل منها عن الأخرى فليس ذلك واضحا في نقود الورق التي هي من مادة واحدة اختلف اسمها فقط واختلفت جهة إصدارها، ولم نر لاختلاف الاسم والجهة أثرا في نقود الذهب والفضة لما كانت مادتهما واحدة، كما أن القرار اعتبرها متقومة في مسألة الزكاة كالعروض، فلم يتحرر له رأي فيها.
وبعض الباحثين من علماء العصر (1) يميل إلى جواز ربا الفضل في الأوراق النقدية دون ربا النسيئة، وبرر ذلك بعدة أمور:
1 - أن تحريم ربا الفضل إنما كان لأجل أنه وسيلة إلى ربا النسيئة.
2 - لأن بعض العلماء أجازه (أي ربا الفضل) وإن كان محجوجا بالأدلة الشرعية.
3 - كون الأوراق غير منقودة حقيقية.
4 - أن كثيرا من الأصحاب رجح بيع الفلوس بعضها ببعض حاضرا بحاضر بدون شرط التماثل، ومنع بيع بعضها ببعض مؤجلا ومن بيعها بأحد النقدين مؤجلا، والفلوس إلى النقدين أقرب من الأنواط إلى النقدين.
5 - أن ربا الفضل أبيح منه ما تدعو الحاجة إليه كمسألة العرايا، وأجاز كثير من أهل العلم بيع حلي الذهب بذهب وحلي الفضة بفضة متفاضلا بين الحلي والسكة، جعلا للصنعة أثرها من الثمنية والتقويم.
6 - الحاجة بل الاضطرار إلى هذه المسألة التي في كثير من الأقطار التي يضطر أهلها على الجري على القواعد المؤسسة عندهم في المعاملات التي لا يمكن للمعامل الخروج عنها مع كونه غير ربا النسيئة مع كون الأنواط غير جوهر الذهب والفضة
__________
(1) هو الشيخ عبد الرحمن السعدي، انظر الفتاوى السعدية ص318، 327 -328.(10/120)
مع اختلاف أهل العلم في حكمها مما يسوغ هذا القول بل يرجحه. اهـ. هذا حاصل ما علل به لرأيه، والفرق بينه وبين ما في قرار هيئة كبار العلماء الذي سقناه قبل، أن قرار الهيئة أباح التفاضل في الأوراق النقدية بشرط اختلاف جهة الإصدار، وهذا الباحث أجازه مطلقا، وأن القرار اعتبر الأوراق النقدية نقودا مستقلة، وهذا الباحث اعتبرها بمنزلة الفلوس المعدنية، فالمسوغ للتفاضل فيها عنده هو كونها بمنزلة الفلوس، والمسوغ له عند الهيئة هو اختلاف جهة الإصدار باعتبارها اختلاف جنس.
ويمكننا أن نناقش هذا الرأي بأنه ما دام يحرم ربا النسيئة في الأوراق النقدية فيلزمه أن يحرم ربا التفاضل فيها؛ لأنه وسيلة إلى ربا النسيئة بناء على قاعدة سد الذرائع، والمعروف في الشرع أن الجنس الواحد من الربويات يحرم فيه ربا الفضل وربا النسيئة كالذهب بالذهب والفضة بالفضة فهكذا الورق النقدي؛ لأنه جنس واحد والعلة فيه واحدة، والمبررات التي ذكرها - خصوصا دعوى الحاجة إلى جريان التفاضل في الأوراق - لا تكفي؛ لأن مجرد دفع الحاجة لا يكفي مبررا لإباحة الشيء دون نظر إلى الضرر المترتب عليه، إذ من المعلوم أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وقوله: أن ربا الفضل أبيح منه ما تدعو الحاجة إليه كمسألة العرايا، وأجاز كثير من أهل العلم بيع الحلي من الذهب أو الفضة بمثله متفاضلا.
يجاب عنه بأن العرايا قد استثناها النبي صلى الله عليه وسلم مما نهى عنه من المزابنة، وهي أن يشتري الرطب في الشجر بخرصه من التمر؛ لأنه إذا لم يعلم التماثل في ذلك لم يجز البيع، ولهذا يقول الفقهاء: الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، والتماثل يعلم بالوزن والكيل، وأما الخرص فيعمل به عند الحاجة، فالعرايا رخصة رخص فيها الشارع تقدر بما ورد به النص فقط، وليس فيها تفاضل محقق بل يجتهد في خرصها وتماثلها، فإن حصل بعد ذلك فيها تفاضل فهو غير متعمد، ثم هل بلغت الحاجة إلى التفاضل في الأوراق النقدية مبلغ الحاجة إلى العرايا التي رخص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما مسألة إجازة بعض العلماء بيع الحلي المصوغ من الذهب أو الفضة بمثله متفاضلا فهي مسألة اجتهادية تفتقر إلى دليل، ولا يصح أن تتخذ دليلا لما نحن فيه، والله أعلم.(10/121)
2 - علة الربا في بقية الأصناف المنصوصة وهي البر والشعير والتمر والملح، اختلفوا في ذلك على أقوال:
القول الأول: أن علة ربا الفضل فيها الاقتيات والادخار وهذا قول المالكية (1) ، أي مجموع الأمرين فالطعام الربوي ما يقتات ويدخر، أي ما تقوم به البينة عند الاقتصار عليه ويدخر إلى الأمد المبتغى منه عادة ولا يفسد بالتأخير (2) ، وهل يشترط مع ذلك كونه متخذا لغلبة العيش بأن يكون غالب استعماله اقتيات الآدمي بالفعل كقمح وذرة أو لا يشترط كاللوبيا؟ قولان عندهم والأكثر منهم على عدم اشتراط ذلك (3) ، ووجه التعليل بالاقتيات والادخار أنه أخص أوصاف الأربعة المذكورة (4) .
وعلة ربا النسأ عندهم مجرد الطعم لا على وجه التداوي، أي كونه مطعوما لآدمي فتدخل الفاكهة والخضر كبطيخ أو بقول كخس ونحو ذلك فيمنع بيع بعضها ببعض إلى أجل ولو تساويا، ويجوز التفاضل فيها في الجنس الواحد وغيره، فعلة ربا النسأ مجرد الطعمية، وجد الاقتيات والادخار أو لم يوجدا أو وجد أحدهما فقط (5) فهم يفرقون بين علة ربا الفضل وعلة ربا النسأ، قال العلامة القرطبي في تفسيره: (6) واختلفت عبارات أصحابنا المالكية في ذلك، وأحسن ما في ذلك كونه مقتاتا مدخرا للعيش غالبا جنسا كالحنطة والشعير والتمر والملح المنصوص عليها وما في معناها كالأرز والذرة والدخن والسمسم، والقطاني كالفول والعدس واللوبيا والحمص وكذلك اللحوم والألبان والخلول والزيوت والثمار كالعنب والزبيب والزيتون، واختلف في التين، ويلحق بها العسل والسكر فهذا كله يدخله الربا من جهة النسأ وجائز فيه التفاضل لقوله عليه السلام: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (7) » ، ولا ربا في رطب الفواكه التي لا تبقى كالتفاح والبطيخ والرمان والكمثرى والقثاء والخيار والباذنجان وغير ذلك من الخضروات. اهـ.
__________
(1) الشرح الكبير ص37 - 38 ج 3 للدردير.
(2) الشرح الصغير ص37 ج 3.
(3) الشرح الكبير ص42 ج 3 للمالكية.
(4) أضواء البيان ص247 ج 1.
(5) الشرح الكبير ص42 ج 3 للمالكية. أضواء البيان ص247 ج 1.
(6) ص353 ج 3.
(7) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، مسند أحمد بن حنبل (5/320) .(10/122)
وهو كلام إذا عرضناه على المصادر التي نقلنا منها الكلام الذي قبله وجدناه يختلف بعض الاختلاف فلعله اختيار له.
وقد رجح العلامة ابن القيم قول مالك حيث قال: (1) [وطائفة خصته] أي جريان الربا في القوت وما يصلحه وهو قول مالك وهو أرجح هذه الأقوال كما ستراه، ثم قال بعد ذلك: (2) وأما الأصناف الأربعة المطعومة فحاجة الناس إليها أعظم من حاجتهم إلى غيرها؛ لأنها أقوات العالم وما يصلحها، فمن رعاية مصالح العباد أن منعوا من بيع بعضها ببعض إلى أجل سواء اتحد الجنس أو اختلف، ومنعوا من بيع بعضها ببعض حالا متفاضلا وإن اختلفت صفاتها.
وجوز لهم التفاضل فيها مع اختلاف أجناسها، وسر ذلك - والله أعلم - أنه لو جوز بيع بعضها ببعض نسأ لم يفعل ذلك أحد إلا إذا ربح وحينئذ تسمح نفسه ببيعها حالة لطمعه في الربح فيعز الطعام على المحتاج ويشتد ضرره، وعامة أهل الأرض ليس عندهم دراهم ولا دنانير لا سيما أهل العمود والبوادي، وإنما يتناقلون الطعام بالطعام، فكان من رحمة الشارع بهم وحكمته أن منعهم من ربا النسأ فيهم كما منعهم من ربا النسأ في الأثمان؛ إذ لو جوز لهم النسأ فيها لدخلها: (إما أن تقضي وإما أن تربي) فيصير الصاع الواحد قفزانا كثيرة، ففطموا عن النسأ ثم فطموا عن بيعها متفاضلا يدا بيد؛ إذ تجرهم حلاوة الربح وظفر الكسب إلى تجارة فيها نسأ وهو عين المفسدة.
القول الثاني: أن العلة في هذه الأربعة هي الطعمية - أي كونها مطعومة -وهذا قول الشافعي في الجديد، ورواية عن الإمام أحمد وهو الأظهر في مذهب الشافعية (3) ، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «الطعام بالطعام مثلا بمثل (4) » ، قال معمر راوي الحديث: وكان طعامنا يومئذ الشعير (5) فدل على أن العلة الطعم وإن لم يكل ولم يوزن؛ لأنه علق ذلك على الطعام وهو اسم مشتق، وتعليق الحكم على الاسم المشتق يدل على التعليل بما منه الاشتقاق.
__________
(1) إعلام الموقعين ص137 ج 2.
(2) ص138 من الإعلام.
(3) مغني المحتاج ص22ج 2، وإعلام الموقعين ص137 ج 2.
(4) صحيح مسلم المساقاة (1592) ، مسند أحمد بن حنبل (6/401) .
(5) رواه أحمد ومسلم، المنتقى مع شرحه ص205 ج 5.(10/123)
والطعام: ما قصد للطعم بضم الطاء مصدر طعم بكسر العين، أي أكل غالبا، وذلك بأن يكون أظهر مقاصده الطعم وإن لم يؤكل إلا نادرا كالبلوط والطرثوث، وإن لم يكل ولم يوزن، وسواء أكل بقصد الاقتيات أو التفكه أو التداوي، فالبر والشعير المقصود منهما التقوت فألحق بهما ما في معناهما كالأرز والذرة، والتمر المقصود منه التفكه والتأدم، فألحق به ما في معناه كالتين والزبيب، والملح المقصود منه الإصلاح، فألحق به ما في معناه كالمصطكي والسقمونيا والطين الأرمني والزنجبيل، ولا فرق بين ما يصلح الغذاء أو يصلح البدن، فإن الأغذية لحفظ الصحة، والأدوية لرد الصحة، هذا حاصل هذا القول (1) لكن نوقش (2) الاستدلال له بالحديث السابق بأن راويه قال: وقد كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الطعام بالطعام مثلا بمثل (3) » ، قال عقبة: (وكان طعامنا يومئذ الشعير) ، وهذا صريح في أن الطعام في عرفهم يومئذ الشعير، وقد تقرر في الأصول أن العرف المقارن للخطاب من مخصصات النص العام، فلا يعم لفظ الطعام الوارد في الحديث كل مطعوم؛ لأنه خصص بالعرف، ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن التخصيص بالعرف موضع خلاف بين الأصوليين ليس محل وفاق.
القول الثالث: أن العلة في الأربعة المذكورة كونها مكيلة، جنس فيتعدى الحكم فيها إلى كل مكيل ولو كان غير طعام كالجص والنورة والأشنان، وهذا مذهب عمار وأحمد في ظاهر مذهبه (4) وأبي حنيفة (5) واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «ما وزن مثل بمثل إذا كان نوعا واحدا، وما كيل فمثل ذلك، فإذا اختلف النوعان فلا بأس به (6) » وغيره من الأحاديث التي ورد فيها لفظ (مثلا بمثل) فإنه يدل على الضبط بالكيل والوزن، قال العلامة الشنقيطي (7) : وهذا القول أظهر دليلا. اهـ.
__________
(1) المنتقى مع شرحه ص205 ج 5.
(2) أضواء البيان ص249، 250 ج 1.
(3) صحيح مسلم المساقاة (1592) ، مسند أحمد بن حنبل (6/401) .
(4) إعلام الموقعين ص136 ج 2.
(5) بدائع الصنائع ص183 ج 5.
(6) رواه الدارقطني والبزار ويشهد لصحته حديث عبادة المذكور أولا وغيره من الأحاديث، الشوكاني في نيل الأوطار ص205 ج 5.
(7) أضواء البيان 251 ج 2.(10/124)
فعلى هذا لا يجري الربا في مطعوم لا يكال ولا يوزن كالمعدودات، فتباع بيضة وخيارة وبطيخة ورمانة بمثلها (1) .
القول الرابع: وهو قول الشافعي في القديم (2) أن العلة فيها هي الطعمية مع الكيل أو الوزن، فالعلة فيها كونها مطعومة موزونة أو مكيلة بشرط الأمرين، فعلى هذا لا ربا في البطيخ والسفرجل ونحوه مما لا يكال ولا يوزن (3) ولا فيما يكال أو يوزن لكنه غير مطعوم كالزعفران والأشنان والحديد والرصاص ونحوها، وهذا قول سعيد بن المسيب وهو أيضا رواية عن أحمد (4) واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: (5) [والعلة في تحريم ربا الفضل الكيل أو الوزن مع الطعم وهو رواية عن أحمد رحمه الله] . اهـ.
هذا حاصل آراء المذاهب الأربعة في علة الربا في الأصناف المنصوصة، وهناك آراء أخرى في هذه المسألة ذكرها العلامة الشنقيطي في تفسيره، والإمام ابن حزم في المحلى فليراجعها من شاء.
وكنتيجة لما سبق من خلاف في تحديد العلة كل على مذهبه فيها نختم بالجملة التالية:
يقول الإمام النووي - رحمه الله - في شرحه على صحيح مسلم (11 \ 9) : وأجمع العلماء على جواز بيع الربوي بربوي لا يشاركه في العلة متفاضلا ومؤجلا، وذلك كبيع الذهب بالحنطة وبيع الفضة بالشعير وغيره من المكيل، وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع الربوي بجنسه وأحدهما مؤجل، وعلى أنه لا يجوز التفاضل إذا بيع بجنسه حالا كالذهب بالذهب، وعلى أنه لا يجوز التفرق قبل التقابض إذا باعه بجنسه أو بغير جنسه مما يشاركه في العلة كالذهب بالفضة والحنطة بالشعير.
وعلى أنه يجوز التفاضل عند اختلاف الجنس إذا كان يدا بيد كصاع حنطة بصاعي شعير، ولا خلاف بين العلماء في شيء من هذا إلا ما سنذكره - إن شاء الله تعالى - عن ابن عباس في تخصيص الربا بالنسيئة. اهـ.
__________
(1) المبدع ص129 ج 4.
(2) مغني المحتاج ص22ج 2.
(3) شرح النووي على صحيح مسلم ص9ج 11.
(4) ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ص470 ج 29، وإعلام الموقعين ص137 ج 2، ج 9.
(5) الاختيارات ص 127، وانظر مجموع الفتاوى الوضع السابق.(10/125)
7 - تحريم الوسائل والحيل الربوية:
الربا حرام بالكتاب والسنة والإجماع، وكل وسيلة إلى الحرام فهي حرام، لكن قد أخبر صلى الله عليه وسلم أن طائفة من أمته ستستحل الربا باسم البيع فقال: «يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع (1) » ، والربا لم يحرم لمجرد لفظه بحيث إذا غير هذا اللفظ تغير حكمه وانتقل من التحريم إلى الإباحة، وإنما حرم لحقيقته ومعناه، وهذه الحقيقة موجودة رغم الحيل والمراوغات، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل» ، والتحيل لا يرفع المفسدة التي حرم الربا من أجلها بل يزيدها قوة وتأكيدا، قال العلامة ابن القيم (2) : وذلك من وجوه عديدة:
منها: أنه يقدم على مطالبة المحتاج بقوة لا يقدم بمثلها المرابي الصريح؛ لأنه واثق بصورة العقد واسمه.
ومنها: اعتقاده أن ذلك تجارة مدارة حاضرة والنفوس أرغب شيء في التجارة، ومن الذرائع التي حرمها الشارع لإفضائها إلى الربا:
1 - أنه نهى عن بيع الربوي بالربوي عن طريق الخرص والتخمين في تقديرهما أو تقدير أحدهما خشية من وقوع ربا الفضل، وقد ترجم لذلك العلماء بقولهم: الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، ذكر الإمام ابن كثير في تفسيره (3) بسنده عن جابر قال: لما نزلت {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (4) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله (5) » ، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي خيثم وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وإنما حرمت المخابرة وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض، والمزابنة وهي اشتراء الرطب في رءوس النخل بالتمر على وجه الأرض، والمحاقلة وهي اشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض، إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها حسما لمادة الربا؛ لأنه لا
__________
(1) قال ابن القيم: وهذا وإن كان مرسلا فإنه صالح للاعتضاد به وله من المسندات ما يشهد له، إغاثة اللهفان 1 \ 367.
(2) إغاثة اللهفان 1 \ 367.
(3) ص327 ج 1.
(4) سورة البقرة الآية 275
(5) سنن أبو داود البيوع (3406) .(10/126)
يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف، ولهذا قال الفقهاء: الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة، ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا والوسائل الموصلة إليه، وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم إلى أن قال: والشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه مثله؛ لأن ما أفضى إلى الحرام حرام، كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. انتهى كلام ابن كثير.
وقد عد المزارعة من وسائل الربا وهذا على قول من يحرمها، والمسألة خلافية كما هو موضح في كتب الفقه وشروح الحديث فليرجع إليها.
2 - نهى الشارع عن بيع العينة قال صلى الله عليه وسلم: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم (1) » ، وبيع العينة: أن يبيع السلعة بثمن مؤجل ثم يشتريها ممن باعها منه بثمن حال أقل مما باعها به - سميت عينة لحصول النقد - لأن المشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة تصل إليه من فوره ليصل به إلى مقصوده (2) ، فالقصد التفاضل في الدراهم وإنما جعلت السلعة وسيلة إلى ذلك.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع (3) » يعني العينة؛ فإن مستحلها يسميها بيعا، وفي هذا الحديث بيان أنها ربا لا بيع، فإن المسلم لا يستحل الربا الصريح وإنما قد يستحله باسم البيع وصورته.
والتعامل ببيع العينة إنما يقع من رجل مضطر إلى نفقة يضن عليه الموسر بالقرض إلا أن يربح في المائة ما أحب، فيبيعه المائة بضعفها بواسطة سلعة يعانها، وكان الرجل في الجاهلية يكون له على الرجل دين فيأتيه عند حلول الأجل فيقول له: إما أن تقضي وإما أن تربي، فإن قضاه وإلا زاد المدين في المال وزاد الغريم في الأجل، فيكون قد باع المال بأكثر منه إلى أجل، فأمرهم الله إذا تابوا أن لا يطالبوا إلا برأس المال، وأهل الحيل يقصدون ما يقصده أهل الجاهلية لكنهم يخادعون الله، ولهم طرق منها بيع العينة.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات وله طرق يشد بعضها بعضا نيل الأوطار ص219 ج 5.
(2) نفس المصدر باختصار.
(3) صحيح البخاري البيوع (2059) ، سنن النسائي البيوع (4454) ، مسند أحمد بن حنبل (2/435) ، سنن الدارمي البيوع (2536) .(10/127)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (1) ومسألة العينة غير جائزة عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم، وهو المأثور عن الصحابة كعائشة وابن عباس وأنس بن مالك. اهـ.
وأجازها الشافعي وأصحابه (2) أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد وأبي هريرة: «بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا (3) » ، والجمع هو التمر الرديء، وقيل: هو التمر المجموع من أنواع مختلفة، والجنيب هو التمر الجيد (4) ، ووجه الاستدلال أنه لم يخص بقوله: ثم اشتر بالدراهم جنيبا غير الذي باع له الجمع، واستدلوا بالاتفاق على أن من باع السلعة التي اشتراها ممن اشتراها منه بعد مدة فالبيع صحيح، فلا فرق بين التعجيل في ذلك والتأجيل، فيدل على أن المعتبر في ذلك وجود شرط في أصل العقد وعدمه فإن تشارطا على ذلك في نفس العقد فهو باطل (5) ، وطرحوا الأحاديث الواردة في تحريم العينة (6) ، قال الصنعاني: (7) ولعلهم يقولون حديث العينة فيه مقال فلا ينتهض دليلا على التحريم.
والحق ما ذهب إليه الأكثر من تحريم بيع العينة، ويجاب عن استدلال المخالفين بحديث أبي سعيد وأبي هريرة بأنه عام فيخصص بأحاديث تحريم بيع العينة أو بأنه مطلق يجب تقييده بالأدلة الدالة على وجوب سد الذرائع، ويجاب عن الاستدلال الثاني بأنه إن صح ما ادعوه من الاتفاق على جواز بيع السلعة من بائعها الأول بعد مدة - أي بعد قبضه ثمنها - فلا نسلم قياس ما قبل القبض على ما بعده؛ لأنه قياس في مقابلة نص فلا يصح، ويجاب عن طرحهم الاستدلال بأحاديث تحريم العينة لضعفها عندهم بأنها أحاديث يقوي بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض فيحصل من مجموعها الدلالة الواضحة على تحريم العينة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (8) : فهذه أربعة أحاديث تبين أن
__________
(1) مجموع الفتاوى ص446ج 29.
(2) نيل الأوطار ص 220 ج 5، وشرح النووي على صحيح مسلم 11 \ 21.
(3) صحيح البخاري البيوع (2202) ، صحيح مسلم المساقاة (1593) ، سنن النسائي البيوع (4553) ، مسند أحمد بن حنبل (3/60) ، موطأ مالك البيوع (1314) ، سنن الدارمي البيوع (2577) .
(4) انظر سبل السلام ص9 ج 3.
(5) فتح الباري ص401 ج 4.
(6) نيل الأوطار ص220 ج 5.
(7) سبل السلام ص 14 - 15 ج 3.
(8) مجموع الفتاوى الكبرى ص 135 - 136 ج 3.(10/128)
رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم هذا - يعني بيع العينة. حديث ابن عمر الذي فيه تغليظ العينة، وقد فسرت في الحديث المرسل بأنها من الربا، وفي حديث أنس وابن عباس بأنها بيع حريرة، مثلا بمائة إلى أجل ثم يبتاعها بدون ذلك نقدا، وقالوا: هو دراهم بدراهم وبينهما حريرة، وحديث أنس وابن عباس أيضا: هذا ما حرم الله ورسوله، والحديث المرسل الذي له ما يوافقه أو الذي عمل به السلف حجة باتفاق الفقهاء، وحديث عائشة: أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب يعني لما تعاطى بيع العينة، ومعلوم أن هذا قطع بالتحريم وتغليظ له، ولولا أن عند أم المؤمنين علما من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تستريب فيه أن هذا محرم لم تستجز أن تقول مثل هذا الكلام بالاجتهاد لا سيما إن كانت قصدت أن العمل يبطل بالردة.
واستحلال مثل هذا كفر؛ لأنه من الربا واستحلال الربا كفر، لكن عذر زيد أنه لم يعلم أن هذا محرم، ولهذا أمرت بإبلاغه، فمن بلغه التحريم وتبين له ذلك ثم أصر عليه لزمه هذا الحكم، وإن لم تكن قصدت هذا فإنها قصدت أن هذا من الكبائر التي يقاوم إثمها ثواب الجهاد فيصير بمنزلة من عمل حسنة وسيئة بقدرها فما كأنه عمل شيئا. اهـ.
3 - التورق - وهو أن يحتاج إلى نقد فلم يجد من يقرضه فيشتري سلعة ليبيعها من غير بائعها الأول، ويأخذ ثمنها ليدفع به حاجته فليس به حاجة إلى نفس السلعة وإنما حاجته إلى ثمنها، فيأخذ مثلا ما قيمته مائة بمائة وعشرين مؤجلا ليبيعها ويرتفق بثمنها، والفرق بينها وبين العينة أن يبيعها من غير من اشتراها منه، وسميت هذه المسألة بمسألة التورق؛ لأن المقصود منها الورق.
وقد اختلف العلماء في حكمها على قولين: قول بالجواز؛ لأنها لم تعد إلى البائع بحال بل باعها المشتري لآخر، فلا تدخل في مسألة العينة، وهو قول إياس بن معاوية ورواية عن الإمام أحمد.
والقول الثاني: كراهة مسألة التورق، وهو الرواية الثانية عن الإمام أحمد وقول عمر بن عبد العزيز، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم (1) ، فعلى هذا القول تعتبر من وسائل الربا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فإن الله حرم أخذ دراهم بدراهم
__________
(1) مجموع الفتاوى ص 434 ج 29، وتهذيب السنن ص 108 ج 5.(10/129)
أكثر منها إلى أجل لما في ذلك من ضرر المحتاج وأكل ماله بالباطل، وهذا المعنى موجود في هذه الصورة، وإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، وإنما الذي أباحه الله البيع والتجارة وهو أن يكون المشتري غرضه أن يتجر فيها، فأما إذا كان قصده مجرد الدراهم بدراهم أكثر منها فهذا لا خير فيه.
وقال في الاختيارات (1) : وتحرم مسألة التورق وهو رواية عن أحمد، وقال العلامة ابن القيم: تهذيب سنن أبي داود ص108 ج 5. وعلل الكراهة بأنه بيع مضطر، وقد روى أبو داود عن علي: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المضطر (2) » ، وفي المسند عن علي قال: سيأتي على الناس زمان يعض المؤمن على ما في يده ولم يؤمر بذلك، قال تعالى: {وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} (3) ، ويبايع المضطرون وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر وذكر الحديث، فأحمد - رحمه الله تعالى - أشار إلى أن العينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نقد؛ لأن الموسر يضن عليه بالقرض، فيضطر إلى أن يشتري منه سلعة ثم يبيعها، فإن اشتراها منه بائعها كانت عينة، وإن باعها من غيره فهي التورق، ومقصوده في الموضعين الثمن، فقد حصل في ذمته ثمن مؤجل مقابل لثمن حال أنقص منه، ولا معنى للربا إلا هذا، لكنه ربا بسلم لم يحصل له مقصوده إلا بمشقة، ولو لم يقصده كان ربا بسهولة. اهـ.
والذي يظهر لي جواز مسألة التورق إذا حصلت من غير تواطؤ مع طرف ثالث وهو المشتري الأخير؛ لأنها حينئذ تفترق عن العينة، وكذلك لا بد أن تكون السلعة موجودة في ملك البائع الأول حين العقد، والله أعلم.
4 - النهي عن بيع كل رطب من حب وتمر بيابسه، عن سعد بن أبي وقاص قال: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن شراء التمر بالرطب فقال لمن حوله: أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم فنهى عن ذلك (4) » ، قال الشوكاني: (5) قوله: (أينقص) الاستفهام هاهنا ليس المراد به حقيقته - أعني طلب الفهم - لأنه صلى الله عليه وسلم كان عالما بأنه ينقص إذا يبس بل المراد تنبيه السامع بأن هذا الوصف الذي وقع عنه الاستفهام هو علة النهي، ومن المشعرات
__________
(1) ص129.
(2) سنن أبو داود البيوع (3382) ، مسند أحمد بن حنبل (1/116) .
(3) سورة البقرة الآية 237
(4) رواه الخمسة وصححه الترمذي \ المنتقى مع شرحه نيل الأوطار ص 211 ج 5.
(5) نفس المصدر.(10/130)
بذلك الفاء في قوله: (فنهى عن ذلك) ، ويستفاد من هذا عدم جواز بيع الرطب بالرطب؛ لأن نقص كل واحد منهما لا يحصل العلم بأنه مثل نقص الآخر، وما كان كذلك فهو مظنة الربا. اهـ.
وقال الخطابي في معالم السنن (1) : وذلك أن كل شيء من المطعوم مما له نداوة ولجفافه نهاية فإنه لا يجوز رطبه بيابسه كالعنب والزبيب واللحم النيئ بالقديد ونحوهما، وكذلك على هذا المعنى لا يجوز منه الرطب بالرطب كالعنب بالعنب والرطب بالرطب؛ لأن اعتبار المماثلة إنما يصح فيهما عند أوان الجفاف، وهما إذا تناهى جفافهما كانا مختلفين؛ لأن أحدهما قد يكون أرق رقة وأكثر مائية من الآخر، فالجفاف ينال منه أكثر، وتتفاوت مقاديرهما في الكيل عند المماثلة، إلى أن قال: وقد ذهب أكثر الفقهاء إلى أن بيع الرطب بالتمر غير جائز، وهو قول مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وبه قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن، وعن أبي حنيفة (2) جواز بيع الرطب بالتمر نقدا. اهـ.
وقال ابن رشد في بداية المجتهد (3) : وأما اختلافهم في بيع الربوي الرطب بجنسه من اليابس مع وجود التماثل في القدر والتناجز فإن السبب في ذلك ما روى مالك عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن شراء التمر بالرطب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أينقص الرطب إذا جف؟ فقالوا: نعم، فنهى عن ذلك (4) » فأخذ به أكثر العلماء، وقال: لا يجوز بيع التمر بالرطب على حال - مالك والشافعي وغيرهما - وقال أبو حنيفة يجوز ذلك، وخالفه في ذلك صاحباه. . وسبب الخلاف معارضة ظاهر حديث عبادة وغيره له، واختلافهم في تصحيحه، وذلك أن حديث عبادة اشترط في الجواز فقط المماثلة والمساواة، وهذا يقتضي بظاهره حال العقد لا حال المآل، فمن غلب ظواهر أحاديث الربويات رد هذا الحديث، ومن جعل هذا الحديث أصلا بنفسه قال: هو أمر زائد ومفسر لأحاديث الربويات. اهـ.
قال صاحب بدائع الصنائع من الحنفية (5) ، ولأبي حنيفة - رحمه الله - الكتاب الكريم
__________
(1) ص33ج 5 من التهذيب.
(2) بدائع الصنائع ص188 ج 5.
(3) ص138 ج 2.
(4) سنن الترمذي البيوع (1225) ، سنن أبو داود البيوع (3359) ، سنن ابن ماجه التجارات (2264) ، مسند أحمد بن حنبل (1/179) ، موطأ مالك البيوع (1316) .
(5) ص188 ج 5.(10/131)
والسنة المشهورة، أما الكتاب فعمومات البيع من نحو قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (1) ، وقوله عز شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2) .
فظاهر النصوص يقتضي جواز كل بيع إلا ما خص بدليل، وقد خص البيع متفاضلا على المعيار الشرعي فبقي البيع متساويا على ظاهر العموم. وأما السنة المشهورة فحديث أبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت رضي الله عنهما حيث جوز رسول الله صلى الله عليه وسلم بيع الحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والتمر بالتمر مثلا بمثل، عاما مطلقا من غير تخصيص وتقييد، ولا شك أن اسم الحنطة والشعير يقع على كل جنس الحنطة والشعير على اختلاف أنواعهما وأوصافهما، وكذلك اسم التمر يقع على الرطب والبسر؛ لأنه اسم لتمر النخل لغة، فيدخل فيه الرطب واليابس والمذنب والبسر والمنقع. اهـ.
ولا شك أن الحق ما ذهب إليه الأكثر والأئمة الثلاثة من عدم جواز بيع الرطب باليابس؛ لأن غاية ما تمسك به الإمام أبو حنيفة رحمه الله عمومات تخصص بحديث النهي عن بيع الرطب باليابس مع وجوب سد الذريعة المفضية إلى الربا، والله أعلم.
5 - النهي عن بيع الربوي بجنسه ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسهما، ويترجم له الفقهاء بمسألة - مد عجوة - لأن من صوره أن يبيع مد عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم ونحو ذلك، والأصل فيها «حديث فضالة بن عبيد قال: اشتريت قلادة يوم خيبر باثني عشر دينارا فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا يباع حتى يفصل (3) » رواه مسلم (4) ، قال النووي: في هذا الحديث إنه لا يجوز بيع ذهب مع غيره بذهب حتى يفصل فيباع الذهب بوزنه ذهبا، ويباع الآخر بما أراد، وكذا لا تباع فضة مع غيرها بفضة، وكذا الحنطة مع غيرها بحنطة والملح مع غيره بملح، وكذا سائر الربويات، بل لا بد من فصلها (5) ، وقال شيخ الإسلام
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة النساء الآية 29
(3) صحيح مسلم المساقاة (1591) ، سنن النسائي البيوع (4573) ، سنن أبو داود البيوع (3352) ، مسند أحمد بن حنبل (6/21) .
(4) صحيح مسلم مع شرح النووي (11 \ 18) .
(5) شرح النووي على صحيح مسلم الموضع السابق.(10/132)
ابن تيمية: وأصل مسألة مد عجوة (1) أن يبيع مالا ربويا بجنسه ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسهما، فإن للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: المنع مطلقا كما هو مذهب الشافعي (2) ورواية عن أحمد (3) .
والثاني: الجواز مطلقا كقول أبي حنيفة (4) ، ويذكر رواية عن أحمد.
والثالث: الفرق بين أن يكون المقصود بيع الربوي بجنسه متفاضلا أو لا يكون وهذا مذهب مالك (5) وأحمد (6) في المشهور عنه، ثم رجح القول الثالث حيث قال: فإن الصواب في مثل هذا القول بالتحريم كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد، وإلا فلا يعجز أحد في ربا الفضل أن يضم إلى القليل شيئا من هذا (7) . انتهى.
__________
(1) قال في القاموس 4 \ 359: والعجوة بالحجاز التمر المحشي وتمر المدينة.
(2) مجموع الفتاوى 29 \ 457- 458، وانظر مغني المحتاج 2 \ 28.
(3) انظر الإنصاف 5 \ 33 - 34.
(4) انظر حاشية ابن عابدين 4 \ 239.
(5) انظر بداية المجتهد لابن رشد 2 \ 195.
(6) انظر الإنصاف 5 \ 33 - 34.
(7) مجموع الفتاوى 29 \ 457 - 458، 461.(10/133)
ماذا يفعل من تاب من الربا؟
التوبة مطلوبة وواجبة على العبد من كل ذنب في أسرع وقت ممكن قبل فوات أوانها، قال الله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (1) {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (2) ، والربا من أعظم الذنوب بعد الشرك بالله فهو أحد السبع الموبقات، فتجب المبادرة بالتوبة منه على من كان يتعاطاه، فإذا من الله على المرابي فوفقه فتاب وقد تعامل بالربا فماذا يفعل للتخلص من أموال الربا؟ إنه لا يخلو من إحدى حالتين:
__________
(1) سورة النساء الآية 17
(2) سورة النساء الآية 18(10/133)
الحالة الأولى: أن يكون الربا له في ذمم الناس لم يقبضه بعد، ففي هذه الحالة قد أرشده الله تعالى إلى أن يسترجع رأس ماله، ويترك ما زاد عليه من الربا فلا يستوفيه ممن هو في ذمته، قال الله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (1) قال الإمام القرطبي رحمه الله: روى أبو داود (2) عن سليمان بن عمر عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع: «ألا أن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون (3) » ، فردهم تعالى مع التوبة إلى رءوس أموالهم وقال لهم: لا تظلمون في أخذ الربا، ولا تظلمون في مطل؛ لأن مطل الغني ظلم، فالمعنى: أنه يكون القضاء مع وضع الربا إلى أن قال: قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (4) تأكيد لإبطال ما لم يقبض منه وأخذ رأس المال الذي لا ربا فيه (5) ، وقال الإمام ابن القيم: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (6) يعني إن تركتم الربا وتبتم إلى الله منه وقد عاقدتم عليه فإنما لكم رءوس أموالكم لا تزادون عليها فتظلمون الآخذ، ولا تنقصون منها فيظلمكم من أخذها، فإن كان هذا القابض معسرا فالواجب إنظاره إلى ميسرة، وإن تصدقتم عليه وأبرأتموه فهو أفضل لكم وخير لكم (7) ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض كلامه على أن التراضي بين الطرفين على فعل محرم لا يبيحه قال: وهذا مثل الربا فإنه وإن رضي به المرابي وهو بالغ رشيد لم يبح ذلك لما فيه من ظلمه، ولهذا له أن يطالبه بما قبض منه من الزيادة ولا يعطيه إلا رأس ماله وإن كان قد بذله باختياره (8) ، وقال أيضا: وهذا المرابي لا يستحق في ذمم الناس إلا ما أعطاهم أو نظيره، فأما الزيادات فلا يستحق شيئا منها، لكن ما قبضه قبل ذلك بتأويل يعفى عنه، وأما ما بقي له في الذمم فهو ساقط لقوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (9) ، والله أعلم (10) .
الحالة الثانية: أن يكون التائب من الربا قد قبضه وتجمعت عنده أموال منه والفتوى
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) سنن أبي داود.
(3) سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3087) ، سنن أبو داود البيوع (3334) ، سنن ابن ماجه المناسك (3055) .
(4) سورة البقرة الآية 279
(5) تفسير القرطبي (3 \ 365) .
(6) سورة البقرة الآية 279
(7) التفسير القيم لابن القيم (172 - 173) .
(8) مجموع الفتاوى 151 \ 126.
(9) سورة البقرة الآية 278
(10) مجموع الفتاوى (29 \ 437) .(10/134)
في هذا خطيرة جدا، وأنا أنقل في هذا قاعدة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حيث قال: قاعدة في المقبوض بعقد فاسد، وذلك أنه لا يخلو إما أن يكون العاقد يعتقد الفساد ويعلمه، أو لا يعتقد الفساد، فالأول يكون بمنزلة الغاصب حيث قبض ما يعلم أنه لا يملكه، لكنه بشبهة العقد وكون القبض عن التراضي هل يملكه بالقبض أو لا يملكه أو يفرق بين أن يتصرف فيه أو لا يتصرف؟ هذا فيه خلاف مشهور في الملك هل يحصل بالقبض في العقد الفاسد؟ وأما إن كان العاقد يعتقد صحة العقد مثل أهل الذمة فيما يتعاقدون بينهم من العقود المحرمة في دين الإسلام مثل بيع الخمر والربا والخنزير، فإن هذه العقود إذا اتصل بها القبض قبل الإسلام والتحاكم إلينا أمضيت لهم ويملكون ما قبضوه بها بلا نزاع لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) فأمر بترك ما بقي وإن أسلموا أو تحاكموا قبل القبض فسخ العقد ووجب رد المال إن كان باقيا أو بدله إن كان فائتا، والأصل فيه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2) إلى قوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (3) أمر الله تعالى برد ما بقي من الربا في الذمم ولم يأمر برد ما قبضوه قبل الإسلام، وجعل لهم مع ما قبضوه قبل الإسلام رءوس الأموال، فعلم أن المقبوض بهذا العقد قبل الإسلام يملكه صاحبه، أما إذا طرأ الإسلام وبينهما عقد ربا فينفسخ، وإذا انفسخ من حين الإسلام استحق صاحبه ما أعطاه من رأس المال، ولم يستحق الزيادة الربوية التي لم تقبض، ولم يجب عليه من رأس المال ما قبضه قبل الإسلام؛ لأنه ملكه بالقبض في العقد الذي اعتقد صحته، وذلك العقد أوجب ذلك القبض، فلو أوجبناه عليه لكنا قد أوجبنا عليه رده وحاسبناه به من رأس المال الذي استحق المطالبة، وذلك خلاف ما تقدم، وهكذا كل عقد اعتقد المسلم صحته بتأويل من اجتهاد أو تقليد مثل المعاملات الربوية التي يبيحها مجوزو الحيل، ومثل بيع النبيذ المتنازع فيه عند من يعتقد صحته، ومثل بيوع الغرر المنهي عنها عند من يجوز بيعها، فإن هذه العقود إذا حصل فيها التقابض مع اعتقاد الصحة لم تنقض بعد ذلك لا بحكم ولا برجوع عن ذلك الاجتهاد.
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 278
(3) سورة البقرة الآية 279(10/135)
انتهى (1) ، وحاصل هذه القاعدة أن الشيخ يفرق بين من قبض مالا بعقد فاسد يعتقد صحته كالكافر الذي كان يتعامل بالربا قبل إسلامه أو تحاكمه إلينا، وكالمسلم إذا عقد عقدا مختلفا فيه بين العلماء وهو يرى صحته، فهذا النوع من المتعاقدين يملك ما قبضه.
أما من تعامل بعقد مختلف في تحريمه وهو لا يرى صحته أو بعقد مجمع على تحريمه، فما قبضه بموجب ذلك العقد فهو فيه كالغاصب حيث قبض ما يعلم أنه لا يملكه، ويقرب مما ذكره الشيخ ما قاله ابن القيم في كسب الزانية حيث قال: فإن قيل: ما تقولون في كسب الزانية إذا قبضته ثم تابت، هل يجب عليها رد ما قبضته إلى أربابه أم يطيب لها أم تتصدق به؟ قيل: هذا ينبني على قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهي أن من قبض ما ليس له قبضه شرعا ثم أراد التخلص منه، فإن كان المقبوض قد أخذ بغير رضى صاحبه ولا استوفى عوضه رده عليه، فإن تعذر رده عليه قضى به دينا يعلمه عليه، فإن تعذر ذلك رده إلى ورثته، فإن تعذر ذلك تصدق به عنه. . إلى أن قال: وإن كان المقبوض برضى الدافع وقد استوفى عوضه المحرم كمن عاوض عن خمر أو خنزير أو على زنا أو فاحشة فهذا لا يجب رد العوض على الدافع؛ لأنه أخرجه باختياره واستوفى عوضه المحرم، فلا يجوز أن يجمع له بين العوض والمعوض، فإن في ذلك إعانة له على الإثم والعدوان وتيسير أصحاب المعاصي عليه. . إلى أن قال: ولكن لا يطيب للقابض أكله بل هو خبيث. . . فطريق التخلص منه وتمام التوبة بالصدقة به، فإن كان محتاجا إليه فله أن يأخذ قدر حاجته ويتصدق بالباقي فهذا حكم كل كسب خبيث لخبث عوضه عينا كان أو منفعة، ولا يلزم من الحكم بخبثه وجوب رده على الدافع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بخبث كسب الحجام، ولا يجب رده على دافعه (2) . انتهى.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي (3) : على قول الأصحاب المقبوض بعقد فاسد إنه مضمون على القابض كالمغصوب: أقول واختار الشيخ تقي الدين أن المقبوض بعقد فاسد غير مضمون، وأنه يصح التصرف فيه؛ لأن الله تعالى لم يأمر برد المقبوض بعقد الربا بعد التوبة، وإنما أمر برد الربا الذي لم يقبض، وأنه قبض برضى مالكه فلا يشبه المغصوب، ولأن فيه من التسهيل والترغيب في التوبة ما ليس في القول بتوقيف توبته على
__________
(1) مجموع الفتاوى (29 \ 411 - 412) .
(2) زاد المعاد (4 \ 779 \ 780) .
(3) الفتاوى السعدية ص303.(10/136)
رد التصرفات الماضية مهما كثرت وشقت والله أعلم، وقال الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار على قوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (1) أي فمن بلغه تحريم الله تعالى للربا ونهيه عنه فترك الربا فورا بلا تراخ ولا تردد انتهاء عما نهى الله عنه فله ما كان أخذه فيما سلف من الربا لا يكلف رده إلى من أخذه منهم، بل يكتفي منه بأن لا يضاعف عليهم بعد البلاغ شيئا {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) يحكم فيه بعدله، ومن العدل أن لا يؤاخذ بما أكل من الربا قبل التحريم وبلوغه الموعظة من ربه (3) . انتهى، أقول: ولعلنا من هذه النقول نستفيد أن من تاب من الربا وعنده أموال مجتمعة منه، فإن من مقتضى التوبة الإمساك والتوقف عن التعامل بالربا إلى الأبد، ولا يرد الأموال الربوية إلى من أخذها منهم؛ لأن هذا يعينهم على المراباة مع غيره بحيث يستغلونه في ذلك، ولا يأكل هذه الأموال الربوية؛ لأنه من كسب خبيث، ولكن يتخلص منها بالتصدق بها أو جعلها في مشاريع خيرية.
وفي الدرر السنية في الأجوبة النجدية (4) جواب للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ - رحمه - الله قال فيه: (إذا وقع عقد فاسد في معاملة في الإسلام قد انقضت بالتقابض فيظهر مما قاله شيخ الإسلام -رحمه الله - في آية الربا في قوله تعالى: {فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} (5) فاقتضى أن السالف للقابض، وأن أمره إلى الله ليس للغريم فيه أمر، وذلك أنه لما جاءه موعظة من ربه فانتهى كان مغفرة ذلك الذنب والعقوبة عليه أمره إلى الله إن علم من قلبه صحة التوبة غفر له وإلا عاقبه ثم قال: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (6) فأمر بترك الباقي ولم يأمر برد المقبوض، وقال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (7) إلا أنه يستثنى منها ما قبض وهذا الحكم ثابت في حق الكافر إذا عامل كافرا بالربا وأسلما بعد القبض وتحاكما إلينا فإن ما قبضه يحكم له به كسائر ما قبضه الكافر بالعقود التي يعتقدون حلها، وأما المسلم فله ثلاثة أحوال: تارة يعتقد حل بعض الأنواع باجتهاد أو تقليد، وتارة يعامل بجهل ولا يعلم أن ذلك ربا محرم، وتارة يقبض مع علمه بأن ذلك محرم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) تفسير المنار (3 \ 97 \ 98) .
(4) ج 5 ص71 - 72.
(5) سورة البقرة الآية 275
(6) سورة البقرة الآية 278
(7) سورة البقرة الآية 279(10/137)
أما الأول والثاني ففيه قولان إذا تبين له فيما بعد أن ذلك محرم قيل: يرد ما قبض كالغاصب، وقيل: لا يرده وهو أصح إذا كان معتقدا أن ذلك حلال، والكلام فيما إذا كان مختلفا فيه مثل الحيل الربوية، فإذا كان الكافر إذا تاب يغفر الله ما استحله، ويباح له ما قبضه، فالمسلم إذا تاب أولى أن يغفر له.
إذا فمن أخذ بأحد قولي العلماء في حل ذلك فهو في تأويله أعذر من الكافر في تأويله، وأما المسلم الجاهل فهو أبعد، لكن ينبغي أن يكون كذلك فليس هو شرا من الكافر، وقد ذكرنا فيما يتركه من الواجبات التي لم يعرف وجوبها هل عليه قضاء؟ على قولين أظهرهما لا قضاء عليه، إلى أن قال: فمن فعل شيئا لم يعلم أنه محرم ثم علمه لم يعاقب، وإذا عامل بمعاملات ربوية يعتقدها جائزة وقبض منها ثم جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ولا يكون شرا من الكافر، والكافر إذا غفر له ما قبضه لكونه قد تاب فالمسلم بطريق الأولى، والقرآن يدل على هذا بقول: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (1) وهذا عام في كل من جاءه موعظة من ربه فانتهى، فقد جعل الله له ما سلف - انتهى - لكن هذا الكلام ينصب على الكافر إذا أسلم وعنده أموال قد قبضها بطريق التعامل الربوي، والمسلم الذي تعامل ببعض المعاملات المختلف فيها هل هي من الربا أو لا؟ أو لكونه يجهل الربا وقبض بموجبها ما لا تحصل لديه ثم تبين له أنها من الربا وتاب منها، وتبقى قضية المسلم الذي تعامل بالربا متعمدا وهو يعلم أنه ربا ثم تاب منه وقد تحصل لديه منه مال فهذا موضع الإشكال، ولعل الحل لهذا الإشكال أن يتصدق به ولا يرده للمرابين كما ذكره ابن القيم في الكلام الذي نقلناه عنه في مهر البغي، والله أعلم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 275(10/138)
الخاتمة والفهارس
الخاتمة:
تبين لنا مما سبق شدة تحريم الربا وخطورته، وأن آكله والمعين على أكله كلاهما ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الوسائل المفضية إليه تأخذ حكمه في التحريم والإثم، وأن من استباحه فهو كافر، ومن أكله مع الإقرار بتحريمه فهو فاسق، وقد عرفنا ما هو الربا(10/138)
وما هي الأشياء التي يدخلها.
فيجب على المسلم الابتعاد عنه والتحرز منه؛ لأنه قد كثر الوقوع فيه في هذا الزمان لما طغت المادة وضعف المسلمون وفشا الجهل بأحكام الدين، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال: «ليأتين على الناس زمان لا يبقى منهم أحد إلا أكل الربا، فمن لم يأكله أصابه من غباره (1) » ، قال المناوي (2) في شرح هذا الحديث: (ليأتين) اللام جواب لقسم محذوف، (على الناس زمان لا يبقى منهم) أي من الناس، (أحد إلا أكل الربا) الخالص، (فإن لم يأكله أصابه من غباره) أي يحيق به ويصل إليه من أثره بأن يكون موكلا أو متوسطا فيه أو كاتبا أو شاهدا أو معامل المرابي أو من عامل معه وخلط ماله بماله، ذكره البيضاوي إلى أن قال: وفي رواية: (من بخاره) وهو ما ارتفع من الماء من الغليان كالدخان والماء لا يغلي إلا بنار توقد تحته، ولما كان المال المأكول من الربا يصير نارا يوم القيامة يغلي منه دماغ آكله، ويخرج منه بخار ناسب جعل البخار من أكل الربا، والبخار والغبار إذا ارتفع من الأرض أصاب كل من حضر وإن لم يأكل. ووجه النسبة بينهما أن الغبار إذا ارتفع من الأرض أصاب كل من حضر وإن لم يكن هو أثاره، كما يصيب البخار إذا انتشر من حضر وإن لم يتسبب فيه، وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم، فإن من تأمل حال الناس اليوم أدرك مصداق هذا الحديث الشريف. وذلك أنه لما فاضت الأموال وتضخمت في أيدي كثير من الناس وضعوها في البنوك الربوية فأصابهم من الربا ما أصابهم، فمنهم من أكله، ومنهم من لم يأكله لكن أعان على أكله فأصابه من غباره، والله المستعان، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، واكفنا بفضلك عمن سواك، وقنعنا بما رزقتنا، وبارك لنا فيما أعطيتنا.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
__________
(1) رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما.
(2) فيض القدير (5 \ 346) .(10/139)
المراجع
1 - القرآن الكريم.
2 - تفسير ابن جرير.
3 - تفسير ابن كثير.
4 - تفسير القرطبي.
5 - التفسير القيم لابن القيم.
6 - أضواء البيان للشنقيطي.
7 - تفسير المنار.
8 - صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري.
9 - صحيح مسلم مع شرح النووي.
10 - نيل الأوطار للشوكاني.
11 - الزواجر لابن حجر الهيتمي.
12 - المعاملات المصرفية لابن دريب.
13 - الروضة الندية للشيخ محمد بن إبراهيم.
14 - الربا والمعاملات في الإسلام للشيخ محمد رشيد رضا.
15 - مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية.
16 - إعلام الموقعين لابن القيم.
17 - زاد المعاد لابن القيم.
18 - القاموس المحيط في اللغة.
19 - مغني المحتاج في الفقه.
20 - المبدع شرح المقنع.
21 - بداية المجتهد لابن رشد.
22 - الاختيارات الفقهية.
23 - إغاثة اللهفان لابن القيم.
24 - الكافي لابن عبد البر.(10/140)
25 - المحلى لابن حزم.
26 - سبل السلام شرح بلوغ المرام للصنعاني.
27 - بدائع الصنائع في الفقه.
28 - مجلة البحوث الإسلامية.
29 - الفتاوى السعدية.
30 - الشرح الكبير للدردير.
31 - الشرح الصغير.
32 - تهذيب سنن أبي داود لابن القيم.
33 - فتح القدير فقه حنفي.
34 - كشاف القناع عن متن الإقناع.
35 - تهذيب الأسماء واللغات للنووي.(10/141)
صفحة فارغة(10/142)
الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود
- ولد في حوطة بني تميم، من أعمال نجد، سنة 1327هـ، وتلقى علومه الأولية على عدد من المشايخ، وحفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، ودرس وحفظ كثيرا من الكتب والمتون في الحديث والفقه واللغة.
- تقلد أمانة القضاء في دولة قطر، سنة 1359هـ، وله جهود طيبة في تطوير القضاء الشرعي.
- ألف عددا من الكتب والرسائل، التي تبين اجتهاداته، في ما جد من قضايا تهم المسلمين، وبلغ مجموع مؤلفاته سبعا وأربعين مؤلفا.(10/143)
صفحة فارغة(10/144)
قولهم العقد شريعة المتعاقدين
بقلم الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود
الحمد لله ونستعين بالله ونصلي ونسلم على محمد رسول الله.
أما بعد: لقد سمعت من قذائف القوانين قول بعضهم (العقد شريعة المتعاقدين) يعنون بذلك العقد الذي ينظمه القانون المدني ويبنون حكمهم عليه مع قطع نظرهم عما يجيزه الشرع أو يحرمه، فلا قيمة لأحكام الشرع عندهم أو في عرفهم، فهذه الكلمة بهذه الصفة تفتح باب الشر فتجعل الحلال حراما -فالزنا في عرفهم وقانونهم متى وقع بطريق الرضا فهو جائز قطعا، وكذلك اللواط بين الذكور، ومثله أكل الربا أضعافا مضاعفة فإنهم يرونه في عرفهم جائزا قطعا، وكذا القمار وبيع الخمر وشراؤه وبيع الخنزير فكل هذا يرونه جائزا وحلالا- لكون القانون المدني مقتبسا من القانون الفرنسي وهو الرائج الآن في البلدان العربية والذي يتصدر الحكم بموجبه القضاة المدنيون وهذا كله باطل، ولا يعتد به ولا نفاذ لحكمه بطريق الشرع لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » ، وقال: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق (2) » .
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) صحيح البخاري العتق (2563) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن الترمذي الوصايا (2124) ، سنن النسائي الطلاق (3451) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2521) ، مسند أحمد بن حنبل (6/213) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) ، سنن الدارمي الطلاق (2289) .(10/145)
وسمعت من بعضهم قولهم (الرضا شريعة المتعاقدين) وهذه الكلمة بهذه الصفة لا تبقي من الإسلام وأمور الحلال والحرام ولا تذر، والله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه وشرع أحكامه وبين حلاله وحرامه ليقوم الناس بالقسط، أي بالعدل، فقال سبحانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (1) فالكتاب هو الهادي إلى الصواب، والميزان هو العادل يبين الهدى من الضلال-إن قولهم (الرضا شريعة المتعاقدين) هي حملة على القرآن والسنة وأحكام الشريعة الإسلامية، ومثله قولهم (العقد شريعة المتعاقدين) فليس كل عقد يسوغ بأن يكون شريعة للناس، فإن العقد منه الحق ومنه الباطل- والحق أن شريعة المتعاقدين هو حكم الله ورسوله لقوله سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (2) .
ومثله قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «المسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا (3) » ، ومثله «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا (4) » ، وفي الصحيحين من حديث النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحلال بين، والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس (5) » الحديث، لكن القليل من الناس هم الراسخون في العلم والفهم يعرفون هذه المتشابهات فيلحقون الحلال بالحلال والحرام بالحرام بمقتضى الدلائل والأحكام، والمسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا.
ثم إن الأصل في العقود (الإباحة) حتى يقوم دليل التحريم، وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أن الأصل في العقود والشروط الحظر إلى أن يقوم دليل الإباحة، وهذا هو مذهب الظاهرية وعليه تدل نصوص الإمام الشافعي وأصوله.
وذهب الإمام مالك إلى أن الأصل في العقود الإباحة إلا ما دل على تحريمه، وعليه تدل نصوص الإمام أحمد وأصوله، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية إن الأصل في العقود الصحة والجواز ولا يحرم
__________
(1) سورة الحديد الآية 25
(2) سورة النساء الآية 59
(3) سنن أبو داود الأقضية (3594) .
(4) سنن الترمذي الأحكام (1352) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2353) .
(5) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .(10/146)
ويبطل منها إلا ما دل الشرع على إبطاله وتحريمه بنص صحيح أو قياس صريح قال: وأصول الإمام أحمد المنصوصة عنه تجري على هذا القول ومالك قريب منه - انتهى.
وقد نهج هذا المنهج العلامة ابن القيم رحمه الله قال -في الإعلام الخطأ الرابع-: [فساد اعتقاد من قال: إن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملتهم على البطلان حتى يقوم دليل الصحة، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة عقد أو شرط أو معاملة، استصحبوا بطلانه فأفسدوا بذلك عقودا كثيرة من معاملات الناس وشروطهم بلا برهان من الله، بناء على هذا الأصل، وجمهور الفقهاء على خلافه، وإن الأصل في العقود والشروط الصحة حتى يقوم الدليل على البطلان، وهذا القول هو الصحيح فإنه لا حرام إلا ما حرم الله ورسوله، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله ولا دين إلا ما شرعه الله ورسوله] انتهى.
فهذه القوانين الوضعية المخالفة لشرع الله الحكيم يجب أن ترد إلى شرع الله الحكيم، فقد أعطى الله كل ذي حق حقه. وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) يعني المباحة في شرع الله أما القوانين الوضعية فإنه لا قيمة لها في شرع الله الحكيم كما قيل:
لا وافق الحكم المحل ولا هو ... استوفى الشروط فكان ذا بطلان
والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها، تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه» وحدود الله محرماته، والبشر محكومون وليسوا بحاكمين - وإنما سمي المسلم مسلما لاستسلامه لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (2) {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) .
والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (4) » وقال: «كل شرط ليس
__________
(1) سورة المائدة الآية 1
(2) سورة الأحزاب الآية 36
(3) سورة النور الآية 51
(4) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(10/147)
في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط، قضاء الله أحق (1) » .
إن كلمة (العقد شريعة المتعاقدين) هي كلمة كفر واعتقادها كفر، والعمل بها كفر- تزيغ المسلمين عن معتقدهم الصحيح ثم تقودهم إلى الإلحاد والتعطيل والزيغ عن سواء السبيل فهي تنقض عرى الإسلام عروة عروة، بحيث يكون الناس بها أشر من الجاهلية الأولى، فيستبيحون نكاح الأمهات والبنات بناء على الرضا الواقع بينهم.
وقد ذكرتني هذه القاعدة الطاغية الباغية خصومة بين أخوين شقيقين يرث أحدهما الآخر، فاشتد الخصام بينهما فتواثقا وتكاتبا على أنه لا يرث أحدهما الآخر، فأشعرتهما بحكم الله ورسوله وأن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا يحق لشخص أن يقطع صلة الإرث الذي شرعه الله، فهذا الاتفاق باطل، وكتابته باطلة، ومن مات منهما ورثه أخوه وإن رغم أنفه.
وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له وسماه (التيس المستعار) مع كون هذا النكاح وقع بالتراضي، ومثله نكاح المحارم وذوات الأزواج.
والحق أن يقال: إن الرضا الذي لا يحل حراما ولا يحرم حلالا، أشبه (الشرط) فإن المسلمين على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا، ومثله الصلح - جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا.
ثم إن كتب الفقه الإسلامي من شتى المذاهب لا تغادر صغيرة ولا كبيرة مما عسى أن يقع فيها النزاع بين الناس، وهي مقتبسة من القرآن والسنة {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (2) فبالغوا في استنباط الأحكام وتصنيفها على حسب اجتهادهم، المصيب له أجران والمخطئ له أجر.
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكمو من اللوم ... أو سدوا المكان الذي سدوا
أولئك قومي إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا وفوا وإن عقدوا شدوا
والنبي صلى الله عليه وسلم لعن بائع الخمر ومشتريها وعاصرها ومعتصرها وشاربها وساقيها وحاملها
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2168) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .
(2) سورة النساء الآية 83(10/148)
والمحمولة إليه، وكل هؤلاء وقع بطريق التراضي بينهم فشملتهم اللعنة، ومثله حديث: «لعن رسول الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه (1) » لوقوع الرضا بينهم في عمله فشملتهم اللعنة أيضا.
ولما قسم سبحانه المواريث بين الورثة وأعطى كل ذي حق حقه ختمها بقوله {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2) {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (3) .
والحاصل: أن قولهم (الرضا شريعة المتعاقدين) . هي كلمة باطلة والحقيقة أنها صيغت لتكون مفتاحا لكل شر، وهي معنى قولهم (العقد شريعة المتعاقدين) فإنهم لا يعنون فيها العقد الصحيح الذي لا يخالف فيها أي مسلم، وإنما يعنون بها العقد على أي صفة وقع، فهي من شريعة قوانين الخارجين عن الدين الذين لا يرجون عند الله ثوابا ولا يخافون عقابا {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (4) {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (5) وقال: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} (6) .
إن كثرة استمرار هذه الكلمة على أسماع الناس وأبصارهم وروجان كتب القوانين بينهم، قد أثرت فيهم شيئا من التهاون من منكرات الجرائم ككبيرة الزنا، فقد كان في صدر الإسلام يرجم الزاني المحصن متى ثبت الزنا عليه باعترافه أو البينة ولا تأخذهم فيه لومة لائم، ومن يهن الله فما له من مكرم وقال: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (7) «وخطب عمر بن الخطاب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله بعث نبيه
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1597) ، سنن الترمذي البيوع (1206) ، سنن النسائي الطلاق (3416) ، سنن أبو داود البيوع (3333) ، سنن ابن ماجه التجارات (2277) ، مسند أحمد بن حنبل (1/465) ، سنن الدارمي البيوع (2535) .
(2) سورة النساء الآية 13
(3) سورة النساء الآية 14
(4) سورة المائدة الآية 50
(5) سورة آل عمران الآية 85
(6) سورة المائدة الآية 49
(7) سورة النور الآية 2(10/149)
بالكتاب وكان فيما أنزل آية الرجم قرأناها ووعيناها فرجم رسول الله الزاني المحصن ورجمنا معه، وإني أخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله فيضل بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم حق على من زنى إذا أحصن إذا كانت البينة أو الحبل أو الاعتراف (1) » - رواه البخاري.
وإن أكبر تأثير وقع بالناس من تهاونهم بهذه الجريمة هو كثرة الابتداء بها، وتعاقب القوانين على عدم العقاب عليها لكون المنكرات متى كثر على القلوب ورودها، وتكرر في العين شهودها، ذهبت عظمتها عن القلوب شيئا فشيئا، إلى أن يراها الناس فلا يرون أنها منكرات، ولا يمر بفكر أحدهم أنها معاص، وذلك بسبب سلب القلوب نور التمييز والإنكار على حد ما قيل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس.
فالحكم بالقوانين ونصب القضاة لتنفيذها وروجان كتبها بين الناس، يعود بالضرر وفساد الأخلاق على خاصة الشباب وعامة العباد والبلاد كما قيل:
الدين يشكو بلية ... من فرقة فلسفية
فلا ترى الشرع إلا ... سياسة مدنية
ويؤثرون عليه ... مناهج جدلية
إن هؤلاء الشباب من أبناء المسلمين متى تخرج أحدهم من إحدى المدارس الأجنبية رجع إلى أهله وبلده وأخذ يبث جراثيم تلك التعاليم السيئة التي حملها من المدرسة، حتى يصير فتنة على أهله وأقاربه وسائر من يقاربه، كما قال تعالى في حق الغلام: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} (2) {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} (3) .
إن عقيدة الإلحاد هي جرثومة الفساد وخراب البلاد وفساد أخلاق العباد، ومتى سطا الإلحاد على قلب أحد هؤلاء الأولاد فإنه يطيش به عن مستواه إلى حالة الفجور والطغيان ومجاوزة الحد في الكفر والكبر والفسوق والعصيان، فيمقت الدين ويهزأ بالمصلين الراكعين الساجدين، حتى كأنه إنما تعلم العلم لمحاربة الدين وأهله من أجل أنه لم ينطبع في قلبه محبته ولم يذق حلاوة حكمته، وإنما كان حظه من العلم محض دراسته حبرا
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6830) ، صحيح مسلم الحدود (1691) ، سنن الترمذي الحدود (1432) ، سنن أبو داود الحدود (4418) ، سنن ابن ماجه الحدود (2553) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، سنن الدارمي الحدود (2322) .
(2) سورة الكهف الآية 80
(3) سورة الكهف الآية 81(10/150)
على ورق، ثم زال عن طلبه بزواله عنه حتى لم يبق معه أثر منه.
ومتى جهر هؤلاء بإلحادهم في بلادهم وأمنوا من العقاب فيما يقولون فإنهم حينئذ يفيضون بفنون من الطعن في الدين بإلقاء الشبهات والشكوك التي تزيغ العوام وضعفة العقول والأفهام عن معقتدهم الصحيح وعن دينهم المستقيم، ثم تقودهم إلى الإلحاد والتعطيل والزيغ عن سواء السبيل فيصيرون فتنة في الأرض وفسادا كبيرا.
وحتى الذين لا يعتقدون اعتقادهم ولا يساعدونهم في آرائهم، فإنهم لن يسلموا من مضار أفكارهم، وأقل شيء كون الضعف والوهن يلم بأركان عقائدهم، ثم يسري هذا الفساد وسوء الاعتقاد إلى أهلهم وأولادهم - لأن أكثر الناس مقلدة في دينهم، بحيث يقلد بعضهم بعضا في الأخلاق والعقائد، وقد قال بعض السلف: إنه ما ترك أحد الحق وعدل عنه إلى الباطل إلا لكبر في نفسه، ثم قرأ: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} (1) .
وقد قال بعض الحكماء في أخلاق الكتاب: وقد قال أهل الفطن إن محض العمى هو التقليد في الزندقة، لأنها إذا رسخت في قلب امرئ تقليدا فإنها تطيل جرأته على الدين وأهله ويتغلق على أهل الجدل إفهامه، انتهى، وقد قيل:
عمي العيون عموا عن كل فائدة ... لأنهم كفروا بالله تقليدا
إن الله سبحانه في كتابه وعلى لسان نبيه قد نظم حياة الناس أحسن نظام بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان والإتقان {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا} (2) أي صدقا في الأقوال وعدلا في الأحكام، فلو أن الناس آمنوا بتعاليم دين الإسلام وانقادوا لحكمه وتنظيمه ووقفوا عند حدوده ومراسيمه لصاروا به سعداء، ولما حصل بينهم بغي ولا طغيان ولا اعتداء، لأنه يهدي للتي هي أقوم، وقد جعل الله شريعة الإسلام بمثابة الخاتمة للشرائع قبلها، فهي شريعة كافة البشر عربهم وعجمهم يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (3)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 146
(2) سورة الأنعام الآية 115
(3) سورة سبأ الآية 28(10/151)
وقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (1) فشريعة الإسلام هي شريعة الرحمن والحنان والإحسان، ليست بحرج ولا إغلال، يقول تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} (2) {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (4) الآية، وصار أكثر الناس في هذا الزمان بمثابة من يعطي صاحبه تمرة فيسخطها فيعطيه جمرة، وإن الناس باستبدالهم القوانين بأحكام شريعة الدين هم بمثابة من يفر عن الرمضاء إلى النار.
إن الله سبحانه لما قسم الميراث بين الناس في سورة النساء ختم بقوله: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} (5) أي لئلا تضلوا فالحكم بمساواة الأنثى بالذكر فيما فرض الله فيه التفاضل بين الأولاد والبنات وبين الإخوة والأخوات هو كفر بما أنزل الله من الكتاب وضلال مبين: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (6) .
لقد مكث المسلمون ثلاثة عشر قرنا وقضاتهم يحكمون بينهم بالشريعة الإسلامية التي جعلها الله لجميع خلقه شرعة ومنهاجا، وإنما سميت الشريعة من أجل أنها مقتبسة من كتاب الله وسنة رسوله فهي الشريعة التي جعلها الله لجميع خلقه في قوله سبحانه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (7) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158
(2) سورة الأعراف الآية 156
(3) سورة الأعراف الآية 157
(4) سورة الأعراف الآية 158
(5) سورة النساء الآية 176
(6) سورة يونس الآية 25
(7) سورة الشورى الآية 13(10/152)
وفي بداية القرن العشرين ضعف العلم وعدم الراسخون في الفقه وأخذ الناس يعللون القضاة بدعوى أنهم يعللون الأحكام، ولا يهتمون بأمر الناس، فتعلقت قلوبهم بالقوانين وهي لم تكن موجودة في البلدان الإسلامية قبل ذلك الوقت، فكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار، من أجل أن القوانين تبيح لهم الربا والزنا وشرب الخمور ولا تعاقب على شيء من ذلك، فأثرت في الناس شيئا من الذل والضعف في مجتمعهم، وإنما ضعف المسلمون في هذه الأزمان الأخيرة وساءت حالهم وانتقص الأعداء بعض بلدانهم، كل ذلك من أجل أنه ضعف عملهم بالإسلام وساء اعتقادهم فيه، وصار فيهم منافقون يدعون إلى نبذه ويدعون إلى عدم التقيد بحدوده وحكمه، ويدعون إلى تحكم القوانين بدله، ولأجله صاروا جديرين بزوال النعم والإلزام بالنقم لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وقد وقع بهم ما حذرهم نبيهم بقوله: «وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم شديد (1) » - رواه ابن ماجه والبيهقي - والله أعلم.
عبد الله بن زيد آل محمود.
__________
(1) سنن ابن ماجه الفتن (4019) .(10/153)
صفحة فارغة(10/154)
غنيم بن مبارك بن غنيم آل غنيم
- ولد في بلدة الهلالية بالقصيم عام 1355هـ المملكة العربية السعودية.
- تخرج من كلية الشريعة بمكة المكرمة عام 1376هـ.
- عمل قاضيا بمحكمة رابغ عام 1377هـ ثم انتقل إلى الطائف وعمل في محاكمها حتى عين رئيسا لها، وفي عام 139هـ انتقل إلى الرياض ليعمل عضوا في الهيئة القضائية العليا أصبح مسماها أخيرا مجلس القضاء الأعلى ولا يزال عضوا فيه(10/155)
صفحة فارغة(10/156)
القسامة
بقلم الشيخ غنيم بن مبارك بن غنيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين نبينا محمد وآله وصحبه وبعد، فمما لا شك فيه أن شريعة الله كاملة البناء قوية النسج محكمة التشريع لا جمود فيها ولا عسر ولا اعوجاج ولا قصور في تعاليمها، تتلاءم مع طبيعة البشر وتتمشى مع الفطر السليمة والغرائز الإنسانية وتساير العقول النيرة، أقامها الله على أساس متين صالح لكل زمان ومكان، كيف لا وهي تشريع رب العالمين، العليم بحال عباده الخبير بما يصلحهم في أولاهم وأخراهم، وأرسى محمد صلى الله عليه وسلم قواعدها وبين أصولها، وسار على نهجه خلفاؤه والأبرار من بعده وأئمة الهدى من بعدهم الذين قاموا بشرح الكتاب والسنة وإيضاح غامضها وبيان مقاصدها حتى نبغ فقهاء مبرزون استطاعوا بصدق نياتهم وصلاح طويتهم وإخلاصهم لله أن يستنبطوا الأحكام ويبينوا الحق ويزيلوا اللبس حتى تركوا لنا الآلاف من الكتب والمراجع جزاهم الله خير الجزاء.
من ضمن ما بحثه الفقهاء والمحدثون وأفاضوا فيه (مشروعية القسامة) لكونها مشتملة على أحكام مستثناة من القواعد الشرعية العامة في باب الدعاوى والبينات، ولما لها من الأثر البالغ في حماية الأنفس والأرواح وقصر الشرور وردع كل من تسول له نفسه الاعتداء على حياة مسلم معصوم الدم في غفلة من الناس حيث لا يراه أحد. قال الإمام ابن تيمية رحمه الله في الجزء الرابع والثلاثين من الفتاوى صحيفة 238: لولا القسامة في الدماء لأفضي إلى سفك الدماء، فيقتل الرجل عدوه خفية ولا يمكن أولياء المقتول إقامة البينة،(10/157)
واليمين على القاتل والسارق والقاطع، فإن من يستحل هذه الأمور لا يكترث باليمين اه لقد أولى الفقهاء القسامة جانبا من اهتمامهم وأفاضوا في بحث قواعدها وشروطها، حتى لا يكاد يكون هناك لبس لكل طالب علم رائده الحق والبحث عن الصحيح من القول(10/158)
تعريف القسامة ووجودها قبل الإسلام:
عرف بعض الفقهاء القسامة: بأنها أيمان مكررة في دعوة قتل معصوم، والقسامة معروفة في الجاهلية فقد عمل بها أبو طالب حسبما أخرج النسائي والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن أول قسامة كانت في الجاهلية لفينا بني هاشم، كان رجل من بني هاشم استأجره رجل من قريش من فخذ أخرى فانطلق معه في إبله فمر به رجل من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه فقال أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي لا تنفر الإبل، فأعطاه عقالا فشد به عروة جوالقه فلما نزلوا عقلت الإبل إلا بعيرا واحدا فقال الذي استأجره ما بال هذا البعير لم يعقل من بين الإبل، قال ليس له عقال، قال فأين عقاله، قال مر بي رجل من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه فاستغاثني فقال أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي لا تنفر الإبل فأعطيته عقالا، قال فحذفه بعصا كان فيها أجله، فمر به رجل من أهل اليمن فقال تشهد الموسم؟ قال ما أشهده وربما شهدت قال هل أنت مبلغ عني رسالة مرة من الدهر، قال نعم قال فإذا شهدت فناد يا قريش فإذا أجابوك فناد يا آل هاشم فإن أجابوك فسل عن أبي طالب فأخبره أن فلانا قتلني في عقال ومات المستأجر، فلما قدم الذي استأجره أتاه أبو طالب فقال ما فعل صاحبنا قال مرض فأحسنت القيام عليه ثم مات ووليت دفنه، قال قد كان أهل ذاك منك فمكث حينا.
ثم إن الرجل الذي أوصى إليه أن يبلغ عنه قدم الموسم فقال: يا قريش، قالوا: هذه قريش، قال: يا آل بني هاشم، قالوا هذه بنو هاشم، قال أين أبو طالب؟ قال: هذا أبو طالب قال: أمرني فلان أن أبلغك رسالة أن فلانا قتله في عقال، فأتاه أبو طالب فقال: اختر منا إحدى ثلاث: إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا بخطأ، وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله، فإن أبيت قتلناك به فأتى قومه(10/158)
فأخبرهم فقالوا: نحلف، فأتت امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم وكانت قد ولدت منه، فقالت: يا أبا طالب أحب أن تجير ابني هذا برجل من الخمسين ولا تصبر يمينه حيث تصبر الأيمان ففعل، فأتاه رجل منهم فقال يا أبا طالب أردت خمسين رجلا أن يحلفوا مكان مائة من الإبل فيصيب كل رجل منهم بعيرين، هذان بعيران فاقبلهما مني ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان فقبلهما، وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا، قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده ما حال الحول ومن الثمانية والأربعين عين تطرف.
سقت هذا الأثر للعبرة والفطنة وليتذكر كل من أراد أن يحلف ما لليمين من الأثر البالغ، ولئلا يندفع المسلم وراء العاطفة والحمية والعصبية وليراقب الله في كل أموره(10/159)
دليل شرعية القسامة:
جمهور أهل العلم يرون أن القسامة مشروعة وأنها أصل من الأصول الشرعية التي يثبت بها القصاص أو الدية إذا لم تقترن الدعوى ببينة أو إقرار ووجد اللوث، استنادا إلى ما رواه الإمام مسلم في صحيحه وأبو داود والنسائي والبيهقي عن سهل بن أبي حثمة قال «انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهي يومئذ صلح، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا فدفنه، ثم قدم إلى المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال كبر كبر وهو أحدث القوم فسكت، فتكلما، فقال: أتحلفون وتستحقون دم قاتلكم أو صاحبكم؟ فقالوا: كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ قال: فتبرئكم يهود خمسين يمينا، فقالوا: كيف تقبل أيمان كفار؟ فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده (1) » .
وفي رواية لأبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقسم خمسون على رجل منهم فيدفع برمته (2) » ، وقد أخذ بعض الفقهاء من هذا الحديث مشروعية القسامة لإثبات القتل لأن النبي صلى الله عليه وسلم عرضها على أولياء الدم، إذ لو كانت غير مشروعة لما قام صلى الله عليه وسلم بعرضها ورتب عليها استحقاق الدم، والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
قال ابن القيم -رحمه الله- في الجزء الثاني من كتابه إعلام الموقعين صفحة 252- في معرض رده على من لم يأخذ بهذا الحديث من العلماء قال: رد حديث القسامة الصحيح الصريح المحكم بالمتشابه من قوله: لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال
__________
(1) صحيح البخاري الجزية (3173) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .
(2) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن النسائي القسامة (4713) ، سنن أبو داود الديات (4520) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، سنن الدارمي الديات (2353) .(10/159)
دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه، والذي شرع الحكم بالقسامة هو الذي شرع أن لا يعطى أحد بدعواه المجردة، وكلا الأمرين حق من عند الله لا اختلاف فيه ولم يعط في القسامة بمجرد الدعوى، وكيف يليق بمن بهرت حكمة شرعه العقول أن لا يعطي المدعي بمجرد دعواه عودا من أراك ثم يعطيه بدعوى مجردة دم أخيه المسلم؟ وإنما أعطاه ذلك بالدليل الظاهر الذي يغلب على الظن صدقه فوق تغلب الشاهدين وهو اللوث والعداوة والقرينة الظاهرة من وجود العدو مقتولا في بيت عدوه، فقوى الشارع الحكيم هذا السبب باستحلاف خمسين من أولياء القتيل الذي يبعد أو يستحيل اتفاقهم كلهم على رمي البريء بدم ليس بسبيل ولا يكون فيهم رجل رشيد يراقب الله، ولو عرض على جميع العقلاء هذا الحكم، والحكم بتحليف العدو الذي وجد القتيل في داره بأنه ما قتله لرأى أن ما بينهما من العدل كما بين السماء والأرض(10/160)
من الذي يحلف في القسامة:
إذا عرفنا أن الجمهور من أهل العلم يرون اعتبار القسامة طريقا من طرق إثبات جريمة القتل، وأنها سنة مقررة بنفسها مخصصة للأصول كسائر السنن المخصصة استنادا إلى حديث سهل بن أبي حثمة -المار ذكره- والذي جاء فيه «أتحلفون خمسين يمينا فتستحقون صاحبكم أو قاتلكم؟ (1) » .
فهل يحلف الوارث وغير الوارث أم الوارث فقط: اختلف العلماء في هذه المسألة فالإمام مالك وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد أن الذي يحلف من الأولياء هم العصبة، قال في الجزء العاشر من المغني والشرح الكبير: (يحلف العصبة الوارث وغير الوارث خمسون رجلا كل واحد منهم يمينا واحدة يؤخذ الأقرب من العصبة فالأقرب من قبيلته التي ينتسب إليها ويعرف كيفية نسبه من المقتول، فأما من عرف أنه من القبيلة ولم يعرف وجه النسب لم يقسم، إلى أن قال فإن لم يوجد من نسبه خمسون ردت الأيمان عليهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم «يحلف خمسون رجلا منكم وتستحقون دم صاحبكم (2) » وقد علم صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن لعبد الله بن سهل خمسون رجلا وارثا فإنه لا يرثه إلا أخوه أو من هو في درجته أو أقرب منه نسبا ولأنه خاطب بهذا ابني عمه وهما غير وارثين) .
وما أحرانا باتباع ما أوضحه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث والعمل به فالخير كل الخير في اتباع هديه والسير على نهجه، قال ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين في الجزء
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4712) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1631) ، سنن الدارمي الديات (2353) .
(2) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4713) ، سنن أبو داود الديات (4520) ، مسند أحمد بن حنبل (4/2) ، سنن الدارمي الديات (2353) .(10/160)
الرابع صحيفة 212: [كان السلف الطيب يشتد نكيرهم وغضبهم على من عارض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي أو قياس أو استحسان أو قول أحد من الناس كائنا من كان، ويهجرون فاعل ذلك وينكرون على من يضرب له الأمثال ولا يسوغون غير الانقياد له والتسليم والتلقي بالسمع والطاعة ولا يخطر بقلوبهم التوقف في قبوله حتى يشهد له عمل أو قياس أو يوافق قول فلان وفلان، بل كانوا عاملين بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (1) ] .
وفريق آخر من العلماء يرون أن الذي يحلف الأيمان هم الوارثون فقط وممن قال بهذا الرأي الإمام الشافعي، جاء في الجزء الخامس من الأم صحيفة 92: [وإذا قتل الرجل فوجبت فيه القسامة لم يكن لأحد أن يقسم عليه إلا أن يكون وارثا، كان قتله عمدا أو خطأ، وذلك أنه لا تملك النفس بالقسامة إلا دية المقتول ولا يملك دية المقتول إلا وارث فلا يجوز أن يقسم على ما لا يستحقه إلا من له المال بنفسه أو من جعل الله تعالى له المال من الورثة] وفي الشرح الكبير لابن قدامة الجزء العاشر صحيفة 32 [أن الأيمان تختص بالورثة دون غيرهم لأنها يمين في دعوى حق فلا تشرع في حق غير المتداعين كسائر الأيمان] فعلى هذه الرواية يقسم بين الورثة من الرجال من ذوي الفروض والعصبات على قدر إرثهم إن كانوا جماعة وإن كان واحدا حلفها.
إلخ.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 36(10/161)
هل يشترط وجود ذكر بالغ حين الدعوى:
من أخذ بالرواية الثانية في مذهب الإمام أحمد أنه لا يقسم إلا الوارث وأن الأيمان تعرض على ورثة المقتول دون غيرهم على حسب مواريثهم، من أخذ بهذه الرواية ولم يجد للقتيل إلا ابنا قاصرا فهل يؤول الأمر إلى القسامة؟ قبل الإجابة على هذا السؤال يجب الرجوع إلى نص أقوال أهل العلم في ذلك لنكون على بينة من الأمر: جاء في الجزء السادس من كتاب كشاف القناع صفحة 59 ما نصه: [الشرط الرابع من شروط القسامة: أن يكون في المدعين ذكور مكلفون ولو واحدا] وقال في الجزء الثالث من المنتهى صفحة 333: [الشرط التاسع كون فيهم أي الورثة ذكور مكلفون لحديث «يقسم خمسون رجلا منكم وتستحقون دم صاحبكم (1) » ولأن القسامة يثبت فيها قتل فلم يسمع من النساء كالشهادة والدية إنما تثبت ضمنا لا قصدا، ولا يقدح غيبة بعضهم أي
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4713) ، سنن أبو داود الديات (4520) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، سنن الدارمي الديات (2353) .(10/161)
الورثة ولا عدم تكليفه بأن كان بعضهم صغيرا أو مجنونا] إلخ. وقال في مطالب أولي النهى الجزء السادس صفحة 151: [الشرط التاسع: كونه في الورثة ذكور مكلفين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يقسم خمسون رجلا منكم وتستحقون دم صاحبكم (1) » ] ولأن القسامة يثبت بها قتل العمد فلم تسمع من النساء. إلخ وقال في المقنع وحاشيته الجزء الرابع صفة 74 الشرط الرابع: [أن يكون في المدعين رجال عقلاء ولا مدخل للنساء والصبيان والمجانين في القسامة، عمدا كان القتل أو خطأ] . إلخ هذا هو رأي فقهاء الحنابلة في المسألة.
أما الإمام مالك رحمه الله فيرى أنه في حال قتل العمد لا يحلف إلا العصبة ولا يحلف أقل من رجلين من العصبة ويستوي أن يكون العاصب وارثا أم غير وارث، قال في الجزء السادس من المدونة صفحة 416 [أرأيت إن لم يكن للمقتول إلا وارث واحد أيحلف هذا الوارث وحده خمسين يمينا ويستحق الدية أو القتيل إن ادعي العمد؟] قال مالك: [أما في الخطأ فإنه يحلف خمسين يمينا ويستحق الدية كلها فأما في العمد فلا يقتل إلا بقسامة رجلين فصاعدا، فإن نكل واحد من ولاة الدم الذين يجوز عفوهم إن عفوا فلا سبيل إلى القتل وإن كانوا أكثر من اثنين، وإن كان ولاة الدم رجلين فنكل أحدهما فلا سبيل إلى الدم] وقال في الصحيفة بعدها [سألت مالكا عن الرجل يقتل وله ولد صغار كيف ترى في أمره أينتظر بالقاتل إلى أن يكبر ولده؟ قال: إذا بطل الدماء ولكن ذلك إلى أولياء المقتول ينظرون في ذلك، فإن أحبوا القتل قتلوا، وإن أرادوا العفو فإنه بلغني عن مالك أن ذلك لا يجوز لهم إلا بالدية ولا يجوز عفوهم بغير دية لأن ولاة الدم هؤلاء الصغار، قال مالك إن كان الكبار اثنين فصاعدا فذلك لهم لأن الصغار منهم ليسوا بمنزلة من نكل عن اليمين وإن استؤني به إلى أن يكبر الصغار بطلت الدماء] .
ومن المعلوم أن رأي الإمام أبي حنيفة أنه لا يوجب بعد القسامة إلا الدية في العمد، وغير العمد لأن القسامة جعلت لحقن دماء المدعى عليهم، ويرى الشافعي في القديم جواز القصاص بالقسامة في العمد، لكن رأيه الأخير أنه لا يجب بالقسامة إلا الدية سواء كان الفعل عمدا أو شبه عمد أو خطأ.
ومن هذا يتضح أن الإمامين أبا حنيفة والشافعي في الجديد لا يرون أن القسامة بعد تحقق شروطها لديهم توجب القصاص وإنما توجب الدم فقط.
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4713) ، سنن أبو داود الديات (4520) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، سنن الدارمي الديات (2353) .(10/162)
أما المالكية فيعتبرون أقل العدد في القسامة رجلين وأنه إذا لم يكن إلا صغار فإن الدماء تبطل، ولا ينتظر حتى بلوغ الصغار.
أما الحنابلة فيقولون بانتظار الصغير والغائب ونحوه بالقسامة عند وجود ذكر بالغ، أما عند عدمه فلا يرون القسامة، ولهذا قال صاحب كشاف القناع في الجزء السادس صفحة 60 [وإن كان الجميع من الورثة لا مدخل لهم في القسامة كالنساء والصبيان فكما لو نكل الورثة فيحلف المدعى عليه خمسين يمينا ويبرأ] اه.
واتفاق فقهاء الحنابلة على اشتراط وجود ذكر بالغ واضح من أقوالهم آنفة الذكر وأختم قولي بما ذكره صاحب المغني بأن النساء والصبيان لا يقسمون، وأنه إن كان القتل عمدا لم يقسم الكبير حتى يبلغ الصغير، وهذا مفهومه إن كان ثمة كبير، أما إذا لم يكن هناك كبير فقد اختلت القاعدة.
وقد اطلعت على رأي لبعض طلبة العلم رأوا فيه أنه إذا لم يكن للقتيل إلا ابن قاصر فإنه يحبس القاتل لحين بلوغ القاصر وحلفه الأيمان، وحيث إن هذا الرأي لا يستند إلى نص من أقوال أهل العلم حسبما اطلعت عليه، أردت إيضاح هذه النقطة بالذات ليكون طالب العلم على بينة من أمره.
وفي الختام أرجو من إخواني طلبة العلم وخصوصا ممن ابتلي بنظر شيء من الدماء أن يحرصوا على الاطلاع على أقوال أهل العلم قبل البت في القضية، وأن يكون رائدهم إصابة الحق وأن يتركوا التعصب لرأي رأوه، طالما أن شخصا ولو كان في نظرهم أقل منهم أرشدهم إلى دليل أقوى مما رأوه، وأسأل الله العلي القدير أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه إنه على كل شيء قدير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
غنيم بن مبارك بن غنيم(10/163)
صفحة فارغة(10/164)
الدكتور طه جابر العلواني
- أستاذ في كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وعضو أمناء معهد الفكر الإسلامي، ومسئول البحث العلمي فيه.
- محقق كتاب المحصول للإمام فخر الدين الرازي في أصول الفقه، وله كتاب التقليد، وله عدد من المقالات(10/165)
صفحة فارغة(10/166)
تعليل الأحكام الشرعية
واختلاف العلماء فيه
وحقيقة موقف الحنابلة منه
وأثر ذلك في حجية القياس
بقلم الدكتور طه جابر فياض العلواني
التعليل لغة:
(العلة) -بالكسر- معنى يحل بالمحل فيتغير به حال المحل، ومنه سمي المرض (علة) .
و (العلة) : الحدث يشغل صاحبه عن وجهه، كأن تلك (العلة) قد صارت شغلا ثانيا منعه عن شغله الأول.
و (المعلل) : دافع جابي الضرائب بالعلل.
و (التعلة والعلالة) : ما يتعلل به.
و (علله تعليلا) لهاه به.(10/167)
و (هذا علة لهذا) - أي: سبب.
و (اعتل) : إذا تمسك بحجة (1) ذكر معناه الفارابي.
و (أعله) : جعله ذا علة ومنه إعلالات الفقهاء، واعتلالاتهم (2) .
التعليل اصطلاحا:
من الواضح أن التعليل كان ظاهرا بينا في الكثير من آيات القرآن العظيم، كما هو ظاهر كذلك في أحاديث كثيرة فالله -سبحانه وتعالى يقول- معللا إيجاد العباد: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (3) ويعلل إرسال الرسل بقوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (4) وعلل تشريع القصاص بحفظ النفوس: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (5) .
وعلل بعض التشريعات الخاصة كتعليل أمر الله لرسوله بالزواج من زينب بقوله: {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} (6) وغير ذلك كثير.
كما علل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمورا كثيرة صراحة وإيماء - فمنها قوله عليه الصلاة والسلام: «كنت قد نهيتكم عن لحوم الأضاحي من أجل الدافة، فكلوا وادخروا (7) » .
ونحو قوله: «لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة (8) » .
__________
(1) المصباح المنير مادة ((علل)) : (583) ط الأميرية السادسة.
(2) المصباح المنير مادة ((علل)) : (583) ط الأميرية السادسة.
(3) سورة الذاريات الآية 56
(4) سورة النساء الآية 165
(5) سورة المائدة الآية 32
(6) سورة الأحزاب الآية 37
(7) حديث صحيح رواه الترمذي. على ما في الجامع الصغير: (2 \ 162) .
(8) حديث صحيح ورد من طرق عدة، وبألفاظ متعددة أخرجه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه، على ما في الجامع الصغير: (2 \ 223) .(10/168)
ولقد أدرك أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك فساروا عليه، ونهجوا نهجه، والمتتبع لاجتهادات الصحابة، وطرائق استنباطهم، يلاحظ -بوضوح- بناءهم معظم ما قالوا به على التعليل بالمصلحة، أو سد الذرائع، ودفع المفاسد، وتوقف العمل بالحكم لزوال علته.(10/169)
الخلاف في التعليل:
مع كل ما تقدم فإن شيوع كلمة (التعليل) وظهورها كمصطلح أصولي لم يظهر بشكل واضح إلا في عصر التمذهب الفقهي، وقد كان لمباحث الإمام الشافعي الأصولية، والضوابط -التي تولى إيضاحها ونقده للتوسع في استعمال الرأي- أثرها في دفع العلماء إلى البحث في التعليل، والنظر في ماهيته، والعمل على ضبط قواعده وتحديد مسالكه وطرائقه.
وقد تأثرت مذاهب الأصوليين في (التعليل) إلى حد كبير بمذاهبهم الكلامية: فالذين ساغ في مذاهبهم الكلامية (تعليل) أفعال الله -تعالى- وأحكامه، ولم يروا في ذلك ما ينافي التوحيد أو يخدشه -كان (للتعليل) - في نظرهم مفهوم ينسجم مع هذا المذهب.
والذين رأوا أن القول (بالتعليل) - هو نفسه القول (بالغرض) الذي ينافي التوحيد وقفوا من التعليل ومن حقيقته موقفا آخر. يتفق مع مذهبهم هذا.
والمذاهب الكبرى في (التعليل) هي:(10/169)
مذهب المعتزلة:
والمعتزلة يرون أن لكل معلول علة مؤثرة بذاتها: أنى وجدت أنتجت شيئا مشابها دون حاجة إلى شيء آخر: فالعلة -عندهم- وصف ذاتي لا يتوقف على جعل جاعل،(10/169)
ويعبر عنه تارة (بالموثر) وتارة (بالموجب) .
وهذا بناء على مذهبهم الكلامي وقولهم (بالحسن والقبح العقليين) و (وجوب الأصلح)(10/170)
مذهب الأشاعرة:
مذهب الأشاعرة أن لا موجد لشيء -على الحقيقة- إلا واجب الوجود لذاته، والأسباب معدات لقبول الوجود، لا محدثات والفعل يستند وجوده إلى القدرة - التي تنتهي إلى مسبب الأسباب، فهو سبحانه الخالق للعلة وأثرها معا، لا يشاركه في الخلق غيره، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فلو أدخل الخلائق -كلهم- الجنة: لم يكن حيفا، ولو أدخلهم النار: لم يكن جورا. والواجبات كلها سمعية، والعقل لا يوجب شيئا ولا يقتضيه (1) ، ولذلك فإن جمهورهم على أن العلل العقلية غير مؤثرة إلا على معنى جريان سنة الله -تعالى- بخلق آثارها عقبها، وأما العلل الشرعية - فهي مجرد أمارات لإيجاب الله -تعالى- الأحكام عندها.
وهم لا ينكرون أن الله -تعالى- قد أناط المصالح بها تفضلا منها وإحسانا، ولكنهم يقولون: لو شاء لجعل المصلحة في ضد ذلك، وأن له -سبحانه- أن ينيطها بهذا الحكم، أو سواه ولو لم يفعل لم يكن ذلك عبثا.
وذلك تخلصا من مخالفة ما يذهبون إليه من منع تأثير الحادث بالقديم، والعلة حادثة والحكم قديم: فلا يجوز تعليل القديم بالحادث، فأفعاله -تعالى- لا تعلل بالأغراض، والأحكام لا تتبع الحكم والمصالح - وإن كانت هذه الحكم والمصالح من ثمراتها ولكنها ليست غائية لها:
وكل الآيات الكريمة -التي جاء التعليل فيها صريحا يؤولونها بهذا - أي: أن ما علل به ليس غرضا ولا علة غائية، ولكنه يشتمل عليه الحكم فقط (2) .
أو أنه من قبيل الاستعارة التبعية تشبيها لها بالأغراض والبواعث (3) . ولذلك فقد
__________
(1) انظر الملل: (1 \ 162) وما بعدها، ط. الأزهر.
(2) انظر حاشية العطار على جمع الجوامع: (2 \ 274) .
(3) المرجع نفسه.(10/170)
صرح جمهورهم: (بأنه لا يجوز التعليل مطلقا) . (1) .
__________
(1) انظر أم البراهين في العقائد للسنوسي (5) ضمن مجموع مهمات المتون ط. الحلبي الرابعة.(10/171)
مذهب الماتريدية:
يرى الماتريدية: أن أفعال الله -تعالى- معللة بمصالح العباد، ويخالفون المعتزلة بأن الأصلح غير واجب عليه -تعالى- وإنما هو التفضل منه جل شأنه والإحسان (1) .
ويشددون النكير على من لا يقولون بذلك، يقول صاحب التلويح: (وما أبعد من الحق قول من قال: إنها غير معللة بها، فإن بعثة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لاهتداء الخلق، وإظهار المعجزات لتصديقهم، فمن أنكر التعليل فقد أنكر النبوة، وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (2) وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} (3) ، وأمثال ذلك كثيرة في القرآن ودالة على ما قلنا.
وأيضا: لو لم يفعل لغرض -أصلا-: يلزم العبث) (4) .
ويرد حجة المانعين للتعليل تنزيها له -سبحانه- عن الغرض بأن الغرض عائد إلى العبد لتحقيق نفعه، أو لدفع الضر عنه، ولذلك فإن المحذور الذي يخافون الوقوع به من القول بالتعليل غير وارد: فالعبد هو المستكمل بالغرض لا الباري جل شأنه (5) . وذلك لإجماع العقلاء على أن ما عدا الواجب -جل شأنه- لا يصلح أن يكون مصدرا لآثار البرهان القطعي الدال على ذلك، فتوقف التأثير في المعلولات على العلل شرعية كانت أو عقلية لنقص في المعلولات لا لعجز في الواجب جل شأنه، فمنفعة تعليل الأحكام بمصالح العباد ترجع إليهم (6) .
__________
(1) التوضيح: (2 \ 374) .
(2) سورة الذاريات الآية 56
(3) سورة البينة الآية 5
(4) التوضيح: (2 \ 374) .
(5) المرجع السابق
(6) سلم الوصول: (3 \ 55) .(10/171)
مذهب الحنابلة:
لم نعثر على كلام صريح في التعليل للإمام أحمد -رحمه الله- وأما أتباعه فقد(10/171)
اختلفوا في هذا، وتعددت أقوالهم:
فالقاضي أبو يعلى يقول: (ولا يجوز أن يفعل الله -سبحانه- الشيء لغرض ولا لداع: خلافا للقدرية والبراهمة والثنوية وأهل التناسخ وغيرهم من طوائف البدع.
والدليل عليه: أن الأغراض والعلل لا تجوز إلا على من جازت عليه المضار والمنافع، ويكون محتاجا (1) .
وفي المسودة ورد قوله: (. . . قد أطلق غير واحد -من أصحابنا- القاضي وأبو الخطاب وابن عقيل والحلواني وغيرهم في غير موضع: أن علل الشرع إنما هي أمارات وعلامات نصبها الله أدلة على الأحكام، فهي تجري مجرى الأسماء.
ثم قال: وهذا الكلام ليس بصحيح على الإطلاق، والكلام في حقيقة العلل الشرعية فيه طول: ذكر ابن عقيل وغيره: أنها وإن كانت أمارات فإنها موجبة لمصالح ودافعة لمفاسد وليست من جنس الأمارات العاطلة الساذجة العاطلة عن الإيجاب (2) .
أما (العلل العقلية) - فقد قالوا فيها: القياس العقلي حجة يجب العمل به، ويجب النظر والاستدلال به بعد ورود الشرع.
وبهذا قال جماعة من الفقهاء والمتكلمين، من أهل الإثبات. . . وذهب قوم من أهل الحديث وأهل الظاهر- فيما ذكره ابن عقيل: إلى أن حجج العقول باطلة، والنظر فيها حرام، والتقليد واجب.
وقد نقل عن أحمد الاحتجاج بدلائل العقول (3) .
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية - فإنه يجعل القول بالتعليل مظهرا من مظاهر التوحيد الهامة، وذلك أثناء كلامه عن التعليل بأكثر من علة، حيث أشار إلى وجوب تظافر العلل وعدم جواز استقلال علة واحدة بالتأثير، إذ أن الاستقلال بالفعل من خصائص رب العالمين، فيقول رحمه الله: (لا يكون في العالم شيء بالفعل موجود عن بعض الأسباب
__________
(1) انظر المعتمد في أصول الدين: (277) .
(2) انظر المسودة (385) .
(3) انظر المسودة (365) .(10/172)
إلا يشاركه سبب آخر له، فيكون -وإن سمي علة- مقضية سببية، لا علة تامة، ويكون كل منها شرطا للآخر.
كما أنه ليس في العالم سبب إلا وله مانع يمنعه في الفعل، فكل ما في المخلوق مما يسمى علة أو سببا أو قادرا أو فاعلا أو مؤثرا فله شريك هو له كالشرط، وله معارض هو له مانع وضد، وقد قال سبحانه: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} (1) والزوج يراد به النظير المماثل، والضد المخالف وهذا كثير، فما من مخلوق إلا له شريك وند، والرب -سبحانه- وحده هو الذي لا شريك له ولا ند ولا مثل، ولهذا لا يستحق غيره أن يسمى خالقا ولا ربا مطلقا ونحو ذلك، لأن ذلك يقتضي الاستقلال، والانفراد بالمفعول المصنوع وليس ذلك إلا لله وحده) (2) .
ويستطرد قائلا: (. . ولا يكون في المخلوق علة إلا ما كان مركبا من أمرين فصاعدا، فليس في المخلوقات واحد يصدر عنه علة: فضلا عن أن يقال: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، بل لا يصدر من المخلوق شيء إلا عن اثنين فصاعدا) .
وأما الواحد الذي يفعل-وحده- فليس إلا الله، فكما أن الوحدانية واجبة له، لازمة له فالمشاركة واجبة للمخلوق لازمة له والوحدانية مستلزمة للكمال، والاشتراك مستلزم للنقصان) (3) .
فأنت ترى أنه -رحمه الله- قد اعتبر -بكل وضوح- التعليل من دلائل توحيد الربوبية وأعلامها.
ويشير شيخ الإسلام إلى أن الإمام أحمد يأخذ بالتعليل مسترشدا بما نقل عنه -رحمه الله- في بعض ما يغلظ تحريمه - من قوله: (هذا كلحم خنزير ميت) (4) .
كما نقل ابن القاسم عنه -رحمه الله-: أنه ذهب إلى أنه لا يجوز الحديد والرصاص متفاضلا: قياسا على الذهب والفضة، وهذا ظاهر في أنه -عليه الرحمة- قد علل تحريم
__________
(1) سورة الذاريات الآية 49
(2) الفتاوى (20 \ 182) .
(3) الفتاوى (25 \ 175) .
(4) الفتاوى: (25 \ 175) .(10/173)
الربا في النقدين، ثم قاس عليهما الحديد والرصاص (1) .
وشيخ الإسلام ابن تيمية لا يرى حرجا باعتبار العلة مؤثرا وباعثا وداعيا - فيقول: (إن المؤثر الواحد سواء كان فاعلا بإرادة واختيار أو طبع، أو كان داعيا إلى الفعل، وباعثا عليه - متى كان له شريك في فعله وتأثيره كان معاونا ومظاهرا له) (2) .
ويقول -أيضا-: (إذا أشكل على الناظر أو السالك حكم شيء هل هو على الإباحة أو التحريم - فلينظر إلى مفسدته وثمرته وغايته، فإن كان مشتملا على مفسدة راجحة ظاهرة - فإنه يستحيل على الشارع الأمر به، أو إباحته، بل يقطع: أن الشرع يحرمه، لا سيما إذا كان مفضيا إلى ما يبغضه الله ورسوله) .
ويقول ابن القيم: (فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها) .
فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث: فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل (3) .
ومن طرائف تعليلات شيخ الإسلام ابن تيمية قوله: (مررت أنا وبعض أصحابي -في زمن التتار بقوم- منهم- يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسبي الذرية، وأخذ الأموال فدعهم) (4) .
وقد نص أحمد وإسحاق والأوزاعي وغيرهم: على أن الحدود لا تقام في أرض العدو، وملاحظة التعليل في هذا ظاهرة
__________
(1) المسودة (367) .
(2) الفتاوى (25 \ 175) .
(3) إعلام الموقعين (3 \ 3) ط. دار الجيل.
(4) المصدر السابق: (3 \ 5) .(10/174)
الخلاصة:
جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم ذهبوا: إلى أن أحكام الشرع(10/174)
معللة بجلب المصالح للعبد دنيوية أو أخروية، ودرء المفاسد عنه بكل أنواعها، وسواء منها ما كان معقول المعنى، وما لم يكن كذلك، ولم يخالف في هذا إلا بعض الظاهرية.
ولا نزاع بين القائلين بالقياس في تعليل كل ما يجري فيه القياس، ذلك: لأن العلة ركن من أركان القياس - عند الأكثرين، وأعظم أركانه لدى الجمهور بل عدها بعضهم ركن القياس الوحيد، وما عداها -من الأركان- ليس إلا شروطا لها (1) .
كما اتضح أن الإمام أحمد وأصحابه مع الجمهور في القول في تعليل الأحكام، وملاحظة كل ما يمكن للعقل البشري أن يلاحظه أو يصل إليه - من وجوه العلل والحكم والمصالح العائدة للعباد في أحكام الشارع الحكيم.
والإمام أحمد لا يعتبر العلة حين تصادم نصا أو تخرج عليه، فإنه يرى فيها في هذه الحالة علة غير معتبرة، وأن المستدل قد يكون أخطأ العلة فعليه مواصلة البحث والاستمرار في الجهد
__________
(1) التلويح (2 \ 353) .(10/175)
أقسام القياس والمقبول منها والمردود لدى الحنابلة
ينقسم القياس باعتبار تبادر الذهن إليه بلا تأمل، وعدم تبادره إليه إلا بالتأمل إلى قسمين:
1 - جلي، أو في معنى الأصل.
2 - خفي.
(فالجلي) أو القياس في معنى الأصل - هو: ما قطع فيه بنفي تأثير الفارق بين الأصل والفرع.
مثاله: قياس الأمة على العبد، فإن الفارق -بينهما- وهو: الذكورة والأنوثة - مقطوع بنفي تأثيره، لأن الشارع لم يفرق في أحكام العتق بين الذكر والأنثى.
ونحوه قياس الضرب على التأفيف عند القائلين بأنه من قبيل القياس.
وقياس البول في إناء، ثم صبه في الماء الراكد، على البول بشكل مباشر.(10/175)
وأما (القياس الخفي) فهو: ما لم يقطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع بأن يكون نفي الفارق مظنونا.
مثاله: قياس النبيذ على الخمر في الحرمة، لأنه لا يمتنع أن تكون خصوصية الخمر معتبرة، ولذلك اختلفوا في تحريم النبيذ.
ومثله قياس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد بجامع القتل العمد العدوان ليثبت وجوب القصاص في المثقل كما وجب في المحدد، فإن الفارق -بينهما- هو: كون أحدهما مثقلا والآخر محددا لم يقطع بإلغاء تأثيره من الشارع، بل يجوز أن يكون الفارق مؤثرا.
ولذلك ذهب أبو حنيفة -رحمه الله- إلى أنه لا يجب القصاص في القتل بالمثقل.
وبالقياس الخفي لا يشمل إلا نوعا واحدا - هو: قياس الأذى، وينقسم القياس - من حيث القطع والظن إلى قسمين:
1 - قياس مقطوع به - وهو: ما قطع فيه بعلة الحكم في الأصل، وبوجودها في الفرع - كقياس الضرب على التأفيف بجامع الإيذاء، وقياس إحراق مال اليتيم على أكله في الحرمة بجامع الإتلاف عليه، وكقياس الأمة على العبد في سراية العتق.
وعلى هذا فإن القياس القطعي يشمل الأولوي والمساوي الآتي ذكرهما، وبيانهما.
2 - قياس ظني - وهو: ما لم يقطع فيه بالأمرين معا: بأن يقطع بأحدهما دون الآخر، أو بأن يكون كل منهما مظنونا، كقياس التفاح أو السفرجل على البر بجامع الطعم في كل منهما لتثبت فيه حرمة التفاضل، كما ثبتت في البر: فالعلة في البر لم يقطع بأنها الطعم لوجود احتمالات أخرى كالكيل والادخار والاقتيات.
وينقسم من حيث التساوي بين الفرع والأصل في قوة الجامع في كل منهما، ومن ثم في مناسبة الحكم لكل منهما إلى:(10/176)
1 - قياس أولى أو أولوي - وهو ما كان الفرع فيه أولى من الأصل بالحكم كالضرب والتأفيف.
2 - وقياس مساو: كقياس الأمة على العبد في سراية العتق.
3 - وقياس أدنى كقياس التفاح على البر بجامع الطعم في كل منهما، ووجه الأدونية: أن التحريم ثابت في البر سواء قلنا إن العلة في التحريم - هي الطعم أو الكيل أو الاقتيات والادخار لوجود هذه الأوصاف كلها فيه: أما الفرع -وهو التفاح- فإن الحرمة فيه إنما تثبت إذا قيست على البر بجامع الطعم فقط، فإذا قيل بأن العلة في البر غير الطعم فإن قياس التفاح عليه لا يصح.
وانقسام القياس إلى الأقسام التي ذكرناها - أمر متفق عليه بين القائلين بالقياس(10/177)
أقسام القياس باعتبار العلة
للعلة أحوال بحسب ترتيب الأحكام عليها: فهناك حكم يحصل بحصول العلة يقينا، وهناك ما يحصل عقبها ظنا وهناك ما يشك بحصوله عقبها، وهناك علة يتوهم حصول الحكم عقبها.
وبحسب أحوال العلة يكون القياس، وقد تقدم ذكر بعض الأقسام من حيثيات مختلفة، والآن نقسمه من حيث الجمع بنفس العلة أو غيرها. قسم الأصوليون القياس -من هذه الحيثية- إلى أقسام ستة:
الأول: (قياس العلة) ، وهو ما صرح فيه بالعلة، وجمع بين الفرع والأصل بها، كأن يقال: (يحرم النبيذ كالخمر بعلة الإسكار) ، (ويسري عتق الشقص في الأمة كسريانه في العبد بجامع الرق) ، (ويجب القصاص بالقتل بالمثقل كما يجب بالقتل بالمحدد بعلة القتل العمد العدوان في كل منهما) .(10/177)
الثاني: (قياس الدلالة) ، وهو: قياس يجمع فيه بين الفرع والأصل بدليل العلة، ليدل اشتراكهما فيه على اشتراكهما في العلة. ففي هذا النوع من القياس لا تذكر العلة صراحة، بل يجمع بين الفرع والأصل بوصف جامع لا يكون علة للحكم، لا في نفس الأمر، ولا في نظر المجتهد، لأنه إما ملزوم العلة أو أثرها أو حكمها فأما الجمع بملزوم العلة - فكالجمع بين النبيذ والخمر بالرائحة المشتدة المطربة، كأن يقال: (النبيذ ذو رائحة شديدة مطربة كالخمر: فيحرم) فالعلة هي (الإسكار) ، ولكن الرائحة المشتدة ملزوم للإسكار، ومثال الجمع بأثر العلة: إلحاق القتل بالمثقل بالقتل بالمحدد في وجوب القصاص بجامع (الإثم) في كل منهما: كأن يقال: (القاتل بالمثقل آثم كالقاتل بالمحدد، فيجب عليه القصاص) . فالإثم أثر العلة التي هي القتل العمد العدوان.
ومثال الجمع بحكم العلة: الحكم بحياة شعر المرأة قياسا على سائر شعر بدنها بجامع حله بالنكاح، وحرمته بالطلاق.
وكقولهم بجواز رهن المشاع قياسا على جواز بيعه بجامع جواز البيع.
وتقول الشافعية والحنابلة بوجوب الزكاة في مال الصبي قياسا على مال البالغ بجامع أنه مال نام.
الثالث: (قياس المعنى) ، أو (القياس الذي في معنى الأصل) ، وهو: أن يجمع بين الفرع والأصل بنفي الفارق بينهما. وهذا عند من يسميه قياسا كالإمام الشافعي (1) وإلا فالأكثرون يسمونه بتنقيح المناط (2) .
الرابع: (قياس الشبه) ، وقد اختلفوا في تفسيره، كما اختلفوا في حجيته ففسره القاضي أبو يعلى: بأنه القياس الخفي، (3) وقال في موضع آخر: إنه المتردد بين أصلين (4) ، وهو نفس التفسير المنقول عن الإمام أبي يوسف - صاحب أبي حنيفة (5) .
__________
(1) انظر الرسالة.
(2) انظر روضة الناظر.
(3) المسودة (374) .
(4) المرجع نفسه (375) .
(5) انظر روضة الناظر (312) .(10/178)
وعرفه القاضي الباقلاني: بأنه الوصف الذي لا يناسب الحكم بذاته، لكنه يكون مستلزما لما يناسبه بذاته (1) .
وأما الإمام الشافعي - فقد سمى هذا النوع من القياس بقياس (غلبة الأشباه) فقال: (القياس من وجهين: أحدهما: أن يكون الشيء في معنى الأصل، فلا يختلف القياس فيه.
وأن يكون الشيء له في الأصول أشباه، فذلك يلحق بأولاها وأكثرها شبها فيه، وقد يختلف القايسون في هذا) (2)
__________
(1) انظر المحصول: 2 \ 52 \ 277.
(2) انظر الرسالة: (1334) .(10/179)
تعريف القياس لغة واصطلاحا
تعريفه لغة:
قياس: من جموع (قوس) .
كذلك - هو مصدر ل (قاس) كالقيس، ولكنه أكثر دورانا على الألسنة منه.
وقد استعمل -في اللغة- في معان متعددة منها:
1 - (التقدير) ، يقال: (قست الشيء بالشيء) أي: قدرته به، و (قايست بين الأمرين) أي: قدرت بينهما.
2 - ويطلق على (التسوية) بنوعيها: الحسي - كأن يقال: (قست النعل بالنعل) - أي: ساويتها بها.
والمعنوي كقولهم: (فلان لا يقاس بفلان) - أي: لا يساوى به، وكقول الشاعر:
خف يا كريم على عرض يدنسه ... مقال كل سفيه لا يقاس بكا
3 - ويطلق على استعلام المقدار - أي: طلب معرفة مقدار الشيء، ومنه قول الشاعر:
إذا قاسها الآسي النطاسي أدبرت(10/179)
وقولهم: (مقياس النيل) .
4 - وتأتي بمعنى (الاقتداء والتأسي) ، يقال: فلان يقتاس بفلان) أي: يقتدي به، ويأتسي بفعاله. و (يقايس فلانا) أي: يجاريه. . .
5 - وذكر بعضهم: أنه يرد بمعنى المماثلة، وأنه مأخوذ منها - يقال: (هذا قياس هذا) - أي: مثله، وهي لازمة للتسوية، إذ يلزم من التسوية المشابهة.
6 - كما يتضمن معنى (الإصابة) ، حيث يقال: (قست الهدف) إذا أصبته.
وهناك استعمالات أخرى لهذه الكلمة، وجل هذه الاستعمالات يرجع بشكل أو بآخر إلى المعاني الثلاثة الأولة (1) .
في أي هذه المعاني استعمل اللفظ -على سبيل الحقيقة- وفي أيها استخدم على سبيل المجاز؟ .
اختلف أهل اللغة والأصول- في أي المعاني المذكورة استعمل - على سبيل الحقيقة، وفي أيها استعمل على سبيل المجاز على أقوال:
1 - فذهب بعضهم: إلى أنه مشترك لفظي بين المعاني الثلاث الأولى.
2 - وذهب آخرون: إلى أنه حقيقة في التقدير مجاز في غيره، بما فيها التسوية - التي هي لازمة من لوازمه.
3 - وذهب البعض: إلى أنه مشترك معنوي بين التقدير والتسوية، فهو - وإن كان مجازا في المعنى الثاني في البداية ولكنه تحول إلى حقيقة عرفية بعد ذلك فيه، فيكون اللفظ حقيقة في التقدير، وللتقدير معنى كلي تحته فردان - وهما:
استعلام القدر.
والتسوية في المقدار حسية كانت أو معنوية.
__________
(1) راجع: الصحاح والتاج، والمختار، والمصباح مادة ((قاس)) ولسان العرب المادة ذاتها(10/180)
تعديته:
وبعدي ب (الباء) وب (على) والجاري على ألسنة الفقهاء والأصوليين تعديته ب (على) ، وأما تعديته ب (إلى) ، كما في قول المتنبي:
بمن أضرب الأمثال أم من أقيسه ... إليك وأهل الدهر دونك والدهر
فذلك لتضمينه معنى الضم والجمع، كما قاله الواحدي وغيره من شراح ديوانه (1) .
أي المعاني أقرب إلى المعنى الاصطلاحي؟
لقد تبين لنا أن (التسوية) من أهم المعاني التي تراد من لفظ (القياس) وقد لاحظ الأصوليون هذا المعنى عند تعريفهم للقياس المطلوب، ولذلك عرفوه بالمساواة الخاصة، أو بما يتضمن هذه المساواة، ويشتمل عليها - كما ستعرفه عند عرض التعاريف الاصطلاحية للقياس.
__________
(1) راجع شرح ديوان المتنبي(10/181)
حقيقة القياس عند الأصوليين:
اختلفت عبارات الأصوليين - في تعريف القياس وبيان حقيقته. فقال بعضهم:
- هو: (مساواة المسكوت للمنصوص في علة الحكم) .
- وقيل: (تقدير للفرع بالأصل في الحكم والعلة) .
- وقيل: (تشبيه الفرع بالأصل في علة حكمه) .
- وقيل: (بذل المجتهد الجهد في استخراج الحق) .
- وقيل: (حمل الشيء على غيره بإجراء حكمه عليه لعلة مشتركة) .
- وقيل: (إثبات لحكم الأصل للفرع مع تشريك) .
- وقيل: (تسوية الفرع بالأصل في العلة والحكم) .
- وقيل: (إثبات مثل حكم معلوم في معلوم آخر لاشتراكهما في علة الحكم عند المثبت) .(10/181)
- والذي اختاره الآمدي وابن الحاجب - هو: (مساواة فرع لأصل في علة حكمه (1) .
- وعرفه البيضاوي: بأنه إثبات مثل حكم معلوم في معلوم آخر لاشتراكهما في علة الحكم عند المثبت (2) .
- وقال الإمام الرازي: أسد ما قيل -في هذا الباب- تلخيصا وجهان: الأول: ما ذكره القاضي أبو بكر واختاره جمهور المحققين -منا-: أنه حمل لمعلوم على معلوم في إثبات حكم لهما، أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما - من حكم أو صفة، أو نفيهما عنه) (3) .
- وأما التعريف الثاني الذي اختاره الإمام -فهو تعريف أبي الحسين البصري - وهو: تحصيل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم عند المجتهد) (4) .
- ثم اختار عليهما -مع ترجيحه لهما- التعريف الذي اختاره البيضاوي وهو: (إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر لاشتباههما في علة الحكم عند المثبت) (5) .
__________
(1) انظر الأحكام: (3: 183) ط الرياض، وشرح المختصر: 2 \ 204) .
(2) انظر منهاج الوصول بشرحي الأسنوي وابن السبكي (3 \ 2) .
(3) انظر المحصول: (2 \ ق2 \ 9) .
(4) المرجع نفسه ص (17) .
(5) المرجع نفسه(10/182)
أسباب اختلاف تعاريفهم:
وقبل الخوض في شرح التعريف المختار، وبيان رجحانه على غيره نود أن نشير إلى أبرز أسباب اختلاف هذه التعريفات:
لقد اختلف الأصوليون في القياس، هل هو دليل وأمارة وعلامة على الحكم الشرعي نصبه الشارع للدلالة على الحكم الشرعي كالأدلة السمعية من الكتاب والسنة، وأنه يدل على الحكم الشرعي ويكشف عنه، سواء أوقف عليه المجتهد ونظر فيه، وعرف الحكم عن طريقه أم لا.
أم هو إثبات للحكم يقوم به المجتهد؟ .
إلى كل من المذهبين ذهب فريق.(10/182)
فالآمدي وابن الحاجب وابن الهمام وصاحب فواتح الرحموت، والتفتازاني وآخرون ذهبوا إلى الأول، ولذلك عبروا بنحو (مساواة فرع) أو ما يفيد ذلك وقد استحسن التعبير بهذا البزدوي والفيزي والأستاذ - فقد نقل عنه الشوكاني والزركشي قوله: (اختلف أصحابنا فيما وضع له اسم القياس على قولين:
أحدهما: أنه استدلال المجتهد وفكرة المستنبط.
والثاني: أنه المعنى الذي يدل على الحكم في أصل الشيء وفرعه.
قال: وهذا هو الصحيح.
والجمهور الذين استحسنوا هذا وذهبوا إلى أن القياس دليل نصبه الشارع وقف عليه المجتهد أم لم يقف.
استدلوا لما ذهبوا إليه:
1 - بأن ذلك هو الأنسب للمعنى اللغوي للقياس وهو التوسية أو المساواة.
2 - أن عمل المجتهد لبيان مماثلة حكم الفرع لحكم الأصل -ليس إلا ثمرة للمساواة التي كانت موجودة بينهما- قبل وقوفه عليها واكتشافه لها - فهي الدليل الحقيقي على الحكم، لا عمل المجتهد.
3 - أن القياس من مدارك الشريعة، كالكتاب والسنة: فيلزم أن يكون موجودا قبل اجتهاد المجتهد.
وأما القائلون بأنه فعل المجتهد -فقد اختاروا من التعاريف ما يفيد ذلك أو يشير إليه- كقولهم: (حكمك على الفرع بمثل ما حكمت به على الأصل أو (بذل الجهد في طلب الحق) ، أو (إلحاق المختلف فيه بالمتفق عليه) ، أو إثبات مثل حكم الأصل في الفرع إلى غير ذلك.
وقد استدلوا لما ذهبوا إليه في ذلك بما يلي:
1 - أن تلك المساواة -في حد ذاتها- لا فائدة منها، ولا يترتب أثر عليها إلا بعد أن(10/183)
ينظر المجتهد، ويعمل فكره، ويبذل جهده لإظهارها، ثم يلحق المسكوت عنه بالمنصوص عليه بوساطتها.
1 - أن القياس -باعتباره عمل المجتهد- هو المعول عليه في استنباط الأحكام - التي لا نص فيها ولاإجماع.
2 - أن هذا المعنى هو المناسب لتعابير المجتهدين والفقهاء في مثل قولهم: (قاس فلان كذا على كذا) أي: حمله عليه وشبهه به، وساواه به وكل ذلك يدل على نسبة الفعل إلى المجتهد.
والتحقيق: أن (الحمل والإثبات والجعل) ونحوها لم تجعل دليلا على حكم الفرع إلا بالنظر لكونه ناشئا عن تلك المساواة فهي -في الحقيقة- الدليل والأمارة، لكن لما كانت لا تعرف إلا بفعل المجتهد أطلق لفظ القياس على هذا الفعل -على سبيل المجاز المرسل، ثم صار هذا اللفظ حقيقة عرفية في فعل المجتهد، بحيث لا يفهم منه- عند الإطلاق إلا هو- كما صرح بذلك بعض المحققين.
وبذلك يظهر أنه كما يصح تعريف القياس ب (المساواة) يصح تعريفه بنحو (الإثبات) ، بل إن التعريف الثاني أصح وأولى من التعريف الأول وأشهر: فلا معنى لتخطئة المعرفين به (1) .
__________
(1) خطأ الآمدي هؤلاء في أحكامه: (3 \ 184) وما بعدها(10/184)
شرح التعريف المختار:
قد اتضح أن التعريف الذي اختاره جمهور المحققين من الأصوليين هو تعريف القاضي أبو بكر الباقلاني - وهو: (حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما، أو نفيه عنهما، بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة، أو نفيهما عنه) .
وأبرز ما يمتاز به هذا التعريف عن التعاريف الأخرى:
1 - أنه لا يرد عليه ما ورد على غيره من الاعتراضات ومع أن الإمامين الرازي والآمدي قد أوردا عليه جملة من الاعتراضات إلا أنها اعتراضات كثير منها لا يرد(10/184)
وبعضها مما يسهل رده.
2 - أنه لاحظ القياس بالصفتين: فلاحظ كونه عمل المجتهد - حيث قال: (حمل معلوم على معلوم) .
كما لاحظ ما هو دليل المجتهد على هذا الحمل - وهو: المساواة في العلة.
وأما معنى التعريف وشرحه -على الجملة- فهو: إلحاق متصور بمتصور آخر في حكمه، لوجود جامع بينهما، وهذا الإلحاق كما يكون على سبيل الثبوت يكون على سبيل النفي.
وكذلك (الجامع) قد يكون وصفا حقيقيا، وقد يكون حكما شرعيا، وكل واحد منهما - قد يكون إثباتا وقد يكون نفيا.
أما شرحه على التفصيل - فهو: قوله: (حمل. . .) جنس في التعريف - بمعنى إلحاق متصور وهو الفرع بمتصور، وهو الأصل.
وقوله: (معلوم على معلوم) أراد بالمعلوم الأول الفرع وبالمعلوم الثاني الأصل، وإنما عبر به في الموضعين ولم يعبر ب (الشيء) : لأن القياس يجري في الموجود وفي المعدوم - سواء أكان ذلك المعدوم جائزا ممكنا أم مستحيلا ممتنعا و (المعلوم) يشمل كلا من الموجود والمعدوم بقسميه.
وأما (الشيء) فهو الثابت المتقرر في الخارج: فلا يشمل المعدوم الممتنع باتفاق الأشاعرة والمعتزلة. كما لا يشمل المعدوم الممكن عند الأشاعرة وإن كان يشمله عند المعتزلة، لأنه -عندهم- ثابت ومتقرر في الخارج -وإن كان غير متصف بصفة الوجود- فلو عبر ب (الشيء) لكان التعريف غير جامع عند الفريقين للقياس في المعدوم الممتنع وغير جامع عند الأشاعرة للقياس في المعدوم الممكن.
مثال القياس في الممتنع: قياس المؤثر من الحوادث مع الله -تعالى- على الشريك له -سبحانه- في أنه لا يجوز اعتقاده، بجامع أن كلا منهما يترتب عليه فساد الكون وخراب العالم.(10/185)
ومثال قياس المعدوم الممكن: قياس العنقاء على الغول في جواز الوجود بجامع أنه لا يترتب عليه محال.
ويرجع التعبير ب (المعلوم) في الموضعين، ويقدم على التعبير ب (الفرع) و (الأصل) لأمرين.
أولهما: رفع إيهام هذين المعلومين لا بد أن يكونا وجوديين، ذلك الإيهام الناشئ عن أن (الأصل) : ما يبنى عليه غيره و (الفرع) : ما يبنى على غيره - مع أنهما قد يكونان عدميين، كما تقدم.
وثانيهما: رفع إيهام أن هذا التعريف حينئذ يشتمل على الدور، لأنه قد يقال: إن تصور كل من (الأصل) و (الفرع) فرع عن تصور نفس القياس، لأن (الأصل) هو المقيس عليه و (الفرع) هو: المقيس، فكل منهما مشتق من (القياس) ومعرفة المشتق تتوقف على معرفة المشتق منه: فتكون معرفة (الأصل) و (الفرع) متوقفة على معرفة القياس؛ مع أن المفروض أن معرفة القياس هي المتوقف على معرفتها: فيكون المتوقف قد حدث من جانبي التعريف، وهو حقيقة الدور.
وبذلك يتضح أن التعبير ب (معلوم على معلوم) أصح وأولى من التعبير ب (الأصل والفرع) لأنه لا يترتب عليه شيء مما ذكرنا.
وأما قوله: (في إثبات حكم) ف (الإثبات) يراد منه القدر المشترك بين العلم والاعتقاد والظن سواء تعلقت هذه الثلاثة بثبوت الحكم أو بعدمه وقد يطلق لفظ (الإثبات) ويراد به الخبر باللسان لدلالته عليه.
وإن كان معناه -في الأصل- إدراك الثبوت - أي: التصديق بثبوت أمر لأمر، فهو: التصديق المتعلق بالنسبة الثبوتية.
ويصح أن يراد به: التصديق المعلق بالنسبة -مطلقا- سواء أكانت ثبوتية إيجابية، أم كانت التقائية سلبية، - وهو: حكم الذهن بأمر على أمر أي: بثبوت أمر لأمر أو بانتفائه عنه: كالحكم بأن الوتر مندوب، والخمر حرام، وبأن الكلب لا يصح بيعه، والحائض لا تجب عليها الصلاة.(10/186)
وأما لفظ (حكم) - فالحكم: خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع.
والحكم قد يكون إثباتا، وقد يكون نفيا.
وقوله: (بجامع بينهما. .) الجامع هو العلة، والجامع قد يكون أمرا حقيقيا، وقد يكون حكما شرعيا، وكل واحد منهما قد يكون نفيا وقد يكون إثباتا.
وأما الاعتراضات عليه فمناقشاتها يمكن لارجوع إليها في نحو المحصول والأحكام ونحوهما.(10/187)
العلة ووجوه الاجتهاد فيها
العلة -في الأصل- ما يتأثر المحل بوجوده، ولذلك سمي المرض (علة) (1) لأن بحلوله يتغير الحال من القوة إلى الضعف أو هي الداعي إلى فعل الشيء.
أو سببه، فيقال: (هذا علة كذا) - أي سببه
__________
(1) راجع شفاء الغليل للغزالي: (20) ، وروضة الناظر (146) ط السلفية، والتاج مادة: (علل) .(10/187)
العلة - في الاصطلاح:
اختلف الأصوليون في تعريفها.
1 - فعرفها الغزالي: بأنها (الوصف المؤثر في الحكم، لا بذاته، بل بجعل الشارع) (1) .
2 - وعرفها المعتزلة بأنها (الوصف المؤثر في الحكم بذاته) ، أو (الموجب) .
__________
(1) وذلك في الشفاء (ص20) .(10/187)
3 - وعرفها آخرون - بأنها (الوصف الباعث على الحكم) ، أو (الداعي) له واختاره الآمدي وابن الحاجب والحنفية.
وكل من هذه التعريفات عليه إيرادات واعتراضات وإجابات عن تلك الاعتراضات، تكفلت بإيرادها المطولات.
4 - وقد اختار الإمام الرازي ونحوه تعريفها - بأنها (الوصف المعرف للحكم) .
وقد رجح كثيرون هذا التعريف، واختاروه ومنه ابن السبكي - حيث نسبه إلى (أهل الحق) (1) .
شرح هذا التعريف:
قوله: (الوصف) - هو: المعنى القائم بالغير، وهو جنس في التعريف يشمل سائر الأوصاف: سواء أكانت مؤثرة أو معرفة، معتبرة عند الشارع، أو غير معتبرة، وقوله: (المعرف) قيد أول كالفصل معناه: الذي جعل علامة على الحكم من غير تأثير فيه ولا أن يكون باعثا عليه. وقد خرج به كل وصف لا يحصل به تعريف.
وقوله: (للحكم) قيد ثاني والمتبادر منه الاستغراق لأنه لم يتقدم له ذكر لحكم معهود، فيكون شاملا لحكم الأصل والفرع معا، ومن غير فرق بين أن تكون العلة مستنبطة أو منصوصة. وقد خرج به المعرف لغير الحكم كالمانع، فإنه معرف لنقيض الحكم، لا للحكم.
وقد زاد بعضهم عليه قيدا آخر وهو: (بحيث يضاف إليه) ، وقد أراد من زاد هذا القيد إخراج العلامات الشرعية التي لا تكون علة كالأذان فهو علامة على وجوب الصلاة بدخول وقتها وليس علة للوجوب.
واعترض على التعريف بأن فيه دورا، وقد دفع الجمهور ذلك فلا تطيل بإيراد الاعتراض ودفعه
__________
(1) وراجع هذه التعريفات وما أورد عليها والمناقشات حولها في المحصول: (2 \ ق2 \) .(10/188)
وجوه الاجتهاد في العلة:
مما يتعلق بالعلة وتلزم معرفته أمور ثلاثة هي:(10/188)
1 - تنقيح المناط.
2 - تحقيق المناط.
3 - تخريج المناط.
وقد قال الإمام الرازي في (المحصول) : (. . . واعلم أن الجمع بين الأصل والفرع تارة يكون بإلغاء الفارق والغزالي يسميه (تنقيح المناط) ، وتارة باستخراج الجامع، وها هنا لا بد من بيان أن الحكم -في الأصل- معلل بكذا، ثم بيان وجود ذلك المعنى في الفرع، والغزالي يسمي الأول (تخريج المناط) ، والثاني (تحقيق المناط) . (1) .
أما ابن السبكي فقد جعل (تنقيح المناط) مغايرا لإلغاء الفارق. إذا عرفت هذا فنقول:
(تنقيح المناط) مركب إضافي جعل علما على طريق من الطرق المثبتة للعلية.
وأما قبل ذلك ف (التنقيح) -لغة- التهذيب والتخليص، يقال: نقح الشاعر القصيدة إذا هذبها وخلصها مما لا يحسن بقاؤه فيها.
وأما (المناط) - فهو -في الأصل- مصدر ميمي بمعنى اسم المكان، ومعناه: الإناطة والتعلق، فمناط الحكم هو الشيء الذي علق عليه الحكم وأنيط به. أو ما أضاف الشرع الحكم إليه، ونصبه علامة عليه.
وأما معناه الاصطلاحي -فقد عرفه البيضاوي - بأنه: (بيان المستدل) إلغاء الفارق بين الأصل والفرع ليتعين المشترك بينهما للعلية. وبذلك يكون تنقيح المناط -عنده- مساويا لإلغاء الفارق، لا مغايرا له كما قال ابن السبكي (2) .
ولبيان إلغاء الفارق طرق ثلاثة منها تنقيح المناط.
وأما ابن السبكي - فقد عرف (تنقيح المناط) بقوله: (أن يدل نص ظاهر على التعليل بوصف، فيحذف خصوصه عن الاعتبار بالاجتهاد، ويناط الحكم بالباقي) . وقد ذكر شارح المحلى: أن حاصله يرجع على الاجتهاد في الحذف والتعيين (3) .
__________
(1) راجع المحصول: (2 \ ق2 \ 29-30) ، وشفاء العليل: (130) وما بعدها.
(2) راجع جمع الجوامع بشرح الجلال: (2 \ 308) .
(3) انظر جمع الجوامع: (2 \ 308) ، وشفاء الغليل: (412) .(10/189)
ويستخلص مما قالوه: أن (تنقيح المناط) - هو اجتهاد المجتهد في تعريف الأوصاف المختلفة لمحل الحكم لتحديد ما يصلح منها مناطا للحكم، واستبعاد ما عداه بعد أن يكون قد علم مناط الحكم على الجملة.
وينقسم (تنقيح المناط) إلى أقسام ثلاثة:
1 - ما عرف المناط فيه بورود الحكم مرتبا على وقوع الواقعة، ومثاله ما روي «أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (هلكت وأهلكت، واقعت أهلي في نهار رمضان) ، فقال: (أعتق رقبة) (1) » ، ففهم من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمران:
أحدهما: وجوب الكفارة على الأعرابي.
والثاني: تعليق هذا الوجوب بما صدر منه، وجعل الفعل الصادر منه موجبا، وهذا الفعل الصادر منه مقيد بقيود: فالنظر في حذف تلك القيود أو اعتبارها نظر واجب مقول به بالاتفاق.
ويتضح عمل المجتهد لتنقيح المناط في مثالنا هذا ببيان أن الجماع -في حق الأعرابي- وقع على وجوه: إذا كان حرا بالغا عاقلا، فالحكم به في العبد والصبي والمرأة إذا جومعت مأخوذ من النظر في (تنقيح المناط) .
وهو بالإضافة - إلى المرأة تقييد بخصوص، إذا صادف آدمية حية أنثى منكوحة حرة؛ فالحكم به في الجماع المصادف للبهيمة والميتة، والإتيان في غير المأتى من الرجال والنساء وفي المملوكة التي ليست منكوحة، وفي المنكوحة الرقيقة وفي الأجنبية المحرمة مأخوذ من فهم المناط وتنقيحه.
وهو -بالإضافة- إلى العبادة التي لاقاها وأفسدها مقيد بكونه صوما فرضا أداء في رمضان؛ فالحكم فيما ليس بصوم - كالحج وفي النفل وفي أداء صوم آخر وفي القضاء مأخوذ من فهم المناط وتنقيحه وهو -بالإضافة إلى الجماع- نفسه -مخصوص بكونه إفطارا بمقصود- وهو: قضاء شهوة الفرج، فالحكم في ابتلاع الحصاة، وهو ليس بمقصود وفي الأكل وليس بقضاء شهوة الفرج مأخوذ من النظر في فهم المناط وتنقيحه.
فهذه وجوه من القيود والخصوص اتفقت في الواقعة - التي فيها الحكم: بعضها محذوف لا مدخل له في الاقتضاء.
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1936) ، صحيح مسلم الصيام (1111) ، سنن الترمذي الصوم (724) ، سنن أبو داود الصوم (2390) ، سنن ابن ماجه الصيام (1671) ، مسند أحمد بن حنبل (2/281) ، سنن الدارمي الصوم (1716) .(10/190)
وبعضها معتبر، وبعضها مختلف فيه، والبحث في الإلغاء والإبقاء على تأثيرات معقولة من مورد الشرع.
والمجتهد ينظر فيها: فما عرف كونه مؤثرا أو مؤيدا لتأثير الأصل أبقاه وما علم أنه لا مدخل له في اقتضاء الحكم ألغاه.
فمن الأوصاف المذكورة يعتبر البلوغ: فلا كفارة على صبي جامع في نهار رمضان، لأن الشرع اعتبر الصبا مؤثرا في إسقاط العقوبات. وأما العبد فيلحق به من ناحية، وهو كالحر المعسر، لأنهما يستويان في التكليف، وليس للرق تأثير في إفساد العبادات.
وأما المرأة فملحقة في قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي بالرجل، وإن لم يتعرض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما على قول الشافعي الآخر فتختلف عنه، لأن للأنوثة تأثيرا في إسقاط الغرامات المالية المتعلقة بالجماع: كالمهر وثمن ماء الغسل وغيره (1) . وأما القيود في حق المحل وهي المرأة: فلا تأثير للحرمة ولا للمحل قطعا: فالأمة والأجنبية في معنى المنكوحة الحرة، إذ لم يعرف للنكاح والمحل مدخل في إيجاب الكفارة: فالتحق ذلك بالأوصاف التي لا مدخل لها في التأثير، ولا في تأييد المؤثر.
وأما جماع الميتة والبهيمة والإتيان في غير المأتى فهو في محل النظر: فالشافعي -رحمه الله- يوجب الكفارة، فإنه قضاء شهوة بالجماع بخلاف الإنزال بين الغضون والأفخاذ فإن ذلك ليس جماعا.
وأبو حنيفة يقول: هذا يسمى جماعا مجازا وليس المحل محل الشهوة في الأصل إلا في حق المضطر: فلا تتعدى إليه الكفارات.
وأما قيود العبادة فهي مرعية.
وأما الجماع -نفسه- فقد ذهب مالك -رحمه الله- إلى حذف قيوده، وأوجب بابتلاع الحصاة، وقال: الجناية من حيث كان إفسادا والكل مفسد، موجب للقضاء مفوت لفضيلة الوقت.
__________
(1) راجع شفاء الغليل (419) .(10/191)
وأبو حنيفة اعتبر كمال الإفطار بمقصود تتشوف النفس إليه، فإن هذه عقوبة بإزاء جناية فتتأثر بما يؤثر في إثارة باعثه التشوف، فساعده الشافعي والإمام أحمد عليه، وزادا فاعتبرا كونه جماعا.
فهذه وجوه من التصرفات معقولة من مورد الشرع، إذ فهم أن الكفارة منوطة بنوع جناية، وفهم مناسبتها وتأثيرها، فحكم التأثير في إلغاء القيود وإبقائها.
2 - القسم الثاني-من أقسام تنقيح المناط -: ما عرف بالإضافة اللفظية بصيغة التسبيب من الترتيب بقاء التعقيب وترتيب الجزاء على الشرط كما سيأتي في مسالك (الإيماء) .
مثال المرتب بالفاء، قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا إحداهن بالتراب (1) » .
ومثال المرتب بصيغة الجزم والشرط قوله عليه الصلاة والسلام: «من أعتق شركا له في عبد قوم عليه الباقي (2) » .
فالولوغ -في الحديث الأول- مقيد عن الكروع وغيره، والكلب قيد عن سائر الحيوانات حتى الخنزير، والإناء قيد عن الثوب وغيره، وقوله: (فليغسله) قيد عن فعل آخر: من الفرك والتشمس وغيره، وقيد من غسل غير صاحب الإناء، وقوله: (سبعا) قيد عن سائر الأعداد سواه. وقوله: (إحداهن بالتراب) قيد عن الصابون والأشنان وغيره.
فنظر المجتهدين وتصرفهم -في هذه القيود- تنقيح للمناط.
وأما الحديث الثاني - فقوله: (أعتق) قيد عن سائر التصرفات الأخرى: كالبيع والطلاق وغيرها. وقوله: (شركا) قيد عن نصف العبد المستخلص، والبعض المعتق من العبد، وقوله: (له) قيد عن إعتاقه ملك غيره، وقوله: (في عبد) قيد عن الأمة.
وهذه القيود منها المعتبر ومنها الملغي.
3 - القسم الثالث: ما عرف مناط الحكم فيه بحدوث حكم عقيب أمر حادث يعلم على الجملة: أن الحادث موجبه، ثم ينظر في تنقيح قيوده: كالحكم بلزوم الوضوء بخروج
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (172) ، صحيح مسلم الطهارة (279) ، سنن الترمذي الطهارة (91) ، سنن النسائي المياه (338) ، سنن أبو داود الطهارة (73) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (363) ، مسند أحمد بن حنبل (2/482) ، موطأ مالك الطهارة (67) .
(2) صحيح البخاري العتق (2522) ، صحيح مسلم العتق (1501) ، سنن الترمذي الأحكام (1346) ، سنن النسائي البيوع (4699) ، سنن أبو داود العتق (3940) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2528) ، مسند أحمد بن حنبل (2/112) ، موطأ مالك العتق والولاء (1504) .(10/192)
الخارج من السبيلين.
وقد اختلف العلماء فيه:
فقال أبو حنيفة -رحمه الله- مناط الحكم خروج النجاسة: فألحق به الفصد والحجامة وكل نجاسة سالت، وقال: إحالة وجوب الطهارة على النجاسة - وقد عرف تأثيرها في الطهارة في محله أولى من إحالته على المحل الذي منه ينفصل، فسائر أجزاء البدن وأعضائه له حكم واحد في الطهارة والنجاسة: فلا يعرف للمحل مدخل فيه.
وقال الشافعي -رحمه الله-: المعتبر خروج خارج من المسلك المعتاد، ولا يتبع خروج، بل يجب بخروج الدود والريح وغيرهما، وتعلقه بالريح يدل على أنه لا تتبع النجاسة -وأن قدر اشتمال الهواء المنفصل بالريح- على نجاسة فيمكن تقدير ذلك في الريح الخارج من غير المسلك المعتاد وفي الحشاء المتغير، ولا تتعلق به الطهارة بالإجماع. فكان المسلك المعتاد متبعا من حيث إن سبب وجوب الوضوء الصلاة، ولكن جعلت الأحداث التي تتكرر بالطبع على الدوام مواقيت لها: فليس في معناها الفصد والحجامة.
وفي معناها انفتاح ثقبة تحت المعدة مع انسداد المسلك المعتاد، فإنه قائم مقامه.
وقال مالك -رحمه الله-: بما ذكره الشافعي - وزاد عليه الاعتبار في الخارج: فلا ينتقض بالدم إذا خرج من السبيلين، وبما يندر، لأنه لا يتكرر بالطبع.
وأنكر الشافعي -هذا- وأقام المحل مقام الخارج، فما يخرج من المحل المعتاد يلتحق بالخارج المعتاد - كيفما كان عنده.
ومما تقدم يتضح: أن التنقيح خاص بالعلل المنصوصة: فلا يجري في العلل المستنبطة (1) .
وقد سماه بعض الأصوليين القياس في معنى الأصل.
__________
(1) راجع شرح مختصر ابن الحاجب: (2 \ 248) .(10/193)
وأما (تحقيق المناط) -فهو إقامة الدليل على أن علة الأصل - المتفق عليها بين المعترض، والمستدل- موجودة في الفرع، سواء كانت العلة -في الأصل- منصوصة أو مستنبطة.
وقد قال الغزالي فيه: (لا نعرف خلافا بين الأمة في جوازه) . ومثل له بالاجتهاد في تعيين الإمام بالاجتهاد مع قدرة الشارع في الإمام الأول على النص، وتقدير المقدرات، وتقدير الكفايات في نفقة الأقارب، وإيجاب المثل في قيم المتلفات، وطلب المثل في جزاء الصيد (1) .
ثم إن كانت العلة منصوصة أو مجمعا عليها - فإن المستدل يجتهد في بيان تحققها في الفرع: كالطواف الذي نص الشارع على أنه علة طهارة الهرة، فيجتهد المجتهد في بيان تحقق علة الطواف في الفأرة ونحوها من الفروع التي يريد إلحاقها بها.
وقد تكون العلة منصوصا عليها، أومتفقا عليها بين المستدل والمعترض وتصلح أن تكون بمثابة القاعدة التي تندرج تحتها الفروع: كاندراج الجزئيات تحت القاعدة واجتهاد المجتهد -في هذه الحالة- يكون في بيان تحقق اندراج تلك الجزئية تحت الحكم الكلي أو تحقق المطلوب فيما اجتهد فيه.
ومثاله قولهم: في حمار الوحش إذا قتله المحرم بقرة، وذلك لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (2) فتكون المثلية هي الواجب شرعا، وتعتبر بمثابة القاعدة الكلية، أما تحقق المثلية بين حمار الوحش والبقرة أو الفيل والجمل مثلا - فذلك يعلم باجتهاد المجتهد في تحقيق المماثلة بين ما قتله المحرم والجزاء الواجب عليه.
ونحوه مقادير الكفاية في النفقات على الأقارب فالشارع أمر بالكفاية في النفقة، وكون هذه الكفاية تتحقق بمد من الطعام الفلاني أو غيره أمر يخضع لاعتبارات كثيرة فيجتهد المجتهد في بيان المقدار، الذي تتحقق به الكفاية المطلوبة ليكون مناطا لحكم الشارع في تلك الجزئية بموجب اجتهاده (3) .
__________
(1) المستصفى: (2 \ 230) .
(2) سورة المائدة الآية 95
(3) راجع الروضة: (2 \ 277) بتحقيق السعيد(10/194)
وقد قال الغزالي - بعد أن بين ذلك: ومن هذا القبيل الاجتهاد في القبلة، وليس ذلك من القياس في شيء، بل الواجب استقبال جهة القبلة وهو معلوم بالنص، أما أن هذه جهة القبلة، فإنه يعلم بالاجتهاد والأمارات الموجبة للظن عند تعذر اليقين، وكذلك حكم القاضي بقول الشهود ظني، لكن الحكم بالصدق واجب وهو معلوم بالنص، وقول العدل صدق معلوم بالظن وأمارات العدالة، والعدالة لا تعلم إلا بالظن.
ثم قال-رحمه الله-: فلنعبر عن هذا الجنس بتحقيق مناط الحكم، لأن المناط معلوم بنص أو إجماع لا حاجة إلى استنباطه، لكن تعذرت معرفته باليقين فاستدل عليه بأمارات ظنية.
ثم قال: وهذا لا خلاف فيه بين الأمة، وهو نوع اجتهاد، والقياس مختلف فيه فكيف يكون هذا قياسا، وكيف يكون مختلفا فيه وهو ضرورة كل شريعة؟! لأن التنصيص على عدالة الأشخاص، وقدر كفاية كل شخص محال: فمن ينكر القياس ينكره حيث يمكن التعريف للحكم بالنص المحيط بمجاري الحكم) (1) .
وقد تبعه الموفق ابن قدامة فيما قال.
وأما صاحب جمع الجوامع - فقد عرفه: بأنه إثبات العلة في آحاد صورها: كتحقيق أن النباش سارق بأنه وجد منه أخذ المال خفية - وهي السرقة: فيقطع خلافا للحنفية (2) .
وبنحوه عرفه الأسنوي في شرح المنهاج (3) .
وعلى كل حال فهو عمل من أعمال المجتهد: فالمجتهد ينظر -أولا- في تعرف علة الحكم الذي لم يعلل وغيرها من بين أوصاف المحل، ويثبتها بمسلك من مسالك التعليل، وهذا من (تخريج المناط) .
ثم يقوم بتحقيق العلة في الفرع وإقامة الدليل على وجودها فيه، وذلك (تحقيق المناط) .
__________
(1) انظر المستصفى: (2 \ 231) .
(2) انظر بهامش الآيات البينات: (4 \ 114) .
(3) راجع شرح الأسنوي مع تعليقات بخيت: (4 \ 143) .(10/195)
ثم يلغي الخصوصية التي في المناط، وذلك (من تنقيح المناط) .
ثم يلغي الفارق المضر بالتعليل - وهو ما سموه بإلغاء الفارق. واعتبره بعضهم نفس (تنقيح المناط) (1) ، وفرق بعضهم بينهما (2) .
فهذه الأمور كلها في تخريج المناط، وتحقيقه وتنقيحه وإلغاء الفارق كلها أفعال المجتهد، والدليل الحقيقي على وجود العلة -في الأصل وعلى تعديتها إلى الفرع- هو المسلك.
أما اعتبار الوصف وتأثيره -فإن كان بنص أو إجماع- فهذا لا خلاف فيه، وإن كان بغيره ففي بعضه خلاف موضع تفصيله في كتاب (مسالك التعليل) من كتب الأصول.
وأما (تخريج المناط) فهو (استخراج علة معينة للحكم ببعض مسالك التعليل) (3) .
وذلك كاستخراج علة تحريم الربا من بين الأوصاف الصالحة لأن تكون علة لذلك، وبيان ما إذا كانت الطعم أو القوت أو الكيل أو الوزن أو الادخار، فهذه العلل لم يتعرض لها الدليل، ولكن المجتهدين -هم الذين يستنبطونها بالرأي والنظر فيقولون- مثلا: حرم الله -تعالى- الربا في البر لكونه مطعوما فنلحق به الأرز.
ولاستخراج العلة واستنباطها طرق محددة لدى الأصوليين: كالإيماء وإشارة النص والسير وغيرها مما هو معروف.
وظاهر أن (تخريج المناط خاص بالعلل المستنبطة)
__________
(1) كالأسنوي في الموضع السابق
(2) كابن السبكي في الموضع المتقدم
(3) راجع شرح الأسنوية: (4 \ 142) .(10/196)
حجية القياس أو التعبد به
بعض الأصوليين عبر: (بحجية القياس) نحو الفخر الرازي والشيرازي والزركشي وابن السبكي والأسنوي والشوكاني.(10/196)
وعبر آخرون بلفظ (التعبد) به نحو الغزالي، وابن قدامة وابن الحاجب والآمدي.
والحجة - هي الدليل والبرهان، والمراد بكون القياس حجة: أنه دليل من أدلة الأحكام الشرعية، نصبه الشارع للتعريف ببعض الأحكام.
وأما التعبد -فهو أن يوجب الشارع العمل بموجبه- بقطع النظر عن أن يكون ممتنعا عقلا أوجائزا أو واجبا.
وإيجاب الشارع العمل به إما أن يكون إيجابا لنفس القياس، فيكون بمثابة قول الشارع: (إذا وجدتم مساواة بين أصل وفرع في علة حكمه فأثبتوا نفس حكم الأصل للفرع) .
وإما أن يكون إيجابا للعمل بمقتضى القياس، وذلك كإيجاب العمل بمقتضى نصوص الكتاب والسنة.
وظاهر أن القياس -بحد ذاته- ليس عبادة: كالصلاة والصلام: فالتعبد به إنما يتم بطريق العمل بمقتضاه، وذلك أمر لا يتحقق إلا بعد القيام بإلحاق الفرع بالأصل، واعتبار أن هذا الإلحاق -بشروطه- حجة، فكونه حجة يقتضي وجوب التعبدية: فالتعبد به ما هو إلا ثمرة لحجيته، والتلازم بين الأمرين واضح.
وقد قال الإمام الرازي: (المراد من قولنا: القياس حجة أنه إذا حصل للمجتهد ظن أن حكم هذه الصورة مثل حكم تلك الصورة فهو مكلف بالعمل به في نفسه، ومكلف بأن يفتي به غيره (1)
__________
(1) راجع المحصول: (1 \ ق1 \ 92) .(10/197)
تحرير محل النزاع:
يتوقف القياس على أمرين:
الأول: ثبوت كون الأصل معللا بعلة معينة بطريق من طرق إثبات العلة في الأصل.(10/197)
الثاني: إقامة الدليل على وجود تلك العلة في الفرع.
وهذان الأمران قد يثبتان بطرق تفيد القطع، وقد يثبتان بطرق ظنية.
وقد يثبت الأمر الأول بدليل قطعي، والثاني بدليل ظني. وقد يحدث العكس.
فالأول نحو إلحاق جميع أوجه التأنيب والعنف مع الوالدين بالتأفيف، وخاصة الضرب.
فالتأفيف أصل، والضرب وأوجه التعنيف الأخرى فرع، والحكم التحريم، والعلة الجامعة الأذى الثابت كونها علة للنهي في الأصل بطريق الإجماع المستند إلى النص، ووجودها في الفرع معلوم بطريق الأولى حيث إن الأذى بالضرب وأوجه التعنيف أشد من الأذى بالتأفيف، وما دام المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به فإن هذا النوع من القياس يعتبر مقطوعا به، وكذلك إذا كان المسكوت عنه مساويا للمنطوق به في المعنى الذي شرع الحكم لأجله، وهذا النوع من القياس ليس بموضع نزاع فإن المنكرين لحجية القياس لا ينازعون في تحريم الضرب والأذى لدلالة النص عليه وإن خالفوا في تسمية ذلك. وهذا النوع يسميه جمهور الأصوليين بالقياس في معنى الأصل، وبالقياس الجلي.
وأما جمهور الحنابلة فإنهم يرون أن هذا من قبيل دلالة اللفظ، فهو مستفاد منه من غير حاجة إلى القياس ويعتبرون منه سراية العتق بالأمة إلحاقا لها بالعبد الذي دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: «من أعتق شركا له في عبد (1) » . . الحديث، وكذلك البول في إناء ثم صبه في الماء الدائم المنهي عن البول فيه بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم (2) » . . الحديث، وكذلك قياس أنواع الأذى من الضرب ونحوه على التأفيف ويسمونه (فحوى الخطاب) و (التنبيه) .
وأما الثاني - وهو ما كان فيه الأمران المذكوران ظنيين فهو كقياس الرز على البر والزبيب على التمر- مثلا في تحريم التفاضل بجامع الطعم في كل منهما أو غير الطعم مما ذكروه فإنه كما يحتمل أن يكون الطعم - هو العلة، يحتمل أن يكون غيره من الكيل والقوت والادخار، ولذلك كانا ظنيين في الأصل والفرع، وهذا النوع من القياس يتمثل بمعظم أقيسة الفقهاء.
__________
(1) صحيح البخاري العتق (2522) ، صحيح مسلم العتق (1501) ، سنن الترمذي الأحكام (1346) ، سنن النسائي البيوع (4698) ، سنن أبو داود العتق (3946) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2528) ، مسند أحمد بن حنبل (1/57) ، موطأ مالك العتق والولاء (1504) .
(2) صحيح البخاري الوضوء (239) ، صحيح مسلم الطهارة (282) ، سنن الترمذي الطهارة (68) ، سنن النسائي الطهارة (57) ، سنن أبو داود الطهارة (70) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (344) ، مسند أحمد بن حنبل (2/346) ، سنن الدارمي الطهارة (730) .(10/198)
أما النوع الثالث -وهو ما كان الأمر الأول فيه قطعيا والثاني ظنيا- فهو كقياس قضاء القاضي في حالة الجوع والعطش على قضائه - وهو غضبان، ليثبت للأول ما يثبت للثاني من عدم تمكينه من القضاء.
وقد أجمع العلماء على أن علة منع القاضي من القضاء -حالة الغضب- هو ذلك التشويش الذي يحصل نتيجة له، ومستند هذا الإجماع الحديث الصحيح «لا يقضي القاضي وهو غضبان (1) » .
وأما النوع الرابع -وهو ما كان الأمر الأول فيه ظنيا، والثاني قطعيا- فهو كقياس الكمثرى - مثلا على الشعير في حرمة التفاضل بعلة الطعم
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7158) ، صحيح مسلم الأقضية (1717) ، سنن الترمذي الأحكام (1334) ، سنن النسائي آداب القضاة (5406) ، سنن أبو داود الأقضية (3589) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2316) ، مسند أحمد بن حنبل (5/46) .(10/199)
مذاهب العلماء فيه
اختلف العلماء في القياس الشرعي وحكم العقل في التعبد به على مذاهب:
1 - فذهب الجمهور - من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين وجل الفقهاء وأكثر المتكلمين: إلى أن التعبد بالقياس جائز عقلا.
2 - وذهب أبو الحسين البصري -من المعتزلة - والقفال الشاشي -من الشافعية - إلى أن التعبد به واجب عقلا.
3 - وذهب الشيعة الإمامية والنظام وبعض الخوارج، وبعض معتزلة بغداد إلى أن العقل يحيل التعبد به.
4 - ونقل الشيرازي عن أبي بكر الدقاق القول بوجوب العمل به شرعا وعقلا.(10/199)
ومن حيث الوقوع:
انقسم الفريق الأول -القائلون بجواز التعبد به- إلى فريقين من حيث الوقوع:
5 - ففريق قال بوقوعه.
6 - وفريق قالوا: لم يقع، ولم يوجد -في السمع- ما يدل على التعبد به.
أما الفرق الأول -القائلون بالوقوع- فقد اتفقوا على أن السمع قد دل عليه، واختلفوا في أمور ثلاثة.
7 - أولها: هل يدل العقل عليه؟ -أيضا- وقد تقدم في هذا مذهبان:
مذهب الجمهور القائلين بالجواز العقلي.
ومذهب البصري والشاشي القائلين بوجوب ذلك عقلا.
8 - وثانيها في صفة دلالة الأدلة السمعية عليه.
9 - فذهب الجماهير -من القائلين به-: إلى أن دلالة الأدلة السمعية عليه قطعية.
10 - وزعم أبو الحسين البصري: أن دلالة الدلائل السمعية. عليه ظنية. ومن حيث العمل به انقسموا إلى فريقين:
11 - فجماهير العلماء ذهبوا إلى العمل بسائر الأقيسة.
12 - وذهب الفاشاني والنهرواني إلى العمل بالقياس في صورتين:
إحداهما: إذا كانت العلة منصوصة بصريح اللفظ أو بإيمائه.
والثانية: ما إذا كان قياسا في معنى الأصل: كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفف.
وانقسم الفريق الثالث القائلون بامتناع التعبد به عقلا - إلى فريقين:
13 - أحدهما: النظام، حيث خصص ذلك المنع بشرعنا، قال: لأن مبنى شرعنا على الجمع بين المختلفات، والفرق بين المتماثلات، وذلك يمنع من القياس.(10/200)
14 - والثاني: بقية القائلين بامتناع التعبد به عقلا، وقد قالوا: بامتناع ذلك في جميع الشرائع ثم انقسموا إلى فرق ثلاث - من حيث دلالته:
15 - الأولى: قالت بامتناع أن يكون القياس طريقا إلى العلم أو الظن.
16 - الثانية: قالت بأنه يفيد الظن، ولكن لا تجوز متابعته لتردده بين الخطأ والصواب.
17 - والثالثة: قالت بإفادته الظن - وجواز متابعة الظن، ولكن حيث يتعذر الحصول على نص فقط، كما في قيم المتلفات وأروش الجنايات والفتوى والشهادات، لأنه لا نهاية لتلك الصور: فكان التنصيص على حكم كل صورة منها متعذرا.
أما في غيرها - فإنه يمكن التنصيص عليها: فكان الاكتفاء بالقياس اقتصارا على أدنى البابين مع القدرة على أعلاهما. وهو غير جائز.
أما الأدلة ومناقشاتها فلا نود الإطالة بالتعرض إليها فهي طويلة (1) ويمكن الرجوع إليها في مواضعها من الكتب الأصولية التي ذكرناها.
فالذي يهمنا الآن - هو معرفة حقيقة موقف الحنابلة من حجية القياس.
قال المجد ابن تيمية: (اتباع القياس وجب بالشرع عند القائلين به، وهل يجب بالعقل؟) قال أبو الخطاب: (ثبت بالعقل أيضا وبالنقل) وفي موضع آخر قال: (القياس الشرعي كالقول في القياس العقلي، وحصول الاعتقاد به لا يتوقف على ما يدل من جهة الشرع على صحة القياس وأما وجوب النظر فيه، أو الاعتقاد به فبالشرع) .
ثم نقل عن القاضي أبي يعلى ما قاله في كتاب (القولين) : القياس الشرعي قد نص أحمد في مواضع على أنه حجة تعلق الأحكام عليه، فقال في رواية محمد بن الحكم: (لايستغني أحد عن القياس، وعلى الإمام والحاكم -يرد عليه الأمر- أن يجمع له الناس ويقيس) وكذلك نقل الحسين بن حسان: (القياس هو: أن يقيس على أصل إذا كان مثله في كل أحواله) . وكذلك نقل أحمد بن القاسم: (لا يجوز بيع الحديد
__________
(1) راجعها في نحو المحصول للفخر الرازي: (2 \ ق2 \ 31- 163) .(10/201)
والرصاص متفاضلا قياسا على الذهب والفضة) (1) .
كما نقل أبو الخطاب في التمهيد أقوال الإمام أحمد هذه، وأضاف أن الإمام قد ذكر القياس في كثير من مسائله (2) .
وهذه النقول وكثير غيرها نجدها في كتب أصولي الحنابلة تؤكد احتجاج الإمام أحمد -رحمه الله- بالقياس شأنه في ذلك شأن جمهور أهل السنة فمن أين جاءت شبهة عدم الاحتجاج بالقياس التي نسبها البعض إلى الإمام أحمد؟ .
لقد نقل أئمة الحنابلة عن الإمام أحمد قوله: (يجتنب المتكلم في الفقه هذين الأصلين المجمل والقياس) (3) وذلك في رواية الميموني كما نقل أبو الحارث عنه - وقد ذكر أهل الرأي وردهم للحديث، فقال: (ما تصنع بالرأي والقياس وفي الأثر ما يغنيك عنه) (4) هاتان العبارتان هما أصل شبهة أن الإمام أحمد لا يحتج بالقياس.
ونحن نرى أن هذين القولين لا يثيران خيالا فضلا عن شبهة أو ظن بأن الإمام أحمد لا يحتج بالقياس، وذلك لأن عبارته الأولى ظاهرة بأنها لا تعدو أن تكون نصيحة أوتوجيها منه رحمه الله لمن يتصدى للكلام في الفقه وإفتاء الناس أن يتجنب الكلام المجمل والكلام الذي يمكن القياس عليه عند المستفتي العامي لئلا يندفع العامة في هذا السبيل فيخرجون من القياس إلى الحكم بالتشهي لأدنى مشابهة.
وأما الثاني فظاهر في أنه في القياس الذي يكون في مسائل فيها سنة وأثر تغني عنه.
قال أبو الخطاب: (. . . وقد تأوله شيخنا على أن المراد به استعمال القياس في معارضة السنة والظاهر خلافه) (5) .
وقال المجد (. . . وهذا لا يدل على أنه ليس بحجة، وإنما يدل على أنه لا يجوز استعماله مع النص، ولا يعارض الأخبار إذا كانت خاصة أو منصوصة) (6) .
__________
(1) راجع المسودة: (369، 371- 372) .
(2) انظر التمهيد: (2 \ 150-آ) مخطوطة الظاهرية.
(3) انظر المسودة: (372) ، والتمهيد: (2 \ 150- آ) .
(4) المسودة الموضع السابق
(5) انظر التمهيد الموضع السابق
(6) المسودة: (373) .(10/202)
ومن المعلوم أنه لا يجوز الحكم بالقياس قبل الطلب التام للنصوص: فالحكم به قبل طلبه من النصوص لا يجوز بلا تردد. والحالة الثانية: الحكم به قبل طلب نصوص لا يعرفها مع رجاء الوجود لو طلبها، فالذي يفهم من طريقة الحنفية جواز هذا القياس وصحته. وعند الإمامين أحمد والشافعي وفقهاء الحديث أنه لا يجوز.
والحالة الثالثة: إذا يئس المجتهد من الظفر بنص بحيث يغلب على ظنه عدمه: فهنا يجوز اللجوء إلى القياس بلا تردد.
فالقياس عند أحمد بمنزلة التيمم، لا يجوز إلا إذا غلب على الظن عدم الماء، وهو معنى قول الإمام أحمد: (ما تصنع بالقياس وفي الأثر ما يغنيك عنه) (1) .
فالقياس -عند الحنابلة - مأمور به بمعنى أن الله -تعالى- بعثنا عليه بالأدلة، وبمعنى أنه مأمور به بصيغة (افعل) وهو دين أيضا، على ما قاله المجد ابن تيمية (2) .
فأنت ترى أن الحنابلة من القائلين بالقياس والمحتجين به، وهو -عندهم- حجة كما هو كذلك عند سائر أهل السنة
__________
(1) راجع المسودة: (370) بتصرف
(2) المرجع نفسه.(10/203)
التنصيص على العلة
التنصيص على العلة - هو: أن يذكر الشارع الوصف الصالح للتعليل بعبارة تدل على التعليل -سواء كانت تلك العبارة من قبيل النص- كأن يقول الشارع: (حرمت الخمر لعلة الإسكار) .
أو من قبيل الظاهر - كأن يقول: (حرمت الخمر لكونها مسكرة) .
وقد اختلف الأصوليون في التنصيص على العلة هل يكون أمرا بالقياس فيجب على المجتهد أن يعدي الحكم إلى المحل الذي يجد فيه العلة، أو لا يكون أمرا بالقياس؛ فلا يكلف المجتهد بتعدية الحكم إلى غير المحل -الذي نص فيه على العلة- إلا إذا ورد أمر يفيد التعبد بالقياس؟(10/203)
تحرير موضع النزاع:
ذهب بعض الأصوليين إلى أن موضع النزاع فيما إذا نص على العلة بقطع النظر عن أدلة التعبد بالقياس، فإذا ضمت أدلة التعبد بالقياس إلى التنصيص على العلة: كان ذلك أمرا بالقياس اتفاقا. . ومن هؤلاء الغزالي والآمدي وآخرون.
وذهب فريق إلى أن موضع النزاع هو التنصيص على العلة وحده أي: من غير أن ينضم إليه واحد من أمور ثلاثة:
أ- دليل يدل على التعبد بالقياس.
ب- كون الوصف مناسبا للحكم.
ج- كون الكثير الغالب في العلل تعديتها.
لموضع النزاع -عند الفريق الأول- صور ثلاث:
أ- التنصيص على العلة دون أن ينضم إليه شيء أصلا.
ب- التنصيص على العلة مع انضمام مناسبة الوصف إليه.
ج - التنصيص على العلة مع انضمام كون الغالب في العلة تعديتها.
ويقتصر محل الوفاق على صورة واحدة، هي التنصيص على العلة إذا انضم إليه دليل يدل على التعبد بالقياس.
وعلى مذهب الفريق الثاني تكون صور الوفاق ثلاثة هي:
أ - التنصيص على العلة إذا انضم إليه دليل التعبد.
ب - التنصيص على العلة إذا انضم إليه كون الوصف مناسبا.
ج - التنصيص على العلة إذا انضم إليه كون الكثير الغالب في العلل تعديتها(10/204)
النقل عن النظام:
نقل ابن قدامة وبعض الأصوليين عن النظام: أن التنصيص على العلة يكون أمرا بالقياس -عنده-، ومقتضى هذا النقل أن النظام لا يقول باستحالة التعبد بالقياس مطلقا، بل عند عدم النص على العلة، ونقل عنه في مباحث (حجية القياس) القول بأنه(10/204)
يجهل التعبد بالقياس -في شريعتنا- مطلقا.
وقد أجاب بعض الأصوليين عن هذا التعارض: بأن النظام لا يحيل القياس منصوص العلة: فيكون النقل عنه -في هذه المسألة- صحيحا، غير صحيح على إطلاقه في المسألة الأولى، بل يجب تقييده بغير منصوص العلة.
وقال الغزالي: إن النقل الأول هو الصحيح عن النظام، لأنه يرى أن التنصيص على العلة مقتض لثبوت الحكم في جميع الصور بالنص لعموم اللفظ، وليس مقتضيا لثبوته في البعض بالنص وفي البعض الآخر بالقياس.
المذاهب في المسألة ثلاثة:
1 - التنصيص على العلة أمر بالقياس مطلقا في جانب الفعل أو الترك، وهو مذهب النظام وأبي الحسين البصري وبعض الفقهاء كالرازي والكرخي ونقل عن الإمام أحمد.
2 - ليس أمرا بالقياس - وهو مذهب الجمهور منهم الرازي والآمدي والبيضاوي.
3 - أمر به في جانب الترك، لا في جانب الفعل وهو مذهب أبي عبد الله البصري(10/205)
حقيقة موقف الحنابلة في هذا الموضوع
يفيد كلام أبي الخطاب في التمهيد: بأن النص على العلة يعتبر من قبيل دلالة النص، لا من قبيل القياس فقد ذكر أنه لو قال الشارع: (لا تأكلوا العسل لأنه حلو حرم علينا كل حلو) (1) .
وأما القاضي أبو يعلى - فقد قال: (. . . جميع ما يحكم به من جهة القياس على أصل منصوص عليه - فهو مراد بالنص الذي أوجب الحكم في الأصل) (2) .
وقال المجد ابن تيمية: (إذا علل الشارع في صورة بعلة توجد في غيرها، فالحكم ثابت في الكل بجهة النص، لا بالقياس، وهو قول الشافعي، وقد ذكر القاضي في المجرد
__________
(1) انظر التمهيد: (155 \ 157) مصورة عن مخطوطة الظاهرية.
(2) انظر العدة لأبي يعلى: (210) على ما في أصول مذهب الإمام أحمد (587) .(10/205)
احتمالين. ولفظ أبي الخطاب: النص على علة الحكم يكفي في التعبد بالقياس. ثم قال: وبهذا قال أكثر الجماعة وأكثر منكري القياس، فمن منكريه النظام والفاشاني والنهرواني.
وأما ابن عقيل - فقال: (. . . هو عندنا ليس بقياس) . وذكرها في موضع آخر من كتابه (العدة) واعتبرها نوعا من الاستدلال وقال: (. . الاستدلال ليس بقياس عندنا، وهو مذهب جماعة من الفقهاء. وقال قوم من الفقهاء وأهل الجدل: هو قياس، ومثل ذلك بما توجد فيه العلة المنصوصة) (1)
__________
(1) انظر المسودة باختصار: (390-391) .(10/206)
قياس الشبه وموقف الحنابلة منه
قياس الشبه مما كثرت الأقوال وتضاربت في بيان حقيقته وتحديد مفهومه.
وأقرب ما قيل في بيان حقيقته: أنه مشاركة فرع لأصلين في أوصافهما فيلحق بأكثرهما شبها به: العبد إذا قتل خطأ، فإنه يشارك الحر في كونه ناطقا قابلا للصناعات مكلفا بالأحكام.
ويشارك البهيمة في كونه مما يباع ويورث: فيقاس على الحر لأن شبهه به أكثر من شبهه بالبهيمة، لأنه يشابهه في الصفات البدنية والنفسية وفي أكثر الأحكام التكليفية ولذلك فإن الأئمة أحمد والشافعي وأبا يوسف ذهبوا إلى أن في قتله خطأ الدية كالحر.
وذهب الإمام أبو حنيفة ومالك إلى أن فيه القيمة كالدابة، لأنهما اعتبرا شبهه بها أكثر (1) .
وبعض الأصوليين لم يعتد بهذا النوع من القياس أصلا، وذلك لأنه إما أن يكون الوصف المسمى (بالشبه) مناسبا فيكون معتبرا بالاتفاق. أو يكون غير مناسب، وهو مردود بالاتفاق.
__________
(1) راجع الإشراف: (2 \ 180-181) ، ورحمة الأمة: (260) .(10/206)
كما أن المعتمد في إثبات القياس عمل الصحابة - رضوان الله عليهم ولم يثبت أنهم تمسكوا بالشبه (1) .
أما الأئمة - فإن الإمام الشافعي -رحمه الله- قد اعتد بهذا النوع من القياس، فقال: والقياس قياسان: أحدهما أن يكون في مثل معنى الأصل، فذلك لا يحل لأحد خلافه، ثم قياس أن يشبه الشيء بالشيء من الأصل، والشيء من الأصل غيره، فيشبه هذا بهذا الأصل، ويشبه غيره بالأصل غيره.
قال الشافعي: وموضع الصواب فيه عندنا -والله تعالى أعلم- أن ينظر، فأيهما كان أولى بشبهه صيره إليه: إن أشبه أحدهما في خصلتين، والآخر في خصلة ألحقه بالذي هو أشبه في خصلتين) (2) .
وفي الرسالة قال: (. . والقياس من وجهين: أحدهما أن يكون الشيء في معنى الأصل، فلا يختلف القياس فيه، وأن يكون الشيء له في الأصول أشباه، فذلك يلحق بأولاها به وأكثرها شبها فيه. وقد يختلف القايسون في هذا) (3) .
وقد اختلفت الرواية عن الإمام أحمد -رحمه الله- في قياس الشبه فروى أنه صحيح ويحتج به، والثانية: أنه غير صحيح ولا يحتج به (4) .
والقاضي أبو يعلى اعتبر هذا القياس من قبيل القياس الخفي، ولذلك فإنه بعد أن تكلم عن القياس الواضح، شرع في الكلام عن القياس الخفي، فقال: (. . . إنه قياس غلبة الشبه) (5) ومثل له بأن يتجاذب الحادثة أصلان لكل واحد منهما أوصاف خمسة والحادث لا يجمع الخمسة، بل بعضها، فيلحق بأكثرها شبها، وبسط القول في ذلك.
قال المجد ابن تيمية: وفي مثل ذلك نص الشافعي، ثم نقل أقوال المخالفين فيه كأبي إسحاق المروزي والحنفية والقاضي والباقلاني.
__________
(1) هذا مذهب القاضي الباقلاني فراجع المحصول: (2 \ ق2 \ 280-281) .
(2) انظر الأم -باب اجتهاد الحاكم-: (7 \ 94) ط الفنية.
(3) الرسالة: (479) الفقرة (1334) .
(4) راجع الروضة: (314) .
(5) العدة: (203-204) مخطوطة(10/207)
ثم نقل المجد قول القاضي أبي يعلى: (. . . المتردد بين الأصلين يجب إلحاقه بأحد الأصلين، وهو أشبههما به، وأقربهما إليه.
ثم قال المجد من قال: (. . . قياس غلبة الشبه كما فسره القاضي حجة) فلا كلام، لكن يرد عليه التسوية بين الشيئين في الحكم مع العلم بافتراقهما في بعض الصفات المؤثرة، وإنما فعلوه لضرورة إلحاق الفرع بأحد الأصلين، فألحقوه بالأشبه، كما تفعل القافة بالولد.
ومن قال: ليس بحجة فقد يحكم فيه بحكم ثالث مأخوذ من الأصلين، وهو طريقة الشبهتين، فيعطيه بعض حكم هذا وبعض حكم هذا، كما فعله أحمد في ملك العبد، وكذا مالك، وهذا كثير في مذهب مالك وأحمد - مثل تعلق الزكاة بالعين أو الذمة، والوقف هل هو ملك لله تعالى أو للموقوف عليه، ونحو ذلك. وطريقة الشبهين ينكرها كثير من أصحاب الشافعي وأحمد.
ثم قال: والأشبه أنه إن أمكن استعمال الشبهين، وإلا ألحق بأشبههما به (1) .
فيمكن القول -إذن- بأن الحنابلة يأخذون بالقياس بأنواعه كالجمهور، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك ولكنهم في قياس الشبه -الذي هو نوع من أنواع القياس- لهم عن الإمام أحمد روايتان: الأول: أنه حجة ويعمل به. وهي التي انتصر لها القاضي أبو يعلى ورجحها، ومال إليها المجد ابن تيمية، وسماها (طريقة الشبهين) .
الثانية: أنه ليس بحجة، وليس من القياس، لأنه ليس فيه أصل، لأنه متردد بين أصلين فلا تتحقق فيه التسوية بين الفرع والأصل.
طه جابر فياض العلواني
__________
(1) وراجع المسودة: (374-376) .(10/208)
دراسات
تاريخية(10/208)
صفحة فارغة(10/209)
صفحة فارغة(10/210)
الدكتور \ محمد بن لطفي الصباغ
- ولد عام 1350هـ، وتلقى علومه الأولية على يد علماء بلده.
- عمل في التدريس الجامعي مدة تزيد على 22 سنة، ويعمل الآن في جامعة الملك سعود أستاذا لمادة علوم القرآن والحديث.
- له عدد من المؤلفات المطبوعة منها: الحديث النبوي، لمحات في علوم القرآن(10/211)
صفحة فارغة(10/212)
معركة شقحب
أو معركة مرج الصفر
بقلم: د. محمد بن لطفي الصباغ
لا تزال حادثة سقوط بغداد سنة ست وخمسين وستمائة غصة في صدر كل مسلم، وشجى في حلق كل مؤمن، إن ذكرها ليحدث رعشة في القلب، وإن جراحاتها ما تزال تنزف دما في أعماق أعماقنا.
ولا يستطيع دارس أحداث هذه العصور أن ينسى الآلام والمآسي التي تجرعها المسلمون في تلك الحقبة، فيكاد يذوب قلب المسلم أسفا وأسى وكمدا ولا حول ولا قوة إلا بالله.(10/213)
ويحسن أن أورد هنا ما قاله ابن الأثير عن خروج التتار، فلقد تحدث حديثا مؤثرا عن خروجهم في سنة سبع عشرة وستمائة - ولم تكن بغداد قد سقطت - فقال ما سأورده فيما يأتي، فكيف يكون كلامه لو وقف على الفظائع التي قام بها هؤلاء الوحوش في بغداد سنة 656 هـ.
قال ابن الأثير: ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة: لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها، كارها لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيا منسيا، إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء علي تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعا، فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق، وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم، وإلى الآن، لم يبتلوا بمثلها؛ لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها.
ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله (بخت نصر) ببني إسرائيل من القتل، وتخريب البيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد، التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس، وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قتلوا؟ فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا، إلا يأجوج ومأجوج.
وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه، ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (1) .
قال ابن كثير:
[وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة - يعني سقوط بغداد - فقيل: 800 ألف، وقيل: ألف ألف و800 ألف، وقيل: بلغت القتلى
__________
(1) الكامل 12 \ 358 طبع بيروت.(10/214)
ألفي ألف نفس] (1) .
وقال أيضا:
[وقتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد] (2) .
ولكن الشخصية المسلمة كانت ما تزال متماسكة، وأركان المجتمع كانت - على الأغلب - قائمة على معان أصيلة من الإسلام. . ولذلك فسرعان ما كان الثأر واسترداد الكرامة في معركة عين جالوت التي كانت سنة 658هـ، ولم يمض وقت طويل حتى دان الغزاة بدين أهل البلاد المغلوبين، دين الإسلام وإن لم يتخلوا عن همجيتهم وعدوانهم وشرهم.
ثم كانت معركة انتصر فيها المسلمون انتصارا عظيما، وربما كانت أقل شهرة من المعارك التي سبقتها، وهي معركة شقحب موضوع بحثنا هذا.
في اليوم الثاني من رمضان سنة اثنتين وسبعمائة للهجرة (الموافق للعشرين من نيسان (إبريل) سنة 1303م) وقعت هذه المعركة بين المسلمين والمغول. . . بين عسكر السلطان الناصر، وعسكر قطلوشاه.
وقد عرفت هذه المعركة باسمين هما: (موقعة مرج الصفر) ، و (معركة شقحب) (3) وكان عدد الجيش المغولي الذي اشترك في هذه الموقعة كبيرا، يقدره بعضهم بخمسين ألف مقاتل، وهناك من يقول: إن عدده يصل إلى مائة ألف.
والفرق بين الرقمين يدل على أن التقدير غير دقيق، لكن الشيء الواضح من ذلك ضخامة عدد ذلك الجيش، وقد كان في عداد هذا الجيش فرقتان من الكرج والأرمن (4)
__________
(1) البداية والنهاية 13 \ 202.
(2) ((البداية والنهاية)) 13 \ 203.
(3) شقحب: عين ماء جنوب دمشق بعد قرية الكسوة على يمين الذاهب إلى حوران (انظر الخريطة) .
(4) الأرمن شعب نصراني يعيش في منطقة جبلية وعرة بين تركيا وإيران اليوم(10/215)
أما جيش المسلمين فلم يذكر المؤرخون له عددا، وإن كان يرجح كثير من الباحثين أنه كان كبيرا أيضا، اعتمادا على قرائن عدة.
ولا بد من دراسة معركة شقحب على أنها حلقة من سلسلة الهجمات المغولية على ديار الإسلام.
لقد كان السبب الذي حرك المغول في معاركهم واحتلالاتهم واحدا، سواء كان فيما سبق سقوط بغداد أو كان بعدها.
فمن المعلوم أن بلاد المسلمين قد تعرضت إلى أخطار من جهة أوروبا النصرانية التي جيشت الجيوش، وسيرت الحملات الصليبية تلو الحملات، وجاءت هذه القوى الباغية المعتدية إلى ديار المسلمين، فعاثت في الأرض فسادا، وأهلكت الحرث والنسل، وانتهى بها الأمر إلى أن تقيم في قلب العالم الإسلامي دولا، منها إمارات الرها وأنطاكية، وبيت المقدس، وطرابلس.
واستمر وجود الصليبيين في بلاد المسلمين قرابة قرنين، وقد أدرك المسلمون خطورة بقاء هذه الإمارات الصليبية في بلادهم، واستيقظ وعيهم، فقامت حركة الجهاد، يذكيها علماء الأمة ومصلحوها، وتجاوب الناس معها، فكان توحيد الجبهة الإسلامية غرضا مهما وكان لنور الدين الشهيد محمود زنكي فضل كبير في تحقيق ذلك، وجاء من بعده صلاح الدين الأيوبي، فاستطاع أن يقطف ثمرة جهاد الرجل العظيم نور الدين، وانتصر في معركة حطين، واستطاع أن يطهر معظم بلاد الشام من رجس الصليبيين.
واسترد المسلمون بيت المقدس، وكل ما كان بأيدي النصارى من قلاع وحصون، ولم يبق للصليبيين إلا جيوب يسيرة في أنطاكية وطرابلس والساحل بين صور ويافا.
في هذا الوقت بالذات ظهرت حركة المغول في أقصى الشرق، بزعامة جنكيز خان.
ولقد ثبت بأدلة قاطعة أن حركة المغول هذه كانت بتحريض وتخطيط من الصليبيين المهزومين من ديار المسلمين، فقد كانت هناك اتصالات بين الفريقين قبل سنة 656هـ (1258م) ، فقد أوفد البابا أنوسنت الرابع رجلا في مهمة سياسية إلى منغوليا سنة 642هـ (1245م) .(10/216)
ثم أوفد لويس التاسع المعروف ب (الناسك) بعد ذلك بثلاث سنوات رجلا آخر وقد كتب الدكتور مصطفى طه بدر كتابا عنوانه: (مغول إيران بين المسيحية والإسلام) ، وقد قرر في هذا الكتاب تعاون النصرانية البابوية مع المغول، في اجتياح بلاد المسلمين لمصالح النصرانية، ومن أجل انتزاع الأراضي المقدسة عندهم من أيدي المسلمين، وأثبت ذلك بأدلة قوية.
إن الوجود النصراني في بلاد الشام تضعضع بتوفيق الله ثم بسبب اليقظة التي بدأت تظهر، ثم بسبب وجود بعض العمالقة من رجالاتهم السياسيين من أمثال نور الدين الشهيد، وصلاح الدين الأيوبي، ثم بسبب قيام عدد من رجال الفكر والعلم والتوجيه بواجبهم.
وانهار هذا الوجود النصراني بعد معركة حطين وغيرها، عند ذاك فكر النصارى بأسلوب أكثر قوة وأشد عودا وأشنع وحشية وبربرية، فلم يجدوا إلا التتار، يقول الدكتور مصطفى طه بدر: (ومع أن المغول هددوا المسيحية في أوروبا كما هددوا الإسلام في الشرق، واجتاحوا أراضيها في روسيا وبولندا، ووصلوا حتى هنغاريا، وقتلوا، ونهبوا، وسبوا، وأنزلوا الرعب في قلوب المسيحيين هناك، إلا أن المسيحية ما لبثت غير قليل، حتى صحت من غفوتها، وزالت عنها الدهشة التي تملكتها، وفارقها الخوف والفزع، وفكرت في الاستفادة من المغول، خصوصا بعد أن رأت أن تيارهم قد وقف ولم يستقر لهم حال إلا في روسيا.
وقد اتجهت المسيحية نحو المغول، راغبة في استمالتهم، وعقد أواصر الصداقة معهم لكسبهم إلى المسيحية أولا وللاستعانة بهم ضد أعدائها المسلمين ثانيا.
والتاريخ يذكر لنا الشيء الكثير عن العلاقات التي قامت بين حكام المغول الأول من أبناء جنكيز خان، وبين الدول المسيحية على اختلافها، تلك العلاقات التي كان أثرها رحلات يوحنا الكربيني ووليم الروبريكي) .(10/217)
وقال أيضا:
أما العلاقات بين البابوات والتتر فكانت مستمرة ولم تنقطع طول مدة حكم التتر في إيران.
وقد كان الرسل يترددون من وقت إلى آخر بين بلاط البابوات وبلاط التتار، ويحملون الرسائل التي تفيض بمظاهر الحب والعطف المتبادل.
ويقال: إن البابا إسكندر الرابع أرسل إلى هولاكو خان مؤسس دولة الإيلخانات كتابا مؤرخا في سنة 1260م - 658هـ) (1) ، وقد ذكرنا في صدر هذا المقال أن الاتصالات بدأت مبكرة قبل هذا التاريخ، إذ أرسل البابا أنوسنت الرابع رجلا إلى زعماء المغول في سنة 642هـ (1245م) .
وقال الدكتور مصطفى طه بدر:
(ولا يختلف المؤرخون في أقوالهم عندما يتناولون مسألة عطف الإيلخانات على المسيحيين من رعاياهم، ويؤيد بعضهم بعضا.
ويتضح من أقوالهم أن هولاكو كانت له زوجة مسيحية، وأنه بسببها عامل المسيحيين من رعاياه معاملة حسنة، ولما فتح (2) بغداد أعفى أهلها المسيحيين من القتل. . ولما فتح (3) المغول في عهده دمشق ودخلوها، تساهلوا مع المسيحيين من أهلها، حتى أصبحوا نتيجة لهذا التساهل يشربون الخمر علنا في رمضان، ويرشونها على المسلمين، كما صاروا يمرون في الطرقات وهم يحملون الصليب، ويجبرون المسلمين على القيام احتراما وإجلالا لهم) (4) .
وقد أورد ابن العماد في (شذرات الذهب) قصيدة مؤثرة لتقي الدين بن أبي اليسر في رثاء بغداد يوم سقوطها في يد التتار وفيها قال:
__________
(1) ((مغول إيران)) صفحة 5-6
(2) ((مغول إيران)) صفحة 7
(3) هذه الكلمة لا تستعمل بشأن الأعداء، فكان ينبغي أن يقول: دخل بغداد. . . دمشق.
(4) ((مغول إيران)) صفحة 10.(10/218)
علا الصليب على أعلى منابرها ... وقام بالأمر من يحويه زنار
وقبل هذا البيت يقول تقي الدين:
لسائل الدمع عن بغداد أخبار ... فما وقوفك والأحباب قد ساروا
يا زائرين إلى الزوراء لا تفدوا ... فما بذاك الحمى والدار ديار
تاج الخلافة والربع الذي شرفت ... به المعالم قد عفاه إقفار
أضحى لعطف البلى في ربعه أثر ... وللدموع على الآثار آثار
يا نار قلبي من نار لحرب وغى ... شبت عليه ووافى الربع إعصار
علا الصليب على أعلى منابرها ... وقام بالأمر من يحويه زنار (1)
لقد كان النصارى في أوروبا يأملون في أن يعتنق المغول المسيحية، وأن يتم التحالف بينهم، وأن يوجهوا ضربة قاصمة للإسلام، غير أن هذه الآمال لم تلبث أن تبددت بفضل من الله ثم بسبب جهود دولة المماليك في مصر والشام، وإنزال الهزيمة الساحقة بالمغول في معركة عين جالوت (في رمضان سنة 658 هـ) فتحطمت الأسطورة القائلة: إن المغول قوة لا تقهر.
يرى المؤرخ الأرمني (هيتون) أن السبب في سير هذه الحملة التي وقعت فيها معركة شقحب كان رغبة قازان في تحطيم سلطان المسلمين في مصر، واسترداد الأرض المقدسة، وتسليمها إلى النصارى، وأن قازان كان يريد السير بنفسه على رأس تلك الحملة، ولكن تهديد حدوده الشرقية أدى إلى أن ينيب عنه قطلوشاه، الذي تعاون مع النصارى، ولا سيما الأرمن الذين كانوا يشكلون قوة كبيرة في جيش قطلوشاه، وقد استولوا على عدد من مدن المسلمين، وقتلوا فيها ومثلوا ونهبوا، وفعلوا الأفاعيل البالغة في الفظاعة والشناعة.
كان الرعب الذي يرافق تحركات المغول شديدا، يملأ صدور الناس ويوهن من
__________
(1) ((شذرات الذهب)) 5 \ 271- 272 وهذا المذكور جزء من القصيدة، والزنار من شارات النصارى.(10/219)
قواهم، فكلما سمع الناس قصدهم إلى بلد فروا من مواجهتهم. وقد سهل هذا الرعب لهؤلاء الغزاة المعتدين سبيل النصر والغلبة.
وكان الخليفة المستكفي بالله والسلطان الناصر مقيمين في مصر - كما هو معلوم - ويبدو أن أخبار عزم التتار على تجديد حملاتهم لدخول بلاد الشام وإزالة دولة المماليك بلغ المسئولين في مصر، فعمل العلماء وأولو الفكر والرأي على إشراك الخليفة والسلطان في مواجهة هؤلاء الغزاة، وقام شيخ الإسلام ابن تيمية بمهمة جسيمة في هذا المجال.
ففي شهر رجب من سنة 702هـ قويت الأخبار بعزم التتار على دخول بلاد الشام، فانزعج الناس لذلك، واشتد خوفهم جدا كما يقول الحافظ ابن كثير (1) ، وقنت الخطيب في الصلوات، وقرئ البخاري، وهذه عادة كانوا يستعملونها في مواجهة الأعداء، فيعمدون إلى قراءته في المسجد الجامع (2) .
وشرع الناس في الهرب إلى الديار المصرية والكرك والحصون المنيعة، وتأخر مجيء العساكر المصرية عن إبانها فاشتد لذلك الخوف.
قال ابن كثير:
(وفي يوم السبت عاشر شعبان ضربت البشائر بالقلعة- أي قلعة دمشق - وعلى أبواب الأمراء بخروج السلطان بالعساكر من مصر لمناجزة التتار المخذولين. . . وفي ثامن عشر من شعبان قدمت طائفة كبيرة من جيش المصريين، فيهم كبار الأمراء من أمثال (ركن الدين بيبرس الجاشنكير وحسام الدين لاجين وسيف الدين كراي) .
ثم قدمت بعدهم طائفة أخرى فيهم بدر الدين أمير السلاح وأيبك الخزندار.
فقويت القلوب في دمشق، واطمأن كثير من الخلق، ولكن الناس في الشمال سيطر
__________
(1) ((البداية والنهاية)) 14 \ 22
(2) انظر كتابي ((الحديث النبوي)) ط 4 صفحة 13- 14.(10/220)
عليهم الذعر، واستبد بهم الفزع، فنزح عدد عظيم من بلاد حلب وحماة وحمص وتلك النواحي، وتقهقر الجيش الحلبي والحموي إلى حمص. . ثم خافوا أن يدهمهم التتار فنزلوا إلى المرج.
ووصل التتار إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك البلاد فسادا، وقلق الناس قلقا عظيما لتأخر قدوم السلطان ببقية الجيش، وخافوا خوفا شديدا، وبدأت الأراجيف تنتشر وشرع المثبطون يوهنون عزائم المقاتلين ويقولون:
لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء التتار لقلة المسلمين وكثرة التتار.
وزينوا للناس التراجع والتأخر عنهم مرحلة مرحلة.
ولكن تأثير العلماء ولا سيما شيخ الإسلام ابن تيمية كان يتصدى لهؤلاء المرجفين المثبطين، حتى استطاعوا أن يقنعوا الأمراء بالتصدي للتتار مهما كان الحال.
واجتمع الأمراء وتعاهدوا، وتحالفوا على لقاء العدو، وشجعوا أنفسهم ورعاياهم، ونودي بالبلد دمشق أن لا يرحل منه أحد، فسكن الناس وهدأت نفوسهم، وجلس القضاة بالجامع يحلفون جماعة من الفقهاء والعامة على القتال، وتوقدت الحماسة الشعبية، وارتفعت الروح المعنوية عند العامة والجند، وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أعظم التأثير في ذلك الموقف، فلقد عمل على تهدئة النفوس، حتى كان الاستقرار الداخلي عند الناس، والشعور بالأمن ورباطة الجأش.
ثم عمل على إلهاب عواطف الأمة، وإذكاء حماستها، وتهيئتها لخوض معركة الخلاص. . ثم توجه بعد ذلك ابن تيمية إلى العسكر الواصل من حماة، فاجتمع بهم في القطيفة (1) ، فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحلفوا معهم.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يحلف للأمراء والناس: إنكم في هذه الكرة منصورون.
__________
(1) بلدة على طريق القادم إلى دمشق من حمص - انظر الخريطة - وهي على بعد 40 كم من دمشق(10/221)
فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله.
فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا.
وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله منها قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} (1) وقد ظهرت عند بعضهم شبهات تفت في عضد المحاربين للتتار، من نحو قولهم: كيف نقاتل هؤلاء التتار وهم يظهرون الإسلام وليسوا بغاة على الإمام. . فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه. فرد شيخ الإسلام ابن تيمية هذه الشبهة قائلا:
هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية - رضي الله عنهما - ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين وهم متلبسون بالمعاصي والظلم.
فانجلى الموقف وزالت الشبهة، وتفطن العلماء لذلك، ومضى يؤكد لهم هذا الموقف قائلا:
إذا رأيتموني في ذلك الجانب - يريد جانب العدو - وعلى رأسي مصحف فاقتلوني، (2) فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم.
وامتلأت قلعة دمشق والبلد بالناس الوافدين، وازدحمت المنازل والطرق، وخرج الشيخ تقي الدين ابن تيمية - رحمه الله - من دمشق صبيحة يوم الخميس من باب النصر، بمشقة كبيرة، وصحبته جماعة كبيرة؛ ليشهد القتال بنفسه وبمن معه، فظن بعض الرعاع أنه خرج للفرار، فقالوا: أنت منعتنا من الجفل وها أنت ذا هارب من البلد. . . فلم يرد عليهم إعراضا عنهم وتواضعا لله، ومضى في طريقه إلى ميدان المعركة.
وخرجت العساكر الشامية إلى ناحية قرية الكسوة.
ووصل التتار إلى قارة (3) وقيل: إنهم وصلوا إلى القطيفة فانزعج الناس لذلك،
__________
(1) سورة الحج الآية 60
(2) ((البداية والنهاية)) 14 \ 24
(3) قرية في الطريق بين دمشق وحمص. (انظر الخريطة)(10/222)
وخافوا أن يكون العساكر قد هربوا، وانقطعت الآمال، وألح الناس في الدعاء والابتهال في الصلوات وفي كل حال، وذلك يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان. . . فلما كان آخر هذا اليوم وصل أحد أمراء دمشق، فبشر الناس بأن السلطان قد وصل وقت اجتماع العساكر المصرية والشامية.
وتابع التتار طريقهم من الشمال إلى الجنوب، ولم يدخلوا دمشق، بل عرجوا إلى ناحية تجمع العساكر، ولم يشغلوا أنفسهم باحتلال دمشق وقالوا: إن غلبنا فإن البلد لنا، وإن غلبنا فلا حاجة لنا به.
ووقفت العساكر قريبا من قرية الكسوة، فجاء العسكر الشامي، وطلبوا من شيخ الإسلام ابن تيمية أن يسير إلى السلطان يستحثه على السير إلى دمشق، فسار إليه، فحثه على المجيء إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر. فجاء هو وإياه جميعا، فسأله السلطان أين يقف معه في معركة القتال؟ فقال له الشيخ ابن تيمية: السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم.
وحرض السلطان على القتال، وبشره بالنصر، وجعل يحلف بالله الذي لا إله إلا هو: إنكم منصورون عليهم في هذه المرة، فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا.
وأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم، وأفطر هو أيضا، وكان يدور على الأجناد والأمراء، فيأكل من شيء معه في يده؛ ليعلمهم أن إفطارهم ليتقووا به على القتال أفضل من صيامهم.
ولقد نظم المسلمون جيشهم في يوم السبت 2 رمضان (19 نيسان - إبريل) أحسن تنظيم، في سهل شقحب الذي يشرف عليه جبل غباغب.
وكان السلطان الناصر في القلب، ومعه الخليفة المستكفي بالله والقضاة والأمراء.
وقبل بدء القتال اتخذت الاحتياطات اللازمة، فمر السلطان ومعه الخليفة والقراء بين صفوف جيشه، بقصد تشجيعهم على القتال وبث روح الحماسة فيهم.
وكانوا يقرءون آيات القرآن التي تحض على الجهاد والاستشهاد، وكان الخليفة(10/223)
يقول: دافعوا عن دينكم وعن حريمكم.
ووضعت الأحمال وراء الصفوف، وأمر الغلمان بقتل من يحاول الهرب من المعركة.
ولما اصطفت العساكر والتحم القتال ثبت السلطان ثباتا عظيما، وأمر بجواده فقيد حتى لا يهرب، وبايع الله تعالى في ذلك الموقف يريد إحدى الحسنيين إما النصر وإما الشهادة في سبيل الله، وصدق الله فصدقه الله.
وجرت خطوب عظيمة، وقتل جماعة من سادات الأمراء يومئذ، منهم الأمير حسام الدين لاجين الرومي، وثمانية من الأمراء المقدمين معه.
واحتدمت المعركة، وحمي الوطيس، واستحر القتل، واستطاع المغول في بادئ الأمر أن ينزلوا بالمسلمين خسارة ضخمة، فقتل من قتل من الأمراء. . . ولكن الحال لم يلبث أن تحول بفضل الله عز وجل، وثبت المسلمون أمام المغول، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وتغير وجه المعركة، وأصبحت الغلبة للمسلمين، حتى أقبل الليل فتوقف القتال إلا قليلا، وطلع المغول إلى أعلى جبل غباغب، وبقوا هناك طول الليل، ولما طلع النهار نزلوا يبغون الفرار بعد أن ترك لهم المسلمون ثغرة في الميسرة ليمروا منها، وقد تتبعهم الجنود المسلمون وقتلوا منهم عددا كبيرا، كما أنهم مروا بأرض موحلة، وهلك كثيرون منهم فيها، وقبض على بعضهم. قال ابن كثير:
(فلما جاء الليل لجأ التتار إلى اقتحام التلول والجبال والآكام، فأحاط بهم المسلمون يحرسونهم من الهرب، ويرمونهم عن قوس واحدة إلى وقت الفجر، فقتلوا منهم ما لا يعلم عدده إلا الله عز وجل، وجعلوا يجيئون بهم من الجبال فتضرب أعناقهم) (1) .
ثم لحق المسلمون أثر المنهزمين إلى (القريتين) (2) يقتلون منهم ويأسرون.
ووصل التتار إلى الفرات وهو في قوة زيادته، فلم يقدروا على العبور. . . والذي عبر فيه هلك، فساروا على جانبه إلى بغداد، فانقطع أكثرهم على شاطئ الفرات وأخذ العرب منهم جماعة كثيرة (3) .
__________
(1) ((البداية والنهاية)) 14 \ 26.
(2) وهي بلدة على طريق المسافر بين بغداد ودمشق (انظر الخريطة
(3) ((خطط الشام)) لمحمد كرد علي 2 \ 138.(10/224)
وفي يوم الاثنين رابع رمضان رجع الناس من الكسوة إلى دمشق، فبشروا الناس بالنصر، وفيه دخل شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية البلد ومعه أصحابه من المجاهدين، ففرح الناس به، ودعوا له، وهنئوه بما يسر الله على يديه من الخير.
وفي يوم الثلاثاء خامس رمضان دخل السلطان إلى دمشق وبين يديه الخليفة، وزينت البلد، وبقيا في دمشق إلى ثالث شوال إذ عادا إلى الديار المصرية (1) .
وكان فرح السلطان الناصر محمد بن قلاوون والمسلمين بهذه المعركة فرحا كبيرا، ودخل مصر دخول الظافر المنتصر، يتقدم موكبه الأسرى المغول، يحملون في أعناقهم رءوس زملائهم القتلى، واستقبل استقبال الفاتحين.
ولما كان ابن تيمية - رحمه الله- بطلا من أبطال هذه المعركة، أحببت أن يطلع القارئ الكريم على وصف رجال كانوا معه في المعركة، يحدثوننا عما شاهدوا مشاهدة عيان من مواقف الشيخ في هذه المعركة، وبطولاته الرائعة.
قال ابن عبد الهادي:
(وقد أخبرني حاجب أمير، ذو دين متين، وصدق لهجة، معروف في الدولة قال: قال لي الشيخ يوم اللقاء ونحن بمرج الصفر وقد تراءى الجمعان: يا فلان! أوقفني موقف الموت.
قال: فسقته إلى مقابلة العدو وهم منحدرون كالسيل تلوح أسلحتهم من تحت الغبار المنعقد عليهم. ثم قلت له: يا سيدي هذا موقف الموت، وهذا العدو قد أقبل تحت هذه الغبرة المنعقدة، فدونك ما تريد. قال: فرفع طرفه إلى السماء، وأشخص بصره، وحرك شفتيه طويلا، ثم انبعث وأقدم على القتال.
وأما أنا فخيل لي أنه دعا عليهم، وأن دعاءه استجيب منه في تلك الساعة. . . ثم حال القتال بيننا والالتحام، وما عدت رأيته حتى فتح الله ونصر، وانحاز التتار
__________
(1) ((البداية والنهاية)) 14 \ 26.(10/225)
إلى جبل صغير عصموا نفوسهم به من سيوف المسلمين في تلك الساعة. . . وكان آخر النهار، وإذا أنا بالشيخ وأخيه يصيحان بأعلى صوتيهما تحريضا على القتال، وتخويفا للناس من الفرار) (1) .
وقال ابن عبد الهادي:
(وفي أول شهر رمضان من سنة اثنتين وسبعمائة كانت وقعة شقحب المشهورة، وحصل للناس شدة عظيمة، وظهر فيها من كرامات الشيخ وإجابة دعائه، وعظيم جهاده وقوة إيمانه، وشدة نصحه للإسلام وفرط شجاعته، ونهاية كرمه، وغير ذلك من صفاته، ما يفوق النعت، ويتجاوز الوصف.
ولقد قرأت بخط بعض أصحابه - وقد ذكر هذه الواقعة - قال:
- واتفقت كلمة إجماعهم على تعظيم الشيخ تقي الدين ومحبته، وسماع كلامه ونصيحته، واتعظوا بمواعظه. . . ولم يبق من ملوك الشام تركي ولا عربي إلا واجتمع بالشيخ في تلك المدة، واعتقد خيره وصلاحه ونصحه لله ولرسوله وللمؤمنين.
قال:
- ثم ساق الله سبحانه جيش الإسلام العرمرم المصري، صحبه أمير المؤمنين والسلطان الملك الناصر، وولاة الأمر وزعماء الجيش وعظماء المملكة. . . سوقا حثيثا للقاء التتار المخذولين، فاجتمع الشيخ بالخليفة والسلطان وأرباب الحل والعقد وأعيان الأمراء عن آخرهم، وكلهم بمرج الصفر قبلي دمشق. . . وبقي الشيخ هو وأخوه وأصحابه ومن معه من الغزاة قائما. . . يوصي الناس بالثبات، ويعدهم بالنصر، ويبشرهم بالغنيمة والفوز بإحدى الحسنيين إلى أن صدق الله وعده، وأعز جنده، وهزم التتار وحده، ونصر المؤمنين، وهزم الجمع وولوا الدبر، وكانت كلمة الله هي العليا، وكلمة الكفار هي السفلى، وقطع دابر القوم الكفار، والحمد لله رب العالمين.
ودخل جيش الإسلام المنصور إلى دمشق المحروسة، والشيخ في أصحابه شاكيا سلاحه، داخلا معهم، عالية كلمته، قائمة حجته، ظاهرة ولايته، مقبولة شفاعته،
__________
(1) ((العقود الدرية)) لابن عبد الهادي صفحة 177- 178.(10/226)
مجابة دعوته، ملتمسة بركته، مكرما معظما، ذا سلطان وكلمة نافذة، وهو مع ذلك يقول للمداحين: أنا رجل ملة لا رجل دولة) (1) .
وقد سجل الشعر هذه المعركة وتغنى الشعراء بنصر المسلمين فيها، وسأورد شيئا من ذلك فقد قال محمد بن إبراهيم الجزري يصف هزيمة المغول في هذه المعركة:
مضوا متسابقي الأعضاء , فيهم ... لا رؤسهم بأرجلهم عثار
إذا فاتوا الرماح تناولتهم ... بأرماح من العطش القفار
وقال محمد البزار المنبجي:
إن البغاة بني خاقان أقدمهم ... على هلاكهم الطغيان والأشر
راموا - وقد حشدوا - غلبا فما غلبوا ... وحاولوا النصر تضليلا فما نصروا
يا وقعة المرج مرج الصفر افتخرت ... بك الوقائع في الآفاق والعصر
رفعت بالنصر أعلام الهدى ولقد ... جردت للشرك كسرا ليس ينجبر
وقال شرف الدين بن الوحيد:
ولما غزا قازان عقر ديارنا ... وأعطاه من يعطي ومن يمنع النصرا
تمرد طغيانا وزاد تجبرا ... ولم ينتبه بغيا ولم يستفق سكرا
وجاءت ملوك المغل كالرمل كثرة ... وقد ملكت سهل البسيطة والوعرا
فأنصفت الأيام في الحكم بيننا ... فكانت له الأولى , وكانت لنا الأخرى
وكان نهار السبت بالنصر شاهدا ... بصدق , وكان الوقت قد زحم العصرا
فلله در الترك كم سفكت دما ... وكم قطعت رأسا وكم نحرت نحرا
فولت ولاذت بالجبال تحصنا ... ولولا تخاف القتل لاختارت الأسرا
وقال شمس الدين السيوطي يصف معركة شقحب:
يا مرج صفر بيضت الوجوه كما ... فعلت من قبل (2) والإسلام يؤتنف
أزهر روضك أزهى عند نفحته ... أم يانعات رءوس فيك تقتطف؟
__________
(1) ((العقود الدرية)) 175- 177.
(2) يشير إلى أن هذا الموضع كان له ذكر في فتوح الصحابة إذ كان فيه موقعة عظيمة مع الروم.(10/227)
غدران أرضك قد أضحت لواردها ... ممزوجة بدماء المغل تغترف
دارت عليهم من الشجعان دائرة ... فما نجا سالم منها وقد زحفوا
ونكسوا منهم الأعلام فانهزموا ... ونكصوهم على الأعلام فانقصفوا
ففي جماجمهم بيض الظبا زبر ... وفي كلاكلهم سمر القنا قصف
فروا من السيف ملعونين حيث سروا ... وقتلوا في البراري حيثما ثقفوا
فما استقام لهم في (اعواج) (1) نهج ... ولا أجارهم من (مانع) (2) كنف (3)
هذا ومن المفيد أن نعرف بالخليفة الذي غامر بحياته وجاء مجاهدا في سبيل الله يحضر هذه المعركة ويحرض المؤمنين على القتال.
إنه أمير المؤمنين المستكفي بالله أبو الربيع سليمان بن أحمد بن الحسن، ولد سنة 683هـ واشتغل بالعلم قليلا، وخطب له سنة 701هـ، وفوض جميع ما يتعلق به من الحل والعقد إلى السلطان الملك الناصر، وحصل بينه وبين الناصر نفور بعد أن كانت العلاقات بينهما على أحسن ما تكون العلاقات، فغضب عليه السلطان وسيره إلى قوص سنة 736هـ! وظل يخطب له حتى توفي بقوص في شعبان سنة 740 هـ.
قال ابن حجر: كان فاضلا جوادا حسن الخط جدا، يعرف بلعب الأكره ورمي البندق، وكان يجالس العلماء والأدباء (4) .
ومن المفيد أيضا أن نعرف بالملك الناصر الذي كان له الفضل الكبير في هذه المعركة الفاصلة:
إنه محمد بن قلاوون بن عبد الله الصالحي أبو الفتح، من كبار ملوك دولة المماليك، ودولة المماليك مظلومة في أذهان كثير من مثقفي المسلمين، فهم يتصورون عهدهم عهد
__________
(1) الأعوج: نهر يمر من قرية الكسوة (انظره في الخريطة) .
(2) المانع: جبل في تلك الناحية (انظره في الخريطة) .
(3) انظر ((خطط الشام)) 2 \ 139.
(4) انظر في ترجمته ((الدرر الكامنة)) 2 \ 336 - 338 و ((تاريخ الخلفاء)) 484 - 487.(10/228)
ظلم وتخلف وجهل وانحطاط، وليس هذا بصحيح على إطلاقه. . . لقد كانت هناك جوانب مضيئة إيجابية؛ من أهم هذه الجوانب أن هذه الدولة التي امتدت قرابة ثلاثة قرون (1) كانت هي المدافع الأول عن الإسلام. وقد استطاعت هذه الدولة أن تطهر بلاد المسلمين من بقايا الصليبيين، وأن تنهي أمر التتار إلى غير رجعة، وأن تدافع عن مذهب أهل السنة والجماعة وتمكن له، وكانت أيامها أيام نضج علمي، عمت فيها المدارس والجامعات الديار الشامية والمصرية.
وحبذا لو عولجت هذه الحقبة من وجهة نظر إسلامية، معالجة متأنية منصفة.
ولد الملك الناصر سنة 684 هـ وكانت إقامته في طفولته بدمشق، ولي سلطنة مصر والشام سنة 693هـ وكان عمره إذ ذاك تسع سنين، ثم خلع منها لحداثته سنة 694هـ فأرسل إلى الكرك وهي مدينة (2) مشهورة الآن في الأردن وكانت حصنا من أمنع الحصون. وكانت مركزا مهما من أقوى مراكز الدولة في بلاد الشام.
وأعيد للسلطنة بمصر سنة 698هـ وكان قد بلغ الرابعة عشرة من عمره ولم تكن لديه الخبرة ولا الدراية التي تمكنه من أن يسوس الأمور بنفسه مستقلا، فكانت أمور الدولة في يد الاستادار الأمير بيبرس الجاشنكير ونائب السلطنة الأمير سلار.
ولما أراد أن يتخلص من سيطرتهما رسم خطة، وأحكم تنفيذها، فقد تظاهر بأنه عازم على الحج، وأعلن ذلك في الدولة، وتوجه بأسرته وحاشيته ومماليكه وخيله. . وسار حتى بلغ الكرك، فنزل بقلعتها واستولى على ما فيها، وأعلن أنه قد عدل عن الحج واختار الإقامة في الكرك، وباشر حكمها وإدارة الأمور فيها، وترك السلطنة، وكتب بذلك إلى الأمراء في مصر.
فاجتمع هؤلاء ونادوا بالأمير بيبرس الجاشنكير سلطانا على مصر والشام سنة 708هـ ولقبوه بالملك المظفر.
__________
(1) أي من 658 حتى 923هـ.
(2) عرفت بالكرك وذكرت موقعها آنفا(10/229)
وأمضى الناصر في الكرك قريبا من عام، ثم وثب فدخل دمشق وزحف إلى مصر، فقاتل المظفر بيبرس، وعاد إلى عرشه سنة 709 هـ وقتل بيبرس وشرد أنصاره، واستمر في سلطنته الأخيرة هذه اثنتين وثلاثين سنة وخمسة وعشرين يوما إلى أن مات، كان فيها الحاكم الحقيقي، وكانت له فيها سيرة محمودة، واعتنى بالعمران حتى أضحت القاهرة زينة الدنيا، واقتدى الناس به فتباروا في العمران. يقول المقريزي: (وكأنما نودي في الناس ألا يبقى أحد حتى يعمر وذلك أن الناس على دين ملوكهم) . وقال الزركلي: (وأحدث من العمران ما ملأ ذكره صفحتين من كتاب المقريزي) .
وكان كريما غاية في الكرم، وكان عف اللسان، فلم يضبط عليه أحد أنه أطلق لسانه بكلام فاحش في شدة غضبه ولا انبساطه، كانت عنده غيرة على الدين ورعاية لأحكامه.
قال ابن حجر (1) في (الدرر) : كانت وقعة شقحب، وكان للناصر فيها اليد البيضاء من الثبات ووقع النصر للمسلمين.
وقال (2) : كان مطاعا مهيبا عارفا بالأمور يعظم أهل العلم والمناصب الشرعية، ولا يقرر فيها إلا من يكون أهلا لها ويتحرى لذلك ويبحث عنه ويبالغ. وأسقط من مملكته مكس الأقوات، ومكس الأقوات هو الضريبة التي تفرض على الأقوات.
توفي بالقاهرة في ذي الحجة من سنة 741هـ رحمه الله رحمة واسعة.
وهكذا انتهت هذه المعركة بهزيمة التتار وانتصار المسلمين، وجدير بالذكر أن نشير إلى أن هذه الحملة الثالثة من حملات التتار كانت هي آخر الحملات الكبرى، التي قام بها هؤلاء المتوحشون، ينقضون على بلاد الإسلام الآمنة المطمئنة. ولقد كان هناك حلف واضح بين التتار والنصارى، كشفنا عن بعض جوانبه في الصفحات السابقة، وقد يكون من مقاصد هؤلاء التتار الاستيلاء على الأماكن التي يقدسها النصارى، ثم إعطاؤهم حق الإشراف عليها.
ولكن المسلمين ردوهم على أعقابهم خاسرين، فما حققوا لهم ما يريدون ثم إن
__________
(1) ((الدرر الكامنة)) 4 \ 261- 265.
(2) المصدر السابق.(10/230)
المغول دخلوا في دين الله العظيم، وكانت هذه معجزة للإسلام؛ فقد عهد التاريخ البشري أن المغلوب يدخل في دين الغالب، ولكن الإسلام العظيم غلب، وأصبح هؤلاء القوم بعد إسلامهم مددا لقوة الإسلام وتياره المستمر.
وبعد فما أشبه الليلة بالبارحة.
إن من يتأمل - على ضوء أحداث الماضي - أحوال المسلمين اليوم وكيف تتعرض بلادهم إلى الاحتلال والتقسيم، ليجد عبرة عظمى وموعظة بليغة.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (1) .
محمد بن لطفي الصباغ
__________
(1) سورة ق الآية 37(10/231)
صفحة فارغة(10/232)
عبد الرحمن بن عوف الزهري
حواري النبي صلى الله عليه وسلم
وقائد إحدى سراياه
بقلم اللواء الركن محمود شيت خطاب
اللواء محمود شيت خطاب
من أبرز الكتاب الإسلاميين العسكريين، اهتم بإلقاء الضوء على قادة صدر الإسلام.
له أكثر من خمسين كتابا في أشهر القادة المسلمين والمعارك الفاصلة. .
رأس اللجنة التي وضعت المعجم العسكري العربي في الستينات تحت إشراف الجامعة العربية.(10/233)
صفحة فارغة(10/234)
نسبه وأيامه الأولى
هو عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الله بن الحارث بن زهرة (1) بن كلاب بن مرة (2) بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة (3) القرشي الزهري، يكنى؛ أبا محمد، وكان اسمه في الجاهيلة: عبد عمرو، وقيل: عبد الكعبة، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد الرحمن (4) .
وأمه: الشفاء بنت عوف بن عبد الله بن الحارث بن زهرة (5) بن كلاب بن مرة، وقتل أبوه عوف بالغميصاء، قتله بنو جذيمة (6) .
يجتمع نسبه مع نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلاب بن مرة، وينسب إلى زهرة بن كلاب، فيقال: القرشي الزهري (7) ، وهو من أخوال النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن بني زهرة أخوال النبي صلى الله عليه وسلم (8) ، وآمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة
__________
(1) نسب قريش (265) ، وجمهرة أنساب العرب (130 - 131) .
(2) طبقات ابن سعد (3 \ 124) ، والرياض النضرة (2 \ 276) .
(3) المعارف (235) .
(4) أسد الغابة (3 \ 312) ، تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 300) .
(5) الاستيعاب (2 \ 844) .
(6) المعارف (253) .
(7) الرياض النضرة (2 \ 376) .
(8) المعارف (166) .(10/235)
هي أم النبي صلى الله عليه وسلم، وهي من بني زهرة (1) .
ولد بعد عام الفيل بعشر سنين (2) ، وكان عام الفيل سنة (571 م) (3) وهو عام مولد النبي صلى الله عليه وسلم (4) ، أي أن مولد عبد الرحمن بن عوف كان سنة (581 م) ، فهو أصغر سنا من النبي صلى الله عليه وسلم بعشر سنين.
أسلم قديما على يدي أبي بكر (5) الصديق رضي الله عنه قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بن أبي الأرقم (6) ، وكان أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الخمسة الذي أسلموا على يدي أبي بكر (7) وهم: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله (8) ، وقد كان أبو بكر رجلا مؤلفا لقومه محببا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها، وبما كان فيها من خير وشر، وكان رجلا تاجرا ذا خلق ومعروف، وكان رجال قريش يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر: لعلمه، وتجارته، وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الله وإلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعائه أولئك الخمسة الذين أصبح لهم في الإسلام شأن أي شأن، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له، فأسلموا وصلوا (9) .
__________
(1) سيرة ابن هشام (1 \ 169) .
(2) أسد الغابة (3 \ 313) والاستيعاب (2 \ 822) .
(3) انظر كتابنا: ومضات من نور المصطفى (15) .
(4) سيرة ابن هشام (1 \ 171) .
(5) البداية والنهاية (7 \ 162)
(6) طبقات ابن سعد (3 \ 124)
(7) أسد الغابة 3 \ 313)
(8) انظر التفاصيل في: سيرة ابن هشام (1 \ 268) .
(9) سيرة ابن هشام (1 \ 268) .(10/236)
ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق؛ حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه» ، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفرارا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام وكان من أول من خرج من المسلمين من بني زهرة عبد الرحمن بن عوف (1) ، وكان أحد العشرة الأوائل الذين هاجروا إلى أرض الحبشة من المسلمين.
وبلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هاجروا إلى أرض الحبشة إسلام أهل مكة فأقبلوا لما بلغهم من ذلك، حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلا، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار أو مستخفيا، فكان عبد الرحمن أحد العائدين من أرض الحبشة إلى مكة (2) .
وقد هاجر عبد الرحمن إلى أرض الحبشة من مكة الهجرتين جميعا (3) ، وقال المسور بن مخرمة: (بينما أنا أسير في ركب بين عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الرحمن قدامى عليه خميصة سوداء، فناداني عثمان: يا مسور! فقلت: لبيك يا أمير المؤمنين! فقال: من زعم أنه خير من خالك في الهجرة الأولى وفي الهجرة الثانية، فقد
__________
(1) سيرة ابن هشام (1 \ 343- 344) ، وانظر الدرر (51) ، وجوامع السيرة (56) .
(2) سيرة ابن هشام (1 \ 388- 389) ، وانظر الدرر (61) ، وجوامع السيرة (65) .
(3) طبقات ابن سعد (3 \ 125) ، وتهذيب الأسماء واللغات (1 \ 1) .(10/237)
كذب) (1) ويقصد بالهجرة الأولى الهجرة إلى أرض الحبشة، وبالهجرة الآخرة الهجرة إلى المدينة المنورة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بين أصحابه المهاجرين قبل الهجرة على الحق والمواساة وذلك بمكة، فآخى بين عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، فقال عثمان: (إن لي حائطين فاختر أيهما شئت) فقال عبد الرحمن: (بارك الله لك في حائطك، ما لهذا أسلمت، دلني على السوق) ، فدله عثمان، فكان يشتري السمنة والأقيطة (2) والإهاب (3) ، فجمع فتزوج.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها واللحوق بإخوانهم الأنصار، وقال «إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها» ، فخرجوا أرسالا، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة (4) .
وهاجر عبد الرحمن من مكة إلى المدينة، فنزل في رجال من المهاجرين على سعد بن الربيع الخزرجي (5) .
وبعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار بعد بنائه المسجد، وقيل: إن المؤاخاة كانت والمسجد يبنى، على المواساة والحق، فكانوا
__________
(1) طبقات ابن سعد (ص 3 \ 125) .
(2) الأقيطة تصغير الأقط: وهو اللبن المحمض يجمد حتى يستحجر ويطبخ، أو يطبخ به.
(3) الإهاب: الجلد غير المدبوغ.
(4) سيرة ابن هشام (2 \ 76) .
(5) سيرة ابن هشام (2 \ 91) ، وجوامع السيرة (89) ، والدرر (84) .(10/238)
يتوارثون بذلك دون القرابات، حتى نزلت: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (1) ، فنسخت هذه الآية ما فرضته هذه المؤاخاة من التوارث، أما ما وراءها من الحق والمواساة، فقد ظلا قائمين، فآخى بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخي بني الحارث بن الخزرج (2) .
ومن الواضح أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين في مكة قبل الهجرة إلى المدينة، فآخى بين عبد الرحمن بن عوف وبين عثمان بن عفان في مكة، وبينه وبين سعد بن الربيع الخزرجي في المدينة، ولا تناقض بين المؤاخاة المكية والمؤاخاة المدنية، كما توهم قسم من المؤرخين وكتاب السير. فالأمر واضح لا لبس فيه.
لقد كان عبد الرحمن من المهاجرين الأولين إلى الحبشة وإلى المدينة (3) .
ولما آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن وسعد بن الربيع الخزرجي الأنصاري، قال سعد: (أخي! أنا أكثر أهل المدينة مالا، فانظر شطر مالي فخذه، وتحتي امرأتان فانظر أيتهما أعجب إليك حتى أطلقها لك) . فقال عبد الرحمن: (بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق) . فدلوه على السوق، فاشترى وباع فربح، فجاء بشيء من أقط (4) وسمن ثم لبث ما شاء الله أن يلبث، فجاء وعليه ردع (5) من زعفران، فلما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن أثر الطيب فيه، قال: «يارسول الله! تزوجت امرأة) . قال: (فما أصدقتها؟) قال: (وزن نواة من ذهب) . قال: (أولم ولو بشاة (6) » ) . قال عبد الرحمن: (فلقد رأيتني ولو رفعت حجرا رجوت أن أصيب تحته ذهبا أو فضة) (7) .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خط الدور بالمدينة، فخط لبني زهرة في ناحية من مؤخر المسجد، فكان لعبد الرحمن الحش، والحش نخل صغار لا يسقى (8) كما تزوج امرأة من الأنصار على ثلاثين ألف درهم (9) .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 75
(2) سيرة ابن هشام (2 \ 125) ، وجوامع السيرة (96) ، والدرر (97) .
(3) أسد الغابة (3 \ 313) .
(4) أقط: لبن محمض يجمد حتى يستحجر ويطبخ، أو يطبخ به.
(5) ردع الزعفران: أثر الزعفران، يقال: في الثوب ردع من هذا: شيء يسير في مواضع شتى.
(6) صحيح البخاري البيوع (2049) ، صحيح مسلم النكاح (1427) ، سنن الترمذي البر والصلة (1933) ، سنن النسائي النكاح (3373) ، سنن أبو داود النكاح (2109) ، سنن ابن ماجه النكاح (1907) ، مسند أحمد بن حنبل (3/205) ، موطأ مالك النكاح (1157) ، سنن الدارمي النكاح (2204) .
(7) طبقات ابن سعد (3 \ 126) ، وانظر أسد الغابة (3 \ 314) ، والرياض النضرة (2 \ 384) .
(8) طبقات ابن سعد (3 \ 126) .
(9) طبقات ابن سعد (3 \ 126) .(10/239)
وهكذا استقر المهاجر في بلد أمين، في منزل مريح، في أهل وولد، وفي تجارة رابحة ليبدأ صفحة جديدة من حياته، هي صفحة الجهاد في سبيل الله.(10/240)
جهاده:
في غزوة بدر الكبرى:
خرج المسلمون من المدينة إلى موقع (بدر) يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان من السنة الثانية الهجرية (1) ، وكانت إبل المسلمين سبعين بعيرا، فكانوا يتعاقبون عليها: البعير بين الرجلين والثلاثة والأربعة، فكان بين أبي بكر وعمر وعبد الرحمن بعير يعتقبونه (2) قال عبد الرحمن: «عبأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بليل، فصفنا، فأصبحنا ونحن علي صفوفنا وبينما أنا واقف في الصف يوم بدر، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار، حديثة أسنانهما، فتمنيت أن أكون بين أضلع منهما. فغمزني أحدهما فقال: يا عم! أتعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أنبئت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده، لو رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا. وغمزني الآخر، فقال مثلها، فلم ألبث أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، فقلت: ألا تريان! هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، فابتدراه بسيفيهما، فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال: أيكما قتله؟ فقال كل واحد منهما: أنا قتلته. قال: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا. فنظر في السيفين فقال: كلاكما قتله (5) » .
وقد استشهد هذان البطلان الصغيران في بدر، وهما ابنا عفراء، عوف بن الحارث الخزرجي الأنصاري ومعوذ بن الحارث الخزرجي الأنصاري
__________
(1) طبقات ابن سعد 2 \ 12.
(2) مغازي الواقدي (1 \ 24) ، والدرر (111) ، وجوامع السيرة (108) ، وابن الأثير (1 \ 118) .
(3) الاستبصار (156)
(4) مغازي الواقدي (1 \ 88) . (3)
(5) السواد: الشخص أو الشبح (4)(10/240)
كما روى عبد الرحمن قصة قتل أمية بن خلف فقال: (كان أمية بن خلف لي صديقا بمكة، وكان اسمي عبد عمرو، فتسميت حين أسلمت: عبد الرحمن، ونحن بمكة، فكان يلقاني إذ نحن بمكة فيقول: يا عبد عمرو، أرغبت عن اسم سماكه أبوان؟ فأقول: نعم. فيقول: فإني لا أعرف الرحمن، فاجعل بيني وبينك شيئا أدعوك به، أما أنت فلا تجيبني باسمك الأول، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف، فكان إذا دعاني يا عبد عمرو لم أجبه! فقلت: يا أبا علي! اجعل ما شئت! قال: فأنت عبد الإله. قلت: نعم! فكنت إذا مررت به قال: يا عبد الإله، فأجيبه، فأتحدث معه. حتى إذا كان يوم بدر مررت به وهو واقف مع ابنه علي بن أمية آخذ بيده، ومعي أدراع لي قد استلبتها، فأنا أحملها. فلما رآني قال لي: يا عبد عمرو! فلم أجبه! فقال: يا عبد الإله! فقلت: نعم، قال: هل لك في فأنا خير لك من هذه الأدراع التي معك؟ فطرحت الأدراع من يدي، وأخذت بيده ويد ابنه وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط!!! أما لكم حاجة في اللبن (1) ؟! وقال لي أمية بن خلف: يا عبد الإله! من الرجل المعلم بريشة نعامة في صدره؟ قلت: ذاك حمزة بن عبد المطلب! قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل!! فوالله إني لأقودهما، إذ رآه بلال معي، وكان هو الذي يعذب بلالا بمكة على ترك الإسلام، فيخرجه إلى رمضاء (2) مكة إذا حميت، فيضجعه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد، فيقول بلال: أحد، أحد! فلما رآه قال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا! فقلت: أي بلال! أبأسيري؟ قال: لا نجوت إن نجا! ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله! رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا، فأحاطوا بنا، حتى جعلونا كالمسكة (3) ، وأنا أذب عنه، فأخلف رجل السيف (4) ، فضرب رجل ابنه فوقع. وصاح أمية صيحة ما سمعت بمثلها قط، فقلت: انج بنفسك ولا نجاء بك، فوالله ما أغني عنك شيئا! فهبروهما (5) بالسيوف حتى فرغوا منهما، فكان عبد الرحمن يقول: يرحم الله بلالا!
__________
(1) يريد باللبن: أن من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن، انظر سيرة ابن هشام (20 \ 272) .
(2) الرمضاء: الرمل الشديد الحرارة من الشمس
(3) المسكة: السوار من عاج أو ذبل، والذبل: جلدة السلحفاة البرية.
(4) يقال: أخلف الرجل إلى سيفه: إذا رد يده إليه فسله من غمده
(5) هبروهما: قطعوا لحمهما. تقول: هبرت اللحم إذا قطعته قطعا كبارا(10/241)
ذهبت أدراعي، وفجعني بأسيري (1)) .
وقد أسر السائب بن أبي حبيش الأسدي يوم بدر (2) ، كما قتل السائب بن أبي رفاعة من بني أمية بن المغيرة من بني مخزوم (3) .
لقد كان عبد الرحمن بدريا من البدريين الفاعلين: قاتل وقتل، وأسر وغنم مما يدل على أثره البارز في هذه الغزوة الحاسمة.
__________
(1) سيرة ابن هشام (2 \ 271- 273) ، وانظر مغازي الواقدي (1 \ 82- 83) ، وابن الأثير (2 \ 27)
(2) مغازي الواقدي (1 \ 79) ، وأنساب الأشراف (1 \ 302) ، والسائب بن عبد العزى من بني أسد
(3) مغازي الواقدي (1 \ 150) ، وأنساب الأشراف (1 \ 300) .(10/242)
2 - في غزوة أحد:
وكانت هذه الغزوة في شهر شوال من سنة ثلاث الهجرية.
وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد في عصابة صبروا معه: أربعة عشر رجلا، سبعة من المهاجرين، وسبعة من الأنصار، وكان عبد الرحمن أحد السبعة المهاجرين الذين ثبتوا يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجرح يومئذ إحدى وعشرين جراحة، (وجرح في رجله وسقطت ثنيتاه) (1) ، وجرح في رجله فكان يعرج منها، وسقطت ثنيتاه فكان أهتم (2) ، وقتل أسيد بن أبي طلحة (3) وهو من بني عبد الدار من قريش، فكان من قتل في هذا اليوم من بني عبد الدار عشرة نفر، ومولى لهم (4) ، وقيل: إنه قتل كلاب ابن أبي طلحة أيضا من بني عبد الدار (5) ، وعرج عبد الرحمن من جراحه برجله إلى أن مات (6) .
__________
(1) تهذيب الأسماء واللغات 1 \ 301.
(2) أسد الغابة (3 \ 314) .
(3) المعارف 161
(4) المعارف (160-161) الدرر 165
(5) الدرر 165
(6) الدرر (158) ، وهكذا تركت عاهة مستدامة فيه.(10/242)
لقد كان عبد الرحمن بحق أحد أبطال المسلمين في غزوة (أحد) ، فقد استقتل في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم، وثبت ثبات الرواسي في المعركة في موقف خطير للغاية، فأدى واجبه في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي الثبات على أحسن ما يكون عليه الدفاع البطولي والثبات العنيد.(10/243)
3 - في الغزوات الأخرى:
شهد عبد الرحمن تحت لواء النبي صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها (1) ، فشهد غزوة بني النضير من يهود التي كانت في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة الهجرية (2) ، فأعطى له رسول الله صلى الله عليه وسلم (سؤالة) - وهو الذي يقال له مال سليم (3) .
كما شهد غزوة الخندق (4) التي كانت في شهر شوال من السنة الخامسة الهجرية (5) ، وشهد غزوة بني المصطلق (غزوة المريسيع) التي كانت في شعبان من السنة الخامسة الهجرية، وكان فارسا (6) .
وشهد غزوة بني قريظة من يهود التي كانت في شهر ذي القعدة من سنة خمس الهجرية، وكان فارسا (7) ، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ للفرس سهمين ولصاحبه سهما واحدا (8) ولما سبي بنو قريظة باع رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم من عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف طائفة (9) .
وشهد غزوة (ذي قرد) (10) التي كانت في شهر جمادى الأولى من السنة السادسة
__________
(1) طبقات ابن سعد (3 \ 128) ، وتهذيب الأسماء واللغات، (1 \ 300)
(2) الدرر (174)
(3) مغازي الواقدي (1 \ 379) .
(4) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 301)
(5) الدرر (179) .
(6) مغازي الواقدي (1 \ 404-405) .
(7) مغازي الواقدي (2 \ 496- 498)
(8) مغازي الواقدي (2 \ 522)
(9) مغازي الواقدي (2 \ 513) .
(10) ذو قرد: ماء على نحو بريد من المدينة مما يلي بلاد غطفان، وقيل: على مسافة يوم منها.(10/243)
الهجرية (1) ، وكان لعبد الرحمن إبل ترعى في (الغابة) (2) ، كما كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاح (3) ترعى في الغابة أيضا، فأغار عيينة بن حصن في أربعين فارسا على سرح المدينة، فأخطأ مكان إبل عبد الرحمن بن عوف واهتدى إلى لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستاقها، فطارده المسلمون (4) وهرب المشركون. (5)
__________
(1) سيرة ابن هشام (3 \ 323)
(2) الغابة: موضع شمالي المدينة
(3) اللقاح: الإبل الحوامل ذوات الألبان
(4) مغازي الواقدي (2 \ 539) .
(5) انظر التفاصيل في الدرر (198- 191) ، وجوامع السيرة (201- 203) .(10/244)
4 - قائد سرية دومة الجندل:.
كانت في شهر شعبان من سنة ست الهجرية، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف، فأقعده بين يديه وعمه بيده، وقال: «اغز باسم الله وفي سبيل الله، فقاتل من كفر بالله، لا تغل، ولا تغدر، ولا تقتل وليدا (1) » ) .
وبعثه إلى بني كلب بدومة الجندل، فمكث ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي، وكان رأسهم، وأسلم معه ناس كثير من قومه، وأقام من أقام على إعطاء الجزية، وكان الأصبغ نصرانيا.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال لعبد الرحمن: «إن استجابوا لك، فتزوج ابنة ملكهم» ) . فتزوج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبغ، وقدم بها إلى المدينة، وهي أم أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف (2) .
ولا نعلم شيئا عن عدد أفراد هذه السرية، وهي على كل حال من سرايا الدعوة، أدى فيها عبد الرحمن واجبه أداء كاملا.
__________
(1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1731) ، سنن الترمذي السير (1617) ، سنن أبو داود الجهاد (2613) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2858) ، مسند أحمد بن حنبل (5/358) ، سنن الدارمي السير (2439) .
(2) طبقات ابن سعد (2 \ 89) ، وسيرة ابن هشام (4 \ 307- 309) ، ومغازي الواقدي (2 \ 560- 562) .(10/244)
في الغزوات الجديدة:
شهد غزوة الحديبية التي كانت في ذي القعدة من السنة السادسة الهجرية،(10/244)
فساق قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي من أهل الغنى، منهم عبد الرحمن (1) ، وكان أحد شهود صلح الحديبية بين المسلمين وقريش (2) ، ثم نحر بدنات له ساقها من المدينة، وعاد مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة.
وشهد غزوة خيبر التي كانت في شهر المحرم من السنة السابعة الهجرية (3) ، فوقع سهم عبد الرحمن مع قسم من الصحابة في (الشق) من خيبر، وقد جعل على كل مائة رأس من المسلمين رأس يعرف يقسم على أصحابه ما خرج من غلتها، فكان عبد الرحمن أحد الرؤساء (4) .
وشهد غزوة فتح مكة التي كانت في شهر رمضان من السنة الثامنة الهجرية (5) ، فلما طلعت كتيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الخضراء، ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته القصواء بين أبي بكر وأسيد بن حضير وهو يحدثهما، فقال العباس لأبي سفيان بن حرب: (هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار، فيها الرايات والألوية، مع كل بطن من الأنصار راية ولواء، في الحديد، لا يرى منهم إلا الحدق) ، ويقال: كان في الكتيبة ألف دارع. وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رايته سعد بن عبادة وهو أمام الكتيبة، فلما مر سعد براية النبي صلى الله عليه وسلم نادى: (يا أبا سفيان! اليوم يوم الملحمة (6) ، اليوم تستحل الحرمة! اليوم أذل الله قريشا!) ، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا حاذى أبا سفيان ناداه: «يا رسول الله! أمرت بقتل قومك؟! زعم سعد ومن معه حين مر بنا قال: يا أبا سفيان! اليوم يوم الملحمة! اليوم تستحل الحرمة! اليوم أذل الله قريشا! وإني أنشدك الله مع قومك، فأنت أبر الناس، وأرحم وأوصل الناس (7) » ) . قال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان: (يا رسول الله! ما نأمن سعدا أن يكون منه في
__________
(1) مغازي الواقدي (2 \ 572- 573)
(2) مغازي الواقدي (2 \ 612) ، وسيرة ابن هشام (3 \ 368) ، وابن الأثير (2 \ 205)
(3) الدرر (209) ، وجوامع السيرة (211) .
(4) مغازي الواقدي (2 \ 689) وسيرة ابن هشام (3 \ 404) والدرر (217) وجوامع السيرة (214) .
(5) الدرر (227)
(6) الملحمة: الحرب الشديدة، وموضعها (ج) ملاحم
(7) صحيح البخاري المغازي (4280) .(10/245)
قريش صولة) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اليوم يوم المرحمة! اليوم أعز الله فيه قريشا» ) ، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فعزله، وجعل اللواء إلى قيس بن سعد بن عبادة (1) .
وبعد فتح مكة بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد على سرية داعيا لا مقاتلا (2) إلى بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه القوم أخذوا السلاح، فقال خالد: (ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا) (3) .
ولكن خالدا وجد السلاح على بني جذيمة، فسألهم: (ما أنتم؟) ، قالوا: (مسلمون، قد صلينا، وصدقنا بمحمد، وبنينا المساجد في ساحاتنا، وأذنا فيها) ، قال: (فما بال السلاح عليكم!) ، فقالوا: (إن بيننا وبين قوم من العرب عداوة، فخفنا أن تكونوا هم، فأخذنا السلاح) . قال: (فضعوا السلاح!) فوضعوه، فأسرهم وفرقهم في أصحابه. فلما كان في السحر نادى خالد: (من كان معه أسير، فليدافه) ، والمدافة الإجهاز عليه بالسيف، فأما بنو سليم فقتلوا من كان في أيديهم، وأما المهاجرون والأنصار، فأرسلوا أسراهم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما صنع خالد فقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد (4) » ) ، وبعث علي بن أبي طالب، فودى لهم قتلاهم وما ذهب منهم، ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره (5) .
وقد كان بين خالد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام في ذلك، فقال له عبد الرحمن: (عملت بأمر الجاهلية في الإسلام) ، فقال: (إنما ثأرت بأبيك) ، فقال عبد الرحمن: (كذبت، قد قتلت قاتل أبي، ولكنك ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة) ، حتى كان بينهما شر، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «مهلا يا خالد! دع عنك أصحابي، فوالله لو كان لك أحد ذهبا، ثم أنفقته في سبيل الله، ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته» ) (6)) .
وكان الفاكه بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وعوف بن عبد عوف، وعفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس قد خرجوا تجارا إلى اليمن، ومع عفان ابنه
__________
(1) مغازي الواقدي (2 \ 821- 822) .
(2) سيرة ابن هشام (4 \ 53)
(3) سيرة ابن هشام (4 \ 53) ، وطبقات ابن سعد (2 \ 147) .
(4) صحيح البخاري المغازي (4339) ، سنن النسائي آداب القضاة (5405) ، مسند أحمد بن حنبل (2/151) .
(5) طبقات ابن سعد (2 \ 147-148) .
(6) سيرة ابن هشام (4 \ 56) ، وانظر مغازي الواقدي (3 \ 880- 881)(10/246)
عثمان، ومع عوف ابنه عبد الرحمن، فلما أقبلوا حملوا مال رجل من بني جذيمة بن عامر هلك باليمن إلى ورثته، فادعاه رجل منهم يقال له: خالد بن هشام، ولقيهم بأرض بني جذيمة قبل أن يصلوا إلى أهل الميت، فأبوا عليه، فقاتلهم بمن معه من قومه على المال ليأخذوه، وقاتلوه، فقتل عوف بن عبد عوف والفاكه بن المغيرة ونجا عفان بن أبي العاص وابنه عثمان، وأصابوا مال الفاكه بن المغيرة ومال عوف بن عبد عوف، فانطلقوا به، وقتل عبد الرحمن بن عوف خالد بن هشام قاتل أبيه. وهمت قريش بغزو بني جذيمة، فقالت بنو جذيمة: (ما كان مصاب أصحابكم على ملإ منا، إنما عدا عليهم قوم بجهالة فأصابوهم، ولم نعلم، فنحن نعقل لكم ما كان لكم قبلنا من دم أو مال) ، فقبلت قريش ذلك ووضعوا الحرب (1) .
هـ - وشهد غزوة حنين التي كانت في شهر شوال من السنة الثامنة الهجرية وحصار الطائف التي كانت في شوال من السنة الثامنة الهجرية أيضا، فنال عبد الرحمن امرأة من سبي هوازن (2) ، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة السبي إلى هوازن أعاد عبد الرحمن المرأة التي كانت عنده إلى أهلها (3) .
ووشهد غزوة تبوك التي كانت في شهر رجب من السنة التاسعة الهجرية (4) ، فحض رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين على القتال والجهاد وأمرهم بالصدقة، فحمل عبد الرحمن من جملة من حمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم مالا، مائتي أوقية (5) ، وهي أربعة آلاف درهم (6) كما يبدو.
وفي طريق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى تبوك، صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه في سفرة (7) سافرها ركعة من صلاة الفجر (8) .
__________
(1) سيرة ابن هشام (4 \ 56- 57) .
(2) مغازي الواقدي (3 \ 943)
(3) مغازي الواقدي (3 \ 952)
(4) طبقات ابن سعد (2 \ 165) .
(5) مغازي الواقدي (3 \ 991)
(6) سيرة ابن هشام (4 \ 210) .
(7) أسد الغابة (3 \ 314) ، والإصابة (4 \ 177) .
(8) الإصابة (4 \ 177) ، والبداية والنهاية (7 \ 164) .(10/247)
قال المغيرة بن شعبة: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فلما كان في السحر ضرب عنق راحلتي، فظننت أن له حاجة، فعدلت معه، فانطلقنا حتى تبرزنا عن الناس، فنزل عن راحلته، ثم انطلق فتغيب عني حتى ما أراه، فمكث طويلا ثم جاء، فقال: حاجتك يا مغيرة! قلت: ما لي حاجة! قال: فهل معك ماء؟ قلت: نعم، فقمت إلى قربة أو قال سطيحة معلقة في آخر الرحل، فأتيته بها، فصببت عليه، فغسل يديه فأحسن غسلهما، وأشك دلكهما بتراب أم لا، ثم غسل وجهه، ثم ذهب يحسر على يديه وعليه جبة شامية ضيقة الكم، فضاقت، فأخرج يديه من تحتها إخراجا، فغسل وجهه ويديه، ثم مسح بناصيته ومسح على العمامة ومسح على الخفين، ثم ركبنا، فأدركنا الناس وقد أقيمت الصلاة، فتقدمهم عبد الرحمن بن عوف، وقد صلى ركعة وهم في الثانية، فذهبت أوذنه فنهاني، فصلينا الركعة التي أدركنا، وقضينا التي سبقتنا (2) » ) ، وكان هذا في تبوك، وكان المغيرة يحمل وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم، حين صلى خلف عبد الرحمن بن عوف: «ما قبض نبي قط حتى يصلي خلف رجل صالح من أمته» . (3)
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (274) ، مسند أحمد بن حنبل (4/244) .
(2) السطيحة: المزادة تكون من جلدين لا غير (1)
(3) طبقات ابن سعد (3 \ 128 - 129) ، وانظر مغازي الواقدي (3 \ 1012) .(10/248)
6 - جهاده بالمال:
كان عبد الرحمن كثير الإنفاق في سبيل الله (1) ، وقد تصدق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشطر ماله أربعة آلاف درهم، ثم تصدق بأربعين ألفا من الدراهم، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل الله، ثم حمل على خمسمائة راحلة في سبيل الله، وكان عامة ماله من التجارة (2) ، وكان كثير المال محظوظا بالتجارة (3) .
وحين حمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف درهم قال: (كان عندي ثمانية آلاف، فأمسكت أربعة آلاف لنفسي وعيالي، وأربعة آلاف أقرضها ربي عز وجل) ، فقال رسول
__________
(1) أسد الغابة (3 \ 314) ، وتهذيب الأسماء واللغات (1 \ 301) .
(2) أسد الغابة (3 \ 316) ، والإصابة (4 \ 177) .
(3) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 310) .(10/248)
الله صلى الله عليه وسلم: «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت» ) (1) فنزلت في عثمان بن عفان وفي عبد الرحمن الآية الكريمة: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (2) هذا هو مبلغ جهاد عبد الرحمن المعلن بالمال الذي كان معروفا في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مبلغ جسيم ولا شك، وبخاصة في تلك الأيام، ولا بد أن يكون له جهاد غير معلن بالمال، لا يعلمه غير الله.
لقد أدى عبد الرحمن واجبه مجاهدا بالأموال والنفس.
__________
(1) الرياض النضرة (2 \ 379) .
(2) سورة البقرة الآية 262(10/249)
المستشار الأمين
1 - مع الشيخين: أصبح عبد الرحمن بعد التحاق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى من أقرب المقربين إلى خليفتيه الشيخين: أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، والمستشار الأمين لهما.
ولما نزل بأبي بكر الصديق رضي الله عنه الموت، دعا عبد الرحمن بن عوف، فقال: (أخبرني عن عمر) ، فقال: (إنه أفضل من رأيك، إلا أنه فيه غلظة) ، فقال أبو بكر: (ذلك لأنه يراني رقيقا، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرا مما هو عليه، وقد رمقته فكنت إذا غضبت على رجل أراني الرضا عنه، وإذا لنت له أراني الشدة عليه) . ودعا عثمان بن عفان وقال له (أخبرني عن عمر) ، فقال: (سريرته خير من علانيته، وليس فينا مثله) ، فقال أبو بكر لهما: (لا تذكرا مما قلت لكما شيئا، ولو تركته ما عدوت عثمان، والخيرة له ألا يلي من أموركم شيئا، ولوددت أني كنت من أموركم خلوا. وكنت فيمن مضى من سلفكم) (1) .
__________
(1) ابن الأثير (2 \ 425) .(10/249)
واستشارة أبي بكر الصديق عبد الرحمن في أخطر أمور الدولة، في تولية خليفته، دليل على ثقته البالغة به، وأنه كان المستشار الأمين له.
ولما تولى الخلافة عمر حج عبد الرحمن معه، فسمع رجلا بمنى يقول لعمر: (لو مات عمر لبايعت فلانا) ، فقال عمر: (إني لقائم العشية في الناس، أحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغتصبوا الناس أمرهم) ، فقال له عبد الرحمن: (يا أمير المؤمنين: إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، وهم الذين يغلبون على مجلسك، وأخاف أن تقول مقالة لا يعوها ولا يحفظوها ويطيروا بها، ولكن أمهل حتى تقدم المدينة وتخلص بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقول ما قلت فيعوا مقالتك) ، فقال: (والله لأقومن بها أول مقام أقومه بالمدينة) (1) . وهكذا انصاع عمر لرأي عبد الرحمن الحصيف.
وحشد الفرس حشودا ضخمة لحرب المسلمين في العراق، فبلغ ذلك المثنى بن حارثة الشيباني، فكتبوا إلى عمر بن الخطاب، فقال: (والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب) . فلم يدع رئيسا ولا ذا رأي وذا شرف وبسطة ولا خطيبا ولا شاعرا إلا رماهم به، فرماهم بوجوه الناس وغرارهم (2) .
ولما اجتمع الناس إلى عمر، خرج من المدينة حتى نزل ماء يدعى: (صرارا) فعسكر به ولا يدري الناس ما يريد: أيسير أم يقيم! وكانوا إذا أرادوا أن يسألوه عن شيء، رموه بعثمان أو بعبد الرحمن بن عوف، فإن لم يقدر هذان على علم شيء مما يريد ثلثوا بالعباس بن عبد المطلب. وسأله عثمان عن سبب حركته، فأحضر الناس وأعلمهم الخبر، واستشارهم في المسير إلى العراق، فقال العامة: (سر وسر بنا معك) ، فدخل معهم في رأيهم وقال: (اغدوا واستعدوا، فإني سائر، إلا أن يجيء رأي هو أمثل من هذا) . ثم جمع عمر وجوه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسل إلى علي بن أبي طالب، وكان استخلفه على المدينة، فأتاه، وإلى طلحة وكان على المقدمة، فرجع إليه، وإلى الزبير وعبد الرحمن، وكانا على المجنبتين، فحضرا ثم استشارهم، فأجمعوا على أن يبعث رجلا من
__________
(1) ابن الأثير (2 \ 326) .
(2) ابن الأثير (2 \ 1228) .(10/250)
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرميه بالجنود، فإن كان الذي يشتهي فهو الفتح، وإلا أعاد رجلا وبعث آخر، وفي ذلك غيظ العدو.
وجمع عمر الناس وقال لهم: (إني كنت عزمت على المسير، حتى صرفني ذوو الرأي منكم، وقد رأيت أن أقيم وأبعث رجلا، فأشيروا علي برجل) (1) .
وأشاروا عليه بسعد بن أبي وقاص، فقاد جيش المسلمين في معركة القادسية الحاسمة.
ولما أراد عمر وضع الديوان وفرض العطاء في سنة خمس عشرة الهجرية. قال له علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف: (ابدأ بنفسك) ، قال: (لا، بل أبدأ بعم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الأقرب فالأقرب، ففرض للعباس وبدأ به، ثم فرض لأهل بدر خمسة آلاف خمسة آلاف، ثم فرض لمن بعد بدر إلى الحديبية أربعة آلاف، ثم فرض لمن بعد الحديبية إلى أن أقلع أبو بكر من أهل الردة ثلاثة آلاف، في ذلك من شهد الفتح وقاتل مع أبي بكر ومن ولي الأيام قبل القادسية، كل هؤلاء ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف، ثم فرض لأهل القادسية وأهل الشام ألفين ألفين، وفرض لأهل البلاد النازع منهم ألفين وخمسمائة ألفين وخمسمائة) (2) .
وفي سنة ثمان عشرة الهجرية قدم عمر الشام، فلما كان ب (سرغ) لقيه أمراء الأجناد فيهم أبو عبيدة بن الجراح، فأخبروه بالوباء وشدته، وكان معه المهاجرون والأنصار، خرج غازيا، فجمع المهاجرين والأنصار فاستشارهم، فاختلفوا عليه، فمنهم القائل: خرجت لوجه الله، فلا يصدك عنه هذا! ومنهم القائل: إنه بلاء وفناء، فلا نرى أن تقدم عليه! فقال لهم: (قوموا) . ثم أحضر مهاجرة الفتح من قريش فاستشارهم، فلم يختلفوا عليه، وأشاروا عليه بالعود، فنادى عمر في الناس: (إني مصبح على ظهر) ، فقال أبو عبيدة: (أفرارا من قدر الله!) ، قال: (نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله! أرأيت لو كان لك إبل، فهبطت واديا له عدوتان، إحداهما مخصبة والأخرى
__________
(1) ابن الأثير (2 \ 450- 451) .
(2) ابن الأثير (2 \ 502- 503) .(10/251)
جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟) ، فسمع بهم عبد الرحمن بن عوف، فقال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه، وإذا وقع ببلد وأنتم به فلا تخرجوا فرارا منه (1) » ) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما. فانصرف عمر بالناس إلى المدينة (2) .
وعن أنس رضي الله عنه، «أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين، فلما أن ولي عمر قال: (إن الناس قد دنوا من الريف، فما ترون في حد الخمر؟) ، فقال عبد الرحمن بن عوف: (نرى أن نجعله كأخف الحدود) ، فجلد فيه ثمانين جلدة (3) » .
ورجع عمر إليه في أخذ الجزية من المجوس، رواه البخاري (4) ، واستخلفه على الحج سنة ولي الخلافة، أي سنة ثلاث عشرة الهجرية (5) .
وفي سنة ست عشرة الهجرية، حين قدم الخمس على عمر من الفتوح قال: (والله لا يجنه سقف حتى أقسمه) ، فبات عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن الأرقم يحرسانه في المسجد. فلما أصبح جاء عمر في الناس، فكشف أموال الخمس، فلما نظر إلى ياقوته وزبرجده وجوهره بكى، فقال له عبد الرحمن: (ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فوالله إن هذا لموطن شكر) ، فقال عمر: (والله ما ذلك يبكيني، وبالله ما أعطى الله هذا قوما إلا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلا ألقى الله بأسهم بينهم) (6) .
وجاء عمر بن الخطاب إلى عبد الرحمن بن عوف وهو يصلي في بيته ليلا، فقال له عبد الرحمن: (ما جاء بك في هذه الساعة؟) ، قال: (رفقة نزلت في ناحية السوق خشيت عليهم سراق المدينة، فانطلق فلنحرسهم) ، فأتيا السوق، فقعدا على نشز من الأرض يتحدثان (7) .
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5729) ، صحيح مسلم السلام (2219) ، سنن أبو داود الجنائز (3103) ، مسند أحمد بن حنبل (1/194) ، موطأ مالك الجامع (1657) .
(2) ابن الأثير (2 \ 559-560) وانظر الإصابة (4 \ 177) والرياض النضرة (2 \ 382) .
(3) الرياض النضرة (2 \ 382) ، أخرجاه.
(4) الإصابة (4 \ 177) .
(5) الإصابة (4 \ 177) وتاريخ خليفة بن خياط.
(6) ابن الأثير (2 \ 522) .
(7) ابن الأثير (3 \ 57) .(10/252)
وأخيرا لما طعن عمر، أخذ بيد عبد الرحمن فقدمه، فصلوا الفجر يومئذ صلاة خفيفة (1) .
لقد كان عبد الرحمن موضع ثقة الشيخين المطلقة إلى أبعد الحدود، كما كان موضع ثقة النبي صلى الله عليه وسلم وثقة المسلمين كافة.
__________
(1) طبقات ابن سعد (3 \ 337) .(10/253)
2 - مع الشورى:
استشهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لثلاث بقين أو أربع من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين الهجرية (1) ، فلما وجد عمر حد السلاح سقط وأمر عبد الرحمن بن عوف فصلى بالناس، وعمر طريح، فاحتمل فأدخل بيته. ودعا عبد الرحمن، فقال له: (إني أريد أن أعهد إليك) ، قال: (أتشير علي بذلك؟) ، قال: (اللهم لا) ، فقال عبد الرحمن: (والله لا أدخل فيها أبدا) ، قال: (فهبني صمتا حتى أعهد إلى النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض) ، ثم دعا عليا وعثمان والزبير وسعدا، فقال: (انظروا أخاكم طلحة ثلاثا، فإن جاء وإلا فاقضوا أمركم (2) ، ثم قال: (فإن أصابت سعدا فذاك، وإلا فأيهم استخلف فليستعن به، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة) ، وجعل عبد الله بن عمر معهم يشاورونه وليس له من الأمر شيء (3) ، وهكذا كان عبد الرحمن أحد الستة الشورى، فلما دفن عمر كان عبد الرحمن أحد الذين نزلوا في قبره (4) .
ولما مات عمر وأخرجت جنازته جمع المقداد بن الأسود أهل الشورى، وأمروا أبا طلحة الأنصاري أن يحجبهم.
وقال عبد الرحمن لزملائه: (أيكم يخرج منها نفسه ويتقلدها على أن يوليها
__________
(1) البداية والنهاية (7 \ 138) ، والعبر (1 \ 27) .
(2) ابن الأثير (3 \ 50)
(3) طبقات ابن سعد (3 \ 339) .
(4) ابن الأثير (3 \ 52) .(10/253)
أفضلكم؟) فلم يجبه أحد، فقال: (فأنا أنخلع منها) ، فقال عثمان: (أنا أول من رضي) ، فقال القوم (رضينا) ، وعلي ساكت. فقال: (ما تقول يا أبا الحسن؟) قال: (أعطني موثقا لتؤثرن الحق ولا تتبع الهوى ولا تخص ذا رحم، ولا تألوا الأمة نصحا) ، فقال: (أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدل وغير، وأن ترضوا من اخترت لكم، وعلي ميثاق الله أن لا أخص ذا رحم لرحمه، ولا آلو المسلمين) ، فأخذ منهم ميثاقا وأعطاهم مثله (1) .
وفي رواية أخرى، أن عبد الرحمن حين قال لأصحاب الشورى: (هل لكم إلى أن أختار لكم وأتقصى منها؟) ، فقال علي: (نعم، أنت أمين في أهل السماء وأمين في أهل الأرض) (2) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (3) .
وبدأ بعلي فقال له: تقول: إني أحق من حضر بهذا الأمر لقرابتك وسابقتك، وحسن أثرك في الدين، ولم تبعد. ولكن، أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك فلم تحضر، من كنت ترى من هؤلاء الرهط أحق به؟) ، قال: عثمان) .
وخلا بعثمان فقال: (تقول شيخ من بني عبد مناف، وصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عمه، ولي سابقة وفضل، فأين يصرف هذا الأمر عني؟ ولكن، لو لم تحضر، أي هؤلاء الرهط تراه أحق به؟) ، قال: (علي) .
ودار عبد الرحمن لياليه يلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس يشاورهم، حتى إذا كان الليلة التي صبيحتها يكمل الأجل الذي حدده عمر بن الخطاب ثلاثة أيام، دعا الزبير وسعدا، وبدأ بالزبير فقال له: (خل بني عبد مناف وهذا الأمر) ، قال: (نصيبي لعلي) . وقال لسعد: (اجعل نصيبك لي) ، فقال: (إن اخترت نفسك فنعم، وإن اخترت عثمان، فعلي أحب إلي أيها الرجل! بايع لنفسك وأرحنا وارفع رءوسنا) ، فقال له: (قد خلعت نفسي على أن أختار، ولو لم أفعل لم أردها) .
__________
(1) انظر التفاصيل في ابن الأثير (3 \ 65- 69) .
(2) طبقات ابن سعد (3 \ 134) ، والإصابة (4 \ 177)
(3) أسد الغابة (3 \ 315) ، وتهذيب الأسماء واللغات (1 \ 301) .(10/254)
واستدعى عليا، فناجاه طويلا، ثم أرسل إلى عثمان، فتناجيا أيضا.
ولما صلوا الصبح، جمع الرهط وبعث إلى من حضره من المهاجرين والأنصار وإلى أمراء الأجناد، فاجتمعوا حتى التحم المسجد بأهله، فقال: (أيها الناس! إن الناس قد أجمعوا أن يرجع أهل الأمصار إلى أمصارهم، فأشيروا علي) .
فرشح جماعة عليا ورشح آخرون عثمان، وتعصبت كل جماعة لمرشحها، فقال سعد بن أبي وقاص: (يا عبد الرحمن! افرغ قبل أن يفتتن الناس) ، فقال عبد الرحمن: (إني قد نظرت وشاورت فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلا) .
ودعا عليا وقال: (عليك عهد الله وميثاقه، لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده) ، قال: (أرجو أن أفعل، فأعمل بمبلغ علمي وطاقتي) .
ودعا عثمان، فقال له مثل ما قال لعلي، فقال: (نعم، نعمل) ، فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده على يد عثمان، فقال: (اللهم اسمع واشهد، اللهم إني قد جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان) .
وبايع عثمان، وبايعه الناس (1) .
لقد تمكن عبد الرحمن بكياسته وأمانته واستقامته ونسيانه نفسه بالتخلي عن الطمع في الخلافة والزهد بأعلى منصب في الدولة، أن يجتاز هذه المحنة، ولا يزال الناس مختلفين حتى اليوم في: هل أصاب عبد الرحمن أم أخطأ، ولكن لا يختلف أحد بأنه قاد ركب الشورى بمهارة وتجرد، مما يستحق أعظم التقدير.
__________
(1) انظر التفاصيل في ابن الأثير (3 \ 69 - 75) .(10/255)
3 - مع عثمان:
حج عثمان سنة تسع وعشرين الهجرية، وضرب فسطاطه بمنى، وكان أول فسطاط ضربه عثمان بمنى، وأتم الصلاة بها وبعرفة، فكان أول ما تكلم به الناس في عثمان ظاهرا حين أتم الصلاة بمنى، فعاب ذلك غير واحد من الصحابة، وقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ما حدث أمر ولا قدم عهد، ولقد عهدت النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر(10/255)
وعمر يصلون ركعتين، وأنت صدرا من خلافتك، فما أدري ما ترجع إليه؟) . فقال: (رأي رأيته) .
وبلغ الخبر عبد الرحمن بن عوف، وكان معه في الحج فجاءه وقال له: (ألم تصل في هذا المكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ركعتين وصليتها أنت ركعتين؟) ، قال عثمان: (بلى، ولكني أخبرت أن بعض من حج من اليمن وجفاة الناس قالوا: إن الصلاة للمقيم ركعتان واحتجوا بصلاتي، وقد اتخذت بمكة أهلا، ولي بالطائف مال) . فقال عبد الرحمن: (ما في هذا عذر! أما قولك: اتخذت بها أهلا، فإن زوجك بالمدينة تخرج بها إذا شئت، وإنما تسكن بسكناك، وأما مالك بالطائف وبينك وبينه مسيرة ثلاثة ليال، وأما قولك عن حاج اليمن وغيرهم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي والإسلام قليل ثم أبو بكر وعمر. فصلوا ركعتين، وقد ضرب الإسلام بجرانه (1)) ، فقال عثمان: (هذا رأي رأيته) .
وخرج عبد الرحمن، فلقي عبد الله بن مسعود فقال: (أبا محمد! غير ما تعلم) ، قال: (فما أصنع؟!) . قال: (اعمل بما ترى وتعلم) ، فقال ابن مسعود: (الخلاف شر، وقد صليت بأصحابي أربعا) ، فقال عبد الرحمن: (قد صليت بأصحابي ركعتين، وأما الآن فسوف أصلي أربعا) (2) .
لقد نصح عثمان، فلما أصر عثمان على رأيه تابعه عبد الرحمن خوفا من الفتنة، فما كانوا يحبون الفتنة ولا يعملون لها، ويخشون الوقوع فيها أشد الخشية.
وكان عبد الرحمن صهر عثمان، فقد تزوج عبد الرحمن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وهي أخت عثمان لأمه التي خلف عليها عقبة بعد والد عثمان (3) ، وقد بلغ عبد الرحمن أن عثمان وهب بعض إبل الصدقة لبعض بني الحكم، فأخذها منهم وقسمها بين الناس وعثمان في الدار (4) .
__________
(1) الجران: باطن العنق من البعير وغيره (ج) أجرنة. وجرن. وضرب الإسلام بجرانه: ثبت واستقر.
(2) ابن الأثير (3 \ 104) .
(3) ابن الأثير (3 \ 72) .
(4) ابن الأثير (3 \ 167) .(10/256)
وعن عروة بن الزبير، أن الزبير جاء إلى عثمان وقال: «إن عبد الرحمن بن عوف زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه وعمر بن الخطاب أرض كذا وكذا، وإني اشتريت نصيب آل عمر (1) » ) ، فقال عثمان: (عبد الرحمن بن عوف جائز الشهادة له وعليه) . أخرجه الإمام أحمد بن حنبل (2) .
وتزكية عثمان هذه لعبد الرحمن بهذا الشكل وهذا الأسلوب، يدل على مبلغ ثقته به ثقة عظيمة بلا حدود.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/192) .
(2) الرياض النضرة (2 \ 382) .(10/257)
الإنسان:
1 - عمره:
ولد عبد الرحمن بعد عام الفيل بعشر سنين، أي أنه ولد سنة (581م) كما ذكرنا، وتوفي بالمدينة المنورة سنة اثنتين وثلاثين الهجرية (1) (652م) ، وهو ابن خمس وسبعين سنة (2) قمرية، وفي رواية: وهو ابن اثنتين وسبعين سنة (3) قمرية.
وفي رواية أنه توفي سنة إحدى وثلاثين الهجرية، وقيل: سنة اثنتين وثلاثين الهجرية، وهو ابن خمس وسبعين سنة (4) قمرية.
وفي رواية أنه توفي سنة اثنتين وثلاثين الهجرية أو سنة إحدى وثلاثين الهجرية، وعاش اثنتين وسبعين سنة (5) قمرية.
ولا خلاف أنه ولد بعد عام الفيل بعشر سنين، والأكثر أنه توفي سنة اثنتين وثلاثين الهجرية (6) ، ومعنى ذلك أنه عاش إحدى وسبعين سنة شمسية (2581- 652م) وما يقرب من خمس وسبعين سنة قمرية.
__________
(1) تاريخ خليفة بن خياط (1 \ 143) ، والعبر (1 \ 33) ، وطبقات ابن سعد (3 \ 135) .
(2) طبقات ابن سعد (3 \ 135) .
(3) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 302) .
(4) الاستيعاب (2 \ 855) ، وأسد الغابة (3 \ 317)
(5) الإصابة (4 \ 177)
(6) ابن الأثير (3 \ 136) ، وتهذيب التهذيب (6 \ 346) .(10/257)
وشيعه إلى مثواه الأخير في (البقيع) سعد بن أبي وقاص وهو يقول: (واجبلاه) ، ووضع السرير على كاهله (1) .
وسمع علي بن أبي طالب يقول يوم مات عبد الرحمن بن عوف: (اذهب ابن عوف! فقد أدركت صفوها وسبقت رنقها) (2) .
وقد دفن بالبقيع مدفن أهل المدينة ولا يزال البقيع كذلك، وصلى عليه عثمان بن عفان (3) رضي الله عنهما.
__________
(1) طبقات ابن سعد (3 \ 135) .
(2) طبقات ابن سعد (3 \ 136) .
(3) الإصابة (4 \ 177)(10/258)
2 - وصيته وتركته:
أوصى عبد الرحمن بخمسين ألف دينار في سبيل الله، وألف فرس في سبيل الله، وأوصى لمن بقي ممن شهد بدرا لكل رجل أربعمائة دينار، وكانوا مائة، فأخذوها وأخذها عثمان فيمن أخذوا، وخلف مالا عظيما- وكان عامة ماله من التجارة - من ذهب قطع بالفئوس حتى مجلت (1) منه. ترك ألف بعير وثلاثة آلاف شاة بالبقيع ومائة فرس ترعى بالبقيع. وكان يزرع ب (الجرف) (2) على عشرين ناضحا (3) ، وكان يدخل قوت أهله من ذلك كل سنة.
وقد أصاب تماضر بنت الأصبغ ربع الثمن، فأخرجت بمائة ألف، وهي إحدى أربع، وقد ترك ثلاث نسوة، فأصاب كل واحدة مما ترك ثمانون ألفا ثمانون ألفا (4) .
فإذا بلغ ربع الثمن من تركة عبد الرحمن مائة ألف درهم على أكثر تقدير وثمانين ألف درهم على أقل تقدير، فإن تركته بلغت (3200000) درهم على الأكثر أو (2560000) درهم على الأقل، وهو مبلغ جسيم وبخاصة بالنسبة لتلك الأيام الخالية، يمكن أن تكون فيه مبالغة واضحة، وبخاصة وأن عبد الرحمن كان كثير الإنفاق من
__________
(1) مجلت يده تقرحت
(2) الجرف: موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام، انظر معجم البلدان (3 \ 87)
(3) الناضح: الدابة يسقى عليها.
(4) طبقات ابن سعد (3 \ 136- 137) وانظر أسد الغابة (3 \ 317) .(10/258)
أمواله، كما سنذكر ما سجله له المؤرخون من إنفاق وشيكا.
ومهما تكن المبالغة في ضخامة تركته، فإنه كان غنيا ميسورا، ولكنه لم يقصر أبدا في دفع الزكاة والصدقة، وكان مصدر ثروته حلالا لا شك فيه.(10/259)
3 - إنفاقه:
ذكرنا نفقاته المعلنة للجهاد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أما غير المعلنة فلا يعرفها أحد من الناس.
وقد أعتق ثلاثين عبدا في يوم واحد (1) ، وقد ذكروا أنه أعتق ثلاثين ألف نسمة في حياته (2) ، ومهما قيل في المبالغة بهذا العدد، فإنه كان يعتق كثيرا.
وروت عائشة أم المؤمنين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أمركن لمما يهمني بعدي، ولن يصبر عليكن إلا الصابرون (3) » ) ، يخاطب زوجاته أمهات المؤمنين، ثم تقول عائشة لأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: (سقى الله أباك سلسبيل الجنة) ، تريد عبد الرحمن بن عوف، وكان وصل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بمال بيع بأربعين ألفا، أخرجه الترمذي، وقال: (حديث حسن صحيح (4)) .
وعزم أن يتنازل عن جميع ماله في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يضيف الضيف ويطعم المسكين، ويعطي السائل، ويبدأ بمن يعول، فإنه إذا فعل كان تزكية لماله (5) .
وقالت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأزواجه: «إن الذي يحافظ عليكن بعدي لهو الصادق البار، اللهم اسق عبد الرحمن بن عوف من سلسبيل الجنة (6) » ) (7) .
__________
(1) أسد الغابة (3 \ 314) ، وتهذيب الأسماء واللغات (1 \ 300) .
(2) الإصابة (4 \ 177) ، وحلية الأولياء (1 \ 99) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (6/77) .
(4) الرياض النضرة (2 \ 384) .
(5) طبقات ابن سعد (3 \ 132) .
(6) مسند أحمد بن حنبل (6/299) .
(7) طبقات ابن سعد (3 \ 132) .(10/259)
وقد باع أمواله من (كيدمة) (1) ، وهو سهمه من بني النضير بأربعين ألف دينار، فقسمها على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (2) ، وباع أرضا له من عثمان بأربعين ألف دينار، فقسم ذلك في فقراء بني زهرة وفي ذي الحاجة من الناس، وفي أمهات المؤمنين، فلما تسلمت عائشة نصيبها، قالت: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحنو عليكن بعدي إلا الصابرون. سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة (3) » ) (4) .
وتبرع بمائة راحلة جاءته من مصر على فقراء المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم (5) ، ثم وردت له قافلة من تجارة الشام، فحملها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة (6) .
وكان أهل المدينة عيالا على عبد الرحمن بن عوف: ثلث يقرضهم ماله، وثلث يقضي دينهم بماله، وثلث يصلهم (7) .
ودخل يوما على أم سلمة أم المؤمنين فقال: (يا أمه! قد خفت أن يهلكني كثرة مالي) ، فقالت: (يا بني أنفق) (8) ، فأطلق يده في الإنفاق كأنه لا يخشى الفقر.
وقدمت عير لعبد الرحمن بن عوف، فكان لأهل المدينة يومئذ رجة، فقالت عائشة أم المؤمنين: (ما هذا؟) قيل لها: (هذه عير عبد الرحمن بن عوف قدمت) ، فقالت عائشة: (أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كأني بعبد الرحمن بن عوف على الصراط يميل به مرة ويستقيم أخرى، حتى يفلت ولم يكد» ) ، فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف، فقال: (هي وما عليها صدقة) ، وما كان عليها أفضل منها، وهي يومئذ خمسمائة راحلة (9) .
لقد كان عظيم التجارة، مجدودا فيها، كثير المال (10) ولكن ماله كان في يده لا في قلبه،
__________
(1) كيدمة: موضع بالمدينة، وهو سهم عبد الرحمن بن عوف من بني النضير، انظر معجم البلدان (7 \ 305) .
(2) طبقات ابن سعد (3 \ 132)
(3) مسند أحمد بن حنبل (6/104) .
(4) طبقات ابن سعد (3 \ 133)
(5) حلية الأولياء (1 \ 99) .
(6) الرياض النضرة (2 \ 385) .
(7) الرياض النضرة (2 \ 385) .
(8) أسد الغابة (3 \ 315)
(9) طبقات ابن سعد (3 \ 132) ، وأسد الغابة (3 \ 315- 316) .
(10) أسد الغابة (3 \ 315) .(10/260)
لذلك لم يجمع المال بوسائل غير مشروعة، وأعطى حق المال في الزكاة والصدقات، وفي ميدان الجهاد وميدان السلام.(10/261)
4 - ورعه:
كان إنفاق عبد الرحمن فيضا متدفقا، وهو إن دل على شيء، فإنما يدل على ورعه وتقواه: وقد رآه أحد الصالحين يطوف بالبيت وهو يقول: (اللهم قني شح نفسي) (1) .
ووصفه أحد المقربين إليه فقال: (كان جليسا لنا ونعم الجليس، فانقلب بنا ذات يوم إلى منزله، فدخل فاغتسل، ثم أتانا بقصعة فيها خبز ولحم، ثم بكى، فقلنا: ما يبكيك يا أبا محمد! قال: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشبع هو وأهله من خبز الشعير، ولا أرانا أخرنا لما هو خير لنا) (2) .
وأتي بطعام وكان صائما. فقال: (قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، فكفن في بردته إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه، وقتل حمزة وهو خير مني، ثم بسط لنا ما بسط، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا) ، ثم جعل يبكي (3) .
وكان إذا أتى مكة، كره أن ينزل منزله الذي هاجر منه، وهو منزله الذي كان ينزله في الجاهلية (4) ، ولا ينزله - ورعا - بعد إسلامه.
وقد ذكر المسور بن مخرمة بن نوفل بن عبد مناف بن زهرة، وأمه أخت عبد الرحمن بن عوف. وكان يعدل بالصحابة وليس منهم (5) أن عبد الرحمن لما ولي الشورى كان أحب الناس إلى المسور أن يلي عبد الرحمن الخلافة، فإن تركها فسعد بن أبي وقاص، قال: (فلحقني عمرو بن العاص، فقال: ما ظن خالك بالله إن ولي هذا الأمر أحدا وهو يعلم أنه خير منه؟ فأتيت عبد الرحمن فذكرت له ذلك، فقال: من
__________
(1) الاستيعاب (2 \ 847) .
(2) الإصابة (4 \ 177) ، وحلية الأولياء (1 \ 99- 100) .
(3) أسد الغابة (3 \ 316) ، وحلية الأولياء (1 \ 100) ، وانظر مغازي الواقدي (1 \ 311) .
(4) طبقات ابن سعد (3 \ 131)
(5) انظر المعارف (429) .(10/261)
قال ذلك لك؟ فقلت: لا أخبرك! فقال: لئن لم تخبرني لا أكلمك أبدا. فقلت عمرو بن العاص. فقال: فوالله لأن تؤخذ مدية فتوضع في حلقي، ثم ينفذ بها إلى الجانب أحب إلي من ذلك) (1) ، وما كان خوفه من تولي السلطة إلا ورعا.
وكان يصلي قبل الظهر صلاة طويلة، فإذا سمع الأذان شد عليه ثيابه وخرج (2) إلى المسجد للصلاة.
وكان عبد الرحمن أحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وأحد الستة الذين جعل عمر الشورى فيهم، وأخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنهم راض (3) .
وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه في سفره (4) ، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عبد الرحمن بن عوف سيد من سادات المسلمين» ) ، وروي عنه عليه السلام أنه قال: «عبد الرحمن بن عوف أمين في السماء وأمين في الأرض» ) (5) .
وكان أمين النبي على نسائه (6) ، فكان يخرج بهن، ويحج معهن، ويجعل على هوادجهن الطيالسة، وينزل بهن في الشعب الذي ليس له منفذ (7) ، وقد كان مع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ومع عثمان بن عفان (8) ، وكانت سنة عشر الهجرية (9) .
ولما استخلف عمر بن الخطاب سنة ثلاث عشرة بعث تلك السنة على الحج عبد الرحمن بن عوف، فحج بالناس، وحج مع عمر أيضا آخر حجة حجها عمر سنة ثلاث وعشرين، وأذن عمر تلك السنة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الحج، فحملن في الهوادج، وبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، فكان عثمان يسير على راحلته
__________
(1) طبقات ابن سعد (3 \ 133- 134)
(2) الإصابة (4 \ 177) .
(3) الاستيعاب (2 \ 846) .
(4) الاستيعاب (2 \ 846) ، وانظر الرياض النضرة (2 \ 377- 378)
(5) الاستيعاب (2 \ 846) ، وانظر الرياض النضرة (2 \ 378) .
(6) الرياض النضرة (2 \ 378) .
(7) الإصابة (4 \ 177) .
(8) مغازي الواقدي (3 \ 1091) .
(9) العبر (1 \ 12) ، وتاريخ خليفة بن خياط (1 \ 58) .(10/262)
أمامهن فلا يدع أحدا يدنو منهن، وينزلن مع عمر كل منزل، فكان عثمان وعبد الرحمن ينزلان بهن في الشعاب، فيقبلانهن الشعاب، وينزلان هما في أذل الشعب، فلا يتركان أحدا يمر عليهن (1) .
ويبدو أن عبد الرحمن كان كثير الحج، فقد حج سنة تسع الهجرية في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وكان على الحج أبو بكر الصديق (2) رضي الله عنه، وحج مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع سنة عشر الهجرية كما ذكرنا.
وحج سنة إحدى عشرة الهجرية بالناس، وقيل: حج بالناس عتاب بن أسيد، ومهما يكن من أمر فإذا كان أمير الحج أو لم يكن، فقد شهد موسم الحج هذه السنة، وكان ذلك على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وفي سنة اثنتي عشرة الهجرية، حج بالناس أبو بكر الصديق واستخلف على المدينة عثمان بن عفان، وقيل: حج بالناس عمر بن الخطاب أو عبد الرحمن بن عوف، فهو قد شهد الموسم أميرا أو مأمورا على كل حال.
ولما استخلف عمر بن الخطاب سنة ثلاث عشرة الهجرية، بعث تلك السنة على الحج عبد الرحمن بن عوف، فحج بالناس (3) .
وفي سنة أربع عشرة الهجرية حج عبد الرحمن بن عوف بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم (4) .
وأقام الحج سنة أربع عشرة الهجرية إلى سنة ثلاث وعشرين الهجرية عمر بن الخطاب (5) في أيام خلافته، وكان يعتبر موسم الحج مؤتمرا إسلاميا عاما لمحاسبة الولاة والأمراء، والاتصال المباشر بالرعية القادمين من أقطار الإسلام البعيدة والقريبة.
__________
(1) طبقات ابن سعد (3 \ 134) ، وانظر أنساب الأشراف (1 \ 465- 466) .
(2) مغازي الواقدي (3 \ 1077)
(3) طبقات ابن سعد (3 \ 134) وتاريخ خليفة بن خياط (1 \ 88) و (1 \ 49) .
(4) تاريخ خليفة بن خياط (1 \ 98) .
(5) تاريخ خليفة بن خياط (1 \ 99)(10/263)
ولما استخلف عثمان بن عفان سنة أربع وعشرين بعث تلك السنة على الحج عبد الرحمن بن عوف، فحج بالناس (1) .
وكان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية (2) ، وهو دليل على استعداده الطبيعي للخير قبل الإسلام.
وولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقات بني كلب؛ لأنه لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم أحد منهم (3) ، وكان عليه الصلاة والسلام يفضل أن يولي أحد المسلمين من القبيلة صدقاتها، فهو أعرف بها من غيره، ومن الواضح أنه لا يمكن تولية مثل هذا المركز غير المسلم الصادق الأمين النزيه، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يثق بإيمان عبد الرحمن، ويوكله إلى إيمانه (4) .
لقد كان عبد الرحمن من حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) ، فلا عجب أن يكون على جانب عظيم من الورع والتقوى، وقد دخل الفضل بن العباس وأسامة بن زيد، فتكلم بعضهم، فدخل عبد الرحمن بن عوف أي أنهم دخلوا قبر النبي صلى الله عليه وسلم عند دفنه.
لقد كان بحق تعاليم الإسلام مجسدة في إنسان يمشي على الأرض ويأكل الطعام ويمشي في الأسواق بشرا سويا، فانتقل ورعه إلى غيره من المسلمين بالمثال الشخصي والقدوة الحسنة، فكان خير مثال وخير قدوة لا للذين عايشوه فحسب، بل لأجيال المسلمين كافة.
__________
(1) طبقات ابن سعد (3 \ 134) ، وتاريخ خليفة بن خياط (1 \ 132) وانظر ابن الأثير (3 \ 80) .
(2) تهذيب التهذيب (6 \ 246) ، والإصابة (4 \ 177) .
(3) أنساب الأشراف (1 \ 530- 531) .
(4) الرياض النضرة (2 \ 380 - 381) .
(5) المحبر (474- 475) .(10/264)
5 - علمه:
في حجة الوداع، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب: «إنك رجل قوي، إن وجدت(10/264)
الركن خاليا فاستلمه، وإلا فلا تزاحم الناس عليه فتؤذي وتؤذى» ) ، وقال لعبد الرحمن بن عوف: «وكيف صنعت بالركن يا أبا محمد؟) ، قال: (استلمت وتركت) ، قال: (أصبت (1) » ) .
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن: «كيف فعلت يا أبا محمد في استلام الحجر) ، فقال: (كل ذلك فعلت: استلمت وتركت) ، فقال: (أصبت (2) » ) (3) ، مما يدل على أنه يجتهد فيما ليس فيه نص من أمور الدين.
وأقبل رجل من المسلمين كان في المدينة، فلقي المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عبد الرحمن بن عوف الذي أخبر أنه في (الجرف) في أرضه، فسار حتى إذا جاء عبد الرحمن وجده يحول الماء بمسحاة في يده، وقد وضع رداءه، وهو يعمل في مزرعته. فلما رآه عبد الرحمن استحى فألقى المسحاة وأخذ رداءه، فوقف عليه الرجل وسلم، ثم قال: (جئتك لأمر ثم رأيت أعجب منه: هل جاءكم إلا ما جاءنا، وهل علمتم إلا ما علمنا؟) ، قال عبد الرحمن: (ما جاءنا إلا ما جاءكم، وما علمنا إلا ما علمتم) ، فقال الرجل: (فما لنا نزهد في الدنيا وترغبون فيها، ونخف في الجهاد وتتثاقلون عنه، وأنتم خيارنا وسلفنا وأصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم؟) ، فقال له عبد الرحمن: (إنه لم يأتنا إلا ما جاءكم، ولم نعلم إلا ما قد علمتم، ولكننا ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر) (4) ، وهذا يدل على فهم عبد الرحمن للإسلام فهما أصيلا واقعيا، فهو دين للدنيا والآخرة، فلا بد للمرء أن يعمل لدنياه كما يعمل لآخرته ضمن الحدود المشروعة التي نص عليها الدين الحنيف.
لذلك كان عبد الرحمن ممن يفتي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رأينا كيف رجع عمر بن الخطاب من سرغ إلى المدينة، استنادا إلى حديث رواه عبد الرحمن عن
__________
(1) موطأ مالك الحج (822) .
(2) موطأ مالك الحج (822) .
(3) مغازي الواقدي (3 \ 1098)
(4) طبقات ابن سعد (3 \ 125) .(10/265)
النبي صلى الله عليه وسلم (1) ، ورجوع عمر إلى رأي عبد الرحمن في جلد شارب الخمر (2) ، وقد «رخص النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن في لبس الحرير (3) » من شرى كان به أو من حكة كان يجدها بجلده أو لأنه شكى إليه القمل (4) ، فكانت رخصته للمسلمين الذين يعانون ما كان يعاني، وهي رخصة بسبب عبد الرحمن والزبير بن العوام أيضا (5) .
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وستون حديثا، اتفق البخاري ومسلم على حديثين، وانفرد البخاري بخمسة أحاديث روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر بن الخطاب، وروى عنه أولاده: إبراهيم وحميد وعمر ومصعب وأبو سلمة وابن ابنه المسور بن إبراهيم، وابن أخته المسور بن مخرمة، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وجبير بن مطعم، وأنس، ومالك بن أوس بن الحدثان، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، ومجالد بن عبدة، وآخرون. روى عنه عمر فقال: (فيه العدل والرضى) .
ومن الأحاديث التي رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم: «فضل العالم على العابد سبعين درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض (6) » .
لقد كان عبد الرحمن فقيها في الدين من أصحاب الفتيا محدثا، فكان عالما بأمور الدين، عالما بأمور الدنيا، لرأيه وزن ثقيل لدى الخليفة والمسلمين، فهو جائز الشهادة له وعليه. (7)
__________
(1) انظر الرياض النضرة (2 \ 382) .
(2) الرياض النضرة (2 \ 382)
(3) صحيح البخاري اللباس (5839) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2076) ، سنن الترمذي اللباس (1722) ، سنن النسائي الزينة (5310) ، سنن أبو داود اللباس (4056) ، سنن ابن ماجه اللباس (3592) ، مسند أحمد بن حنبل (3/122) .
(4) طبقات ابن سعد (3 \ 130- 131)
(5) الرياض النضرة (2 \ 364- 365) و (2 \ 382) ، وطبقات ابن سعد (3 \ 131) .
(6) أسد الغابة (3 \ 315) ، رواه أبو يعلى في مسنده عن عبد الرحمن بن عوف، انظر مختصر الجامع الصغير (2 \ 124) .
(7) الرياض النضرة (2 \ 382) .(10/266)
6 - صفته:
كان عبد الرحمن رجلا طويلا، حسن الوجه، رقيق البشرة، أبيض اللون، مشربا بحمرة، لا يغير لحيته ولا رأسه، ضخم الكفين (1) ، غليظ الأصابع، أقنى (2) ، جعدا (3) ، له جمة (4) من أسفل أذنيه، أعنق (5) ، ساقط الثنيتين، أعرج، أصيب يوم أحد فهتم، وجرح عشرين جراحة أو أكثر أصاب بعضها رجله فعرج، أعين، أهدب الأشفار، طويل النابين الأعليين، ربما أدمى شفتيه (6) .
لقد كان لطيف المنظر كما كان لطيف المخبر، يدل مظهره على الرجولة والنبل، وكانت مناقبه كثيرة (7)
__________
(1) ضخم الكفين: عظيمهما
(2) القنا: احديداب في الأنف، يقال رجل أقنى الأنف، وامرأة قنواء بينة القنا
(3) جعد الشعر: ضد السبط
(4) الجمة من الإنسان: مجتمع شعر ناصيته، وما ترامى من شعر الرأس على المنكبين
(5) أعنق: طويل العنق، والمرأة بينة العنق
(6) الاستيعاب (2 \ 847) .
(7) نسب قريش (265) .(10/267)
7 - أهله:
كان لعبد الرحمن من الولد: سالم الأكبر، مات قبل الإسلام، وأمه أم كلثوم بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس.
وأم القاسم، ولدت أيضا في الجاهلية، وأمها بنت شيبة بن ربيعة بن عبد شمس.
ومحمد، وبه كان يكنى، وإبراهيم وحميد وإسماعيل وحميدة وأمة الرحمن، وأمهم أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس.
ومعن، وعمر، وزيد، وأمة الرحمن الصغرى، وأمهم سهلة بنت عاصم بن عدي بن الجد بن العجلان من بلي من قضاعة، وهم من الأنصار.(10/267)
وعروة الأكبر، قتل يوم إفريقية، وأمه بحرية بنت هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود بن أبي ربيعة من بني شيبان.
وسالم الأصغر، قتل يوم فتح إفريقية، وأمه سهلة بنت سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي.
وأبو بكر، وأمه أم حكيم بنت قارظ بن خالد بن عبيد بن سويد حليفهم من بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة.
عبد الله بن عبد الرحمن، قتل بأفريقية يوم فتحت، وأمه ابنة أبي الحيس بن رافع ابن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل من الأوس الأنصار.
وأبو سلمة، وهو عبد الله الأصغر، وأمه تماضر بنت الأصبغ بن عمرو بن ثعلبة بن حصن بن ضمضم بن عدي بن جناب من كلب، وهي أول كلبية نكحها قرشي.
وعبد الرحمن بن عبد الرحمن، وأمه أسماء بنت سلامة بن مخرمة بن جندل بن نهشل بن دارم.
ومصعب وآمنة، ومريم، وأمهم أم حريث من سبي بهراء. وسهيل، وهو أبو الأبيض، وأمه مجد بنت يزيد بن سلامة ذي فائش الحميرية. وعثمان، وأمه غزال بنت كسرى أم ولد من سبي سعد بن أبي وقاص يوم المدائن، وعروة، ويحيى وبلال، لأمهات أولاد.
وأم يحيى بنت عبد الرحمن، وأمها زينب بنت الصباح بن ثعلبة بن عوف بن شبيب ابن مازن من سبي بهراء أيضا.
وجويرة بنت عبد الرحمن، وأمها بادية بنت غيلان بن سلمة بن معتب الثقفي (1) ، وهي زوج المسور بن مخرمة (2) ابن أخت عبد الرحمن بن عوف (3) .
__________
(1) طبقات ابن سعد (3 \ 127- 128) ، والاستيعاب (2 \ 845- 846) ، والرياض النضرة (2 \ 289- 290) .
(2) الاستيعاب (2 \ 846)
(3) المعارف (429) .(10/268)
فكان لعبد الرحمن من الذكور ثمانية وعشرون ذكرا، ومن الإناث ثماني بنات (1) .
ومات عبد الرحمن وترك ثلاث نسوة، فأصاب كل واحدة مما ترك ثمانون ألفا، ثمانون ألفا (2) أما الرابعة وهي تماضر بنت الأصبغ، فقد طلقها في مرض موته (3) ، فصولحت بثمانين ألفا في رواية، وبمائة ألف في رواية أخرى (4) .
وكان عبد الرحمن سالف رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل سودة بنت زمعة؛ إذ كانت عنده أم حبيبة بنت زمعة أخت سودة. وسالفه أيضا مرة أخرى من قبل زينب بنت جحش، إذ كانت عنده أم حبيبة بنت جحش لم تلد (5) ، فسالفه عبد الرحمن مرتين (6) وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط زوج عبد الرحمن من المبايعات رسول الله صلى الله عليه وسلم، بايعت في مكة قبل الهجرة، ثم هاجرت إلى المدينة وحدها في الهدنة، فتزوجها الزبير بن العوام، فطلقها، ثم تزوجها بعده عبد الرحمن، فولدت له إبراهيم وحميدا، ثم مات عنها (7) .
وفي رواية أن أم كلثوم هذه تزوجت زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عبد الرحمن بن عوف، ثم الزبير بن العوام، ثم عمرو بن العاص (8) ، وهذا هو الأصح.
وخلف على أم حكيم بنت خالد بن قارظ بعد عبد الرحمن: عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، ثم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه (9) .
وأصهار عبد الرحمن على بناته معروفون أيضا (10) .
__________
(1) الرياض النضرة (2 \ 389) .
(2) طبقات ابن سعد (3 \ 137)
(3) الرياض النضرة (2 \ 389)
(4) طبقات ابن سعد (3 \ 136) .
(5) المحبر (101)
(6) المحبر (110) .
(7) المحبر (407- 408) .
(8) المحبر (4406)
(9) المحبر (453) .
(10) المحبر (67-68) .(10/269)
ب - أما محمد بن عبد الرحمن، فكان شديد الغيرة، وولد عبد الواحد، وله عقب (1) .
وأما إبراهيم بن عبد الرحمن، فكان سيد القوم، وكان قصيرا، وتزوج سكينة بنت الحسين، فلم يرض بذلك بنو هاشم، فخلعت منه، وكان يكنى: أبا إسحاق، ومات سنة ست وتسعين الهجرية، وهو ابن خمس وسبعين سنة.
وأما حميد بن عبد الرحمن، فكان له مال وجاه، وحمل عنه الحديث، وكان يكنى: أبا عبد الرحمن.
وأما أبو سلمة بن عبد الرحمن، فكان فقيها، يحمل عنه الحديث، ومات أبو سلمة سنة أربع وتسعين الهجرية وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، ويقال: إنه مات سنة أربع ومائة الهجرية.
وأما مصعب بن عبد الرحمن، فكان شجاعا. قال عبد الملك بن مروان لرجل من أهل الشام: (أي فارس لقيته قط أشد؟) ، قال: (مصعب) .
وقتل مصعب مع عبد الله بن الزبير، وكان قبل ذلك مع مروان بن الحكم على شرطته في المدينة، وفيه يقول ابن قيس الرقيات:
حال دون الهوى ودو ... ن سرى الليل مصعب
وسياط على أك ... ف رجال تقلب
وقال الواقدي: (قتل مصعب بن عبد الرحمن من أصحاب الحصين بن نمير بيده خمسة، ثم رجع وسيفه منحن وهو يقول:
إنا لنوردها بيضا ونصدرها ... حمرا وفيها انحناء بعد تقويم
) وكان الواقدي يذكر أنه توفي ولم يقتل.
وأما سهيل بن عبد الرحمن، فكان تزوج الثريا امرأة من بني أمية الصغرى، وهي
__________
(1) انظر التفاصيل في المعارف (240 -237) ونسب قريش (270 - 266) .(10/270)
التي يشبب بها عمر بن أبي ربيعة فقال:
أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يماني
ولسهيل عقب في المدينة.
وأما عمر بن عبد الرحمن فكان من جلداء قريش، وهو أحد من عمل في أمر الحجاج بن يوسف، حتى عزله عبد الملك عن المدينة.
وأما زيد بن عبد الرحمن، فلا عقب له.
وأما المسور بن عبد الرحمن، فقتل يوم الحرة.
وأما عثمان بن عبد الرحمن، فله عقب في البصرة.
ج - وإخوة عبد الرحمن بن عوف: الأسود بن عوف، هاجر قبل الفتح، وأمهما: الشفاء بنت عوف بن الحارث بن زهرة، وقد هاجرت.
وعبد الله بن عوف، لم يهاجر ولم يدخل المدينة، وعاش في الجاهلية ستين سنة وفي الإسلام ستين سنة، وأوصى ابن الزبير، وأمه: زينب ابنة مقيس بن قيس بن عدي بن سهم (1) ، وكان من سروات قريش، وابنه طلحة بن عبد الله بن عوف، وله عقب في المدينة (2) .
هذا ما سجله المؤرخون عن عائلة عبد الرحمن بن عوف، وكما بارك الله له في المال والتجارة، بارك له في الولد ذكورا وإناثا.
ولكن لم يكن أحد من أولاده مثله في فضائله وسجاياه، ولم يستطع أحدهم أن يملأ الفراغ الذي خلفه بموته، فقد كان رجلا في أمة، وأمة في رجل، وكان نسيج وحده.
__________
(1) نسب قريش (265- 266)
(2) المعارف (235) .(10/271)
8 - جمل مزاياه:
لقد كان عبد الرحمن مثال المسلم الحق في فهمه للإسلام، فقد كان لا يعرف من بين(10/271)
عبيده (1) في أوقات الجد والعمل والعبادة، يعمل كما يعملون في أكثر جدية منهم، ويتعبد كما يتعبدون في أكثر ورعا وإيمانا منهم، ولكنه كان في أوقات الراحة وبين أهله وفي المناسبات يلبس البرد أو الحلة تساوي خمسمائة درهم أو أربعمائة درهم (2) ، وهو يومئذ مبلغ ضخم، فقد كانت الشاة بنصف درهم.
وقد ارتحل عن هذه الحياة قبل الفتنة، فغبطه على رحيله علي بن أبي طالب الذي قال يوم مات عبد الرحمن: (اذهب ابن عوف! فقد أدركت صفوها، وسبقت رنقها) (3) ، كما غبطه عمرو بن العاص الذي سمع يوم مات عبد الرحمن يقول: (أذهب عنك ابن عوف، فقد ذهبت ببطنتك ما تغضغض منها من شيء) (4) ، فعصمه الله من الفتنة ومن معاناتها.
لقد كان أمينا نزيها، ما له ليس ماله، بل يبذل للفقراء والمساكين ما وسعه البذل، عالما في أمور الدين عالما في أمور الدنيا. ورعا أشد الورع، تقيا أعظم التقوى، متواضعا غاية التواضع، عاقلا متزنا حصيفا، عفيفا يعتمد على عمله، ويده دائما هي العليا، ناسكا في الليل بزازا (5) في النهار، يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا، ويعمل لأخراه كأنه يموت غدا.
إنه مثال للمسلم الحق قي مزاياه، ولمزايا الإسلام في تطبيقها العملي: دنيا وآخرة، مادة وروح، عمل ومسجد، وليس دنيا وحدها ولا آخرة وحدها، ولا مادة بلا روح، ولا روحا بلا مادة، ولا عملا بلا مسجد، ولا مسجدا بلا عمل، وتلك هي مزايا الإسلام الخالدة، التي جعلته يصلح لكل زمان ومكان.
__________
(1) الرياض النضرة (2 \ 383)
(2) طبقات ابن سعد (3 \ 131)
(3) الرنق: تراب في الماء من القذى ونحوه، والماء الكدر.
(4) طبقات ابن سعد (3 \ 135-136)
(5) المعارف (575)(10/272)
القائد:
أثبت عبد الرحمن بن عوف كفاية قتالية متميزة في كل غزوة خاضها تحت لواء(10/272)
الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام، فأسر في بعض تلك الغزوات أسرى من المشركين، وقتل منهم قتلى، وباشر القتال في الصفوف الأمامية، وثبت مع عدد قليل من المسلمين ثبتوا إلى جانب الرسول صلى الله عليه وسلم واستقتل في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى أصيب بأكثر من عشرين جرحا، أحدها في ثنيتيه فهتم، وفي رجله فعرج كل حياته، فكان أعرج بعد إصابته برجله يوم أحد شاهدا على ثباته العنيد ووساما على شجاعته وبطولته.
لقد أبلى بلاء حسنا في كل غزوة خاضها، وبخاصة غزوة أحد، وأبدى شجاعة نادرة في تلك الغزوة وفي غيرها من الغزوات، حتى أصبح معدودا من شجعان المسلمين المعدودين الذين يشار إليهم بالبنان، ويرشحون لقيادة السرايا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقيادة الجيوش بعد انتقاله عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى.
ولم يكن مجاهدا من الطراز الأول بنفسه فحسب، بل كان مجاهدا من الطراز الأول بماله أيضا، وقد ذكرنا جهاده بالمال نقدا وإبلا وخيولا، حتى نزلت فيه وفي عثمان بن عفان آية من آيات الذكر الحكيم كما ذكرنا ذلك في جهاده بالمال أيضا.
لقد كان ذكيا ألمعي الذكاء، آلفا مألوفا، يحب رجاله ويحبونه، ويثق بهم ويثقون به، ذا شخصية قوية متزنة، ملتزما بتعاليم الدين الحنيف في الحرب العادلة، فلا يغدر ولا يغل ولا ينقض عهدا ولا يقتل وليدا ولا امرأة ولا يعتدي على أحد، فكان يجاهد لإعلاء كلمة الله ولتكون كلمة الله هي العليا ولحماية الإسلام والمسلمين والدفاع عنهم وحماية حرية نشر العقيدة.
وكان ذا إرادة قوية ثابتة، يتحمل المسئولية ولا يلقيها على عواتق الآخرين أو يتهرب منها، له نفسية لا تتبدل في حالتي النصر والهزيمة، عارفا بنفسيات رجاله وطاقاتهم وقدراتهم وكفاياتهم، له ماض ناصع مجيد.
وكان عارفا بمبادئ الحرب، مطبقا لها: يختار مقصده اختيارا دقيقا، وكان قائدا تعرضيا، يطبق مبدأ المباغتة على خصمه، ويحرمه من تطبيق هذا المبدأ على رجاله، يحشد(10/273)
قوته قبل المعركة، ويقتصد بالمجهود ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ويحرص على أمن رجاله حرصا بغير حدود، خططه مرنة، يتعاون تعاونا وثيقا مع القيادة من جهة ومع رجاله من جهة أخرى، ويديم معنويات قواته، ويؤمن لها أمورها الإدارية.
يتحلى بالطاعة والضبط المتين، ولا يخالف الأوامر التي تصدر إليه، ولا يحب الفتنة ولا يحب أهلها ولا يسعى إليها بسيفه أو يده أو لسانه أو بها جميعا، فمصلحة المسلمين ووحدة كلمتهم وصفوفهم هي هدفه الأعلى الذي يسعى إلى تحقيقه بكل ما يستطيع من قوة وتصميم وعزم.
ولم يكن يحب الإمارة ولا يسعى إليها، ولكنه لا يمتنع عن توليها باعتبارها تكليفا لا تشريفا.
لقد كان من أولئك القادة الذين يعملون لعقيدتهم ولإخوانهم في العقيدة، ولا يعملون لأنفسهم ولذوي قرباهم، فمصلحته الخاصة لا شيء بالنسبة للمصلحة العامة للإسلام والمسلمين، وماله وروحه في خدمة الإسلام والمسلمين.
ولولا الإسلام لم يكن عبد الرحمن شيئا مذكورا، لذلك وهب كل شيء يملكه ويقدر عليه للإسلام.(10/274)
عبد الرحمن في التاريخ:
يذكر التاريخ لعبد الرحمن أنه كان أحد الثمانية الذين سبقوا للإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق.
ويذكر له، أنه كان من المهاجرين الأولين إلى الحبشة وإلى المدينة المنورة.
ويذكر له، أنه أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين جعل عمر بن الخطاب الخلافة فيهم، وأخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنهم راض.
ويذكر له أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلفه في غزوة تبوك.
ويذكر له أنه من القلائل الذين ثبتوا يوم أحد دفاعا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن(10/274)
الإسلام.
ويذكر له، أنه قاد سرية من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني كلب في دومة الجندل، فنجح في مهمته أعظم نجاح.
ويذكر له أنه أخرج نفسه من الخلافة، واختار للمسلمين خليفتهم الجديد.
ويذكر له أنه جاهد بماله جهادا كبيرا، كما جاهد بنفسه في سبيل الله.
رضي الله عن الصحابي الجليل، القائد الشجاع، المحدث الفقيه، التقي النقي، الغني المنفق، عبد الرحمن بن عوف الزهري.
محمود شيت خطاب(10/275)
صفحة فارغة(10/276)
مقالات
إسلامية(10/277)
صفحة فارغة(10/278)
تنبيهات هامة على ما كتبه
الشيخ محمد علي الصابوني
في صفات الله عز وجل.
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فقد اطلعت على المقابلة التي أجرتها مجلة المجتمع مع فضيلة الشيخ محمد علي الصابوني، ونشرت في العدد رقم 613 وتاريخ 7 \ 6 \ 1403هـ، وعلى مقالاته الست المنشورة في أعداد المجتمع، رقم 627 وتاريخ 17 \ 9 \ 1403هـ، ورقم 628 وتاريخ 24 \ 9 \ 1403هـ، ورقم 629 وتاريخ 9 \ 10 \ 1403هـ، ورقم 630 وتاريخ 16 \ 10 \ 1403هـ، ورقم 631 وتاريخ 23 \ 10 \ 1403 هـ، ورقم 646 وتاريخ 17 \ 2 \ 1404هـ، وقد اشتملت على أخطاء نبه على بعضها صاحب الفضيلة الدكتور صالح بن فوزان الفوزان في مقاله المنشور بمجلة الدعوة في عددها رقم 904 وتاريخ 29 \ 10 \ 1403هـ، وفي مجلة المجتمع بعددها رقم 646 وتاريخ 17 \ 2 \ 1404هـ، و650 في 24 \ 2 \ 1404هـ، وقد أجاد وأفاد وأحسن، جزاه الله خيرا، ونصر به الحق، وقد رأيت التنبيه على ما وقع فيها من أخطاء تأكيدا لما ذكره الدكتور صالح، ومشاركة في الخير ونشر الحق واستدراكا لأخطاء لم يتعرض لها فضيلة الدكتور صالح في مقاليه المشار إليهما، والله الموفق فأقول:(10/279)
1 - قوله عن تقليد الأئمة الأربعة: (أنه من أوجب الواجبات) لا شك أن هذا الإطلاق خطأ؛ إذ لا يجب تقليد أحد من الأئمة الأربعة، ولا غيرهم مهما كان علمه؛ لأن الحق في اتباع الكتاب والسنة، لا في تقليد أحد من الناس، وإنما قصارى الأمر أن يكون التقليد سائغا -عند الضرورة- لمن عرف بالعلم والفضل واستقامة العقيدة كما فصل ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين، ولذلك كان الأئمة رحمهم الله لا يرضون أن يؤخذ من كلامهم إلا ما كان موافقا للكتاب والسنة، قال الإمام مالك رحمه الله: [كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر] يشير إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا قال إخوانه من الأئمة هذا المعنى.
فالذي يتمكن من الأخذ بالكتاب والسنة يتعين عليه ألا يقلد أحدا من الناس، ويأخذ عند الخلاف بما هو أقرب الأقوال لإصابة الحق، والذي لا يستطيع ذلك فالمشروع له أن يسأل أهل العلم، كما قال الله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (1) .
2 - قال: (إذا كان ابن تيمية رحمه الله مع درجة علمه لم يصل إلى مرتبة الاجتهاد، وإنما مذهبه حنبلي يتقيد به في كثير من الأحيان) وهذا القول فيه نظر بل هو خطأ ظاهر، فإن شيخ الإسلام رحمه الله من أعلم المجتهدين، وقد توافرت فيه شروط الاجتهاد، وانتسابه إلى المذهب الحنبلي لا يخرجه عن ذلك؛ لأن المقصود من ذلك موافقته لأحمد في أصول مذهبه وقواعده، وليس المقصود من ذلك أنه يقلده فيما قاله بغير حجة، وإنما كان يختار من الأقوال أقربها إلى الدليل حسبما يظهر له رحمه الله.
3 - ذكر أن الخلافات في العقيدة ضيقة وقال: (الذين يقولون بضلال مذهب الأشاعرة نقول لهم: ارجعوا إلى فتاوى ابن تيمية واقرءوا ماذا كتب ابن تيمية عن أبي الحسن الأشعري حتى نفهم أن هؤلاء جهلة) . اه.
والجواب أن يقال: لا شك أنه ضل بسبب الخلاف في العقيدة فرق كثيرة كالمعتزلة والجهمية والرافضة والقدرية وغيرهم، وأيضا الأشاعرة ضلوا فيما خالفوا فيه الكتاب والسنة، وما عليه خيار هذه الأمة من أئمة الهدى كالصحابة رضي الله عنهم، والتابعين
__________
(1) سورة النحل الآية 43(10/280)
لهم بإحسان، والأئمة المهتدين فيما تأولوه من أسماء الله وصفاته على غير تأويله، وأبو الحسن الأشعري رحمه الله ليس من الأشاعرة وإن انتسبوا إليه؛ لكونه رجع عن مذهبهم، واعتنق مذهب أهل السنة، فمدح الأئمة له ليس مدحا لمذهب الأشاعرة.
ولا يصح أن يرمى من اعترض على الأشاعرة فيما خالفوا فيه عقيدة أهل السنة بالجهل؛ لأن حقيقة الجهل هو القول على الله بغير علم، أما من أخذ بالكتاب والسنة وقواعد الشرع المعتبرة وسار على طريق سلف الأمة وأنكر على من تأول أسماء الله وصفاته أو شيئا منها على غير تأويلها، فإنه لا يرمى بالجهل.(10/281)
4 - قال (إنما القوامة للرجل قوامة تكليف وليست قوامة تشريف) .
والجواب أن يقال: هذا خطأ، والصواب أن يقال: إن قوامة الرجال على النساء قوامة تكليف وتشريف؛ لقول الله عز وجل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا} (1) الآية. فأوضح سبحانه أنه جعل الرجال قوامين على النساء لأمرين: أحدهما فضل جنس الرجال على جنس النساء، والأمر الثاني: قيام الرجال بالإنفاق على النساء بما يدفعونه من المهور وغيرها من النفقات.
__________
(1) سورة النساء الآية 34(10/281)
5 - قال في مقاله الأول بعد المقدمة ما نصه: (ولا يجوز أن نجعلهم - يعني بذلك الأشاعرة والماتوريدية - في صف الروافض والمعتزلة والخوارج الذين انحرفوا عن أهل السنة والجماعة، غاية ما في الأمر أن نقول: إنهم مخطئون في التأويل؛ ذلك لأن الأسلم أن نفوض الأمر في موضوع الصفات إلى علام الغيوب الذي لا تخفى عليه خافية) اه.
والجواب أن يقال: الفرق المخالفة لأهل السنة متفاوتون في أخطائهم، فليس الأشاعرة في خطئهم كالخوارج والمعتزلة والجهمية بلا شك، ولكن ذلك لا يمنع من بيان خطأ الأشاعرة فيما أخطأوا فيه ومخالفتهم لأهل السنة في ذلك، كما قد بين خطأ غيرهم لإظهار الحق وبيان بطلان ما يخالفه، تبليغا عن الله سبحانه وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وحذرا من الوعيد المذكور في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (1) {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2)
__________
(1) سورة البقرة الآية 159
(2) سورة البقرة الآية 160(10/281)
ثم يقال: ليس الأسلم تفويض الأمر في الصفات إلى علام الغيوب؛ لأنه سبحانه بينها لعباده وأوضحها في كتابه الكريم، وعلى لسان رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم ولم يبين كيفيتها، فالواجب تفويض علم الكيفية لا علم المعاني، وليس التفويض مذهب السلف، بل هو مذهب مبتدع مخالف لما عليه السلف الصالح. وقد أنكر الإمام أحمد رحمه الله وغيره من أئمة السلف على أهل التفويض وبدعهم؛ لأن مقتضى مذهبهم أن الله سبحانه خاطب عباده بما لا يفهمون معناه ولا يعقلون مراده منه، والله سبحانه وتعالى يتقدس عن ذلك، وأهل السنة والجماعة يعرفون مراده سبحانه بكلامه ويصفونه بمقتضى أسمائه وصفاته وينزهونه عن كل ما لا يليق به عز وجل. وقد علموا من كلامه سبحانه ومن كلام رسوله صلى الله عليه وسلم أنه سبحانه موصوف بالكمال المطلق في جميع ما أخبر به عن نفسه، أو أخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنا أذكر بعض النقول المهمة عن السلف الصالح في هذا الباب ليتضح للقارئ صحة ما ذكرنا:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة الفتوى الحموية ما نصه (روى أبو بكر البيهقي في الأسماء والصفات بإسناد صحيح عن الأوزاعي قال: كنا - والتابعون متوافرون - نقول: إن الله - تعالى ذكره - فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من الصفات. فقد حكى الأوزاعي وهو أحد الأئمة الأربعة في عصر تابعي التابعين الذين هم: مالك إمام أهل الحجاز، والأوزاعي إمام أهل الشام، والليث إمام أهل مصر، والثوري إمام أهل العراق، - حكى شهرة القول في زمن التابعين بالإيمان بأن الله تعالى فوق العرش وبصفاته السمعية.
وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور مذهب جهم المنكر لكون الله فوق عرشه والنافي لصفاته ليعرف الناس أن مذهب السلف كان يخالف هذا.
وروى أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن الأوزاعي قال: سئل مكحول والزهري عن تفسير الأحاديث فقالا: أمروها كما جاءت، وروى أيضا عن الوليد بن مسلم قال: سألت مالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي عن الأخبار التي جاءت في الصفات فقالوا: أمروها كما جاءت. وفي رواية قالوا: أمروها كما جاءت بلا(10/282)
كيف. وقولهم رضي الله عنهم: أمروها كما جاءت رد على المعطلة، وقولهم: بلا كيف رد على الممثلة.
والزهري ومكحول هما أعلم التابعين في زمانهم والأربعة الباقون أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين، ومن طبقاتهم حماد بن زيد وحماد بن سلمة وأمثالهما.
وروى أبو القاسم الأزجي بإسناده عن مطرف بن عبد الله قال: سمعت مالك بن أنس إذا ذكر عنده من يدفع أحاديث الصفات يقول: قال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سننا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله ليس لأحد من خلق الله تغييرها ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا.
وروى الخلال بإسناد كلهم أئمة ثقات عن سفيان بن عيينة قال سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله: {الرحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ. وهذا الكلام مروي عن مالك بن أنس تلميذ ربيعة بن أبي عبد الرحمن من غير وجه.
(ومنها) ما رواه أبو الشيخ الأصبهاني وأبو بكر البيهقي عن يحيى بن يحيى قال: كنا عند مالك بن أنس، فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء ثم قال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا مبتدعا. فأمر به أن يخرج.
فقول ربيعة ومالك: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب موافق لقول الباقين: أمروها كما جاءت بلا كيف. فإنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ولما قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوما بل يكون مجهولا بمنزلة حروف المعجم، وأيضا فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية
__________
(1) سورة طه الآية 5
(2) سورة طه الآية 5(10/283)
إذا لم يفهم عن اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات.
وأيضا فإن من ينفي الصفات الجزئية أو الصفات مطلقا لا يحتاج إلى أن يقول: بلا كيف، فمن قال: إن الله ليس على العرش لا يحتاج أن يقول: بلا كيف، فلو كان مذهب السلف نفي للصفات في نفس الأمر لما قالوا: بلا كيف، وأيضا فقولهم: أمروها كما جاءت يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظ دالة على معاني فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، أو أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة، وحينئذ تكون قد أمرت كما جاءت، ولا يقال حينئذ بلا كيف؛ إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول. اه) .(10/284)
6 - نقل في المقال المذكور عن الشيخ حسن البنا رحمه الله ما نصه (نجتمع على ما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه) .
والجواب أن يقال: نعم يجب أن نتعاون فيما اتفقنا عليه من نصر الحق والدعوة إليه والتحذير مما نهى الله عنه ورسوله، أما عذر بعضنا لبعض فيما اختلفنا فيه فليس على إطلاقه بل هو محل تفصيل، فما كان من مسائل الاجتهاد التي يخفى دليلها فالواجب عدم الإنكار فيها من بعضنا على بعض، أما ما خالف النص من الكتاب والسنة، فالواجب الإنكار على من خالف النص بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن عملا بقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) وقوله سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) الآية.
وقوله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (4) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (5) » أخرجهما مسلم في صحيحه. والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة النحل الآية 125
(4) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .
(5) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .(10/284)
7 - ثم نعى الكاتب الشيخ محمد علي الصابوني في مقاله الثاني على المسلمين تفرقهم إلى سلفي وأشعري وصوفي وماتوريدي. . . إلخ، ولا شك أن هذا التفرق يؤلم كل مسلم يود لإخوانه المسلمين اجتماعهم على الحق، وتعاونهم على البر والتقوى ولكن الله سبحانه قدر ذلك على الأمة لحكم عظيمة وغايات محمودة يحمد عليها سبحانه ولا يعلم تفاصيلها سواه، ومن ذلك التمييز بين أوليائه وأعدائه - والتمييز بين المجتهدين في طلب الحق والمعرضين عنه المتبعين لأهوائهم إلى حكم أخرى، وفي ذلك تصديق لنبيه صلى الله عليه وسلم، ودليل على أنه رسول الله حقا؛ لكونه صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن هذا التفرق قبل وقوعه فوقع كما أخبر حيث قال صلى الله عليه وسلم: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: هي الجماعة (1) » وفي رواية أخرى قال: «ما أنا عليه وأصحابي (2) » ، وهذا يوجب على المسلمين أن يجتمعوا على الحق، وأن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول؛ لقول الله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (3) وقوله سبحانه {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ} (4) الآية. وهاتان الآيتان الكريمتان تدلان على أن الواجب على المسلمين رد ما تنازعوا فيه في العقيدة وغيرها إلى الله سبحانه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وبذلك يتضح الحق لهم وتجتمع كلمتهم عليه ويتحد صفهم ضد أعدائهم، أما بقاء كل طائفة على ما لديها من باطل وعدم التسليم للطائفة الأخرى فيما هي عليه من الحق فهذا هو المحذور المنهي عنه، وهو سبب تسليط الأعداء على المسلمين، واللوم كل اللوم على من تمسك بالباطل وأبى أن ينصاع إلى الحق، أما من تمسك بالحق ودعى إليه وأوضح بطلان ما خالفه فهذا لا لوم عليه بل هو مشكور وله أجران: أجر اجتهاده وأجر إصابته للحق.
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2641) .
(2) سنن الترمذي الإيمان (2641) .
(3) سورة النساء الآية 59
(4) سورة الشورى الآية 10(10/285)
8 - ذكر الصابوني في مقاله الثاني أن أهل السنة اشتهروا بمذهبين اثنين أحدهما: مذهب السلف، والآخر: مذهب الخلف. . إلخ.
وهذا غلط بين لم يسبقه إليه أحد - فيما أعلم - فإن مذهب أهل السنة واحد فقط، ما درج عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان، وهو إثبات أسماء الله وصفاته وإمرارها كما جاءت والإيمان بأنها حق، وأن الله سبحانه موصوف بها على الوجه الذي يليق(10/285)
بجلاله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ولا تأويل لها عن ظاهرها ولا تفويض بل يؤمنون بأن معانيها معلومة وأنها حق لائقة بالله سبحانه وتعالى لا يشبه خلقه في شيء منها، ومذهب الخلف بخلاف ذلك كما يعلم ذلك من قرأ كلام هؤلاء وكلام هؤلاء - ثم ذكر أن أهل السنة يفوضون علم معاني الصفات إلى الله، وكرر ذلك في غير موضع، وقد أخطأ في ذلك ونسب إليهم ما هم براء منه، كما تقدم بيان ذلك فيما نقلناه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن جمع من أهل السنة رحمة الله عليهم، وإنما يفوض أهل السنة إلى الله سبحانه علم الكيفية لا علم المعاني كما سبق إيضاح ذلك.(10/286)
9 - ثم ذكر الصابوني -هداه الله - تنزيه الله سبحانه عن الجسم والحدقة والصماخ واللسان والحنجرة وهذا ليس بمذهب أهل السنة، بل هو من أقوال أهل الكلام المذموم وتكلفهم، فإن أهل السنة لا ينفون عن الله إلا ما نفاه عن نفسه أو نفاه رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يثبتون له إلا ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يرد في النصوص نفي هذه الأمور ولا إثباتها، فالواجب الكف عنها وعدم التعرض لها بنفي ولا إثبات، ويغني عن ذلك قول أهل السنة في إثبات صفات الله وأسمائه أنه لا يشابه فيها خلقه وأنه سبحانه لا ند له ولا كفو له - قال الإمام أحمد رحمه الله: (لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز القرآن والحديث) وهذا هو معنى كلام غيره من أئمة السنة، وأما ما وقع في كلام البيهقي رحمه الله في كتابه الاعتقاد من هذه الأمور فهو مما دخل عليه من كلام المتكلمين وتكلفهم، فراج عليه واعتقد صحته، والحق أنه من كلام أهل البدع لا من كلام أهل السنة.(10/286)
10 - ثم قال الصابوني في مقاله الثاني ما نصه: (أما ما يتخيله بعض الجهلة من أدعياء العلم اليوم الذين يصورون الله بصورة غريبة عجيبة، ويجعلون الله تعالى كأنه جسم مركب من أعضاء وحواس: له وجه ويدان وعينان وله ساق وأصابع وهو يمشي وينزل ويهرول ويقولون في تقرير هذه الصفات: إن الله يجلس كما يجلس الواحد على السرير، وينزل كما ينزل أحدنا على الدرج - يريد بزعمه أن يقرر مذهب السلف الصالح للتلاميذ ويثبت لهم حقيقة معنى الاستواء والنزول وأنه جلوس حسي لا كما يتأوله المئولون؛ فهذا والعياذ بالله عين الضلالة؛ لأنه شبه وجسم وهو كمن فر من حفرة صغيرة ليقع في هوة عميقة يتحطم فيها ويهوي فيها إلى مكان سحيق) اه.(10/286)
وأقول: إن الأخ الصابوني هداه الله قد جمع في هذا الكلام حقا وباطلا يعلمه كل صاحب سنة، وإليك أيها القارئ المؤمن التفصيل في ذلك:
أما الوجه واليدان والعينان والساق والأصابع فقد ثبتت في النصوص من الكتاب والسنة الصحيحة، وقال بها أهل السنة والجماعة، وأثبتوها لله سبحانه على الوجه اللائق به سبحانه، وهكذا النزول والهرولة جاءت بها الأحاديث الصحيحة ونطق بها الرسول صلى الله عليه وسلم وأثبتها لربه عز وجل على الوجه اللائق به سبحانه، من غير مشابهة لخلقه ولا يعلم كيفية هذه الصفات إلا هو سبحانه، فإنكار الصابوني هذه الصفات إنكار على النبي صلى الله عليه وسلم بل إنكار على الله عز وجل؛ لأنه سبحانه ذكر بعضها في كتابه العزيز وأوحى البعض الآخر لنبيه صلى الله عليه وسلم فإنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى وإنما يخبر عن الله سبحانه بما أوحى إليه، فالصابوني هداه الله تارة يقول: إنه يلتزم بمذهب أهل السنة وتارة ينقضه ويخالفه فإنا لله وإنا إليه راجعون، ونسأل الله لنا وله الهداية والرجوع إلى الحق.
وأما قوله: ويقولون في تقرير هذه الصفات: إن الله يجلس كما يجلس الواحد على السرير وينزل كما ينزل أحدنا علىالدرج. . . إلخ فهذا أهل السنة براء منه؛ بل هو من كلام المشبهة الذين كفرهم السلف الصالح وأنكروا مقالتهم لكونها مصادمة لقول الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) ، وما جاء في معناها من الآيات فلا يجوز لأحد أن يخلط بين كلام أهل الحق من أهل السنة وكلام أهل الباطل من المشبهة وغيرهم ولا يميز بينهما، بل الواجب التفصيل والتمييز.
__________
(1) سورة الشورى الآية 11(10/287)
11 - ثم زعم الصابوني في مقاله الثالث أن أول من كتب في أصول الدين ورد شبهات أهل الزيغ والضلال أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتوريدي. وهذا جزم غير صحيح فقد سبقهما في ذلك الإمام أبو حنيفة رحمه الله والإمام عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، والإمام مالك رحمه الله، والإمام أحمد بن حنبل والإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة، والإمام عثمان بن سعيد الدارمي في الرد على المريسي والإمام عبد العزيز الكناني صاحب الحيدة وغيرهم ممن لا يحصى.(10/287)
12 - ثم كرر الصابوني هداه الله في مقاله الثالث قوله: (إن السلف لهم مذهبان(10/287)
مذهب أهل التفويض ومذهب أهل التأويل إلى آخر ما قال، إلى أن قال: (إن بعضهم يفضل مذهب السلف ويقول: إنه أسلم، والبعض الآخر يفضل مذهب الخلف ويقول: هو أحكم) اه.
والجواب: أن هذا التقسيم باطل كما تقدم وليس للسلف إلا مذهب واحد وهو مذهب أهل السنة والجماعة وهم الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان وهو الأسلم والأعلم والأحكم، أما المذهب الثاني فهو مذهب الخلف المذموم، وهو مذهب أهل التأويل والتحريف والتكلف ولا يلزم من ذم مذهب الخلف والتحذير منه القول بتكفيرهم فإن التكفير له حكم آخر يبني على معرفة قول الشخص وما لديه من الباطل ومدى مخالفته للحق، فلا يجوز أن يقال: إنه يلزم من ذم مذهب الخلف أو الإنكار على الأشاعرة ما وقعوا فيه من تأويل الصفات وتحريفها إلا صفات قليلة استثنوها القول بتكفيرهم، وإنما المقصود بيان مخالفتهم لأهل السنة في ذلك وبطلان ما ذهب إليه الخلف من التأويل وبيان أن الصواب هو مذهب السلف الصالح، وهم أهل السنة والجماعة في إمرار آيات الصفات وأحاديثها وإثبات ما دلت عليه من الأسماء والصفات على الوجه اللائق بالله سبحانه من غير تحريف ولا تعطيل ولا تأويل ولا تكييف ولا تمثيل كما سبق ذكر ذلك غير مرة، والله المستعان.
ثم ذكر كلام البيهقي هنا، وقد تقدم ما فيه، وأنه رحمه الله دخلت عليه ألفاظ من ألفاظ أهل البدع فراجت عليه وظنها صوابا فأدخلها في كتابه، وهو من جملة الذين خاضوا في الكلام وعلق باعتقاده بعض ما فيه من الشر سامحه الله وعفا عنه. كما نبه على ما يدل على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى ج 6 ص53.(10/288)
13 - ثم قال الصابوني في مقاله الثالث ما نصه [ولا يظن أحد أننا نفضل مذهب الخلف على مذهب السلف ولسنا على الرأي الذي يقوله علماء الكلام: مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أحكم، بل نقول عن إيمان ويقين: إن مذهب السلف هو الأسلم وهو الأحكم فلا نحاول أن نئول صفات الخالق جل وعلا، بل نؤمن بها كما وردت مع نفي التشبيه والتجسيم.(10/288)
ثم استشهد بقول بعض الشعراء:
إن المفوض سالم ... مما تكلفه المئول
إلى أن قال: [وإذا كان من أول في الصفات ضالا فسنضلل السلف الصالح جميعا لأنهم أولوا قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} (1) قالوا: معهم بعلمه لا بذاته وأولوا قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (2) قالوا: معية علم لئلا تتعدد الذات. وسنحكم بضلال الحافظ ابن كثير؛ لأنه قال في قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لاَ تُبْصِرُونَ} (3) : ملائكتنا أقرب إليه منكم ولكن لا ترونهم كما أول قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (4) قال: المراد ملائكتنا أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه والحلول والاتحاد منفي بالإجماع، تعالى الله وتقدس. وقال: [بل نقول إنه يتعين التأويل أحيانا كما في الحديث الصحيح «الحجر الأسود يمين الله في أرضه» وكما قال عن سفينة نوح: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} (5) {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} (6) .
والجواب أن يقال: قد أحسنت في اختيار مذهب السلف الصالح واعتقاد أنه الأسلم والأحكم، ولكنك لم تثبت عليه بل تارة تختار مذهب التأويل وتارة تختار مذهب التفويض، والواجب على المؤمن الثبات على الحق وعدم التحول عنه، وما ذكرته عن السلف من تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} (7) بالعلم ليس بتأويل، ولكنه هو معنى آيات المعية عند أهل السنة والجماعة. كما حكى الإمام أبو عمر بن عبد البر وأبو عمر الطلمنكي إجماع أهل السنة على ذلك، وذلك لأن النصوص من الكتاب والسنة الدالة على علوه وفوقيته وتنزيهه سبحانه عن الحلول والاتحاد تقتضي ذلك، ومن تأمل الآيات الواردة في ذلك علم أنها تدل على أن المراد بالمعية العلم بأحوال عباده واطلاعه على شئونهم مع دلالة المعية الخاصة على كلاءته وحفظه ونصره لأنبيائه وأوليائه. مع علمه واطلاعه على أحوالهم، والعرب الذين نزل الكتاب وجاءت السنة بلغتهم يعلمون ذلك ولا يشتبه
__________
(1) سورة المجادلة الآية 7
(2) سورة الحديد الآية 4
(3) سورة الواقعة الآية 85
(4) سورة ق الآية 16
(5) سورة القمر الآية 13
(6) سورة القمر الآية 14
(7) سورة الحديد الآية 4(10/289)
عليهم، ولهذا لم يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن معاني هذه الآيات لظهورها لهم، أما النصوص الأخرى فلا تحتاج إلى تأويل؛ لأن المعنى فيها ظاهر مثل قوله سبحانه {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (1) {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (2) {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (3) فلا يدور بخلد أحد أن السفينة بعين الله سبحانه ولا أن محمدا عليه الصلاة والسلام في عين الله؛ وإنما المراد بذلك أن السفينة تجري برعاية الله وعنايته وتسخيره لها وحفظه لها، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم تحت رعاية مولاه وعنايته وحفظه وكلاءته، وهكذا قوله في حق موسى {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (4) أي تحت رعايتي وحفظي، وهكذا حديث «كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به (5) » ، يفسره قوله في الرواية الأخرى: «فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي (6) » ، ولا يظن من له أدنى بصيرة ممن يعرف اللغة العربية أن المراد بذلك أن الله سبحانه هو سمع الإنسان وبصره وهو يده ورجله. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وإنما أراد من ذلك سبحانه بيان توفيقه لأوليائه وتسديده لهم في حواسهم وحركاتهم بسبب طاعتهم له وقيامهم بحقه، وهكذا الأحاديث الأخرى كقوله: «الحجر يمين الله» فإنه حديث ضعيف، والصواب وقفه على ابن عباس، ومعناه ظاهر سواء كان مرفوعا أو موقوفا، وقد قال في نفس الحديث: «فكأنما صافح الله وقبل يمينه» ، فدل على أن الحجر ليس هو يمين الله، وإنما شبه مستلمه ومقبله بمن صافح الله وقبل يمينه ترغيبا في استلامه وتقبيله، وهكذا قول الله سبحانه في الحديث الصحيح لعبده «مرضت فلم تعدني وجعت فلم تطعمني (7) » ، قد بين في الحديث ما يدل على معناه حيث قال سبحانه: «أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ولو أطعمته لوجدت ذلك عندي (8) » ، فعلم بذلك أن الله سبحانه لم يمرض ولم يجع وإنما أراد سبحانه من ذلك حث العباد على عيادة المريض وإطعام الجائع.
وأما قوله سبحانه: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (9) وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} (10) فقد فسره جماعة بقرب الملائكة؛ لأن قربهم من العبد حين يتلقى المتلقيان وحين الموت كان بأمره سبحانه وتقديره ورعايته لعباده، وفسره آخرون بأنه قربه سبحانه بعلمه وقدرته وإحاطته بعباده كالمعية وكقربه من عابديه وسائليه مع علوه وفوقيته سبحانه، وليس المراد الحلول ولا الاتحاد، تعالى الله عن ذلك وتقدس؛ لأن الأدلة القطعية من الكتاب والسنة تدل على أنه سبحانه فوق العرش بائن من خلقه عال عليهم وعلمه في كل مكان، فمن تدبر النصوص
__________
(1) سورة القمر الآية 14
(2) سورة طه الآية 39
(3) سورة الطور الآية 48
(4) سورة طه الآية 39
(5) صحيح البخاري الرقاق (6502) .
(6) صحيح البخاري الرقاق (6502) .
(7) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/404) .
(8) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/404) .
(9) سورة ق الآية 16
(10) سورة الواقعة الآية 85(10/290)
من الكتاب والسنة وفسر بعضها ببعض اتضح له المعنى ولم يحتج إلى التأويل، وقد اختار أبو جعفر بن جرير رحمه الله في تفسيره القول الثاني في سورة "ق"، والقول الأول في سورة الواقعة. وقد أنكر أهل السنة على من تأول نصوص الصفات وبدعوه لما يترتب على تأويلها من أنواع الباطل وتحريف الكلم عن مواضعه وتجريد الرب سبحانه من صفات الكمال وسوء الظن به، وأنه خاطب عباده بما ظاهره تشبيه وتمثيل، وأن المراد غيره. وهذا هو التأويل المذموم وهو الذي سلكه أهل الكلام وأنكره عليهم أهل السنة وضللوهم في ذلك؛ لكونهم تأولوا النصوص عن ظاهرها وصرفوها عن الحق الذي دلت عليه بلا حجة ولا برهان من كتاب ولا سنة، بل بمقتضى عقولهم وآرائهم التي لم ينزل الله بها حجة ولا قام عليها برهان. وقد ألزموهم فيما أثبتوا نظير ما فروا منه فيما تأولوه، وهو لازم لهم بلا شك، ولا يسلم من التناقض واللوازم الباطلة إلا من أثبت ما أثبته الله ورسوله، ونفى ما نفاه الله ورسوله وهم أهل السنة والجماعة والله المستعان.(10/291)
14 - ثم دعا في مقاله الرابع إلى جمع الكلمة بين الفئات الإسلامية وتضافر الجهود ضد أعداء الإسلام، وذكر أن الوقت ليس وقت مهاجمة لأتباع المذاهب ولا للأشاعرة ولا للإخوان حتى ولا للصوفيين اه.
والجواب أن يقال:
لا ريب أنه يجب على المسلمين توحيد صفوفهم وجمع كلمتهم على الحق وتعاونهم على البر والتقوى ضد أعداء الإسلام كما أمرهم الله سبحانه بذلك بقوله عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} (1) وحذرهم من التفرق بقوله سبحانه: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (2) الآية، ولكن لا يلزم من وجوب اتحاد المسلمين وجمع كلمتهم على الحق واعتصامهم بحبل الله ألا ينكروا المنكر على من فعله أو اعتقده من الصوفية أو غيرهم؛ بل مقتضى الأمر بالاعتصام بحبل الله أن يتآمروا بالمعروف ويتناهوا عن المنكر، ويبينوا الحق لمن ضل عنه أو ظن ضده صوابا بالأدلة الشرعية حتى يجتمعوا على الحق، وينبذوا ما خالفه، وهذا هو مقتضى قوله سبحانه
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103
(2) سورة آل عمران الآية 105(10/291)
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) وقوله سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) ومتى سكت أهل الحق عن بيان أخطاء المخطئين وأغلاط الغالطين لم يحصل منهم ما أمرهم الله به من الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعلوم ما يترتب على ذلك من إثم الساكت عن إنكار المنكر وبقاء الغالط على غلطه والمخالف للحق على خطئه، وذلك خلاف ما شرعه الله سبحانه من النصيحة والتعاون على الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة آل عمران الآية 104(10/292)
15 - ثم ذكر في مقاله الخامس ما نصه: (ليس مذهب السلف الصالح - الذي أسلفنا الحديث عنه في مقالاتنا السابقة في موضوع صفات الباري جل وعلا وهو التفويض المطلق، كما قد يتوهم البعض من الناس، بل هو مسلك آخر يدل على نظر ثاقب وفهم سليم مستقيم لنصوص الكتاب والسنة، ويتلخص هذا المسلك والمنهج في الآتي:
أولا: تأويل ما لا بد من تأويله من آيات الصفات وأحاديث الصفات مما لا مندوحة عن تأويله لأسباب لغوية أو شرعية أو اعتقادية.
ثانيا: إثبات ما أثبته القرآن الكريم أو السنة المطهرة من صفات الله جل وعلا من السمع والبصر والكلام والمحبة والرضى والاستواء والنزول والإتيان والمجيء وغيرها من الصفات، والإيمان بها على مراد الله عز وجل بطريق التسليم والتفويض دون تشبيه أو تعطيل أو تجسيم أو تمثيل) اه.
والجواب أن يقال:
إن هذه الدعوى على مذهب السلف دعوة لا أساس لها من الصحة، فإن السلف الصالح ليس مذهبهم التفويض لأسماء الله وصفاته لا تفويضا عاما ولا خاصا، وإنما يفوضون علم الكيفية كما تقدم بيان ذلك، وكما نص على ذلك مالك وأحمد وغيرهما، وقبلهما أم سلمة رضي الله عنها وربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك رضي الله عن الجميع، وليس من مذهب السلف أيضا تأويل الصفات بل يمرونها كما جاءت ويؤمنون بمعانيها على الوجه اللائق بالله سبحانه من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل كما سلف(10/292)
ذكر ذلك غير مرة.
وليس من مذهب السلف أيضا نفي التجسيم ولا إثباته؛ لأن ذلك لم يرد في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام سلف الأمة كما نص على ذلك غير واحد من أئمة السنة، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد نص على ذلك في كتابه التدمرية حيث قال: في القاعدة السادسة: (ولهذا لما كان الرد على من وصف الله تعالى بالنقائص بهذه الطريق طريقا فاسدا: لم يسلكه أحد من السلف أو الأئمة، فلم ينطق أحد منهم في حق الله بالجسم لا نفيا ولا إثباتا ولا بالجوهر والحيز ونحو ذلك؛ لأنها عبارات مجملة لا تحق حقا ولا تبطل باطلا، ولهذا لم ينكر الله في كتابه فيما أنكره على اليهود وغيرهم من الكفار ما هو من هذا النوع، بل هذا هو من الكلام المبتدع الذي أنكره السلف والأئمة] اه.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله في كتابه فضل علم السلف على علم الخلف بعد كلام سبق: [والصواب ما عليه السلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تفسير لها ولا تكييف ولا تمثيل، ولا يصح عن أحد منهم خلاف ذلك البتة - خصوصا الإمام أحمد - ولا خوض في معانيها ولا ضرب مثل من الأمثال لها، وإن كان بعض من كان قريبا من زمن الإمام أحمد فيهم من فعل شيئا من ذلك اتباعا لطريقة مقاتل فلا يقتدى به في ذلك؛ إنما الاقتداء بأئمة الإسلام كابن المبارك ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ونحوهم، وكل هؤلاء لا يوجد في كلامهم شيء من جنس كلام المتكلمين فضلا عن كلام الفلاسفة، ولم يدخل ذلك في كلام من سلم من قدح وجرح، وقد قال أبو زرعة الرازي: كل من كان عنده علم فلم يصل علمه احتاج في نشره إلى شيء من الكلام فلستم منه] اه.
وليس فيما ثبت في الكتاب والسنة من أسماء الله وصفاته ما يجب تأويله بل لا بد أن يوجد في النصوص ما يدل على المعنى المراد الذي يجب إثباته لله على الوجه اللائق به من غير حاجة إلى تأويل يخالف الظاهر من كلام الله ومن كلام رسوله صلى الله عليه وسلم مع تفويض علم الكيفية إلى الرب عز وجل كما سبق بيان ذلك في كلام أئمة السلف.(10/293)
16 - ثم قال الصابوني في مقاله الخامس، هداه الله وألهمه التوفيق ما نصه: [ولكني أربأ بإخواني السلفيين أن يتحملوا في أعناقهم وزر تضليل الأمة وتكفير أئمة المسلمين من(10/293)
أهل الفقه والحديث والتفسير الذين هم على مذهب الأشاعرة، فماذا سنجني إن فرقنا صف المسلمين ونسبنا إلى الضلال شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني شارح البخاري. وذكر جماعة آخرين ثم قال: [وكل هؤلاء الأئمة الأجلاء وغيرهم على مذهب الإمام الأشعري. . . . إلخ] اه.
والجواب أن يقال: ليس من أهل العلم السلفيين من يكفر هؤلاء الذين ذكرتهم، وإنما يوضحون أخطاءهم في تأويل الكثير من الصفات ويوضحون أن ذلك خلاف مذهب سلف الأمة، وليس ذلك تكفيرا لهم ولا تمزيقا لشمل الأمة ولا تفريقا لصفهم، وإنما في ذلك النصح لله ولعباده وبيان الحق والرد على من خالفه بالأدلة النقلية والعقلية والقيام بما أوجب الله سبحانه على العلماء من بيان الحق وعدم كتمانه والقيام بالدعوة إلى الله والإرشاد إلى سبيله، ولو سكت أهل الحق عن بيانه لاستمر المخطئون على خطئهم وقلدهم غيرهم في ذلك، وباء الساكتون بإثم الكتمان الذي توعدهم الله عليه في قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (1) {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2) وقد أخذ الله على علماء أهل الكتاب الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه وذمهم على نبذه وراء ظهورهم وحذرنا من اتباعهم.
فإذا سكت أهل السنة عن بيان أخطاء من خالف الكتاب والسنة شابهوا بذلك أهل الكتاب المغضوب عليهم والضالين، ثم يقال للأخ الصابوني: ليس علماء الأشاعرة من أتباع أبي الحسن الأشعري؛ لأنه رجع عن تأويل الصفات وقال بمذهب أهل السنة والجماعة في إثبات الأسماء والصفات وإمرارها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل كما أوضح ذلك في كتابيه "الإبانة" و "المقالات"، فعلم مما ذكرنا أن من أول الصفات من المنتسبين للأشعري فليس على مذهبه الجديد، بل هو على مذهبه القديم، ومعلوم أن مذهب العالم هو ما مات عليه معتقدا له لا ما قاله سابقا ثم رجع عنه، فيجب التنبه لذلك والحذر مما يلبس الأمور ويضعها في غير موضعها، والله المستعان.
__________
(1) سورة البقرة الآية 159
(2) سورة البقرة الآية 160(10/294)
17 - ذكر الصابوني في مقاله السادس الذي بدأه بقوله: [ {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} (1) ] أن التأويل لبعض آيات وأحاديث الصفات لا يخرج المسلم عن جماعة أهل السنة، فمنه ما هو
__________
(1) سورة آل عمران الآية 138(10/294)
خطأ ومنه ما هو صواب، وهناك آيات صريحة في التأويل أولها الصحابة والتابعون وعلماء السلف، وما يتجرأ أحد أن ينسبهم إلى الضلال أو يخرجهم عن أهل السنة والجماعة، ثم ضرب لذلك أمثلة منها قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (1) ، ومنها ما ذكره سبحانه من استهزائه بالمستهزئين، وسخريته من الساخرين بالمؤمنين، ومكره بالماكرين، وذكر أيضا الحديث الصحيح عن قول الله عز وجل: «مرضت فلم تعدني وجعت فلم تطعمني (2) » ، إلى أن قال. . . إذن ليس الأمر كما يظن البعض أن مذهب السلف ليس فيه تأويل مطلقا بل مذهب السلف هو تأويل ما لا بد من تأويله) اه.
والجواب أن يقال: - هذا الكلام فيه تفصيل وفيه حق وباطل فقوله: (إن التأويل لبعض الصفات لا يخرج المسلم عن جماعة أهل السنة) صحيح في الجملة فالمتأول لبعض الصفات - كالأشاعرة - لا يخرج بذلك عن جماعة المسلمين ولا عن جماعة أهل السنة في غير الصفات، ولكنه لا يدخل في جماعة أهل السنة عند ذكر إثباتهم للصفات وإنكارهم للتأويل، فالأشاعرة وأشباههم لا يدخلون في أهل السنة في إثبات الصفات؛ لكونهم قد خالفوهم في ذلك، وسلكوا غير منهجهم وذلك يقتضي الإنكار عليهم وبيان خطئهم في التأويل، وأن ذلك خلاف منهج أهل السنة والجماعة كما تقدم بيانه في أول هذه التنبيهات، كما أنه لا مانع أن يقال: إن الأشاعرة ليسوا من أهل السنة في باب الأسماء والصفات وإن كانوا منهم في الأبواب الأخرى، حتى يعلم الناظر في مذهبهم أنهم قد أخطأوا في تأويل بعض الصفات وخالفوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان في هذه المسألة تحقيقا للحق وإنكارا للباطل وإنزالا لكل من أهل السنة والأشاعرة في منزلته التي هو عليها.
ولا يجوز أن ينسب التأويل إلى أهل السنة مطلقا بل هو خلاف مذهبهم، وإنما ينسب التأويل إلى الأشاعرة وسائر أهل البدع الذين تأولوا النصوص على غير تأويلها.
أما الأمثلة التي مثل بها الأخ الصابوني للتأويل عند أهل السنة فلا حجة له فيها وليس كلامهم فيها من باب التأويل، بل هو من باب إيضاح المعنى وإزالة اللبس عن بعض الناس في معناها، وهاك الجواب عنها: أما قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (3) فليس المراد بالنسيان فيها النسيان في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (4) ، وفي قوله تعالى
__________
(1) سورة التوبة الآية 67
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/404) .
(3) سورة التوبة الآية 67
(4) سورة مريم الآية 64(10/295)
{فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى} (1) بل ذلك له معنى والنسيان المثبت له معنى آخر فالنسيان المثبت في قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (2) هو تركه إياهم في ضلالهم وإعراضه عنهم سبحانه لتركهم أوامره وإعراضهم عن دينه لنفاقهم وتكذيبهم. والنسيان المنفي عن الله سبحانه هو النسيان الذي بمعنى الذهول والغفلة، فالله سبحانه منزه عن ذلك لكمال علمه وكمال بصيرته بأحوال عباده وإحاطته بكل شئونهم فهو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ولا ينسى ولا يغفل تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وبذلك يعلم أن تفسير النسيان بالترك في قوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (3) الآية، من سورة التوبة ليس من باب التأويل ولكنه من باب تفسير النسيان في هذا المقام بمعناه اللغوي؛ لأن كلمة النسيان مشتركة يختلف معناها بحسب مواردها كما بين ذلك علماء التفسير رحمهم الله، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في معنى الآية ما نصه: {نَسُوا اللَّهَ} (4) أي نسوا ذكر الله (فنسيهم) أي عاملهم معاملة من نسيهم، كقوله تعالى: {الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} (5) .
وهكذا ما ذكره الله سبحانه من استهزائه بالمستهزئين، وسخريته بالساخرين، ومكره بالماكرين، وكيده للكائدين لا يحتاج إلى تأويل؛ لكونه من باب جزائهم بمثل عملهم؛ لأن السخرية منه سبحانه بالساخرين كانت بحق، وهكذا مكره بالماكرين، واستهزاؤه بالمستهزئين وكيده للكائدين كله بحق، وما كان بحق فلا نقص فيه، والله سبحانه يوصف بذلك؛ لأن ذلك وقع منه على وجه يليق بجلاله وعظمته ولا يشابه ما يقع من الخلق؛ لأن أعداءه سبحانه فعلوا هذه الأفعال معاندة للحق وكفرا به وإنكارا له فعاملهم سبحانه بمثل ما فعلوه على وجه لا يشابه فيه أفعالهم ولا يعلم كيفيته إلا هو سبحانه، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، ومن كيده لهم ومكره بهم وسخريته بهم واستهزائه بهم إمهالهم وإنظارهم وعدم معاجلتهم بالعقوبة، ومن ذلك ما يظهر للمنافقين يوم القيامة من إظهاره لهم بعض النور ثم سلبهم إياه كما قال عز وجل في سورة الحديد
__________
(1) سورة طه الآية 52
(2) سورة التوبة الآية 67
(3) سورة التوبة الآية 67
(4) سورة التوبة الآية 67
(5) سورة الجاثية الآية 34(10/296)
{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} (1) {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (2) {فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (3) .
وهكذا قال علماء التفسير من أهل السنة في هذا المعنى:
قال الإمام ابن جرير رحمه الله بعد أن ذكر أقوال العلماء في تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} (4) والصواب في ذلك من القول والتأويل عندنا أن معنى الاستهزاء في كلام العرب: إظهار المستهزئ للمستهزأ به من القول والفعل ما يرضيه ظاهرا وهو بذلك من قيله وفعله به مورثة مساءة باطنا، وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر، فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله جل ثناؤه قد جعل لأهل النفاق في الدنيا من الأحكام بما أظهروا بألسنتهم من الإقرار بالله ورسوله، وبما جاء به من عند الله المدخل لهم في عداد من يشملهم اسم الإسلام، وإن كانوا لغير ذلك مستبطنين أحكام المسلمين المصدقين إقرارهم بألسنتهم بذلك بضمائر قلوبهم وصحائح عزائمهم وحميد أفعالهم المحققة لهم صحة إيمانهم، مع علم الله عز وجل بكذبهم واطلاعه على خبث اعتقادهم وشكهم فيما ادعوا بألسنتهم أنهم به مصدقون حتى ظنوا بالآخرة إذ حشروا في عداد من كانوا في عدادهم في الدنيا أنهم واردون موردهم وداخلون مدخلهم، والله جل جلاله - مع إظهاره ما قد أظهر لهم من الأحكام الملحقة بهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة إلى حال تمييزه بينهم وبين أوليائه وتفريقه بينهم وبينهم - معد لهم من أليم عقابه ونكال عذابه ما أعد منه لأعدى أعدائه وشر عباده حتى ميز بينهم وبين أوليائه فألحقهم من طبقات جحيمه بالدرك الأسفل؛ كان معلوما أنه جل ثناؤه بذلك من فعله بهم، وإن كان جزاء لهم على أفعالهم وعدلا ما فعل من ذلك بهم لاستحقاقهم إياه منه بعصيانهم له، كان بهم بما أظهر لهم من الأمور التي أظهرها لهم من إلحاقه أحكامهم في الدنيا بأحكام أوليائه وهم له أعداء وحشره إياهم في الآخرة مع المؤمنين وهم به من المكذبين إلى أن يميز بينهم وبينهم مستهزئا وبهم ساخرا ولهم
__________
(1) سورة الحديد الآية 13
(2) سورة الحديد الآية 14
(3) سورة الحديد الآية 15
(4) سورة البقرة الآية 15(10/297)
خادعا وبهم ماكرا؛ إذ كان معنى الاستهزاء والسخرية والمكر والخديعة ما وصفنا قبل، دون أن يكون ذلك معناه في حال فيها المستهزئ بصاحبه له ظالم أو عليه فيها غير عادل، بل ذلك معناه في كل أحواله إذا وجدت الصفات التي قدمنا ذكرها في معنى الاستهزاء، وما أشبه من نظائره اه.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} (1) الآية قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبدة بن سليمان، حدثنا ابن المبارك، حدثنا صفوان بن عمرو، حدثني سليم بن عامر قال: خرجنا على جنازة في باب دمشق ومعنا أبو أمامة الباهلي، فلما صلى على الجنازة وأخذوا في دفنها قال أبو أمامة: أيها الناس، إنكم قد أصبحتم وأمسيتم في منزل تقتسمون فيه الحسنات والسيئات وتوشكون أن تظعنوا منه إلى منزل آخر وهو هذا - يشير إلى القبر - بيت الوحدة وبيت الظلمة وبيت الدود وبيت الضيق إلا ما وسع الله، ثم تنتقلون منه إلى مواطن يوم القيامة فإنكم في بعض تلك المواطن حتى يغشى الناس أمر من الله فتبيض وجوه وتسود وجوه، ثم تنتقلون منه إلى منزل آخر فيغشى الناس ظلمة شديدة ثم يقسم النور فيعطى المؤمن نورا ويترك الكافر والمنافق فلا يعطيان شيئا وهو المثل الذي ضربه الله تعالى في كتابه فقال: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (2) فلا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن كما لا يستضيء الأعمى ببصر البصير، ويقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} (3) وهي خدعة الله التي خدع بها المنافقين حيث قال: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} (4) فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم بسور له باب {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} (5) الآية، يقول سليم بن عامر: فما يزال المنافق مغترا حتى يقسم النور ويميز الله بين المنافق والمؤمن، ثم قال: حدثنا يحيى بن عثمان، حدثنا ابن حيوة، حدثنا أرطأة بن المنذر، حدثنا يوسف بن الحجاج، عن أبي أمامة قال: يبعث الله ظلمة يوم القيامة فما من مؤمن ولا كافر يرى كفه
__________
(1) سورة الحديد الآية 13
(2) سورة النور الآية 40
(3) سورة الحديد الآية 13
(4) سورة النساء الآية 142
(5) سورة الحديد الآية 13(10/298)
حتى يبعث الله بالنور إلى المؤمنين بقدر أعمالهم فيتبعهم المنافقون فيقولون: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} (1) وقال العوفي والضحاك وغيرهما عن ابن عباس: بينما الناس في ظلمة؛ إذ بعث الله نورا؛ فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه، وكان النور دليلا من الله إلى الجنة، فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا اتبعوهم فأظلم الله على المنافقين فقالوا حينئذ: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} (2) فإنا كنا معكم في الدنيا قال المؤمنون: ارجعوا وراءكم من حيث جئتم من الظلمة فالتمسوا هناك النور) . انتهى ما ذكره الحافظ ابن كثير.
وبما ذكرناه عن ابن جرير وابن كثير رحمة الله عليهما يتضح للقارئ أن المكر والسخرية بالكافرين والخداع والاستهزاء بالمنافقين والكيد منه سبحانه لأعدائه كله على بابه ولا يحتاج إلى تأويل، بل هو حق من الله وعدل وجزاء لهم من جنس عملهم يليق به سبحانه، وليس يماثل ما وقع من أعدائه؛ لأن صفة الله سبحانه وأفعاله تليق به، وكلها حق وعدل ولا يعلم كيفيتها إلا هو سبحانه، وإنما يعلم العباد من ذلك ما أخبرهم به عز وجل في كتابه الكريم أو على لسان رسوله الأمين، عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم.
__________
(1) سورة الحديد الآية 13
(2) سورة الحديد الآية 13(10/299)
18 - نقل الصابوني في مقاله السادس وفي بعض مقالاته السابقة: عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما نصه: (والعلماء أنصار علوم الدين والأشاعرة أنصار أصول الدين) . اه. وعزاه إلى المجلد الرابع من الفتاوى وبمراجعة الفتاوى ص16 من المجلد الرابع اتضح أن هذا الكلام من فتوى الفقيه أبي محمد لا من قول شيخ الإسلام، وبذلك يعلم وهم الأخ الصابوني في النقل المذكور، وهذا الكلام على فرض صحته لا يدل على أن الأشاعرة لا ينكر عليهم ما أخطأوا فيه، فإن القاعدة الشرعية كما نبه عليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره أن العالم يمدح بما وافق فيه الكتاب والسنة ويذم على ما خالف فيه الكتاب والسنة، وهذا الذي قاله رحمه الله هو الحق الذي عليه أهل السنة والجماعة، فالأشاعرة وغيرهم يمدحون على ما قالوه وكتبوه في نصر الحق في أبواب أصول الدين وفي غيرها، ويذمون على ما أخطأوا فيه إحقاقا للحق وردا للباطل حتى لا يشتبه الأمر على من قل علمه، والله المستعان.(10/299)
19 - ذكر الصابوني في مقاله السادس ما نصه [وفي الحديث الصحيح: «ثلاثة من(10/299)
أصول الإيمان: الكف عمن قال: لا إله إلا الله، ولا نكفر مسلما بذنب، والإيمان بالأقدار (1) » ] أو كما قال صلى الله عليه وسلم اه.
وبمراجعتنا لهذا الحديث في الأصول المعتبرة اتضح أنه ضعيف جدا، وقد رمز له السيوطي في الجامع بعلامة الضعف، وأخرجه أبو داود من طريق يزيد بن أبي نشبة عن أنس رضي الله عنه، ويزيد هذا مجهول كما في التهذيب والتقريب. قال المناوي في فيض القدير [يزيد بن أبي نشبة بضم النون لم يخرج له أحد من الستة غير أبي داود وهو مجهول كما قال المزي وغيره] .
وبهذا يعلم أن جزم الأخ الصابوني بأنه صحيح ليس في محله، والأولى أن يقال في مثل هذا: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فينقل بصيغة التمريض، كما نص عليه أهل العلم في رواية الأحاديث الضعيفة، ولم يسق الأخ الصابوني لفظه كما ورد، وإليك أيها القارئ نصه عند أبي داود لمزيد الفائدة: (حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا أبو معاوية، حدثنا جعفر بن برقان، عن يزيد بن أبي نشبة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة من أصل الإيمان: الكف عمن قال: لا إله إلا الله، ولا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار (2) » اه.
وهذا الذي دل عليه الحديث قد جاء في معناه أحاديث أخرى صحيحة، والقول بمعناه هو قول أهل السنة والجماعة؛ فإن أهل السنة يعتقدون أن من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والتزم بمعناهما ولم يأت بناقض من نواقض الإسلام فإنه يجب الكف عنه، وحسابه على الله عز وجل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله عز وجل (3) » ، ومن عقيدة أهل السنة أن المسلم لا يكفر بذنب من الذنوب التي دون الشرك ولا يخرج من الإسلام بعمل من الأعمال التي لا تلحقه بالمشركين خلافا للخوارج؛ لقول الله عز وجل:
__________
(1) سنن أبو داود الجهاد (2532) .
(2) سنن أبو داود الجهاد (2532) .
(3) صحيح البخاري الإيمان (25) ، صحيح مسلم الإيمان (22) .(10/300)
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) ، وكان الأخ الصابوني ذكر هذا الحديث ليستدل به على وجوب الكف عن الكلام في الأشاعرة وبيان ما أخطأوا فيه، وهكذا ما أخطأ فيه غيرهم من الفرق الإسلامية، وليس الأمر كما زعم فإن الحديث المذكور - لو صح - لا يدل على شرعية الكف عمن خالف الحق، كما أنه لا يدل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان ما أخطأ فيه المخطئون، وغلط فيه الغالطون من الأشاعرة وغيرهم، بل الأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة كلها تدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإنكار على من خالف الحق وإرشاده إلى طريق الصواب حتى يهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، كما بينا ذلك فيما سبق، وإنما المقصود من الحديث -لو صح- الكف عن قتال من أظهر الإسلام وتكلم بكلمة التوحيد حتى ينظر في أمره بعد ذلك، ويعامل بما يستحق حسب الأدلة الشرعية كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة التي أشرنا إليها آنفا، والله سبحانه ولي التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهذا آخر ما تيسر التنبيه عليه، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وصفوته من خلقه إمام المجاهدين ورسول رب العالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله، واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة النساء الآية 48(10/301)
صفحة فارغة(10/302)
صفحة فارغة(10/303)
الدكتور \ محمد بن أحمد الصالح
تخرج في كلية الشريعة بالرياض، سنة 1380هـ، حصل على درجة الماجستير والدكتوراه من جامعة الأزهر في الفقه المقارن، سنة 1395هـ.
عضو المجلس العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وعضو لجنة حقوق الإنسان في الإسلام، وعضو في لجنة قصص الأطفال، وشارك في العديد من المؤتمرات داخل البلاد وخارجها.
من مؤلفاته:
الطفل في الشريعة الإسلامية - الشريعة الإسلامية ودورها في مقاومة الانحراف ومنع الجريمة-
حكم التسعير في الفقه الإسلامي - المسجد وأثره في حياة الأمة(10/304)
مساوئ الزواج من أجنبيات
بقلم الدكتور محمد بن أحمد الصالح
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أولا: تمهيد
الزواج فطرة:
1 - لا جرم أن الزواج فطرة قبل أن يكون شرعة. .
هو فطرة أودعها الله الخلق يوم خلقه {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} (1) .
فيوم خلق الله الأرض شاء أن يكون مع مدها ورواسيها، من كل زوج بهيج {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} (2) {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (3)
__________
(1) سورة يس الآية 36
(2) سورة ق الآية 6
(3) سورة ق الآية 7(10/305)
وقد تكررت الإشارة إلى المعنى في آيات أخرى {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} (1) {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} (2) .
وحتى لا يظن ظان. . أن الزوجية قاصرة على النبات- وإن كنا نحسب لفظ "الإنبات" عاما يشير إلى الخلق والإبداع - فقد وردت آية عامة تماما بلفظ الخلق لتشتمل على كل خلق {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (3) .
وظنها الإنسان فترة أنها قاصرة على الحيوان، وعلى النبات، حتى كان خلق الذرة. . فعلم أن الجماد كذلك يحوي زوجين سالبا وموجبا (هما الإلكترونات والبروتونات) كما تحتويه الكهرباء، والمغناطيس وغيرها. . وبالتحام السالب والموجب تكون " الحركة " أو "الحياة " لهذا الجماد. . تماما كما تكون الحياة من التحام الذكر والأنثى. . في الحيوان وفي النبات.
2 - والإنسان أشرف من خلق الله، اشتمل على نفس التكوين ذكر وأنثى، وفطر كل شطر بالميل إلى الشطر الآخر. . ليكون التزاوج ولتكون الحياة.
وعندما خلق الله آدم. . . لم يتركه وحده. . . حتى وهو في الجنة بل جعل منه معه حواء، وأسكنهما سويا الجنة {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (4) .
وبقيت هذه الآية، وبقي لله علينا نعمة ومنة. . يذكرنا بها كآية ينبغي أن نلتفت إليها لندرك قدرة الله. . أو يذكرنا بها كتذكرة تردنا إلى أصلنا وتردنا إلى الإيمان.
أو يعددها في مجال تعداد النعم والآيات. .
أو يجعلها أساسا لمطالبتنا بالتقوى. . فإن التفكر فيها خليق أن يرفع المؤمن إلى مرتبة التقوى.
__________
(1) سورة الشعراء الآية 7
(2) سورة لقمان الآية 10
(3) سورة الذاريات الآية 49
(4) سورة البقرة الآية 35(10/306)
واستمع الآيات فإنها أجلى وأقوى في بيان المطلوب.
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (1) {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) .
{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (3) .
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (4) .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (5) .
3 - قبل أن ندخل في الزواج كشرعة. . ونحن في مجال التدليل عليه كفطرة نقول. . لقد خضع للفطرة من سبقنا من الأقوام:
فعرف الزواج عند الأمم البدائية، حتى إن الغرب كان عندهم موضع احتقار.
وعند اليونانيين القدماء (وكانوا أصحاب حضارة) قدروا الزواج حتى إنهم اعتبروا الجد في كل أسرة إلها. . ومن ثم كان كل واحد حريصا على أن يكون أبا ليكون من بعد ذلك جدا. . ومن ثم كان الحرص على الزواج وعلى النسل.
ووصف " أبقراط " الزواج بأنه مصدر آداب المجتمع الإنساني، والثدي الأول الذي منه يرضع لبن الفضيلة مع حب الوطن، وبالنتيجة فهو دعامة الحكومة وعضد الأمة.
وعند الرومان بلغ الزواج حد التقديس. . باعتباره ضرورة معنوية وواجبا وطنيا، حتى إن قوانين " أغسطس " وضعته موضع الإجبار وفرض على العزب الغرامات (6) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 189
(2) سورة الأعراف الآية 190
(3) سورة الزمر الآية 6
(4) سورة الروم الآية 21
(5) سورة النساء الآية 1
(6) راجع في ذلك الزواج لعمر كحالة - والمراجع المشار إليها(10/307)
أما الزواج كشرعة:
4 - فقد كان حريا بالدين أي دين - وهو فطرة الله ألا يصادم الفطرة.
5 - وقد عرفت الأديان كلها الزواج وإن تفاوتت درجة فرضيته. .
تقرر في شريعة موسى - عليه السلام - بل قبل ذلك منذ آدم:
{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} (1) {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} (2) .
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} (3) .
{فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} (4) .
{وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (5)
__________
(1) سورة القصص الآية 27
(2) سورة القصص الآية 28
(3) سورة التحريم الآية 10
(4) سورة الذاريات الآية 29
(5) سورة الأعراف الآية 19(10/308)
الزواج في الإسلام:
6 - ليس فقط آية من آيات الله الذي نخر له ساجدين.
ولا نعمة من نعم الله الذي نسبح له شاكرين.
بل قبل ذلك هو نصف الدين، وسبيل إلى مراتب المتقين.
أما أنه آية فقد تقدم.
وأما أنه نصف الدين. . . فإن به غض البصر وحفظ الفرج، وبه العون على الطاعة(10/308)
والتسابق في الخيرات، وبه تقام الأسرة التي جعلها الإسلام لبنة المجتمع، ومنه النسل المبارك الذي تباهي به أمة محمد، ويباهي به ر سول الله صلى الله عليه وسلم الأمم يوم القيامة. .
«يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج (1) » .
وعن أنس بن مالك قال: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني (2) » .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة (3) » .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة حقا على الله أن يعينهم: المجاهد في سبيل الله. . والناكح يريد أن يستعف. . والمكاتب الذي يريد الأداء (4) » .
«من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه فليتق الله في الشطر الباقي (5) » . . . .
وعن ابن عباس رضي الله عنه " التمسوا الرزق بالنكاح " (6) .
7 - وأما أنه سبيل المتقين: فذاك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (7) .
__________
(1) البخاري الجامع الصحيح 6 \ 117
(2) البخاري الجامع الصحيح 6 \ 117
(3) ابن ماجه السنن
(4) صحيح على شرط مسلم - المستدرك للحاكم 2 \ 161
(5) منتخب كنز العمال
(6) منتخب كنز العمال
(7) سورة النساء الآية 1(10/209)
وإن العزب قد لا يستطيع بلوغ التقوى ولما يكتمل نصف دينه أو نصف إيمانه. .
ولأن العزب القادر يكون مخالفا لشرعة الله، وهي في أدنى الأحكام - على الراجح - سنة أو مستحب. . فكيف به يبلغ التقوى.
8 - وهو من بعد ذلك فيه فوائد خمسة:
الولد، وكسر الشهوة، وتدبير المنزل، وكثرة العشيرة، ومجاهدة النفس بالقيام بهن (1) .
9 - وهو بعد ذلك مصدر سعادة للطرفين:
لأن فيه سكنا. . وفي السكن طمأنينة، وفي السكن راحة، وفي السكن سكون للنفس.
ولأن فيه مودة. . . والمودة تولد المحبة، وتبقى إن غابت المحبة حينا أو فترت. . تبقى فيها المجاملة وفيها حسن العشرة، وهي أبقى لرابطة الزوجية من العواطف الهوج التي تمضي سريعا كما تمضي الرياح الهوج.
ولأن فيه رحمة. . والرحمة عاطفة من أسمى العواطف وأدومها، وخلق يتخلق به المسلم يقبس فيه من رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما. . وهي بين الزوجين بلسم لكل جراح، ودواء لكل ما يستعصي من مشكلات، ومذيب لما يتراكم بين الزوجين مع تقادم السنين والأعوام.
إنه الشيء الذي يبقى إذا نضبت سائر العواطف أو خفت ليطبق معه قول الله: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا} (2) .
10 - تلك كانت بعض جوانب " الحكمة " في شرعة الزواج يكملها ما جاء خاصة " بمواصفات" الزوجة الصالحة.
__________
(1) الإمام أبو حامد الغزالي - الوجيز - الإحياء
(2) سورة النساء الآية 19(10/310)
وقد وردت إشارات إليها بالقرآن. . في مثل قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} (1) .
فجعل تلك بعض مواصفات الخيرية. . المسلمة، المؤمنة، القانتة التائبة، العابدة، السائحة. . فعدد ست صفات قد تتوافر بعضها في الزوجة. . فتكون خيرا من غيرها. .؛ لأنه جعل هذه الصفات سببا لخيرية هؤلاء على زوجات الرسول أمهات المؤمنين.
وفي آية أخرى قال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (2) .
وفي آية ثالثة يقول الله تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} (3) ففي هذه الآيات صفات مشتركة، مثل الإسلام والإيمان، والقنوت والحفظ.
وفيها صفات تفردت مثل: الصدق، والصبر، والخشوع، والتصدق، والصوم وذكر الله.
والأربع الأولى: الإسلام، والإيمان والحفظ، والقنوت، جامعات، والست الأخريات: عمد وأسس، داخل الأربعة الأولى. . . . والله أعلم
وفي السنة:
جاءت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفات أخرى بعضها جامع، وبعضها مفصل:
مثل الأولى. . . . قوله عليه الصلاة والسلام: «تنكح المرأة لأربع. . لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك (4) » .
__________
(1) سورة التحريم الآية 5
(2) سورة الأحزاب الآية 35
(3) سورة النساء الآية 34
(4) أبو داود 1 \ 472(10/311)
وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تنكحوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة سوداء ذات دين أفضل (1) » .
ومثل الثانية: قوله عليه الصلاة والسلام: «ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة: إذا نظر إليها سرته وإذا غاب عنها حفظته. . وإذا أمرها أطاعته (2) » .
«وسئل عليه الصلاة والسلام: أي النساء خير؟ قال: (التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه فيما يكره في نفسها وماله (3) » .
فجعل الحديث صفة جامعة هي: الدين. .
وجعل صفات مفضلة. . وإن كانت تحتاج إلى شيء من التفصيل:
فأولها: إذا نظر إليها سرته. . سرته بدينها، سرته بأخلاقها، سرته بمظهرها. . سرته بحسن معاملتها. .
وثانيها: إذا غاب عنها حفظته. . حفظته في عرضها. . . وحفظته في ماله. .
وثالثها: إذا أمرها أطاعته. . في كل مجال ما دام لم يأمر بمعصية. . ترى هل تتوافر هذه الصفات القرآنية والنبوية في زواج الكتابيات؟
هذا ما سأتناوله، ونبينه بمشيئة الله تعالى. .
__________
(1) ابن ماجه 1 \ 596
(2) ابن ماجه حديث 1857 ص596.
(3) الفتح الرباني: 16 \ 144 وما بعدها(10/312)
ثانيا: أحكام زواج الأجنبيات
تحديد وتعريف
ليس المقصود زواج المسلم بمسلمة لا تحمل جنسيته؛ لأن هذه في فقه الإسلام لا تعد أجنبية، وإن وقعت بعض الأنظمة المنتسبة إلى الإسلام في هذا الخطأ. .
ذلك أن جنسية المسلم دينه، والمسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم(10/312)
والمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يحقره، ولئن فرضت أوضاع الفرقة والشتات إقامة الحدود والجنسيات بين بلاد الإسلام المختلفة، وما يستتبعه من بدع الجوازات والإقامات والتأشيرات، فنحسب ذلك وضعا مؤقتا سوف يزول بإذن الله باجتماع كلمة المسلمين مرة أخرى، وإسقاط الحدود المصطنعة فيما بينهم.
إنما المقصود بالأجنبية هنا. . من ليست مسلمة. . ويدخل تحت هذا المدلول. . المشركة أو من سار مسارها. . الكتابية. . أو من سار مسارها.
وداخل الأخيرة يختلف الحكم بين " الحربية " وبين " الذمية " أو "المستأمنة" ويرد بعد ذلك حكم الإماء. . من تلك الأصناف. . هل يصح الزواج منها أم أن نكاحها يكون فقط بملك اليمين. .؟
ذلك هو المقصود بحثه تحت هذا العنوان. . " زواج الأجنبيات " والله المستعان. .(10/313)
بادرة:
11 - ونبادر إلى تقرير أن زواج المسلم بالمسلمة هو الأولى وهو الأوفق. .
أما أنه الأولى. . فلأنها بلا شك تفضل الكتابية حربية كانت أم ذمية، كما تفضل المشركة أو الكافرة بغير حدود.
وهو ما نبه عليه رب العالمين حين قال: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} (1) ، وسواء أخذنا الأمة بالنسبة إلى الله والعبد بالنسبة إلى الله. . فالكل عبيد الله وإماء الله، أو أخذنا بمعنى ملك اليمين، فعلى كلا المعنيين. . المؤمنة أولى من المشركة، سواء كانت المشركة بالمعنى الأصلي أو دخل تحتها الكتابية على رأي البعض - تقول المؤمنة أولى من المشركة. .؛ لأن الأولى عون للرجل على طاعة الله، والثانية عون على معصية الله؛ ولأن الأولى إن صار منها ولد فأمه المؤمنة ترعاه وتقدمه لبنة صالحة للمجتمع الإسلامي، أما الثانية إن صار منها ولد. . فقد توجهه إلى دينها. . بقصد أو بغير قصد لما يراه منها وهو متعلق بها. . .
__________
(1) سورة البقرة الآية 221(10/313)
وصدق الله: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} (1) وأما أنها أوفق.
فلأن المؤمنة تتفق طباعا وسلوكا مع المؤمن. .
ونستبعد من البحث زواج الأجانب يعني زواج المسلمة بغير المسلم فهو محرم نصا وإجماعا. .
أما غير المسلمة. . . فقد تختلف طباعها عن طباع زوجها وبالتأكيد يقع الاختلاف في أكثر الأحوال، لا بل إنها في مثل هذا الزمن متعالية على المسلم تنظر من القمة التي يعيش فيها قومها - حضارة ومادة - إلى السفح الذي تعيشه الأمة المسلمة هوانا وتفككا، وفقرا، وجهلا، ومرضا. .
وعلى ذلك. . . فإذا كان مجال الاختيار مفتوحا. . . فاختيار المسلمة أولى. . . وأوفق. .
لكن الأمر يكون صعبا. . . إن عزت المسلمة. . إما لأنها غير موجودة، أو لأن الموجود غير ملائم. .
أو إذا وقع المسلم - تحت أي ظرف - تحت وطأة الرغبة إلى غير المسلمة. . فكيف يصير الحكم. .؟
هذا ما سنبذل الجهد في الإجابة عليه بإذن الله. .
__________
(1) سورة البقرة الآية 221(10/314)
زواج المشركة:
12 - لا يجوز أصلا للمسلم أن يعقد على مشركة وهو موضع اتفاق بين(10/314)
العلماء.
لقوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (1) .
والنص واضح في النهي عن نكاح المشركة، والأصل في النهي التحريم - والنكاح - لغة - يشمل العقد كما يشمل الوطء، والمشركة في النص غير الكتابية - على الراجح.
لأن القرآن فرق بين الاثنين في أكثر من موضع:
{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} (2) .
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} (3) .
{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (4) ففرق بينهم في اللفظ، وظاهر العطف يقتضي مغايرة المعطوف والمعطوف عليه.
13 - ولا يحتج بأن كتابية هذا العصر مشركة لأنها تقول: " عزير ابن الله، والمسيح ابن الله " فقد كانوا كذلك منذ نزول القرآن، ومع ذلك سماهم "أهل الكتاب" وميزهم في اللفظ والأحكام عن المشركين فضلا عن أن الاختلاف واضح وبين في الواقع كذلك. . وهو ما سنشير إليه عند الحديث عن الكتايبة. . وعلى ذلك فلا يجوز للمسلم "العقد" على مشركة وقد قلنا ذلك لما سنشير إليه عند الحديث عن الإماء من وجود رأي يجيز الوطء بملك اليمين للمشركات دون الزواج بهن. .
__________
(1) سورة البقرة الآية 221
(2) سورة البقرة الآية 105
(3) سورة البينة الآية 1
(4) سورة المائدة الآية 82(10/315)
زواج حرائر الكتابيات:
14 -(10/315)
الأصل حل زواج حرائر الكتابيات. .
ولنا في ذلك قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (1) .
والإحصان بمعنى العفة والحرية - شرط لحل هذا اللون من الزواج؛ لوروده في النص الذي جاء على خلاف الأصل {وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (2) والكتابية، وإن لم تكن مشركة اصطلاحا- فهي عقيدة وواقعا في الإشراك هي واقعة؛ إذ تجعل مع الله عزيرا أو المسيح ابن مريم.
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} (3) لئن اختلفت عن المشركة في إقرارها بوجود الله، وفي وجود كتاب سماوي تدين به، فإن هذا الإقرار من ناحية أخرى مشوب بالتحريف. . ومع ذلك فنحن نسلم مع جلة علماء السلف بحل زواج الكتابية، لكننا نؤكد معهم شرط الإحصان. . شرط العفة، فيبتعد المسلم قدر ما يستطيع عن خضراء الدمن. . وهي المرأة الجميلة في المنبت السوء.
ولنا كذلك في حل نكاح الكتابيات ما روي عن الصحابة إجماعا وما عليه أكثر التابعين وما وقع من الصحابة أنفسهم.
وذهب الجعفرية إلى عدم حل نكاح الكتابية إلا نكاح متعة.
ويبقى السؤال: من هي الكتابية في مفهوم الآية الكريمة. .؟
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) سورة البقرة الآية 221
(3) سورة التوبة الآية 31(10/316)
المقصود بالكتابية في حل الزواج:
15 - المقصود بها أصلا. . اليهودية والنصرانية. . فأهل الكتاب يقصد بهم أصلا(10/316)
أصحاب الإنجيل والتوراة. .؛ لأنهم وحدهم الذين ينتسبون إلى كتاب سماوي، ولأنهم كذلك يعترفون بالله ربا.
16 - ويلحق بأهل الكتاب في الحكم الصابئات. لأنهن - على رأي من ألحقهن بأهل الكتاب يدن بدين، ويؤمن بنبي، ويقررن بكتاب.
وعلى الرأي الآخر يلحقن بالمشركات في الحكم باعتبار أنهن يعبدن الكواكب ولا كتاب لهن. . والذي نختاره. . هو أنهن إن وافقن أهل الكتاب - يهود أو نصارى - في أصل دينهم ألحقن بهم، وإن خالفنهم في أصل الدين ألحقن في الحكم بالمشركين - والله أعلم (1) .
17 - ويلحق بأهل الكتاب في الحكم المجوس على رأي فريق من العلماء لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب (2) » . ولما نسب إلى حذيفة أنه تزوج منهم.
لكن جمهرة العلماء، على أنه لا يجوز الزواج من المجوسية ولا تلحق في هذا المجال بأهل الكتاب (رأي مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، والأوزاعي وإسحاق، وقال أحمد: (لا يعجبني) (3) .
وهم يرون أن حديث «سنوا فيهم سنة أهل الكتاب (4) » أنه خاص بعصمة دمائهم وأموالهم، وجبي الجزية منهم.
ويشككون فيما نسب من زواج حذيفة منهم - فقد قال البعض (أبو وائل) أنها يهودية، وقال آخرون (ابن سيرين) بل نصرانية، ومع تعارض الروايات لا يثبت حكم إحداهن إلا بترجيح.
فضلا عن أنه ليس للمجوس كتاب، ويتمسكون فيهم بقوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} (5) وقوله: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} (6)
__________
(1) هو كذلك رأي صاحب أوجز المسالك إلى موطأ مالك اه
(2) صحيح البخاري الجزية (3157) ، سنن الترمذي السير (1586) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3043) ، مسند أحمد بن حنبل (1/191) ، موطأ مالك الزكاة (617) .
(3) القرطبي - المرجع السابق ص70، وكتب المذاهب
(4) صحيح البخاري الجزية (3157) ، سنن الترمذي السير (1586) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3043) ، مسند أحمد بن حنبل (1/191) ، موطأ مالك الزكاة (617) .
(5) سورة البقرة الآية 221
(6) سورة الممتحنة الآية 10(10/317)